موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء الرابع) المجلد 7

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(7)

تبيين الأصول

الجزء الرابع

تقرير أبحاث: آية اللّه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:

دوره: 8-270-204-964-978

ج7: 7-277-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی: فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

------------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

------------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج7: 7-277-204-964-978

------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

تقريراً لأبحاث سماحة آية اللّه المحقق السيد مُحمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) التي القيت في مسجد الإمام زين العابدين(عليه السلام) بمدينة قُم المقدسة سنة 1425ه.(1)

ص: 4


1- لقد منّ اللّه عزّ وجلّ عليّ بمراجعته في مدينة كربلاء المقدسة سنة 1431ه- (المقرّر).

ص: 5

فصل في الشهرة

اشارة

ص: 6

ص: 7

الشهرة الفتوائية

أحد الظنون التي قيل باعتبارها بالخصوص الشهرة. ولتنقيح محل البحث نقدم مقدمة، وهي: أن الشهرة على ثلاثة أنواع:

الشهرة الروائية والشهرة العملية والشهرة الفتوائية.

أما النوع الأول: فهي عبارة عن كثرة نقل الرواية، وبعبارة أخرى(1): كثرة الناقلين لها، وفي قبالها الشذوذ والندرة، بمعنى قلة نقل الرواية، أو بمعنى قلة ناقليها.

وهي أحد المرجحات في باب تعارض الخبرين بناء على المشهور، ومستند الترجيح مرفوعة زرارة(2) ومقبولة عمر بن حنظلة(3). ومحل بحثها في باب التعادل والتراجيح.

وأما النوع الثاني: فهي عبارة عن شهرة خبر في الاستناد في الفتوى إليه، وبعبارة أخرى: استناد المشهور إلى خبر في مقام الإفتاء، وبه يجبر ضعف الخبر ولو كان في غاية الضعف ، وفي مقابلها إعراض المشهور، وبه يكسر الخبر وإن كان صحيحاً على المشهور.

والنسبة بين الشهرة الروائية والعملية العموم من وجه، فقد تكون رواية

ص: 8


1- ربما هي أدق (منه (رحمه اللّه) ).
2- عوالي اللئالي 4: 133.
3- الكافي 1: 67-77.

مشهورة من حيث النقل أو الناقل لكن لم يعمل بها المشهور، و قد تكون رواية نقلها شخص واحد لكن المشهور استندوا إليها في مقام الإفتاء، و قد يجتمعان.

ومحل بحثها مباحث حجية الخبر الواحد.

وأما النوع الثالث: وهو الشهرة الفتوائية(1)، والكلام في حجيتها.

ولا يخفى أنَّ السيد البروجردي كان يهتم كثيراً بالشهرة الفتوائية، ويرى عدم جواز مخالفتها، ويستشهد لذلك بتسعين مسألة في الفقه دليلها الوحيد الشهرة الفتوائية، فمع القول بعدم حجيتها تكون تلك المسائل من دون دليل(2).

ولصاحب الجواهر كلام يشمل المقام، وهو أنه: «لو أراد الإنسان أن يلفق له فقهاً من غير نظر إلى كلام الأصحاب، بل من محض الأخبار لظهر له فقه خارج عن ربقة جميع المسلمين»(3).

وقد عرفها في المصباح: بأنها اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام بين أرباب الفتوى من دون أن يعلم مستند الفتوى(4).

لكن القيد المذكور محل تأمل، حيث يمكن أن يكون مستند فتوى المشهور معلوماً، ومعه قد يبحث عن جبر الشهرة لضعف المستند، و قد يبحث عن حجية الشهرة، وبعبارة أخرى: تارة نبحث هل المستند بهذا الاستناد حجة أو لا؟ وتارة نبحث هل هذه الفتوى المستندة إلى ذلك المستند حجة أم لا؟ فعلى الأول يكون البحث في الشهرة الروائية إن كان

ص: 9


1- فوائد الأصول 1: 231.
2- البدر الزاهر: 326؛ نهاية الأصول1-2: 541؛ تقرير بحث السيد البروجردي 2: 329.
3- جواهر الكلام 12: 265.
4- مصباح الأصول 2: 143.

المستند رواية، وعلى الثاني يكون البحث في الشهرة الفتوائية.

وبعبارة أخرى: قد نقول: هل الشهرة المعلومة المدرك حجة في ذاتها فيكون بحثاً في الشهرة الفتوائية؟ و قد نقول: هل تجبر الشهرة المستند، أي الرواية الضعيفة، فيكون بحثاً في الشهرة العملية.

أدلة حجية الشهرة الفتوائية

اشارة

وقد ذكرت لحجية الشهرة الفتوائية أدلة:

الدليل الأول: دلالة أدلة حجية الخبر الواحد على اعتبار الشهرة بالفحوى

اشارة

الدليل الأول: دلالة أدلة حجية الخبر الواحد على اعتبار الشهرة بالفحوى(1)

بيانه: إن مناط حجية الخبر الواحد إفادة الظن النوعي، والظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الذي يفيده الخبر الواحد، خاصة إذا كان الخبر مع الوسائط المتعددة، فتكون أولى بالاعتبار من الخبر الواحد، ولا أقل من كونها مساويةً له، و حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

وبعبارة أُخرى: حجية الأمارات - ومنها الخبر الواحد - إنما هو من باب الطريقية والكاشفية عن الواقع، وطريقية الشهرة وكاشفيتها أقوى منها أو مساوية لها، فتكون حجة مثله.

وأورد عليه بإشكالات

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية من أنه لم يثبت أن مناط حجية الخبر إفادته للظن قال: «ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن، غايته تنقيح ذلك بالظن، وهو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى

ص: 10


1- كفاية الأصول: 292.

بالاعتبار»(1).

فإنه إما نقطع بأنَّ ملاك حجية الخبر كونه مفيداً للظن النوعي أو نظن.

أما الأول: فهو منتف؛ لاحتمال كون ملاك حجية الخبر علم الشارع بمطابقة الأخبار للواقع، وطريقيتها إليه أكثر من غيرها، وهو غير متحقق في الشهرة، فيجعله حجة مطلقاً دونها، ويكفي صرف الاحتمال في عدم القطع بالمناط.

وبعبارة واضحة: يحتمل تحقق خصوصية في الخبر الواحد دون الشهرة، وبلحاظها جعل حجة دونها، ومع تحقق هذا الاحتمال لا قطع بالمناط.

وأما الثاني: فإنّ ملاك حجية الخبر غير معلوم، والظن بأن الملاك هو الطريقية والكاشفية لا يغني من الحق شيئاً، والملاك الظني لا يكفي لتعدية الحكم من حجية الخبر إلى حجية الشهرة الفتوائية.

لكنه محل تأمل؛ فإن دليل حجية الخبر إما الأدلة اللفظية، وإمّا السيرة العقلائية، والملاكات غائبة عن الأول، لكن صاحب الكفاية اختار الثاني، حيث قال: «العمدة هو بناء العقلاء لا الأدلة اللفظية»(2)، فعلى مبناه يتم الإشكال عليه، فإنَّ العقلاء لا يعملون بالخبر الواحد تعبداً، بل لا أدلة تعبدية لهم، وإنّما هي طرق كاشفة عن الواقع، كما عن المحقق العراقي في موضع آخر(3).

ص: 11


1- كفاية الأصول: 292.
2- كفاية الأصول: 290.
3- تنقيح الأصول: 193.

فالكاشفية المتحققة في الخبر الواحد عند العقلاء حيث يرونه مورثاً للظن متحققة في الشهرة الفتوائية، فإنّ الظن الحاصل من الشهرة من أهل الفن إما مساوٍ للظن الحاصل من الخبر الواحد، أو أقوى منه، كما لو أفتى المشهور من الشيخ إلى الشيخ، ومن السيد إلى السيد، فإنه يورث ظناً أقوى من خبر نقله فلان عن فلان مع وسائط متعددة ولو في الجملة.

وبعبارة مختصرة: لو كان الدليل على حجية الخبر الأدلة اللفظية أمكن القول: إنَّ الملاك مجهول، أما لو كان الدليل السيرة العقلائية فملاكه معلوم، وهو الطريقية والكاشفية عن الواقع، وهذا الملاك متحقق في الشُهرة الفتوائية، فتكون حجة مثله.

لكن المبنى غير مقبول، وسيأتي في مباحث حجية الخبر الواحد أنّ الملاك هو الأدلة اللفظية، وصرف وجود السيرة العقلائية لا يقدح في إطلاق الدليل اللفظي.

وينبغي الإشارة إلى أنه لا فرق بين القول بكون دليل حجية الخبر السيرة العقلائية أو الأدلة اللفظية، وذلك لأنَّ دليلية الثاني لا تنفي دليلية الأول، بل توسع دائرة الحجية، فإنّ أدلة السيرة العقلائية تثبت حجية الخبر الواحد في الجملة، كخبر الثقة المورث للظن النوعي، والأدلة اللفظية توسع دائرة الحجية، فتثبت حجية خبر الثقة مطلقاً، ولو لم يفدِ الظن النوعي، فليس ذلك إلغاءً لدليلية السيرة العقلائية، وإنما هو توسعة لدائرة الحجية.

وعليه فالسيرة العقلائية تثبت حجية الخبر في الجملة، والأدلة اللفظية تثبت حجية خبر الثقة مطلقاً.

وبعد ذلك نتساءل عن ملاك حجية السيرة العقلائية، فلماذا بنى العقلاء

ص: 12

على حجية خبر الثقة في الدائرة الضيقة؟ إنّ الملاك هو طريقيته إلى الواقع، وهو متحقق في الشهرة الفتوائية، فتكون حجة لوجود الملاك فيها.

والمتحصل مما ذكرناه تمامية الإشكال على ما ذكر في الكفاية بناءً على جميع المباني؛ لأنَّ السيرة العقلائية هي الدليل أو من الأدلة، ونفس الملاك متحقق في الشهرة الفتوائية(1).

الإشكال الثاني: ما في الكفاية من : إن دعوى أن حصول الظن ليس بملاك في حجية الخبر غير مجازفة(2).

والفرق بين الإشكالين أنّ الأول دعوى عدم ثبوت كون ملاك حجية الخبر إفادة الظن، والثاني دعوى ثبوت عدم كون ملاك حجية الخبر إفادة الظن؛ وذلك لأن حجية الخبر لا تدور مدار الظن، فلو كان هنالك خبر معتبر ولم يحصل منه الظن بالوفاق كان حجة، كما أنه لو حصل الظن النوعي بالخلاف كان حجة أيضاً، كما في رواية أبان في قطع أصابع المرأة(3)، فبناءً عليه حجية الخبر لا تدور مدار حصول الظن النوعي، فلا يكون الظن النوعي ملاكاً لحجية الخبر.

ويرد عليه نظير ما ورد على الإشكال الأول.

الإشكال الثالث: ما ذكره بعض المتأخرين، قال: «فالملاكات المتزاحمة يستوفى الأهم منها بمقدار جعل الحجية للخبر، بلا حاجة إلى جعلها للشهرة

ص: 13


1- في الجملة، أي: بالقدر المتيقن بما أفادت الظن النوعي، ويكفينا ذلك.
2- كفاية الأصول: 292.
3- الكافي 7: 299.

أيضاً، وهذا هو حل هذه المغالطة الكلية، وهي دعوى استفادة حجية الشيء من دليل حجية مماثله»(1).

توضيحه: لو كان هنالك شيئان متماثلان من جميع الجهات والخصوصيات، فاتصف أحدهما بحكم معين كالوجوب لملاك معين فيه، فلا يلزم حمل نظير الحكم على المماثل الآخر؛ وذلك لإمكان استيفاء الغرض بالفرد الأول، فلا حاجة إلى جعل الحكم على الفرد الثاني.

كما لو كان هنالك ماءان متماثلان من جميع الخصوصيات، فأوجب المولى على عبده أن يأتيه بالأول، فهل يجب أن يحمل الحكم على الفرد الثاني أيضاً؟ لا يمكن القول بذلك؛ لتحقق غرض المولى بالإتيان بالأول، أو بإيجاب الإتيان به، فلا حاجة إلى إيجاب الإتيان بالثاني أو الإتيان به.

وما نحن فيه كذلك، فللمولى ملاكات واقعية متزاحمة في صقع الواقع، فيرى أنّ جعل الحجية للخبر وافٍ بتحصيلها، وإلا ضاعت الأحكام، فيجعله حجة استنقاذاً لتلك الملاكات، فيتحقق الغرض، ولا داعي لجعل الحجية للشهرة، وإن كانت مثل الخبر في الطريقية وإيجاد الظن النوعي.

وبعبارة أوضح: تستوفى الملاكات الواقعية بمقدار جعل الحجية للخبر بلا حاجة إلى جعلها للشهرة أيضاً.

وهذا هو الحل للمغالطة الكلية، وهي دعوى استفادة الشيء من دليل حجية مماثله، وعليه لا يمكن القول في الفقه والأصول: إنّ هذا مثل ذاك، فيشمله حكمه.

ص: 14


1- بحوث في علم الأصول 4: 325.

فالقاعدة المشهورة: (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد) باطلة، حيث يمكن اختلاف الحكم في المثلين أو الأمثال.

ولو تم هذا الجواب نفع في مواطن كثيرة.

لكنه محل تأمل؛ فإن الإشكال المذكور مبني على إمكان الترجيح بلا مرجح، لكن مبنى الكثير من المحققين(1) استحالته، كالترجّح بلا مرجح؛ لأنه يؤول إلى وجود المعلول بدون وجود علته.

وعليه مع وجود المرجح - وإن كان خفياً - يخرج الفردان عن كونهما متماثلين، ومع عدم وجود المرجح يستحيل الترجيح.

وفيما نحن فيه لو كانت الشهرة الفتوائية مثل الخبر الواحد في الملاك فنفس الملاك المشترك، الذي فرض جعل الحجية للخبر الواحد يفرضه للشهرة الفتوائية، كل ذلك مع الاعتراف بالمثلية كما هو مفروض المستشكل.

الإشكال الرابع: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الوصول قال: «إن كون الظن النوعي الحاصل من الشهرة أقوى من الظن النوعي الحاصل من الخبر غير تام»(2).

وهو إشكال في كلية الدليل الأول لا في أصله، فلا اطراد للأولوية أو المساواة، حيث يمكن أن يكون الظن النوعي الحاصل من الخبر الواحد أقوى من الظن النوعي الحاصل من الشهرة.

ص: 15


1- قوانين الأصول: 444؛ الفصول الغروية: 217؛ فرائد الأصول 1: 471.
2- الوصول 3: 468.

وربما يكون ملاك الفرق أنّ الخبر الواحد دليل حسي، والشهرة الفتوائية دليل حدسي، والعقلاء يعتمدون على الحس أكثر مما يعتمدون على الحدس.

فتحصل من جميع ذلك أنّ الإشكالات الثلاثة محل نظر، والرابع إشكال في إطلاق الدليل لا في أصله، فالدليل الأول - وهو الملاك المشترك - صحيح في الجملة.

تنبيه

مقتضى الدليل الأول هو حجية مطلق الظن المساوي للظن الخبري، سواء كان هذا الظن حاصلاً من الشهرة أم الإجماع، أم فتوى جملة من العلماء، أم فتوى فقيه واحد، فيفيد حجية الظن المطلق المساوي للظن الحاصل من الخبر الواحد، أو الأقوى منه، وليس من أدلة حجية الشهرة بالخصوص.

الدليل الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة

اشارة

وهي: «... ينظر إلى ما كان من روايتيهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(1).

تقريب الاستدلال(2): إنَّ المراد من (المجمع عليه) المشهور، بدليل مقابله (الشاذ الذي ليس بمشهور)، فهنالك شاذ ليس بمشهور، وفي مقابله ما

ص: 16


1- تهذيب الأحكام 6: 301.
2- مصباح الأصول 2: 141.

ليس شاذاً وهو مشهور ، وأطلق عليه المجمع عليه. وهو يشمل الشهرة الروائية والفتوائية، ولتقريب الشمول طريقان:

الأول: الإطلاق، فإن (المجمع عليه) مطلق يشمل الشهرة الفتوائية أيضاً.

الثاني: عموم التعليل (فإن المجمع عليه لا ريب فيه).

وقد أورد عليه بإشكالات

الإشكال الأول: ما ذكره في المصباح(1) من ضعف السند؛ لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة، وإن وردت في توثيقه رواية يزيد بن خليفة؛ لكنها ضعيفة سنداً.

لكنه محل تأمل، وقد مر تفصيلة في مباحث الإجماع، وإما إجمالاً :

أولاً: يمكن إثبات وثاقة يزيد بن خليفة برواية صفوان بن يحيى عنه، وهو أحد الثقات الثلاثة الذين لا يرون إلا عن ثقة، بناء على ما نقح في علم الرجال، فتكون روايته في توثيق عمر بن حنظلة معتبرة.

نعم، هنالك إشكال آخر غير ما ذكر في المصباح(2) وهو الإشكال الدلالي، فهل يفيد قوله (عليه السلام) (إذن لا يكذب علينا) العموم؟

ثانياً: يمكن إثبات وثاقته برواية الأجلاء عنه.

لكنه غير تام لما ثبت من أنها لا تدل على الوثاقة على التفصيل المذكور في محله.

ثالثاً: يمكن إثبات وثاقته برواية صفوان بن يحيى عنه، فيكون ثقة، وهذا

ص: 17


1- مصباح الأصول 2: 142.
2- مصباح الأصول 2: 142.

يثبت التوثيق المخبري.

ورابعاً: يمكن إثبات التوثيق الخبري لمقبولة عمر بن حنظلة برواية المشايخ الثلاثة: الصدوق والكليني والطوسي، وقد تلقاها الأصحاب بالقبول.

قال الوالد (رحمه اللّه) :(1) إنّ رواية المشايخ الثلاثة لها وقد ضمن الكليني والصدوق حجية ما في كتابيهما تجعلها في أعلاها(2).

والحاصل: إنها مع تقبل الأصحاب لها حتى اشتهرت بالمقبولة لا تقل عن توثيق النجاشي لشخص.

والمتحصل ثبوت الوثاقة المخبرية اعتماداً على الثالث، أو لا أقل من ثبوت اعتبار خصوص هذا الخبر اعتمادا على الرابع.

فما ذكر في المصباح غير واضح.

لكن التأمل المذكور مبنائي، فمن لم يرتضِ دلالة رواية الثقات الثلاثة على التوثيق، أو رواية المشايخ الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة على صدور الخبر، أو استناد المشهور برواية على الجبر، كان الإشكال السندي باقياً على حاله عنده.

لكن على المختار من وثاقة مشايخ الثلاثة، ومن الجبر ولو في الجملة، ومن كفاية رواية المشايخ الثلاثة في الكتب الأربعة للاعتبار، ينتفي الإشكال الأول.

الإشكال الثاني: إن موضوع الحجية والتعليل الوارد في المقبولة هو

ص: 18


1- الوصائل 15: 32.
2- أي: أعلى درجات الاعتبار.

المجمع عليه، ويراد به اتفاق الكل لا الجل، وموضوع البحث الشهرة، وبين الموضوعين تباين، فلا ينطبق على الشهرة الفتوائية(1).

ولتوضيح ذلك لابد من الإجابة على أسئلة:

السؤال الأول: ما الدليل على أن المراد الإجماع المطلق لا النسبي؟

الجواب: تدل على ذلك قرينتان، مضافاً إلى ظهور لفظ (الإجماع) على اتفاق الكل لا الشهرة.

القرينة الأولى: نفي الريب عن المجمع عليه (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) وظاهره النفي الحقيقي، بمعنى عدم وجود الشك حقيقة، وهو يتلاءم مع الإجماع؛ لأنه الذي ينفي الريب دون الشهرة، فيدل ذلك على أن المراد بالمجمع عليه اتفاق الكل.

القرينة الثانية: قوله (عليه السلام): «وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه»(2) مع تطبيق الأمر البين على المجمع عليه، فإن الرواية المجمع عليها مما استبان رشده، وأمّا خلاف المشهور فهو من الأمر المشكل، الذي يرد علمه إلى اللّه، فإنّ الشهرة ليست من مصاديق الأمر البين رشده فيتبع، بل المجمع عليه من مصاديقه، وعليه يكون المراد من المجمع عليه ما اتفق عليه الكل.

السؤال الثاني: لو كان المراد بالمجمع عليه اتفاق الكل فكيف أطلق عليه الإمام (عليه السلام) المشهور بقرينة المقابلة للشاذ الذي ليس بمشهور؟

ص: 19


1- فوائد الأصول 3: 155.
2- الكافي 1: 67.

الجواب: للمشهور معنيان:

الأول: المصطلح عند الأصوليين والفقهاء، وهو اتفاق الجل، وهو معنى حادث اصطلح عليه الأصوليون، ولا وجه لحمل الرواية عليه.

الثاني: المعنى اللغوي، وربما يدعى أنه معنى عرفي أيضاً، وهو الظهور والوضوح، فقد ورد في اللغة : (شهر السيف بمعنى سله فرفعه)(1)، ولو كان في الغلاف كان خفياً، لكن لو سله أصبح واضحاً، و (أشهر الأمر بمعنى أظهره وصيره شهيراً)(2)، و (الشهر بمعنى القمر سمي به لشهوره وظهوره)(3)، و (الشهرة وضوح الأمر)(4) ، و (الشهير المذكور المعروف بين الناس)(5).

وبهذا المعنى يكون المجمع عليه مصداقاً من مصاديق المشهور، أي الواضح لا أنه في قباله.

ويؤيده العرف، فلو قلنا: إن المطلب الكذائي مشهور كان معناه أنه معروف وواضح، لا بمعنى اتفاق المعظم عليه. ولا أقل من الشك، ومع الشك في كون المراد منها المعنى القديم أو الجديد لا يمكن حملها على المعنى الجديد.

السؤال الثالث: لو كان المراد من المجمع عليه اتفاق الكل فكيف فرض الراوي أنهما مشهوران؟

ص: 20


1- العين 3: 400؛ لسان العرب 4: 433.
2- الصحاح 2: 705.
3- لسان العرب 4: 432.
4- لسان العرب 4: 431.
5- لسان العرب 4: 432.

الجواب: لا يمكن انعقاد الشهرة في الفتوى في زمان واحد على طرفي الخلاف، بخلاف الشهرة الروائية، حيث يمكن تحققها في كلتا الروايتين المتعارضتين، كأن يروي خمسون راوياً أحاديث انفعال البئر، ويروون أحاديث عدم انفعالها، و لا مانع من ذلك، وكذلك يمكن اتفاق جميع الرواة على رواية الروايتين المتعارضتين، كأن يكون أحدهما لبيان الحكم الواقعي، والآخر لبيان الحكم التقوي.

وبناء على ما تقدم يكون موضوع الحجية في هذه الرواية هو الإجماع، وهو أجنبي عما نحن فيه.

والظاهر تمامية هذا الإشكال.

الإشكال الثالث: ما أشير إليه في المصباح(1) وكذا الكفاية(2) من أنه لا إطلاق للرواية؛ لأن موردها الخبر، أي: المشهور الروائي، فلا يشمل المشهور الفتوائي.

ثم أشكل(3) على نفسه بأن مبين الموصول الصلة، ومبين الداخل المدخول، و المدخول - أي المجمع عليه - لا قيد فيه حتى يقال باختصاصه بالمجمع الروائي، فيكون مطلقاً.

وأجاب عنه: بأنه لا مانع من أن يكون معرف الموصول غير الصلة(4).

ص: 21


1- مصباح الأصول 2: 141-142.
2- كفاية الأصول: 292.
3- مصباح الأصول 2: 144.
4- مصباح الأصول 2: 144.

والأولى في التعبير أن يقال: قد تكون الصلة جزء المبين والجزء الآخر غيرها.

وفي المقام: السؤال عن الخبرين فيمكن أن يكون مبيناً للموصول وللداخل، فإنّ السؤال عن الخبرين لا عن مطلق المشهورين.

وقد قرب الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1) ذلك بذكر مثالين:

الأول: لو سئل أي المسجدين أحب أليك؟ فأجاب: ما كان الاجتماع فيه أكثر، فلا يصح أن ينسب إليه بأنّ كل مكان كان الاجتماع فيه أكثر فهو أحب إليه، وإنْ كان خاناً أو سوقاً أو غرفة، مع أنَّ الموصول مطلق؛ وذلك لأنّ السؤال مبين للمراد، وأنّه خصوص المسجد.

الثاني: لو سئل أي الرمانتين تريد؟ فأجاب: ما كانت أكبر، فلا يصح القول: إنّه يريد كلما كان أكبر؛ لأنّ السؤال يحدد المراد من الموصول.

وفي المقام: حيث إنّ السؤال في المقبولة عن الخبرين كان المراد من المجمع عليه الخبر، و لا إطلاق له حتى لو فرض بأن المجمع بمعنى المشهور.

لكنه محل تأمل، فهنالك طريقان للاستدلال: الإطلاق والتعليل، والإشكال المذكور ينفي الطريق الأول ويبقى الثاني، فإنّ العلة تعمم وتخصص، كما لو قال: (المشهور يؤخذ به فإنّ المشهور لا ريب فيه) فإن التعليل يشمل كل مشهور، سواء كان روائياً أم فتوائياً.

واحتمال كون اللام للعهد خلاف الظاهر، وخلاف ما بنوا عليه في أمثال

ص: 22


1- فرائد الأصول 1: 234.

المقام كروايات باب الاستصحاب.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد(1) من أن موضوع المقبولة لا يخلو من أحد أمرين: إما المجمع عليه أو المشهور ، فلو كان الأول لم ينهض بإثبات ما نحن فيه؛ لأن محل البحث اتفاق الجل لا الكل.

ولو كان الثاني لم تصلح المقبولة لحجية الشهرة الفتوائية؛ لأنّ الكبرى الكلية المذكورة في المقبولة - والتي يراد بها التعدي من موردها إلى الشهرة الفتوائية - لا تصلح للكبروية، وبعبارة أوضح: التعليل المذكور - أي: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) - لا يصلح ليكون كبرى كلية، فلا يمكن التعدي من مورد الرواية إلى ما نحن فيه من الشهرة الفتوائية.

بيان ذلك: لنفي الريب معنيان:

الأول: نفي الريب بقول مطلق وهو النفي حقيقة.

الثاني: نفي الريب الإضافي، فبالإضافة إلى الغير لا ريب فيه، وإن كان فيه الريب في نفسه.

وفي المقام: المتعين الثاني، حيث لا يمكن نفي الريب حقيقة وبنحو مطلق عن المجمع عليه؛ وذلك لتحقق الريب في المشهور، فيكون المعنى نفي الريب الإضافي الموجود في الشاذ والنادر عن المشهور، وإن كان فيه نوع من الريب في حد ذاته.

وهذا المعنى لا يصلح أن يكون كبرى كلية؛ لأن الكبرى الكلية لابد وأن تكون قابلة للتكليف مع قطع النظر عن المورد.

ص: 23


1- فوائد الأصول 3: 154.

مثلاً: لو قال: (لا تشرب الخمر فإنها مسكرة) فإنّ التعليل يصلح للتكليف به مع قطع النظر عن المورد، فيمكن للمولى أن يقول: لا تشرب أي مسكر.

لكن فيما نحن فيه لا يمكن للمولى أن يكلف بالتعليل، مع قطع النظر عن المورد، بأن يقول: (يجب الأخذ بكل ما لا ريب إضافي فيه) وذلك للزومه الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره، لأن كل راجح لا ريب فيه بلحاظ المرجوح ، أي: الريب الموجود في المرجوح لا يوجد في الراجح. فلا ريب إضافي في أقوى الشهرتين، وكذا الظن المطلق فلا يوجد فيه الريب الموجود في الوهم، فمفاد التعليل: خذ بكل ما لا ريب إضافي فيه، وهذا مقطوع البطلان.

لكنه محل تأمل:

أولاً: الحصر غير حاصر، فهنالك شق ثالث، وهو نفي الريب العقلائي، فالعقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة وإن وردت عقلاً، فيمكن أن يكون مفاد الرواية أنّ المجمع عليه - أي المشهور - لا ريب عقلائي فيه، أي لا يرتابون فيه، وإن شئت قلت: ليس محلاً للريب العقلائي، وهذا المراد صالح ليكون كبرى كليه، حيث يمكن للمولى التكليف بها بأن يقول: (خذ بكل ما لا ريب عقلائي فيه) فيصلح للتعدي إلى ما نحن فيه.

وسيأتي أنه لا ريب عقلائي في المشهور.

وثانياً: نفي الريب من المعاني النفسية لا الإضافية، فظاهر كلمة (لا ريب فيه) أنه يطلق بلحاظ نفسه لا بلحاظ غيره حتى يكون معنى إضافياً.

فالقول: إنّ (الأمر الفلاني لا ريب فيه) يعني نفي الريب عنه في حد ذاته،

ص: 24

لا ملحوظا بالنسبة إلى غيره، وإلا أمكن القول: إنّ خبر الكاذب لا ريب فيه، بالإضافة إلى خبر الكذاب؛ لأن الريب الموجود في خبر الكذاب ليس موجوداً في خبر الكاذب.

والمتحصل: تمامية الإشكال الثاني من الإشكالات الأربعة، وهو أن موضوع الرواية أجنبي عما نحن فيه، ولا أقل من الإجمال، فتسقط الرواية عن الاستدلال.

الدليل الثالث: رواية زرارة

اشارة

حيث يسأل الإمام (عليه السلام) جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما نعمل؟ قال: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1).

فإنه وإن كان مورد الرواية الشهرة الروائية، لكن خصوص المورد لا يخصص الوارد، فيتعدى إلى كل شهرة، ومنها الشهرة الفتوائية.

ويرد عليه إشكالات أربعة

الإشكال الأول ضعف الرواية سنداً لوجوه:

أولاً: رواها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلامة، قال في المصباح: أنه لم يوجد هذا الحديث في كتب العلامة(2).

لكنه محل تأمل، فليس غالب كتبه بأيدينا، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

ص: 25


1- عوالي اللئالي 4: 133.
2- مصباح الأصول 2: 142.

وثانياً: لم يثبت وثاقة المؤلف، قال الشيخ في الرسائل(1): وقد طعن فيه وفي كتابه من ليس دأبه الطعن في الأخبار، وهو المحدث البحراني في الحدائق(2).

وثالثاً: إنه رواها عن العلامة مرفوعة إلى زرارة، و لا اعتبار بالمرفوعة.

نعم، هنالك طريق لاعتبارها، وهو التمسك بانجبارها بعمل المشهور.

لكن الانجبار لو سلم كبرويا لم يثبت صغروياً، حيث لم يعلم استنادهم إليها.

الإشكال الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم(3) والمحقق النائيني وغيرهما، قال المحقق النائيني: «المورد وإن لم يكن مخصصاً لعموم العام إلا أنه فرع وجود العموم في الكلام»(4).

فلابد وأن يكون هنالك عام حتى يقال بعدم تخصيص المورد لعمومه، ولا عام فيما نحن فيه، فإن (ما) الموصولة من المبهمات، ويعرفه ما يحتف به، ومن جملة ما يحتف به السؤال وهو عن الخبر.

ولو لم يسلم أن السؤال يصلح للقرينية قلنا: لا أقل من صلاحية سبق السؤال لذلك، ومع وجود ما يصلح للقرينية لا ينعقد للعام عموم وللمطلق إطلاق.

ص: 26


1- فرائد الأصول 2: 116.
2- الحدائق الناضرة 1: 99.
3- فرائد الأصول 2: 117.
4- أجود التقريرات 2: 100.

إن قلت: تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وقد علق الأخذ بالاشتهار.

قلت: إنه إشعار، و لا يصل إلى درجة الدلالة على العلية حتى يكشف أنّ الاشتهار بما هو اشتهار علة في وجوب الأخذ.

والحاصل: أنه لم يبق دليل في الرواية يدل على العموم.

الإشكال الثالث: ما مر من أنَّ الشهرة الاصطلاحية غير الشهرة اللغوية والعرفية، والمراد منها (ما اتضح وبان) أي: خذ بالخبر المعلوم أو المطمأن به، والشهرة لا تورث العلم و لا الاطمينان، فلا تشمل ما نحن فيه.

الإشكال الرابع: الرواية المذكورة تبين أنَّ الشهرة مرجحة في باب التعارض، فلو كانت هنالك روايتان مفروغ عن حجيتهما، إلا أنهما متعارضتان كانت الشهرة مرجحة لإحداهما على الأخرى، والكلام في المقام في تأسيس الحجية للمشهور.

الدليل الرابع

اشارة

عموم التعليل الوارد في آية النبأ: {أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(1).

تقريب الاستدلال(2): أنّ العلة تخصص تارة وتعمم تارة أخرى.

مثال الأول: قوله: (لا تأكل الرمان لأنه حامض) فالتعليل يفيد جواز أكل الرمان غير الحامض.

ص: 27


1- الحجرات: 6.
2- مصباح الأصول 2: 145.

ومثال الثاني: قوله: (لا تشرب الخمر لأنها مسكرة) فيفيد حرمة كل مسكر وإن لم يكن خمراً.

و يمكن أن يكون كل من المثالين علة للتعميم والتخصيص معاً.

وفي المقام: يدور الحكم بوجوب التبين مدار التعليل في الآية وجوداً وعدماً، فمتى ما تحققت العلة وجب التبين وإلا فلا.

وحيث إن العمل بقول المشهور لا يكون عملاً بجهالة لم يجب التبين عنده.

وبعبارة واضحة: الإصابة بجهالة منتفية في العمل بقول المشهور، فيكون وجوب التبين منتفياً أيضاً، وهو المطلوب.

ويرد عليه إشكالات ثلاثة

الإشكال الأول: إنّ معنى عموم العلة ثبوت الحكم في كل مورد وجدت فيه العلة، لا إثبات نقيض الحكم في كل مورد لم توجد فيه العلة(1).

ولإثبات المطلب طريقان

الطريق الأول: الطريق العرفي وهو فهم العرف، فلو قال: (لا تشرب الخمر لأنها مسكرة) كان مفاد التعليل حرمة كل مسكر، و لا يمكن القول بحلية كل ما لم يكن مسكراً لإمكان كونه حراماً لنجاسته أو ضرره أو لأنه مال الغير.

وفي قوله: (لا تأكل الرمان لأنه حامض) دلالتان: الأولى: لا بأس بأكل غير الحامض من الرمان، والثانية: لا يجوز أكل الحامض من غير الرمان،

ص: 28


1- أجود التقريرات 2: 101.

لكنه لا يدل على جواز أكل ما لا يكون حامضاً.

الطريق الثاني: برهاني وربما مآله إلى الأول، وهو: استفادة مفهوم (إثبات نقيض الحكم لما لا تكون فيه العلة) فرع انحصار العلة، فلو انتفت العلة - وهي العلة الوحيدة - انتفى الحكم، لكن التعليل لا يفيد انحصار العلية، فإن المثال المذكور يفيد أن الإسكار علة التحريم، ولا يفيد أنه علة منحصرة فيه؛ لذا أمكن تحقق علة أخرى في سائر الموارد، كالضرر والنجاسة والغصبية.

وقد أشكل عليه السيد الوالد بأنه يمكن إثبات الانحصار بأصالة عدم علة أخرى، حيث نشك في وجودها، والأصل عدمها، فيثبت الانحصار.

وأجاب عن ذلك إنه(1) لا يجدي بعد وضوح لزوم التبين وإن لم تكن إصابة، كما في العبادات أو في باب الشهادة على وقف، وما أشبه مما لا يرتبط بالناس.

ففي باب العبادات لو شهد الفاسق بدخول الوقت وجب التبين مع انتفاء العلة، وهي إصابة القوم بجهالة، فلا يمكن القول: إنه (كلما انتفى إصابة القوم بجهالة انتفى وجوب التبين).

وكذا الأمر في باب الوقف الذي لا يرتبط بحق الناس، حيث يجب التبين مع انتفاء العلة.

لكنه محل تأمل؛ لأن ثبوت تخصيص العام في مورد لا يقدح في حجية عمومه للباقي، فلو سلمنا بأن مفهوم التعليل هو انتفاء وجوب التبين عند

@

انتفاء إصابة القوم بجهالة، كانت الموارد المذكورة خارجة، ويبقى الباقي، ومنها الشهرة، فلا يجب التبين معها؛ لعدم تحقق العلة.

ويمكن أن يجاب بجواب آخر: في المراد من (أصل عدم وجود علة أخرى) احتمالان:

الأول: أن يراد به أصلاً عقلائياً مستقلاً، لكن لم يثبت له أصل لا من الشرع و لا من بناء العقلاء.

الثاني: أن يراد به الاستصحاب، لكنه معارض باستصحاب آخر، فإن القول ب- (أصالة عدم وجود علة أخرى فلا يجب التبين عند الشهرة الفتوائية) معارض بعدم حجية الشهرة في أول البعثة، ويشك في طرو الحجية عليها والأصل عدمها.

إن قلت: بتحقق السببية والمسببية بين الأصلين.

قلنا: إن أصالة عدم وجود علة أخرى لا يترتب عليه أثر شرعي، فليس حكماً شرعياً، ولم يجعله الشارع موضوعاً لأثر شرعي.

الإشكال الثاني: ما في المصباح(2) من أن الشهرة ليست صغرى للكبرى المدعاة.

فلو سلمنا أن مفاد التعليل (عدم وجوب التبين عند انتفاء إصابة القوم بجهالة) إلا أنّ الشهرة ليست مصداقاً لهذا الكلي؛ لأن الجهالة إما في مقابل العلم أو في مقابل العمل العقلائي، أي السفاهة.

فلو كان المراد الأول فالأمر واضح؛ لأن العمل بالشهرة ليس عملاً

ص: 29


1- أي: أصل العدم.
2- مصباح الأصول 2: 145.

بالعلم، حيث إنها لا تورثه.

ولو كان المراد الثاني فالعمل بها سفاهة؛ لأن العقل يحكم بلزوم تحصيل المؤمن من العقاب لوجوب دفع الضرر المحتمل، وفي العمل بالشهرة التي لم يدل على حجيتها دليل ضرر محتمل، و لا مؤمن منه، وعليه يكون العمل بها عملاً سفهائياً، فتكون الشهرة خارجة موضوعاً عن هذا المفهوم الذي أفاده التعليل.

لكنه محل تأمل؛ لأن العمل بقول مشهور الفقهاء العدول لا يعد سفاهة.

و قد قال في المصباح في موضع آخر: «وقد شاهدنا بعض الأعاظم(1) أنه كان يدعي القطع بالحكم من اتفاق ثلاثة نفر من العلماء، وهم الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي الكبير والمرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي»(2).

فلو فرض أنّ الفقهاء أفتوا بحكم وخالفهم اثنان أو ثلاثة ألا يحصل القطع من فتواهم، و لو في الجملة؟ إلا أن يقال: إنّه خروج عما نحن فيه؛ لأن الملاك إفادة القطع.

وربما يعثر المتتبع للفقه من أوله إلى آخره على مئات الموارد التي عمل الفقهاء فيها بالشهرة سواء الروائية أو الفتوائية أو العملية.

وفيما يلي نذكر بعض النماذج لعملهم بها بأنواعها المختلفة:

قال في العروة في مسألة الجمع بين الفاطميتين: «الأقوى عدم الحرمة،

ص: 30


1- ربما المراد المحقق النائيني (رحمه اللّه) .
2- مصباح الأصول 2: 140.

وإن كان النص الوارد في المنع صحيحاً، وذلك لإعراض المشهور عنه»(1) فاقتفى أثر المشهور.

وفي الجواهر: «الموثق عندنا حجة في نفسه، والمعارض كله قابل للتقييد به، لكنه لإعراض المشهور عنه يقصر عن المقاومة»(2).

وفيه أيضاً: «ولكن الأقوى الأوسط لإعراض المشهور عن العمل بما في ذلك»(3).

وأفتى في العروة بعدم وجوب الحج على مَنْ لا راحلة له لكنه يطيق المشي، مع وجود روايات تحكم بوجوب الحج عليه ماشياً، حيث قال: «والأقوى هو القول الثاني؛ لإعراض المشهور عن هذه الأخبار، مع كونها بمرأى منهم و مسمع»(4).

وقال المحقق العراقي في حاشية العروة: «قد مرّ الإشكال فيه لضعف المستند، ولو لإعراض المشهور»(5).

وقال في المستمسك: «لكن لإعراض المشهور عنه وضعفه في نفسه لا مجال للاعتماد عليه»(6).

وربما لو أراد الفقيه استنباط الحكم من دون ملاحظة أقوال المشهور

ص: 31


1- العروة الوثقى 5: 553.
2- جواهر الكلام 6: 252.
3- جواهر الكلام 39: 262.
4- العروة الوثقى 4: 363.
5- العروة الوثقى 2: 283.
6- مستمسك العروة الوثقى 6: 108.

وعملهم وفهمهم أوجب ذلك تأسيس فقه جديد.

وعليه فالعمل بقول المشهور واعتباره ملاكاً، ولو كملاك من الملاكات، لا يعتبر عملا سفهياً و لا عملاً سفهائياً، وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء اللّه.

الإشكال الثالث: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) قال: «لإمكان الحكمة كما في كثير من المعللات، وهي لا تطرد ولا تنعكس، وإنما يضرب القانون الأعم منها، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في سبب غسل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكما في قوله تعالى {لِذِكْرِي}(1) و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2) لأنه إن بينت علة يكون الهدم في موردها بزعم أنه ليس من موردها أضر من ضرر الإطراد في غير المورد».

فلو كانت هنالك علة في عالم الثبوت فيدور أمر جاعل القانون بين محذورين:

الأول: أن يجعل العلة الثبوتية علة في مقام الإثبات، ويجعل الحكم دائراً مدارها وجوداً وعدماً، ومحذوره أن المكلف قد يشخص عدم انطباق العلة على المورد، مع أنه من مصاديقها واقعاً، فيخالف الحكم ويتورط في ضرر المخالفة.

الثاني: أن يجعل العلة الثبوتية حكمة في مقام الإثبات، فيجعل الحكم أعم من العلة الواقعية، ومحذوره تقييد الحرية أو إتلاف وقت الناس مثلاً.

لكن الجاعل يرى أن المحذور الثاني أخف من الأول، فيجعل ذلك حكمة،

ص: 32


1- طه: 14 {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.
2- البقرة: 21 {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ وَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

ويجعل الحكم أعم من العلة الواقعية.

ويظهر ذلك في قوانين المرور، حيث قد تكون العلة عدم الضرر، لكن المشرع يجعل القانون مطرداً، وإن سبب محذور إتلاف وقت الناس؛ وذلك ليمنع المكلف من الوقوع في الضرر الواقعي فيما لو أخطأ في التشخيص وتوهم عدم كون المورد مصداقاً للضرر، فإن محذور جعل العلة الواقعية علة إثباتية أشد من هذا المحذور، فيرجحه عليه، ويجعل القانون مطرداً.

لكنه أجاب عنه بقوله (وإن كان خلاف الظاهر).

إن قلت: كثرة ورود الحكم في الآيات والروايات تمنع عن انعقاد الظهور في العلية.

قلت: الكثرة لو لم تصل إلى حد النقل أو حد الاشتراك لا تقدح في جريان أصالة الحقيقة، كما هو الحال في باب الأوامر فمع كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب، والتي تجاوزت آلاف الموارد، لم يمنع ذلك ظهورها في الوجوب.

وعليه فالكثرة لا تمنع ظهور تعليل آية النبأ في العلية دون الحكمة، التي لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

الدليل الخامس

اشارة

ما روي مرسلاً من قولهم(عليهم السلام): «فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لا ريب فيه»(1).

ص: 33


1- وسائل الشيعة 27: 122.
ويرد عليه

أولاً: ضعف السند.

وثانياً: موضوع الحجية الاجتماع وهو ظاهر في اتفاق الكل.

وستأتي تتمة الكلام في الدليل القادم.

الدليل السادس

اشارة

ما نقله صاحب الرياض عن نهاية العلامة الحلي من قوله (عليه السلام): «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند اللّه قبيح»(1).

وقد أشكل عليه السيد الوالد بإشكالات ثلاثة

الإشكال الأول: ضعف السند.

الإشكال الثاني: الحسن أعم من الوجوب، والقبح أعم من الحرمة، فلو قال المشهور: الشيء الفلاني حسن أثبت الحسن، لكن لو قالوا: واجب لم يثبت الوجوب، ويمكن أن يثبت الحسن بالمعنى الأعم، فالدليل أخص من المدعى.

الإشكال الثالث: (المسلمون) جمع محلى ب- (أل) وهو ظاهر في الاستغراق، وليس الكلام فيه وإنما في الشهرة.

لكنه محل تأمل على مبناه، فإنه يرى - بالإضافة إلى حجية العرف في المفاهيم - حجية تسامحاتهم في التطبيقات، إلا فيما علم خلافه، خلافاً للمشهور؛ وذلك لأن العرف هو المخاطب، وقد كان الأنبياء صلوات اللّه

ص: 34


1- نهاية الوصول 1: 423.

عليهم يكلمون الناس بالطريقية المتعارفة، فقد قال تعالى: {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}(1)، وفي الحديث الشريف: «على قدر عقولهم»(2)، فالتسامحات العرفية معتبرة؛ ولذا أفتى بأنه لو كان الكر أقل من المقدار المحدد بنصف مثقال جرى عليه حكم الكر، حيث إن الإمام (عليه السلام) خاطب العرف، والعرف يعتبره كراً.

وفي المقام (المسلمون) وإن كان مفهومه اللغوي الاستغراق، إلا أن المفهوم العرفي اعتبار النادر كالمعدوم، فلو كانت الشهرة عظيمة بحيث عد النادر كالمعدوم صدق (ما رآه المسلمون).

ولا يخفى أنَّ الفقهاء سلموا بالتسامح العرفي في موارد خلافاً لمبناهم.

فصاحب العروة وكثير من الفقهاء أجازوا الإخفات في باب الجهر في الحرف الأخير، بل حتى في الكلمة الأخيرة(3).

وكذلك في باب السجود حيث يلزم أن لا يكون أكثر من أربع أصابع مضمومات، أو لبنة موضوعة على أكبر سطوحها، و لا إشكال فيما لو كان أكثر من ذلك قليلاً إذا كان الأرض انحدارياً(4).

وكذا لا إشكال في الأصل المثبت لو كانت الواسطة خفية(5)؛ لأنّ الأثر أثر لذي الواسطة عرفاً.

ص: 35


1- إبراهيم: 4.
2- الكافي 1: 23.
3- العروة الوثقى 2: 510.
4- العروة الوثقى 2: 556.
5- أوثق الوسائل: 509؛ أجود التقريرات 2: 419.

وكذا في وحدة القضيتين المتيقينة والمشكوكة، حيث تكون الوحدة عرفية لا دقية.

وتفصيل الكلام موكول إلى محله.

الدليل السابع

اشارة

ما ذكره السيد السبزواري: «ولنا أن ندعي السيرة العقلائية على اعتبارها؛ لأنّ أهل كل علم وصنعة من العلماء والعقلاء يعتمدون على ما اشتهر بينهم بهذا المعنى، ويستدلون بها لا عليها، وحينئذٍ يكفي عدم ثبوت الردع، ولا نحتاج إلى إثبات الحجية»(1).

ومراده ثبوت الحجية بعدم الردع وعدم الحاجة إلى الإمضاء، وإن لم تكن العبارة صريحة في ذلك.

لكنه محل تأمل

حيث إنه غير مطرد، فليس الاعتماد على قول مشهور أهل الفن حجة بنحو مطلق، وإنما الاعتماد على حساب الاحتمالات.

وبعبارة أخرى: إنما يعتمد العقلاء على الشهرة إذا أوجبت الاطمينان النوعي لا غير، كما لو ذهب مشهور الأطباء إلى شيء وخالفهم خمسة من المدققين، حيث يتوقف العقلاء و لا يعتبرون حجيتها باعتبار أنها شهرة.

وبتقرير آخر: هل للعقلاء طرق تعبدية أو يعتمدون على الطريق لإفادة الظن النوعي، فإن لم يفد فليس بحجة عندهم، ويمكن القول بعدم إفادة

ص: 36


1- تهذيب الأصول 2: 96.

كل شهرة للظن النوعي ؟

وبتعبير آخر: يمكن القول: إنّ للشهرة حجية اقتضائية - إن صح التعبير - أي: إنها حجة عند العقلاء ما لم يمنع عنها، مانع كمخالفة جملة من المدققين.

فإطلاق الدليل السابع محل تأمل، وإن كان ذلك بحاجة إلى مزيد تأمل.

الدليل الثامن

اشارة

بعض الأدلة التي مضت في بحث الإجماع، كقوله تعالى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}(1) وما أشبه ذلك.

وفي المقام تفصيل ذهب إليه بعض المتأخرين(2) ، وهو التفصيل بين الشهرة في المسائل المتلقاة والمسائل التفريعية.

بيان ذلك: المسائل التي تتحقق فيها الشهرة تتنوع إلى نوعين:

النوع الأول: المسائل المستنبطة المستفادة من تطبيق القواعد العامة على الصغريات، ورد الفروع إلى الأصول، والتي لم يرد فيها نص بالخصوص، وليست الشهرة حجة فيها، بل لابد من ملاحظة المستند ومدى صلاحيته لإثبات الحكم المستنبط.

مثلاً: المشهور بين المتأخرين جواز الصلاة في اللباس المشكوك كالماهوت(3) ، وقد ابتدأت الشهرة من المجدد الكبير، حيث أفتى بجوازها

ص: 37


1- النساء: 115.
2- نهاية الأصول 1-2: 543-544.
3- العروة الوثقى 2: 340؛ مستمسك العروة الوثقى 5: 348.

فيه وتبعه المشهور، مع أنه لم ترد رواية خاصة في ذلك، وإنما استفيد حكمها من القواعد العامة.

النوع الثاني: المسائل المتلقاة، و هي التي ورد فيها نص بالخصوص، فقد كانت فتاوى الكثير من القدماء متون الأخبار أو مضمونها، كرسالة علي بن بابويه إلى ولده، وكذلك الصدوق في المقنع والهداية، والمفيد في المقنعة، والطوسي في النهاية، وابن أبي عقيل في المتمسك بحبل آل الرسول وأمثالها.

فلو اتفقت كلمة المشهور منهم على فتوى كانت الشهرة كاشفة عن وجود النص المعتبر الذي أفتوا على طبقه، ومآل ذلك إلى الشهرة العملية، فتكون حجة، وتشمله مقبولة عمر بن حنظلة إما بذاتها أو بمناطها.

ومما يؤيد ذلك بعض الروايات التي مفادها عمل أصحاب الأئمة(عليهم السلام) بما اشتهر بينهم، مع سماعهم خلاف ذلك من الإمام(عليه السلام)، وقد أقرهم المعصوم(عليه السلام) على ذلك، نكتفي بذكر روايتين منها:

الأولى : عن سلمة بن محرز قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ رجلاً مات وأوصى إليّ بتركته وترك ابنته، قال: فقال لي: اعطها النصف(1)، فأخبرت زرارة بذلك فقال لي: اتقاك إنما المال لها، قال: فدخلت عليه بعد فقلت أصلحك اللّه: إن أصحابنا زعموا أنك اتقيتني، فقال: لا واللّه ما اتقيتك، ولكني اتقيت عليك أن تضمن، فهل علم بذلك أحد؟ قال: فأعطها ما بقي»(2).

ص: 38


1- وظاهرها أن النصف الآخر للآخرين كأخوة الميت.
2- وسائل الشيعة 26: 101.

والشاهد في توقف سلمة بن محرز بسبب قول الأصحاب عن العمل بما سمعه من الإمام(عليه السلام).

الثانية: عن عبد اللّه بن محرز قال: «أوصى إليّ رجل وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم وترك ابنة، وقال: لي عصبة بالشام، فسألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن ذلك فقال أعط النصف والعصبة النصف الآخر، قال: فلما قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا، فقالوا: اتقاك فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثم حججت فلقيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فأخبرته بما قال أصحابنا، وأخبرته أني دفعت النصف الآخر إلى الابنة، فقال: أحسنت، إنما أفتيتك مخافة العصبة عليك»(1).

وهو تقرير من الإمام (عليه السلام) لعمله بما قاله الأصحاب.

لكنه محل تأمل

أما الروايات الخاصة - كالمقبولة - فموضوعها المجمع عليه كما مر، وموضوع البحث الشهرة.

وأما بلحاظ القواعد العامة فالظاهر أنّ المطلب يرتبط بالظن أو الاطمينان النوعي، فإن حصل من فتاوى مشهور القدماء الاطمينان العقلائي بوجود دليل معتبر عندنا سنداً ودلالة لا عندهم فقط كان حجة، وإلا فلا حجية فيه؛ لعدم دليل تعبدي على الحجية، ولا بناء عقلائي عليه.

نعم، يمكن دعوى أنّه غالباً يحصل الاطمينان النوعي بوجود دليل معتبر عندنا أيضاً.

ص: 39


1- وسائل الشيعة 26: 104.

إشكالان على حجية الشهرة

ويرد على القائلين بحجية الشهرة إشكالان:

الإشكال الأول: إنّ حجية الشهرة مستلزمة لسد باب الاجتهاد، وهو خلاف ما علم بالضرورة من مذهب الإمامية.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: لم تتحقق الشهرة أو لا طريق إلى تشخيصها في كثير من المسائل، وخاصة المسائل المستحدثة، فلا ينسد باب الاجتهاد بذلك.

الجهة الثانية: إنّ الشهرة الفتوائية - على فرض حجيتها - دليل من الأدلة، ويمكن رفع اليد عن دليل لوجود معارض مكافئ أو أقوى، كما هو الحال في الخبر الواحد.

والحاصل: القول بحجية الشهرة لا يلازم التعبد بكلامهم والاقتصار على رأيهم في كل مسألة.

الإشكال الثاني: إنَّ القول بحجية الشهرة الفتوائية مما يوجب وجوده عدمه، ولازم حجية الشهرة الفتوائية عدم حجية الشهرة الفتوائية؛ لأنّها قائمة على عدم حجيتها، فيلزم من الحجية عدم الحجية(1).

وهو محل تأمل من جهتين

الجهة الأولى: لم يثبت قيام الشهرة الفتوائية على عدم حجية الشهرة الفتوائية.

ص: 40


1- الفصول الغروية: 253.

نعم، هو المعروف في كتب الأصوليين المتأخرة، لكنهم أفتوا في موارد كثيرة من الفقه على طبق المشهور، أو توقفوا عند ما توقف عنده المشهور، أو احتاطوا عند فتوى المشهور، والحاصل: إنه من لحاظ العمل لم يثبت أنّ الشهرة قائمة على عدم حجية الشهرة في الفقه.

الجهة الثانية: هنالك شهرتان:

الأولى: الشهرة المانعة، وهي الشهرة الفتوائية على عدم حجية الشهرة الفتوائية.

الثانية: الشهرة الممنوعة، وهي الشهرات المطروحة في المسائل الفقهية.

والأولى تريد منع حجية الثانية ، لكن لا يمكن لأدلة الحجية أن تشمل الشهرة المانعة؛ لأن الشمول يوجب عدم الشمول؛ وذلك لأنه لو كانت الشهرة المانعة حجة كان مفادها عدم حجية كل شهرة فتوائية، وهذا المفاد يشمل نفسه، فإنّ القضية الطبيعية تشمل نفسها إما بذاتها وإما بملاكها.

وعليه فالشهرة المانعة لو كانت حجة كان مقتضى ذلك عدم حجيتها، فلا يبقى إلا أن تشمل أدلة الحجية الشهرة الممنوعة.

وهو تام لو كان الاعتماد على الأدلة اللفظية كمقبولة عمر بن حنظلة، فإنها لا يمكن أن تشمل الشهرة المانعة، فلابد وأن تشمل الشهرة الممنوعة، أما لو كان هو الدليل السيرة العقلائية فيمكن أن يكون مقتضاها حجية الشهرة المانعة، وعدم حجية الشهرات الممنوعة.

وسيأتي مزيد بحثه في مباحث حجية الخبر الواحد في الظن المانع والظن الممنوع.

ص: 41

ختام فيه تنبيهات

التنبيه الأول: مع القول بعدم حجية الشهرة فلا أقل من أنها تقتضي الاحتياط في الفتوى، إلا لو كان هنالك دليل أقوى.

قال في المصباح في بحث الإجماع: «فتحصل أنه لا مستند لحجية الإجماع أصلاً، وأن الإجماع لا يكون حجة إلا أن مخالفة الإجماع المحقق من أكابر الأصحاب، وأعاظم الفقهاء مما لا نجترئ عليه، فلا مناص في موارد تحقق الإجماع من الالتزام بالاحتياط اللازم»(1).

ويأتي ما ذكره بنحو أضعف في باب الشهرة أيضاً.

التنبيه الثاني: الشهرة نوعان: الشهرة المنقولة والشهرة المحصلة، ويأتي فيهما ما ذكر في الإجماع المنقول والمحصل.

التنبيه الثالث: بما أنّ الكثير من القدماء تقيدوا بألفاظ الروايات فقولهم: (الواجب) لا يدل على الوجوب الاصطلاحي المانع من النقيض، فإن الوجوب بالمعنى اللغوي هو الثبوت، كما قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}(2)، أي: ثبتت، أو ما ورد في الروايات: (غسل الجمعة واجب)(3) أي: ثابت.

وهكذا (ينبغي) لا تدل في عباراتهم على الاستحباب أو الأفضل، وكذا (لا ينبغي) حيث يمكن استخدامه في المحال أو في الحرام، كما قال تعالى:

ص: 42


1- مصباح الأصول 2: 141.
2- الحج: 36.
3- علل الشرائع 1: 286؛ من لا يحضره الفقيه 1: 110.

{وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}(1).

التنبيه الرابع: يمكن استفادة قول المشهور من كتاب اللمعة للشهيد الأول، وهو آخر ما كتبه والتزم أن لا يذكر إلا فتاوى المشهور.

نعم، لم يلتزم بذلك في بعض الموارد، وقد نبه عليها الشهيد الثاني رحمة اللّه عليهما.

وقد ذكر التنبيهات الثلاثة الأخيرة السيد السبزواري في تهذيب الأصول(2).

هذا تمام الكلام في مباحث الشهرة.

ص: 43


1- مريم: 92.
2- تهذيب الأصول 2: 96-98.

ص: 44

فصل في الخبر الواحد

اشارة

ص: 45

ص: 46

فصل في الخبر الواحد

من جملة الظنون التي ادعي اعتبارها بالخصوص الخبر الواحد، وينبغي قبل الخوض في البحث أنْ نُقدِّم ثلاث مقدِّمات:

المقدمة الأولى: حجية الخبر، تتوقف على ثلاث جهات:

الأولى: إحراز الصدور، بأن يكون الخبر صادراً عن المعصوم(عليه السلام).

الثانية: إحراز الإرادة والظهور.

الثالثة: إحراز الجهة، بأنْ يكون المعصوم(عليه السلام) في مقام بيان الحكم الواقعي، لا في مقام آخر كالتقية وما أشبه.

والذي يتكفلّ إثبات الجهة الثالثة الأصول العقلائية الدالة على كون المتكلم في مقام بيان مراده الواقعي.

والذي يتكفل إثبات الجهة الثانية الأوضاع اللغوية والعرفية، والقرائن العامة والخاصة المكتنفة بالكلام، وأصالة التطابق بين الإرادة الجدّية والإرادة الإستعمالية.

والذي يتكفل إثبات الجهة الأولى - أي إثبات صدور المضمون عن المعصوم(عليه السلام) بالثبوت التعبدي - هو هذا البحث.

المقدمة الثانية: إنَّ هذا البحث - بالإضافة إلى مباحث التعادل والتراجيح - من أهمِّ مباحث علم الأصول؛ وذلك لأنَّ الضروريات التي تتكفل بيان الأحكام على نَحو الإجمال، وهكذا اليقينيات الثابتة بالخبر المتواتر وشبهه

ص: 47

نادرة جداَ؛ حيث إنَّ معظم الأحكام الشرعية غير ضرورّية وغير يقينية، وإنَّما تدور رحى الفقه غالباَ على إثبات حجية الخبر الواحد، ومع إثبات الحجية ينفتح باب العلمي في الأحكام وينسد باب الانسداد، ومع عدم ثبوت الحجية ينسدّ باب العلمي في الأحكام، وينفتح باب الانسداد؛ ولذلك فإنَّ إثبات الحجية للخبر الواحد من الأمور المهمّة في الفقه كلِّه.

المقدمة الثالثة: المراد بالخبر الواحد ما لم يبلغ حدَّ التواتر - وهو الذي يفيد العلم - وإن تعددت رواته وطرقه، وإنّما عبَّر عنه بالخبر الواحد؛ لأنَّ الغالب كونه واحداً كما قيل، أو من باب إطلاق الجزئي على الكلي؛ فإنَّ كثيراً منها خبر راوٍ واحد أو نفس الخبر واحد، فأطلق على الكلي - أي كلُّ ما لم يبلغ حدَّ التواتر - خبر الواحد بالإضافة أو الخبر الواحد بالتوصيف(1).

وبعد تمامية هذه المقدّمات نقول: ذهب المشهور - قديماً وحديثاً - إلى حجّية الخبر الواحد في الجملة بالخصوص، أي قام الدليل الخاص على حجّيته.

لكنَّ جمعاً من القدماء والمتأخرين ذهبوا إلى عدم الحجّية، كالسيد المرتضى في الذريعة(2) وفي رسالته(3)، وابن زهرة في الغنية(4)، والطبرسي

ص: 48


1- وقد ذكرت الإضافة والتوصيف في كلمات الأصوليين، والظاهر أنَّه لا ضير في كلٍّ منهما (منه (رحمه اللّه) ).
2- الذريعة 2: 517.
3- ذكر ذلك في عدّة مواطن من رسائله المجموعة في كتاب واحد باسم رسائل المرتضى 1: 21، 48، 53، 74، 90، 4: 335.
4- غنية النزوع: 76، 307، 322.

في مجمع البيان(1) في تفسير آية النبأ، وابن إدريس في السرائر(2)، والقاضي ابن البراج(3)، وآخرون.

أدلة عدم حجية الخبر الواحد

اشارة

واستدل لعدم حجية الخبر الواحد بالأدلة الأربعة:

الأول: القرآن الكريم

اشارة

ضمن آيات: منها: قوله تعالى: {إِن يتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}(4).

ومنها: قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا}(5).

ومنها: قوله سبحانه: {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَينُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(6).

وقال عزّ من قائل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(7).

وقال تبارك وتعالى: {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(8).

كلُّ ذلك بضميمة أنَّ الخبر الواحد ظنٌّ ولا يصيب الواقع كثيراً، فيكون

ص: 49


1- مجمع البيان 9: 221.
2- السرائر 1: 47،82 .
3- المهذب 2: 142.
4- النجم: 23.
5- النجم: 28.
6- الحجرات: 6.
7- الإسراء: 36.
8- الحجرات: 12.

إثماً، فيجب الاجتناب عنه.

ويمكن الإجابة عن ذلك بعدة أجوبة
الجواب الأول

ما هو المختار في المقام: من أنَّ العمل بالخبر الواحد عملٌ بالعلم لا عملٌ بالظن.

بيان ذلك: إنَّ العمل بالعلم على نحوين:

الأوّل: أنْ ينكشف الواقع لدى المكلف فيجري طبق ذلك الانكشاف.

الثاني: أنْ لا ينكشف الواقع لدى المكلف، ولكن يقوم الدليل القطعي على حجية طريق عنده، وفي هذا النحو لا يكون عمل المكلف مستنداً إلى طريق غير قطعي، وإنّما يكون استناده إلى ذلك الدليل القطعي القائم على حجية الطريق، فالمكلف عامل بالعلم ومستند إليه، ولا يكون عمله واستناده في ذلك إلى الظن. ولذلك نظائر في الفقه والأصول:

منها: إذا أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم وقلّد المكلف غير الأعلم، فيكون تقليده مستنداً إلى فتوى الأعلم، وبذلك يعتبر المقلِّد - في واقع الأمر - مقلِّداً للأعلم، وقد أفتى بذلك جمع من المحشين على العروة(1).

ص: 50


1- قال السيد اليزدي في المسألة 46 من كتاب التقليد: «لو أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم يشكل جواز الاعتماد عليه». وعلّق عليه ب- : «لا إشكال فيه» كلٌ من السّيد البروجردي والسّيد أبي الحسن الإصفهاني والسّيد عبد الهادي الشيرازي والسيّد صادق الشيرازي، وقال السّيد الخونساري: «لا نرى وجهاً للإشكال»، وقال العراقي: «الأقوى جوازه»، وقال الحائري: «لا أرى وجهاً للإشكال»، وقال السيد الحكيم: «الإشكال ضعيف»، وقال السيد محمد الشيرازي: «بل يجوز الاعتماد عليه» (المقرّر).

ومنها: إذا قلّد الحي في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت فبقي على تقليده، فهو في واقع الأمر مقلٍّد للحي.

والحاصل: إنَّه إذا دلَّ الدليل القطعي - كالخبر المتواتر - على حجّية أخبار الآحاد، فالعمل بالخبر الواحد عملٌ بذلك الدليل القطعي، ولا يكون العمل بالخبر الواحد عملاً بالظن، فلا يكون مشمولاً لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1)، بل هو من مصاديق العمل بالعلم، كما في قوله(عليه السلام): «العمري وابنه ثقتان فاسمع لهما واطعهما»(2)، فإنَّ إطاعة العمري إطاعة للامام(عليه السلام)، وكذلك في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}(3)، فإنَّ إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إطاعة اللّه تبارك وتعالى.

وتكون النتيجة أنَّ العمل بالخبر الواحد خارج - على نحو الخروج الموضوعي - عن مدلول هذه الآيات المباركات.

الجواب الثاني

ما ذكره السيد السبزواري (رحمه اللّه) : من أنّ «المراد بالعلم في الكتاب والسنة ما تطمئن وتسكن إليه النفس لدى العقلاء، كما أنَّ المراد بغير العلم الأراجيف، وما يخبر به الجهلة والهمج الرعاع، والخبر الموثوق به من الأوَّل دون الثاني باتفاق العلماء»(4).

ويمكن المناقشة فيه: بإنَّ هذا المعنى يتوقف على ثبوت اصطلاح شرعي

ص: 51


1- الإسراء: 36.
2- الكافي 1: 330.
3- الحشر: 7.
4- تهذيب الأصول 2: 91.

لكلمة العلم، أي: (ما يركن إليه العقلاء)، وهو ممّا يفتقر إلى البرهان.

أو يُدّعى أنَّ الخبر الواحد يورث العلم بمعناه اللغوي، لكنَّه غير ثابت؛ فإنَّ الخبر الواحد لا يورث العلم في كثير من الأحيان، فالأخبار الواردة في أمّهات الكتب لا توجب حصول العلم بمعناه اللغوي في كثير من الأحيان - خاصّة إذا كان مضمونه غريباً - حتّى وإن كان رواته ثقاة؛ لوجود الاحتمال بالخلاف، وإنْ ركن إليه في مقام العمل، ويؤيده تشكيك أبان في دية قطع أصابع المرأة، مع وثاقة الناقل له(1).

الجواب الثالث

ما ذهب إليه صاحب الكفاية(2)

من التخصيص، فإنّ أدلة حجّية الخبر الواحد تخصص عمومات الآيات المذكورة.

ويمكن المناقشة فيه: بالإضافة إلى ما سيأتي من الأجوبة اللاحقة، أنَّ ظاهر بعض تلك الآيات آبية عن التخصيص، فإنَّ تخصيص قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا}(3) بالظن الحاصل من الخبر الواحد في الأحكام

ص: 52


1- الكافي 7: 299، عن أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشر من الإبل، قلت: قطع اثنين؟ قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً، قال: عشرون، قلت: سبحان اللّه! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟ إن هذا كان يبلغنا ونحن في العراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول الذي جاء به شيطان، فقال: مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إنّ المرأة تقابل الرجل إلى ثلث الديّة، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان، إنّك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين».
2- كفاية الأصول: 295.
3- يونس: 36؛ النجم: 28.

الشرعية غير وجيه؛ فإنّ المقام مقام الاحتجاج مع المشركين، حيث قال تعالى: {إِنَّ

الَّذِينَ لَا يؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا}(1)، ويلزم أنْ يكون البرهان في مقام الاحتجاج آبياً عن التخصيص، وإلاّ لأمكن للخصم إلزام خصمه بذلك، هذا بناءً على التعميم في الآية لكلِّ ظنٍّ.

الجواب الرابع
اشارة

ما ذكره المحقق النائيني من أنَّ دليل حجية الخبر الواحد حاكم على الآيات الكريمة قال: «إنّ دليل حجية خبر العادل يخرج خبر العادل عن موضوع الآيات الناهية عن العمل بالظن، فلا يكون العمل به عملاً بالظنّ، ولذلك يكون مفهوم آية النبأ حاكماً على تلك الآيات»(2).

فموضوع الآيات هو الظن، وقد اعتبر الشارع الخبر الواحد علماً؛ حيث إنَّ مفاد أدلة حجية خبر الواحد جعل الطريقية والعلمية والوسطية في الإثبات.

وبعبارة اُخرى: أدلة الحجّية تجعل الخبر الظني علماً، فيخرج الخبر الواحد بالحكومة عن موضوع الآيات.

والفرق بينه وبين ما ذهب إليه السيد السبزواري في الجواب الثاني هو: أنّهُ لا يصطلح للعلم معنى جديداً، بل الشارع اعتبر الخبر الواحد علماً، وذلك كقوله: «الطواف بالبيت صلاة»(3)، فليس الطواف فرداً للصلاة

ص: 53


1- النجم: 27-28.
2- أجود التقريرات 1: 501.
3- مستدرك الوسائل 9: 410.

تكويناً، إلا أنّهُ أدرَج فيه بعناية التنزيل الشرعي، وهكذا قوله: «الفقاع خمر»(1)، بناء على الحكومة لا الكشف عن الفرد الحقيقي التكويني، بينما الجواب الثاني يتكفّل اصطلاحاً جديداً للعلم.

كما أنَّ الفرق بينه وبين الجواب المختار هو: أنَّ مآل ما اخترناه في الجواب الأوَّل هو العمل بالعلم، أي العمل بالدليل القائم على حجية الظن، فيكون العلم هو المستند والحجّة بين العبد وربّه تبارك وتعالى، بينما مآل الجواب الرابع إلى كون الخبر الواحد علماً اعتباراً.

وبعبارة أُخرى: إنَّ مآل الجواب الأوَّل إمّا الورود أو التخصص، حيث يكون الخبر الواحد خارجاً عن الموضوع بعناية أدلة الحجّية، بينما مآل الجواب الرابع إلى الحكومة(2).

والحاصل: إنَّه بناءً على الجواب الرابع، يكون الخبر الواحد ظنّاً تكويناً، إلا أنَّ الشارع اعتبره علماً تعبداً، فالخروج تعبدي لا حقيقي، وأمّا بناءً على الجواب الأوّل، يكون اتباع الخبر الواحد اتباعاً للعلم حقيقة.

ويمكن المناقشة فيه من وجوه

الوجه الأوّل: ما ذكره بعض المعاصرين، حيث قال: «الطريقية أمر

ص: 54


1- وسائل الشيعة 25: 360.
2- والفرق بين الحكومة و الورود: إنّ الحكومة إدراج وإخراج تعبدي، والورود والتخصص خروج أو اندراج حقيقي تكويني. كما أنَّ الفرق بين التخصص والورود هو: أنَّ التخصص الدخول أو الخروج بذاته تكويناً، والورود الخروج أو الدخول حقيقة، ولكن بعناية التعبد الشرعي لا بالتوسعة والتضييق الاعتباري والتعبدي (منه (رحمه اللّه) ).

تكويني غير قابل للجعل»(1).

وفيه تأمّل: لأنّ الطريقية نوعان:

الأوّل: الطريقية التكوينية، وهي ممّا لا تقبل الجعل.

الثاني: الطريقية الاعتبارية، وهي قابلة للجعل؛ وذلك مثل الحكم بحياة مَنْ شك في حياته. فالحياة التكوينية غير قابلة للجعل بأدلة الاستصحاب، ولكن الحياة الاعتبارية والتعبدية قابلة للجعل.

الوجه الثاني: يبتني ما ذكره من الحكومة على أنَّ المجعول في باب الأمارات والطرق الطريقية والعلمية، ولا يمكن فرض الحكومة على سائر المباني، ككون المجعول في باب الأمارات والطرق وجوب الجري العملي، حيث يكون المجعول حكماً تكليفياً لا وضعياً، وهكذا المباني الأخرى في حقيقة المجعول في سائر الأمارات.

والفرق بين هذه المناقشة والمناقشة الأولي هي: أنَّه في المناقشة الأولى كان الإشكال في الامتناع الثبوتي، بينما تتكفّل هذه المناقشة عدم ظهور الأدلة في المدعى.

فمثلاً: قوله (عليه السلام): «عليك بهذا الجالس»(2)، مشيراً إلى زرارة، وهكذا: «لا تتبينوا»(3)، لا ظهور فيه لجعل الطريقية والوسطية في الإثبات، إلا أنّه إشكال مبنائي.

ص: 55


1- المحصول 3: 223.
2- وسائل الشيعة 27: 142.
3- مفهوم آية النبأ.

الوجه الثالث: ما ذكره في المنتقى، قال: «وذلك لأن النهي الوارد في الآيات الكريمة ليس نهياً نفسياً ذاتياً، عمّا موضوعه غير الحجّة وغير العلم كي يرتفع في المورد المنزل منزلة العلم وإنّما هو نهي تشريعي يقصد به نفي الحجية عن غير العلم، فما يثبت الحجية يكون مصادماً لنفس الحكم مباشرة»(1).

بيانه: يوجد في مفاد الآيات الكريمات احتمالان:

الاحتمال الأوّل: النهي النفسي عن اتباع غير العلم وغير الحجّة، وهذا الاحتمال غير مراد من الآيات المباركة، وإنْ كان هو المنساق إلى الذهن في بادئ النظر.

وقد يبرهن لذلك بعدم وجود المحذور في اتباع الظن في حدّ ذاته، فكل العقلاء يتبعون الظن في أمورهم ولا يتوهّم حرمته. وعليه، فيكون مفاد الآيات هو الاحتمال الثاني.

الاحتمال الثاني: وهو عدم حجية الظن.

وبعبارة أخرى: ليس مفاد الآيات النهي عن سلوك الطريق الظنّي، بل مفادها عدم حجية الظنّ بين العبد ومولاه، فلا يمكن للعبد الاحتجاج بالظن، كما لا يمكن للمولى الحكيم الاحتجاج على عبده به، فيكون مفاد الآية عدم حجّية الظن، أي لا يكون الظنّ مؤمّناً ومعذّراً.

وعليه، فإذا ثبتت حجية الخبر الواحد بالدليل يكون ذلك الدليل مصادماً لنفس المدلول مباشرة، فيكون تخصيصاً لا حكومة؛ حيث يتّم في

ص: 56


1- منتقى الأصول 4: 253.

التخصيص مصادمة الدليل الخاص لنفس الحكم مباشرة، وأمّا في الحكومة فليست المصادمة مباشرة، بل الدليل الحاكم يتصرّف في موضوع دليل الحكم، فينتفي الحكم بنفي الموضوع مثلاً.

والحاصل: إنّ أدلة حجّية الخبر الواحد تخصيص لا حكومة.

الوجه الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين(1) : من عدم تأسيس الشارع في أدلة حجّية خبر الواحد، وإنّما هو إمضاء لما عليه بناء العقلاء، فلا معنى للقول بجعل الحجية والطريقية للخبر، لتكون الأدلة الدالة على جعل الطريقية حاكمة على الأدلة الرادعة.

وفيه تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: عدم ارتضاء المبنى، فقد جعل الشارع الحجّية للخبر الواحد ولم يكتفِ بإمضاء بناء العقلاء، ويظهر الأثر فيما لو كان مفاد أدلة جعل الطريقية أو الحجية أو المؤدى أو وجوب الجري العملي، أوسع من بناء العقلاء، فإنّه يمكن الأخذ بالدليل في دائرته الأوسع.

فمثلاً: لو كان بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة، وكان مفاد آية النبأ الأعم من ذلك، فيمكن العمل بخبر العادل غير الثقة اعتماداً على الدليل، وهكذا الأمر في سائر الأمارات والطرق والأصول العملية، وهذا جواب مبنائي يوكل إلى محلّهِ.

الجهة الثانية: مع التسليم للمبنى نقول: إنَّ العقلاء يعتبرون الخبر الواحد علماً ولو في الجملة، وقد أمضاه الشارع، فيكون بناء العقلاء الممضى

ص: 57


1- تسديد القواعد: 257.

حاكماً على الآيات الرادعة.

إنْ قُلت: الحكومة لا تكون إلاّ بين دليلين لفظيين، كقوله: «الربا

حرام، ولا ربا بين الوالد والولد».

قُلنا: لا فرق في ملاك الحكومة بين أنْ يكون الدليل لفظياً أو لبياً، فملاكها التوسعة أو التضييق في الموضوع، ولا يفرّق فيه بين كون الدليل لفظياً أو لبياً، ولم يظهر اشتراط كون الحاكم دليلاً لفظياً.

الوجه الخامس: النسبة بين الدليلين التعارض، فلا حكومة لأحدهما على الآخر، ولا وجه لترجيح أدلة حجية الخبر الواحد على الآيات لتكون حاكمة عليها، بل يمكن فرض العكس.

وبعبارة أُخرى: إنَّ أدلة حجية الخبر الواحد تحكم بالعلمية والطريقية، والآيات تنفي العلمية والطريقية.

والنتيجة: إنَّ ما ذكره المحقق النائيني في الجواب الرابع غير واضح؛ لورود بعض هذه الإشكالات الخمسة عليه.

الجواب الخامس

إن الاستدلال بهذه الآيات الكريمة على عدم حجية الظنّ يوجب وجوده عدمه؛ وذلك لأنَّ مفادها قاعدة كلية، وهي: «إنّ كلَّ ظنّ لا اعتبار به» وهو مسوق على نحو القضية الحقيقية، فتشمل نفسها، حيث لا يعدو عن كون الظهور والظهورات ظنية، والآية رادعة عن اقتفاء كل ظن، فتردع عن اقتفاء ظاهرها.

وأُجيب عنه بجواب عام ينفع في مواطن كثيرة، وهو: إنَّ الظواهر كلها

ص: 58

قطعية، وإدراج باب الظهورات في الظن مسامحة. وهذا ممّا يشهد له العرف.

فمثلاً: المريض يتعامل مع ظاهر كلام الطبيب معاملة القطع لا الظن، وكذا الأمر في دلالة كلام البائع والمشتري والمعلّم والمتعلّم والآمر والمأمور، ولا وجه لاستثناء كلام المعصومين(عليهم السلام) من ذلك.

إنْ قلت: إنَّ الروايات الشريفة تحتمل التقّية، فلا يمكن معاملة القطع معها.

قلت: الكلام في مرحلة الإرادة الاستعمالية لا الإرادة الجدية، وما يلقى على عاتق الكلام هو الإرادة الاستعمالية، وأمّا نفي احتمال التقية وما أشبه فملقىً على الأصول العقلائية.

وبعبارة أُخرى: إنَّ قطعية الظواهر لا يراد بها إلاّ مرحلة تتكفلها الإرادة الاستعمالية، وأمّا مسألة تطابق الإرادتين فهذا ممّا تتكفله الأصول العقلائية، لا الأوضاع اللغوية والعرفية ومفاد التركيب وما أشبه.

وعليه، فيمكن القول بالدلالة القطعية في المراد الاستعمالي.

إلاّ أنّه قد يشكل الأمر في القطعية إذا مرَّ زمان طويل، وأصالة عدم النقل لا تفيد إلا الظن.

فمثلاً: ظاهر المكروه عندنا هو ما يجوز الإتيان به، ولكن يحتمل كونه في زمن المعصوم (عليه السلام) بمعنى آخر كالحرمة، ولا يغني إجراء أصالة عدم النقل؛ لأنّها تحرز التطابق بين العرفين، إلاّ أنّها لا تورث إلاّ الظن.

وعليه، فكلية المدعى - قطعية الظواهر فيما نحن فيه(1) - محلُّ إشكال.

ص: 59


1- أي كلام الشارع.

فالأولى تقرير الإشكال الخامس بهذا البيان: إنَّ دلالة الآيات الرادعات قطعية، فلا يحتمل وجود معنى آخر لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا}(1)، ويدلًَّ عليه الوجدان، إلاّ أنَّ شمول هذا المفاد للفروع الشرعية ظني، فلو تمسكنا بالعموم والإطلاق لذلك فلا يعدو كونه ظنّياً، ولا يصلح المفاد للردع عنها؛ لأنَّه يوجب وجوده عدمه.

وبعبارة أخرى: المفاد - أي نهي الشارع عن اتباع الظن - قطعي، ولكن شمول الآية لفروع الدين - كأصول الدين - ظني.

الجواب السادس

المراد من قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2)، هو: ما ليس لك به حجّة، فقد أُطلق العلم - الذي هو حجّة ذاتاً - وأريد به مطلق الحجّة، وإلاّ فيستلزم أحد محذورين:

الأول: تعطيل معظم الأحكام، فإنّها قد وصلت إلينا عبر الخبر الواحد، وإذا تعلّق النهي عن اتباع غير الحجّة الذاتية تعطلّت معظم الأحكام.

الثاني: لزوم تخصيص الأكثر المستهجن.

ولدفع هذين المحذورين لا بدَّ من المصير إلى أنَّ المراد بالعلم مطلق الحجّة، فيخرج الخبر الواحد عن مدلول الآيات الرادعات على نحو الخروج الموضوعي بعناية التعبّد، أعني الورود.

وفيه: أنه لا تصل النوبة إلى هذا الجواب بعد إمكان الجواب الأوّل - وإنْ

ص: 60


1- يونس: 36؛ النجم: 28.
2- الإسراء: 36.

كان في حدّ نفسه متيناً -، فلو تمكنّا من حمل العلم على معناه اللغوي والعرفي - أي ما يكون حجّة بذاته - فلا وجه لحمل العلم على مطلق الحجّة، لأنّه نوع من المجاز، حيث استخدم اللفظ الموضوع للأخص في الأعم، ولا يصار إليه إلا عند تعذّر الحقيقة.

الجواب السابع

ما ذكره صاحب الكفاية: من أنّ الظاهر من هذه الآيات المباركات أو القدر المتيقن منها، النهي عن اتباع الظن أو غير العلم في أصول الدين أو الأصول الاعتقادية، لا ما يعم الأحكام الفرعية(1).

لكنه لم يقم برهاناً على ما اختاره، إلا أنّه يمكن الاستدلال له بأنّ منشأ الظهور هو السياق، فإنّه في الأصول الاعتقادية لا الفروع العملية(2).

وفيه تأمّل: أمّا الظهور فممنوع، وأمّا القدر المتيقن فإنّه نحوان:

الأوّل: القدر المتيقن الخارج عن مقام التخاطب، إلا أنَّهُ لا يقدح في الإطلاق والعموم.

الثاني: القدر المتيقن في مقام التخاطب، وهو وإن كان قادحاً بالإطلاق، إلا أنّه لا يشمل جميع الآيات، فمثلاً يمكن دعوى وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب في قوله تعالى: {إِن يتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يخْرُصُونَ}(3) للسياق، لكن الآيات الأُخرى كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا

ص: 61


1- كفاية الأصول: 295.
2- فإنّ الظهور لا يحتاج إلى البرهان لكنه يحتاج إلى المنشأ.
3- الأنعام: 116.

لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1) آبية عن ذلك، قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الوصول: «بل استدلال الإمام(عليه السلام) بهذه الآية على حرمة استماع الغناء مّما يؤيد الإطلاق»(2).

فتحصّل من جميع ما تقدم، أنّ الدليل الأوّل غير ناهض لإثبات عدم حجية الخبر الواحد.

الدليل الثاني: السنة الشريفة

اشارة

الدليل الثاني(3): السنة الشريفة

وقد ساق صاحب الكفاية الروايات الواردة في المقام بمساق واحد، إلا أنّ الأولى تقسيم الروايات إلى طوائف:

الطائفة الأولى
اشارة

ما جعل الموضوع فيها عنوان (مخالفة الكتاب)، وهي متعددة نذكر بعضها:

أولاً: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع: «قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي، فمن كذّب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني فأعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي، فما وافق كتاب اللّه وسنّتي فخذوا به، وما خالف كتاب اللّه وسنّتي فلا تأخذوا به»(4).

ثانياً: عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن على كل حقّ حقيقة، وعلى كل صواب

ص: 62


1- الإسراء: 36.
2- الوصول 3: 15.
3- على عدم حجية الخبر الواحد.
4- الاحتجاج 2: 246.

نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه»(1).

ثالثاً: ما رواه هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإنّ المغيرة بن سعيد (لعنه اللّه) دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ماخالف قول ربّنا تعالى، وسنّة نبّينا محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فإنّا إذا حدثنا قلنا: قال اللّه عزّ وجلّ، وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(2).

وروايات أُخرى ذُكرت في الوسائل والمستدرك في أبواب صفات القاضي الباب التاسع(3).

ويرد على الاستدلال بهذه الطائفة عدة وجوه

الوجه الأوّل: إنَّ انطباق عنوان المخالفة موقوف على التباين الكلي بين الكلامين، وأمّا لو أمكن الجمع بينهما جمعاً عرفياً - كالعموم والخصوص المطلق - فلا ينطبق العنوان.

فمثلاً: لو وضع القانون ثم استثني منه، فلا يقال إنّ المقنّن خالف نفسه، أو هنالك مخالفة بين القوانين.

وعليه، المقصود من المخالفة في هذه الروايات المخالفة على نحو التباين الكلي أو شبه التباين، وأدلة حجية الخبر لا تشمل الأخبار المخالفة

ص: 63


1- الكافي 1: 69.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 489.
3- وسائل الشيعة 27: 106-124؛ مستدرك الوسائل 17: 302-307.

للكتاب على نحو التباين، فإنّها مقطوعة البطلان، وإنّما تقتصر على الأخبار المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق وما أشبه، ويكون إطلاق المخالفة عليها مسامحة في التعبير.

وعليه، فالمقيدات والمخصصات للكتاب خارجة موضوعاً عن مفاد هذه الأخبار.

إنْ قُلت: لا يعقل أن تكون الأخبار الناهية ناظرة إلى الأخبار المباينة للكتاب؛ وذلك لعدم وضع الوضاعين مثل تلك الأخبار، فإنّ من يضع الحديث إنّما يضعه ليكون مقبولاً عند الناس، ومثل الخبر المخالف للكتاب بالتباين الكلي لا يكون مقبولاً، فتكون الروايات الرادعة عن العمل بالخبر المخالف للكتاب ناظرة إلى المخالفة الجزئية.

قُلت: أوّلاً: لا ينحصر القصد في ذلك، فقد يقصد الوضّاع هدم الدين وتشويه سمعة الأئمة(عليهم السلام)، وإسقاط الكتب التي تحتوي على هذه الروايات بالدس بحذف كلمة أو إضافتها، فيضع ما فيه مباينة كلّية للكتاب، فتكون الروايات الرادعة مشيرة إلى هذه الجهة.

ثانياً: لو سُلّم كون الغرض المقبولية، إلا أنّ الخبر المخالف للكتاب على نحو التباين الكلي لا يرفض إلا من قبل ذوي البصائر الثاقبة، وأمّا من لا بصيرة له فلا - كما قبلوا إنكار أبده البديهيات؛ كوجود الوجود وادعاء الألوهية مع أنّها باطلة بالضرورة، والنبوّة لبعض الكذّابين، وكذلك إنكار وجوب الصلاة والحج والزكاة وغيرها - فتكون الروايات الرادعة تنبيهاً

ص: 64

وإلفاتاً وتذكيراً لذلك، كقوله(عليه السلام): «ويثيروا لهم دفائن العقول»(1).

هذا بالإضافة إلى أنّ تسجيل الموقف وإنكار ما نُسب إليه مطلوب في حدّ ذاته، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَينِ مِن دُونِ اللّهِ}(2).

وعليه، فلا إشكال في كون هذه الروايات الرادعة صادرة بلحاظ الروايات المناقضة للكتاب تناقضاً كلياً.

والحاصل: إنّ موضوع الروايات الرادعة هو عنوان المخالفة للكتاب، وهو غير منطبق على الخبر الواحد إذا لم يكن بينه وبين الكتاب تناقضاً كلياً.

الوجه الثاني: بعد التسليم بانطباق عنوان المخالفة على الصورتين - أي صدق المخالفة لغة وعرفاً حتّى مع وجود الجمع العرفي - إلا أنّ الصورة الثانية ليست مرادة بالإرادة الجدية قطعاً(3)؛

وذلك للعلم القطعي بورود المقيدات والمخصّصات للعمومات والمطلقات القرآنية عن أهل البيت(عليهم السلام)، فالقرآن الكريم مبين للأحكام على نحو الإجمال، والروايات رافعة لإجماله ببيان القيود والشرائط.

فمثلاً: قوله تعالى: {وَلْيطَّوَّفُوا بِالْبَيتِ الْعَتِيقِ}(4) مطلق، إلاّ أنه تكفّلت الروايات الشريفة ببيان شرائط الطواف، كالطهارة من الحدث والخبث وغير

ص: 65


1- نهج البلاغة 1: 20-23.
2- المائدة: 116.
3- والفرق بينه وبين الوجه الأوّل: إنّ مفاد الوجه الأوّل عدم شمول العنوان لما نحن فيه، ومفاد الوجه الثاني عدم كونه مراداً بالإرادة الجدّية بعد شمول العنوان له (منه (رحمه اللّه) ).
4- الحج: 29.

ذلك، فإذا قلنا: أنَّ الأخبار الرادعة تشمل أخبار الثقات بالإرادة الجدية يلزم تعطيل معظم الأحكام.

وعليه، تكون الصورة الثانية غير مشمولة للروايات الناهية بالإرادة الجدية للمولى، ف- (ما خالف كتاب اللّه) لا يشمل أخبار الثقات، التي يمكن الجمع العرفي بينها وبين الكتاب العزيز.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول: (إنّ هذه تعارض ما دلّ على الأخذ بالخبر، مثل: «لا عذر لأحدٍ من موالينا»(1)، ومنتهى الأمر التساقط)(2)، انتهى.

ولكن قد يتأمل فيه: فإنّ في المقام فرضين:

الأول: أنْ ترجح الروايات الدالة على حجّية أخبار الثقات على الطائفة الأولى، ولا إشكال في هذا الفرض.

الثاني: أنْ تتكافأ الطائفتان وتتساقطان فيثبت مدّعى الخصم؛ حيث لا يبقى دليل على حجّية الخبر، والشك في الحجّية موضوع عدم الحجّية.

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) أيضاً حيث قال: «إنَّه يلزم من الشمول العدم»(3).

فإنْ كان مفاد هذه الطائفة عدم حجّية الخبر الواحد يلزم من حجّيتها عدم حجّيتها؛ لأنّها هي خبر واحد، وما يوجب وجوده عدمه محال.

ص: 66


1- وسائل الشيعة 1: 38.
2- أقول: إنّ الوجه الثالث يتكفّل ردّ الدليل الذي أُقيم على عدم حجّية الخبر الواحد - وهو الأخبار الدالة على ردّ ما خالف كتاب اللّه - وليس لإثبات حجّية الخبر الواحد (المقرر).
3- الأصول: 651.

ويمكن التأمّل فيه: بأنَّ هذه الروايات متواترة بالتواتر الإجمالي.

بيان ذلك: التواتر على ثلاثة أنواع:

التواتر اللفظي: وهو إخبار جماعة بلفظ واحد عن مفاد واحد، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).

التواتر المعنوي: وهو إخبار جماعة بألفاظ مختلفة تّدل بمجموعها على القدر المشترك بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام، كالأخبار الدالة بالالتزام على شجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولو فرض كون بعضها أخبار آحاد.

التواتر الإجمالي: وهو إخبار جماعة بإخبارات متعددة يقطع بصدور بعضها إجمالاً، بحيث يستحيل عادة أنْ تكون كلها كاذبة، وبه يثبت المضمون الأخص إجمالاً.

ذهب صاحب الكفاية(2)

إلى أنَّ الأخبار الدالة على ردّ ما خالف الكتاب متواترة بالتواتر الإجمالي؛ لأنّها واردة بألسنة مختلفة، ولا يمكن - عادة - أنْ تكون كل هذه الروايات كاذبة، فنقطع بصدور بعضها إجمالاً(3).

بل يمكن ادعاء التواتر المعنوي، ويكون المضمون الأخصّ لها رد ما خالف كتاب اللّه، فيكون هذا المضمون ثابتاً بالتواتر المعنوي، ولا أقلّ من التواتر الإجمالي.

وعليه، فلا يكون الاستدلال به استدلالاً بالخبر الواحد حتّى يستشكل

ص: 67


1- الكافي 1: 287؛ مسند أحمد 1: 84؛ صحيح ابن حبان 15: 276.
2- كفاية الأصول: 295.
3- راجع الوسائل باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفه ففيه ما يقرب من خمسين رواية، وفي غيره كثير (منه (رحمه اللّه) ).

باستلزام وجوده عدمه، بل يكون استدلالاً بالخبر المتواتر على عدم حجّية الخبر الواحد، ولا إشكال فيه.

الوجه الخامس: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) أيضاً حيث قال: «الدليل أخصّ من المدعى؛ إذ ليس كل الأخبار كذلك»(1).

فكل مخالف للكتاب يطرح، وأمّا الخبر الذي لا يخالف الكتاب ولا يوافقه فلا تشمله هذه الأخبار الرادعة، ولا تنفي حجّيته.

ولكن الكلام في وجود مثل هذه الأخبار، فإن الخبر إنْ كان مخالفاً لكتاب اللّه فيطرح، وإنْ كان موافقاً لكتاب اللّه - كقوله: «بيع النسيئة جائز»، الموافق لقوله تعالى: {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيعَ} - فمستغنى عنه، فما هو الشق الثالث؟

أللهّم إلاّ أنْ يقال بإمكان فرض ذلك في الروايات الدالة على المستحبات والمكروهات، فليست موافقة ولا مخالفة لكتاب اللّه، فتكون خارجة عن مفاد الأدلة الرادعة.

الوجه السادس: ما ذكره السيد السبزواري (رحمه اللّه) في التهذيب قال: «إنّ المنساق منها - بعد رد بعضها إلى بعض - أنّها وردت لبيان علاج المعارضة، وأنّه عند المعارضة يؤخذ بالموافق للكتاب، ويطرح المخالف له بالمخالفة العرفية، بحيث يبقى العرف والعقلاء متحيراً في جمعه مع الكتاب، فلا ربط لها بالمقام»(2).

ص: 68


1- الأصول: 651.
2- تهذيب الأصول 2: 92.

وفيه تأمّل، لوجود رويات مطلقة لا وجه لحملها على باب التعارض.

ففي الوسائل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «خطب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنَّ على كلّ حقٍّ حقيقة، وعلى كل صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه»(2).

فهذه الروايات مطلقة؛ حيث لم يفرض في موضوعها وجود الخبرين المتعارضين، ولا وجه لحملها على خصوص التعارض.

إنْ قُلت: إنّها تتقيد بتلك الروايات.

قُلت: لا تنافي بينهما حتّى تقيد إحداهما الأُخرى، فإنَّ المثبتين لا يقيد أحدهما الآخر.

فتحصّل من جميع ذلك: أنَّ الطائفة الأولى المأخوذ في موضوعها المخالفة للكتاب لا تنفي حجّية أخبار الثقات، التي لا يوجد بينها وبين الكتاب تباين كلي أو نحو التباين الكلي، وغالب أخبار الآحاد من هذا القبيل.

الطائفة الثانية

روايات جعل الموضوع فيها عنوان عدم موافقة الكتاب، وبين عنوان

ص: 69


1- وسائل الشيعة 27: 111.
2- الكافي 1: 69.

المخالفة وعدم الموافقة عموم وخصوص مطلق، والأعم عنوان عدم الموافقة؛ لأنَّ ما لا يوافق الكتاب يمكن أنْ يكون مخالفاً للكتاب، ويمكن أنْ لا يكون موافقاً ولا مخالفاً، كما لو ورد استحباب النظر إلى أرنبة الأنف في السجود، فهي ليست موافقة ولا مخالفة للكتاب، فعنوان عدم الموافقة أعمّ مطلقاَ من عنوان المخالفة.

وفي المقام روايات:

منها: عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»(1) والزخرف لغة الأباطيل المموهة والمزيفة.

ومنها: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»(2).

ومنها: عن أبي جعفر (عليه السلام): «انظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإنْ وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه»(3).

وعليه: فيجب ردّ كل حديث لا يوافق كتاب اللّه.

أقول: إنْ قلنا: إنّ عنوان (ما لم يوافق كتاب اللّه) مساوق عرفاً لعنوان (مخالفة كتاب اللّه) - وإنْ كان بالدّقة العقلية العنوان الثاني أخصّ من الأوّل، إلا أنَّ المفهوم العرفي منهما شيء واحد - فيرد على الاستدلال بهذه الطائفة ما ورد على الاستدلال بالطائفة الأولى.

ص: 70


1- الكافي 1: 69.
2- الكافي 1: 69.
3- وسائل الشيعة 27: 120.

وإنْ قُلنا: إنَّ الادعاء غير تام، فيرد على هذه الطائفة ما يرد على الطائفة الثالثة.

الطائفة الثالثة

روايات تدّل على ردّ ما لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه، أو لم يكن عليه شاهدان من كتاب اللّه، أو ما لم يعلم أنّهُ قولهم يرد إليهم:

منها: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به؟ قال (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه، أو من قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به»(1).

ومنها: عن أبي جعفر (عليه السلام): «إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به، وإلا فقفوا عنده، ثمّ ردوه إلينا حتّى يستبين لكم»(2).

ومنها: «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه إلينا»(3).

فملاك حجّية الخبر أن يوجد عليه الشاهد أو الشاهدان من كتاب اللّه، أو يعلم أنَّهُ قولهم (عليهم السلام).

و يرد على الاستدلال بها وجوه:

الوجه الأوّل: إنّها معارضة للأخبار الدالة على حجّية خبر الثقة، وتترجّح روايات حجّية خبر الثقة على هذه الطائفة.

ص: 71


1- الكافي 1: 69.
2- الكافي 1: 222.
3- وسائل الشيعة 27: 120.

و يمكن تقريب ذلك بأربعة بيانات:

الأوّل: ما ذكر في المصباح(1) من أنَّ بينهما عموم مطلق؛ حيث إنَّ لأخبار الطائفة الثالثة (مالا شاهد له) فردان: ما أتى به غير الثقة وما أتى به الثقة، وروايات حجّية خبر الثقة أخصّ.

وعليه، فهذه الروايات تخصص الطائفة الثالثة، وتكون النتيجة: لزوم رد ما لا شاهد له من كتاب اللّه إلاّ إذا جاء به الثقة.

وفيه تأمّل؛ لأنَّ النسبة عموم من وجه، حيث إنّ ما أخبر به الثقة له فردان: إمّا أنْ يكون له شاهد من كتاب اللّه وإمّا لا، فيكون بينهما عموم من وجه.

فمورد افتراق (ما لاشاهد له) هو: ما لا شاهد له وأتى به الفاسق، ومورد افتراق (أخبار حجّية أخبار الثقات) هو: ما أتى به الثقة وله شاهد من كتاب اللّه، ومورد اجتماع العنوانين: ما أتي به الثقة ولا شاهد له من كتا ب اللّه، فتتعارض الطائفتان في هذا المورد.

البيان الثاني: أنْ نقول: إنَّ بين الطائفتين عموماً من وجه، إلاّ أنّ روايات حجّية خبر الثقة مقدمة في مورد التعارض، لأنّه إذا قدمنا الطائفة الثالثة فلا يبقى مورد لهذه الروايات، أو يبقى لها موارد قليلة جداً.

وفيه تأمّل؛ لكثرة الموارد التي تبقي لهذه الروايات، فكل رواية تدل على حلية شيء فهي موافقة لها شاهد من كتاب اللّه، كالروايات الدالة على حلية الزواج بالمرأة الفلانية، أو حلية أكل الأسماك ذات الفلس أو الروبيان، وكذا محللات باب الأطعمة والأشربة، فإنّها مشمولة لقوله تعالى:

ص: 72


1- مصباح الأصول 2: 151.

{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِي إِلَي مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ}(1)، وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}(2)، وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ}(3)، وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ}(4).

البيان الثالث: لو سُلّم أنّ بينها عموم من وجه، لكن لا يمكن تقديم روايات الطائفة الثالثة في مورد التعارض؛ لاستلزامه اللغوية في كل روايات حجّية أخبار الثقات، وهي أكثر من مائة رواية؛ وذلك لأنّ ما له شاهد من كتاب اللّه لا يحتاج إلى خبر الثقة، وما لاشاهد له تقدم عليه روايات الطائفة الثالثة، فتكون روايات حجّية خبر الثقة لغواً أو شبه لغو، فلا بدّ من تقديم أخبار حجّية خبر الثقة في مورد التعارض (خبر الثقة الذي لا شاهد له من كتاب اللّه).

البيان الرابع: على فرض التعارض، إلا أنّ روايات حجّية خبر الثقة مقدمة؛ لمرجحات باب التعارض، ومنها الشهرة العملية والفتوائية.

الوجه الثاني: مضافاً إلى ضعف السند في بعضها - كرواية عبد اللّه بن بكير، عن رجل(5)

- فهي أخبار آحاد، ويستلزم عدم حجّية أخبار الآحاد - لفرض تمامية دلالتها - عدم حجّيتها؛ لأنّها أخبار آحاد، وما يوجب وجوده عدمه باطل.

إنْ قُلتْ: إنّها متواترة إجمالاً.

ص: 73


1- الأنعام: 45.
2- النساء: 24.
3- البقرة: 29.
4- غافر: 79.
5- وسائل الشيعة 27: 112.

قُلتْ: إنَّ ذلك يدل على حجّية أخصّها مضموناً، وهو (عدم حجّية ما خالف الكتاب)، وأمّا عنوان (ما لا شاهد له) فليس متواتراً إجمالاً.

الوجه الثالث: ظاهر هذه الروايات غير مرادة - قطعاً - للعلم القطعي الضروري بالتخصيص والتقييد والتبيين عن أهل البيت(عليهم السلام)، وإذا أردنا ردّ كل ذلك، فإنّه يلزم تعطيل أكثر الدين، فظاهر هذه الروايات غير مرادة قطعاً، فلا بدّ من حملها على بعض المحامل، ككون المقصود من (ما لا شاهد له) هو (المخالف لكتاب اللّه) كروايات الجبر والتفويض والغلو، أو يقال: إنّ هذه الروايات ترتبط بباب التعارض، فتكون موافقة الكتاب أحد المرجّحات، أو نّرد علمها إلى أهلها.

والحاصل: إنَّ الدليل الثاني - الروايات بطوائفها الثلاث - لا يمكن أنْ تكون رادعة عن حجّية أخبار الثقات.

الدليل الثالث: الإجماع

اشارة

الدليل الثالث(1): الإجماع

وقد ادعاه السيد المرتضى في مواضع من كلامه، بل قال في رسالة في إبطال العمل بخبر الواحد: «إنّ أصحابنا كلّهم - سلفهم وخلفهم ومتقدمهم ومتأخرهم - يمنعون من العمل بأخبار الآحاد، ومن القياس في الشريعة»(2).

وظاهر الطبرسي في مجمع البيان(3) انعقاد الإجماع على بطلان العمل

ص: 74


1- علی عدم حجية الخبر الواحد.
2- رسائل السيد المرتضى 1: 203.
3- مجمع البيان 9: 221.

بخبر الواحد.

ويرد على الإجماع المدعى أمور

الأوّل: ما ادّعى من الإجماع إمّا محصل أو منقول: أمّا المحصل منه فغير حاصل، وأمّا المنقول منه فغير مقبول، وعلى فرض حصوله فغير حجةّ، لأنَّه مَدركي أو محتمل المدركية.

الثاني: على فرض ثبوت الإجماع إلا أنَّهُ يوجب وجوده عدمه؛ لأنَّ مفاده عدم حجّية خبر الواحد وهو - الإجماع المدعى - منقول عبر خبر الواحد، فإنْ ثبت نقل الإجماع فمقتضاه عدم حجّية ما نقله السيد المرتضى.

الثالث: إنهُ معارض بنقل الإجماع على خلافه، فإنّ الطوسي (رحمه اللّه) نقل الإجماع على حجّية الخبر الواحد(1)، وهو معتضد بدعوى الإجماع عن جمع من الفقهاء، كالحلي والرضي، منتهى الأمر أنّهما يتعارضان فيتساقطان.

الرابع: إنَّهُ موهون بذهاب المشهور إلى حجّية الخبر الواحد. فكيف تتمّ دعوى الإجماع على عدم الحجّية مع ذهاب المشهور قديماً وحديثاً إلى الحجّية؟!

إنْ قُلتْ: نقل الشهرة معارض بنقل الإجماع على خلافه.

قُلتْ: إنّها شهرة محققّة، والخلاف لم ينقل إلاّ عن جماعة معدودة.

إنْ قُلتْ: فكيف يمكن ادعاء الإجماع مع حصول الشهرة على خلافه؟

قُلتْ: إنَّ مرادهم محلّ تأمّل؛ فقد أوّل الطوسى معقد إجماعهم بأنَّهُ قائم

ص: 75


1- العدة في أصول الفقه 1: 126.

على عدم حجّية أخبار المخالفين(1)، واحتمل البعض كونه إجماعاً جدلياً للتخلص من ادعاء العامّة بوجود الخبر.

الدليل الرابع: العقل

الدليل الرابع(2): العقل

بدعوى أنَّ حجّية الخبر الواحد توجب تحليل الحرام وتحريم الحلال، وتسبب تفويت المصالح الواقعية والإلقاء في المفاسد الواقعية.

وقد مضى الجواب عنه في أوائل البحث عن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في ردّ شبهة ابن قِبة، فراجع.

أدلة حجّية الخبر الواحد

وأمّا الأدلة التي استدل بها لحجّية الخبر الواحد، فهي:

الدليل الأوّل: الكتاب العزيز

اشارة

ويدل عليها آيات:

الآية الأولى: آية النبأ

اشارة

قال اللّه تعالى: {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَينُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(3).

وللاستدلال بها طريقان:

الأوّل: الاستدلال بمفهوم الشرط.

ص: 76


1- العدة في أصول الفقه 1: 127-128.
2- علی عدم حجية الخبر الواحد.
3- الحجرات: 6.

الثاني: الاستدلال بمفهوم الوصف.

الطريق الأول: الاستدلال بمفهوم الشرط
اشارة

أمّا الطريق الأوّل - وهو: الإستدلال بمفهوم الشرط - فيرى الشيخ(1) (رحمه اللّه) أنَّ وجوب التبين معلّق على مجيء الفاسق بالخبر، والجملة الشرطية تدلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، فينتفي وجوب التبين عند مجيء العادل بالخبر.

إلاّ أنَّ هذا المقدار لا يكفي لإثبات المطلوب، فلا بدّ من ضمِّ ضميمةٍ خارجية وهي: إذا انتفى وجوب التبيّن عند مجيء العادل بالخبر يدور الأمر بين اثنين:

أولاً: وجوب القبول وهو المطلوب.

ثانياً: وجوب الرّد فوراً.

وعلى الثاني يصبح خبر العادل أسوأ حالاً من خبر الفاسق؛ وذلك للزوم التبين في خبر الفاسق، ولزوم الرّد فوراً في خبر العادل، وهو غير معقول، فيتّعين الاحتمال الأوّل، وتثبت به حجّية خبر الواحد.

وفي المقام بحثان:

الأوّل: في لزوم ضمّ المقدّمة الخارجية.

الثاني: في صحّة الاستدلال بمفهوم الشرط.

أمّا البحث الأوّل: فيرى الشيخ(2)

عدم الاحتياج إلى هذه الضميمة الخارجية؛ وذلك لوجود احتمالات في وجوب التبين والتثبّت المعلّق على

ص: 77


1- فرائد الأصول 1: 255.
2- فرائد الأصول 1: 255.

العمل بخبر الفاسق:

الاحتمال الأوّل: الوجوب النفسي والحقيقي كوجوب الحج، فيكون أحد الواجبات النفسّية وجوب التبين عند مجيء الفاسق بالخبر، وهو مردود، لكونه خلاف ظاهر لفظ التبين، وخلاف ظاهر التعليل، وخلاف الإجماع، كما سيأتي إنْ شاء اللّه.

الاحتمال الثاني: الوجوب الشرطي، فيكون العمل بخبر الفاسق مشروطاً بالتبين، وحيث إنَّ الثاني مختار الشيخ (رحمه اللّه) فلا يلزم ضمّ الضميمة لإثبات المطلوب، وإنّما يلزم ضمّ الضميمة لو فرض كون وجوب التبين نفسّياً وحقيقيّاً، والحال إنَّهُ ليس كذلك، فوجوب التبين طريقي ومشروط بالعمل بالشرط، فيكون معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بخبر فتبينوا إنْ أردتم العمل بمقتضى خبره، أو أردتم ترتيب الأثر.

فالوجوب شرطي ومشروطهُ الجري العملي وترتيب الأثر، فيكون منطوق الآية ومفهومها: يا أيها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بنبأ وأردتم العمل بمقتضى خبره فتثبتّوا، وإنْ جاءكم عادل بنبأ وأردتم العمل بمقتضى خبره، فلا يجب التبين، بل اعملوا به بدون التبين.

كون الوجوب شرطياً لا نفسّياً

وأما الدليل على كون الوجوب شرطياً فهو عدة أمور:

الأول: ما ذكره الشيخ من الظهور(1)،

فالآية ظاهرة في الوجوب الشرطي، وربما يكون منشأ الظهور- وإنْ لم يذكره الشيخ - مادة التبين والتفحّص

ص: 78


1- فرائد الأصول 1: 255.

الظاهرة في الطريقية إلى الواقع.

الثاني: الإجماع، حيث لم يقل أحد من الفقهاء إنَّ وجوب التبّين نفسّياً.

الثالث: ظهور التعليل في الآية: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. فإنّهُ يصلح علّة للوجوب الطريقي والشرطي لا الوجوب النفسي، بحيث يجب التبين سواء أُريد العمل بمقتضى الخبر أم لا، ولا يصح أنْ يقال: (أن تصيبوا)، أو (نادمين) إذا كان الوجوب نفسّياً، فيعلم أنّ التعليل لبيان الوجوب الشرطي، بل يمكن أنْ يقال: إنَّ من الواضحات في أذهان المتشرّعة عدم وجوب التحقيق في أخبار الفاسقين.

والحاصل: إنَّ علّة الوجوب عدم الندامة، فإذا لم يرد العمل بمقتضى الخبر فلا مورد للإصابة بالجهل والندم.

وأضاف الشيخ (رحمه اللّه) (1) : وإنْ أبيت إلاّ عن الوجوب النفسي، إلا أنّ ذلك لا ينفع لإثبات لزوم الضميمة الخارجية؛ لأنه يوجد في الضميمة الخارجية احتمالات ثلاثة:

الأول: وجوب التبين عند خبر العادل، وهو منفي بمفهوم الجملة الشرطية.

الثاني: الرّد فوراً، وهو مرفوض، للزوم كون خبر العادل أسوأ حالاً من خبر الفاسق.

الثالث: القبول، وهو المتعين المطلوب.

إلا أنَّ هذه الضميمة الخارجية لا تثبت الحجّية؛ فإنّ مفاد الآية: إنْ جاءكم فاسق بنبأ فيجب التبين وجوباً نفسياً، ومفهومه: إنْ جاءكم عادل فلا

ص: 79


1- فرائد الأصول 1: 255.

يجب عليكم التبين وجوباً نفسّياً، وذلك لا يثبت الحجّية، منتهى الأمر أنَّه يلزم التحقيق في خبر الفاسق، وهو نوع من أنواع الإهانة له، أو فضحه عند اكتشاف الحقيقة، كما في خبر الوليد(1).

وأمّا خبر العادل، فلا وجوب نفسي فيه، حتّى وإنْ لم يكن كلاهما حجّة، أي لا يترتّب الأثر عليهما شرعاً. فمثلاً: لو جاء فقير فاسق وطلب الزكاة فيجب التحقيق في ذلك بمقتضى الآية، ولكن إذا جاء فقير عادل فلا يجب التحقيق وإنْ لم يترتب الأثر، بل يقال له مثلاً: يفتح اللّه عليك أبواب رزقه.

فالخبران ليسا بحجّة، إلاّ أنَّ خبر الفاسق يلزم التحقيق فيه؛ لتوهينه - مثلاً - أو لجهة أُخرى دون خبر العادل.

والحاصل: إنّ الوجوب النفسي للتبّين لا يدل على حجّية خبر العادل.

وقد أشكل في النهاية على مختار الشيخ بمنفصلة مانعة الجمع ومانعة الخلو.

بيان ذلك مع توضيح عبارته(2): «كما أنَّ ما أفاده الشيخ الأعظم في رسائله من وجوب التبّين عند إرادة العمل لا مطلقاً [أي لا وجوباً نفسّياً، وإنّما وجوباً مشروطاً بإرادة العمل بخبر الفاسق] غير صحيح(3)، فإنه [في عبارة الشيخ احتمالان: الأول: كون وجوب التبّين وجوباً نفسّياً مشروطاً بإرادة العمل. الثاني: كون وجوب التبّين وجوباً غيرياً مشروطاً بإرادة العمل.

ص: 80


1- حيث قيل: إنّ الآية نازلة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقد بعثه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقونه، وكانت بينهم عداوة، فظنَّ أنّهم همّوا بقتله فرجع وقال: إنّهم منعوا صدقاتهم. راجع: مجمع البيان 9: 220، الدر المنثور 6: 88 .
2- نهاية الدراية 2: 194.
3- ربما سقطت هذه الكلمة أو ما شابهها عن عبارة المحقق الإصفهاني (منه (رحمه اللّه) ).

وكلا الاحتمالين باطلان] إنْ أُريد منه وجوب التبّين نفسّياً، غاية الأمر مشروطاً بإرادة العمل على طبق الخبر، فهو التزام بالوجوب النفسي المشروط لا بالوجوب الشرطي المقابل للوجوب النفسي [وقد نفيتم الوجوب النفسي فكررتم إلي ما فررتم منه، منتهی الأمر أنَّ الوجوب النفسي نوعان: النفسي المطلق كمعرفة اللّه، والنفسي المشروط كالحج الواجب المشروط بالقدرة.

فإنْ قُلتم: إنَّ التبين واجب نفسي مشروط بإرادة العمل، فهو خلاف مبناكم وخلاف الإجماع، حيث لم يقل أحدٌ بأنَّ التبين واجب نفسي مطلقاً أو مشروط على تأمّل في الإجماع المدّعى.

وإنْ قُلتم: إنَّه وجوب غيري مشروط بإرادة العمل، أي] وإنْ أُريد منه اشتراط وجوبه الغيري بإرادة العمل على طبق الخبر، فهو محال، لأنَّ وجوب المقدمة [أي التبين] تابع لوجوب ذيها إطلاقاً واشتراطاً، ولا يعقل اشتراط وجوب العمل على طبق الخبر بإرادة العمل، للزوم تعليق الحكم [الواقعي الذي تضمنه الخبر] على مشيئة المكلف»(1) انتهى.

وربما مراد النهاية من الشقّ الثاني: إنَّه إنْ كان مراد الشيخ الوجوب الغيري المشروط بإرادة المكلف فهو محال؛ لأنَّهُ قد ثبت في محلّه - مباحث مقدمة الواجب - أنَّ الوجوب الغيري وجوب ترشّحي تابع في إطلاقه وتقييده لإطلاق وتقييد ذي المقدمة.

فإنْ قُلتم: إنَّ وجوب التبّين غيري ومشروط بإرادة العمل فمقتضى

ص: 81


1- ما بين المعقوفتين من السيد الأستاذ (رحمه اللّه) .

المطابقة بين وجوب المقدمة وذي المقدمة أن يكون وجوب ذي المقدمة - أيضاً - مشروطاً، وهو الحكم الواقعي الذي تضمّنه الخبر.

وعليه، فالوجوب الواقعي - وجوب ذي المقدمة - معلّق على إرادة المكلف، ولا يعقل تعليق الوجوب على إرادة المكلف! كأنْ يقول المولى: الحج واجب إنْ أردت الذهاب إلى الحج.

ولكن إشكال المحقق الإصفهاني على الشيخ غير وارد؛ لأنَّ الحصر غير حاصر، وذلك لوجود احتمالين آخرين في كلام الشيخ وهما: كون وجوب التبين مقدمياً للوجود وكون وجوب التبين مقدمياً للجواز، أي جواز العمل.

والأول منفي؛ لأنَّ التبين ليس مقدمة وجودية للعمل بخبر الفاسق، فإنَّ المقدمة الوجودية ما يتوقف عليها وجود الشيء، والعمل بخبر الفاسق لا يتوقف وجوداً على التبين، وهو واضح.

ولكن الثاني لا إشكال فيه؛ فالمولى يقول: إنْ جاء الفاسق بنبأ فتبّينوا مقدمة لجواز العمل، بأنْ يقول المولى: إنَّ العمل بخبر الوليد حرام، وتنتفي الحرمة عند التبين، فجواز العمل بخبر الوليد - مثلاً - مشروط بالتبّين، وهذا المعنى ثبوتاً لا إشكال فيه، وعبارات الشيخ ظاهرة أو صريحة فيه، حيث قال: «لكنك خبير بأنَّ الأمر بالتبين مسوق لبيان الوجوب الشرطي، وإَّن التبين شرط للعمل بخبر الفاسق»(1) فشرط العمل يعني شرط جواز العمل.

وقال أيضاً: «ومن المعلوم أن هذا(2) لا يصلح إلاّ علّة لحرمة العمل بدون

ص: 82


1- فرائد الأصول 1: 255.
2- أي: التعليل وهو قوله تعالى: {أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ} (منه (رحمه اللّه) ).

التبين، فهذا هو المعلول، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن»(1)، فالتبين شرط جواز العمل وارتفاع الحرمة، وهذه العبارة صريحة في المقصودة.

وعليه، فإشكال المحقّق الإصفهاني غير تام.

الاحتمال الثالث: إنَّهُ وجوب طريقي؛ بمعنى أنّهُ يجب التبين لأجل حفظ الملاكات الواقعية المحتملة. فللمولى ملاكات واقعية، والفاسق يحتمل كونه صادقاً، فعدم الاعتناء بخبره يوجب فوت الملاك الواقعي احتمالاً، وإذا عمل بخبره يحتمل مخالفة الواقع، ولذا جعل المولى طريقاً ثالثاً وهو وجوب التبين، وهذا الوجوب طريقي للحفاظ على الملاكات الواقعية.

فهل يلزم ضمّ الضميمة(2) إلى الاحتمال الثالث؟

الجواب: نعم، لأنَّ {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وجوب طريقي، ومفهومه انتفاء الوجوب الطريقي في خبر العادل، فلو كانت الوظيفة عدم الاعتناء أبداً؛ لكان العادل أسوأ حالاً من الفاسق، فلا يبقى إلاّ القبول، وهو المطلوب.

والحاصل: إنَّهُ بناءً على الوجوب النفسي يلزم ضمّ الضميمة الخارجية، وهكذا بناءً على الوجوب الطريقي دون الوجوب الشرطي.

ولكن الاحتمال الثالث غير ظاهر؛ وذلك للزوم كون التعليل هكذا: فتبينوا كي لا تفوتكم الملاكات الواقعية الاحتمالية، حيث يحتمل صحّة خبر الفاسق، وعدم العمل يستلزم تفويت الملاكات النفس الأمرية، وظاهر الآية

ص: 83


1- فرائد الأصول 1: 255.
2- وهي المقدمة الخارجية، أي: إنه إذا انتفى وجوب التبين عند مجيء العادل بالخبر يدور الأمر بين اثنين: وجوب القبول، وهو المطلوب، أو وجوب الرد فوراً.

عكس ذلك، لا تعمل بلا تحقيق؛ لاحتمال كذب الفاسق والوقوع في المفاسد الواقعية.

فالاحتمال الثالث - الوجوب الطريقي - غير ظاهر.

الاحتمال الرابع: ما اختاره في النهاية(1) وتوضيحه يتوقف على بيان مقدمتين:

الأولى : التبين على نوعين:

أ- الفحص عن الشيء قبل العمل به ويكون العمل بعد الفحص، وذلك كالعام حيث لا يعمل به قبل التبّين؛ لاحتمال وجود المخصص، وبعد الفحص والتحقيق والتفتيش يعمل بالعام.

ب - طلب الواقع وهو المراد من الآية الكريمة، فمعنى تبين الأمر محاولة معرفة الواقع، وليس المراد من التبين في الآية المعنى الأوّل - كما ذهب إليه المشهور - بل المراد المعنى الثاني، أي الإعراض عن خبر الفاسق وإلغاؤه بالمرّة والفحص عن الواقع، فإنْ انكشف الواقع يتم العمل به لا بخبر الفاسق.

الثانية: هل أنَّ طلب تحصيل العلم بالواقع مرتب على مجيء الفاسق بالخبر، بأن يطلب المولى تحصيل العلم بالواقع إذا أخبر به الفاسق؟

الجواب: كلا، حيث قال في النهاية: «إن وجوب طلب العلم بالواقع لا يكون مرتباً بوجه ومعلقاً على مجيء الفاسق بالخبر»(2).

لكنه لم يقم على ذلك برهاناً.

ص: 84


1- نهاية الدراية 2: 194.
2- نهاية الدراية 2: 194.

وربما يبرهن له بأن تحصيل العلم بالواقع مطلوب في حد ذاته، سواء أكان الوجوب عقلياً أم شرعياً، وخاصة في القضايا الخطيرة، ويستلزم ذلك عدم كون التالي مرتباً على المقدم.

وعليه، فليس المعلق وجوب تحصيل العلم بالواقع، بل المعلق هو لازمه أو ملزومه(1)، فوجوب تحصيل العلم بالواقع لازمه عدم وجود الحجة، فإن لم يكن حجة فيجب تحصيل العلم بالواقع.

ولكن لو تمت الحجة على الواقع فلا يجب تحصيل العلم بالواقع؛ وذلك كوجود شاهدين على جهة القبلة، فلا يجب تحصيل العلم، ولكن إذا لم تتم الحجة فيجب تحصيل العلم بالواقع.

وعليه عدم الحجة ملزوم و لازمه وجوب تحصيل العلم.

وفي الآية ذكر اللازم هو (وجوب تحصيل العلم بالواقع) وأريد به الملزوم وهو (انتفاء الحجة أو الحجية).

وعليه، فمعنى آية النبأ: إن جاءكم فاسق بنبأ فليس نبؤه حجة شرعاً.

وفي الآية ذكر اللازم وأريد الملزوم، أي ذكر لازمه انتفاء الحجية، أي إن لم يكن حجة فيجب تحصيل العلم بالواقع.

إنْ تمّت هاتان المقدمتان في المنطوق، فتصل النوبة إلى المفهوم، وهو: إنْ جاءكم عادل بنبأ، فالملزوم - عدم الحجّة - منتف، وانتفاء عدم الحجّية مساوق للحجّية.

ص: 85


1- وقد ذكر في علم البلاغة في العلاقات المجازية صحة اطلاق الملزوم وإرادة اللازم وبالعكس (منه (رحمه اللّه) ).

وبعبارة أُخرى: إنْ جاءكم فاسق بنبأ فليس حجّة شرعاً، ومفهومه: إنْ جاءكم عادل بنبأ فهو حجّة شرعاً.

وعليه، فلا نحتاج إلى ضمّ المقدمة الخارجية؛ لأنَّ المقصود إثبات الحجّية لخبر العادل، وقد ثبتت بهذا البيان، ولذا قال في النهاية: «فتّبين أنَّ المعلّق حقيقة على مجيء الفاسق - بناءً على المفهوم - هو ملزوم وجوب التبين [أي عدم الحجّية] لا نفسه... فهو [أي الملزوم وهو عدم الحجّية] المنتفي عند انتفاء مجيء الفاسق من دون حاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية»(1).

ويرد عليه: إنَّ هذا الكلام متين في حدّ ذاته، لكنه خلاف ظاهر الآية الكريمة، فظاهرها تعليق وجوب التبين على مجيء الفاسق بالخبر، لا تعليق ملزوم وجوب التبين على مجيء الفاسق.

ويؤيده أقوال المفسّرين: قال الطوسي في التبيان: «فتبّينوا صدقه من كذبه، ولا تبادروا إلى العمل بمتضمنه»(2).

وقال في مجمع البيان: «فتبّينوا صدقه من كذبه، ولا تبادروا إلى العمل بخبره»(3).

كما أنَّه يرد عليه أنَّ الظاهر أنَّ التبين أعمُّ من العلم والعلمي، فلا وجه لقوله: التبين تحصيل العلم بالواقع.

وبعبارة أُخرى: في كلامه خالف الظاهر مرّتين:

ص: 86


1- نهاية الدراية 2: 194-195، وما بين المعقوفتين من المقرر.
2- التبيان 9: 343.
3- مجمع البيان 9: 221.

الأولى: فسّر التبين بمعنى تحصيل العلم، والحال أنَّ التبين تحصيل العلم والعلمي، أي العلم بالواقع الوجداني أو الواقع التعبدي.

الثانية: تعليق عدم الحجّية على مجيء الفاسق بالخبر.

الاحتمال الخامس: ما ذكره المحقّق العراقي(1): من أنَّ الوجوب مقدمي أو إرشادي. ولعلّه يتضح الحال فيه ممّا تقدم.

هذا تمام الكلام في تقرير الاستدلال بآية النبأ على حجّية خبر العادل.

وفي المقام إشكالات:

قال الشيخ: «وكيف كان، فقد أُورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف وعشرين(2)»(3)، وكلها قابلة للدفع والذب إلا إشكالان لا يمكن الذب عنهما، حسب تعبير الشيخ(4).

الإشكال الأوّل: إنَّ الجملة الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، ومثلها لا مفهوم له.

وبيان ذلك يتوقف على توضيح مقدمة خارجية، وهي: إنَّ الجملة الشرطية مركبة من ثلاثة أجزاء: شرط وموضوع وجزاء.

ضابطة كون الجملة الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع

ويمكن توضيح الضابطة لكون الجملة الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع ببيانين:

ص: 87


1- نهاية الأفكار 3: 108.
2- نيف يطلق على الواحد إلى الثلاثة (منه (رحمه اللّه) ).
3- فرائد الأصول 1: 256.
4- فرائد الأصول 1: 256.

الأوّل: إذا كان تحقق المشروط متوقفاً على وجود الشرط عقلاً، فتكون الجملة الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع.

مثال: إذا جاء زيد فأكرمه. فالموضوع: زيد. والشرط: المجيء. والجزاء: وجوب الإكرام. فالجزاء ليس متوقفاً على وجود الشرط، فسواء أجاء زيد أم لا، فإنَّهُ يمكن إكرامه عقلاً.

وعليه، فوجود المشروط لا يتوقف عقلاً على وجود الشرط، بل يمكن تحققه بالإمكان العقلي.

ولكن إذا كان وجود المشروط متوقفاً على وجود الشرط، كأن يقال: إذا رُزقت ولداً فاختنه.

فالموضوع: الولد، والشرط: إنْ رزقت، والجزاء: اختنه. فوجود الجزاء متوقف عقلاً على وجود الشرط، ومع انتفاء الشرط (إنْ رزقت) يستحيل تحقق الجزاء (الختان)، فوجود الختان متوقف عقلاً على الشرط، بخلاف الإكرام الذي لا يتوقف عقلاً على مجيء زيد.

وحاصل الضابطة: إذا أمكن وجود المشروط عقلاً بدون وجود الشرط، فهو ليس مسوقاً لتحقق الموضوع - كما في مثال: إنْ جاء زيدٌ فأكرمه - ويكون مفهومه: إنْ لم يجئ فلا تكرمه.

وإذا لم يمكن وجود المشروط بدون تحقق الشرط، فهو مسوق لتحقق الموضوع، مثل: إن رزقت ولداً فاختنه، فلا مفهوم له.

البيان الثاني: إذا كان وجود الشرط مغايراً للموضوع، فليس مسوقاً لتحقق الموضوع، فوجود المجيء مغاير لوجود زيد في المثال؛ حيث إنَّ زيداً من مقولة الجوهر، والمجيء من مقولة العرض.

ص: 88

ولكن إذا كان وجود الشرط عين وجود الموضوع، فهو مسوق لتحقق الموضوع، فالولد، و(إنْ رزقت) لهما وجود واحد، وهما موجودان بوجود واحد في مثال: إنْ رزقت ولداً فاختنه، ف(رزق الولد) عين (الولد) ولا فرق بينهما، كعدم الفرق بين الإيجاد والوجود، فهما حقيقة واحدة موجودان بوجود واحد مختلفان بالاعتبار، ف(رزق الولد) و(الولد) موجودان بوجود واحد، ولذا إذا انتفى (رزق الولد) انتفى (الولد) بخلاف انتفاء مجيء زيد، فلا يلزم منه انتفاء زيد.

والضابطة: إنْ كان وجود الشرط متحداً مع الموضوع - بحيث ينتفي الموضوع بانتفاء الشرط - فهذه شرطية مسوقة لتحقق الموضوع وإلا فلا.

والضابطتان تنطبقان على آية النبأ: فالموضوع: هو خبر الفاسق، والشرط: إنْ جاء به، والمشروط: فتبينوا.

فإنَّهُ إذا لم يتحقق الشرط (جاء به) فلا يمكن تحقق (التبين به)، فلا يمكن وجود المشروط عقلاً عند انتفاء الشرط.

وكذلك الضابطة الثانية: ف(خبر الفاسق) و(مجيئه بالخبر) موجودان بوجود واحد، لا بوجودين متغايرين؛ ولذا لو انتفى (مجيء الخبر) ينتفي (خبر الفاسق)، فبانتفاء الشرط ينتفي الموضوع (1).

والحاصل: إنَّ الشرطية في الآية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، فلا مفهوم

ص: 89


1- والجملة الشرطية ما يكون انتفاء المحمول لانتفاء الشرط مع وجود الموضوع، لا انتفاء المحمول لانتفاء الموضوع، فمثلها يعد سالبة بانتفاء الموضوع، وهي غير المفهوم؛ لأنَّ انتفاء المحمول بانتفاء الموضوع قهري يجري في كل الجمل الحملية والشرطية، سواء أكانت مفهوم شرط أم وصف أم غيرهما، فليس ذلك شرطاً (منه (رحمه اللّه) ).

لها.

ولدفع ما أورده الشيخ على الاستدلال بمفهوم الشرط من آية النبأ ذكرت أجوبة
الأوّل

ما ذكره صاحب الكفاية، قال: «إنَّ تعليق الحكم بايجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق(1)، يقتضي انتفاءه عند انتفائه»(2).

توضيحه: إن جُعل موضوع الشرطية نبأ الفاسق فلا مفهوم للقضية الشرطية؛ حيث لا يبقى موضوع بعد انتفاء نبأ الفاسق، حتّى يتمّ التبين عن صدقه وكذبه.

ولكن إنْ جعل الموضوع طبيعي النبأ، فيكون للجملة مفهوم، وهو: إنْ لم يجئ الفاسق بالنبأ فلا يجب التبين.

فالموضوع: هو النبأ، والشرط: إنْ جاء به الفاسق، والجزاء: يجب التبين عنه.

وقد انطبقت الضابطتان عليه؛ حيث لا يتوقف المشروط على الشرط، وبانتفاء الشرط لا ينتفى الموضوع، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبأ فلا ينتفى طبيعي النبأ.

وهو محلّ تأمّل؛ حيث إنَّ مفاد كلامه الإمكان في عالم الثبوت لا التحقق في عالم الإثبات، فما فرضه من كون موضوع القضية الشرطية طبيعي النبأ غيرثابت، ولا دليل عليه.

ص: 90


1- هكذا في المصدر، وفي منتهی الدراية 4: 441: فاسقاً.
2- كفاية الأصول: 296.

وربما لأجل ذلك أشار صاحب الكفاية(1) بالتدبر.

إنْ قُلت: ولا دليل على عكسه.

قُلت: يكفينا عدم الدليل، فلو لم نعلم إنَّ الموضوع طبيعي النبأ أو نبأ الفاسق، فهو كافٍ لعدم تمامية الاستدلال.

الجواب الثاني

ما أشار إليه المحقق العراقي في نهاية الأفكار(2) وفصّله السيد الخوئي: إنَّ توقّف الجزاء على الشرط يتصور على نحوين:

الأوّل: التوقّف التكويني؛ بحيث لا يعقل وجود الجزاء بدون وجود الشرط،ك- :(إنٍ رزقت ولداً فاختنه)، فوجود الختان متوقف تكويناً على الجملة الشرطية، فإن لم يرزق ولداً فوجود الجزاء محال؛ لعدم وجود الموضوع.

الثاني: التوقّف التعبدي، ك- :(إنْ جاء زيد فأكرمه)، فالتوقّف والتعليق تعبدي، وأمّا التكويني من الإكرام فلا يتوقف على مجيء زيد(3).

وعليه نقول: لا يخلو الشرط من إحدى حالتين:

الأولى: أنْ يكون الشرط بسيطاً، وحكمه: إنْ كان التوقّف تكوينياً فلا مفهوم للجملة الشرطية، وإنْ كان التوقّف تعبدياً فلها مفهوم.

الثانية: أنْ يكون الشرط مركباً، وفيه ثلاث صور:

ص: 91


1- كفاية الأصول: 296.
2- نهاية الأفكار 3: 111.
3- مصباح الأصول 2: 167.

أ - أنْ يكون توقّف الجزاء على كل واحد من الجزءين عقليا.

مثال - ولا مناقشة في الأمثال - : قوله: إنْ رُزقت ولداً وكان ذكراً فاختنه، فوجود الختان متوقف تكويناً على إعطاء اللّه للولد، وكان المولود ذكراً، وهذا لا مفهوم له.

ب - أنْ يكون توقّف الجزاء على كل واحد من الجزءين تعبدياً.

مثال: إن جاءك زيد وكان ضاحكاً فأكرمه، فالإكرام ليس متوقفاً على مجيء زيد، ولا على ضحكه عقلاً، بل الإكرام معلّق تعبداً على المجموع المركب منهما. ومثله يدل على المفهوم بلحاظ جزءي المركب، وبلحاظ كل جزء من أجزائه، ويدل على الانتفاء عند الانتفاء، سواء انتفى الجزآن أو أحدهما.

والمفهوم في المثال: إنْ جاءك زيد ولم يكن ضاحكاً فلا تكرمه، وإنْ كان ضاحكاً ولم يجئك فلا تكرمه، وإنْ لم يجئك ولم يكن ضاحكاً فلا تكرمه.

ج - وهو محل الشاهد: أنْ يكون توقّف الجزاء على أحد الجزءين تعبدياً وعلي الجزء الآخر تكوينياً.

وفي مثله: فالجملة الشرطية بلحاظ أحد الجزءين لا مفهوم لها، وبلحاظ الجزء الآخر تدل على المفهوم.

مثال: إذا ركب الأمير وكان يوم الجمعة فخذ بركابه. فتوقّف الأخذ بالركاب على ركوب الأمير تكويني؛ لعدم معقولية الأخذ بركابه إنْ لم يركب، ولكن توقف الأخذ بالركاب على أنْ يكون اليوم جمعة تعبدي، لأمكان الأخذ بركابه يوم السبت تكويناً.

ص: 92

مثال آخر: إنْ جاء زيد يوم الجمعة فاستقبله. فإنْ لم يجئ فلا يمكن استقباله تكويناً، ولكن إنْ جاء في غير الجمعة فيمكن استقباله تكويناً، وأمّا تعبّداً فليس استقباله واجباً، بل وجوب استقباله تعبّداً متوقّف على كلا الجزءين.

وعليه، فالجملة الشرطية بلحاظ أحد الجزءين (إنْ لم يجئ زيد) لا تدل على المفهوم؛ وذلك لعدم وجود الموضوع حتّى يؤمر بالاستقبال أو عدمه، ولكن بلحاظ الجزء الآخر تدل على المفهوم، فإذا جاء ولم يكن يوم الجمعة فلا تستقبله.

والحاصل: إذا كان الشرط مركباً وتوقّف الجزاء على أحد الجزءين تكويناً وعلى الجزء الآخر تعبّداً، يكون للجملة مفهوم بلحاظ الجزء التعبدي لا التكويني.

وما نحن فيه: الجملة الشرطية في آية النبأ مركبة من جزءين: الأوّل: وجود النبأ، والآخر: مجيء الفاسق بالنبأ. وتوقّف التبين على الجزء الأوّل توقف تكويني؛ لأنَّهُ إذا لم يكن نبأ فلا شيء حتّى نحقّق عنه، فلا تدل على المفهوم.

ولكن بلحاظ الجزء الثاني - مجيء الفاسق بهذا النبأ - يكون توقّف التبين توقّفاً تعبّدياً، حيث يمكن انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ، ومع ذلك يبقى التبين؛ وذلك لمجيء العادل به، فبلحاظ الجزء الثاني تدل القضية الشرطية على المفهوم، وهو: النبأ إنْ لم يجئ به الفاسق - بأنْ جاء به العادل - فلا تتبينوا، أو قل: إنْ جاءكم نبأ ولم يكن الجائي به فاسقاً فلا يجب التبين.

وعليه، يكون كلام الشيخ الأعظم - في كون الجملة الشرطية مسوقة لبيان

ص: 93

تحقّق الموضوع - صحيحاً بلحاظ الجزء الأوّل دون الجزء الثاني.

ويرد عليه: أوّلاً: لا إشكال في صحّة الكبرى باللحاظ الكلي، وأمّا بلحاظ التطبيق، فما ذكره من التحليل لتجزئة الجملة الشرطية تحليل عقلي، والمتبع في باب الدلالات ظهورات العرف.

فقوله: (إنْ جاءك فاسق بنبأ) كقوله: إنْ جاء زيد، بسيط، وإلا فيمكن جعل الثانية مركبة - أيضاً - من (زيد) و من (مجيئه) ولكن العرف قاض بالبساطة.

وبعبارة أُخرى: الموضوع ضيق، وهو: مجيء الفاسق بالنبأ، فإن انتفى - إنْ لم يجئك فاسق بالنبأ - فلا موضوع حتّى يصح الحكم بالتبين أو عدمه.

والحاصل: إنَّ التركب المدعى تركب تحليلي ولا عبرة بمثله.

وعليه، فإشكال الشيخ الأعظم تامّ؛ لأنَّ الشرط بسيط والجزاء متوقّف تكويناً عليه، فالشرط: إنْ جاءكم فاسق بنبأ، والجزاء فتبينوا.

وثانياً: ما ذكره في المنتقى(1):

إنَّهُ يستلزم استخدام أداة الشرط في معنيين، وهو محال.

وتوضيحه: إنَّ أداة الشرط تستخدم في معنيين:

الأوّل: أنْ تستخدم الأداة في معنى الشرطية والتعليق.

الثاني: أنْ تستخدم الأداة في معنى الفرض والتقدير.

فإذا كان موضوع القضية الشرطية قابلاً لطرو الحالتين عليه مع انحفاظ الموضوع، فتكون مستخدمة في معنى الشرطية والتعليق.

ص: 94


1- منتقى الأصول 4: 266.

مثلاً: إذا قال المولى: إن جاءك زيد فأكرمه، فالذات - زيد - محفوظة في الحالتين - حالة وجود الشرط وحالة عدم وجوده - وفي مثله تكون الأداة مستخدمة في الشرطية والتعليق، ومفادها انتفاء الجزاء في صورة انتفاء الشرط.

وأمّا إذا كان الموضوع غير قابل للانقسام إلى حالتين مع انحفاظ الذات فيهما، فتكون الأداة مستخدمة في معنى الفرض والتقدير.

مثلاً: إذا رأيت شبحاً من بعيد، وقلت: إنْ كان الشبح زيداً فأكرمه، فالشبح غير قابل للانقسام إلى زيد وعمرو، حيث إنَّ الجزئي الخارجي يقبل الترديد لا التقسيم، فالشبح إمّا زيد وإمّا عمر، فهو ذات واحدة لا ذاتان، بخلاف زيد في المثال الأوّل، فإنَّهُ ذات واحدة يمكن أنْ يجيء ويمكن أنْ لا يجيء، وأمّا الشبح فغير قابل لطرو الحالتين عليه.

وبعبارة أُخرى: لا يوجد جامع مشترك واحد بينهما، وإنّما ذاتان متباينتان. وفي مثله تكون أداة الشرط مستخدمة في معنى الفرض والتقدير، بمعنى: إنْ فرض كون الشبح زيداً فأكرمه، وفي مثله لا تدل الجملة الشرطية على المفهوم.

والظاهر أنَّ المحقق الإصفهاني أشار إلى ذلك في ضمن كلماته أيضاً.

إذا تمّ ذلك نقول: إذا كانت الجملة الشرطية مركبة من جزءين، وتوقف الجزاء على أحدهما توقّفاً عقّلياً، وعلى الثاني تعبّدياً، فبملاحظة ذلك الجزء استخدمت أداة الشرط بمعنى الفرض والتقدير، وبلحاظ الجزء الآخر - الذي لا يتوقف الجزاء عليه توقّفاً تكوينياً - استخدمت الأداة بمعنى الشرطية والتعليق، وعليه فتكون الأداة مستعملة في معنيين وهو محال.

مثال: إذا قال المولى: إنْ جاءك زيد يوم الجمعة فاستقبله. فالجملة

ص: 95

الشرطية مركبة من جزءين:

الأول: مجيء زيد، وتوقّف الاستقبال على المجيء توقّف عقلي تكويني، لعدم إمكان استقباله إنْ لم يجئ، فبهذا اللحاظ استخدمت أداة الشرط بمعنى الفرض والتقدير، ولا مفهوم لها.

الثاني: وكان اليوم يوم الجمعة، وتوقّف الاستقبال على كون اليوم يوم الجمعة توقّف تعبدي؛ لإمكان استقباله يوم السبت، فبهذا اللحاظ استخدمت أداة الشرط بمعنى الشرطية والتعليق، فتدل على المفهوم.

وقد قرّر السيد الخوئي(1) دلالة آية النبأ على المفهوم بلحاظ الجزء الثاني؛ حيث استخدمت أداة الشرط في معنى الشرطية والتعليق دون الجزء الأوّل، حيث استخدمت في معنى الفرض والتقدير. وهو يستلزم استخدام اللفظ في معنيين.

إنْ قُلتْ(2): إنَّ (الواو) في قوّة تكرار أداة الشرط(3)، فتكون بمثابة ذكرها مرّتين، فيصح استخدامها في معنيين ولا يستلزم المحذور.

قُلتْ: لو سلمنا ذلك، فإنّما يكون ذلك كذلك فيما إذا كان التركب في القضية الشرطية لفظيّاً، كما في مثال مجيء زيد، أمّا في التركب التحليلي - كآية النبأ - فالجملة الشرطية ليس فيها حرف عطف حتّى يقال إنَّهُ في قوّة تكرار الأداة. فالتركب تحليلي، أي: إنْ كان نبأ، وكان الجائي به فاسقاً فتبينوا.

وقد أشار إلى هذا الإشكال في المنتقى لنفي دلالة آية النبأ على المفهوم

ص: 96


1- مصباح الأصول 2: 158.
2- وهذا إشكال المنتقى على نفسه (منه (رحمه اللّه) ).
3- منتقى الأصول 4: 265.

في أكثر من موضع من كلامه(1).

ولكنه محلّ تأمّل من جهات:

الأولى: لا نسلم امتناع استخدام اللفظ في معنيين، بل هو ممكن عقلاً وواقع خارجاً، كما مثلنا له سابقاً بقول الشاعر حول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

المرتمي في دجى والمبتلى بعمى *** والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا

يأتون سدته من كل ناحية *** ويستفيدون من نعمائه عينا(2)

وقد استخدمت العين في أربعة معانٍ:

في قوله (المرتمي في دجى) يستفاد من العين بمعنى الشمس.

و(المبتلى بعمى) يستفاد من العين بمعنى الباصرة.

و(المشتكي ظمأ) يستفاد من العين بمعنى الجارية.

و(المشتكي ديناً) يستفاد من العين بمعنى الدينار.

ويمكن الإجابة عن ذلك: بأنه لو سلمنا الإمكان والوقوع فلا نسلم الظهور لاستخدام أداة الشرط في المعنيين.

الثانية: لم ينقدح لنا الفرق بين الشرطية والتعليق وبين الفرض والتقدير. فمعنى (إذا) هو الشرط أو الربط أو التعليق، ولكن يختلف مدخولها، حيث يمكن أنْ يكون المدخول كلياً أو جزئياً، قابلاً للترديد أو التقسيم، محفوظاً في حالتي وجود الشرط وعدمه أو غير محفوظ.

فكل هذه الخصوصيات متعددة ومختلفة بلحاظ مدخولها، وأمّا نفس

ص: 97


1- منتقی الأصول 4: 265.
2- وقاية الأذهان: 87 .

الأداة فلها معنى واحد.

فيمكن القول: إنَّ معنى (إذا) في قوله: إذا جاء زيد فأكرمه، هو الفرض والتقدير، أي: أكرم زيداً في فرض المجيء، خلافاً لما ذهب إليه.

كما يمكن القول: إنَّ معنى (إذا) في قوله: إذا كان الشبح زيداً فأكرمه، هو الشرط والتعليق، أي: بشرط أنْ يكون الشبح زيداً فأكرمه، خلافاً لما ذهب إليه.

فالجملة الشرطية - حسب الظهور العرفي - بمعنى الشرط والربط والفرض، وكلها بمعنى واحد متقارب.

وعليه، فالمبنى محلّ تأمّل.

الثالثة: بعد التسليم باستحالة استخدام اللفظ في معنيين، وأنّ (إذا) الشرطية لها معنيان، نقول: إنَّ ذلك لا يقدح فيما ذهبا إليه، ولكن بعد إجراء بعض التعديل على بيان المصباح(1).

توضيحه: إذا كان الشرط مركباً فالجملة الشرطية تجعل المجموع المركب في حكم البسيط، فلا توجد عندنا إضافتان حتّى يقال - بلحاظ إضافة الجزاء إلى الجزء الأول - إنَّ الشرط لا مفهوم له، وبلحاظ إضافة الجزاء إلى الجزء الثاني يكون للشرط مفهوم، فليس عندنا شرطان، هما: المجيء وكونه في يوم الجمعة، بل شرط بسيط واحد، وهو: مجيء زيد يوم الجمعة، أو مجيء يوم الجمعة.

ص: 98


1- حيث إنّهُ إذا لاحظنا لفظ المصباح يكون الإشكال وارداً، ولكن بعد تغيير في البيان ينتفي الإشكال (منه (رحمه اللّه) ).

وعليه، فيكون توقّف الجزاء على الشرط توقّفاً تعبدياً؛ لإمكان استقباله في صورة انتفاء المجموع المركب، حيث ينتفي المجموع المركب بانتفاء جزئه؛ فلو جاء زيد يوم السبت انتفى المجموع المركب، وأمكن استقباله عقلاً، فتكون أداة الشرط مستخدمة في معنى الشرط والتعليق، وكلما كان كذلك، فيكون للجملة الشرطية مفهوم.

والحاصل: إنْ سلمنا أنَّ الشرط في آية النبأ مركب - حسب ما ادعاه في المصباح - تركباً تحليلياً، يكون توقّف الجزاء على المجموع المركب تعبدياً، فيكون للجملة الشرطية مفهوم.

وقد نشأ الإشكال على المصباح من جعل ذلك إضافتين، وهو يستلزم استخدام اللفظ في أكثر من معنى، ولكن حيث قُلنا: إنَّهُ إضافة واحدة للمجموع المركب فيكون التوقّف تعبدياً لا تكوينياً، وتكون أداة الشرط مستخدمة بمعنى واحد، هو الشرطية والتعليق، فينتفي إشكال المنتقى على المصباح، ويثبت المفهوم للجملة الشرطية.

والحاصل: إنَّ الجزاء في آية النبأ مضاف إلى المجموع المركب من مجيء النبأ عبر الفاسق، ويكون التوقّف تعبدياً، وأداة الشرط مستخدمة بمعنى واحد هو الشرطية والتعليق، فإنْ كان الجائي بالخبر فاسقاً فيجب التبين، وإن لم يكن كذلك فلا.

الجواب الثالث

ما ذكره الملا صالح المازندراني في حاشية المعالم(1) : إنَّ مفهوم آية

ص: 99


1- معالم الدين (الطبعة الحجرية): 190.

النبأ مفهوم كلي له فردان:

الأول: عدم وجود جاءٍ بالنبأ فلا نبأ أصلاً، وبلحاظ هذا الفرد لا مفهوم للآية.

الثاني: وجود جاءٍ بالنبأ ولكنه غير فاسق، وبلحاظ هذا الفرد يثبت المفهوم، فلا يجب التبين عند مجيء العادل بالنبأ، وهو المطلوب.

الجواب الرابع

ما ذكره القمي حيث قال (1): «يحتمل أنْ يكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع، كما يحتمل أنْ يكون سالبة بانتفاء المحمول».

فإنْ كان المفهوم: إنْ لم يكن هنالك نبأ أصلاً، فهو سالبة بانتفاء الموضوع، ولا يجب التبين لعدم وجود ما يتبين عنه.

وإنْ كان المفهوم: إنْ كان هنالك نبأ ولكن لم يكن الجائي به فاسقاً، فهو سالبة بانتفاء المحمول، فمع وجود الموضوع لا يترتب عليه وجوب التبين.

فأمر المفهوم دائر بين السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول، ومن الثابت أنَّ حمل القضايا السالبة على السالبة بانتفاء المحمول أولى؛ فإنَّ ظاهر السلب هو ذلك.

فمثلاً: ليس زيد عالماً، يحتمل أنْ يكون سالبة بانتفاء الموضوع، وذلك لعدم وجود زيد في العالم، إلا أنَّهُ خلاف الظاهر؛ حيث إنَّ الظاهر وجوده إلا أنَّهُ غير عالم، بل قال البعض: إنَّ حمل السالبة على السالبة بانتفاء الموضوع مجاز، فيتعين الثاني.

ص: 100


1- قوانين الأصول: 433.

والفرق بين الجواب الثالث والرابع هو: إنَّ الجواب الثالث أثبت فردين للمفهوم(1)، بينما في الجواب الرابع ليس للمفهوم إلا فرد واحد.

وعليه، فللآية مفهوم يفيد إثبات حجّية خبر العادل.

وقد أورد الشيخ الأعظم على هذين الجوابين ما حاصله(2): إنَّ مفاد القضية الشرطية انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه.

وتوضيحه: لا بدَّ في المفهوم من حفظ الموضوع المأخوذ في المنطوق بما له من القيود والحيثيات، بحيث يكون المفهوم والمنطوق غير متفاوتين في جميع الحيثيات إلا في السلب والإيجاب، وموضوع آية النبأ مجيء الفاسق بالنبأ، ومحموله وجوب التبين، ولا بد في المفهوم أنْ يكون الموضوع عدم مجيء الفاسق بالنبأ، ومحموله عدم وجوب التبين، وأمّا مجيء العادل بالنبأ فلم يذكر في المنطوق، فلا يمكن أخذه في المفهوم، لا بعنوان أنَّهُ الفرد الوحيد، كما ذهب إليه القمي، ولا بعنوان أنَّهُ أحد الفردين، كما ذهب إليه المازندراني.

فقال الشيخ الأعظم ما ملخصه(3): إنَّ مفاد القضية الشرطية انتفاء الحكم المذكور في المنطوق - أي وجوب التبيّن- عن الموضوع المذكور في المنطوق عند انتفاء الشرط المذكور في المنطوق، فإذا ثبت وجوب التبين

ص: 101


1- أقول: هذا بالنظر البدوي، وأمّا بالمآل فحيث نفى المفهوم عن الفرد الأوّل، فلا يبقى له إلا فرد واحد (المقرر).
2- فرائد الأصول 1: 118.
3- فرائد الأصول 1: 118.

في المنطوق - كما إذا كان الجائي بالخبر فاسقاً - يصير مفهومه عدم وجوب التبين عند عدم كون الجائي به فاسقاً.

وعليه، فحيث لم يذكر مجيء العادل في المنطوق، فلا يمكن فرضه في المفهوم.

مثلاً: إذا قلنا: إذا جاء زيد فأكرمه، لا يمكن فرض عمرو في المفهوم؛ لأنَّهُ لم يذكر في المنطوق، فيكون مسكوتاً عنه في المفهوم.

ومنه ينقدح الجواب عن إشكال المحقق القمي(1)،

حيث ذكر أنَّهُ: إذا دار الأمر بين السالبة بانتفاء الموضوع أو السالبة بانتفاء المحمول يتعين الثاني. فلا دوران أصلاً، فالسالبة متعينة في كونها سالبة بانتفاء الموضوع، لعدم وجود ما يتبين عنه.

إنَّ قُلتْ: إنْ عدم مجيء الفاسق بالنبأ ينطبق على مجيء العادل بالنبأ أو يلازمه.

قُلتْ: لو لوحظت القضية في حدّ ذاتها أمكن القول بذلك، ولكن لو لوحظت بما أنّها مفهوم للمنطوق الخاص، فلا تكون شاملة له.

وبعبارة أُخرى: إنَّ مجيء العادل مسكوت عنه في المنطوق والمفهوم، ولا إطلاق للمفهوم ليشمل مجيء العادل به، فليس المولى في مقام البيان من هذه الجهة.

أقول: ما أجاب به الشيخ في حدّ ذاته مقبول، ولكن يرد عليه إشكال أشبه ما يكون بالإشكال اللفظي، فظاهر عبارته - بل صريحها - : أنَّ الآية دالة

ص: 102


1- قوانين الأصول: 433.

على المفهوم على نحو القضية السالبة بانتفاء الموضوع، حيث قال: «فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع»(1).

ولكن الحق أنَّ الآية لا مفهوم لها بالمعنى الأصولي أصلاً، فلو قال: إنْ جاء زيد فاستقبله، فهل لها مفهوم هو: إنْ لم يجئ فلا تستقبله، لعدم وجود من يستقبله، أم لا مفهوم للعبارة أصلاً؟

فالعبارة تقتصر على المنطوق فقط، أي ربط الموضوع بالمحمول، ومفاده: في ظرف المجيء استقبله، كما لو قال: إنْ تزوجت فلا تضيع حقّ زوجتك، فهل يقال في مفهومه: إنْ لم تتزوج فلا يحرم عليك تضييع حقّ زوجتك؛ لأنَّهُ لا زوجة لك، بل هو مفهوم مستهجن عرفاً.

وهكذا في سائر النظائر، كقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2). وقوله سبحانه: {وَإِذَا حُييتُم بِتَحِيةٍ فَحَيواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(3).

وعليه، فآية النبأ لا تدل إلاّ على إثبات المحمول في ظرف الموضوع فقط.

الجواب الخامس

ما ذكره صاحب الكفاية، قال: « مع إنَّهُ يمكن أنْ يقال: إنَّ القضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلا أنَّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود

ص: 103


1- فرائد الأصول 1: 118.
2- الأعراف: 204.
3- النساء: 86 .

موضوع آخر»(1).

توضيحه: لو سلّمنا أنَّ موضوع الآية مجيء الفاسق بالنبأ لا طبيعي النبأ، إلا أنَّهُ يمكن دعوى دلالتها على حجّية خبر العادل؛ وذلك لأنَّ ظاهر الآية الكريمة أنَّ الموضوع المنحصر لوجوب التبين هو مجيء الفاسق بالنبأ، وإذا كان الموضوع منحصراً ينتفى المحمول عند انتفائه، حتّى لو وجد له موضوع آخر، وهو مجيء العادل بالنبأ، إلا أنَّهُ لا موضوعية له؛ لفرض انحصار الحكم في الموضوع الأوّل.

ويرد عليه ما ذُكر في المصباح(2)،

وآراؤنا (3).

وتوضيحه: إذا سلّم كون القضية الشرطية في الآية مسوقة لبيان الموضوع، فهي لا تفيد إلا موضوعية مجيء الفاسق بالنبأ لوجوب التبين، وإثبات موضوعية موضوعٍ لحكمٍ لا ينفي موضوعية موضوع آخر لنفس ذلك الحكم.

وبعبارة أُخرى: وزان الشرط وزان اللقب، فإذا قُلنا: إنَّ المسيح نبي اللّه، فهذه العبارة لا تنفى موضوعية موضوع آخر لهذا المحمول، فإنَّ نوحاً - أيضاً - نبي اللّه.

وبعبارة ثالثة: استفادة حجّية خبر العادل متوقّفة على ثبوت المفهوم، وثبوت المفهوم متوقّف على كون القضية غير مسوقة لبيان الموضوع، وإذا

ص: 104


1- كفاية الأصول: 296.
2- مصباح الأصول 2: 157.
3- آراؤنا في أصول الفقه 2: 101.

سلّم أنَّ القضية سيقت لبيان الموضوع فلا مفهوم لها، فكيف تدل على حجّية خبر العادل؟

وقد ذكر في النهاية تقريباً لمدعى الكفاية متبنياً حجّية خبر العادل، حتّى وإنْ سيقت الجملة الشرطية لبيان الموضوع، قال: «إنَّ أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلواً لها فيما له من الشأن بالإضافة إلى سنخ الحكم المنشئ»(1).

توضيحه: إنَّ أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلواً لها - أي الشرط - فيما له من الشأن سواء كان الشأن الموضوعية أو العلية بالإضافة إلى سنخ الحكم. بمعنى أنَّ الشرط علّة أو موضوع منحصر بالإضافة إلى سنخ الجملة الجزائية.

وبعبارة أُخرى: الجملة الشرطية يحتمل فيها أمران:

الأوّل: إفادتها لعلية الشرط أو موضوعيته بالإضافة إلى شخص الجزاء.

الثاني: إفادتها لعلية الشرط أو موضوعيته بالإضافة إلى سنخ الجزاء.

أمّا الاحتمال الأوّل فمنتف؛ وذلك لأنَّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء شخص موضوعه، أو شخص علته لا يحتاج إلى دلالة على الحصر، بل إنَّ انتفاء شخص المحمول - بما له من المشخصات والخصوصيات الفردية بانتفاء موضوعه - ثابت في جميع الجمل.

ففي مثال: هذه الغرفة مضيئة، نجد أن شخص الإضاءة منتف بانتفاء موضوعه، فحتّى لو كانت الغرفة الأُخرى مضيئة، لا يكون بشخص تلك الإضاءة.

ص: 105


1- نهاية الدراية 2: 198.

والحاصل: المقصود من دلالة الجملة الشرطية على المفهوم وعلى الانتفاء عند الانتفاء هو انتفاء سنخ المحمول، وإلا فانتفاء شخص المحمول بانتفاء موضوعه أو علّته واضح لا يحتاج إلى الجملة الشرطية.

وبعبارة ثالثة: لماذا استخدمت الجملة الشرطية؟ إنْ كان ذلك للدلالة على انتفاء شخص المحمول فلا يحتاج إليه؛ لأنَّهُ ينتفي وإنْ كانت الجملة حملية أو لقبية، مثل انتفاء شخص الحركة بانتفاء شخص المتحرك أو شخص المحرك.

وعليه، فيكون الحصر بالإضافة إلى سنخ الحكم، والجملة الشرطية تدل على انتفاء طبيعي الجزاء بانتفاء الشرط؛ ولذا قال: «فإنْ كان الواقع عقيبها(1) معلقاً عليه حقيقة الحكم كانت السببية منحصرة، ومقتضى انحصار العلة انتفاء المعلول بانتفائها»(2).

فيثبت المفهوم للجملة الشرطية ويكون ظاهر: (إنْ جاء زيد فأكرمه) هو انحصار وجوب الإكرام في مجيء زيد، ومفهومه هو: إنْ لم يجئ زيد فلا يجب إكرامه؛ لانتفاء علّة وجوب إكرامه.

قال (رحمه اللّه) : «وإنْ كان محققاً للموضوع، كان الموضوع الحقيقي منحصراً فيما وقع عقيب الأداة، ومقتضى انحصار موضوع سنخ الحكم في شيء انتفاؤه بانتفائه(3) وإنْ كان هنالك موضوع آخر»(4).

ص: 106


1- أي عقيب أداة الشرط (المقرر).
2- نهاية الدراية 2: 198.
3- أي بانتفاء الموضوع (المقرر).
4- نهاية الدراية 2: 198.

وهذه العبارة محلّ الشاهد، بمعنى: إنْ كان الواقع عقيب أداة الشرط موضوع منحصر - ك- (إن تزوجت فأنفق على زوجتك) - فإنَّ سنخ وجوب الإنفاق متوقف على الزواج، وإذا انتفى الموضوع انتفى السنخ.

وفي آية النبأ، الأمر بالتبين يفيد سنخ وجوب التبين، ومع انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ ينتفي وجوب التبين، يعني لا وجوب أصلاً، فلو جاء أبو ذر بالنبأ فلا وجوب للتبين مطلقاً، وهو المطلوب.

فيثبت ما ادعاه صاحب الكفاية من كون الجملة الشرطية وإنْ كانت مسوقة لبيان الموضوع، إلا أنّها تفيد انحصار الموضوع لطبيعي الحكم، وينتفي طبيعي الحكم بانتفاء هذا الموضوع.

وقد ارتضى المحقق الإصفهاني ذلك قائلاً: «بل يمكن تقويته»(1).

وعليه، فلا أساس لما اشتهر بين الأصوليين جيلاً بعد جيل بأنَّ جملة الشرط - المسوقة لبيان تحقق الموضوع - لا مفهوم لها، بل جميع الجمل الشرطية تدل على المفهوم.

وفيه تأمّل: فقد بنى كلامه على مقدمتين:

الأولى: ظهور أداة الشرط في الانحصار.

الثانية: كون الانحصار بالإضافة إلى شخص الحكم أو سنخه.

لكن المقدمة الأولى محلّ نظر.

فهل الجملة الشرطية المسوقة لبيان الموضوع ظاهرة في الانحصار؟

هذا أوّل الكلام؛ حيث يمكن أنْ ندعي أنَّ أداة الشرط تفيد التعليق، أو

ص: 107


1- نهاية الدراية 2: 198.

تفيد الربط بين الجزاء والشرط، أو تفيد التوقيت - أي توقيت الجزاء عند الشرط - وليست ناظرة لانحصار الجزاء على الشرط.

فمعنى (إنْ تزوجت فأنفق على زوجتك) أي أنه في ظرف الزواج يجب الإنفاق، ولا يصح تفسير العبارة بأنَّ الموضوع الوحيد لوجوب الإنفاق هو الزواج، ولا موضوع آخر لوجوب الإنفاق.

وعليه، فالمبنى - أي انحصار الموضوع لطبيعي المحمول لا لشخصه - محّل تأمّل.

فيكون جواب الكفاية محلّ نظر.

الجواب السادس

ما ذكره المحقق الإصفهاني في النهاية (1)

واعتمده.

توضيحه: إنَّ شأن أداة الشرط تعليق الجزاء على الشرط، والمعلق عليه في الجملة الشرطية نوعان:

أولاً: أنْ لا يعقل وجود بدل للمعلق عليه.

وبعبارة أُخرى: الطريق المنحصر لوجود المعلق هو وجود المعلق عليه، مثلاً: إذا سألك زيد فأجبه، فوجود الجزاء متوقف على وجود الشرط ولا بديل لهذا الشرط، وكذا في مثال: إنْ رزقت ولداً فاختنه.

وفي هذا النوع: يكون انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط عقلياً؛ لأنَّ الموضوع الوحيد أو العلة الوحيدة إذا انتفت فالمحمول أو المعلول ينتفي قطعاً.

ثانياً: أنْ يعقل وجود بدل للشرط والمعلق عليه، وهو نحوان:

ص: 108


1- نهاية الدراية 2: 198.

الأوّل: أنْ تساق الجملة الشرطية لا على نحو الشرط المحقق للموضوع ك- : إنْ جاءك زيد فأكرمه، وهي تدل على المفهوم بلا إشكال.

الثاني: أنْ تساق الجملة الشرطية على نحو الشرط المحقق للموضوع، والعدول إلى هذا النحو يحتاج إلى نكتة؛ حيث إنَّه مع وجود البديل للشرط، وأنَّ الجزاء له طريق آخر غير طريق الشرط فلماذا تمّ العدول إلى هذا النحو، وسيقت الجملة على نحو الشرط المحقق للموضوع، ولا تكون النكتة إلا لبيان حصر الموضوع؟!

بمعنى كون انتفاء المحمول عند انتفاء الموضوع قهري، كما في القضية الشرطية التي لا يوجد فيها بديل للجزاء في النحو الأوّل.

وعليه، فتدل الجملة الشرطية - في النحو الثاني - على المفهوم بشكل آكد من سائر الجمل الشرطية.

وفيما نحن فيه (آية النبأ): هل يعقل أنْ يكون للشرط بديل؟ الجواب: نعم، فمجيء الفاسق بالخبر أحد الطريقين، والطريق الآخر هو مجيء العادل.

ويمكن بيان الجملة الشرطية بنحوين:

الأوّل: جعل المعلق عليه فسق الجائي، بأن يقول المولى: النبأ إنْ جاء به الفاسق فتبين عنه، ومثله يدل على المفهوم، إلا أنَّ المولى عَدَل عن هذا البيان إلى البيان الثاني وهو القضية المحققة للموضوع، أي جعل المعلق عليه مجيء الفاسق بالنبأ لا فسق الجائي بالنبأ، وهذا العدول يتضمن نكتة، وهي: كما أنَّ الجزاء ينتفي في الجملة الشرطية المحققة للموضوع قهراً،

ص: 109

فكذلك الجزاء ينتفي بانتفاء مجيء الفاسق بالنبأ قهراً. فتدل الجملة على المفهوم بنحو آكد.

ولكن هذا الجواب محلّ تأمّل، فلو كان مورد الآية الكريمة (النبأ) أمكن القول: إنَّ العدول يدل على ذلك، إلا أنَّ مورد الآية مجيء الفاسق بالنبأ، فليس هنالك عدول حتّى يدل على المفهوم.

وبعبارة أوضح: إذا سأل السائل عن ضابطة الأخبار التي يجب التبين عنها، والتي لا يجب التبين عنها، فالسؤال حول طبيعي النبأ، والطريق الطبيعي للجواب هو: النبأ إنْ جاء به الفاسق فتبين عنه، والعدول عنه إلى: إنْ جاءكم فاسق بنبأ يدل على الانحصار وثبوت المفهوم بنحو آكد، إلا أنَّ مورد الآية هو مجيء الفاسق بالنبأ، فلم يثبت هنالك عدول حتّى يدل على آكدية المفهوم، كما إذا سأله: إنْ جاءني فاسق بنبأ فما هي الوظيفة؟ فيكون الجواب: إنْ جاءك فاسق بنبأ فتبيّن.

فلم يثبت هنالك عدول حتّى يدل على آكدية المفهوم، والآية كذلك؛ حيث إنَّ شأن نزولها مجيء الوليد بالنبأ، وقد رسمت الآية الشريفة ضابطة كلية حسب المورد.

وعليه، فلا عدول حتّى يفيد المفهوم بنحو آكد.

وبعبارة أُخرى: الجملة الشرطية التي سيقت لبيان الموضوع تدل على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط قهراً، ك- : إنْ رزقت ولداً فاختنه، فانتفاء الوجوب قهري.

فإذا كان السؤال عن حكم النبأ كان الجواب الطبيعي هو: إنْ النبأ إنْ كان كذا فتبين عنه، وإلا فلا تتبين.

ص: 110

وإذا تمّ العدول عن الطريقة الطبيعية وأجيب: إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، فيكون مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع.

وإنّما تمّ العدول في الجملة الشرطية على نحو بيان الموضوع لإفادة أنَّ وزانه وزان إنْ رزقت ولدا فاختنه، أي له نفس الشأن في أنَّ انتفاء المحمول لانتفاء موضوعه، أي أنه عقلي وقهري لا تعبدي ولا شرعي، والانتفاء العقلي للمحمول أقوى من الانتفاء الشرعي له؛ لأنَّهُ قهري تكويني لا شرعي تعبدي، وذلك يفيد أنَّ الطريق الوحيد لتحقق هذا المحمول هو وجود شخص الموضوع، وإذا انتفى الموضوع لا يعقل أنْ يبقى محمول لا تكويناً ولا تعبداً، وهذا العدول يدل على المفهوم بنحو آكد خلافاً لما ذهب إليه الشيخ، ولكن هذا موقوف على ثبوت تحقق العدول ولم يثبت ذلك في مورد الآية.

الجواب السابع

ما ذكره المحقق النائيني(1)

من أنَّ المفهوم تارة يستظهر من حاق اللفظ، كما في: إنْ جاء زيد فأكرمه؛ حيث إنَّ نفس اللفظ يدل على الانتفاء عند الانتفاء، وتارة يستظهر من القرائن الخارجية. وأمّا آية النبأ، فلو لوحظت في حدّ ذاتها فلا تدل على المفهوم، إلا أنّها بضميمة المورد تدل على المفهوم.

ويتضح ذلك ببيان مورد نزول الآية حيث جاء وليد بالخبر، ولا بدَّ للضابطة الكلية أنْ تنطبق على المورد، وإلا فخروج المورد عن الضابطة الكلية قبيح.

ص: 111


1- فوائد الأصول 3: 169.

وفي خبر الوليد عنوانان:

الأوّل: خبر الوليد خبر واحد.

الثاني: خبر الوليد خبر فاسق.

ولم يقل المولى: إنْ جاءكم واحد بنبأ فتبينوا، بل قال: إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا.

وبعبارة أُخرى: لماذا لم يقل: إن جاءكم مخبر؟

فتعليق الجزاء على هذا العنوان لا على العنوان الآخر، يدل على أنَّ وجوب التبين معلّق على كون المخبر فاسقاً لا على كون المخبر واحداً، وعليه فينتفي وجوب التبين عند انتفاء الفسق.

وبعبارة أوضح: في خبر الوليد عنوانان: خبر واحد ، وخبر فاسق.

وفي المقام ثلاثة احتمالات:

الأول: أنْ يكون المؤثر في وجوب التبين كونه خبر واحد.

الثاني: أنْ يكون المؤثر في وجوب التبين أي واحد من العنوانين.

الثالث: أنْ يكون المؤثر في وجوب التبين كونه خبر فاسق.

وتعليق وجوب التبين على هذا دون ذاك دليل على أنّه هو المؤثّر فحسب، وإلا لو كانا مؤثّرين معاً كان ذكر أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وإنْ كان ذاك هو المؤثّر دون هذا، كان عدولاً عمّا هو الموضوع إلى ما ليس بموضوع. فيتعين أنْ يكون الموضوع الوحيد لوجوب التبين هو خبر فاسق.

ولكنّه محلّ تأمّل؛ فإنَّهُ عدول عمّا نحن فيه إلى مفهوم الوصف؛ لدلالة

ص: 112

كلمة (الفاسق) على أنَّ الموضوع هو الفسق، والكلام هنا في مفهوم الشرط.

كما يترتب على ذلك ثبوت المفهوم لجميع الجمل الوصفية، فإذا قال المولى: أكرم هذا العالم، فقد اجتمع فيه عنوانان أو عناوين متعددة؛ فهو رجل هاشمي عالم أب و.. فإنْ كانت لبقية العناوين مدخلية، فلماذا علّق وجوب الإكرام على كونه عالماً؟ فهذا يدل على أنَّ العلم والعالمية هو العلة الوحيدة لوجب الإكرام، فينتفي وجوب الإكرام عند انتفائه.

فهل يمكن الالتزام بثبوت المفهوم لجميع الجمل الوصفية؟ الظاهر عدم الالتزام بذلك حتّى من المحقق النائيني، كما في مثال: (في الإبل السائمة زكاة)، فهل تدل العبارة على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة؟ خاصة إذا اعتمدت الجملة الوصفية على ذكر الموصوف فهو أقرب إلى ثبوت المفهوم، وأمّا آية النبأ فلم تعتمد على موصوف، فتكون أبعد شيء عن المفهوم.

الجواب الثامن

ما ذكره السيد السبزواري (رحمه اللّه) قال: «إنَّ سياق الآية يدل على أنّها في مقام بيان القاعدة الكلية»(1).

وفيه: إنَّهُ لا يثبت المدعى؛ فإنَّهُ وإنْ سلّم كونها في هذا المقام، ولكن لم يثبت موضوع القاعدة الكلية. فقد يقال: إنّها في مقام تمييز ما يقبل من الأخبار وما لا يقبل، فتدل على المفهوم.

وقد يقال: إنّها في مقام بيان القاعدة الكلية لعدم قبول خبر الفاسق.

ص: 113


1- تهذيب الأصول 2: 105.

فمجرّد كونها في مقام بيان القاعدة الكلية لا يثبت أنّها في مقام بيان تمييز ما يقبل من الأخبار عمّا لا يقبل.

قال في تتمة كلامه: «وتقرير ما ترتكز في العقول من دوران الاعتماد على شيء مدار الوثوق والإطمئنان»(1).

أي إنَّ الآية إرشاد إلى ما هو مركوز عند العقلاء، والمركوز عندهم مقبولية خبر مَنْ يوثق بخبره دون غيره، أي إنَّ الارتكاز العقلائي له حيثيتان: قبول مَنْ يوثق بخبره، وعدم ذلك في عدمه، وظاهر الآية أنّها إرشاد إلى ما هو مركوز عند العقلاء، فتدل على المفهوم.

وفيه: إنَّهُ مجرّد استظهار، فإنْ استظهر كون الآية في مقام تأكيد الحيثيتين العقلائيتين فبها، ولكن يمكن أنْ تكون الآية في مقام البيان والتأكيد والإرشاد إلى الحيثية الثانية، فلا تدل على المفهوم.

الجواب التاسع

ما أفاده بعض المحققين من المتأخرين.

وتوضيحه: للجملة الشرطية أركان ثلاثة: الموضوع والشرط والجزاء.

وملاحظة النسبة بين الشرط والموضوع يمكن أنْ تكون بأحد أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أنْ يكون الشرط من عوارض الموضوع، بمعنى عدم كون الشرط مقوّماً لوجود الموضوع، كقوله: إنْ جاء زيد فأكرمه، فإنَّ المجيء من العوارض الغريبة لوجود زيد، ولا مدخلية له في قوام وجود زيد.

ص: 114


1- تهذيب الأصول 2: 105.

الثاني: أنْ يكون الشرط هو المقوّم المنحصر لوجود الموضوع، بحيث لا يعقل وجود الموضوع بدون وجود الشرط، كقوله: إنْ رزقت ولداً فاختنه. وينحصر وجود الموضوع عبر وجود الشرط، ومع انتفاء الشرط ينتفي الموضوع؛ لأنَّ النسبة بين الشرط والموضوع كنسبة الإيجاد إلى الوجود، والكسر إلى الإنكسار.

الثالث: أنْ يكون الشرط مقوّماً للموضوع ولكنه غير منحصر، كقوله: «النبأ إنْ جاء به الفاسق فتبين عنه» فمجيء الفاسق بالنبأ عبارة عن إيجاد النبأ، ووجود النبأ متقوّم بإيجاد النبأ، لكن الشرط غير مقوّم للموضوع وحده، بل قد يتحقق النبأ بمجيء العادل بالنبأ.

وأمّا أحكام هذه الأنحاء الثلاثة، فهي: أمّا الأوّل: فلا إشكال في ثبوت المفهوم له. وأمّا الثاني: فلا إشكال في عدم ثبوت المفهوم له. أمّا الثالث: فثبوت المفهوم فيه متوقف على معرفة ماهية ضابطة انتزاع المفهوم.

والضابطة هي: أنْ تكون للجزاء رابطتان: إحداهما: رابطة الجزاء بالموضوع، وهذه الرابطة موجودة في جميع الجمل الحكمية والحملية، وثانيتهما: رابطة الجزاء بالشرط، ويستفاد من هذه الرابطة انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط.

وهذه الضابطة موجودة في القسم الأوّل، ومنتفية في القسم الثاني قطعاً؛ لأنَّ ارتباط الجزاء بالشرط ليس شيئاً مغايراً لارتباط الجزاء بالموضوع، لكون الشرط عين الموضوع، ولا وجود مغاير له عن الموضوع، وفي الحقيقة هو صورة الشرط لا واقعه.

وأمّا النحو الثالث، فهل وراء رابطة الجزاء بالموضوع رابطة أُخرى هي

ص: 115

رابطة الجزاء بالشرط؟

الجواب: نعم، لأنَّ الشرط ليس هو المقوّم الوحيد، فإذا قُلنا: النبأ إنْ جاء به الفاسق وجب التبين، فوجوب التبين يرتبط بالنبأ من جهة، ومن جهة أُخرى يرتبط بنحو من أنحاء الارتباط بمجيء الفاسق بالنبأ، ولا يكفي ارتباطه بالعام، وإنّما له ارتباط بمجيء الفاسق به أيضاً؛ ولأنَّ الجزاء يرتبط بالشرط يكون للجملة الشرطية مفهوم.

وعليه، فما اشتهر من أنَّ الجملة الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع لا مفهوم لها غير تام، بل في المسألة تفصيل، حاصله: إنْ كان وجود الشرط عين وجود الموضوع فلا مفهوم للجملة الشرطية، وإنَّ كان وجود الشرط مغايراً لوجود الموضوع، فحتّى لو كانت الجملة الشرطية سيقت لبيان الموضوع تدل على المفهوم.

وهو محلّ تأمّل، فبعد تسليم الكبرى في كلامه - والذي يوكل بحثه إلى مباحث المفاهيم - فإنَّ المناقشة في الصغرى، حيث يوجد في الآية احتمالات ثلاثة:

الأوّل: إنَّ معنى الآية: الجائي بالنبأ إنْ كان فاسقاً فتبينوا، وهذا المعنى يدخل في القسم الأوّل، فإنَّ من عوارض الجائي بالنبأ أنْ يكون فاسقاً أو عادلاً، ووصف الفسق أو العدالة غير مقوّم لوجود الموضوع، فيثبت المفهوم.

الثاني: إنَّ معنى الآية: نبأ الفاسق إنْ جاء به فتبين عنه، وهذا المعنى يدخل في القسم الثاني؛ فإنَّ مجيء الفاسق بالنبأ عبارة عن إنبائه، والإنباء والنبأ متحدان ذاتاً، والطريقة الوحيدة لتحقق موضوع نبأ الفاسق هو مجيء

ص: 116

الفاسق بالنبأ، كقوله: إنْ رزقت ولداً فاختنه، ولا مفهوم لمثله.

الثالث: النبأ إنْ جاء به الفاسق فتبين عنه، وهذا المعنى يدخل في القسم الثالث؛ لأنَّ وجود النبأ متقوّم بمجيء الفاسق به، ولكن مجيء الفاسق بالنبأ ليس المقوّم الوحيد لتحقق الموضوع، بل يمكن تحقق الموضوع بمجيء العادل بالنبأ.

والحاصل: إذا كان مفاد الآية: الجائي بالنبأ إنْ كان فاسقاً، فله مفهوم قطعاً، وإذا كان مفادها: نبأ الفاسق إنْ جاء به، فلا مفهوم له، وإنْ كان مفادها: النبأ إنْ جاء به الفاسق، فله مفهوم بناء على التفصيل المذكور، وحيث يحتمل كونه الثاني فلا يثبت المفهوم.

ففي مثال: إذا جاءك الرجل فأكرمه، فالإكرام يعود إلى مطلق الرجل أو الرجل الجائي؟ أي أكرم مطلق الرجل أو الرجل الجائي؟

المقصود هو الرجل الجائي، وإنْ لم يقيد ذلك في اللفظ. وكذلك في الآية، فإنَّ التبين لمطلق النبأ أو نبأ الجائي.

وحاصل الكلام: إشكال الشيخ الأعظم تام إنْ لم يثبت أحد الأجوبة التسعة، وعليه فلا تدل الآية على المفهوم.

وقد قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول(1):

الآية الكريمة تحتمل احتمالين، ومع وجود الاحتمال لا يمكن المصير إلى دلالتها على المفهوم عن طريق مفهوم الشرط.

هذا هو الطريق الأوّل لإ ثبات المفهوم لآية النبأ.

ص: 117


1- الأصول: 656.
الطريق الثاني: الاستدلال بمفهوم الوصف
اشارة

وقد ذكرت عدة تقريرات للاستدلال بمفهوم الوصف:

التقرير الأول:
اشارة

ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1) وهو: في خبر الفاسق حيثيتان: الحيثية الذاتية والحيثية العرضية.

والحيثية الذاتية: إنَّهُ خبر واحد، والحيثية العرضية: إنَّهُ خبر فاسق، وإذا اجتمعت حيثيتان في مكان، فإنْ كانت الحيثية الذاتية ذات صلاحية لكونها علة يقبح التعليل بالحيثية العرضية؛ لأنَّ الحيثية الذاتية أسبق ذاتاً(2)،

ويتحقق الحكم عند وجود الحيثية الذاتية ولا تصل النوبة إلي تعليق الحكم بالحيثية العرضية؛ لأنَّ الحكم وجد عند وجود الحيثية الذاتية.

فمثلاً: في الدم حيثيتان: ذاتية، وهي حيثية أنَّهُ دم، وعرضية، وهي حيثية كونه ملاقياً للنجاسة كالبول.

فإنْ قُلنا: الدم نجس لأنّهُ لاقى نجساً، فهو قبيح خارج عن طريقة أهل المحاورة؛ لأنَّ الدم في رتبة ذاته تحمل عليه النجاسة، وهو سابق على ملاقاته للبول.

وفيما نحن فيه - في خبر الفاسق - توجد حيثيتان: ذاتية، وهي حيثية كونه خبر واحد، وعرضية، وهي حيثية كونه خبر فاسق. فإنْ كانت الحيثية الذاتية ذات صلاحية للعلية، لكان على المولى أنْ يقول: إنْ جاءكم مخبر بخبر

ص: 118


1- فرائد الأصول 1: 117.
2- الظاهر أنَّ مراد الشيخ السبق الذاتي لا السبق الزماني (منه (رحمه اللّه) ).

فتبينوا، وحيث عدل عنه إلي الحيثية العرضية، فيعلم أنَّ الحيثية الذاتية لا مدخلية لها في التعليل، بل الحيثية العرضية مؤثرة في وجوب التبين، فينتفى وجوب التبين عند انتفاء هذه الحيثية العرضية.

وقد أورد عليه إشكالات

الإشكال الأول(1):

إنَّ حيثية كونه خبر الواحد حيثية عرضية - أيضاً - ككونه خبر فاسق، فإذا لوحظ الخبر في حدّ ذاته فليس في ذاته أنَّهُ خبر واحد، فإذا نسب الخبر للمخبر، فبلحاظ المخبر الخارج عن ذات الخبر يمكن أنْ يكون الخبر خبر واحد، ويمكن أنْ يكون خبر غير واحد.

وعليه، فما ذكره الشيخ من أنَّ كونه خبر واحد حيثية ذاتية، يردّ عليه: أنَّهُ حيثية عرضية لا ذاتية.

فإنْ قيل: لماذا علّق الحكم على هذه الحيثية العرضية، ولم يعلقه على حيثية كونه خبر واحد؟

قُلنا: لعله لنكتة، كالإشارة إلى فسق الوليد مثلاً.

ويمكن دفع هذا الإشكال ببيان مقدمة: للذاتي إطلاقان:

الأوّل: ذاتي باب الكليات المصطلح عليه بذاتي باب الإيساغوجي، أي ما يكون داخلاً في قوام الماهية، أي الجنس والفصل.

الثاني: ذاتي باب البرهان، وهو ما يكفي لحاظ نفس الشيء في انتزاعه

ص: 119


1- أقول: هذا الإشكال لا يخل بالاستدلال، حيث إنَّ إثبات كونه حيثية عرضية - أيضاً - لا يضر، فإنَّ تعليق الحكم على هذه الحيثية العرضية دون الحيثية الأخرى، وخاصة مع التقدم الرتبي لتلك الحيثية على هذه، يدل على مدخلية هذه الحيثية دون تلك لترتب الحكم، فإذا انتفت انتفى وجوب التبين أيضاً (المقرر).

بلا حاجة إلى ضميمة خارجية، كإمكان الممكن، فإمكانه ليس بجنس ولا فصل على المعروف، لكن نفس لحاظ ذات الممكن كاف في انتزاع مفهوم الإمكان، بلا احتياج إلى لحاظ ضم الضميمة الخارجية، التي هي المحمول بالضميمة.

فإذا قُلنا: الجدار أبيض، فلحاظ ذات الجدار لا يكفي لانتزاع مفهوم الأبيض منه، وإنّما لا بدّ من ملاحظة ضميمة البياض إلى الجدار حتّى ينتزع منه الأبيض، بخلاف انتزاع مفهوم الممكن من الماهيات الإمكانية، فإنّها لا تحتاج إلى ضم ضميمة خارجية، بل نفس لحاظ ذات الممكن يكفي لانتزاع مفهوم الممكن، وهكذا في مثال الأربعة، حيث إنَّ لحاظ ذاتها كاف لانتزاع مفهوم الزوجية.

والشيخ (رحمه اللّه) يقصد من الذاتي: ذاتي باب البرهان لا ذاتي باب الكليات. فالنبأ في الآية يعني الخبر غير العلمي، وذلك لدليلين:

الأول: قوله: {فتبينوا} فإنْ كان الخبر علمياً، فهو مبين في حدّ ذاته، ولا حاجة إلى التبين عنه.

الثاني: التعليل: {أنْ تصيبوا}، فإنَّ الخبر العلمي ليس فيه إصابة القوم بجهالة.

وعليه، فالمحمول والتعليل يدلان على أنَّ المراد بالنبأ النبأ غير العلمي(1).

ص: 120


1- أقول: قد يقال بعدم الدلالة، فحيث رأي المولى أنَّ الكثير من الأخبار العلمية هي جهل مركب، فأمر بالتبين لمزيد الاطمينان؛ حيث للعلم مراتب كعلم اليقين وحقّ اليقين وعين اليقين، فقوله: (تبينوا) وأنْ تصيبوا بجهالة لا يتنافيان مع الخبر العلمي (المقرر).

فالخبر الواحد يعني ما لا يفيد بذاته العلم، وثبوت هذا المعنى للنبأ ذاتي، يعني مجرّد تصوّر خبرية خبر الوليد كاف في حمل محمول الخبر الواحد عليه.

وعليه، فكونه خبراً واحداً ذاتي للخبر المذكور في الأية الكريمة، فحيثية كونه خبراً واحداً ذاتي للموضوع - النبأ -، يعني صرف تصوّر الخبرية لهذا الخبر كاف في حمل محمول الخبر الواحد عليه؛ لأنَّ الخبر في ذاته يحتمل الصدق والكذب.

الإشكال الثاني: لا يمكن الالتزام بالمفهوم؛ لشموله لمَنْ لا يكون فاسقاً ولا عادلاً، فإنَّ مفهوم الآية هو: «إنْ جاءكم غير الفاسق فلا تتبينوا» وغير الفاسق يشمل مَنْ لا يكون فاسقاً ولا عادلاً، كمَنْ بلغ فهو ليس بفاسق؛ لعدم صدور الفسق عنه، ولا عادل؛ لعدم استقامته في جادة الشرع.

وفيه: أوّلاً: إنَّهُ مفهوم عام أو مطلق، وهو قابل للتخصيص والتقييد، فإنْ فُرض عدم حجّية خبر المجهول، فهو تخصيص لعموم المفهوم بالأدلة المشترطة لعدالة المخبر.

وثانياً: ما في المصباح(1) من: أنَّ الآية تردع عمّا يعمل به العقلاء لولا الردع، فلا إطلاق للآية؛ حيث إنّها منصرفة بما يعمل به العقلاء لولا الردع الشرعي، والعقلاء لا يعملون بخبر المجنون، وكذا الصبي ما لم يكن عاقلاً مميزاً.

وعليه، فإخبار الصبي والمجنون لا يدخل في المفهوم والمنطوق.

ولكنّه محلّ تأمّل؛ حيث لا يمكن الالتزام في كل الفقه بأنَّ الردع إنّما يكون فيما لولا الردع لعمل به العقلاء.

ص: 121


1- مصباح الأصول 2: 157.

مثلاً: في قوله تعالى: {يحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَآئِثَ}(1)، الخبائث نوعان: فبعضها لا يوجد هنالك مقتض للعقلاء لتناوله، أو يوجد مانع عندهم، فهل يقال : إنَّ الآية لا عموم لها لهذه الأمور؟

وهكذا في جانب الأمر، فهنالك ما يوجد عند العقلاء دافع طبعي للعمل به، فهل يمكن الالتزام بعدم شمول إطلاق متعلق الأمر لها؟ الظاهر الإطلاق.

وعليه، يكون إطلاق الآية - مفهوماً ومنطوقاً - شاملاً لما يوجد عند العقلاء دافع أو رادع ولما لا يوجد.

التقرير الثاني: التمسك بمفهوم الوصف

بيانه: إنَّ تعليق وجوب التبين على كون المخبر فاسقاً يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

وقد أجاب الشيخ عنه بقوله: «إنَّ المُحَقَق في محله عدم اعتبار مفهوم الوصف، خصوصاً في الوصف غير المعتمد على موصوف محقق - كما نحن فيه - فإنَّهُ أشبه بمفهوم اللقب»(2)(3).

ولم يرتض في المصباح(4) جواب الشيخ؛ إذ يرى أنَّ للوصف مفهوماً إلا أنَّهُ لا يجدي في المقام، أي أنَّ المفهوم لا يثبت حجّية خبر العادل.

ص: 122


1- الأعراف: 157.
2- فرائد الأصول 1: 256.
3- في عبارة الشيخ نوع من المسامحة؛ حيث إنَّ ثبوت المفهوم يساوق الحجّية، فالمقصود من نفي الحجّية عدم المفهوم، لا إنَّهُ ثابت ولكنّه غير حجّة، فالأولى أنْ يقال: إنَّهُ لا مفهوم للوصف أصلاً (منه (رحمه اللّه) ).
4- مصباح الأصول 2: 157.

بيانه من جهة المبنى الكلي: مثلاً: أكرم الرجل العالم، فمفهومه طبيعي الرجل أينما كان لا يجب إكرامه على نحو الموجبة الكلية، وإلا، فإنْ كان طبيعي الرجل يجب إكرامه، لكان ذكر الموصوف في الجملة الوصفية لغواً، كما في المعالم: «الإنسان الأبيض لا يعلم الغيوب، والأسود إذا نام لا يبصر»(1) فإنَّ التقييد بالأبيض لغو؛ لأنَّ المحمول ثابت لطبيعة الموصوف أينما كان، فالوصف له مفهوم مؤداه: إنَّ عدم ثبوت المحمول لطبيعة المنعوت أينما كان إنّما هو منتف عن بعض أفراد المنعوت.

وعليه، فللآية مفهوم، وهو عدم وجوب التبين عن بعض أفراد غير الفاسق، وإلا كان ذكر الفاسق لغواً، ولكن هذا المقدار لا يثبت حجّية خبر العادل؛ لأنَّ المفهوم مسوق على نحو القضية المهملة لا على نحو القضية الكلية، فإذا كان المهفوم: إنْ جاءكم غير الفاسق كلياً بنبأ فلا تتبينوا، لأثبت حجية خبر العادل، إلا أنَّ المفهوم: إنْ جاءكم غير الفاسق بنبأ، ففي الجملة لا يجب التبين عنه، فهو موجبة جزئية لا كلية، ويمكن أنْ يكون حكم المولى - على نحو الاحتمال - وجوب التبين في خبر الفاسق واحداً كان أم متعدداً، ولكن في خبر العادل لا يجب التبين إذا كان متعدداً، وأمّا إذا كان واحداً فيجب التبين.

وبعبارة أوضح: علّق وجوب التبين على خبر الفاسق، فإذا كان وجوب التبين ثابتاً لطبيعة كل خبر لكان التقييد بالفاسق لغواً، فيكون مؤدى التقييد - وهو وجوب التبين - منفياً في خبر كل مخبر، فيكفي في ثبوت المفهوم أنَّ

ص: 123


1- معالم الدين: 80 .

المولى جعل الحجّية لخبر العادل المتعدد - البينة الشرعية - وعليه فلا ينفع ذلك في المقام.

وبعبارة ثالثة: لو قال المولى: أكرم الرجل العالم، فالتقييد بالعالم لوجوب إكرام الرجل العالم مطلقاً، وأمّا غير العالم ففيه تفصيل، كوجوب إكرام المتقي من العلماء دون غيره، فيفيد عدم ثبوت الحكم للطبيعة أينما سرت، وذلك يكفي لدفع اللغوية في التقييد، فيكون ذلك منشأ للمفهوم في الجملة على نحو الموجبة الجزئية أو السالبة الجزئية.

وعليه، حينما يقول المولى: إنْ جاءكم مخبر فاسق فتبينوا، فكلمة فاسق تدل على أنَّ وجوب التبين غير ثابت لإنباء كل منبئ دفعاً للغوية، فإذا تمّ التساؤل من المولى عن حكم نبأ العادل، فيكفي لدفع اللغوية أنْ يقول: إنْ كان متعدداً فلا يجب التبين، وإن كان واحداً فيجب، وهذا هو عين ثبوت المفهوم في الجملة.

ولكنّه لا يجدي في المقام؛ لأنّنا نريد إثبات حجّية الخبر العادل الواحد، والقضية المهملة لا تفي بإثبات حكم الفرد.

والحاصل: للآية مفهوم جزئي ولا تنفع لإثبات ما نحن فيه، وهو حجّية خبر العادل الواحد.

وعليه، فالسيد الخوئي يتفق مع الشيخ في عدم نهوض الآية للدلالة على الحجّية، إلا أنّهما يفترقان، فالشيخ يرى عدم ثبوت المفهوم للآية، والسيد الخوئي يرى ثبوت مفهوم في الجملة، لكنّه لا يجدي؛ لكونه قضية مهملة في قوّة الجزئية.

لكن ما ذهب إليه السيد الخوئي من حيث المبنى الكلي محلّ تأملّ؛

ص: 124

حيث يمكن أنْ لا يكون للجملة الوصفية مفهوم أصلاً.

إنْ قُلتْ: فلماذا قيدّ بالوصف؟

قُلتْ: أولاً: لكونه مورد السؤال: إنْ جاءني رجل عالم فما أفعل، قال: إنْ جاءك رجل عالم فأكرمه، مع أنَّ وجوب الإكرام ثابت لطبيعي الرجل أينما كان، فالتقييد لتطابق الجواب مع السؤال، وهو يكفي لدفع اللغوية.

ثانياً: لابتلاء المخاطب، فإذا كان القيد والمنعوت محل ابتلاء المخاطب يتم التقييد به.

ثالثاً: للتأكيد كقوله: «إياك وظلم الطفل اليتيم»، مع أنَّ حكم الطفل غير اليتيم هو كذلك، وإنّما خصّ المولى وقيدّ الحكم باليتيم للتأكيد، ولا محذور فيه، خلافاً لما ذهب إليه السيد الخوئي، حيث حكم بثبوت المفهوم في الجملة، بمعنى جواز ظلم الطفل غير اليتيم في الجملة، وإلا فلماذا تمّ التقييد به؟

رابعاً: لدفع توهّم عدم الحرمة في مورد الوصف؛ حيث يتوهّم عدم الحرمة في مورد الوصف، ولدفعه يقيد المولى، كقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ}(1)، ولكن مقتضى كلام السيد الخوئي جواز قتل الأولاد لا من إملاق في الجملة، وإلا استلزم اللغوية.

وجوابه: إنَّ التقييد إنّما تمّ لتوهّم كون الفقر والمشاكل الاقتصادية المستقبلية سبباً لجواز قتل الأولاد مصلحة لهم وللوالدين، ودفعاً لهذا التوهّم تقم التقييد به.

ص: 125


1- الأنعام: 51.

إلى غير ذلك من الأمثلة، كقوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ}(1)، ومع انتفاء الوصف: (اللاتي في حجوركم) فالحكم ثابت للطبيعة أينما سرت، فالربيبة سواء أكانت في الحجر أم لم تكن فهي محرّمة مطلقاً إنْ كانت من النساء اللاتي دخلتم بهن، فقيد (اللاتي في حجوركم) لا يدل على المفهوم حتّى على نحو القضية المهملة، وإنّما تمّ التقييد لحكمة.

والحاصل إنَّ الوصف بذاته لا يدل على المفهوم، إلا إذا وجدت قرينة، كقوله: «لَيُّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه»(2)، وإلا فالتقييد لغرض في نفس المولى أو لحكمة يراها.

ويمكن أنْ تكون النكتة للمفهوم أو لدفع التوهّم أو للتأكيد أو غيرها، ولا وجه لحصرها في بيان المفهوم، بل هو محتمل، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وعليه فلا يمكن الذهاب إلى أنَّهُ يدل على المفهوم في الجملة، بل هو مجمل ربما يدل على المفهوم وربما لا يدل، كقوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً}(3)، فهل يدل على أنَّ الربا الذي لا يكون أضعافاً مضاعفة جائز في الجملة؟

وعليه، فالأقرب إلى النظر ما ذهب إليه الشيخ من أنَّ الجملة الوصفية لا مفهوم لها أصلاً، لا أنَّ لها مفهوماً لا يجدي في المقام.

ص: 126


1- النساء: 23.
2- عوالي اللئالي 4: 72، واللي: المطل.
3- وهو وصف ولا يشترط في الوصف أنْ يكون وصفاً نحوياً، بل يشمل الحال والتمييز (منه (رحمه اللّه) ).
التقرير الثالث: الجزاء هو التبين

إنَّ الجزاء في الآية الكريمة هو (فتبينّوا)، والتبين بمعنى طلب البيان، والبيان بمعنى الظهور وانكشاف ووضوح الأمر، ولوضوح الأمر طريقان:

الأوّل: وضوحه بسبب القرائن الخارجية.

الثاني: وضوحه بسبب القرائن الداخلية.

فإذا جاء أحد بخبر وتبين أنَّ الجائي به الشيخ الأعظم، فهذا نحو من أنحاء التبين، فيكون اتضاح عدالة المخبر داخلاً في قوله تعالى: {فتبينوا} فيصبح خبر العادل مؤدى منطوق الآية الكريمة.

وبعبارة أُخرى: إنَّ الغرض حصول الوضوح، وهو يتحقق بمعرفة عدالة المخبر، كما يتحقق بمعرفة القرائن الخارجية.

وهو محلّ تأمّل؛ لعدم الإطراد، سواء أكان التبين بمعنى التبين العلمي - أي التفحص الذي يوجب العلم - أم كان بالمعنى الأعم الشامل للوضوح العرفي، فهذا التبين غير مطرد في خبر العادل، فكون المخبر عادلاً ربما يوجب وضوح الخبر ووضوح مطابقته للواقع، وربما لا يوجب ذلك، وهو يختلف باختلاف المخبر والخبر والملابسات الخارجية.

هذا تمام الكلام في بيان المقتضي.

الإشكالات على الاستدلال بآية النبأ

وأمّا بيان المانع: فقد ذكرت إيرادات في المقام تختص بعضها بدلالة آية النبأ، وبعضها مشتركة بين آية النبأ وسائر ما استدل به في المقام.

ص: 127

الأول: التعارض بين مفهوم آية النبأ وعموم التعليل

هذا هو الإشكال الأول على الاستدلال بآية النبأ على حجية الخبر الواحد.

وهذا مختص بدلالة آية النبأ، وهو: لو سُلم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية، إلا أنَّهُ معارض بعموم التعليل في قوله تعالى: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، فعلّة وجوب التبين عدم الأمن من الوقوع في مخالفة الواقع، وعلّة المنع من العمل بخبر الفاسق لكونه معرضاً للوقوع في الندم.

وهذه العلّة مشتركة بين خبر الفاسق وخبر العادل؛ لعدم الأمن في مطابقة خبر العادل للواقع، فإنَّ العدالة مانعة عن تعمّد الكذب لكنها غير مانعة عن الخطأ والاشتباه، لأنَّ العادل ليس معصوماً، فاحتمال الإصابة بجهالة وارد في خبر العادل، كما يحتمل الندم في حقّه أيضاً.

والحاصل: إنَّ عموم التعليل معارض لمفهوم الجملة الشرطية.

والمتبع - في نظر العرف - عموم التعليل دون ملاحظة المورد، فإذا كان المورد خاصاً والتعليل عامّاً، فلا تخصّص الجملة بالمورد، بل تعمّم لغيره من الموارد التي تجري فيها العلة فقط.

فلو قال المولى: لا تأكل الرمان لأنه حامض، يعمم النهي للتفاح الحامض لوجود العلة، كما يخصص النهي بالرمان الحامض فلا يشمل الرمان الحلو.

وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم(1) وقد مثّل بمثالين:

ص: 128


1- فرائد الأصول 1: 257.

الأوّل: إذا قال المولى: لا تأكل الرمان لأنَّهُ حامض، فالمورد هو الرّمان ولكن التعليل بالحموضة عام، فيثبت الحرمة للرمان ولغيره أيضاً.

إنْ قُلتْ: إذا كان المورد الواقعي خاصاً فلماذا عمم المورد في اللفظ ؟

قُلتْ: لغلبة الحموضة فيه. فالموضوع الواقعي: لا تأكل الرمان الحامض، وإنّما لم يقُل: لا تأكل الرمان الحامض، ولم يقيد تقييداً لفظياً، اعتماداً على الغلبة الخارجية، أو لأنَّه محلّ ابتلائه، أو لبيان العلية، أي لغلبة الحموضة، أو لعلية الحموضة.

فلو قال المولى: لا تأكل الرمان الحامض لكان بياناً للموضوع ولا يفيد العلية، أمّا قوله: لا تأكل الرمان لأنَّهُ حامض فهو بيان للموضوع وبيان للعلة.

المثال الثاني: المورد الواقعي عام ولكن خصص في اللفظ، كما لو قال: لا تأخذ الأدوية التي تصفها لك النساء؛ لأنّك لا تؤمن ضررها. فإذا وصفه رجل جاهل فيشمله الحكم؛ لأنَّهُ أعمُّ من المورد اللفظي؛ لأنَّ العلة تعمم المورد، فالموضوع الواقعي أعمُّ من النساء.

ولا يخفى أنَّ المثال الأوّل يكفي لإفادة الجهتين، ففي قوله: لا تأكل الرمان لأنَّهُ حامض، يفيد التعليل التعميم لغير الرمان من أنواع الحمضيات، ويخصص الحكم بالرمان الحامض، فلا يشمل الرمان غير حامض، فهو يعمّم من جهة ويخصص من جهة اُخرى.

وعلى كل، فللجملة ظهور في تبعية الحكم للتعليل، فيكون أعمُّ من المورد لعموم العلة، كما أنَّهُ أخصّ من المورد بخصوص العلية.

إذا تمّت هذه الكبرى - وهي ثابتة عرفاً- نأتي إلى ما نحن فيه: فإنَّ مورد

ص: 129

الآية - خبر الفاسق - خاصّ، لكن العلة عامة ومشتركة بين خبر الفاسق وخبر العادل، فيعم الحكم - تبينوا - خبر الفاسق والعادل.

إنْ قُلتْ: لا نسلم تقدم ظهور العلة على مفهوم الجملة الشرطية.

قُلتْ: لا أقل من التعارض فيما بين الاثنين، فنبقى بلا دليل.

وهذا الإشكال ذكره الشيخ الطوسي في العدة(1)، وابن زهرة في الغنية(2)، والمحقق الحلي في المعارج(3)، والطبرسي في مجمع البيان(4)، والشيخ الأعظم في الفرائد.

وقال الأخير(5): إنَّ هذا أحد الإشكالين الذين لا يمكن دفعهما في دلالة الآية على حجّية الخبر الواحد.

ما أجيب به عن الإشكال الأول
اشارة

وقد نوقش إشكال الشيخ بعدة أجوبة:

الجواب الأول: حكومة المفهوم على عموم التعليل
اشارة

وهو ما أفاده المحقق النائيني(6):

المفهوم حاكم على عموم التعليل، ومع الحكومة لا تعارض بينهما.

أمّا الكبرى - انتفاء التعارض مع الحكومة - فلأن دليل المحكوم ليس

ص: 130


1- العدة في أصول الفقه 1: 113.
2- الغنية: 475.
3- معارج الأصول: 146.
4- مجمع البيان 9: 221.
5- فرائد الأصول1: 258-262.
6- فوائد الأصول 1: 559، 3: 172.

ناظراً إلى ثبوت أو انتفاء موضوعه، بل يرتب المحمول في فرض وجود الموضوع على نحو القضية الحقيقية، يعني لو فرض وجود هذا الموضوع فحكمه كذا، فهذا مفاد دليل المحكوم(1).

ومفاد الدليل الحاكم أنَّهُ ناظر إلى عقد الوضع في الدليل المحكوم إمّا توسعة بإدخال ما ليس داخلاً، أو تضييقاً بإخراج ما ليس خارجاً، فالدليل الحاكم يقول: هذا فرد من أفراد موضوع الدليل المحكوم، ولا تعارض ولا تنافي بين لسان الدليلين.

مثال: الدليل المحكوم قوله: الربا حرام، والدليل الحاكم: لا ربا بين الوالد وولده، بمعنى عدم كونه فرداً من أفراد الموضوع، هذا في الإخراج.

وأمّا مثال الإدخال: الدليل المحكوم: الخمر حرام، والدليل الحاكم: الفقاع خمر، بمعنى كونه فرداً من أفراد الموضوع، ولا منافاة بينهما.

وما نحن فيه، مفاد التعليل كل ما ليس علماً وكل ما هو جهالة يجب التبين عنه. ومفاد المفهوم في الجملة الشرطية حجّية خبر العادل، ومعنى الحجّية جعل الكاشفية والطريقية والمحرزية والوسطية، أي إنّني أعتبر خبر العادل علماً.

وعليه، فمفهوم الجملة حاكم على عموم التعليل، فإنَّ مؤدى عموم التعليل وجوب التبين عن كل ما ليس علماً، ومؤدى مفهوم الجملة الشرطية أنَّ خبر العادل علم، منتهى الأمر أأنَّهُ علم تعبدي، فلا تعارض بينهما، بل يقدم الدليل الحاكم.

ص: 131


1- كما أنَّ سائر الأدلة لا تنظر إلى موضوعها نفياً أو إثباتاً (منه (رحمه اللّه) ).

فما فُرض من وجود التعارض بين عموم التعليل ومن مفهوم الجملة الشرطية غير تام، بل مفهوم الجملة الشرطية حاكم على عموم التعليل، والنتيجة حجّية خبر العادل.

ما أورد على الحكومة

وقد أورد على ما ذكره المحقق النائيني من الحكومة إيرادات:

الإيراد الأوّل: عدم تمامية المبنى، فليس معنى الحجّية جعل العلية والطريقية والكاشفية، بل بمعنى وجوب الجري العملي، فقوله: لا تتبينوا، يعني يجب عليكم الجري وفقه، ولم يظهر من الأدلة كونه علماً تعبداً أو كاشفاً، وقد مرّ البحث في ذلك، فلا تكون دعوى الحكومة تامّة.

الإيراد الثاني: إنَّ حكومة المفهوم على عموم التعليل فرع ثبوت المفهوم، فإنَّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، وعموم التعليل مانع عن ثبوت المفهوم، فلا تتم الحكومة، وخاصة لو لوحظ كون القرينة متصلة، ومثلها يمنع ظهور الكلام في المفهوم.

وقد ناقش فيه المحقق النائيني(1) متأملاً في الشق الثاني - عموم التعليل مانع عن انعقاد المفهوم - بما توضيحه: إنَّ منشأ المانعية توهّم المعارضة بين عموم التعليل وانعقاد المفهوم ليس إلا، والحكومة رافعة للمعارضة؛ لأنَّها لا تتصرف في عقد الحمل، وإنّما تتصرف في عقد الوضع. وإذا كان الدليل الحاكم يتصرف في عقد حمل الدليل المحكوم لتنافي الحكمان، ولكن الدليل الحاكم يتصرف في عقد وضع الدليل المحكوم، والدليل المحكوم

ص: 132


1- فوائد الأصول 3 : 173.

غير ناظر لعقد الوضع لا إثباتاً ولا نفياً.

فالدليل المحكوم بلحاظ عقد الوضع لا يقتضي شيئاً، والدليل الحاكم بلحاظ عقد وضع الدليل المحكوم يقتضي إمّا الوضع أو الرفع، ولا تنافي بين المقتضي واللامقتضي.

وعليه، فلا وجه للمانعية إلا توهّم المعارضة، والحال أنَّ الحكومة ترفع المعارضة.

الإيراد الثالث: ما أورده في النهاية على ما ذكره المحقق النائيني من الحكومة، قال: «وأمّا حكومة المفهوم المعلل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت لحجّية خبر العادل حتى يرتفع به الجهالة تنزيلاً فهو دور واضح»(1).

والظاهر أنَّ مراده(2):

أولاً: إنَّ الحكومة تتوقف على عدم مانعية المنطوق، أي أنَّ حكومة المفهوم على عمومية التعليل متوقفة على عدم مانعية المنطوق، فإذا كان المنطوق - عموم التعليل - مانعاً، فلا ينعقد مفهوم الجملة الشرطية.

ثانياً: وعدم مانعية المنطوق يتوقف على الحكومة؛ لأنَّهُ هو المدعى، فمدعى المحقق النائيني - أنَّ المنطوق لا يمنع من المفهوم لحكومته عليه - يستلزم توقف الحكومة على الحكومة.

ولكن ذكره بعض المعاصرين(3) على نحو الدور المضمر بنفس المؤدى

ص: 133


1- نهاية الدراية 2: 200.
2- ببيان منّا على نحو الدور المصرح (منه (رحمه اللّه) ).
3- تمهيد الوسائل 3: 155.

أو ما يقاربه:

1- حكومة المفهوم متوقفة على وجود المفهوم.

2- وجود المفهوم متوقف على عدم انعقاد عموم التعليل؛ لأنَّ عموم التعليل - الإصابة بجهالة - مانع عن وجود المفهوم؛ للتعارض بين وجود المفهوم وبين انعقاد عموم التعليل.

3- وعدم انعقاد عموم التعليل متوقف على حكومة المفهوم. وهو مدعى المحقق النائيني، وتكون النتيجة: توقف حكومة المفهوم على حكومة المفهوم.

وقد أشكل بعض المعاصرين على هذا البيان بعدم ورود الدور(1)، قائلاً: «إنَّ عدم انعقاد العموم للتعليل(2) متوقف على وجود المفهوم(3)،

لكن حكومة المفهوم لا تتوقف على عدم انعقاد عموم التعليل، بل تتوقف على انعقاده(4)، فإن المفهوم رافع لموضوع التعليل، ومع حكومة المفهوم على التعليل يرتفع الإشكال»(5).

وبعبارة أٌخرى: ما قلتم من أنَّ حكومة المفهوم متوقفة على عدم انعقاد عموم التعليل بمقتضى الشق الأوّل والثاني غير تام، لأنَّ حكومة المفهوم متوقفة على انعقاد نفس المفهوم، لا على عدم انعقاد عموم التعليل.

ص: 134


1- لكن عباراته لا تتطابق مع الدور المذكور، ولكن المفاد واضح (منه (رحمه اللّه) ).
2- أي: الإصابة بجهالة.
3- كان الأولى أن يقول: لحكومة المفهوم، حتى يتطابق الإشكال مع الدور (منه (رحمه اللّه) ).
4- أي: على وجود المفهوم.
5- تمهيد الوسائل 3 : 155.

لكن الظاهر عدم تمامية الإشكال؛ وذلك لتوقف انعقاد المفهوم على وجود المقتضي وهو الوضع اللغوي، وعدم المانع وهو عدم انعقاد عموم التعليل، فإنَّ لظهور الجملة الشرطية في المفهوم مقوّمين:

1- وجود المقتضي وهو الوضع اللغوي.

2- عدم المانع؛ حيث قد تدل الجملة الشرطية على المفهوم في حدّ ذاتها، ولكن يمنع مانع من هذا الظهور.

وعموم التعليل - فيما نحن فيه - مانع من ظهور الجملة الشرطية في المفهوم؛ ولذا نضطر - لتتميم الجواب - أنْ نتمسك بجواب المحقق النائيني عن الإشكال الثاني، وهو وجه المانعية وجود المعارضة، ومع الحكومة ترتفع المعارضة.

وعليه، فالمقتضي - الوضع اللغوي - موجود، والمانع - انعقاد عموم التعليل - مفقود(1)،

فما ذكره المحقق الإصفهاني من الدور غير واضح.

الإيراد الرابع(2): إنَّ الحكومة متصورة بلحاظ الشق الأوّل للتعليل دون الشق الثاني، فلو كان التعليل في آية النبأ الإصابة بجهالة، لأمكن القول بحكومة المفهوم على عموم التعليل، ولكن تتمة الآية: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} تشير إلى معرضية الوقوع في الندم، وهي مشتركة بين خبر العادل والفاسق، ودليل حجّية الخبر الواحد - المفهوم - ليس حاكماً على هذا الشق: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

ص: 135


1- وجه المانعية: المعارضة، والحكومة رافعة للمعارضة.
2- على حكومة المحقق النائيني (رحمه اللّه) .

وبعبارة أُخرى: يمكن القول: إنَّ المفهوم حاكم على الشق الأوّل - الإصابة بجهالة - فإنَّ مفاد المفهوم: إنَّ خبر العادل علم تعبداً وليس بجهالة، لكنه غير حاكم على (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فالحكومة غير تامة.

وبعبارة مختصرة: الشق الثاني من التعليل مشترك بين خبر الفاسق والعادل، فلا يكون خبر العادل حجّة بمقتضى الشق الثاني من التعليل.

ويرد عليه: ما ذكره في المصباح(1) وحاصله: إنَّ الندم نوعان:

الأوّل: الندم من الوقوع في مخالفة الواقع مع العمل بالوظيفة الشرعية، كالإقدام على قتل محقون الدم اعتماداً على البينة الشرعية، وذلك يورث الندم.

الثاني: الندم الحاصل من الوقوع في مخالفة الواقع مع عدم العمل بالوظيفة الشرعية، كأنْ يخالف البينّة فيقع في مخالفة الواقع، كالتزويج بالأخت من الرضاعة بعد قيام البينة على الرضاعة.

وليس المراد من الآية الندم بمعناه الأوّل؛ وإلا لعمّت العلّة جميع الأمارات والحجج؛ لاحتمال الوقوع في خلاف الواقع اعتماداً عليها(2).

وعليه، إنَّ قُلتُم: الندم بالمعنى الأول علّة عدم العمل بخبر الفاسق؛ فمقتضاه إلغاء جميع الحجج الشرعية، فيكون المراد من الآية النوع الثاني من الندم، أي الندم الحاصل من مخالفة الواقع مع عدم العمل بالوظيفة الشرعية، وعدم كونه معذوراً واستحقاقه للعقاب، فهو علّة عدم حجّية خبر

ص: 136


1- مصباح الأصول 2: 164.
2- بل حتى في العلم الوجداني إلا أنَّهُ حين القطع لا يحتمل هذا الاحتمال (منه (رحمه اللّه) ).

الفاسق، وهذه العلّة غير موجودة في العمل بخبر العادل على فرض الحجّية.

وببيان آخر أقرب إلى الآية الكريمة: إنَّ التعليل في الآية ليس الندم حتى يقال إنَّهُ نوعان، بل العلّة الندم المتفرع على إصابة القوم بجهالة بدليل فاء التفريع، ومع الحكومة فالمتفرع عليه مرتفع. فإنَّ مؤدى الحكومة: إنَّ العمل بخبر العادل ليس إصابة القوم بجهالة، بل هو علم تعبداً، فلا مجال للمتفرع: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

والحاصل: العلّة هي الندم المتفرع على الإصابة بجهالة، ومع اعتبار الخبر الواحد علماً تعبداً فلا إصابة للقوم بجهالة، فلا وجود لما تفرع عليه.

الإيراد الخامس: ما نُسب إلى المحقق العراقي(1) (2):

إنَّ مفهوم الحكومة يتحقق بكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم، وشارحاً له بلحاظ الأثر الثابت للمحكوم. والحكومة تارة تثبت الموضوع بلحاظ إثبات الأثر، مثال: الفقاع خمر، فهذا الدليل الحاكم يثبت الموضوع، لغرض إثبات الحكم (الحرمة).

وتارة تنفي الموضوع لغرض نفي الحكم مثل:(لا ربا بين الوالد و ولده).

والحاصل: إنَّ الحكومة نفي أو إثبات الموضوع لغرض نفي الحكم أو إثباته، ولا يمكن تصور هذا المعنى في المقام؛ لأنَّ النفي وارد على نفس الحكم ولم يرد على الموضوع، فقوله: إنْ جاءكم عادل فلا تتبّينوا، ينفي الحكم وهو وجوب التبين الثابت في المنطوق، والمفروض في الحكومة

ص: 137


1- على اضطراب في العبارة، ولا يهمّنا البحث عن ثبوت النسبة إليه (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الأفكار 3: 115.

نفي أو إثبات الموضوع بغرض نفي أو إثبات الحكم، لا نفي أو إثبات الحكم مباشرة.

فالمقام ليس مقام الحكومة، بل مقام التخصيص، والتخصيص متعذر في المقام لما تقدم.

وفيه ما يخطر بالبال: إنَّ الحكومة بشقيها - إثباتاً ونفياً للموضوع - أعمُّ من كون مدلولها مدلولاً مطابقياً أو مدلولاً التزامياً. فيمكن أنْ يدل الكلام على الحكومة بالدلالة المطابقية، ك- : «لا ربا بين الوالد وولده». ويمكن أنْ يدل على الحكومة بالدلالة الالتزامية، كما هو مدعى المحقق النائيني في المقام. فالمفاد المطابقي للمفهوم عدم وجوب التبين لخبر العادل.

والمدلول الالتزامي للمفهوم: إنَّ الشارع جعل خبر العادل علماً (لا تتبينوا) لأنَّهُ مُبين، فإنَّ التبين إنَّما يكون عن غير المبين، والخبر العادل مبين شرعاً. فالحكومة والتصرّف في عقد الوضع لعموم التعليل إنِّما يكون بالدلالة الالتزامية.

الإيراد السادس: لا بدَّ في الحكومة من كون التصرّف في موضوع دليل المحكوم بلحاظ الأثر الشرعي، واعتبار شيء علماً لا أثر شرعي له.

وفيه: إنَّهُ واضح الاندفاع؛ فلا يشترط في الحكومة وجود الأثر الشرعي، بل يكفي الأثر العقلي، والعلم له أثر عقلي وهو المنجزية والمعذرية، مضافاً إلى أنَّ الجعل له أثر شرعي، وهو جواز الإخبار عنه على تأمّل فيه.

الإيراد السابع: إنَّ الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية، فتكون الدلالة الالتزامية متأخّرة عن الدلالة المطابقية، ولا يمكن أنْ يكون المتأخّر حاكماً على المتقدم.

ص: 138

ومفهوم آية النبأ مدلول للدلالة الالتزامية، فتكون متأخّرة عن المنطوق المعلل، فكيف يصح أنْ يكون المتأخّر حاكماً على التعليل المذكور في مرتبة المنطوق؟!

وأُجيب عنه: بأنَّ التأخّر نوعان: تأخّر في عالم الإثبات، وتأخّر في عالم الثبوت، وكشف وجود المدلول الالتزامي متأخّر عن المدلول المطابقي إثباتاً، وأما في عالم الثبوت فلا تقدم ولا تأخّر بين المفهوم والمنطوق.

وبعبارة أوضح: حجّية خبر العادل ليس متأخّراً في عالم الثبوت عن عدم حجّية خبر الفاسق، وإنِّما هُما في عرض واحد بلحاظ عالم الثبوت، والحكومة لا ترتبط بمقام الإثبات وإنِّما بمقام الثبوت(1).

ص: 139


1- وللتوضيح أكثر نقول: لو انعقد شيء وتفرّع عليه شيء آخر، فلا يعقل أنْ يتصرّف المتفرّع في المتفرع عليه. فلو فرض أنَّ الحكومة ارتبطت بمقام الإثبات، فيكون المدلول الالتزامي متأخّراً عن المدلول المطابقي، حيث يتحقق المدلول المطابقي أولاً، ثم يتحقق المدلول الالتزامي، ولا يعقل أنْ يتصرّف فيه. وليس البحث في التقدم والتاخّر الزماني، بل الرتبي، هذا إثباتاً. فإذا ربطنا الحكومة بمقام الإثبات فما يتفرّع على شيء وجوداً لا يعقل أنْ يتصرّف فيه توسعة أو تضييقاً، كأن يتصرّف الابن في وجود الاب، ويتصرّف المعلول في وجود العلّة بانْ يكون المعلول مضيقاً أو موسعاً لوجود العلّة. والجواب: ما ذكر تام في مرحلة الإثبات، وأمّا في مرحلة الثبوت فيمكن أنْ يكون للشارع حكمان في مرتبة واحدة، والحكومة لا ترتبط بمقام الإثبات، بل بمقام الثبوت. وبعبارة اُخرى: لا يمكن تصوّر وجود علّة ويتفرّع عليها وجود المعلول، ثم يتصرّف المعلول في وجود العلّة توسعة وتضييقاً، إلا إذا كان ذلك في مقام الثبوت، والكاشف عنه مقام الإثبات، ولا يفرّق في العلّة بين كونه تامّاً ليكون تقدمه بالعلّية أو ناقصاً ليكون تقدمه رتبياً.

الإيراد الثامن: كما أنَّ المفهوم يجعل خبر الواحد العادل علماً، كذلك عموم التعليل ينفي العلمية عن خبر العادل، فمفاد (أنْ تصيبوا) نفي كون خبر الواحد علماً على الحكومة. فهاهنا حكومتان متضادتان، ومع تضاد الجعلين لا يمكن حكومة المفهوم على عموم التعليل، كما ذهب إليه المحقق النائيني(1).

الإيراد التاسع: ما ذكره في المنتقى، وهو: المتحقق في المقام هو التحاكم لا الحكومة(2).

وتوضيحه: إنَّ العلِّة تتصرّف في المعلل على نحو التضييق أو التوسعة؟ فقوله: «لا تأكل الرمان لأنَّهُ حامض»، التعليل يتصرّف في لا تأكل الرمان إمّا توسعة أو تضييقاً، ولأنَّ الشرط موضوع المفهوم، فالعلة مع تصرّفها في الشرط تتصرّف في المفهوم، فيتحقق التحاكم بين المنطوق والمفهوم. فإنَّ المفهوم يتصرّف في التعليل بمقتضى كلام المحقق النائيني، والتعليل يتصرّف في الشرط (موضوع المفهوم)، فكل من الشرط والتعليل يتصرّف في موضوع الآخر، فيحدث التحاكم بين المفهوم والتعليل، وتتعارض الحكومتان وتتساقطان.

ص: 140


1- إن قلت: إن مفاد الحكومة الثانية تحصيل للحاصل. قلت: إنّهُ انتفاء تشريعي للتأكيد أو لغيره من الأسباب، وذلك كالبراءة الشرعية مع وجود البراءة العقلية، فهو تأسيس ورافع لموضوع البراءة العقلية، وأثره الاستناد إلى البراءة الشرعية لا العقلية، أي تحويل الاستناد (منه (رحمه اللّه) ).
2- منتقى الأصول 4: 269.

وفيه: إنَّ مقتضاه إلغاء المفهوم وانقلابه إلى مفهوم آخر، فلا تحاكم وإنَّما هي حكومة التعليل فقط.

توضيحه: إذا قُلنا: إنَّ التعليل يتصرّف في الجملة الشرطية توسعة وتضييقاً، ففي الواقع موضوع الجملة الشرطية ليس مجيء الفاسق بالنبأ، وإنَّما هو أعمُّ منه من جهة وأخصّ منه من جهة، أمَّا كونه أعمُّ، فلأنَّ مقتضى التعليل شمول الحكم لخبر العادل أيضاً، وأمّا كونه أخصُّ منه؛ فلعدم شمول الحكم لخبر الفاسق العلمي.

وعليه، فالمعلل الواقعي يكون مآله إلى: إن جاءكم نبأ غير علمي فتبينوا، وهو أعمُّ من خبر الفاسق من جهة، وأخصُّ منه من جهة أُخرى، كقوله: لا تأكل الرمان لأنَّهُ حامض، فبمقتضى التعليل يخرج الرمان الحلو ويدخل البرتقال الحامض، وينقلب الموضوع مآلاً إلى لا تأكل الحامض.

وفيما نحن فيه - إنْ جاءكم عادل بنبأ فلا تتبينوا - يكون المنطوق: إنْ جاءكم خبر غير علمي فتبينوا، والمفهوم: إنْ جاءكم خبر علمي فلا تتبّينوا.

وعليه، فيلغى المفهوم المعهود فلا تحاكم أصلاً، ولا تبقى الحكومة إلا من جهة واحدة، وهي حكومة التعليل على الشرط، لا حكومة التعليل على المفهوم؛ لعدم بقاء مفهوم حتى يكون محكوماً.

وهذا مطلب هامّ، فلو ثبت ذلك لأمكن المصير إلى إلغاء المفهوم من جميع الجمل الشرطية المعللة.

مثلاً: لو قال: إنْ جاءك زيد فأكرمه، فمفهومه البدوي: إنْ لم يجئك فلا يجب إكرامه. فإذا عُللت الجملة الشرطية ب- (لأنَّهُ متقٍ) يتمَّ إلغاء المفهوم؛ للعلم بعدم كون المجيء علّة أو جزء العلِّة لوجوب الإكرام، ويكون الشرط

ص: 141

في الواقع: إنْ كان زيد متقياً فأكرمه، هذا أولاً.

وثانياً: إنَّهُ خروج عن مصطلح الحكومة؛ لأنَّ الشرط ليس موضوعاً للمفهوم، وإنَّما هو أصل لانتزاع المفهوم، كما هو أصل العكس المستوي، والعكس النقيض وما أشبه.

هذا تمام الكلام في ما ذهب إليه من الحكومة.

وحيث إنَّ بعض المناقشات تامّة، كالأولى والثانية، فجواب المحقق النائيني بحكومة المفهوم على عموم التعليل غير واضح.

الجواب الثاني: معنى الجهالة
اشارة

ما أشار إليه الشيخ، وتبناه صاحب الكفاية، حيث قال: «ولا يخفى أنَّ الإشكال إنّما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أنَّ دعوى أنَّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي من العاقل غير بعيدة»(1).

وبعبارة أوضح: للجهالة معنيان: الجهالة النظرية والجهالة العملية، أي العمل السفهي والسفهائي. والجهالة في الآية بمعنى الجهالة العملية.

ومفاد التعليل في الآية: «أنْ تصيبوا قوماً بسفاهة» لا ينطبق على العمل بخبر العادل، بل تدور عليه رحى الحياة حسب قول الأصوليين، فلا يبقى إلا المفهوم.

ويرد عليه إشكالات

الاشكال الأوّل: إنَّ تمامية الجواب مبنية على عمل العقلاء بخبر العادل

ص: 142


1- كفاية الأصول: 297.

بما هو عادل لا بما أنَّهُ ثقة.

توضيحه(1):

إنْ كانت النسبة بين العادل والثقة العموم المُطلق - بمعنى كون كل عادل ثقة دون العكس - يكون كلام المحقق النائيني تامّاً. وإنْ كانت النسبة العموم من وجه فالإشكال غير وارد؛ لأنَّ بعض العادل ثقة، وبعض الثقة غير عادل، كالثقة الحالق للحية، وبعض العادل غير ثقة لبساطته - مثلاً - أو لكونه قطاعاً، أو لكونه يطمئن حتى عن الرؤيا، أو لكونه يضع الأخبار؛ لاعتقاده بكونه وظيفته، كما في قوله: «ما كذبت عليه، وإنما كذبت له»(2)، فالعدالة أنّ لا يخالف معتقده، لا أنْ لا يخالف الواقع.

نعم، الغالب أنَّ كل عادل ثقة لكنه غير مطلق، فلا يمكن القول: إنَّ كل عادل لا يعتبر العمل بخبره سفاهة، بل كل عادل ثقة لا يعتبر العمل بخبره سفاهة. فالمحور الوثاقة لا العدالة.

الإشكال الثاني: بعد مراجعة كتب اللغة لم نجد ورود الجهالة بمعنى السفاهة، بل بمعنى عدم العلم، أي الجهالة النظرية.

والجواب من وجوه:

أولاً: إذا فرضنا أنَّ المتبادر من هذه اللفظة في الآية المباركة هو الجهالة العملية، فلا يقدح عدم ورودها في كتب اللغة في الظهور، وقد مرَّ تفصيله

ص: 143


1- ولم أر من تعرّض له في المقام، بل تعرضوا له في الإجتهاد والتقليد من الفقه بمناسبة أُخرى (منه (رحمه اللّه) ).
2- مستدرك الوسائل1: 12؛ الغدير 5: 276.

في مباحث حجِّية قول اللغوي، فراجع(1).

ثانياً: لو تتبعنا موارد الجهل والجهالة في القرآن أمكن الادعاء بأنَّ الجهالة اُستعملت بمعنى الجهالة العملية.

وبعبارة أُخرى: نُفسّر آية النبأ بسائر آيات القرآن: قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يتُوبُ اللّهُ عَلَيهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً}(2).

فيمكن دعوى كون المقصود من الجهالة الجهالة العملية، فإنَّ الجهالة النظرية لا توبة فيها، إلا إذا كان مقصّراً في المقدمات، فعدم العلم ليس مورداً للتوبة.

ص: 144


1- وقد مضى أنَّ اللغوي يتتبع موارد الاستعمال ويثبتها بالمقدار الذي وصل إليه، وعليه فيمكن أنْ يكون هنالك معنى آخر، أو يكون المعنى الواقعي أعّم ولكن لم يصل إليه اللغوي، اللَّهُمَ إلا أنَّ يُقال: إنَّ اللغوي لا يغفل. مثال: يقول اللغوي، البيع: مبادلة مال بمال، ولكن المعنى الواقعي أعمُّ، فعدم ذكر اللغوي لا يقدح في ذلك، لغفلته أو لعدم العثور عليه، فكم ترك الأوّل للآخر، فإذا رأينا أنّ البيع - عرفاً - مبادلة حقّ بمالٍ - كبيع حقوق الطبع - فهو بيع أيضاً لتبادره ولا ينافيه عدم ذكر اللغوي. مثال آخر: لو قالوا في الكنز إنَّهُ المال المذخور في الأرض، فلو كان مذخوراً في الجدار وتبادر كونه من مصاديق الكنز، فهل يعتمد على ضيق التفسير عند اللغوي، أو على العموم للفهم النوعي العرفي الفعلي؟ وهكذا في المقام، فللجهالة معانٍ متعددة، لكن اللغويين لم يضبطوا أحد المعاني في هذه الآية، فتخيلوا أنَّ المراد الجهالة النظرية. فالمتبادر في الآية - لا مطلقاً، حيث هنالك تبادران باختلاف المواقع - هو المعنى الثاني، فغفلوا عن استخدام كلمة الجهالة في الجهالة العملية (منه (رحمه اللّه) ).
2- النساء: 17.

وقال تعالى: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1). بنفس التقرير السابق.

وقوله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).

وكذا في كلمة الجهل وما أشبه، قال عزّ وجلّ: {فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(3).

وقال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(4). فهل كان فعل قوم لوط جهالة عملية أم جهالة نظرية؟

وكذا قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}(5). فهل الجهالة هنا مقابل العلم أم بمعنى السفاهة؟

وهكذا في قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}(6). فإذا كان الجاهل بمعنى عدم العلم، لكان الجواب: أرشدوهم لا سلاماً.

وقال عز من قائل: {قُلْ أَفَغَيرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيهَا الْجَاهِلُونَ }(7).

ص: 145


1- الأنعام: 54.
2- النحل: 119.
3- الأعراف: 128.
4- النمل: 55.
5- يوسف: 89.
6- الفرقان: 63.
7- الزمر: 64.

وقال سبحانه: {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(1).

فيدل على كون المستهزئ جاهلاً.

وفي قوله تعالى - حكاية عن يوسف الصديق (عليه السلام) - :{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}(2).

فهل المقصود عدم العلم؟

وفي كلام اللّه لنوح (عليه السلام): {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(3). فهل المقصود الجهالة النظرية؟

ثالثاً: اُستعملت الجهالة في الشعر العربي في الجهالة العملية، كقول عمرو بن كلثوم(4):

ألا لا يجهلن أحد علينا***فنجهل فوق جهل الجاهلينا(5)

رابعاً: وقد ورد ذلك في كتب اللغة أيضاً، فقد قال الرّاغب في المفردات: «الجهل على ثلاثة أضرب... الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقّه أنْ يفعل»(6). ثم استشهد بقوله تعالى: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}.

خامساً: سلمنا عدم استخدام الجهالة بمعنى السفاهة، لكنها اُستخدمت بمعنى يلازم السفاهة، كقول الرجل لابنه: لا تكن جاهلاً، أي لا تعمل عمل

ص: 146


1- البقرة: 67.
2- يوسف: 33.
3- هود: 46.
4- المذكور في المعلقات وفي كتب النحو والبلاغة (منه (رحمه اللّه) ).
5- لسان العرب 3: 177.
6- مفردات غريب القرآن: 102.

الجاهلين، أي لا تكن مثله، وهذا المعنى يلازم السفاهة وإنْ لم يكن عينه.

وبعبارة أُخرى: سلمنا أنَّ الجهالة في اللغة بمعنى واحد، وهو الجهالة النظرية، إلا أنّنا حينما نقول لا تكن جاهلاً نقصد لا تكن مثل الجاهل، أي لا تعمل عمل الجاهل بالجهالة النظرية، وهذا ملازم لمعنى الجهالة العملية، أي السفاهة.

فتحصّل أنَّ الإشكال الثاني فيه نظر.

الإشكال الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم وهو: «إنَّ الإقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهة قطعاً؛ إذ العاقل، بل جماعة من العقلاء، لا يقدمون على الأمور من دون وثوق بخبر المخبر بها»(1).

فإذا كان ترتيب الأمر على قول الفاسق سفاهة، وكان معنى الآية: أنْ تصيبوا قوماً بسفاهة، فإنَّ العاقل لا يقدم على العمل السفهائي، فكيف بجماعة من العقلاء؟

وعليه، فالمنهي عنه في الآية هو العمل العقلائي من دون حصول العلم، لا العمل السفهائي؛ حيث إنَّ ظاهر التعليل هو التعليل بأمر عقلائي لا تعبدي.

والحاصل: لا يمكن حملها على السفاهة في نظر الشارع، وإنّما هي السفاهة العقلائية.

وقد أجيب عنه بأجوبة ثلاثة:

الأوّل: ما ذكره (رحمه اللّه) (2): إنَّ ضرورية الكبرى لا تلازم ضرورية الصغرى،

ص: 147


1- فرائد الأصول 1: 120.
2- فرائد الأصول 1: 120.

فالكبرى في المقام: الإقدام على العمل السفهائي قبيح. والصغرى: إنَّ هذا العمل والإقدام عمل سفهائي.

ويمكن القول: إنَّ أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع التفاتهم إلى الكبرى لم يلتفتوا إلى الصغرى(1)؛ لعدم علمهم بفسق الوليد مثلاً وحُسن ظنّهم به، واللّه قد نبههم على الصغرى، وهي كون هذا العمل والإقدام بخصوصه عملاً سفهائياً ؛ لأنَّ الوليد رجل فاسق، فلا مانع من حمل الجهالة في الآية على معنى السفاهة، وذلك مثلما لو تصوّر كون زيد صادقاً، وأراد ترتيب الأثر على خبره، فيقال له: لا تفعل إنَّهُ كاذب، والإقدام على ترتيب الأثر بخبر الكاذب سفهائي(2).

وحاصله: لا مانع من حمل الجهالة على السفاهة، ولا مانع من إقدام أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على عمل سفهائي، لجهلهم بالصغرى.

الثاني: ما في المصباح(3): على فرض كونهم عالمين بالصغرى إلا أنَّهُ من الممكن أنْ يقدم العاقل على عمل سفهي غفلة(4).

فلا مانع من أنَّ أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أقدموا على عمل سفهائي، وقد ردعهم اللّه عن ذلك، كمن يردع صاحبه وهو عاقل عن ضرب ابنه.

ص: 148


1- أي: إن ترتيب العمل على خبر الوليد عمل سفهائي.
2- إن قلت: فلماذا لم تذكر الصغرى في الآية؟ قلنا: لو ذكرت القضية الجزئية في الآية لكانت تنتهي بانتهاء وقتها، ولكن اللّه بيّن ذلك في ضمن الكبرى الكلية، حتى لا يتنافى مع كون القرآن يجرى مجرى الشمس والقمر (منه (رحمه اللّه) ).
3- مصباح الأصول 2: 163.
4- أو تحت تأثير القوة الغضبية أو الشهوية (منه (رحمه اللّه) ).

الثالث(1): إنَّ صحابة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكونوا معصومين، وغير المعصوم قد يرتكب العمل السفهائي، بل قد يرتكب المحرّم الشرعي عالماً عامداً، وذلك كفرارهم من حرب أحد، وتعريض النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للقتل، وهو عصيان صريح، وقد أشار إليه القران الكريم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}(2).

وكان بعضهم يردُّ على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكل صراحة، وقد قال أحدهم: إن الرجل ليهجر(3).

وفي السفر حيث أمرهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإفطار لم يفطروا، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أولئك العصاة»(4).

ولا مانع من إقدام بعض أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على عمل لعداوة أو غضب، وخاصة في المسائل الاجتماعية، حيث النزاعات، وقد ورد «لا يستطيع أن يتقي اللّه من يخاصم»(5).

الرابع: لو كان معنى الجهالة السفاهة، فكيف همَّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بغزوهم؟ فهمّه بغزوهم ينافي حمل الجهالة على السفاهة.

وفيه: أوّلاً: إنَّهُ ينافي المعنيين، سواء أكانت الجهالة بمعنى السفاهة أم بمعنى الجهالة النظرية، فالإشكال مشترك الورود، فتأمّل.

ص: 149


1- وربما يكون مآله إلى الثاني (منه (رحمه اللّه) ).
2- آل عمران: 154.
3- بحار الأنوار 30: 466؛ الغدير 5: 340؛ عمدة القاري 14: 298؛ فتح الباري 8: 101.
4- مستدرك الوسائل 7: 382.
5- بحار الأنوار 72: 150.

ثانياً: ما ذكره الوالد (رحمه اللّه) أنَّهُ لم يدل دليل على همّه بقتالهم، بل الذي يظهر من القرائن أنَّ جملة من أصحابه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) همّوا بذلك.

ثالثاً: ولو فُرض أنَّهُ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) همَّ، فلعله كان تظاهراً لا جداً، كقضية مارية القبطية.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل على الاستدلال بآية النبأ.

الإشكال الثاني: التعارض بين مفهوم آية النبأ والآيات الناهية عن العمل بغير العلم
اشارة

الإشكال الثاني على الاستدلال بآية النبأ على حجية الخبر الواحد، هو: وجود التعارض بين مفهوم آية النبأ وعموم الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1).

ولبيان التعارض تقريرات ثلاثة:

الأوّل: تعميم المفهوم للعلمي.

الثاني: تقييد الآيات الناهية بصورة التمكن من العلم.

الثالث: تقييد الآيات الناهية بغير ما ثبتت حجّيته.

تعميم المفهوم للعلمي

التقرير الأوّل: إنَّ المفهوم عام شامل للخبر العادل العلمي وغيره، فتكون النسبة بين المفهوم والآيات الرادعة العموم من وجه.

فمورد افتراق المفهوم: خبر العادل العلمي، والآيات الرادعة لا تشمله،

ص: 150


1- الإسراء: 36.

ومورد افتراق الآيات الرادعة: خبر الفاسق والاعتماد على الأحلام والرؤيا والقياس والاستحسان. ومورد التعارض واجتماع العامين: خبر العادل غير العلمي، كالخبر الذي رواه العدول إلا أنَّهُ لم يورث العلم.

فآية النبأ تحكم بحجّيته، وآية: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} تحكم بعدم حجّيته، فتتعارضان وتتساقطان ويكون المرجع أصالة عدم الحجّية؛ لأنَّ الشك في الحجّية موضوع عدم الحجّية.

وأجاب الشيخ(1) عن ذلك: بأنّ آية النبأ لا عموم لها، لما تقدم من أنَّ المراد بالنبأ النبأ الذي لا يفيد العلم، لقوله تعالى: (فتبينوا)، وأنَّ المتبين لا معنى للتبين عنه، ولقرينة التعليل، فتكون النسبة بينهما العموم المُطلق؛ حيث يكون المفهوم أخصُّ مطلقاً من الآيات الرادعة، فيخصص المفهوم الآيات الرادعة، فإنَّ الآيات الرادعة تقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، والمفهوم يقول: خبر العادل الذي لا يفيد العلم حجّة.

تقييد الآيات الناهية بصورة التمكن من العلم

التقرير الثاني: تقييد الآيات الرادعة بصورة التمكن من العلم(2)، فنقيد عموم: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ب- : (إنْ كنت تتمكن من العلم).

ولم يذكر وجه لهذا التقريب لكنه واضح، وهو: إنَّ الآيات لا تردع عن العمل بغير العلم في صورة عدم التمكن من العلم، لعدم وجود طريق آخر، ففي باب الانسداد نضطر إلى العمل بغير العلم، ففي الواقع الآيات مقيدة

ص: 151


1- فرائد الأصول 1: 254.
2- فرائد الأصول 1: 263.

بصورة الانفتاح، فتكون النسبة بين المفهوم والآيات الرادعة العموم من وجه.

فمورد افتراق الآيات الرادعة: علم الجفر والرمل والاسطرلاب والرؤيا، وخبر الفاسق في صورة التمكّن من العلم، حيث تشملها الآيات الرادعة والمفهوم لا يشملها.

ومورد افتراق المفهوم: خبر العادل في ظرف الانسداد، فيشمله المفهوم و لا تشمله الآيات، لأنَّها مقيدة بصورة الانفتاح، فلا تشمل خبر العادل في صورة الانسداد. ومورد الاجتماع: خبر العادل في ظرف الانفتاح.

وبعد التعارض يتساقطان، فالمرجع أصالة عدم الحجّية.

وأجاب الشيخ(1) عنه: يكفينا ذلك، حيثُ إنَّ مورد افتراق المفهوم خبر العادل في ظرف الانسداد، وبذلك تتمّ حجّية خبر العادل، فإنّنا نعيش في ظرف انسداد باب العلم(2).

تقييد الآيات الناهية بغير ما ثبتت حجّيته

التقرير الثالث: تقييد الآيات الرادعة بغير ما ثبتت حجّيته، كفتوى الفقيه والبينة العادلة، فقوله تعالى: {وَلاَ

تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(3) مقيد بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(4)، أو برواية: «تقوم به

ص: 152


1- فرائد الأصول 1: 263.
2- إلاّ لِمَن كان مثل السيد بحر العلوم، حيث يفتح له باب العلم فرضاً عبر السؤال من المعصوم(عليه السلام)، ويجيبه الامام(عليه السلام) بالحكم الواقعي دون الإحالة إلى الطُرق الظاهرية، إلا أنَّهُ شاذ نادر (منه (رحمه اللّه) ).
3- الإسراء: 36.
4- النحل: 43.

البينة»(1)، فمع أنَّ البينة دليل ظني إلا أنَّه خارج عن عموم الآيات الرادعة.

ومع هذا التخصيص أو التقييد تكون النسبة بين آية النبأ والآيات الرادعة العموم من وجه، ويتعارضان في خبر العادل.

فأمّا مورد افتراق الآيات الرادعة، فهو خبر الفاسق والقياس والاستحسان والمنامات، فإنَّها مشمولة للآيات الرادعة وغير مشمولة للمفهوم.

وأمّا مورد افتراق المفهوم في آية النبأ، فهو فتوى الفقيه والبينة العادلة، فإنَّها مشمولة لآية النبأ وغير مشمولة للآيات الرادعة بعد تقييدها بغير ما ثبتت حجّيته.

وأمّا مورد الاجتماع وتعارض الدليلين، فهو خبر العادل كخبر زرارة في حكم الكر، فالمفهوم يحكم بحجّيته والآيات الرادعة تحكم بعدم حجّيته؛ لعدم كونه علماً، فيتعارض الدليلان في خبر العادل الذي هو محل البحث ويتساقطان، والمرجع أصالة عدم الحجّية.

وأجاب الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «بأن خروج ما خرج من أدلة حرمة العمل بالظن لا يوجب جهة عموم في المفهوم ، لأن المفهوم - أيضا - دليل خاص، مثل الخاص الذي خصص أدلة حرمة العمل بالظن، فلا يجوز تخصيص العام بأحدهما أولاً ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص وبين الخاص الأخير»(2) .

فالآيات الرادعة عامّة وقد خُصصت بتخصيصين:

ص: 153


1- الكافي 5: 313.
2- فرائد الأصول 1: 263.

الأول: فاسألوا أهل الذكر، أي ما يفيد حجّية قول الفقيه.

الثاني: مفهوم أية النبأ، الذي يفيد حجّية إخبار العادل.

ونسبة الخاصين للآيات الرادعة نسبة واحدة، فكيف بدأتم أوّلاً بتخصيص الآيات الرادعة بأدلة حجّية الفتوى أو البينة، وبعد التخصيص لاحظتم نسبة الآيات الرادعة مع مفهوم أية النبأ؟ فهذا ترجيح بلا مرجّح(1).

مثلاً: لو قال المولى: أكرم العلماء، ثُمَّ ذكر خاصين، هما: لا تكرم فسّاق النحويين، ولا تكرم فسّاق العُلماء جميعاً. فمُقتضى الفهم العرفي أنْ نُخصص العام بالمخصصين، ولكن إذا خُصصُّ: (أكرم العلماء) ب- : (لا تكرم فسّاق النحويين) أوّلاً فيكون مفاد العام: (أكرم العلماء غير فسّاق النحويين)، وبعد التخصيص لوحظ نسبة هذا العام المخصص ب: (لا تكرم فسّاق العلماء) تنقلبُ النسبة بين العام والمخصص الثاني إلى العموم من وجه.

بيانه: إنَّ اجتماع الدليلين هو في عالم عِلم الصرف الفاسق.

ف- : (لا تكرم فسّاق العلماء) يحكم بعدم إكرامه؛ لأنَّهُ صرفي فاسق، و: (أكرم العلماء غير فسّاق النحويين) يحكم بلزوم إكرامه؛ لأنَّهُ عالم وليس نحوّياً فاسقاً. فيتعارض الدليلان في الصرفي الفاسق.

أمّا افتراق: (أكرم العلماء غير فسّاق النحويين) فهو الفقيه العادل؛ حيث يشمله: (أكرم العلماء غير فسّاق النحويين)، ولا يشمله: (لا تكرم فسّاق العلماء).

ص: 154


1- هذا ممّا يُستفاد من كلام الشيخ وإنْ لم يصرّح بالترجيح بلا مرجّح، فمع كون النسبة إلى العام واحدة، فإنْ تقديم أحدهما بالتخصيص ترجيح بلا مرجّح.

وأمّا افتراق: (لا تكرم فسّاق العلماء) فهو النحوي الفاسق؛ حيث يشمله: (لا تكرم فسّاق العُلماء)، ولا يشمله: (أكرم العُلماء غير فسّاق النحاة). فهل يقال: إنَّهما يتعارضان في الصرفي الفاسق؟

الجواب: لا، وإنَّما يقال الصرفي الفاسق خارج ب- : (لا تكرم فسّاق العُلماء).

وقد صرّح الشيخ بوضوحه قائلاً: «وهذا أمر واضح»(1) .

انقلاب النسبة

أقول: يوجد هنا مطلبان:

المطلب الأوّل: ما يرتبط بانقلاب النسبة، وله بحث عريض في مباحث التعادل والتراجيح. ولكن إجمالاً هُنالك محتملات ثلاثة:

الأول: أنْ نقول بعدم انقلاب النسبة، بأنْ تكون نسبة الخاصين إلى العام نسبة واحدة، ولا يقدم أحدهما على الآخر في التخصيص، فلا تنقلب النسبة، وهذا الذي قال عنه الشيخ إنَّهُ أمرٌ واضح.

الثاني: أنْ نقول بانقلاب النسبة، كما ذهب إليه المحقق النراقي، وقال بعض المعاصرين(2): إنَّ انقلاب النسبة أمرٌ واضح.

الثالث: ربما يستفاد من عبارات الشيخ في التعادل والتراجيح التفصيل في المقام: إنْ كانت نسبة المتعارضات واحدة - كعام واحد وخاصين - فلا تنقلب، وإنْ كانت نسبة الأدلة المتعارضة مختلفة، كعامين نسبتهما العموم من وجه وخاص لأحد العامين، وفي مثله بعد تخصيص أحد العامين

ص: 155


1- فرائد الأصول 1: 264.
2- شرح العروة الوثقى 17: 237.

بالخاص، يمكن أنْ تنقلب نسبته إلى العام الآخر من العموم من وجه إلى العموم المطلق، والمختار عدم انقلاب النسبة على الأقل في خصوص المقام؛ لأنَّ نسبة الأدلة في المقام نسبة متكافئة وواحدة.

وعليه، فالتقرير الثالث غير تامّ لما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) .

العمل بالدليل الظني عمل بالعلم

المطلب الثاني: هُنالك جواب مشترك واحد لهذه التقريرات الثلاثة، وهو: إنَّ العمل بالدليل الظني الذي ينتهي إلى العلم عمل بالعلم. وعليه فخبر العادل خارج موضوعاً عن قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كما مرَّ سابقاً.

كما أنَّ العمل بقول غير الأعلم اعتماداً على قول الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم عمل بقول الأعلم في الواقع.

وهذا غير ما ذكره المحقق النائيني من الحكومة باعتبار الشارع الخبر الواحد علماً تعبداً بمفهوم آية النبأ؛ فإنَّ العمل بخبر العادل ليس عملاً بغير العلم، وإنَّما هو عمل بالعلم الذي هو المنتهى إليه.

وعليه، لا تعارض موضوعاً بين مفهوم آية النبأ والآيات الرادعة.

هذا تمام الكلام في الإشكال الثاني.

الإشكال الثالث: الخروج عن عموم العام

إنَّ الاستدلال بمفهوم آية النبأ على حجّية خبر الواحد يوجب خروج المورد من عموم العام؛ وخروج المورد من عموم العام قبيح؛ لأنَّ العام نصّ في مورده، فلا يمكن سوق العام بلحاظ مورد مع خروجه عن عمومه.

ص: 156

ولتقرير خروج المورد فيما نحن فيه تقريبان:

الأوّل: إنّه لا حجّية لخبر العادل في الموضوعات؛ لأنَّ الموضوعات الخارجية تحتاج إلى البينة العادلة.

لكن هذا التقرير محلّ خلاف بين الفقهاء، فإنَّ الكثيرين قالوا بحجّيته في الموضوعات.

الثاني: في خصوص الارتداد لا يكفي خبر العادل، بل لا بدَّ من البينّة الشرعية لثبوته.

وعليه، فلا حجّية لخبر العادل في مورد الآية.

وبعبارة أُخرى: إنَّ ثبوت المفهوم لآية النبأ يستلزم خروج المورد - وهو موضوع الارتداد - عن عموم العام، وهو قبيح، فلا بدَّ من القول بعدم المفهوم لها، وإلا لزم هذا المحذور.

وأجاب الشيخ(1) بما توضيحه: هُنالك فرق بين خروج المورد وتقييد مفهوم منطوق منطبق على المورد. فخروج المورد كقوله: (أكرم العلماء) بلحاظ مورد معين، ثم يعلم عدم شمول العام لذلك المورد المعين، وهو قبيح، كما لو سأل العبد: جاءني زيد فماذا أفعل؟ فيجيبه المولى: أكرم كل قادم إليك، ثم يعلم عدم شمول هذا العام لزيد.

ولكن فيما نحن فيه: المورد مشمول للمنطوق، والمنطوق يشمل هذا المورد وجميع الموارد الأُخرى؛ لأنَّ خبر الفاسق يشمل جميع إخبارات الفاسق موضوعاً أو حكماً، سواء أكان فاسقاً واحد أم متعدداً، ارتداداً كان

ص: 157


1- فرائد الأصول 1: 124.

أم غيره، فالمورد مورد المنطوق لا المفهوم، والمورد لم يخرج عن عموم المنطوق. نعم، قد تمَّ تقييد إطلاق المفهوم - الذي هذا المورد ليس مورداً له - فالمفهوم: (إنْ جاءكم عادل بنبأ فلا تتبّينوا)، فيقول المولى إلا في الموضوعات، أو في خصوص الارتداد فلا تتبينوا بقيد التعدد، فلا يلزم خروج المورد، وإنِّما لزم تقييد المفهوم، وهو ليس بقبيح.

ويرد عليه(1):

إنَّ منشأ استظهار المفهوم من أية النبأ التشنيع لكون المخبر فاسقاً، ومؤداه الحجّية فيما لم يكن المخبر فاسقاً، أو كان الجائي بالخبر غير الوليد مع أنَّ الأمر بخلافه.

وبعبارة أُخرى: الآية تشنّع على المسلمين اعتمادهم على خبر الوليد لكونه فاسقاً، فنتساءل: إذا لم يكن الوليد فاسقاً فهل يمكن الاعتماد على خبره؟ الجواب: كلا. فلا وجه للتشنيع على المسلمين بكون المخبر فاسقاً.

وعليه، لا بدَّ من القول بثبوت المفهوم من الآية، وإلا لا يبقى وجه للتشنيع.

وهذا الإشكال غير واضح لنا؛ لإمكان كون الفسق علّة التشنيع والردع في المنطوق، ولكن يفصل في المفهوم، ووجود التفصيل في المفهوم لا ينافي التشنيع في مورد المنطوق. فيقول المولى: لا تعتمد على النبأ إذا جاء به وليد الفاسق.

فنتساءل: إذا كان الجائي بالنبأ عادلاً فما هي الوظيفة؟

فيجيب: فيه تفصيل، فالواحد لا يقبل والمتعدد يقبل، وهذا ممّا لا إشكال فيه، كأنْ يقول المولى فيما إذا سقطت قطرة الدم في الإناء: إنْ كان الماء

ص: 158


1- لا بعنوان الإشكال على الشيخ وإنِّما مآله إلى ذلك.

قليلاً انفعل، وفي المفهوم صورتان:

الأولى: إن كان كرّاً لا ينفعل، وهو مفهوم مطلق.

الثانية: إنْ كان كثيراً ولم يتغيرّ لم ينفعل، وإنْ كان كثيراً وتغير انفعل أيضاً، وهو مفهوم مقيد.

فالمفهوم مُطلق ولكن يقيد بقرينة الأدلة الخارجية.

وبعبارة أُخرى: المورد مورد الماء القليل وقد سقطت فيه قطرة دم، فيعدل المولى عن بيان الحكم الجزئي إلى الكلي، فيقول: إنْ كان الماء قليلاً انفعل، ومفهومه الظاهر: إنْ كان الماء كثيراً لم ينفعل بالملاقاة، وهو عام، ولكن بدليل صحيحة زرارة(1) في التغيّر نقيد المفهوم، بان نقول: إنْ كان كثيراً ولم يتغير لا ينفعل.

وفيما نحن فيه: إنْ جاءكم عادل بنبأ فلا تتبينوا، وهو مطلق لكنه يقيد بقرينة الأدلة الخارجية.

وبعبارة أُخرى: ظاهر المفهوم لا تتبين مطلقاً، ولكن بأدلة الارتداد نقول: شرط قبول خبر العادل التعدد، والشرط في شهادة الزنا أربعة شهود، وهذا لا ينافي التشنيع في طرف المنطوق(2).

والحاصل: لم يظهر لنا أنَّهُ خروج للمورد، ولا أنَّ هذا النوع من تقييد

ص: 159


1- الاستبصار 1: 7.
2- ولا يفرض أنَّهُ فاسق واحد وعادل واحد حتى يُقال ما الفرق بينهما ؟ فإنَّ المراد طبيعي الفاسق، وهو يشمل الواحد والمتعدد، وكذا في العادل والكلي يقيد في طرف المفهوم ولا إشكال فيه، فإنَّهُ وإنْ كان المورد خاصّاً إلا أنَّ الآية تفيد قاعدة كلية تنطبق على المورد في المنطوق وتتقيد في المفهوم.

المفهوم بشع، كما قاله القائل(1) .

الإشكال الرابع: الإشكال بالإخبار بالوسائط
اشارة

وهذا الإشكال يعمُّ آية النبأ وغيرها(2)، وقد طُرح في خصوص الأخبار التي تكون مع الواسطة(3)، وأمَّا الأخبار المنقولة عن المعصوم(عليه السلام) بلا واسطة فلا يجري فيها هذا الإشكال.

مثلاً: لو قال زرارة: قال الإمام الصادق(عليه السلام) كذا، فهذا خبر مباشر عن المعصوم(عليه السلام) ولا يجري فيه هذا الإشكال، ولكن لو قال الكليني: حدثني على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فهذا خبر مع الواسطة أو الوسائط، ويردُ عليه الإشكال المذكور، وجميع الأخبار فعلاً من هذا القبيل.

كيفية توضيح الإشكال الرابع
اشارة

ولتوضيح الإشكال بيانات عدة:

البيان الأوّل: تقدم الحكم على الموضوع

فموضوع أدلة الحجّية هو خبر العادل، وموضوع كل حكم لا بدَّ أنْ

ص: 160


1- مصباح الأصول 2: 173.
2- الإشكالات الواردة على نوعين: ما هي خاصّة بآية النبأ وما هي تعمُّ آية النبأ وغيرها، وأمّا هذا الإشكال فهو عام من جهة، وخاص بآية النبأ من جهة أُخرى.
3- قيل: إنَّ التعبير بالخبر بواسطة مسامحة، بل لا بدَّ من التعبير عنه بالخبر بواسطتين، لكنه غير تام؛ فإنَّ معنى الخبر مع الواسطة أنْ يكون واسطة بين ابن أبي عمير والإمام الرضا(عليه السلام) وهو علي بن حديد، فخبر ابن أبي عمير خبر مع الواسطة عن المعصوم، وخبر علي بن حديد خبر بلا واسطة عن قول الإمام(عليه السلام)، فما ذكر من الإشكال غير واضح.

يثبت بالوجدان أو التعبد، والراوي المباشر لنا - أي نهاية السلسلة أو بعبارة أُخرى مبدأ السلسلة من طرفنا - خبره ثابت بالوجدان، لأنّنا سمعنا الخبر منه مباشرة، أو عبر كتابه المتواتر نسبته إليه، كالكافي الشريف، ولا إشكال في شمول آية النبأ لخبره.

وأمّا خبر من تقدم على الكليني - مثل على بن إبراهيم القمي - فليس ثابتاً لنا بالوجدان؛ فإنّنا لم نسمع القمي يحدث الكليني بهذا الخبر، فأصل إخبار القمي لم يثبت لنا بالوجدان، وإنِّما نثبت خبر القمي بشمول أدلة صدّق العادل لأخبار الكليني، فالدليل يقول صدق الكليني.

فما أخبر به الكليني هو إخبار القمي، فببركة شمول أدلة صدّق العادل لإخبار الكليني تولد فرد جديد من الإخبار في عالم التعبد، وهو إخبار القمي للكليني، وعليه فثبوت خبر القمي متأخر عن صدّق العادل لتأخر المعلول عن علّته.

إذا صح ذلك، فأدلة صدّق العادل لا يمكن أنْ تشمل خبر القمي؛ لأنَّهُ إذا شملته لكانت متأخرةً عنه؛ لتأخر كل محمول عن موضوعه، والمفروض أنَّ الوجود التعبدي لخبر القمي متأخر عن أدلة صدّق العادل، وإذا كانت أدلة صدّق العادل شاملة لخبر القمي فهذا يوجب تقدم الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه، وكونه في مرتبة متقدمة ومتأخرة في آن واحد وهو محال.

إنْ قُلتْ: ألا يرد الإشكال على مبدأ السلسلة أيضاً؟

قُلتْ: ثبوت إخبار الكليني وجداني؛ لنقله لنا شخصاً أو لتواتر كتابه.

فهذا الموضوع فعلي ثابت، وتترتب على فعليته فعلية المحمول، فلا إشكال في مبدَأ السلسلة، ولكن ما يلي المبدأ - كإخبار القمي للكليني -

ص: 161

فهذا ليس وجدانياً؛ لعدم سماعنا عنه، فلا بدَّ من إثبات خبر القمي بصدّق العادل لنقل الكليني عنه قائلا: حدثني علي بن إبراهيم، ومع شمول صدّق العادل لأخبار الكليني يتولد في عالم التعبد خبر علي بن إبراهيم.

إذن، فوجود خبر القمي معلول لصدّق العادل، فلا يمكن أنْ يكون صدّق العادل محمولاً لهذا الخبر؛ لانَّ صدّق العادل كان في رتبة العلة لهذا الخبر، فلا يعقل أنْ يكون محمولاً له، فإنَّ الفرد الذي وجوده ثابت عن طريق شمول حكم لفرد آخر لا يمكنه أنْ يصبح موضوعاً لذلك الحكم.

إنْ قُلتْ: فليشمله جعل آخر لصدّق العادل.

قُلتْ: ليس في المقام إلا جعل واحد، وظاهر الآيات والروايات لا تحكي إلا عن جعل واحد وحقيقة واحدة، كروايتين تحكيان عن تحريم الميتة، فهما تحكيان عن جعل واحد وحكم واحد.

ويرد على البيان الأول وجوه

الوجه الأوّل: ما أفاده بعض الأساتذة: من أنَّ هذه شبهة في قبال البديهة(1)،

والشبهة في قبال البديهة لا يعتنى بها.

وقد تطرق المحقق القمي في القوانين إلى نظير هذا الجواب في موضع آخر قائلاً: «والشبهة المشهورة لا يعتنى بها في مقابلة البديهة»(2).

ولكن هذا الجواب يحتاج إلى مزيد من التأمل: حيث لا يوجد في المقام أكثر من الظهور في العموم، وآية النبأ ظاهرة في شمولها للأخبار مع

ص: 162


1- وهذا الجواب سار في جميع البيانات الخمسة الآتية.
2- قوانين الأصول: 106.

الواسطة أيضاً، والظهور لا يقف في قبال الاستحالة العقلية وهي تقدم الشيء على نفسه، وكونه في مرتبة متقدمة ومتأخرة.

وبعبارة أُخرى: ما ادعي كونه بديهة مجرّد ظهور عرفي ساذج، وإذا قام البرهان في مقابل الظهور العرفي الساذج فالمقدم هو البرهان العقلي، وهذا جار في جميع الآيات والروايات عندما يقوم الدليل على استحالة إرادة الظاهر.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1):

النقض بما ثبت من نظائره في الفقه كالإقرار بالإقرار، فإذا اُقرّ زيد بأنَّهُ قد أقرّ سابقاً بأنَّهُ مديون لخالد، فيرد نفس الإشكال في المقام؛ لأنَّ الإقرار الفرعي - أي الإقرار بالإقرار - ثابت بالوجدان، أمَّا الإقرار الأصلي - أي الإقرار بالدين - ثابت ببركة شمول أدلة نفوذ الإقرار للإقرار الفرعي، وإلا الإقرار الأصلي لم يثبت لا بالوجدان ولا بدليل تعبدي مستقل، فهل هذا الإقرار الأصلي يثبت؟ نعم بالإجماع ويحكم عليه بأنَّهُ مديون مع جريان نفس الشبهة العقلية في المقام.

مثال آخر لكنّه محلّ خلاف: لو قامت البينة على قيام البينة على أمر، فهل أدلة حجّية البينة تشمل البينة الأصلية؟

قال بعض الفقهاء بالشمول مع جريان نفس الشبهة في المقام.

الوجه الثالث: ما أشار إليه الشيخ عابراً(2)، وتبناه صاحب الكفاية(3): أنَّ القضية طبيعية لا خارجية، والقضية الطبيعية تشمل ما يتولد منها.

ص: 163


1- فرائد الأصول 1: 268.
2- فرائد الأصول1: 269-270.
3- كفاية الأصول: 297.

وهنا مطلب، وهو: ما هو المراد من القضية الطبيعية؟

للقضية الطبيعية اصطلاحان:

الأوَّل: الاصطلاح المنطقي والمعقولي ومعناه: ما كان الحكم في القضية على الطبيعة باعتبار كونها كلية، ومن حيث كونها كلية - أي الطبيعة بقيد الكلية - يقع موضوعاً كالإنسان نوع.

الثاني: الاصطلاح الأصولي، وهو ما كان الموضوع فيها الطبيعة لا بقيد كونها كلية، كالخمر حرام، فهذه قضية طبيعية مقابل الخارجية، ففي الخارجية يلاحظ الفرد المتحقق خارجاً ثم يقال قتل من في العسكر، وفي الطبيعية الأصولية يلاحظ الطبيعة المتحققة في أفرادها المحققة الوجود والمقدرة الوجود.

والفرق بين المعقولي والأصولي: إنَّ الطبيعة بالمعنى المعقولي ما فيها ينظر، والطبيعية بالمعنى الأصولي ما بها ينظر، أي يأخذ المولى الطبيعة مرآة للحاظ الأفراد ويقول الخمر حرام.

وقد ذكر في النهاية(1) توضيحاً مختصراً ملخصه: في القضية الطبيعية الأصولية: الطبيعة بها ينظر، وليس المراد لحاظ الطبيعة واسطة في ثبوت لحاظ الأفراد؛ لأنَّ الأفراد غير متناهية، فهي غير قابلة للحاظ لا بلا واسطة ولا مع الواسطة، فلا يمكن للمولى(2) أنْ يلاحظ الأفراد غير المتناهية.

ص: 164


1- نهاية الدراية 1: 206.
2- مقصوده - قاعدة - المولى المتناهي، وإلا فالمولى غير المتناهي يمكن أنْ يلاحظ الأفراد غير المتناهية.

إنْ قُلتْ: يمكن ملاحظة ذلك إجمالاً.

قُلتْ: اللحاظ الإجمالي يساوي عدم اللحاظ، فإنَّ لحاظ مفهوم غير متناهي الأفراد إجمالاً لا يجعل علم اللاحظ متعلقاً بغير المتناهي، وإلا لأصبح علمه غير متناه، لكن علمه متعلق بمفهوم غير المتناهي، وهو متناه.

نعم، غير المتناهي غير متناه بالحمل الأولي الذاتي، ولكنه متناه بالحمل الشايع الصناعي.

فحينما يقال: نلاحظ الطبيعة مرآة للأفراد، لا يتصور أنَّ معناه لحاظ الطبيعة واسطة لثبوت لحاظ الأفراد، ككون النار واسطة لثبوت الحرارة للماء بواسطة الشمس؛ فإنَّ الأفراد حيث إنّها غير متناهية فهي غير قابلة للحاظ لا بلا واسطة ولا مع الواسطة، بل المراد لحاظ الأفراد بلحاظ جامعها المنطبق عليها قهراً، فالمولى يلاحظ الجامع، أي الوجود السعي أو الوجود المنبسط.

إنْ قُلتْ: الأمر كذلك في الكلي بقيد الكلية.

قُلتْ: بل الكلي بقيد الكلية غير منبسط، فقولنا: الإنسان، نوع غير منبسط على أفراده، وإلا لزم أنْ يكون كل فرد نوعاً!

ولكن الحكم ليس مرتباً على الجامع بما هو جامع ذهناً؛ لأنَّ الجامع الذهني لا أثر شرعي له، بل الحكم مرتب على الجامع بما هو فانٍ في أفراده، وبما هو عنوان فانٍٍ في مضمونه.

وفيما نحن فيه، المولى لاحظ طبيعة خبر العادل بعنوان الطبيعي الأصولي، وحمل صدّق العادل على الطبيعي الفاني في أفراده الحاكي عنها،

ص: 165

وخبر الكليني أحد أفراده، كما أنَّ فرده الآخر خبر القُمّي وغيره.

وأمّا وجه دفع الإشكال عبر هذا الجواب فهو: في القضايا الطبيعية لا تلاحظ الخصوصيات الفردية، وإنِّما يلاحظ الطبيعي بما هو طبيعي. وإحدى هذه الخصوصيات الفردية ثبوت الخبر بغض النظر عن وجوب التصديق، أو مع ملاحظة وجوب التصديق.

وعليه، فالحكم يشمل هذا الفرد شمولاً قهرياً.

وبعبارة أُخرى: نتساءل أوّلاً: هل تسلمون بعدم ملاحظة المشخصات والمفردات في القضايا الطبيعية؟

الجواب: نعم، لأنَّهُ المفروض.

ثانياً: هل تسلمون بأنَّ الفرد الجديد مصداق لكلي خبر العادل؟

الجواب: نعم، فإنَّه فرد من أفراد خبر العادل بالوجدان.

ثالثاً: هل تسلمون بأنَّ انطباق الطبيعي على فرده قهري؟

الجواب: نعم، فيكون مؤدى ذلك أنَّ وجوب التصديق كما ينطبق قهراً على إخبار الكليني الثابت بالوجدان، ينطبق على إخبار على بن إبراهيم الثابت بالتعبد(1).

أقول: إنْ كان مآل هذا الجواب إلى الجواب الرابع فلا كلام فيه. وإنْ كان جواباً في قبال الجواب الرابع فلا يخلو من نوع من الغموض.

فإنَّنا نسلم أنَّ القضية الطبيعية تشمل جميع أفرادها الطولية والعرضية،

ص: 166


1- هذا توضيح ما أشار إليه الشيخ وتبناه صاحب الكفاية، واشتهر في أمثال المقام عند طرح إشكال التقدم والتأخر بأنّهُ قضية طبيعية لا خارجية.

ولكن الشمول مقيد بأنْ لا يتوقف وجودها على وجود الحكم، ولكن إذا كان وجود الفرد متوقفاً على وجود الحكم فالشبهة(1) باقية.

فإنّا نتساءل: هل تسلمون أنَّ الحكم المحمول على الطبيعة أوجد فرداً جديداً من أفراد الطبيعة؟

الجواب: نعم، فإنَّهُ إذا لم يتمّ وجوب تصديق خبر العادل لم يثبت خبر القُمّي، فوجوب التصديق مثبت لوجود خبر القمي، فكيف يحمل وجوب التصديق على ما أثبته وأوجده؟

وبعبارة أوضح: وجوب التصديق أوجد إخبار على بن إبراهيم؛ لأنَّهُ لولا صدّق العادل لم يثبت لنا خبره. وهذه مقدمة مسلمة. ثم إننا نتساءل: ألا تحملون وجوب التصديق على الفرد الجديد؟

الجواب: نعم(2) كما هو المشهور من أنَّ الأحكام تتعلق بالأفراد، وحمل الحكم على الطبائع مرآة للأفراد، فيتعلق الحكم بالفرد قهراً، فوجوب التصديق متقدم تقدم العلِّة على معلولها، ومتأخر لتأخر الحكم عن موضوعه، فوجوب التصديق يصبح علِّة وحكماً للفرد الجديد.

والحاصل: إنْ بنينا على أنَّ الأحكام تتعلق بالطبائع ولا تسري إلى الأفراد فالجواب تامٌّ، وأمّا على مبنى المرآتية والسراية فالجواب لا يخلو من غموض.

الوجه الرابع: الإشكال المذكور مبني على اعتبار وحدة وجوب التصديق بالوحدة الشخصية، بمعنى كون المحمول على خبر القُمّي وجوب

ص: 167


1- كون المتقدم في مرتبة متأخرة ولزوم تقدم الشيء على نفسه.
2- إلا أنَّ يلتزم بمبنى المحقق القمي من أنَّ الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، وحينئذٍ فلا كلام؛ لأنَّ وجوب التصديق لا يتعلق بهذا الفرد الجديد فلا يكون متأخراً.

التصديق الذي هو عين وجوب التصديق المحمول على خبر الكليني.

لكن إذا قُلنا إنَّ وجوب التصديق الثابت لخبر القُمّي مغاير لوجوب التصديق الثابت لخبر الكليني فلا إشكال؛ فإنَّ وجوب تصديق خبر الكليني ولد فرداً جديداً من أفراد الخبر، وهو خبر القمي، وهذا الخبر - خبر القمي - لا يحمل عليه وجوب التصديق الأوَّل، وإنِّما يحمل عليه وجوب تصديق آخر، فالمتقدم غير المتأخر.

والوجه في التغاير هو إنَّ الأحكام الشرعية - غالباً - مجعولة على نهج القضايا الحقيقية، والقضية الحقيقية تنحل إلى أحكام متعددة بعدد أفراد موضوعاتها.

مثلاً: الخمر حرام، فإنَّهُ وإنْ كانت الحرمة واحدة في اللفظ، ولكنها لبّاً وعقلاً متعددة بعدد أفراد الموضوعات، فتتعدد الحرمة بعدد الأفراد، فلكل فرد طاعة وعصيان، وهكذا الأفراد المتعددة الوجود.

وعليه، فإنّ: {لا تتبينوا} ينحل إلى عدد أفراد الخبر، فيكون كل ما يحمل على فرد غير ما يحمل على الفرد الآخر، وبهذا يدفع الإشكال.

قال المحقق النائيني: «الذي لا يعقل هو إثبات الحكم موضوع شخصه، لا إثبات موضوع لحكم آخر»(1) .

فوجوب التصديق المحمول على خبر الكليني لا يعقل أنْ يثبت خبر الكليني، ولكن لا مانع من إثباته لخبر القُمّي، ويحمل على خبر القُمّي وجوب تصديق آخر.

ص: 168


1- فوائد الأصول 3: 179.

وفيه: فإنَّهُ وإنْ انحلّ الواحد إلى متعدد عقلاً، إلا أنَّ هذا الواحد دفعي الوجود فكيف يعقل أنْ ينحل إلى ما هو مترتب في الوجود؟!

فصدق العادل موجود بوجود دفعي، والمعتبر أنّ وجوب التصديق وجد بوجود دفعي، ولكنكم فرضتم أنَّ هذا الوجود الدفعي يوجد بوجود ترتبي؛ لأنَّ صدق العادل يحمل أوّلاً على خبر الكليني، ثم يتولد منه خبر القُمّي، ثم يحمل على خبر القُمّي، فكان في مرتبة العلِّة وفي مرتبة المعلول، وفي مرتبة محمول المعلول.

وبعبارة أدق: كان في مرتبة العلِّة للموضوع الثاني، وفي مرتبة المحمول للموضوع الثاني، فالموجود بوجود دفعي وإنْ كان انحلالياً، فكيف يوجد بوجود ترتبي؟

والجواب(1): إنَّهُ ترتب طبعي لا ترتب خارجي.

بيانه: في الترتب الخارجي المترتب عليه متقدم على وجود المترتب، مثل الآن الأول والآن الثاني، ولكن إذا كان ترتباً طبعياً أو علّياً يمكن وجود المترتب والمترتب عليه في آن واحد، كحركة اليد والمفتاح يوجدان دفعة، كما في شرح التجريد(2).

وفيما نحن فيه: وإنْ تقدم وجود وجوب التصديق الأوَّل على وجود

ص: 169


1- وهو مُستفاد من كلمات المحقق الإصفهاني والمحقق النائيني، وربما يكون هو المراد من كلام صاحب الكفاية والشيخ بأنّ القضية طبيعية، أي إنَّها حقيقية وانحلالية.
2- ومثال الترتب الطبعي ترتب الاثنين على الواحد، فإنَّ الواحد متقدم بالطبع لا بالعلية على الاثنين، وملاك التقدم الطبعي أنْ لا يكون للمتأخر وجود إلا وللمتقدم وجود، ويمكن وجود المتقدم بلا وجود للمتأخر.

وجوب التصديق الثاني رتبة، إلا أنَّهما يوجدان دفعة، يعني أنَّ خبر الكليني وخبر القُمّي يوجدان دفعة واحدة، ووجوب تصديق كل من الخبرين يوجد دفعة واحدة.

فالإشكال - وجوب التصديق موجود دفعة فكيف وجد مترتباً؟ - مندفع، بل وجد مترتباً لا متدرجاً.

الوجه الخامس: تنقيح المناط، فلو فُرض عدم شمول أدلة وجوب تصديق العادل للأخبار مع الوسائط لفظاً إلا أنَّها تشمله بتنقيح المناط، حيث لا فرق قطعاً بين الخبر بلا واسطة والخبر مع الواسطة، كقوله: كل خبري صادق، فهذا الخبر لا يمكن أنْ يشمل نفسه - فرضاً - ولكنه يشمل نفسه بالملاك؛ لعدم الفرق بين هذا الخبر وسائر الأخبار، حيث نتساءل: لماذا كل خبره صادق؟ لأنَّهُ متورع مثلاً، فنفس الملاك شامل له، وهكذا خبر زرارة، فلو كان بلا واسطة فإنَّهُ حجّة لفرض عدالته، لقوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1) فنفس الملاك متحقق في خبره مع الواسطة.

الوجه السادس: عدم القول بالفصل، فمن قال بحجّية خبر الواحد لم يفصل بين الأخبار بالواسطة وغيرها، والنافي للحجّية كذلك، فالقول بالتفصيل خرق للإجماع المركب!

وفيه: عدم القول بالفصل لا يعدّ دليلاً، وإنَّما الذي يمكن أنْ يعدّ دليلاً القول بعدم الفصل، ومآله إلى الإجماع، وعادة يرد عليه الإيرادات

ص: 170


1- وسائل الشيعة 27: 149-150.

المعروفة.

فما أشار إليه في الكفاية محلّ تأمّل.

الوجه السابع: دليل حجّية الخبر الواحد غير منحصر في الأدلة اللفظية.

فمنها السيرة العقلائية، بل اعتقد جماعة أنَّها الدليل الوحيد، والأدلة اللفظية إرشادية.

وفي بناء العقلاء لا يفرّق بين أنْ يكون الخبر مع الواسطة أو بلا واسطة، فهم يتعاملون مع الخبر مع الواسطة كما يتعاملون مع الخبر بلا واسطة، ويعتبرون المنجزية والمعذرية لكل واحد منهما.

وهذا يدفع الإشكال من أساسه.

الوجه الثامن: ما أجاب به الشيخ، وتبعه السيد الروحاني(1): الواسطة في الإثبات لا في الثبوت.

وقال الشيخ: «الممتنع هو توقف فردية بعض أفراد العام على إثبات الحكم لبعضها الأخر»(2).

إنَّ الممتنع هو توقف فردية فرد بوجوده الواقعي على ثبوت حكم لفرد آخر. مثلاً: لو أخبرنا بمائة خبر ثم قال: (كل خبري صادق) فإنَّ فردية هذا الخبر ووجوده الواقعي متوقف على الحكم. فقبل النطق بكلمة (صادق) لا يتولد خبر جديد، بل لا بدَّ من إتمام العبارة وشمولها للأخبار السابقة، حتى يتولد خبر جديد وهو الخبر مائة وواحد، ولو لم ينطق ب- (صادق) لم يشمل

ص: 171


1- منتقى الأصول 4: 276.
2- فرائد الأُصول 1: 268.

الحكم الأخبار السابقة.

إذن، فتولد هذا الخبر في عالم الثبوت متوقف على الحكم وهو (صادق)، وهذا ممتنع لتقدم الحكم على الموضوع(1).

ولكن لا مانع من توقف العلم ببعض الأفراد، وانكشاف فرديته على ثبوت الحكم لبعضها الأخر، فإنَّ انكشاف الفردية - أي الفردية الإثباتية لا الثبوتية - لا مانع من توقفها على الحكم وشمول الحكم لبعض الأفراد الأخر.

قال في المنتقى: «إنّ الموضوع للحكم بالحجّية(2) هو الخبر بوجوده الواقعي، كسائر الموضوعات(3) لا بوجوده التعبدي، فالحجّية متفرّعة عن الوجود الواقعي للخبر، فلا مانع من أنْ تتكفل إثبات الوجود التعبدي له»(4).

أي إنَّ المتقدم هو الحجّية المتفرعة على الوجود الواقعي للخبر، والمتأخر هو الوجود التعبدي للخبر.

وبعبارة أوضح: المتقدم على الحكم هو الوجود الواقعي للخبر، والمتأخر عن الحكم هو الوجود التعبدي للخبر.

والحاصل: إنَّ صدّق العادل واسطة في إثبات خبر القُمّي لا في ثبوته.

لكن هذا الجواب لم يتضح لنا، ووجه الإشكال فيه: إننا نتساءل: هل الحجّية محمول على خصوص الخبر الواقعي، أو محمول على الأعم من

ص: 172


1- الحكم هو (صادق) والموضوع هو (الخبر الواحد بعد المائة).
2- يعني ما حمل عليه: (حجة) و(صدق العادل).
3- فإنَّ جميع الأحكام الشرعية محمولة على الموضوعات الواقعية.
4- منتقى الأصول 4: 276.

الخبر الواقعي والتعبدي؟

فإنْ كان الأوّل فلم يثبت الخبر بوجوده الواقعي، فهل هنالك علم وجداني بإخبار القُمّي؟ كلا , حيث لم يثبت خبره ثبوتاً واقعياً؛ لاحتمال اشتباه الراوي عنه، فإنَّهُ غير معصوم، فكيف تحمل الحجّية على خبر القُمّي؟

وإنْ كان الثاني، وأنَّ الحجّية محمولة على الأعمّ من الثبوت الواقعي والثبوت التعبدي، وأنَّ خبر القُمّي ثابت بالثبوت التعبدي، فالإشكال يعود، فإنّ علّة الثبوت التعبدي هو صدّق العادل، فكيف يكون صدق العادل محمولاً لخبر القمي مع كونه علِّة له؟! وهذا هو تقدم الحكم على الموضوع، والإشكال يعود من جديد.

والحاصل: لم يتضح لنا كيف يتكفل الواسطة في الإثبات دفع المحذور؟

وهُنالك بعض الأجوبة الأُخرى على هذا الإشكال ستأتي في البيانات القادمة إن شاء اللّه.

البيان الثاني: توقف حجية الخبر على كون المخبر به حكماً شرعياً

إنَّ حجّية الخبر وشمول أدلة الحجّية له متوقف على أنْ يكون المخبر به إمّا حكماً شرعياً، وإمّا موضوعاً لحكم شرعي.

وهذا الإشكال يشمل جميع سلسلة الرواة، إلا الراوي المباشر عن المعصوم (عليه السلام).

فإنَّ المُخبر به للكليني ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً له، بل هو إخبار القمي، وهو ليس حكماً ولا موضوعاً لحكم شرعي، ولا بدَّ في المُخبر به - مع غضّ النظر عن دليل الحجّية، أي مع قطع النظر عن صحّة التعبد بلحاظ حكمه أو بلحاظ أثره - أنْ يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي.

ص: 173

وأُجيب عنه بأجوبة

الجواب الأوّل: لم يدل دليل على لزوم كون المُخبر به حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي عقلاً أو شرعاً، بل الذي يحكم به العقل أنْ لا يكون شمول دليل الحجّية للخبر لغواً؛ فإنَّهُ لو كان لغواً لما صدر عن الحكيم.

وهذا المقدار يكفي في اندفاع اللغوية، بأنْ يقع الخبر في طريق إثبات الحكم الشرعي، سواء أكان علِّة تامّة أم علِّة ناقصة.

وإخبار الكليني يقع في طريق إثبات الحكم الشرعي، وقد ذكر صاحب الكفاية نماذج ثلاثة لذلك(1)، أي لكفايته ولو كان مؤثّراً على نحو جزء السبب للحكم الشرعي، وعدم لزوم كونه سبباً تاماً:

أولاً: حجّية الخبر في تعيين حال الراوي, كأنْ لا نعلم أنَّهُ ثقة أم لا فيخبرنا بوثاقته، أو كان مردداً بين اثنين، كابن سنان، المردد بين كونه عبد اللّه الصحيح ومُحمّد المختلف فيه، فيخبرنا بأنَّ الذي يروي عنه هو عبد اللّه لا مُحمّد، أو قال: حدثني البطائني، ثم أخبرنا بأنّ الحديث عنه كان في حالة استقامته لا انحرافه.

فكل هذه الإخبارات لها مدخلية بنحو من الأنحاء في إثبات الحكم الشرعي، فهل يقال: إنَّها غير حجّة؟

ثانياً: حجّية الخبر في خصوصية القضية الواقعية المسؤول عنها, كقوله(عليه السلام): «ينزح

منها ثلاث دلاء»(2) في جواب الراوي الذي سأله عن بئر

ص: 174


1- في موضع آخر من كلامه لا في المقام، كفاية الأصول: 290.
2- وسائل الشيعة 1: 187.

وقعت فيه فأرة، وإلا لكان نصف الروايات مجملة، مع أنَّ الخصوصية ليست حكماً ولا موضوعاً لحكم شرعي.

ثالثاً: وغير ذلك ممّا له دخل في تعيين مرامه من كلامه، كأنْ يضمر ويقول: سألته، ثم يقول: قصدت من الضمير الإمام (عليه السلام).

وبعبارة أُخرى: يكفي ترتب الأثر الشرعي - بل العقلي أيضاً - على المجموع من حيث المجموع.

ومجموع هذه الإخبارات أي إخبارات الكليني عن القمي عن... يترتب عليها الأثر الشرعي، وهو كاف لشمول أدلة الحجّية ودفع اللغوية.

الجواب الثاني: ما ذكر في المصباح(1):

من أنَّ المجعول في باب الأمارات والطرق الطريقية إلى الواقع والكاشفية عنه.

وبعبارة أدق: المجعول تتميم الكاشفية، فإنَّ الأمارات والطرق لها كاشفية ناقصة قد أتمها الشارع، ومع كون المجعول الكاشفية والطريقية يكون دليل التعبد ناظراً إلى هذه الطريقية، ولا يحتاج لأن يكون المجعول حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي.

قال: «وهذا الإشكال ساقط من أساسه على المختار»(2).

وفيه: أنَّهُ غير واضح(3)، حيث نتساءل هل الملاك جعل الطريقية أم جعل الطريقية المنتهية إلى إثبات الحكم الشرعي؟

ص: 175


1- مصباح الأصول 2: 36، 37، 101، 104.
2- مصباح الأصول 2: 181.
3- مع غض النظر عن المناقشة المبنائية (منه (رحمه اللّه) ).

ولا سبيل إلى القول بالأوّل، لأنَّ جعل الطريقية التي لا تنتهي إلى إثبات حكم شرعي لغو، مثلاً: لو أخبرنا مخبر بتفجر بركان في المريخ، فيقول المولى: إنّي اعتبر الطريقية لقول هذا المخبر، ومع فرض عدم انتهاء هذا الجعل إلى إثبات حكم شرعي يكون الجعل لغواً؛ لعدم ترتب الأثر عليه، والشارع بما هو شارع لا شأن له بما لا يترتب عليه أثر شرعي، فلا بدَّ أنْ يكون الملاك هو الطريقية التي تنتهي إلى إثبات الحكم الشرعي، فهذه الطريقية مجعولة للشارع.

وعليه، فلا فرق بين أنْ يكون المجعول الطريقية أو وجوب الجري العملي، أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فمهما كانت ماهية المجعول - إذا كان الجعل منتهياً لإثبات الحكم الشرعي -لا يكون الجعل لغواً.

والحاصل: لم يتضح كيفية دفع الإشكال على مبنى السيد الخوئي - من كون المجعول الطريقية - دون سائر المباني.

البيان الثالث: اتحاد الحكم والموضوع

لزوم أخذ الحكم في موضوعه، وقد عبَّر عنه في الكفاية باتحاد الحكم والموضوع(1)، وربّما يكون التعبير الأوّل أوضح.

بيان الإشكال: إذا كان المخبر به موضوعاً من الموضوعات الخارجية، فلا بدَّ أنْ يكون له أثر شرعي مع قطع النظر عن دليل وجوب التصديق(2)؛ حتى يحمل وجوبه على ذلك الموضوع بلحاظ ذلك الأثر ولإثبات ذلك

ص: 176


1- كفاية الأصول: 297.
2- وهو «صدق العادل» و«لا تتبينوا» (منه (رحمه اللّه) ).

الأثر.

مثلاً: لو كان المُخبر به عدالة زيد، فبغض النظر عن أدلة صدّق العادل نفس هذا الموضوع - أي عدالة زيد- له أثر وهو جواز الائتمام به، والشارع حينما قال: صدق العادل فهو ناظر إلى المُخبر به بلحاظ ذلك الأثر.

ولكن إذا كان أثر الموضوع نفس وجوب التصديق، فلا يمكن أنْ يحمل وجوب التصديق على ذلك الموضوع الذي أثره وجوب التصديق؛ حيث يلزم أخذ المحمول والحكم في الموضوع.

وبعبارة أُخرى: إذا قال الشارع: خبر الكليني الذي أثره وجوب التصديق يجب تصديقه، فقد أخذ الحكم في الموضوع، ولا يمكن أنْ يؤخذ المتأخر في المتقدم.

وفي هذا الإشكال لا يفرّق بين الخبر الثابت بالوجدان، كخبر الكليني وغيره كخبر القُمّي.

نعم، لا يرد الإشكال على الراوي المباشر عن المعصوم (عليه السلام) لوجود الأثر في نقله، فإنَّ قول الإمام (عليه السلام) موضوع يترتب عليه الأثر وهو الحجّية، فالمخبر به لهشام بن سالم الراوي المباشر عن المعصوم (عليه السلام) موضوع له أثر بغض النظر عن أدلة وجوب تصديق العادل.

أمَّا سائر الرواة فلا أثر شرعي لخبرهم، سواء أثبتت أخبارهم تعبّداً أم وجداناً كخبر القُمّي إلا وجوب التصديق، ولا يمكن للشارع أنْ يقول: خبر الكليني الذي أثره وجوب التصديق موضوع لوجوب التصديق؛ لأنَّهُ أخذ الحكم في الموضوع.

ص: 177

وقد اعتمد على هذا الإشكال الشيخ(1) وصاحب الكفاية (2).

وقد أجيب عنه بعدة أجوبة

وقد أجيب عنه بعدة أجوبة(3)

الجواب الأول: ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين(4) في الإخبار بالواسطة، لا إخبارات متعددة حتى يطلب كل إخبار أثراً خاصّاً به، وإنَّما تعد جميع الإخبارات في حكم الخبر الواحد، فهنا موضوع واحد و إخبار فارد يحكي قول المعصوم (عليه السلام)، فإنَّهُ لو كانت هناك موضوعات متعددة يجب إثباتها بالبينة لا بالخبر الواحد؛ لأنَّ الموضوعات الخارجية تحتاج في إثباتها إلى البينّة، نعم إخبار هشام لا يحتاج إلى ضمّ آخر؛ لأنَّ محكيه حكم شرعي.

ولكنَّه غير واضح؛ فإنَّ عدَّ هذه الإخبارات المتعددة إخباراً واحداً عن الحكم الشرعي مسامحة، ولذلك قد لا يتبنى الراوي الحكم المستفاد من المخبر به.

فمثلاً: لو قُلت: قال النجاشي أنّ علي بن حديد ضعيف، فهل هذا يعبّر عن اعتقادك فيه؟ كّلا، بل حكاية عمّا يراه النجاشي، فالذي ينقل عن مُخبر آخر قول المعصوم لا ينقل قول المعصوم، وإنَّما ينقل موضوعاً خارجياً فقط، فيقول: أخبرني القُمّي، ولا يخبر عن الحكم الشرعي، وعليه فالمُخبر

ص: 178


1- فرائد الأصول 1: 122.
2- كفاية الأصول: 297.
3- مضافاً إلى ورود بعض الأجوبة المتقدمة.
4- المحكم في أصول الفقه 3: 242.

به هو إخبار الواسطة لا المُخبر به للواسطة.

وأمَّا مسألة البينّة: فإنََّ الموضوعات الخارجية لا تحتاج إلى البينّة على المختار إلا في موارد الترافع وما أشبه.

ثم إنّه لو فُرض احتياج جميع الموضوعات الخارجية إلى البينّة فإنَّما خرج المقام بالدليل، كإطلاق الأخبار أو الإجماع أو الضرورة أو ما أشبه على عدم اشتراط التعدد في المُخبر عن المُخبر عن قول المعصوم (عليه السلام).

ونظيره في مبحث أصحاب الإجماع في عبارة الكشّي: «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم»(1).

فهل العبارة تشملُ إخبار المُخبر المتقدم عليهم أم المخبر به للمخبر المتقدم؟

والمختار: إنَّ معنى العبارة تصحيح إخبار المُخبر المتقدم عليهم، ف- (ما) بمعنى الإخبار، بمعنى صحّة إخبار زرارة عن فلان لا صحّة المُخبر به الذي أخبر به فلان، وعليه: فالجواب غير واضح.

الجواب الثاني: ما أفاده بعض المحققين(2):

إنَّ الخبر مع الواسطة - في واقعه - خبر بلا واسطة(3) ، فالكليني يخبر عن قول المعصوم (عليه السلام) مباشرةً، فلا يبقى موضوع للإشكال أصلاً بجميع تقريراته.

بيانه: نفرض أنَّهُ: أخبرنا ابن أبي عمير عن علي بن حديد، عن أبي

ص: 179


1- اختيار معرفة الرجال 1: 397.
2- وهذا الجواب لا يتكفل حلّ الإشكال بالبيان الثالث فحسب، وإنِّما ينفي موضوع الإشكال بالمرّة.
3- بحوث في علم الأصول 4: 365.

الحسن الرضا (عليه السلام). فخبر ابن أبي عمير خبر عن المعصوم مع الواسطة، ولكن عند التحليل نرى أنَّ له مدلولان:

الأوَّل: المدلول المطابقي، وهو إخبار علي بن حديد.

الثاني: المدلول الالتزامي، وهو عبارة عن قضية شرطية مفادها: لو لم يكذب علي بن حديد لكان الإمام الرضا (عليه السلام) قد بين هذا الحكم أو أنشأه.

فابن أبي عمير يقول بالمدلول الالتزامي - والمداليل الالتزامية حجّة في الإخبارات ولو لم يكن المخبر ملتفتاً - الحديث ما قاله الإمام (عليه السلام) لو لم يكذب علي بن حديد.

وفي القضايا الشرطية لا بدَّ من طي مرحلتين:

الأولى: إثبات الملازمة بين المقدم والتالي، أي إثبات القضية الشرطية.

الثانية: إثبات وجود المقدم.

وبعد طي المرحلتين في المقام يثبت قول المعصوم (عليه السلام).

أمَّا المرحلة الأولى فتتم بتطبيق دليل الحجّية عليها: (إنْ جاءكم عادل بنبأ فلا تتبينوا). فابن أبي عمير يخبرنا بالقضية الشرطية، ومع تطبيق دليل الحجّية على هذا المدلول الالتزامي تثبت القضية الشرطية، ويلزم تصديقه، كما يلزم تصديقه في المدلول المطابقي لمفهوم آية النبأ.

وأمَّا المرحلة الثانية - حيث نريد إثبات وجود المقدم للقضية الشرطية، أي لم يكذب على بن حديد - فنقول: الأمر دائر مدار اثنين: إمّا أنّه صدر من علي بن حديد إخبار لابن أبي عمير أو لم يصدر، فإنْ كان علي بن حديد قد حدثه بقول الرضا (عليه السلام)، فإنَّهُ لم يكذب بالتعبّد لتطبيق دليل

ص: 180

الحجّية على خبره، ولا مانع من تطبيق دليل الحجّية على فرده على فرض وجوده، فإنّنا لا نقول: إنَّ علي بن حديد قال كذا، بل نقول: لو كان واقعاً قد حدثه وفرض وثاقته فإخباره حجّة لآية النبأ.

وإذا فُرض أنَّ علي بن حديد لم يحدث ابن أبي عمير بهذا الخبر واقعاً، بل قد اشتبه ابن أبي عمير، فأيضاً علي بن حديد لم يكذب وذلك بالوجدان.

والحاصل: عدم كذب علي بن حديد ثابت قطعاً على فرض وثاقته بالوجدان أو بالتعبد، فيثبت مقدم القضية الشرطية فتثبت النتيجة، وهي قول المعصوم (عليه السلام).

والحاصل: إنَّ أثر تصديق ابن أبي عمير هو ثبوت قول المعصوم (عليه السلام) لا أنَّ أثر تصديقه ثبوت خبر علي بن حديد.

وبعبارة أُخرى: كما أنَّ أدلة حجّية الخبر تشمل الخبر بلا واسطة ؛ لأنَّ أثره ثبوت قول المعصوم (عليه السلام)، كذلك تشمل الخبر مع الواسطة في مدلوله الالتزامي، وهو ثبوت قول المعصوم (عليه السلام).

وببيان أوضح: هُنالك أربعة عوامل لعدم ثبوت قول المعصوم (عليه السلام)، وهي:

الأول: كذب ابن أبي عمير.

الثاني: خطأ ابن أبي عمير.

الثالث: كذب علي بن حديد.

الرابع: خطأ علي بن حديد.

والمفروض نفي الكذب والخطأ عن ابن أبي عمير لوثاقته وعدالته، فيكون المانع من عدم ثبوت قول المعصوم (عليه السلام) إمِّا كذب علي بن حديد

ص: 181

أو خطؤه، فيقول ابن أبي عمير: إنْ لم يخطأ علي بن حديد ولم يكذب، فقد قال المعصوم (عليه السلام) كذا، والشرطية قطعية والملازمة واقعية حتى إنْ لم يلتفت إليها ابن أبي عمير.

فدليل ضم الوجدان إلى التعبد يفيد أنَّ علي بن حديد - على فرض وثاقته - لم يخطئ ولم يكذب. فيرتفع الإشكال من أساسه وبجميع تقريراته.

هذا توضيح كلام بعض المحققين وقد بنى عليه واعتبره صحيحاً.

ولكنَّه لم يتضح لنا؛ فإنَّ الملازمة المدعاة إمّا باطلة على تقدير أو غير نافعة على تقدير.

أمَّا التقدير الأوَّل: إنَّ علي بن حديد لم يكذب على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، بأن لم يكن هُنالك خبر حتى يكون كاذباً أو مُخطئاً - وقد توهَّم ابن أبي عمير ذلك أو رآه في المنام مثلاً - فالملازمة باطلة، أي إنَّهُ لم يكذب؛ لأنَّهُ لم يخبر، فلم يثبت قول الإمام الرضا (عليه السلام)، فلا ملازمة بين عدم الكذب وبين ثبوت قول الإمام (عليه السلام).

وأمَّا التقدير الثاني: السالبة بانتفاء المحمول، يعني أخبر علي بن حديد ولم يكذب ولم يخطئ لكنه غير ثابت؛ لعدم ثبوت خبر علي بن حديد لا بالوجدان، لأنَّنا لم نسمع عنه، ولا بالتعبد لنفس إشكال أخذ الحكم في الموضوع؛ فإنَّ التعبد فرع ثبوت الموضوع وهو إخبار علي بن حديد ولم يثبت، فإنَّ شمول أدلة الحجّية لخبر علي بن حديد فرع وجود الإخبار، ولم يثبت وجود خبر علي بن حديد حتى يقال بشمول أدلة التعبد له.

وعليه، فالقضية الشرطية لا تجدي فيما نحن فيه.

ص: 182

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق الحائري في الدرر(1)، وبيانه ضمن مقدمات ثلاث:

الأولى: بين الخبر والمخبر به ملازمة نوعية ظنية، وإنْ لم يكن بينهما ملازمة عقلية أو ملازمة عادية؛ لأنَّ خبر العادل أو الثقة له كاشفية نوعية ظنية عن الواقع.

الثانية: الطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر، فمثلاً لو كان بين زيد وعمرو تلازم، فالطريق إلى زيد طريق إلى عمرو.

فالإخبار مع الواسطة كما أنَّهُ طريق إلى الخبر بلا واسطة، كذلك هو طريق إلى قول المعصوم (عليه السلام) لفرض الملازمة المذكورة، فهُنالك ملازمة نوعية بين خبر علي بن حديد وبين قول الإمام (عليه السلام)، فخبر ابن أبي عمير طريق إلى خبر علي بن حديد، والطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر، فكما يكون خبر ابن أبي عمير طريقاً إلى خبر علي بن حديد، يكون طريقاً إلى ملازم خبر علي بن حديد وهو قول الإمام المعصوم (عليه السلام)، وكما أنَّ الخبر مع الواسطة له الكاشفية عن الخبر بلا واسطة، كذلك له الكاشفية عن قول المعصوم (عليه السلام).

الثالثة(2): لم يجعل الشارع هذه الملازمة النوعية، بل هي ملازمة واقعية مع غضّ النظر عن الجعل الشرعي، وليست كالأدلة التي جعلت للشك

ص: 183


1- درر الفوائد: 388.
2- وهي ترتبط بعالم الجعل والتشريع على عكس المقدمتين السابقتين.

تعبدا، ك (كل شيء لك طاهر) حيث لا وجود لها قبل ذلك، أمَّا الملازمة بين الخبر والمخبر به ملازمة واقعية مع قطع النظر عن الجعل الشرعي، والشارع جعل الملازمة النوعية بمنزلة الملازمة القطيعة في قوله: «لا عذر لأحد من موالينا..»(1).

وفيما إذا كانت هُنالك ملازمة قطعية كنّا ننتقل من أحد المتلازمين إلى الآخر، كذلك فيما إذا جعل الشارع الملازمة النوعية بمنزلة الملازمة القطعية.

والنتيجة: إنَّ أثر قول ابن أبي عمير ثبوت قول المعصوم (عليه السلام)، لا أنَّ أثره صدّق العادل حتى يرد إشكال اتحاد الأثر والمحمول. والنكتة الفنية في هذا الجواب تجاوز الطريقية الأولى.

هذا توضيح وتنظيم لكلام المحقق الحائري وهو دقيق إنصافاً.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني في النهاية قائلاً: «وعن بعض أجلة العصر»(2).

لكنه غير واضح، حيث شكك في المقدمة الأولى؛ لعدم وجود الملازمة النوعية بين وجود الخبر وثبوت المخبر به.

قال(3) ما توضيحه: الملازمة نوعان: الأوّل: الملازمة الواقعية، والثاني: الملازمة الجعلية.

ص: 184


1- وسائل الشيعة 1: 38، 27: 150.
2- نهاية الدراية 2: 210.
3- نهاية الدراية 2: 210.

فإن كان المراد الملازمة الواقعية فهي لا تكون إلا إذا كان بين الأمرين علية ومعلولية، أو كانا معلولين لعلّة ثالثة. فهل إنَّ وجود الخبر من مبادئ الوجود للمخبر به، أم أنَّ وجود المخبر به من مبادئ وجود الخبر، أم كلاهما معلولان لعلّة واحدة؟

الجواب: كلا، فلكل واحد علّة مستقلة.

وعليه، لا ملازمة بين الخبر وثبوت المخبر به؛ حيث يمكن أنْ يكون خبر ولا يكون واقع المخبر به.

وإنْ كان المراد الملازمة الجعلية، فالبحث في الملازمة الواقعية مع قطع النظر عن الملازمة الجعلية؛ حيث يراد إثبات ملازمتين واقعيتين بين خبر محمد بن مسلم وخبر زرارة، وبين خبر زرارة وقول الإمام (عليه السلام) بحيث تثبت الملازمة تشريعاً بتعبّد واحد، ولا يراد إثبات كون الملازمتين جعلية واعتبارية، قال: «والملازمة الجعلية هنا بين الخبر وثبوت المخبر به ليس إلا التعبد بالمخبر به(1)، والمفروض(2) دعوى التلازم مع قطع النظر عن دليل التعبد(3)، حتى يكون الطريق إلى الطريق طريقاً حقيقة إلى ذي الطريق(4) حتى يجدي تعبد واحد»(5) .

ص: 185


1- الملازمة الجعلية يعني اعتبر المخبر به واقعاً.
2- في كلام بعض أجلة العصر.
3- أنتم تريدون إثبات الملازمة التكوينية.
4- فإنّ خبر محمد بن مسلم طريق إلى خبر زرارة، وهو طريق إلى قول المعصوم الذي هو ذو الطريق، فتريدون إثبات الملازمة التكوينية حتى يكون الطريق إلى الطريق طريقاً إلى ذي الطريق، أي قول المعصوم.
5- نهاية الدراية 2: 211.

وبعبارة سهلة: الملازمة الجعلية ليست مفروضة في الكلام لقولكم: إنَّ الشارع أمضى الملازمة الواقعية، فيكون المُراد الملازمة الحقيقية وهي غير موجودة.

ولكن الإشكال غير وارد على المحقق الحائري؛ لأنَّ الملازمة التكوينية نوعان: الملازمة القطعية، وهي تتنوع إلى ملازمة عقلية وعادية، والملازمة الظنية، وهي تعني: الظن بالملازمة، وحينما يقال بوجود الملازمة النوعية يقصد بذلك الظن بالملازمة، قال المحقق الحائري: «بل مفاد الحكم هُنا جعل الخبر من حيث إنَّهُ مفيد للظن النوعي طريقاً إلى الواقع»(1)، أي الطريقية طريقية نوعية ظنية، فمراده الملازمة الواقعية التكوينية الظنية، يعني الظن بالملازمة الواقعية، فالمقدمة الأولى تامّة.

وحيث لم يتم ما أفاده المحقق الحائري بنظر المحقق الإصفهاني ذكر لذلك تقريراً آخر في النهاية(2)، وتوضيحه: بين الخبر بما هو خبر وبين المخبر به لا ملازمة بالذات، لا قطعية ولا ظنية(3)، وإن كانت هنالك ملازمة فهي عرضية، وحيث إنَّ كل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، فلا بدَّ أنْ تكون هُنالك ملازمة بالذات تنتهي إليها هذه الملازمة العرضية.

وموطن الملازمة بالذات هو المخبر به، والملازمة في مرتبة الكاشف

ص: 186


1- درر الفوائد 2: 388.
2- نهاية الدراية 2: 211.
3- وقد عبّر عنه بالكشف التصديقي، لكننا نبدله بالملازمة الذاتية، أي قال: الخبر لا يكشف كشفاً تصديقياً عن المخبر به، لا كشفاً تصديقياً قطعياً ولا ظنياً؛ ولذلك اشتهر أنَّ الخبر يحتمل بذاته الصدق والكذب (منه (رحمه اللّه) ).

معلولة للملازمة في مرحلة المنكشف، وفي مرحلة المنكشف هُنالك ملازمتان:

الأولى: الملازمة بين وجود الملكة الرادعة وبين عدم تعمد الكذب.

الثانية: الملازمة بين انتفاء أسباب الخطأ وبين مطابقة الخبر للواقع.

فإنْ قطع بوجود الملكة الرادعة يقطع بعدم تعمّد المخبر للكذب، وهذا هو الصدق المخبري بالكسر.

وإنْ قطع بانتفاء أسباب الخطأ - كاختلال الحواس - يقطع بمطابقة معتقد المخبر لما في متن الواقع، وهذا هو الصدق المخبري بالفتح، أي صدق خبري في الواقع.

وإذا ظنَّ بمقدم إحدى الملازمتين يظنُّ بترتب التالي.

وهذه هي الملازمة بالذات الموجودة في المخبر به في مرحلة المنكشف، وإنْ اُدعيت الملازمة في مرتبة الكاشف والخبر فهي تابعة للملازمة الواقعية بالذات.

إذا تحقق ذلك نقول: إذا وجدت الملازمتان في إخبار مخبر، فكلما يظن بالحكم ظنّاً نوعياً في الخبر بلا واسطة عن قول المعصوم (عليه السلام) فنفس الملاك جار في الخبر مع الواسطة.

فخبر محمد بن مسلم، عن زرارة، عن المعصوم (عليه السلام) يورث الظن - مع القطع بالملازمتين أو الظن بهما - بالحكم الشرعي، فأدلة حجّية الخبر شاملة للخبر مع الواسطة، كما تشمل الخبر بلا واسطة.

وقد أجاب المحقق الإصفهاني بجواب صالح لهذا التقرير، ولما قرره

ص: 187

المحقق الحائري حيث قال: «ليس خبر محمد بن مسلم (1) خبراً عن قول الإمام(عليه السلام) إلاّ على تقدير(2)، فإنَّه(3) خبر عن لازم (4) أمر(5) غير مفروض الثبوت، لا وجداناً ولا تعبداً ولا معنى؛ لوجوب تصديق الخبر تحقيقاً(6) عن لازم على تقدير(7)»(8).

توضيحه: إذا كانت عندنا ملازمتان، وكان تالي الملازمة الأولى مقدماً للملازمة الثانية، لكننا لم نثبت تالي الملازمة الأولى، وإنَّما أثبتنا تالي الملازمة الثانية على فرض وجود مقدم الملازمة الثانية، فهل يمكن حمل تالي الملازمة الثانية على مقدم الملازمة الأولى الثابتة بالوجدان؟ كلا، لأنَّنا نثبت مقدم الملازمة الثانية ثبوتاً تحقيقياً، فلا يمكن حمل تالي الملازمة الثانية على مقدم الملازمة الأولى.

وفي المقام عندنا ملازمتان، سواء أكانت بالذات كما في تقرير المحقق الحائري على حسب استظهار المحقق الإصفهاني، أم بالعرض، كما في تقرير المحقق الإصفهاني، وهما:

ص: 188


1- أي الخبر مع الواسطة.
2- أي على تقدير عدم خطأ زرارة ل- (قال الإمام (عليه السلام)) كذا.
3- أي خبر محمد بن مسلم.
4- أي قول الإمام (عليه السلام).
5- أي قول زرارة.
6- لا تقديراً.
7- أي على تقدير عدم خطأ زرارة.
8- نهاية الدراية 2: 212.

الأولى: الملازمة بين خبر محمد بن مسلم وخبر زرارة؛ لأنَّ المخبر به لخبر محمد بن مسلم هو خبر زرارة.

الثانية: الملازمة بين خبر زرارة وخبر المعصوم (عليه السلام).

فهل أنَّ خبر زرارة ثابت بالوجدان؟ كلا، لأنَّنا لم نسمع منه ذلك.

وهل أنَّ خبر زرارة ثابت بالتعبد؟ كلا؛ لما سبق من المحذور.

وعليه، فمقدم الشرطية الثانية لم يثبت لا بالوجدان ولا بالتعبد، فتكون الشرطية الثانية تعليقية، يعني لو فرض أنَّ زرارة أخبر بهذا الخبر لكان الإمام(عليه السلام) قد قال ذلك؛ فلا يمكن حمل التالي - الذي مقدمه تعليقي - على خبر محمد بن مسلم؛ حيث لا يمكن إصدار حكم منجز على خبر معلق.

مثال للتقريب: لو كانت هُنالك ملازمة بين ملاقاة الماء المتنجس للثوب ونجاسة الثوب، وملازمة أُخرى بين نجاسة الثوب وعدم جواز الصلاة فيه، فإنْ كانت الملازمة الثانية تعليقية، فهل يمكن إثبات عدم صحّة الصلاة في الثوب؟

وبعبارة أُخرى: لخبر محمد مسلم مدلولان: مطابقي والتزامي، أمَّا المطابقي فلا تشمله أدلة التعبد؛ للزوم المحذور وهو أخذ الحكم في الموضوع، وأمَّا الالتزامي فهو ثابت على فرض(1) تحقق الموضوع، وهو إخبار زرارة، مع أنَّ إخباره لم يثبت لا وجداناً ولا تعبداً، فكيف يثبت الحكم الشرعي؟

هذا تمام الكلام في الجواب الثالث بتقريريه.

ص: 189


1- ولذا استخدمت كلمة الفرض في بيان الملازمتين.

الجواب الرابع: ما ذكره في الدرر أيضاً(1)،

قال ما حاصله: لا يراد من (صدّق العادل) التصديق القلبي والجناني، لعدم ظهور الأدلة في ذلك قطعاً، بل يراد منه التصديق العملي، أي الجري وفق خبر العادل.

وحينئذ نتساءل: هل أنَّ خبر الكليني قابل للتصديق العملي؟ كلا، إلا بلحاظ الحكم الذي تنتهي إليه الإخبارات (فيجب أنْ تكون قضية صدق العادل عند تعلقها بقول الشيخ ناظرة إلى ذلك الأثر)(2) فمعنى صدّق الكليني: اذهب إلى الحج، مثلاً.

وبعبارة أُخرى: احتمال عدم وجوب الحج مستند إلى احتمال كذب أحد أفراد سلسلة السند، ومعنى صدّق العادل والغ احتمال الخلاف عملاً يعني اذهب إلى الحج، وعليه يكون أثر صدق العادل في خبر الكليني هو وجوب الحج، لا وجوب التصديق حتى يرد إشكال اتحاد الحكم والأثر.

والنتيجة: صدّق قول الكليني الذي أثره وجوب الحج عملاً، يعني: اذهب إلى الحج.

وفيه: إنْ كان مآل هذا الجواب إلى الجواب الأوَّل، وهو كفاية المدخلية في الأثر، ولو على نحو العلّة الناقصة لإثبات الحكم الشرعي فبها، وإنْ كان مآله إلى غير ذلك، فالإشكال يعود من جديد؛ لأنَّ المدلول المطابقي لا يمكن تعلق وجوب التصديق العملي به، والمدلول الالتزامي متوقف على المدلول المطابقي.

ص: 190


1- درر الفوائد 2: 388.
2- درر الفوائد 2: 389.

فالنتيجة: إنَّ أدلة وجوب تصديق العادل لا تشمل خبر الكليني أصلاً.

البيان الرابع: الانصراف

إنَّ أدلة الحجّية تشمل الإخبار بلا واسطة فقط، وهي منصرفة عن الإخبار مع الواسطة، والكليني (رحمه اللّه) يحكي قول الإمام المعصوم(عليه السلام) مع وجود الواسطة فلا تشمله الأدلة.

وأجاب الشيخ الأعظم(1) (رحمه اللّه) :

بأنَّ الإخبار مع الواسطة هو إخبار بلا واسطة، فإنَّ كل مخبر يخبر إخباراً بلا واسطة عن إخبار مَنْ تقدمه، ففي الواقع عندنا مجموعة من الإخبارات لا إخبار واحد، وكل واحد من هذه الإخبارات مشمولة لدليل الحجية.

ومقتضى الجواب تسليم الانصراف، إلا أنَّ المقام خارج موضوعاً عن الإشكال.

وأجاب بعض المعاصرين - تبعاً للمحقق النائيني بعدم وجه للانصراف - حيث قال: «والجواب بمنع الانصراف»(2)، فلا فرق بين الإخبار مع الواسطة والإخبار بلا واسطة، فقوله: (إنْ جاءكم عادل بنبأ فلا تبينوا) شامل لكلا النوعين.

لكنه - مع قطع النظر عن جواب الشيخ (رحمه اللّه) - محلّ تأمّل؛ لأنَّ الكليني (رحمه اللّه) يخبرنا بخبرين:

الأول: خبر بلا واسطة عن إخبار علي بن إبراهيم، وهذا الإخبار ثابت

ص: 191


1- فرائد الأصول 1: 122.
2- منتهی الدراية 3: 399.

للكليني (رحمه اللّه) بالعلم الوجداني.

الثاني: خبر مع الواسطة عن قول المعصوم (عليه السلام).

فنتساءل من الكليني: أوّلاً: هل الإخبار مع الواسطة عن قول المعصوم(عليه السلام) ثبت بالعلم الوجداني؟ كلا، وإنَّما ثبت بالعلم التعبدي.

ثانياً: هل أدلة حجّية الخبر تثبت حجّية خبر العادل الثابت له بالعلم التعبدي؟

فمثلاً: إذا أخبرنا عادل بقوله: ثبت عندي موت عمرو، فهل أدلة الحجّية تثبت حجّية هذا الخبر الثابت بالعلم التعبدي؟

مع قطع النظر عن تحليله إلى الإخبار بالعلم الوجداني - كما بينه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) - فيه غموض، وإذا لم يتم الانصراف لا أقل من الإجمال، فيؤخذ بالقدر المتيقن.

فالمعتمد ما ذكره الشيخ بأنَّ الإخبار مع الواسطة في حقيقته إخبار بلا واسطة.

هذا تمام الكلام في الإشكال الرابع.

الإشكال الخامس: ما يوجب وجوده عدمه محال
اشارة

أمَّا الإشكال الخامس(1) على دلالة آية النبأ على حجّية الخبر الواحد، فهو: إنَّ حجّية الخبر الواحد - بمفهوم آية النبأ وغيرها - يوجب وجوده

ص: 192


1- بعد الفراغ عن الإشكالات الأربعة الماضية، وهي: 1- المعارضة بين المفهوم وعموم التعليل. 2- المعارضة بين المفهوم والآيات الكريمات الرادعة عن العمل بغير العلم. 3- لازم وجود المفهوم خروج المورد عن العموم. 4- الإشكال في الإخبار بالوسائط.

عدمه، وما يوجب وجوده عدمه محال؛ لأنَّ مآله إلى اجتماع النقيضين.

بيان ذلك: المدعى تكفل مفهوم آية النبأ بحجّية خبر طبيعي العادل، وقد ذكر السيد المرتضى في أكثر من موضع(1): الإجماع على عدم حجّية الخبر الواحد، فهذا الخبر الواحد مشمول لأدلة حجّية الخبر الواحد، وإذا كان خبر السيد المرتضى حجّة يوجب ذلك عدم حجّية الخبر الواحد.

ويمكن أنْ يجاب عنه بعدة أجوبة نذكرها باختصار

الجواب الأوَّل: خبر الشريف المرتضى خبر حدسي؛ فإنَّهُ يخبر حدساً عن قول المعصوم (عليه السلام)، وهو ملاك حجّية الإجماع المنقول، وأدلة حجّية الخبر الواحد تثبت حجّية الأخبار الحسّية لا الحدسية، وعليه فإخبار الشريف المرتضى ليس مشمولاً لأدلة حجّية الخبر.

الجواب الثاني: إخبار السيد المرتضى معارض بإخبار الشيخ الطوسي(2)، فإنَّهُ ادعى الإجماع على العمل بخبر الواحد، والترجيح مع خبر الشيخ الطوسي، لما سيأتي من القرائن المعاضدة لدعوى الشيخ، ولا أقلّ من التكافؤ، فيتعارضان ويتساقطان؛ لأنَّ أدلة الحجّية لا تشمل المتعارضين، أو لا يمكن أنْ تشمل المتعارضين(3).

الجواب الثالث: إنَّ شمول أدلة حجّية الخبر الواحد لإخبار السيد المرتضى يوجب عدم الشمول؛ فإنَّ لازم الاندراج الإخراج، أي إنَّ دخول

ص: 193


1- رسائل الشريف المرتضى 1 : 210-211.
2- العدة في أصول الفقه 1: 126.
3- أي فيه محذور ثبوتي وهو الامتناع العقلي أو محذور إثباتي (منه (رحمه اللّه) ).

خبر السيد المرتضى في إطار أدلة الحجّية لازمه خروج خبر السيد المرتضى عن أدلة الحجّية، والشمول المستلزم لعدم الشمول أو الدخول المستلزم للخروج أو الاندراج المستلزم للإخراج محال.

بيانه: مفهوم آية النبأ حكم بحجّية خبر السيد المرتضى، ومدعاه عدم حجّية الخبر الواحد، ونفس إخبار السيد المرتضى خبر واحد، فالإجماع الذي نقله السيد المرتضى على عدم حجّية الخبر الواحد شامل لنفس إخباره.

وبعبارة أُخرى: السيد المرتضى يقول: الخبر العلمي غير حجّة، فيقال له: إخبارك هو خبر غير علمي، فلا يكون حجّة لنا.

إنْ قُلت: إنّها منصرفة عن خبره.

قُلنا: لا انصراف؛ لأنَّ القضية الحقيقية تشمل نفسها، إمّا لفظاً وإمّا ملاكاً - كما مرّ سابقاً - كقوله: كل خبري صادق، الشامل لنفس هذا الخبر.

الجواب

الرابع: شمول أدلة حجّية خبر الواحد لإخبار السيد المرتضى يوجب تخصيص الأكثر المستهجن، بل يوجب أبشع أنواعه، وهو انتهاء التخصيص إلى الواحد.

فإذا قال المولى: أخبار الثقات حجّة: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا»(1) وكان عندنا مائة ألف خبر، وخبر واحد هو خبر السيد المرتضى، فشمول أدلة الحجّية للطرفين محال لتمانعهما، فإن شملت أدلة الحجّية خبر السيد المرتضى، فمعنى ذلك إخراج كل الأخبار،

ص: 194


1- وسائل الشيعة 1: 38، 27: 150.

ويبقى تحت العموم خبر السيد المرتضى، وهذا تخصيص الأكثر، بل أبشع أنواعه.

فنقول: خبر السيد المرتضى لا يكون مشمولاً لأدلة الحجّية؛ لأنَّ الشمولين متمانعان؛ فإنَّها إمّا تشمل سائر الأخبار وإمّا تشمل خبر السيد المرتضى، وحيث لم يعقل شمولها لإخبار السيد المرتضى فتشمل تلك الإخبارات.

الجواب الخامس: لو شملت أدلة الحجّية خبر السيد المرتضى، أوجب ذلك بيان الشيء ببيان نقيضه، وهو قبيح في الغاية، وفضيح إلى النهاية، حسب تعبير الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1)؛ حيث يراد بيان عدم حجّية خبر الواحد بلسان حجّية خبر الواحد.

فمراد المولى من قوله: إن جاءكم عادل، إمّا إخبار الثقات أو إخبار السيد المرتضى، وهما متنافيان فلا يشملهما دليل الحجّية معاً، فإذا كان مراده خبر السيد المرتضى القائل بعدم حجّية خبر الواحد بالإجماع، تكون نتيجة قوله: إنْ جاءكم عادل فلا تتبينّوا، هو: إنْ جاءكم عادل فتبينوا، لعدم حجيته.

وهذا بيان لعدم الحجّية بلسان الحجّية، أي بيان أحد النقيضين بنقيضه وهو قبيح، بل هو أشبه بالأحاجي والألغاز التي لا تصدر من المتكلم الحكيم.

الجواب السادس: الشك ظرف حجّية الأمارات، وعدم مطابقة إخبار

ص: 195


1- فرائد الأصول 1: 265.

السيد المرتضى للواقع مطمأن به للقرائن التي ستذكر إنْ شاء اللّه، فلو أُريد به ظاهره فهو مخالف للواقع، حيث لم يقم إجماع من الإمامية على عدم حجّية خبر الواحد.

فعليه، أدلة الحجّية لا تشمل خبر السيد المرتضى.

الجواب السابع: قام الإجماع على عدم حجّية إخبار السيد المرتضى من المثبتين والنافين(1)، أمّا المثبتون لحجّية خبر الواحد فواضح؛ لاعتقادهم بحجّية أخبار الكافي مثلاً، فلا يعبأ بإخبار السيد المرتضى، وأمّا النافون؛ فلأنَّ خبر السيد المرتضى خبر واحد فلا يعتمد عليه.

وعليه، فقد أجمع الكل على عدم اعتبار إخبار السيد المرتضى.

وقد أشكل عليه صاحب الكفاية في الحاشية بقوله: «إن الاتفاق من المثبتين والنافين على عدم حجّيته يكون بملاكين، ومثله لا يكشف عن شيء»(2)؛ لأنَّ إجماع المثبتين لحجّية الخبر مستند بثبوت المفهوم لآية النبأ، وإجماع النافين لحجّية الخبر مستند بعدم ثبوت مفهوم لآية النبأ، فالإجماع يكون بملاكين، ومثله لا يكون حجّة.

ولكنه محلّ تأمّل؛ لإمكان دعوى عدم الفرق بين أنْ يستند الإجماع إلى ملاك واحد أو ملاكين.

مثلاً: لو أجمع الفقهاء على حلّية التتن، وكان مستند بعضهم البراءة الشرعية، ومستند بعض البراءة العقلية، فهو حجّة وإنْ كان بملاكين ولا

ص: 196


1- وحتى لو سئل السيد المرتضى عن حجّية نقله لأجاب - قاعدة - بعدم الحجّية.
2- درر الفوائد: 110.

يعتنى بالخلاف.

إنْ قُلتْ: إنَّه محتمل الاستناد أو مقطوعه.

قُلتْ: إذن لا يفرّق فيه بين كونه بملاك واحد أو ملاكين، فكونه ذا ملاكين لا يكون ملاكاً للرد والحكم بالبطلان.

الجواب الثامن: إخباره يعد - عرفاً - مناقضاً لما تدل عليه الآيات الكريمات؛ لأنَّ الآيات والروايات تنادي بحجّية خبر الواحد، وقول السيد المرتضى ينادي بعدم حجّية الخبر الواحد، فلا يعقل أنْ يكون قوله مصداقاً لأدلة الحجّية عرفاً.

وبعبارة أُخرى: كان مبنى الإشكال هو إنْ كان طبيعي خبر العادل حجّة فإخبار السيد المرتضى إخبار عادل، فتشمله أدلة الحجّية.

والجواب: إنَّّهُ عرفاً مناقض لأدلة الحجّية؛ فإنَّ مفاد كلامه نقيض أدلة الحجّية، فلا يعقل أنْ يكون مشمولاً لها، لأنَّ الشيء لا يشمل ما مفاده نقيضه، فينتفي الإشكال.

الجواب التاسع: ما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: إنَّ الأمر في المقام دائر مدار التخصيص والتخصص، وكلما دار الأمر بينهما قُدّم الثاني؛ لأنَّ به يحفظ عموم العام ولا ينثلم(2).

فمثلاً: لو قال المولى: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم زيداً، وتردد زيد بين اثنين، زيد العالم وزيد الجاهل، فإنْ كان المراد زيد العالم فيكون

ص: 197


1- نهاية الأفكار 3: 119.
2- وقد أخذ الكبرى بصورة مسلمة ولم يستدل لها (منه (رحمه اللّه) ).

تخصيصاً في العام، وتنثلم بذلك أصالة العموم، وإنْ كان المراد زيد الجاهل فخروجه تخصصي، ولا تنثلم أصالة العموم.

ويمكن الاستدلال له بعكس النقيض، فمعنى أكرم العلماء وجوب إكرام كل عالم. ومفاد عكس النقيض هو: كل من لا يجب إكرامه فليس بعالم.

وبعد ضم الكبرى - أي عكس النقيض للعام - إلى الخاص القائم عليه الدليل - أي زيد لا يجب إكرامه، وكل من لا يجب إكرامه فليس بعالم - تكون النتيجة: زيد ليس بعالم. فيثبت: أنَّ المراد ب:(لا تكرم زيداً) يعني لا تكرم زيداً الجاهل.

فعبر عكس النقيض نثبت أنَّ المراد من زيد في: (لا تكرم زيداً)، هو زيد الجاهل، فلم تنثلم أصالة العموم في العام.

إنْ قُلتْ: إنَّهُ مثبت.

قُلنا: مثبتات الأمارات حجّة ولا إشكال فيها، وإنْ نوقش في الكبرى فالكلام على الأصل الموضوعي.

وأمّا الصغرى: فالأمر في المقام دائر بين التخصيص والتخصص فيتعين الثاني.

بيان ذلك: إنَّ موضوع أدلة الحجّية هو الخبر المشكوك مطابقته أو عدم مطابقته للواقع، وأمّا الخبر المعلوم مطابقته أو عدم مطابقته للواقع فلا تشمله أدلة الحجّية.

فنقول: (النبأ) في الآية الكريمة منطوقاً ومفهوماً هو النبأ الذي لا يعلم مطابقته ولا مخالفته للواقع، وإلا لو علمت المطابقة أو المخالفة فلا معنى للتبين أو عدم التبين.

ص: 198

وعليه، فأدلة الحجّية - التي موضوعها ما ذكر - إمّا أنْ تشمل أخبار الكتب الأربعة (أي أخبار الآحاد)، وإمّا أنْ تشمل إخبار السيد المرتضى بقيام الإجماع على عدم حجّية أخبار الكتب الأربعة، لأنّهما متنافيان فلا يعقل كلا الشمولين.

فإذا كانت أدلة الحجّية شاملة لأخبار الكتب الأربعة فهي حجّة، فنقطع بأنَّ إخبار السيد المرتضى غير مطابق للواقع وخارج موضوعاً وتخصصاً عن أدلة الحجّية؛ لأنَّ الموضوع هو الخبر الذي لا يعلم مطابقته ولا عدم مطابقته للواقع، ومع شمول أدلة الحجّية للكتب الأربعة وحجيتها، يكون إخبار السيد المرتضى بعدم الحجّية غير مطابق للواقع قطعاً، فيخرج من موضوع آية النبأ.

وإذا كانت أدلة الحجّية شاملة لخبر السيد المرتضى، فلا نقطع بأنَّ أخبار الكتب الأربعة مخالفة للواقع؛ لعدم كون مفاد أخبار الكتب الأربعة الحجّية وعدمها، وإنّما مفادها الوجوب والحرمة والشرطية والمانعية، فحتى لو ثبت عدم حجّية أخبار الكتب الأربعة إلا أنّنا نحتمل - وجدانا - مطابقتها للواقع، فإنَّ خبر المجهول وإنْ لم يكن حجّة إلا أنَّه يحتمل مطابقته للواقع.

وعليه، فأخبار الكتب الأربعة داخلة - موضوعاً - في موضوع أدلة الحجّية لكنها خارجة حكماً، فيكون تخصيصاً في أدلة الحجّية.

وبعبارة أُخرى: إذا قُلنا: خبر الواحد حجّة إلا خبر السيد المرتضى، فهذا خروج تخصصي وموضوعي، وإذا قُلنا: خبر الواحد حجّة إلا أخبار الكتب الأربعة، فهذا خروج تخصيصي وحكمي، فيدور الأمر بين التخصيص والتخصص، والثاني هو المتعين، فيخرج خبر السيد المرتضى من أدلة الحجّية.

ص: 199

ويرد عليه أربعة إشكالات

الإشكال الأوّل: الأمر دائر بين التخصيصين.

بيانه: ليس مفاد الأدلة جعل الحجّية لخبر الواحد - لا لأنَّ الحجّية واللاحجّية من الأمور التي لا تقبل الجعل، فقد ثبت في محلّه أنَّهما قابلان للجعل بالذات، كما في قوله (عليه السلام): «فإنهم حجتي عليكم»(1)، ولا محذور ثبوتي فيه، إنَّما المحذور إثباتي - لعدم ظهور أدلة الحجّية في الجعل، بل هي ظاهرة في وجوب الجري العملي وفق الخبر الواحد، فقوله (عليه السلام): «عليك بهذا الجالس»(2)، يعني اسمع كلامه، وقوله (عليه السلام): «العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عنّي فعنّي يؤديان»(3)، يعني أطعهما، فمفاد أدلة الباب وجوب الجري العملي.

إذا تمّ هذا فيدور الأمر بين تخصيصين، ففي المقام يوجد إخباران: إخبار الثقة بأنَّه يجب قتل المحدود في المرّة الثالثة مثلاً، وإخبار السيد المرتضى بحرمة العمل وفق ذلك الخبر. فإذا شملت أدلة وجوب العمل خبر الثقة فيخرج خبر السيد المرتضى تخصيصاً؛ لدلالة الأدلة على لزوم العمل بكل خبر يحتمل مطابقته للواقع، ويخرج خبر السيد المرتضى من حكم تلك الأدلة، فيكون تخصيصاً.

وإذا شملت أدلة وجوب العمل خبر السيد المرتضى، فتخرج روايات

ص: 200


1- وسائل الشيعة 27: 140.
2- وسائل الشيعة 27: 143.
3- وسائل الشيعة 27: 138.

الثقة من تلك الأدلة خروجاً حكمياً مع انطباق الموضوع على كلا الخبرين.

فموضوع أدلة الباب خبر الثقة أو العادل الذي يحتمل مطابقته للواقع، فهذا الموضوع - وجداناً - منطبق على إخبار السيد المرتضى وعلى إخبارات الكافي؛ لأنَّ كلا منهما خبر يحتمل مطابقته للواقع، فالموضوع منطبق على الإخبارين، فإمّا أنْ يخرج الأوَّل من الحكم وإمّا الثاني، فيدور الأمر بين تخصيصين لا بين تخصيصن وتخصص.

الإشكال الثاني: الأمر دائر بين تخصصين، فمع قطع النظر عن الجواب الأوّل، وأنَّ المجعول هو وجوب الجري العملي، وتسليم كون المجعول في الباب هو الحجّية، إلا أنَّ الأمر يدور بين تخصصين ولا أولوية لأحدهما على الآخر.

بيانه: إنَّ موضوع الحجّية هو الخبر الذي لا يعلم أنَّهُ حجّة أو لا، أي الخبر الذي يحتمل حجيته ويحتمل عدم حجّيته؛ لأنَّ ظرف الأمارات الشك ولا أمارة مع القطع، فلو علم أنَّهُ حجّة أو غير حجّة فلا تشمله أدلة الباب.

فحين يقول المولى: «جعلت الخبر المشكوك حجّة»، فشموله لسائر الأخبار يورث القطع ببطلان خبر السيد المرتضى بعدم حجّيتها، لأنَّ مفاد الأدلة حجّية أخبار الكافي، ومؤدى كلام السيد المرتضى عدم حجّية هذه الأخبار، فنقطع بعدم حجّية خبر السيد المرتضى، فخروجه من أدلة الباب خروج موضوعي؛ لعدم كونه مشكوك الحجّية، بل مقطوع عدم الحجّية.

وإذا شمل خبر السيد المرتضى دون أخبار الكافي فنقطع بأنَّ أخبار الكافي ليست بحجّة، فخروج أخبار الكافي من أدلة الباب يكون خروجاً موضوعياً، فالأمر يدور بين تخصصين ولا أولوية لأحدهما على الآخر.

ص: 201

وتمامية هذا الجواب موقوف على تحديد موضوع أدلة الحجّية، فإنْ قُلنا: إنَّ موضوع أدلة الباب الخبر الذي يشك في حجّيته وعدم حجّيته، فالكلام تامّ حيث يدور الأمر بين تخصصين.

وإنْ قُلنا: إنَّ موضوع أدلة الباب هو الخبر الذي يشك في مطابقته للواقع، فكلام المحقق العراقي تام؛ لأنَّ مع فرض شمول أدلة الحجّية لخبر السيد المرتضى تكون أخبار الكافي مندرجة - موضوعاً - في أدلة الحجّية، للشك في الواقع في مطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع حتى لو كانت غير حجّة قطعاً، حيث لا ملازمة بين القطع بعدم الحجّية والقطع بمخالفة الواقع، فإذا فرضنا أنَّ مجهولاً جاءنا بخبر فخبره ليس بحجّة قطعاً، لكن يحتمل مطابقته للواقع.

فإذا كان الموضوع المطابقة للواقع، فمع شمول أدلة الحجّية لإخبار السيد المرتضى لا نقطع بأنَّ أخبار الكافي مخالفة للواقع، بل تبقى محتملة للأمرين، فهي مندرجة في موضوع أدلة الحجّية وخارجة عنها حكماً.

وأمّا إذا شملت أدلة الحجّية أخبار الكافي، فالسيد المرتضى القائل بعدم حجّية أخبار الكافي خبره غير مطابق للواقع قطعاً.

وسر ذلك: إنَّ مفاد خبر السيد المرتضى عدم الحجّية، ومع فرض شمول أدلة الحجّية لأخبار الكافي فكلام السيد المرتضى مخالف للواقع قطعاً، أمّا مفاد أخبار الكافي فليست الحجّية، بل مفادها الوجوب والحرمة والشرطية والقاطعية و...، فيحتمل مطابقتها للواقع ولو لم تكن حجّة قطعاً، والكلام في تشخيص الموضوع في أدلة الحجّية.

ويحتمل القول: إنَّ ما ذكره المحقق العراقي هو الموضوع عرفاً، فمعنى:

ص: 202

(إنْ جاءكم عادل بنبأ) هو النبأ المشكوك في كونه مطابقاً للواقع أو غير مطابق، وذلك بقرينة: (أنْ تصيبوا قوماً بجهالة) فالموضوع في المنطوق الخبر المشكوك.

فيمكن دعوى الظهور العرفي في أنَّ الموضوع هو الخبر المشكوك مطابقته للواقع، لا الخبر المشكوك حجّيته، ومع ذلك لا يخلو المقام من إشكال.

وقد مرَّ في مباحث القطع بأنَّ مفاد (اليقين) في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» الوجداني أو الأعم، ولعلّ ما ذكر هُناك ينفع في المقام.

الإشكال الثالث: ما في المصباح(1): بعد تسليم الكبرى وأنَّ التخصص مقدم على التخصيص، وبعد تسليم الصغرى بأنَّ الأمر دائر بين التخصيص والتخصص، إلا أنَّ التخصيص مقدم على التخصص في خصوص المقام؛ وذلك لأنَّ النكتة في تقديم التخصص هو التمسك بأصالة عموم العام وإطلاق المطلق، ولا يجري ذلك إلا في حالة الشك ولا شك في المقام؛ لأنَّ خبر السيد المرتضى يصلح لأنْ يكون قرينة على تخصيص أدلة الحجّية.

وبعبارة أُخرى: خبر السيد ناظر إلى عمومات أدلة الحجّية، وشارح لها وحاكم عليها، فيكون مقدماً على عموم أدلة الحجّية، تقدم القرينة على ذي القرينة.

وعليه، فالتخصيص في المقام مقدم، فأدلة الحجّية تشمل خبر السيد المرتضى دون الكافي.

ص: 203


1- مصباح الأصول 2: 177.

ولكنه لا يخلو من غموض.

لكن يمكن توجيهه بأنَّ إخبار السيد المرتضى شارح لأدلة الحجّية؛ حيث مفاده كون المراد من أدلة الحجّية - وإنْ كانت عامّة في حدِّ ذاتها لجميع الأخبار- الخبر الذي تطمئن وتسكن إليه النفس، أي إنَّ قوله: (إنْ جاءكم عادل بنبأ فلا تتبّينوا) عام أو مطلق، إلا أنَّ المراد منه - حسب مؤدى كلام السيد - الأخبار التي تورث الاطمئنان، فأخبار الكافي التي لا تورث الاطمئنان ليست مرادة من أدلة الحجّية.

وعليه، لا شك لنا في العموم، بل نعلم بعدم العموم، ومع وجود هذا الإخبار لا تجري أصالة العموم.

وعليه، يتقدم التخصيص على التخصص في خصوص المقام؛ لأنَّ نكتة تقديم التخصص على التخصيص غير جارية في المقام.

هذا ما خطر بالبال من توجيه عبارته.

الإشكال الرابع: الإشكال في المبنى - أي تقديم التخصص على التخصيص - لعدم نظر العام إلى مصاديقه، وإنّما العام يبين حكم الفرد على فرض فرديته، أمّا إثبات أنَّ هذا فرد أو ليس بفرد فلا يتكفله العام، فإنَّ الحكم لا يتكفل موضوعه.

والتحقيق في المبنى بصورة عامة موكول إلى محله، وهو مباحث العام والخاص، لكن - إجمالاً - مبنى عدم التقدم غير مقبول؛ لتكفل العام حكم مصاديقه بواسطة عكس النقيض، وإنْ لم يتكفل ذلك ابتداءً.

فالإشكال الرابع محل إشكال.

هذا تمام الكلام في أية النبأ.

ص: 204

الآية الثانية: آية النفر

اشارة

الآية الثانية(1): آية النفر(2)

وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِينذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيهِمْ لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ}(3).

وقبل بيان وجوه الاستدلال بالآية الكريمة نبحث في مقامين قد ينفعان في الاستدلال:

الأول: في معنى كلمة (لعل) في الكلام بشكل عام.

الثاني: البحث عن معنى كلمة (لعل) في القرآن الكريم.

معنى كلمة لعل بشكل عام

أمّا البحث الأوّل: فالمعروف والمشهور: أنَّ كلمة (لعل) وضعت لمعنى الترجي أو لإفادة كون مدخولها واقعاً موقع الرجاء، وفي الكتب النحوية ليت للتمني ولعل للترجي(4).

لكن المحقق العراقي(5) والسيد الوالد(6) (رحمهما اللّه) لم يرتضيا كون وضعها للترجي، وقد أشار في النهاية إلى تفصيله مع توضيح منّا: أنَّه حينما نتتبع موارد استعمال كلمة لعل في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة،

ص: 205


1- التي استدل بها على حجّية الخبر الواحد.
2- وقد قال البعض إنها أوضح الآيات في الدلالة على حجية الخبر الواحد.
3- التوبة: 122.
4- أوضح المسالك 1: 32، 328.
5- نهاية الأفكار 3: 126.
6- الأصول: 660.

والكلمات اليومية نرى أنّها استعملت في ما لا يلائم معنى الترجي، مثل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحَى إِلَيكَ}(1)، فهل يمكن أنْ يقال: إنَّ مدخول (لعل) - أي تركه لبعض ما يوحى إليه - واقع موقع الرجاء، يعنى نرجو أن تترك بعض ما يوحى إليك !

وقوله سبحانه و تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(2). ففي التفسير(3) أنَّ باخع نفسك بمعنى قاتل نفسك، فقد كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حريصاً على هداية الناس، ومتأثراً من ضلالتهم بشدة، فخاطبه اللّه بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ} يعني قاتل.

فهل مدخول (لعل) واقع موقع الرجاء وهو محبوب؟ فإنَّ الرجاء بمعنى توقع المحبوب، فهل كونه قاتلاً نفسه من الهم محبوب للمولى، وقد قال تعالى: {فَلَا

تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيهِمْ حَسَرَاتٍ}(4).

وقد تكررت كلمة (لعل) في دعاء أبي حمزة الثمالي في عدة فقرات، وهي: (سيدي لعلك عن بابك طردتني)(5) فهل طرده عن الباب محبوب؟

(أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني) و(أو لعلك رأيتني غير

ص: 206


1- هود: 12.
2- الكهف: 6.
3- نور الثقلين3: 243: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله عزّ وجلَّ: «{فلعلك باخع نفسك} يقول: «قاتل نفسك على آثارهم».
4- فاطر: 8 .
5- هذه الجملة وما بعدها من الجمل الموضوعة بين قوسين وردت في دعاء أبي حمزة الثمالي، عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) . راجع: إقبال الأعمال 1: 156-184.

شاكرٍ لنعمائك فحرمتني)، و (أو لعلك رأيتني ألف مجالس البطالين فبيني و بينهم خليتني). فهل كلمة (لعل) تفيد وقوع المدخول موقع توقع المحبوب؟

أو في الكلمات اليومية المتداولة، حيث نقول: لعل زيداً يموت، مع أنَّ موت زيد غير محبوب.

وفي الشعر:

لا تهين الفقير علّك أنْ ***تركع يوماً والدهر قد رفعه

فهل هُنالك رجاء وأمل بانْ يركع يوماً والدهر قد رفع غيره؟

وهل هُنالك ما يلزمنا بأنْ نقول : إنَّ استعمال (لعل) مجاز كما قال به البعض؟

وقد أٌوّل بأنَّ الرجاء بمعنى التوقع، أي (لعل) بمعنى الرجاء والرجاء بمعنى التوقع، وهو أعمّ من توقع المحبوب أو الاشفاق من المكروه.

إلا أنَّهُ مجرّد تأويل، فكلمة رجاء لا يظهر منها إلا معنى الأمل والرجاء، لا أنَّهُ بمعنى الأمل والخوف والاشفاق، كقوله: (رجوتك يا علي تعيش بعدي).

والحاصل: إنَّ الظاهر من كلمة الرجاء في القرآن الكريم وعرفاً ولغة هو الأمل، فالقول: إنَّ (لعل) بمعنى الرجاء، والرجاء أعمّ من توقع المحبوب والاشفاق من المكروه تأويل، وهو خلاف الظاهر.

وعليه، فما اشتهر بين الجمهور والنحاة غير واضح عند المحققين والسيد الوالد، ويكون معنى كلمة (لعل) وقوع مدخولها موقع الاحتمال، أي إنَّهُ محتمل.

ففي صحاح الجوهري(1): (لعل) كلمة شك، فهي لا ترادف الأمل، بل

ص: 207


1- الصحاح 5: 1815.

بمعنى محتمل.

وفي المنجد(1): لعل تفيد التوقع، وهو ترجي المحبوب والاشفاق من المكروه، وتختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله.

قال السيد الوالد في الأصول(2): فإنَّهُ بمعنى الاحتمال، وإنّما فهم الرجاء بالقرينة، كقوله عزَّ من قائل: {لَّعَلَّهُ يتَذَكَّرُ أَوْ يخْشَى}(3).

وقال المحقق العراقي: «لمجرد إبداء الاحتمال بلا اقتضائها لمطلوبية في مدخولها، ومن ذلك قولك: لا تدخل زيداً في بيتك لعله عدوك»(4) يعني يحتمل أنْ يكون عدواً.

معنى كلمة لعل في القرآن الكريم

أمّا البحث الثاني: فيقع الكلام فيه في معنى كلمة (لعل) في خصوص كلام اللّه تعالى، وفي المقام رأيان:

الأوّل: ما يمكن أنْ يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (5) وتوضيحه: لكلمة (لعل) معنى حقيقي هو: الترجي أو الترقب أو إفادة وقوع مدخولها موقع الاحتمال.

وهذا المعنى محال في حق اللّه تعالى، لأنَّ الترجي والترقب مستلزمان

ص: 208


1- وإن لم يعتبر حجة قوية (منه (رحمه اللّه) ). لم نجد ذلك في المنجد، بل وجدناه في مغني اللبيب 1: 287.
2- الأصول: 660.
3- طه: 44.
4- نهاية الأفكار 2: 126.
5- فرائد الأصول 1: 127.

للجهل بوقوع الأمر المرجو والمترقب، وهو في حق من: {لَا يعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}(1) محال، فلم تستخدم (لعل) في المعنى الحقيقي، وهي منسلخة عنه، ويكون أقرب المجازات في الآية الكريمة: {لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ}(2) إفادة المحبوبية، فالمعنى كون الحذر محبوباً ومطلوباً للمولى، فالاستعمال مجازي.

الثاني: ما يرتضيه صاحب الكفاية بقوله: «إنََّها مستعملة - على التحقيق - في معناها الحقيقي، وهو الترجي الإيقاعي الإنشائي، إلا أنَّ الداعي إليه حيث يستحيل في حقّه تعالى أنْ يكون هو الترجي الحقيقي، كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار»(3).

وكلام الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) تامّ فيما إذا كان معنى (لعل) إنشاء الترجي المنبعث عن الصفة القائمة بالنفس.

وأمّا إذا قُلنا: إنَّ معنى (لعل) إنشاء أو إظهار أو إيقاع الترجي - سواء أكان الداعي ثبوت صفة الرجاء في صقع النفس، أم كان منشأ الإظهار داع آخر - فإنَّ الداعي لا مدخلية له في المعنى الحقيقي، فيكون إظهار الترجي بأي دافع أو باعث كان هو المعنى الحقيقي، ويكون الداعي فينا وجود صفة الترقب في صقع النفس، وفي اللّه تعالى بيان المحبوبية أو ما أشبه ذلك.

ولتقريب ما ذهب إليه صاحب الكفاية نقول: إنَّ معنى صيغة افعل إنشاء

ص: 209


1- سبأ: 3.
2- التوبة: 122.
3- كفاية الأصول: 298.

طلب الفعل، فهذا الإنشاء يمكن أنْ يكون الداعي فيه ثبوت الطلب حقيقة في النفس، كأنْ يقول المولى لعبده: جئني بالماء، فهو ينشئ الطلب إنشاءً ناشئاً من ثبوته في نفسه، فهذا استعمال حقيقي.

ويمكن أنْ لا يكون إنشاء الطلب بداعي ثبوت الطلب وإنّما بداع آخر، كقوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}(1)، فهذا إنشاء للطلب ولكن بداعي التعجيز، وهو استعمال حقيقي أيضاً، والدواعي المتعددة لا مدخلية لها في حقيقية الاستعمال ومجازيته.

وعليه، فصيغة افعل موضوعة لإنشاء الطلب، سواء أكان بداع ثبوت الطلب أم بداعي التهديد أم التعجيز أم الإهانة، والاستعمال في كليهما حقيقي.

والظاهر أنَّ ما يراه صاحب الكفاية أقرب؛ فإنَّنا لا نشعر بالمجازية في هذه الاستعمالات، ولا نرى أنَّ كلمتي (لعل) أو (هل) في كلام اللّه تعالى استخدمتا في غير ما وضع لهما.

ف(لعل) في كلام اللّه تعني المحبوبية بمعنى كون الداعي المحبوبية، وإلا فهي بمعنى إنشاء الترجي أو إنشاء الترقب، أمّا في غير كلام اللّه فقد استخدمت بنفس المعنى، ولكن بداعي الرجاء أو بداعي الاشفاق أو بداعي بيان ثبوت الاحتمال.

والفرق بينهما: إنَّ ما ذهب إليه الشيخ معنى مجازي، وما ذهب إليه صاحب الكفاية معنى حقيقي.

هذا تمام الكلام في المقدمة وأمّا ذو المقدمة:

ص: 210


1- البقرة: 23.
وجوه الاستدلال بآية النفر على حجّية الخبر الواحد
اشارة

قد ذكرت هُنالك وجوه لدلالة الآية الكريمة على حجّية الخبر الواحد، وهي:

الأول: الإنذار واجب مقدمي

وهو ما ذكره في النهاية(1) من: أنَّ الإنذار واجب مقدمي، وبين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة تطابق بلحاظ الإطلاق والتقييد، وحيث إنَّ وجوب المقدمة مطلق فيكشف ذلك كشفاً إنياً عن إطلاق وجوب الحذر، وهذا هو معنى الحجّية.

وبعبارة أوضح: مقتضى إطلاق الآية الكريمة وجوب إنذار المتفقهين، سواء أحصل العلم للمنذرين - بالفتح - أم لم يحصل، فالإنذار واجب مطلقاً، ترتب عليه العلم للمنذرين أم لم يترتب لعدم تقييد في الآية الكريمة، وهذا الوجوب مقدمي لتحقق الحذر: {لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ}، فذو المقدمة هو الحذر والمقدمة هو الإنذار.

وقد ثبت في بحث مقدمة الواجب أنَّ بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها توافق في الإطلاق والتقييد؛ لأنَّ وجوب المقدمة وجوب ترشحي من وجوب ذي المقدمة، فلا يعقل أنْ يكون أحدهما مطلقاً والآخر مقيداً، لأنَّهُ مقتضى التبعية والظلية.

ولأنَّ وجوب الإنذار مطلق يكشف عن كون وجوب الحذر مطلقاً، فيجب على المنذرين - بالفتح- الحذر مطلقاً عند إنذار المنذرين - بالكسر- سواء أتحقق لهم العلم أم لا، وهذا معنى حجّية الخبر الواحد.

ص: 211


1- نهاية الدراية 2: 219.

وقد يخطر بالبال إشكال وهو: إنَّ وجوب المقدمة تابع لوجوب ذي المقدمة، وفي هذا الوجه جعل وجوب ذي المقدمة تابعاً لوجوب المقدمة.

ويدفع: بانَّ التبعية المطروحة في البرهان تبعية إثباتية، وتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذي المقدمة تبعية ثبوتية، ولا مانع من تعاكس التبعيتين باختلاف مقام الثبوت والإثبات، كما في كل علّة ومعلول، فالدخان تابع للنار في عالم الثبوت لكن النار تابعة للدخان في عالم الإثبات.

وعليه، فقد انتقلنا في هذا البرهان من إطلاق وجوب المقدمة - أي الإنذار - إلى إطلاق وجوب ذي المقدمة، أي الحذر، وهو انتقال إنّي من المعلول إلى العلّة، ويرتبط بعالم الإثبات، فلا إشكال فيه.

وقد أشكل عليه في المنتقى(1) كبروياً بعدم تسليمها، قال: «فإن ما ذكر من وجوب المقدمة لوجوب ذيها، الناشئ من ترشح وجوب المقدمة من وجوب ذيها إنّما يتأتى فيما كان فاعل المقدمة نفس فاعل ذي المقدمة؛ إذ الترشح يتصور في هذا النحو، أمّا مثل ما نحن فيه من فرض كون المقدمة فعل غير فاعل ذي المقدمة فلا معنى لأنْ يكون وجوب أحد الفعلين مترشحاً عن وجوب الآخر، ولا يتأتى فيه حديث التبعية المزبور، فهذا الوجه واضح البطلان»(2).

لكنَّه غير واضح، فما هو الفرق بين كون الفاعل متحداً أو متعدداً؟ فإنَّ

ص: 212


1- ونسبه إلى المحقق الإصفهاني، لكن في عبارات النهاية نوع من الغموض، وأنَّهُ هل يريد هذا المعنى؟ وإنْ استظهر ذلك من بعض عباراته (منه (رحمه اللّه) ).
2- منتقى الأصول 5: 282.

ملاك الوجوب الغيري - حسب تعريف المحقق الإصفهاني وهو تعريف المشهور- هو: «إنَّ الواجب الغيري ما وجب لواجب آخر، فما كان وجوبه منبعثاً عن وجوب غيره كان واجباً غيرياً مقدمياً»(1).

مثلاً: إذا قال المولى: (انصب السلّم وكن على السطح)، فقوله (انصب) واجب وجوباً غيرياً، لأنَّهُ مترشح عن وجوب الكون على السطح، فلولا هذا الوجوب لم يأمر المولى بنصب السلّم، ولولا وجوب الصلاة لم يأمر المولى بالوضوء، ولا فرق فيه بين كون الفاعل واحداً أو أكثر، كما يقول للعبد الأوّل (انصب السلّم) ويقول للثاني (كن على السطح)، فهل التعدد ينفي أنْ يكون الوجوب الأوّل وجوباً غيرياً؟

فغرض المولى (الكون على السطح) لكن فاعل المقدمة غير فاعل ذي المقدمة، وفيما نحن فيه فاعل الإنذار هو المتفقه وفاعل الحذر هو المنذر، فتعدد الفاعل، إلا أنَّهُ لا ينفي أنْ يكون وجوب الإنذار مقدمة لوجوب الحذر، وبعبارة أدق: مقدمة ناشئة عن وجوب الحذر.

فلماذا أمر المولى بالإنذار؟ لوجوب الحذر واحتياط المنذرين، فمقدمة لتحقق الواجب يوجب المولى الإنذار على المتفقهين.

والظاهر انطباق ضابط الوجوب الغيري في المقام.

نعم، في كلمات النهاية شيء من الاختلاف، حيث قال: «فالإنذار مراد من المتفقه لا لمراد آخر منه»(2).

ص: 213


1- نهاية الدراية 2: 222.
2- نهاية الدراية 2: 222.

فكلمة (منه) تشعر بكلام المنتقى، يعني لا بد وأنْ يكون الواجب الثاني منه لا من شخص آخر، مثل: أنْ يقول: الوضوء واجب من المصلي، لمراد آخر منه لا من شخص آخر حتى يكون واجباً مقدمياً.

ويرد على النهاية: إنَّ قيد (منه) لم يؤخذ حتى في تعريفه، وعليه فإشكال المنتقى غير واضح، هذا أولاً.

وثانياً: لو فرضنا أنَّ قيد (منه) مأخوذ في الواجب الغيري، يرد عليه ما ذكره المحقق الإصفهاني حيث قال: «نعم، مسألة التبعية في الإطلاق والتقييد جارية بلحاظ الغرض، فإنَّ الغرض لو كان قائماً بالتحذر عن علم(1) لا يعقل أنْ يكون الإنذار بقول مطلق واجباً لغرض التحذر الخاص»(2).

ولا مشاحة في الألفاظ، فإنَّ الملاك غرض المولى، سواء أسميناه واجباً مقدمياً أم لا، فلا يعقل أنْ يوجب المولى الإنذار مطلقاً، وغرضه التحذر في صورة حصول العلم.

وقد يناقش فيه صغروياً، حيث لا نسلم وجود الإطلاق في وجوب المقدمة وهي الإنذار.

بيانه: إنَّ استفادة الإطلاق فرع كون المولى في مقام البيان من الجهة التي يراد إثبات الإطلاق بلحاظها، ولكن إذا لم يكن المولى في مقام البيان من هذه الجهة تختلّ إحدى مقدمات الحكمة.

وظاهر آية النفر أنَّها في مقام الأمر بوجود فئة من كل جماعة، أو فرقة

ص: 214


1- أي وجوب الحذر ليس مطلقاً، بل مقيداً.
2- نهاية الدراية 2: 222.

تتخصص في شؤون الدين، لا في بيان كيفية الإنذار حتى يستفاد منها إطلاق وجوب الإنذار.

وفي الآية احتمالات: أحدها المؤيدة بالرواية(1): كون المراد النفر إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو في الحال الحاضر النفر إلى الحوزات العلمية.

ومن غير الممكن أو غير المطلوب أنْ يؤمر الجميع بالنفر إلى الحوزات للدراسة، وإنَّما المطلوب أنْ ينفر جمع من كل فرقة ليتخصصوا في شؤون الدين ولينذروا قومهم.

فظاهر الآية كونها في مقام تقسيم طبيعي العمل، لا في مقام بيان كيفية الإنذار، وإنَّما الإنذار والحذر من الفوائد المترتبة على العمل، ومّما يدل عليه صدر الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفِرُواْ كَآفَّةً}، فكلمة (كَآفَّةً) في صدر الآية تدل على أنَّ النفر المجموعي غير ممكن أو غير طبيعي أو غير مطلوب، بل لينفر جماعة، لا أنَّ الإنذار واجب في كلّ الحالات أفاد العلم أو لم يفد.

ومّما يؤيد ذلك عدم ذكر الشرط الأساسي لقبول قول المنذر وهو وثاقته أو عدالته، وكان من المفروض أنْ تقول الآية: لعلّهم يحذرون إذا

ص: 215


1- عن عبد المؤمن الأنصاري قال: «قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) : «إنّ قوماً يروون أنَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: اختلاف أمتي رحمة، فقال صدقوا، فقلت: إنْ كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول اللّه عزّ وجلّ (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، فأمرهم أنْ ينفروا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنَّما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين اللّه، إنَّما الدين واحد، إنَّما الدين واحد». وسائل الشيعة 27: 140-141.

كان المنذرون ثقات، فكيف تكون الآية في مقام البيان من هذه الجهة؟!

والمثال العرفي للتقريب أنْ نقول: يلزم على كلّ دولة أنْ ترسل جمعاً لتعلم الطب حتى يصبحوا أطباء، ويعالجوا المرضى لعلّهم يشتفون.

فهل هنالك إطلاق لقوله (يعالجوا المرضى) أعمّ من كونهم نساء أو رجال؟

أو هل إطلاقه يشمل مَنْ لا يدفع الأجر للطبيب مبرراً بإطلاق المعالجة، أعطي الأجر أم لا؟ وهل إطلاقه يشمل أيام التعطيل؟

الظاهر أنَّ العرف لا يفهم الإطلاق من (يعالجوا المرضى) ومن (لعلهم يشتفون).

ووزان الآية الكريمة نفس هذا الوزان !

فالمقدمة الأولى - أي إطلاق وجوب الإنذار الشامل لصورتي إفادة العلم وعدمه - محل تأمّل، ومع التأمّل فيها لا يثبت الإطلاق في وجوب الحذر.

وإن فسرّت الآية بالنفر إلى الجهاد - كما في بعض الروايات(1)

- فهو أوضح، فإنَّها في سياق آيات الجهاد.

فبعد نزول آيات ذم المنافقين - الذين امتنعوا عن الجهاد - قال المؤمنون: إنَّهم سيشتركون في كل الغزوات، فنهت الآية عن ذهاب جميع المؤمنين إلى الجهاد؛ وذلك لخلو المدينة، ولكيلا يبقى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحيداً في الحروب التي لم يخرج هو بنفسه فيها.

فقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفِرُواْ ) إلى الجهاد (كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ

ص: 216


1- التبيان 5: 315؛ السنن الكبرى 9: 47.

فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيتَفَقَّهُواْ) أي الباقين حيث إنَّهم بقوا عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (وَلِينذِرُواْ) أي الباقون (قَوْمَهُمْ) أي النافرين (إذَا رَجَعُواْ) أي رجع النافرون (إِلَيهِمْ) أي إلى الباقين (لَعَلَّهُمْ) أي النافرين (يحْذَرُونَ).

والمفهوم من الكلام: أنَّه نفرُ جمع وبقاء جمع عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتفقهوا في حكم نزل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم ينذروا النافرين إذا رجع النافرون إلى الباقين لعل النافرين يحذرون.

وعليه، فليست الآية أصلاً في مقام بيان الإنذار والحذر، فلا يستفاد منها الإطلاق.

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: دلالة آية النفر على محبوبية الحذر

وهو ما ذكره صاحب الكفاية(1) وحاصله: إنّ الآية تدل على محبوبية الحذر عند الإنذار، ووجهه: استخدام (لعل) في الآية في الترجي الإيقاعي الإنشائي، لا بداعي ثبوت هذه الصفة وإنَّما بداعي بيان المحبوبية، وإذا ثبتت محبوبية الحذر ثبت وجوبه عقلاً وشرعاً.

فينبغي الكلام في مقامين:

الأوّل: وجود الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه شرعاً.

الثاني: وجود الملازمة عقلاً.

أمّا المقام الأوّل: فلعدم القول بالفصل، فإنَّهم اتفقوا على قولين: قول السيد المرتضى وأتباعه القائلين بعدم وجوب الحذر، وقول المشهور

ص: 217


1- كفاية الأصول: 298.

القائلين بوجوب الحذر، فإنْ ثبت حسن الحذر ثبت وجوبه شرعاً.

وبعبارة أُخرى: لا حسن ولا وجوب للحذر عند السيد، وهما ثابتان عند المشهور، فالقول بالحسن دون الوجوب قول بالفصل.

وأجاب عنه صاحب الكفاية(1) بكون المجدي القول بعدم الفصل ولم يثبت ولا يجدي عدم القول بالفصل. أي إذا قام الإجماع على عدم الفصل فهو حجّة، أمّا الإجماع المركب من قولين إنْ لم ينته إلى الإجماع البسيط فلا حجّية فيه، وإلا فكل التفصيلات المتأخرة المذكورة في الفقه يحكم عليها بالبطلان، ولم يقل به أحد.

مضافاً إلى عدم الدليل على الملازمة الكلية - أي كلما قيل بحسن الحذر قيل بوجوبه - بل قام الدليل على عدمها، ففي كلّ الشبهات التحريمية والوجوبية غير المقرونة بالعلم الإجمالي يحسن الحذر والاحتياط، ولكنّه غير واجب.

أما المقام الثاني - أي ثبوت الملازمة العقلية بين محبوبية الحذر ووجوبه - فقد قال في الكفاية في بيان الملازمة: «لوجوبه(2) مع وجود ما يقتضيه وعدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه»(3).

توضيحه بالمثال: إذا كان هنالك أسد فالحذر محبوب وواجب، وإنْ لم يكن أسد، فالحذر ليس محبوباً ولا واجباً، بل غير ممكن؛ لأنَّ الحذر من

ص: 218


1- كفاية الأصول: 298.
2- أي الحذر.
3- كفاية الأصول: 298.

الأسد فرع وجوده، فإذا لم يكن فلا موضوع للحذر منه.

وتفصيل الكلام: هنالك حالتان: الأولى: حالة عدم قيام الحجّة على التكليف، فلا احتمال للعقوبة قطعاً، لقبح العقاب بلا بيان، فلا مقتضي للحذر ولا حسن فيه.

الثانية: حالة قيام الحجّة على التكليف، فاحتمال العقوبة قائم بالاحتمال المنجز، والحذر في هذه الحالة حسن وواجب؛ لأنَّ موضوع عدم البيان مرتفع.

وفي آية النفر: حسن الحذر يكشف - بالكشف الإنّي - عن وجود الحجّة على التكليف، وهو قول المنذر فيجب الحذر.

وبعبارة أُخرى: إمّا أن يكون هنالك مقتض للعقاب في المقام أو لا، فانْ كان هنالك مقتض فيجب الحذر، وإنَّ لم يكن هنالك مقتض فلا يحسن الحذر، وحيث إنَّ مفاد الآية حسن الحذر فهو كاشف عن وجود المقتضي للحذر، وحيث وجد المقتضي فالحذر واجب.

هذا بيان الملازمة العقلية بين حسن الحذر ووجوبه.

وأشكل عليه صاحب الكفاية(1) بكون الحذر نوعين :

الأوّل: الحذر من تحقق العقوبة مع قيام الحجة على التكليف، فتكون الملازمة تامة.

الثاني: الحذر من فوت الملاكات الواقعية مع عدم قيام الحجّة على التكليف، وحينئذ تمنع الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه فلا وجوب؛ لقبح العقاب بلا بيان، ولا دليل على وجوب تحصيل الملاكات الواقعية، منتهى

ص: 219


1- كفاية الأصول: 298.

الأمر أنَّ العبد قد تفوته بعض المصالح ويقع في المفاسد، ولم يثبت وجوب تحصيل المصالح ودفع المفاسد مع وجود المؤّمن الشرعي.

والحاصل: لم يبين متعلق الحذر في قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ}.

فإذا كان متعلق الحذر هو العقوبة لكانت الملازمة تامة، أمّا إذا كان متعلق الحذر هو الوقوع في المفاسد وفوت المصالح فلا ملازمة بين حسن الحذر ووجوبه.

وعليه، فإنْ أنذر منذر فقد يكون الحذر حسناً لملاك واقعي في دفع مفسدة أو جلب مصلحة، فلا ملازمة بين حسنه ووجوبه.

لكن لم يرتض ما ذهب إليه صاحب الكفاية كل من السيد الوالد والمحقق الإصفهاني والسيد الروحاني.

قال السيد الوالد(1): إنَّ الحذر وإنْ كان أعم من كون المحذور لازم الاجتناب وعدمه إلا أنّه منصرف إلى لزوم الحذر.

فقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ} منصرف إلى الحذر الواجب.

وقال في المنتقى: «الظاهر - كما ذكره (رحمه اللّه) - كون الآية الكريمة في مقام التحذير من العقاب لا من فوات المصلحة؛ إذ لم يكن يرد هذا المعنى في أذهان العامة في الصدر الأول؛ إذ الالتفات إلى وجود المصالح كان متأخراً عن ذلك الزمان»(2).

فقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ} يعني يحذرون عن العقاب، وهو لا

ص: 220


1- الأصول: 660.
2- منتقى الأصول 4: 283.

يكون إلا في ظرف قيام الحجّة على التكليف فيجب الحذر.

فإنَّ مسألة المصالح والمفاسد والملاكات الواقعية ترتبط بالعهود المتأخرة، وربما طرحت مع تطور علم الكلام.

وقال في النهاية: «إنَّ الإنذار والتحذر بملاحظة ترتب العقوبة أنسب؛ إذ المتعارف من الإنذار من المبلغين للأحكام في مقام الحث على العمل بها: بيان ما يترتب على الفعل أو الترك من العقوبات الأخروية دون المصالح والمفاسد، فيكون التحذر المنبعث عنه تحذراً من العقوبة»(1).

هذه بيانات ثلاثة لإثبات كون متعلق الحذر هو العقوبة، فإنْ تمّت تثبت الملازمة العقلية بين محبوبية الحذر ووجوبه.

لكنها قابلة للتأمل: أمّا الانصراف فلم يتضح لنا.

وأمّا مسألة عدم التفات العامة في الصدر الأوّل لمسألة المصالح والمفاسد، فيمكن أنْ لا يلتفتوا إليه بعنوان الملاكات، أمّا الواقع والمعنون بهذا العنوان - أي الوقوع في المفاسد الواقعية وفوت المصالح الواقعية - فيدركه البشر في كل زمان ومكان.

وأمّا مسألة المتعارف للمبلغين للأحكام، فالمتعارف عندهم التحذير عن فوت المصالح الدنيوية كالتحذر عن العقوبات الأخروية.

فحينما يقول المنذر مثلاً: لا تبذروا وإلا فسيسلب اللّه نعمه، فليس هذا تحذيراً للعقوبة الأخروية، وإنّما تحذير من فوت المصالح الدنيوية.

فهل آية النفر لا تنطبق عليه؟

ص: 221


1- نهاية الدراية 2: 218.

أو يقول الخطيب من فوق المنبر: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يصْنَعُونَ}(1)، فهل آية الإنذار لا تنطبق على هذا الإنذار؟

فالمعنى: لينذروا قومهم من كفران النعم لعلهم يحذرون الوقوع في هذه المفسدة.

وفي الروايات الكريمة استخدمت كلمة الحذر وما يرادفها في عشرات الموارد فيما لا تترتب عليها العقوبات الأُخروية، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «احذروا السفلة؛ فإنَّ السفلة من لا يخاف اللّه عزَّ وجلَّ»(2).

فمتعلق (احذروا) أعمّ من العقوبة الأُخروية المترتبة على محرّم.

وقال (عليه السلام): «احذروا نفار النعم، فما كل شارد بمردود»(3).

فهذا تحذير من أثر وضعي دنيوي، فإذا كفرتم النعم فإنَّ النعم ستشرد ولا يعلم عودها، و هو إنذار وتنطبق عليه آية الإنذار.

وفي نهج البلاغة: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «احذروا معاملة أصحاب العاهات؛ فإنَّهم أظلم شيء»(5).

ص: 222


1- النحل: 112.
2- بحار الأنوار 10: 144.
3- بحار الأنوار 68: 54.
4- بحار الأنوار 71: 178.
5- بحار الأنوار 100: 83 ، وربّما ذلك للعقدة الباطنية في هؤلاء للنقص والعاهة التي تسبب سوء المعاملة (منه (رحمه اللّه) ).

وقال (عليه السلام): «يا بني، احذر الحسد»(1).

وليس الحسد بكل أنواعه حراماً، بل الحرام ما ظهر من الحسد بيد أو لسان، وإلا فلا، حسب كلمات الفقهاء.

وقال (عليه السلام): «احذر من الناس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمام؛ لأنَّ مَنْ خان لك خانك، ومَنْ ظلم لك سيظلمك، ومَنْ نمَّ إليك سينمّ عليك(2)»(3).

وكذا الكلمات التي تؤدي معنى الحذر أيضاً ك- (إياك) بمعنى احذر أو أحذرك ، فقد قال(عليه السلام) : «يا بني، إياك والهزل؛ فإنَّ نفعه قليل، ويهيج العداوة بين الإخوان»(4).

وكذا قوله(عليه السلام): «إياك والغضب، فإنَّ الغضب يستخف صاحبه(5)»(6).

وكذا كلمة (الاحتراس) القريبة من الحذر في الروايات، فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «احترسوا من الناس بسوء الظن(7)»(8).

فوظيفة المنذر التحذير من العقوبات الأُخروية المترتبة على المكروهات

ص: 223


1- بحار الأنوار 13: 42.
2- وذلك لأنَّ الطبيعة واحدة، فلا تفرح بخيانته وبظلمه الغير من أجلك وبنميمته عندك، وهكذا في غيبته للآخرين بمحضرك وبكشفه سرّ الغير عندك؛ سيفعل مثل ذلك عليك أيضاً.
3- بحار الأنوار 75: 230.
4- بحار الأنوار 14: 43.
5- ربّما معناه يجعل صاحبه خفيفاً فيذهب وقاره بفعل عمل غير حكيم.
6- بحار الأنوار 14: 43.
7- ربّما المراد سوء الظن العملي لا القلبي بمعنى الاحتياط عملاً، فلا يعطي الإنسان أمواله للناس ولا يكشف أسراره عندهم؛ لاحتمال أكله وكشفه وليس المراد نظرة السوء إليهم.
8- بحار الأنوار 74: 158.

كالمحرمات، فبعض المكروهات فيها عقوبات أُخروية، وقد ذكرها السيد الوالد في الفقه وبين أنَّهُ كيف يمكن ذلك، وأنَّه لا ملازمة بين العقوبة الأُخروية وحرمة العمل، فمثلاً: إذا فرض أنَّ سوء الخلق مكروه، لكن من آثاره ضغطة القبر وهي عقوبة أُخروية.

وفي ثواب الأعمال وعقاب الأعمال(1) الكثير من الأعمال المكروهة، والتي يترتب عليها العقاب الأُخروي.

ويحذر المنذر - أيضاً - من العقوبات الدنيوية، فقد دخل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيت عائشة فوجد فيها قطعة خبز كاد أنْ يطأها، فقال لها: «يا حميراء، أكرمي جوار نعم اللّه؛ فإنَّها لم تنفر من قوم فكادت تعود إليهم»(2).

إنَّهُ تحذير من الآثار الوضعية الدنيوية.

وعليه، فلا ظهور في كون متعلق الحذر خصوص العقوبات الأُخروية. فإشكال الكفاية على الشق الثاني من الوجه الثاني تامّ.

الوجه الثالث: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق اللغوية

وهو ما ذكره صاحب الكفاية في الكفاية(3) والحاشية(4) من: دعوى الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق التمسك بمسألة اللغوية.

والفرق بينه وبين الوجه الأوّل هو: إنَّ الأوّل مبني على مسألة إطلاق

ص: 224


1- راجع الكتاب المذكور من الصفحة 220 إلى آخر الكتاب.
2- الكافي 6: 300؛ المعجم الأوسط 6: 293.
3- كفاية الأصول: 298.
4- درر الفوائد: 118.

وجوب الإنذار، وهذا الوجه مبني على لغوية وجوب الإنذار.

وهذا الوجه مركب من دعاوى ثلاث:

الأولى: النفر واجب، الثانية: الإنذار واجب، الثالثة: الحذر واجب.

أمّا الدعوى الأولى: فيدل على وجوب النفر وقوعه بعد لولا التحضيضية، فحروف التحضيض إنْ دخلت على الفعل المضارع تفيد الترغيب في إتيان الفعل، كقوله تعالى: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(1)، وإنْ دخلت على الفعل الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل، على ما ذكره النحاة(2)،

وبما أنَّها في الآية دخلت على الماضي فهي تفيد التوبيخ على ترك النفر، ولا معنى للتوبيخ على ترك غير الواجب، فيكون النفر واجباً.

أمّا الدعوى الثانية: فإنَّ الإنذار واجب لأنَّهُ وقع غاية للواجب: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِينذِرُواْ قَوْمَهُمْ}، وغاية الواجب واجبة.

وأمّا الدعوى الثالثة: فإنَّ الحذر واجب وإلا لاستلزم اللغوية، حيث إنْ وجب الإنذار على المنذرين ولم يجب الحذر على المنذَرين لكان الإنذار لغواً.

ولذلك نظائر في الفقه والأصول:

منها: ما ذكر في آية الكتمان وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَينَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَينَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يلعَنُهُمُ

ص: 225


1- الحجر: 7.
2- شرح ابن عقيل 4: 56؛ مغني اللبيب 1: 361.

اللّهُ وَيلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}(1)، فقد قالوا: إنَّ وجوب الإظهار وحرمة الكتمان يلازم وجوب القبول(2).

ومنها: ما ذكر في آية السؤال: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(3)، فإنْ كان السؤال واجباً ولم يجب القبول لكان لغواً.

ومنها: ما في قوله تعالى: {وَلاَ يحِلُّ لَهُنَّ أَن يكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ}(4)، فإنْ كان الإظهار واجباً ولم يجب قبول قولها ترتب عليه لغوية الإظهار.

وقد أُجيب عن كيفية الاستدلال بهذا الوجه بعدة أجوبة
الأوّل

ما أشكل به صاحب الكفاية على ما ذكره(5)، وتوضيح الإشكال كما في النهاية، حيث قال: «الفائدة غير منحصرة في التحذر، بل لإفشاء الحقَّ وظهوره بكثرة إنذار المنذرين، فالغاية قهراً يلازم العلم بما أنذروا به، فالتحذر بما علم غاية لظهور الحق وإفشائه، وهو غاية لإنذار المنذرين، بحيث يكون إنذار جملة من المكلفين علّة لحصولها، وإنذار كل واحد مقدمة لحصول العلّة التامّة لظهور الحق»(6).

ص: 226


1- البقرة: 159.
2- نهاية الأفكار 3: 130؛ منتهی الأصول 2: 110؛ بحوث في علم الأصول 4: 375.
3- النحل: 43.
4- البقرة: 288.
5- كفاية الأصول: 299؛ درر الفوائد: 118.
6- نهاية الدراية 2: 220.

توضيحه: إنذار كلّ فرد من المنذرين مقدّمة لحصول إنذار جملة من المنذرين، وإنذار جملة من المنذرين علّة تامّة لظهور الحق. وغاية ظهور الحق أو علّته التامّة التحذر بما علم.

وبعبارة أُخرى: إنْ انحصرت الفائدة في قبول المنذرين للإنذار تعبّداً، فمع عدم وجوب القبول يكون الإنذار لغواً.

لكن يمكن تصوّر فائدة أُخرى، وهي: إنذار المجموع فيحصل العلم للمنذرين بما أنذروا به، فيكون عملهم في حالة حصول العلم. وهذا المقدار كافٍ لدفع اللغوية.

وللتقريب بمثال فقهي نقول: تجب إقامة الشهادة لكن لا يترتب الأثر على شهادة الشاهد الواحد فيما احتيج إلى شاهدين، إلا أنَّ له المدخلية في تحقيق ما هو موضوع الأثر وهو شهادة شاهدين، فهو مقدمة لتحقيق هذا الموضوع، والذي يترتب عليه حكم الحاكم، وعليه فلا يقال إنَّ شهادة الشاهد الواحد لغو.

وكذلك فيما نحن فيه، فإنّ إنذار المنذر الواحد وإنْ لم يجب قبوله تعبّداً لكنه ليس لغواً، فإنَّهُ كشهادة الشاهد الواحد دخيل في تحقيق ما هو الموضوع للأثر، أي وجوب القبول، واحتمال هذا المطلب كاف لدفع اللغوية. فالمنذر الواحد إنَّما يجب عليه الإنذار في حالة انضمام آخرين إليه ليتحقق الموضوع.

وأشكل عليه(1)

في النهاية بإمكانه ثبوتاً لكنه منفي إثباتاً بلحاظ ظاهر

ص: 227


1- أي: على إشكال المحقق الخراساني على الوجه الثالث.

الآية، قال: «إنَّ ظاهر الآية أنَّ الغاية المترتبة على الإنذار، والفائدة المترقبة منه هو التحذر لا إفشاء الحق وظهوره، فالمراد - واللّه أعلم - لعلهم يحذرون بالإنذار لا بإفشاء الحق بالإنذار، كما أنَّ ظاهرها التحذر بما أنذروا لا بالعلم بما أنذروا به»(1).

أي أنَّ الآية رتبت الحذر على صرف الإنذار، لا على الإنذار المقيد بظهور الحق وإظهاره، كما أنَّ الإنذار الواجب مطلق الإنذار، لا الإنذار الذي يظهر به الحق، فهي توجب الإنذار ووجوب التحذر بالإنذار لا بقيد العلم بالمنذر به. ثم قال: «واللّه أعلم»(2) .

لكن إشكال المحقق الإصفهاني على إشكال الكفاية على الوجه الثالث محلّ تأمّل؛ لأنَّ كلام المحقق الإصفهاني لا بدّ وأنْ يبتني على ثبوت الإطلاق في الآية الكريمة، فلو كان المولى في مقام البيان ينعقد لكلامه إطلاقان: إطلاق (أوي) وإطلاق (واوي).

مثلاً(3): إذا قال المولى: إذا خفي الأذان فقصّر، فإنْ كان في مقام البيان ينعقد للعلة إطلاقان: إطلاق (أوي) مفاده خفاء الأذان علّة منحصرة، لا أنَّها علّة على سبيل البدل، وبهذا ينعقد للعلّة إطلاق (أوي) أي لا (أو) له.

وهكذا قوله: (إذا جاء زيد فأكرمه) فيه إطلاق (أوي)، أي أنَّ المجيء علّة منحصرة، لا أنَّ المجيء علّة وهنالك علّة أُخرى؛ ليكون المفاد (إذا جاء

ص: 228


1- نهاية الدراية 2: 221.
2- نهاية الدراية 2: 221.
3- يقصد به صرف المثال لا الحرفيّة (منه (رحمه اللّه) ).

زيد فأكرمه، وإذا أكرمك - وإنْ لم يجئك - فأكرمه).

والإطلاق الثاني إطلاق (واوي)، أي إطلاق في مقابل (الواو)، مفاده كون العلّة علّة تامّة لا جزء العلّة، وأنَّ هنالك جزءاً آخر للعلّة كخفاء الجدران، فإنْ كان المولى في مقام البيان ينعقد للفظ إطلاق (واوي) فتكون العلّة تامّة، وإطلاق (أوي) فتكون العلّة منحصرة.

وإنْ لم يكن المولى في مقام البيان لا ينعقد إطلاق (واوي) ولا (أوي) بل الكلام يكون مجملاً، فيفيد أنَّ هذا المقدم له نحو من أنحاء المدخلية في التالي، سواء أكانت علّة تامّة أم ناقصة منحصرة أم غير منحصرة في تمام الأوقات أو بعض الأوقات، فالمقدم على نحو الإجمال له دخل في التالي على نحو الإجمال.

فنتساءل من صاحب النهاية: إنْ بنيتم جوابكم على ثبوت الإطلاق في الآية الكريمة، فهذا رجوع إلى الوجه الأوّل، والبحث هنا - مع قطع النظر عن مسألة الإطلاق وإنَّما الملحوظ اللغوية - ان وجب الإنذار دون القبول لزم اللغوية، فيكفي في دفع اللغوية أنْ يكون إنذار المنذر دخيلاً - ولو على نحو جزء العلّة - في القبول.

فموضوع وجوب الحذر ووجوب القبول إنذار مجموعة من المنذرين يفيد قولهم العلم، وإنَّما أمر المنذر الواحد بالإنذار، كما أمر الشاهد الواحد بالشهادة، وهو كاف لدفع اللغوية، فيمكن أنْ يكون جزء العلّة، ويكون تمام العلّة اجتماع مجموعة من الإنذارات، أو الإنذار بانضمام القرائن الخارجية المفيدة للعلم، كما هو كذلك في أكثر الأحيان، فمفاد الآية بغض النظر عن ثبوت الإطلاق ويجب عليهم الإنذار على نحو الإجمال حتى يترتب عليه

ص: 229

الحذر على نحو الإجمال.

فإنْ لم تكن الآية في مقام البيان، فينتفي ظهور كون الإنذار تمام العلّة لوجوب الحذر.

وعليه فإشكال النهاية غير واضح.

الوجه الثاني

ما ذكره السيد السبزواري في التهذيب، قال: «ويرد عليه: بأنه كذلك في الغاية المنحصرة لا المتعددة كما في المقام» فإن كانت الغاية منحصرة في الحذر، فمع عدم وجوب الحذر يستلزم لغوية الإنذار، إلا أنَّها ليست منحصرة وإنَّما هي متكثرة: «لأنَّ الغاية الأولى إتمام الحجّة من اللّه تعالى، تحذّر أحد بالإنذار أو لا، والتحذّر أيضاً غاية أُخرى، ومع عدم وجوب الأخير لا يلزم لغوية الإنذار لترتب إتمام الحجّة عليه».(1)

وفيه تأمّل؛ لأنَّ إتمام الحجّة متوقف على كون الحذر واجباً والإنذار حجّة، ولا معنى لإتمام الحجّة بما ليس بحجّة، كأن يقول المولى: (يجب الإنذار على المنذرين ولا يجب الحذر)، فعدم وجوب الحذر يعني لا حجّية للإنذار، فكيف تتمّ الحجّة على المنذرين؟ وكيف يؤاخذهم المولى بما لم يجعله حجّة عليهم؟

وبعبارة أُخرى: هنالك مفهومان:

الأوّل: وجود التحذّر خارجاً، وانتفاؤه لا ينافي إتمام الحجّة.

الثاني: وجوب التحذّر شرعاً، فإنْ لم يكن للتحذر وجوب شرعي

ص: 230


1- تهذيب الأصول 2: 98.

فكيف تتمّ الحجّة على العبيد بما لا وجوب له عليهم ؟!

فما ذكره السيد السبزواري غير واضح.

الوجه الثالث

الإنذار وإنْ لم يكن حجّة إلا أنَّهُ سبب لاستحباب الانبعاث الاحتياطي، كما قالوا في أدلة التسامح، فإنَّ الرواية وانْ لم تستجمع شرائط الحجّية ولكن أثرها انبعاث المكلفين رجاء.

وفي المقام كذلك، فإنَّهُ وإنْ لم يكن إنذار المنذرين حجّة، إلا أنَّ الأثر المترتب على الإنذار استحباب الانبعاث الاحتياطي، وهذا المقدار كاف لدفع اللغوية.

وعليه، لا يتوقف دفع اللغوية على القول بوجوب الحذر.

هذا تمام الكلام في الوجه الثالث.

الوجه الرابع: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق الغاية
اشارة

وهذا الوجه، هو: دعوى الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق الغاية(1)،

وهو منحل إلى دعويين:

الأولى: الحذر غاية الواجب.

الثانية: غاية الواجب واجبة.

أمّا الدعوى الأولى: فلأنَّ كلمة (لعل) ظاهرة في أنَّ ما بعدها غاية لما قبلها، سواء أكان ما قبلها من الأمور التكوينية أم الأمور التشريعية، وسواء

ص: 231


1- ويشترك هذا الوجه مع الوجه الأوّل والثالث في دعوى الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر، ويختلف عنهما في الطريق (منه (رحمه اللّه) ).

أكان ما بعدها مقدوراً بالمباشرة للمكلف أم لا، ففي جميع الحالات (لعلّ) ظاهرة في كون ما بعدها غاية لما قبلها.

ومثاله: اشتريت داراً لعلي أسكنها، فالسكنى غاية لما قبلها في الأمور التكوينية.

وكذا قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّينًا لَّعَلَّهُ يتَذَكَّرُ أَوْ يخْشَى}(1)، فالتذكر أو الخشية غاية القول اللين، وهو قابل للتكليف المباشر.

وكذا قولنا: تب إلى اللّه لعلّ اللّه يغفر لك، والغفران فعل اللّه، وهو غير قابل للتكليف المباشر، وإنْ كان مقدوراً بالواسطة.

وفي كلّ الأحوال فكلمة (لعل) ظاهرة في كون ما بعدها غاية لما قبلها.

هذا بيان الصغرى، وهي كون الحذر غاية للواجب، أي الإنذار أو النفر.

وأمّا الدعوى الثانية: في بيان الكبرى، وهي: كون غاية الواجب واجبة، فإنَّ ما يترشح منه وجوب شيء أولى بأنْ يتصف بالوجوب.

والغاية أوّل ما ينقدح في الذهن، وهي علّة فاعلية الفاعل، ووجوب ذي الغاية مترشح من وجوب الغاية، ولا يعقل أنْ يكون ذو الغاية واجباً، ولا تكون الغاية واجبة، بل تكون مستحبة، ويترشح منها وجوب مقدمتها، ولذا قيل الفرع لا يزيد على الأصل.

وعليه، إذا كان النفر والتفقه والإنذار واجباً، فلا يمكن أنْ تكون الغاية - أي لعلهم يحذرون - مستحبة.

ص: 232


1- طه: 44.
ويمكن أنْ يجاب عنه بأجوبة

الجواب الأوّل: عدم تسليم الكبرى.

إنّنا لا نسلّم أنَّ غاية الواجب يلزم أنْ تكون واجبة، فقد نقبل عكس ذلك بأنْ نقول: إن كانت الغاية واجبة فيترشح منها الوجوب على ذي الغاية، ولكن لا دليل على وجوب ذي المقدمة إنْ كانت المقدمة واجبة، فيمكن أن يكون هنالك ملاك يدعو المولى لإيجاب المقدمة مع عدم وجوب الغاية.

مثال: يجب الأمر بالمستحبات على رأي بعض الفقهاء مع عدم وجوب الإتيان بها، وقد استدلوا لذلك بأدلة ثلاثة:

الأول: إطلاقات أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصلاة الليل معروف، وأدلة الأمر بالمعروف الظاهرة في الوجوب تأمر بالأمر بها.

الثاني: قال اللّه تعالى: {أَقِيمُوا الدِّينَ}، وإقامة الدين عادة أو غالباً بالمستحبات ك- : صلاة الجماعة وحضور المساجد والحسينيات والاحتفالات الدينية ورفع الأذان، وإقامة مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) وبناء المساجد وبناء الأضرحة المقدسة.

الثالث: إنَّ الأمر بالمستحبات دعوة إلى الخير، وقد قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يدْعُونَ إِلَى الْخَيرِ وَيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1). ولذا أفتى بعض الفقهاء بأنَّ الأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات واجب، كما يقوم بذلك الخطباء الكرام، كأمرهم

ص: 233


1- آل عمران: 104.

بصلاة الليل وبرّ الوالدين وحُسن الخلق في مراتبها المستحبة(1).

فلا مانع من وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذي المقدمة - أي إتيان الناس بالمعروف - والفرع لا يزيد على الأصل ليس قاعدة عقلية، فلا مانع من الزيادة في الأمور التعبدية.

مثلاً: قد يكون العقد مستحباً لكن الوفاء به واجب كعقد الهبة؛ حيث يمكن فسخ العقد على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، ولكن مع حفظ الموضوع - الوفاء - واجب، فلا يحق للواهب أنْ يتصرّف في المال الموهوب إلا إذا أبطل الهبة.

وفي المقام لا مانع من استحباب الحذر مع وجوب الإنذار، ولم يقم برهان شرعي ولا عقلي على كلية قاعدة: غاية الواجب لا تكون إلا واجبة.

وربّما لم يتطرقوا إلى هذا الجواب لوجود الإشكال فيه.

الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية(2)

ومفاده: إنَّ تمامية الاستدلال موقوف على ثبوت إطلاق وجوب الحذر في الآية الكريمة، ولم يثبت الإطلاق؛ لأنَّ الآية في مقام بيان وجوب النفر لا في مقام بيان وجوب الحذر، والقدر المتيقن ثبوت وجوب الحذر في صورة إفادة الإنذار للعلم.

وحاصله: مناقشة الكبرى، حيث لا نسلّم كلّيتها؛ فإنَّ الغاية المطلقة للواجب واجبة، وعليه يدور البحث في حجّية الخبر الواحد، أمّا الغاية المهملة فلا تثبت إلا الوجوب المهمل - أي في حالة إفادة الخبر للعلم -

ص: 234


1- وقد ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) تفصيل ذلك في الفقه 48 : 202.
2- كفاية الأصول: 299.

وهو خارج عن محلّ الكلام.

وأشكل عليه في المصباح(1) بإشكالين:

الأوّل: الأصل في كل كلام أنْ يكون في مقام البيان، فينعقد له الإطلاق لبناء العقلاء، إلا إذا قامت قرينة على الخلاف، فقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ} في مقام البيان وينعقد له الإطلاق.

وقد ذكر في بعض المباحث الفقهية أنَّهُ لو لم نقل بذلك ولو للأصل العقلائي، لم يمكن التمسك بإطلاق أي كلام حتى في مثل قوله تعالى: {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(2)، لعدم ثبوت كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، لكن الأصل العقلائي قاض بكون المولى في مقام البيان من جميع الجهات، إلا أنْ تثبت قرينة على الخلاف.

لكنّه محلّ تأمّل؛ فإنَّهُ إنَّما يتم إذا شككنا أنَّ المولى في مقام البيان أم لا، لكن لو علمنا بأنَّ المولى ليس في مقام البيان من هذه الجهة - لظهور الكلام فلا ينعقد الأصل، كما في مثل: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ}(3)، فلا إطلاق فيها لموضع العض؛ لأنَّ ظاهر الكلام أنَّهُ سيق لبيان أمر آخر، والمدعى فيما نحن فيه كون الآية ظاهرة في أنَّ المولى في مقام بيان وجوب النفر، فالكلام حول كيفية النفر وتقسيم العمل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، هذا هو غرض المولى، أمَّا إطلاق

ص: 235


1- مصباح الأصول 2: 184.
2- البقرة: 275.
3- المائدة: 4.

وجوب الإنذار والحذر فهو ليس ملحوظاً في الآية الكريمة، ومع قرينة الظهور لا يتمّ للكلام إطلاق من هذه الجهة.

الإشكال الثاني: إنَّ تقييد وجوب الحذر بصورة إفادة العلم يوجب التقييد بالفرد النادر.

لكنّه محلّ تأمّل؛ فإنَّ إفادة قول المنذرين للعلم كثير، لا أقلّ من الاطمئنان، وهو من مراتب العلم أو هو حجّة في عرض العلم، ولذا - ربما - نطمئن من أغلب الأخبار التي تصلنا، إلا إذا كانت هنالك جهة خارجية توجب التشكيك.

الجواب الثالث: وهو قريب من جواب الكفاية(1): من أنَّ غاية الواجب المطلق واجب مطلق لا غاية الواجب المهمل.

فالقول بكون غاية الواجب واجبة يختص بالواجب المطلق لا الواجب المهمل، ولم يعلم وجوب الإنذار في جميع الحالات، فيحتمل تقييد وجوب الإنذار بصورة إفادة العلم، يعني لا يجب على المنذر الإنذار إلا إذا كان إنذاره مفيداً للعلم، كما مرَّ بيانه سابقاً.

وبعبارة أُخرى: عندنا ثلاث صور:

الأولى: إنْ علم أنَّ قوله يفيد العلم يجب عليه الإنذار.

الثانية: إنْ علم أنَّ قوله لا يفيد العلم لا يجب عليه الإنذار.

الثالثة: إنْ شكّ أنَّهُ هل يفيد العلم أم لا، فالمرجع الأصول العملية أو

ص: 236


1- والفرق بينه وبين جواب الكفاية أنَّ صاحب الكفاية قال : إنَّ وجوب الحذر وجوب مهمل، وهذا الجواب يقول وجوب الإنذار وجوب مهمل (منه (رحمه اللّه) ).

العقلائية.

وعليه، فليست الآية في مقام إطلاق وجوب الإنذار، فلا ينعقد إطلاق للواجب حتى يقال: غاية الواجب واجبة، بل غاية الواجب المهمل واجب مهمل، فيجب الإنذار المهمل والحذر المهمل، فلا يثبت المدعى.

هذا تمام الكلام في الوجه الرابع.

الوجه الخامس: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجية الإنذار
اشارة

الوجه الخامس لإفادة الآية الكريمة وجوب الحذر، وحجّية قول المخبر، ما ذكر في النهاية وارتضاه، وحاصله: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجّية الإنذار.

والفرق بينه وبين الوجوه الماضية: إنَّ الوجه الأوّل والثالث والرابع إدعاء الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر، والوجه الثاني الملازمة بين حُسن الحذر ووجوب الحذر، وهذا ادعاء الملازمة بين وجوب الإنذار وحجّيته.

قال: «إنَّ نفس وجوب الإنذار كاشف عن أنَّ الإخبار بالعقاب المجعول إنذار، ولا يكون ذلك إلا إذا كان حجّة، وإلا فالإخبار المحض لا يحدث الخوف ولو اقتضاء، حتى يكون مصداقاً للإنذار حتى يجب شرعاً»(1).

ويمكن تحليله إلى ثلاث مقدمات:

الأولى: وجوب الإنذار كاشف عن كون الإخبار إنذار المولى، وإنْ لم يكن إخبار المنذر إنذاراً، فكيف يأمره المولى بالإنذار؟ فقوله تعالى:

ص: 237


1- نهاية الدراية 2: 221.

{وَلِينذِرُواْ} كاشف عن أنَّ إخبار المنذر إنذار.

الثانية: وتتوقف إنذارية الإنذار على اقتضائه للخوف، فإذا اقتضى الخوف يكون الإنذار إنذاراً، وإلا فلا يطلق عليه الإنذار.

الثالثة: واقتضاؤه للخوف يتوقف على حجّيته شرعاً، فإنْ لم يجعله الشارع حجّة فالإنذار لا يقتضى الخوف ولا يؤثّر في النفوس.

وهذا الوجه دقيق جّداً، حيث تدّل كلمة (وَلِينذِرُواْ) على حجّية الإنذار شرعاً.

ويمكن أنْ يرد عليه عدة إشكالات

الأوّل: ما ذكره في المنتقى وارتضاه، قال: «بل يصدق الإنذار ولو لم يتحقق الخوف، بل ولو علم المنذر أنَّهُ لا يتحقق الخوف لديهم، كما يشهد بذلك موارد الاستعمالات العرفية، كما في موارد استعمال الإنذار في إنذار الكفّار الذين لم يكونوا يبالون بكلام الرسل (عليهم الصلاة والسلام)، وكما في قولك: أنذرته فلم ينفع، أو أنذرته وأنا أعلم أنَّهُ لا ينفع فيه الإنذار»(1).

فليس مقوم صدق الإنذار عند العرف وجود الخوف، بل يصدق الإنذار سواء أتحقق الخوف أم لم يتحقق.

وقد استخدمت كلمة الإنذار في القرآن الكريم فيما لم يترتب على الخوف أثر، قال تعالى: {اِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يؤْمِنُونَ}(2).

ص: 238


1- منتقى الأصول 4: 283.
2- البقرة: 6.

وقال عزّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ }(1).

وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْي وَلَا يسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا ينذَرُونَ }(2).

وقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}(3).

وآيات أُخرى استخدمت الإنذار ولو لم يتحقق خوف خارجي، أي تحذر عملي أو خوف نفسي، فالكثير من الكفار لم يحصل لهم أي خوف من إنذار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ولكنَّه لا يرد على النهاية، فإنَّهُ لم يأخذ فعلية الخوف في مفهوم الإنذار، فلم يقل يشترط في تحقق مفهوم الإنذار فعلية الخوف الخارجي أو النفسي، وإنَّما اقتضاء الخوف وهو موجود في إنذارات الأنبياء (عليهم السلام).

الإشكال الثاني(4): نمنع مقومية اقتضاء الخوف لتحقق موضوع الإنذار؛ وذلك لأنَّ معنى الإنذار - كما يستفاد من الفهم العرفي - بيان ما يترتب على العمل من المحاذير، سواء أوجد مقتضي الخوف أم لا، ولذلك إنْ أخبرنا مجهول - وهو في الواقع عالم ثقة - بشيء ولم يقتض إخباره الخوف، لكونهُ مجهولاً من جميع الجهات، يمكنه أنْ يقول: أنذرته فلم يرتب أثراً.

ص: 239


1- القمر: 36.
2- الأنبياء: 45.
3- الفرقان: 1.
4- وهي مناقشة في المقدمة الثانية «إنذارية الإنذار تتوقف على اقتضائه للخوف» (منه (رحمه اللّه) ).

الإشكال الثالث(1): إنَّما يتم توقف الحجّية شرعاً على اقتضائه للخوف في صورة كون المنذر به هو العقاب، أمّا إذا كان المنذر به فوت المصالح أو الوقوع في المفاسد الواقعية، فاقتضاء الإنذار للخوف لا يتوقف على حجّيته شرعاً، فقول الطبيب مع اقتضائه الخوف ليس بحجّة، وكما لو أنذر شخص تاجراً بخسرانه في تجارته، فقوله يقتضي الخوف مع أنَّ هذا الإنذار ليس بحجّة شرعاً، وقد مرّ سابقاً أنَّ متعلّق الحذر لم يتعين في العقاب، وإنَّما يمكن أنْ يكون - أيضاً - خوف فوات الملاكات الواقعية.

وعليه، المقدمة الثالثة غير تامّة، فيمكن أنْ يكون شيء غير حجّة شرعاً مع أنَّهُ يقتضي الخوف.

الإشكال الرابع(2): ما في المنتقى: «إذ يتحقق الخوف من العقاب فعلاً عند تحقق الإنذار ولو لم يكن الإنذار حجّة؛ لاندراج المورد في موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص»(3).

مثلاً: إذا قال المنذر: إنَّ أكل العظم حرام، وفرضنا أنَّ الشارع لم يعتبره حجّة، لكن هذا الإنذار يقتضي الخوف، وهو جار في تمام الشبهات الحكمية قبل الفحص.

ولكنّه غير واضح؛ لإمكان القول: إنَّ الخوف فيه مستند إلى عدم المؤمّن لا إلى الإنذار، فالمكلف يحتاج إلى المؤمّن في فعله وتركه، ولا مؤمّن في

ص: 240


1- وهي مناقشة في المقدمة الثالثة «واقتضاؤه للخوف يتوقف على حجيته شرعاً» (منه (رحمه اللّه) ).
2- والظاهر أنه مناقشة في المقدمة الثالثة.
3- منتقى الأصول 4: 283.

الشبهات الحكمية قبل الفحص، ففيه خوف العقاب، سواء أنذر أم لم ينذر، ولا أثر لإنذاره ولا مدخلية لقوله في خوف العقاب.

الإشكال الخامس: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجّيته موقوف على ثبوت الإطلاق في وجوب الإنذار، بأنْ نقول الإنذار واجب مطلقاً، أفاد العلم للمنذر أو لم يفد، أمّا لو قلنا: الوجوب مهمل والقدر المتيقن منه وجوب الإنذار إذا أفاد للمنذر العلم، فهذا المقدار لا يثبت المطلوب؛ لأنَّ محلّ البحث في حجّية الإنذار الذي لا يفيد العلم ووجوب الحذر عنده، وإلا فالإنذار الذي يفيد العلم لا يقع محّلاً للكلام.

هذا تمام الكلام في وجوه تقريب دلالة آية النفر على حجّية الخبر الواحد.

الإشكال على دلالة آية النفر على حجّية الخبر الواحد

وقد ذكرت في المقام إشكالات:

الأول: وجوب الحذر مترتب على الإنذار بالأحكام الواقعية
اشارة

وهو ما ذكره صاحب الكفاية تبعاً للشيخ الأعظم وارتضياه، كما ارتضاه في النهاية ظاهراً، من أنَّ وجوب الحذر مترتب على الإنذار بما تفقه فيه من الأحكام الواقعية، ولا منقح لثبوت هذا الموضوع.

قال (رحمه اللّه) : «إنَّ النفر إنَّما يكون لأجل التفقه وتعلّم معالم الدين، ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين، كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين، على الوجهين في تفسير الآية ، لكي يحذروا إذا أنذروا بها، وقضيته إنَّما هو وجوب

ص: 241

الحذر عند إحراز أنَّ الإنذار بها كما لا يخفى»(1).

توضيحه: إنَّ وجوب الحذر مترتب على الإنذار بما تفقه من أحكام الدين، ومع الشك في كون الإنذار إنذاراً بأحكام الدين، أو إنذاراً بما توهمه المنذر لا يجب الحذر؛ لأنَّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع.

وبعبارة أُخرى: إنَّ متعلق الإنذار الواجب نفس متعلق التفقه، وإنْ لم يذكر في الآية: {لِّيتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِينذِرُواْ قَوْمَهُمْ}، فليس الإنذار مطلقاً وإنَّما عمّا تفقهوا فيه؛ حيث لا معنى للقول بوجوب الإنذار بما تفقهوا وما لم يتفقهوا، فإذا أنذر بما تفقه من الأحكام الشرعية فيجب الحذر، ولكن لا سبيل إلى إحراز كونه حكماً شرعياً؛ لاحتمال كونه وهماً شخصياً؛ لإمكان اشتباهه أو تعمدّه للكذب، ولأنَّهُ ليس بثابت فلا يثبت المحمول، أي وجوب الحذر، كأنْ يقول المولى: (إذا أبلغك ابني أوامري فاعمل بها)، فإذا شكّ العبد أنَّ ابن المولى يبلغ أمره أو اشتبه عليه أو أنَّهُ كاذب، فلا يثبت الحكم(2).

وقد أُجيب بعدة أجوبة

الأوّل: ما ذكره في المنتقى(3) مستشكلاً على عبارة الكفاية حيث قال:

ص: 242


1- كفاية الأصول: 299.
2- إن قلت: الأصل عدم الاشتباه وعدم الخطأ وعدم تعمّد الكذب. قُلت: لا يبني العقلاء على عدم ذلك مطلقاً، كما في عادل يكثر فيه الخطأ، فلا تثبت الكلية، كما أنَّهُ رجوع إلى الحجّية العقلائية، أو ضميمة للسيرة العقلائية إلى الآية الكريمة، إلا أنْ يُقال: إنَّ السيرة العقلائية تثبت موضوع الآية الكريمة. فيحتاج إلى تأمّل أكثر.
3- منتقى الأصول 4: 286.

«وقضيته إنَّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنَّ الإنذار بها»: بأنَّ العلم ليس دخيلاً في موضوعات الأحكام الواقعية.

فقد ابتنى كلام صاحب الكفاية على كون موضوع وجوب الحذر الإنذار بالحكم الشرعي، ومقتضاه وجوب الحذر عند إحراز أنَّ الإنذار بها، فقد أخذ العلم في موضوع الحكم، مع أنَّ العلم لا يدخل في موضوع الحكم، مثل قوله: (الدم حرام)، فلا يقال: (معلوم الدموية حرام)، لعدم مدخلية العلم في موضوع الأحكام الشرعية، ولذا اشتهر أنَّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا للمعاني المعلومة(1)، فما ذهب إليه صاحب الكفاية من وجوب الحذر عند الإحراز - مع عدم مدخلية الإحراز في موضوع وجوب الحذر - محلّ نظر.

وفيه: إنَّ العلم لم يؤخذ في موضوع الوجوب الشرعي، ولكنّه أُخذ في موضوع الوجوب العقلي.

وبعبارة أُخرى: لم يؤخذ العلم في مرتبة الفعلية ولكن أُخذ في مرتبة التنجز، فهو أشبه بالإشكالات اللفظية، ويدفع مع تغيير لفظ الكفاية لتكون العبارة كما يلي: (وقضيته إنَّما هو تنجز وجوب الحذر)، مثل قوله: (الدم حرام)، فالحكم محمول على الموضوع الواقعي، ولا مدخلية للعلم في ترتب المحمول على الموضوع، لكن تنجز الحرمة متوقف على الإحراز، فإنْ لم يحرز فلا تتنجز الحرمة الواقعية.

ص: 243


1- المناهل: 23؛ جواهر الكلام 13: 294؛ مفاتيح الأصول: 378؛ الفصول الغروية: 52؛ أوثق الوسائل: 66.

وعليه، نقرر كلام الكفاية بما يلي: قال المولى: (إذا أنذرك منذرٌ بالدين يجب الحذر)، فتنجز الوجوب متوقف على إحراز كون الإنذار إنذاراً بالدين، فإنْ شكّ أنَّهُ إنذار بالدين أو إنذار بالوهم، فلا يتنجز وجوب الحذر في ذمته؛ لعدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وعليه، فلا يمكن الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالآية الكريمة.

الجواب الثاني: ما ذكر في المصباح(1):

من أنَّ المطابقة للواقع غير دخيلة في مدلول الخبر. وهو مركب من مقدمتين:

الأولى: الإخبار بالحكم الشرعي لا ينفكّ عن الإنذار، فالإخبار بوجوب أو حرمة شيء دال بالدلالة الإلتزامية على ثبوت استحقاق العقاب على المخالفة، فهو ملازم للإنذار باستحقاق العقاب، وكذا العكس، فالإخبار بثبوت العقاب لا ينفكّ عن الإخبار- بالدلالة الالتزامية - بالوجوب أو الحرمة.

والخلاصة: الإخبار بالحكم الوجوبي أو التحريمي لا ينفكّ عن الإنذار(2).

المقدمة الثانية - وهي محور الجواب - : إنَّه لا مدخلية لمطابقة الواقع في مدلول الخبر؛ حيث إنَّ معنى الخبر ومدلوله هو الحكاية عن ثبوت شيء أو

ص: 244


1- مصباح الأصول 2: 186.
2- هذه المقدمة وإنْ كانت صحيحة في حدّ ذاتها، ولكن لا يتوقف الاستدلال عليها، بل هي جواب عن إشكال آخر، وهو كون الآية تدل على وجوب الحذر عند الإنذار وليس كل إخبار إنذاراً، فالآية لا تنهض لإثبات حجّية الأخبار بقول مطلق، وهذه المقدمة صالحة للجواب عن هذا الإشكال (منه (رحمه اللّه) ).

نفيه(1)، قال: «إنَّ مدلول الخبر هو الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه»(2) (3).

فمعنى الخبر والجملة الخبرية الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه، ولم يؤخذ في مدلوله كون المحكي مطابقاً للواقع أم لا.

وتكون النتيجة: الإخبار عن الوجوب والحرمة إنذار بما تفقه في الدين دائماً.

وبعبارة أُخرى: الموضوع لوجوب الحذر هو الإنذار بما تفقه في الدين، أي الإنذار بالوجوب أو بالحرمة. ومفاد قول المنذر: (إنَّ هذا حرام) هو الإخبار بالوجوب والحرمة الملازم للإنذار، فتحقق الموضوع. ولذا يقول المولى: (إذا أنذرك منذر بالحرمة وجب الحذر)، وقد تفقه المنذر الحرمة، ثم أخبرنا بما تفقه فيه.

وبعبارة سهلة: إنَّ موضوع الآية الإنذار بما تفقه فيه، فإنْ قال المنذر: (إنّني أنذركم بما تفقهت فيه)، فقد تحقق الموضوع، فالإنذار بما تفقه فيه إنذار بما تفقه، والإنذار بالحرمة إنذار بالحرمة، لأنَّ الإنذار بالشيء إنذار

ص: 245


1- لكنّه محلّ تأمّل؛ فليس مدلول الخبر الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه، بل مدلول الخبر ثبوت الشيء أو نفيه، فمعنى (مات زيد) تحقق الموت في الخارج، أي تحققت النسبة بين زيد والموت في متن الواقع، وليس مدلول الإخبار الحكاية عن موت زيد، بمعنى إنّني أخبرك عن موت زيد في الخارج، ولذا تحتمل الجملة الصدق والكذب، فنقول إنّها كاذبة لعدم موت زيد، أمّا على مبنى الحكاية فلا تحتمل الصدق والكذب، ولا يكون هنالك فرق بين الجملة الخبرية والإنشائية بهذا اللحاظ، فكلاهما لا يحتملان الصدق والكذب إلاّ بالمداليل الالتزامية (منه (رحمه اللّه) ).
2- لا ثبوت شيء أو نفيه حسب مؤدى عبارته (منه (رحمه اللّه) ).
3- مصباح الأصول 2: 186-187.

بالشيء وإنْ لم يطابق المخبر به للواقع، لما قُلنا من عدم اشتراط ذلك في المقدمة الثانية، قال السيد الخوئي: «الإخبار عن الوجوب والحرمة إنذار بما تفقه في الدين دائماً»(1)، ولو بالدلالة الالتزامية، فتحقق موضوع الآية الكريمة وجداناً، وهو لو أخبركم بما تفقه فيه فيترتب عليه المحمول. هذا توضيح كلامه.

ويرد عليه:

أولاً: نقضاً: حيث إنَّ مقتضاه وجوب القبول ووجوب الحذر ولو علم بكذبه؛ لأنَّ مدلول (مات زيد) الحكاية عن موت زيد وإنْ علم بكذب المخبر.

إلا أنْ يقال: إنَّهُ خارج بالدليل، أو كون ظرف الأمارات الشك، ومع عدم الشك ينتفي ظرف حجّية الأمارة.

ثانياً: حّلا(2): المخبر بما تفقه فيه - في واقع الأمر - عنده خبران:

الأوّل: إنّني أخبرك بما تفقهت.

الثاني: إنَّ ما تفقهت فيه هو الحرمة.

فإنْ قال المنذر: (ذهبت إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وتفقهت حكم الخمر، وإنَّ ما تفقهت فيه كذا)، فخبره هذا ينحلّ إلى خبرين.

والإخبار بما تفقه فيه وإنْ كان إخباراً بما تفقه بالحمل الأوّلي الذاتي، إلا أنَّهُ لا يعلم كونه إخباراً بما تفقه فيه بالحمل الشائع الصناعي، والمعلق عليه

ص: 246


1- مصباح الأصول 2: 187.
2- وربما هو مراده (منه (رحمه اللّه) ).

في الآية الكريمة - بحسب الظهور العرفي - الإخبار بما تفقه فيه بالحمل الشائع الصناعي لا بالحمل الذاتي الأولي؛ ولذلك إنْ أخبر كاذباً بما تفقه فيه وقال: إنّني أخبرك بما تفقهت فيه، وهو كراهة شرب الخمر، فالإخبار بما تفقه فيه إخبار بما تفقه بالحمل الأوّلي الذاتي، وليس إخباراً بما تفقه بالحمل الشائع الصناعي؛ لأنَّ ما تفقه فيه هو الحرمة لا الكراهة التي نقلها.

ثالثاً(1): المحتملات في أمثال هذه الجمل أربعة:

الأول: أنْ يكون الإخبار تمام الموضوع ولا مدخلية للواقع في الموضوع.

الثاني: أنْ يكون الواقع هو تمام الموضوع والشارع جعل الطريقية التعبدية لهذا الإخبار.

الثالث: أنْ يكون الواقع تمام الموضوع والإخبار طريق تكويني عادي إليه.

الرابع: أنْ يكون الإخبار جزء الموضوع والواقع الجزء الآخر له.

وكلام السيد الخوئي تامّ لو أُريد أحد الأوّلين، أي أنَّ الإخبار الملازم للإنذار هو تمام الموضوع، أو الواقع تمام الموضوع والإخبار طريق جعلي لإحراز هذا الواقع.

أمّا إنْ ادعي أنَّ المستفاد من أمثال الجمل هو الثالث، والواقع هو موضوع وجوب الحذر، والإخبار طريق تكويني عادي لإحراز الواقع، فلا يتمّ الاستدلال؛ لعدم إحراز ذلك الموضوع الذي هو الواقع.

مثلاً: ورد في الحديث الشريف: «من حفظ على أمتي أربعين حديثاً

ص: 247


1- وربما مآله إلى الثاني (منه (رحمه اللّه) ).

ينتفعون بها بعثه اللّه يوم القيامة فقيهاً عالماً»(1).

وكذا قوله(عليه السلام): «الراوية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»(2)، و«اكتب وبثَّ علمك في إخوانك»(3).

فالموضوع العلم والرواية وأربعون حديثاً. فالإخبار والكتابة طريق تكويني عادي لثبوت الموضوع.

ولا يستفاد من أمثال هذه الجمل أنَّ صرف الإخبار هو الموضوع للقبول، أو أنَّ الواقع هو الموضوع للقبول، والإخبار جعل طريقاً تعبدياً لذلك.

فإنْ شُكّ أنَّ الناقل نقل علمه أو هواه، أو شكّ أنَّهُ نقل أربعين حديثاً من أحاديثهم(عليهم السلام) أو أربعين حديثاً ممّا جعله، فهل يكون مشمولاً للروايات؟ لا يخلو من غموض.

وبعبارة أُخرى: إنَّ المستفاد من أمثال هذه الجمل هو الواقع، أي الموضع هو ما تفقه فيه ولا يستفاد منها أنَّ الشارع جعل الطريقية التعبدية للإخبار، وعليه لو شك في تحقق الموضوع - وهو الواقع - فلا يترتب عليه المحمول.

فجواب السيد الخوئي غير واضح.

الجواب الثالث: ما أُشير إليه من وجود المنقح، وهو الأصول العقلائية كأصالة عدم الخطأ وعدم الكذب في قول الثقة أو العادل، حيث ينفي احتمال الخطأ والكذب، فيثبت أنَّهُ لم يكذب، فيكون إبلاغاً بحكم لم

ص: 248


1- وسائل الشيعة 27: 99.
2- وسائل الشيعة 27: 78.
3- الكافي 1: 52.

يخطئ فيه المنذر ولم يكذب، فيثبت الموضوع ويترتب عليه المحمول.

وفيه: إنَّ حجّية الأصول العقلائية متوقفة على الإمضاء الشرعي، ولو كان مستكشفاً بسكوت الشارع، فإنْ لم يمضها الشارع فلا قيمة لها، وإنْ أمضاها فتحرز الحجّية في مرتبة الموضوع، فحمل الحجّية على هذا الموضوع تحصيل للحاصل، فإنَّ مآل الجواب الثالث إلى أنَّ إنذار المنذر - الذي بنى العقلاء على عدم خطئه وكذبه فيه، وأمضاه الشارع وجعله حجّة - حجّة، ويجب الحذر عنده، وهو تحصيل للحاصل؛ لحمل نفس الحجّية على الموضوع الثابتة حجّيته(1).

الجواب الرابع: ما ذكره المحقق النائيني: ومفاده: تكفل الآية الكريمة بنفسها لتنقيح الموضوع، قال: «إنَّ نفس الآية تدل على أنَّ ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام(2)، لأنَّ قول المنذر إذا جُعل طريقاً إليها(3) ومحرزاً لها

ص: 249


1- ولكن قد يخطر بالبال: أوّلاً: إنَّ الأصول العقلائية المنقحة للموضوع لا تستلزم إمضاء الشارع، فالشارع لا شأن له في بيان الموضوعات، فهي تؤخذ من العرف، وبعد تنقيح الموضوع عرفاً أو عبر الأصول العقلائية تصل النوبة إلى مرتبة المحمول والحجّية المستكشفة من الآية المباركة. وثانياً: إنَّ في الأصول العقلائية جهتين: الأولى: إنَّهُ لم يخطئ ولم يكذب، وينتج منه صحة كلامه. الثانية: إنَّه حجّة ويلزم العمل على وفقه، ولا ملازمة بين العلم بصحّة الكلام والحجّية، كما في الحكم الوارد عن غير طريقهم(عليهم السلام)، وإمضاء الشارع للموضوع يتكفل الجهة الأولى فحسب من دون إثبات الحجّية، وأمّا الجهة الثانية فمن دلالة آية النفر وغيرها، فليس تحصيلاً للحاصل؛ حيث لم تثبت الحجّية في مرتبة الموضوع (المقرر).
2- أي من الأحكام الشرعية لا المجعولات أو الموهومات.
3- أي الأحكام.

فيجب إتباع قوله، والبناء على أنَّهُ هو الواقع، كما هو الشأن في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق والأمارات... فالآية بنفسها تدل على أنَّ ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعية»(1).

فكلّ الأدلة التي تتكفل حجّية الأمارات والطرق تجعل الطريقية والعلمية والمحرزية للواقع، فالآية تقول إنَّ قول المنذر طريق تعبدي إلى الأحكام الواقعية، فما دلّت عليه الآية الكريمة من جعل الطريقية التعبدية لقول المنذر هو المحرز للموضوع.

لكن نقل السيد البروجردي(2) عن المحقق العراقي: أنَّهُ دوري من دون أنْ يتطرق إلى اسم المحقق النائيني.

بيانه: هنالك توقفات ثلاثة:

الأوّل: توقف وجوب القبول على إحراز كون ما أنذر به من الأحكام الواقعية.

والظاهر أنَّهُ مسلّم ولا يحتاج إلى بيان؛ لأنَّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، فوجوب الحذر إنَّما يترتب على إنذار المنذر بالحكم الواقعي لا بالوهم أو الجعل.

الثاني: توقف الإحراز المذكور على محرزية قول المنذر وكاشفيته.

وهذا واضح حسب مبنى المحقق النائيني، فإنَّهُ إنَّما يثبت كون الإنذار بالحكم الواقعي لا بالوهم ولا بالجعل بجعل الشارع للطريقية التعبدية لقول

ص: 250


1- فوائد الأصول 3: 188.
2- نهاية الأفكار 3: 128.

المنذر، حيث يقول الشارع: إنّي جعلت قول المنذر طريقاً ومحرزاً تعبدياً للواقع.

الثالث: توقف المحرزية والكاشفية على وجوب الحذر والقبول.

وهذا - أيضاً - واضح؛ لأنَّ المحقق النائيني بنى جعل الكاشفية والطريقية على وجوب الحذر، وهو مفاد الآية الكريمة.

والنتيجة: توقف وجوب القبول على وجوب القبول وهو دوري.

وارتضى بعض المعاصرين ما ذكره المحقق العراقي.

لكنّه محلّ تأمّل؛ لأنَّ التوقف الثالث لا يخلو من إشكال، فإنَّ جعل المحرزية ليس متوقفاً على وجوب القبول، بل هو مستكشف من وجوب القبول؛ فإنَّ وجوب الحذر كاشف عن جعل الطريقية التعبدية، لا أنَّهُ مثبت للطريقية التعبدية(1).

وللتقريب نمثّل بما يلي: إذا قال المولى لابنه: بلّغ عبدي أوامري لعلّه يمتثلها، فقد يدعى أنَّ الأمر كاشف عن جعل المولى قول ولده طريقاً إلى الواقع، ولا يحق للعبد أنْ يقول: إنّني لا أعلم أنَّهُ أمر المولى فربّما جعله الابن أو توهّم، فمعنى هذه العبارة: إنَّ ما ينقله ابني هو قولي وأمري ويجب عليك الامتثال، فكل ما يقوله الابن يعتبر طريقاً إلى أمر المولى ومحرزاً له عرفاً.

وعليه، فلا دور في كلام المحقق النائيني، إلا أنْ يناقش بعدم الظهور

ص: 251


1- أقول: إنَّ دلالة الآية على وجوب الحذر تنتج الحجّية، والحجّية تساوي جعل الطريقية والمحرزية، إذن التوقف الثالث تام (المقرر).

العرفي في ذلك، فلا يكون الإشكال ثبوتياً، كما ذكرنا مثله في قوله (عليه السلام): «من حفظ على أُمتّي أربعين حديثاً».

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل.

الإشكال الثاني: كلمة التفقه ظاهرة في الاجتهاد

وهو: ما نُقل عن السيد البروجردي (رحمه اللّه) في مجلس بحثه من أنَّ كلمة (التفقه) في الآية ظاهرة في الاجتهاد، فقوله تعالى: {لِّيتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} يعني ليجتهدوا في الدين، فيجب قبول إنذار المجتهد، وليس الكلام فيه، وإنّما في إنذار الراوي. فالآية ترتبط بمباحث الاجتهاد والتقليد لا بحجّية الخبر الواحد.

ولكنّه غير واضح؛ فليست كلمة (التفقه) في القرآن الكريم والروايات الشريفة والعرف واللغة ظاهرة في هذا المعنى.

وللمثال: قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيءٍ إِلاَّ يسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(1)، ومعناه(2) لا تفهمون لا بمعنى الفهم الاجتهادي.

وقال عزَّ وجلَّ: {قَالُواْ يا شُعَيبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ}(3)، وقال عزَّ من قائل: {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يكَادُونَ يفْقَهُونَ حَدِيثًا}(4)، فهل معناه لا يفهمونه فهماً اجتهادياً؟

ص: 252


1- الإسراء: 44.
2- ظاهراً (منه (رحمه اللّه) ).
3- هود: 90.
4- النساء: 78.

وقال سبحانه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يفْقَهُونَ}(1)، فهل يخصّ المجتهدين؟

وقال تبارك وتعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يفْقَهُوا قَوْلِي}(2).

وقال عزَّ وجلَ: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يفْقَهُونَ}(3).

وسائر استخدامات كلمة الفقه في القرآن الكريم.

وأمّا في الأحاديث الشريفة: فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ويلك يابن الكواء، افقه عنّي أخبرك عن ذلك»(5).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) : «ركعة يصليها الفقيه أفضل من سبعين ألف ركعة يصليها العابد»(6).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الفقيه كلَّ الفقيه مَنْ لم يقنّط الناس من رحمة اللّه ولم يؤيسهم من روح اللّه، ولم يؤمنهم من مكر اللّه »(7).

وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «مَنْ لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له

ص: 253


1- الأنعام: 98.
2- طه: 27-28.
3- المنافقون : 7.
4- وسائل الشيعة 27: 117.
5- بحار الأنوار 53: 72.
6- بحار الأنوار 2: 19.
7- بحار الأنوار 2: 56.

عملاً»(1).

فهل عمل غير المجتهد ليس مرضياً؟

وعن أبي جعفر (عليه السلام): «تفقهوا في الحلال والحرام وإلا فأنتم أعراب»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «تفقهوا في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً؛ فإنَّهُ مَنْ لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة ولم يزك له عملاً»(3)، فهل لا ينظر اللّه إلى المقلدين؟

وعن أبي جعفر (عليه السلام): «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته»(4)، فهل المقصود من لا يجتهد؟

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «لا خير في مَنْ لا يتفقه من أصحابنا، يا بشير، إنَّ الرجل منكم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم»(5).

فظاهر كلمة (الفقه) لغة وعرفاً الفهم، ولا يخفى ذلك على من راجع المشتقات ك- : فقه وتفقه والفقيه وتفقهوا و...

نعم، للفهم مراتب، فتفهم المجتهد نوع من أنواع التفهم وتفهم الراوي لما يروي - أيضاً - نوع من أنواع التفهم.

وأحد معاني باب التفّعل الطلب نحو تبينه - يعني طلب بيانه أو طلب البيان

ص: 254


1- بحار الأنوار 75: 321.
2- بحار الأنوار 1: 214.
3- بحار الأنوار 1: 214.
4- بحار الأنوار 1: 214.
5- بحار الأنوار 1: 22.

- سواء أكان معنى التفعّل المجرّد أم التكلّف، بمعنى معاناة الفاعل للحصول على الفهم أو التعمّق، فقوله تعالى: {لِّيتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} يعني ليتفهموا الدين، فالآية تشمل الراوي - أيضاً - فإنَّ الطبيعي يصدق على أدنى مراتبه.

قال في مجمع البيان: «التفقه تعلم الفقه، والفقه العلم بالشيء، وفي حديث سلمان أنَّهُ قال لإمرأة(1): فقهت(2) أي علمت وفهمت»(3).

فكلام البروجردي كما نقل عنه غير واضح.

الإشكال الثالث: في إخبار الفقيه حيثيتان

وهو: ما ذكره في منهاج الأصول(4):

في إخبار الفقيه - بل كل عالم بما يعلمه - جهتان:

الأولى: الخبروية بما يخبر عنه.

الثانية: الصدق فيما يخبر عنه.

مثلاً: لو أخبرنا بحرمة أكل العظم، فالجهة الأولى: أنَّهُ خبير عالم بأحكام الشريعة، والجهة الثانية: أنَّهُ صادق في إخباره.

وليست آية النفر إلا في مقام البيان من الجهة الأولى، بمعنى ضرورة وجود طائفة خبيرة وعارفة بالأحكام الشرعية في كلّ فرقة، حتى يستفيد الناس من خبرويتهم، أمّا لزوم كونهم صادقين فهو مسكوت عنه، وموكول

ص: 255


1- ... نبطية نزل عندها بالعراق فقال لها: هل هنا مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهّر قلبك وصل حيث شئت... .
2- بصيغة المتكلم أو المؤنث المخاطب.
3- مجمع البيان 5: 143.
4- منهاج الأصول 3: 232.

إلى ما اعتبره الشارع، أو ما بنى عليه العقلاء.

مثال عرفي: لو قيل لأهل بلد: هلا أنفذتم من بينكم مَنْ يكون عالماً بالطب، أو مَنْ يتعلم الطب حتى تنتفعوا بطبابته، فليست الجملة إلا في مقام بيان ضرورة وجود الخبير حتى يستفاد من جهة خبرويته، ولا إطلاق لها في لزوم قبول قول الطبيب وإنْ شكّ في صدقه في إخباره؛ ولذا لو كان الطبيب كثير النسيان أو غير ثقة فلا يعتمد على إخباره.

فللمتكلم أنْ يقول: إنَّ كلامي ناظر إلى جهة الخبروية، وأمّا جهة الصدق فمسكوت عنها، وموكولة إلى ما يبني عليه العقلاء في ذلك.

وممّا يؤيده: إنَّهُ لم تتم الإشارة في الآية الكريمة إلى ضرورة كون الطائفة ثقات أو عدول، مع أنَّ هذا الشرط شرط مقوّم؛ حيث إنَّ الآية الكريمة لم تكن في مقام بيان الصدق وعدمه، وإنَّما هي في مقام بيان الاحتياج إلى مجموعة من الخبراء في أحكام الشريعة.

الإشكال الرابع: دلالة الآية على وجوب الحذر عند الخبر

وهو: ما ذكره الشيخ الأعظم وارتضاه(1):

من أنَّ الآية لا تدل على حجّية الخبر من حيث إنَّهُ خبر، بل تدل على وجوب الحذر عند الخبر من حيث إنَّهُ خبر متضمن لإنشاء التخويف، وأمّا تصديق الحاكي فيما يحكيه من لفظ الإمام(عليه السلام) فهو أجنبي عن ذلك.

توضيحه: الإنذار نوعان:

الأوّل: الإنذار على وجه الإفتاء؛ بأنْ يلاحظ المنذر الخبر ويستنبط

ص: 256


1- فرائد الأصول 1: 130.

الحكم وينذر المنذرين بما استنبطه، كأنْ يقول المجتهد: أيها الناس، اتقوا اللّه في شرب العصير العنبي إذا غلى فإنَّهُ حرام.

الثاني: الإنذار على وجه الحكاية، كأنْ يلاحظ زرارة من يشرب العصير العنبي فيخوفه في مقام الإنذار قائلاً: (سمعت الإمام الصادق (عليه السلام): إنَّ شرب العصير محرم)، فهذا إنذار على وجه الحكاية لا على وجه الإفتاء.

أمّا النوع الأوّل: فلا يجب الحذر إلا على خصوص المقلدين؛ وذلك للإجماع على عدم لزوم تخوف فقيه عند إنذار فقيه آخر، وهكذا الأمر بالنسبة إلى مقلديه، فإنَّهُ لا يعدو أنْ يكون اجتهاداً من قبل الراوي في معنى الرواية، واجتهاد الراوي لا يكون حجّة للمجتهد المنقول إليه بالإجماع، بل قال جمع في بحث البيع(1) إنَّهُ لا يعقل جعل الحجّية لقول فقيه على فقيه آخر.

وأمّا النوع الثاني: ففي الإنذار على وجه الحكاية جهتان: جهة التخويف والإيعاد، وجهة النقل والحكاية.

فلو قال زرارة في مقام التخويف: (سمعت الصادق(عليه السلام) يقول كذا)، ففي إخباره جهتان:

الأولى: جهة الإيعاد والتخويف، ولا حجّية لهذه الجهة على المجتهد الثاني المنقول إليه؛ لعدم حجّية تخويف زرارة إلا لمقلديه، ولذا لو نقل رواية في مقام التحريم لكن المجتهد الثاني لم ير دلالة الألفاظ على الحرمة، فهل إيعاده لغير مقلديه حجّة؟ كلاّ، إذن إيعاد زرارة بما هو إيعاد لا حجّية له إلاّ على مقلديه.

ص: 257


1- المكاسب 3: 570؛ مصباح الفقاهة 3: 314.

الثانية: جهة النقل والحكاية، لكن هذه الجهة لم تكن موضوعاً لوجوب الحذر في الآية الكريمة، فلم يقل المولى يجب الحذر عند الإخبار، بل يجب الحذر عند الإنذار، فجهة الإنذار لا حجّية فيها على غير مقلده، وأمّا جهة الحكاية فلم تحكم الآية على حجّيتها، فتدل الآية على حجّية قول المجتهد لمقلديه لا على حجّية قول الراوي للمروي إليه.

وبعبارة أُخرى: هل إنذار زرارة حجّة لغير مقلديه؟ كلاّ، للإجماع وهو واضح.

وهل إخبار زرارة حجّة؟ كلاّ، لعدم تكفّل الآية حجّية الإخبار.

وفيه تأمّل من جهات:

الأولى: ما ذكره المحقق النائيني(1):

من أنَّ الإنذار عبارة عن الإخبار المشتمل على التخويف، لكن التخويف أعمّ من أنْ يكون بالصراحة أو بالتضمن، وزرارة وإنْ لم يخوّف صريحاً إلا أنَّ إخباره يتضمن التخويف، فقوله (حرام) يعني فيه استحقاق العقاب ولو بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، ولا يشترط في صدق الإنذار أنْ يكون الإيعاد والتخويف صريحين.

ويدل عليه قبول الشيخ الأعظم أنَّ فتوى المجتهد إنذار، ويجب على المقلد الحذر عند فتواه، وهو عادة لا يتضمن الإيعاد صريحاً وإنّما تضمناً، فما هو الفرق بين فتوى المجتهد وإخبار الراوي؟

وفيه ما ذكره المحقق العراقي على ما نقل عنه السيد البروجردي: بأنَّ تعميم التخويف إلى الصراحة والضمنية أجنبي عن جهة الإشكال.

ص: 258


1- فوائد الأصول 3: 188.

فكلام المحقق النائيني لا يرتبط بكلام الشيخ الأعظم من وجه.

توضيحه ببيان منّا: لم يكن إشكال الشيخ الأعظم من جهة عدم كون الحكاية تخويفاً، حتى يجاب بأنَّهُ تخويف التزاماً لا مطابقة، بل جهة إشكال الشيخ هي: عدم وجود ملاك الحجّية في إخبار زرارة. فإنَّ في إخباره حيثيتين: حيثية الإنذار وحيثية الحكاية.

أمّا الأولى فليست بحجّة؛ لعدم حجّية فهمه علينا، بل على مقلديه فحسب، فمثلاً يرى زرارة أنَّ صيغة (لا تفعل) تدل على التحريم، وفي مقام الإنذار يقول (لا تفعلوا)، ولكن المجتهد الثاني يرى أنَّ (لا تفعل) لا تدل على التحريم، فلا يكون إيعاد زرارة حجّة عليه.

وأمّا الحيثية الثانية - أي حيثية حكايته وإخباره وتقليده لكلام الإمام (عليه السلام) في نطقه - فلا دلالة للآية على حجّيتها.

وعليه، فحتى لو حذّرنا زرارة بالمطابقة فليس تحذيره حجّة علينا، فالآية تتكفل وجوب الحذر على مَنْ يجب عليه الحذر عند الإنذار، ولكن مَنْ هو الذي يجب عليه الحذر عند الإنذار؟ إنَّهُ المقلد لا المجتهد.

والحاصل: إنَّ جواب المحقق النائيني لم يحل إشكال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

الجهة الثانية: ما ذكره في النهاية (1):

من توقف دلالة الآية الكريمة على حجّية الخبر الواحد على تعميمين:

الأوّل: التعميم من حيث التفقه.

ص: 259


1- نهاية الدراية 2: 225.

الثاني: التعميم من حيث الإنذار.

فإنْ تمّ التعميمان فيندفع إشكال الشيخ الأعظم

والتعميم الأوّل بأنْ نقول: التفقه ليس خاصّاً بالعلم الحاصل عن طريق الرأي والنظر، بل هو شامل للعلم بالحكم، وإنْ لم يكن عن طريق الرأي والنظر، كأنْ يسمع زرارة من الإمام كلاماً صريحاً في تحريم شيء، كقوله: (الربا حرام ومن يفعله يدخل نار جهنم)، فاستفادة الحرمة لا تتوقف على إعمال الرأي والنظر؛ لأنَّهُ صريح واضح.

فهل هذا تفقه في الدين أم لا؟ لم يجب في النهاية، بل جعله معلقاً، والظاهر عندنا أنَّهُ نوع من أنواع التفقه، فالتفقه حقيقة تشكيكية ذات مراتب.

فهذا التعميم تام، وربطه بما نحن فيه هو : إنَّ الإنذار يجب أنْ يكون بما تفقه فيه ووجوب الحذر مترتب عليه.

وأما التعميم الثاني - التعميم من حيث الإنذار - بأنْ يكون الإخبار عن العقاب المسموع من الإمام (عليه السلام) بكلام صريح إنذاراً حقيقة، بأنْ يكون نقل هذا الكلام الصريح للإمام (عليه السلام) إنذاراً.

فهل هذا التعميم تام؟

إنْ قُلت: الإخبار في مقابل الإنشاء، والإنذار نوع من أنواع الإنشاء، ولا يعقل أنْ يكون الكلام الواحد إخباراً وإنشاء، فكيف تقولون: إنَّ عنوان الإنذار صادق حقيقة على هذا الإخبار!؟

قُلنا: ليس المراد استعمال اللفظ في الإخبار والإنشاء معاً حتى يستشكل بالمحذور الثبوتي للامتناع، أو المحذور الإثباتي لعدم الظهور، وإنَّما المراد كون داعي الإخبار هو التخويف، لا أنَّ اللفظ استعمل في إنشاء التخويف،

ص: 260

ومع كون الداعي هو التخويف يطلق على اللفظ الخبري الإنذار حقيقة.

وعليه، إذا أخبر زرارة بحرمة الغراب عن الإمام (عليه السلام) فنفس ألفاظه إنذار بما تفقه، ويجب على المجتهد الحذر.

والظاهر تمامية التعميم الثاني أيضاً، وذلك كمن قال له الطبيب الحاذق: إنَّ حليب البقر فيه المرض الكذائي، فأخبر الأب أبناءه - في مقام الإيعاد - بأنَّ الطبيب قال كذا، أفلا يصدق على قوله إنَّهُ إنذار وتخويف؟ الظاهر أنه يصدق عرفاً.

وقرّب المحقق الحائري ذلك بقوله: «ليس حال الناقلين للأخبار إلى غيرهم في الصدر الأوّل إلاّ كحال الناقلين للأحكام من المجتهدين إلى مقلديهم، فلو قال أحد حاكياً عن قول المجتهد: اتقوا اللّه في شرب الخمر فإنَّهُ يوجب العقاب، مثلاً، يصدق أنَّه منذر(1) مع أنَّ نظره ليس بحجّة(2)، وكذلك حال الرواة بالنسبة إلى من تنقل إليهم الأخبار من دون تفاوت أصلاً»(3).

نعم، إذا أعمل محمد بن مسلم اجتهاده بأنْ قال: قال الإمام (عليه السلام): كل ما زاد ونقص في أصل الخلقة فهو عيب، وأقول: عمومه يشمل حتى لركب الجارية(4)، فهو اجتهاد منه؛ لشموله حتى للعيب المرغوب عادة، فهو غير حجّة، لكن صرف النقل حجّة لكونه إنذاراً، فإنَّ الداعي إلى النقل هو الإنذار.

ص: 261


1- فيقال: انذرنا هذا الواعظ خاصة في التخويفات الشديدة (منه (رحمه اللّه) ).
2- لأنَّهم لا يقلدون الواعظ، لكن يصدق على نقله لكلام المرجع أنَّه إنذار (منه (رحمه اللّه) ).
3- درر الفوائد 2: 391.
4- جامع أحاديث الشيعة 18: 113.

الجهة الثالثة: بعد التسليم بأنَّ الإنذار عبارة عن جهة التخويف والإيعاد، وأنَّ الإنذار لا ينطبق على جهة الحكاية، إلا أنّنا ندعي أنَّ إنذار المتفقه - بما هو إنذار المتفقه - لا موضوعية له في نظر العرف، بل له الطريقية للكشف عن ترتب المحذور على العمل.

فيكون مفاد الآية الكريمة: كل إخبار يتضمن ترتب المحذور على عمل حجّة، وإنْ لم يصدق عليه الإنذار، بل يمكن أنْ نتمسك بالأولوية في المقام؛ لأنَّ الإخبار الذي يشوبه الحدس إنْ كان حجّة يكون الإخبار الحسّي أولى بالحجّية.

وبتقرير آخر: لو كانت عندنا حجّة واقعية، كقول الحجّة (عليه السلام)، وكان النقل الحدسّي عن الحجّة حجّة بدليل آية النفر، يكون النقل الحسّي أولى بالحجّية.

مثلاً: إذا كان قول الطبيب حجّة، وكان النقل الحدسّي عنه حجّة بدليل من الأدلة، فالنقل الحسّي عنه عرفاً أولى بالحجّية.

إنْ تمّ هذا فبها، وإلا فيلجأ إلى الجواب المتقدم.

هذا تمام الكلام في آية النفر.

الآية الثالثة: آية الكتمان

اشارة

الآية الثالثة(1): آية الكتمان

وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَينَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَينَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يلعَنُهُمُ اللّهُ وَيلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}(2).

ص: 262


1- التي استدل بها علی حجية الخبر الواحد.
2- البقرة: 159.

وقد استدل بها جمع على حجية الخبر الواحد تبعاً للشيخ الطوسي(1).

تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر الواحد

وتقريب الاستدلال هو: إنْ حرم كتمان الحق ووجب إظهاره فيجب القبول على السامع، وإلا لكان وجوب الإظهار لغواً.

ونظيره ما استدل به الشهيد الثاني في قوله تعالى: {وَلاَ يحِلُّ لَهُنَّ أَن يكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ }(2).

قال ما توضيحه(3): إنْ حَرُم كتمان الحمل على المعتدة، ووجب عليها الإظهار فيجب علينا القبول، وإلا كان وجوب الإظهار لغواً.

هذا تقريب الاستدلال بآية الكتمان.

الإشكال على دلالة آية الكتمان على حجية الخبر الواحد
اشارة

وأُشكل عليه بعدة إشكالات:

الأول: اللعن أعم من التحريم

والإشكال الأول هو: إنَّ اللعن أعمّ من التحريم، فلا تدل الآية الكريمة على حرمة الكتمان، ووجوب الإظهار.

وقد ذكره في مصباح الفقاهة في باب حرمة حلق اللحية لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حلق اللحية من المثلة، ومن مثلّ عليه لعنة اللّه»(4).

ص: 263


1- العدة في أصول الفقه 1: 113.
2- البقرة: 228.
3- مسالك الأفهام 9: 194.
4- جامع أحاديث الشيعة 16: 609.

قال: «إنَّ اللعن كما يجتمع مع الحرمة فكذلك يجتمع مع الكراهة أيضاً، فترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى القرينة المعينة، ويدل على هذا ورود اللعن على فعل المكروه في موارد عديدة... قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): يا علي، لعن اللّه ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده، والنائم في بيت وحده»(1)(2).

فلا تدلّ الآية على حرمة الكتمان؛ لأنَّ اللعن أعمّ من الحرمة.

وهذا الإشكال سيال في الفقه.

وأُجيب عنه بجوابين

الجواب الأوّل: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) بتعبيرين:

التعبير الأوّل(3):

إنَّ اللعن إذا لم يكن مقترناً بقرينة صارفة فهو ينصرف إلى الحرمة، وإنْ استعمل كثيراً في الكراهة.

كما أنَّ ظاهر صيغة افعل الوجوب وإنْ استعملت كثيراً في الندب، وظاهر كلمة التحريم الحرمة، وإنْ استعمل أحياناً في الكراهة، كرواية سماعة: «سأل رجل أبا عبد اللّه وأنا حاضر، فقال: إنَّي رجلٌ أبيع العذرة فما تقول؟ قال (عليه السلام): حرام بيعها وثمنها، وقال: لا بأس ببيع العذرة»(4).

وأحد وجوه الجمع استخدام كلمة الحرام في المكروه، فاستعمال اللعن في الكراهة لا ينافي ظهورها في الحرمة.

ص: 264


1- وسائل الشيعة 5: 332.
2- مصباح الفقاهة 1: 410.
3- الفقه 14: 138، 18: 259.
4- وسائل الشيعة 17: 175.

التعبير الثاني: ما في الأصول(1) من الانصراف إلى المحرّم وغيره مجاز.

وربما يكون التعبير الثاني محلّ تأمّل، فلعلّه لايكون استعمال اللعن في الكراهة مجازاً وإنْ كان اللفظ منصرفاً عنه، كما أنَّ استعمال صيغة (افعل) في الندب لا يكون مجازاً وإنْ كان اللفظ منصرفاً عنه، ودليل عدم المجازية إنّنا لا نشعر بالمجاز في ذلك، بل نراه حقيقة، والرؤية دليل إنّي على الوضع للأعم.

وبعبارة أُخرى: كلمة اللعن لها معنى ذو مراتب، والمعنى الجامع هو الطرد أو الإبعاد من رحمة اللّه أو العذاب أو الإخزاء، وقد ورد جميعها في اللغة(2)، ولها مراتب تلازم بعضها الحرمة.

وعليه، فاستعمال لفظ اللعن في الكراهة حقيقة، وإنْ كان ظاهر اللفظ التحريم.

ومما يؤيد ذلك ظهور كثير ممّا ورد من كلمات اللعن في القرآن الكريم في التحريم، مثلاً: قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}(3)، فهل يستظهر منه عرفاً طبيعي الطرد من الخير المنسجم مع المكروه، أم الطرد من الخير الملازم للتحريم؟

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(4)، وقال عزَّ مَنْ قائل: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ

ص: 265


1- الأصول: 663.
2- الصحاح 6: 2196؛ كتاب العين 2: 141؛ لسان العرب 13: 387.
3- الأحزاب: 57.
4- النور: 23.

عَلَى الظَّالِمِينَ}(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لعن اللّه من تخلف عن جيش أُسامة»(2).

وظاهره التحريم، بل يمكن أنْ يدعى أنَّهُ ظاهر في الحرمة الشديدة.

الجواب الثاني: إنْ نوقش في الظهور، أو قيل بسقوط ظهوره في الحرمة لكثرة استعماله في الكراهة، نظير سقوط ظهور صيغة (افعل) في الوجوب لكثرة استعمالها في الندب(3)، إلا أنَّهُ يمكن دعوى ظهورها في الحرمة في خصوص الآية الكريمة للقرائن المكتنفة الداخلية والخارجية، فالآية في كتمان اليهود والنصارى علامات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما يظهر من التفاسير(4).

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَينَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَينَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يلعَنُهُمُ اللّهُ وَيلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَينُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(5)، فظاهر السياق الداخلي والقرينة الخارجية دلالة اللعن على التحريم.

وعليه، الإشكال الأوّل غير واضح.

وفي المقام تفصيلان:

الأوّل: تفصيل بين الإخبار والإنشاء، فالثاني يدل على التحريم دون الأوّل.

ص: 266


1- هود: 18.
2- بحار الأنوار30: 432؛ كتاب المواقف 3: 650.
3- على مسلك صاحب المعالم (منه (رحمه اللّه) ).
4- تفسير العياشي 1: 71-72؛ التبيان 2: 45؛ جوامع الجامع 1: 169.
5- البقرة: 159-160.

الثاني: بين أنْ ينسب اللعن إلى اللّه وأوليائه الكرام وبين أنْ لا ينسب، فالأوّل يدل على التحريم دون الثاني.

ولكنّهما غير واضحين وتمام الكلام في محلّه.

الإشكال الثاني: توقف دلالة الآية على إطلاق وجوب القبول

وهو ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1) من كون دلالة الآية الكريمة على حجّية الخبر الواحد، موقوف على ثبوت إطلاق وجوب القبول على السامع، ولو لم يحصل العلم له بكون الخبر مطابقاً للواقع، ولم يثبت؛ فإنَّ الآية ساكتة عن بيان هذه الجهة.

وربّما نكتة كلام الشيخ أنَّ الآية في مقام بيان حرمة الكتمان لا في مقام بيان وجوب القبول، فلا ينعقد الإطلاق لوجوب القبول، والقدر المتيقن من وجوب القبول هو صورة إفادة الإظهار للعلم، وهذا المقدار لا ينفع في حجّية الخبر الواحد؛ لأنَّ المطلوب إثبات حجّيته ولو لم يفد العلم.

الإشكال الثالث: دلالة آية الكتمان على وجوب إظهار الحق

وهو: ما ذكره الشيخ أيضاً(2)، وهو : إنَّ آية الكتمان تدلّ على وجوب إظهار الحق، وتدلّ بالملازمة العقلية على وجوب قبول الحق المظهر، وثبوت الوجوب للسامع فرع إحراز الموضوع - أي إنَّ المظهر هو الحق - فإذا شكّ أنَّ المظهر حق أو باطل فلا يمكن ثبوت المحمول بدون ثبوت الموضوع.

ص: 267


1- فرائد الأصول 1: 287.
2- فرائد الأصول 1: 287.

وبعبارة أُخرى: ظاهر الآية قبول الحق المظهر، وليس ظاهرها جعل الطريق إلى الحق.

والفرق بين الإشكالين واضح؛ حيث إنَّ مفاد الإشكال الأوّل الإهمال أو الإجمال فيؤخذ بالقدر المتيقن، ومفاد الإشكال الثاني اختصاص وجوب القبول بإحراز الموضوع.

لكن صاحب الكفاية أشكل على الشيخ في الكفاية(1) والحاشية(2)

بعدم ورود إشكاله على الاستدلال بالآية الكريمة، فإنَّ ظاهر كلام الشيخ الأعظم تسليم الملازمة المدعاة بين حرمة الكتمان ووجوب الإظهار، وبين وجوب القبول، ولم يناقش فيها، فإنَّ تمت الملازمة العقلية فلا مجال للإيراد بالإهمال أو الإجمال أو الاختصاص.

توضيح كلامه: هُنالك قاعدة كلية وهي: الإطلاق في أحد المتلازمين ينافي الإجمال في الآخر أو الاشتراط فيه، فلا يمكن أنْ يكون أحد طرفي التلازم مطلقاً والآخر مهملاً أو مجملاً أو مقيداً.

وقد ادعي التلازم بين حرمة الكتمان ووجوب الإظهار وبين وجوب القبول، ولم يناقش الشيخ فيها، وقبل الملزوم - أي إطلاق وجوب الإظهار- فكيف يكون اللازم - أي وجوب القبول - مهملاً أو مجملاً أو مقيداً؟!

فيجب على العالم إظهار علمه مطلقاً، إلا أنَّه لا يجب القبول على السامع إلا في صورة إفادة العلم، ولازمه أنْ يكون وجوب الإظهار لغواً، ولو في

ص: 268


1- كفاية الأصول: 300.
2- درر الفوائد: 119.

الجملة فيما إذا كان إظهار الحق لا يفيد العلم للسامع، فظاهر الآية وجوب الإظهار وحرمة الكتمان، فيجب على العالم إظهار علمه، ولكن لا يجب على المستمع القبول إلا إذا أفاد العلم، فيكون الإظهار لغواً في هذا المورد.

والظاهر أنَّ الإشكال وارد على ظاهر لفظ الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) إلا أنْ يكون نظر الشيخ إلى نفي الملازمة، فلا يرد عليه الإشكال.

الإشكال الرابع: نفي الملازمة بين عدم وجوب القبول واللغوية

وهو: نفي الملازمة المدعاة، وهي: لو وجب الإظهار ولم يجب القبول - تعبداً - كان وجوب الإظهار لغواً.

فالملازمة بين عدم وجوب القبول واللغوية ممنوعة؛ لأنَّهُ إنْ كانت فائدة إظهار الحق منحصرة في القبول، فعدم وجوب القبول ملازم للغوية وجوب الإظهار، لكن الفائدة لا تنحصر في القبول التعبدي.

قال صاحب الكفاية: «لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً، وإمكان أنْ تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبينه، لئلا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة»(1) .

وقد ذكر في الكفاية الكثرة، وأضاف في الحاشية أو للقرينة، فيتضح الحق إمّا لكثرة من يبينه، أو لكونه محفوفاً بالقرائن التي تفيد القطع.

ففائدة الإظهار أنْ يكون إظهار الشخص الواحد مقدمة لحصول مجموعة من الإظهارات، ومجموع الإظهارات سبب وضوح الحق، وحينئذ يجب على السامع القبول فلا يكون وجوب الإظهار لغواً.

ص: 269


1- كفاية الأصول: 300.

فوزان آية الكتمان كسائر الآيات والروايات، كقوله(عليه السلام): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أنْ يظهر علمه»(1).

وفائدته: إنَّ إظهاره مقدمة لحصول مجموعة من الإظهارات التي تسبب وضوح الحق، وحينئذ يجب القبول لوضوح الحق.

وقد اكتفى صاحب الكفاية بهذا المقدار.

ولكن فيه: إنَّ مقتضاه عدم وجوب الإظهار إنْ لم يكن مقدمة لوضوح الحق.

وبعبارة أُخرى: إذا علم بأنَّ الإظهار لا يكون مقدمة لوضوح الحق - لسكوت الجميع وفرضنا أنَّهُ لا يكفي في وضوح الحق - فلا يجب الإظهار.

فلو قال صاحب الكفاية بعدم وجوب الإظهار حينئذ فهو خلاف إطلاق الآية، فلم يقيد وجوب الإظهار بما إذا كان مقدمة لوضوح الحق، كقوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ}(2)، وهكذا في قوله(عليه السلام): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أنْ يظهر علمه»(3)، سواء اقتنع الناس أم لا.

وإنْ قال: (يجب الإظهار) عادت مسألة اللغوية؛ لأنَّهُ يجب على العالم إظهار علمه، ولا يجب على الناس القبول تعبداً، فأصبح الإظهار لغواً.

ويمكن أنْ يجاب عنه بجوابين:

الأوّل: إنَّ اتضاح الحق حكمة لا علّة، وإنْ كان علّة فليس علّة منحصرة، فلا يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً، فيمكن أنْ لا يترتب وضوح الحق

ص: 270


1- وسائل الشيعة 16: 271.
2- البقرة: 42.
3- وسائل الشيعة 16: 271.

على إظهار الحق، لكن تترتب عليه فائدة أُخرى، فقد تكون الحكمة القبول أو ظهور الحق أو إيجاد الرادع النفسي للمظهر، كما في إنكار المنكر بالقلب، أو تحصين النفس ضد المنكرات وإيجاد المناعة فيها، أو إيجاد هذه الحالة في المؤمنين، فإنكار المنكر يسبب تماسك المجتمع المتدين بالواجب.

وعليه، فيجب الإظهار مطلقاً، وإنْ لم يجب القبول مطلقاً، لعدم انحصار فائدة حرمة الكتمان في وضوح الحق.

الثاني(1): ما يستفاد(2) من كلمات المحقق الحائري في الدرر(3).

وحاصله: نسلم أنَّ اتضاح الحق علّة منحصرة، وأنَّ الإظهار الواجب هو الإظهار الذي يفيد العلم، فيكون الوجوب المتعلق بالمقدمة وبذي المقدمة مقيداً.

ولكن بما أنَّ هذا الإظهار المقيد لا تميز له من بين جميع الإظهارات، فأوجب المولى كلّ الإظهارات توصلاً إلى مقصوده الأصلي، وهو الإظهار الخاص الذي يكون مقدمة للقبول الخاص، ففي الواقع لا إطلاق للواجب المقدمي؛ لعدم إطلاق ذي المقدمة، وإنْ كان الواجب شرعاً كلّ فرد من أفراد الإظهار للتوصل إلى ما هو المقدمة واقعاً.

وبعبارة أُخرى: ذو المقدمة هو القبول الخاص المقيد، والمقدمة الواجبة بالوجوب المقدمي هو الإظهار الخاص، لكن الشارع جعل نطاق الوجوب

ص: 271


1- وربما يكون مآله لبّاً وحقيقة إلى الجواب الأوّل (منه (رحمه اللّه) ).
2- في غير المقام لكنه منطبق على ما نحن فيه (منه (رحمه اللّه) ).
3- درر الفوائد 2: 291.

أشمل وأوسع من نطاق الغرض، فغرضه الوجوب المقدمي الذي يتوصل به، أو يمكن أنْ يتوصل به إلى ذي المقدمة، لكن مقدمة لتحصيل الغرض وحصول المقدمة الواقعية الموصلة، أو التي يمكن أنْ توصل، يحكم الشارع بوجوب كلّ إظهار.

وقد مثلنا سابقاً لذلك بقوانين المرور، فقد وضعت - واقعاً - لعدم حدوث ضرر في الخارج أو لعدم اختلال النظام، فالواجب الواقعي بمقتضى المقدمية التقيد بخصوص ذلك.

لكن بما أنَّ المقدمة الواقعية لم تتميز من باقي المقدمات، وأنَّ إيكال الأمر إلى تشخيص المكلف(1)

يؤدي إلى فوت الغرض كثيراً، فيوجب الشارع أو المقنن التقيد بقوانين المرور مطلقاً، سواء أدى إلى اختلال النظام أم لا، وسواء كان ضارّاً أم لا.

وعليه، فلا محذور في كلام صاحب الكفاية.

وبعبارة مختصرة: العلّة اتضاح الحق، وذو المقدمة مقيدة، والمقدمة مقيدة، لكن الآية مطلقة، وجميع أفراد الإظهار واجب لضمان تحقق الغرض الواقعي.

وقد أشكل عليه في النهاية(2)، بأنَّ الإظهار الذي ليس مقدمة في متن الواقع هل هو واجب بالوجوب النفسي أم بالوجوب المقدمي؟(3).

أمّا الوجوب النفسي فالمفروض التسليم بعدم وجود ملاك الوجوب

ص: 272


1- ولم يشر المحقق الحائري إلى هذه النكتة (منه (رحمه اللّه) ).
2- في غير المقام أيضاً (منه (رحمه اللّه) ).
3- نهاية الدراية 1: 446.

النفسي فيه، وأمّا الوجوب المقدمي فالمفروض عدم توقّف وجود ذي المقدمة عليه واقعاً، فينحصر وجوبه في كونه مقدمة علمية لا مقدمة وجودية، كالصلاة إلى الجهات الأربع، حيث إنَّها إلى غير جهة القبلة لا واجبة بالوجوب النفسي ولا بالوجوب المقدمي(1) وإنّما هي مقدمة علمية، والمقدمة العلمية واجبة بالوجوب العقلي لا بالوجوب الشرعي، إلا أنَّ ظاهر الآية الكريمة أنَّ كلْ أفراد الإظهار واجب بالوجوب الشرعي المولوي.

لكنّه محلّ تأمّل؛ حيث لا مانع من إيجاب الشارع بالوجوب المولوي الشرعي ما هو واجب بالوجوب العقلي التكويني، ولا منافاة بين الوجوبين.

وبعبارة أُخرى: هل يلزم في جميع موارد الوجوب العقلي أنْ يكون الوجوب الشرعي إرشادياً؟ إن هذه الكلية غير واضحة.

نعم، إذا استلزم الوجوب الشرعي محذوراً عقلياً، كأوامر الطاعة - حسب المدعى - فلا بدّ أنْ يحمل على الوجوب الإرشادي، لكن إذا لم يكن هنالك محذور عقلي فلا مانع من اتباع الظهور، كالأمر بالعدل و النهي عن الظلم، حيث يأمر العقل وينهى، وكذلك الشرع في قوله تعالى: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}(2)، ولا مانع من القول بأنَّهُ مولوي شرعي كما أشرنا إليه سابقاً.

فلا محذور فيما ذكره المحقق الحائري (رحمه اللّه) .

الإشكال الخامس: مورد آية الكتمان أصول الدين

وهو: إنَّ مورد الآية أصول الدين وما يفعله علماء أهل الكتاب، قال

ص: 273


1- بمعنى مقدمة الوجود (منه (رحمه اللّه) ).
2- البقرة: 279.

المحقق العراقي: «إنَّ سوق الآية إنَّما هو في أصول العقائد رداً على أهل الكتاب الذين أخفوا شواهد النبوّة وبيناته، وكتموا علائم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي بينّها اللّه سبحانه في الكتب السالفة»(1).

وقد ارتضاه، سواء بتقرير كون المورد أصول العقائد أم علماء أهل الكتاب أم علماء اليهود.

لكن السيد الوالد (رحمه اللّه) (2) أجاب عنه: بأنََ المورد لا يخصص الوارد، والعبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد.

الإشكال السادس: ما ذكره المحقق الإصفهاني في النهاية، وارتضاه جمع ممّن تأخّر عنه، وقال في المنتقى إنّه: «قريب إلى الذهن والذوق»(3).

قال المحقق الإصفهاني: «إنَّ الآية أجنبية عمّا نحن فيه؛ لأنَّ موردها ما كان فيه مقتضى القبول لولا الكتمان، لقوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا بَينَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} فالكتمان حرام في قبال إبقاء الواضح والظاهر على حاله، لا في مقابلة الإيضاح والإظهار»(4).

توضيحه: يوجد عندنا مفهومان: الأوّل: إخفاء الظاهر، الثاني: إظهار الخفي.

وما يرتبط بالمقام هو: وجوب إظهار الخفي، فيجب على الراوي الذي سمع حديثاً من الإمام(عليه السلام) الإظهار ويجب علينا القبول، ولم ترد الآية

ص: 274


1- نهاية الأفكار 3: 130.
2- الأصول: 662-663.
3- منتقى الأصول 4: 290.
4- نهاية الدراية 2: 226.

الكريمة في مورد إظهار الخفي، بل في مورد إخفاء الظاهر، فعلماء أهل الكتاب كانوا يخفون علامات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في التوراة والإنجيل، والتي كانت ظاهرة، وقد ورد في التاريخ أنَّهم كانوا يضعون أيدهم على اسم النبي في الكتاب حتى لا يشاهده أحد، وهذا هو كتمان الظاهر المحرّم، والقبول في هذا المورد واجب، بمعنى أنَّهُ لو أظهر ما هو ظاهر لولا الكتمان لوجب القبول؛ لأنَّهُ يفيد العلم.

أمّا القول: إنَّ إظهار الخفي واجب فيجب قبول المظهر، فهو أجنبي عمّا نحن فيه بالمرّة.

ولكنّه محلّ تأمّل؛ فإنَّهُ إذا حرّم إخفاء الظاهر فيحرم إخفاء الخفي وعدم إظهاره بطريق أولى، ولا أقلّ من اتحادهما ملاكاً.

فما هو الفرق في الملاك بين إخفاء الظاهر وإخفاء الخفي؟ فعلماء أهل الكتاب أخفوا الظاهر، والراوي أخفى الخفي، والجامع بينهما عدم وصول الناس إلى الحق، فما نحن فيه من منع الناس من الوصول إلى الحق، أو منع الحق من الوصول إلى الناس إمّا أولى بالتحريم أو أنَّهُ بنفس الملاك عرفاً.

إنْ قُلت: إنَّ مورد الآية هو الضروري من الدين فلا يتحد الملاك.

قُلنا: لا فرق بين كونه ضرورياً أم لا، فالملاك الوصول لولا الإخفاء، ولا تقييد في الآية، وقد سلّم في النهاية بحرمة إخفاء ما لولا الإخفاء لوصل إلى المكلف، ونفس الملاك موجود في إخفاء الخفي عرفاً.

إنْ تمّ ذلك فيتم المدعى(1) وهو: إنَّ الإظهار واجب فالقبول واجب،

ص: 275


1- مع غض النظر عن المناقشات المتقدمة (منه (رحمه اللّه) ).

وإنْ لم تتم الأولوية أو وحدة الملاك عرفاً، فما نحن فيه أجنبي عن الآية الكريمة.

وفي آية الكتمان مباحث أُخرى تظهر ممّا تقدم في آية النفر.

الآية الرابعة: آية السؤال

اشارة

الآية الرابعة(1): آية السؤال

وهي قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2).

وقد استدل بها بعض المعاصرين للشيخ الانصاري(3).

تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر الواحد

وتقريب الاستدلال: إنَّ وجوب السؤال - المستفاد من صيغة الأمر - يدل على وجوب القبول، وإلا لغا وجوب السؤال.

وبعبارة أُخرى: السؤال مقدمة العمل، فإنْ وجب السؤال دون العمل لكان لغواً، ويلزم القبول مطلقاً، سواء أسبقه السؤال أم لا، وذلك للقطع بعدم الخصوصية في سبق السؤال، كما ذكره الشيخ الأعظم(4).

وبتقرير آخر: حجّية قول المتكلم هي التي أوجبت السؤال منه، وإلا فإنَّ السؤال ممّن لا حجّية في قوله لغو، وهذه العلّة مشتركة بين سبق السؤال وعدم سبقه، فيكون كلام أهل الذكر حجّة مطلقاً، ولو لم يكن هنالك سؤال مسبق.

ص: 276


1- التي استدل بها علی حجية الخبر الواحد.
2- النحل: 43.
3- على ما ذكره الشيخ الأعظم في فرائد الأصول1: 288، وربما مراده الشيخ محمد حسين الإصفهاني صاحب الفصول.
4- فرائد الأصول 1: 288.
ما أورد على دلالة آية السؤال على حجية الخبر الواحد
اشارة

وفي المقام عدة مناقشات:

الأولى: إرادة علماء أهل الكتاب من الآية

وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) وارتضاه(1): من كون مقتضى السياق إرادة علماء أهل الكتاب، ومقتضى الروايات الشريفة إرادة أهل البيت(عليهم السلام)، وعليه فالآية لا تشمل رواة أخبار الآحاد.

توضيحه: إذا كان الاستدلال بالآية مع لحاظ سياقها فظاهرها إرادة علماء أهل الكتاب، وقد وردت في موضعين من القرآن الكريم:

الأوّل: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَينَاتِ وَالزُّبُرِ}(2).

فقد كان اعتراض المشركين هو: كيف يمكن لبشر أنْ يكون نبياً، بل لا بدّ وأنْ يكون النبي ملكاً، فظاهر الآية بلحاظ السياق والمورد أنَّ الأنبياء السابقين - وقد كان المشركون يؤمنون بهم - كانوا من البشر، وإنْ كنتم لا تعلمون فاسألوا علماء اليهود أو أهل الكتاب.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ }(3).

ص: 277


1- فرائد الأصول 1: 289.
2- النحل: 43-44.
3- الأنبياء: 7-8.

فالأنبياء(عليهم السلام) كانوا بشراً يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويحكمهم قانون الموت، وإنَّما فرقهم مع سائر البشر في كلمة (نوحِي إِلَيهِم)، بما يلازم الوحي من القابليات.

فلا ترتبط الآية الكريمة - مع لحاظ المورد والسياق - بحجّية الخبر الواحد، أمّا مع عدم ملاحظة ذلك فقد فسرّت الروايات الشريفة الآية بأهل البيت(عليهم السلام)، أي: (فاسألوا أهل البيت إنْ كنتم لا تعلمون)، وقد عقد في الكافي الشريف باباً لذلك(1).

لا يقال: إنَّ هذه الروايات ضعيفة؛ لضعف بعض الرواة واشتراك بعضهم في البعض الآخر، ولا يعلم أنَّ المراد منه الثقة أو غيره.

فإنَّهُ يقال: يكفي اعتبار بعضها.

فمثلاً: عن مُحَمَّد بْن يحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَينِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يحْيى، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِين، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ(2)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ مَنْ عِنْدَنَا(3) يزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(4)، أَنَّهُمُ الْيهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: إِذاً يدْعُونَكُمْ إِلَى دِينِهِمْ(5)، قَالَ: قَالَ: بِيدِهِ إِلَى صَدْرِهِ نَحْنُ أَهْلُ الذِّكْرِ وَنَحْنُ الْمَسْؤولُونَ»(6).

ص: 278


1- الكافي 1: 210 «باب أنَّ أهل الذكر الذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمة(عليهم السلام)».
2- والسند صحيح فالرواية معتبرة (منه (رحمه اللّه) ).
3- الظاهر أن المراد العامة (منه (رحمه اللّه) ).
4- النحل: 43.
5- فلو سألنا اليوم أحبار اليهود أو القساوسة عن نبوّة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لنفوا النبوّة.
6- الكافي 1: 212.

* عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا(عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يقُولُ: «قَالَ على بْنُ الْحُسَينِ(عليه السلام): ... أَمَرَهُمُ(1) اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) أَنْ يسْأَلُونَا قَالَ: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2)، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يسْأَلُونَا، وَلَيسَ عَلَينَا الْجَوَابُ(3) إِنْ شِئْنَا أَجَبْنَا وَإِنْ شِئْنَا أَمْسَكْنَا»(4).

وفي العدة بأشكالها المختلفة الثقاة كما حقق في محلّه.

* محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي بكر الحضرمي، قال: «كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) ودخل عليه الورد - أخو الكميت - فقال: جعلني اللّه فداك، اخترت لك سبعين مسألة ما تحضرني منها مسألة واحدة، قال: ولا واحدة يا ورد؟ قال: بلى، قد حضرني منها واحدة ، قال: وما هي؟ قال: قول اللّه تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(5) من هم؟ قال: نحن، قال: قلت: علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: عليكم أن تجيبونا؟ قال: ذاك إلينا»(6).

وفي الكافي الشريف تسع روايات، وربّما هنالك روايات معتبرة في

ص: 279


1- يعني الشيعة (منه (رحمه اللّه) ).
2- النحل: 43.
3- لكون الظرف ظرف التقية مثلاً (منه (رحمه اللّه) ).
4- الكافي 1: 212.
5- النحل: 43.
6- الكافي 1: 211.

كتب أُخرى، ويمكن أنْ يفيد المجموع - من حيث المجموع - العلم بالصدور مع قطع النظر عن صحّة السند، فما أشكل عليه البعض بأنَّ الروايات ضعيفة غير قابل للقبول.

وحاصل الإشكال: إنْ لوحظ المورد فهو خاصّ بعلماء اليهود أو أهل الكتاب، وإنْ لوحظت الروايات المفسّرة فالمراد بأهل الذكر أهل البيت(عليهم السلام)، وعلى كلا التقديرين الآية لا تشمل الرواة.

والجواب عنه من وجهين:

الأوّل: ما هو المعروف: من كون المورد والتفسير بيان للمصداق لا الانحصار، فلا منافاة بينه وبين وجود مصداق آخر، وهو وجود الرواة.

هذا ما ذكره السيد الوالد(1) والسيد الروحاني(2) والسيد الخوئي(3)، وهو سارٍ في الفقه والأصول في موارد متعددة.

ولكنّه يحتاج إلى توضيح، وهو: هنالك الكثير من الآيات الكريمات خاصّة بموردها - أي مورد النزول - حسب ظاهر اللفظ، ولازم الاختصاص في كثير من الأحيان موت الآية بموت من نزلت فيه.

والروايات في ذلك متعددة: فقد روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ليس من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»(4).

ص: 280


1- الأصول: 664.
2- منتقى الأصول 4: 293.
3- مصباح الأصول 2: 189.
4- بحار الأنوار 33: 155.

ووردت في تفسيرها الرواية التالية(1): محمد بن الحسن(2)، عن محمد بن الحسين(3)، عن محمد بن إسماعيل(4)، عن منصور بن يونس(5)، عن ابن أذينة(6)، عن فضيل بن يسار(7)، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الرِّوَايةِ: مَا مِنَ الْقُرْآنِ آيةٌ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، قَالَ: ظَهْرُهُ [تَنْزِيلُهُ] وَبَطْنُهُ تَأْوِيلُهُ، ومِنْهُ مَا قَدْ مَضَى وَمِنْهُ مَا لَمْ يكُنْ يجْرِي كَمَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كُلَّ مَا جَاءَ تَأْوِيلُ شَي ءٍ، يكُونُ عَلَى الْأَمْوَاتِ كَمَا يكُونُ عَلَى الْأَحْياءِ، قَالَ اللَّهُ: {وَمَا يعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(8)، نَحْنُ نَعْلَمُه»(9).

وفي رواية أُخرى عنه (عليه السلام): «لو أنَّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات

ص: 281


1- وهي صحيحة وكل أسنادها عدول إماميون ضباط.
2- محمد بن الحسن الصفار، مؤلف كتاب بصائر الدرجات ثقة عظيم القدر من أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
3- محمد بن الحسين، مشترك لكن المراد منه محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وهو جليل عظيم القدر ثقة ثقة عين من أصحاب الأمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري(عليهم السلام) بقرينة المروي عنه وهو الصفار.
4- محمد بن إسماعيل، مشترك ويتعيّن أنَّهُ محمد بن إسماعيل بن البزيع بقرينة الراوي والمروي عنه وهو ثقة من أصحاب الإمام الكاظم والإمام الرضا (عليهما السلام) .
5- منصور بن يونس، ثقة من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم (عليهما السلام) .
6- ابن أذينة، ثقة من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم (عليهما السلام) .
7- فضيل بن يسار، من أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) ومن أصحاب الإجماع الطبقة الأولى.
8- آل عمران: 7.
9- وسائل الشيعة 27: 196.

أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب، ولكنّه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى»(2).

وهُنا عدّة أسئلة:

1 - ما هو سرّ هذا الجريان؟

الجواب: ربّما أحد أسراره: استتار مفهوم عام خلف ستار لفظ يبدو أنَّهُ خاصّ.

2 - كيف يمكن التوصل إلى المفهوم العام المستتر وراء ستار اللفظ؟

الجواب: بعملية التجريد، بمعنى إلغاء الخصوصيات المكتنفة المرتبطة بمناسبات المورد، وانتزاع المفهوم العام الكلي.

3 - كيف يتم إلغاء الخصوصية؟ وما هو الطريق إلى ذلك؟

الجواب: يتمّ عن طريق السبر والتقسيم المذكور في كتب المنطق؛ حيث نعدّ جميع المحتملات الممكنة، ونقيم البرهان على نفي كلّ واحد واحد من المحتملات، ونحصر الأمر في احتمال واحد، حتى نعلم أنَّ هذا المحتمل هو الملاك والعلّة في الحكم، هكذا نكتشف الملاك ونستفيد

ص: 282


1- تفسير العياشي 1: 21.
2- الكافي 1: 192؛ نور الثقلين 2: 483.

المفهوم العام، أي نلغي الملابسات غير الدخيلة في الحكم، ونبقي الخصوصيات الدخيلة في الحكم، فننتزع المفهوم العام.

4 - ما هو شرط انتزاع المفهوم الكلي؟

الجواب: الشرط - غالباً أو في كثير من الموارد - هو: إنَّ المفهوم العام المنتزع عبارة عن كبرى كلية، ويكون مورد الآية صغرى لها، فهنالك تناسب بين ظاهر الآية الكريمة وبين المعنى الكلي العام، وهو تناسب العام والخاص.

إذا تمهّد ذلك فنأتي إلى ما نحن فيه: فالمأمور بالسؤال في الآية الكريمة هم المشركون أو مشركو العرب، فهل فيهم خصوصية حتى يؤمروا بالسؤال، ولا يكون مشركو العجم مأمورين بذلك؟ أم المشرك باعتبار أنَّهُ جاهل مأمور بالسؤال؟

الجواب: لا خصوصية فيهم بما هم كذلك، بل بما هم جهلة أو جهلة بأصول الدين.

5 - هل في علماء اليهود - بما هم علماء أهل الكتاب - خصوصية؟ أم أُرجع إليهم بما هم علماء؟

الجواب: لا خصوصية لأهل الكتاب.

هل هُنالك خصوصية في مورد السؤال، وأنَّ الأنبياء السابقين كانوا بشراً أم لا؟

والحاصل: أيها المشركون العرب، أنتم فقط في مسألة بشرية الأنبياء فقط، أسألوا من علماء أهل الكتاب فقط.

ص: 283

فهل في كلّ ذلك خصوصية، أم إنَّهم أمروا بالسؤال لأنَّهُ شيء يجهلونه؟ ربّما يقضي الفهم العرفي بعدم الخصوصية.

فمع إلغاء الخصوصيات ننتزع مفهوماً كلياً مستتراً، وهو كلّ جاهل يجب عليه أنْ يرجع إلى أي عالم فيما كان جاهلاً فيه.

وهذا المفهوم الكلي منطبق على المورد، وهو سؤال المشركين من علماء أهل الكتاب في بشرية الأنبياء انطباق الكلي على مصداقه.

وبهذا التحليل ندفع توهّم التناقض بين مورد الآية وتفسيرها؛ حيث لا يعقل إرجاع مشركي العرب إلى إمام، إمامته فرع النبوّة التي يشكون فيها، بأنْ يقال له: أيها الشاك في نبوّة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اسأل خليفته !! إنَّهُ لا يقبل النبوّة فكيف يسأل الإمام المتفرّعة إمامته عن تلك النبوّة؟

فالمفهوم العام للآية: (فاسألوا أهل العلم)، والكلي يختلف باختلاف الموارد، فلمَنْ هو شاكّ في النبوّة فأهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى، ولمَنْ ثبتت لديه النبوّة والإمامة ويريد السؤال عن أحكام الدين فأهل الذكر هم الأئمة(عليهم السلام)، وللفقهاء في عهد الغيبة وهم يريدون استعلام معالم الدين فأهل الذكر هم زرارة ومحمد بن مسلم، وللعوام في عهد الغيبة أهل الذكر هم الفقهاء.

فكلهم مصاديق للمفهوم الكلي المستبطن في الآية الكريمة، فلا تناقض بين المورد والتفسير وسائر التطبيقات(1).

وحاصل الجواب: وإنْ كان اللفظ خاصاً إلا أنَّ فيه مفهوماً عاماً توصلنا

ص: 284


1- هذا ما استفدناه من بعض أساتذتنا (منه (رحمه اللّه) ).

إليه عن طريق إلغاء الخصوصيات، وتوصلنا إلى إلغاء الخصوصيات عن طريق السبر والتقسيم، وهذا المفهوم العام يشمل علماء أهل الكتاب وأهل البيت(عليهم السلام) ورواة الأحاديث، والنسبة بين المفهوم العام وما يقتضيه سياق الآية نسبة العام إلى الخاص.

وعليه، انطباق الآية الكريمة على الرواة لا ينافي مورد النزول ولا مورد التفسير، فإشكال الشيخ الأعظم بكلا شقيه محلّ تأمّل.

الوجه الثاني: إنْ شكّ في دلالة الروايات، وشكّ في الوجه المتقدم فنجيب بجواب آخر عمّا ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، فنقول بنحو كلّي: كيف يمكن تطبيق آية نزلت في مورد خاص على سائر المصاديق؟

الجواب: يمكن التطبيق في ثلاث صور:

الأولى: أنْ يكون اللفظ ظاهراً في العموم عرفاً على ما يذكر في بحث مناسبات الحكم والموضوع، حيث يمكن أنْ يكون اللفظ خاصّاً، ولكن بمناسبة الحكم والموضوع أو بمناسبات أُخرى يفهم العرف العموم. ولا شكّ أنَّ الظهور حجّة، ولم يستثن من ذلك ظواهر القرآن على ما هو المشهور والمختار.

الثانية: أنْ يكون هُنالك ملاك مستنبط مشترك بين الموردين يعمم بسببه الحكم، لكن الملاك المستنبط لا يكون حجّة إلا إذا كان قطعياً.

الثالثة: أنْ يكون هُنالك ملاك منصوص.

هذا بنحو عام.

وفيما نحن فيه يمكن ادعاء انطباق الضابطة الأولى في المقام، فلا

ص: 285

خصوصية لأهل الكتاب، ولا خصوصية للسؤال عن كون النبي بشراً، وإنَّما يعم كل ما يماثله.

كما يمكن أنْ يدعى انطباق الضابطة الثالثة، لقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فربما تكون الجملة الشرطية إشعاراً بالعلّية، أي: فاسألوا أهل الذكر لأنَّكم لا تعلمون، فإنْ تمّ الاستظهار المذكور فالعلّة تعمم الحكم.

والمسألة سيالة في مئات الموارد الأُخرى، وحسب ظاهر كلام الشيخ لا بدّ من الوقوف على المورد ويصعب الالتزام بذلك.

وعليه، فما ذكره الشيخ محلّ تأملّ.

وهنا نذكر عدة أمثلة عرفية:

إنْ قال الأب لابنه المريض: إنْ آلمك قلبك وكنت لا تعلم العلاج فاسأل طبيب القلب، فإنْ تألمت عينه فهل يحتاج إلى السؤال مجدداً من أبيه، فلا يراجع طبيب العين حتى يسأل، أم يكتفي بما قاله الأب؟

إنْ قال الأستاذ للطالب: إنْ لم تعلم المسألة الطبية الكذائية فاسأل الطبيب، فظاهره إنْ كنت جاهلاً بالمسألة النحوية فاسأل النحوي.

وهل إذا شكّ في أمر آخر حول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غير مورد الآية - أي كونه بشراً - كأن يشكّ: هل كان هنالك نبي سابقاً أم لا؟ ألا يشمله اسألوا أهل الذكر؟ الظاهر أن الملاك واحد، والعلّة عامة، واللفظ ظاهر في العموم.

والروايات من هذا القبيل بالمئات أو بالألوف، ولا يمكن إلا حملها على المصداق، كما لو سأل ما هو الأسد؟ فأشار إليه بالمصداق، فهل المشار إليه هو الموضوع له، أم أنَّهُ مصداق من المصاديق للمعنى الكلي العام؟

أو سأل عن سعدانة؟ فأشار إليها، فهو تعريف بالمثال والمصداق.

ص: 286

وفي السيوطي في ذيل قوله: كلامنا لفظ مفيد كاستقم، أنَّهُ أعطى الحكم بالمثال.

المناقشة الثانية: وجوب السؤال لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب

وهو: ما ذكره الشيخ الأعظم وتبعه جمع: من كون ظاهر الآية وجوب السؤال لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب، قال: «إنَّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبداً»(1).

وهو أجنبي عمّا نحن فيه، فإنَّ البحث حول القبول التعبدي للخبر الواحد، وسلّم به صاحب الكفاية قائلاً: «إيجاب السؤال لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب»(2).

وقال في المنتقى: «فإنَّهُ ظاهر في كون السؤال طريقاً لحصول العلم المرغوب فيه»(3).

وفي المصباح: «إنَّ تعليق وجوب السؤال على عدم العلم ظاهر في أنَّ الغرض منه حصول العلم لا التعبد بالجواب»(4).

وقال في المنهاج ما حاصله(5): إنَّهُ يدل على لزوم تحصيل العلم وهو الاعتقاد بالشيء على ما هو به، ولا يحصل إلا بالسؤال من المعصوم أو

ص: 287


1- فرائد الأصول 1: 290.
2- كفاية الأصول: 300.
3- منتقى الأصول 4 :291.
4- مصباح الأصول 2: 189.
5- منهاج الأصول 3: 233.

الحاصل علمه من تواتر ونحوه.

وبناء على ما في المنهاج، فإنَّ الآية لا تدل حتى على حجّية الفتوى؛ لأنَّ مع سؤال المجتهد لا يحصل العلم لاحتمال الخلاف.

وأجيب عنه بجوابين:

الجواب الأوّل: ما ذكره في النهاية: «حيث إنَّ الظاهر الأمر بالسؤال لكي يعلموا بالجواب»(1)، أي فاسألوا أهل الذكر لتعلموا، فليس متعلق العلم الواقع، بل متعلقه الجواب، (لا بأمر زائد على الجواب)، أي ليس المطلوب الجواب المطابق للواقع، بل صرف العلم بالجواب، (فيكشف عن حجّية الجواب)، حيث إنَّ لازم السؤال لمعرفة الجواب هو الحجّية، وإلا لغا وجوب السؤال.

ولكنّه محلّ تأملّ لاستلزامه تخصيص المورد وهو مستهجن.

فمورد الآية أصول العقائد، والتعبد بالجواب في أصول العقائد منفي بالإجماع، بل غير معقول، فمن هو شاكّ في نبوّة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يعقل أنْ يعبده المولى بجعل الحجّية لقول علماء أهل الكتاب، فلا بدّ من ثبوت أصل النبوّة عنده حتى يصح التعبد بطريقية الطريق، وكما في المثل: ثبّت العرش ثم انقش.

الجواب الثاني:(2) ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) من: «أنَّ الظاهر البلاغي إرادة تحصيل الحجّة، كما يقال: سل الطبيب والمهندس والسائق إنْ كنت

ص: 288


1- نهاية الدراية 3: 287.
2- وربما يكون مآله إلى الجواب الأول.

لا تعلم»(1) .

وهو في حدّ ذاته تامّ، فمعنى قوله (سل الطبيب) عرفاً هو اسأله لتعمل على نظره لا لتصير طبيباً أو عالماً فتعلم بعلمك.

لكن تطبيقه على خصوص المقام يحتاج إلى تأمّل؛ لأنَّهُ إنْ كان مراده تحصيل الحجّة المفروغ عن حجّيتها - مع قطع النظر عن الآية الكريمة - فالكلي لا يتكفل مصاديقه، فلا يمكن أنْ تكون الآية دالة على حجّية الخبر الواحد لأنَّ الكلام فعلاً في حجّيته.

وإنْ كان المراد جعل الحجّية بنفس الآية الكريمة، ففيه إنَّ المقام ليس مقام جعل الحجّية، بل مقام الاحتجاج والخصام، فلا يعقل جعل الحجّية في مثل المقام، وإنَّما يوكل الأمر إلى ما ثبتت حجّيته بالطرق العقلائية أو العقلية.

وبعبارة أُخرى: الآية في مقام ردّ كلام منكري النبوّة، ولا يمكن أنْ يقول للمنكر إنّي جعلت الطريق حجّة، لأنَّهُ لا يقبل الأصل - أي النبوّة - فكيف نعبده بالحجّية التعبدية؟ بل يكون إيكالاً للحجج العقلائية التي يعترف الخصم بها، والقول بجعل الحجّية التعبدية إلا في خصوص المورد يستلزم خروجه وهو قبيح.

وعليه، فالجواب الثاني يحتاج إلى تأمّل أكثر.

المناقشة الثالثة: انحصار مدلول الآية بالتقليد

وهو: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، قال: «إنَّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الإمام(عليه السلام)، وإلا لدل على حجّية قول

ص: 289


1- الأصول: 664.

كل عالم بشيء، ولو من طريق السمع والبصر... والمتبادر من وجوب سؤال أهل العلم - بناء على إرادة التعبد بجوابهم - هو سؤالهم عمّا هم عالمون به، ويعدون من أهل العلم في مثله، فينحصر مدلول الآية في التقليد»(1).

وتوضيحه: يحتمل في عنوان (أهل الذكر) احتمالان:

الأوّل: أنْ يراد من هذا العنوان مطلق من علم شيئاً، سواء أعلمه من طريق الحواس الباطنة أم الظاهرة، فاسألوا أهل العلم يعني مطلق العالم بشيء، ومنه العالم بالرواية الذي علم بها من طريق السماع.

وهذا لا يمكن المصير إليه، وإلا لدخل كل فرد فيه حتى وإنْ كان بَقالاً؛ لكونه يعلم أنَّ الدم وقع في الماء, أو أنَّ الشاة ذُبحت إلى غير جهة القبلة, فهل يشمله قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}؟ كّلا؛ لصحة السلب, فإنَّها علامة التغاير بين السلب والمسلوب منه.

الثاني: أنْ يراد خصوص من علم شيئاً عن طريق إعمال الفكر والروية, كالفقيه والطبيب، والراوي يعلم بالحكم عن طريق الحسّ, حيث يحكي كلمات المعصوم (عليه السلام) فلا يكون من العلم.

إنْ قُلتْ: نفرض أنَّ الراوي من أهل العلم بالمعنى المذكور, كزرارة وأبان بن تغلب، فإنْ ثبتت حجّية رواية الراوي بآية السؤال تثبت حجّية غيره بعدم القول بالفصل.

قُلنا: أجاب الشيخ الأعظم(2) بأنَّ في رواية الراوي المذكور حيثيتان:

ص: 290


1- فرائد الأصول 1: 290.
2- فرائد الأصول 1: 291.

حيثية الحكاية وحيثية الدراية، فقول الراوي حجّة من حيثية الدراية لا الحكاية، وهذه الحيثية لا توجد في الراوي الذي ليس من أهل الدراية.

وبعبارة أُخرى: الراوي المذكور له حيثيتان: حيثية كونه عالماً, وحيثية كونه راوياً، والآية الكريمة تدلّ على وجوب القبول من حيث كونه عالماً, لا من حيث كونه راوياً، وهذه الحيثية مفقودة في الراوي غير العالم.

فمعنى قوله: (سل الأطباء) سلهم من حيث إنَّهم أطباء, وفيما هم أهل خبرة فيه، فلا يكون قول الطبيب: إنّي رأيت كذا من مجموع المبصرات الخارجية مورداً له، وكذلك ما نحن فيه، فمعنى (سل أهل الذكر والعلم) عرفاً هو: سل أهل العلم فيما هو أهل العلم من حيث كونه أهل العلم, يعني الفقيه.

ولا يمكن تعدي الحكم من موضوع إلى موضوع آخر فاقد للملاك، فإذا قال: (أكرم هؤلاء القوم من حيث إنَّهم هاشميون) وصادف كونهم علماء، فهل يمكن تعدية الحكم إلى كل عالم غير هاشمي؟

لكنّه قابل للتأمّل من جهات:

الأولى: بعد تسليم تفسير الشيخ لأهل الذكر، يمكن دعوى كون عنوان (أهل الذكر) طريقي لا موضوعي, وذلك بشهادة العرف.

ونظيره في بحث التجزي في الاجتهاد، فموضوع الرجوع عنوان (الفقيه) لقوله(عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء»(1)، أو: «وعرف

أحكامنا»(2)، أو غيرهما، وهذا العنوان لا يصدق على المجتهد المتجزي الذي ليست له

ص: 291


1- وسائل الشيعة 27: 131.
2- عوالي اللئالي 4: 133-134.

ملكة الاجتهاد إلا في مسألة واحدة, ولذا لا يجوز تقليده.

والجواب عنه: - بعد تسليم كون ظواهر الألفاظ مأخوذة على نحو الموضوعية لا الطريقية - إنَّ العنوان أُخذ - عرفاً - طريقاً إلى معرفة الواقع, ومعرفة الواقع - بالمعنى الأعم - صادق على المتجزي.

كما لا يصدق (الطبيب) على من اجتهد في مسألة طبية واحدة وأتقنها، إلا أنَّهُ لا موضوعية ل- (راجع الطبيب) في نظر العرف، أي الطبيب بما هو معنون بعنوان الطبيب، وإنَّما الفهم العرفي قاض بأنْ يراجع المتجزي الذي عرف الواقع باجتهاده، لأنَّ الطبيب المطلق صرف ساعة واحدة على هذه المسألة الطبية، والمتجزي صرف عشرات الساعات, فهو- عرفاً - مشمول للدليل بنحو أتم.

وما نحن فيه كذلك؛ فإنَّهُ وإنْ قُلنا: إن عنوان (أهل الذكر) لا ينطبق إلا على مَنْ عرف الأشياء عن طريق إعمال النظر والروية, لكن لا موضوعية لهذا العنوان.

وبتقرير آخر: ينطبق على زرارة الذي يعمل النظر عنوان (أهل الذكر) وهو مشمول للآية الكريمة، فإنْ روى راو آخر نصّ كلام الإمام لكنّه لم يكن من أهل النظر، فإنَّ العرف لا يفرق بين قوله وقول زرارة, كما لا يفرق بين حكايته ودراية زرارة، بل يمكن أنْ يكون حكايته أقوى من دراية زرارة في الإيصال إلى المطلوب؛ لأنَّ روايته معرفة حسّية, ودراية زرارة معرفة حدسية, فهي أولى بالقبول.

الجهة الثانية: ما ذكره صاحب الكفاية، قال: «إنَّ كثيراً من الرواة يصدق

ص: 292

عليهم أنَّهم أهل الذكر والإطلاع على رأي الإمام(عليه السلام)، ويصدق على السؤال عنهم أنَّهُ السؤال عن أهل الذكر والعلم»(1)، كزرارة ومحمد بن مسلم، فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم لعدم الفصل.

فقد يكون مقصوده - بعد تسليم مبنى الشيخ الأعظم من أنَّ أهل الذكر وأهل العلم لا يطلق على مطلق من علم شيئاً(2) - أنَّ كثيراً من الرواة كانوا واجدين لمرتبتين: الدراية والرواية, كأبان ومحمد بن مسلم، أي كانوا أهل الفتوى وأهل الخبر، فيصدق عليهم عنوان أهل الذكر، فيجب علينا السؤال منهم والقبول عنهم، وبضميمة عدم القول بالفصل يثبت وجوب السؤال ممّن هو واجد لمرتبة واحدة فقط، أي إذا كان نقل الواجد للمرتبتين حجّة, فنقل الواجد للمرتبة الواحدة - أيضاً - حجّة؛ لعدم القول بالفصل.

وقد يكون مقصوده عدم تسليم مبنى الشيخ والقول إنّ: العنوان عرفي، فكونه من أهل العلم غير متقوّم بالاجتهاد، لكن مراده غامض, وحتى عبارته في الحاشية على الفرائد مبهمة في توضيح مقصوده, ولا تدل على رد مبنى الشيخ.

وأجاب عنه المحقق المشكيني في الحاشية حيث قال: «جوابه واضح, فإن تعليق حكم على عنوان دال على كونه دخيلاً في الحكم, لا يدل على دخالة غير هذا العنوان ممّا كان متحققاً في المورد مع العنوان الأوّل»(3).

ص: 293


1- كفاية الأصول: 300.
2- بخلاف الجواب المتقدم حيث قُلنا: إنَّ هذه العناوين طريقية لا موضوعية، فالمراد أعم (منه (رحمه اللّه) ).
3- كفاية الأصول (المحشى) 3: 322.

وربما وجه الإشكال: أنَّ ظاهر العناوين الموضوعية, ف- (أكرم العلماء) يعني العلماء بما هم علماء موضوع الإكرام، فالعنوان له المدخلية في الحكم، فإنْ اتفق وجود عنوان آخر لم يؤخذ موضوعاً في العنوان المأخوذ في الموضوع، فلا يمكن تعدي الحكم إلى ما وجد فيه عنوان آخر.

ولكنّه محلّ تأمّل؛ لوضوح كون تعليق الحكم على عنوان لا يقتضي دخالة غيره؛ لأنَّ العنوان الثاني فاقد للملاك، فليس الدليل على التعدية الملاك المشترك حتى يقال بعدم اشتراك الملاك، بل ما استدل به صاحب الكفاية هو عدم القول بالفصل والإجماع المركب, وهو يجمع بين موضوعين فاقدين للملاك المشترك, ولا إشكال فيه.

فالأولى في الجواب عن كلام الكفاية أنْ يقال: إنَّ عدم القول بالفصل ليس بحجّة.

الجهة الثالثة: ما ذكره في النهاية، قال: «إمكان تعميم العلم والتفقه ونحوهما لصورة معرفة الحلال والحرام من دون إعمال نظر ورأي، فلا يكون لقوله إلاّ حيثية الخبر عن الحكم »(1).

توضيحه: لا ينحصر إطلاق (أهل العلم) بالمعرفة الاجتهادية, وإنّما يطلق على المعرفة غير الاجتهادية أيضاً، كمَنْ تتلمذ عند الإمام الصادق (عليه السلام) وعرف الأحكام عشرين سنة, لكنّه لم يحصل على ملكة الاستنباط؛ لأنَّ الملكة موهبة ومنحة إلهية, فقد لا يحصل عليها حتى بعد خمسين سنة من

ص: 294


1- نهاية الدراية 2: 228.

الدراسة في الحوزات، أفلا يطلق عليه أنَّه من أهل العلم بلحاظ معرفته للأحكام, ولا يكون لخبره إلا حيثية الحسّية, لأنَّهُ سمع شيئاً ونقله؟

وعليه, فمبنى الشيخ الأعظم محلّ إشكال.

وأشكل عليه في المنتقى بقوله: «إنَّ مرادنا بالعلم الذي يكون دخيلاً في وجوب القبول ليس النظر والرؤية والدقة, بل مطلق الرأي والاعتقاد، فقبول رأيه لو كان ناشئاً عن حس ظاهر، بلا أي مقدمة حسية، لا يلازم قبول خبره بما هو خبر»(1).

وربما يكون مراده: إنَّ الرواة على ثلاثة أنواع: 1- ناقل محض. 2- ناقل عارف معرفة اجتهادية. 3 - وناقل عارف معرفة غير اجتهادية.

ومؤدى كلام النهاية عدم اشتراط المعرفة الاجتهادية, وكفاية المعرفة غير الاجتهادية، وهذا المقدار لا يثبت المطلوب، لأنَّ البحث في حجّية الخبر الواحد حجّية مجرد النقل ولو لم تكن هنالك أية معرفة, لا اجتهادية ولا غير اجتهادية.

ولكنّه محلّ تأمّل: أوّلاً: لعدم القول بالفصل بين الناقل العارف والناقل غير العارف.

ثانياً: تحقق الشرط فيما إذا كان الملاك المعرفة وإنْ لم تكن اجتهادية؛ لأنَّ الرواة عامة كانوا يفهمون ما يقوله الإمام (عليه السلام) ولم يكونوا مجرّد حاكين لقوله (عليه السلام) كآلات التسجيل، فالشرط محقق في الروايات.

نعم, مَنْ لم يفهم ما يقوله الإمام (عليه السلام) وإنَّما حكى تقليده، فالشرط مفقود

ص: 295


1- منتقى الأصول 4: 292.

في حقه، ولكن لا يوجد مثله في الرواة.

ثالثاً: ما ذكرناه من أنَّهُ لا خصوصية للفهم عرفاً، فالملاك الوصول إلى كلام الإمام, سواء أكان الناقل عارفاً أم لا.

والظاهر أنَّهُ المتبادر, فلا موضوعية لعنوان (أهل الذكر) أصلاً، وإنَّما هو طريق إلى رأي وقول الإمام (عليه السلام), سواء أصدق على الناقل أنَّهُ من أهل العلم أم لا، عاشر الإمام (عليه السلام) طويلاً أم لا، روى كثيراً أم لا، كان عارفاً بما روى معرفة اجتهادية أم معرفة غير اجتهادية, أم لم يكن عارفاً أصلاً، فإنَّ عنوان أهل الذكر طريقي عرفاً، فالآية تدل على حجّية جميع هذه الإخبارات, وإشكال الشيخ غير واضح.

المناقشة الرابعة: الآية في مقام بيان تحصيل العلم من أهله

وهو: ما ذكره في المنهاج(1):

من أنَّ الآية في مقام بيان تحصيل العلم من أهله، وأمّا اعتبار كون أهل العلم الذين يرجع إليهم صادقين في قولهم فهو مسكوت عنه.

توضيحه: يشترط في مَنْ يرجع إليه في المعضلات العلمية شرطان, وهما: الخبروية والصدق، والحجّية مترتبة على اجتماعهما معاً, فلا يكفي أحدهما دون الآخر، والآية الكريمة ناظرة إلى الجهة الأولى وساكتة عن الجهة الثانية، بل هي موكولة إلى ما بنى عليه العقلاء, أو لما قرره الشارع بأدلة أُخرى، فلا تنهض الآية لإثبات حجّية الخبر الواحد.

وقد مرّ نظيرها في آية النفر.

ص: 296


1- منهاج الأصول 3: 233.
المناقشة الخامسة: صحة الاستدلال بالآية توجب عدم صحة الاستدلال بها

وهو: ما ذكره المحقق الحائري (رحمه اللّه) حيث قال: «صحة الاستدلال بالآية الكريمة توجب عدم صحة الاستدلال بها»(1).

قال: إنَّها لو دلت على حجّية الخبر دلت على حجّية الأخبار التي وردت في كون المراد بأهل الذكر الأئمّة (عليهم السلام)، فلا ربط للآية بحجّية الخبر الواحد.

وأشكل عليه السيد الوالد(2) (رحمه اللّه) بما يلي:

أوّلاً: بأنَّهم (عليهم السلام) قالوا بحجّية الخبر، فحين دلّت الآية - حسب التفسير- على كون المراد من (أهل الذكر) أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّهم (عليهم السلام) حكموا بحجّية الخبر الواحد فيكون حجّة.

ثانياً: الفقهاء والرواة امتداد لهم (عليهم السلام)، فكأنَّ السؤال منهم السؤال عن أهل البيت (عليهم السلام).

والجوابان تامان, ولكنّه خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى السنة, أو الاستدلال بهما معاً، نظير الاستدلال لحجّية الخبر الواحد بقوله تعالى: {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(3)، وقد حكم أولو الأمر بحجّيته، ومسألة الامتداد استفيدت من الأدلة الروائية من كونهم (ورثة الأنبياء)(4)، و (خلفائي)(5) و (وكلائي) لا من حاق الكتاب.

ص: 297


1- درر الفوائد 2: 291.
2- الأصول: 664.
3- النساء: 59.
4- الكافي 1: 32.
5- أمالي الصدوق: 247.

ثالثاً: إنَّهُ يلزم الإيراد لو أريد بها هم وحدهم مع أنَّك عرفت كونهم المصداق، فإنَّ الروايات ليست من باب تفسير آية السؤال بأهل البيت (عليهم السلام) وإنَّما هو من باب المصداق، ولا ينافي أنْ يكون الرواة من أهل الذكر أيضاً، وقد مرّ تفصيله.

المناقشة السادسة: عدم مناسبة مقام الآية مع الحجية التعبدية

إن مقام الآية مقام الاحتجاج، ولا يتناسب هذا المقام مع جعل الحجّية التعبدية، بل هو مقام الإحالة والإيكال إلى الطرق العقلائية المتبعة للوصول إلى الحق، فالآية لا تنهض لإثبات الحجّية التعبدية.

المناقشة السابعة: أهل الذكر هم أهل العلم

ما في المنهاج: من «إنَّ الذكر هو الكتاب أو العلم الذي لا يتخلف عن الواقع، فأهل الذكر مَنْ كان عنده التوراة الصحيحة غير المحرّفة أو الإنجيل, أو يعرف القرآن حقّ معرفته، وهذا لا يشمل الرواية ولا الفتوى»(1).

ولكنّه محلّ تأملّ؛ فإنَّ علماءنا - أيضاً - أهل القرآن الصحيح الذي: {لَا يأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَينِ يدَيهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(2).

إلا أنْ يقال:إنّ الآية في مورد المعلوم الذي لا يمكن فيه التخلف عن الواقع، وهو أنَّ الأنبياء السابقين كانوا بشراً, وأمّا فتاوى الفقهاء وأحاديث الرواة فيمكن أنْ تتخلف عن الواقع.

ص: 298


1- منهاج الأصول 3: 234.
2- فصلت: 42.

وبعبارة أُخرى: الآية - فرضاً - أعطت الحجّية في معلوم لا يتخلف عن الواقع، فلا تنهض لإثبات الحجّية في معلوم يمكن أنْ يتخلف عن الواقع.

الآية الخامسة: آية الإذن

اشارة

الآية الخامسة(1): آية الإذن

وهي قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يؤْذُونَ النَّبِي وَيقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيرٍ لَّكُمْ يؤْمِنُ بِاللّهِ وَيؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر الواحد

وجه الاستدلال: إنَّ اللّه سبحانه مدح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكونه أذناً وبتصديقه للمؤمنين، بل قرن تصديق المؤمنين بالتصديق باللّه، فإنْ كان تصديق المؤمنين حسناً - كما هو المستفاد من المدح - فيكون واجباً؛ لعدم القول بالفصل بين الحسن والوجوب في المقام وللسياق - أيضاً - لوجوب الإيمان باللّه، فكذلك تصديق المؤمنين.

الإشكال على دلالة آية الأذن على حجية الخبر الواحد
اشارة

ويرد على الاستدلال بها عدة إشكالات:

الأول: المراد من الأذن سريع القطع

وهو: ما ذكره الشيخ الأعظم(3)، وتبعه جمع من الأعلام كصاحب الكفاية والمحقق الإصفهاني والسيد الروحاني(4), وهو: إنَّ المراد من الأذن

ص: 299


1- التي استدل بها على حجّية الخبر الواحد.
2- التوبة: 61.
3- فرائد الأصول 1: 292.
4- كفاية الأصول: 301؛ نهاية الدراية 2: 230؛ منتقى الأصول 4: 293.

سريع القطع لا الأخذ بقول الغير تعبداً، والبحث في الخبر الواحد في القبول التعبدي، وإلا فالقبول مع حصول القطع عمل به لا بالخبر، فلا ترتبط الآية بالمقام.

لكنّه محلّ إشكال من جهات:

الأولى: منافاة التفسير لمورد نزول الآية الكريمة، فإنَّ موردها هو عبد اللّه بن نفيل المنافق(1), الذي كان ينمّ على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فنزل جبرائيل وأخبره بذلك، فطلبه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واستفسر ما أخبره جبرائيل، فقال: لَمْ أفعل ذلك، فقبل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منه، فذهب وهو يقول: إنَّهُ أذن, حيث إنه يقبل ما أخبره اللّه ويقبل منّي نقيضه.

فهل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مورد الآية قطع بقول عبد اللّه بن نفيل؟ كيف واللّه أخبره بخلافه؟!

فالتعليل لا ينطبق على المورد؛ لأنَّهُ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقطع بقوله, بل قطع بخلافه.

الجهة الثانية: إضافة (أذن) إلى (خير) تنافي التفسير، فوجود القائد السريع القطع ليس خيراً للمؤمنين, بل هو شرّ للمقودين. فالإضافة في الآية الكريمة - مضافاً إلى المورد - تأبى التفسير ظاهراً.

الجهة الثالثة: ليست سرعة القطع من الصفات الممدوحة في الإنسان العادي, فكيف بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ كما أنَّ بطء القطع كذلك، بل الحد الوسط والاعتدال في القوى العقلية والوهمية والشهوية والغضبية هو الممدوح،

ص: 300


1- تفسير القمي1: 11؛ الأصفى 1: 475.

فكيف مدحه اللّه بذلك؟!

هذا ما أشار إليه جمع من الأعلام في كلماتهم:

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «حسن الظن الموجب لحسن الاعتقاد أمر غير حسن؛ لأنَّ الحسن الاعتدال لا حسن الظن وسوء الظن »(1).

وقال (رحمه اللّه) : «فإنَّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن سريع القطع من الأشياء الموهومة، بل بالعكس إنَّهُ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان فطناً كيسّاً ملتفتاً ممّا ينافي سرعة القطع»(2).

فالمؤمن كما عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كيس فطن حذر»(3)، وعن الصادق (عليه السلام): «تعلموا من الغراب ثلاث خصال: استتاره بالسفاد، وبكوره في طلب الرزق، وحذره»(4).

وقال المحقق العراقي: «إنَّ ذلك لا يناسب مقام النبوّة فضلاً عن كونه كمالاً وموجباً لمدح اللّه سبحانه إياه»(5).

وقال في المنهاج: «إنَّه نقص والنبي منزّه عن ذلك»(6).

وفصّل المحقق المشكيني قائلاً: «إنَّ سرعة القطع ممدوحة في غير النبي والوصي، فإنَّها فيهما منافية للعصمة»(7)، وربما نظره إلى أنَّ النبي لا يخطئ

ص: 301


1- الوصائل 3: 394.
2- الوصول 4 : 55.
3- بحار الأنوار 64: 308.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 482.
5- نهاية الأفكار 3: 131.
6- منهاج الأصول 1: 432.
7- كفاية الأصول (المحشى) 3: 323.

حتى في اعتقاده, فكيف يقطع بكل شيء؟ فهو ينافي العصمة.

لكن تفصيله محلّ تأملّ؛ فإنَّ سرعة القطع غير المعتدل, وحسن الظن المفرط الموجب لسرعة القطع ليس من صفات الكمال, لا في النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا في غيره، بل هو نقص.

ثم وجّه المحقق المشكيني كلام الشيخ وصاحب الكفاية حيث قال: «نعم، يمكن القول بأنَّ المدح على إبرازه نفسه الشريفة بمنزلة السريع القطع»(1)، بمعنى أنَّهُ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتظاهر بالقبول كسريع القطع الذي يقبل واقعاً، لكنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتظاهر بالقبول، أي لم يكن يرد عليه؛ لأنَّ القائد - بل حتى الأب - لا ينبغي له أنْ يلقي الحجاب بينه وبين المرؤوسين، فإذا خالف الابن فقد يكون غضّ الطرف مخالفاً للمصلحة والحكمة, لكنّه يطلبه ويتساءل منه، فإنْ أنكر، فإنَّ تكذيبه إلقاء للحجاب وهتك للستر، ولا ينبغي ذلك للأب، فكيف بأبّ الأمّة فلا بدّ من السكوت، ونفس هذا يعتبر تنبيهاً وكافياً في الرادعية.

أو الصديق إذا تكلمّ على صديقه فبلغه ذلك فيطلبه ويستفسر عمّا بلغه، فيكذب، فيسكت ويتظاهر بالقبول؛ لأنَّ التكذيب قد ينتهي إلى العداوة فيصبح الأمر أسوأ.

فليس المراد من الأذن سريع القطع, وإنَّما الذي يتظاهر بسرعة القطع أو يتظاهر بالقبول، ولا يبعد أنْ يكون مرادهما أيضاً ذلك، فلا يكون الإشكال الأوّل وارداً.

ص: 302


1- كفاية الأصول (المحشی) 3: 323.
الإشكال الثاني: احتمالات معنى الإيمان والتصديق
اشارة

توجد في معنى الإيمان والتصديق في قوله تعالى: {وَيؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، احتمالات ثلاثة:

الأوّل: أنْ يكون المراد التصديق الوجداني، بمعنى حصول القطع، لكنّه غير مراد قطعاً كما تقدم.

الثاني: أنْ يكون المراد التصديق التعبدي بترتيب جميع آثار المخبر به، أي: ترتيب آثار الواقع على إخباره، وهو الذي ينفعنا في المقام حيث يساوق الحجّية.

الثالث: التصديق التعبدي بمعنى ترتيب بعض الآثار لا جميعها، لكنّه لا ينفع في المقام حيث لا يساوق معنى الحجّية.

والعبارات في بيان المراد بالمعنى الثالث مختلفة, وربما مآل الكل واحد، فقد ورد في بعض التعابير: إنَّ المراد هو (عدم التكذيب)(1)، أي لم يقل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعبد اللّه بن نفيل كذبت، وهذا حكم أخلاقي لكي لا يكذب الكاذب وجهاً لوجه.

وفي بعضها: (إظهار القبول)(2) وربما يكون مرتبة أعلى من (عدم التكذيب) وذلك باستخدام كلمات ينتزع منها التصديق, كقوله: (عجيب) عند نقله قضية أو تحريك رأسه أو ما أشبه.

وعبّر عنه في الكفاية بقوله: «ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر

ص: 303


1- فرائد الأصول 1: 292.
2- فرائد الأصول 1: 292.

غيرهم»(1)، وهذه العبارة عامّة ولها عرض عريض، وربما مراده نفس معنى عدم التكذيب أو إظهار القبول.

وعلى أي حال، فبأي تعبير عبّرنا عن الثالث فإنَّ ترتيب بعض الآثار لا يساوق الحجّية ولا ينفع في المقام.

وبعد الفراغ عن كون المعنى الأوّل غير مراد يدور الأمر بين المعنيين الأخيرين، وقد ذكرت مجموعة من القرائن للمعنى الثالث، فلا تكون الآية مفيدة لحجّية الخبر الواحد, وهذه القرائن هي:

الأولى: ما ذكره الشيخ الأعظم(2): من أنَّ تكرار كلمة الإيمان في الآية الكريمة يدل على أنَّ معنى الإيمان المذكور أوّلاً غير المعنى المذكور ثانياً، فالأوّل الإيمان الحقيقي والثاني الإيمان الصوري, وهو لا ينفع في مقام حجّية الخبر.

ولكنّها محلّ تأمّل، فإنَّ التكرار لا يدلّ بالضرورة على اختلاف المعنى، فيمكن أنْ يكون هنالك معنى مشترك واحد له مراتب، فيكون التكرار لإفادة كونهما في مرتبتين, كقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(3)، فليس التكرار دالاً على تعدد معنى الإطاعة، وقد تكررت الكلمة حذراً من استخدام اللفظ الواحد في معنيين، بل ربما يكون التكرار لإفادة كون الإطاعة لها مرتبتان، فإنَّ إطاعة اللّه في مرتبة أعلى؛ لأنَّها إطاعة

ص: 304


1- كفاية الأصول: 301.
2- فرائد الأصول 1: 294.
3- النساء: 59.

ذاتية، وإطاعة الرسول في مرتبة عليا؛ لأنَّها إطاعة عرضية.

ويمكن أنْ يكون التكرار للتأكيد، حيث يمكن أنْ يقع الشيء في سياق الكلام, فلا يدل على الاهتمام المتزايد, لكن التكرار يدل على التأكيد, كقولنا: (أكرم زيداً وعمرواً)، والفارق بينه وبين قولنا: (أكرم زيداً وأكرم عمرواً) في التأكيد على إكرام عمرو واضح، فلا يدل التكرار على مدعى الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

القرينة الثانية: ما ذكره الشيخ الأعظم(1) أيضاً, وهو: اختلاف تعدية الإيمان، ففي الأوّل عديت بالباء وفي الثاني باللام، فتدل على أنَّ الإيمان في الأوّل غير الإيمان الثاني.

وفيها تأمّل؛ لاختلاف متعلق كلمة الإيمان فيختلف حرف التعدي, فإنْ كان متعلقه وجود الشيء يتعدى بالباء, كقوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللّه}(2)، أي بوجود اللّه، وإنْ كان متعلقه القول لا الوجود يتعدى باللام, كقوله تعالى: {وَمَا

أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}(3)، حيث إنَّ المراد الإذعان والتصديق للقول، وكقوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}(4)، أي آمن لدعوته، فاختلاف التعدية لا يدل على اختلاف معنى الإيمان، وأنَّ أحدهما حقيقي والآخر صوري, وإنّما اختلفت لاختلاف المتعلق.

وهُنا سؤال عرضي, وهو: لماذا اختلفت التعدية مع أنَّ المورد يتضمن

ص: 305


1- فرائد الأصول 1: 294.
2- البقرة: 285.
3- يوسف: 17.
4- العنكبوت: 26.

قول اللّه, وقول عبد اللّه بن نفيل، حيث إنَّ اللّه أخبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنَّ عبد اللّه بن نفيل نمَّ عليك, وعبد اللّه قال لم أنم عليك، فكان المفروض أنْ يقال: يؤمن لله ويؤمن للمؤمنين؛ لأنَّ الموجود في المقام قولان؟!

والجواب عنه بأنَّ لازم الإيمان باللّه الإيمان بقوله قهراً، فذكر هنا الملزوم وأريد به اللازم.

ثم إنّه لماذا لم يقتصر على ذكر خصوص اللازم؟

وذلك لأنَّ اللازم يفيد الإيمان بخصوصية خاصة, أمّا كلمة يؤمن باللّه فتفيد العموم، فلكي لا يختصّ الإيمان بالقول عدل عن الإيمان لله إلى الإيمان باللّه، فهو إيمان باللّه وبجميع ما يرتبط به، فيفيد التوسعة والعموم.

القرينة الثالثة: إنَّ مقتضى التعليل بالخيرية وعمومها في قوله تعالى: {أُذُنُ خَير}، على القراءة المشهورة عدم إرادة ترتيب جميع الآثار.

فإذا قيل: (إنَّ زيداً شرب الخمر)، فترتيب جميع الآثار مثل حدّ شرب الخمر ليس خيراً, بل هو أذن شرّ خاصة إذا لم يكن شارباً للخمر. نعم, يكون أذن خير إذا رتّب بعض الآثار, كعدم التكذيب وعدم إجراء الحد, فيكون خيراً للمخبر والمخبر عنه.

القرينة الرابعة: ما ورد في تفسير العياشي(1) من أنَّهُ يصدق المؤمنين لأنَّهُ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين، فمنشؤه الرأفة والرحمة، والتعليل الوارد في الرواية لا ينسجم إلاّ لو كان المراد ترتيب بعض الآثار لا جميعها.

القرينة الخامسة: مورد الآية وجود إخبارين, أحدهما: إخبار اللّه,

ص: 306


1- تفسير العياشي 2: 95.

وثانيهما: إخبار عبد اللّه بن نفيل، فإنْ كان التصديقان واقعيين بترتيب تمام الآثار، فكيف يصدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تصديقاً واقعياً خبر عبد اللّه مع أنَّ اللّه أخبره بخلافه؟!

القرينة السادسة: الرواية الواردة عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإنْ شهد عندك خمسون قسامة وقال قولاً فصدقه وكذبهم»(1)، أي لا ترتب الأثر حتى لو رأيت بعينك، فإنْ كان المراد التصديق الواقعي فهذا ترجيح للمرجوح على الراجح؛ فإنَّهُ تصديق واقعي لواحد وتكذيب للخمسين أو الألفين وخمسمائة(2)، فلا يكون المراد إلا التصديق الصوري والظاهري, وهو لا ينفع في المقام.

وفي المقام إشكال وهو: إنَّ ظاهر بعض الروايات التي استدلت بالآية الكريمة أنَّ المراد التصديق الواقعي وترتيب الأثر عملاً لا شكلاً وصورة, ومنها: ما رواه الكليني, عن علي بن إبراهيم(3)، عن أبيه(4)، عن ابن أبي عمير(5)، عن حماد بن عيسى(6)، عن حريز(7)، قال : «كانت لإسماعيل بن أبي

ص: 307


1- الكافي 8: 147.
2- فإنَّ (قسامة) إمّا بدل عن (خمسين) فيكون المجموع خمسين شخصاً، وإمّا تمييز له فيكون المجموع ألفين وخمسمائة (منه (رحمه اللّه) ).
3- علي بن إبراهيم، ثقة.
4- إبراهيم بن هاشم، المختار أنَّه ثقة وإنْ كان فيه خلاف بين كونه ثقة أو ممدوحاً، لكنّه لا يضر باعتبار الرواية, فتكون صحيحة أو حسنة.
5- ابن أبي عمير، من أصحاب الإجماع وهو من الطبقة الثالثة.
6- حماد بن عيسى، ثقة من أصحاب الإجماع وهو من الطبقة الثالثة.
7- حريز، ثقة.

عبد اللّه(عليه السلام) دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبت، إن فلاناً يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): يا بني، أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس، فقال : يا بني، لا تفعل ، فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها، ولم يأته بشيء منها، فخرج إسماعيل وقضى أن أبا عبد اللّه(عليه السلام) حج وحج إسماعيل تلك السنة، فجعل يطوف بالبيت، ويقول : اللّهم أجرني وأخلف علي، فلحقه أبو عبد اللّه(عليه السلام) فهمزه بيده من خلفه، فقال له: مه، يا بني، فلا واللّه ما لك على اللّه [هذا] حجة، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته، فقال إسماعيل: يا أبت، إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بني، إن اللّه عز وجل يقول في كتابه : {يؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِين}(1)، يقول: يصدق اللّه ويصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم»(2) .

فمعنى الرواية إذا شهد المؤمنون عندك فاتخذ موقفاً عملياً لا أنْ تتظاهر بالتصديق، فالتصديق تصديق واقعي لا مجرّد تصديق صوري, أو إظهار القبول أو عدم التكذيب.

وأجيب عنه بوجوه

الأوّل: إنَّ هذا خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنة,

ص: 308


1- التوبة: 61.
2- الكافي 5: 299.

والبحث في إثبات حجّية الخبر الواحد بالكتاب، وغاية الأمر أنَّ الرواية في عداد الروايات الآتية, وسيأتي الكلام عنها في محلّه.

الثاني: إنَّهُ موجب للدور؛ لأنَّ حجّية طبيعي الخبر متوقف على أنَّ المراد من الإيمان والتصديق ترتيب جميع الآثار، وكون المراد بالآية هذا المعنى متوقف على حجّية خصوص هذا الخبر - أي خبر حريز - وحجّية خصوص هذا الخبر متوقف على حجّية طبيعي الخبر، فآل الأمر إلى توقف حجّية طبيعي الخبر على حجّية طبيعي الخبر, وهو دور.

الثالث: إنَّهُ معارض بظاهر الآية الكريمة؛ لأنَّ ظاهر الآية التصديق الصوري أو التصديق الانتفاعي، أمّا ظاهر رواية حريز فهو التصديق الواقعي وترتيب جميع الآثار, ولا مرجّح لأحدهما على الآخر, فننتهي إلى الإجمال.

الرابع: الخبر معارض مع الخبر الذي ذكر في مورد نزول الآية الكريمة؛ حيث إنَّهُ صريح في التصديق الظاهري فيتعارض الخبران.

وسواء أصحّت هذه الأجوبة أم لا, إلا أنَّ التمسك بهذه الرواية في المقام لإثبات حجّية الخبر الواحد غير صحيح.

ولذا, كيف يمكن حلّ التعارض بين ظاهر الآية الكريمة والرواية المتضمنة لشأن نزولها, مع صحيحة حريز, بغضّ النظر عن مقام الاستدلال لحجّية الخبر الواحد؟

والجواب: ربما يوجد هنالك طريقان لحلّ التعارض:

الأوّل: أنْ ندعي أنَّ قوله تعالى: {يؤْمِنُ بِاللّهِ وَيؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} جملة مستأنفة, فيرتفع التعارض بالمرّة.

ص: 309

فصحيح أنَّهُ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أذن, إلا أنَّ هنالك نوعين من الأذن: أذن خير وأذن شر، وما فعله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أذن خير بأنْ يسمع الكلام الكاذب ولا يكذبه، فيكون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أذن خير للجميع.

إلى هذا الحد ينتهي الكلام, ويبدأ كلام جديد, وهو: إيمانه باللّه وللمؤمنين، فالتصديق الظاهري يرتبط بالجميع, أمّا التصديق الواقعي فيرتبط باللّه وبالمؤمنين الواقعيين, لا بمن أظهر الإيمان كعبد اللّه بن نفيل، فجملة: {وَيؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ترتبط بالتصديق الواقعي، وهذا المعنى لا ينافي صحيحة حريز, بل ينطبق عليها تماماً: {وَيؤْمِنُ

لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ}، وظاهره (من) التبعيضية، أي إيمانه باللّه وللمؤمنين الواقعيين, وكونه رحمة لخصوص المؤمنين منكم وأما عن غير المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ يؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الثاني: أنْ يكون التفسير من بطون الآية الكريمة, إمّا باستخدام اللفظ أو باستخدام اللفظ في معنيين, أو نحو ذلك.

الدليل الثاني: السنة الشريفة

اشارة

الدليل الثاني(1): السنة الشريفة

ويتوقف الدخول في بيان ما ورد من السنة في حجّية الخبر الواحد على مقدمة تنبغي الإشارة إليها، وهي: إنّ إثبات حجّية الخبر الواحد بخبر الواحد دوري، كما تقدم توضيحه، فإذا أردنا إثبات حجّية الخبر الواحد بالسنة لا بدّ وأنْ تكون متواترة أو محفوفة بالقرينة القطعية، فيكون الاستدلال بهما.

ص: 310


1- على حجية الخبر الواحد.

أنواع التواتر

والتواتر على ثلاثة أنواع:

الأوّل: التواتر اللفظي: وهو اتفاق جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب والخطأ(1) على نقل خبر بلفظه، كالتواتر في قراءة: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}(2) عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه الكيفية، فهو متواتر لفظاً.

الثاني: التواتر المعنوي: وهو اتفاقهم على نقل مضمون واحد مع الاختلاف في الألفاظ، سواء أكان بالدلالة المطابقية أم التضمنية أم الإلتزامية، كالأخبار المتضمنة لشجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام).

الثالث: التواتر الإجمالي: وهو عبارة عن ورود جملة من الأخبار نقطع بصدور بعضها لا على التعيين، كمجلد من بحار الأنوار فيه أخبار مختلفة بمضامين مختلفة ولا جامع بينها - فرضاً -، حيث لا يعقل أنْ تكون كل هذه الأخبار مجعولة، بل نعلم بصدور بعضها، وإنْ لم نعلمها بعينها.

وفي المقام بحثان: نظري وتطبيقي

أمّا الأوّل فهو: البحث النظري.

قال في الكفاية(3): وإنْ لم يكن في المقام تواتر لفظي أو معنوي إلا أنَّ هنالك تواتراً إجمالياً؛ لأنَّ الأخبار الواردة في حجّية الخبر الواحد بألسنة

ص: 311


1- كما أضافه بعض المتأخرين (منه (رحمه اللّه) ). راجع: الأصول العامة للفقه المقارن: 194؛ كفاية الأصول (المحشى) 3: 330.
2- الحمد: 1.
3- كفاية الأصول: 302.

مختلفة وبعناوين مختلفة تجاوزت العشرات، فهنالك حوالي خمسين رواية في وسائل الشيعة - كتاب القضاء - وأكثر منه في جامع أحاديث الشيعة، فنقطع بصدور بعضها عن المعصوم (عليه السلام).

ومقتضى التواتر الإجمالي حجّية أخصها مضموناً؛ لأنَّهُ المقطوع بصدوره عن المعصوم (عليه السلام) إمّا بعنوانه أو بعنوان يعمّه وغيره، فإذا وجد في الطائفة الأخص مضموناً ما يدل على حجّية ما هو أعم، فتثبت حجّية خبر الثقة مطلقاً؛ لأنَّ الدليل القاطع قام على حجّيته.

والحاصل: وإنْ لم تكن الروايات متواترة لفظاً ومعنى إلا أنَّها متواترة إجمالاً، وفي التواتر الإجمالي يؤخذ بما هو الأخص مضموناً، ويوسّع نطاق دائرة الحجّية إذا وجد في ما هو الأخص ما يدل على حجّية الأعم.

وخرج صاحب الكفاية من المقام بهذه الفرضية، أي إثبات حجّية أخصّ المضامين، ووجود ما يثبت الحجية المطلقة في الأخص من المضامين، وأهمله صاحب النهاية بالمرّة.

وأشكل عليه المحقق النائيني بعدم وجود التواتر الإجمالي في المقام.

قال في أجود التقريرات(1): حينما نضع يدنا على كل واحد واحد منها تحتمل الصدق والكذب، فلا يكون واحداً منها مقطوع الصدور.

ويرد عليه: نقضاً: إنَّهُ وارد على كل أقسام التواتر، ولا يختص بالتواتر الإجمالي، ومآله إلى إنكار حجّية التواتر؛ لأنَّ الخبر المتواتر مركّب من مجموعة من أخبار الآحاد، فحينما نضع يدنا على كل خبر يحتمل الصدق

ص: 312


1- أجود التقريرات 2: 113.

والكذب، فكيف يجامع القطع، فإنَّ الاحتمال ضد القطع؟

وحّلاً: يوجد في المقام عنوانان:

الأول: كل واحد واحد من الأخبار معيناً.

الثاني: أحد الأخبار لا على التعيين، والأول موضوع لاحتمال الصدق والكذب، والثاني موضوع للقطع، فاختلف الموضوعان، وعنوان الأحد غير عنوان الفرد المردد غير الموجود خارجاً وذهناً؛ حيث لا يعقل وجود الفرد المردد بما هو مردد بالحمل الشايع الصناعي حتى ذهناً، أمّا عنوان الأحد فله وجود خارجي.

وأمّا الثاني فهو: البحث التطبيقي.

أخبار الثقات عن النبي والأئمة(عليهم السلام)

اشارة

إنَّ أشمل كتاب متضمن لأخبار الحجّية كتاب جامع أحاديث الشيعة، باب حجّية أخبار الثقات عن النبي والأئمّة الأطهار، وقد جمع فيه (116) رواية غير ما تقدم من الأبواب السابقة، وما يأتي في الباب اللاحق، وهي كثيرة جداً يذكر شطراً منها، وقد قسّمها الشيخ الأعظم إلى عدة طوائف، وقسّمها بعض إلى سبع، وبعض إلى خمس عشرة طائفة، نذكر بعضها:

الطائفة الأولى

ما يتضمن لزوم التسليم لما ورد عنهم (عليهم السلام) والانقياد له:

منها: عن الحسن بن جهم، قال: قُلت للعبد الصالح (عليه السلام): هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم، فقال: «لا واللّه، لا يسعكم إلا التسليم

ص: 313

لنا...»(1).

وهذه الطائفة لا تدل على ما نحن فيه؛ لأنَّ القدر المتيقن من هذه الأخبار صورة القطع بصدور الخبر، فإنَّ الموضوع فيها (ما ورد علينا منكم) وإنْ شكَّ أنَّهُ ورد منهم أو من غيرهم كانت مصدرية أهل البيت (عليهم السلام)للرواية مشكوكة، فلا يحرز الموضوع ولا يترتب عليه وجوب التسليم، وذلك مثل وصول رسالة مشكوكة إلى الوكيل، فلا يمكن القول: إنَّهُ من الموكل، بل يقال: ورد شيء يحتمل أنَّهُ منه، فإطلاق (منه) عليه يحتاج إلى الإحراز، وكذلك في الخبر الواحد لا إحراز قطعي بالورود منهم.

الطائفة الثانية

ما يتضمن الحث على تحمّل الحديث عن الصادق:

منها: عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «سارعوا في طلب العلم، فو الذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة»(2).

وقريب من مضمونه بعض الروايات الأُخرى(3)، وبعضها صحيحة(4)، وبعضها حسنة وصحيحة عند بعض(5).

وأشكل عليها بثلاثة إشكالات:

ص: 314


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 51.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 51.
3- كالرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة من المصدر.
4- كالرواية العاشرة.
5- كالرواية السابعة.

الأوّل: ما أفاده السيد العم (حفظه اللّه): قد يقال بانصراف صادق في هذه الأحاديث إلى الأئّمة المعصومين (عليهم السلام) بقرينة سائر الروايات التي تفيد هذا المعنى، فعن أبي جعفر (عليه السلام): «من دان اللّه عزَّ وجلَّ بغير سماع من صادق ألزمه اللّه التيه إلى يوم القيامة»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «من دان اللّه بغير سماع عن صادق ألزمه اللّه التيه إلى الفناء(2)، ومن ادعى سماعاً من غير الباب الذي فتحه اللّه فهو مشرك، وذلك الباب المأمون على سرّ اللّه المكنون»(3).

ويمكن أنْ يؤيد ذلك بما ورد في الكافي الشريف: عن بريد العجلي: «سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول اللّه عزَّ وجلَّ: {اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}(4)، قال إيانا عنى»(5).

وقد يتأمّل فيه، بأنَّ كلمة (الصادق) مشتقة، والمشتق يعني ذات تلبست بهذه الصفة، أي الذات المتلبسة بالصدق، فلو شككنا أنَّ اللفظ نقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي الخاص، فأصالة عدم النقل محكمة، فالمراد الرجل الصادق مقابل أبي هريرة وأبي حنيفة، ممّن كانوا يضعون الحديث قبال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وأمّا رواية الكافي فالحصر فيها إضافي و(إيانا عنى) في مقابل من اعتبر

ص: 315


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 62.
2- في الكافي 1: 377 «ألزمه اللّه البتّة إلى العناء».
3- وسائل الشيعة 27: 128؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 253.
4- التوبة: 119.
5- مرآة العقول 2: 417.

نفسه في عرض أهل البيت (عليهم السلام) كأبي حنيفة، لا طولهم كزارة.

ويؤيده - بل ربما يدل عليه - ما ذكر في الكافي بسند صحيح(1)، وهو يفيد التعميم في الصادقين : الكليني، عن محمد بن يحيى(2)، عن أحمد بن محمد (3)، عن ابن أبي نصر(4)، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «سألته عن قول اللّه عزَّ وجلَّ: {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال (عليه السلام): الصادقون هم الأئّمة والصديقون بطاعتهم»(5).

وظاهرها أنَّ الصادقين هم أهل البيت (عليهم السلام) والصديقين بطاعتهم هم الذين صدقوهم وأطاعوهم، كسلمان وأبي ذر، وهنالك احتمالات أُخرى، لكن هذا أقرب الاحتمالات.

الثاني: إذا لم يكن الخبر محفوفاً بالقرائن القطعية فلا يعلم كون الراوي صادقاً، فلعله كاذب.

والصدق والكذب نوعان: خبري ومخبري، وملاك الصدق الخبري: مطابقة الخبر للواقع، وملاك الصدق المخبري: مطابقة الخبر للاعتقاد.

وظاهر الصدق بقول مطلق ومن دون تقييد هو الصدق الخبري، فلو عممّنا (الصادق) لمطلق الصادقين، فمن أين يعلم أنَّ الراوي صادق ؟ فلعله يكون كاذباً وإنْ كان معذوراً، فإنَّ المعذورية لا تساوق الصدق، حيث

ص: 316


1- خلافا للحديث المتضمن ل- «إيانا عنى» حيث إن سنده ضعيف (منه (رحمه اللّه) ).
2- محمد بن يحيى، ثقة.
3- أحمد بن محمد، ثقة.
4- أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، من أصحاب الإجماع الطبقة الثالثة.
5- مرآة العقول 2: 421.

يمكن أنْ يشتبه الراوي فينقل الخبر الكاذب.

والحاصل: إنَّ موضوع هذه الأخبار (خبر تسمعه من صادق) ولا دليل على كون الراوي صادقاً.

إلا أنْ يقال: وإنْ كان المراد دقة من (الصادق) الصادق في خبره، إلا أنَّهُ يطلق - عرفاً - على الصادق المخبري أيضاً، فالرجوع إلى الرجل المتقي الورع - وإنْ لم يعلم أنَّ كلامه مطابق للواقع أم لا - رجوع إلى (صادق).

الثالث: ليست هذه الطائفة في مقام البيان، فلا إطلاق لها؛ لأنَّها في مقام حثّ الناس على الرجوع إلى الصادقين، لا في مقام بيان شرائط الراوي، فربما تكون الحجّية متوقفة على حصول العلم.

والحاصل: لم تتضح دلالة الطائفة الثانية على حجّية الخبر الواحد.

الطائفة الثالثة

ما يتضمن الحثّ على نقل الحديث.

وفيها روايات متعددة:

منها: ما روي عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَنْ حفظ على أمتي أربعين حديثاً فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة فقيهاً عالماً»(1).

وهنالك روايات أُخرى قريبة بهذا المضمون(2)، وبمضامين أُخرى.

وعن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «يا أبان، إذا قدمت

ص: 317


1- وسائل الشيعة 27: 94.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 69-73.

الكوفة فارو هذا الحديث: مَنْ شهد أنْ لا إله إلا اللّه مخلصاً وجبت له الجنة»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «يا جميل، ارو هذا الحديث لإخوانك فإنَّهُ ترغيب في البر»(2).

وعن أبي العباس البقباق قال: «دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: ارو عني أنَّ مَنْ طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فقد بانت منه»(3).

وحينما حجَّ سيد الشهداء (عليه السلام) جمع الكثيرين وقال لهم: «ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، ومن ائتمنتموه من الناس ووثقتم به، فادعوه إلى ما تعلمون من حقّنا»(4).

وهكذا روايات أُخرى(5) يجمعها الأمر بنقل الحديث وروايته.

ولكن لا دلالة في هذه الطائفة على حجّية أخبار الثقات، لما تقدم في آيتي النفر والكتمان، فلا ملازمة بين الأمر بالنقل ووجوب القبول تعبداً؛ لأنَّ فائدة النقل لا تنحصر في القبول التعبدي، بل قد تكون الفائدة في ظهور الحق، فلا دلالة في هذه الطائفة.

الطائفة الرابعة

ما يتضمن تصديق المعصوم (عليه السلام) لبعض الروايات أو الكتب.

ص: 318


1- الكافي 2: 520.
2- الكافي 3: 526.
3- وسائل الشيعة 22: 74.
4- مستدرك الوسائل 17: 291.
5- جامع أحاديث الشيعة 1: 38-39.

وفيها روايات متعددة وتنقسم إلى قسمين:

الأوّل: ما لم يرد فيها تعليل؛ فلا تفيد حكماً عاماً؛ لأنَّها تتضمن تصديقاً لمجموعة من الكتب على نحو القضية الخارجية.

وبعبارة أُخرى: لا تدل على حجّية كل ما يرويه ثقة، بل تثبت الحجّية لطائفة خاصة من الروايات أو الكتب، وربما تكون مقطوعة الصدور أو قطعية.

ففي الحديث: «إنَّ أبا جعفر الجعفري قال: أدخلت كتاب يوم وليلة(1) الذي ألفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري(عليه السلام)، فنظر فيه وتصفح كله، ثم قال: هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كله»(2).

ورواية أُخرى بنفس المضمون حيث قال(عليه السلام): «رحم اللّه يونس - ثلاثاً -»(3).

وكذلك الروايات في تأييد كتاب فضل بن شاذان، وكتاب سليم بن قيس الهلالي، وكتاب ابن أبي شعبة.

الثاني: ما وردت معللة، والظاهر عدم جريان العلّة في مطلق أخبار الثقات.

ففي قوله: «فلما نظر فيه وتصفحه ورقة ورقة، فقال: هذا صحيح ينبغي

ص: 319


1- وهو كتاب يتضمن برنامج المؤمن في يومه وليلته، احتمالاً مؤلفه يونس بن عبد الرحمان من أصحاب الإجماع، الطبقة الثالثة.
2- بحار الأنوار 84: 292.
3- بحار الأنوار 84: 292.

أنْ يعمل به»(1)، كلمة الصحيح بمثابة العلّة لوجوب العمل، وفي بعض الروايات «فإنَّها حق»(2) وظاهره التعليل.

وحاصل الطائفة الرابعة: إنَّ غير المعللة منها قضية خارجية، والمعللة غير مطردة في جميع أخبار الثقات، حيث لا يمكن القول إنَّ خبر الثقة صحيح فيجب العمل به، بل يحتمل أنْ يكون حقّاً، لأنَّ ظاهر قوله (صحيح) و(فإنَّها حقّ) المطابقة للواقع(3).

الطائفة الخامسة

الروايات الإرجاعية.

وهي مهمّة جداً، حيث تتضمن الإرجاع إلى أشخاص معينين كالتي أرجعت الناس إلى عبد العظيم الحسني أو يونس بن عبد الرحمن أو أبان أو محمد بن مسلم أو زكريا بن آدم أو العمري وابنه.

وهذه الروايات تتنوع - أيضاً - إلى نوعين:

الأوّل: ما لم يذكر فيه ملاك الإرجاع، والظاهر أنَّها لا تدل على ما نحن فيه؛ لعدم معلومية ملاك الإرجاع والمماثلة.

ومنها: «دخلت على علي بن محمد(عليه السلام) بسامراء فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها، فلما ودعته قال لي: يا حماد، إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك، فسل عنه عبد العظيم بن عبد اللّه

ص: 320


1- تهذيب الأحكام 10: 49.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 229.
3- فإنّ الحق مطابقة الواقع للخبر، والصدق مطابقة الخبر للواقع كما في الحاشية.

الحسني، واقرأه مني السلام»(1).

فملاك الإرجاع مجهول، فربما يكون لأجل وثاقته، أو لعلم الإمام (عليه السلام) أنَّهُ لا يخطئ في الجواب من باب القضية الخارجية لا العصمة.

الثاني: ما ذكر فيه الملاك، فيمكن التعميم بتعميم الملاك.

فمنها : ما في الكافي(2):

الكليني(3)، عن محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري(4) ومحمد بن يحيى جميعاً(5)، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري(6)، قال: «اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو عند أحمد بن إسحاق(7).... أنَّ العمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك فعني يقول: فاسمع له وأطع فإنَّهُ الثقة المأمون»(8)، وقوله (عليه السلام): «فإنَّهُ الثقة المأمون» تعليل يدل على حجّية نقل كل ثقة مأمون.

وفي موضع آخر منه: «العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني

ص: 321


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 224.
2- هذا الحديث هو في أعلى درجات الاعتبار سنداً.
3- الكليني، اتفق الفقهاء كافة على ورعه وضبطه، قال الشيخ الطوسي: في الإسلام لم يؤلف أثبت من الكافي.
4- محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، اتفقت كلمة الأصحاب على وثاقته وجلالة قدرة.
5- محمد بن يحيى العطار الأشعري، ثقة جليل مشهور بالوثاقة شيخ أصحابنا في عصره وحتى من طعن في بعض الرواة وتوسعوا حتى لبعض الأجلاء لم يطعن فيه.
6- عبد اللّه بن جعفر الحميري، من أجلاء الطائفة المعروف بوثاقته وضبطه وهو شيخ أصحابنا في قم.
7- أحمد بن إسحاق، من أجلاء الاصحاب.
8- الكافي 1: 329-330.

يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنَّهما الثقتان المأمونان»(1).

ومنها: «قُلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنَّهُ ليس كل ساعة ألقاك ويمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه؟ قال: فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنَّهُ قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»(2).

ومنها: «قُلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريا بن آدم القمي(3) المأمون على الدين والدنيا»(4)، وهو ظاهر في كون المأمونية علّة.

ومنها: «قُلت لأبي الحسن الرضا: جعلت فداك! إنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ قال: نعم»(5).

وكأنَّ الكبرى - أي حجّية قول الثقة - مفروغ منها والسؤال عن الصغرى، فالنوع الثاني يدل على الملاك، ويتعدى منه إلى سائر الرواة.

وفي المقام إشكالات:

ص: 322


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 221.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 221.
3- المدفون في مقبرة شيخان بقم المقدسة، وفي الرواية: «إن اللّه يدفع به عن أهل قم كما يدفع بموسى بن جعفر (عليهما السلام) عن أهل بغداد».
4- جامع أحاديث الشيعة 1: 221.
5- جامع أحاديث الشيعة 1: 221، وهي رواية صحيحة.

الأوّل: إنَّ الثقة المضاف مغاير لمطلق الثقة؛ لأنَّ الإضافة تدل على نحو من الاختصاص، وهو لا يوجد في المطلق، فهنالك فرق بين (البيت) وبين (بيتي) مثلاً، والمذكور في الرواية (ثقتي) وهو يغاير الثقة المطلق.

إن قلت: التعليل - كقوله (عليه السلام): «فإنَّهُ الثقة المأمون» - يدل على العموم.

قُلت: التعليل تفريع على ما تقدم، فلا ينعقد له ظهور في العموم. وبعبارة أُخرى: الصدر يصلح للقرينية على صرف المطلق عن إطلاقه، فلا ينعقد للتعليل ظهور في العموم.

وفيه تأمّل من جهتين:

الجهة الأولى: ورد في روايات هذه الطائفة عنوان (الثقة) بلا إضافة، كما في قوله (عليه السلام): «العمري وابنه ثقتان»(1)، فتكون الوثاقة المطلقة هي الملاك لا الوثاقة الخاصة.

وكما في قوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ قال(عليه السلام): نعم»(2)، فلم يسأل (ثقة عندك) حتى يقال بإفادته الاختصاص، وذلك مثل أنْ يقال: أفلان فقيه نقلده؟ فيجيب نعم، وهكذا روايات أُخرى لا تفيد الاختصاص.

الجهة الثانية: إنَّ العبرة بعموم التعليل، وتقدم شيء عليه لا يمنع ظهوره في العموم، كقوله(عليه السلام): «فاسمع له وأطع، فإنَّهُ الثقة المأمون»(3).

ص: 323


1- الكافي 1: 330.
2- وسائل الشيعة 27: 147.
3- الكافي 1: 330.

ونظيره ما ذكره الفقهاء في روايات (لا تنقض اليقين بالشك)، حيث عمموا اليقين، فإنْ سبق شيء أو مورد لا يمنع عن انعقاد العموم للتعليل.

الإشكال الثاني: التعليل في الرواية كقوله(عليه السلام): «فإنَّهُ الثقة المأمون» أو: «فإنَّهما

الثقتان المأمونان»، والألف واللام تدلان على الكمال، فحتى لو سلم عموم التعليل، إلا أنَّهُ يدل على حجّية خبر مَن كان في غاية الوثاقة والأمن دون كل ثقة.

وفيه أوّلاً: ما تقدم في الإشكال السابق.

وثانياً: لم يذكر في معاني اللام إفادتها للكمال، فمعاني (اللام) في اللغة محصورة كالعهد وإفادة الجنس و.. أمّا إفادتها للكمال فغير واضح، ولم يذكر في نظائر المقام، كما في قوله (عليه السلام): «فإنَّ اليقين لا يدفع بالشك»(1)، فلم يقل فقيه أنَّ المقصود أعلى درجات اليقين، وكقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(2)، فليس المعنى: الذين هم في أعلى درجات الكمال، فأمثال هذه التركيبات لا تفيد الكمال لغة وعرفاً. نعم، يمكن أنْ يكون ذلك لنفي الأغيار، بمعنى أنَّهُ متصف بهذا الوصف لا غيره، أمّا إفادته أنَّهُ في أعلى درجات الفقاهة والوثاقة فغير واضح.

الإشكال الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين وارتضاه وبنى عليه: من أنَّ الثقة عبارة عمّن يأتمنه الإنسان، وهو مختلف باختلاف الأفراد، فيمكن أنْ يأتمن شخص بسيط فرداً، أمّا الفطن فلا يأتمنه.

ص: 324


1- مستدرك الوسائل 1: 228.
2- البقرة: 5.

وعليه، فالوثاقة صفة قائمة بالشخص باعتبار وثوق الآخر به، فله معنى إضافي لا حقيقي، ولذلك يختلف الأفراد في تشخيص الوثاقة وعدمها.

والمجعول ملاكاً للحجّية في هذه الروايات مَنْ وثق به الإمام (عليه السلام)، أو مَنْ وثقه الإمام (عليه السلام) فيكون قوله حجّة، وهذا يختلف عمّن وثقه الكشي والنجاشي، فالأوّل ثقة حقيقة وواقعاً، وقد كشف الإمام (عليه السلام) عن وثاقته، والثاني لا يعلم كونه ثقة واقعاً، فقد يخطئ النجاشي.

وفيه نظر: لما تقرر في محلّه من قيام الأمارات والطرق مقام القطع، فإنه وإنْ كان المأخوذ في الروايات الثقة الواقعي، ولكن ثمرة قيام الأمارات مقام القطع توسعة دائرة الواقع، أو فرض كون الموضوع فرداً من أفراد الواقع.

وبعبارة أُخرى: أدلة الحجّية حاكمة على الدليل الواقعي وموسعة له.

مثلاً: المراد من قولنا (الماء مطهر) هو الماء الواقعي، ولكن لو قامت البينّة على مائع أنَّهُ ماء مع عدم علمنا بكونه ماءً، فدليل حجّية قول البينة يُدخل هذا الفرد تعبداً في الموضوع الواقعي.

وبعبارة أُخرى: لا فرق بين الفرد الوجداني والفرد التعبدي ببركة أدلة الحجّية في تمام الموضوعات الواقعية، فالشارع ألغا الفرق بينهما في ترتيب الآثار على كليهما.

الطائفة السادسة

ما دلّ على جواز نقل الحديث بالمعنى.

ومنها: «قُلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) اسمع الحديث منك فلعلي لا أرويه

ص: 325

كما سمعته، فقال (عليه السلام): إذا أصبت الصلب منه فلا بأس، إنَّما هو بمنزلة تعال وهلم واقعد واجلس»(1) .

فلا إشكال في النقل بالمعنى.

والظاهر عدم دلالتها على حجّية إخبار الثقات؛ لأنَّها في مقام بيان تحديد وظيفة الراوي، وأنَّهُ هل يجوز له النقل بالمعنى أم لا؟ وما هي ضوابط ذلك؟ لا في مقام بيان وظيفة المروي له، وأنَّهُ لا بدّ وأنْ يقبل كل خبر، سواء أفاد العلم أم لم يفد.

الطائفة السابعة

ما دل على المنع من رفض رواية لمجرّد الذوق والرأي.

ومنها: عن أبي جعفر (عليه السلام): «وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنّا فلم يقبله اشمئز منه وجحده، وكفر مَنْ دان به، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أُسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا»(2) .

والظاهر عدم دلالتها أيضاً؛ لأنَّ مفادها حرمة الرد على أساس الذوق، وهي لا تلازم وجوب القبول لوجود الواسطة فيما بينهما.

فهنالك حالات ثلاث: الأولى: حالة الرد لما روي عنهم.

الثانية: حالة القبول.

الثالثة: حالة التوقف.

ص: 326


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 249؛ وسائل الشيعة 27: 105.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 222.

فهذه الروايات - على كثرتها - تفيد حرمة الرد، وحرمة الرد لا تلازم وجوب القبول، وإنَّما يمكن أنْ يكون الحكم هو التوقف وهو قسيم الرد والقبول. وهنالك باب في بحار الأنوار في وجوب الرد إلى أهله في الأخبار التي لا تعلم(1).

الطائفة الثامنة

ما دل على الترجيح عند تعارض الروايات بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

وقد عقد السيد البروجردي له باباً كاملاً، ونقل فيه (42) رواية غير ما تفرّق في سائر الأبواب، وفيها صحيحة وموثقة ومقبولة.

وقد يناقش فيه بعدم دلالتها على حجّية أخبار الثقات؛ لأنَّها في مقام بيان حكم تعارض الحجتين، لا في مقام بيان ضابطة الحجّية، فهل الحجّة كل خبر رواه راو، أو رواه ثقة، أو الحجّة خصوص ما كان قطعياً من الأخبار؟

لكن يبعد حمل هذه الأخبار على خصوص الخبرين القطعيين؛ وذلك لأنَّ تعارض الأخبار القطعية الصدور نادر، ويبعد حمل جميع هذه الأخبار على الفرد النادر، هذا أوّلاً، وثانياً: إنَّ بعض المرجحات المذكورة فيها لا تناسب الأخبار القطعية، كالأوثقية في قوله(عليه السلام): «خذ... وأوثقهما في نفسك»(2)، فالأوثقية مرجحة في صورة الشك في الصدور، أمّا مع القطع بالصدور فلا معنى لكون الأوثقية مرجحة.

ص: 327


1- بحار الأنوار 25: 364.
2- مستدرك الوسائل 17: 303.
الطائفة التاسعة

ما دل على حجّية نقل الثقات أو الرواة أو نحو ذلك من العناوين بشكل عام.

منها قوله(عليه السلام): «فإنَّهُ لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم بسرّنا ونحمله إياه إليهم»(1).

وهنالك أحاديث أُخرى تدل على ذلك أيضاً(2):

ومنها: «قُلت فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ليس يتفاضل واحد منهما على صاحبه»(3)، فتدل على حجّية العدل المرضي عنده، ولكنه يتساءل عن تعارض راويين عدلين مرضيين، وقد أقرّه الإمام (عليه السلام) على ذلك.

منها: «فقلت: إنَّهما معاً عدلان مرضيان موثقان»(4).

ومنها: «قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق، فقال: إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت»(5).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك»(6).

وهنالك روايات أُخرى جمعها السيد عبد اللّه شبر في كتاب الأصول

ص: 328


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 222.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 1-2، 20-21.
3- من لايحضره الفقيه 3: 10.
4- بحار الأنوار 2: 246.
5- بحار الأنوار 2: 224.
6- وسائل الشيعة 27: 122.

الأصلية يمكن أنْ تدرج في هذه الطائفة أيضاً:

فمنها: «إنَّهُ (عليه السلام) ذمّ رجلاً وقال: إنَّهُ ذكر أقواماً كان أبي ائتمنهم على حلال اللّه وحرامه وكانوا عيبة علمه وكذلك هم عندي اليوم... قُلت: مَنْ هُم؟ قال: بريد وأبو بصير وزرارة ومحمد بن مسلم»(1).

ومنها: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه»(2).

وفي مرسلة الفقيه قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المؤمن وحده حجّة»(3) يعني يحتج بقوله.

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي(عليه السلام)... ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأُمناء أبي على حلال اللّه وحرامه»(4).

ومنها: «كتب إلي أبو الحسن (عليه السلام) وهو في السجن: ... لا تأخذنَّ معالم دينك من غير شيعتنا؛ فإنَّك إنْ تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين، الذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم»(5).

وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام): «... فاعتمدا في دينكما على كل مسن في حبّنا، وكل كثير القدم في أمرنا، فإنَّهما كافوكما إنْ شاء اللّه »(6).

ص: 329


1- الفصول المهمة 1: 589.
2- وسائل الشيعة 27: 140.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 376.
4- وسائل الشيعة 27: 144.
5- وسائل الشيعة 27: 150.
6- بحار الأنوار 2: 82.
الطائفة العاشرة

ما دلّ على أنَّ أصحاب الأئمة(عليهم السلام) كانوا يعملون بروايات الرواة.

ويمكن أنْ يذكر في دليل الإجماع بوجه.

ومنها: ما عن أبي جميلة، حيث كان مع يونس ببغداد فأصاب فقاع ثوب يونس فقال: «ليس أريد أنْ أصلي حتى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي، قلت: هذا رأيك أو شيء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم أنَّهُ سأل أبا عبد اللّه عن الفقاع؟ فقال: لا تشربه فإنَّهُ خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله»(1).

والشاهد: إنَّ يونس اعتمد على خبر هشام، وأبو جملية سكت عندما أخبره يونس أنَّها رواية، وظاهر السكوت القبول.

ومنها: «قلت لأبي الحسن موسى(عليه السلام): «إنَّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه إلا وتحضره المسألة، ويحضره جوابها فيما مَنَّ اللّه علينا بكم، فربما ورد علينا الشيء ولم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك عنه شيء...»(2).

وعن محمد بن عبد اللّه بن زرارة قال: بعث زرارة عبيداً - ابنه - يسأل عن خبر أبي الحسن (عليه السلام)(3)، فجاءه الموت قبل رجوع ابنه، فاخذ المصحف فأعلاه فوق رأسه، وقال: «إنَّ الإمام بعد جعفر بن محمد اسمه بين الدفتين

ص: 330


1- الكافي 3: 407.
2- الكافي 1: 56.
3- وكأنَّهُ كان في ظرف التقية، وكان اسم الإمام اللاحق مكتوماً، فبعث ابنه ليستفسر عن الإمام(عليه السلام).

في جملة القرآن... فأخبر أبو الحسن(عليه السلام): فقال كان زرارة مهاجراً إلى اللّه ورسوله»(1)(2).

وفي رواية أُخرى: وجّه زرارة عبيداً - ابنه - إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن(3).

والشاهد: إنَّ زرارة كان يعتمد على الخبر في هذه القضية المهّمة وهي الإمامة.

هذه الطوائف العشر تدل أو ادعي دلالتها على حجّية الخبر الواحد.

تذييل

يمكن الاستئناس للمقام بالأخبار الكثيرة المتضمنة لحجّية إخبار الثقات في الموضوعات الخارجية، وهي روايات متعددة وكثيرة جمعها السيد الشبّر في الأصول الأصلية.

فعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول: إنّي لم أطأها، فقال (عليه السلام): «إنْ وثق به فلا بأس بأنْ يأتيها»(4).

ونظيرها بعبارات مختلفة: «إن ائتمنته فمسها»(5)، و «إنْ كان عندك أميناً

ص: 331


1- ربما إشارة الى قوله تعالى: {وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} النساء: 100.
2- اختيار معرفة الرجال 1: 372.
3- فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) أوصى إلى ستة أشخاص ليكون أحدهم هو الإمام من بعده، منهم المنصور الدوانيقي ومنهم أم حميدة؛ وذلك من شدة التقية.
4- الكافي 5: 472.
5- وسائل الشيعة 21: 90.

فمسها»(1).

وفي باب الوكالة: «إنَّ الوكيل إذا وكلّ فأمره ماض أبداً والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة»(2).

وفي باب الأذان: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): «صل الجمعة بأذان هؤلاء، فإنَّهم أشدّ شيء مواظبة على الوقت»(3).

لكن الظاهر عدم إمكان جعلها دليلاً؛ لعدم القطع بوحدة الملاك بين الموضوعات والأحكام؛ حيث يمكن أنْ تكون أخبار الثقات حجّة في الموضوعات دون الأحكام، بل يمكن أنْ يقال بالفرق بينهما؛ لأنَّ الموضوعات الخارجية متضمنة للأحكام الجزئية، أمّا أخبار الثقات عن الأحكام فتتضمن أحكاماً كلية تترتب عليها مليارات الوقائع، فالحجّية في الموضوعات الجزئية لا تلازم الحجّية في الأحكام الكلية.

كيفية الاستدلال بهذه الطوائف العشر

وللاستدلال بهذه الطوائف هنالك أربعة طرق:

الأوّل: ما ذكره صاحب الكفاية(4):

من أنَّ هذه الأخبار متواترة بالتواتر الإجمالي.

وأشكل عليه بعض المحققين من المتأخرين: بعدم التواتر الإجمالي؛

ص: 332


1- الكافي 5: 473؛ تهذيب الأحكام 8: 172.
2- من لايحضره الفقيه 3: 87.
3- من لايحضره الفقيه 1: 291.
4- كفاية الأصول: 302.

لعدم دلالة غالب الطوائف على حجّية الخبر الواحد، والطوائف الدالة هي الطائفة الخامسة في نوعها الثاني، والطائفة التاسعة والعاشرة، وهذا المجموع حوالي خمسة عشر رواية، ولا قطع إجمالي بصدور بعضها عن المعصوم(عليه السلام).

لكنه غير تام؛ لأنَّ مجموع روايات هذه الطوائف فيما ذكرنا حوالي (28) رواية، وهي أكثر من ذلك قطعاً، ولو ضممنا إليها الطائفة الثامنة - وقد مرّ وجهه فيها - وهي أكثر من (42) رواية لصار المجموع حوالي (70) رواية، بأسناد مختلفة، ولا نحتمل أنْ يكون كلها مجعولة، بل لا احتمال في ال- (28) رواية، بل ندعي القطع الوجداني بصدور بعضها عن المعصوم (عليه السلام).

الطريق الثاني: ما ذكره المحقق النائيني: «من أنَّ خصوص ما يدل على حجّية أخبار الثقات متواتر بالتواتر المعنوي؛ لأنَّها تتضمن موضوعاً واحداً وهو خبر الثقة أو خبر الثقة العادل»(1).

وأشكل عليه في المصباح(2) بعدم التواتر المعنوي.

لكن إذا جمعنا النوع الثاني من الطائفة الخامسة والتاسعة، التي مفادها الإرجاع الجزئي أو الإرجاع الكلي، فيكون مجموعها (18) رواية أو أكثر، فيمكن القول بثبوت التواتر المعنوي في هذا المجموع.

فلو أخبرنا شخص عادي بخبر في مورد لا تكون فيه قرائن مخالفة، ولم تكن القضية مشبوهة ولم يحتمل التواطؤ، يمكن حصول القطع من خبره،

ص: 333


1- أجود التقريرات 2: 113.
2- مصباح الأصول 2: 193.

فكيف بهذه الروايات المتعددة التي بعضها في أعلى مراتب الصحة؟!

الطريق الثالث: إنَّ بعض هذه الأخبار محفوفة بالقرائن الموجبة للاطمئنان بالصدور، بل قد يدعى بأنَّها توجب القطع بالصدور، وهي نوعان: خارجية وداخلية:

أمّا القرائن الخارجية : فقد ادعى النائيني اعتماد الأصحاب على بعض هذه الأخبار بنحو يوجب القطع بالصدور.

وأمّا القرائن الداخلية: فقد ادعاها بعض المحققين من المتأخرين، وتتم بملاحظة خصوصيات رواة هذه الأخبار.

ونحن نذكر نماذج ثلاثة ممّا احتفّ بهذه القرائن الداخلية:

الأوّل: صحيحة عبد اللّه بن جعفر الحميري، وسندها(1) يفيد الاطمئنان بالصدور، بل القطع به، فوثاقة الرواة فيها ثابتة بالوجدان - كوثاقة الشيخ الأعظم - لا بالتعبد.

الثاني: صحيحة ابن أبي يعفور: المفيد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد اللّه جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد اللّه بن محمد الحجال، عن العلاء بن رزين، عن عبد اللّه بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، وورد فيها: «.. فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنَّهُ قد سمع من أبي، وكان عنده [مرضياً] وجيهاً»(2)، وكل أفراد السند ثقات، وقد ادعى البعض ثبوت وثاقتهم بالوجدان لا بالتعبد.

ص: 334


1- قد مر تفصيل السند في الصفحة 321.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 225.

الثالث: الكشي، عن محمد بن نصير، عن محمد بن عيسى، عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن على بن يقطين معاً، عن الإمام الرضا (عليه السلام): «... أفيونس بن عبد الرحمن ثقة.. قال (عليه السلام): نعم »(1) ، والسند صحيح.

فأمثال هذه الروايات المحفوفة بالقرائن القطعية الداخلية أو الخارجية تفيد الاطمئنان أو القطع بالصدور.

فلم يستدل بالخبر الواحد على حجّية الخبر الواحد حتى يكون دورياً، وإنَّما استدل بالخبر المحفوف بالقرائن القطعية على حجّية الخبر الواحد، ولا إشكال فيه.

الطريق الرابع: التمسك بالسيرة العقلائية، والقدر المتيقن منها حجّية خبر مَنْ هو في أعلى درجات الوثاقة.

وفي هذه الأخبار - كصحيحة عبد اللّه بن جعفر الحميري, والصحيحة المتضمنة لوثاقة يونس بن عبد الرحمن- الشرط متوفر، فتثبت حجيتها بالسيرة العقلائية، وهذه الأخبار تفيد التعميم لكنه خروج عمّا نحن فيه.

الأخص مضموناً في التواتر الإجمالي

ثم إنَّ هنالك نظريات ثلاث في مقتضى التواتر الإجمالي, والأخذ بالأخص مضموناً:

الأولى: ما ذكر المحقق النائيني: «من أنَّ أخص هذه الروايات الأخبار الدالة على جواز العمل بخبر الثقة، فالتواتر الإجمالي يثبت حجّية أخبار

ص: 335


1- وسائل الشيعة 27: 147؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 226.

الثقات»(1).

ولكنّه محلّ تأمّل؛ لأنَّ الأخبار المروية مختلفة، ومقتضى بعضها حجّية أخبار الثقات, ومقتضى بعضها حجّية أخبار العدول, كقوله (عليه السلام): «خذ بقول أعدلهما»(2)، و«... المأمون على الدين والدنيا»(3)، ومقتضى بعضها اعتبار الولاية أي الإيمان بالمعنى الأخص كقوله (عليه السلام): «.. لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا»(4) ، و «فاعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا كثير القدم في أمرنا»(5) .

النظرية الثانية: ما ذهب إليه البعض من أنَّ الأخص هو الجامع لشرطين:

الأول: أنْ يحكي عن المعصوم بلا واسطة.

الثاني : أن يكون الراوي من الفقهاء العدول الإمامية, كزرارة ومحمد بن مسلم.

ففي صحيحة يونس بن عمار, عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر فلا يجوز لك أنْ ترده»(6)، فزرارة فقيه إمامي عادل, والخبر بلا واسطة.

ص: 336


1- أجود التقريرات 2: 113.
2- مستدرك الوسائل 17: 303.
3- وسائل الشيعة 27: 146.
4- وسائل الشيعة 27: 150.
5- وسائل الشيعة 27: 151؛ بحار الأنوار 2: 82 ؛ اختيار معرفة الرجال 1: 15 (مع اختلاف يسير في الجميع).
6- وسائل الشيعة 27: 142.

وكذلك حسنة عبد اللّه بن أبي يعفور: «.. ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي فإنَّهُ سمع أبي وكان عنده وجيهاً»(1).

وهكذا صحيحة شعيب بن العقرقوقي: «قُلت لأبي عبد اللّه: ربما احتجنا أنْ نسأل عن الشيء, فمن نسأل؟ فقال: عليك بالأسدي، يعني أبا بصير»(2).

وأضاف بعض المعاصرين شرطاً ثالثاً, وهو- مضافاً إلى الشرطين المتقدمين: أنْ يكون الراوي كثير الرواية كما يستفاد من قوله (عليه السلام): «فإنَّهُ سمع من أبي وكان عنده وجيهاً».

وعليه, فالروايات لا تجدينا في المقام إطلاقاً، لأنَّ جميع الأخبار عندنا منقولة بالوسائط، ومفاده إلغاء جميع الروايات, ولا يمكن الاستدلال على حجيتها عن طريق السنة بناء على التواتر الإجمالي.

ولكنّه محلّ تأمّل؛ لإلغاء احتمال مدخلية الأوصاف الثلاثة في الحجية عرفاً, فالفقاهة شرط الإفتاء, لا شرط الرواية, والكلام في صرف الرواية، ولمحمد بن مسلم - مثلاً - أوصاف كثيرة ذكرت في علم الرجال، ولكن احتمال مدخلية هذه الأوصاف للإرجاع إليه ملغى عرفاً، فقد كان فقيهاً ولكن لا دخل لفقاهته عرفاً في قبول روايته بما هي رواية وحكاية.

وهكذا كونه كثير الرواية أو قليل الرواية، وهذا مثل كونه في المدينة أو خارجها, حيث لا دخل له عرفاً، مضافاً إلى أنَّ الرواية لا تدل على الكثرة،

ص: 337


1- وسائل الشيعة 27: 144.
2- وسائل الشيعة 27: 142.

فقوله(عليه السلام): «إنَّهُ سمع من أبي» لا يدل على اشتراط الكثرة.

واحتمال مدخلية كونه بلا واسطة في قبول روايته ضعيف عرفاً, خاصة وأنَّ الرواية الثانية معللة بما يفيد الأعم، فقوله (عليه السلام): «إنَّهُ سمع من أبي وكان وجيهاً» يعمم الحكم, سواء أكان فقيهاً أم لم يكن, كان بلا واسطة أم لم يكن, كان كثير الرواية أم لم يكن.

النظرية الثالثة: - أخصّ هذه الطوائف - ما كان رواته جميعاً من الشيعة العدول الثقات.

ويمكن أنْ يضاف إليه: عدم المعارضة للكتاب والسنة القطعية, لقوله(عليه السلام): «يطرح» أو «فاضربوا به عرض الجدار»(1) في بعض الروايات.

وفي هذه الأخبار الواجدة لتمام هذه الشرائط روايات توسع نطاق الحجية كالروايات الثلاث التي ذكرت.

والحاصل: يثبت الأخص بالتواتر الإجمالي, ويوسع نطاق الحجّية لتضمن الأخص ما يدل على حجّية خبر كل ثقة.

ملاك قبول الخبر

ثم إنَّهُ هل الملاك الوثاقة الخبرية أو الوثاقة المخبرية؟

يمكن القول: إنَّ الملاك الوثاقة الخبرية, سواء أكان منشأ هذه الوثاقة داخلياً كوثاقة المخبر، أم كان له منشأ آخر, كعمل المشهور بالخبر الضعيف.

ويدل عليه تنقيح المناط بالمساواة أو الأولوية، فلا فرق في وثاقة الخبر بين كونه عن وثاقة المخبر أو عن عمل المشهور، بل الوثاقة الحاصلة عن

ص: 338


1- شرح أصول الكافي 2: 343.

عمل المشهور أكثر من الوثاقة الحاصلة عن وثاقة المخبر.

ولكنّه محلّ تأمّل؛ فإنَّ ظاهر الألفاظ الموضوعية والملاكات مجهولة، فالروايات الواردة تتكفل الحجّية لخبر الثقة، مثلاً: «العمري.. فإنَّهُ الثقة المأمون» و«فإنَّهما الثقتان المأمونان», و«المأمون على الدين والدنيا»، و«أفيونس ثقة؟ قال: نعم», و«إذا قامت عليه الحجّة ممّن يثق به في علمنا», و«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا», و«إنََّهما معاً عدلان مرضيان موثقان», و«يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة», و«إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة».

فالروايات الواردة بالمقدار الذي فحصنا تتضمن الوثاقة المخبرية، وربما يكون لها الموضوعية, كبعض شرائط مرجع التقليد, ككونه عادلاً إمامياً، فلو لم يكن إمامياً فلا يجوز تقليده حتى لو وثق بخبره، وعلى ما ينقل عن الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) : إنَّ اللّه يريد سد باب الفاسق وعدم الرجوع إليه.

والمقام نظير المصلحة السلوكية التي ذكرها الشيخ (رحمه اللّه) ؛ فالروايات تفيد حجّية خبر الثقة فقط, دون الخبر الذي لم يروه الثقة, وإنَّما وثق بصدوره من طريق آخر كعمل المشهور. نعم, يمكن أنْ يدل على حجّيته دليل آخر, كالتعليل في آية النبأ أو السيرة العقلائية، فيدعى قيام بناء العقلاء على العمل بالخبر المجهول الذي اعتمد عليه المشهور أو أهل الفن, إلا أنَّهُ دليل آخر.

والحاصل: إنَّ مفاد هذه الأخبار حجّية أخبار الثقات.

وبعبارة مختصرة: الملاك هو الوثوق المخبري لا الخبري.

ص: 339

الدليل الثالث: الإجماع والسيرة

اشارة

الدليل الثالث(1): الإجماع والسيرة

يقع الكلام في الدليل الثالث، وهو الاستدلال بالإجماع والسيرة على حجية الخبر الواحد، ومرة نتحدث عن الاستدلال بالإجماع، وأخرى عن الاستدلال بالسيرة، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: الاستدلال بالإجماع على حجية الخبر الواحد

تقريرات الإجماع
اشارة

وللإجماع تقريرات:

الأوّل: الإجماع المنقول عن الشيخ في العدة.

الثاني: الإجماع القولي المحصل, عدا من السيد المرتضى وأتباعه.

الثالث: الإجماع القولي المحصّل حتى من السيد وأتباعه.

الرابع: الإجماع العملي من العلماء كافة على العمل بما بأيدينا من الأخبار.

الخامس: الإجماع العملي من المتشرعة كافة على العمل بأخبار الثقات.

السادس: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) واصطلح عليه بالإجماع التقريري.

هذه تقريرات متعددة للإجماع على حجّية الخبر الواحد.

التقرير الأول: الإجماع المنقول عن الشيخ في العدة
اشارة

أمّا التقرير الأوّل: فهو ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في العدة، قال: «والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فإنّي وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار, التي رووها في تصنيفاتهم ودونوها في أصولهم, لا

ص: 340


1- على حجية الخبر الواحد.

يتناكرون ذلك ولا يتدافعون حتى أنَّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور, وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه، سكتوا وسلموا الأمر وقبلوا قوله»(1).

الإشكال على الاستدلال بالإجماع على حجية الخبر الواحد

وقد أشكل عليه في المصباح بإشكالين - مع قطع النظر عن الإشكالات التي ستأتي في التقريرات الآتية - :

الإشكال الأول: الاستدلال بالإجماع دوري

قال في المصباح: «إنَّ حجّية الإجماع المنقول - عند القائل بها - إنَّما هي لكونه من أفراد الخبر، فكيف يصح الاستدلال به على حجّية الخبر»(2).

والظاهر أنَّ مراده إنَّ الاستدلال دوري؛ لأنَّ المقصود في المقام إثبات حجّية طبيعي الخبر وهو موقوف على حجّية خصوص خبر الشيخ الطوسي, ويتوقف حجّيته على حجّية طبيعي الخبر، فتمّ الاستدلال على حجّية خبر الواحد بخبر الشيخ الطوسي, الذي هو خبر واحد, وهو دور.

الإشكال الثاني: عدم الملازمة بين حجية الخبر وحجية الإجماع

ما ذكره في المصباح أيضاً(3)، وهو: على فرض حجّية طبيعي الخبر، إلا أنَّه لا ملازمة بين حجّية الخبر وحجّية الإجماع المنقول؛ لأنَّ أدلة حجّية الخبر الواحد تثبت حجّية الأخبار الحسّية, والإجماع المنقول حكاية

ص: 341


1- العدة في أصول الفقه 1: 126.
2- مصباح الأصول 2: 195.
3- مصباح الأصول 2: 195.

حدسية عن قول الإمام(عليه السلام)، فأدلة حجّية الخبر لا تنهض بإثبات حجّية الإجماع المنقول.

ولكنّهما محلّ تأملّ؛ لأنَّ ما هو محلّ الكلام خبر الواحد المجرّد، أمّا إذا كان الخبر الواحد محفوفاً بالقرائن القطعية فليس محلّ الكلام, وحجيته ثابتة بلا كلام، فلو جمعت القرائن لإثبات قطعية دعوى الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) فلا يكون دوراً؛ لأنَّنا نستدل بالخبر المحفوف بالقرائن القطعية على حجّية الخبر الواحد.

وهنالك قرائن كثيرة نذكر بعضها:

الأولى: نقل مجموعة من الأعلام الإجماع على العمل بخبر الواحد منهم: رضي الدين ابن طاووس, والعلامة في النهاية والمجلسي في بعض رسائله، والحرّ العاملي في الفصول المهمّة, وقد ادعى تواتر الأخبار بعمل الأصحاب بالخبر غير العلمي، والسيد الوالد في الأصول عن تقريرات الشيخ الأعظم أنَّهُ قال: «إنَّ خمسة عشر فقيهاً ادعوا الإجماع على ما نحن فيه، فالإجماعات المنقولة تؤيد ما ذكره الشيخ الطوسي».

الثانية: ما ذكره الكشي(1) ­- مع غضّ النظر عن مفاد عبارته في أنّها تتكفل تصحيح الحكاية أو تصحيح المحكي - من إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع، يعني أنَّهم تعاملوا مع أخبارهم معاملة الخبر الصحيح, لا أنَّ أخبارهم صحيحة ومطابقة للواقع على نحو القطع واليقين.

الثالثة: ما ذكره النجاشي من مقبولية مراسيل ابن أبي عمير عند

ص: 342


1- اختيار معرفة الرجال 2: 471.

الأصحاب، وكذا في مسانيده ومراسيل الثلاثة ومسانيدهم، أي صفوان والبزنطي وابن أبي عمير؛ وإنّما كان كذلك لأنَّهم علموا أنَّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عن ثقة(1)، فلو لم يكن قول الثقة معتبراً لم يكن لهذا الإجماع وجه.

وبعبارة أُخرى: إنّ قول الثقة مفروغ الحجّية؛ ولأنَّ ابن أبي عمير لا يرسل إلا عن ثقة فقوله عن رجل يكشف عن كونه ثقة، وهكذا نقله عن مجهول في مسانيده, فصرف نقله توثيق له.

وهذا الإجماع المنقول للكشي معاضد للإجماع المنقول عن الشيخ (رحمه اللّه) , وكذلك ما عن الشهيد في الذكرى.

وقال كاشف الرموز: «فالأصحاب عاملون بمراسيل أحمد بن محمد بن أبي نصر»(2)، وعن الشهيد في الذكرى، والمفيد الثاني - أي ابن الشيخ الطوسي - قال: «إنَّ الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص, تنزيلاً لفتاواه منزلة رواياته»(3)، فلمّا علم أنَّهُ لا يفتي إلا بمتون الأخبار كشف عن حجّية رواياته، وإلاّ فلا معنى لتنزيل فتاواه منزلة رواياته، فيعلم أنَّ حجّية رواياته مفروغ منها، وحيث علم من الخارج أنَّهُ لا يفتي إلا بمتن الروايات فنزلت منزلتها.

الرابعة: ظهور عبارات أهل الرجال في تراجم كثير من الرواة في كون

ص: 343


1- ذكرى الشيعة 1: 329؛ مدارك الأحكام 8: 480؛ الحدائق الناضرة 1: 23.
2- كشف الرموز 1: 452.
3- فرائد الأصول 1: 329؛ ذكرى الشيعة 1: 51.

العمل بالخبر الواحد مسلماً عندهم كقولهم: فلان لا يعتمد على ما ينفرد به لوجود إشكال فيه، فيعلم منه أنَّهُ يعتمد على ما ينفرد به الآخرون، وقولهم: فلان صحيح الحديث، يعني رواياته مقبولة، وكطعنهم على بعض كالبرقي لأنَّهُ يعتمد الضعفاء, أو يعتمد المراسيل, أو يكثر الرواية عن الضعفاء.

وقد ذكر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) قرائن كثيرة للمقام، فالمجموع يعاضد دعوى الشيخ الطوسي, وتثبت مطابقة الإجماع المنقول للواقع.

قال الشيخ الأعظم: «مَنْ رأى ذلك كله علم علماً يقينياً صدق ما ادعاه الشيخ من إجماع الطائفة »(1).

وقال أيضاً: «والانصاف أنَّهُ لم يحصل في مسألة يدعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة والشهرة القطعية والأمارات الكثيرة ما حصل في هذه المسألة، فالشاك في تحقق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهية, اللّهمّ إلاّ في ضروريات المذهب»(2).

والحاصل: إنّه مع وجود هذه القرائن وأمثالها تندفع شبهة الدورية في الإجماع المنقول, وشبهة عدم شمول أدلة حجّية الخبر لخصوص هذا الخبر.

الإشكال الثالث: إجماع الطوسي معارض لإجماع المرتضى

وهو: إنَّ إجماع الطوسي معارض لإجماع السيد المرتضى على رفض

ص: 344


1- فرائد الأصول 1: 341.
2- فرائد الأصول 1: 341.

الطائفة العمل بخبر الواحد.

وهو مندفع بما قدمناه.

التقرير الثاني: الإجماع القولي المحصل
اشارة

التقرير الثاني: الإجماع القولي المحصّل من جميع العلماء عدا السيد المرتضى وأتباعه على حجّية الخبر الواحد، وهو كاشف عن موافقة المعصوم (عليه السلام), أو كاشف عن وجود دليل معتبر في المقام.

إنْ قُلتْ: مخالفة السيد المرتضى وأتباعه قادحة في تحقق الإجماع.

قُلنا: أوّلاً: ذكر الشيخ الطوسي في العدة: «إنَّ المخالف معلوم النسب، ومثله لا يضرّ في تحقق الإجماع»(1).

لكنه مبني على مبنى الإجماع الدخولي, ولا يرضى به المتأخرون.

ثانياً: لا يشترط في تحقق الإجماع اتفاق الكل، لأنَّ ملاك حجّية الإجماع على مبنى المتأخرين الحدس بموافقة الإمام (عليه السلام) لا اتفاق الكل، وعليه لا تضرّ مخالفة السيد المرتضى بحجّية الإجماع.

ويرد على هذا التقرير إشكالات

الأوّل: إنَّهُ محتمل الاستناد، بل قد يدعى أنَّهُ مقطوع الاستناد - ومستنده الآيات والروايات التي مرّت والعقل الذي سيأتي البحث عنه - ومثله ليس بحجّة.

وهذا مبني على ما هو المعروف من قادحية احتمال الاستناد في حجّية الإجماع، ولكن مرّت المناقشة فيها, وأنَّهُ لا يضر عند العقلاء احتمال الاستناد في طرق الطاعة والمعصية, فراجع.

ص: 345


1- العدة في أصول الفقه 1: 129.

الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية حيث قال : «لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات, ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه(عليه السلام)»(1).

وحاصله: اختلاف معاقد الفتاوى وعدم الاتفاق على الشرائط والقيود الدخيلة في حجّية الخبر الواحد، فقد قال بعض بحجّية خبر الواحد الثقة، وبعض بحجّية خبر الواحد العدل المزكى بعدلين، وبعض بحجية الخبر الواحد العدل المزكى بالعدل الواحد، وبعض بحجّية الخبر الذي قبله المشهور دون الخبر الذي رفضوه، وعليه فلا يكشف عن رضا الإمام (عليه السلام).

ثم أشكل على نفسه بإشكال مقدر فقال: «اللّهم إلاّ أنْ يدعى تواطؤها على الحجّية في الجملة، وإنّما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها»(2).

فالجامع المشترك - أي حجّية الخبر الواحد على نحو الموجبة الجزئية - متفق عليه، ويكفي هذا المقدار؛ فإنّنا بصدد إثبات حجّية الخبر الواحد على نحو الموجبة الجزئية.

وأجاب عنه بقوله :«ولكن دون إثباته خرط القتاد»(3).

وربما نظر صاحب الكفاية إلى كون الفتوى على نحوين:

الأوّل: انحلال الفتوى إلى فتويين: 1- فتوى بالجامع المشترك أو الطبيعي. 2 - فتوى بالخصوصية الفردية.

ص: 346


1- كفاية الأصول: 302.
2- كفاية الأصول: 302.
3- كفاية الأصول: 302.

الثاني: عدم انحلال الفتوى, وإنّما تتعلق بفرد خاص بما له من الخصوصية الفردية المعينة، فإنْ كانت الفتاوى في المقام على النحو الأوّل فمآلها إلى الإجماع البسيط, ويكشف عن موافقة الإمام (عليه السلام) على الجامع المشترك، وإنْ لم تنحل الفتوى فلا جامع مشترك بين الفتاوى, فلا تكشف عن موافقة الإمام (عليه السلام).

ولأهمية المطلب وكونه سيالاً في موارد كثيرة من الإجماعات نوضح الأمر بنظير في الفقه:

أفتى صاحب العروة (رحمه اللّه) في باب ثبوت الهلال عبر البينة العادلة باشتراط اتفاق الشهود في الأوصاف، فإذا اختلفوا فلا اعتبار بشهادتهم(1).

وفصّل جمع كالسيد الوالد(2)

والسيد الحكيم في المقام، فقالوا:

1 - تارة تكون شهادة الشهود المختلفة على نحو تعدد الشهادة.

وبعبارة أُخرى: على نحو تعدد المطلوب، بأنْ يشهدوا بالهلال، ولكن أحدهما يشهد بكون فتحة الهلال نحو السماء، والثاني يشهد بكونها نحو الشمال، فنتساءل من الشاهد الأوّل: على فرض ثبوت اشتباه الخصوصية، فهل ترفع يدك عن الشهادة على الطبيعي؟ يقول: لا، بل شاهدت الهلال، ففي الواقع له شهادتان: إنَّهُ شاهد الهلال، إنَّهُ كان متصفاً بالوصف الكذائي.

ومثّل لذلك السيد الوالد (رحمه اللّه) بشهادة نفرين بوجود شخص في الدار أو مجيء أحد، فيقول أحدهما إنَّهُ زيد، ويقول الآخر إنَّهُ عمرو، فإنْ سُئلا: إنْ

ص: 347


1- العروة الوثقى 3: 629.
2- الفقه 36: 144.

ثبت أنَّهُ لم يكن فلان فهل تشهد بكون شخص في الدار أو مجيء أحد؟ فيقول: نعم.

فقد تحقق الجامع المشترك في الشهادتين؛ حيث يتفق الشاهدان على الشهادة بالطبيعي فيثبت، ولا تثبت الخصوصية الفردية؛ لعدم قيام البينة الكاملة عليها.

2 - وتارة تكون شهادة واحدة مقيدة بأنْ يقول: لو لم يكن الوصف المذكور فلا أشهد بالطبيعي، فلم تتوارد الشهادتان على مصب واحد؛ ولذلك لا يثبت الهلال.

وظاهر العروة: عدم الاعتناء بالشهادة مع الاختلاف مطلقاً، ونفس الكلام يجري في المقام، وربما نظر إليه صاحب الكفاية.

فالفتاوى ومعاقدها مختلفة، والذي سلم بحجّية خبر الثقة إنَّما سلّم على نحو التقييد، لا على نحو تعدد المطلوب، ولا يعلم بتسليمه الحجّية مع فرض انتفاء الخصوصية.

وبعبارة أخرى: يمكن أنْ تكون فتوى كل طائفة على نحو وحدة المطلوب، بحيث لو بان له بطلان القيد لم يفتِ بحجّية الخبر في الجملة، فلم يعلم اتفاق كل الطوائف على جامع مشترك، أي الخبر الواحد الجامع لجميع الخصوصيات والقيود.

الإشكال الثالث: عدم تحقق مثل هذا الإجماع موضوعاً، فكم من فقهاء الشيعة تعرضوا إلى هذا المبحث الأصولي حتى يقال باتفاقهم - من الآن إلى زمان الشيخ الطوسي ومن تقدمه - قولاً على نحو الإجماع المحصّل، فإثبات مثل هذا الإجماع القولي المحصّل في غاية الإشكال إنْ لم نقل إنَّهُ مقطوع العدم.

ص: 348

التقرير الثالث: الإجماع القولي المحصل من جميع العلماء

التقرير الثالث: الإجماع القولي المحصّل من جميع العلماء حتى من السيد المرتضى وأتباعه.

وتقريبه: إنَّ السيد المرتضى وأتباعه إنَّما ذهبوا إلى عدم حجّية الخبر الواحد لاعتقادهم انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية، أمّا في ظرف الانسداد - كما هو المتحقق في زماننا - فالخبر الواحد عندهم حجّة قطعاً، ويصطلح عليه بالإجماع التقديري، أي لو كان السيد في ظرف الانسداد لحكم بحجّية الخبر الواحد، والذي يدل عليه كلام السيد المرتضى حيث قال: «فإنْ قُلت: إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد فعلى أي شيء تعولون في الفقه كله؟»(1).

وأجاب بما محصله: إنَّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلمية، وما يبقى من المسائل الخلافية يرجع فيها إلى التخيير.

وقد نقل عنه صاحب المعالم: «إنَّ العمل بالظن متعين فيما لا سبيل فيه إلى العلم»(2).

فهذه العبارة وأمثالها من السيد تدل على رأيه في حجّية الخبر الواحد على فرض انسداد باب العلم.

ولكنّه محلّ إشكال، فمضافاً إلى ما مضى وما سيأتي، يرد عليه: إنَّ الإجماع التقديري تارة يكون قطعياً وتارة لا يكون قطعياً، وما نحن فيه من

ص: 349


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 312، 329.
2- معالم الدين: 196.

النوع الثاني؛ حيث يحتمل أنْ لا يرى السيد المرتضى حجّية الخبر الواحد في ظرف الانسداد، بل يرى حجّية مطلق الظن الذي من أفراده الخبر الواحد فلا ينفع في المقام؛ لأن الغرض إثبات حجّية الخبر الواحد بالخصوص، لا حجّيته من باب حجّية الظن المطلق، كما هو رأي المحقق القمي.

التقرير الرابع: الإجماع العملي من جميع العلماء

التقرير الرابع: الإجماع العملي من جميع العلماء على العمل بالأخبار التي بأيدينا.

ففي مقام الاستنباط كان الفقهاء - من الصدر الأوّل وإلى اليوم - يعتمدون على الأخبار عملاً، وهي غالباً أخبار آحاد.

إنْ قيل: اعتمدوا عليها لأنَّها محفوفة بالقرائن القطعية، فلم يكن اعتماداً على الخبر الواحد بما هو خبر واحد.

قُلنا: أجاب الشيخ الطوسي في العدة مفصلاً عن ذلك، وقال في آخر كلامه: «ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرنا كان السبر(1) بيننا وبينه، بل كان معولاً على ما يعلم ضرورة خلافه»(2)، والقرائن القطعية - كموافقة الكتاب وموافقة السنّة القطعية والتواتر - ليست متحققة في جميع أخبار الآحاد قطعاً.

وأشكل عليه الشيخ الأعظم(3) بما توضيحه: إنَّ حجّية الإجماع العملي

ص: 350


1- السبر: استخراج كنه الشيء.
2- العدة في أصول الفقه 1: 136.
3- فرائد الأصول 1: 318-319.

متوقفة على مطلبين:

الأوّل: معلومية وجه الإتفاق.

الثاني: جريان ذلك الوجه في ما نحن فيه.

أمّا إذا لم يعلم الوجه، أو لم يتحقق الوجه المعلوم فيما نحن فيه فلا ينفع في المقام، لكون العمل لا لسان له.

مثلاً: لو رأينا مجموعة من الفقهاء وهم ينظرون إلى امرأة - وقطعنا برضا الإمام(عليه السلام) عن عملهم - فهل يجوز لنا أنْ ننظر إليها؟ كلاّ، لإمكان أنْ يكون نظر الأوّل إليها لأنَّها أمه، والثاني لأنّها أخته، والثالث لأنّها زوجته، والرابع لأنّها أم زوجته، والخامس لأنّها بنت زوجته.

وما نحن فيه كذلك؛ فإنَّ المقطوع به هو عمل الفقهاء بالخبر الواحد، ولكن يمكن أنْ يكون عمل جمع من الفقهاء لاعتقادهم بأنَّ جميع الأخبار في الكتب المعتبرة قطعية الصدور، وآخرون عملوا بأخبار الكتب الأربعة فحسب لخصوصية فيها، وأنَّها قطعية الصدور، وآخرون عملوا بخصوص أخبار الكافي لكونها قطعية الصدور عندهم، وعمل بعض بالأخبار لاعتقاده أنَّها ظنية الصدور مع قطعه باعتبار ظني الصدور، كالمحقق القمي.

فإذا قطعنا أو احتملنا أنَّ ذلك هو جهة العمل في طوائف من المجمعين، ولم تتوفر تلك الجهة عندنا، لعدم قطعنا بصدور تمام الأخبار، أو أخبار الكتب الأربعة، أو خصوص الكافي الشريف، أو لم نظن بمؤدى الأخبار، أو ظننا ولم نقطع باعتبار هذا الظن، فلا ينفعنا الاتفاق العملي.

التقرير الخامس: الاتفاق العملي من جميع المتشرعة

التقرير الخامس: الاتفاق العملي من جميع المتشرعة من زمان الصحابة

ص: 351

إلى زماننا هذا على استفادة الأحكام الشرعية من أخبار الثقات، المتوسطين بينهم وبين الإمام (عليه السلام) أو بينهم وبين المجتهدين.

توضيحه: هل كان جميع المكلفين مقيدين بأخذ الأحكام الشرعية من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) أو المرجع مباشرة، خاصة النساء ومَنْ في القرى والبلاد البعيدة، وخاصة في ظروف الإرهاب والتقية والخوف، وربما كانت غالب عهود المعصومين (عليهم السلام) كذلك.

الجواب: لم يكن الأمر كذلك قطعاً، وإنَّما كانوا يعتمدون على أخبار الثقات، فالنساء - مثلاً - كنَّ يسألن النساء أو أزواجهن ويعتمدن عليهم إذا كانوا ثقات.

وربما يجد المتتبع عشرات الروايات في اعتماد أصحاب المعصومين(عليهم السلام) على أخبار الثقات، كقوله(عليه السلام) لأبان: «اجلس في مسجد المدينة وافت الناس»(1)، و«فعليك بهذا الجالس»(2)، و«العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك فعني يؤديان»(3)، و«ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي»(4)، و«أفيونس بن عبد الرحمن ثقة؟.. قال: نعم»(5) .

وهذا دليل على حجّية أخبار الثقات واعتبار أخذ الأحكام منهم.

وأورد عليه المحقق المشكيني: «بمنع اتصالها بزمان المعصوم(عليه السلام)؛ إذ

ص: 352


1- مستدرك الوسائل 17: 315.
2- وسائل الشيعة 27: 143.
3- الكافي 1: 329.
4- خلاصة الأقوال: 150.
5- وسائل الشيعة 27: 147.

لعلّ عمل المسلمين ناشئ من فتاوى المشهور بحجّية الخبر الحادث بعد زمانه(عليه السلام)»(1).

لكنّه محلّ تأمّل؛ فإنَّ عدم اعتماد المتشرعة على أخبار الثقات في عهد المعصومين(عليهم السلام) ظاهرة غير مألوفة؛ لأنَّ طبيعة الناس الاعتماد على أخبار الثقات، فإنْ كانوا مقيدين بالسؤال عن شخص المعصوم (عليه السلام) ولم يكونوا يعتمدون على أخبار الثقات، لكانت هذه الظاهرة غير المألوفة، والمخالفة للجريان الطبيعي لعادة البشر بينّة؛ حيث إنَّهُ لو كان لبان، فكل مَنْ له مسألة لا بدّ وأنْ يتحرك من مدينته إلى الكوفة - مثلاً - للسؤال من المعصوم (عليه السلام)، وكان ينعكس ذلك في التاريخ وفي الروايات، وهو مقطوع العدم.

وهناك إشكال آخر في المقام، وهو : إنَّ ما قامت عليه سيرة المتشرعة على نحوين:

الأول: أنْ تكون من الأمور التوقيفية التي لا يمكن أنْ تتلقى إلا من الشارع، كما لو فرض أنَّ المتشرعة إلى عهد المعصومين(عليهم السلام)كانوا يمسحون على بعض الرأس، أو كان مسحهم على الرجل ببعض الكف لا تمامه، فهذا توقيفي، فلو أحرزت سيرة المتشرعة فهو كاشف عن رأي الشارع، ويمكن أنْ يقال بحجّيته.

الثاني: أنْ تكون من الأمور غير التوقيفية كالرجوع إلى اللغوي؛ حيث يحتمل أنْ يكون رجوعهم لا من باب أنَّهم متشرعة، وإنَّما باعتبار أنَّهم عقلاء، وفي المقام كذلك؛ حيث يحتمل أنْ يكون عمل الأصحاب بأخبار

ص: 353


1- كفاية الأصول (المحشى) 3: 333.

الثقات في الأخذ بالأحكام الشرعية ناشئاً من حيثية كونهم عقلاء، لا من حيثية كونهم متشرعة، وهذا يعود إلى سيرة العقلاء.

وبعبارة أوضح: إنَّ سيرة المتشرعة على نحوين:

1 - سيرة المتشرعة بما هم متشرعة، فهذا كاشف إنّي عن البيان الشرعي.

2 - سيرة المتشرعة بما أنَّهم عقلاء؛ يعني لأنَّهم عقلاء، بل سادات العقلاء يجرون على طبق الطريقة والمرتكزات العقلائية، ولا يشذون عن طريقتهم المتعارفة، وهذا لا يعتبر إجماعاً متشرعياً، بل سيرة عقلائية، وهو بحث آخر غير ما نحن بصدده.

التقرير السادس: الإجماع التقريري

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) (1): سكوت العلماء والفقهاء عن العاملين بأخبار الثقات، وهو دليل القبول والتقرير.

وهذا وجه سلبي بخلاف التقريرات السابقة.

ويؤيده ما ذكره الشيخ الطوسي حول القياس، فإنَّ الفقهاء ردعوا عن العمل به بكل شدة، حتى أنَّهُ لو استدل أحدهم به - ولو على نحو المحاجة لا على نحو الاعتقاد كابن الجنيد (رحمه اللّه) في كتبه - ردوا قوله، وأنكروا عليه، حتى أنَّهم يتركون تصانيفه ورواياته لذلك، ولم يكن لهم مثل هذا الموقف في قبال العمل بأخبار الآحاد.

ويرد عليه ما ورد على التقريرات السابقة.

والحاصل: الإجماع بتقريراته الستة لا ينهض دليلاً مستقلاً، ومضافاً إلى

ص: 354


1- الأصول: 668.

الإشكالات الخاصة يحتمل أنْ يكون مآله إلى سيرة العقلاء، فلم يعلم كونه دليلاً مستقلاً في قبال السيرة العقلائية.

هذا تمام الكلام في الإجماع.

المقام الثاني: الاستدلال بالسيرة العقلائية على حجية الخبر الواحد

اشارة

وأمّا الاستدلال بالسيرة العقلائية فهو موقوف على ثبوت مقدمات ثلاث:

الأولى: ثبوت بناء العقلاء على العمل بالخبر الواحد.

الثانية: عدم ردع الشارع عن هذا البناء العقلائي.

الثالثة: عدم وجود المانع من ردع الشارع.

أما المقدمة الأولى

فلم يناقش أحد من الأصوليين في ثبوت بناء العقلاء على العمل بأخبار الثقات.

نعم، ناقش في المنتقى(1): بأنَّ القدر المسلّم من بناء العقلاء هو العمل بخبر الثقة الذي يطمئن بخبره، ولم يثبت عمل العقلاء بخبر الثقة من دون حصول الاطمئنان، وثبوت القدر المسلّم لا يجدي فيما نحن فيه؛ لأنَّهُ عمل بالعلم، فإنَّ الاطمئنان مرتبة من مراتب العلم، وهو خارج عن محلّ البحث؛ لأنَّ البحث في عمل العقلاء بخبر الثقة بما هو خبر ثقة، ولو لم يوجب الاطمئنان أو العلم.

ولكن كلامه محلّ تأملّ، ففي المقام دعويان:

الأولى: إنَّ العقلاء بما هم عقلاء يعتمدون على الخبر الواحد في دائرة

ص: 355


1- منتقى الأصول 4: 299.

الأمور الشخصية، ولا يؤاخذون من قبل العقلاء، والظاهر أنَّهُ ثابت بالوجدان الخارجي.

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في غير المقام: العقلاء في أهّم الأمور- أي أنفسهم - يعتمدون على الثقات، فمثلاً يسلمونها إلى الطيار مع احتمال سقوطها، وسائق السيارة مع احتمال الاصطدام، فهل جميع العقلاء في كل هذه الموارد يطمئنون بالسلامة؟ كلاّ، ولكنهم يعتمدون مع الوثاقة، ولا يلامون إذا حدث حادث، وكذا في تسليم أنفسهم إلى الطبيب الثقة، فصرف كونه ثقة يوجب الاطمئنان النوعي.

نعم، ربما لا يعتمدون على خبر الثقة في مورد لا إلزام فيه، كإخباره بالربح في التجارة الكذائية، حيث لا لزوم في الإقدام عليه، فمع عدم الاطمئنان واحتمال الخطأ لا وجوب عقلي فيه، فلا يقدم، ومع ذلك لو اعتمد وخسر فلا يؤاخذ من قبل العقلاء، فنفس كونه ثقة يوجب الاطمئنان العقلائي النوعي.

إنْ قُلتْ: إنَّ الاطمئنان النوعي بالخلاف مانع عن العمل بمقتضى خبر الثقة.

قُلت: إنَّهُ لا يثبت مدعى المنتقى؛ لأنَّ مدعاه اشتراط الاطمئنان بالوفاق.

الثانية: إنَّ العقلاء في دائرة التكاليف المولوية يرون خبر الثقة منجزاً ومعذراً، فلو أخبر ثقة عبداً بأمر المولى فلم يعتمد على ذلك لعدم الاطمئنان الشخصي، فليس معذوراً عند العقلاء بل قول الثقة منجز عليه، وقد صرّح في الكفاية(1) بأنَّ طرق الطاعة والمعصية عقلائية؛ ولذلك لم أجد - حسب

ص: 356


1- كفاية الأصول: 304.

التتبع الناقص - مَنْ شكّك في المقدمة الأولى، فإنَّ خلاف ذلك يستلزم اختلال نظام الحياة.

وأما المقدمة الثانية

وهي: عدم الردع الشرعي عن هذه السيرة العقلائية فإن الردع نوعان: خاص وعام.

أمّا الردع الخاص فالظاهر أنَّهُ مقطوع بعدمه، فلو لم يجز العمل بأخبار الثقات لردع الشارع عن ذلك، ولو ردع لوصل إلينا بالتواتر - فإنَّ المسألة عامة الابتلاء يومياً - ولم يصلنا حتى خبر واحد، كما ردع الشارع بشدة على العمل بالقياس مع أنَّ بناء العقلاء على العمل بالقياس أضعف من العمل بالخبر الواحد، فهنالك على ما يقال خمسمائة رواية في الردع عن العمل بالقياس، ولم ترد رواية واحدة في الردع عن العمل بالخبر الواحد.

إذن، فالردع الخاص - يعني الردع بعنوان أنَّهُ خبر الثقة - مقطوع العدم.

أمّا الردع العام، فهل الشارع ردع عن العمل بالخبر الواحد بعنوان عام؟

ادعي ذلك لوجود الآيات المتكاثرة، والروايات المتضافرة الناهية عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1)، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا}(2)، والعمل بالخبر الواحد ظن.

الجواب عن الآيات الناهية عن العمل بالظن
اشارة

وأجيب عنه بعدة أجوبة:

ص: 357


1- الإسراء: 36.
2- النجم: 28.
الجواب الأوّل

ما ذكره صاحب الكفاية(1): من أنّها تختص بالعمل بالظن في أصول الدين فلا يشمل العمل بها في الأحكام الفرعية.

وبعبارة أُخرى: إنها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظن في خصوص أصول الدين من المبدأ والمعاد، وهو حكم العقل، والبحث في حجّية الخبر الواحد في فروع الدين.

وربما مراده الانصراف أو القدر المتيقن.

ولكنّه محلّ تأملّ:

أوّلاً: إنَّ خصوص المورد لا يخصص الوارد.

ثانياً: إنَّ بعض الآيات معللة، والعلة تعمم، كقوله: {إِن يتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، فمورده أصول الدين ولكن العلّة - أي {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيئًا} - أعمّ، فهي ظاهرة في التعليل، فتشمل فروع الدين.

ثالثاً: مورد بعض الآيات فروع الدين، فقد تضمنت مجموعة من الأحكام الفرعية، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيةَ إِمْلاقٍ.. وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى.. وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ.. وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ.. وَأَوْفُوا الْكَيلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ.. وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا..كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}(2).

ص: 358


1- كفاية الأصول: 303.
2- الإسراء: 31-38.

فسياق الآيات الكريمات في فروع الدين، فلا بد من القول بعكس ما ذهب إليه صاحب الكفاية بانصراف الآيات إلى فروع الدين، أو أنَّهُ القدر المتيقن.

رابعاً: استدل في بعض الروايات ببعض الآيات للأحكام الفرعية، كمن كان يستمع إلى الغناء(1) بحجّة عدم التعمد، فقال له (عليه السلام): ألم تسمع قول اللّه تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(2).

الجواب الثاني

ما ذكره صاحب الكفاية أيضاً حيث قال: «مع تسليم الإطلاق في العمومات الرادعة إلا أنَّ المراد من الظن خصوص ما لم يقم على اعتباره حجّة»(3).

وربما مقصوده الانصراف، أو أنَّ كلمة الظن مجملة، والقدر المتيقن الظن الذي لم يقم على اعتباره حجّة، والمفروض في المقام نهوض الحجّة على اعتبار الخبر الواحد، وهي السيرة العقلائية.

ولم يذكر صاحب الكفاية دليلاً لمدعاه، ولكن يمكن تقريبه بمقربين:

الأوّل: استقراء النظائر، ففي باب الاستصحاب ليس المراد من قوله (عليه السلام) (لا تنقض اليقين) اليقين الوجداني، بل ما قام عليه الحجّة، سواء أكانت الحجّة العلم أم البينة العادلة، والمراد من (الشك) يعني ما لم تنهض عليه

ص: 359


1- الكافي 6: 432.
2- الإسراء: 36.
3- كفاية الأصول: 303.

الحجّة.

وكذلك في النهي عن (الفتوى بغير العلم) في قوله(عليه السلام): «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ وَمَلَائِكَةُ السَّمَاءِ»(1) فالمقصود منه مَنْ أفتى الناس بغير حجّة.

وكذلك النهي عن (الإسناد إلى اللّه بغير علم) في قوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(2)، أي ما لم تنهض عليه حجّة.

الثاني: إنْ كان المراد من العمومات الظن بمعناه المعروف فيلزم أحد أمرين: إمّا تعطيل معظم الأحكام لكونها ظنية، وإمّا تخصيص الأكثر المستهجن، وعليه فقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(3) يعني ما لم تنهض عليه حجّة، فيكون ما نحن فيه خارجاً موضوعاً عن مفاد العمومات.

لكنّه محلّ تأملّ من جهتين:

الأولى: هل المراد من الحجّة الحجّة الشرعية أم الأعم منها ومن العقلائية؟ فإنْ كان الأوّل فهو محلّ الكلام؛ لأنَّ البحث في حجّية السيرة العقلائية، وإلى الآن لم تثبت حجّيتها؛ لأنَّ الحجّية متقومة بعدم الردع، والبحث في ثبوت وعدم ثبوت الردع محلّ النقض والإبرام.

وإنْ كان المراد الأعم - أي لا تقف ما ليس لك به حجّة شرعية أو

ص: 360


1- وسائل الشيعة 27: 29.
2- الأعراف: 28.
3- الإسراء: 36.

عقلائية، وأنَّهُ إذا بنى العقلاء على حجّية شيء فهو خارج عن موضوع الآيات الرادعات، فلم يقم على هذا المعنى دليل؛ حيث لا ظهور لكلمة الظن في الآية في ما لم تنهض عليه حجّة شرعية أو عقلائية.

الثانية: إنَّهُ نوع من التأويل، فإذا اضطررنا إليه فبها، ولكن سيأتي في الأجوبة الآتية أنّنا في مندوحة عن هذا التأويل، ويمكننا تفسير العلم في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بالمعنى الحرفي، يعني العلم واليقين والقطع.

الجواب الثالث

لصاحب الكفاية أيضاً(1): رادعية العمومات عن السيرة العقلائية دورية، فلا تكون رادعة؛ لعدم صلاحيتها، فتكون السيرة العقلائية حجّة.

ولبيان دورية الرادعية تقريبان:

الأوّل: ما أفاده المحقق المشكيني (رحمه اللّه) في حاشية الكفاية(2) على نحو الدور المضمر:

1 - الردع عن السيرة بالعمومات موقوف على حجّيتها بوصف العموم.

2 - وحجّيتها بوصف العموم موقوفة على عدم مخصصية السيرة لها.

3 - وعدم مخصصية السيرة لها موقوف على الردع بها عنها.

فالنتيجة: الردع عن السيرة بالعمومات موقوف على الردع عن السيرة بالعمومات، فالسيرة العقلائية حجّة؛ لعدم إمكان الردع عنها بالعمومات.

ص: 361


1- كفاية الأصول: 303.
2- كفاية الأصول (المحشی) 3: 337.

بيان المراحل الثلاث:

الأولى: إنَّ الردع عن السيرة بالعمومات موقوف على حجّيتها بوصف العموم؛ حيث إنَّهُ إذا لم يكن العام بوصف العمومية حجّة فلا صلاحية له للرادعية، فإذا فرضنا أنَّ الآيات الرادعة لا عموم لها، فلا يمكن أنْ تردع عن السيرة العقلائية.

الثانية: وحجّيتها بوصف العموم موقوفة على عدم مخصصية السيرة لها؛ لأنَّ حجّية كل عام - بوصف العموم - موقوفة على عدم تخصيصه.

الثالثة: وعدم مخصصية السيرة للعمومات موقوف على الردع بها عنها، لأنَّهُ على تقدير عدم ردع العمومات تكون السيرة مخصصة لها، وشأن الخاص التقدم على العام.

وعليه، فعدم مخصصية السيرة للعمومات موقوف على ردع العمومات للسيرة، وإلا لو لم تردع العمومات عن السيرة لكانت السيرة حجّة، فتخصص العمومات.

والنتيجة: إنَّ الرادعية متوقفة على الرادعية، فالسيرة العقلائية حجّة؛ لعدم ردع الشارع عنها؛ لأنَّ الردع محال.

التقريب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية على نحو الدور المصرّح بحذف المقدمة الأولى، قال: «الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة، وهو يتوقف على الردع عنها بها»(1).

أي الردع بالعمومات موقوف على عدم تخصيص السيرة للعمومات،

ص: 362


1- كفاية الأصول: 303.

وإلا لو كانت السيرة مخصصة للعمومات لا تتمكن العمومات من الردع، وعدم تخصيص العمومات بالسيرة موقوف على رادعية العمومات عن السيرة، وإلاّ لو لم تردع العمومات عن السيرة لخصصت السيرة العمومات، فالرادعية محال.

ثم أشكل صاحب الكفاية(1) على هذا التقريب بما مضمونه: إنْ قُلتم: الرادعية محال فحجّية السيرة - أيضاً - محال لأنّها دورية(2).

وبيان الدور هو:

1 - فإنَّ حجّية السيرة تتوقف على عدم الردع بالعمومات عنها، وهذه مقدمة مسلمة.

2 - وعدم الردع يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة، فإنَّ عدم ردع العمومات - مع أنَّ شأن العام العموم - إنَّما هو لوجود الخاص، وهو السيرة العقلائية.

3 - وتخصيص الآيات بالسيرة يتوقف على عدم الردع بها عنها، فمتى تتمكن السيرة من تخصيص العمومات إذا لم تكن مردوعة بالعمومات، وإلا لو كانت السيرة مردوعة لم تكن حجة حتى تثلم عموم العام.

والنتيجة: فيتوقف عدم الردع على عدم الردع.

ويختصر ما ذكره - وإنْ كان فيه اضطراباً - بأنْ نجعله دوراً مصرّحاً، بأن يقال: لا تصلح السيرة للتخصيص؛ وذلك لأنه : أولاً: تخصيص السيرة

ص: 363


1- كفاية الأصول: 303.
2- كفاية الأصول: 303.

للعمومات يتوقف على عدم الردع بها عنها. وثانياً: وعدم الردع بها عنها يتوقف على التخصيص.

فالتخصيص يتوقف على التخصيص.

أمّا الأوّل: فإنَّ تخصيص السيرة للعمومات متوقف على عدم مردوعية السيرة، وإلاّ فإنَّ السيرة المردوعة غير حجّة، ولا تتمكن من ثلم العمومات.

وأمّا الثاني: فإنَّ عدم ردع العمومات عن السيرة يتوقف على تخصيص السيرة للعمومات، فلماذا لا يردع العموم عن السيرة؟ لأنَّ هذه السيرة مخصصة للعام، وهي مقدمة عليه.

والحاصل: رادعية الآيات دورية ومخصصية السيرة - دورية - أيضاً، فلم يتحقق غرض صاحب الكفاية لإثبات حجّية السيرة العقلائية.

وأجاب صاحب الكفاية عن ذلك بقوله: «إنّما يكفي في حجّيته بها عدم ثبوت الردع عنها»(1) .

وهذه مناقشة في المقدمة الأولى في الدور المضمر - أي: فإنَّ حجّية السيرة تتوقف على عدم الردع - فإنَّ حجّية السيرة متوقفة على عدم ثبوت الردع، لا ثبوت عدم الردع؛ لأنَّ طرق الطاعة والمعصية عقلائية، والعقلاء يعتبرون العمل بخبر الثقة طاعة للمولى وعدمه معصية له؛ وعدم ثبوت الردع عن طريقة العقلاء في باب الطاعة والعصيان كاف في الحجّية، ولا نحتاج إلى ثبوت عدم الردع؛ لحجّية البناءات العقلائية في باب الطاعة والعصيان، ولم يثبت ردع الشارع عن هذه السيرة العقلائية؛ لأنَّ الرادعية

ص: 364


1- كفاية الأصول: 303.

دورية، وحيث لم يثبت الردع تكون السيرة حجّة.

مثلاً: في باب الظواهر، لو كان العقلاء يعملون بالظواهر، ويعتبرون العامل بالظاهر مطيعاً، والعامل بخلافه عاصياً، فإنْ لم يثبت الردع عن ذلك فهو كاف لحجّية البناء العقلائي.

وعليه، فالمقدمة الأولى باطلة، والردع لم يثبت في المقام.

وأمّا المناقشة على التقرير الثاني - أي: تخصيص السيرة بالعمومات يتوقف على عدم الردع - فإنَّهُ ليس كذلك، فإنَّ تخصيص السيرة بالعمومات يتوقف على عدم ثبوت الردع لا على عدم الردع، فبطل الدور.

أي تكون المعادلة هكذا:

تخصيص السيرة للعمومات يتوقف على عدم ثبوت الردع، وعدم الردع يتوقف على التخصيص، فلم يكن دور، لأنَّ الموقوف عليه غير الموقوف عليه.

والنتيجة: الإشكال غير وارد، ولا تنهض الآيات للرادعية لكونها دورية، والسيرة العقلائية مخصصة للعمومات، وليس تخصيصها دورياً، فيكون الخبر الواحد حجّة بالسيرة العقلائية.

وحاصل كلام صاحب الكفاية في الجواب الثالث منحلّ إلى دعويين:

الأولى: إنَّ رادعية العمومات دورية.

الثانية: إنَّ حجّية السيرة ليست دورية.

والمحصّل النهائي للدعويين حجّية السيرة العقلائية، وعدم صلاحية العمومات للردع عنا.

ص: 365

لكن أشكل جمع من الأعلام(1) على الشقين أو أحدهما، ونحن نذكر: بيان الإشكال كما في المنتقى(2): إنَّ المقدمة الأولى للدور المذكور في رادعية العمومات باطلة، ومع الإشكال فيها يبطل الدور.

ووجه البطلان هو: إنَّ التخصيص متقوم بالوصول، فإذا لم يصل حكم الخاص إلى المكلف تكون أصالة العموم جارية في العام، فإذا قال المولى: أكرم العلماء، وشكّ في خروج زيد العالم، فأصالة العموم في مرحلة الإثبات تحكم ببقائه تحت عموم العام، ولا يخرج عن عموم العام إلا بوصول حكم الخاص، فإنَّهُ الملاك في التخصيص الإثباتي، لا مجرد صدور حكم الخاص، حيث إنَّهُ ليس ملاكاً.

فقول الكفاية(3): إنَّ الردع بالآيات يتوقف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة، محلّ إشكال، فليس الردع بالعمومات متوقفاً على عدم التخصيص، بل متوقف على عدم ثبوت التخصيص؛ فإنَّ الملاك عدم ثبوت التخصيص لا ثبوت عدم التخصيص، فإنْ بطلت المقدمة الأولى بطل كل الدور.

وبعبارة أُخرى: ما الفرق بين الردع الخاص والردع العام؟ فردع المولى ردعاً عاماً عن السيرة العقلائية، كردعه عنها ردعاً خاصاً، فكيف يمكن القول: إنَّ الردع في العمومات دوري؟!

وبعبارة ثالثة: الردع بالعموم متوقف على أمرين:

ص: 366


1- كفاية الأصول (المحشی) 3: 338؛ مصباح الأصول 2: 198؛ الأصول: 669.
2- منتقى الأصول 4: 302.
3- كفاية الأصول: 303.

1 - الوضع اللغوي. 2 - عدم ثبوت التخصيص. ولا بحث في الأوّل؛ لأنَّ العام موضوع لإفادة العموم، وأمّا الثاني فهو متحقق في المقام؛ فإنَّه مع الردع بالعمومات لا تكون السيرة حجّة، فلا تنهض لتخصيص العمومات.

وهذه مناقشة في الدعوى الأولى، فتكون المقدمة الأولى بعد التعديل: إنَّ الردع بالعمومات يتوقف على عدم ثبوت التخصيص.

وأما المقدمة الثانية: فإنَّ عدم التخصيص يتوقف على الردع، لا أنَّ عدم ثبوت التخصيص يتوقف على الردع.

وبعبارة أُخرى: إنَّ السيرة تتمكن من تخصيص العمومات إذا ثبت الردع، فعدم تخصيص السيرة للعمومات يتوقف على الردع، لا عدم ثبوت تخصيص السيرة للعمومات، إذن فعدم الثبوت لا يتوقف على الردع، فبطل الدور.

وهذه المناقشة في الدعوى الأولى، وأنَّ رادعية العمومات دورية.

وأما الدعوى الثانية لصاحب الكفاية، فقال: حجّية السيرة ليست دورية لبطلان المقدمة الأولى؛ لأنَّ تخصيص السيرة للعمومات ليس متوقفاً على عدم الردع، بل على عدم ثبوت الردع، ولم يثبت الردع؛ لأنَّه دوري.

والمناقشة فيها: إنَّه لا يكفي عدم ثبوت الردع، بل يلزم في الحجّية ثبوت عدم الردع؛ لعدم حجّية السيرة العقلائية في حدّ ذاتها، بل يلزم القطع بالإمضاء الشرعي، فالحجّية منوطة بالقطع بإمضاء الشارع.

فمثلاً: لا مانع عند العقلاء من أكل الربا، فهنا أمام الشارع ثلاث حالات: أنْ يردع فلا يكون عملهم حجّة، أو يمضي فيكون حجّة، أو يشكّ أنَّهُ أمضى أو ردع فلا يكون حجّة أيضاً؛ فإنَّ الشكّ في الحجّية موضوع عدم الحجّية.

ص: 367

فلا يمكن تحميل بناء العقلاء على الشارع؛ لعدم العلم بإمضائه، ويعود الدور؛ لأنَّ تخصيص السيرة للعمومات يتوقف على عدم الردع، وعدم الردع يتوقف على التخصيص، وعليه تكون حجّية السيرة العقلائية دورية.

والظاهر في المقام: إنَّ الحق مع الأعلام كبروياً، ومع صاحب الكفاية صغروياً:

أمّا كبروياً: فلعدم الدليل على حجّية السيرة العقلائية على شيء بما هو هو، وفي حدّ ذاته مع قطع النظر عن الإمضاء الشرعي، ولا دليل على كونه منجزاً ومعذراً في الإطار التشريعي.

وأمّا صغروياً: فلعلّ الحق مع صاحب الكفاية، وتوضيحه موقوف على بيان مقدمتين:

الأولى: يمكن أنْ يكون عمل العقلاء بشيء ناشئاً من الظروف الطارئة، لكن عملهم بأخبار الثقات ناشئ من ارتكازاتهم الفطرية، بحيث إنَّهم يجرون على هذه السيرة بطبيعتهم، ومن شأن هذا النوع الامتداد إلى المجال الشرعي أيضاً؛ فإنَّهم يجرون في الأمور التكوينية على هذه السيرة، وبارتكازهم الفطري يطبقونها على الدائرة الشرعية، فإنْ لم يردع عنها الشارع لكان نقضاً لغرضه؛ لأنَّ غرضه تبليغ الأحكام، وإبعاد المكلفين عن المفاسد الواقعية، وتقريبهم إلى المصالح الواقعية، فإنْ لم يردع الشارع فوت غرضه، وهو قبيح من العاقل الملتفت.

المقدمة الثانية: لا يكفي السكوت في الردع الشرعي، وكذا لا تكفي الإشارات المبهمة، والألفاظ المجملة والعبارات المغلقة.

ص: 368

فمثلاً: عائلة كان مرتكزهم الفطري الاعتماد على ظهورات كلام الأب بلا تعليم، وبلا تلقين وفق طبيعتهم الأولية، فإنْ سكت الأب عن ذلك - مع عدم رضاه - أو قال لفظاً مجملاً، فلا يكفي ذلك في الردع مع عمل أعضاء البيت وفق الارتكاز الجبلي.

فلا بدَّ للشارع أنْ يردع بالألفاظ الصريحة الواضحة، وأمّا لو سكت فسكوته دليل على الإمضاء، والآيات الرادعة والعمومات لا تكفي في الردع، لأنَّها ليست صريحة ولا قاطعة، ولذا نشاهد - عملاً - أنَّها لم تردع على خلاف القياس، فإنَّ الشارع ردع عنه صريحاً، وحصل الارتداع خارجاً، أمّا العمل بأخبار الثقات فلم تكن العمومات الرادعة صريحة ولم يحصل الارتداع، فنفس السكوت أو الإجمال أو الاحتمال كاف في الإمضاء، فالشارع أمضى السيرة العقلائية ولم يردع عنها.

وحاصل الأقوال الثلاثة:

أولاً: إنَّ مبنى الكفاية هو : إنَّ رادعية العمومات دورية، ومخصصية السيرة ليست دورية، والنتيجة: لم يثبت الردع عن السيرة العقلائية فهي حجّة.

ثانياً: مبنى الأعلام: إنَّ رادعية العمومات ليست دورية ومخصصية السيرة دورية، والنتيجة: السيرة مردوعة بالعمومات.

ثالثاً: المختار في المقام: إنَّ رادعية الآيات ليست دورية، ومخصصية السيرة ليست دورية.

والنتيجة: يوجد عندنا دليلان في المقام، وهما: الردع العام والسيرة العقلائية، وتتزاحم العمومات مع السيرة العقلائية تزاحم العام والخاص، فتتقدم السيرة على العمومات الرادعة تقدم الخاص على العام، فتكون

ص: 369

السيرة العقلائية حجّة.

هذا تمام الكلام في الجواب الثالث.

الجواب الرابع

ما ذكره في حاشية الكفاية(1) بعد التسليم بكون رادعية الآيات وكذلك مخصصية السيرة دورية نفقد في المقام الأدلة الاجتهادية، فيصل الأمر إلى الأصول العملية، ومقتضاها بقاء الحجّية.

لقد كانت السيرة العقلائية قائمة على العمل بالخبر الواحد أوّل بعثة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع أنَّ الخطر كان قائماً بسريان الارتكاز العقلائي إلى مجال الأغراض التشريعية لم يردع الشارع عنها في ذلك الوقت، فكانت حجّة، وبمقتضى (لا تنقض اليقين بالشك) نحكم ببقاء الحجّية.

ويرد عليه ثلاثة إشكالات:

الأوّل: ما في المصباح(2) من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

وفيه: المبنى غير مرضي.

الثاني: ما ذكره السيد الخوئي(3) والسيد الوالد من جريان نفس الإشكال الموجود في السيرة على الاستصحاب.

وفيه: إنَّهُ غير واضح، فكما قيل بعدم صحة كون السيرة مخصصة كذلك يقال في الاستصحاب.

ص: 370


1- كفاية الأصول (المحشى) 3: 351.
2- مصباح الأصول 2: 198.
3- مصباح الأصول 2: 198.

ولكنّه غير واضح؛ لأنَّ الإشكال الوارد على السيرة احتمال كونها مردوعة؛ أو غير ممضاة، أو لم يثبت إمضاؤها، وهذا المحذور لا يوجد في الاستصحاب؛ لأنَّ الشارع أسسه أو أمضاه قطعاً.

الثالث: إنَّهُ دوري؛ لأنّنا نريد إثبات حجّية الخبر الواحد بالاستصحاب، وهو ثابت بالخبر الواحد.

وبعبارة أُخرى: حجّية طبيعي الخبر موقوف على حجّية أخبار الاستصحاب، وحجّية أخبار الاستصحاب - لأنَّهُ فرد من أفراد الخبر - موقوفة على حجّية طبيعي الخبر، فيتم إثبات حجّية الخبر الواحد بالخبر الواحد.

ويمكن دفعه بدعوى أنَّ أخبار الاستصحاب قطعية فليست خبر واحد، وإنّما هي متواترة ولو بالتواتر الإجمالي، كما ذهب إليه السيد العم (دام ظله)، وقال - بعد أنْ ذكر خمس عشرة رواية لحجّية الاستصحاب - : ولعل المتتبع يجد المئات من الروايات في الموارد الجزئية المختلفة، فإنْ انتقلنا منها إلى قاعدة كلية، وإلا فنفس الخمس عشرة رواية متواترة بالتواتر الإجمالي، فيتم إثبات حجّية الخبر الواحد بالخبر المتواتر حجّية، فلا يكون دورياً.

الجواب الخامس

ما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية(1)،

قال: المقام من صغريات دوران الأمر بين الخاص المتقدم المطلق بالإطلاق الأزماني، والعام المتأخر المطلق، أو العام بالعموم الأفرادي، وبين الإطلاقين أو العمومين تعارض، فإمّا أنْ نقدم الإطلاق الأزماني للخاص المقدم، أو نقدم العموم، أو الإطلاق

ص: 371


1- كفاية الأصول: 304.

الأفرادي للعام المتأخر.

وبعبارة أُخرى: حصول التعارض بين الإطلاق الأزماني للخاص، والعموم الأفرادي للعام، ومآله إلى دوران الأمر بين التخصيص والنسخ، وقد تقرر في محلّه أنَّ التخصيص مقدم.

وبعبارة مختصرة: يدور الأمر بين التخصيص والنسخ، إمّا العام المتأخر ناسخ للإطلاق الأفرادي للخاص المتقدم، أو الخاص المتقدم مخصص للعموم الأفرادي للعام المتأخر، وقد ثبت في محلّه أنَّ التخصيص مقدم.

وعليه، فالسيرة المتقدمة مخصصة للعموم المتأخر، فتكون السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد مخصصة لعمومات الآيات الرادعة.

قال: «ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم والعام المؤخر في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام»(1).

وأُجيب عنه بأجوبة:

الأوّل: ما في المصباح وقد أجاب به عمّا ذكر في الجواب الرابع أيضاً: نسلم بالكبرى ولكنها لا تنطبق على المقام؛ لأنَّ التعارض والدوران فرع حجّية الخاص المتقدم، وهو ليس بحجّة في المقام؛ لأنَّ السيرة العقلائية بما هي هي لا تعد دليلاً شرعياً، وإنّما تكون حجّة بضميمة الإمضاء الشرعي، ولا يتحقق الإمضاء فيما لو لم يتمكن الشارع من ردع السيرة العقلائية، وحينئذ لا يعتبر سكوته.

قال: «إنَّ التمسك بالاستصحاب إنّما يصح - مع غض النظر عمّا تقدم -

ص: 372


1- كفاية الأصول: 304.

فيما إذا تمكن الشارع من الردع قبل نزول الآيات ولو بيوم واحد، فإنَّهُ حينئذ يستكشف من عدم الردع إمضاؤه لها، وتثبت حجية السيرة قبل نزول الآيات ، فصح الرجوع إلى استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات، بعد فرض تساقط كل من السيرة والعمومات. وأما إذا لم يتمكن من ذلك - كما هو الصحيح - فإنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن متمكناً من الردع عن المحرمات، كشرب الخمر مثلاً ، ولا من الأمر بالواجبات، كالصلاة والصوم في صدر الإسلام ، ولذا كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: قولوا لا إله إلا اللّه تفلحوا، فلا مجال للتمسك بالاستصحاب؛ إذ لم تحرز حجية السيرة قبل نزول الآيات كي يتمسك في بقائها بعد نزولها بالاستصحاب. وبهذا ظهر الإشكال في الوجه الثالث أيضاً، فإن كون المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص والنسخ متوقف على إحراز كون السيرة حجة قبل نزول الآيات لتكون قابلة لتخصيص الآيات، فيدور الأمر بين النسخ والتخصيص، وإحراز كون السيرة حجة قبل نزول الآيات متوقف على إحراز كون الشارع متمكنا من الردع قبل نزول الآيات، وأنى لنا بإثبات ذلك»(1) .

وقد شكك السيد الوالد في حجّية السيرة - أيضاً - لكنّه لم يذكر وجهه، وقال: «إنَّ الدوران بين المخصصية والمنسوخية متوقف على حجّيتها المشكوكة»(2).

ولكنّه محلّ تأملّ:

ص: 373


1- مصباح الأصول 2: 198.
2- الأصول: 671.

أوّلاً: لاستلزامه بطلان استصحاب البراءة الثابت في أوّل الشريعة؛ لأنَّ سكوت الشارع لا يدل على الحلية؛ لعدم إمكان الردع.

وقد تمسك السيد الخوئي(1) بهذا الاستصحاب وقال: هو المعروف بين الأصوليين.

ثانياً: لعدم القدرة معنيان:

1 - عدم القدرة الناشئ من وجود القوّة القاهرة الخارجية الملجئة، والمكرهة للشارع على السكوت، كما في المولى العرفي، فإذا قاموا بعمل أمامه وهو ساكت لم يتمكن من الكلام لسد فمه، فلا يدل سكوته على التقرير.

2 - عدم القدرة الناشئ عن مراعاة المولى للكسر والانكسار بين المصالح والمفاسد الواقعية النفس الأمرية، كما ورد في الرواية: «وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً»(2)، بل لمصالح، وكما هو المعروف أنَّ هنالك أحكاماً سيظهرها الإمام الحجّة (عليه السلام)، فهذا السكوت كاشف عن الإمضاء، فقد كان الشارع قادراً تكويناً، ولم يكن هنالك مكره، لكنه مراعاة لبعض الحكم لم يوجب السواك - مثلاً - فهذا كاشف عن الإمضاء.

فالسيرة العقلائية كانت قائمة على العمل بالخبر الواحد، وقد سكت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوّل البعثة، فهو دليل الإمضاء والتقرير، ولو من باب الكسر والانكسار في الملاكات.

ص: 374


1- مصباح الأصول 2: 199-200.
2- وسائل الشيعة 25: 175.

الثاني: ما ذكره المحقق المشكيني في حاشية الكفاية(1): إنَّهُ لم يعلم ثبوت الإمضاء قبل نزول الآيات الكريمات، إذ لعلّه قد نزل واحدة أو أزيد قبله، ومجرد عدم العلم بذلك يكفي، إذ حجّية السيرة متقومة بثبوت الإمضاء، فصرف الاحتمال كاف في عدم القبول فيحتاج إلى الإحراز.

لكنّه محلّ تأملّ؛ للعلم بعدم نزول آية قبل الإمضاء، فهل تليت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) آية رادعة حين قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قولوا لا إله إلا اللّه تفلحوا»؟.

لا يقال: إنَّهُ حكم إنشائي.

لأنّا نقول: لا يكفي الحكم الإنشائي، ولا يترتب عليه الأثر في الباعثية والزاجرية؛ حيث لم يصل الحكم إلى مرحلة الفعلية، فلا أثر له، أو ليس حكماً أصلاً، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سكت عن السيرة العقلائية في أوّل البعثة، والسكوت كاشف عن الإمضاء.

الثالث: ما ذكر في طي كلمات المحقق المشكيني (رحمه اللّه) في حاشية الكفاية(2)، قال: الدليل الإمضائي ليس ظاهراً في الدوام؛ لأنَّ السيرة دليل لبي فيقتصر فيه على القدر المتيقن.

ثم قال(3): مورد تمامية الإمضاء هو زمان قبل ورود العام، إذ دليليته في كل زمان تحتاج إلى عدم الردع في ذلك الزمان، وهو غير ثابت بعد احتمال كونه مردوعاً بالعام.

وقد ذكر بعض المحققين المتأخرين ما يقرب منه، حيث قال: «لأن

ص: 375


1- كفاية الأصول (المحشی) 3: 337.
2- كفاية الأصول (المحشی) 3: 337 .
3- كفاية الأصول (المحشی) 3: 337 .

الخاص المتقدم ليس دليلاً لفظياً له إطلاق أزماني، بل سيرة عقلائية، وهي دليل لبّي تتم دلالته على أساس استكشاف إمضائه من عدم الردع، ومن الواضح أنَّ عدم الردع في زمان لا يمكن أنْ يستكشف منه - عقلاً أو بظهور الحال - أكثر من إمضاء مفاد السيرة في ذلك الحال، لا جميع الأحوال والأزمنة»(1).

والحاصل: إنَّهُ ليس لعدم الردع دلالة على الإمضاء إلى الأبد ليكون هنالك دلالة على الإطلاق الأزماني لمفاد الخاص.

ولذا فالتعارض المذكور في حاشية الكفاية مبتنٍ على وجود الإطلاق الأزماني للخاص، وهو معارض للعموم الأفرادي للعام، أمّا إذا ادعي عدم الإطلاق الأزماني للدليل الخاص لكونه لبياً، فلا تعارض بينهما، فيكون عموم العام هو المحكم.

ولكنّه محلّ تأملّ: فنحن نسلّم أنَّ السيرة والإمضاء المتعلق به دليل لبّي، ولا إطلاق أزماني له في حدّ ذاته، ولكن الروايات تجعل الدليل اللبّي مطلقاً بالإطلاق الأزماني، فيقع التعارض بين الإطلاق والعموم.

وقد جمعها السيد الشبّر في الأصول الأصلية(2)،

وهي كثيرة نكتفي بذكر روايتين منها:

ففي الكافي: عن على بن إبراهيم(3)، عن محمد بن عيسى بن عبيد(4)،

ص: 376


1- بحوث في علم الأصول 4: 403.
2- الأصول الأصلية: 309.
3- علي بن إبراهيم القمي، ثقة.
4- محمد بن عيسی بن عبيد، ثقة.

عن يونس(1)، عن حريز(2)، عن زرارة(3) قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الحلال والحرام؟ فقال(عليه السلام): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(4).

وفي الكافي: عن العدة(5)، عن أحمد بن محمد بن خالد(6)، عن عثمان بن عيسى(7)، عن سماعة بن مهران(8) قال:

قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(9)، فقال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - إلى أنْ قال - : فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام

ص: 377


1- يونس مشترك ولكن بقرينة رواية محمد بن عيسى يكون يونس بن عبد الرحمان ثقة من الطبقة الثالثة من أصحاب الإجماع.
2- حريز بن عبد اللّه السجستاني، ثقة.
3- زرارة، ثقة من الطبقة الأولى من أصحاب الإجماع.
4- الكافي 1: 58.
5- والمختار أن العدة كلهم ثقات.
6- أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ثقة، والعدة التي تنقل عن البرقي أحدهم علي بن إبراهيم.
7- عثمان بن عيسى، ثقة من شيوخ الواقفة، وقيل: لم تثبت توبته، ويرى البعض أنَّ ما نقل عن الواقفة أو زعمائهم إنّما نقل في حال استقامتهم، وعلى كل، فهو ثقة لتوثيق الطوسي له في العدة على انحراف عقيدته، وقال النجاشي: «إنَّ بيت الرواسي كلهم ثقات»، وقد وثقه ابن شهر آشوب إنْ قبلنا توثيقات المتأخرين.
8- سماعة بن مهران، ثقة ثقة.
9- الأحقاف: 35.

إلى يوم القيامة»(1).

يقول السيد الشبّر: «والأخبار في ذلك كثيرة ومضمونها مجمع عليه لا خلاف فيه»(2).

وهنالك باب آخر - أيضاً - في أنَّ الأحكام الشرعية عامة شاملة لجميع المكلفين من الأولين والآخرين، والحاضرين والغائبين إلا ما خرج بالدليل.

فأصل المسألة مسلمة لا بحث فيها، وحيث لا فرق بين الحكم التأسيسي والإمضائي, وأنَّ المحقق المشكيني سلّم بإمضاء الشارع للسيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد، لكنه قال(3): لا يعلم شموله لكل زمان.

فنقول: يكفينا ثبوتها في زمان ما؛ حيث إنَّهُ إذا ثبت الإمضاء في أوّل البعثة يثبت الحكم الإمضائي إلى يوم القيامة، وهو دليل اجتهادي، ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

الرابع: ما ذكره المحقق المشكيني ضمن الإشكال الثالث قال(4): إنَّ ملاك تقدم الخاص المتقدم على العام المتأخر هو أقوائية ظهوره في الدوام، ولا أقوائية في الدليل الإمضائي المذكور. فعلى فرض كون الخاص المتقدم ظاهراً في الدوام، والعام المتأخر ظاهراً في شمول الأفراد، وأنَّ الخاص المتقدم يتقدم للظهور، إلا أنَّهُ لا ظهور أقوى للدوام في الإمضاء أوّل البعثة من الظهور العام في العموم الأفرادي، فهما إمّا متكافئان أو يدعى أنَّ ظهور

ص: 378


1- الكافي 2: 18.
2- الأصول الأصلية:310.
3- كفاية الأصول (المحشى) 3: 337.
4- كفاية الأصول (المحشى) 3: 337.

العام في الشمول أقوى من ظهور الخاص في الدوام، فكلام الكفاية غير تام.

ويمكن أنْ يوضح بما يلي: السيرة نوعان: السيرة العقلائية المتقدمة، والسيرة العقلائية المقارنة.

أمّا السيرة العقلائية المقارنة لعموم العام فهي أقوى عرفاً من ظهور العام في العموم.

مثلاً: عموم أو إطلاق حرمة الإيذاء، أو إيذاء الجار حسب الروايات والفتوى مع قيام السيرة على بعض أنواع الإيذاء - كإشعال النار فيدخل الدخان بيت الجار - وهي مقارنة لعمومات العام، وكانت مستمرة مع وجود عمومات حرمة الإيذاء، وقد أفتى بعض الفقهاء(1) بعدم الإشكال فيه لجريان السيرة عليها.

فلم تكن عمومات حرمة الإيذاء كافية للردع عن هذه السيرة العقلائية، فلو كان محرماً واقعاً للزم ورود أدلة خاصة للردع، فعدم الردع دليل على الإمضاء، وظهور هذا الخاص أقوى من ظهور العمومات.

وأمّا إنْ كانت السيرة العقلائية متقدمة - كما لو فرض قيام السيرة العقلائية على جواز النكاح المعاطاتي - ثم ورد عام (إنّما يحلل الكلام)، فهل يمكن الالتزام بأنَّ ظهور الخاص أقوى من ظهور العام المتأخر، أم إنَّ عموم العام يسلب مشروعية السيرة المتقدمة؟ الظاهر أنَّ في أمثال المقام عموم العام أقوى.

والمفروض عند صاحب الكفاية التمسك بالسيرة المتقدمة لا المقارنة،

ص: 379


1- المهذب 2: 496؛ كشف اللثام 11: 270.

فتكون العمومات العامة رادعة عن هذه السيرة، وعن جميع أفراد العمل بالظن، فيكون الدوران المذكور غير مقبول.

الجواب السادس

ما نقل عن كتاب الدراسات قال: «لاعتبار الخبر علماً لدى العقلاء فتترتب عليه آثاره»(1).

وهذا الاعتبار يساوق الحكومة.

ويرد عليه أمران:

الأوّل: ما في المنتقى(2): من أنَّ الحكومة إنَّما تصح إذا كان معتبر الدليل الحاكم نفس جاعل الدليل المحكوم، ومفاد هذا الاعتبار أنَّ المعتبر يجعل موضوع الدليل المحكوم أعمّ ممّا يوجد بالوجود الحقيقي، وما يوجد بالوجود الاعتباري، أمّا لو كان المعتبر الحاكم غير جاعل الدليل المحكوم فلا معنى للحكومة.

لا يقال: إنَّ تشخيص الموضوع بيد العرف والعقلاء.

لأنّا نقول: فإنَّهُ وإنْ كان كذلك إلا أنَّهُ لا يحق للعقلاء إخراج فرد حقيقي من دائرة الموضوع، أو إدخال فرد غير حقيقي في أفراد الموضوع، كما لو قال: أكرم العلماء، فيقول العرف: إنَّ المراد من العلماء الذوات المتلبسة بالعلم، أفهل يحق لهم - بعد ذلك - أنْ يحكموا بدخول البقال الفلاني في العلماء، أو خروج العالم غير الأبيض عن دائرة العلماء؟

ص: 380


1- دراسات في علم الأصول 3: 190.
2- منتقى الأصول 4: 308.

نعم، للشارع أنْ يضيق أو يوسع موضوع الدليل المحكوم، كقوله: (لا ربا بين الوالد وولده)، أو (الفقاع خمر).

الثاني: إنْ كان مفاد الاعتبار العقلائي جعل خبر الواحد علماً، فمفاد العمومات الرادعة سلب صفة العلمية عن الخبر الواحد، وكلا الاعتبارين في عرض واحد، ولا تقدم في البين بين الاثنين، فلا تتحقق الحكومة في المقام؛ لاشتراط الطولية فيها بين الدليل الحاكم والمحكوم.

الجواب السابع

ما ذكره المحقق النائيني والمحقق العراقي من كون السيرة العقلائية واردة على العمومات الرادعة.

قال المحقق النائيني: «العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العمل بالعلم؛ لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، فهو خارج عن العمل بالظن موضوعاً»(1).

وقريب منه عبارة المحقق العراقي، حيث قال: «لعدم التفاتهم إلى احتمال الخلاف»(2).

لكنّه محلّ تأملّ، حيث إنَّهُ إنْ كان المراد عدم الالتفات حقيقة فلا كلية له؛ لعدم صدقه إلاّ في موارد حصول الاطمئنان من الخبر الواحد، وفي كثير من الموارد لا يحصل الاطمئنان، بل قد يحصل الشك، بل قد يحصل الظن بالخلاف.

ص: 381


1- فوائد الأصول 3: 195.
2- نهاية الأفكار 3: 138.

وإنْ كان المراد عدم الالتفات عملاً إلى احتمال الخلاف حتى مع الشك بعدم تطابق الخبر للواقع - أي أنَّهم يجرون على طبق الخبر الواحد عملاً - فهذا مآله إلى الجواب السادس من الحكومة الاعتبارية لا الورود؛ فإنَّ الورود ينفي الموضوع حقيقة، ولكن الحكومة مجرد اعتبار، وحينئذ يرد عليه ما ورد على السادس.

نعم، يمكن أنْ يكون مآل جوابهما إلى الجواب الثامن.

الجواب الثامن

إنَّ العقلاء لا يرون العمل بخبر الثقة مشمولاً للعمومات الرادعة، فإنّها تنهى عن العمل بالظن، والعمل بالخبر الواحد ليس من مصاديقه عند العقلاء، كما أنَّ العمومات الرادعة لا تشمل العمل بالظواهر.

وبتعبير آخر: العمومات منصرفة عن العمل بالظواهر وأخبار الثقات؛ فإنَّ البناء العقلائي قرينة متصلة تثلم إطلاق المطلق، أو لا تدع له إطلاقاً حسب التقريرات المختلفة.

وفيه: إنَّ مآله إلى دعوى الانصراف وعهدتها على مدعيها.

الجواب التاسع

ما في المصباح وغيره: «إنّا نقطع بعدم الردع في الشريعة المقدسة عن هذه السيرة؛ لبقائها واستمرارها بين المتشرعة وأصحاب الأئمّة(عليهم السلام) بعد نزول الآيات، ولو كانت رادعة لانقطعت السيرة»(1)،

فالمتشرعة - بما هم متشرعة وبما هم عقلاء - كانوا يعملون بخبر الثقات، وهو كاشف عن

ص: 382


1- مصباح الأصول 2: 199.

تخصيص العمومات الرادعة بمخصص، وإلا فلا يعقل ردع العمومات وعمل المتشرعة وعدم إنكار المعصومين(عليهم السلام).

وأضاف السيد الوالد في الأصول(1) : إنَّهُ لو كانت السيرة مردوعة لزم جعل البديل، فعدم جعل البديل كاشف عن عدم المردوعية.

والفرق بينه وبين جواب صاحب الكفاية أنَّهُ كان استدلالاً بالسيرة المتقدمة، وهذا استدلال بالسيرة المقارنة والمتأخرة.

الجواب العاشر

ما عن المحقق الإصفهاني(2)، وملخص كلامه: حجّية الظهورات ومنها العمومات ثابتة ببناء العقلاء، ولا يعقل أنْ يكون للعقلاء بناءان عمليان متناقضان، ولا شكّ في ثبوت بناء العقلاء على العمل بأخبار الثقات، ومع وجوده لا يعقل أنْ يعمل العقلاء بالظهور المذكور، أي ظهور العمومات الرادعة في العموم حتى للخبر الواحد؛ لأنَّهُ يوجب عمل العقلاء بالمتناقضين.

وعليه، لا ظهور للعمومات الرادعة في العموم حتى للخبر الواحد.

وأجيب عنه بحصول الخلط في الجواب: فإنَّ القول بجريان سيرة العقلاء على العمل بالظهورات ومنها العمومات، إنّما هو بمعنى الحجّية والكاشفية عن المراد لا بمعنى العمل والامتثال.

فإذا قال المولى: (أقيموا الصلاة) فظاهره الوجوب، وليس معنى قيام

ص: 383


1- الأصول: 668.
2- نهاية الدراية 2: 236.

السيرة على العمل بالظهورات الامتثال؛ حيث إنَّ كثيراً منهم لا يعملون به أصلاً، بل معنى ذلك أنّهم يرون صيغة افعل كاشفاً عن المراد، ويعتبرونه دالاً على الوجوب، أمّا الامتثال فهو بحث آخر.

وفيما نحن فيه، العقلاء يعتبرون العمومات دالة على العموم، وكاشفة عنه وعن الإرادة الجدية، ولكنهم يخالفون عملاً، فيعملون بالخبر الواحد، فالقول بعدم معقولية اجتماع بناءين متناقضين من العقلاء إنْ كان المراد بناءين عمليين فتام، ولكن إنْ كان أحدهما عملي - وهو العمل بأخبار الثقات - والثاني نظري فلا محذور فيه.

فالجواب مبني على الخلط في معنى كلمة عمل العقلاء بالظهورات.

أمّا المقدمة الثالثة

فهي عدم وجود مانع من الردع، وأمّا مع وجود المانع فلا يدل عدم الردع على الإمضاء، حيث إنَّهُ إذا كانت القضية ترتبط بالإمامة أو القضايا السياسية أو المسائل الخلافية، لأمكن وجود المانع من الردع، أمّا مسألة حجّية أخبار الثقات فليست مسألة سياسية أو خلافية، وأهل البيت (عليهم السلام) بينوا الواقع حتى في مسائل الإمامة وفي المسائل السياسية، كما في إكراء الجمال في قضية صفوان(1)، وفي المسائل الخلافية كحجّية القياس، فكيف بهذه المسألة؟! فالمقدمة الثالثة تامة، وبتمامية هذه المقدمات تثبت الحجّية العقلائية.

هذا تمام الكلام في الدليل الثالث وهو الإجماع والسيرة.

ص: 384


1- وسائل الشيعة 16: 259.

فهرس المحتويات

فصل في الشهرة

الشهرة الفتوائية... 7

أدلة حجية الشهرة الفتوائية... 9

الدليل الأول: دلالة أدلة حجية الخبر الواحد على اعتبار الشهرة بالفحوى... 9

وأورد عليه بإشكالات... 9

تنبيه... 15

الدليل الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة... 15

وقد أورد عليه بإشكالات... 16

الدليل الثالث: رواية زرارة... 24

ويرد عليه إشكالات أربعة... 24

الدليل الرابع... 26

ويرد عليه إشكالات ثلاثة... 27

الدليل الخامس... 33

ويرد عليه... 34

الدليل السادس... 34

وقد أشكل عليه السيد الوالد بإشكالات ثلاثة... 34

الدليل السابع... 36

لكنه محل تأمل... 36

الدليل الثامن... 37

ص: 385

لكنه محل تأمل... 39

إشكالان على حجية الشهرة... 40

وهو محل تأمل من جهتين... 40

ختام فيه تنبيهات... 42

فصل في الخبر الواحد

أدلة عدم حجية الخبر الواحد... 49

الدليل الأول: القرآن الكريم... 49

ويمكن الإجابة عن ذلك بعدة أجوبة... 50

الجواب الأول... 50

الجواب الثاني... 51

الجواب الثالث... 52

الجواب الرابع... 53

ويمكن المناقشة فيه من وجوه... 54

الجواب الخامس... 58

الجواب السادس... 60

الجواب السابع... 61

الدليل الثاني: السنة الشريفة... 62

الطائفة الأولى... 62

ويرد على الاستدلال بهذه الطائفة عدة وجوه... 63

الطائفة الثانية... 69

الطائفة الثالثة... 71

الدليل الثالث: الإجماع... 74

ويرد على الإجماع المدعى أمور... 75

الدليل الرابع: العقل... 76

أدلة حجية الخبر الواحد... 76

الدليل الأوّل: الكتاب العزيز... 76

ص: 386

الآية الأولى: آية النبأ... 76

الطريق الأول: الاستدلال بمفوم الشرط... 77

كون الوجوب شرطياً لا نفسّياً... 78

ضابطة كون الجملة الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع... 87

ولدفع ما أورده الشيخ على الاستدلال بمفهوم الشرط من آية النبأ ذكرت أجوبة... 90

الجواب الأوّل... 90

الجواب الثاني... 91

الجواب الثالث... 99

الجواب الرابع... 100

الجواب الخامس... 103

الجواب السادس... 108

الجواب السابع... 111

الجواب الثامن... 113

الجواب التاسع... 114

الطريق الثاني: الاستدلال بمفهوم الوصف... 118

التقرير الأول: للشيخ الأعظم... 118

وقد أورد عليه إشكالات... 119

التقرير الثاني: التمسك بمفهوم الوصف... 122

التقرير الثالث: الجزاء هو التبين... 127

الإشكالات على الاستدلال بآية النبأ... 127

الإشكال الأول: التعارض بين مفهوم آية النبأ وعموم التعليل... 128

ما أجيب به عن الإشكال الأول... 130

الجواب الأول: حكومة المفهوم على عموم التعليل... 130

ما أورد على الحكومة... 132

الجواب الثاني: معنى الجهالة... 142

ويرد عليه إشكالات... 142

الإشكال الثاني: التعارض بين مفهوم آية النبأ والآيات الناهية عن العمل بغير العلم 150

ص: 387

تعميم المفهوم للعلمي... 150

تقييد الآيات الناهية بصورة التمكن من العلم... 151

تقييد الآيات الناهية بغير ما ثبتت حجّيته... 152

انقلاب النسبة... 155

العمل بالدليل الظني عمل بالعلم... 156

الإشكال الثالث: الخروج عن عموم العام... 156

الإشكال الرابع: الإشكال بالإخبار بالوسائط... 160

كيفية توضيح الإشكال الرابع... 160

البيان الأوّل: تقدم الحكم على الموضوع... 160

ويرد على البيان الأول وجوه... 162

البيان الثاني: توقف حجية الخبر على كون المخبر به حكماً شرعياً... 173

وأُجيب عنه بأجوبة... 174

البيان الثالث: اتحاد الحكم والموضوع... 176

وقد أجيب عنه بعدة أجوبة... 178

البيان الرابع: الانصراف... 191

الإشكال الخامس: ما يوجب وجوده عدمه محال... 192

ويمكن أنْ يجاب عنه بعدة أجوبة نذكرها باختصار... 193

ويرد عليه أربعة إشكالات... 200

الآية

الثانية: آية النفر... 205

معنى كلمة لعل بشكل عام... 205

معنى كلمة لعل في القرآن الكريم... 208

وجوه الاستدلال بآية النفر على حجّية الخبر الواحد... 211

الوجه الأول: الإنذار واجب مقدمي... 211

الوجه الثاني: دلالة آية النفر على محبوبية الحذر... 217

الوجه الثالث: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق اللغوية... 224

وقد أُجيب عن كيفية الاستدلال بهذا الوجه بعدة أجوبة... 226

ص: 388

الوجه الأوّل... 226

الوجه الثاني... 230

الوجه الثالث... 231

الوجه الرابع: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق الغاية... 231

ويمكن أنْ يجاب عنه بأجوبة... 233

الوجه الخامس: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجية الإنذار... 237

ويمكن أنْ يرد عليه عدة إشكالات... 238

الإشكال على دلالة آية النفر على حجّية الخبر الواحد... 241

لإشكال الأول: وجوب الحذر مترتب على الإنذار بالأحكام الواقعية... 241

وقد أُجيب بعدة أجوبة... 242

الإشكال الثاني: كلمة التفقه ظاهرة في الاجتهاد... 252

الإشكال الثالث: في إخبار الفقيه حيثيتان... 255

الإشكال الرابع: دلالة الآية على وجوب الحذر عند الخبر... 256

الآية الثالثة: آية الكتمان... 262

تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر الواحد... 263

الإشكال على دلالة آية الكتمان على حجية الخبر الواحد... 263

لإشكال الأول: اللعن أعم من التحريم... 263

وأُجيب عنه بجوابين... 264

الإشكال الثاني: توقف دلالة الآية على إطلاق وجوب القبول... 267

الإشكال الثالث: دلالة آية الكتمان على وجوب إظهار الحق... 267

الإشكال الرابع: نفي الملازمة بين عدم وجوب القبول واللغوية... 269

الإشكال الخامس: مورد آية الكتمان أصول الدين... 273

الآية الرابعة: آية السؤال... 276

تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر الواحد... 276

ما أورد على دلالة آية السؤال على حجية الخبر الواحد... 277

المناقشة الأولى: إرادة علماء أهل الكتاب من الآية... 277

المناقشة الثانية: وجوب السؤال لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب... 287

ص: 389

المناقشة الثالثة: انحصار مدلول الآية بالتقليد... 289

المناقشة الرابعة: الآية في مقام بيان تحصيل العلم من أهله... 296

المناقشة الخامسة: صحة الاستدلال بالآية توجب عدم صحة الاستدلال بها... 297

المناقشة السادسة: عدم مناسبة مقام الآية مع الحجية التعبدية... 298

المناقشة السابعة: أهل الذكر هم أهل العلم... 298

الآية الخامسة: آية الإذن... 299

تقريب الاستدلال بالآية على حجية الخبر الواحد... 299

الإشكال على دلالة آية الأذن على حجية الخبر الواحد... 299

الإشكال الأول: المراد من الأذن سريع القطع... 299

الإشكال الثاني: احتمالات معنى الإيمان والتصديق... 303

وأجيب عنه بوجوه... 308

الدليل الثاني: السنة الشريفة... 310

أنواع التواتر... 311

أخبار الثقات عن النبي والأئمة(عليهم السلام)... 313

الطائفة الأولى... 313

الطائفة الثانية... 314

الطائفة الثالثة... 317

الطائفة الرابعة... 318

الطائفة الخامسة... 320

الطائفة السادسة... 325

الطائفة السابعة... 326

الطائفة الثامنة... 327

الطائفة التاسعة... 328

الطائفة العاشرة... 330

تذييل... 331

كيفية الاستدلال بهذه الطوائف العشر... 332

ص: 390

الأخص مضموناً في التواتر الإجمالي... 335

ملاك قبول الخبر... 338

الدليل الثالث: الإجماع والسيرة... 340

المقام الأول: الاستدلال بالإجماع على حجية الخبر الواحد... 340

تقريرات الإجماع... 340

التقرير الأول: الإجماع المنقول عن الشيخ في العدة... 340

الإشكال على الاستدلال بالإجماع على حجية الخبر الواحد... 341

الإشكال الأول: الاستدلال بالإجماع دوري... 341

الإشكال الثاني: عدم الملازمة بين حجية الخبر وحجية الإجماع... 341

الإشكال الثالث: إجماع الطوسي معارض لإجماع المرتضى... 344

التقرير الثاني: الإجماع القولي المحصل... 345

ويرد على هذا التقرير إشكالات... 345

التقرير الثالث: الإجماع القولي المحصل من جميع العلماء... 349

التقرير الرابع: الإجماع العملي من جميع العلماء... 350

التقرير الخامس: الاتفاق العملي من جميع المتشرعة... 351

التقرير السادس: الإجماع التقريري... 354

المقام الثاني: الاستدلال بالسيرة العقلائية على حجية الخبر الواحد... 355

وأمّا الاستدلال بالسيرة العقلائية فهو موقوف على ثبوت مقدمات ... 355

أما المقدمة الأولى... 355

وأما المقدمة الثانية... 357

الجواب عن الآيات الناهية عن العمل بالظن... 357

الجواب الأوّل... 358

الجواب الثاني... 359

الجواب الثالث... 361

الجواب الرابع... 370

الجواب الخامس... 371

الجواب السادس... 380

ص: 391

الجواب السابع... 381

الجواب الثامن... 382

الجواب التاسع... 382

الجواب العاشر... 383

فهرس المحتويات... 385

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.