موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء الثالث) المجلد 6

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(6)

تبيين الأصول

الجزء الثالث

تأليف: آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضاالحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج6: 0-276-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15(بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

----------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة:قدس

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج6: 0-276-204-964-978

----------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

المبحث الثالث: في تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة

اشارة

ولهذا الأصل تقريرات:

التقرير الأوّل: آثار الحجّة مرتّبة على الحجّة بوجودها العلمي

اشارة

وهو التقرير الذي ذكره صاحب الكفاية.

وتوضيحه ضمن أُمور:

الأوّل: أنّ الحجّة لها نحوان من الوجود

أحدهما: لوجودها الواقعي.

ثانيهما: لوجودها العلمي.

كما أنّ الشمس - مثلا - لها وجود واقعي في متن الإعيان ووجود علمي في صفحات الأذهان.

الثاني

أنّ الآثار الشرعية والعقلية تارةً تترتّب على الوجود الواقعي للشيء، سواء علم به العبد أم لم يعلم. وأُخرى: تترتّب على الوجود العلمي للشيء، أو على الشيء بوصف كونه معلوماً.

مثال الأوّل: النجاسة المترتّبة على (ملاقاة النجس بالرطوبة المسرية) فإنّ الملاقي يتنجّس ولو لم يعلم المكلّف بالملاقاة.

ومثال الثاني: محرّكية القطع، فإنّها ترتّب على العلم بالشيء، لا على

ص: 5

نفس وجوده الواقعي، فالفرار من الأسد - مثلا - يتوقّف على العلم بوجوده، ولا يكفي وجوده الواقعي في ترتّب الأثر المذكور.

الثالث: أنّ للحجّية آثاراً أربعة وهي

1- المنجّزية عند الإصابة.

2- المعذّرية عند الخطأ.

3- كون موافقتها انقياداً.

4- كون مخالفتها تجرّياً.

وهذه الآثار إنّما تترتّب على (الحجّة المعلومة) بالعلم الوجداني أو التعبّدي لا على (الحجّة الواقعية)؛ وذلك لأنّ الحجّة ما يصحّ أن يحتجّ به العبد على المولى ليثبت عذره، ويصحّ للمولى أن يحتجّ به على العبد ليقطع عذره. ومن المعلوم توقّف هذين الأثرين على العلم بالحجّية.

مثلا: لو قامت الشهرة الفتوائية على (وجوب الدعاء عند رؤية الهلال) لكن لم تثبت للمجتهد - بعد البحث والفحص في الأدلّة - حجّية الشهرة، فلم يدّع عند رؤية الهلال، وتبيّن كون الدعاء المزبور واجباً في الواقع، فلا يصلح الوجوب المزبور للمنجّزية على المكلّف.

فإذا قال له المولى: لِمَ لم تدع عند رؤية الهلال؟ أجاب: لم يثبت لدي وجوبه. فإذا سأله: ألم تقم الشهرة على الوجوب؟ أجاب: لم تثبت لدي حجّيتها.

ولو قامت الشهرة على أنّ (الكذب على الزوجة حلال) فكذب، وكانت حراماً في الواقع لم يصلح قيامها أن يكون معذّراً للمكلّف في ارتكابه

ص: 6

للحرام، كما أنّ مخالفة الحجّة المشكوكة لا تكون تجرّياً، ولا موافقتها - بما هي موافقة - انقياداً، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك، إذا وقعت برجاء إصابته.

وهذا بخلاف (الطريق الذي ثبتت حجّيته) فإنّ المكلّف لو سلكه - في صورة المخالفة - يكون منقاداً، ولو خالفه - في الصورة المزبورة - يكون متجرّياً.

وعليه: فإذا شكّ في التعبّد بأمارة يقطع بعدم حجّيتها، أي بعدم ترتّب شيء من الآثار عليها، وذلك للقطع بانتفاء الموضوع؛ إذ موضوع الآثار المزبورة الحجّة المعلومة، فيكون العلم جزءاً من الموضوع. ومن الواضح: أنّ المحمول المرتّب على الموضوع المركّب ينتفي قطعاً، بانتفاء تمام الموضوع أو جزئه.

والخلاصة: أنّ آثار الحجّية لا تترتّب إلاّ على الحجّة الواصلة فمع الشكّ لا وصول، فلا أثر.

ومن هنا يكون الشكّ في الحجّية ملازماً للقطع بعدم الحجّية بالمعنى المزبور، ومن هنا قيل «الشكّ في الحجّية موضوع عدم الحجّية».

قال صاحب الكفاية: «ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان»(1).

توضيحات

اشارة

وفي المقام توضيحات ثلاثة ومناقشتان:

ص: 7


1- كفاية الأصول: 280.
التوضيح الأوّل: الحجّة المقطوعة العدم هي الحجّة الإثباتية لا الثبوتية

1 - ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) من أن ملازمة القطع بعدم الحجّية للشكّ في الحجّية ليس «بمعنى أخذ العلم بالحجّية موضوعاً لها بحيث لا تكون حجة واقعاً مع عدم العلم بها، فإن ذلك واضح الفساد، بداهة أنّ الحجية كسائر الأحكام الوضعية والتكليفية لا يدور وجودها الواقعي مدار العلم بها، بل بمعنى عدم ترتب آثار الحجية عليها من كونها منجّزة للواقع عند الإصابة وعذراً عند المخالفة، فإنّ التنجز يتوقف على العلم بالحكم أو ما يقوم مقامه، والمكلف لا يكون معذوراً إلاّ إذا استند في العمل إلى الحجة، ويتوقف على العلم بها موضوعاً وحكماً»(1).

والخلاصة: أنّ الحجّة المقطوعة العدم - عند الشكّ في الحجّية - هي الحجّة الإثباتية لا الحجّة الثبوتية.

التوضيح الثاني: لا تناقض في قولنا :«الشكّ في الحجّية موضوع القطع بالعدم» لاختلاف المتعلّق

2- ما ذكره السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه).

من أنّه لا تناقض في قولنا: الشكّ في الحجّية موضوع للقطع بعدم الحجّية لاختلاف المتعلّق(2). فإنّ الشكّ يتعلّق بوجود الحجّية الواقعية، والقطع يتعلّق بعدم وجود الحجّية الظاهرية.

وبعبارة أُخرى: المشكوك الحجّة بوجودها الواقعي، والمقطوع: الحجّة

ص: 8


1- فوائد الأصول 3: 123.
2- الأصول: 630.

بوجودها العلمي، أو آثارها، وحيث اختلف متعلّق الشكّ والقطع ارتفع التناقض.

التوضيح الثالث: تحقّق الإنقياد غير موقوف على وجود الحجّة مطلقاً

3 - إنّ الأثر الرابع - أعني كون الموافقة انقياداً - لا يتوقّف على الحجّة بوجودها الواقعي ولا بوجودها العلمي، بل على صرف احتمال الواقع، سواء كانت هنالك حجّة واقعية أم علمية أم لا، بل حتّى مع فرض وجود حجّة مضادّة، لكن بشرط أن لا يكون هنالك دليل يقتضي العمل على خلاف الاحتمال، اقتضاءً حتمياً لزومياً.

مناقشتان

اشارة

يبقى الكلام في مناقشتين:

الأُولى: أنّ في التقييد نظراً.

الثانية: أنّ في الإطلاق نظراً.

المناقشة الأُولى: أنّ في تقييد القاعدة نظراً

وهي مناقشة ترد على التفصيل بين الحجّية الواقعية والعلمية، فالشكّ في الحجّية يستلزم القطع بعدم الأخيرة دون الأُولى.

قال في المنتقى - عقيب نقل كلام المحقّق النائيني المتقدّم(1): «إذا لم يكن للحجّية أي أثر في حال الشكّ فيها، وكانت آثارها منوطة بالعلم بها، فأي وجه يوجب جعل الحجّية واقعاً، مع أنّ الحكم الوضعي إنّما يجعل

ص: 9


1- في التوضيح الأوّل.

بلحاظ ما يترتّب عليه من الآثار»(1).

والظاهر أنّ مراده بالآثار «المنجّزية» و «المعذّرية» إذ لم يذكر غيرهما في سياق كلامه(2).

والخلاصة: كما أنّه لا حجّة إثباتاً - في صورة الشكّ - كذلك لا حجّة ثبوتاً. فالشكّ في الحجّية ملازم للقطع بعدم الحجّية في عالمي الإثبات والثبوت.

وبرهان ذلك: اللغوية، إذ لا أثر للجعل المزبور.

تأمّلات في المناقشة الأُولى

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بالأحكام التكليفية الواقعية في صورة الجهل بها، إذا لم يترتّب عليها أي أثر في حال الشكّ فيها، ولم يظهر الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية، بل يبعد التزام المنتقى بعدم ثبوت الأحكام الوضعية في صقع الواقع إذا لم يترتّب عليها أثر.

مثلا: إذا لم يعلم المكلّف بملاقاة بدنه للنجاسة، فهل يمكن الالتزام بعدم نجاسة بدنه واقعاً؟ وإذا لم يعلم النائم باتلافه مال الغير، فهل يمكن الالتزام بعدم ثبوت الضمان في ذمّته؟ وإذا لم يعلم المكلّف بخروج المني منه فهل يمكن الالتزام بعدم تحقّق الجنابة بالنسبة إليه؟

إلى غير ذلك من الأمثلة.

ص: 10


1- منتقى الأصول 4: 198.
2- منتقى الأصول 4: 196، 198.

وقد ذهب صاحب الحدائق (رحمه اللّه) إلى أنّ النجاسة منوطة بالعلم، استناداً إلى قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(1). فما لم يعلم بالنجاسة يكون الشيء طاهراً واقعاً.

إلاّ أنّ المشهور لم يرتضوا ذلك، وذهبوا إلى أنّ المغيّى الطهارة الظاهرية لا الواقعية.

ثانياً: أنّ الحكم الواقعي يمكن أن يترتّب عليه الانبعاث الفعلي باعتبار حسن الاحتياط - الثابت عقلا وشرعاً.

إلاّ أنّ ترتّب هذا الأثر منوط بشرطين:

الأوّل: كون الجهل بسيطاً، أمّا لو كان الجهل مركّباً - بأنّ جهل الواقع وجهل أنّه جاهل به، فقطع أنّه عالم به- فلا يمكن أن تترتّب على التكليف الواقعي الداعوية الفعلية.

الثاني: كون الحكم الظاهري لا اقتضائياً، والواقعي المحتمل اقتضائياً.

أمّا لو كان كلاهما اقتضائياً - كما لو قامت الأمارة على حرمة ردّ سلام الكافر واحتمل خطأ الأمارة، وكون الحكم الواقعي الوجوب - فإنّه لا يمكن أن تكون للحكم الواقعي المحتمل - على فرض ثبوته - داعوية نحو متعلّقه، لوجوب الجري العملي على مقتضى الأمارة.

هذا ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على المنتقى لو أراد بالأثر المنفي خصوص المنجّزية والمعذّرية.

وأمّا لو أراد ما يعمّ غيرهما - يكون موافقته انقياداً - فلا، لأنّ الأثر

ص: 11


1- جواهر الكلام 1: 337.

المذكور ليس سوى الانقياد المحبوب عقلا وشرعاً.

ثالثاً: أنّه يكفي في الأثر كونه بحيث لو علم به لأصبح فعلياً. فيكون مجعولا على نهج القضايا الشرطية، وكما أنّ القضية تظلّ في طور التعليق حتّى يتحقّق المقدّم، كذلك الحجج الواقعية.

وتحقّق هذا المقدّم له أنحاء ثلاثة:

أ- أن يتحقّق بالنسبة إلى نفس المكلّف في المستقبل، فيترتّب عليه وجوب الإعادة أو القضاء مثلا.

ب- أن يتحقّق لوليّه بعد موته، فيترتّب عليه أثره، إن كان له أثر. ونحوه أن يتحقّق لمن علم به، كمن علم بملاقاة بدن زيد للنجاسة، فيجتنب عنه.

ج- أن ينكشف عند ظهور خاتم الأوصياء المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، ولو لم تجعل الحجّية لم تصل إلى مرحلة الفعلية أبداً حتّى بعد الظهور، لإنسداد باب الوحي بعد استشهاد النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كما هو المعروف.

والخلاصة: أنّ الأمر دائر بين:

1- عدم الجعل مطلقاً، وهو مستلزم لتفويت الملاكات الواقعية.

2- الجعل في عهد الظهور، وهو ينافي الانسداد المزبور.

3- الجعل في عهد النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو المطلوب.

وهذا الإشكال لا يرد على المنتقى؛ إذ له أن يقول بجعل الحكم في خصوص ما ترتّب عليه الأثر.

رابعاً: أنّ نفي وجود الأثر على الجعل المزبور موقوف على الإحاطة بتمام الجهات، الدنيوية منها والأُخروية، والحال أنها مفقودة بالنسبة إلينا.

ص: 12

لا يقال: صرف احتمال وجود الأثر لا يكفي في تصحيح الجعل.

فإنّه يقال: ظاهر الأدلّة - المقرّرة في محلّها - شمول الأحكام للجميع، العالم بها والجاهل، ومن ترتّب عليه الأثر في علمنا ومن لم يترتّب، وهذا كاشف عن وجود أثر واقعي في الجعل المزبور، وإن لم نحط به علماً.

والسرّ في ذلك: أنّ ظواهر الكلام حجّة، ولا يزاحم الحجّة إلاّ الحجّة، ولا شكّ أنّ احتمال اللغوية ليس بحجّة، فلا يرفع اليد عنها بذلك.

وقد سبق في بحث أصالة الإمكان ما ينفع في المقام، فراجع(1).

فانقدح من جميع ذلك: أنّه لا مانع من جعل الحجّية في عالم الثبوت، وإن لم يعلم بها المكلّف. وعليه: فالشكّ في الحجّية لا يساوق القطع بعدمها في عالم الثبوت والواقع.

المناقشة الثانية: إنّ في إطلاق القاعدة نظراً

وهي مناقشة ترد على إطلاق القول بأنّ الشكّ في الحجّية يلازم القطع بعدم الحجّية.

قال في المنتقى: «إنّ الحجّية المشكوكة قد تكون في معرض الوصول إليها بالفحص أو بغيره، ففي مثل ذلك، تكون منجزة بوجودها الواقعي، بمعنى أن المكلف لو ترك العمل على طبقها ولم يفحص عنها تم تبين ومطابقتها للواقع لم يكن معذوراً، وكان للمولى عقابه، وليس للمكلف ترك العمل استناداً إلى أن الشك بها يلازم القطع بعدمها.

نعم، إذ لم تكن في معرض الوصول لم تترتب على وجودها الواقعي

ص: 13


1- سبق ذلك تحت عنوان «معنى آخر لأصالة الإمكان» (منه (رحمه اللّه) ).

المنجزية؛ إذ ليس للمولى المؤاخذة بلحاظ وجودها الواقعي، ففي مثل ذلك يكون الشك فيها ملازماً لعدم حجيتها.

فالنتيجة: أن الحق هو التفصيل بين ما إذا كانت الحجة المشكوكة في معرض الوصول فلا يلازم الشك فيها القطع بعد حجيتها، فلابد من الفحص عنها، وإن لم تكن في معرض الوصول فالشك فيها يلازم القطع بعدمها، لما عرفت من عدم ترتّب آثارها عليها في حال الشكّ»(1).

هذا ولكن قد يقال: بأنّ هذا القيد مستدرك، لما ذكروه في محلّه من لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، فترك ذكرهم هذا القيد في المقام كترك ذكرهم له في أصالة الاستصحاب مثلا، فإنّه لتعويلهم على ذكر ذلك في شرائط جريان الأُصول. فيكون البحث لفظياً فتأمّل.

وخلاصة ما تقدّم: أنّ الشكّ في الحجّية ملازم للقطع بعدم الحجّية لعدم ترتّب آثار الحجّة على المشكوك، لكن مع قيدين:

1- تقييد الحجّة المقطوع عدمها بالإثباتية.

2- تقييد جريان القاعدة بعدم كون الحجّة المشكوكة في معرض الوصول.

التقرير الثاني: عدم جواز الإسناد دليل على عدم الحجّية

اشارة

وهو التقرير المنسوب إلى الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

وخلاصة هذا التقرير: الاستدلال بالأدلّة الدالّة على حرمة الاسناد إلى

ص: 14


1- منتقى الأصول 4: 198-199.

الشارع بلا علم، على أنّ الأصل عدم حجّية الظنّ؛ إذ أثر الحجّية هو جواز الإسناد، فعدم جواز الاسناد يدلّ على عدم الحجّية في حال الشكّ في الحجّية.

وبعبارة أُخرى نقول: لو كان الشيء حجّة لجاز إسناده إلى الشارع، لكن لا يجوز الإسناد - في حالة الشكّ، فينتج أنّه لا يكون حجّة، بمقتضى القاعدة العامّة التي تقتضي ارتفاع المقدّم بارتفاع التالي.

ويدلّ على الحرمة المذكورة: الأدلّة الأربعة.

ويكفي من الكتاب قوله تعالى: {قُلْ أَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}(1). دلّ على أنّ ما ليس بإذن من اللّه تعالى من إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء.

ومن السنّة قول الصادق (عليه السلام) : «القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجهة، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(2).

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): «إذا كان العمل بدون العلم مستوجباً للنار - وإن كان مطابقاً للواقع - فالنسبة بدون العلم كذلك، لوحدة الملاك عرفاً، وقد ادّعى بعضهم أنّ الآيات الدالّة على حرمة النسبة بدون العلم مائة آية، والروايات خمسمائة رواية»(3).

ص: 15


1- يونس: 59.
2- الكافي 7: 407.
3- الوصائل 2: 94.

ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني من كون عدم الجواز بديهياً عند العوام فضلا عن العلماء.

ومن العقل: تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى، ولو كان عن جهل مع التقصير(1).

إشكال المحقّق الخراساني على التقرير الثاني

وأشكل المحقّق الخراساني في الكفاية على هذا التقرير بما توضيحه:

أنّ اللازم على ثلاثة أقسام:

1- اللازم الأعمّ، كالماشي بالنسبة إلى الإنسان.

2- اللازم المساوي، كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان.

3- اللازم الأخصّ، كالعالم بالنسبة إلى الإنسان.

وانتفاء الأوّلين يلازم على انتفاء الملزوم دون انتفاء الأخير، فانتفاء (العالم) - في زيد الجاهل - لا يلازم انتفاء (الإنسان) عنه.

وعليه نقول: إنّ «جواز الإسناد» لازم أخصّ للحجّية، فيمكن انتفاء جواز الإسناد دون انتفاء الحجّية، كما في الظنّ الانسدادي - على مبنى الحكومة لا الكشف - فإنّه لا يجوز اسناد مؤدّاه إلى الشارع مع كونه حجّة - بحكم العقل. فليكن ما نحن فيه كذلك.

فالشهرة الفتوائية المشكوك حجّيتها - مثلا - لا يجوز إسناد مؤدّاها إلى الشارع لكن يمكن أن تكون حجّة. إذن فلا يدلّ عدم جواز الاسناد على عدم الحجّية.

ص: 16


1- فرائد الأصول 1: 126.

تأمّلات في الإشكال

اشارة

وفي هذا الإشكال تأمّلات:

1- ثبوت الملازمة العرفية بين انتفاء جواز الإسناد وانتفاء الحجّية الشرعية

الأوّل: أنّ الملازمة العقلية وإن لم تكن ثابتة بين انتفاء جواز الاسناد وانتفاء الحجّية الشرعية، إلاّ أنّ الملازمة العرفية ثابتة عند ملاحظة الأدلّة الشرعية.

مثلا: ظاهر الآية الكريمة أنّ الإسناد افتراء، وكونه كذلك ملازم - عرفاً - لعدم كونه منجّزاً ولا معذّراً؛ إذ لا يكون الحديث المفترى منجّزاً ولا معذّراً، فلو قيل :«إنّ أحاديث أبي هريرة مفتراة» فظاهر ذلك أنّها ليست منجّزة للتكليف.

وقوله (عليه السلام) : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم..» وارد في العمل لا في الإسناد - واستفادة حرمته بالملاك كما تقدّم - فالقضاء استناداً إلى بعض الظنون التي لم يثبت اعتبارها سبب للدخول في النار، فلا تكون تلك الظنون معذّراً.

وبناءً على هذا التقرير لا حاجة إلى التمسّك بعكس النقيض، بأن يقال: «أثر الحجّة جواز الإسناد، لكن الإسناد في الحجج المشكوك اعتبارها غير جائز، فالحجّية غير موجودة» بل يمكن الاستدلال على المدّعى بشكل مباشر بأن يقال: إنّ عدم جواز الإسناد يدلّ - عرفاً- على عدم الحجّية.

2 - إمكان إسناد الظنّ على الحكومة إلى الشارع لقاعدة الملازمة

الثاني: ما ذكره الوالد (رضوان اللّه عليه) من: «أنّ الظنّ على الحكومة

ص: 17

ممكن الإسناد لقاعدة الملازمة ولقوله (عليه السلام) : حجّتين»(1).

وقد يتأمّل فيه:

أوّلاً: أنّ قاعدة الملازمة غير ثابتة.

وثانياً: على فرض الثبوت، فإنّما تكون في سلسلة العلل لا المعلولات.

تفصيل في قاعدة الملازمة

توضيح ذلك أنّ حكم(2) العقل على أربعة أنواع:

1- حكم العقل بوجود المصلحة التامّة في التشريع.

2- حكم العقل بوجود المصلحة التامّة في الفعل أو الترك.

3- حكم العقل بالحسن أو القبح الواقعان في مرتبة متأخّرة عن الحكم الشرعي، وهو ما يعبّر عنه بسلسلة المعلولات.

4 - حكم العقل بالحسن أو القبح الواقعان بصورة مستقلّة عن الحكم الشرعي، وهو ما يعبّر عنه بسلسلة العلل.

والأوّل، يلازم إنشاء الحكم؛ لأنّه إذا وجدت العلّة وجد المعلول، إلاّ أنّ ذلك فرض نادر، بل لعلّه معدوم، إذ أنّى للعقل أن يحيط بوجود كافّة الشرائط وانتفاء كافّة الموانع عن الجعل الشرعي؟

والثاني، لا يلازم حكم الشرع؛ إذ للشارع الاكتفاء بحكم العقل، إلاّ إذا كان حكم العقل لا يفي باستيفاء الملاك اللازم تحصيله، المتوقّف استيفاؤه على حكم الشرع، وأنّى للعقل إدراك كون الملاك كذلك؟

ص: 18


1- الأصول: 631.
2- أو إدراك (منه (رحمه اللّه) ).

مثاله: حكم العقل بوجود المفسدة في تناول «المواد المخدّرة» - مثلاً.

والثالث: يستلزم وجود الحكم الشرعي فيه التسلسل - على المعروف.

مثاله: حكم العقل بقبح « أكل النخاع » لكونه معصية للحكم الشرعي القاضي بتحريمه، فإنّ هذا الحكم العقلي لا يستلزم حرمة شرعية، وإلاّ تلاها حكم العقل بقبح معصية هذه الحرمة، وتلته حرمة شرعية - لقاعدة الملازمة- وهكذا ...

ويكفي في عدم ثبوت الملازمة في هذا القسم ما ذكرناه في القسم الثاني.

والرابع: كالثاني.

مثاله: حكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل مثلا.

وعلى كلّ حال: فليس كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، ولذا يحكم العقل ب(أنّ مقدّمة الواجب واجبة عقلا) من دون أن يلازم ذلك (الحكم الشرعي بالوجوب) فليكن ما نحن فيه من حكم العقل (بوجوب اتّباع الظنّ) في حالة الانسداد كذلك.

وأما قوله (عليه السلام) : «حجتين» فنحن لا ننكر كون العقل حجة باطنة، وأنّ اللّه تعالى يحتج به على المكلف، إلاّ أنّ الكلام في جواز إسناد مؤداه إلى الشارع، وعدمه.

3- مناقشة المحقّق النائيني (رحمه اللّه)

الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) : من أنّ في كلام الكفاية كبرى وصغرى، أمّا الكبرى فهي أنّ جواز الإسناد لازم أخصّ للحجّية، فلا يكشف انتفاؤه عن انتفائها، وأمّا الصغرى فهي تطبيق هذه الكبرى على

ص: 19

الظنّ الانسدادي على الحكومة. وقد ناقش (رحمه اللّه) في كلتيهما.

المناقشة الصغروية

أمّا المناقشة في الصغرى: فقد قال (رحمه اللّه) : «أنّه ليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة مثبتاً لمتعلقه، بل شأن العقل هو الإدراك وليس من وظيفته التشريع، وحكمه باعتبار الظن في حال الإنسداد ليس معناه كون الظن حجة مثبتاً لمتعلقه، بل معناه الإكتفاء بالإطاعة الظنية للأحكام المعلومة بالإجمال عند تعذر الاطاعة العلمية وهذا المعنى أجنبي عن معنى الحجّية فإنّ الحجة تقع قي طريق إثبات التكاليف والظن بناءً على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف»(1).

وما ذكره (رحمه اللّه) لا يخلو من تأمّل؛ إذ الحجّة في الأُصول عبارة عن ما يحتجّ به المولى على العبد، والعبد به على المولى، ولا فرق في صدق هذا المفهوم بين ما يقع في طريق إثبات التكاليف، وما يقع في طريق إسقاطها. فلو سأل المولى المكلّف: لِمَ عملت بالظنّ في حال الانسداد ولم تعمل بغيره؟ أجاب: لحكم العقل بذلك.

وقد ذكر الميرزا الشيرازي الكبير (رحمه اللّه) : أنّ الحجّة عند الأُصوليين ما كان قاطعاً للعذر بين العبد وربّه(2).

وتبعه على ذلك المحقّق الخراساني، إذ قال: إنّه لا اصطلاح جديد للأُصوليين في الحجّة، بل هي مستعملة في الأُصول في نفس معناها العرفي

ص: 20


1- فوائد الأصول 3: 123.
2- تقريرات المجدد الشيرازي 3: 247.

العام. وتبعهما على نحو ذلك السيّد البروجردي (رحمه اللّه) .

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في بداية مباحث القطع.

ثمّ إنّه لو فرض وجود إصطلاح جديد للأُصوليين، وقلنا بأنّ الحجّة عندهم عبارة عن «ما يكون مثبتاً لمتعلّقه بحيث يمكن عند قيامه تشكيل قياس ولو على نحو المسامحة كما تقول: هذا ممّا قامت البيّنة على خمريته وكلّ ما كان كذلك فهو خمر»(1) أمكن القول بشموله للظنّ الانسدادي على الحكومة، بأن يقال: «الظنّ الانسدادي ممّا قام الدليل العقلي على إسقاطه للتكليف، وكلّ ما كان كذلك فهو مسقط للتكليف» والمراد بإثبات المتعلّق: (الحمل) سواء ارتبط بمرحلة الجعل الشرعي، وكان مفاده الإيجاب، كما في قولنا: «هذا ممّا أخبر الثقة بحرمته» أو السلب كما في قولنا: «هذا ممّا أخبر الثقة بعدم حرمته» أو لم يرتبط بمرحلة الجعل الشرعي، بل بمرحلة الامتثال، كما في المقام، فتأمّل.

المناقشة الكبروية

وأمّا المناقشة في الكبرى فقد قال (رحمه اللّه) : «إنّ معنى جعل الأمارة حجّة هو كونها وسطاً لإثبات متعلقها وإحراز مؤداها، فيكون حالها حال العلم، وهل يمكن أن يقال: إنه لا يصح التعبد بمتعلق العلم، ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية؟، والأمارة بعد جعلها حجة تكون كالعلم»(2).

ص: 21


1- أجود التقريرات 3: 15.
2- فوائد الأصول 3: 122.

ثمّ قال (رحمه اللّه) : «وبالجملة: صحّة التعبّد بالأمارة وجواز اسناد مؤدّاها إلى الشارع من اللوازم التي لا تنفك عن حجيتها، ولا يعقل التفكيك بينهما، فمن حرمة التعبد بالأمارة التي لم يعلم بها من الشارع -كما هو مقتضى الأدلة المتقدمة- يستكشف عدم حجّيتها»(1).

والخلاصة: أنّ جواز الإسناد لازم مساو للحجّية فانتفاؤه كاشف عن انتفائها.

وأُورد عليه في المنتقى بقوله: «إنّنا نسائل المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ونقول له: إن جواز الاستناد الذي فرضه من آثار الحجية هل يترتب على الوجود الواقعي للحجية - فإنه فرض للحجة ثبوتاً واقعياً يتعلق به العلم والجعل- أم أنه يترتب على الوجود الواصل لها؟

لا يمكنه الالتزام بالأول؛ فإنه خلاف الوجدان؛ فإنّه لا يصح إسناد الحكم الى المولى مع عدم العلم بالوجود الواقعي للحجة، وخلاف ما التزم به من أنّ التشريع حرام، وهو يحصل مع عدم العلم، سواء كان الحكم ثابتاً واقعاً أم لا، فإنّ حكم العقل بقبح التشريع موضوعي لا طريقي، والالتزام بالثاني لا ينفعه، إذ الفرض عدم الوصول فيما نحن فيه، فيترتب عدم جواز الاستناد والإسناد، لكن لا ينفع في نفي الحجية الواقعية الذي حاول الشيخ وتابعه هو (قدس سره) لنفيها بنفي جواز الاستناد»(2).

وهو لا يخلو من تأمّل، إذ المقصود نفي الحجّية الاثباتية بنفي جواز

ص: 22


1- فوائد الأصول 3: 123.
2- منتقى الأصول 4: 197-198.

الاسناد، وإلاّ لم يتمّ كلامه في أنّ للحجّية وجوداً واقعياً لا يناط بالعلم والجهل وقد سبق ذكر كلام المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في التقرير الأوّل، فراجع.

والخلاصة: أنّ مفاد الأدلّة المذكورة نفي ترتّب آثار الحجّية، لا نفي كون المشكوك حجّة واقعاً، فلاحظ.

نعم يمكن المناقشة في المبنى المذكور بأنّنا لا نسلّم كون معنى جعل الحجّية هو جعل الطريقية. وقد مضى الكلام في ذلك فراجع.

التقرير الثالث: الاستصحاب

اشارة

وله أنحاء:

1- استصحاب عدم الحجّية.

2- استصحاب عدم وجوب العمل بالمشكوك.

3- استصحاب عدم إيجاب العمل به.

والأوّل استصحاب لحكم وضعي، والثاني استصحاب لحكم تكليفي، ونسبته إلى الثالث نسبة الإنكسار إلى الكسر، فالوجوب مطاوعة للإيجاب بمعنى إنشاء الحكم. وحيث إنّ هذه جميعاً من الأُمور الحادثة يستصحب عدمها، فيثبت به ما يترتّب على عدم هذا الحادث المشكوك فيه - كحرمة العمل به.

إشكال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الاستصحاب

إلاّ أنّ الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) أشكل على الاستصحاب بما توضيحه: أنّ الأثر على نحوين:

1- الأثر المترتّب على عدم الحادث. وفي مثل ذلك يصحّ استصحاب

ص: 23

عدم الحادث المشكوك لترتيب الأثر.

مثلا لو نذر التصدّق إن لم يأت زيد يوم الجمعة، وشكّ في مجيئه وعدمه أمكن استصحاب عدم مجيء زيد ليترتّب أثره وهو التصدّق.

2 - الأثر المترتّب على عدم العلم بالحادث. بأن يكون موضوع الحكم عدم العلم، ففي مثل ذلك: يكفي الشكّ ولا يحتاج إلى إحراز العدم بحكم الاستصحاب.

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ، فإنّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ»(1).

مثلاً: إذا شككنا في الإتيان بالظهر وعدمه والوقت باقٍ، فبمجرد الشك يحكم العقل بلزوم الإتيان بالظهر؛ لأنّ «الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية» ولا حاجة لاستصحاب عدم الإتيان بالظهر ليترتب عليه وجوب الإتيان بها؛ لأن الأثر يترتب بمجرد الشك في الإتيان، ولا حاجة إلى إثبات عدم الإتيان بالاستصحاب، ليترتب الأثر المزبور.

ونحوه جواز الشرب، فإنّه أثر الشكّ في الطهارة والنجاسة، لا أثر الطهارة الواقعية، فلا يحتاج إلى إثبات الطهارة الواقعية بالتعبّد الاستصحابي - مثلا- بل يكفي مجرّد الشكّ في ذلك، ليترتّب الأثر المذكور.

والخلاصة: أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع المشكوك لا على نفس الشكّ.

ص: 24


1- فرائد الأصول 1: 128.

وما نحن فيه من القسم الثاني، فإنّ حرمة التعبّد بالظنّ وحرمة الإسناد يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد، ولا حاجة إلى احراز عدم ورود التعبّد، ليحتاج في ذلك إلى الأصل ثمّ إثبات الحرمة.

والنتيجة: أنّه لا يترتّب على الاستصحاب أثر عملي كي يتمسّك به لإثبات حرمة التعبّد بالظنّ؛ لأنّها أثر لنفس الشكّ في حجّية الظنّ. فإجراء الأصل في المشكوك بعد ترتّب الأثر على نفس الشكّ يكون لغواً، بل ذكر المحقّق النائيني (رحمه اللّه) أنّ إجراء الاستصحاب لإثبات هذا الأثر تحصيل للحاصل، بل هو أسوأ حالا منه.

فإنّ تحصيل الحاصل إنّما يتحقّق فيما إذا كان المحصّل والحاصل من سنخ واحد - بأن كان كلاهما وجدانيين أو تعبّديين - وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبّد، فهو أسوأ حالا من تحصيل الحاصل(1).

مناقشتان لصاحب الكفاية في إشكال الشيخ

اشارة

هذا ولكن المحقّق الخراساني في (درره) أشكل على ما أفاده الشيخ الأعظم بوجهين:

1- الحاجة إلى الأثر إنّما هو في الأُصول الموضوعية

الوجه الأوّل: أنّ الحاجة إلى الأثر في جريان الأصل إنّما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البيع أثر عملي ما

ص: 25


1- فوائد الأصول 4: 132.

وراء المؤدى، بل يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدى - من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية وعدمه في الاستصحابات العدمية- بداهة أنّ وجوب الشيء أو عدم وجوبه بنفسه من الآثار التي يصحّ جريان الإصل بلحاظها، فلا حاجة إلى أثرٍ آخر وراء ذلك، والحجية وعدمها من جملة الأحكام فيجري الاستصحاب عدم الحجية عند الشك فيها بلا إنتظار أثر آخر وراء عدم الحجية، فإنّ استصحاب عدم الحجية كاستصحاب عدم الوجوب، فكما أنّه لا يتوقف استصحاب عدم الوجوب على أثرٍ آخر وراء نفس عدم الوجوب، كذلك استصحاب عدم الحجّية(1).

إشكال المحقّق النائيني في المناقشة الأُولى

إلاّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه اللّه) لم يرتضِ هذه المناقشة وذكر: أنّ الأُصول إنّما تكون وظائف عملية، والمجعول فيها هو الجري العملي، ولمّا كانت الأُصول الحكمية بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدّى كان الأصل جارياً بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدّى، وإلاّ فلو فرض أصل حكمي لا يقتضي الجري العملي فلا يجري لعدم صحّة التعبّد به، والحجّية بوجودها الواقعي لا يترتّب عليها أثر عملي أصلا، والآثار المترتّبة عليها:

منها: ما يترتّب عليها بوجودها العلمي ككونها منجّزة ومعذّرة.

ومنها: ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها كحرمة التعبّد والإسناد، فعدم الحجّية الواقعية لا يقتضي الجري العملي حتّى يجري استصحاب

ص: 26


1- فوائد الأصول 3: 126-127.

العدم؛ إذ ليس لإثبات عدم الحجّية أثر إلاّ حرمة التعبّد، وهو حاصل بنفس الشكّ، فجريان الأصل لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل أسوأ حالاً منه(1).

بحثان

أقول: الذي يبدو في النظر أنّ هنالك بحثين:

أ- بحثاً كبروياً.

ب- وبحثاً صغروياً.

أ- بحث كبروي في الحاجة إلى الأثر وراء المؤدّى في الأُصول الحكمية

أمّا البحث الكبروي وهو الحاجة إلى الأثر وراء المؤدّى في الأُصول الحكمية، فالظاهر أنّ كلام المحقّق الخراساني محلّ تأمّل؛ إذ جعل أصل حكمي لا يترتّب عليه أثر وراء المؤدّى، ولا يرتبط بالجري العملي مطلقاً لغو.

وعلى مثل ذلك بني انحلال العلم الإجمالي إذا كان أحد الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء.

فلو علم بوقوع قطرة دم إمّا على ثوبه أو على ثوب خارج عن محلّ ابتلائه لا تجري أصالة الطهارة في الثوب الخارج، لعدم ترتّب أثر على ذلك، فتجري في ثوبه بلا معارض، وينحلّ بذلك العلم الإجمالي.

بينما على ما ذكره صاحب الكفاية ينبغي أن يقال بجريان أصالة الطهارة في الثوب الخارج، وإن لم يترتّب عليه أثر عملي؛ إذ لا يشترط في جريان الأصل الحكمي ترتّب أثر عليه - وراء المؤدّى - فيتعارض الأصلان

ص: 27


1- فوائد الأصول 3: 127-129.

ويتساقطان، ويجب الاجتناب عن الثوب الداخل في محل الابتلاء.

والتفريق بين الأُصول الجارية في الموضوعات الكلية والجارية في الجزئية بلا وجه، لوحدة الملاك في الاثنين، كالتفريق بين الأُصول التي تفيد أحكاماً تكليفية، والتي تفيد أحكاماً وضعية.

قال صاحب الكفاية: «إنّه لمّا كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلف نحو تحركه، لو لم يكن له داعٍ آخر - ولا يكاد يكون ذلك إلاّ فيما يمكن عادةً ابتلاؤه به، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلاً، ضرورة أنّه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل - كان الابتلاء بجميع الأطراف مما لابد منه في تأثير العلم، فإنّه بدونه لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به»(1).

بل ذكر صاحب الكفاية أنّ هذا الملاك بعينه موجود في الشبهة الوجوبية أيضاً، وقال: «كما أنّه إذا كان فعل الشيء الذي كان متعلقاً لغرض المولى ممّا لا يكاد عادة أن يتركه العبد وأن لا يكون له داع إليه، لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلا»(2).

ب- بحث صغروي في وجود الأثر لاستصحاب عدم الحجّية في المقام

وأمّا البحث الصغروي، فهو البحث في ترتّب الأثر على استصحاب عدم الحجّية في المقام؛ إذ قد يقال: إنّه لغو، لترتّب الأثر على نفس الشكّ - كما سبق تقريره.

ص: 28


1- كفاية الأصول: 361.
2- كفاية الأصول: 361 (الهامش).

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنّ الأثر هو تحويل الإستناد من الأصل العقلي إلى الأصل الشرعي - إن كانا طوليين -, وضميمة الأصل الشرعي إلى الأصل العقلي - أنّ فرض كونهما عرضيين؛ وذلك مثل جعل الشارع البراءة في موارد الشكّ في التكليف، بقوله (عليه السلام) :«رفع ما لا يعلمون» مع حكم العقل بالبراءة و قبح العقاب بلا بيان، فإنّ مستند المكلّف قبل ورود البيان الشرعي هو القاعدة العقلية، وبعد وروده يرتفع موضوع القاعدة العقلية، أي عدم البيان بوجود البيان الشرعي، فتنتفي القاعدة بانتفاء موضوعها، ويكون مستند المكلّف هو الأصل الشرعي.

والحاصل: كما أنّ بيان الحرمة أو عدم الحرمة بالدليل الاجتهادي بيان رافع لموضوع القاعدة، كذلك بيان الحرمة أو عدم الحرمة بالأصل العملي بيان رافع لموضوعها، وبعد ارتفاع القاعدة يظلّ المستند هو الأصل الشرعي.

وقد يسأل: عن أثر هذا التحويل.

والجواب: أنّه قد يفرض له آثار متعدّدة منها أنّه سبب للمزيد من الباعثية والتأكيد، فإنّ كثيراً من الناس لا يحركهم البعث العقلي، فلابدّ من ضميمة البعث الشرعي، أو ضميمة الاستناد إلى البعث الشرعي، ولعلّه لأجل هذا جعل الشارع في بعض الموارد الحكم على طرفي الشيء، فأنشأ حكماً على الشيء وحكماً آخر على ضدّه العام.

وقد ذكر الفقهاء أنّ فعل صلاة الليل مستحبّ، وتركها مكروه، وكذا الأمر في السواك، والزواج ولبس الإمام للرداء، وإسدال الحنك للمصلّي وتزيّن المرأة في الصلاة، إلى غير ذلك من الموارد.

ص: 29

ففي المقام يكون الأصل الشرعي هو المستند بالفعل، والأصل العقلي مستنداً بالقوّة، بمعنى أنّه لو لم يكن الأصل الشرعي لكان هو المستند. فالقول بأنّه: لا حاجة إلى الاستصحاب لا يخلو من نظر.

ثمّ إنّه قد يجاب - نقضاً - بالمنع عن العمل بالقياس؛ إذ أيّة فائدة تترتّب على هذا المنع مع كون العقل مستقلا بعدم صحّة الاسناد بمجرّد الشكّ.

والجواب عن ذلك: أنّ الأثر هو نفي توهّم حجّية القياس لبناء العقلاء عليه في مقام العمل، كبنائهم على الأخذ بخبر الثقة مثلا، فيكون من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل ببناء العقلاء. فتأمّل.

حلّ محذور تحصيل الحاصل

يبقى الكلام في محذور: تحصيل الحاصل.

وقد دفع هذا المحذور بما توضيحه: أنّ تحصيل الحاصل إنّما يتحقّق لو كان موضوع المحصّل أوّلا باقياً حين وجود المحصّل الثاني، أمّا لو ارتفع موضوعه - بوجوده - فلا وجود للمحصّل أوّلا حتّى يكون تحصيل المحصّل الثاني تحصيلا للحاصل.

مثلا: في باب البراءة العقلية والشرعية: موضوع حكم العقل اللاّبيان، وعدم البيان كما ينتفي ببيان الوضع، كذلك ينتفي ببيان الرفع، وكما لا مجرى للأصل العقلي مع بيان الوضع، كذلك لا مجرى له مع بيان الرفع، وحيث إنّ الأصل الشرعي بيان للرفع يرتفع موضوع القاعدة العقلية، فلا يكون ورود الأصل الشرعي تحصيلا للحاصل؛ إذ لا حاصل.

وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ مفاد استصحاب عدم الحجّية « عدم

ص: 30

الحجّية » - ولو ظاهراً، فكما أنّ المولى لو أنشأ الحجّية لشيء - كخبر العدل مثلا - يرتفع به موضوع القاعدة العقلية أي الشكّ في الحجّية، كذلك لو أنشأ اللاّحجّية، فيكون حكم العقل حينئذ مرتفعاً، من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ ويكون وزان ذلك وزان قيام دليل اجتهادي على عدم الحجّية - كالدليل القائم على عدم حجّية القياس مثلاً.

2- الأثر موجود في إستصحاب عدم الحجّية

الوجه الثاني: سلّمنا كون الحجّية ممّا يتوقّف جريان الأصل فيها على ملاحظة ما يترتّب عليها من الآثار الشرعية، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع عن استصحاب الحجّية؛ إذ الأثر إن كان يترتّب على الواقع فقط: فلا مجال إلاّ للاستصحاب، وإن كان يترتّب على الشكّ فقط فلا مجال إلاّ للقاعدة المضروبة لحالة الشكّ، وإن كان يترتّب على كلّ من الواقع والشكّ فلكلّ منهما مجاز. إلاّ أنّ الاستصحاب يتقدّم لحكومته عليها.

وما نحن فيه من القسم الثالث، فإنّ حرمة التعبّد كما تكون أثراً للشكّ في الحجّية، كذلك تكون أثراً لعدم الحجّية، فيكون الشكّ في الحجّية مورداً لكون الاستصحاب والقاعدة المضروبة في حال الشكّ.

إلاّ أنّ الاستصحاب يتقدّم على القاعدة لحكومته عليها، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة.

ايرادان للمحقّق النائيني (رحمه اللّه) على المناقشة الثانية

هذا ما ذكره صاحب الكفاية في مناقشته الثانية.

إلاّ أنّ المحقّق النائيني (رحمه اللّه) لم يرتض ذلك، وأُورد على ما ذكره صاحب

ص: 31

الكفاية بإيرادين:

1- لا يعقل كون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع

الأوّل: أنّه لا يعقل أن كون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع(1).

ولم يذكر (رحمه اللّه) برهاناً على هذه الدعوى.

والظاهر: أنّه لا مانع - من الناحية الثبوتية - من ذلك، بل الظاهر تحقّق ذلك في المقام، فإنّ عدم الحجّية موضوع لعدم جواز الإسناد واقعاً، والشكّ في الحجّية موضوع للأثر المذكور بعينه.

ويدلّ على الأوّل ما دلّ على حرمة البدعة، إذ إنّها عبارة عن إدخال ما ليس من الدين في الدين.

ويدلّ على الثاني ما دلّ على حرمة القول بغير علم - كقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(2). وما دلّ على حرمة الافتاء بغير علم، وما دلّ على حرمة القضاء بغير علم، وما دلّ على حرمة تفسير القرآن الكريم بغير علم، فهنالك جعلا مستقلان يترتّب عليهما الأثر المذكور.

2 - تقدّم رتبة تحقّق موضوع القاعدة على رتبة تحقّق موضوع الإستصحاب

الثاني: ما ذكره (رحمه اللّه) أيضاً حيث قال: «مع أنّه على هذا الفرض لا يجري الاستصحاب أيضاً؛ لأن الأثر يترتب بمجرد الشك، لتحقق موضوعه، فلا

ص: 32


1- فوائد الأصول 3: 130.
2- البقرة: 169.

يبقى مجال لجريان الاستصحاب؛ لأنه لا تصل النوبة إلى إثبات بقاء الواقع ليجري فيه الاستصحاب؛ فإنه في المرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه الأثر، فأي فائدة في جريان الاستصحاب»(1).

أقول: التقدّم نوعان: زماني ورتبي.

أمّا التقدّم الزماني لوجود موضوع على وجود موضوع آخر فليس ملاكاً للتقديم؛ ولذا لو شكّ في طهارة شيء ونجاسته، فأجرى أصالة الطهارة، ثمّ قامت البيّنة على نجاسته أو طهارته، كانت الأمارة هي المحكّمة، مع تأخّرها زماناً.

وعليه لو فرضنا أنّ أركان الاستصحاب تأخّرت زماناً عن موضوع القاعدة المضروبة للشكّ فلا يستلزم ذلك تقدّمها عليه، مع أنّه لا كلّية للتقدّم الزماني؛ إذ إنّه يتحقّق لو شكّ ثمّ لاحظ الحالة السابقة.

أمّا لو لاحظ الحالة السابقة أوّلا ثمّ شكّ في الحجّية، ففي هذه الصورة يتحقّق موضوع الاستصحاب والقاعدة في آن زماني واحد.

وأمّا التقدّم الرتبي، فهو لا يكون إلاّ لملاك يقتضيه - كدوران وجود الشيء مدار وجود شيء آخر وعدمه مدار عدمه، وهو ما يسمّى ب«التقدّم بالعلّية» والظاهر أنّه لا ملاك يقتضي التقدّم الرتبي في المقام.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) مستنصراً للشيخ الأعظم (رحمه اللّه) لا يخلو من نظر.

ص: 33


1- فوائد الأصول 3: 130-131.

هل تجري قوانين الحكومة في الأُصول المتوافقة؟

يبقى الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية أخيراً من تقدّم استصحاب الطهارة على أصالة الطهارة بالحكومة.

وهو لا يخلو من تأمّل؛ إذ قد يدّعى أنّ الحكومة إنّما تكون في الأُصول المتخالفة في النتيجة - كحكومة استصحاب طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، وأمّا الأُصول المتوافقة فلا حكومة فيها، بل يجري الأصل الحاكم والمحكوم في عرض واحد - كاستصحاب طهارة الماء وجواز شربه؛ وذلك لترتّب لوازم يصعب الالتزام بها على مبنى الحكومة:

منها: إلغاء أصالة الطهارة في معظم الموارد؛ إذ الشيء إمّا معلوم الطهارة سابقاً أو معلوم النجاسة سابقاً، فلا يدع الاستصحاب مجالا لأصالة الطهارة، إلاّ في موارد نادرة، كتوارد الحالتين المتضادّتين بلا علم بالسابق واللاحق منهما.

ومنها: إلغاء أصالة البراءة في معظم الموارد، لنفس السبب السابق.

ومنها: حصول الإشكال في صحيحة زرارة الثانية، الواردة في الاستصحاب، حيث علّل الإمام (عليه السلام) عدم إعادة الصلاة التي صلاّها في الثوب المشكوك ب- «أنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(1) مع وجود الحاكم على استصحاب الطهارة، وهو استصحاب عدم الملاقاة؛ إذ الشكّ في طهارة

ص: 34


1- تهذيب الأحكام 1: 422.

الثوب ونجاسته، مسبّب عن الشكّ في ملاقاته للدم وعدم ملاقاته، ومع ذلك أجرى الإمام (عليه السلام) الاستصحاب في المسبّب، أي الطهارة.

ومنها: غير ذلك. وتفصيل الكلام والنقض والإبرام موكول إلى محلّه.

تتميم: في جريان إستصحاب الحجّية وعدمه

اشارة

لو فرض عدم جريان «إستصحاب عدم الحجّية» - لكونه لغواً كما فرضه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، أو لكونه تحصيلا للحاصل كما فرضه المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ، فهل يجري استصحاب الحجّية، فيما لو تمّت أركانه؟

مثلا لو شككنا في حجّية فتوى المجتهد بعد موته فهل يمكن التمسّك باستصحاب بقاء الحجّية؟ وكذا الأمر في استصحاب بقاء الحجّية عند الشكّ في نسخها؟

قد يتوهّم: أنّ استحالة التعبّد بأحد النقيضين يلازم استحالة التعبّد بالنقيض الآخر؛ إذ القدرة إنّما تتعلّق بالطرفين، ولا يمكن تعلّقها بطرف واحد.

مثلا: لا يصحّ أن يقال: «إنّ عدم الطيران مقدور لزيد» وذلك لعدم قدرته على «الطيران»، وكذا لا يصحّ أن يقال: «إنّ التحيّز مقدور للإنسان» وذلك لعدم كون النقيض - أي عدم التحيّز- مقدوراً له، فالقدرة لا تطلق ب«عدم الطيران» ول«بالتحيّز» بل الأمر بالنسبة إليهما قسر وإلجاء، وحيث إنّ التعبّد بعدم الحجّية غير ممكن، يكون التعبّد بالحجّية غير ممكن أيضاً.

جوابان على الإشكال

وأُجيب عن ذلك بوجهين: نذكرهما بشيء من التوضيح:

ص: 35

الوجه الأوّل: أنّ الحجّية وعدمها وإن كانا نقيضين، إلاّ أنّ التعبّد بالحجّية والتعبّد بعدم الحجّية ليسا نقيضين، لأنّهما أمران وجوديان، ولإمكان ارتفاعهما بعدم التعبّد مطلقاً، مع أنّ النقيضين: أمران أحدهما وجودي والآخر عدمي، لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما.

نعم عدم التعبّد والتعبّد نقيضان، وحيث إنّ عدم التعبّد بالحجّية مقدور يكون نقيضه وهو - التعبّد بالحجّية- مقدوراً أيضاً.

الوجه الثاني: لو سلّمنا أنّ التعبّد بالحجّية والتعبّد بالعدم نقيضان، لكن لا نسلّم أنّ امتناع أحدهما يستلزم امتناع الآخر؛ إذ الاستلزام المذكور ثابت في الامتناع الذي يسلب الاختيار، وأمّا الامتناع الذي لا يسلب الاختيار بل يمتنع لأجل أنّه لغو فلا يصدر من الحكيم بما هو حكيم، فلا يمنع من تحقّق نقيضه في مورد لا يكون لغواً.

مثلا: لو كانت الحركة ممتنعة امتناعاً بلحاظ الحكمة لعدم كونها ذات أثر فهل يتوهّم أنّ السكون(1) ممتنع أيضاً إذا فرض كونه ذا أثر؟ وما نحن فيه من هذا القبيل.

لكن لا يخفى أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ لو كان محذور التعبّد بعدم الحجّية هو: استلزامه للغويته.

أمّا لو كان المحذور هو (تحصيل الحاصل) فلا يتمّ، لأنّه امتناع يسلب الاختيار.

ص: 36


1- بناءً على كونها نقيضاً للحركة (منه (رحمه اللّه) ).

التقرير الرابع: التمسّك بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم

اشارة

التقرير الرابع: هو إثبات حرمة العمل بالظنّ بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1)، وقوله سبحانه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}(2)، وقوله عزّ من قائل - حكاية عن الكفار: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}(3).

ومقتضى هذه الآيات الكريمات: حرمة العمل بالظنّ إلاّ ما خرج بالدليل، ونسبة أدلّة الحجّية - كالأدلّة الدالّة على حجّية خبر الثقة - نسبة المخصّص إلى العام، فالشكّ في حجّية شيء - كالشهرة الفتوائية مثلا - يكون شكّاً في التخصيص الزائد، والمرجع فيه عموم العام.

وقد نسب هذا التقرير إلى الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) وإن لم أجده بهذا النحو في الرسائل.

إيرادان

اشارة

وأُورد على هذا التقرير بإيرادين:

الإيراد الأوّل: مفاد العمومات الإرشاد إلى حكم العقل

الأوّل: ما في المصباح: من أنّ هذه الآيات الكريمات إرشاد إلى حكم العقل، والأمر الإرشادي لا يمكن التمسّك به بما هو هو، بل ينبغي الرجوع

ص: 37


1- الإسراء: 36.
2- النجم: 28.
3- الجاثية: 32.

إلى المرشد إليه.

قال: «إنّ الآيات الشريفة الناهية عن العمل بغير العلم إرشاد إلى حكم العقل بعدم صحة الاعتماد على الظن، وإنّ العمل به مما لا يحصل معه الأمن من العقاب؛ لإحتمال مخالفته للواقع، والعبد لابد له من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب؛ ولا يحصل الأمن إلاّ بالعلم أو بما ينتهي إليه، كالعلم بأمارة دلّ على حجيتها دليل علمي، وقد أُشير إلى ذلك في عدة من الآيات:

منها: قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1)، وقوله تعالى: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}(2)، وبعد كون الآيات الناهية إرشاداً إلى حكم العقل لا تكون قابلة للتخصيص، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}(3) بأن يقال: إلاّ الظن الفلاني، فإنّه يغني عن الحق، فلم يرد عليها تخصيص، ولن يرد، فإنّ لسانها آبٍ عن التخصيص.

وأما الظن الذي قام على حجيته في مورد دليل علمي فليس فيه الاعتماد على الظن، بل الاعتماد على الدليل العلمي القائم على حجية الظن، فهو المؤمّن من العقاب لا الظن، كما أنّه في موارد جريان أصالة البراءة ليس الاعتماد - في ترك ما يحتمل الوجوب أو فعل ما يحتمل الحرمة- على

ص: 38


1- البقرة: 111.
2- إبراهيم: 10.
3- النجم: 28.

مجرد احتمال عدم الوجوب واحتمال عدم الحرمة، بل الاعتماد إنما هو على دليل علمي دلّ على عدم لزوم الاعتناء باحتمال الوجوب أو الحرمة.

فتحصل أنّ الآيات الشريفة ليست واردة لبيان حكم مولوي ليصحّ التمسّك بها عند الشكّ في الحجّية»(1).

مناقشة

وما ذكره لا يخلو من نظر؛ إذ صرف توافق دليل شرعي مع حكم العقل لا يقتضي صرفه عن ظاهره وحمله على الإرشاد، فلا مانع من القول بكون العمل بالظنّ قبيحاً عقلا وحراماً شرعاً، ولهذا الأمر مصاديق كثيرة.

مثلا: قبح الظلم عقلا لا يقتضي حمل النواهي الشرعية عنه على الارشاد، وكذا في قبح أكل أموال الناس بالباطل، وقبح شرب الخمر، وقبح الكذب، وقبح قتل النفس.

كما أنّ حسن ردّ الأمانات إلى أهلها عقلاً لا يقتضي حمل الأمر الوارد بذلك على الإرشاد، وكذا الأمر في وجوب المعرفة ونحوه.

ويزداد الأمر اعضالاً لو قيل إنّ مخالفة الأمر العقلي لا تستوجب العقاب؛ إذ عليه ينتفي العقاب بالمرّة؛ إذ لا أمر شرعي، والأمر العقلي لا يستوجب العقاب، فينتفي استحقاق العقاب بالمرّة.

نعم، في صورة وجود محذور عقلي من الحمل على المولوية نضطرّ إلى الحمل على الإرشاد - كما قيل بذلك في أوامر الطاعة- وكذا في صورة عدم ظهور الأمر في المولوية - كما في تلك الأوامر على المختار.

ص: 39


1- مصباح الأصول 2: 114-115.
الإيراد الثاني: التمسّك بالعمومات تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية

الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) من: «أنّ موضوع تلك الأدلّة إنما هو الظنون التي لم يعتبر الشارع لها صفة الحجية والوسطية في الإثبات، وأما هي فخارجة عن موضوعها على نحو الحكومة - على ما سيجيء بيانه في محله إن شاء اللّه تعالى- فإذا شكّ في اعتبار الحجية لأمارة خاصة فيكون التمسك بها لإثبات عدم حجيتها تمسكاً بالعموم في الشبهة المصداقية وهو غير جائز»(1).

وفي المصباح أوضح كلامه (رحمه اللّه) بقوله: «إنّ أدلّة حجّية الأمارات حاكمة على الأدلة المانعة؛ لأنّ دليل حجية الأمارة يخرجها عن الأدلة المانعة موضوعاً؛ إذ موضوعها غير العلم، ومفاد دليل الحجية كون الأمارة علماً بالتعبد، فهو نافٍ للحكم بلسان نفي الموضوع وتخصيص بلسان الحكومة، فعند الشكّ في حجية شيء لا يصحّ التمسك بالعمومات المانعة؛ لكون الشبهة مصداقية، باعتبار أنّه يحتمل أن يكون هذا الشيء علماً بالتعبّد»(2).

مناقشات
اشارة

ويرد عليه أُمور:

1- الأصل الموضوعي يُنقّح إندراج الأمارة المشكوكة في موضوع العمومات

الأوّل: أنّ هنالك أصلا موضوعياً ينقّح إندراج الأمارة المشكوكة في موضوع العمومات الرادعة، وهو استصحاب عدم جعل العلمية التعبّدية.

ص: 40


1- أجود التقريرات 3: 148.
2- مصباح الأصول 2: 113-114.

إذ الأمارة المشكوكة لم تكن «علماً تعبّداً» ولم يجعل لها الشارع صفة «الطريقية» و«المحرزية» و«الوسطية في الإثبات» منذ البداية، فإذا شكّ في طرو ذلك عليها إستصحب العدم.

وفيه: أنّ التمسّك بالأصل لإدخال الأمارة المشكوكة في الموضوع يوجب خروجها منه، فهو ممّا يلزم من وجوده عدمه، ومن إدراجه إخراجه.

بيان ذلك: أنّ الموضوع هو ما ليس لك به علم، وتحقّقه متقوّم بالشكّ، وهو ينتفي في حالتين:

الأُولى: العلم بالحجّية - كما في خبر الثقة.

الثانية: العلم بعدم الحجّية - كما في القياس.

فإذا استصحبنا عدم كون الأمارة المشكوكة علماً تعبّدياً نعلم علماً تعبّدياً بعدم الحجّية فتخرج الأمارة المشكوكة عن الموضوع؛ إذ لا يظلّ ثمّة شكّ مع العلم التعبّدي بعدم الحجّية.

والخلاصة: إنّ الأمر دائر بين محذورين، إمّا التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية - في صورة عدم الاستصحاب - أو الانقلاب - في صورة الاستصحاب.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ عدم العلم متحقّق في مورد الأمارة المشكوكة ولو بعد الاستصحاب؛ لعدم العلم بالواقع، مع عدم قيام حجّة موافقة.

وكذا في القياس، إذ لا علم فيه بالواقع، ولم تقم حجّة تنزل مؤدّاه منزلة الواقع، فيصحّ في مثله أن يقال: {لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1) - وإن

ص: 41


1- الإسراء: 36.

كان هنالك علم بعدم الحجّية. وعليه فلا يلزم الانقلاب، فتأمّل.

2- النقض بالتمسّك بالأُصول العملية عند الشكّ في وجود الحجّة

الثاني: ما في المصباح من: «النقض بالتمسّك بالأُصول العملية عند الشكّ في وجود الحجّة أو حجّية الموجود، فإنّ موضوعها هو الشكّ في الواقع مع عدم قيام حجّة عليه، وحيث يحتمل وجود الحجّة في الموارد المشكوكة يكون التمسّك بأدلّة الأُصول تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية، بلا فرق من ذلك بين الشبهات الموضوعية والحكمية، مع أنّ الرجوع إلى الأُصول العملية في الشبهات الحكمية والموضوعية ممّا لا إشكال فيه، وتسالم عليه الفقهاء ومنهم المحقّق النائيني (رحمه اللّه) »(1).

وأُورد عليه من البحوث:

«بإمكان التخلّص بالاستصحاب الموضوعي الذي ينقّح به عدم وجود الحجّة»(2).

وفيه: إن مآل ذلك إلى إلغاء الأصل العملي، لأنّ استصحاب عدم الحجّية لا يدع مجالاً لغيره من الأُصول العملية، لحكومته أو وروده عليها.

اللّهمّ إلاّ أن نقول: بعدم الحكومة في الأُصول المتوافقة.

والأمر في المقام كذلك؛ إذ استصحاب عدم الحجّية مفاده عدم الوجوب والبراءة - مثلا - مفادها عدم الوجوب أيضاً. فتأمّل.

ص: 42


1- مصباح الأصول 2: 114-115.
2- بحوث في علم الأصول 4: 226.
3 - استلزام ذلك لغوية العمومات الرادعة

الثالث: ما في مبادئ الاستنباط من أنّ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) يستلزم لغوية ما ورد من العمومات الرادعة عن العمل بغير العلم؛ لأنّه مع القطع بعدم الحجّية لا حاجة إلى تلك العمومات، وكذا في صورة القطع بالحجّية، بل لا موضوع لها في الصورتين، فلو لم يمكن التمسّك بها في موارد الشكّ لكان صدورها لغواً محضاً(1).

وأُورد عليه في البحوث: بأنّه أي فائدة أكبر من أن تكون هذه الأدلّة بنفسها من موجبات القطع بعدم الحجّية من جملة من الموارد(2).

وهذا الإيراد غير واضح إذ الحكم لا ينقّح موضوعه المشكوك، فهو نظير أن يقال: إنّ (أكرم العلماء) يوجب بنفسه القطع بكون جملة من الأفراد المشكوك في علمهم علماء. ومن هنا قيل: إنّ الحكم لا يتكفّل موضوعه.

4 - الحكومة إنّما تتحقّق بعد الوصول

الرابع: ما في المصباح من أنّ: «الحجّية الواقعية ممّا لا يترتّب عليها أثر ما لم تصل إلى المكلّف، فالحكومة إنّما هي بعد الوصول، فالعمل بما لم تصل حجّيته إلى المكلّف عمل بغير علم وإن كان حجّة في الواقع؛ إذ كونه حجّة في الواقع - مع عدم علم المكلّف بالحجّية - لا يجعل العمل به عملا بالعلم»(3).

ص: 43


1- بحوث في علم الأصول 4: 226.
2- بحوث في علم الأصول 4: 226.
3- مصباح الأصول 2: 115.

إشكال وتوضيح

وأشكل عليه في البحوث: «بأنّ الأثر الذي ننفي ترتّبه على الحجّية المشكوكة هو المنجّزية والمعذّرية، وأمّا الحاكمية على الدليل المأخوذ فيه عدم العلم فليست بلحاظ المنجّزية والمعذّرية، بل باعتبار المجعول الاعتباري وهو جعل العلمية، أي بلحاظ المرحلة الأُولى من الحجّية لا الثانية، وهي ليست ممّا يقطع بعدمها حين الشكّ»(1).

وقد سبق منه أنّ هنالك مرحلتين:

1- مرحلة جعل الحجّية

2- مرحلة تأثير الحجّية المجعولة واستتباعها للتنجيز والتعذير (الموقف العملي تجاه المولى)(2).

وفيه: إنّ المدّعى ليس أنّ الوجود الواقعي للحاكم لا يؤثّر في الدليل المحكوم توسعة وتضييقاً، فإنّ الحكومة لا تناط بالعلم والجهل، بل هي أمر واقعي يترتّب على وجود الدليل الحاكم في عالم الثبوت؛ ولذا لو قال المولى (الربا حرام) ثمّ قال (لا ربا بين الوالد وولده) ضيّق الدليل الحاكم موضوع الدليل المحكوم، وأخرج منه الربا بين الوالد وولده، إخراجاً تعبّدياً.

بل المدّعى أنّ احتمال الحكومة الواقعية لا أثر له في المقام، لأنّ موضوع العمومات الرادعة ليس ما لم تجعل له العلمية التعبّدية حتّى يقال إنّ الشهرة الفتوائية ممّا لم يعلم المكلّف بجعل العلمية التعبّدية لها أو لا؟

ص: 44


1- بحوث في علم الأصول 4: 226.
2- بحوث في علم الأصول 4: 221.

فلا يقطع باندراجها في الموضوع، بل موضوع العمومات ما لم يعلم المكلّف بجعل العلمية التعبّدية له، وهذا الموضوع منطبق حقيقة على الأمارة المشكوكة؛ لأنّ المكلّف لا يعلم أنّ الشارع جعل لها العلمية التعبّدية أو لا، وحيث انطبق الموضوع ترتّب الحكم وهو لا تقف.

ونظير ذلك ما لو فرض أنّ تحريم التصرّف في مال الغير رتّب على «عدم إحراز رضاه»، فإنّه مع الشكّ في الرضا وعدمه لا يجوز التصرّف، وإن احتمل وجود الرضا واقعاً؛ إذ الحرمة لم ترتّب على عدم الرضا، بل على عدم العلم بالرضا، ولا علم بالرضا حقيقة مع الشكّ.

والخلاصة: أنّه مع احتمال كون الأمارة المشكوكة علماً في الواقع -لأجل احتمال وجود الدليل الحاكم واقعاً - إلاّ أنّها مصداق حقيقي للعمل بغير العلم، فتشمله الأدلّة الناهية.

فإشكال البحوث غير وارد على المصباح، وإن كانت عبارته لا تخلو من قصور.

[5- الحكومة رفع للموضوع تعبداً]

[5- الحكومة رفع للموضوع تعبداً] (1)

الخامس: ما في البحوث: من أنّ الحكومة رفع للموضوع تعبّداً لا حقيقة، وحقيقتها: التخصيص بلسان رفع الموضوع، ومع الشكّ في الحاكم يكون المرجع إطلاق المحكوم؛ لأنّه من الشكّ في التخصيص الزائد بحسب واقعة(2).

ص: 45


1- ما بين المعقوفتين من التحقيق.
2- بحوث في علم الأصول 4: 226.

توضيحه: أنّ الشكّ تارةً يكون في وجود الحاكم، وأُخرى في انطباق الحاكم. فإن كان الشكّ في وجود الحاكم كان الحكم إطلاق المحكوم، لأنّه من الشكّ في التخصيص الزائد بحسب واقعه.

مثلا: إذا ورد (الربا حرام)، ثمّ ورد: (لا ربا بين الوالد وولده)، وشككنا في ورود دليل يدلّ على أنّه لا ربا بين المسلم والذمّي، فهذا في واقعه شكّ في طرو تخصيص على الدليل الأوّل، لأن مآل الحكومة إلى نفي الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع، فتحكم أصالة الإطلاق أو أصالة العموم في المقام، ويحكم ببقاء الدليل المحكوم على إطلاقه أو عمومه، إلاّ بالمقدار الذي علم بالتوسعة أو التضييق في موضوع الدليل المحكوم.

أمّا إذا كان الشكّ في انطباق الحاكم فهنا لا يجوز التمسّك لا بالدليل الحاكم ولا بالدليل المحكوم، بل يكون المرجع الأُصول العملية - إن لم يكن دليل اجتهادي حاكم أو وارد.

مثلا: إذا ورد أكرم العلماء، وشككنا في أنّه هل ورد العالم الفاسق ليس بعالم أو لا، وشككنا في كون زيد العالم فاسقاً أو لا؟ فهنا لا يجوز التمسّك لا بأكرم العلماء لتعنونه بحسب الدليل الخاصّ، ولا بالدليل الحاكم للشكّ في وجود الفسق، وحينئذ يكون المرجع الأُصول العملية.

والمقام من القسم الأوّل لأنّ الدليل في قوّة أن يقال: «ما ليس لك به علم فلا تقفه».

وقد ثبتت الحكومة في موارد، إذ قال الشارع خبر العدل علم تعبّدي والبيّنة العادلة علم تعبّدي .. الخ، فإذا شككنا في أنّ الشارع جعل الشهرة الفتوائية - مثلاً- علماً تعبّدياً أو لا؟ كان الشكّ في الواقع شكّاً في

ص: 46

التخصيص الزائد، فتحكم أصالة العموم، هذا ولا يبعد أن يكون هذا الوجه راجعاً في حقيقته إلى الوجه الرابع.

التقرير الخامس

اشارة

إنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم، لكون العمل بالحجّة المشكوكة على تقدير حجّيتها واقعاً: واجباً. وعلى تقدير عدم حجّيتها واقعاً: حراماً. وفي مثله يرجّح جانب التحريم، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

ويرد عليه

أوّلا

ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من منع الدوران؛ لأنّ عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت التحريم، لإطباق الأدلّة الأربعة على عدم جواز التعبّد بما لا يعلم وجوب التعبّد به من الشارع.

ثمّ نظّر (رحمه اللّه) لذلك بالعبادة المشكوكة، فإنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها - كما في أيّام الاستظهار مثلا - كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت الحرمة، فإنّ الحكم بالحرمة لا يتوقّف على العلم بعدم كونها راجحة في تلك الأيّام، بل مجرّد الشكّ في الرجحان يكفي في حرمة الصلاة المذكورة.

والأمر في المقام كذلك، فإنّه لا حاجة إلى العلم بورود النهي عن التعبّد بالظنّ، بل مجرّد الشكّ في جواز التعبّد يكفي في الحكم بحرمة التعبّد(1).

ص: 47


1- فرائد الأصول 1: 129.

وهذه المناقشة مناقشة صغروية.

وبعبارة أُخرى: موضوع القاعدة الدوران، وهو متقوّم بالشكّ ولا شكّ لما ذكر.

وثانياً

أنّ القاعدة المذكورة لا أساس لها، إذ المصالح والمفاسد تختلف باختلاف مراتبها، فربّ مصلحة شديدة تقدّم عند العقلاء على المفسدة الضعيفة؛ ولذا نرى العقلاء يقدمون على بعض الأضرار لأجل ما يترتّب عليها من المنافع الكبيرة، كما هو الملاحظ في التجار وغيرهم.

وفي الفقه نظائر لذلك.

مثلا: لو توقّف انقاذ الغريق على دخول أرضٍ لا يرضى صاحبها بذلك، فإنّه لا شكّ في تقديم الإنقاذ الواجب على التصرّف المحرّم.

والخلاصة: أنّ الأمر من باب التزاحم، وفيه لابدّ من ملاحظة مرجّحات باب التزاحم، كالأهمية واحتمال الأهمية وغيرهما.

ثمّ إنّه قد مضى الكلام حول مبنى الوالد (رضوان اللّه عليه) في الأصل الذي يعول عليه في الظنون فراجع.

يبقى الكلام في جهات تتعلّق بالتشريع

الجهة الأُولى: الظاهر أنّ هنالك عنوانين تعلّق بهما التحريم

الأوّل: إدخال ما يعلم عدم كونه من الدين في الدين.

الثاني: إدخال ما لا يعلم كونه من الدين في الدين.

ويدلّ على تحريم الأوّل: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ

ص: 48

بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}(1).

وهذا ما كان يفعله بعض علماء اليهود والنصارى، حيث كانوا يحرّفون الدين ويتلاعبون به حسب ما تمليه أهواؤهم ومصالحهم.

وهو ما كان يفعله «معاوية» وحاشيته، حيث إنّه صنع «جهازاً» لوضع الأحاديث واختلاقها، ولعلّ أساس «المذهب البكري» بالشكل القائم فعلا هو من صنع ذلك الجهاز.

كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(2). وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالَْيمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ}(3).

وكذا ما يدلّ على حرمة البدعة في الدين كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار»(4).

ويدلّ على الثاني قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(5).

ص: 49


1- البقرة: 79.
2- يونس: 15.
3- الحاقة: 44-47.
4- الكافي 1: 56.
5- الأعراف: 33.

وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1).

وما دلّ على حرمة الافتاء بغير علم كقوله (عليه السلام) في صحيحة ابن الحجّاج: «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم»(2).

وما دلّ على حرمة القضاء بغير علم، كقوله (عليه السلام) : «ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار»(3).

وما دلّ على حرمة تفسير القرآن الكريم بغير علم كقوله (عليه السلام) : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ»(4) وقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب»(5) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن اللّه تعالى: «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي»(6). إلى غير ذلك من الروايات.

وقد أدرج الوالد (رضوان اللّه عليه) في ضمن المحرّمات (القول بلا علم على اللّه تعالى). و (الافتاء بالباطل وبغير علم). و (تفسير الكتاب والسنّة بالرأي). و(القفو فيما لا يعلم).

فهنالك جعلان مستقلان، يتعلّقان بموضوعين مستقلّين.

ص: 50


1- البقرة: 168-169.
2- الكافي 1: 42.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 4.
4- وسائل الشيعة 27: 205.
5- كمال الدين وتمام النعمة: 256-257.
6- وسائل الشيعة 27: 45.
الجهة الثانية

هل قبح التشريع يسري إلى الفعل المتشرّع به بحيث يصير الفعل قبيحاً عقلا وحراماً شرعاً؟ أو أنّه لا يسري إلى الفعل، بل يكون التشريع من الآثام القلبية مع بقاء الفعل المتشرّع به على ما هو عليه؟

ظاهر الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني هو الأوّل. وذهب صاحب الكفاية في حاشية الفرائد والمحقّق العراقي في حاشية الفوائد إلى الثاني.

قال المحقّق النائيني: «إنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه، فيكون الالتزام والتعبد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو عليه، وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلا وحرمته شرعاً. وظاهر قوله (عليه السلام) : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدلّ على حرمة نفس العمل»(1).

أقول: في المقام بحثان:

1- القبح العقلي.

2 - الحرمة الشرعية.

أمّا القبح العقلي فالظاهر عدم ثبوته؛ إذ لا وجه لتسرية القبح من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه، كما هو الأمر في جميع الأحكام العقلية.

وقد مضى ما يشبه المقام في مباحث التجرّي حيث قلنا: إنّ القطع لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي يكون بها الحسن والقبح عند العقل،

ص: 51


1- فوائد الأصول 3: 121.

كما أنّه ليس ملاكاً للمحبوبية أو المبغوضية لدى المولى، بل يبقى العقل على ما كان عليه قبل تعلّق القطع به.

فقتل ابن المولى لا يخرج عن كونه مبغوضاً له ولو اعتقد العبد أنّه عدوّه، وقتل عدوّه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً ولو قطع العبد بأنّه ابنه(1).

وأمّا الحرمة الشرعية، فلم نعثر على دليل يدلّ على حرمة المتشرّع به، فلو فعل عملا ناسباً إلى الشارع أنّه أمر به بعنوان أنّه عبادة، بدون علم، ثمّ بان أنّه كذلك، كان عمله عملا عبادياً، ولم يخل بعباديته تشريعه.

نعم، دلّت الأدلّة على حرمة الإسناد إلى الشارع بلا علم، كما سبقت الإشارة إليه في الجهة الأُولى.

ومنه يظهر النظر في الدليل الذي ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ؛ إذ القضاء بالحقّ وهو لا يعلم إسناد للشارع لما لا يعلم، وهذا الإسناد بنفسه حرام.

الجهة الثالثة

هل الحكم بقبح التعبّد وإسناد الشيء إلى الشارع بلا علم من الأحكام العقلية الطريقية، أو أنّه من الأحكام العقلية الموضوعية؟

ذكر المحقّق النائيني (رحمه اللّه) : أنّ الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين:

الأول: ما يكون للعقل فيه حكم واحد بمناط واحد يعمّ صورة العلم والظنّ والشكّ.

الثاني: ما يكون للعقل فيه حكمان: حكم على الموضوع الواقعي الذي

ص: 52


1- كفاية الأصول: 260.

استقلّ بقبحه، وحكم آخر طريقي على ما يشكّ أنّه من مصاديق الموضوع الواقعي.

مثلا: العقل يحكم بقبح الظلم، وهو عبارة عن التصرّف في أُمور الناس بدون إذنهم - ونحوه- وهذا حكم موضوعي، موضوعه الواقع، ومع الشكّ في الإذن وعدمه يحكم العقل حكماً طريقياً بقبح التصرّف في المشكوك، مخافة أن يكون الإذن غير متحقّق، فيقع المكلّف في مفسدة التصرّف في أموال الناس ظلماً وعدواناً.

فللعقل في باب الظلم حكمان: حكم موضوعي بقبح التصرّف فيما هو مال الناس واقعاً بلا إذن، وحكم آخر طريقي بقبح التصرّف فيما يشكّ في حصول الإذن فيه، فلو خالف المكلّف وأقدم على التصرّف في المشكوك وكان الإذن متحقّقاً في الواقع فليس عليه إلاّ تبعة التجرّي.

إذا اتّضح ذلك فنقول: الظاهر أنّ حكم العقل بقبح التشريع من قبيل الأوّل، بل لا ينبغي التأمّل فيه، فإنّ تمام المناط في نظر العقل هو الاسناد إلى الشارع ما لا يعلم أنّه منه, من غير دخل للواقع في ذلك؛ فلو فُرِضَ أنّ المتعبد به كان في الواقع مما شرّعه الشارع ولكن المكلّف لم يعلم بتشريعه وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح لتحقق تمام المناط والموضوع الذي يستقل العقل بقبحه ولو انعكس الأمر وأسند المكلّف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع ممّا لم يشرّعه الشارع لم يكن المكلّف مشرعاً لا أنه يكون مشرعاً ولمكان جهله يكون معذوراً عند العقل.

ص: 53

وبالجملة: ليس للتشريع واقع يمكن أنْ يصيبه المكلّف أولا يصيبه, بل واقع التشريع هو اسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه, سواء علم المكلّف بالعدم أو ظنّ أو شكّ, وسواء كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم يكن؛ فليس حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح الظلم(1).

أقول: ما ذكره من أنّ الأحكام العقلية قسمان محلّ تأمّل؛ وذلك لمدخلية العلم في موضوع جميع المستقلات العقلية، فمع العلم يحكم العقل بالحسن أو القبح، ومع عدم العلم لا يحكم بالحسن ولا بالقبح، فالإحراز له موضوعية - وجوداً وعدماً - في التحسين والتقبيح العقليين، فالإقدام على الظلم الواقعي بلا علم » ليس قبيحاً عقلا، أي لا يستحقّ فاعله الذمّ ولا العقاب - مع عدم التقصير في المقدّمات- والإقدام على ما يعلم أنّه ظلم بدون كونه ظلماً في الواقع قبيح عقلا، أي يستحقّ فاعله الذمّ والعقاب؛ لأنه نوع من أنواع التجرّي.

وعلى هذا فلا فرق بين القسمين اللذين ذكرهما المحقّق النائيني (رحمه اللّه) فلا فرق بين قولنا: الظلم قبيح، وقولنا: التشريع قبيح.

نعم، لو أُريد بالحسن والقبيح ما هو كمال أو نقص للنفس أو مطلق ما فيه مصلحة أو مفسدة، أو ما يلائم النفس وينافرها أمكن الإنقسام فتأمّل.

وعلى كلّ، فما ذكرناه لا يقدح في النتيجة التي رامها المحقّق النائيني (رحمه اللّه) .

ص: 54


1- فوائد الأصول 3: 125.

ثمّ إنّ هذا كلّه بلحاظ الحكم العقلي، وإمّا بلحاظ الحكم الشرعي فقد تقدّم الكلام فيه، فراجع.

الجهة الرابعة

في حكم الالتزام القلبي بالأمارة المشكوكة الحجّية بلا إسناد لفظي - أو نحوه - إلى الشارع.

وفي هذا المقام بحثان:

الأوّل: هل يمكن الالتزام القلبي بالمشكوك؟

الثاني: هل يجوز الالتزام القلبي به؟

وقد مضى البحث في ذلك في مبحث الموافقة الالتزامية فراجع.

الجهة الخامسة

في حكم العمل بالأمارة المشكوكة بلا إسناد وبلا التزام.

والظاهر أنّه أن استلزم طرح أصل من الأُصول اللازمة العمل كان حراماً، وإلاّ فلا، بل ربما يكون حسناً حينئذ.

مثلا: لو ظنّ ظنّاً غير معتبر عدم وجوب الجمعة واقتضى الاستصحاب الوجوب لم يحقّ له العمل بالظنّ؛ لأنّه يستلزم أصل الاستصحاب اللازم، وكذا لو ظنّ كون الليلة أوّل ليلة من شهر رمضان بظنّ غير معتبر فأتى زوجته مع استصحاب بقاء حيضها.

أمّا لو لم يلزم من العمل بالظنّ ذلك فلا بأس بالعمل، كما لو ظنّ بوجوب ما تردّد بين الوجوب والحرمة، مثلا: لو تردّد حكم دفن الكافر بين «الوجوب» و «الحرمة» وظنّ بالحرمة بسبب وجود رواية ضعيفة - مثلا -

ص: 55

فدفنه كان جائزاً.

والخلاصة: أنّ العمل على ثلاثة أقسام:

فتارةً: يكون محرّماً كما لو استلزم طرح أصل من الأُصول اللازمة، لأنّه مخالفة لحكم الشارع بوجوب العمل بتلك الأُصول حتّى يعلم بخلافها، وليس في المقام لا علم وجداني بالخلاف ولا علم تعبّدي.

وأُخرى: يكون مستحبّاً، كما لو لم يستلزم ذلك وانطبق عليه عنوان حسن كالاحتياط.

وثالثة يكون مباحاً: كما لو لم يستلزم الطرح ولم ينطبق عليه عنوان حسن.

هذا ولكن العمل المزبور ليس عملا بالأمارة المشكوكة، بل هو عمل بأدلّة الاحتياط العقلية أو النقلية، أو بالمشتهيات النفسانية.

إلاّ أن يقال: إنّ وجود الأمارة المشكوكة جزء العلّة في العمل فتأمّل.

ص: 56

المبحث الرابع: ما خرج عن أصالة عدم حجّية الظنّ

اشارة

سبق: إنّ الأصل الذي يعوّل عليه عند الشكّ في حجّية أمارة هو «عدم الحجّية».

إلاّ أنّه خرج عن هذا الأصل - أو قيل بالخروج - على نحو الخروج الموضوعي أُمور.

هذا مع قطع النظر عن إنسداد باب العلم والعلمي، الذي جعله موجباً للرجوع إلى الظنّ مطلقاً أو في الجملة.

فالبحث الآن: في أنَّه هل قام دليل على حجّية هذه الظنون، بما لها من العنوان الخاصّ؟ لا في أنّه هل قام دليل على حجّية عنوان الظنّ المطلق، بحيث تكون هذه العناوين الخاصّة معتبرة باعتبار إندراجها تحت ذلك العنوان - على فرض قيام الدليل على حجّيته.

وفي هذا المبحث فصول:

ص: 57

الفصل الأوّل: في حجّية الظواهر

اشارة

إستنباط الحكم الشرعي من الدليل اللفظي يتوقّف - عادةً - على البحث في ثلاث حيثيات:

1- الصدور.

2- الظهور.

3- الجهة.

أمّا الصدور، فيتوقّف إثباته في غير ما يفيد العلم، -كالمتواتر ونحوه - على أمرين: كبروي وصغروي.

أمّا الكبروي فهو تشخيص «ملاك الحجّية».

فهل الحجّة خبر الثقة؟ أو الأعم منه ومن الحسن؟ أو ما يشمل الضعيف المنجبر بعمل المشهور؟ وهل المرسل حجّة أو لا؟ وهل المضمر حجّة أو لا؟ .. إلى غير ذلك...

وهذه البحوث يتناول بعض مفرداتها «علم الأُصول» وبعضها الآخر «علم الدراية والرجال».

وأمّا الصغروي: فهو إنطباق ذلك الملاك على الخبر.

مثلا: لو اخترنا أنّ الملاك هو «الوثاقة» مثلا فنبحث: إنّ فلاناً ثقة أو لا؟ وإنّ طرق إثبات الوثاقة ماذا؟ فهل الطريق منحصر بشهادة المتقدّمين، كالنجاشي، والطوسي قدس سرهما، أو تكفي شهادة المتأخّرين بالوثاقة أيضاً؟

ص: 58

وهل ورود الراوي في إسناد كامل الزيارة أو تفسير القمّي يدلّ على وثاقته أو لا؟ وهل إدّعاء الإجماع على الوثاقة حجّة أو لا؟ وهل الوكالة عن المعصوم (عليه السلام) دليل على الوثاقة أو لا؟ وهل شيخوخة الإجازة تدلّ على الوثاقة أو لا؟ الخ... وهذا ما يتكفّله «علم الدراية» و«علم الرجال».

وأمّا الجهة: ففيها بحثان: كبروي وصغروي.

أمّا الكبروي: فهو أنّ الأصل في الخبر هل هو صدوره لبيان حكم اللّه الواقعي أو لا؟ وما الحكم في حالة الشكّ؟

وهذا البحث قد يتمّ التعرّض له في مبحث حجّية « الظواهر » - ولو عرضاً.

وأمّا الصغروي: فهو أنّ الخبر الكذائي هل صدر تقية أو لا؟ وهذا البحث يتناوله - عادة - علم الفقه.

ويبقى الكلام في «الظهور».

وفيه بحثان:

1- تشخيص الظهور

وفي هذا البحث: بحوث جزئية وكلّية.

أمّا البحوث الجزئية فهي مثل أنّ لفظ (الصعيد) ظاهر في خصوص التراب أو مطلق الأرض؟ وإنّ لفظ «الآنية» ماذا تعني... إلى غير ذلك. ومحلّها «علم اللغة» و «علم الفقه».

وأمّا البحوث الكلّية فهي مثل البحث في « علامات الوضع » وأنّ الأمر ظاهر في الوجوب أو لا؟ وإنّ وقوع الأمر عقيب الحظر هل يوجب ظهوره

ص: 59

في الإباحة أو لا؟ وإنّ النهي هل هو ظاهر في التحريم أو لا؟ وإنّ النكرة في سياق النفي أو النهي هل تدلّ على العموم أو لا؟ ومحلّها «علم الأُصول».

2- حجّية الظهور

وهو محلّ الكلام فعلا.

فالبحث الأوّل: صغروي: وهو أنّ الظاهر ماذا؟

والبحث الثاني: كبروي، وهو أنّ الظاهر المفروغ عن كونه ظاهراً هل هو حجّة أو لا؟ وبعبارة أُخرى: هل هو مراد أو لا؟ إذا عرفت ذلك فنقول:

أدلّة حجّية الظواهر

اشارة

إنّه يمكن الاستدلال على « حجّية الظواهر » بأدلّة أربعة:

1- سيرة المتشرّعة.

2- سيرة العقلاء.

3- الروايات الدالّة على حجّة الظواهر.

4- الإجماع.

1- سيرة المتشرّعة

الدليل الأوّل: سيرة المتشرّعة.

أي سيرة المتشرّعة من أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام.

فإنّه لا شكّ في أنّ عملهم كان يقوم على الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة - ولو في الجملة- وهذه السيرة تكشف كشفاً إنّياً عن « البيان الشرعي ».

بخلاف السيرة العقلائية فإنّها لا تكشف عنه، وإنّما تدلّ على الامضاء

ص: 60

بتوسيط كاشفية السكوت عنه. بشرائط سوف يأتي بيانها قريباً إن شاء اللّه تعالى.

أمّا كيف تثبت سيرة المتشرّعة على الأخذ بالظواهر؟

فقد أجاب عنه في البحوث: «بأنّ هنالك بديلا لهذا الطريق على نحو لم نفترض هذا الطريق يتعيّن افتراض ذلك البديل. وهذا السلوك يعبّر عن ظاهرة اجتماعية غريبة لو كانت واقعة لسجّلت وانعكست علينا باعتبارها خلاف المألوف. وحيث لم يسجّل التاريخ ذلك نعرف أنّ الواقع خارجاً كان هو المبدّل لا البدل»(1).

أقول: هذا الدليل «أي سيرة المتشرّعة» لا يخلو من تأمّل.

وذلك لأنّ سيرة المتشرّعة على نحوين:

1- سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة.

2 - سيرة المتشرّعة بما هم عقلاء.

ومثال الأوّل: المسح ببعض الكفّ في الوضوء، فإنّه لو ثبت بناء المتشرّعة على ذلك يكشف كشفاً مباشراً عن البيان الشرعي.

ومثال الثاني: اعتبار الحيازة سبباً للتملّك. والثاني، مرجعه إلى سيرة العقلاء.

ويكفي في المقام احتمال كون سيرة المتشرّعة على العمل بالظواهر نابعةً من كونهم عقلاء لا من كونهم متشرّعة، فلا تنهض دليلاً مستقلاً في قبال «سيرة العقلاء» ولا تكشف كشفاً إنّياً عن البيان الشرعي، بل الأمر بحاجة

ص: 61


1- بحوث في علم الأصول 4: 241-249.

إلى ثبوت الامضاء الشرعي، ولو بضميمة السكوت الدالّ على الامضاء.

ولعلّه من أجل ذلك لم يستدلّ في الرسائل والكفاية وغيرهما ممّا يحضرني الآن بسيرة المتشرّعة على حجّية الظواهر، فتأمّل.

2- سيرة العقلاء
اشارة

الدليل الثاني: سيرة العقلاء.

والاستدلال بذلك يتوقّف على ثبوت مقدّمات:

أوّلا: تحقّق بناء العقلاء.

ثانياً: عدم الردع عنه من قبل الشارع.

ثالثاً: عدم وجود المانع من هذا الردع.

أوّلا: تحقّق بناء العقلاء

ولبيان ذلك تقريران:

الأوّل: تحقّق بناء العقلاء على الأخذ بالظهورات في أُمور معاشهم وأوضاعهم اليومية، حيث أنّها استقرّت على الأخذ بالظهورات. وهذا بناء عقلائي في مجال الأغراض التكوينية.

الثاني: تحقّق بنائهم على ذلك في عالم المولويات العرفية، حيث إنّ بناء العقلاء على إلزام كلّ من الآمر والمأمور بالظهور، ويعتبرونه حجّة من قبل المولى على العبد، والعبد على المولى.

ولتحقّق بناء العقلاء - بشكل عام - يؤخذ بظواهر الاقرارات في المحاكم. ويؤخذ بظواهر الوصايا. وتؤخذ ظواهر الكتب والرسائل سنداً.. إلى غير ذلك...

ص: 62

والحاصل: أنّه استقرّ بناء العقلاء في كلّ زمان ومكان على الأخذ بالظواهر واعتبارها حجّة.

ثانياً: عدم الردع عن ذلك من قبل الشارع

والدليل على ذلك أنّه لو ردع عن ذلك لنُقِل إلينا بالتواتر، لتوفّر الدواعي على نقله، لأنّه يتعلّق بقضية مهمّة، عامّة الابتلاء، لا كالقضايا الثانوية التي يندر الابتلاء بها.

واللازم باطل، لأنّه لم يصل إلينا حتّى خبر واحد يتضمّن الردع عن ذلك، فكيف بالخبر المتواتر؟ فالملزوم مثله.

والحاصل: أنّ الشارع لم يردع عن الطريقة العقلائية المتداولة، ولم يخترع طريقة جديدة، ولم تكن لغته لغة الرموز والاشارات - إلاّ نادراً، كما هو كذلك عند العقلاء - ولو حصل ذلك لأنعكس في الأخبار والتواريخ، باعتباره حدثاً مهمّاً، لا يمكن أن يمرّ دون أن يرافقه دويّ كبير، يصل إلى مسامع الأجيال على امتداد التاريخ.

ثالثاً: عدم وجود المانع من الردع

إذ أنّ هذه القضية ليست من القضايا التي تتصادم مع مصالح حكّام الجور مثلاً، ليكون هنالك مانع من تقية أو ما أشبه.

بل لو فرض هنالك مانع من هذا القبيل، للزم الردع، لأنّه يتعلّق بأمر أساسي تُبنى عليه جميع الأحكام الشرعية، فتأمّل.

إشكالات في المقام

وفي هذا المقام إشكالات ذكرت في البحوث:

ص: 63

1- وجود الأدلّة الرادعة عن العمل بالظنّ

الإشكال الأوّل: أنّ المسلّم هو عدم وصول الردع بالدليل الخاصّ، وأمّا بالدليل العام فلا، وذلك للأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم.

والجواب: إنّ الأدلّة العامّة المذكورة لا تصلح للرادعية.

أمّا أوّلا: فلما سيأتي في إعتبار خبر الثقة إن شاء اللّه تعالى.

وثانياً: للزوم الخلف؛ لأنّها أيضاً من الظواهر، فتشمل نفسها، أمّا على نحو القضايا الحقيقية، وأمّا بتنقيح المناط. فيلزم من حجّيتها الخلف.

والخلاصة: أنّ ما يراد جعله رادعاً بنفسه ظهور، فيلزم من حجّيته - ليكون رادعاً - عدم حجّيته. وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه محال.

وبعبارة أُخرى أنّ شمول الأدلّة العامّة ل- (الظواهر) - كشمولها للنصوص لا يعدو (ظاهراً) من الظواهر، لأنّه ليس سوى عموم أو إطلاق، والكلام في حجّية الظواهر، فما لم تثبت حجّيتها لا يكون هذا الظاهر حجّة.

وأُورد عليه: بأنّه موقوف على القطع بعدم الفرق في فرض عدم الحجّية بين (شخص هذا الظهور) و (سائر الظهورات). وإلاّ فنستطيع أن نثبت حجّية (شخص هذا الظهور) بالسيرة العقلائية. وهو يستحيل أن يكون رادعاً عن نفسه. فإذا كان حجّة فيردع به عن سائر الظهورات(1).

إلاّ أن يقال: أنّ اعتماد نفس الظهور في الردع عن الظنّ قرينة على أنّه لا يريد الظهور بل غيره من الظنون، وذلك بملاك عدم تناقض المتكلّم مع نفسه ولو بحسب ما يراه العرف تناقضاً.

ص: 64


1- بحوث في علم الأصول 4: 254.

فلا ينعقد إطلاق من أوّل الأمر في مثل هذه الأدلّة لشمول الظواهر ونظير ذلك في حصول التناقض عرفاً: الردع عن العمل بخبر الواحد.

والخلاصة: أنّ الدليل منصرف عن الظهورات.

2- الإشكال في السيرة العقلائية صغرى وكبرى

الإشكال الثاني: وهو إعتراض على الإستدلال بالسيرة العقلائية على النهج الأوّل - إنّ بناء العقلاء المزبور غير تامّ صغرى وغير مفيد كبرى.

إذ العقلاء وإن كانوا لا يتقيّدون بالنصوص في مجال أغراضهم التكوينية، إلاّ أنّ هذا ليس من باب (التعبّد بالظهور) إذ لا يعقل التعبّد في مجال الأغراض التكوينية، بل لا يوجد عند العقلاء أصل تعبّدي أبداً.

بل هو من باب حصول الاطمئنان من الظهور، أو حصول الغفلة عن احتمال خلاف الظاهر، أو عدم أهميّة الغرض بحيث يرتّب الأثر على احتمالات الخلاف، أو كون المؤدّى على وفق الاحتياط، أو غير ذلك.

هذا بلحاظ الصغرى.

ولو سلّمت الصغرى فلا فائدة فيها، إذ غاية الأمر امضاء الشارع لها في مجال الأغراض التكوينية، لا في مجال الأغراض التشريعية وعالم التنجيز والتعذير الذي هو المهمّ في هذا البحث.

الإمضاء ينصبّ على الملاك لا العمل وحده

والجواب على ذلك - على ما يظهر من البحوث في موارد مختلفة.

إنّ مقدار الامضاء للسيرة العقلائية ليس منوطاً بها هو معمول به خارجاً بل يكون أوسع من ذلك وضمن سعة دائرة النكتة العقلائية التي قد تكون

ص: 65

أوسع من مقدار الجري الخارجي.

فإنّ الإمام (عليه السلام) في مقام إبلاغ أحكام اللّه تعالى وتصحيح أو تغيير ما ارتكز عند الناس.

فإذا فرضنا أنّ النكتة العقلائية التي ترتكز عليها السيرة كانت أوسع ممّا هو معمول به خارجاً، كان خطر توسّع هذه السيرة قائماً بسعة تلك النكتة، فإذا لم تكن النكتة - بما لها من السعة - مرضية عند الشارع وجب أن يردع عنها، لأنّها تهدّد بتفويت أغراضه التشريعية، فإذا لم يردع عنها دلّ ذلك على امضاء تمام النكتة العقلائية المزبورة.

والخلاصة: أنّ الامضاء المستكشف بالسكوت ينصب على النكتة المركوزة عقلائياً، لا على المقدار الممارس من السلوك خاصّة.

فليس الممضى العمل الصامت، بل هو النكتة، أي العموم العقلائي المرتكز عنه.

مثلا: إذا فرضنا جريان السيرة العقلائية على أنّ (الاحتطاب) و(الاحتشاش) سبب للملكية، فلم يردع الشارع عن ذلك، فهذا امضاء من قبل الشارع لذلك.

إلاّ إنّ هذا الامضاء ليس امضاءً لخصوص الاحتطاب والاحتشاش؛ لأنّه لا موضوعية في الارتكاز العقلائي لهما في التمليك، بل هما مملّكان باعتبار كونهما مصداقين من مصاديق كلّي «الحيازة».

ف«الحيازة» في الارتكاز العقلائي هي سبب الملكية، لا خصوص الاحتطاب والاحتشاش.

ص: 66

ولذا فمن شأن هذا الارتكاز أن يدفع العقلاء إلى اعتبار حيازة جميع المباحات المتجدّدة - كالطاقة الكهربائية أو الشمسية مثلاً - سبباً للملكية، إذ لا فرق - بلحاظ ذلك الارتكاز- بين«الحطب» و «الطاقة الشمسية» مثلا.

فإذا لم يكن هذا الارتكاز العقلائية مرضياً عند الشارع لوجب عليه - بمقتضى الحكمة وحفظ الأغراض التشريعية - الردع عنه، وحيث لم يردع عنه نستكشف الامضاء.

وهكذا الأمر في الرجوع إلى «قول اللغوي» في مجال الأغراض التكوينية - لو فرضنا انعقاد سيرة العقلاء على ذلك(1). والأمر في المقام كذلك. وعلى هذا يكون الإشكال الكبروي مندفعاً.

نعم يبقى الكلام في الصغرى، حيث إنّه لم يثبت بناء العقلاء على العمل في مجال الأغراض التكوينية بالظهورات تعبّداً محضاً، فينحصر جريان السيرة على وجود الملاكات المذكورة سابقاً - من حصول الاطمئنان ونحوه.

جواب آخر

وأمّا ما أجاب به في البحوث في خصوص المقام وجعله جواباً عن الإشكال الصغروي والكبروي معاً من: «أنّ الاعتراض الصغروي المذكور وإنْ كان صحيحاً في الجملة بمعنى أنّه لا معنى للحجية والتعبد في باب الأغراض التكوينية واحتمال كون المحرك فيها إنما هو الاحتمالات التكوينية ودرجتها أو المحتملات التكوينية وأهميتها، إلاّ أن هذا لا يمنع

ص: 67


1- بحوث في علم الأصول 4: 246؛ دروس في علم الأصول 2: 186.

عن صحة الاستدلال بها في محل الكلام؛ لأنّ هذه السيرة بقطع النظر عن تحليل مناشئها ودوافعها باعتبارها سلوكاً يومياً عاماً في حياة كل عاقل الاعتيادية، فسوف تشكّل عادة، وجبلة، وفطرة ثانوية للإنسان العرفي، بحيث يكون بابه باب العادة لا باب التعقل والتبصّر والدراية، ومع تحول السلوك العقلائي من سلوك تبصّر مدروس إلى سلوك عفوي جبلّي لا يضمن بحسب الخارج حينئذٍ أن لا يكون السير عليه أوسع من مأخذه الأول ونكتته العقلية التي يفترض لها بل لعله يصبح تدريجاً أدباً عقلائياً ونهجاً عرفياً يعاب الإنسان على مخالفته والخروج عنه المعبر عنه بالتقاليد العرفية أو العقلائية.

وبذلك سوف تشكل هذه السيرة إحراجاً للشارع في مجال الأغراض التشريعية أيضاً إذ لا ضمان؛ لعدم امتدادها إلى هذا المجال انسياقاً معها، وتأثرها بها كعادة جارية، فلو لم يكن الشارع راضياً وموافقاً عليها لزمه التنبيه على ذلك، وردعهم عن استخدام نفس النزعة العادية في مجال التشريعيات.

ومنه ظهر جواب الاعتراض الكبروي فإنّ سكوت الشارع عن هذه السيرة لا يثبت مجرد عدم المضايقة منها في مجال الأغراض التكوينية بل يثبت موافقته على امتدادها إلى مجال الظواهر في الأدلّة الشرعية أيضاً»(1).

فلا يخلو من نظر؛ إذ لا معنى لتعدّي العقلاء من سلوك معيّن واجد لنكتة خاصّة إلى سلوك آخر فاقد لتلك النكتة، إلاّ في حالات حصول

ص: 68


1- بحوث في علم الأصول 4: 251.

الغفلة أو الخطأ في التشخيص.

وامضاء الشارع لنكتة خاصّة لا يعني امضاءه لكلّ سلوك يحصل غفلة أو بسبب الخطأ في التشخيص.

وقد اتّفقت الكلمة على «التخطئة» في العقليات والشرعيات والتطبيقات الصغروية.

والخلاصة: أنّ امضاء الشارع لشيء لا يعني امضاءه للأخطاء الحاصلة في تطبيقه.

3- ثبوت الردع بلحاظ قسم خاص من الظواهر

الإشكال الثالث: ثبوت الردع بلحاظ قسم خاصّ من الظواهر غير التعويل عليه في الفقه، وهو الظهورات التي ترجع إلى دلالات التزامية عرفية.

فإنّ الدلالة الالتزامية قد تكون على أساس عدم الانفكاك بين أمرين عقلاً وليس محلّ الكلام فيه.

وقد تكون على أساس عدم تعقّل العرف للانفكاك، وإن كان ممكناً عقلا، من قبيل ما يقال في باب طهارة المياه من أنّ الدليل الدالّ على مطهّرية الماء دالّ بالالتزام على طهارته عرفاً، إلاّ إنّ العرف لا يتعقّل مطهّرية الماء النجس.

وهذا القسم قد يقال بالردع عنه شرعاً بمثل رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة.

والرواية هي: ما رواه أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) ما تقول

ص: 69

في رجل قطع اصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشر من الإبل، قلت: قطع أثنين؟، فقال: عشرون، قلت: قطع ثلاثاً، قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً؟، قال: عشرون، قلت: سبحان اللّه يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، فيقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!!، إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول: الذي قاله شيطان, فقال: مهلاً يا أبان هكذا حكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين»(1).

وملخّص الأمر أنّه إذا قرّر في مورد مقدار تعيّن فالمرأة تساوي الرجل ما لم يبلغ ثلث ذلك المقدار المجعول - أو لم يتجاوز - فإذا بلغ - أو تجاوز - رجعت إلى النصف.

وهذه هي القاعدة التي استغرب منها أبان؛ لأنّه على خلاف المتفاهم العرفي إذ العرف لا يتعقّل أن تكون دية قطع أربع أصابع أقلّ من دية قطع ثلاث.

والإمام (عليه السلام) ردع عن ذلك وطبّق عليه عنوان « القياس » وهذا يدلّ على الردع عن الظهورات العرفية القائمة على أساس ملازمات عرفية.

الردع بلحاظ تحكيم الملازمة على النصّ وأُجيب عن ذلك: أنّ ظاهر الرواية أنّ ردع أبان كان بلحاظ تحكيمه لهذه الدلالة والملازمة على النصّ.

إذ طرح النصّ الشرعي لهذه الملازمة. بل استنكر على الإمام (عليه السلام) بعد سماعه النصّ منه.

ص: 70


1- من لايحضره الفقيه 4: 118- 119.

وهذا مطلب آخر مؤدّاه طرح النصّ الشرعي والاعتراض عليه لوجود ملازمة عرضية أو ذوقية، ومثله مردوع عنه شرعاً وفاسداً عقلاً؛ لأنّه تحكيم للمناسبات العرفية على الدين.

وأين هذا من الأخذ بالظهور العرفي للسنّة نفسها، تحكيماً للملازمة العرفية لها لا عليها.

وإن شئت قلت: بعد أن ثبت أنّ حكم المرأة في باب الدية يختلف عن حكم الرجل في الجملة فلا تنعقد دلالة من هذا القبيل بل تنتفي، ويبقى مجرّد الاستذواق العرفي لما هو بعيد عن مجموع القواعد والأحكام الشرعية، وهو لا يمكن الاعتماد عليه، لأنّه قياس واستحسان في قبال النصّ(1).

وفيه نظر؛ لأنّ الظاهر أنّه (عليه السلام) ذمَّ عمله بما هو قياس لا بما أنّه ردّ بالقياس. أي أنّ تمام الموضوع للذم هو «القياس» لا «الردّ بالقياس».

ولعلّ الأولى أن يقال: أنّ الدلالة الالتزامية العرفية منتفية، بل هو مجرّد استحسان واستذواق وقياس.

فإنّ اللاّزم أن لا تكون عقوبة الأكثر أقلّ من عقوبة الأقل أمّا كونها بشكل عقوبة مادّية، أو في هذه الدنيا، فلا.

ولذا نجد أنّ المحرم إذا صادَ مرّةً فعليه الكفّارة، أمّا لو صادَ مرتين فلا كفّارة عليه، إذ يكون ممّن « ينتقم اللّه منه » - كما في الآية الكريمة(2).

ص: 71


1- بحوث في علم الأصول 4: 265.
2- المائدة: 95.

وفي الأمثلة العرفية: نجد أنّ الأب يعاقب ابنه العاصي مرّة أو مرّات، فإن تمادى في غيّه فقد يتركه وشأنه. وعلى كلّ حال فهنالك فرق بين ظهور اللفظ في شيء مثل ظهور {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} عرفاً في حرمة الضرب، والاستذواق العرفي، الذي يزول بالتأمّل والتدبّر، خاصّة لو لوحظ أنّ الشارع محيط بالدنيا والآخرة: {فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ وَالاُْولَى}(1) وإنّه يلاحظ في تشريعاته كلتا النشأتين، كما أنّه يلاحظ فيها جانب الجسد والروح، والفرد والمجتمع، والحاضر والمستقبل، فالمقبول ظهور اللفظ والمرفوض الاستذواق العرفي، فتأمّل.

التحقيق في المقام

هذا والتحقيق في المقام يقتضي شيئاً من البسط في المقال فنقول:

لا شكّ في أنّ أبان أخطأ في الطريق الذي سلكه، كما أخطأ في النتيجة التي توصّل إليها.

ولكن السؤال هو أنّه: هل إنّنا نستطيع في الموارد الأُخرى المماثلة أن نتوصّل إلى نفس النتيجة التي توصّل إليها أبان مع قطع النظر عن خصوصية الطريق الذي سلكه أبان ومع فرض عدم الردع الشرعي الخاصّ عن النتيجة؟

الظاهر: إمكان التوصّل، وذلك عن طريق التمسّك باطلاق الدليل.

بيان ذلك: أنّ العدد تارةً يفرض أنّه مأخوذ بشرط لا - أي بشرط عدم الزيادة.

ص: 72


1- النجم: 25.

وأُخرى يفرض أنّه مأخوذ على نحو اللاّبشرط.

وحيث إنّ (بشرط لا) قيد يكون مقتضى الاطلاق ترتّب الحكم سواء فرضت الزيادة، أو لا.

مثلا: لو ورد أنّه (من نام بعد العلم بالجنابة في ليلة شهر رمضان ثلاث مرّات وجب عليه القضاء والكفّارة) فمقتضى الاطلاق أن نفرض أنّ هذا العدد مأخوذ على نحو (لا بشرط) أي أنّ الحكم يترتّب سواء نام مع الثلاث مرّة أُخرى - حتّى يكون المجموع أربعاً - أو لا.

وبذلك أفتى من رأيت كلماتهم من الفقهاء في المسألة المزبورة(1).

وما نحن فيه من هذا القبيل فإنّه لو ورد في أنّ في قطع ثلاث من أصابع المرأة ثلاثين من الإبل فمقتضى الاطلاق أنّه يترتّب عليه ذلك سواء قطع معه إصبعاً رابعة أو لا.

إذاً مقتضى الاطلاق أن لا تقل دية قطع الأربع عن ثلاثين إبلاً.

وهي النتيجة التي توصّل إليها أبان. إلاّ إنّ إدانة أبان تنبع من أمرين:

1- أنّه توصّل إلى هذه النتيجة عبر أعمال الاستحسان الذوقي والقياس.

ص: 73


1- راجع العروة الوثقى 2: 188، كتاب الصوم، قال صاحب العروة (رحمه اللّه) : إذا استمر النوم الرابع أو الخامس فالظاهر أن حكمه حكم النوم الثالث. وفي المستند: لقضاء الفهم العرفي بعدم الفرق بين الثالث وغيره في مثل المقام ولأجله يتعدّى عن النوم الثاني إلى الثالث في وجوب القضاء مع عدم ورود نصابه. وفي الفقه 34: 338: لعدم فهم العرف خصوصية في النوم الثالث بما هو ثالث في ترتب القضاء والكفارة، واحتمال أن يكون من قبيل: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} لا يمنع الفهم العرفي المستفاد من النص، بل لا يبعد دعوى الإطلاق في جملة من نصوص المقام، ولذا أرسلوه إرسال المسلّمات (منه (رحمه اللّه) ).

وأعمال ذلك لاقتناص الحكم الشرعي خاطئ، ولو أصاب الواقع.

مثلاً قد نتوصّل إلى صحّة وضع «قواعد المرور» عبر الاستحسانات الذوقية والمصالح المرسلة، وقد نتوصّل إليها عبر تطبيق قاعدة (لا ضرر) - مثلا - فالنتيجة وإن كانت واحدة، إلاّ أنّ الطريق مختلف، فالأوّل خاطئ والثاني صحيح.

والخلاصة: أنّ الطريق الذي سلكه أبان طريق خاطئ، وهذا الطريق لا مؤمّن عقلي له، مع أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل المؤمّن - على ما فصّل في مباحث الاجتهاد والتقليد.

2- إنّ التمسّك بالاطلاق موقوف على عدم ورود ما ينتفي معه الاطلاق، إذ الاطلاق ليس إلاّ ظهوراً، والظهور قد ينتفي بالنصّ أو بالأظهر.

مثلا: لو ورد (إنّ من صاد مرّة فعليه بدنة) فمقتضى الاطلاق أنّه لو صاد مرّتين فعليه بدنة أيضاً، إلاّ إنّ هذا الاطلاق قابل للتقييد، فللمولى أن يقول: إنّ هذا العدد مأخوذ على نحو (بشرط لا) فلو صاد مرّتين فلا شيء عليه. وأبان لم يفحص عن المقيّد، بل إنّه ردّ المقيّد مع وجوده.

وحينئذ: يكون الإشكال في موقف أبان مزدوجاً:

1- إنّه اعتمد القياس.

2- أنّه ردّ الدليل الناهض على التقييد.

ولعلّ قوله (عليه السلام) : (أخذتني بالقياس) إشارة إلى كلا الإشكالين.

وذلك بخلاف ما نحن فيه من الملازمات العرفية، فإنّ الملازمة العرفية لا تبتني على القياس، بل على فهم عرفي، وهو إنّما يكون بعد البحث عن

ص: 74

المعارض.

مثلا: لو دلّ الدليل على أنّ النجس يطهّر - كما في الماء القليل الوارد في آن الملاقاة - فهنا يحكم ذلك على الملازمة العرفية بين (مطهّرية الماء) المستفادة من الدليل و(طهارته) الثابتة بالملازمة العرفية - على فرض ثبوتها - . وبهذا يجمع بين ما تقدّم سابقاً من الجوابين.

تقرير آخر في السيرة العقلائية

ثمّ إنّ للوالد (رحمه اللّه) تقريراً آخر غير ما تقدّم - في صدر الدليل الثاني - في بيان حجّية السيرة العقلائية. وما ذكره (رحمه اللّه) مركّب من مقدّمتين:

الأُولى: إنّ السيرة العقلائية قائمة على الأخذ بالظهورات واعتبارها أساساً للتعامل.

الثانية: أنّ الشارع قد أمضى بشكل صريح هذه السيرة - لا بدلالة الامضاء المستكشف من السكوت فقط - وذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}(1).

وهو يشمل الظاهر والقدر معاً، أي حسب مقدار أفهامهم وحسب الظواهر التي يفهمونها(2).

ويوضّح ذلك: أنّ الشارع لو كان قد اخترع طريقة جديدة، وكانت لغته لغة الرموز والاشارات على خلاف المتداول بين الناس لما صدق (بلسان قومه) بل كان لساناً آخر.

ص: 75


1- إبراهيم: 4.
2- الوصائل: 146-147.

وقد يتأمّل في هذا التقرير باعتبار أنّ (اللّسان) يحتمل معنيين:

الأوّل: أنّه لسان عربي يعتمد على نفس الحروف والكلمات التي ينطقون بها، وليس أعجمياً. وهذا لا ينافي أن يتحدّث بما لا يفهمه أهل اللغة.

كالحروف المقطّعة التي وردت بلسان عربي، وإن كانت من قبيل الرموز والاشارات.

إلاّ إنّ هذا الاحتمال يبدو بعيداً، وذلك للتعليل المذكور في الآية الكريمة، في قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} فإنّ الرموز والاشارات ليست بياناً، إذ لو تكلّم شخص بالألغاز والأحاجي لا يقول: إنّ كلامه بيان للناس.

الثاني: أنّه يتحدّث حسب الأُسلوب الذي يتحدّثون به.

وبهذا يتمّ الاستدلال.

إلاّ إنّ الآية الكريمة ستكون حينئذ ظاهرة في الشمول للظواهر باعتبار أصالة العموم؛ ف- (لسان القوم) يشمل النصوص والظواهر معاً بظاهره.

إلاّ أنّ الكلام فعلاً في حجّية الظواهر، فيكون الاستدلال بهذا الظاهر على حجّية الظواهر دورياً، إذ حجّية الظواهر بشكل عام تتوقّف على حجّية هذا الظاهر.

وحجّية هذا الظاهر تتوقّف على حجّية الظواهر بشكل عام، فيكون نظير الاستدلال على حجّية خبر الثقة بخبر الثقة فتأمّل.

وما ذكرناه: في دلالة الآية الكريمة يجري في الروايات الواردة بهذا المضمون مثل «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»(1).

ص: 76


1- المحاسن 1: 195.
3- الروايات الدالّة على حجّية الظواهر
اشارة

وهذه الروايات على طوائف

أ- الروايات الآمرة بعنوان التمسّك بالكتاب والسنّة

الطائفة الأُولى: الروايات الآمرة بعنوان التمسّك بالكتاب والسنّة، على نحو كلّي.

مثل حديث الثقلين المشهور بين الفريقين، حيث قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّي مخلف فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً».

وحيث لم يحدّد «الموضوع» أي «التمسّك» ونحوه يكون عرفياً، كما هو الشأن في كلّ الموضوعات التي لم يرد فيها تحديد خاصّ من قبل الشارع. والأخذ بالظاهر: «تمسّك» عرفاً.

ب- الروايات الآمرة بالرجوع إلى الكتاب

الطائفة الثانية: الروايات الآمرة بالرجوع في المسائل الفقهية ونحوها إلى الكتاب.

(أ) مثل معتبرة عبدالأعلى مولى آل سام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة.

قال (عليه السلام) :«هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه، قال اللّه تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(1) امسح عليه»(2).

ص: 77


1- الحج: 78.
2- تهذيب الأحكام 1: 363.

مع أنّ استفادة هذا الحكم من الآية الكريمة يحتاج إلى الدقّة والتأمّل، كما ذكره الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه في رسائله.

(ب) ومثل أحاديث العرض على الكتاب العزيز في موارد التعارض بين الخبرين.

(ج) ومثل أحاديث العرض على الكتاب العزيز مطلقاً.

ج- استدلال المعصومين (عليهم السلام) بالظواهر القرآنية

الطائفة الثالثة: الروايات التي تدلّ على أنّ المعصومين (صلوات اللّه عليهم) كانوا يستدلّون بالظواهر القرآنية.

واحتمال كون ذلك من اختصاصاتهم (عليهم السلام) يدفع ب«أصالة الأُسوة» على ما قرّر في محلّه.

ومن هذه الطائفة: صحيحة زرارة قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ألا تخبرني من أين علمت وقلت: أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟

فضحك فقال: يازرارة قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزل به الكتاب من اللّه عزّوجلّ؛ لأنّ اللّه عزّوجلّ قال {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثمّ فصل بين الكلام فقال {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فعرفنا حين قال: «برؤوسكم» أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثمّ وصل الرجلين بالرأس.. »(1).

ومنها: قوله (عليه السلام) في تحليل العبد للمطلّقة ثلاثاً: إنّه زوج قال اللّه عزّوجلّ: {حَتَّى

تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}(2).

ص: 78


1- مستدرك الوسائل 1: 314؛ مدارك الأحكام 1: 207.
2- البقرة: 230.

وفي عدم التحليل بالمنقطع {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}(1).

ومنها: الاستشهاد لحلّية بعض النساء بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}(2).

ومنها: الاستدلال بعدم جواز طلاق العبد بدون إذن مولاه بقوله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْء}(3) والطلاق شيء.

إلى غير ذلك من الموارد التي ربما تعدّ بالمئات.

والخلاصة: أنّ عمل المعصومين (عليهم السلام) بظواهر الكتاب دليل الجواز بضميمة «أصالة الأُسوة».

د- الشارع أفهم مرامه بالظهورات

بل قد يقال: إنّ نفس طريقة عمل المعصومين (عليهم السلام) في القاء الأحكام دليل، حيث إنّهم (عليهم السلام) لم يتقيّدوا بافهام مرامهم بالنصوص الصريحة الواضحة التي لا تحتمل الخلاف غالباً، بل أفادوا مراداتهم بالظهورات.

فأفادوا الوجوب - مثلاً - بصيغة «افعل» ولم يتقيّدوا بافادته بالوجوب الذي يستحقّ تاركه نار جهنّم - مثلا. وهذا دليل على بنائهم (عليهم السلام) على حجّيتها في مقام تشخيص المراد.

هذا تمام الكلام في الدليل الثالث

ص: 79


1- البقرة: 230.
2- النساء: 24.
3- النحل: 75.

وهو وإن أمكن أن يناقش في بعض رواياته باستلزامه للدور، مثلا الروايات الآمرة بالتمسّك بالكتاب والسنّة ظاهرة في عموم الأمر للظهورات، والاستدلال بهذا الظهور على حجّية الظهور دوري، إلاّ أنّ بعضها الآخر دليل قطعي على حجّية الظواهر.

هذا ولكن لا يخفى إمكان إرجاع هذا الدليل إلى الدليل الثاني، بأن يقال: أنّ هذه الروايات الكريمة امضاء وتقرير للسيرة العقلائية القائمة على العمل بالظهورات، بالجري العملي وفقها، فكما أنّ الامضاء قد يكون بالسكوت، وقد يكون بالتقرير اللفظي، كذلك قد يكون بالجري العملي، فليس هذا دليلا في قبال الدليل الثاني.

ثمّ إنّ هنالك روايات أُخرى تدلّ على حجّية الظهورات أو تؤيّد ذلك.

منها: ما رواه من النهج من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الزبير: «يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه فقد أقرّ بالبيعة وادّعى الوليجة فليأت عليها بأمر يُعرف وإلاّ فليدخل فيما خرج منه»(1).

و «الوليجة» هي الأمر يسرّ ويكتم.

وكان الزبير يدّعي أنّه ورى ونوى دخيلة وأتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها، أو أنّه بايع مكرهاً(2).

وقد ردّه الإمام (عليه السلام) بأنّ ظاهر قاله أو حاله: إنّه بايع حقيقة طائعاً، فإن

ص: 80


1- نهج البلاغة 1: 42.
2- شرح نهج البلاغة 1: 230.

ادّعى غير ذلك فليأت بدليل واضح عليه(1).

وقد ذكر نحو ذلك الفقهاء رضوان اللّه عليهم من كتاب «الإقرار» حيث إنّ كلّ من أقرّ بشيء يحمل اقراره على ظاهره، إلاّ أن يأتي ببرهان قاطع على الخلاف(2).

وقد اعتبر السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه) الحديث المذكور مؤيّداً لتقرير الشارع ديدن العقلاء(3).

ومنها: ما رواه في الكافي بسند صحيح عن ابن بزيع قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن امرأة أحلّت لي جاريتها فقال: ذاك لك.

قلت: فإن كانت تمزح.

قال: وكيف لك بما في قلبها، فإن علمت أنّها تمزح فلا»(4).

قال المجلسي رضوان اللّه عليه: «يدلّ على أنّه مع الشكّ في المزاح يجوز له العمل بظاهر اللفظ»(5).

وهذه الرواية معلّلة فتدلّ على عموم الحكم لما نحن فيه، بخلاف بعض الروايات الأُخرى التي وردت في هذا الباب واقتصرت على بيان الحكم، حيث يمكن أن يقال فيها: بأنّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ

ص: 81


1- توضيح نهج البلاغة 1: 95.
2- إيضاح الفوائد 4: 315.
3- الأصول: 64-65.
4- الكافي 5: 469.
5- مرآة العقول 20: 261.

مُؤْمِناً}(1) وقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «هلاّ شققت قلبه»(2).

وقد استدلّ بهذه الرواية السيّد الشبّر رضوان اللّه عليه في كتابه «الأُصول الأصلية»(3).

ومنها: ما رواه في الكافي بسند حسن عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أحلّ الرجل للرجل من جاريته قبلةً لم يحل له غيرها، فإن أحلّ له منها دون الفرج لم يحل له غيره، وإن أحلّ له الفرج حلّ له جميعها»(4).

قال السيّد الشبّر (رحمه اللّه) : (لا ريب أنّ الحلّية تبع ما يفهم من التحليل لغة وعرفاً فلو لم يكن تحليل الفرج دالاً على تحليل غيره بالأولوية لما ثبت الحكم المذكور)(5).

ولعلّ المتتبّع يجد العشرات من الروايات تدلّ على حجّية الظهورات أو تؤيّد ذلك في كتب مختلفة، مثل كتاب الإقرار والوصايا والنكاح، وما ورد في المفاهيم وغيرها كما وقد جمع جملة كبيرة منها السيّد الشبّر (رحمه اللّه) في كتابه القيّم (الأُصول الأصلية)، فراجع.

4- الإجماع
اشارة

وقد يستدلّ على حجّية الظواهر بالإجماع.

ص: 82


1- النساء: 94.
2- بحار الأنوار 66: 140.
3- الأصول الأصلية: 32.
4- الكافي 5: 470؛ مرآة العقول 20: 263.
5- الأصول الأصلية: 127.

والظاهر كونه إجماعاً محصّلا، وطريقة كشف وجوده: عدم نقل الخلاف فيه، ولو كان هنالك خلاف لبان، لأهمية المسألة، وابتلاء الجميع بها، وحيث لم ينقل خلاف في أصل حجّية الظهورات عن أحد من الفقهاء على مرّ التاريخ كشف ذلك عن ثبوت الإجماع على ذلك.

مع أنّه لا يشترط في حجّية الإجماع: اتّفاق الكل، لابتنائها على الحدس، الحاصل في المقام، ولو مع فرض الخلاف. وقد يترقّى لدعوى «تسالم الفقهاء» على ذلك.

ولعلّ الفرق بين «الإجماع» و «التسالم» هو أنّ الإجماع عبارة عن «الاتّفاق» أمّا «التسالم» فهو تلقّي الفقهاء للمسألة تلقّي المسلّمات وكأنّ المسألة من الواضحات في أذهان الفقهاء.

نعم: هذا الدليل إنّما ينفع في حجّية الظهورات على نحو القضية المهملة، وإلاّ فهنالك جزئيات وقعت محلاً للخلاف. مثل أنّ ظواهر الكتاب العزيز حجّة أو لا؟

وإنّ من لم يقصد إفهامه بالخطاب هل يكون الظاهر حجّة بالنسبة إليه أو لا؟

إلاّ إنّ هذا الخلاف يؤكّد أصل الحجّية، إذ أنّه يدلّ على أنّه لا خلاف في أصل الحجّية، وإنّما الخلاف في بعض الفروع.

ويؤكّده أيضاً خلاف الفقهاء في بعض الصغريات مثل أنّ الجملة الخبرية ظاهرة في الوجوب أو لا؟ وإنّ النهي هل يدلّ على البطلان أو لا؟ ممّا يدلّ على أنّ أصل حجّية الظهورات مفروغ منه، وإنّما الكلام في

ص: 83

الصغريات.

هذا ولكن لا يخفى أنّ كاشفية الإجماع أو التسالم عن البيان الشرعي أو الامضاء الشرعي ليست في عرض «السيرة العقلائية» لكونهما تقريباً لها، على غرار ما مضى في الدليل الثالث.

فتحصّل أنّ العمدة في المقام هو «السيرة العقلائية» المستجمعة لشرائط الحجّية، واللّه العالم.

تذييل

ذكروا أنّ كلّ لفظ له دلالات ثلاث، ولعلّ الأولى التعبير بأنّ كلّ لفظ له بذاته أو بما يكتنفه دلالات ثلاث:

1- الدلالة التصوّرية

الأُولى: الدلالة على المعنى. أي أنّ اللفظ موجب لانتقال المعنى إلى ذهن السامع - أو من هو كالسامع - ويشترط في حصول هذه الدلالة «العلم بالوضع».

أمّا مع عدم العلم بالوضع فلا ينتقل المعنى إلى الذهن، ولا ينتقل الذهن إلى المعنى.

وهذه الدلالة لا تتوقّف على إرادة اللفظ، ولا على إدراكه، بل لا تتوقّف على وجود اللفظ أصلاً.

فلو أراد اللفظ اخطار غير المعنى الذي وضع له اللفظ - كما في صورة التجوّز. أو لم يكن اللفظ مدركاً - كما إذا تلفّظ في حالة النوم.

أو لم يكن هنالك لفظ أصلاً - كما لو أدّى هبوب الرياح إلى ظهور صوت

ص: 84

ذي معناً. فإنّه في جميع هذه الحالات ينتقل الذهن من المعنى إلى اللفظ.

والسرّ في هذه الدلالة أنّ هنالك قانوناً عامّاً قرّره اللّه سبحانه في الذهن البشري وهو: أنّ كلّ شيئين ارتبط تصوّر أحدهما بتصوّر الآخر ارتباطاً مؤكّداً فإنّه تقوم بينهما علاقة خاصّة، ويصبح تصوّر أحدهما سبباً لانتقال الذهن إلى تصوّر الآخر.

كما لو كان هنالك صديقان متلازمان، فإنّ تصوّر أحدهما يؤدّي إلى تصوّر الآخر - عادة.

وواضع اللغة يستفيد من هذا القانون ويتّخذ « الوضع » وسيلة لإيجاد الرابطة بين اللفظ والمعنى، فعندما يسمع الإنسان اللفظ ينتقل إلى تصوّر المعنى تبعاً لتلك الرابطة.

والخلاصة: أنّ علاقة العلّية والمعلولية كما تتحقّق في الخارج كذلك تتحقّق في الذهن.

فكما أنّ النار تؤدّي إلى الحرارة في الخارج، للعلقة الخارجية فيما بينهما، كذلك تصوّر اللفظ يؤدّي إلى تصوّر المعنى، للعلقة الذهنية فيما بينهما.

وهذا ما يتناوله علم النفس في بحث «الاستجابة الشرطية». ويطلق على هذه الدلالة «الدلالة التصوّرية». وقد يطلق عليها «الدلالة الوضعية»، كما قد يصطلح عليها ب«الدلالة الانسية» أيضاً. وهذه الدلالة أجنبية عن محلّ كلامنا فعلاً.

2- الدلالة التصديقية الأُولى

الثانية: دلالة اللفظ على كون المتكلّم مريداً لاخطار المعنى في ذهن السامع.

أي أنّ المتكلّم أراد تفهيم هذا المعنى والقائه في ذهن السامع. ويطلق

ص: 85

على هذه الدلالة «الدلالة التصديقية الأُولى».

وتنتفي هذه الدلالة في صورة عدم كون المتكلّم مدركاً: كما في النائم.

وكذا في صورة كونه مدركاً لكن على عدم إرادته الاخطار، كما لو أراد تجربة صوته من حيث الرقّة والخشونة مثلا.

وكذا تنتفي في صورة نصب قرينة متّصلة على الخلاف، كما لو قال «رأيت أسداً يرمي».

فإنّ القرينة المتّصلة وإن لم تلغ الدلالة التصوّرية للمعنى الحقيقي الذي وضع له لفظ «الأسد» إلاّ أنّها تمنع دلالة الكلمة على إرادة المتكلّم القاء معنى «الحيوان المفترس» في ذهن السامع. وكذا تنتفي هذه الدلالة عند الشكّ في إرادة المتكلّم الاخطار.

والخلاصة: أنّ هذه الدلالة متقوّمة بشعور المتكلّم وعدم نصب قرينة متّصلة على الخلاف، وإرادة اللفظ للاخطار، وإحراز تلك الإرادة.

3 - الدلالة التصديقية الثانية

الثالثة: دلالة اللفظ على كون المعنى المراد اخطاره مقصوداً للمتكلّم بالإرادة الجدّية.

وبعبارة أُخرى: دلالته على كون المتكلّم بصدد الحكاية جدّاً في الجمل الخبرية، وبصدد الإنشاء جدّاً في الجمل الانشائية.

ويطلق على هذه الدلالة «الدلالة التصديقية الثانية».

وهذه الدلالة متوقّفة - مضافاً إلى القيود المتقدّمة - على عدم نصب قرينة منفصلة على الخلاف.

ص: 86

فإنّ القرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعة عن ثبوت الإرادة الاستعمالية، إلاّ أنّها كاشفة عن عدم تعلّق الإرادة الجدّية بالمعنى المستعمل فيه.

مثلا: لو قال المولى: «أكرم العلماء» ولم ينصب قرينة متّصلة على الخلاف انعقد ظهور للكلام في العموم، فإذا قال بعد حين: «لا تكرم فسّاقهم» كشف ذلك عن عدم تعلّق إرادة المولى بإكرام فسّاق العلماء، وإن لم يخل ذلك بظهور اللفظ في العموم.

وبعبارة أُخرى: القرينة المنفصلة لا تكون مانعة عن انعقاد ظهور الكلام، بل تكون مانعة عن حجّيته، بخلاف القرينة المتّصلة فإنّها تكون مانعة عن انعقاد ظهور الكلام من أوّل الأمر.

وكما تنتفي هذه الدلالة عند نصب قرينة منفصلة على الخلاف، كذلك تنتفي في حالات الهزل، وفي بعض حالات التقية. إذا تقرّر ذلك فنقول:

حكم الشكّ في الإرادة

اشارة

إنّ ملاك الحجّية «الإرادة الجدّية للمولى».

و«الإرادة الاستعمالية» كاشفة عن «الإرادة الجدّية».

فإن أُحرزت «الإرادة» فلا كلام. وإن شكّ في «الإرادة» فمرجع الشكّ في ذلك إلى أحد أمرين:

الأوّل: عدم انعقاد الظهور للكلام. وهو يرتبط بمرحلة «الإرادة الاستعمالية».

الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدّية بالظاهر، وهو يرتبط بمرحلة «الإرادة الجدّية».

ص: 87

فيقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: عدم انعقاد الظهور للكلام
اشارة

وسبب ذلك أحد أُمور:

1- عدم العلم بالمعنى الموضوع له.

2- احتمال قرينية الموجود.

3- احتمال وجود القرينة المتّصلة.

والخلاصة: إمّا أن لا يحرز وجود المقتضي للظهور - وهو الأوّل - وأمّا يحتمل وجود المانع عن الظهور - وهو الأخيران، فهنا بحوث ثلاثة:

1- عدم العلم بالوضع

الأوّل: أن يكون الشكّ في المراد ناشئاً من عدم العلم بالوضع، سواء كان الشكّ في المعنى اللغوي أو العرفي.

وسواء كان الشكّ في أصل المعنى الموضوع له أو في حدوده.

مثل لفظ (الصعيد) و (الآنية) و (الغناء) ونحوها ممّا يكثر الابتلاء بها في الفقه.

وسواء كان الشكّ في المفردات أو التراكيب، مثل الشكّ في أنّ (لا ضرر) تفيد النفي أو النهي، وأن (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب) تفيد نفي الصحّة أو نفي الكمال ومثل أنّ (الذي بيده عقدة النكاح) في الآية الكريمة هو (ولي الزوجة) أو (الزوج). ويلحق بذلك عدم العلم بالمعنى المستعمل فيه اللفظ، وهنا حالتان:

الأُولى: أن يثبت اللّفظ المجمل جامعاً له أثر منجّز.

ص: 88

وحينئذ يكون الدليل حجّة في إثبات الجامع.

كما لو قال: (جئني بعين) فإنّه يجب عليه الجمع بين المحتملات في الامتثال. وقد يحصل سبب خارجي يبطل التنجيز، كتفسير المراد من المجمل بدليل آخر.

وكنفي أحد المحتملين، فإنّه بضمّه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر.

وكنهوض دليل على حكم أحد محتملي المجمل، فإنّه يوجب سقوط حجّية المجمل في إثبات الجامع، ولا يبقى محذور حينئذ في نفي المحتمل الآخر بالأصل المؤمن، كما ذكر نظيره في العلم الإجمالي بسقوط قطرة دم في أحد الانائين، مع وجود استصحاب النجاسة في أحدهما.

الثانية: أن لا يكون كذلك، وحينئذ يكون المرجع سائر الأُصول العملية.

مثلا: لو شكّ أنّ (الكعب) هو (قبّة القدم) أو (المفصل) دار الأمر بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة عن الأكثر، على ما قرّر في محلّه.

2- احتمال قرينية الموجود

الثاني: أن يكون الشكّ في المراد ناشئاً من احتمال قرينية الموجود.

بأنْ كان الكلام محتفّاً بما يصلح للقرينية.

كوقوع الأمر عقيب الخطر أو توهّمه، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}(1) ونحوه وقوع النهي عقيب الوجوب أو توهّمه.

وكالاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة، كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ

ص: 89


1- المائدة: 2.

تَابُوا}(1).

وكتعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده كقوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(2). والكلام فيه كالكلام في السابق.

هذا ولا يخفى أنّ المراد ب«الصلاحية»: الصلاحية العرفية، بحيث يكون الاحتفاف به مخلا بالظهور عرفاً.

وبعبارة أُخرى: للّفظ ظهور اقتضائي وظهور فعلي. و«احتمال قرينية الموجود» أي وجود ما يمنع عرفاً عن تحوّل الظهور الاقتضائي إلى ظهور فعلي؛ ولذا لو كان هنالك موجود يحتمل قرينيته لكن لم يخل بالظهور الفعلي عرفاً فإنّه لا يقدح.

كما ذكروا ذلك في الأوامر المتعدّدة إذا ثبت استحباب بعضها، فإنّه لا يخل بظهور الباقي في الوجوب على المعروف. كقوله (عليه السلام) : «اغتسل للجمعة وللجنابة».

ومثل خصوصية المورد، فإنّها لا تخصّص الوارد، كقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}(3) فإنّ وروده في مورد أُصول الدين لا يقدح في ظهوره في العموم.

3- إحتمال وجود القرينة

الثالث: أن يكون الشكّ في المراد ناشئاً من احتمال وجود القرينة، كما

ص: 90


1- النور: 54.
2- البقرة: 228.
3- يونس: 36.

في صورة غفلة السامع عن سماع القرينة المحتملة، أو غفلته عن القرائن المقامية المحتملة، أو نومه في أثناء التكلّم، أو وقوع التقطيع في الحديث، أو تمزيق جزء من الرسالة، أو حدوث ضوضاء تمنع من سماع القرينة المحتملة، وقد ذهب جمع من الفقهاء إلى عدم الاعتناء بالاحتمال؛ وذلك لحجّية الظهورات، أو لأصالة عدم القرينة - التي أثبت كون اللفظ ظاهراً في المعنى - ثمّ يحكم بحجّية هذا الظاهر.

وقد ذكر الأوّل صاحب الكفاية(1) وذكر الثاني الشيخ الأعظم(2).

أقول: الظاهر أنّ الموارد مختلفة، ففي مثال «النوم» لا يمكن العمل بالظاهر التقديري - أي ما لو لم تكن هنالك قرينة واقعاً لكان اللفظ ظاهراً فيه؛ إذ لم يثبت بناء العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور التقديري.

نعم ربما يكون الاحتمال ضعيفاً فلا يعتني بمثله العقلاء، كما سنتطرّق له في التذييل بعد قليل إن شاء اللّه تعالى.

تذييل

في أنّ التقطيع في الأخبار هل يسقطها عن الحجّية أو لا؟

وقع البحث في صغرى مهمّة تتعلّق بالمقام، وهي:

أنّ «التقطيع» في الأخبار هل يمنع عن العمل بظواهرها أو لا؟ وهل يسقطها عن الحجّية أو لا؟

المشهور عدم الاعتناء باحتمال سقوط القرينة عند التقطيع، إلاّ أنّ

ص: 91


1- كفاية الأصول: 186.
2- فرائد الأصول 1: 101.

المحقّق القمّي (رحمه اللّه) منع من الأخذ بما يكون اللفظ ظاهراً فيه على تقدير عدم وجود القرينة واقعاً.

وبنى على ذلك إنسداد باب (العلمي) في الأحكام لوقوع التقطيع في الأخبار؛ إذ من الواضح أنّ للقرائن المكتنفة دوراً كبيراً في تحديد المراد من اللفظ، وبسقوط القرينة قد يتغيّر معنى اللفظ، مثاله أنّه ورد في الحديث: عن الحسين بن خالد قال: «قلت للرضا (عليه السلام) : يا بن رسول اللّه إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إنّ اللّه خلق آدم على صورته, فقال: قاتلهم اللّه لقد حذفوا أول الحديث, إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرّ برجلين يتسابان, فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك فإنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته»(1).

مثال آخر: جملة «الجار ثمّ الدار»(2) تحتمل معنيين، لأنّها إن وردت في سياق السؤال عن شراء دار كان معناها «لزوم البحث عن صلاح الجار وعدمه ثمّ البحث عن صلاح الدار وعدمه».

وإن وردت في سياق السؤال عن سبب عدم الدعاء للنفس - كما في قضية الصدّيقة الكبرى سلام اللّه عليها - كان معناها: لزوم الدعاء للجار أوّلا ثمّ لأهل الدار ثانياً.

وعلى كلّ حال فحيث يحتمل سقوط قرائن عند التقطيع,يسقط الكلام عن الحجّية.

ص: 92


1- التوحيد: 153.
2- علل الشرائع 1: 182.

الجواب بأنّ التقطيع يقدح في صورة الجهل أو عدم الورع.

وناقش في ذلك المصباح - تبعاً للمحقّق النائيني (رحمه اللّه) - بقوله:

«إنّ المقطعين للأخبار كانوا عارفين بأُسلوب الكلام فلا تخفى عليهم القرائن الدالة على المراد بحسب المحاورات العرفية, وكانوا في أعلى مراتب الورع والتقى فعدالتهم أو وثاقتهم مانعة عن إخفاء القرينة عمداً. ومعرفتهم بأسلوب الكلام والمحاورات العرافية مانعة عن إخفائها جهلاً، فإذا نقلوا الأخبار بلا قرينة يؤخذ بظواهرها، ولا ينسدّ باب العلمي بالأحكام»(1).

التأمّل في الجواب

وفيه: أنّ ما ذكره مبني على حصر غير حاصر.

إذ التقطيع قد يقدح لعلّة ثالثة (غير الجهل بأُسلوب الكلام أو عدم الورع في الدنيا) وهو (إختلاف الإجتهادات في الصلاحية للقرينية وعدمها)، فيحتمل أن تكون القرينة المحذوفة غير قادحة في الظهور عند الكليني رضوان اللّه عليه ولو اطّلع عليها مجتهد آخر لرآها قادحة في الظهور.

مثلا: لو نقلت جملة (رفع ما لا يعلمون) بمفردها لكانت شاملة للحكم المجهول، أمّا لو وضعت ضمن سياقها الذي وردت فيه فقد يذهب ذاهب إلى أنّ السياق يقتضي اختصاصها بالموضوع، لأنّ (ما أُكرهوا عليه) هو الفعل المكره عليه لا الحكم وكذا (ما لا يطيقون) و (ما اضطرّوا إليه) وحيث وردت جملة (ما لا يعلمون) في سياقها تكون ظاهرة في (رفع الفعل المجهول) - كشرب مجهول الخمرية - لا (الحكم المجهول) - كشرب

ص: 93


1- مصباح الأصول 2: 129.

التتن المجهول حكمه - فلا تكون الجملة المزبورة دليلا على البراءة في الشبهات الحكمية.

مثال آخر: قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}(1) ظاهر - بذاته - في العموم لكلّ ظنّ، أمّا لو لوحظ السياق فقد يزعم زاعم أنّه ظاهر في (الظنّ المتعلّق بأُصول الدين لا مطلق الظنّ) أو على الأقل: هو القدر المتيقّن منه.

مثال ثالث: (أعفوا اللحى) ظاهر في الوجوب، باعتبار صيغة أمر، أمّا لو وضع في سياقه الذي ورد فيه وهو (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)(2) فقد يدّعي مدّع أنّه يفقد ظهوره المزبور، لكون الأمر باحفاء الشوارب للندب قطعاً، إلى غير ذلك من الأمثلة، وحينئذ يعود المحذور الذي ذكره المحقّق القمّي (رحمه اللّه) .

إجابات أُخرى

فلا محيص عن:

1- اجتهاد الفقيه حجّة لسائر الفقهاء القول بأنّ اجتهاد فقيه حجّة لفقيه آخر.

أمّا مطلقاً، إذ الموضوع في قوله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(3) «عدم العلم» لا «عدم القدرة على تحصيل العلم» ويدلّ على

ص: 94


1- يونس: 36.
2- مكارم الأخلاق: 67.
3- النحل: 43.

ذلك سيرة أهل الخبرة - كالأطباء مثلا - فإنّهم يرجعون فيما لا يعلمون إلى من يعلم من الخبراء، ولا يتقيّدون بالتحقيق الاجتهادي في كلّ مسألة يبتلون بها، أو يبتلى من يرجع إليهم بها.

وأمّا في خصوص صورة تعذّر العلم - كما هو الحاصل في المقام، إذ لا يمكن لنا - غالباً - العلم بالفقرات المقتطعة.

والحاصل: أنّ اجتهاد الكليني (رحمه اللّه) بأنّ ما اقتطع لا يحتوي على قرينة قادحة في الظهور يكون حجّة لنا، إلاّ أنّ هذا المبنى غير مرضي عند الكثيرين، وتفصيل الكلام والنقض والإبرام في مباحث الاجتهاد والتقليد.

2- وجود القرينة من الأُمور الحدسية القريبة من الحسّ

أو القول بأنّ (وجود القرينة) و (عدمه) وإن لم يكن من (الأُمور الحسّية) إلاّ إنّه من (الأُمور الحدسية القريبة من الحسّ) وفي مثل ذلك تقبل (شهادة الثقة أو إخباره) و (شهادة العادل أو إخباره).

كما ذكروا مثل ذلك في (الشهادة بالعدالة) و (الشجاعة) ونحوهما من الملكات الباطنية غير المحسوسة، إلاّ أنّها قريبة من الحسّ. وكذا بالنسبة إلى التوثيقات المتداولة في علم الرجال. وقد أشار الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه إلى نحو ذلك في (بحث حجّية خبر الواحد) من الرسائل(1).

نعم: لا تقبل الشهادة أو الإخبار في الأُمور الحدسية البعيدة من الحسّ.

3- لا علم بوجود القرينة، والاحتمال غير عقلائي

أو القول بأنّه لا علم بوجود القرينة لا تفصيلا ولا إجمالا، واحتمال

ص: 95


1- فرائد الأصول 1: 237.

وجودها في الأحاديث المقطّعة احتمال ضعيف، في حساب الاحتمالات، لا يعتني بمثله العقلاء.

إن قلت: هنالك علم إجمالي بوجود قرائن صارفة للظهور في الأحاديث المقطّعة.

قلت: مع التسليم نقول:

أ- الشبهة غير محصورة، والعلم الإجمالي في مثلها غير منجّز.

ب- مع فرض كونها محصورة يحتمل أن يكون الظاهر المعروف عن ظاهره بالقرينة المحذوفة من الظواهر غير المتعلّقة بالأحكام الشرعية.

فينحلّ العلم الإجمالي؛ إذ لابدّ في منجّزية العلم الإجمالي من كونه مولداً للتكليف على كلّ تقدير لا على تقدير دون تقدير.

كما ذكروا ذلك في شرائط تنجيز العلم الإجمالي، وفي مسألة وقوع قطرة دم في الكرّ أو القليل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ القرينة المحتملة من القرائن المتّصلة، وفي حكمها لا ينعقد ظهور للكلام أصلاً.

وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك في مباحث « حجّية ظواهر الكتاب العزيز » إن شاء اللّه تعالى.

لوازم ترد على مبنى قادحية التقطيع

ثمّ إنّ لازم ما ذكره المحقّق القمّي (رحمه اللّه) : توقّف حجّية كلام المولى على نقل تمامه، فلو نقل الناقل مقطّعاً منه لم يكن حجّة، ولو كان الناقل ثقة عارفاً بأساليب الكلام، وشهد شهادة صريحة أو ضمنية بعدم وجود قرائن

ص: 96

في غير المقطع المنقول تصرّفه عن ظاهره، فلا يجب على العبد العمل بظاهر الكلام المنقول، ولا يصلح للمولى الاحتجاج به على العبد، لاحتمال وجود القرائن المزبورة، بل وكذا في صورة احتمال وجود التقطيع، لعدم انعقاد ظهور للكلام حينئذ، فتأمّل.

وكذا لو نقل الناقل مقطعاً من جواب مرجع التقليد، ولو شهد صريحاً بعدم ارتباط ما قبله وما بعده به، فتأمّل.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو أن يكون الشكّ في المراد ناشئاً من عدم انعقاد الظهور للكلام.

المقام الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدّية بالظاهر
اشارة

وسبب هذا الشكّ أحد أُمور:

1- احتمال غفلة المتكلّم عن نصب القرينة الصارفة للظهور.

2- احتمال تعمّده عدم ذكر القرينة لمفسدة في ذلك.

3 - احتمال اتّكاله على قرينة منفصلة لم نظفر عليها.

وفي هذا المقام مسلكان.

الأوّل: أنّه يوجد في المقام أصليان طوليان:

أوّلهما: أصالة عدم وجود القرينة، أو عدم التخالف بين الإرادتين، أو عدم الغفلة (في المولى العرفي الذي يحتمل في حقّه الغفلة).

وهذا الأصل يُنقّح موضوع الأصل الثاني: وهو (أصالة الظهور) بمعنى أنّ الكلام الظاهر في معنى ولم يغفل المتكلّم عن نصب القرينة الصارفة عن ظاهره إلى سائر الشروط، ممّا يحتجّ به المولى على العبد والعبد على المولى.

ص: 97

الثاني: أنّ المرجع (أصالة الظهور) رأساً الثابتة ببناء العقلاء، فإنّهم يأخذون بالظاهر ولا يعتنون بالاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، لا لأصالة عدم القرينة ونحوها إذ وجود القرينة المتّصلة مقطوع العدم - على الفرض - ووجود القرينة المنفصلة وإن كان محتملا إلاّ أنّه لا يمنع عن انعقاد الظهور، وإنّما يمنع عن حجّية الظهور مع وصوله إلى العبد، ومع عدم الوصول قد ثبت بناء العقلاء على الأخذ بالظاهر، فلا حاجة إلى التمسّك بأصالة عدم القرينة.

وبعبارة أُخرى: الشكّ في وجود القرينة المنفصلة كافٍ في حجّية الظاهر بلا حاجة إلى إحراز (عدم القرينة المنفصلة) بالأصل، إذ بناء العقلاء قد تحقّق على الأخذ بالظاهر ما لم تحرز قرينة على الخلاف.

هذا تمام الكلام في أصل حجّية الظواهر.

تفصيلات في المقام

يبقى الكلام في تفصيلات ذكرت في المقام وهي:

1 - التفصيل بين من قصد افهامه بالكلام فالظاهر حجّة بالنسبة إليه، ومن لم يقصد افهامه به فلا.

2 - التفصيل بين ظواهر القرآن الكريم وغيرها، بالحجّية في الأخير دون الأوّل.

3 - التفصيل بين حصول الظنّ بالوفاق - أو عدم حصول الظنّ بالخلاف - فالظاهر حجّة، والعدم فلا. ونتطرّق فيما يلي إلى هذه التفصيلات بإذن اللّه تعالى:

ص: 98

1) التفصيل بين من قصد افهامه ومن لم يقصد

التفصيل الأوّل: التفصيل بين من قصد افهامه بالكلام، فتكون الظواهر حجّة بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ.

ومن لم يقصد افهامه بالكلام فتتوقّف حجّية الظواهر في حقّه على إثبات انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام، وتكون حينئذ حجّة من باب الظنّ المطلق.

وقد ذهب إلى هذا التفصيل صاحب القوانين (رحمه اللّه) في أواخر مسألة «حجّية الكتاب» وأوائل مبحث «الاجتهاد والتقليد»(1).

ولا فرق فيها «من قصد افهامه» بين كونه حاضراً في مجلس الخطاب أو غائباً.

كما لا فرق في «من لم يقصد افهامه» بين كونه حاضراً أو غائباً، كما لو كان الطبيب يقصد افهام مجموعة من الأطباء، وكان هنالك شخص من العامة حاضراً في المجلس، فإنّ ظواهر الكلام لا تكون حجّة بالنسبة إليه إذا لم يكن مقصوداً بالكلام.

توجيه هذا التفصيل

ووجه هذا التفصيل الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) باختصاص ملاك حجّية الظواهر بمن قصد افهامه بالكلام.

توضيحه: أنّ المتكلّم لو كان في مقام بيان الحرام فاحتمال إرادة خلاف ظاهر الكلام مستند إلى أحد عاملين:

ص: 99


1- قوانين الأصول.

أحدهما: غفلة المتكلّم عن نصب القرينة على خلاف الظاهر.

وثانيها: غفلة السامع عن الالتفات إلى القرينة المنصوبة.

والأصل (عدم الغفلة) في كلّ منهما. وهذا أصل يعتمد عليه العقلاء في الأقوال والأفعال، وعلى هذا الأصل تبتني (أصالة الظهور) في الكلام.

هذا بالنسبة إلى من قصد افهامه بالكلام.

وأمّا بالنسبة إلى غيره فلا ينحصر سبب إرادة خلاف الظاهر في (احتمال الغفلة) ليدفع بالأصل المذكور، بل هنالك سبب ذلك وهو وجود (قرينة معهودة) بين (المتكلّم) و(من قصد افهامه بالكلام) وقد خفيت على (من لم يكن مقصوداً بالافهام)، فلا تجدي (أصالة عدم الغفلة) في (إثبات الظهور).

وفي النهاية: (تقريب الاختصاص بأنّ المتكلّم إذا اعتمد في إرادة خلاف الظاهر من كلامه على قرينة حالية بينه وبين المخاطب الذي قصد إفهامه لم يكن مخلاً بمرامه، بخلاف ما إذا لم يكن قرينة أصلاً، فإنه يكون ناقضاً لغرضه وهو إفهامه بكلامه. وأما غير المخاطب الذي لم يقصد إفهامه فإنه لم يلزم منه نقض للغرض إذا لم يكن بينه وبين من لم يقصد إفهامه قرينة معهودة؛ إذ المفروض أنه لم يتعلق الغرض بإفهامه حتى يلزم نقض الغرض من عدم إيصال القرينة إليه)(1).

ورتّب على ذلك عدم حجّية ظواهر الأحاديث الشريفة بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام - كامثالنا في كثير من الأحاديث - من باب الظنّ الخاص.

ص: 100


1- نهاية الدراية 3: 172.

أقول: هنا بحثان:

البحث الأول: في قادحية التفصيل المزبور في حجية ظاهر الروايات وعدمها

البحث الأوّل: في قادحية التفصيل المذكور - على فرض تسليمه - في حجّية ظاهر الروايات الشريفة بالنسبة إلينا من باب الظنّ الخاص وعدمها.

البحث الثاني: في صحّة أصل التفصيل المذكور وعدمها

ليس المقصود بالافهام: خصوص المشافهين

أمّا بالنسبة إلى البحث الأوّل

فالظاهر عدم القادحية وذلك لجهات:

[1- الروايات الآمرة](1)

الجهة الأُولى: أنّ الروايات الشريفة الآمرة بكتابة الحديث ونقله والمصحّحة لمجموعة من الأُصول المروية دالّة على أنّ المقصود بالافهام ليس خصوص المشافهين، بل الكل.

وبعبارة أُخرى تدلّ على أنّ المشافهين هم طرف الخطاب، لا أنّهم - وحدهم - المقصودون بالخطاب، وفرق بين (طرف الخطاب) و (المقصود بالخطاب) إذ قد يكون طرف الخطاب: المشافه، والمقصود العموم، بل قد يكون المقصود الغير، كما ذكره المفسّرون في بعض الآيات الكريمة، التي جاء الخطاب فيها على نهج (إيّاك أعني واسمعي ياجارة).

روايات شريفة تدلّ على ذلك وهذه الروايات كثيرة، نقتصر على نقل جملة منها:

ص: 101


1- بين المعقوفتين من التحقيق.

فمنها: ما في الكافي عن العدّة، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن أبي خالد شينويه قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) : «جُعِلتُ فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم فلما ماتوا صارت الكتب إلينا فقال: حدثوا بها فإنها حق»(1).

ومنها: ما في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : إذاً لا يكذب علينا - وذكر الحديث إلى أن قال: فقال: صدق»(2).

ومنها: ما في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في رسالته لأصحابه:

«أيّتها العصابة الحافظ اللّه أمرهم عليكم بآثار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بعده وسنتهم فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى ومن ترك ذلك ورغب عنه فقد ضلّ؛ لأنهم هم الذين أمر اللّه بطاعتهم وولايتهم»(3).

ومنها: ما في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن عبد اللّه عن رجل عن جميل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: المؤمنون خدم بعضهم لبعض، قلت: وكيف يكونون

ص: 102


1- الكافي 1: 53؛ الأصول الأصلية: 338.
2- الأصول الاصلية: 339.
3- الكافي 8: 402؛ الأصول الأصلية: 341.

خدماً بعضهم لبعض؟ فقال: يفيد بعضهم بعضاً الحديث»(1).

ومنها: ما في صحيفة الرضا عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم أرحم خلفائي ثلاث مرات. قيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي وسنتي ويعلمونها الناس من بعدي(2).

ومنها: ما في الكافي عن العدّة، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن أبي نصير، عن أبان بن عثمان، عن ابن ابي يعفور، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطب الناس في مسجد الخيف، فقال: نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(3).

ومنها: ما في الكافي عن محمّد بن الحسن عن بعض أصحابنا عن علي بن الحكم عن الحكم بن مسكين عن رجل من قريش قال: قال لي سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: فذهبت معه إليه فقال له سفيان: يا أبا عبد اللّه حدثنا بحديث خطبة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف إلى أن قال: فقال سفيان: مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته فدعا به ثم قال: أكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم خطبة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف نضر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه، يا أيها الناس ليبلغ الشاهد

ص: 103


1- الأصول الأصلية: 341.
2- الأصول الأصلية: 343.
3- الأصول الأصلية: 345.

الغائب فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.(1)

ومنها: ما في العيون عن عبدالواحد بن محمّد بن عبدوس عن علي بن محمد بن قتيبة عن حمدان بن سليمان عن عبد السلام الهروي، عن الرضا (عليه السلام) قال: «رحم اللّه عبداً أحيى أمرنا» قلت: كيف يُحيي أمركم؟ قال: «يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا»(2).

ومنها: ما في العيون والعلل باسناده إلى الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في حديث قال فيه: «وإنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد إلى أن قال: مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية كما قال اللّه عز وجل: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(3) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (4)»(5).

ومنها: ما عن سعيد بن جناح الكشي، عن محمد بن إبراهيم الوراق، عن نورق النوشجاني، وذكر أنّه من أصحابنا معروف بالصدق والصلاح والورع والخير، قال: خرجت إلى سر من رأى، معي كتاب يوم وليلة، فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) وأريته ذلك الكتاب، وقلت له أن رأيت أن تنظر فيه

ص: 104


1- الأصول الأصلية: 346.
2- الأصول الأصلية: 349.
3- التوبة: 122.
4- الحج: 28.
5- الأصول الأصلية: 352.

وتتصفحه ورقة ورقة فقال: «هذا صحيح ينبغي أن تعمل به»(1).

ومنها: ما في غيبة الطوسي عن أبي الحسين بن تمام، عن عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح، عن أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) إنه سئل عن كتب بني فضال فقال: «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»(2).

ومنها: ما في رجال النجاشي، عن المفيد، عن جعفر بن محمّد بن قولويه، عن علي بن الحسين بن بابويه، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري قال: عرضت على أبي محمد العسكري (عليه السلام) كتاب يوم وليلة فقال لي: تصنيف من هذا؟ فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين، فقال: أعطاه اللّه بكل حرف نوراً يوم القيامة (3).

وذكر النجاشي إن كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي عرض على الصادق (عليه السلام) فصحّحه واستحسنه(4).

إلى غير ذلك من الروايات التي نقل جملة منها السيّد الشبّر رضوان اللّه عليه في كتابه « الأُصول الأصلية »(5).

وبتقرير آخر: لو ورد في الحديث «أُوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي هذا»(6) فسيكون جميع من بلغ مقصوداً بالإفهام، فكذا لو قال:

ص: 105


1- الأصول الأصلية: 354.
2- الأصول الأصلية: 358.
3- الأصول الأصلية: 358.
4- الأصول الأصلية: 359.
5- الأصول الأصلية: 333-359.
6- نهج البلاغة 3: 76.

«يازرارة عليك بكذا» ثمّ قال: «أنقل جميع ما قلته للآخرين»، فلا فرق بين التعبيرين في الدلالة على كون الجمع مقصودين بالافهام.

ويدلّ على ذلك أو يؤيّده بالنسبة إلى القرآن الكريم ما روي من أنّه يستحبّ أن يقول القارئ عند قراءة {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا} و {يا أَيُّهَا النَّاسُ}: «لبّيك ياربّنا»(1). وفي بعض الأخبار «لبّيك اللّهمّ لبّيك» سرّاً.

وأن يقول عند قراءة {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: (لا بشيء من آلائك ربّ أُكذّب)(2).

وأن يقول بعد قراءة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إلى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}: اللّه اكبر، اللّه اكبر، اللّه اكبر(3).

وأن يقول بعد قراءة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}): آمنا باللّه(4).

وأن يقول سرّاً بعد قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}: سبحان اللّه الأعلى أو سبحان ربّي الأعلى وبحمده (5). ونحوه بعد قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}(6).

ص: 106


1- وسائل الشيعة 4: 753.
2- نور الثقلين 5: 187.
3- بحار الأنوار 85: 34.
4- الخصال 2: 165.
5- عيون اخبار الرضا (عليه السلام) 1: 196.
6- الواقعة: 74.

إشكالان

لا يقال: إنّ الروايات الشريفة تدلّ على صرف الاشتراك في الأحكام، وهو غير ما نحن فيه.

فإنّه يقال: لو لم نكن مقصودين بالخطاب، ولم تكن ظواهر الألفاظ حجّة بالنسبة إلينا، لم تتمّ مرجعية الكتب والأخبار، إذ ظاهرها لم يعلم كونه حكماً، وباطنها غير معلوم.

والخلاصة: إنَّ جريان قاعدة الاشتراك موقوف على ثبوت « الحكم » وإذا لم يكن الظاهر حجّة لم يثبت الموضوع.

مثلا في قوله (عليه السلام) : «هذا صحيح ينبغي أن تعمل به»(1) إن كان المقصود العمل بظاهره فالمفروض أنّ ظاهره ليس بحجّة، وإن كان المقصود العمل بباطنه المراد منه فهو غير معلوم.

لا يقال: إنّ ظواهر الروايات والكتب حجّة على أي تقدير، ولو من باب الظنّ المطلق.

فإنَّه يقال: لو كان حجّة من باب «الظنّ المطلق» لم يكن حجّة مطلقاً، بل كان حجّة في صورة إفادته للظنّ، إذ الظنّ هو الحجّة، والخبر حجّة باعتباره ظنّاً، لا باعتباره خبراً، وحيث لم يحصل الظنّ لا يكون حجّة، وكذا لو كان الخبر مفيداً للظنّ إلاّ إنَّه معارض بظنّ أقوى غير معتبر - كالشهرة الفتوائية بناءً على عدم حجّيتها - وذلك مخالف لهذه الأخبار الدالّة على ثبوت الحجّية مطلقاً، ومخالف لما استقرّت عليهم سيرة الفقهاء، من تقديم

ص: 107


1- بحار الأنوار 50: 300.

الخبر على سائر الأمارات الظنّية، التي لم يثبت اعتبارها بالخصوص، وإن كانت أقوى منه في إفادة الظنّ. فتأمّل. هذا مضافاً إلى ما سيأتي في الجهة الرابعة فراجع.

2- الأحكام مشتركة

الجهة الثانية: ما قيل من أنّ الأحكام مشتركة، فيجري الخطاب الخاصّ مجرى الخطاب العام في أنّ الغرض نفس مفاد الكلام من غير دخالة افهام متكلّم خاصّ.

وفيه: إنَّ هنالك فرقاً بين كون (الحكم مشتركاً) و (الخطاب مشتركاً) ولا ملازمة بين الأمرين، إذ قد يكون الخطاب خاصاً، معتمداً على قرينة معهودة بين (المتكلّم) و (مَن قصد افهامه) إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون عاماً.

وبعبارة أُخرى ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، والحكم مشترك لكن لم يعلم كون الظاهر (حكماً).

والخلاصة: أنَّ ما ثبت لزرارة - المقصود بالافهام - ثابت لنا، لكن الكلام فيما أنّه ماذا ثبت لزرارة من الحكم.

3- كلّ راو مقصود بالافهام من السابق

الجهة الثالثة: إنّ الراوي الأوّل - كزرارة - مقصود بالافهام، فاحتمال خلاف الظاهر ينشأ إمّا من غفلة المتكلّم، وإمّا من غفلة السامع.

والأُولى منفية بالقطع، لعصمة الإمام (عليه السلام) ، والثانية: منفية بأصالة عدم الغفلة الثابتة عند العقلاء، فيحكم بحجّية ظاهر الكلام.

وعندما ينقل (الراوي الأوّل) الرواية إلى (الراوي الثاني) فهو لا يريد بذلك

ص: 108

نقل مجرّد الألفاظ، إذ لا موضوعية لها، ولا أثر لنقل الألفاظ التي لا يراد ظاهرها، بل هو يقصد نقل المحتوى - أي الحكم الذي تضمّنته الألفاظ.

فلو فرض وجود قرينة معهودة بين (الراوي الأوّل) وبين (الإمام (عليه السلام) ) تصرف الكلام المنقول عن ظاهره:

أ- فإمّا أن يتعمّد الراوي الأوّل عدم نقلها، وذلك خيانة منفية بفرض عدالته أو وثاقته، واغراء بالجهل ولا يقوم به الورع أو الثقة.

ب- أو أن يغفل عن نقلها.

ج- أو أن يغفل المنقول إليه عنها.

وهما منفيان ب- (أصالة عدم الغفلة) العقلائية، فيكون ظاهر الكلام المنقول من (الراوي الأوّل) إلى (الراوي الثاني) حجّة. وهكذا بالنسبة إلى جميع أحاد السلسلة، حتّى ينتهي الأمر إلى أصحاب الجوامع كالكليني، والصدوق، والشيخ رضوان اللّه عليهم ، ومن المعلوم إنَّ المقصود بالافهام من كتبهم: جميع من نظر فيها، فيكون ظاهرها حجّة بالنسبة إليهم جميعاً.

خاصّة وأنّه صرّح بعضهم بأنّه كتب كتابه ليكون مرجعاً للأجيال إلى يوم القيامة، قال الكليني رضوان اللّه عليه في مقدّمة الكافي الشريف:

«... إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلّم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدّي فرض اللّه عزّ وجلّ وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سبباً يتدارك اللّه [تعالى] بمعونته

ص: 109

وتوفيقه إخواننا وأهل ملّتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم»(1).

بل إنّ كثيراً من الكتب - كالأُصول الأربعمائة- كتبها (الراوي الأوّل) بنفسه، فهو مقصود بالإفهام من قبل الإمام (عليه السلام) ، وقد قيّد بكتابه افهام كلّ من ينظر فيه، وكثير من روايات الكتب الأربعة - التي كتبت لافهام كلّ من ينظر فيها - مأخوذة منها.

قال الصدوق (رحمه اللّه) : في مقدّمة الفقيه:

«وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع - مثل كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني، وكتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي وكتب علي بن مهزيار الأهوازي، وكتب الحسين بن سعيد، ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى، وكتاب نوادر الحكمة تصنيف محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه، وجامع شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد رضي اللّه عنه، ونوادر محمد بن أبي عمير، وكتب المحاسن لأحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، ورسالة أبي رضي اللّه عنه إليَّ وغيرها من الأصول والمصنفات التي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي رضی اللّه عنهم»(2).

وقد نقل المحقّق النائيني رضوان اللّه عليه: أنّه كان عند المحدّث الشهير الحاج ميرزا حسين النوري (رحمه اللّه) ما يقرب من خمسين أصلاً من الأُصول(3).

ص: 110


1- الكافي 1: 49.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 4.
3- أجود التقريرات 3: 159.

وقد نقل إنّ ابن إدريس عثر على بعض الأُصول الأربعمائة واستخرج منها بعض الأحاديث، وألّف منها القسم الأخير من كتابه المسمّى بمستطرفات السرائر.

وأنّ السيّد رضي الدين ابن طاوس عثر على قسم آخر منها، وسجّل بعضها في كتابه المسمّى ب«كشف المحجّة».

وإنّ السيّد محمّد الحجّة عثر على ستّة عشر أصلاً قام بطبعها تحت عنوان «الأُصول الستّة عشر».

هذا ولكن لا يخفى إنّ هذا الوجه (الثالث) يختصّ بما لو كان الراوي الأوّل هو المقصود بالافهام، أمّا لو كان زرارة مثلا هو المقصود بالافهام ونقل شخص آخر حاضر في المجلس كلام الإمام (عليه السلام) لزرارة فلا يتمّ هذا الوجه، فتأمّل.

4- الإجماع والسيرة

الجهة الرابعة: الإجماع والسيرة، قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) :«فإنّه لا يتأمّل أحد من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها [أي الأخبار الصادرة عن الأئمّة (عليهم السلام) ](1) معتذراً بعدم الدليل على حجّية أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد افهامه...»(2).

والحاصل أنّ القطع حاصل لكل متتبّع في طريقة فقهاء المسلمين بأنّهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجّية الظنّ المطلق الثابتة

ص: 111


1- ما بين المعقوفتين من المصنّف (رحمه اللّه) .
2- فرائد الأصول 1: 165.

بدليل الانسداد بل يعمل بها من يدّعي الانفتاح وينكر العمل بأخبار الآحاد مدّعياً كون معظم الفقه معلوماً بالإجماع والأخبار المتواترة.

ويدلّ على ذلك أيضاً: سيرة أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) ؛ فإنّهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم من الأئمة الماضين (عليهم السلام) كما يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها من أئمّتهم (عليهم السلام) ....

والحاصل: أنّ الفرق في حجّية أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالف للسيرة القطعية من العلماء وأصحاب الأئمّة (عليهم السلام) (1).

أقول: قد سبق في الجهة الأُولى بعض ما ينفع في المقام فراجع.

أمّا بالنسبة إلى البحث الثاني

وأمّا بالنسبة إلى البحث الثاني: وهو البحث في صحّة أصل التفصيل المزبور وعدمها، فقد مضى توجيه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) للتفصيل.

واختار هذا التفصيل في المنتقى، قال:

«والحقّ هو: أنّ التفصيل في حجّية الظواهر بين من قصد إفهامه وبين من لم يقصد، تفصيل متين لابد من الإلتزام به، فإن الملاك الذي قربنا به حجية الظواهر يختص بمن قصد إفهامه.

وذلك: فإنا بينا في مقام تقريب حجية الظواهر - سواء كانت النتيجة قطعية كما نراه، أو ظنية كما يراه الآخرون- إن المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده الواقعي، فإرادة خلاف ظاهر كلامه الذي يتعارف الحكاية به عن

ص: 112


1- فرائد الأصول 1: 165-166.

مدلوله من دون نصب قرينة معلومة للمخاطب خلف فرض كونه في مقام التفهيم.

وهذا المحذور إنما يتأتّى بالنسبة إلى من قصد إفهامه، أما من لم يقصد إفهامه فلا يتأتّى المحذور بالنسبة إليه، إذ لا خلف في إرادة خلاف ظاهر كلامه مع نصب قرينة لم يعلمها مَنْ لم يقصد إفهامه وعلمها من قصد إفهامه.

وعليه، فلا يمتنع أن ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد إفهامه كما لا يخفى، فلا يمكن لمن لم يقصد إفهامه أن يحتج بكلام المتكلم على تعيين مراده، إذ لعله نصب قرينة خفية عليه، علمها المخاطب فقط»(1).

أقول: المعروف بين الفقهاء رضوان اللّه عليه عدم ارتضاء هذا التفصيل، وأنّه لا فرق في حجّية الظواهر بين من قصد افهامه بالخطاب ومن لم يقصد, وقد بيّن ذلك ببيانات:

1- الاطباق على حجّية الظواهر مطلقاً

البيان الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من اطباق أهل اللسان والعلماء على حجّية الظواهر مطلقاً.

قال (رحمه اللّه) : «إنّ أهل اللسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظان وجودها، ولا يفرقون في استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه، فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخص إلى

ص: 113


1- منتقى الأصول 4: 216.

شخص بيد ثالث، فلا يتأمل في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه إلى المكتوب إليه، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى، وهذا واضحٌ لمن راجع الأمثلة العرفيّة، هذا حال أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم.

وأمّا العلماء، فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن الموجّهة من متكلم إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الأحكام الجزئية كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيّن إلى شخص معيّن، ثم مسّت الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه، فإنّ العلماء لا يتأملون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المقصود وكذا في الأقارير...» إلى آخر كلامه(1).

وأضاف السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه) إلى (الوصايا) و (الأقارير): «(الشهادات) و (الدعاوى) و (الاخبارات) و (الانشاءات) و (الايمان)، كما إذا حلف أو نذر أو عاهد: على أن اللّه إن شافى ولده ذبح شاة، ثم شوفي الولد، ومات الحالف، أو الناذر، أو المعاهد قبل الأداء، لزم على الوصي ونحوه إخراج الشاة وذبحها؛ لأنّه صار واجباً عليه، وهكذا إذا قال لزوجته بالشروط المقررة للطلاق: أنت طالق، فإنَّ الأجنبي يتمكن من تزويجها بعد إنقضاء العدة، أو مباشرة إذا لم تكن لها عدة، وكذلك إذا أجرى صيغة النكاح خفية، فيما إذا كان الزوجان يريدان أن لا يطّلع على ذلك أحد فإن

ص: 114


1- الوصائل 2: 269- 272.

ولد الرجل وأباه يجوز لهما النظر إلى تلك المرأة»(1).

وهذه الأمثلة «منبّهات وجدانية» على حجّية الظواهر مطلقاً ولو لغير المقصود بالافهام.

2- جريان أصالة الظهور

البيان الثاني: إنّ كلا من أصالة عدم الغفلة، وأصالة الظهور أصل برأسه وناشئ من منشأ لا يرتبط أحدهما بالآخر، وإن كان كل واحد منهما من الأصول العقلائية الثابتة حجيتها ببناء العقلاء.

أما أصالة عدم الغفلة، فمنشأها أن الغفلة والسهو في الفعل والقول خلاف طبيعة الإنسان، إذ الإنسان بطبعه يفعل ما يفعل عن الالتفات، ويقول ما يقول عن الالتفات، ولذا استقر البناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة، وأما أصالة الظهور فمنشأها كون الألفاظ كاشفة عن المرادات الواقعية بحسب الوضع، أو بحسب قرينة عامة، كالإطلاق الكاشف عن المراد الجدي بضميمة مقدمات الحكمة، فتحصَّل أنّ المنشأ لأصالة الظهور هو الوضع أو القرينة العامة، والمنشأ لأصالة عدم الغفلة هو كون الغفلة خلاف طبع الإنسان في الفعل والقول. فلا يرتبط أحدهما بالآخر والنسبة بينهما من حيث المورد هي العموم من وجه؛ لأنَّه تفترق أصالة عدم الغفلة عن أصالة الظهور في فعل صادر عن البالغ العاقل إذا احتمل صدوره منه غفلة وتفترق أصالة الظهور عن أصالة عدم الغفلة في كلام صادر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الإمام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ لا يحتمل صدوره عن الغفلة، وتجتمعان في كلام صادر

ص: 115


1- الوصائل 2: 272.

من أهل العرف في محاوراتهم، والمتحصل مما ذكرناه أن أصالة الظهور بنفسها من الأصول العقلائية، ولا اختصاص لها بمن قصد إفهامه؛ لأنّ العقلاء يأخذون بالظواهر في باب الأقارير، والوصايا ولو كان السامع غير مقصود بالافهام(1).

وقد يقال: إنّ وجود أصل بعنوان «أصالة الظهور» لدى العقلاء في موارد الشكّ في القرينة المعهودة بين المتكلّم والمقصود بالافهام، أوّل الكلام. إلاّ أن يرجع ذلك إلى البيان الأوّل، كما يظهر من ذيل الكلام.

3- المناشئ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر والأُصول النافية لها

البيان الثالث: أنّه لابدّ أن يبحث عن (مناشئ احتمال إرادة خلاف الظاهر) عموماً، ونلاحظ إمكان نفي كلّ منشأ من هذه المناشئ بأصل من الأُصول العقلائية.

فنقول: إنّ الشكّ في إرادة خلاف الظاهر ينشأ من أحد أُمور:

1- احتمال أن لا يكون المتكلّم في مقام بيان المرام بالكلام، بل يكون في مقام الاهمال أو الإجمال أو التقية أو نحو ذلك، وهذا الاحتمال لا يختصّ بغيّر المقصود بالافهام كما هو واضح.

ويُدفع هذا الاحتمال بظهور حال المتكلّم في مقام تفهيم المرام بالكلام، أو بأنّ الأصل كون المتكلّم في مقام البيان.

2 - احتمال كونه معتمداً على قرينة منفصلة تصرف الظاهر عن ظاهره، وهذا الاحتمال غير مختصّ به كالسابق.

ص: 116


1- مصباح الأُصول 2: 120-121.

ويُدفع بظهور حال المتكلّم في مقام تفهيم المرام بشخص الكلام لا بمجموع كلمات منفصلة.

نعم, لو كان دأب المتكلّم بيان تمام مرامه بالقرائن المنفصلة - كما هو الأمر في الشارع، بل في القوانين الوضعية أيضاً - يلزم الفحص عن المقيّد المخصّص ونحوهما....

3 - احتمال كونه معتمداً على قرينة متّصلة غفل عنها السامع - أو من هو كالسامع- وهذا الاحتمال غير مختصّ به أيضاً.

ويُدفع بأصالة عدم الغفلة.

4- احتمال كونه معتمداً على قرينة معهودة بين المتكلّم والمقصود بالافهام، وهذا الاحتمال يختصّ بغير المقصود بالافهام كما هو واضح.

ويُدفع بظهور حال المتكلّم في الجري وفق أساليب التعبير العرفي في كلامه أو بأنّ الأصل عند العقلاء: استعمال المتكلّم للمنهج العرفي في الكلام والمحاورة، إلاّ أن يثبت اعتماده طريقة مخصوصة تختلف عن الطرائق العرفية.

5- احتمال وجود قرينة متّصلة التفت إليها المقصود بالافهام ولكنّه لم ينقلها ولو كانت متمثّلة في لحن الخطاب أو قسمات وجه المتكلّم ممّا لا يعتبر لفظاً.

ويدفع بشهادة الناقل ولو ضمناً بعدم حذف ما له دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد(1). هذا ولا يخفى أنّ الاحتمالات الثلاثة الأُول لا

ص: 117


1- بحوث في علم الأصول 4: 274؛ دروس في علم الأصول 1: 283- 284.

تختص بغير المقصود بالافهام كما هو واضح، وأما جريان الأصل في الاحتمال الرابع فهو أوّل الكلام، إلاّ أن يرجع ذلك إلى البيان الأوّل.

2) التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيرها

التفصيل الثاني: التفصيل بين ظواهر الكتاب العزيز وغيرها، بعدم الحجّية في الأُولى، والحجّية في غيرها، وهذا التفصيل منسوب إلى جمهور الأخباريين أو جماعة منهم.

وقد ذكرت لهم وجوه خمسة على عدم حجّية ظواهر الكتاب:

الوجه الأوّل: النصوص الدالّة على اختصاص فهم القرأن الكريم بأهله ومن خوطب به، وهم محمّد وآل محمّد (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

الوجه الثاني: أنّ القرآن الكريم يحتوي على مضامين شامخة ومطالب غامضة وفيه علم كلّ شيء، فلا تكاد تصل إليه أفكار أُولي الأنظار غير الراسخين في العلم العالمين بتأويله وهم النبي وآله عليهم الصلاة والسلام، كيف ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلاّ الأوحدي من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وعلم كلّ شيء؟

الوجه الثالث: دعوى شمول (المتشابه) الممنوع من اتّباعه ل- (الظاهر) ولا أقل من احتمال شمول (المتشابه) له، لتشابه (المتشابه) وإجماله، فإنّ ذلك يكفي في منع العمل بالظاهر.

الوجه الرابع: دعوى أنّه وإن لم يكن من المتشابه ذاتاً لكنّه صارفة عرضاً للعلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، فلا يمكن اجراء (أصالة الظهور) في أي واحد من ظواهره،

ص: 118

لحصول المعارضة.

الوجه الخامس: دعوى أنّ حمل الكلام على ظاهره تفسير للقرآن الكريم بالرأي، وهو منهي عنه للنصوص الكثيرة.

ثمّ إنّ النزاع يختلف صغروياً وكبروياً بحسب اختلاف هذه الوجوه.

مثلا: مقتضى الوجه الثاني أنّه (لا ظهور) للآيات الكريمة.

بينما مقتضى الوجه الخامس أنّه (لا حجّة للظهور) بعد انعقاده، للردع الشرعي عن العمل بالظاهر القرآني.

وقد ذكر السيّد الوالد (رحمه اللّه) : أنّ الوجه الرابع يمكن أن يقرّر صغروياً وكبروياً(1).

ولعلّ المراد أنّه إن كانت القرينة - على التقييد أو التخصيص أو التجوّز- متّصلة لم ينعقد ظهور، وإن كانت منفصلة لم يكن الظهور حجّة، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ كون هذا الرأي تفصيلاً في حجّية الظهورات يبتني على عدم حجّية الظهور القرآني بعد تحقّقه.

وأمّا لو قيل بعدم انعقاد الظهور أصلاً، فليس تفصيلاً في المقام، بل هو انكار للموضوع، فلا يقدح بكلّية «حجّية الظهورات»، كما هو واضح.

وإليك البحث عن هذه الوجوه.

الوجه الأوّل: اختصاص فهم القرآن بأهله ومن خوطب به

ويدلّ على ذلك:

ما رواه في الوسائل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) - في حديث - «إنّ أبا عبد

ص: 119


1- الوصول 3: 410.

اللّه (عليه السلام) قال لأبي حنيفة: أنت فقيه العراق؟ قال: نعم، قال: فيم تفتيهم؟ قال: بكتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حق معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم، قال: يا أبا حنيفة لقد أدعيت علماً ويلك ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما ورثك اللّه من كتابه حرفاً»(1). وذكر الاحتجاج عليه، حتّى سكت أبو حنيفة.

وفيه عن زيد الشحّام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك - إلى أن قال أبو جعفر (عليه السلام) :- ويحك يا قتادة! إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به»(2).

ومقتضى ذلك عدم اعتبار فهم الآخرين.

إشكالات

ويرد على هذا الوجه:

أ- ضعف السند

أوّلا: ما في البحوث من أنّها ضعيفة السند جميعاً.

ص: 120


1- وسائل الشيعة 27: 47.
2- وسائل الشيعة 27: 176.

قال: «وممّا يؤكّد بطلان هذا المفاد إنَّ رواة هذه الروايات توجد ظاهرة مشتركة فيما بينهم هي ظاهرة الباطنية ومحاولة تحويل النظر من ظاهر الشريعة إلى باطنها، ومن تتبع في أحوال المنتسبين إلى الأئمة (عليهم السلام) وجد أنّ هناك اتجاهين فيما بينهم:

أحدهما: الاتجاه السائد في فقهاء الأصحاب الذي كان يمثل ظاهر الشرعية والذي هو واقعها أيضاً وكان يتمثل في زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهم.

والآخر: إتجاه باطني كان يحول دائماً أن يلغز في القضايا ويحوّل المفهوم إلى اللامهفوم وفي أحضان هذا الاتجاه نشأ الغلو وحيث لم يكن لهم مدارك واضحة إتجهوا إلى تأويل القرآن وإستخراج بطون له، فمثل سعد بن طريف الواقع في سند هذه الروايات كان له اتجاه باطني وقد قال أن الفحشاء رجل، والمنكر رجل, والصلاة تتكلم, في تفسير قوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(1) ونحو ذلك من الغرائب، وجابر بن يزيد الجعفي هو الذي ينسب إليه أنَّه يقول دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وأنا شاب فناولني كتاباً وقال هذا علم لك وحدك لا تظهره على الناس وإلاّ كانت عليك لعنتي وكتاباً آخر لا أظهره إلاّ بعد هلاك بني أمية. ونقل أيضاً عنه أنَّه قد سمع من الباقر (عليه السلام) سبعين ألف حديث لا يمكنه أن يقول شيء منها لأحد. ونحو ذلك من الأمور التي تتجه إلى تركيز هذه المعاني وهي كلها أجزاء من قضية كلية حاولها الغلاة المنحرفون وهي

ص: 121


1- العنكبوت: 45.

صرف الأنظار من ظاهر الشرع إلى باطن لا معنى له.

ولهذا نجد أن أمثال هذه الأمور لم ينقل شيئاً منها فقهاء أصحاب الأئمة الذين كانوا حملة فقههم وفكرهم وتراثهم، كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهم، أفلم يكن الأولى – لو كان هناك ردع عن العلم بظواهر القرآن- من أن يُبيّن ذلك الردع إلى هؤلاء الفقهاء الأجلاء وتصل إلينا تلك الردوع عن طريقهم فإنهم أولى بذلك وهم مورده ومحتاجون إليه، كل ذلك يوجب الاطمئنان بأنّ هذه الطائفة من الروايات موضوعة ولا محصل لها أو لابدّ من تأويلها وصرفها إلى معانٍ أخرى غير حجية الظواهر القرآنية»(1).

أقول: أمّا قضية «الغلو» و«الاتّجاهات الباطنية» و«بطون القرآن الكريم» فهي بحاجة إلى معالجة معمّقة، يضيق عنها المجال، وندعها لمقام آخر.

وأمّا الرمي بضعف السند، ففيه:

أنّ الروايات الواردة في هذا المعنى متعدّدة وبعضها معتبر من الناحية السندية.

وفي الكافي الشريف ثلاثة أبواب تحتوي على مجموعة من الروايات بهذه المضامين:

الأوّل: باب تحت عنوان: (أنّ الأئمّة قد أُوتوا العلم وأثبت في صدورهم).

الثاني: باب تحت عنوان: (في أنّ من اصطفاه اللّه من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمّة (عليهم السلام) ).

ص: 122


1- بحوث في علم الأصول 4: 285-286.

الثالث: باب تحت عنوان: (أنّه لم يجمع القرأن كلّه إلاّ الأئمّة (عليهم السلام) وأنّهم يعلمون علمه كلّه). ومن الروايات الواردة في ذلك.

ما في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن يزيد شعر عن هارون بن حمزة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}. قال: هم الأئمّة (عليهم السلام) خاصّة(1). وسند الرواية صحيح على الظاهر.

وروي في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أُذينة عن بريد بن معاوية قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}. قال: إيّانا عنى وعلي أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

ومن المقرّر في البلاغة أنّ تقديم ما من حقّه التأخير يفيد الحصر، فتقديم «إيّانا» على «عنى» يدلّ على الحصر، وقد ذكر المفسّرون نظير ذلك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

ولعلّ المتتبّع يعثر على العشرات من الروايات بهذه المضامين. وعلى كلٍّ: فالرمي بالضعف والوضع محلّ إشكال.

ب- المعارضة للكتاب العزيز

ثانياً: إنّها معارضة للقرآن الكريم الدالّ على أنّه نزل تبياناً لكلّ شيء وأنّه

ص: 123


1- الكافي 1: 167.
2- الكافي 1: 179.

هدى(1). وأنّه بلاغ(2).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر}(3). وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا}(4). وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(5). وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}(6).

والمخالف للكتاب من أخبار الآحاد لا يشمله دليل حجّية خبر الواحد.

ويمكن الجواب: بأنّه بيان بواسطة من أرجع إليهم، والبيان بالواسطة بيان، إذ يعود الأمر بالنتيجة إلى المبيّن بالواسطة نفسه.

بل القرآن الكريم صريح في توقّف فهمه على البيان، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(7).

وقد ذكروا نظير ذلك في قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

«ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة، ويباعدكم عن النار، إلاّ وقد أمرتكم به»(8) الحديث..؛

ص: 124


1- النحل: 89.
2- إبراهيم: 52.
3- القمر: 17.
4- محمد: 24.
5- النساء: 82.
6- الزخرف: 44.
7- النحل: 44.
8- بحار الأنوار 67: 96.

إذ قد يقال: بأنّ هنالك ما لم يبيّنه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

والجواب: إنّه بيّنه بقوله: «خذوا دينكم من علي»(1)، ونحوه من الأحاديث الدالّة على الإرجاع إلى أهل البيت (عليه السلام) .

وبيان مَنْ هو نفس النبي، أو كنفسه (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، مع إرجاعه إليهم، هو بيان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إلاّ إنّ هذا الاحتمال - أي احتمال كون القرآن الكريم بياناً بالواسطة - بعيد، فتأمّل.

كما يمكن الجواب: بأنَّه بيان في الجملة لا بالجملة.

فلا ينافي إحتواءه على بعض الأُمور الغامضة أو التي تتوقّف على البيان، كما تحقّق ذلك في الحروف المقطّعة – على بعض الإحتمالات -.

وقد ذكر نظير ذلك في احتواء القرآن الكريم على كلمات أعجمية، مع كونه {قُرْآناً عَرَبِيّاً}(2). فإنّ احتواء الكتاب العربي على بعض الكلمات الأعجمية لا يخرجه عن كونه عربياً.

وبعبارة أُخرى: إنَّ القرآن الكريم بيان للخطوط الكلّية التي تتضمّن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فلا ينافي ذلك احتياج الجزئيات إلى البيان.

وبعبارة ثالثة: أنّ الأمر لا يعدو إطلاقاً قابلا للتقييد.

وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الجواب الخامس إن شاء اللّه تعالى.

ص: 125


1- لم نعثر على هذا الحديث، ولكن وجدنا ما يوافقه في المضمون مثل: «أرجعوا إلى ولاية علي يستغفر لكم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن ذنوبكم ...» راجع: الصافي 5: 180؛ تأويل الآيات الظاهرة 2: 694.
2- يوسف: 2.

ج- المعارضة للسنّة القطعية

ثالثاً: أنّها معارضة للسنّة القطعية المتواترة الدالّة على مرجعية القرآن الكريم للمسلمين، واحالتهم إليه. وفي المقام تقريران:

الأوّل: أنّها معارضة لعمومات الإرجاع - كحديث الثقلين ونحوه.

ويرد على ذلك: أنّها قابلة للتخصيص.

الثاني: أنّها معارضة للروايات الدالّة على حجّية الظهورات. مثل الروايات الآمرة بعرض المتعارضين على الكتاب.

والروايات الآمرة بعرض مطلق الروايات على الكتاب.

وغير ذلك ممّا مضى بعضه، وستأتي الاشارة إلى بعضه الآخر في ذيل الوجه الخامس إن شاء اللّه تعالى.

إلاّ إنّ ذلك كلّه فرع تحقّق « المعارضة » وسيأتي في الجواب الخامس إن شاء اللّه أنّه لا معارضة.

د- المراد بمن خوطب به «أهل الحقّ»

رابعاً: ما ذكره السيّد السبزواري (رحمه اللّه) من أنّ المراد ب- «من خوطب به»: أهل الحقّ ومطلق من يريد إتّباعه، في مقابل من يتّبع الهوى فهذه الأخبار نظير قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}(1).

وفيه: أنّه خلاف الظاهر.

خصوصاً مع ملاحظة سائر الروايات الواردة في المقام، مثل قوله (عليه السلام) :

ص: 126


1- تهذيب الأصول 2: 67.

(هم الأئمّة خاصّة) وقوله (عليه السلام) : (إيّانا عنى)(1).

ه- - المراد اختصاص المعرفة التفصيلية بأهل البيت (عليهم السلام)

خامساً: الظاهر أنّ المراد من إختصاص معرفة القرآن الكريم بأهل البيت (عليهم السلام) اختصاص المعرفة التفصيلية بهم لا الإجمالية.

وبعبارة أُخرى (المعرفة بالكنه) لا (المعرفة بالوجه).

وبعبارة ثالثة: (المعرفة بالجملة) لا (في الجملة).

فهذه الروايات تعني أنّ المعرفة بكلّ الخصوصيات مختصّة بهم (عليهم السلام) ولا تعني عدم معرفة غيرهم شيئاً من القرآن الكريم مطلقاً.

فهي نفي للمعرفة الكلّية عن الآخرين، لا نفي للمعرفة كلّية.

أي أنّها تنفي معرفة المجموع بما هو مجموع عن الاغيار ، لا أنّ غيرهم لا يعرف من القرآن الكريم شيئاً. ويدلّ على ذلك ملاحظة الروايات الشريفة.

ففي الرواية الأُولى ادّعى أبو حنيفة أنّه يعرف كتاب اللّه حقّ معرفته ويعرف الناسخ والمنسوخ، فاستنكر الإمام (عليه السلام) عليه ذلك وقال: «ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب...»(2) الحديث.

والظاهر أنّه نفي لمعرفة أبي حنيفة الكتاب حقّ معرفته لا نفي للمعرفة مطلقاً.

ومن الواضح: أنّ «الفتوى» تتوقّف على معرفة الكتاب حقّ معرفته، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ولا يكفي فيها مطلق المعرفة، فهي المنفية دونه.

ص: 127


1- الكافي 1: 229.
2- وسائل الشيعة 27: 48.

ولا أقلّ من أنّ دعوى أبي حنيفة تصلح للقرينية على صرف العموم عن ظاهره، ومن المعلوم أنّ وجود ما يصلح للقرينية من الكلام المتّصل مانع عن أصل انعقاد الظهور.

وفي الرواية الأُخرى قال الإمام (عليه السلام) : (إيّانا عنى) في تفسير قوله تعالى:

{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(1). والحديث هنا عن {مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي كلّه لا (من عنده علم من الكتاب) وهو ظاهر في العلم الشمولي, ومن الثابت: اختصاص ذلك بأهل البيت (عليهم السلام) .

وفي الرواية الأُخرى قال (عليه السلام) : (هم الأئمّة خاصّة) في تفسير قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(2). والضمير في الآية الكريمة راجع للقرآن الكريم كلّه.

وللوالد (رحمه اللّه) بيان في قوله (عليه السلام) لأبي حنيفة: (ما ورثك اللّه من كتابه حرفاً). قال رضوان اللّه عليه: «القرآن له أطراف كثيرة: طرف كوني، وطرف تاريخي، وطرف عقيدي، وطرف قصصي، وطرف أحكامي، وطرف أمثالي، إلى غير ذلك من الأطراف.

وقد أشار القرآن إلى كل طرف إشارة عابرة، ولم يستوعبه كاملاً، فجاء - مثلاً- ببعض من قصة الكون يرتبط بالماضي، وببعض ما يرتبط بالآخرة، وحول ما بقي من الدنيا مما يرتبط بالمستقبل، وكذلك ذكر بعضاً من تاريخ الأنبياء والأمم السابقة، واشار إلى نزر من وقائع المستقبل وأنباء عن بعض

ص: 128


1- الكافي 1: 179.
2- العنكبوت: 49.

الملاحم والفتن اللاحقة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ}(1). وكذلك تحدث عن طرف من العقيدة، وعن طرف من القصص، وعن طرف من الواجبات والمحرمات، والأخلاق والآداب، وعن طرف من الأمثال والعبر، وهكذا.

وترك علم بقيّة كل طرف من الأطراف وتفصيله عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من أهل بيته (عليهم السلام) ، وطبيعي لمثل أبي حنيفة أنّه لم يكن يستوعب علم حتى طرف واحد من أطراف القرآن، فبقية قصة يوسف (عليه السلام) - مثلاً- وبقية خصوصيات الصلاة والصيام، وبقية خصوصيات الجنة والنار وغير ذلك، مما لم يذكر في القرآن، لا يعرفها إلا من نزل القرآن عليه وهو الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من أهل بيته (عليهم السلام) الذين ورثوا عنه هذه العلوم دون غيرهم. وعليه: فلا يحق لأحد أن يحكم بالقرآن بدون مراجعتهم»(2).

وعليه فلا تدلّ هذه الروايات على الاختصاص مطلقاً، بل من البعيد أن يلتزم أحد بذلك.

فهل يمكن الالتزام بأنّ فهم قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هو}(3) خاصّ بأهل البيت (عليهم السلام) ؟ وكذا قوله تعالى: {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(4).

ص: 129


1- النمل: 82.
2- الوصائل 2: 158- 159.
3- محمد: 19.
4- البقرة: 275.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}(1).

وقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}(2). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ}(3). إلى غيرها من الآيات المباركات.

ويدلّ على ذلك أو يؤيّده: أنّ حجّية الكتاب من الموضوعات المهمّة المرتكزة في أذهان المتشرّعة، وحجم الردع يجب أن يتناسب مع حجم المردوع عنه وأهميّته ومدى إرتكازه، والردع عن إرتكاز من هذا القبيل وفي موضوع له هذه الخطورة لا يكفي فيه صدور عدّة روايات، بل لابدّ من ورود روايات كثيرة حتّى يتحقّق الردع خارجاً، كما حصل ذلك في مسألة (القياس) مثلاً.

ويؤيّد ذلك أو يدلّ عليه أنّ جمهور الفقهاء طيلة أكثر من ألف عام لم يستظهروا الردع من هذه الروايات.

وأمّا رواية قتادة فقد تضمّنت لفظ (التفسير) وهو كشف القناع - على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - فلا يشمل الأخذ بظاهر اللفظ، لأنّه غير مستور ليكشف عنه القناع.

ويدلّ على ما ذكرناه أيضاً ما تقدّم من الروايات الكريمة الدالّة بشكل صريح على حجّية ظواهر الكتاب، وستأتي الاشارة إلى بعض الروايات

ص: 130


1- البقرة: 273.
2- البقرة: 144.
3- الحج: 1.

الأُخرى إن شاء اللّه تعالى.

والخلاصة: أنّ الروايات الكريمة غير ظاهرة في الردع عن العمل بظواهر الكتاب بعد الفحص وعدم العثور على ما يصرف الظاهر عن ظاهره في روايات النبي وأهل بيته (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

الوجه الثاني: احتواء القرآن على مضامين شامخة

ويدلّ على ذلك روايات كثيرة.

منها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ اللّه أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج العباد إليه إلاّ بيّنه للناس حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلاّ وقد أنزل اللّه فيه»(1).

ومنها: ما عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ اللّه لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلا يدلّ عليه»(2).

ومنها: ما ورد عن عبدالأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: «إني لأعلم ما في السماء وأعلم ما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وأعلم ما يكون، علمت ذلك من كتاب اللّه إن اللّه تعالى يقول: فيه تبيان كلّ شيء»(3).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نحن واللّه نعلم ما في السموات وما

ص: 131


1- بحار الأنوار 89: 81.
2- بحار الأنوار89: 84.
3- بحار الأنوار89: 85.

في الأرض وما في الجنة وما في النار وما بين ذلك. فبهت انظر إليه قال فقال: يا حماد إن ذلك من كتاب اللّه إن ذلك كتاب اللّه، أن ذلك من كتاب اللّه، ثم تلا هذه الآية: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(1) إنه من كتاب اللّه فيه تبيان كل شيء فيه تبيان لكل شي»(2).

ومنها: ما عنه (عليه السلام) قال: إنّي لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه فقال: علمت ذلك من كتاب اللّه إن اللّه يقول: فيه تبيان لكل شيء»(3).

إلى غيرها من الروايات.

والجواب عن ذلك

1- عدم احتواء جميع الآيات على مضامين شامخة

أوّلا: ما في المنتقى من:

(أنّه لا يحتوي على المضامين العالية بتمام آياته بل في بعضها. فلا ينافي غموضها حجّية غيرها من الظواهر التي لا غموض فيها ولا لبس في دلالتها)(4).

ص: 132


1- النحل: 89.
2- بصائر الدرجات: 148؛ بحار الأنوار 89: 86.
3- الكافي 1: 261.
4- منتقى الأصول 4: 218.

وفي المحصول: (إنّ اشتماله على ذلك غير منكر، لكن ذلك لا يكون مانعاً عن فهم ما ورد حول القصص والأحكام والأخلاق، والأوحدي وغيره في مقابل قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} سواسية، ومثله قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ})(1).

المناقشة في ذلك:

وهذا الجواب لا يخلو من نظر؛ إذ وزان كتاب اللّه التدويني وزان كتابه التكويني.

فكما أنّه لا تفاوت في مخلوقات اللّه التكوينية من حيث العظمة والدقّة، وإليه يشير قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُت}(2). كذلك لا تفاوت في كلمات اللّه التدوينية، في الشموخ والرفعة، فكلّها ذات مضامين عالية رفيعة، وإليه يشير قوله تعالى: {اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً}(3).

إلاّ أنّ الأمر بحاجة إلى نظرة الخبير المتخصّص ليكتشف بعضاً من المضامين الشامخة الرفيعة.

فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(4) يتوقّف اكتشاف

ص: 133


1- المحصول 3: 153.
2- الملك: 3.
3- الزمر: 23.
4- الحجرات: 6.

بعض أعماقها على نظرة الأُصولي الخبير(1).

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْن إِلَى أَجَل مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ...}(2) الآية تتوقّف معرفة بعض مضامينها الشامخة على تحليل القانوني العارف.

وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيَْمانَ...}(3) الآية يتوقّف اكتشاف بعض محتملاتها على تحليل المفسّر القدير، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ في الآية الكريمة مليوناً ومائتين وستين ألف احتمال(4).

وقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ...} الآية تفتقر معرفة بعض أبعادها البلاغية على تأمّل البلغاء الكبار، وقد ذكر بعضهم أنّ هذه الآية الكريمة المركّبة من 17 لفظاً تحتوي على أكثر من 28 نوعاً من أنواع المحسّنات البديعية.

وقوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا}(5) يتوقّف اكتشاف تضمّنه الاشارة إلى قانون «الجاذبية» على تدبّر علماء الطبيعة الكبار. وهكذا... وهلمّ جرّا... .

وقد روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) تكلّم حول تفسير البسملة ليلة كاملة ثمّ

ص: 134


1- فرائد الأصول 1: 254.
2- البقرة: 282.
3- البقرة: 102.
4- الميزان 1: 230.
5- الرعد: 2.

قال: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير البسملة(1).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «القرآن على أربعة أشياء على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء »(2).

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه سئل عن هذه الرواية: ما في القرآن إلاّ ولها ظهر وبطن, قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله(3).

وعن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) .. إنّ الأحاديث تختلف عنكم قال: فقال: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه، ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب»(4).

وعن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إن اللّه أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعلمه قال: وما ذاك؟ قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}(5) قال: ليقضوا تفثهم لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال عبد اللّه بن سنان: فأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقلت: جعلني اللّه فداك قول اللّه عز وجل {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك فإن ذريحاً المحاربي حدّثني عنك أنك قلت له: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}: لقاء الإمام

ص: 135


1- بحار الأنوار40: 157.
2- بحار الأنوار 75: 287.
3- وسائل الشيعة 27: 196.
4- بحار الأنوار 89: 83.
5- الحج: 29.

{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}: تلك المناسك فقال: صدق ذريح وصدقت إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح(1).

وعن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التفسير فأجابني ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر فقلت: جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: يا جابر إن للقرآن بطناً وللبطن بطن وله ظهر، وللظهر ظهر، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، وإن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل متصرّف على وجوه(2).

وعن الفضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلاّ وله حد، ولكل حد مطلع ما يعني بقوله: لها ظهر وبطن؟ قال: ظهره وبطنه تأويله، منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد يجري كما تجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيء وقع، قال اللّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(3) نحن نعلمه»(4).

وفي تفسير الصافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما من آية إلاّ ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحدّ ومطلع، فالظاهر التلاوة, والباطن العلم، والحدّ هو

ص: 136


1- بحار الأنوار 89: 83-84.
2- وسائل الشيعة 18: 142؛ بحار الأنوار 89: 91.
3- آل عمران: 7.
4- بحار الأنوار 89: 94.

أحكام الحلال والحرام, والمطلع هو مراد اللّه من العبد بها»(1).

وفي الميزان: «المراد بالتلاوة..»(2). إلى غيرها من الروايات الشريفة، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره في المحصول من التمثيل بالآيتين الكريمتين.

ففيه: أنّ الآية الأُولى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فيها مباحث عميقة، ويستنبط منها أحكام اقتصادية مهمّة، وقد أشار الوالد (رضوان اللّه عليه) إلى بعض ذلك في فقه الاقتصاد(3).

كما أنّ في الآية الثانية مباحث عميقة، أشار إلى بعضها الوالد (رحمه اللّه) في موسوعة الفقه(4).

فهيهات أن يستوي الأوحدي والسوقي في فهم هذه الآيات الكريمات. والبحث في هذا المجال طويل، ندعه إلى محلّه.

2- شموخ المعاني ينبغي أن لا يكون على حساب الهدف

ثانياً: أنّ شموخ المعاني وعلوّها ينبغي أن لا يكون على حساب الهدف من بيانها.

ولمّا كان الهدف هداية الإنسان فلابدّ أن تبيّن المعاني على نحو يؤثّر في تحقّق هذا الهدف، وذلك موقوف على تيسّر فهمه(5).

ص: 137


1- الصافي 1: 31.
2- الميزان 2: 73.
3- الفقه 107: 144.
4- الفقه 48: 157-159.
5- دروس في علم الأصول 1: 224.

وفيه: أنّنا لو سلّمنا كون الهدف الوحيد هو الهداية فلا نسلّم اشتراط المباشرة في ذلك، فإنّ الهداية بالواسطة هداية.

ونظيره الكتب الفقهية الموضوعة لإرشاد المكلّفين إلى كيفية العمل، مع احتياج فهم لغتها إلى إيضاح المدرّسين.

3- شموخ المضافين لا ينافي حجّية الظواهر

ثالثاً: إنّ الشموخ واحتواء القرآن الكريم على علم ما كان وما يكون لا ينافي وجود ظهور يصحّ الأخذ به في كثير من آيات القرآن الكريم.

وهو ما يعبّر عنه ب«الظاهر والباطن»، بل قد تكون للآية الكريمة بطون متعدّدة.

وكلّ يغترف بمقدار قابليته واستعداده، كما قال سبحانه: {أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}(1). وهو نظير كتاب اللّه التكويني؛ إذ له ظاهر يفهمه الجميع، وباطن لا يعلمه إلاّ الراسخون في العلم.

نعم، لو كان الباطن نقيضاً للظاهر لم يصحّ الأخذ بالظاهر.

لكن الأمر ليس من ذلك الباب، بل من باب وجود أعماق للشيء، ووجود مراتب لفهمه.

نعم، لابدّ أن يكون ذلك بعد الفحص، كي لا يكون هنالك ما يصرف الظاهر عن ظاهره.

الوجه الثالث: شمول (المتشابه) ل- (الظواهر)

الوجه الثالث: دعوى شمول المتشابه ل- (الظاهر) ولا أقل من احتماله.

والأصل في هذا الوجه قوله تعالى:

ص: 138


1- الرعد: 17.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ}(1).

الأجوبة عن هذا الوجه

ويرد على هذا الوجه:

1- المنع عن شمول المتشابه للظاهر

أوّلا: المنع عن شمول (المتشابه) ل- (الظاهر) إذ نسبة اللفظ إلى المعنيين إن كانت متكافئة - كما في المشترك اللفظي مثل (ثلاثة قروء) أو كان المجاز من المجازات المشهورة بحيث توجب الشهرة الغاء ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي وتكافؤ النسبة - صدق عليه (المتشابه) لتشابه المعاني في احتمال إرادتها من اللفظ، وليس الظاهر كذلك، لأنّ المعنى الظاهر أقرب إلى اللفظ من غيره.

نعم قد يرفع اليد عن (الظاهر) للمزاحمة بالنصّ أو الأظهر، إلاّ إنّ ذلك لا يوجب إندراج (الظاهر) في (المتشابه).

والحاصل: أنّ هنالك فرقاً بين (النصّ) و (الظاهر) و (الأظهر) و(المتشابه) - عرفاً ولغةً - فلا يصدق أحدها على الآخر.

2- المنهي عنه الإقتصار على المتشابه

ثانياً: سلّمنا شمول (المتشابه) ل- (الظاهر) إلاّ إنّه ليس المنهي عنه في الآية

ص: 139


1- آل عمران: 7.

الكريمة اتّباع المتشابه مطلقاً، بل الاقتصار على المتشابه.

توضيحه: أنّ الآية الكريمة قسّمت (الآيات القرآنية) إلى قسمين: المحكمات والمتشابهات.

واعتبرت (أنّ المحكمات) هي (المرجع من الكتاب) - إذ الاضافة في قوله تعالى: {أُمُّ الْكِتَابِ}(1) بمعنى «من» لا بمعنى «اللام»).

فاللازم إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة لاستيضاح معناها.

مثلا: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(2) يحتمل كونه بالمعنى الحقيقي، كما هو الشأن في الملوك، ويحتمل كونه بمعنى الاستيلاء والهيمنة على الأُمور، كما في قوله:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف أو دم مهراق(3)

فلو فرضنا عدم ظهور الآية الكريمة في المعنى الثاني، وتكافؤ المعنيين بالنسبة إلى اللفظ، يرفع هذا التشابه بالرجوع إلى قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(4).

وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(5) يحتمل معنى النظر إليه تعالى بالبصر أو بالفؤاد، الإبهام بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي}(6) أو

ص: 140


1- آل عمران: 7.
2- طه: 5.
3- لسان العرب 14: 414.
4- الشورى: 11.
5- القيامة: 23.
6- الأعراف: 143.

بقوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ}(1).

فهذا الإرجاع هو المفروض، ويؤيّده ما روي عن مولانا الرضا (عليه السلام) : «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هُدِي إلى صراط مستقيم»(2).

إلاّ أنّ الذين في قلوبهم زيغ يقصرون النظر على الآيات المتشابهة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

وقد ورد أنّ الآية الكريمة نزلت(3) في نصارى نجران حيث تمسّكوا ببعض الآيات التي يفهم منها أنّ المسيح - على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام - روح اللّه وكلمته لإثبات مدّعياتهم الفاسدة، مثل أنّ المسيح هو اللّه أو أنّه ابن اللّه، ولغرض الفتنة متغافلين عن الآيات الكثيرة التي تنفي أُلوهية المسيح وبنوّته لله سبحانه، وتثبت أنّه عبد مملوك لله تعالى.

وأين هذا من التمسّك بالظواهر القرآنية بعد مراجعة سائر الآيات الكريمة والروايات الشريفة؟

وبعبارة أُخرى: مع إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة لا يكون العمل بالمتشابه في الواقع، بل بالمحكم.

وبعبارة ثالثة: بعد إرجاع المتشابه إلى المحكم ينقلب الموضوع فلا يعود المتشابه متشابهاً فعلا، وإن كان متشابهاً شأناً.

ويؤيّده ما في تفسير العياشي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن المحكم

ص: 141


1- الأنعام: 103.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 261.
3- مجمع البيان 2: 238-242.

والمتشابه فقال: «المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله»(1).

فالمتشابه من الأُمور الاضافية، فقد تكون الآيات متشابهة بالنسبة إلى شخص ومحكمة بالنسبة إلى شخص آخر.

مثلا: قوله تعالى: {الم} قد يكون متشابهاً بالنسبة إلينا، إلاّ أنّه محكم بالنسبة إلى (المعصومين (عليهم السلام) ). وهذا التشابه قابل للرفع بسؤال المعصومين (عليهم السلام) .

والخلاصة: أنّه مع ارجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة لا تظلّ متشابهة، فينتفي الحكم بانتفاء موضوعه. ولو نوقش في جميع ذلك نقول:

إنّ المنهي عنه في الآية الكريمة هو: (اتّباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) فلا تدلّ على حرمة (اتّباع المتشابه مطلقاً).

فهو نظير قولنا: «لا تضرب اليتيم تشفّياً» فإنّ الضرب لغير التشفّي مسكوت عنه.

وحينئذ يجب تطبيق سائر القواعد على (اتّباع المتشابه لا للغرضين المزبورين). مثلا: الاتّباع بلا فحص محرّم، لوجوب الفحص. والاتّباع مع الفحص لا إشكال فيه، لعدم الدليل على حرمته، فتأمّل.

3- أنّه يلزم على هذا الاستدلال من وجود الشيء عدمه

ثالثاً: أنّه يلزم على هذا الاستدلال من وجود الشيء عدمه، وكل ما يلزم من وجوده عدمه محال.

بيانه - كما في النهاية: «إن كان الغرض نفي حجية سائر الظواهر بهذا

ص: 142


1- تفسير العياشي 1: 162.

الظاهر الذي بنى العقلاء على حجيته، فهو وإن لم يلزم منه المحال من حيث شموله لنفسه بمدلوله اللفظي. إلاّ إنه لما كان نفي حجية سائر الظواهر بملاك التشابه الشامل للظاهر، فيلزم من نفي حجية الغير بهذا الملاك نفي حجية نفسه.

وحيث لا يعقل نفي حجية الغير إلاّ بنفي حجية نفسه لاتحاد الملاك فيسقط هو عن الحجية لعدم معقولية حجيته في مدلوله بالملاك المأخوذ في مدلوله، وبغير هذا الملاك لا دلالة له أيضاً فيبقى سائر الظواهر بلا مانع.

ولابد من التصرف في هذا الظاهر؛ لأنّه وإن كان لا يعم نفسه بمدلوله، لكنه يعمه بملاكه المأخوذ في مدلوله، فيلزم من حجيته في مدلوله عدم حجيته في مدلوله»(1).

وبعبارة أُخرى: الآية الكريمة ظاهرة في الشمول ل- (ظواهر الكتاب) وهذا الظهور يشمله النهي، إمّا بنفسه وإمّا بملاكه، فيلزم من حجّية ظاهر الآية الكريمة في إثبات الردع عن العمل بظواهر الكتاب نفي هذه الحجّية.

مناقشتان

وقد يستشكل على هذا الإيراد من جهتين:

أ- المتشابه محكم في معناه الشامل للظاهر والمجمل

الأُولى: ما في النهاية من أنّ لفظ المتشابه محكم في معناه الشامل للظاهر والمجمل.

ولا منافاة بين كون الشيء متشابهاً بالحمل الأوّلي ومحكماً بالحمل

ص: 143


1- نهاية الدراية 3: 175.

الشائع(1).

توضيحه: أنّه يمكن انطباق وصفين متضادّين أو متناقضين على الشيء الواحد بدون أن يكون في ذلك محذور، لاختلاف الحمل.

مثل لو قلنا: (المعدوم المطلق لا يخبر عنه) فالموضوع معدوم بالحمل الأوّلي، وموجود بالحمل الشائع.

ولو قلنا: (شريك الباري ممتنع) ف«شريك الباري» هو شريك الباري بالحمل الأوّلي، وليس شريكاً له، بل مخلوقاً لمخلوقه، بالحمل الشائع.

ولو قلنا: (الشيء إمّا ثابت في الذهن أو لا ثابت) ف- (اللاّثابت) لا ثابت في الذهن بالحمل الأوّلي، وثابت فيه بالحمل الشائع.

ولو قلنا: (الجزئي ممّا يمتنع فرض صدقه على كثيرين) فالجزئي يمنع فرض صدقه بالأوّلي، ولا يمتنع بالشائع، إلى غير ذلك من الأمثلة.

و(مفهوم المتشابه) وإن كان (متشابهاً) بالحمل الأوّلي، لأنّ كلّ مفهوم واجد لذاته، ولا يعقل أن يكون فاقداً لذاته، ولا لذاتياته، إلاّ أنّه (محكم) بالحمل الشائع، إذ عندما نلاحظ حقيقة هذا المفهوم وواقعه نجد أنّه واضح ومبيّن، وهذا المفهوم الواضح يشمل بوضوح: المجمل والظاهر معاً.

والخلاصة: إنّ (المتشابه) نصٌّ في الشمول للظاهر، لا أنّه ظاهر في الشمول للظاهر، كي يرد محذور استلزام الوجود للعدم، وعلى هذا يثبت كلام الأخباريين.

ص: 144


1- نهاية الدراية 3: 174-175.

وفيه نظر:

إذ الظاهر - كما سبق في الجواب الأوّل - إنّ (المتشابه) ليس ظاهراً في الشمول ل- (الظاهر) فكيف يكون نصّاً في الشمول؟ بل الظاهر أنّ المتشابه هو خصوص (المجمل)، أو على الأقل هو المقدّر المتيقّن منه.

ب- النهي لا يشمل خصوص هذا الظاهر لا بنفسه ولا بملاكه

الثانية: أنّ الردع لا يشمل خصوص هذا الظاهر لا بنفسه ولا بملاكه.

وذلك لوجود المحذور العقلي - وهو استلزام الوجود للعدم - من الشمول، والمحذورات العقلية تسقط الحجّية بمقدارها لا أكثر.

والملاك غير معلوم، و (المتشابه) موضوع الحكم لا ملاك الحكم، وفرق واضح بين (الموضوع) و (الملاك). وعليه فيثبت كلام الأخباري.

وفيه نظر:

وذلك لما سبق من أنّ الردع عن العمل بالظهور بالظهور غير عرفي.

فاعتماد نفس الظهور في الردع قرينة على أنّه لا يريد الظهور، بل غيره - أي المجملات - وذلك بملاك عدم تناقض المتكلّم مع نفسه ولو بحسب ما يراه العرف تناقضاً.

فلا ينعقد إطلاق من أوّل الأمر في مثل هذه الأدلّة لشمول الظواهر.

ونظير ذلك في حصول التناقض عرفاً: الردع عن العمل بخبر الواحد بخبر الواحد.

ولا أقل ذلك من إجمال الدليل، الموجب للأخذ بالقدر المتيقّن.

وعليه: فيسقط كلام الأخباري.

ص: 145

4- تخصيص العموم بالروايات الدالّة على حجّية الظواهر القرآنية

رابعاً: سلّمنا دلالة الآية الكريمة على الردع عن العمل بالمجملات والظواهر معاً.

إلاّ إنّ ذلك لا يصدر إطلاقاً قابلا للتقييد، بما دلّ من الروايات على حجّية الظواهر القرآنية، لكونها أخصّ منها.

وهذه الروايات نصّاً في الدلالة على المطلوب، فلا يلزم إشكال الدور. وقد سبقت الاشارة إلى بعض هذه الروايات، وستأتي الاشارة إلى بعضها الآخر إن شاء اللّه تعالى.

5- الآية مفسّرة بإتّباع أئمّة الضلال

خامساً: ما في البحوث وهو يتضمّن مقطعين:

الأوّل: وهو يتضمّن جواباً جدلياً على الأخباريين الذين بنوا على عدم حجّية ظواهر الكتاب والتزموا بقطعية ما في الكتب الأربعة.

إذ يجب الرجوع في تفسير هذه الآية الكريمة إلى الروايات المأثورة.

وقد ورد في الكافي عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن اورقة، عن علي بن حسّان، عن عبدالرحمن بن كثير، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال: فلان وفلان {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أصحابهم وأهل ولايتهم {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ [الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ] تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ

ص: 146

تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة (عليهم السلام) (1).

وعلى هذا فالآية الكريمة في صدد الردع عن اتّباع فلان وفلان، فلا تنهض دليلا على ما نحن فيه من الردع عن حجّية ظواهر الكتاب(2).

أقول: يمكن توجيه الاستدلال بكونه جدلياً، أي أنّه الزام للأُصوليين بمبانيهم، حيث إنّهم يقولون بمصدرية الكتاب، وهذه الآية تدلّ على عدم حجّية الظواهر، فلازم مبناهم عدم حجّية الظواهر. وقد مضى طرف من الكلام في ذلك.

نعم: لا بأس بالإشكال المزبور على الأخباريين جدلاً، أي طبق مبناهم في عدم حجّية ظواهر الكلام إلاّ بعد ورود تفسيرها من قبل أهل البيت (عليهم السلام) .

تقييم الرواية وبحث في التأويلات الباطنية

الثاني: في تقييم هذه الرواية

قال في البحوث: إنّ هذه الرواية مخالفة للكتاب من جهة، وغير تامّة سنداً من جهة أُخرى.

وبيّن المخالفة مع الكتاب بأنّه أي مخالفة أشدّ من مثل هذه التأويلات الباطنية التي لا يمكن تطبيقها بوجه من الوجوه مع الكتاب الكريم.

ثمّ قال: وهذه الرواية وأمثالها خير دليل وشاهد للمنصف على أنّه ليس كلما يتواجد في الكتب الأربعة بصحيح(3).

ص: 147


1- الكافي 1: 414؛ مرآة العقول 5: 18.
2- بحوث في علم الأصول 4: 282-283.
3- بحوث في علم الأصول 4: 283.

أقول: أمّا الضعف السندي فهو ثابت، إلاّ بناءً على القول بصحّة جميع ما في الكافي - صحّة بمعناها القدمائي- لضمان الكليني، أو لأنّه كان معاصراً للسفراء الأربعة ومن البعيد عدم عرضه الكتاب عليهم، إلاّ أنّ المبنى غير مرضي على المشهور.

وأمّا المخالفة للكتاب فليست بواضحة.. إذ قد يكون ذكر الآية في هذه الرواية:

أ- لبيان مورد النزول.

ب- أو للتنظير والتمثيل.

ج- أو كونه تفسيراً بالمصداق.

د- أو أنّه يمثّل بطناً من بطون الآية الكريمة، وقد قرّر في محلّه أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في معنيين أو أكثر؛ لأنّ الاستعمال ليس افناءً للفظ في المعنى، حتّى يستحيل افناء اللفظ مرتين، وإنّما هو علامة على المعنى، ومن الممكن كون شيء واحد علامة على أمرين أو أكثر، إلاّ إنّ ذلك بحاجة إلى القرينة، والرواية المزبورة - على فرض تماميتها - تصلح أن تكون قرينة.

بل إنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واقع في الخارج، ومنه قول الشاعر في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

المرتمي في دجىً والمبتلى بعمىً***والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا

يأتون سدته من كلّ ناحية***ويستفيدون من نعمائه عينا(1)

ص: 148


1- وقاية الأذهان: 87.

فهذه «العين» لها معاني أربعة(1).

ولهذه الرواية نظائر بالعشرات(2) - إن لم نقل بالمئات - ولا يبعد دعوى تواترها إجمالا، بل إنّ بعضها معتبر من الناحية السندية، ومن الصعب طرح جميع هذه الروايات بحجّة مخالفة الكتاب، إذ لا مخالفة على ما ذكرنا، وكونها «تأويلات باطنية» لا يمنع من الأخذ بها، إذ لا مانع من أن يكون للكلام ظاهر وباطن، وقد دلّت الروايات الكريمة على أنّ للقرآن ظهراً وبطناً، بل بطوناً. ونذكر فيما يلي بعض هذه النظائر:

1- ففي الكافي عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان، عن سالم الحناط قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجل: {فَأَخْرَجْنَا

مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ}(3)، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : آل محمد لم يبق فيها غيرهم»(4).

مع أنّ الآية الكريمة في سياق قصّة قوم لوط (عليه السلام) . قال العلاّمة المجلسي رضوان اللّه عليه:

ص: 149


1- 1- الشمس وهو المناسب لقوله: (المرتمي في دجى). 2- الجاري وهو المناسب لقوله: (المشتكي ظمأ) 3- الباصرة وهو المناسب لقوله: (المبتلى بعمى). 4- الفضة وهو المناسب لقوله: (المبتغي دينا).
2- راجع: جواهر البلاغة: 363.
3- الذاريات: 35-36.
4- الكافي 1: 425؛ مرآة العقول 5: 83.

«وأمّا تأويله (عليه السلام) فكأنّه مبني على ما أسلفنا من أن نزول القصص لتذكير هذه الأمة وزجرهم عن الإتيان بمثل أفعالهم، فهذا إمّا بيان لمورد نزول الآية أو مصداقها في هذه الأمة فإن كل ما وقع في الأمم السالفة يقع مثله في هذه الأمة، فنظير تلك الواقعة خروج علي (عليه السلام) وأهل بيته من المدينة، إذ لما أراد اللّه إهلاك قوم لوط أخرج لوطاً وأهله منها ثم عذّبهم، فكذا لما أراد أن يشمل أهل المدينة بسخطه لظلمهم وكفرهم وعداوتهم على أهل البيت أخرج أمير المؤمنين وأهل بيته منها فشملهم من البلايا الصورية والمعنوية ما شملهم، ويحتمل أن يكون على هذا البطن ضمير منها راجعاً إلى المدينة والمعنى كما مرّ والأول أظهر»(1)، والرواية الشريفة موثّقة.

2- وفيه أيضاً عن محمّد بن يحيى، عن العمركي، عن علي بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام) من قوله تعالى: {وَبِئْر مُعَطَّلَة وَقَصْر مَشِيد} قال: «البئر المعطّلة الإمام الصامت والقصر المشيّد الإمام الناطق»(2).

قال العلاّمة المجلسي (رحمه اللّه) : أنّه مروي بأسانيد جّمة(3).

وقال رضوان اللّه عليه: «على تأويلهم (عليهم السلام) يحتمل أن يكون المراد بهلاك أهل القرية هلاكهم المعنوي أي ضلالتهم فلا ينتفعون لا بإمام صامت ولا بإمام ناطق، ووجه التشبيه فيهما ظاهر تشبيهاً للحياة المعنوية بالصورية والانتفاعات الروحانية بالجسمانية.

ص: 150


1- مرآة العقول 5: 83.
2- الكافي 1: 427؛ مرآة العقول 5: 92-93.
3- مرآة العقول 5: 92.

ويحتمل - على بُعد- أن يكون الواو فيهما للقسم, والأول أصوب، وقد عرفت مراراً أن ما وقع في الأمم السالفة يقع نظيرها في تلك الأمة، فكلما وقع من العذاب والهلاك البدني والمسخ الصوري في الأمم السالفة فنظيرها في هذه الأمة هلاكهم المعنوي بضلالتهم وحرمانهم عن العلم والكمالات، وموت قلوبهم ومسخها، فهم وإن كانوا في صورة البشر فهم كالأنعام بل هم أضل، وهم وإن كانوا ظاهرين بين الأحياء فهم أموات ولكن لا يشعرون، ولا يسمعون الحق ولا يبصرونه ولا ينطقون به، ولا يتأتى منهم أمر ينفعهم، فهم شر من الأموات إذ الأموات لا يأتون بما يضرهم وإن لم يأت منهم ما ينفعهم فعلى هذا التحقيق لا تنافي تلك التأويلات تفاسير ظواهر تلك الآيات، وهذا الوجه يجري في أكثر الروايات المشتملة على غرائب التأويلات مما قد مضى وما هو آت»(1).

والرواية الشريفة صحيحة السند.

3- وفيه، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن سيف، عن أبيه، عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء}(2)، قال: فقال: «رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصلها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) فرعها، والأئمة من ذريتهما أغصانها, وعلم الأئمة ثمرتها, وشيعتهم المؤمنون ورقها، هل فيها فضل؟ قال: قلت: لا واللّه، قال: واللّه إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت

ص: 151


1- مرآة العقول 5: 93-94.
2- إبراهيم: 23.

فتسقط ورقة منها»(1).

والرواية الشريفة صحيحة السند.

قال العلاّمة المجلسي (رحمه اللّه) : وقد روت العامّة أيضاً قريباً من ذلك(2).

4- وفيه عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان عن أبي عبيدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الاستطاعة وقول الناس، فقال: وتلا هذه الآية: «{... وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، يا أبا عبيدة الناس مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك، قال: قلت قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}؟ قال: هم شيعتنا ولرحمته خلقهم، وهو قوله {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} يقول: لطاعة الإمام، الرحمة التي يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} يقول: علم الإمام ووسع علمه الذي هو من علمه كل شيء هم شيعتنا» الحديث(3).

والرواية الشريفة صحيحة السند.

إلى غيرها من الروايات الكثيرة، بل إنّ الإشتهاد والتنظير وارد حتّى في الكلام العرفي، مثل أن يتباحث شخصان فيفحم أحدهما الآخر فيقول: «فبهت الذي كفر» مع كون المفحم مؤمناً، أو يقال للشخص الذي ضيّع أيّام شبابه: «الصيف ضيّعت اللبن».

ص: 152


1- الكافي 1: 428؛ مرآة العقول 5: 102-104.
2- مرآة العقول 5: 104.
3- الكافي 1: 429؛ مرآة العقول 5: 107-111.

6- لا متشابه في القرآن بعد البيان

سادساً: ما ذكره السيّد السبزواري رضوان اللّه عليه في التهذيب من: أنّه لم يبق متشابه في القرآن بعد ما ورد من الشرع في بيان متشابهات القرآن(1).

أقول: هنا مرحلتان:

الأُولى: أصل معاني الألفاظ.

والظاهر تمامية دعواه (رحمه اللّه) . وهنالك باب في البحار بعنوان «باب متشابهات القرآن وتفسير المقطّعات...»(2).

الثانية: حدود معاني الألفاظ.

والظاهر بقاء التشابه بلحاظ هذه المرحلة، إذ على مبنى عدم جواز الأخذ بالآيات الكريمة إلاّ بعد ورود تفسيرها من جهة أهل البيت (عليهم السلام) لا يمكن التمسّك بعموم آية أو إطلاقها فيما إذا لم يرد نصّ منهم (عليهم السلام) يدلّ على ذلك المفاد، أو كانت النصوص في ذلك متعارضة.

مثلا: لا يصحّ - عليه - التمسك بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(3) لصحّة عقد المعاطاة أو عقد المغارسة أو العقود الجديدة، لو فرض عدم ورود نصّ منهم (عليهم السلام) ، أو تعارضت النصوص في ذلك وتساقطت.

وكذا بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}(4) لحلّية أُمّ أو بنت أو أُخت المفعول، لو كان الفاعل والمفعول صبيين.

ص: 153


1- تهذيب الأصول 2: 68.
2- بحار الأنوار 89: 373.
3- المائدة: 106.
4- النساء: 24.

وكذا بقوله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْء}(1) لجواز إجارة العبد نفسه لما لا ينافي حقّ مولاه كقراءة القرآن الكريم مثلا.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، وستأتي الاشارة إلى ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

7 - لو منع التشابه عن العمل بالقرآن لمنع عن العمل بالسنّة أيضاً

سابعاً: لو كان التشابه مانعاً عن العمل بالظهورات القرآنية، لمنع من العمل بالأخبار أيضاً، لأنّ فيها المحكم والمتشابه كالقرآن.

والظاهر أنّ وجود الصنفين فيها واضح لمن تتبّع الأخبار، ويؤيّد ذلك ما عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال:

«من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم.

ثمّ قال: إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبّعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»(2).

وفي الكافي: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصّاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً.. - إلى أن قال: فإنّ أمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه»(3).

ص: 154


1- النحل: 75.
2- وسائل الشيعة 18: 82.
3- الكافي 1: 63-64.

وقد يورد عليه:

بأنّ المنهي عنه اتّباع متشابه القرآن، لا المتشابه مطلقاً، والخبران ضعيفان.

إلاّ أن يقال: إنّ النهي في الآية الكريمة عن اتّباع متشابهات القرآن بما أنّها متشابهات، لا بما أنّها متشابهات قرآنية.

وفيه: إنّه بحاجة إلى القطع بالمناط، وعهدته على مدّعيه، إذ لعلّه في متشابهات القرآن - الشاملة للظواهر - خصوصية لا توجد في متشابهات الأخبار، فتأمّل.

كما قد يورد عليه أيضاً بما ذكره السيّد الصدر(1): من خروج الأخبار عن القاعدة، بإعتبار عمل أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) بالأخبار.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : بأنّ عمل أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) لم يكن لدليل خاصّ شرعياً وصل إليهم من الأئمّة (عليهم السلام) ، وإنّما كان أمراً مركوزاً في أذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الافادة والاستفادة، وهذا المعنى جارٍ في القرآن أيضاً على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة، على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم(2).

كما وأجاب عنه صاحب الكفاية: بأنّه لو سلّم كونه لدليل خاصّ فلا يجديه لعدم إحراز كون طريقتهم على العمل مع هذا العلم لقوّة احتمال أن يكون ذلك منهم لأجل معرفتهم تفصيلا بالناسخ والمنسوخ والخاص والعام(3).

ص: 155


1- صاحب شرح الوافية في أصول الفقه.
2- فرائد الأصول 1: 53؛ الوصائل 2: 215.
3- درر الفوائد: 90.

البحث عن قادحية احتمال شمول المتشابه للظاهر وعدمها

يبقى الكلام في أنّ (احتمال شمول المتشابه للظواهر) هل يقدح في حجّيتها أو لا؟ وقد ذكر تقريران للقادحية:

التقرير الأوّل: أنّ اللازم إطاعة النهي بعدم اتّباع كلّ ما يحتمل كونه متشابهاً حتّى يقطع بعدم اتّباع المتشابه(1).

وكأنّه إشارة إلى قاعدة «الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية».

وفيه نظر:

لأنّ ما اشتغلت به الذمّة يقيناً عقلا هو «ما قطع بكونه متشابهاً» وقد فرغت الذمّة منه قطعاً.

وأمّا «ما احتمل كونه متشابهاً» فلا قطع باشتغال الذمّة به عقلا، فينتفي بالنسبة إليه موضوع القاعدة العقلية، وتجري بالنسبة إليه الأُصول الترخيصية.

فهو نظير «اجتنب عن الخمر» حيث إنّ العقل لا يحكم بلزوم اجتناب إلاّ ما قطع أنّه خمر، وأمّا ما احتمل كونه خمراً يجب على المكلّف - عقلا - اجتنابه.

وبعبارة أُخرى: ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ولم يثبت كونه «متشابهاً» فلم يثبت شمول النهي له.

التقرير الثاني: أنّ إحتمال إندراجه في المتشابه يوجب الشكّ في حجّيته، وقد سبق: أنّ مقتضى الأصل في مشكوك الحجّية عدم جواز العمل به(2).

ص: 156


1- الوصول 3: 409.
2- منتهى الدراية 4: 292.

وفيه نظر:

إذ لا يخرج عن الحجّة إلاّ بالحجّة - سواء كانت علماً وجدانياً أو تعبّدياً.

وقد ثبت حجّية الظهورات ببناء العقلاء الممضى من قبل الشارع، فتكون حجّة. ومجرّد احتمال الردع لا يكفي في رفع اليد عن الحجّة.

وبعبارة أُخرى: المجمل الدائر بين الأقل والأكثر ليس حجّة في الأكثر حتّى يتحقّق به الردع عن البناء المحقّق.

والخلاصة: إنّ موضوع القاعدة «الشكّ في الحجّية» ومع جريان السيرة على العمل بالظهورات لا يبقى شكّ في الحجّية؛ ولذا يصحّ للمولى الاحتجاج على العبد والعبد على المولى في صورة مخالفة ظاهر الكلام، ولا يكفي فيها احتمال الردع.

إلاّ أن يقال: إنّ احتمال الردع ينافي «القطع بالامضاء» الذي هو ملاك حجّية السيرة العقلائية. فتأمّل.

الوجه الرابع: العمل الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر

الوجه الرابع: دعوى حصول التشابه بالعرض، للعلم الإجمالي، بطرو التخصيص والتقييد ونحوهما في غير واحد من ظواهر الكتاب.

ويرد عليه: جوابان حلّي ونقضي

الجواب الحلّي

أمّا الجواب الحلّي فهو «الانحلال». أي انحلال العلم الإجمالي.

وللإنحلال تقريرات.

ص: 157

1- الانحلال الحقيقي بالانطباق الاحتمالي

انحلال المعلوم بالإجمال - غير المتعيّن - بالظفر بموارد إرادة خلاف الظاهر.

التقرير الأوّل: ما ذكره في الكفاية من: «انحلال العلم الإجمالي بطرو إرادة خلاف الظاهر بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال»(1).

والفرق بين هذا التقرير وما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من التقرير الثالث: «سعة دائرة المعلوم بالإجمال» في هذا التقرير، بحيث نقول: إنّ هنالك علماً إجمالياً بوجود مخصّصان ونحوها للظواهر القرآنية.

و«ضيق دائرة المعلوم بالإجمال» في التقرير الثالث، بحيث نقول: إنّ هنالك علماً إجمالياً بوجودها في دائرة الأمارات التي هي بأيدينا.

وبعبارة أُخرى: المعلوم بالإجمال لا تعيّن له على هذا التقرير، بخلافه على التقرير الثالث.

وبعبارة ثالثة: أنّه غير متشخّص عليه، بخلافه على الثالث.

هذا وقد يتأمّل في هذا التقرير: باشتراط العلم بانطباق (المعلوم بالإجمال) على (المعلوم بالتفصيل) وهذا الشرط مفقود في المقام.

بيانه: أنّ هنالك ثلاث حالات:

1- العلم بالانطباق، بلحاظ السعة والضيق وغيرهما من المشخّصات

ص: 158


1- كفاية الأصول: 283.

الخارجية.

وفي هذه الحالة ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي.

مثل أن نعلم أنّ في الدار بقعاً من الدم فنبحث في كلّ الدار ونجد ثلاث بقع من الدم، فهنا يحكم بنجاسة موضع الملاقاة للبقع الثلاث، وتجري أصالة الطهارة في باقي الدار.

2- العلم بعدم الانطباق. وفي هذه الحالة يظلّ العلم الإجمالي بحاله.

3- الشكّ في الانطباق وعدمه.

مثل أن نعلم أنّ في الدار بقعاً من الدم، فنبحث في خصوص هذه الغرفة ونجد فيها بقعاً من الدم، دون أن نبحث في الباقي.

وهنا يحتمل انطباق (المعلوم بالإجمال) على (المعلوم بالتفصيل) كما يحتمل عدم الانطباق، فلا ينحل العلم الإجمالي.

هذا ولكن المختار: إنّ احتمال الانطباق كافٍ في انحلال العلم الإجمالي لوحدة الملاك بين (معلوم الانطباق) و (محتملة).

وتفصيل الكلام في ذلك في مباحث (العلم الإجمالي). وعليه فيكون التقرير المزبور تامّاً.

2 - الإنحلال الحكمي

التقرير الثاني: لو سلّمنا عدم الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي، لكن الانحلال الحكمي حاصل.

وهذا الوجه نقله المشكيني (رحمه اللّه) عن أُستاذه,

قال: «... المورد بحكم الانحلال ولنقدّم لذلك مثالاً: وهو أنّه إذا علم

ص: 159

إجمالاً بحرمة أحدشيئين، وقد كان أحدهما مسبوقاً بالحرمة، والآخر بالحلية، ولكن لم يقع الالتفات إلى الحالة السابقة حين حصول العلم الإجمالي، فإذا التفت جرى أصالة الحلية بلا مزاحم، لجريان استصحاب الحرمة - حينئذٍ- في الآخر؛ لأنّ المانع من جريان الأصول في أطراف العلم هو التعارض، فإذا لم يجر أحد الأصلين، - كما في مسبوق الحرمة- جرى في الآخر، ولم يبق العلم الإجمالي مؤثّراً، والمقام مثله؛ حيث إنّ المانع عن جريان أصالة الظهور في أحد الظاهرين تعارض أصالة الظهور في الآخر، فإذا ظفر بمخصص في الآخر لم يجر الأصل فيه ويجري في الأول بلا معارض»(1).

وقد يتأمّل فيه باعتبار أنّ شرط الانحلال الحكمي: تقدّم وجود «المنجّز الشرعي» على حدوث «العلم الإجمالي».

إذ في هذه الصورة لا يجري الأصل المؤمّن في مورد «الأصل المنجّز» فيجري في الطرف الآخر بلا معارض.

أمّا مع تقدّم العلم الإجمالي فقبل وجود «المنجّز» تتعارض الأُصول في أطراف العلم الإجمالي وتتساقط، والأُصول الميتة لا تُحيى من جديد.

فوزان ذلك وزان خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء، أو انعدامه، فإنّ ذلك لا يوجب شمول الأصل المؤمّن للطرف المبتلى به، أو الطرف الباقي. وفي هذا التأمّل مناقشة.

ص: 160


1- كفاية الأصول (المحشّی) 3: 209-210.

إذ لو فرض تمامية ذلك في «الأُصول العملية» فلا يُسلّم في «الأمارات» و«الأُصول اللفظية».

إذ الحجّة بوجودها الواقعي الذي هو في معرض الوصول إلى المكلّف بمعنى أنّه لو تفحّص لظفر به كافية في تمامية الحجّة، فالظفر بالحجّة متأخّر عن العلم الإجمالي لا نفس الحجّة.

ومن هنا: لا يجوز إجراء قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبل الفحص في الشبهات الحكمية، إذ المراد بالبيان «البيان الذي هو في معرض الوصول» وانتفاؤه غير معلوم، فتحقّق موضوع القاعدة «أعني عدم البيان بالوصف المزبور» موقوف على الفحص، وقبله لا تحقّق للموضوع.

والخلاصة: أنّ قيام الأمارة كاشف عن سبق تنجّز التكليف قبل تحقّق العلم الإجمالي.

وحيث تنجّز التكليف في أحد الطرفين لا يكون العلم الإجمالي الحادث بعده منجّزاً، لفقدان شرط التنجيز.

أمّا ببيان: أنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف المنجّز، فيجري في الطرف الآخر بلا معارض.

أو ببيان: أنّ شرط تنجيز العلم الإجمالي كونه منجّزاً على كلّ تقدير، لا على تقدير دون تقدير، وهذا الشرط مفقود في المقام، إذ لو فرض تعلّق التكليف بالمنجّز لا يتنجّز من جديد، لأنّه تحصيل للحاصل. وما نحن فيه من هذا القبيل.

إذ قيام الدليل على تخصيص أو تقييد {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} و{حَرَّمَ

ص: 161

الرِّبَا}(1) أو {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض}(2) كاشف عن عدم جريان (أصالة الظهور) فيها، فيجري في غيرها - مثل {مَا عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل}(3) مثلا - بلا معارض. وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي.

3- الإنحلال الحقيقي بالإنطباق القطعي

التقرير الثالث: ما أفاده الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه بقوله:

«المعلوم وجود مخالفات فيما بأيدينا بحيث يظهر تفصيلاً بعد الفحص. وأمّا وجود مخالفات في الواقع زائداً على ذلك فغير معلوم»(4).

وفي الكفاية: «مع أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا يخالفه لظفر به غير بعيدة»(5).

ومحصّل هذا الوجه: عدم تسليم كون العلم الإجمالي وسيع الدائرة، بل متعلّق العلم الإجمالي مردّد بين الأمارات التي لو تفحّصنا فيها لظفرنا به، لا أنّ متعلّقة مردّد بين ما بأيدينا وما ليس بأيدينا حتّى لا ينحلّ العلم الإجمالي بعد الفحص.

والخلاصة: أنّنا نعلم بوجود تخصيصات وتقييدات ونحوها للظواهر القرآنية في الكتب التي بأيدينا، وهذا العلم الإجمالي ينحلّ بالعثور على

ص: 162


1- البقرة: 275.
2- البقرة: 275.
3- البقرة: 233.
4- فرائد الأصول 1: 150.
5- كفاية الأصول: 283.

تلك المخصّصات والمقيّدات بعد الفحص، وأمّا وجود مخصّصات ومقيّدات غير ما بأيدينا في الكتب التي أحرقها صلاح الدين الأيوبي، أو الكتب التي أُغرقت في نهر دجلة، أو في الأُصول التي دفنت خوفاً من بطش الظالمين فهو غير معلوم، بالوجدان؛ لاحتمال كون تلك الروايات متعلّقة بالقصص التاريخية، أو كونها مطابقة لما بأيدينا من المخصّصات والمقيّدات، أو كونها غير معتبرة، أو نحو ذلك، فلا يحصل لنا - مع وجود هذه الاحتمالات - علم وجداني بوجود مخصّصات ومقيّدات فيها.

وحيث يحصل الانطباق القطعي بين المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصيل ينحلّ العلم الإجمالي قهراً.

وهذا بخلاف التقرير الأوّل فإنّ الانطباق محتمل وليس قطعياً، كما سبقت الاشارة إليه.

الجواب النقضي

وأمّا الجواب النقضي فهو أنّ العلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد ونحوهما موجود في الأخبار أيضاً، فلو منع العلم المزبور عن حجّية الظواهر القرآنية لمنع عن حجّيتها أيضاً.

الوجه الخامس: النهي عن التفسير بالرأي

الوجه الخامس: دعوى أنّ حمل الكلام على ظاهره نوع من أنواع تفسير القرآن الكريم بالرأي وهو منهي عنه بالنصوص الكثيرة.

منها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال اللّه (جلّ جلاله): ما آمن بيّ من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي، وما

ص: 163

على ديني من استعمل القياس في ديني»(1).

ومنها: ما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية تنزل أولها في شيء، وأوسطها في شيء، وآخرها في شيء، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} من ميلاد الجاهلية»(2).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ كان إثمه عليه»(3).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال سألت عن الحكومة قال: «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، ومن فسّر آية من كتاب اللّه فقد كفر»(4).

ومنها: ما عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قال: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»(5).

ومنها: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار»(6).

والجواب عن ذلك:

1- ما هو معنى «التفسير»؟

أوّلاً: أنّ التفسير كشف القناع وإزالة الستر.

ص: 164


1- بحار الأنوار 89: 107.
2- بحار الأنوار 89: 110.
3- بحار الأنوار 89: 110.
4- بحار الأنوار 89: 111.
5- بحار الأنوار 89: 111.
6- نور البراهين 1: 187.

مادّة (س ف ر) - بغضّ النظر عن ترتيب أُصول الكلمات - تدلّ على رفع الحجاب (على ما قرّر في مبحث «الاشتقاق الكبير»).

ف- «السفور» بمعنى كشف المرأة حجابها.

و«التفسير» بمعنى إزالة الغطاء عن الشيء المخفي.

وحيث لا قناع على المعنى الظاهر لا يكون حمله على ظاهره تفسيراً.

ولذا إذا خاطب المولى عبده بكلام ظاهر في معنىً لا يصحّ للعبد أن يقول له: «فسّر كلامك» إذ للمولى أن يقول: «كلامي لا يحتاج إلى تفسير».

قال الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه: «إنّ أحداً من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنه أمره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له، عربياً أو فارسياً أو غيرهما، فعمل به وامتثله، لم يُعد هذا تفسيراً؛ إذ التفسير كشف القناع»(1).

2- ما هو معنى الرأي؟

ثانياً: ما هو «الرأي»؟ فيه احتمالات ثلاثة:

أ - الموقف الفكري المسبق

الأوّل: أن يكون المراد به «الموقف الفكري المسبق» النابع من التقاليد أو الأهواء، أو الأنظار الذوقية ونحوها. ويكون التفسير بالرأي عبارة عن محاولة تطويع الآيات القرآنية لهذا الموقف الفكري المسبق.

وهذا من أسوأ ما يُبتلى به الإنسان، لأنّه يساوق الرفض العملي لمرجعية القرآن الكريم، وجعل الأهواء والآراء الشخصية هي المرجع. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) :«يعطف الهوى على الهدى، حين عطفوا الهدى على

ص: 165


1- الوصائل 2: 162.

الهوى»(1).

إنّ المفروض أن يتّخذ المؤمن موقف «التسليم» المطلق للقرآن الكريم، فإنّ «الإسلام» هو «التسليم»، وهذا الموقف يناقض التسليم المفروض تماماً.

وقد وجد - على مرّ التاريخ - أفراد، كما وجدت فئات حاولت استغلال القرآن الكريم لتدعيم آرائها ونظرياتها وأهوائها الشخصية.

مثلا:

أ - يأوّل بعض القائلين بوحدة الوجود والموجود الآية الكريمة: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}(2). بأنّ موسى قال لهارون على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام: (لِمَ نهيتهم عن عبادة العجل؟! ألا تعلم أنّ اللّه يحبّ أن يعبد في آية صورة كان المعبود)!

ب- ويستدلّ بعض القوميين على مذهبهم بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}(3).

ج- ويستدلّ بعض الرأسماليين على توجّههم بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}(4) وقوله تعالى: {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِي الرِّزْقِ}(5).

د- ويستدلّ بعض الشيوعيين على مذهبهم بقوله تعالى: {وَالاَْرْضَ

ص: 166


1- نهج البلاغة 2: 21.
2- طه: 92-93.
3- الزخرف: 44.
4- البقرة: 279.
5- النحل: 71.

وَضَعَهَا لِلاَْنَامِ}(1) وقوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}(2).

ه- ويستدلّ بعض الإشتراكيين على مذهبهم بقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالَْمحْرُومِ}(3) وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الاَْنْفَالِ قُلْ الاَْنْفَالُ للهِِ وَالرَّسُولِ}(4).

و- ويستدلّ بعض الصوفيين على سقوط العبادات عنهم بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(5).

ز- وكان «يحيى بن أكثم» يستدلّ على حلّية بعض المحرّمات بقوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً}(6).

وفي الحديث أنّ الإمام الهادي (عليه السلام) قال له: «ومعاذ اللّه الجليل أن يكون عنى ما لبّست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}»(7).

ب - الاعتبارات الظنّية الراجحة

الثاني: أن يكون المراد به: الاعتبارات الظنّية الراجحة فيكون من التفسير بالرأي عبارة عن:

ص: 167


1- الرحمن: 10.
2- الحشر: 7.
3- الذاريات: 19.
4- الأنفال: 1.
5- الحجر: 99.
6- الشورى: 50.
7- وسائل الشيعة 14: 252.

أ- حمل اللفظ على خلاف ظاهره.

ب- وحمل المشترك على أحد احتماليه.

ج- وحمل المجمل أو المتشابه على محتملين كلّ ذلك تبعاً للظنون، أو الترجيحات الذوقية.

وهو الاتّجاه الذي انتشر في عهد الإمام الباقر والإمام الصادق(عليهما

السلام) على يد أبي حنيفة وأمثاله، وقد عبّر عن هذا الاتّجاه ب- (مدرسة الرأي).

وكانت هذه المدرسة تستند إلى الاعتبارات الظنّية والقياسات والاستحسانات والتخمينات في تفسير آيات القرآن الكريم، وفي تحديد الموقف تجاه الدين ككل.

ج- ما يعمّ حمل اللفظ على ظاهره الثالث: أن يكون المراد بالرأي ما يعمّ «حمل الظاهر على ظاهره».

و«التفسير بالرأي» - خاصة مع ملاحظة الملابسات التاريخية المحيطة بصدور غالب النصوص - ظاهر في المعنيين الأوّلين، وأمّا حمل الظاهر على ظاهره فهو تفسير بالعرف لا بالرأي. لا أقل من كون اللفظ مجملاً، فلا ينهض لإثبات المدّعى.

والعلم الإجمالي بكون المراد أحد المعاني غير قادح، لتنجّز بعض أطرافه إذ لا شكّ في حرمة الأوّلين.

3- التخصيص بأخبار التمسّك بالقرآن والرجوع إليه

ثالثاً: لو فرض أنّ حمل الظاهر على ظاهره نوع من أنواع «التفسير بالرأي» المنهي عنه في الروايات المزبورة.

ص: 168

إلاّ أنّ ذلك معارض بالنصوص الكثيرة الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب.

وهذه النصوص إمّا أن يقال بكونها أخصّ من (الروايات الرادعة) - لكون الأخيرة تشمل: حمل اللفظ على خلاف ظاهره، وحمل المشترك على أحد معنييه، وتفسير المجمل والمتشابه بالتفسيرات الذوقية، وحمل اللفظ على ظاهره - بينما هذه النصوص تدلّ على حجّية خصوص الظواهر، فتخصّص بها (الروايات الرادعة).

أو يقال: بأنّ بين الطائفتين عموماً من وجه: لشمول هذه النصوص للظواهر والنصوص.

وحينئذ تتعارض الطائفتان وتتساقطان ويكون المرجع: السيرة العقلائية على العمل بالظواهر ما لم يثبت الردع.

بيان ذلك:

أنّ السيرة العقلائية القائمة على شيء مرتبط بالمجال التشريعي إن لم تكن مرضية من قبل الشارع فلابدّ من «ردع» الشارع عنها، إمّا باعتبار أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان إلهيتان، وإمّا باعتبار أنّ سكوت الشارع يهدّد أغراضه التشريعية، فيكون نقضاً للغرض.

ومنه يعلم أنّه لا يكفي مجرّد الردع بل لابدّ من «الردع الواصل».

وعليه: فإذا لم يصل الردع، أو وصل ردع معارض بضدّه يكون ذلك دليلا على امضاء الشارع لتلك السيرة العقلائية.

مثلا: لو فرض قيام السيرة العقلائية على اعتبار الحيازة سبباً للملكية، وكانت هذه السيرة غير مرضية من قبل الشارع فلابدّ من ردعه عنها، فلو لم

ص: 169

يردع عنها كان ذلك دليلاً على امضاء الشارع لتلك السيرة العقلائية، وكذا لو كان الردع معارضاً بما يدلّ على الامضاء، فإنّهما يتساقطان، ويبقى المكلّف بلا دليل على ثبوت الردع، وحيث لم يصل الردع من الشارع يكون ذلك دليلا على الامضاء، وإلاّ لكان الشارع ناقضاً لغرضه بعدم إيصال الردع، فتأمّل.

ويمكن أن يقال: بأنّ المرجع استصحاب الحجّية الثابتة قبل الردع بالامضاء الشرعي، المستكشف من السكون، في بداية الشريعة.

تقسيم الأخبار إلى طوائف

ثمّ إنّ النصوص الدالّة على حجّية الظواهر على طوائف:

الأُولى: ما دلّ على الأمر بعنوان التمسّك بالكتاب.

الثانية: ما دلّ على العرض على الكتاب، وذلك في موارد:

أ- عرض الشروط في المعاملات على الكتاب.

ب- عرض الروايتين المتعارضتين.

ج- عرض الروايات مطلقاً.

الثالثة: ما تضمّن استدلال الإمام (عليه السلام) بالظواهر القرآنية، بضميمة «أصالة الأُسوة» في عمل المعصوم (عليه السلام) ، إلاّ أن يثبت من الخارج كون شيء من اختصاصاته.

الرابعة: ما سيق مساق تعليم الآخرين بالاستفادة من الكتاب، وإحالتهم عليه.

وقد سبقت الاشارة إلى بعض هذه الروايات وإليك بعضها الآخر: ففي

ص: 170

الفقيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصاياه لابنه محمّد بن الحنفية رضي اللّه عنه: «وعليك بتلاوة القرآن والعمل به ولزوم فرائضه وشرائعه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه والتهجد به وتلاوته في ليلك ونهارك فإنّه عهد من اللّه تعالى إلى خلقه فهو واجب على كل مسلم أن ينظر كل يوم في عهده ولو خمسين آية»(1).

وفي الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه»(2).

وفي الكافي، عن محمّد بن يحيى، عن عبد اللّه بن محمد عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: وحدّثني ابن أبي العلا أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به وفيهم من لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلاّ فالذي جاءكم أولى به»(3).

وفي الكافي، عن العدّة عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد

ص: 171


1- الأصول الأصلية: 244.
2- الأصول الأصلية: 245؛ الكافي 1: 69.
3- الأصول الأصلية: 246.

اللّه (عليه السلام) يقول: «كل شيء مردود إلى الكتاب و السنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»(1).

وفي الكافي، عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «خطب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب اللّه فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله»(2).

وفي الكافي، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى أن أبا قرة المحدث سأل الرضا (عليه السلام) عن الرؤية إلى أن قال: قال أبو قرة فتكذب بالروايات فقال أبو الحسن (عليه السلام) : «إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء»(3).

وفي الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن ابن أبي نجران عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) : أن قوماً بالعراق يصفون اللّه بالصورة وبالتخطيط فإن رأيت جعلني اللّه فداك أن تكتب إليّ المذهب الصحيح من التوحيد، فكتب - إليّ إلى أن قال: «فاعلم رحمك اللّه أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه - إلى

ص: 172


1- الأصول الأصلية: 246؛ الكافي 1: 69.
2- الأصول الأصلية: 246؛ الكافي 1: 69.
3- الأصول الأصلية: 247.

أن قال: ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان»(1).

وفي الكافي، عن سهيل، عن السندي بن الربيع، عن ابن أبي عمير، عن حفص أخي مرازم عن المفضل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الصفة، فقال: «لا تجاوز ما في القرآن»(2).

وفي الاحتجاج، روى عبد اللّه بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام) أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها ما تخرم مشيتها مشية رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت أنةً أجهش القوم لها بالبكاء وساق خطبتها (عليها السلام) إلى أن قالت: فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب اللّه بين أظهركم أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأموره واضحة قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً، إلى أن قالت: وأنتم تزعمون ان لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون، أفلا تعلمون؛ بل تجلى لكم كالشمس الضحية أني ابنته أيها المسلمون أأغلب على إرثه، يا بن أبي قحافة أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئاً فريا أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم؛ إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُود} وقال فيما أقتص عن

ص: 173


1- الأصول الأصلية: 248.
2- الأصول الأصلية: 100.

خبر يحيى بن زكريا: إذ قال رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب، وقال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ}، وقال تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}، وقال تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} إلى أن قال: فقال لها أبو بكر: إني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نوَّرث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً وإنما نورث الكتاب والحكمة، إلى أن قال: فقالت (عليها السلام) : سبحان اللّه ما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن كتاب اللّه صادفاً ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره ويقفو سوره افتجمعون وتميلون إلى الغدر وعدم الوفاء اعتلالاً عليه واعتذاراً بالزور وهذا الذي صدر عنكم بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل والدواهي في حياته هذا كتاب اللّه حكماً عدلاً لا جور فيه وناطقاً فصلاً يقول: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فبيّن عز وجل فيما وزع من الأقساط وشرّع من الفرائض والميراث وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علة المبطلين وأزال التظني والشبهات في الغابرين إلى أن قالت: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}»(1).

وفي نهج البلاغة: «فانظر أيّها السائل فما دلّك عليه القرآن من صفته فأتمّ به واستضيء بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى اللّه

ص: 174


1- الأصول الأصلية: 248- 251؛ الاحتجاج 1: 131.

سبحانه فإن ذلك منتهى حقّ اللّه عليك»(1).

وفي العيون عن أبيه، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعاً عن سعد بن عبد اللّه عن محمد بن عبد اللّه المسمعي عن أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا (عليه السلام) في حديث قال فيه في الخبرين المتعارضين: «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه فما كان في كتاب اللّه موجود أحلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب»(2).

وفي العيون عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كأني قد دعيت فاجبت وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه تبارك وتعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(3).

وفي أسرار الصلاة: روي أنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليعلمه القرآن فانتهى إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} فقال: يكفيني هذا وانصرف، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «انصرف الرجل وهو فقيه»(4).

وفي الكافي عن العدّة، سهل بن زياد عن الحسن بن محبوب عن عبد العزيز العبدي، عن عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : {فَمَنْ شَهِدَ

ص: 175


1- الأصول الأصلية: 252.
2- الأصول الأصلية: 104.
3- الأصول الأصلية: 104.
4- الأصول الأصلية: 111.

مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، قال: «ما أبينها!! من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه»(1).

وفي تفسير العياشي، عن هشام رفعه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) إنّه قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والألازم رجال؟ فقال (عليه السلام) : «ما كان اللّه ليخاطب خلقه بما لا يعقلون»(2).

وفي كنز الفوائد قال جاء في الحديث: «إن قوماً أتوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا له ألست رسولاً من اللّه؟ قال لهم: «بلى» قالوا له: هذا القرآن الذي أتيت به كلام اللّه تعالى؟ قال: «نعم» قالوا: فأخبرنا عن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} إذا كان معبودهم معهم في النار فقد عبدوا المسيح أتقول أنه في النار؟ فقال لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن اللّه سبحانه أنزل القرآن عليّ بكلام العرب والمتعارف في لغتها إن (ما) لمن لا يعقل و(من) لمن يعقل و(الذي) يصلح لهما جميعاً فإن كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا قال اللّه (إنكم وما تعبدون) يريد الأصنام التي عبدوها وهي لا تعقل والمسيح لا يدخل في جملتها فإنه يعقل ولو قال: أنكم ومن تعبدون لدخل المسيح في الجملة فقال القوم صدقت يا رسول اللّه»(3).

وفي الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن

ص: 176


1- الأصول الأصلية: 113.
2- الأصول الأصلية: 273؛ تفسير العياشي 1: 341.
3- الأصول الأصلية: 273؛ كنز الفوائد: 285.

الحسن بن الجهم قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام) : «يا أبا محمد ما تقول في رجل تزوج نصرانية على مسلمة؟ قال: قلت: جعلت فداك وما قولي بين يديك؟ قال: لتقولن فإن ذلك يعلم به قولي، قلت: لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة ولا على غير المسلمة قال: ولم قلت: لقول اللّه عز وجل: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال: فما تقول في هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؟ فقلت فقوله: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نسخت هذه الآية فتبسّم ثمّ سكت»(1).

وفي الفقيه، عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال: إن اللّه عز وجل يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ} فصار التقصير واجباً كوجوب التمام في الحضر؟ قالا: قلنا إنما قال اللّه عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ولم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر، فقال (عليه السلام) : أو ليس قد قال اللّه عز وجل: {إِنَّ

الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لأن اللّه ذكره في كتابه وصنعه نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي وذكره اللّه في كتابه»(2).

وفي الاحتجاج، عن الحسن (عليه السلام) في احتجاجه على جماعة بحضرة

ص: 177


1- الأصول الأصلية: 274؛ الكافي 5: 357.
2- الأصول الأصلية: 274-275؛ من لايحضره الفقيه 1: 334.

معاوية قال (عليه السلام) : «أنشدكم اللّه أتعلمون أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في حجة الوداع: أيها الناس إني قد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده كتاب اللّه أحلوا حلاله وحرموا حرامه وأعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه»(1).

وعن السيّد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النعماني بإسناده عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) عن أمير المؤمنين سلام اللّه عليه في ذكر أقسام القرآن قال (عليه السلام) : أما المحكم الذي لم ينسخه شيء من القرآن فهو قول اللّه عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وإنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوصفوا له تأويلات من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وراء ظهورهم، وقال (عليه السلام) : والحكم مما ذكرته في الأقسام ما تأويله في تنزيله من تحليل ما أحلّ اللّه سبحانه في كتابه وتحريم ما حرّم اللّه فيه من المآكل والمشارب ومنه ما فرض اللّه عزّ وجلّ من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وما دلّهم مما لا غنى بهم عنه في جميع تصرفاتهم مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَة} الآية وهذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله ولا يحتاج في تأويله أكثر من التنزيل ومنه قوله عزّ وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بهِ لِغَيْرِ اللّهِ} فتأويله في تنزيله ومنه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلى آخر الآية فهذا كله محكم لم ينسخه شيء قد

ص: 178


1- الأصول الأصلية: 276؛ الاحتجاج 1: 406.

استغني بتنزيله عن تأويله ثم قال (عليه السلام) في موضع آخر من الحديث: فأما الذي تأويله في تنزيله فهو كل آية محكمة نزلت في تحريم أمر من الأمور المتعارفة التي كانت في أيام العرب تأويلها في تنزيلها فليس يحتاج فيها إلى تفسير أكثر من تنزيلها وذلك مثل قوله تعالى في التحريم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} إلى قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} قال: ومثل ذلك في القرآن كثير مما حرّم اللّه سبحانه لا يحتاج المستمع إلى مسألة عنه(1).

وفي الكافي عن العدّة عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن عمرو بن عثمان عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث أن أبا بكر أتى برجل قد شرب الخمر فقال: لمَ شربت الخمر وهي محرمة؟ فقال: إني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونها ولو أعلم أنها حرام إجتنبتها، فقال علي (عليه السلام) لأبي بكر إبعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه فإن لم يكن تُلي عليه آية التحريم فلا شيء عليه ففعل فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله(2).

وفي الفقيه عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لو أن رجلاً دخل في

ص: 179


1- الأصول الأصلية: 276-279؛ رسالة المحكم والمتشابه: 5، 13، 16.
2- الأصول الأصلية: 117.

الإسلام وأقرّ به ثم شرب الخمر وزنى وأكل الربا ولم يتبين له شيء من الحلال والحرام لم أقم عليه الحد إذا كان جاهلاً إلاّ أن تقوم عليه البينة أنه قرأ السورة التي فيها الربا والخمر وأكل الربا وإذا جهل ذلك أعلمته وأخبرته، فإن ركبه بعد ذلك جلدته وأقمت عليه الحدّ»(1).

وفي الكافي والتهذيب: علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن فضال عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «شرب رجل على عهد أبي بكر خمراً فرفع إلى أبي بكر فقال له: أشربت خمراً؟ قال: نعم، فقال: ولمَ هي محرمة؟ قال: فقال له الرجل: إني أسلمت وحسن إسلامي ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلون ولو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال ما تقول في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر: معضلة وليس لها إلاّ أبو حسن، فقال أبو بكر: ادع لنا علياً فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقاما والرجل معهما ومن حضرهما من الناس حتى أتوا أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخبراه بقصة الرجل وقصّ الرجل قصته قال: فقال: «ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا به ذلك ولم يشهد عليه أحد بأنه قرأ عليه آية التحريم فخلى عنه وقال له: إن شربت بعدها أقمنا عليك الحدّ»(2).

وفي الكافي، عن العدّة عن سالمة مولاة أبي عبد اللّه (عليه السلام) قالت: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) حين حضرته الوفاة فاغمي عليه فلما أفاق قال اعطوا

ص: 180


1- الأصول الأصلية: 280-281؛ من لايحضره الفقيه 4: 55.
2- الأصول الأصلية: 281؛ الكافي 7: 217.

الحسن بن علي بن الحسين وهو الأفطس سبعين ديناراً وأعطوا فلاناً كذا وكذا وفلاناً كذا وكذا فقلت: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة؟ فقال ويحك أما تقرئين القرآن قلت: بلى، قال: أما سمعت قول اللّه عز وجل: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(1).

وفي التهذيب عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن علي بن الحسين بن رباط عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت: لأبي عبد اللّه (عليه السلام) عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مراره فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: تعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجلّ قال اللّه تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه(2).

في تفسير العياشي، عن إسحاق بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسين عن الحسن بن زيد عن أبيه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سألت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الجبائر تكون على الكير كيف يتوضأ صاحبها وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزئه المسح عليها في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده فقرأ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}(3).

في الكافي والتهذيب عن أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في

ص: 181


1- الأصول الأصلية: 282؛ الكافي 1: 13.
2- الأصول الأصلية: 283-284؛ تهذيب الأحكام 1: 363.
3- الأصول الأصلية: 284؛ تفسير العياشي 1: 262.

حديث قال فيه: فإن اللّه عز وجل يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه} فلو سكت لم يبق أحد إلاّ تعجل لكنه قال ومن تأخر فلا إثم عليه(1).

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت كيف يمسح الرأس؟ قال: إن اللّه يقول: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}(2).

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: كيف مسح الرأس؟ قال: إن اللّه يقول: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} فما مسحت من رأسك فهو كذا ولو قال امسحوا رؤوسكم لكان عليك المسح بكلّه(3).

وفيه عن عبداللّه بن خليفة أبي الغريف الهمداني قال: قام ابن الكوا إلى علي (عليه السلام) فسأله عن المسح على الخفين، فقال: بعد كتاب اللّه تسألني قال اللّه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا} إلى قوله {الكعبين} ثم قام إليه ثانية فسأله فقال له مثل ذلك ثلاث مرات كل ذلك يتلو عليه هذه الآية(4).

وعن محاسن البرقي في باب أن المؤمن صدّيق شهيد قال: قلت جعلت فداك أنى يكون ذلك وعامتهم يموتون على فراشهم قال: أما تتلوا كتاب اللّه في الحديد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ

ص: 182


1- الأصول الأصلية: 284؛ الكافي 4: 519؛ تهذيب الأحكام 5: 271.
2- الأصول الأصلية: 284-285.
3- الأصول الأصلية: 286.
4- الأصول الاصلية: 286؛ تفسير العياشي 1: 330.

رَبِّهِمْ} قال: فقلت كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب اللّه عزّ وجلّ قط(1).

وفي الفقيه، عن هشام بن الحكم أنه قال في مناظرته مع بعض المخالفين في أمر الحكمين بصفين: أنهما كانا غير مريدين للإصلاح بين الطائفتين فقال المخالف: من أين قلت هذا؟ قال هشام: «من قول اللّه عزّ وجلّ في الحكمين: {إِنْ

يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} فلما إختلفا ولم يكن بينهما اتفاق على أمر واحد ولم يوفق اللّه بينهما علمنا أنهما لم يريدا الإصلاح»(2).

وفي البحار عن الصادق (عليه السلام) في مقام نهي الدوانيقي عن قبول قول النمام: إنّه فاسق وقال اللّه {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا}(3).

وفي فروع الكافي قوله لأخيه إسماعيل: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم(4).

وفيه قوله: لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لإستماع الغناء اعتذاراً كان عنه مسؤولا(5).

ص: 183


1- الأصول الأصلية: 287؛ المحاسن 1: 164.
2- الأصول الأصلية: 288-289.
3- بحار الأنوار 47: 168.
4- الكافي 5: 299.
5- الكافي 6: 432. نصّ الرواية هكذا: عن مسعدة بن زياد قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال له رجل: بأبي أنت وأمي إنني أدخل كنيفاً لي ولي جيران عندهم جوارٍ يتغنين ويضربن بالعود فربما أطلت الجلوس استماعاً مني لهن. فقال: لا تفعل. فقال الرجل: واللّه ما آتيهن إنما هو سماع أسمعه باذني. فقال: لله أنت أما سمعت اللّه عز وجل يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً}.

وفي كنز الفوائد: أن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الإمام الصادق جعفر بن بن محمد (عليهم السلام) فلما رفع الصادق (عليه السلام) يده من أكله قال: الحمد لله رب العالمين، اللّهم هذا منك ومن رسولك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال أبو حنيفة: أبا عبد اللّه أجعلت مع اللّه شريكاً؟ فقال له: ويلك! فإن اللّه تعالى يقول في كتابه: {وما نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1) ويقول في موضع آخر: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}(2) فقال أبو حنيفة: واللّه لكأني ما قرأتهما (قط من كتاب اللّه ولا سمعتهما إلاّ في هذا الوقت. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : بلى قد قرأتهما) وسمعتهما ولكن اللّه تعالى أنزل فيك وفي أشباهك: {أَمْ

عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3) وقال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(4)»(5).

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي يمكن ادّعاء أنّها تبلغ المئات.

وهذه الروايات وإن أمكنت المناقشة في بعضها إلاّ أنّ في بعضها الآخر ممّا لا يحتمل أن يراد بها النصوص، بل خصوص الظواهر كفاية.

تتمّة: في شبهة تحريف القرآن الكريم

مضت الوجوه الخمسة التي استدلّ بها على عدم حجّية ظواهر الكتاب العزيز.

ص: 184


1- التوبة: 74.
2- التوبة: 59.
3- محمد: 24.
4- المطففين: 14.
5- كنز الفوائد: 196.

وهنالك وجه آخر لم نظفر على من استدلّ به من الأخباريين وإنّما ذكره (شريف العلماء (رحمه اللّه) ) كوجهٍ يمكن أن يستدلّ به للمدّعى.

وهذا الوجه هو: العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن الكريم، سواء كان بنحو الاسقاط أو التصحيف.

والأوّل كما قيل من إسقاط أكثر من ثلث القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}.

والثاني: عبارة عن تغيير المادّة أو الهيئة بحيث يخرجه عن الكلام المنزل مثل تغيير قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} الموجود بصيغة الطلب إلى صيغة الماضي.

وعلى كلّ حال: فالتحريف بكلا نوعيه يوجب سقوط الظهور عن الحجّية، أو يمنع عن أصل انعقاد الظهور.

ويرد على هذا الوجه:

1- لا تحريف في القرآن

أوّلا: إنّ المبنى غير تامّ، إذ لا تحريف في القرآن الكريم، وقد نفى جمهرة من العلماء والمحقّقين التحريف منهم:

1- الفضل بن شاذان في الإيضاح.

2- الصدوق في الاعتقادات.

3- المفيد في أوائل المقالات.

4- المرتضى في المسائل الطرابلسيات.

ص: 185

5- الطوسي في التبيان.

6- الطبرسي في مجمع البيان.

7- علي بن طاوس في سعد السعود.

8- العلاّمة الحلّي في أجوبة المسائل المهناوية.

9- نور اللّه التستري في مصائب النواصب.

10- الشيخ البهائي كما نقله البلاغي في آلاء الرحمن.

11- الفيض الكاشاني في الصافي.

12- الحرّ العاملي في الفصول المهمّة.

13- المحقّق الكركي في رسالة خاصّة ألّفها في نفي النقيصة.

14- العلاّمة المجلسي في البحار.

15- بحر العلوم في كتاب الفوائد.

16- كاشف الغطاء في كشف الغطاء.

17- المامقاني في بشرى الأُصول.

18- البلاغي في آلاء الرحمن.

19- الشريف الرضي.

20- ابن إدريس.

21- شرف الدين.

22- الشيخ آقا بزرگ الطهراني.

23- السيّد الميلاني.

24- السيّد الگلبايگاني.

ص: 186

25- السيّد المرعشي.

26- السيّد الحجّة.

27- السيّد الوالد.

إلى غيرهم من يطول المقام بذكرهم.

2- العلم الإجمالي ينحلّ بالفحص

ثانياً: ما ذكره السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه) بقوله:

(أوجه التحريف - لو صحّت - معلومة مذكورة في الكتب المرتبطة فلا مورد للعلم الإجمالي أصلاً)(1).

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّ العلم الإجمالي ضيّق الدائرة من الأساس، أي أنّنا نعلم بوجود تحريفات تتضمّنها الروايات المذكورة في محلّها... وهذا العلم الإجمالى ينحلّ بالعثور على تلك الروايات.. وأمّا سوى ما تضمّنته تلك الروايات فلا علم تفصيلي ولا إجمالي بوجود التحريف. فلا مانع حينئذ من التمسّك بظواهر نحو {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}(2) و {للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(3) و {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ للهِِ خُمُسَهُ}(4) ونحوها على فرض عدم تضمّن الروايات وقوع التحريف فيها.

3- لا علم بوقوع الخلل في الظواهر

ص: 187


1- الوصول 3: 421.
2- الأنعام: 72.
3- آل عمران: 97.
4- الأنفال: 41.

ثالثاً: ما ذكره الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه وتبعه في الكفاية من عدم العلم بوقوع الخلل في الظواهر بالتحريف المدّعى أصلا.

إذ التحريف يمكن أن يكون باسقاط جملة مستقلّة عن غيرها في المفاد، وهو لا يضرّ بالظهور. نظير إسقاط بعض جمل رواية لا يرتبط بعض جملها بالبعض الآخر.

4- لا علم بوقوع الخلل في آيات الأحكام

رابعاً: ما ذكره (رحمه اللّه) أيضاً من أنّه لو سلّمنا بوقوع الخلل في الظواهر بذلك فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام التي هي مورد البحث؛ لاحتمال وقوع الخلل من ظواهر غيرها لما يرتبط بالعقائد والقصص التاريخية ونحوها.

إن قلت: العلم الإجمالي بوقوع التحريف في (آيات الأحكام) أو (غيرها) مانع عن اجراء (أصالة الظهور)، إذ الأُصول اللفظية والعملية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي.

قلت: أنّ العلم الإجمالي لا يضرّ بحجّية (آيات الأحكام) لعدم حجّية ظاهر سائر الآيات، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيتها إذا كانت كلّها حجّة وإلاّ لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك فافهم».

كذا في الكفاية(1)، وعلّل عدم الحجّية في (الدرر) بخروج الأخيرة عن محلّ ابتلاء المكلّف(2).

قال في النهاية: «لعلّ المراد منه أن الكلام الغير المتضمن للتكليف لا

ص: 188


1- كفاية الأصول: 285.
2- درر الفوائد: 94.

معنى لحجية ظاهره على المكلف، حيث لا معنى للحجية إلاّ كون الشيء بحيث يحتج به في مورد المؤاخذة بالذم والعقاب، ولا معنى لذلك إلاّ فيما يشتمل على التكليف، والآيات المتضمنة للقصص وشبهها لا حجية لظهورها، بل الآيات المتضمنة للعقائد والمعارف لا حجية لظهورها أيضاً وإن كانت متضمنة للتكليف بالأصول، إذ المطلوب فيها الاعتقاد لا التعبد والعمل كي يتصور فيه حجية الظاهر فتأمّل»(1).

وقال في الهامش في ذيل قوله (فتأمّل): «إشارة إلى أنّ المطلوب في الإعتقاديات: إن كان المعرفة واليقين أو عقد القلب على ما جزم به النفس، فلا محالة لا معنى لحجية الظاهر لعدم إفادته اليقين، وإن كان مجرد عقد القلب على ما وصل إليه ولو تنزيلاً، فلا بأس لحجّية الظاهر فيها»(2).

وما ذكروه لا يخلو من تأمّل؛ لأنّه يكفي في الابتلاء جواز الأخبار عن مضامينها.

وعليه، فالعلم الإجمالي بوقوع الخلل في بعض الظواهر يمنع عن حجّة أصالة الظهور في جميع الآيات؛ لأنّ الأُصول اللفظية والعملية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي.

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): «مبنى جماعة آخرين من الأُصوليين وهو الظاهر عندنا أنّ الظواهر كلّها حجّة سواء كانت متعرّضة للقصص، أو أحوال المعاد أو سائر الأمور التي لا ترتبط بالأحكام، بل ربما يعد من

ص: 189


1- نهاية الدراية 3: 177.
2- نهاية الدراية 3: 177.

ضروريات المتشرعة، وما استدلوا به لعدم الحجية غير تام، فإنّ الأثر العلمي ليس كل ما يؤخذ به حتى أن يكون هو المعيار، بل بناء العقلاء على لزوم الأخذ بما ثبت بالطرق العادية من كلام الموالي، أرأيت لو ثبت أن قال المولى: «إن دور البلدة النائية ألف» ثم قال أحذ عبيده: «لا أعلم كم عدد الدور» لكان عند العرف غير مبال بكلام المولى ومستحقّاً لعقاب المخالف»(1).

إشكال مشترك الورود

ثمّ إنّ هنا إشكالا مشترك الورود على الجواب الثالث والرابع معاً.

ومفاد هذا الإشكال: التفصيل بين كون القرينة المحذوفة المحتملة منفصلة أو متّصلة.

ففي المنفصلة: لا يضرّ الاحتمال لجريان (أصالة الظهور) بالنسبة إلى ظاهر آيات الأحكام؛ إذ الظهور الذاتي للكلام لا يرتهن إلاّ بالوضع، والظهور الفعلي يتمّ بتمام الكلام، وحيث انعقد الظهور يكون حجّة، ولا يرفع اليد عنه إلاّ بحجّة متيقّنة، أمّا الحجّة المشكوكة فهي لا تكفي في رفع اليد عن الحجّة.

مثلا: لو انعقد ظهور لقوله تعالى: {حَرَّمَ الرِّبَا} في حرمة جميع أنواع الربا، وشككنا في وجه تخصيص هذا العموم بالربا بين المسلم والكافر الذمّي كانت «أصالة العموم» محكّمة.

ص: 190


1- الوصول 3: 421.

وأمّا في المتّصلة: فالاحتمال يوجب عدم انعقاد أصل الظهور.

فإذا احتمل احتفاف ظاهر آيات الأحكام بما يكون مانعاً عن انعقاد الظهور لم تجر أصالة الظهور، إذ مجراها الظهور المعلوم، وأمّا مشكوك الظهور فلا.

إلاّ أن يقال: بوجود أصلين طوليين في المقام:

الأوّل: أصالة عدم القرينة وهي أصل عقلائي قائم بذاته، سواء قيل بوجود أصل لدى العقلاء باسم «أصالة العدم» على نحو كلّي أو لا.

والثاني: أصالة الظهور بعد انعقاد الظهور بأصالة عدم القرينة.

وعليه: فلا فرق بين كون القرينة المحتملة متّصلة أو منفصلة، فتأمّل.

5- الشبهة غير محصورة

خامساً: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من أنّ الشبهة غير محصورة.

وفيه: أنّه يكفي في كونها محصورة ما قيل من سقوط أكثر من ثلث القرآن الكريم بين {وَإِنْ خِفْتُمْ...} و{فَانكِحُوا..}.

6 - الروايات الإرجاعية

سادساً: الروايات الارجاعية إلى ظواهر الكتاب، فإنّها كافية في جواز العمل بظواهره، سواء قيل بالتحريف أو لا، فاحتمال التحريف لا يمنع حجّية ظواهر الكتاب.

لا يقال: إنّ الإرجاع خاصّ بالموارد التي دلّ الدليل عليها.

فإنّه يقال: ظاهر جملة من الروايات العموم، كأخبار العرض، وخبر عبدالأعلى مولى آل سام، ومع التسليم: فالموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلّية المدّعاة.

ص: 191

تنبيهات

التنبيه الأوّل: هل الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى؟
اشارة

ذكر المحقّق النراقي (رحمه اللّه) : أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى؛ إذ ليست آيةٌ متعلّقة بالفروع أو الأصول إلاّ وورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبرٌ أو أخبار كثيرة، بل انعقد الإجماع على أكثرها مع أنّ جلّ آيات الأصول والفروع - بل كلها- ممّا تعلّق الحكم فيها بأمورٍ مجملة لا يمكن العمل بها إلاّ بعد أخذ تفصيلها من الأخبار»(1).

وعليه: فالآيات الكريمة بين ما لا ظاهر لها، وما لها ظاهر لكن الروايات والإجماعات تكفينا منها.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه بجوابين:

التمسّك بالقرآن الكريم في أبواب المعاملات

الأوّل: ما ذكره بقوله: «ولعلّه قصر نظره إلى الآيات الواردة في العبادات فإنّ أغلبها من قبيل ما ذكره، وإلاّ فالإطلاقات الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع غير المنصوصة، أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرة جدّاً»(2).

ونحو ما ذكره: الفروع المنصوصة بالنصوص المجملة كما في الوصائل(3).

ص: 192


1- مناهج الأحكام: 158؛ الوصائل 2: 233.
2- الوصائل 2: 222.
3- الوصائل 2: 225.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ذكر مجموعة من الأمثلة، نذكر معظمها، بضميمة أمثلة أُخرى:

1- هل يجب الوفاء بالمعاطاة؟ وبالعقود الجديدة، كالتأمين والمغارسة وعقد الهيئة. قد يقال بالوجوب لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(1).

2- هل يجوز بيع الحقوق - كحقّ الطبع مثلا؟ قد يقال بالجواز لقوله تعالى: {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ}(2).

3 - هل تجوز إجارة الرحم؟ قد يقال بالجواز لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض مِنْكُمْ}(3).

4 - هل يجب القبض في الرهن؟ قد يقال بالوجوب لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}(4).

5 - هل يجب أن يكون تصرّف الولي في مال اليتيم بالأحسن؟ أو يكفي الحسن؟ قد يقال بالأوّل لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(5).

6- لو فعل صبي بصبي، فهل تحلّ له أُخت المفعول وبنته وأُمّه؟ قد يقال بذلك لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}(6).

ص: 193


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 275.
3- النساء: 29.
4- البقرة: 283.
5- الأنعام: 152؛ الإسراء: 34.
6- النساء: 24.

7- هل خبر العادل حجّة؟ قد يقال بالحجّية لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا}(1).

8 - هل التقليد مشروع؟ قد يستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2).

9- هل يجوز استئجار العبد لما لا ينافي حقّ المولى كقراءة سورة الحمد مثلا؟ قد يقال بالعدم، إلاّ لو أذِن مولاه، لقوله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْء}(3).

10- هل الضمان منفي أيضاً عن المحسن أو خصوص العقوبة؟ قد يقال بالأوّل لقوله تعالى: {مَا

عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل}(4).

11- هل تجوز الجمالة في مال الجعالة؟ قد يقال بالجواز لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير}(5).

12- هل يجوز ضمان ما لم يجب؟ قد يقال بذلك لقوله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}(6).

13- هل العلم الإجمالي منجّز للتكليف؟ قد يقال بالتنجيز لقوله تعالى:

ص: 194


1- الحجرات: 6.
2- النحل: 43؛ الأنبياء: 7.
3- النحل: 75.
4- التوبة: 91.
5- يوسف: 72.
6- يوسف: 72.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(1).

14- هل الظواهر حجّة؟ قد يقال بالحجّية لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.

15- هل الاستصحاب حجّة؟ قد يقال بذلك لقوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ}.

16- هل يجوز للإنسان أن يبيع أعضاءه مع الأمن من الضرر - كإحدى الكليتين مثلاً؟قد يقال بالجواز لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. بضميمة أنّ الأولوية لا تتحقّق إلاّ في صورة ثبوت الولاية.

17- هل وضع الحدود الجغرافية محرّم؟ قد يقال بالحرمة لقوله تعالى: {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وقوله تعالى: {وَإِنَّ

هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.

18- هل التطبير وضرب السلاسل في عزاء سيّد الشهداء صلوات اللّه عليه جائز؟ قد يستدلّ على الجواز - مضافاً إلى سائر الأدلّة - بقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

19- هل يجوز القتل بغير السيف كالرصاص مثلا؟ إحتمل بعض الفقهاء الجواز لقوله تعالى: {يُرِيدُ

اللّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فتأمّل.

20- هل حلق اللحية حرام؟ وهل تغيير الجنس إلى الجنس الآخر حرام؟ قد يستدلّ على الحرمة بقوله تعالى: {... وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}.

21 - هل يجوز للجيل الحاضر أن يستهلك مصادر الثروة - كالنفط مثلا

ص: 195


1- الحجرات: 12.

- ممّا يسمّى ب- (بلع حقّ الأجيال الآتية)؟ قد يقال بالعدم لقوله تعالى: {جَعَلَ

لَكُمْ}.

22- هل الملاك - في باب الربا والاجارة والبيع والمهر والغصب وغيرها - حجمّ النقد أو القوّة الشرائية؟ قد يقال بالأخير لقوله تعالى: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}.

23 - هل يجوز إجراء البراءة في الشبهات الوجوبية والتحريمية؟

قد يستدلّ على الجواز بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}.

24- هل صيغة الأمر تدلّ على الوجوب؟ قد يستدلّ على الوجوب بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ}.

25- هل سيرة المتشرّعة حجّة؟ قد يستدلّ على الحجّية بقوله تعالى: {... وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}.

26- هل الظنّ حجّة, أو لا؟ قد يستدلّ على عدم الحجّية بقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}.

27- هل القرعة مشروعة؟ قد يستدلّ على المشروعية بقوله تعالى: {فَسَاهَمَ

فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} وقوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}.

28- هل التجرّي حرام أو لا؟ قد يستدلّ على الحرمة بقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.

ص: 196

29- هل الموافقة الالتزامية واجبة؟ قد يقال بالوجوب لقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.

30- هل قاعدة الأهم والمهم ثابتة؟ قد يقال بذلك لقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ}.

31 - هل الشرائع السابقة ثابتة في حقّنا - في غير المقدار المنسوخ منها.؟ قد يقال بذلك لقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ}.

32- هل يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه؟ قد يقال بالجواز لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.

33- هل أقلّ الجمع إثنان أو ثلاثة؟ قد يقال بالأوّل لقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وقوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} وقوله تعالى: {عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}.

34- هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟ قد يستدلّ على عدم الجواز بقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.

35 - هل شركة أرباب الخمس مع صاحب المال في العين أو الذمّة؟

قد يقال بالأوّل لقوله تعالى: {فَأَنَّ للهِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ..}.

36 - هل الخمس ثابت في كلّ فائدة؟ قد يقال نعم لقوله تعالى:

ص: 197

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء...}.

37- هل الإضرار منهي عنه؟ قد يستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} وقوله تعالى {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّة يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن غَيْرَ مُضَارّ}.

التمسّك بالقرآن الكريم في أبواب العبادات

الجواب الثاني: أنّ في العبادات أيضاً آيات كثيرة لها ظواهر وليس في موردها نصّ، أو النصوص فيها متكافئة، أو مجملة.

مثل:

1 - قوله تعالى: {إِنَّمَا

الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(1). إذ قد يستدلّ به على نجاسة المشركين نجاسة ظاهرية.

2- قوله تعالى: {فَلَمْ

تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}(2). إذ قد يستدلّ به على أنّ فاقد الماء المطلق لا يتوضّأ بالماء المضاف بل ينتقل فرضه إلى التيمّم.

3- آيات الوضوء والتيمّم، والغسل.

التنبيه الثاني: في حكم الاختلاف في القراءات
اشارة

إذا إختلفت القراءات على نحو يوجب الاختلاف في المؤدّى - كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}(3) حيث قرأ بالتشديد، المأخوذ

ص: 198


1- التوبة: 28.
2- النساء: 43.
3- البقرة: 222.

من التطهّر، الظاهر في الإغتسال، وبالتخفيف، المأخوذ من الطهارة، الظاهر في النقاء عن الحيض، على ما قيل - فما الحكم؟

في القراءات مباني ثلاثة والحكم يختلف باختلاف هذه المباني، وهي:

1- مبنى تواتر القراءات.

2- مبنى حجّية القراءات.

3- مبنى جواز القراءة بالقراءات بدون ثبوت التواتر ولا الحجّية.

1- مبنى تواتر القراءات

وقد ذكر الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه أنّه المشهور.

وذكر الوالد (رضوان اللّه عليه) أنّ خلافه هو المشهور شهرة عظيمة، بل يمكن أن يعد مبنى التواتر من النادر.

ولا يخفى أنّ المراد في المقام تواتر القراءات عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بمعنى أنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قرء بجميع هذه الأوجه - السبعة أو العشرة - وأمّا التواتر عن القرّاء فلا يجدي في المقام شيئاً، فعلى هذا المبنى يكون وزان القرائتين وزان آيتين تعارضتا، فيكون هنالك فرضان:

الأوّل: أن يكون الجمع العرفي بين المفادين ممكناً، فيجب الجمع.

وذلك كما في حمل الظاهر على النصّ، أو على الأظهر.

مثلا: في خصوص المقام يقال: بكراهة المقاربة بعد الطهر وقبل التطهّر، لأنّ ذلك هو مقتضى التوفيق العرفي بين المفادين، كما لو ورد في ذلك في دليلين منفصلين.

الثاني: أن لا يكون الجمع العرفي ممكناً.

ص: 199

وحينئذ: فيحكم بالتوقّف في استفادة الحكم من الآية الكريمة، ويرجع إلى سائر القواعد والأُصول.

مثلا في المقام: يستصحب حكم المخصّص - حيث كانت المقاربة

محرّمة قبل الانقطاع فتستصحب حرمتها بعده.

أو يرجع إلى عموم العام الأزماني - وهو قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(1) بناءً على أنّ (أنّى) في الآية الكريمة للزمان أو للأعمّ- وذلك على الخلاف المعروف في أنّ المقام مقام استصحاب حكم المخصّص، أو العمل بعموم العام.

أو يتمسّك بأصالة البراءة - لو فرض عدم وجود دليل اجتهادي في المقام، وعدم جريان الاستصحاب.

2- مبنى حجّية القراءات

ومعنى الحجّية: جواز الاستدلال بكلّ قراءة، وإن لم يثبت تواتر القراءات.

وهذه الحجّية مبنّية على (الملازمة العرفية) بين (جواز القراءة) بكلّ قراءة، و(الحجّية).

أو على استفادة الجواز من النصوص الآمرة بالرجوع إلى القرآن، بضميمة أنّ كلّ قراءة قرآن، والحكم على هذا المبنى هو الحكم على المبنى المتقدّم.

ص: 200


1- البقرة: 223.
3- مبنى جواز القراءة بالقراءات

وهذا المبنى مستند إلى الإجماع المدّعى في المقام، أو إلى النصوص الدالّة على جواز جميع القراءات المتداولة.

مثل ما ورد في الكافي عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبداللّه (عليه السلام) وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس. فقال أبو عبداللّه (عليه السلام) : كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس، حتّى يقوم القائم (عليه السلام) فإذا قام القائم قرأ كتاب اللّه عزّوجلّ على حدّه(1).

وعلى كلّ: فإن قيل بجواز القراءة بجميع القراءات، ولم تُسلَّم الملازمة بين (جواز القراءة) و (الحجّية)، يكون الأمر من (إشتباه الحجّة باللاّحجّة)، فلا يمكن الاستدلال بأية قراءة.

ويكون وزان القرائتين وزان خبرين إشتبه الحجّة باللاّحجّة منهما. ويرجع حينئذ إلى سائر القواعد والأُصول الموجودة في المقام.

تذنبيات
التذنيب الأوّل: ما عدا القراءة المشهورة ليس قرآناً

إنّ هنالك مبنى آخر مغايراً لما تقدّم من المباني، وقد ذهب إليه الوالد (رحمه اللّه) وهو:

إنّ القرآن الكريم عبارة عن المقروء بالقراءة المتداولة المشهورة، أي قراءة حفص عن عاصم، وما عداها ليس قرآناً، ولا يجوز الإستدلال به، ولا قراءته. وعلى هذا المبنى ينتفي موضوع بحث «إختلاف القراءات».

ص: 201


1- الكافي 2: 633.
التذنيب الثاني: يشترط في الثالث أن لا يكون مخالفاً لكلا المفادين

ذكرنا أنّه في بعض الصور المتقدّمة يحكم بالتوقّف في استفادة الحكم من الآية الكريمة، ويرجع إلى سائر الأدلّة والأُصول.

ولكن يشترط فيما يرجع إليه أن لا يكون مخالفاً لكلا المفادين.

كما في المثال المتقدّم فإنّ الاستصحاب موافق لقراءة التشديد، والبراءة موافقة لقراءة التخفيف.

أمّا لو فرض كون الثالث مخالفاً لكلا المفادين فلا يجوز الرجوع إليه.

وذلك لأنّ تساقط الدليلين المتعارضين إنّما يكون في مدلولهما المطابقي.

وأمّا بالنسبة إلى مدلولهما الالتزامي - وهو نفي الثالث - فلا تعارض فيه كي يكون الحكم هو التساقط.

وحيث إنّ إحدى القرائتين حجّة قطعاً، يكون الثالث المخالف لهما غير حجّة قطعاً، ويكون منفياً بالحجّة المعلومة بالإجمال، فلا يجوز الرجوع إليه.

والحاصل: أنّه يتولّد من العلم الإجمالي بحجّية إحدى القرائتين: علم تفصيلي ببطلان الثالث المخالف لهما، ومع العلم التفصيلي بالبطلان لا يجوز الرجوع إليه، هذا كلّه بالنسبة إلى المخالفة العملية.

وأمّا بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية فالأمر فيها مبني على ما تقدّم من جواز المخالفة الالتزامية وعدمها فراجع.

التذنيب الثالث: هل تجري قواعد الترجيح في المقام؟

هل يجوز إعمال قواعد الترجيح في المقام - إن كان هنالك ترجيح- أو

ص: 202

لا؟ يختلف الحكم باختلاف المباني.

1- فإنّه إنْ بُني على أنّ الترجيح هو الأصل الموافق للمرتكزات العقلائية في تعارض الطرق مطلقاً جرت التراجيح في المقام، لكونها صغرى لتلك الكبرى الكلّية.

2- وكذا إن بني على أنّ الترجيح وإن استند إلى الأدلّة الخاصّة الواردة في الخبرين المتعارضين إلاّ أنّه يستفاد منها - بتنقيح المناط - عموم الحكم لكلّ تعارض، وبعبارة أُخرى: يستفاد من الأدلّة أنّ الأحكام المزبورة أحكام للتعارض بما هو تعارض، لا بما هو تعارض الخبرين.

3- وإن لم نقل بذلك، وقلنا بأنّ الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجّية بناءً على اعتبارها من باب الطريقية، والتخيير فيما بينها بناءً على السببية، كان الحكم هو التساقط أو التخيير في المقام.

التذنيب الرابع: حكم إحتمال مخالفة القراءات لقراءة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

أنّ ما ذكرناه في المبنى الثالث من الإندراج في اشتباه الحجّة باللاّحجّة وجريان أحكامه عليه إنّما يتمّ مع العلم الإجمالي بكون إحدى القرائتين أو القراءات هي قراءة النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وأمّا لو فرض احتمال مخالفتها كلّها لقراءته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا يعلم بحجّية أي واحد من القراءات المأثورة وتندرج في موضوع «الشكّ في الحجّية» الذي هو موضوع «عدم الحجّية».

وعليه لا يظلّ مانع من الرجوع إلى الثالث، وإن فرض مخالفته - مخالفة عملية - للمفادين. إلاّ أنّ الغرض المزبور غير واضح.

ص: 203

[3) التفصيل بين الظن بالوفاق ... والعدم] (1)

التفصيل الثالث: التفصيل بين حصول الظنّ بالوفاق - أم عدم حصول الظنّ بالخلاف- والعدم.(2)

وهو يحتوي على تفصيلين:

1- التفصيل بين حصول الظنّ الفعلي (الشخصي) بالمراد، وبين عدمه، بالحجّية بما في الأوّل دون الثاني. وهو ما يعبّر عنه ب- (اشتراط الظنّ بالوفاق).

2- التفصيل بين حصول الظنّ الفعلي بالخلاف، وعدمه بعدم الحجّية في الأوّل، والحجّية في الثاني. فعلى التفصيل الأوّل يكون (الظنّ الفعلي) جزء موضوع الحجّية أو شرطها. وعلى الثاني يكون (الظنّ الفعلي بالخلاف) مانعاً عن الحجّية.

وأمّا التعبير بأنّه عليه يكون عدمه شرطاً فلا يخلو من تسامح، إذ العدم لا ذات له، فلا يكون شرطاً ولا مشروطاً، فإنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

وتظهر الثمرة فيما بين التفصيلين فيما لو لم يحصل للفقيه (الظنّ بالوفاق) ولا (الظنّ بالخلاف) بل (شكّ في كون الظهور مراداً أو لا) فعلى الأوّل لا يكون الظاهر حجّة، بخلافه على الثاني.

ولا يخفى أنّ هذا البحث مهم جدّاً، إذ قد لا يحصل للفقيه ظنّ شخصي

ص: 204


1- إضافة من التحقيق.
2- إضافة من التحقيق.

بكون ظاهر الدليل مراداً، وقد يحصل له ظنّ شخصي بالخلاف، فلا يكون الظهور حجّة بناءً على هذين التفصيلين.

توجيه التفصيلين

وقد يوجّه التفصيل الأوّل: بأنّ حجّية الظهور ليست أمراً تعبّدياً، بل قد سبق أنّه لا طريق تعبّدي عند العقلاء، بل الحجّية المزبورة مبتنية على أساس (كاشفية الظهور عن المراد).

ومع عدم حصول الظنّ الفعلي بالمراد تنتفي نكتة الحجّية - أي الكاشفية - فلا يكون الظهور حجّة.

كما قد يوجه كلا التفصيلين: بأنّ القدر المتيقّن من حجّية الظهور لدى العقلاء: صورة حصول الظنّ بالوفاق، أو عدم حصول الظنّ بالخلاف، فلا يكون حجّة في غير ذلك.

إيرادات على التفصيلين

وأُورد على ذلك:

1- عمومية بناء العقلاء

أوّلا: أنّ مستند الحجّية بناء العقلاء، وهم لا يفرّقون بين حالة الظنّ بالوفاق وغيرها، بل يعملون بالظهور في الحالات كلّها، وهذا يكشف عن حجّية الظهور مطلقاً.

والخلاصة: أنّ السيرة جارية على العمل بالظهورات مطلقاً.

واعترض على ذلك: بأنّه خلاف الوجدان، أي ما نجده من الواقعية الخارجية، فالتاجر قد لا يعمل بظهور كلام تاجر آخر في تحديد الأسعار، إذا ظنّ بالخلاف أو لم يظنّ بالوفاق، وهكذا في سائر الأمثلة.

ص: 205

وأجاب المحقّق النائيني (رحمه اللّه) عن الاعتراض بالفرق بين:

1- الظهورات التي لها ارتباط بمقام الاحتجاج، كالظهورات الصادرة من الموالي إلى العبيد، والتي يحتجّ بها المولى على العبد، والعبد على المولى. فيلتزم فيها بعدم التقيّد.

2- والظهورات التي لا يكون لها ارتباط بمقام الاحتجاج، بل يكون الغرض كشف المرادات الواقعية وترتيب الأثر على طبقها، كما إذا فرضنا وقوع كتاب من تاجر إلى تاجر آخر بيد ثالث فأراد كشف ما فيه من تعيين الأسعار، فإنه إذا احتمل عدم إرادة الكاتب ظواهر مكتوباته لا يرتّب عليه الأثر يقيناً، فالأخذ بالظهور في غير مقام الاحتجاج مقيّد بأعلى مراتب الظنّ، وهي مرتبة الاطمئنان، وبمجرّد احتمال إرادة خلاف الظاهر احتمالا عقلائياً تسقط تلك الظهورات عن الكاشفية، فضلاً عن وجود الظنّ بالخلاف(1).

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «صحّة إحتجاج المولى على عبده... ولا بعدم الظنّ بالخلاف(2).

ص: 206


1- أجود التقريرات 3: 161.
2- لم نجد هذه العبارة في فرائد الأصول، وأقرب عبارة وجدناها في المصنّفات ما في أجود التقريرات 3: 161. «واستدلّ على ذلك بصحّة احتجاج المولى على عبده - عند عدم أخذه بظاهر كلامه- بأنّك لِمَ ما أخذت بظاهر كلامي؟ وعدم قبول اعتذاره بأنّي ما ظننت بالمراد، أو بأني ظننت بالخلاف، وبصحّة احتجاج العبد على مولاه - عند أخذه بظاهر الكلام ولو لم يكن ظانّاً بإرادته، أو كان ظانّاً بخلافه- بأني أخذت بظاهر كلامك وأنت قلت لي كذا، ولا يسمع الى قول المولى بأني كنت مريداً لخلاف الظاهر وأنت كنت ظاناً به، وصحّة الاحتجاج في كلا المقامين أي عدم تقيّد حجية الظهور بالظن بالمراد، ولا بعدم الظن بالخلاف».

ولعلّ السرّ في ذلك إنّ إيكال الأمر إلى ظنّ المكلّف لا يخلو من محذور تفويت الأغراض الواقعية في كثير من الأحيان، فقد لا يحصل للمكلّف ظنّ بالوفاق، وقد يحصل له ظنّ بالخلاف، وقد يتّخذ ذلك مبرّراً للتهرّب من امتثال الأوامر المولوية.

واعتبار الظهور حجّة مطلقاً وإن كان ربما يؤدّي إلى الوقوع في مخالفة الواقع، إلاّ أنّه أخفّ المحذورين.

والخلاصة: أنّ الأمر دائر بين محذورين: إيكال الأمر إلى الحالة النفسية لكلّ مكلّف، وهذا يوجب التفويت المزبور.

واعتبار الظهور حجّة مطلقاً، ولو فرض أنّه أدّى في بعض الأحيان إلى الوقوع في مخالفة الواقع، وهذا أهون المحذورين. وهذا جار في كثير من القوانين العقلائية أيضاً.

مثلا: فلسفة تشريع القوانين المرورية أن لا يقع الناس في الضرر.

وأمام المشرّع طريقان: إيكال تشخيص الضرر إلى المكلّف، وهذا يوجب الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً. أو اطراد الحكم.

وهو وإن كان يستلزم بعض المحاذير - كاتلاف أوقات الناس في بعض الأحيان في حالة الانتظار - إلاّ أنّه أهون المحذورين، فرجّح على الأوّل.

والخلاصة: أنّ الكاشفية حكمة لا علّة.

وبعبارة أُخرى: علّة الجعل لا علّة المجعول.

وقد يقرّر ذلك: بأنّ إصابة الظنّ النوعي للواقع أكثر من إصابة الظنّ الشخصي. فيقدّم العقلاء ما هو الأقوى ملاكاً.

ص: 207

2- استلزام التفصيل سدّ باب التعارض في الأخبار

ثانياً: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه اللّه) من: «[ان] لازمه [ أي القول بلزوم إفادة الظنّ الفعلي بالمراد](1) سدّ باب التعارض في الأخبار بالمرة وإلغاء مبحث التعادل والترجيح من الأصول رأساً؛ لاستحالة الظن الفعلي بالمتنافيين كي ينتهي الأمر إلى الترجيح أو التخيير؛ إذ لا يخلو (أما) أن لا يفيد واحد منهما الظن بالمراد (وأما) أن يفيده أحدهما دون الآخر (وعلى التقديرين) لا ينتهي الأمر فيهما إلى التعارض لانتفاء ملاك الحجية فيهما في ا لأول وكونه من باب تعارض الحجة واللاّحجّة في الثاني»(2).

مثاله: أنّه لو تعارضت الأخبار في كون الملاك في نهاية الصوم (الغروب) أو (المغرب) فالحالات النفسية المفترضة للمكلّف لا تخلو من إحدى ثلاث:

1- أن يحصل له الظنّ بكون كلّ واحد من الظاهرين مراداً للمولى بالإرادة الجدّية.

وهذا محال، لتنافي تعلّق إرادتين جدّيتين بالمتنافيين، فيستحيل حصول الظنّ بوقوعهما معاً - مع الالتفات إلى التنافي.

2- أن لا يحصل له الظنّ بإرادة المولى لأي واحد من الظاهرين.

وهنا لا يكون أي واحد من الخبرين حجّة، لفقدانه ملاك الحجّية، وهو «الظنّ بالوفاق». فلا يكون ثمّة تعارض، إذ التعارض إنّما يكون بين

ص: 208


1- ما بين المعقوفتين من المصنّف (رحمه اللّه) .
2- نهاية الأفكار 2: 89.

الحجّتين.

3- أن يحصل له الظنّ بإرادة المولى لظاهر أحدهما دون الآخر.

وحينئذ يكون هو الحجّة دون الآخر، فلا يتحقّق التعارض أيضاً، إذ لا تعارض بين الحجّة واللاّحجّة.

مثلا: لو تعارض خبر ضعيف مع خبر صحيح فهل يقال: إنّ المورد من موارد التعارض وتجري فيه قوانين (التعادل والتراجيح)؟

والخلاصة: أنّ القول المزبور يؤدّي إلى سدّ باب التعارض في الأخبار بالمرّة، والغاء جميع الروايات الواردة في بيان حكم الخبرين المتعارضين، إذ لا يبقى لها موضوع حينئذ.

3- إطلاق الأدلّة الشرعية

ثالثاً: أنّ الأدلّة الشرعية الدالّة على حجّية الظواهر مطلقة شاملة لصورة الظنّ بالخلاف، والوفاق والشكّ. وقد سبق ذكر هذه الأدلّة.

مثل معتبرة عبدالأعلى مولى آل سام: «.. يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه قال اللّه تعالى {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجْ}».

وصحيحة ابن بزيع المروية في الكافي: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن امرأة أحلت لي جاريتها، فقال: ذاك لك. قلت: فإن كانت تمزح؟ قال: وكيف لك بما في قلبها، فإن علمت أنّها تمزح فلا»(1).

إلاّ أنّ الاستدلال بذلك موقوف على حصول الظنّ بالوفاق، أو عدم حصول الظنّ بالخلاف، في هذه الظواهر، وإلاّ كان الاستدلال دورياً.

ص: 209


1- الكافي 5: 469.

أو على كون بعضها نصوصاً لا ظواهر، كما لا يبعد ذلك في بعضها.

ثمّ أنّه يمكن التمسّك باستقرار سيرة المتشرّعة على العمل بالظواهر مطلقاً، وتسالم الفقهاء على ذلك، إذ لم نر فقيهاً ردّ رواية معتبرة بحصول الظنّ الشخصي له بالخلاف، أو بعدم حصول الظنّ الشخصي له بالوفاق.

قال الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه:

«لكن الإنصاف أنّه [أي القول بعدم حجّية الظواهر إذا لم تفد الظنّ أو إذا حصل الظنّ غير المعتبر على خلافها](1) مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كلّ زمان. ولذا عدّ بعض الأخباريين كالأُصوليين استصحاب حكم العام والمطلق حتّى يثبت المخصّص والمقيّد من الاستصحابات المجمع عليها، وهذا وإن لم يرجع إلى الاستصحاب المصطلح إلاّ بالتوجيه، إلاّ أنّ الغرض من الاستشهاد به بيان كون هذه القاعدة إجماعية»(2).

هذا تمام الكلام في أصل حجّية الظهورات، والتفاصيل المذكورة في ذلك.

ويبقى الكلام في تنبيهات

اشارة

حكم الشكّ في التطابق بين الظهور الشخصي والنوعي.

التنبيه الأوّل
اشارة

في حكم الشكّ في التطابق بين الظهور الشخصي والنوعي، ونذكر - على سبيل المقدّمة - أنّ الظهور على نوعين:

ص: 210


1- ما بين المعقوفتين من المصنّف (رحمه اللّه) .
2- الوصائل 2: 300-301.

1- الظهور الشخصي.

2- الظهور النوعي.

والمراد بالأوّل: الظهور الشخصي الذي يتبادر إلى ذهن إنسان معيّن.

والمراد بالثاني: الظهور عند النوع من أبناء اللغة وبين الظهورين عموم وخصوص من وجه.

قال في البحوث: «وهما قد يختلفان؛ لأنّ الشخص قد يتأثر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك فيحصل في ذهنه أنس مخصوص بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العام عن اللفظ.

ومن هنا يعلم أن الظهور الذاتي الشخصي نسبي مقام ثبوته عين مقام إثباته ولهذا قد يختلف من شخص إلى آخر، وأمّا الظهور الموضوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة مقام ثبوته غير مقام إثباته؛ لأنّه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة، وإن شئت عبرت بأنه الظهور عند النوع من أبناء اللغة ومن هنا يعرف أنّه يعقل الشك فيه، لكونه حقيقة موضوعية ثابتة قد لا يحرزها ا لإنسان وقد يشك فيه. والظهوران قد يتطابقان كما عد الإنسان العرفي غير المتأثر بظروفه الخاصة، وقد يختلفان فيخطئ الظهور الذاتي الشخصي الظهور الموضوعي وذلك أما لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة أو لتأثره بشؤونه الشخصية في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى»(1).

ص: 211


1- بحوث في علم الأصول 4: 291-292.

وعلى كلٍّ: فهنا حالات ثلاث:

الأُولى: أن يعلم بالتطابق بين الظهورين، ولا إشكال في هذه الحالة.

الثانية: أن يعلم بالتخالف فيما بينهما، وهنا يكون المحكّم الظهور النوعي؛ وذلك «لأنّ حجّية الظهور بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلم في متابعة قوانين لغته وعرفه، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العام لا العرف الخاص للسامع القائم على أساس أنس شخصي وذاتي يختص به ولا يعلم به المتكلّم عادة»(1).

ومن ذلك يعلم: أنّه لا يصحّ حمل الألفاظ الواردة في لسان الشرع على المصطلحات الخاصّة.

مثلا: لا يصحّ حمل لفظ «الفعل» على المعنى المصطلح عليه عند النحّاة وهو «مادلّ على معنى بنفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة».

أو حمل لفظ(2).

إلى غير ذلك من الأمثلة.

الثالثة: أن يشكّ في التطابق فيما بينهما.

والظاهر أنّه في هذه الحالة تجري «أصالة المطابقة» بمعنى كاشفية الظهور الشخصي عن الظهور النوعي.

وهذا أصل يعتمد عليه العقلاء، كما جرت عليه سيرة المتشرّعة، ولعلّ السبب في ذلك: أنّ طبيعة الذهن الأوّلية: السلامة عن الشذوذ في الفهم،

ص: 212


1- بحوث في علم الأصول 4: 292.
2- هكذا في المخطوط.

والاعوجاج في السليقة، والخلاصة: أنّ طبيعة الذهن الأوّلية أن يكون عرفياً والذهن العرفي متطابق مع الأذهان العرفية عادة.

فيكون الظهور الشخصي كاشفاً عن الظهور النوعي، والظهور النوعي كاشفاً عن الإرادة المولوية.

وبالنتيجة: يكون الظهور الشخصي كاشفاً عن الإرادة المولوية.

قال في الدروس: «الظهور الذاتي أمارة عقلائية على تعيين الظهور الموضوعي، فكلّ إنسان إذا انسبق إلى ذهنه معنى مخصوص من الكلام، ولم يجد بالفحص شيئاً محدّداً شخصياً يمكن أن يعتبر هذا الانسباق دليلاً على الظهور الموضوعي»(1).

وقال في البحوث: «السيرة العقلائية قائمة على جعل ما يتبادر عند الشخص الميزان في تشخيص الظهور الموضوعي المشترك عند العرف»(2).

نعم: لو التفت إلى كونه معوجّ السليقة منحرف الفهم أشكل الاعتماد على الظهور الشخصي، إذ قال ذلك إلى عدم إحراز الظهور النوعي.

وبعبارة أُخرى: أنّ ملاك الحجّية كاشفية الظهور الشخصي عن الظهور النوعي، فلو لم يكشف عنه لم يكن هنالك طريق للكشف عن الإرادة.

ومن هنا يمكن التأمّل في إطلاق ما ذكره المحقّق القمّي رضوان اللّه عليه من (أنّ الفقيه متّهم في حدسه)(3). وما ذكره السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه) من (أنّ

ص: 213


1- دروس في علم الأصول 2: 188.
2- بحوث في علم الأصول 4: 292.
3- قوانين الأصول: 13.

الفقيه مصدّق في حدسه).

بالتفصيل بين مستقيم السليقة ومعوّجها.

وقد ذكر السيّد العمّ حفظه اللّه أنّ بعض شرّاح العروة اعتبر من جملة شرائط مرجع التقليد: أن لا يكون معوّج السليقة(1).

تذنيبان

الأوّل: لزوم الفحص في المقام

الظاهر لزوم الفحص في المقام، وعدم الإكتفاء بالظهور الشخصي؛ وذلك لما تقرّر في محلّه من لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، فكما أنّ الفقيه لو عثر على خبر صحيح السند واضح الدلالة لم يستطع الاقتصار عليه لاحتمال وجود المعارض أو المخصّص أو المقيّد أو الوارد أو الحاكم... كذلك في المقام.

والخلاصة: أنّ الفهم الشخصي دليل من الأدلّة، ولابدّ من الفحص عن وجود الدليل الأقوى، أو المعارض، وعدمه.

ومن هنا يكون الاطّلاع على فهم الفقهاء الآخرين لازماً - بالمقدار المذكور في مسألة «حدّ الفحص» - وخاصّة: الفقهاء المختلفين في المباني والمشارب الفقهية، فإنّ اتّحاد فهمهم للنصوص الشرعية قد يسبّب اطمئنان الفقيه بظهور اللفظ.

الثاني: وظيفة معوّج السليقة

إذا التفت الفقيه إلى كون فهمه للأدلّة مبايناً للفهم العرفي وجب عليه

ص: 214


1- بيان الفقه 3: 143.

تشخيص الفهم النوعي بالتحليل الميداني.

قال في البحوث: «وذلك بملاحظة ما ينسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل اشخاص متعدّدين مختلفين في ظروفهم الشخصية بنحو يطمئن بحساب الاحتمالات إنّ انسباق ذلك المعنى الواحد من اللفظ عند جميعهم إنّما كان بنكتة مشتركة هي قوانين المحاورة العامّة لا لقرائن شخصية، لأنّ هذا خلف اختلافهم في الملابسات الشخصية»(1).

التنبيه الثاني
اشارة

جريان أصالة الظهور عند الشكّ في فردية الفرد وعدمه.

هل تختصّ أصالة الظهور بما إذا شكّ في الخروج عن الحكم مع القطع بفردية المشكوك للعام أو المطلق؟

أو تعمّ ما لو كان الشكّ في فرديته للعام مع القطع بخروجه عن حكمه على كلّ تقدير؟

مثال الأوّل: أن يرد من المولى قوله: (أكرم العلماء) ونقطع بأنّ (زيداً) عالم، لكن نشكّ في شمول الحكم له.

وفي هذه الحالة تجري (أصالة الظهور) ويحكم باندراج (زيد) العالم تحت عموم الحكم.

ومثال الثاني: أن نعلم بعدم وجوب إكرام زيد قطعاً، بسبب دليل خارجي، ولكن نشكّ أنّ (زيداً) من أفراد الموضوع ومصاديقه، كي يكون خروجه من باب (التخصيص)، أو أنّه ليس من أفراده، فلا يكون خروجه

ص: 215


1- بحوث في علم الأصول 4: 292.

موجباً للتخصيص في العام، بل يكون من باب التخصّص.

فهل تجري في مثله (أصالة العموم) ويحكم بعموم العام، وكون زيد خارجاً منه بالتخصّص لا بالتخصيص؟

مثال آخر: لو ورد (اللّهمّ العن بني أُميّة قاطبة). فتارةً نشكّ في أنّ (عمر بن عبدالعزيز) هل هو مشمول للحكم أو لا؟ مع العلم بكونه فرداً من أفراد (بني أُمية).

وفي هذه الحالة تجري (أصالة العموم) بلا إشكال.

وتارةً نشكّ في أنّ (سعد الخير) هل هو فرد من أفراد (بني أُميّة) أو لا؟ مع القطع بأنّ اللعن لا يشمله، لكونه من الأبرار، فهل يحكم بعدم كونه من بني أُميّة تحفّظاً على عموم العام؟ أو لا؟

وبتقرير آخر: في المقام صور ثلاث:

1- أن يشكّ في اندراج الفرد في الموضوع والحكم. وبعبارة أُخرى: أن يشكّ في الفردية والحكم. وهنا لا يشمله الحكم، لأنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع.

2- أن يعلم باندراجه في الموضوع، ويشكّ في اندراجه في الحكم. وبعبارة أُخرى: أن يشكّ في الحكم مع العلم بالفردية. وفي هذه الحالة يكون مقتضى (أصالة العموم) شمول الحكم له.

3 - أن يعلم بخروجه عن الحكم، لكن يشكّ في اندراجه في الموضوع وعدمه. وبعبارة أُخرى: أن يشكّ في الفردية، مع العلم بالحكم. فاندراجه في الموضوع يستلزم تخصيص عموم العام، بخلاف ما لو لم يندرج فيه،

ص: 216

والبحث في المقام في أنّه هل تجري (أصالة العموم) فتقتضي عدم الاندراج أو لا؟

ثمرات المسألة في الفقه والأُصول

ولهذا البحث ثمرات كثيرة في الفقه والأُصول.

الذي يظهر من جملة من الفقهاء في غير مورد جريان أصالة العموم - ونحوها - والحكم بخروج المشكوك عن الموضوع.

وقد أشار المحقّق العراقي (رحمه اللّه) إلى مجموعة من هذه الموارد.

1- قال «منها: مسألة الصحيح والأعمّ. حيث استدلّ بمثل قوله: (الصلاة معراج المؤمن)(1) و (إنّها قربان كلّ تقي)(2) لإثبات الوضع للصحيح. بتقريب دلالة الروايات المزبورة بعكس النقيض على أنّ كلّ ما لا يكون معراج المؤمن لا يكون بصلاة حقيقة. فيستفاد منها أنّ الصلاة اسم للصحيح وإلاّ يلزم التخصيص»(3).

والخلاصة: أنّ الصلاة الباطلة- كالصلاة الريائية. إمّا أن يقال: إنّها ليست بصلاة، فيتمّ المطلوب، وإمّا أن يقال: أنّها صلاة ولكنّها ليست بمعراج المؤمن ولا قربان كلّ تقي ولا عمود الدين وحينئذ يلزم التخصيص في الروايات المزبورة، فيقال: (إنّ الصلاة عمود الدين، إلاّ الصلاة الريائية فإنّها ليست بعمود الدين). وحيث إنّ التخصيص خلاف الأصل لا يكون الأوّل

ص: 217


1- بحار الأنوار 79: 30.
2- الكافي 3: 265.
3- نهاية الأفكار 3: 89.

متعيّناً.

2- وقال: «ومنها في صيغة الأمر حيث استدلّ على كون الأمر للوجوب بمثل قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}(1) بلحاظ ما هو المعلوم من عدم وجوب الحذر في غيره».

وبعبارة أُخرى: من المعلوم أنّ الأمر الندبي لا مقتضي للحذر فيه، ولا خوف أن يصيب تاركه {عَذَابٌ أَلِيمٌ}. فالأمر المستحبّ إمّا ليس أمراً فيثبت المطلوب. وإمّا أنّه (أمر لا يجب الحذر فيه) فهذا يستلزم التخصيص في الآية الكريمة بأن يكون المقصود (فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلاّ الأمر الإستحبابي، فإنّه لا يجب الحذر فيه).

والأوّل تخصّص والثاني تخصيص، وهو خلاف الأصل، فيتعيّن الأوّل.

3- وقال: «ومنها في غسالة الاستنجاء لو شكّ في أنّه طاهر، أو نجس يجوز استعماله.. حيث استدلّ على طهارتها بعموم ما دلّ على عدم جواز استعمال النجس».

توضيحه: أنّ ماء الاستنجاء - بشرائطه - إمّا أن يكون طاهراً، فهو المطلوب، وحينئذ يكون خروجه من الآية الكريمة: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} - وأمثالها - خروجاً موضوعياً. أو أن يكون نجساً لا يجب هجره، ويكون خروجه من الآية الكريمة خروجاً حكمياً.

والخروج الحكمي خلاف «أصالة العموم أو الاطلاق» فيتعيّن الخروج

ص: 218


1- النور: 63.

الموضوعي، إذ لا يستلزم تخصيصاً في العام ولا تقييداً في المطلق.

4- وقال: «ومنها دم القروح والجروح من جهة الشكّ في أنّه نجس معفو عنه في الصلاة أو طاهر».

بيانه: أنّه إن كان طاهراً ثبت المدّعى. وإن كان نجساً يجوز وجوده في بدن المصلّي وثوبه كان تخصيصاً لأدلّة «وجوب طهارة البدن والثوب في الصلاة». والتخصيص خلاف الأصل.

5- وقال: «ومنها في الزكاة من حجّة الشكّ في أنّها متعلّقة بالعين أو الذمّة بعد الفراغ عن كون تعيينها بيد مالك النصاب».

تقريره: إنّ الزكاة لو كانت في الذمّة ثبت المطلوب. وإن كانت في العين لزم تخصيص الأدلّة الدالّة على (أنّه لا يجوز لأحد الشريكين تعيين الحصص بدون رضا الشريك الآخر) ب- (الدليل الدالّ على أنّ مالك النصاب يحقّ له تعيين الزكاة) - بأن يستخرج شاة مثلا إذا ملك أربعين شاة وفق ما يرتأيه. وحيث إنّ التخصيص خلاف الأصل يكون الأمر تخصّصاً.

6- وقال: «ومنها في المعاطاة من جهة أنّه بيع يفيد الإباحة أو ليس ببيع من أصله».

بتقرير: أنّه لو لم يكن بيعاً موضوعاً ثبت المطلوب. وإن كان بيعاً لا يفيد الملكية بل إباحة التصرّف كان ذلك تخصيصاً للأدلّة الدالّة على أنّ البيع يفيد الملكية. وهنالك موارد أُخرى نذكر بعضها:

7- لو نذر الكون بكربلاء المشرّفة في كلّ عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة المالية، فهنا يوجد دليلان.

ص: 219

أ– {وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}(1).

ب- (فِ لله بنذرك).

والأوّل مقتض تعليقي - لأنّه معلّق على حصول الاستطاعة، وهي أعمّ من الاستطاعة العقلية والشرعية، فمن لا استطاعة عقلية له كالمصدود لا يجب عليه الحجّ، ومن لا إستطاعة شرعية له، كما لو كان المفروض عليه الذهاب إلى ميدان الجهاد، وكان ذلك أهمّ من الحجّ، لا يجب عليه الحجّ -.

والثاني: مقتض تنجيزي.

ولابدّ من تقديم أحد الدليلين على الآخر، فلو قدّم دليل المقتضي التنجيزي يكون عدم الأخذ بالمقتضي التنجيزي من باب التخصّص, إذ المستطيع يجب عليه الحجّ، وهذا غير مستطيع شرعاً، لأمر الشارع إيّاه بالوفاء بالنذر. ولو قدّم دليل المقتضي التعليقي لزم التخصيص في دليل المقتضي التنجيزي بأن يقال: (كلّ ناذر يجب عليه الوفاء بالنذر إلاّ من عرضت له استطاعة الحجّ المنافي للنذر). والتخصّص أولى منه التخصيص.

8- لا شكّ أنّ تغطية الرأس محرّمة في حال الإحرام. ولا شكّ أنّ وضع الذراع على الوجه من حرّ الشمس لا إشكال فيه - بمقتضى النصّ.

ولكن السؤال: هل أنّ (وضع الذراع) تغطية خرج عن حكم العموم، أو ليس بتغطية أصلا.

فخروجه عن الأوّل تخصيص، وعلى الثاني تخصّص، والتخصّص أولى، إذ لا يستلزم ثلم عموم العام، بخلاف التخصيص.

ص: 220


1- آل عمران: 97.

وقد استدلّ بعضهم بالنصّ المزبور على جواز التغطية بغير المتعارف - كالطين.

وردّ بدوران الخروج بين التخصيص والتخصّص، والثاني أولى(1).

فوضع الذراع ليس تغطية سائغة - كي يتعدّى إلى مطلق التغطية غير المتعارفة - بل هو خارج عن الموضوع رأساً.

9 - لو إستعار المحرم من مُحلّ صيداً وجب عليه إرساله.

وهذا الوجوب إمّا أن يكون تخصيصاً لأدلّة (حرمة التصرّف في مال الغير إلاّ بإذنه) أو تخصّصاً، بأن يكون وضع المحرم يده عليه موجباً لخروجه عن ملك المحل، وأصالة الاطلاق تقتضي المصير إلى خروجه عن ملكه.

وعليه: لا يضمن للمالك قيمته، إذ لم يتلف عليه ماله.

بخلافه على الأوّل، فإنّه ضامن، لإتلافه عليه، ولو بسبب الأمر الشرعي، فإنّ الأمر الشرعي لا ينافي الضمان، كما أنّ وجوب الأكل في عام المخمصة لو خاف التلف لا ينافي الضمان.

10- ما ذكر في مبحث «الأخذ بالمانع أو الممنوع»(2).

11- ما ذكر في مباحث «الترتّب»(3).

12- ما ذكر في مانعية الوطئ في الحامل من غير المولى(4).

ص: 221


1- كتاب الحج 2: 201.
2- تنقيح الأصول: 44.
3- نهاية الأفكار: 373.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى 2: 80.

13 - ما ذكر في استثناء «رعي الإبل من نبات الحرم» عن (عموم حرمة قطع الشجر)(1).

14- ما ذكر في قاعدة التجاوز من احتمال عود الضمير إلى (الوضوء) أو (الشيء)(2).

15- ما ذكره الشيخ الأعظم من كشف الأدلّة عن كون الفتح بإذن الإمام (عليه السلام) وما نوقش به كلامه(3).

16- ما ذكر في التعارض بين روايتي (الرجوع إلى العادة) و (الرجوع إلى الصفات)(4).

17- ما ذكر في (حمل الثالول) في الصلاة(5).

18- ما ذكر في أدلّة انفعال الغسالة(6).

19- ما ذكر في عموم حكم الاتمام لكلّ من عمله السفر(7).

20- ما ذكر في وجه تقدّم الطرق على الأُصول العملية(8). إلى غير ذلك من الموارد.

ص: 222


1- كتاب الحج 2: 284.
2- كتاب الطهارة 5: 143.
3- المكاسب المحرمة 2: 243.
4- جامع المدارك 1: 95.
5- شرح العروة الوثقى 3: 108.
6- شرح العروة الوثقى 2: 157.
7- مستمسك العروة الوثقی 8: 82.
8- إفاضة العوائد 2: 333.
الاستدلال على عدم إندراج الفرد المشكوك

وكيف كان فقد إستدلّ على عدم الإندراج بأنّ الأُصول اللفظية كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية.

فأصالة العموم - مثلاً - تثبت عدم فردية الفرد المشكوك، وإنّ خروجه على نحو التخصّص لا التخصيص.

وبعبارة أُخرى: للعام دلالتان: مطابقية والتزامية.

أمّا المطابقية فهي دلالة على ثبوت الحكم لجميع أفراده، وأمّا الالتزامية فهي دلالته على أنّ من لا يثبت له الحكم ليس من أفراده، وهو ما يعبّر عنه في الاصطلاح المنطقي ب«عكس النقيض».

فقولنا: «كلّ عالم يجب إكرامه» يدلّ على أنّ «كلّ من لا يجب إكرامه فليس بعالم».

فإذا علمنا بعدم وجوب إكرام زيد - بدليل خاصّ - وشككنا في أنّه عالم أو لا نتمسّك بأصالة العموم لإثبات عكس النقيض، وهو ما يؤدّي إلى عدم كون زيد عالماً، وأنّه خارج بالتخصّص لا بالتخصيص.

والخلاصة: أنّه يتشكّل قياس على نحو التالي:

«زيد غير واجب الإكرام» - وهو ما ثبت بالدليل الخارجي.

و«كلّ غير واجب الإكرام ليس بعالم» - وهو مؤدّى عكس النقيض.

والنتيجة: «زيد ليس بعالم»، وهو المطلوب.

مناقشات

وقد نوقش في هذا الإستدلال بمناقشات:

ص: 223

1- تقديم إطلاق الخاصّ على الشرطية المتولّدة من العام يجعل تخصيصه متعيّناً

المناقشة الأُولى: أنّ هنالك تنافياً بين «القضية الشرطية المتولّدة من العام» و«إطلاق الدليل الخاصّ».

حيث إنّه يتولّد من قول المولى: «أكرم العلماء» مجموعة من القضايا الشرطية مثل «زيد إن كان عالماً يجب إكرامه» و«عمرو إن كان عالماً يجب إكرامه..» وهكذا؛ وذلك لأنّ الخطابات الشرعية مجعولة عادة على نهج القضايا الحقيقية، وفي القضية الحقيقية يكون العنوان المأخوذ فيها ملقى إلى المكلّفين أنفسهم ولا يتكفّل المولى إحرازه لا نفياً ولا إثباتاً، وإنّما يقدّر وجوده في مقام الحكم، ولهذا كانت القضايا الحقيقية قضايا شرطية في روحها، بخلاف القضية الخارجية التي يتكفّل المولى فيها بنفسه إحراز ما هو موضوع حكمه في الخارج ليجعل الحكم الفعلي عليه، وهذه القضايا الشرطية لا تكثر بتكثّر الأفراد الخارجية.

وعليه: فيتولّد من قول المولى: «أكرم العلماء»: «أكرم زيداً إن كان عالماً».

وأمّا الدليل الخاصّ المفروض وجوده في المقام - أي «لا تكرم زيداً» - فهو مطلق يشمل صورة كونه عالماً أو لا؟

ومن الواضح التنافي بين مثل هذين الجعلين، إذ لا يمكن أن تجتمع القضية الشرطية المستفادة من عموم العام بالنسبة إلى هذا الفرد، مع القضية الشرطية المستفادة من إطلاق الدليل الخاصّ.

وفي مثل هذا التنافي لا شكّ في تقديم الدليل الخاص على الدليل العام،

ص: 224

كما هو الشأن في كلّ عام وخاصّ.

وعليه يكون تخصيص العام متعيّناً، ولا يمكن التمسّك ب- «أصالة العموم» في طرف العام(1).

وفيه: أنّ التعارض (غير المستقرّ) بين العام والخاص إنّما يتمّ في صورة كون «زيد» عالماً واقعاً، فيقدّم الخاصّ، وينثلم بذلك عموم العام، فلا تجري فيه «أصالة العموم». وأمّا لو لم يكن «زيد» عالماً فلا تعارض.

وحيث إنّنا نشكّ في كون «زيد» عالماً أو لا، نشكّ في انثلام «أصالة العموم» في العام، فتجري أصالة العموم.

والخلاصة: أنّ الأُصول اللفظية تجري في صورة الشكّ، وحيث يشكّ في المقام في فردية الفرد يشكّ في العموم فتجري أصالة العموم وتثبت لوازمها العقلية - على ما هو الشأن في جميع الأُصول اللفظية، بل في جميع الأمارات المعتبرة.

2- العام لا نظر له إلى تشخيص مصاديقه

المناقشة الثانية: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه اللّه) من: «أنّ العام لا نظر له إلى تعيين المصاديق وتشخيصها، بل هو إنّما يتكفّل الحكم على تقدير الموضوع»(2).

وعليه فلا يستطيع العام أن ينهض بنفي التخصيص وإثبات التخصّص.

وأُجيب عن ذلك بأنّ عدم نظر العام إلى تشخيص مصاديقه مسلّم، لكنّه

ص: 225


1- بحوث في علم الأصول 3: 356.
2- مقالات الأصول 1: 153.

بالنسبة إلى المدلول المطابقي وبلا واسطة، فإنّه عبارة عن الحكم على تقدير.

ولا يسلّم عدم نظره أصلا ولو بوسائط، كما فيما نحن فيه، فإنّه يتكفّل بالدلالة الالتزامية بيان كبرى كلّية لتعيين المصداق، فينشأ تشخيصه من ضمّ صغرى إلى هذه الكبرى(1).

والخلاصة: أنّ مقولة: «الحكم لا نظر له إلى تعيين المصاديق» لم ترد في آية كريمة، أو رواية شريفة كي يتمسّك بعمومها أو باطلاقها، فلا يظلّ مانع من تشخيص حال الفرد باجتماع أُمور ثلاثة:

1- الدليل الخاصّ الدالّ على عدم وجوب إكرام زيد.

2- عكس النقيض الدالّ على أنّ من لا يجب إكرامه فليس بعالم.

3- الأصل(2) الدالّ على أنّ كلّ عالم يجب إكرامه، بمقتضى «أصالة العموم العقلائية».

إن قلت: الموضوع متقدّم رتبة على المحمول، فلا يصلح لتشخيصه، ومن هنا قيل: «الحكم لا يتكفّل موضوعه».

قلت: «الفردية» لا تثبت بالمحمول، أمّا «عدم الفردية» فلا مانع من إثباته به.

وقد ثبت في محلّه: أنّ نقيض المتقدّم رتبة لا يجب أن يكون متقدّماً رتبة، وكذا نقيض المتأخّر، مضافاً إلى أنّ الإثبات ليس بالمحمول وحده، بل بضميمة الدليل الخارجي، فتأمّل.

ص: 226


1- منتقى الأصول 3: 341.
2- أي «الأصل» الذي تفرّع منه «عكس النقيض» (منه (رحمه اللّه) ).

3- الأُصول لا تجري لدى العقلاء عند الشكّ في الفردية

المناقشة الثالثة: مركّبة من كبرى وصغرى.

أمّا الكبرى: فهي أنّ الأُصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجّة إلاّ إنّه يكون فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودة.

وأمّا لو لم تكن دلالة مطابقية في البين فلا موضوع للدلالة الالتزامية وذلك لما ذكر في محلّه من أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء، وفي أصل الوجود والحجّية.

ولا يمكن بقاء الدلالة الالتزامية على الحجّية إذا سقطت الدلالة المطابقية، فتسقط بسقوطها.

وأمّا الصغرى: فهي إنّ ما ثبتت حجّية هذه الأصالة فيه: ما لو كان الشيء فرداً لعام وشكّ في خروجه عن حكمه، فتكون حجّة، فلا مانع من الأخذ بدلالتها الالتزامية أيضاً.

وأمّا محلّ الكلام - وهو عكس الفرض - فلا تجري فيه هذه الأصالة لعدم إحراز بناء العقلاء عليها، فما ظنّك بالدلالة الالتزامية؟ هذا ولكن الكبرى المذكورة في هذه المناقشة محلّ إشكال.

إذ تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية محلّ تأمّل، إذ التفرّع في الوجود لا يستلزم التفرّع في الحجّية، كما أنّ تفرّع نبات اللحية على بقاء زيد تكويناً لا يسلتزم تفرّعه عليه تشريعاً.

والخلاصة: أنّه قد يثبت - في حيّز التشريع - الفرع مع انتفاء الأصل، كما قد يثبت - فيه - الأصل مع انتفاء الفرع، وعدم الانفكاك تكويناً لا يستلزم عدم الانفكاك تشريعاً.

ص: 227

فلا ملزم لإقحام مسألة التبعية في المقام، مع إمكان التوصّل إلى النتيجة المبتغاة بدون ذلك. - وإن كان المختار في محلّه: التبعية.

تقرير آخر للمناقشة الثالثة

وعليه: فالأولى أن تقرّر المناقشة الثالثة على هذا النحو:

أنّ أصالة عدم التخصيص - ونحوها - ثابتة بالسيرة القطعية من العقلاء، وقد ثبت جريان السيرة فيما إذا أُحرزت فردية شيء للعام وشكّ في خروجه عن حكمه، وأمّا لو كان الأمر بالعكس، بأن علم بخروجه عن حكمه وشكّ في فردية للعام فلا يعلم جريان السيرة على العمل بها.

مثلا: لو قال: المولى لعبده: «بع جميع كتبي» نشكّ في شمول الحكم لكتاب من كتبه جرت أصالة العموم.

وأمّا لو قال: (بع جميع كتبي) ثمّ قال: (لا تبع الكتاب الفلاني) وشكّ في أنّه عارية أو ملك، فيكون خروجه على الأوّل تخصّصاً وعلى الثاني تخصيصاً، فلا يمكن التمسّك بأصالة العموم لإثبات التخصّص وكونه عارية لا ملكاً، لعدم إحراز جريان السيرة العقلائية على التمسّك بها في مثل المقام(1).

وبعبارة أُخرى: الأُصول اللفظية وإن كانت حجّة في المدلول الالتزامي، إلاّ أنّ القدر المتيقّن حجّيتها في مورد تكون حجّة في المدلول المطابقي.

أمّا مع عدم حجّيتها في المدلول المطابقي فلا دليل على حجّيتها لإثبات المدلول الالتزامي فقط.

ص: 228


1- محاضرات في اصول الفقه 4: 392-393.

وعليه فلا يكون العام حجّة في عكس النقيض - الذي هو مدلول التزامي - حتّى يثبت بضميمة إلى الدليل الخاصّ عدم كون زيد عالماً.

وبعبارة ثالثة: أنّ هذه الأُصول أُصول عقلائية تجري عند الشكّ في المراد أي عند الشكّ في تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعمالية.

وأمّا لو كان المراد واضحاً، وكان الشكّ في أمر آخر، وهو كيفية خروج الفرد وأنّه على نحو الخروج الموضوعي أو الحكمي فلم يعلم جريان تلك الأُصول.

تذييل

حكم تردّد الخاصّ بين ما هو من أفراد العام وما هو من غير أفراده.

إذا ورد عام ثمّ ورد ما يدلّ على ثبوت خلاف حكمه بالنسبة إلى فرد مردّد بين فردين، أحدهما من أفراد العام الآخر من غير أفراده.

كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم زيداً) وتردّد زيد المنهي عن إكرامه بين (زيد العالم) و (زيد الجاهل) ولم يعرف أنّ المراد (زيد العالم) حتّى يكون خروجه من باب التخصيص أو (زيد الجاهل) حتّى يكون خروجه من باب التخصّص فما الحكم؟ مقتضى العلم الإجمالي: حرمة إكرام الاثنين.

إلاّ أنّ المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ذكر: «أنّ دليل العام ينفي الحرمة عن أحد طرفي العلم الإجمالي يوجب انحلاله واختصاص الحكم بالحرمة بالطرف الآخر»(1).

ص: 229


1- أجود التقريرات 2: 318-319.

والخلاصة: أنّ مقتضى أصالة العموم - شمول الحكم ل«زيد العالم».

وتترتّب على ذلك ملازمتان:

الأُولى: الملازمة بين وجوب إكرامه، وعدم حرمة إكرامه.

الثانية: الملازمة بين عدم حرمة إكرامه، وحرمة إكرام (زيد الجاهل).

وحيث إنّ مثبتات الأُصول اللفظية حجّة، تثبت حرمة إكرام (زيد الجاهل) وتترتّب عليها آثارها أيضاً - لو كان للحرمة آثار.

هذا ولكن الظاهر التفصيل بين كون الخاصّ منفصلا أو متّصلا.

ففي الصورة الأُولى: يتمّ ما ذكره (رحمه اللّه) .

أمّا في الصورة الثانية: فلا تنعقد أصالة العموم، لأنّ وجود ما يحتمل القرينية قبل تمام الكلام يوجب الإجمال في العام، فيكون مقتضى العلم الإجمالي: حرمة إكرام الاثنين.

والخلاصة: أنّ انحلال العلم الإجمالي متوقّف على جريان (أصالة العموم) ومع عدم جريانها - لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية - لا يكون هنالك موجب للانحلال.

وبعبارة أُخرى: مع انفصال القرينة يكون العام حجّة في العموم، ولا يمكن أن يرفع اليد عن الحجّة إلاّ بالحجّة، وحيث أنّ المجمل ليس حجّة لا يمكن رفع اليد عن العموم.

أمّا مع اتّصالها فلا يكون حجّة في العموم، لأنّ إجمالها يسري إلى إجمال العام، ومعه يكون العلم الإجمالي بحرمة إكرام أحد الاثنين منجّزاً بلا كلام.

هذا ولا يخفى الفرق بين المقام، وبين ما لو ورد خاصّ مردّد بين فردين

ص: 230

كلاهما من أفراد العام، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم زيداً) وتردّد «زيد» بين «فردين» كلّ منهما عالم»؛ إذ التخصيص في ذلك المقام قطعي والشكّ في المصداق.

بخلاف المقام، فإنّ التخصيص مشكوك، لاحتمال كون المراد من الخاصّ (زيد الجاهل).

تفريع: في صغرى فقهية أُدرجت في مبحث الدوران

في صغرى فقهية أدرجها صاحب الجواهر (رحمه اللّه) في مبحث دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

قال: - في البحث عن نجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه. «ويزيده تأييداً وتأكيداً أنه قد استفاضت الروايات، بل كادت تكون متواترة بتعليق الحرمة في النبيذ وغيره على الاسكار، وعدمها على عدمه، مع استفاضة الروايات، بحرمة عصير العنب إذا غلى قبل ذهاب الثلثين وحملها على التخصيص ليس بأولى من حملها على تحقق الإسكار فيه، بل هو أولى لأصالة عدم التجوز، بل لعله متعين لعدم القرينة، بل قد يقطع به لعدم ظهور شيء من روايات الحرمة في خروج ذلك عن تلك الكلية، بل ولا إشارة»(1).

وما ذكره (رحمه اللّه) يتمّ مع عموم الموضوع، لا مع خصوصه.

فلو قال المولى: (كلّ مسكر حرام) وقال: (كلّ غير مسكر غير حرام).

ثمّ قال (العصير العنبي حرام) فإنّه يدور الأمر بين تخصيص الكلّية الثانية، إذا لم يكن العصير مسكراً، فيكون مؤدّى الجمع بين الدليلين (كلّ غير

ص: 231


1- جواهر الكلام 6: 17.

مسكر غير حرام إلاّ العصير فإنّه وإن لم يكن مسكراً إلاّ أنّه حرام).

وبين خروج العصير عن موضوع الكلّية الثانية على نحو التخصّص، إذا كان العصير مسكراً، فإنّه يخرج عن موضوع الكلّية الثانية، ويدخل في موضوع الكلّية الأُولى حقيقة.

فيدور الأمر بين التخصيص والتخصّص، والثاني أولى، بل لعلّه متعيّن.

وإذا كان العصير مسكراً كان نجساً، لما ثبت في محلّه من أنّ كلّ مسكر مائع نجس.

وما نحن فيه ليس كذلك، إذ لم نجد في الأدلّة ما يدلّ على الكلّية الثانية. وما ورد من الأدلّة موضوعه خاصّ.

كقوله: (النبيذ المسكر حرام) و (النبيذ غير المسكر حلال).

و«العصير العنبي» مباين لموضوع ذينك الدليلين، فلا معنى لدوران الأمر بين الخروج الموضوعي والحكمي.

ثمّ إنّ التخصيص لا يستلزم التجوّز في العام، على ما قرّر في محلّه.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّ شرط الدوران بين التخصيص والتخصّص: عموم الموضوع. فلاحظ.

التنبيه الثالث
اشارة

موضوع الحجّية: الظهور النوعي في عصر الصدور لا الوصول

ذكرنا سابقاً أنّ موضوع حجّية الظهور: الظهور النوعي لا الظهور الشخصي.

والسؤال الآن: هل موضوع الحجّية (الظهور النوعي في عصر الصدور)

ص: 232

أو (في عصر الوصول)؟

أي الظهور لمعاصري الدليل؟ أو الظهور مطلقاً؟

وسبب ذلك: أنّ الأوضاع اللغوية بل الظهورات التركيبية قد تتغيّر بمرور الزمان، وإن كان ذلك بطيئاً جدّاً، حيث إنّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة اجتماعية، فتكون متأثّرة بطرائق الحياة الاجتماعية، وما يحصل فيها من تطوّرات فكرية وخارجية(1).

الظاهر: أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ موضوع الحجّية (الظهور النوعي في زمن الصدور) لا (الوصول).

والنكتة في ذلك - كما في البحوث - أنّ أصالة الظهور ليست أصلا تعبّدياً، بل هي أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه.

ومن الواضح: أنّ ظاهر حال المتكلّم الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمانه، لا التي سوف تنشأ في المستقبل(2).

مثلا: كلمة (السيارة) كان لها مدلول معيّن في زمن النصّ الشرعي، ولكنّها وعلى أثر التطوّر الصناعي أصبحت ذات مدلول آخر، فهل يمكن أن يحمل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ}(3) على ما يتبادر إلى ذهننا الآن؟

وكلمة (رأس المال) أصبح لها ظلال خاصّة في العصر الحديث، على

ص: 233


1- بحوث في علم الأصول 4: 293.
2- بحوث في علم الأصول 4: 293.
3- يوسف: 19.

أثر تطورات فكرية معيّنة، فهل يمكن أن يحمل قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}(1) على هذا المفهوم؟

وكلمة (الشيعة) كانت تطلق - على ما ينقل - على من كان يرى أحقّية أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة، فهل يمكن أن تحمل النصوص التاريخية التي وردت فيها هذه اللفظة على المعنى الذي ينسبق إلى ذهننا الآن - أي من يعتقد بإمامة الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) ؟ إلى غير ذلك من الأمثلة.

مؤيّدات

ويؤيّد ذلك:

أوّلا: ما ذكره الفقهاء في مبحث «الكرّ» من تقديم عرف المتكلّم على المخاطب، ففي صحيحة محمّد بن مسلم (الكرّ ستمائة رطل)(2).

ومع أنّ محمّد بن مسلم مكّي - باعتبار أنّه من أهل الطائف - حمل الفقهاء الرطل على «المدني»؛ لأنّ الإمام (عليه السلام) كان في المدينة وكان يتكلّم بلغة أهل المدينة.

فإذا كان المتكلّم يلاحظ عرفه الحاكم ولا يلاحظ عرف المخاطب المعاصر له فهل هنالك ملزم كي يلاحظ العُرف الذي سوف ينشأ بعد ألف عام؟

ثانياً: ما ذكره الأُصوليون في مبحث (علامات الحقيقة والمجاز) من أنّ التبادر حجّة، وعلامة الوضع، بالنسبة إلى (أهل اللسان) لا مطلقاً.

ص: 234


1- البقرة: 279.
2- تهذيب الأحكام 1: 43.

ثالثاً: ما دلّ من النصوص الشريفة على تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية عند التعارض. وستأتي الاشارة إلى هذه النصوص عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

وكيف كان فلا إشكال في أنّ الملاك الظهور النوعي في عصر الصدور.

ثلاث حالات

ثمّ لا يخفى أنّ في المقام ثلاث حالات:

الأُولى: أن يعلم بثبات الوضع اللغوي والظهورات التركيبية. وذلك مثل كلمة (الحجّ) في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق}(1). ولا كلام في هذه الحالة.

الثانية: أن يعلم بالتغيّر والتبدّل.

كما في كلمة (السيارة) في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ}(2). والحكم واضح في هذه الصورة.

الثالثة: أن يشكّ في الثبات والتبدّل.

كما في لفظ (الجمرة) إذا فرض الشكّ في أنّ المعنى المتبادر الآن - وهو العموم المثبت في منى - هل يطابق المعنى المتبادر في عهد الصدور، أو لا.

بأن يكون معناه الأرض ويكون العمود مجرد علامة على الجمرة.

ص: 235


1- الحج: 27.
2- يوسف: 19.

وفي هذه الحالة قد يثار سؤال حول كيفية إحراز الظهور النوعي في عصر الصدور؟ إذ أن غاية ما نحرزه هو الظهور الفعلي في عصر الوصول، أي في زماننا، وهو ليس موضوعاً للحجية.

طرق إحراز الظهور النوعي في عصر الصدور

والجواب: أن هنالك طرقاً ثلاثة مفترضة:

1- التمسّك ب- (الاستصحاب) على النحو القهقري.

وهو غير تام؛ إذ جريان الاستصحاب متقدم ب- (اليقين السابق) و (الشكّ اللاحق) على ما قرر في محله.

والمقام بالعكس؛ إذ (اليقين) لاحق و(الشكّ) سابق، فلا تشمله أدلّة الاستصحاب.

2- التمسّك ب- (استصحاب عدم النقل) أي عدم النقل إلى المعنى الفعلي؛ إذ النقل حادث فنستصحب عدمه.

وفيه:

أولاً: إن الركن الأول مختل؛ إذ لا يقين سابق؛ إذ اللفظ اما وضع منذ البداية لهذا المعنى، أو لمعنى آخر.

اللّهم إلاّ أن نتمسك باستصحاب العدم الأزلي؛ إذ "النقل" لم يكن في الأزل - ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع- وحيث يشكّ في حدوثه يستصحب عدمه.

إلاّ أن المبنى لا يخلو من نظر.

وثانياً: أنه أصل مثبت.

ص: 236

إذ الأثر - وهو الحجية ولزوم الاتباع- إنّما يترتب على (ظهور اللفظ في المعنى في عصر الصدور)، فإثبات (الظهور المزبور) ب- (استصحاب عدم النقل) وثم ترتيب الأثر عليه يكون مثبتاً.

3- التمسّك بأصل عقلائي يطلق عليه (أصالة عدم النقل).

وربّما سمي ب- (أصالة الثبات في الظهورات).

وربما أطلق عليه (أصالة تشابه الأزمنة).

وربّما أصطحلح عليه - مجازاً- ب- (الاستصحاب القهقري) أو (القهقرائي) أيضاً.

دليل حجية أصالة عدم النقل

والوجه في حجية هذا الأصل أمران:

الأول: السيرة العقلائية

والظاهر أنّه لا إشكال في استقرار سيرة العقلاء على ذلك، كما يدل عليه ترتيب المتولين للأوقاف والوصايا الأثر على الظواهر من الوثائق القديمة طبق ما يفهم من الألفاظ في عصرهم، ولو كان بعيداً جداً عن عصر التدوين.

وكذا فهم المعاني طبق الظهورات الفعلية من الكتب والدواوين المدوّنة في العصور القديمة، ولعل نكتة السيرة: ندرة وقوع التغيير أو ضعف احتماله.

الثاني: السيرة المتشرعية

حيث إنّ المتشرعة كانوا يأخذون بالأدلة الواصلة وفق ما يستظهرونه في

ص: 237

عصرهم وعرفهم مع أنه كان يفصلهم عن زمان الصدور عشرات السنين، وربما كان يفصلهم عن عصر الصدور أكثر من مائتي عام، ولم تكن تلك الفترة فترة جمود وركود، بل كانت فترة مليئة بالحوادث والمتغيرات، وكان التقاء الحضارات عاملاً مساعداً في تغير المفاهيم وأو المدلولات وحينئذٍ:

أ) فأما أن يفترض أن المتشرعة التفتوا إلى احتمال النقل والتغيير، ومع ذلك اجروا (أصالة الظهور) أو (أصالة عدم النقل) بما هم متشرعة.

ب) أو بما هم عقلاء.

ج) أو غفلوا عن الاحتمال المزبور.

ففي الصورة الأولى تكون السيرة كاشفاً إنيّاً عن البيان الشرعي، وفي الصورتين الأخيرتين: يكشف سكوت الشارع عن الإمضاء الشرعي لهذه السيرة العقلائية؛ لأنّ هذه السيرة لو لم تكن مرضيّة عند الشارع لوجب عليه الردع عنها، لأنّها تهدد بتفويت أغراضه الشرعية، خاصة لو لاحظنا أن على هذه المسألة تدور رحى الاستنباط؛ إذ الفقه مبني على الأصول، والعمدة في الأصول مباحث (الخبر) و(التعارض) ومن أهم مباحث الخبر - إن لم يكن أهمها على الإطلاق- مسألة «التطابق بين الظهور النوعي في عصر الوصول» و«الظهور النوعي في عصر الصدور».

فعدم ردع الشارع عن هذه السيرة دليل على إمضائه لها.

وقد اتّضح من هذا البيان: الفارق بين الصور الثلاث؛ إذ في الصورة الأولى لا يحتاج إلى ضميمة الإمضاء المستكشف من السكوت، بخلاف

ص: 238

الصورتين الأخيرتين. والمتحصل من جميع ما تقدّم:

إن الظهور الشخصي طريق إلى الظهور النوعي في عصر الوصول. وهو طريق إلى الظهور النوعي في عصر الصدور.

تذنيبان

الأول: لو علم بالنقل وشك في المتقدم والمتأخر

التذنيب الأول: هل تجري أصالة عدم النقل فيما لو علم بالنقل وشك في تقدمه على الاستعمال وتأخره عنه.

مثلاً: كلمة (البيّنة) المتبادر منها فعلاً هو (الشاهدان العادلان) إلاّ أنه منقول عن معناه الأصلي وهو (الحجة)، فلو وردت كلمة (البينة) في الروايات الشريفة كما في قوله (عليه السلام) : «والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة» (1) فهل يمكن الاستناد إلى أصالة عدم النقل، والحكم بكون الكلمة مستعملة في معناها الأول؟

وكلمة (الكراهة) المتبادر منها فعلاً (العمل المرجوح بلا منع من النقيض) إلاّ أنها لغة موضوعة ل- (مطلق المرجوحية) فلو وردت في الروايات الشريفة، فهل تحمل على معناها الأول، لأصالة عدم النقل؟

في المقام صور ثلاث:

أن يكون النقل والاستعمال مجهولي التاريخ.

أن يكون النقل مجهول التاريخ، والاستعمال معلوم التاريخ.

عكس الصورة الثانية.

ص: 239


1- الحدائق الناضرة 1: 141.

فهنا بحوث ثلاثة:

1- أن يكون النقل والاستعمال مجهولي التاريخ.

ولإثبات تأخر النقل طريقان:

الأوّل: استصحاب عدم النقل إلى حين الاستعمال.

وفيه: أنه معارض باستصحاب عدم الاستعمال إلى حين النقل.

فإن النقل والاستعمال حادثان، والأصل العدم في زمان الشكّ.

ومع التعارض: أما لا يجري الاستصحابان، أو يجريان ويتساقطان بالمعارضة، والأول مبني على قصور المقتضي، والثاني على وجود المانع.

مع أنه أصل مثبت؛ إذ موضوع الحجية (الظهور) فإثباته به لا يتم بالتلازم الفعلي.

الثاني: أصالة عدم النقل العقلائية.

أي بقاء المعنى الأوّل حين الاستعمال.

ويثبت بذلك: استعمال اللفظ في معناه الأوّل، لحجية الأصول العقلائية في إثبات لوازمها.

وفيه: إن الثابت بناء العقلاء على عدم النقل مع الشكّ في أصل النقل.

وأما مع العلم بالنقل والشك في المتقدم والمتأخر فلم يثبت بناء لهم على ذلك.

2- أن يكون النقل مجهول التاريخ.

مثاله: أن يستخدم لفظ (مكروه) في حديث مروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ونعلم أن هذا اللفظ نقل عن معناه الأوّل إلى معنى جديد، إلاّ

ص: 240

أنّنا لا نعلم أن النقل تم قبل هذا الاستعمال أو بعده.

ذهب الشيخ الحائري رضوان اللّه عليه - جزماً أو احتمالاً- إلى جريان أصالة عدم النقل إلى زمان الاستعمال في هذه الصورة.

ونتيجة ذلك: أن يُحمل اللفظ على معناه الأوّل.

قال: (نعم، يمكن إجراء أصالة عدم النقل فيما إذا جهل تاريخه وعلم تاريخ الاستعمال بناء على أن خصوص هذا الأصل من الأصول العقلائية فيثبت به تأخر النقل عن الاستعمال ولا معارض له، إما على عدم القول بالأصل المثبت في الطرف الآخر فواضح، وإما على القول به فلأن تأريخه معلوم بالغرض واحتمال أن يكون بناء العقلاء على عدم النقل في خصوص ما جهل رأساً لا فيما إذا علم إجمالاً وشك في تأريخه بعيد؛ لظهور إنّ بنائهم على هذا من جهة إن الوضع السابق عندهم حجة فلا يرفعون اليد عنها إلاّ بعد العلم بالوضع الثاني)(1).

ووافقه على ذلك في إفاضة العوائد(2).

والحاصل أن الحجة لا يرفع اليد عنها إلى بحجة مثلها، والوضع السابق حجة فلا يرفع اليد عنه إلاّ بعد ثبوت الوضع الثاني.

وفيه:

أولاً: إنّ هذا البرهان - لو تمّ- يجري في الصور الثلاث، فلم يُعلم وجه قصره على خصوص هذه الصورة.

ص: 241


1- درر الفوائد 1: 47.
2- إفاضة العوائد 1: 48.

وثانياً: إن الحجة هو (الظهور) لا (الوضع) والعلم بالوضع الجديد مانع عن انعقاد الظهور. والظاهر عدم جريان أصالة عدم النقل.

وأمّا الاستصحاب فله صلاحية الجريان - في حدّ ذاته- في الطرفين، لكنه لا يجري بلحاظ المعارضة، أو يجري الاستصحابان ويتساقطان.

والعلم بزمن الاستعمال لا يقدح في جريان الاستصحاب؛ إذ «الزمن الحقيقي» وإن كان معلوماً، إلاّ أن الزمن الإضافي مجهول.

وبعبارة أخرى: الزمن النفسي، وإن كان معلوماً، إلاّ أن الزمن النسبي مجهول.

وبعبارة ثالثة: إن معلوم التاريخ وإن لم يجرِ فيه الاستصحاب بالإضافة إلى عمود الزمان لغرض العلم بزمانه، إلاّ أنّه لا مانع من جريانه فيه بالإضافة إلى الحادث الآخر المجهول تاريخه، لغرض الجهل بتاريخه بهذا اللحاظ.

ومنه ينقدح أنه لا فرق في جريان استصحابي عدم القلّة والملاقاة فيما لو طرءا على مسبوق الكرية، سواء جهل تاريخهما، أو جهل تاريخ القلة، أو جهل تاريخ الملاقاة. ومع الغض عن ذلك يبقى إشكال مثبتية الأصل العملي.

3- أن يكون الاستعمال مجهول التاريخ.

ويظهر فيه الحال مّما تقدّم.

والمتحصّل من جميع ذلك: أن لا أصل في الصور الثلاث، ولابدّ من الرجوع في موارد الشكّ إلى سائر الأدلّة والأصول العملية.

الثاني: لو شك في مؤثرية الموجود في النقل

التذنيب الثاني: لو شك في مؤثرية الموجودفي النقل، فهل تجري أصالة عدم النقل؟

ص: 242

ومثّل له في البحوث: «كما إذا شاع استعمال لفظ الصلاة مثلاً في المعنى الشرعي كثيراً نتيجة كثرة ابتلاء المتشرعة بذلك ودخول الصلاة الخاصة، كعبادة في أوضاعهم وحياتهم الاجتماعية فاحتمل إن هذا الشيوع بلغ مرتبة نقل بسببها اللفظ عن معناها اللغوي وتعين في المعنى الشرعي»(1).

وما ذكره لا يخلو من نظر.

ثمّ استشكل في الجريان قائلاً: «لا جزم باجراء أصالة عدم النقل لقصور السيرة بكلا مظهريه عن شموله، إذ أصحاب الأئمة لا يجزم بعملهم بالظهور الأولي حتى في مثل هذه الحالة. كما أن السيرة العقلائية قائمة بنكتة الاستبعاد وهي لا تكون مع توفر مقتضٍ للنقل بالنحو المذكور»(2).

إذ أصالة الحقيقة لا يرفع اليد عنها بمجرد ما يحتمل القرينية على النحو المذكور.

لذا ذهب المشهور إلى ظهور صيغة الأمر في الوجوب مع شياع استعمالها لها في الندب في ألوف الأحاديث المروية، خلافاً لصاحب المعالم، حيث ذهب إلى سقوط الظهور المزبور بالشياع المذكور، فتأمّل.

التنبيه الرابع: في تعارض الحقيقة العرفية واللغوية

لو تعارضت الحقيقة العرفية واللغوية فأيّهما هو المقدّم؟

الظاهر تقديم الحقيقة العرفية؛ إذ الشخص إنّما يتكلم وفق العرف، لا حسب اللغة - حسب ظهور حاله في ذلك. ولا فرق في ذلك بين العرف

ص: 243


1- بحوث في علم الأصول 4: 294- 295.
2- بحوث في علم الأصول 4: 295.

العامّ والخاصّ.

مثلاً: النحوي- بما هو نحوي- عندما يستخدم كلمة: (الفعل) فإنّما يريد بها معناها المتعارف عند النحاة، لا معناها اللغوي.

والمنطقي - بما هو منطقي- عندما يستخدم كلمة: (المعرِّف) فإنّما يريد بها معناه المنطقي لا اللغوي. إلى غير ذلك من الأمثلة، وتؤيد ذلك مجموعة من الروايات الشريفة:

منها: ما في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن علي بن حمزة قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل زوّج ابنه ابنة أخيه وأمهرها بيتاً وخادماً، ثمّ مات الرجل قال: يؤخذ المهر من وسط المال,قال: قلت: البيت والخادم قال: وسط من البيوت والخادم وسط من الخدم ...»(1).

قال السيد عبد اللّه شبر (رحمه اللّه) : « لا ريب أن الدار والخادم لا اختصاص لهما في اللغة وإنما ذلك معنى عرفي فيدلّ على تقديم العرف على اللغة»(2).

ومنها: في التهذيب عن محمد بن يحيى ... عن أبي جميلة المفضل بن صالح قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن رجل أوصى لرجلٍ بسيف، فقال الورثة: إنما لك الحديد وليس لك الحلية، ليس لك غير الحديد فكتب إليّ: السيف له وحليتّه(3).

ومنها: ما في الكافي، والتهذيب عن محمد بن يحيى ... عن أبي جميلة،

ص: 244


1- الكافي 5: 381.
2- الأصول الأصلية: 29.
3- تهذيب الأحكام 9: 212.

عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن وعليه حلية فقال له الورثة: إنما لك النصل وليس لك السيف، فقال: لا، بل السيف بما فيه له ...»(1). ورواه الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد. ورواه الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر مثله(2)....

قال السيد عبد اللّه شبر (رحمه اللّه) : «لا ريب أن هذه المعاني خلاف المعاني اللغوية، بل هي عرفية ويحتمل في بعضها أن تكون شرعية قدّمها (عليه السلام) على المعنى اللغوي»(3).

ومنها: ما في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن عقبة، عن أبيه قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل أوصى لرجل بصندوقٍ وكان في الصندوق مال فقال الورثة: إنما لك الصندوق وليس لك ما فيه، فقال: الصندوق بما فيه له(4).

ومنها: ما في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي طالب عبد اللّه بن الصلت قال: كتب الخليل بن هاشم إلى ذي الرياستين وهو والي نيشابور أن رجلاً من المجوس مات وأوصى للفقراء بشيءٍ من ماله فأخذه قاضي نيشابور فجعله في فقراء المسلمين. فكتب الخليل إلى ذي الرياستين بذلك فسأل المأمون فقال: ليس عندي في هذا شيء فسأل أبا الحسن (عليه السلام) فقال أبو الحسن (عليه السلام) : إن المجوسي لم يوصِ لفقراء المسلمين ولكن ينبغي

ص: 245


1- الكافي 7: 44؛ تهذيب الأحكام 9: 211.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 217.
3- الأصول الأصلية: 30.
4- الكافي 7: 44.

أن يؤخذ مقدار من مال الصدقة فيرد على فقراء المجوس(1).

ومنها: ما في الكافي، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن يونس بن يعقوب أن رجلاً كان بهمدان ذكر أنّ أباه وكان لا يعرف هذا الأمر فأوصى بوصيته عند الموت، وأوصى أن يُعطى شيء في سبيل اللّه، فسئل عنه أبو عبد اللّه (عليه السلام) كيف نفعل؟ وأخبرناه إن كان لا يعرف هذا الأمر فقال: لو أن رجلاً أوصى إلى أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما إن اللّه تعالى يقول: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}(2)، فانظروا إلى من يخرج إلى هذا الأمر يعني الثغور فأبعثوا به إليه(3). ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد(4)، ورواه الصدوق(5) كذلك.

قال السيد عبد اللّه شبر (رحمه اللّه) : «حيث كان سبيل اللّه عند العامة الجهاد حمله (عليه السلام) عليه، وفي هذه الأخبار دلالة على أنه مع تعدّد العرف واختلافه يحمل الكلام على عرف المتكلم دون غيره، فلا تغفل»(6).

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة.

ص: 246


1- الكافي 7: 44.
2- البقرة: 181.
3- الكافي 7: 15.
4- تهذيب الأحكام 9: 202.
5- من لايحضره الفقيه 4: 148.
6- الأصول الأصلية: 31.

الفصل الثاني: في حجية قول اللغوي

اشارة

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدم - بإذن اللّه تعالى - مقدمتين:

المقدمة الأولى: في ثمرة هذا المبحث

ربما يظهر من بعض العبارات أن هذا المبحث قليل الثمرة.

وفي المصباح: (ليس في ألفاظ الكتاب والسنة المتعلقة بالأحكام الإلزامية ما هو مجعول المعنى إلاّ القليل كلفظ الصعيد والغناء ونحوهما)(1).

ولكن الظاهر تبعاً للشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه أن موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى، سواء في معرفة أصل المعاني، أو في حدودها، بحيث يعلم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها، وإن كان المعنى معلوماً في الجملة من دون الرجوع إلى قول اللغوي.

وإليك بعض الأمثلة:

الوطن (في باب صلاة المسافر).

فهل يختص بمسقط الرأس، أو يشمل الوطن الاتخاذي أيضاً؟

التمر (في كتاب الزكاة).

هل يدخل فيه الرطب أو لا؟

الكنز (في كتاب الخمس).

ص: 247


1- مصباح الأصول 2: 133.

هل يشترط فيه (القصد) أو لا؟

المعدن (في كتاب الخمس).

هل يدخل فيه الجص، والنورة، وحجر الرحى أو لا؟

5- البيع (في كتاب البيع): هل يشمل بيع الحق؟ أو هو خصوص مبادلة مال بمال.

6- الآنية (في كتاب الطهارة) هل تشمل مثل الملعقة، والمكحلة، ورأس القليان، وقراب السيف، وبيت التعويذ أو لا؟

7- القمار (في المكاسب المحرمة)، هل يعتبر فيه العوض أو لا؟

8- المؤونة (في كتاب الخمس) هل هي خصوص ما يدخر من القوت، أو مطلق ما يحتاجه الإنسان لنفسه وعياله في معاشه بحسب شأنه اللائق بحاله؟

9- الغنيمة (في كتاب الخمس): هل هي خصوص الفائدة الحربية أو مطلق الفائدة؟

10- الكعب (في كتاب الطهارة) هل هو قبة القدم أو مفصل الساق والقدم؟

11- الأنفحة (في كتاب الطهارة) هل هي الظرف أو المظروف أو مجموعهما؟

12- الجمرة (في كتاب الحج) هل هي العمود - كما هو معروف- أو الأرض كما ربما يستظهر من كلام ابن منظور في لسان العرب، وابن الأثير في النهاية، والزبيدي في تاج العروس؟

ص: 248

13- تشخيص موضع (نمرة) و(عرفة) و(ثوية) و(ذي المجاز) و(الاراك) و(المأزين) و(حياض محسر) في كتاب الحج. إلى غير ذلك من الأمثلة التي قد تبلغ المئات.

ولا يخفى أن الحاجة إلى الرجوع إلى قول اللغوي تارة يكون لمعرفة أصل المعنى، كما في مثال الجمرة، وأخرى لمعرفة حدوده، كما في مثال الآنية.

المقدمة الثانية: في تنقيح محل البحث

فنقول: إن هناك صوراً ثلاث:

الأولى: حصول القطع أو الاطمئنان من قول اللغوي، ولو كان قوله جزءاً من العلة التامة لذلك.

الثانية: اجتماع ما يعتبر في باب الشهادة من العدد والعدالة فيه.

الثالثة: عدم حصول شيء من الأمور المذكورة، بأن لم تجتمع الشروط المعتبرة في باب الشهادة، ولم يقطع، ولم يطمئن بالمعنى، بأن شك أو ظن بالوفاق أو ظن بالخلاف.

وقد ذهب المشكيني (رحمه اللّه) (1) والسيد الوالد (رحمه اللّه) (2) إلى اختصاص محل الكلام بالصورة الأخيرة.

أما صورة القطع فليس محلاً للكلام، لأن القطع حجة بذاته من أي منشأ حصل، والاطمئنان مرتبة من مراتب العلم عرفاً، وإن لم يكن منها عقلاً.

ص: 249


1- كفاية الأصول (المحشّی) 3: 76.
2- الوصول 3: 430.

وحصول شرائط الشهادة موجب لحجية المتعلق شرعاً.

والخلاصة: أن الحجية للقطع أو الاطمئنان أو البينة لا لقول اللغوي بما هو لغوي.

هذا ولكن قد يقال:

إن شهادة اللغوي في صورة اجتماع شروط الشهادة على نحوين:

الأول: أن تكون شهادة حسية، كما إذا شهدا بتصريح الواضع بوضع اللفظ الكذائي للمعنى الكذائي، وحينئذٍ تشملها (أدلة حجية البينة).

الثاني: أن تكون شهادة حدسية، كما إذا تتبعنا مجموعة من موارد الاستعمال وحدسنا ب- (المعنى الجامع) بعد إلغاء الخصوصيات، مثلاً: يلاحظان مجموعة من البيوع الواقعة في الخارج، ثم ينتزعان أن البيع موضوع ل- (مبادلة مالٍ بمال).

وأدلة الشهادة لا تشمل الشهادة الحدسية.

اللّهم إلاّ أن يقال: إن الحدس يتنوع إلى نوعين:

الأول: الحدس البعيد من الحس، كما في الشهادة ب- (امتناع الخلأ) و(تناهي الأبعاد) و(عدم وجود الجزء الذي لا يتجزأ).

وهذه الشهادة ليست بحجة، لانصراف أدلة (حجية الشهادة) عنها.

الثاني: الحدس القريب من الحس، كما في الشهادة ب- (شجاعة زيد)؛ إذ الشجاعة ملكة باطنية، ذات مظاهر، فبتتبع مجموعة من المظاهر يحدس الإنسان بوجود تلك الملكة. وهذه الشهادة حجة؛ لشمول أدلة (حجية الشهادة) لها.

ص: 250

وشهادة اللغوي من النوع الثاني، فتكون مشمولة لأدلة حجية الشهادة.

وستأتي تتمة للكلام قريباً إن شاء اللّه تعالى.

وعليه يتمحض البحث الثاني في المقام في الصورة الأخيرة.

ولنبدأ - بعد تمام المقدمتين- بأصل البحث فنقول:

إن البحث في حجية قول اللغوي يجب أن يتم في مقامين:

المقام الأول: في حجية قول اللغوي في تعيين الأوضاع، وبعبارة أخرى: تبيين الحقائق من المجازات.

المقام الثاني: في حجية قول اللغوي في إثبات موارد الاستعمال.

المقام الأول: في حجية قول اللغوي في تعيين الأوضاع

اشارة

وقد استدلّ على حجية قوله في ذلك بوجوه:

الوجه الأول: السيرة العقلائية الخاصّة
اشارة

الوجه الأول: السيرة العقلائية الخاصّة القائمة على الرجوع إلى قول اللغوي في تشخيص أوضاع الألفاظ، بحيث يكون قوله هو الفصل في مقام المحاجة والمخاصمة. قال في الكفاية - في تقرير هذا الوجه:

«يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ولو مع المخاصمة واللجاج»(1).

إيرادات

وأورد على هذا الوجه بأمور:

ص: 251


1- كفاية الأصول: 286.

1- عدم تسليم الاتفاق

وفيه: أنه لا يقدح؛ إذ أنه حجة عقلائية.

وبعبارة أخرى: أنه مما يصلح للاحتجاج به من قبل المولى على العبد، ومن قبل العبد على المولى، وهذا كافٍ في المقام.

مثلاً: إذا كتب المولى إلى عبده: «هيأ الدواء الكذائي» وجهل العبد معنى الكلمة نرجع إلى قول اللغوي، فلم يحصل له الاطمئنان الشخصي بتفسيره، فلم يهيئ الدواء، باعتبار تردد الدواء المطلوب بين عشرات الالوف من الأدوية، فتكون الشبهة غير محصورة، ويكون العلم الإجمالي غير منجز، فاعتذر للمولى بذلك، أترى اعتذاره مقبولاً عند العقلاء؟

فيكون وزان (قول اللغوي) من هذه الجهة وزان (خبر الثقة) فإنه (حجة عقلائية) وإن فرض عدم اتفاق العقلاء على الأخذ به.

2- عدم ثبوت الرجوع في موارد ترتب الأثر العملي

ما في المنتقى من: « إنه لم يعلم رجوع العقلاء إلى قول اللغوي في مورد يترتب عليه الاستنباط أو نحوه من الآثار العملية، بل المعهود منهم ليس أكثر من الرجوع إليه في موارد لا يترتب عليها أثر عملي، كالرجوع إليه في فهم الأشعار والخطب أو نحوها»(1).

ونسب هذا الوجه إلى الكفاية، إلاّ أننا لم نجده صريحاً فيها.

نعم، ذكره المحقق العراقي (رحمه اللّه) حيث قال: «إن رجوع العلماء إلى علماء اللغة في استعلام حال اللغات وفي مقام الاستشهاد والاحتجاج، لو سلم فإنما

ص: 252


1- منتقى الأصول 4: 228.

هو فيما يتسامح فيه، كتفسير خطبة، وبيان شعر، ومعنى رواية غير متعلقة بالحكم الشرعي، لا في مقام استنباط الحكم الشرعي؛ إذ لم يعهد منهم في هذا المقام الرجوع إلى اللغوي والأخذ بقوله»(1).

وفيه:

أولاً: ما سبق من أنه لا يلاحظ في السيرة العقلائية مقدار المعمول به خارجاً، بل تلاحظ النكتة العقلائية الكامنة وراء السيرة، والتي قد تكون أوسع من مقدار الجري الخارجي.

وقد مثلنا لذلك سابقاً: أنه إذا فرضنا جريان السيرة العقلائية على كون (الاحتطاب) سبباً ل- (لملكية) وفرضنا أنه لا موضوعية للاحتطاب في الارتكاز العقلائي بالنسبة إلى التمليك، بل كان سبباً له فيه: باعتبار أنه مصداق ل- (كلّي الحيازة).

فيكون الحجة حينئذٍ عموم النكتة العقلائية، لا خصوص ما وقع عليه الجري العملي خارجاً.

والأمر في المقام كذلك، إذ لا خصوصية للأشعار والخطب ونحوها في الرجوع إلى قول اللغوي في الارتكاز العقلائي، فيكون حجة مطلقاً.

وثانياً: إن الأثر العملي مترتب في أمثال الخطب والأشعار ونحوها؛ إذ ترتب الأثر العملي في كلّ شيء بحسبه، ولا يشترط الجري العملي الخارجي. ونسبة المضمون إلى القائل أثر.

وبعبارة أخرى: لو لم يكن قول اللغوي حجة لكان نسبة المضمون إلى

ص: 253


1- نهاية الأفكار 3: 94.

القائل كذباً، وذلك ما لا يتسامح فيه، مع جريان السيرة العقلائية على النسبة.

3- اشتراط حصول القطع

الثالث: إن القدر المتيقن من الرجوع إليهم فيما يورث القطع أو الاطمئنان.

وفيه: إن ملاك الرجوع عند العقلاء: الاطمئنان النوعي لا الشخصي، وهو حاصل في المقام، كما يظهر ذلك عند الاحتياج إلى فهم معاني اللغات الأخرى. وسوف يأتي الكلام في ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

4- اشتراط حصول شرائط الشهادة

الرابع: إن المسلّم هو الرجوع إلى قول اللغوي فيما إذا اجتمعت شرائط الشهادة من العدد والعدالة.

أقول: لو أُريد الشهادة المصطلحة فلابدّ أن يضاف إليها (الحياة) ويرد عليه ما ورد على سابقه.

والشهادة أما أن تكون أمراً حسياً أو حدسياً، وفي كليهما تكفي شهادة الواحد، كما سوف يأتي إن شاء اللّه تعالى.

ومن هنا تجد الفقهاء يعتمدون على قول اللغوي في الفقه، وإن ناقش جملة منهم في ذلك في الأصول.

5- السيرة فاقدة لشرائط الحجية

الخامس: أن هذه السيرة ليست بحجة لعدم وجودها في زمان المعصوم (عليه السلام) ، فإن الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث بعدهم.

وفيه:

ص: 254

أولاً: إن الرجوع إلى أهل الخبرة بشكل عام مما قامت عليه السيرة العقلائية المتصلة بزمان الشارع، وقد نالت هذه السيرة إمضاء الشارع - كما سوف تأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه تعالى.

فالعقلاء يرجعون إلى الطبيب، والمقوِّم، والدليل، وغيرهم، والنكتة الكامنة وراء الرجوع مشتركة بين هذه الموارد وما نحن فيه.

وقد سبق: إن النكتة هي الملاك لا مقدار الجري الخارجي.

وثانياً: إن الرجوع إلى قول اللغوي كان موجوداً في عصر المعصومين (عليهم السلام) أيضاً.

فكتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي -كما في المحصول- من الكتب المؤلّفة في عهد الصادق (عليه السلام) والكاظم (عليه السلام) حيث إنه توفي عام 170 أو 175، وعاش 74 سنة ولم يؤلّفه إلاّ ليرجع إليه الناس.

وكان الأصمعي المتوفى 207ه- المرجع في اللغة والأدب وكان الناس يسألونه عن معاني الألفاظ، وقد سُئِل يوماً عن الألمعي، فقال:

الألمعّي الذي يظن بك***الظن كأن رأى وقد سمعا

وكان ابن عباس المرجع الكبير في تفسير لغات القرآن، وكان يقول: الشعر ديوان العرب فإذا خُفِيَ علينا الحرف من القرآن - الذي أنزله بلغة العرب- رجعنا إلى ديوانه فالتمسنا معرفة ذلك منه - ثمّ قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب.

وكان يُسأل عن القرآن فينشد فيه بالشعر، وقد سأله نافع بن الأزرق عن لغات القرآن ما يربو على مائة وسبعين سؤالاً فأجابه مستشهداً بشعر العرب،

ص: 255

ومن أراد فليرجع إليه وهو يعرب عن إحاطة ابن عباس بشعر العرب وموارد استعماله وقد نقلها السيوطي في الاتقان(1).

أقول: ويضاف إلى ما ذكره: كتاب (الجمهرة) لابن دريد وهو من أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام) (2).

وكتاب (إصلاح المنطق) لابن السكيّت، الذي قتله المتوكل لصلابته في تشيعه في قصة معروفة(3).

6- السيرة محتملة المدركية

السادس: أنها سيرة محتملة المدرك، إذ يحتمل كون منشأ هذه السيرة الخاصة: السيرة العقلائية القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة بشكل عام، بل هو مظنون، بل ربما يدّعى القطع بذلك، فلا يكون لها موضوعية، بل تكون صغرى من صغريات (الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ فن).

والخلاصة: أن هذه السيرة العقلائية الخاصة ليست دليلاً مستقلاً في عرض السيرة العقلائية العامة، بل هي صغرى من صغرياتها.

وسيأتي البحث صغروياً وكبروياً في تلك الكبرى الكلية إن شاء اللّه تعالى، والظاهر تمامية هذا الإشكال.

ص: 256


1- المحصول 3: 179-180؛ الاتقان 1: 382.
2- الشيعة وفنون الإسلام: 422؛ روضات الجنات 7: 283 وفيه: أنه سأل الإمام الرضا (عليه السلام) فأجابه.
3- الشيعة وفنون الإسلام: 420؛ تنقيح المقال 3: 329، ونقل اسمه في كتاب (الجامع لأصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) 2: 226 برقم 268.
والوجه الثاني: الإجماع

الوجه الثاني: الإجماع على حجية قول اللغوي.

وقد حُكي ذلك عن السيد المرتضى في الذريعة(1).

وأجاب عنه في الكفاية ب- (أن الإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول)(2) وذلك لأن المسألة لم تذكر في بحث الأعلام سابقاً، والإجماع المنقول لا حجية له ما لم يحصل منه الحدس برأي المعصوم (عليه السلام) ، وليس بحاصل في المقام.

ويؤيد عدم الحجية:

أ) وهن إجماعات المرتضى (رحمه اللّه) بشكل عام؛ لكون جملة منها إجماعات مستنبطة، كما صرح هو بذلك في قوله: (إن مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات)(3).

حيث علله(4) في الخلاف بقوله: (لأن من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات)(5).

وسيأتي البحث في ذلك في (الإجماع المنقول) إن شاء اللّه تعالى.

ب) احتمال استناد المبحث - على فرض تحقق الإجماع- إلى السيرة العقلائية، فلا يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) ، فلا

ص: 257


1- الذريعة 1: 13.
2- كفاية الأصول: 286.
3- الناصريات: 105.
4- علله الشيخ المفيد في مسائل الخلاف.
5- مسائل الخلاف للشيخ المفيد مفقود.

يستقل بالدليلية في عرضها.

هذا ولكن قد مضى الكلام في حجية الإجماع المحتمل الاستناد.

ج) ثبوت الخلاف في كلمات جملة من الفقهاء.

هذا ولكن الظاهر: أن الشهرة العملية على العمل بقول اللغوي حاصلة، كما يظهر بمراجعة الفقه.

الوجه الثالث: السيرة العقلائية العامّة
اشارة

الوجه الثالث: السيرة العقلائية العامة القائمة في كلّ زمان ومكان على الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ فن وصنعة، فيما يرجع إلى فنهم وصنعتهم.

وهذه السيرة واجدة لشرائط الحجية، إذ أنها ممتددة إلى زمان المعصوم (عليه السلام) ولم يردع عنها، مع كونها بمرأى منه وبمسمع؛ وذلك كالرجوع إلى الطبيب، والدليل، والمقوّم، وغيرهم.

واللغوي من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، فيصح الرجوع إليه.

وقد حكي هذا الوجه عن الفاضل السبزواري، قال (رحمه اللّه) : (صحة المراجعة إلى أصحاب الصناعة البارزين في صنعتهم، البارعين في فنهم فيما اختص بصناعتهم مّما اتفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان) (1).

إيرادات ومناقشات

وأورد على هذا الوجه بإيراد كبروي وإيرادين صغرويين:

أ) اشتراط الوثوق

أما الإيراد الكبروي فقد ذكر في الكفاية: بأن المتيقن من السيرة: الرجوع

ص: 258


1- فرائد الأصول 1: 174.

إلى أهل الخبرة فيما إذا أوجب قولهم الوثوق والاطمئنان لا مطلقاً، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، فالملاك - إذاً- هو الوثوق، فيكون قول اللغوي كطيران الغراب وجريان الميزاب في أنه إن أوجب الوثوق كان حجة، وإلاّ فلا.

نعم، الفرق إن حصول الوثوق منهما نادر بخلافه، وإن ظهر من صاحب الكفاية خلافه.

وفيه:

أولاً: أنه مناقض لما بنى عليه في بحث (الاجتهاد والتقليد).

إذ أن عمدة الدليل في نظر صاحب الكفاية في جواز التقليد كونه أمراً بديهياً فطرياً(1)، وإن ذكر آخراً دلالة الأخبار عليه(2). ولم يتعرض هنالك لشرطية الوثوق والاطمئنان في حجية الفتوى.

وثانياً: أنه مناقض لما نجده خارجاً.

قال الوالد (رحمه اللّه) : «العقلاء يرجعون إلى أهل الخبرة مطلقاً إلاّ إذا تيقنوا بالخطأ، وهاهم العقلاء لا يفرقون في لزوم الأخذ بقول الخبير بين حصول الوثوق وعدم حصوله»(3).

واستشهد على ذلك: بركوبهم الطائرة وتسليمهم (أنفسهم) للجراح وغير ذلك(4).

ص: 259


1- كفاية الأصول: 472.
2- كفاية الأصول: 473.
3- الوصول 3: 433.
4- الأصول:70.

هذا مع أن (الذات) هي أهم شيء عند غالب الناس، بل أنهم يحبون كلّ شيء من أجل حبهم لذاتهم، ومع ذلك يسلمون أنفسهم إلى الخبير إذا اطمئنوا إلى خبرويته ووثاقته.

وقد سبق أن الملاك عند العقلاء: الوثوق النوعي لا الشخصي، وإن الأخير ليس عذراً مقبولاً عندهم في مقام الاحتجاج والمنجزية والمعذرية.

ب) اللغوي ليس خبيراً في تشخيص الأوضاع

وأما الإيراد الصغروي الأوّل فهو: إن اللغوي ليس من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، بل هو من أهل الخبرة في تعيين موارد الاستعمال.

قال صاحب الكفاية: (بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن يفهم ضبط موارده، لا تعيين أن أياً منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلا لوضعوا لذلك علامة)(1).

وبعبارة أخرى: لو كان اللغوي خبيراً بالوضع لوضع علامات لتشخيص الحقائق من المجازات، فعدم الوضع دليل على عدم إطلاعه على الوضع.

والخلاصة: إن اللغوي لعدم خبرويته بالوضع يسرد المعاني سرداً بلا تعيين الحقائق والمجازات.

لا يقال: ما يذكر أولاً هو الحقيقة.

فإنه يقال: ينتقض ذلك بالمشترك، إذ لا يمكن أن يقال فيه: إن ما ذكر أولاً هو الحقيقة - كما ذكره صاحب الكفاية.

وأجاب السيد الوالد (رحمه اللّه) عن ذلك بجوابين:

ص: 260


1- كفاية الأصول: 287.

الأوّل: «أنه لم تجر عادة اللغويين إلاّ بذكر معاني الألفاظ لا ما يستعمل اللفظ فيه مجازاً، ولذا نراهم لا يذكرون من معاني الأسد: الرجل الشجاع، وإن كان هذا المجاز من أشهر المجازات، وأكثرها دوراً في ألسنة أهل العلم»(1).

وفي الأصول: «اللغوي لا يذكر المجازات إلاّ مع الإشارة إليه»(2).

ويؤيد ذلك: إن المجازات لا تعد ولا تحصى، فلو كان دأبهم على ذكرها لأضافوا على ما ذكروه من المعاني: الألوف المؤلّفة، مثل: العالم في كلمة (البحر)، والهادي في كلمة (النجم) والجميل في كلمة (القمر) و...

والظاهر: أن ذلك غير واقع في الخارج، فتأمّل.

الثاني: والقول بأنه من أهل خبرة الاستعمال كافٍ، إذ الاستعمال بلا قرينة كاشف عن الوضع، سواء كان تعيينياً أو تعينياً(3).

ولعل المراد: أنه إذا كانت هنالك قرينة فلابد من أن ينقلها اللغوي، وإلا كانت خيانة، وهي منفية بغرض وثاقته، وإن لم يكن هنالك قرينة ثبت الوضع، إذ تبادر معنى بلا قرينة دليل على الوضع.

التحقيق في المقام

أقول: الظاهر أن هنا مبحثين:

الأوّل: هل أن اللغوي خبير في تمييز الحقائق عن المجازات؟

ص: 261


1- الوصول 3: 433.
2- الأصول: 530.
3- الوصول 3: 433.

الظاهر: أنه نعم، وذلك لما سبق.

الثاني: هل أنه خبير في تعيين المعنى الكلّي أو أنه خبير في تعيين المصاديق؟ والظاهر أنه لا يخلو من تأمّل.

إذ اللغوي يلاحظ مجموعة من الجزئيات الخارجية المتشخصة بخصوصيات خاصة ثمّ يقوم بعملية (التجربة) وينتزع (المعنى الكلّي الجامع) بين (تلك المصاديق) وقد لا يمثل (ذلك المعنى الكلّي): (تمام الحقيقة) وإنّما يمثل (بعض الحقيقة).

وبعبارة أخرى: لا يمثل (المعنى الحقيقي بتمامه) بل يمثل (جزئياً من جزئيات ذلك المعنى الكلّي).

مثلاً: يرى اللغوي أن العرب استعملت كلمة (الكنز) في الذهب المدفون في الأرض الكذائية, و(الفضة) المدفونة في أرض أخرى و(اللآلئ) المدفونة في أرض ثالثة فيلغي هذه الخصوصيات الفردية وينتزع معناً كلياً جامعاً فيقول: «الكنز هو المال المذخور في الأرض» حيث ألغى في هذا التعريف (التشخيص الذهبي والفضي و...) و(تشخيص هذه الأرض وتلك) ... إلاّ أن الممكن أن لا يمثل هذا التعريف تمام المعنى الحقيقي، بل بعضه، فيكون الكنز عبارة عن كلّ مال مذخور، ولو في السقف أو الجدار, أو الشجر أو غيرها، ولا خصوصية ل- (الأرض) في المعنى.

وكذا يرى اللغوي استعمال كلمة (البيع) في (مبادلة الدرهم بدينار) و(الحنطة بالشعير) ونحوهما، فينتزع المعنى الجامع ويقول: (البيع مبادلة مال بمال) مع أنه قد يفترض كون البيع يمثل معنى أعم، إذ يشمل (مبادلة الحق

ص: 262

بالحق) و(المال بالحق) و(الحق بمال) وإنّما لم يذكره اللغوي لأنه لم يتفق له رؤية تلك المصاديق.

والخلاصة: أن اللغوي يصل إلى (المفهوم الجامع) ب- (الحدس) وهذا الحدس ليس بحجة.

وعليه: فنستطيع أن نقول: إن ما ذكره اللغوي يمثل المعنى الحقيقي أو مصداقاً من مصاديق المعنى الحقيقي.

هذا ولكن قد يقال: أن حدس الخبير حجة، ولو بخير آخر إلاّ أن يعارض بدليل أقوى أو مكافئ، فتأمل.

ج) اللغوي ليس خبيراً بل هو مخبر

وأما الإيراد الصغروي الثاني فقد ذكره في المصباح قال:

«إن الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الأمور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر والرأي لا في الأمور الحسيّة التي لا دخل للنظر والرأي فيها. وتعيين معاني الألفاظ من قبيل الأمور الحسية؛ لأن اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات، وليس له إعمال النظر والرأي فيها فيكون إخبار اللغوي عن معاني الألفاظ داخلاً في الشهادة المعتبرة فيها العدالة، بل التعدد في مورد القضاء. وأما في غيره ففي اعتباره خلاف مذكور في محله»(1).

ويرد عليه:

أولاً: إن إخبار اللغوي ليس إخباراً حسياً صرفاً، بل هو مزيج بإعمال

ص: 263


1- مصباح الأصول 2: 131.

النظر والحدس.

إذ اللغوي يلاحظ موارد الاستعمالات ويجتهد في انتزاع الجامع، والجامع ينقسم إلى قريب وبعيد وأبعد، فتعيين ما وضع له اللفظ من هذه الجوامع لا يخلو من الحدس والاجتهاد.

مثلاً: يرى أن لفظة (الماء) استعملت في (ما يستخرج من نهر الفرات) فينفي الخصوصيات الفردية ويحاول أن ينتزع المعنى الجامع، وهو يدور بين جامع قريب (كالماء العذب) وبعيد (كمطلق الماء ولو كان مالحاً) وأبعد (كمطلق المائع السيال ولو كان مضافاً).

فتعيين أن اللفظ وضع ل- (مطلق الماء) لا يخلو من النظر والاجتهاد.

ويدل على ذلك استشهاد اللغويين بالآيات الكريمة والروايات الشريفة واشعار العرب، حيث أنهم يعينون المعاني الكلية ببركة الإمعان في تلك الموارد.

ثانياً: لو فرض كونه إخباراً حسياً مجرداً لم يقدح، لكفاية الثقة الواحد في ذلك، وقد اعترف بذلك صاحب المصباح في الفقه.

ثالثاً: ما أفيد من أن «الحدسية تضعيف لقيمة الإخبار فكيف يعقل أن تكون الحجية العقلائية المبنية على الكاشفية والطريقية منوطة بها، بل الصحيح أن العقلاء بحسب فطرتهم بنوا أولاً على حجية أخبار الثقات في الحسيات أولاً؛ لأن احتمال الخطأ فيها منفي بأصالة عدم الخطأ في الحسّ واحتمال الكذب منفي بالوثاقة، وأما الحدسيات فوثاقة المخبر فيها لا تقتضي أكثر من صدقة في الأخبار عن حدسه فيبقى احتمال خطأ حدسه

ص: 264

عن الواقع ولا يمكن نفيه بأصالة عدم الخطأ؛ لأن موضوعها الحس الذي يقل فيها الخطأ لا الحدس الذي يكثر فيه الخطأ إلاّ أنهم استثنوا عن عدم الحجية في الحدسيات خصوص الموارد التي يكون الحدس فيها متوقفاً على تفرّغ وخبرة واجتهاد لا يمكن توفره - عادة - لكل أحد فكأنه بحكمة الانسداد العرفي لباب العلم فيها جعلوا قول أهل الخبرة في مثل هذه الموارد وحدسهم حجة على الآخرين الذين انسد عليهم باب العلم ولو باعتبار تفرغهم لأعمال أخرى»(1).

وفيه نظر: إذ قد يقال: بوجود الردع الشرعي عن العمل بخبر الواحد في الحسيات دون الحدس.

إذ خبر مسعدة بن صدقة مغيّى ب- (الاستبانة أو قيام البينة) والمغيى هو الأمور الحسية فقط، أو هي القدر المتيقن منه.

ونحو قوله (عليه السلام) : «حتى يجيئك شاهدان»(2) في رواية «الجبن».

أما الحدسيات فقد جرت السيرة العقلائية على الرجوع فيها إلى ثقات ذوي الخبرة بلا ردع شرعي ظاهر.

وهذا كافٍ في الفرق بين (الأمور الحسية) و(الحدسية)، وهو وإن كان غير رصين، إلاّ أنه كافٍ في دفع (عدم المعقولية) المدّعى.

الوجه الرابع: دليل الانسداد

بتقريب: إنا وإن سلمنا أن قول اللغوي ليس حجة من باب الظن الخاص،

ص: 265


1- بحوث في علم الأصول 4: 297.
2- الكافي 6: 339.

إلاّ أنه حجة من باب الظن المطلق؛ لانسداد باب العلم باللغات أو بخصوصيات المعاني - غالباً.

وقد ذكر الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه: «الإنصاف أن موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها، وإن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة قول اللغوي»(1).

وقد ذكر نظير ذلك في موارد:

منها: في علم الرجال.

فقد أدّعى بعضٌ الإجماع على حجية الظنون الرجالية.

والمحدث النوري (رحمه اللّه) ذكر في ترجمة (عمران بن عبد اللّه القمي) أنه «روى الكشي خبرين فيهما مدح عظيم لا يضر ضعف سندهما بعد حصول الظن منهما».

ولم يستبعد في المعجم كون منشأه «انسداد باب العلم في الرجال فينتهي إلى العمل بالظن لا محالة»(2).

ومنها: إثبات الأنساب.

فإن العلم والعلمي فيها منسد غالباً، فينتهي إلى العلم بالظن، وتترتب عليه آثاره، كدفع الخمس إلى مظنون الهاشمية مثلاً.

ومنها: في تشخيص (الضرر).

ص: 266


1- فرائد الأصول 1: 177.
2- معجم رجال الحديث 1: 40.

فإن الاقتصار على القطع بالضرر - في باب الصوم ونحوه- يوجب الوقوع في الضرر الكثير، وهو ضرر منفي ب- «لا ضرر» فيكتفي فيه بالظن.

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): «إذا خيف على الرجل أو اليد مثلاً من جرّاء عدم قطع الأصبع، في المجذوم، أو خيف على الحياة من جرّاء عدم قطع الرجل أو اليد مثلاً، وجب إجراء العمليّة.

وذلك لقانون الأهم والمهم، وقاعدة (لا ضرر)، وقوله سبحانه: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1) وغيرها، وكذا لو توقفت الحياة على فقد قوة.

وقد ذكروا: إنّ المعيار الخوف لا القطع بالضرر، كما في الصوم والحج والطهارة المائية و...؛ وذلك لأنّه لو كان المعيار القطع كان إلقاءً من الشارع في الضرر، إذ كثيراً ما يكون خوف بدون القطع ويقع فيه، وتفصيله في الفقه والأصول(2).

وأجيب عن هذا الوجه بأمور:

أولاً: الانسداد الصغير ليس ملاكاً لحجية الظن.

وقد ذكر هذا الوجه المحقق الخراساني في الكفاية، قال:

أنه «لا يوجب اعتبار قوله ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام كما لا يخفى، ومع الانسداد كان قوله معتبراً إذا أفاد الظن من باب حجية مطلق الظن وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد»(3).

ص: 267


1- البقرة: 195.
2- المسائل المتجددة: 51- 52.
3- كفاية الأصول: 287.

توضيحه: إن الانسداد على نحوين:

1- الانسداد الكبير: أي انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام.

2- الانسداد الصغير: أي انسداد باب العلم والعلمي في باب معين.

والملاك في حجية الظن المطلق هو الأول، سواء تحقق الانسداد الصغير في باب أو لا.

فإن كان باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام مفتوحاً لم يعتبر الظن المطلق ولو فيما اسند فيه باب العلم والعلمي.

إن كان مسدوداً اعتبر الظن المطلق ولو فيما انفتح فيه باب العلم.

فالانسداد الصغير لا يترتب عليه أي أثر لا وجوداً ولا عدماً.

ووجه ذلك: أن جريان أحكام الانسداد موقوف على حصول مقدمات، وهي مختصة بالانسداد الكبير.

توضيحه: إن من مقدمات حجية الظن المطلق: عدم جريان البراءة؛ لأنها توجب الخروج من الدين، وعدم وجوب الاحتياط - أو عدم جوازه- لأنه يوجب العسر أو الحرج أو الإخلال بالنظام.

وهذا الملاك كما ترى يختص بالانسداد الكبير؛ إذ لا تترتب المحاذير المزبورة على إجراء البراءة أو الاحتياط في الانسداد الصغير.

وعليه: فإذا فرض حصول الانسداد الكبير، جاز الأخذ بكل ظن، ومنه قول اللغوي - في صورة إفادته للظن- ولو فرض الانفتاح في باب العلم باللغات.

ولو فرض عدم حصول الانسداد الكبير لم يجز الأخذ بالظن المطلق،

ص: 268

ومنه قول اللغوي، ولو فرض الانسداد في باب العلم باللغات.

ويكون المرجع حينئذٍ: البراءة, أو الاحتياط أو غيرهما من الأصول العملية.

مثلاً: لو شككنا أن (التمر) يشمل الرطب أو لا؟ كان المرجع البراءة، ولو شككنا إن الجمرة هي (الأرض) أو (الشاخص) كان المرجع الاحتياط، ولو شككنا أن الوطن يشمل الوطن الاتخاذي كان المرجع الاستصحاب، إلى غير ذلك من الأمثلة.

هذا ولكن قد يقال: إن هذا الجواب يتم لو كان الانسداد الصغير غير مؤدٍّ إلى الانسداد الكبير، ولكن الانسداد الصغير في باب اللغات يؤدّي إلى الانسداد الكبير، لأن غالب الأحكام قد بنيت عبر (الألفاظ) وغالب الألفاظ مجهولة الحدود، فينتهي الصغير إلى الكبير، وتترتب عليه أحكامه.

وقد يجاب عن ذلك: بمنع الغلبة(1) أولاً.

وبمنع التلازم بين الانسداد ثانياً.

وبما في المنتقى: أن لا ينتهي إلى حجية قول اللغوي؛ إذ ليس المتعارف بيان اللغوي مقدار مفهوم اللفظ سعة وضيقاً وبنحو الدقة حتى يحصل الظن من قوله بتفاصيل المعاني، فما انسد فيه باب العلم لا تعرّض للغوي فيه(2).

وسيأتي بعض الكلام في بعض هذه الوجوه وغيرها قريباً إن شاء اللّه تعالى.

ص: 269


1- أي غلبة مجهولية الألفاظ (منه (رحمه اللّه) ).
2- منتقى الأصول 4: 233.

ثانياً: الانسداد الصغير غير متحقّق، وهذا جواب صغروي (لا انسداد).

بينما كان الجواب السابق جواباً كبروياً (لا تأثير للانسداد في الحجية).

قال الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه: «إن أكثر موارد اللغات - إلاّ ما شذَّ وندر- معلوم من العرف واللغة والمتبع في الهيئات: القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي واتفاق أهل العربية أو المتبادر بضميمة أصالة عدم القرينة»(1).

والخلاصة: إن غالب المفردات وغالب الهيئات معلومة، ومع العلم لا شكّ، فلا موضوع ل- (دليل الانسداد).

إلاّ أنّه (رحمه اللّه) عدل عن ذلك أخيراً وقال: «الإنصاف إن موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني ...» إلى آخر كلامه المتقدم ذكره.

لكنه أضاف: «وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذوراً» وهذا استدراك كبروي لا صغري، كما لا يخفى.

وقد مثلّنا بمجموعة من الأمثلة للحاجة إلى قول اللغويين في المقدّمة الأولى, فراجع.

والظاهر: إن موارد الحاجة إلى قول اللغويين من أول الفقه إلى آخره ربما تبلغ المئات فالجواب الثاني لا يخلو من نظر.

ثالثاً: لا خصوصية لقول اللغوي.

ص: 270


1- الوصائل 2: 324- 325.

وقد ذكر ذلك المشكيني (رحمه اللّه) قال: «إن هذا الدليل يفيد حجية كلّ ظن شخصي ولو حصل من قول فقيه أو مفسّر أو غير ذلك، والمدّعى هو حجية قول اللغوي»(1).

والظاهر: إنه لا مانع - بناءً على تمامية الدليل- من الالتزام بهذا اللازم، إذ لا فرق بين (قول اللغوي) و(قول الفقيه) و(قول المفسّر) وغيرهم، فيكون قول اللغوي مصداقا من مصاديق الحجة، لا أن له موضوعية في حدّ ذاته.

الوجه الخامس: العلم الإجمالي

وقد نُقل عن بعض الأعاظم.

وبيانه:

1- إن غالب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة مجهولة المفاد.

2- وأنّنا نعلم بوجود تكاليف إلزامية - وجوبية أو تحريمية- في موارد الجهل بالأحكام.

3- وعليه فلا يجوز الرجوع إلى البراءة فيها لأنه مخالفة قطعية للعلم الإجمالي، فيتعين العمل بالظن الحاصل من قول اللغوي. ولا يخفى أن هذا الوجه قريب جدّاً من الوجه السابق.

ويرد عليه:

أولاً: الإشكال مبنى، بعدم تسليم وجود علم إجمالي بتكاليف إلزامية في دائرة الحدود المشكوكة للألفاظ, فيكون المرجع البراءة.

مثلاً لو شككنا أن الغناء هو (الصوت المطرب) أو (الصوت المرجع) أو

ص: 271


1- كفاية الأصول (المحشّی) 3: 230.

(الصوت المحتوي على الوصفين) فلا مانع من إجراء البراءة فيما عدا الأخير - الذي هو القدر المتيقن فرضاً- لأن الشكّ في التكليف، وهو مجرى للبراءة.

ولو شككنا أن الكعب هو (قبة القدم) أو (المفصل) فالمسح إلى القبة متيقن الوجوب، وما عداه مشكوك، فتجري فيه البراءة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

نعم, قد يتفق في موارد دوران الأمر بين المتباينين، وحينئذٍ تحكم قواعد العلم الإجمالي، كما لو شككنا أن (الجمرة) هي (الشاخص) أو (الأرض) فيجب حينئذٍ رمي الاثنين، أو الرمي على نحو يصيب الاثنين.

وثانياً: الإشكال بناءً، بأنه مع فرض وجود العلم الإجمالي فلابدّ من الاحتياط؛ إذ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وهو لا يتم إلاّ بالاحتياط، ولا يلزم من الاحتياط في هذه الموارد اختلال للنظام ونحوه.

الوجه السادس: شمول أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام للمقام
اشارة

ما ذكره السيد الحكيم (رحمه اللّه) في حقائق الأصول، فقال: «إن أقوى ما يستدل به على حجية قول اللغوي هو ما دل على حجية خبر الثقة في الأحكام.

ودعوى أن خبر اللغوي ليس متعرضاً للحكم؛ لأنه من الخبر عن الموضوع.

فاسدة لأن المراد من الخبر في الأحكام كلّ خبر ينتهي إلى خبر عن الأحكام ولو بالالتزام، ولذلك ترى الفقهاء لا يتوقفون في العمل بخبر ابن

ص: 272

مسلم لو أخبر بأنه دخلنا على المعصوم في يوم الجمعة فقال: هذا يوم عيد، أو أنتهينا إلى مكان كذا فقال: هذا مكان يجب على مَن مرّ به الإحرام أو الوقوف، أو سأله رجل فقال: كذا, حيث يفتون بأن الجمعة يوم العيد, ووادي العقيق أو عرفات يجب الإحرام منه والوقوف فيه, أو أنه يجب على الرجل كذا, وليس المستند لهم إلاّ خبر ابن مسلم عن الموضوعات الخارجية وهو كون اليوم يوم جمعة, والمكان وادي العقيق أو عرفات والسائل رجل لا امرأة،

فإذا جاز الاعتماد على خبر ابن مسلم في الموضوعات المذكورة, لأنّه ثقة لِمَ لا يجوز الاعتماد على الجوهري فيها لأنه ثقة؟ وما الفرق؟

وهل يصح لأحد فيما لو أخبر ابن مسلم: أنه (عليه السلام) جاء إلى مكان فقال: يجب على من دخله الغسل بالماء القراح, أن يدّعي أنه يرجع إلى ابن مسلم في تعيين ذلك المكان وأنه مسجد الكوفة, ولا يعتمد على الجوهري لو أخبر عن الماء القراح أنه الماء الخالص عن الخليط, وكيف لا يتوقف في شمول أدلة الحجية لخبر ابن مسلم عن مثل هذه الموضوعات, ولا يعتمد على اللغوي في بيان معنى اللفظ والمتتبع في الأخبار يعثر على ما لا يحصى كثرة من الأخبار المتعرض فيها لبيان الموضوعات المجملة واعتماد الفقهاء عليها في تفسيرها؟»(1).

ثم فرّع على ذلك قوله: «ومما ذكرنا يظهر أنه يجوز الاعتماد على خبر الثقة في كلّ ما ينتهي إلى الحكم الكلّي مثل الخبر عن عدالة الراوي

ص: 273


1- حقائق الأصول 2: 98- 99.

وضبطه ووثاقته وموته وغير ذلك مما يرجع إلى الإخبار عن الحكم الكلّي، ومثله الإخبار عن عدالة المجتهد واجتهاده وأعلميته أو نحو ذلك من شرائط الرجوع إليه وإن لم يجز الاعتماد عليه في جواز الائتمام به وتسليم أموال القاصرين إليه وغير ذلك مما لا ينتهي إلى الحكم الكلّي بل يترتب عليه حكم جزئي»(1).

وقد يورد عليه:

1- لا وجه للتفصيل

أولاً: أنه لا وجه للتفصيل بين خبر الثقة الذي ينتهي إلى الحكم الكلّي وخبر الثقة الذي ينتهي إلى الحكم الجزئي، لشمول بعض أدلّة الحجية لكليهما.

توضيحه: إن ما دلّ على (حجية خبر الثقة في الأحكام الكلّيّة) ينقسم إلى طائفتين:

الأولى: ما يدلّ على الحجية في ذلك بالخصوص، كآية الكتمان، وآية النفر (2).

وقوله (عليه السلام) : «وروى حديثنا» (3) - في مقبولة عمر بن حنظلة.

الثانية: ما يدل على (حجية خبر الثقة مطلقاً).

ومن ذلك ما ورد من قول الراوي: (أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ

ص: 274


1- حقائق الأصول 2: 99.
2- التوبة: 122.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 5؛ تهذيب الأحكام 6: 128.

عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ قال (عليه السلام) : نعم)(1).

وظاهر الرواية أن العلّة في جواز الأخذ هو «الوثاقة» فتفيد جواز الأخذ من كلّ ثقة، لأنّ العلّة تعمّم وتخصّص.

ومنه قوله (عليه السلام) : «العمري ثقتي فما أدّى إليك عني فعني يؤدّي، وقال لك عني فعني يقول فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون»(2).

ومنه قوله (عليه السلام) : «العمري وابنه ثقتان ... فإنهما الثقتان المأمونان»(3).

ومنه قوله (عليه السلام) : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما ترويه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بأنا نفاوضهم خبر سرنا ونحمله إياه إليهم» (4).

وكذا (عموم العلة) في (آية النبأ). إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة مطلقاً.

ولا يخفى أنه لا منافاة بين الطائفتين؛ لعدم وجود مفهوم للطائفة الأولى.

فالتفصيل محل تأمل، وإن كان هذا الإيراد لا يخل بالمقصود الذي رامه.

2- أدلة الحجية لا تشمل الأخبار الحدسية البعيدة عن الحسّ

ثانياً: وجود الفارق بين المقامين؛ إذ خبر الراوي حسّي، وخبر اللغوي حدسي فلا تشمله أدلّة الحجية.

وقد أجاب هو عن ذلك بأن: «الحدس القريب من الحسي، لا بأس

ص: 275


1- وسائل الشيعة 27: 147.
2- وسائل الشيعة 27: 138.
3- وسائل الشيعة 27: 138.
4- وسائل الشيعة 1: 38.

بالاعتماد عليه».

قال: «ولذا بنوا على قبول الخبر المنقول بالمعنى مع أنه مما نحن فيه»(1).

ومثله: الإخبار عن الشجاعة والعدالة والجود ونحوها.

هذا ولكن قد سبق أن اللغوي يعتمد على (الحدس البعيد عن الحسّ) في انتزاع (المفهوم الكلّي الجامع للأفراد) فراجع.

3- الفارق: دلالة الاقتضاء

ثالثاً: ما في المنتهى من «إن قياس قول اللغوي على موضوع الحكم الشرعي الواقع في الإخبار الثابت قطعاً تبعاً لحكمه – مع الفارق إذ الموجب لحجية خبر الواحد بالنسبة إلى الموضوع هو دلالة الاقتضاء بداهة أنه لو لم يثبت الموضوع المذكور في الخبر لم يمكن الاستدلال به على الحكم أصلاً، ولزم لغوية حجية خبر الواحد غالباً مثلاً إذا قال الراوي: سألت الإمام (عليه السلام) عن الفأرة التي وقعت في البئر، فأجاب (عليه السلام) : أنه ينزح منه سبع دلاء فأنه لو لم يثبت بهذا الخبر وقوع الفأرة في البئر لم يكن وجه للاستدلال به على الحكم الشرعي وهو الانفعال الزائل بنزح سبع دلاء. وما ذكره (قدس سره) من الأمثلة من هذا القبيل سواء أخبر الراوي بالموضوع فقط كما إذا قال: «دخلنا على المعصوم (عليه السلام) يوم الجمعة وقال: هذا يوم عيد، أو هذا المكان وادي العقيق أم أخبر بالموضوع والحكم معاً كما إذا قال (عليه السلام) : هذا مسجد الشجرة يجب الإحرام فيه أو المشعر الحرام يجب الوقوف فيه، لعدم صحة التمسّك برواية ابن مسلم مثلاً على ذلك بدون ثبوت الموضوع.

ص: 276


1- حقائق الأصول 2: 99.

والحاصل أن دلالة الاقتضاء تقتضي حجية الخبر في كلّ من الحكم والموضوع بخلاف قول اللغوي لعدم جريان دلالة الاقتضاء فيه»(1).

ويرد عليه:

إن دلالة الاقتضاء عبارة عن دلالته على ما يتوقف صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً أو لغةً أو عادة عليه.

ففي «رفع ما لا يعلمون» لابدّ من تقدير «المؤاخذة» أو «الآثار الشرعية» أو نحوهما لتكون هي المرفوعة، وذلك لتوقّف صدق الكلام على ذلك، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ولا يتوقف صدق أو صحة أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام – كآية النفر والكتمان- على القول بثبوت (الموضوع المذكور في الخبر) وذلك لوجود الألوف من الروايات المجردة عن (إخبار الراوي عن الموضوع) فتكون مشمولة لأدلة الحجية.

منتهى الأمر: عروض الإجمال على مجموعة من الروايات - ربما تبلغ المئات- لتضمنها إخبار الراوي عن الموضوع، فيعمل فيها بقواعد (العلم الإجمالي) إن كانت الشبهة محصورة، أو تسقط عن الحجية بالمرة إن لم تكن الشبهة كذلك. وذلك لا يستلزم لغوية (أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام).

نعم، لو ورد النص على اعتبار خبر خاص متضمن لإخبار الراوي عن الموضوع كان جعل الحجية له مقتضياً لإعتبار الإخبار المزبور؛ صوناً لكلام

ص: 277


1- منتهى الدراية 4: 342.

الحكيم عن اللغوية، وحفظاً لصحة كلامه عرفاً.

وبعبارة أخرى: معنى «كون الخبر الخاص حجة» هو حجية إخبار الراوي عن الموضوع، وإلا لم يكن حجة، ولم يصلح للاحتجاج به من قبل المولى على العبد، وكان جعل الاعتبار له لغواً محضاً.

وكذا لو كانت جميع الروايات متضمنة لإخبار الراوي عن الموضوع، بحيث لولا اعتبار إخباره يصير الخبر مجملاً غير قابل للباعثية والمحركية، إلاّ أن الأمر ليس كذلك، فلا مجال لدلالة الاقتضاء.

وبعبارة أخرى: أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام الكلّيّة تفيد الحجية الطبعية للخبر، وهي لا تنافي عروض عوارض اتفاقية في بعض الأحيان تمنع عن العمل بالخبر، كإجمال الدليل أو معارضته لغيره أو إعراض المشهور عنه أو مخالفته للكتاب أو تضمنه موضوعاً لم تنهض الحجة على بيانه.

والخلاصة: إن وزان (اخبار محمد بن مسلم) وزان (اخبار الجوهري) في توقف رفع الإجمال عن الخبر على اعتبار قولهما، فإن اقتضت (دلالة الاقتضاء) حجية الأول اقتضت حجية الأخير، وإن لم تقتضي حجية الأخير لم تقتضي حجية الأول.

وعليه: فأما أن يقال بثبوت الحجية فيهما معاً، أو بعدم ثبوتها فيهما معاً، فلا وجه للتفكيك بينهما.

اللّهم إلاّ أن يقال: أن الخبر المتضمن للاخبار عن الموضوع يعدّ كلاماً واحداً عرفاً، فيكون مشمولاً لأدلة الحجية، بخلاف قول اللغوي فإنه أجنبي عن الخبر.

ص: 278

هذا ولكن اعتبار الخبر المتضمن للإخبار المزبور واحداً تسامح عرفي ومبنى المشهور عدم حجية التسامحات العرفيّة، فتأمل.

4- استلزامه الدور

رابعاً: ما في المنتهى أيضاً: «من أنه يستلزم الدور حيث إن الدلالة الالتزامية - كما مرتتوقف على الدلالة المطابقية وهي تتوقف... أيضاً على الدلالة الالتزامية؛ إذ المفروض أن الإخبار عن اللازم - وهو الحكم الشرعي- يوجب الإخبار عن ملزومه وهو المعنى المطابقي اللغوي الذي صار حجة لأجل الأخبار عن اللازم»(1).

وقد يجاب عن ذلك بأن نحوي التوقف مختلفان؛ إذ الدلالة الالتزامية تتوقف على الدلالة المطابقية تكويناً، بمعنى أن انتقال الذهن إليها يتوقف توقفاً تكوينياً على التفاته إلى الدلالة المطابقية.

والدلالة المطابقية تتوقف على الدلالة الالتزامية تشريعاً، بمعنى أن جعل الحجية للدلالة المطابقية يتوقف على ترتب دلالة التزامية - وهو الإخبار عن الحكم الكلّي- عليها؛ إذ لولاها لما كان حجة؛ إذ المفروض أن إخبار الثقة عن غير الحكم الكلّي ليس بحجة.

والأولى الجواب: بأن الموقوف عليه غير الموقوف عليه.

إذ الدلالة الالتزامية بوجودها الخارجي تتوقف على الدلالة المطابقية بوجودها الخارجي.

والدلالة المطابقية بوجودها الخارجي تتوقف على الدلالة الالتزامية

ص: 279


1- منتهى الدراية 4: 342.

بوجودها اللحاظي ومؤدى ذلك: أن المتقدم الدلالة الالتزامية لحاظاً، والمتأخر الدلالة الالتزامية خارجاً، وقد ذكروا في بحث (العلة والمعلول) أن (العلة الغائية علّة فاعلية الفاعل بماهيتها، وإن كانت معلولة له بانيتها) فالمتقدم (العلة الغائية بوجودها اللحاظي) والمتأخر (العلة الغائية بوجودها الخارجي) فلا دور.

وهو نظير كلّ موضوع ذي أثر، يراد إثباته بالتعبد الشرعي، فإن شمول أدلّة التعبد للموضوعات الخارجية يتوقف على لحاظ أثر لها، ولا دور.

إذ الأثر بوجوده الخارجي يتوقف على الموضوع بوجوده الخارجي الثابت بالثبوت الوجداني أو التعبدي.

والموضوع بوجوده الخارجي يتوقف على الأثر بوجوده اللحاظي, كما في استصحاب حياة زيد لإثبات حرمة زوجته.

فإن ثبوت الحرمة خارجاً يتوقف على ثبوت حياة زيد خارجاً (ولو بالثبوت التعبدي) إذ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع.

وثبوت حياة زيد خارجاً يتوقف على حرمة زوجته لحاظاً؛ إذ لولا الأثر لم تثبت حياة زيد تعبداً.

الوجه السابع: انتفاء القرينة دليل الحقيقة

ما في المنتهى من أنه: «يمكن إثبات الوضع بقول اللغوي أيضاً بعد البناء على وثاقته في نقل موارد الاستعمال، بأن يُقال: أنه بعد وقوفه على استعمال أهل اللسان لفظاً في معنى بلا قرينة، فلا محالة يكون ذلك المعنى حقيقياً، إذ لو كان مجازياً لنصبوا عليه قرينة، واحتمال نصبهم لهم وإهمال اللغوي

ص: 280

لذكرها خلاف ما فرض من كونه ثقة في النقل، كما أن احتمال وجود قرينة خفية على اللغوي مندفع بالأصل.

وبالجملة: فنقل اللغوي لموارد الاستعمال - مع ملاحظة ما عرفت- يدلّ على وضع اللفظ فيما استعمل فيه، وهذا غير كون الأصل في الاستعمال الحقيقة، إذ المدار هنا على الظهور المجرد عن القرينة بمعونة الأصل العقلائي، وهناك على الاستعمال في المعنى المعلوم قصده، مع الجهل بكونه حقيقة أو مجازاً، ومن المعلوم أن مجرد الاستعمال ليس أمارة على الحقيقة»(1).

والخلاصة: إن في المقام احتمالات:

1- أن تكون في المقام قرينة على التجوز وقد خفيت على اللغوي.

وهذا احتمال مندفع ب- (أصالة عدم الغفلة).

2- أن تكون في المقام قرينة عليه، وقد تعمد اخفائها.

وهذا الاحتمال خلاف فرض وثاقته.

3- فيتعيّن احتمال أن اللفظ استعمل في المعنى بلا قرينة.

فلا محالة يكون ذلك المعنى حقيقياً.

وفيه: إن استعمال اللفظ كما يكون حقيقياً، لو استعمل في تمام ما وضع له، كذلك يكون حقيقياً لو استعمل في مصداق من مصاديقه؛ إذ الطبيعي متحد مع فرده والألفاظ موضوعة على نحو (اللابشرط) لا بنحو (بشرط شيء).

ص: 281


1- منتهى الدراية 4: 339- 340.

وهذا البيان يثبت كون المعنى المستعمل فيه اللفظ حقيقياً، ولكن لا يثبت كونه تمام المعنى الحقيقي ويتضح ذلك بملاحظة مثال (الكنز) فراجع.

المقام الثاني: في حجية قول اللغوي في إثبات موارد الاستعمال

اشارة

والظاهر الحجية؛ لأنّ خبر ثقة فيشمله ما دلّ على حجية خبر الثقة بشكل عام، من السيرة العقلائية، والأدلة اللفظية، كما مرت الإشارة إلى الأخيرة آنفاً.

تذييل: في فائدة الرجوع إلى بحث اللغة

لو فرضنا عدم حجية قول اللغوي في إثبات الأوضاع, فهل تبقى هنالك فائدة في الرجوع الى بحث اللغة؟

ذكرت هنالك فائدتان:

الأولى: إيجاب القطع بالوضع في بعض الأحيان.

فيكون قول اللغوي من مناشئ الحجة، وإن لم يكن بنفسه حجة.

خصوصاً: إذا فرض اتفاق اللغويين على معنى من المعاني.

والخلاصة: إن فائدته إيجاد (القطع) - الذي هو حجة- ولو في الجملة. وفي حكم القطع الاطمئنان.

الثانية: إيجاب القطع بالظهور.

إذ قد يوجب الرجوع إليها القطع بظهور اللفظ في معنى من المعاني - أعمّ من أن يكون معنى حقيقياً أو مجازياً- بعد الظفر به وبغيره من المعاني في كتب اللغة، وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز وقد اتفق ذلك كثيراً.

ص: 282

وهذا المقدار كافٍ في الفتوى، لعدم توقفها على كون المعنى حقيقياً.

والخلاصة: أنه يكفي الظهور في مقام الفتوى، والرجوع إلى كتب اللغة قد يكون مثبتاً للظهور.

الخلاصة

وحاصل جميع ما تقدم:

1- إن قول اللغوي حجة في إثبات الأوضاع، إذا حصل القطع أو الاطمئنان بقوله، ولو كان قوله جزءاً من العلة التامة في حصول القطع.

2- إنّ قوله حجة في إثبات الأوضاع مع اجتماع ما يعتبر في باب الشهادة من العدد والعدالة.

لكن بشرط أن يكون المخبر به حسّيّاً أو حدسياً قريباً من الحسّ.

3- إنّ قوله حجة في تعيين الأوضاع، لكن على نحو بعض الحقيقة، لا على نحو تمام الحقيقة، ولو لم يفد القطع أو الاطمئنان، ولم تجتمع شرائط الشهادة.

وبعبارة أخرى: إن ما ذكره هو المعنى الحقيقي، أو جزئي من جزئيات المعنى الحقيقي.

4- إن قول اللغوي حجة في إثبات موارد الاستعمال، مع فرض وثاقته في فنّه.

ص: 283

ص: 284

فصل في الإجماع والبحث يقع في مقامين

اشارة

المقام الأول: الإجماع المحصل

المقام الثاني: الإجماع المنقول

ص: 285

ص: 286

المقام الأول: في الإجماع المحصل

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: في معنى (الإجماع المحصل)

الإجماع المحصل عبارة عن «اتفاق جميع العلماء في عصر من العصور».

قال الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه: «كما ينادي بذلك تعريفات كثير من الفريقين»(1).

أقول: بعض التعريفات مجملة من حيث أن الإجماع الاتفاق في عصر واحدٍ أو في جميع العصور.

مثلاً: قال الشيخ في التهذيب: «الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(2).

وقال صاحب (غاية البادي في شرح المبادي) - الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلامة الحلي: «الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) هو اتفاق أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على وجه يشمل قول المعصوم»(3).

وفي المعالم: «الإجماع في الاصطلاح اتفاق خاص وهو اتفاق من يعتبر قوله من الأمة»(4).

ص: 287


1- فرائد الأصول 1: 184.
2- تهذيب الوصول: 65.
3- غاية البادي في شرح المبادي (مخطوط): 73.
4- معالم الدين: 172.

وهذه التعاريف مجملة من جهة الحيثية المذكورة. ولو فرض اشعارها بكفاية الاتفاق في عصر واحد، إلاّ أن ذلك لا يبلغ مرحلة (المناداة).

نعم، من اعتذر عن وجود المخالف بانقراض عصره فصريح كلامه إن الإجماع عبارة عن اتفاق علماء عصر واحد، وإن خالفه علماء سائر الاعصار المتقدمة أو المتأخرة.

المبحث الثاني: في وجه حجية الإجماع المحصل

اشارة

وما قيل في سبب حجية الإجماع المحصل وجوه:

الوجه الأول: قاعدة اللطف
اشارة

وبيان هذه القاعدة: إن اللطف نوعان:

1- اللطف التكويني: وقد يعرَّف بأنه عبارة عن إعطاء الممكنات مبادئ وصولها إلى الغايات المعدّة لها، أو إلى كمالها الممكن لها.

ولعله إلى جانب من هذا القسم أشير في قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(1).

وفي قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ}(2).

ومن يراجع كتب (العلوم الطبيعية) يجد العجب العجاب في هذا المجال.

2- اللطف التشريعي: وقد يُعرَّف بأنه عبارة عن إعطاء خصوص الإنسان - وما يماثله من الكائنات المكلّفة- مبادئ تكامله المعنوي الاختياري.

ص: 288


1- طه: 50.
2- النحل: 78.

وبعبارة أخرى: تقريب العباد إلى الطاعة وإبعادهم عن المعصية بما لا ينافي الاختيار.

وعلى أساس قاعدة اللطف - وغيرها- بني وجوب بعثة الأنبياء (عليهم السلام) .

وعلى أساس ذلك أيضاً - وغيره- بني وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد نُقِل أنه سأل السيد البروجردي (رحمه اللّه) عن دليل وجوب الأمر والنهي فأنشد:

اگر بينى نا بينا وچاه است***اگر خاموش بنشينى گناه است

وكأنه يشير إلى القاعدة المزبورة.

ولعله أشير إلى كلا النوعين في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}(1).

وعليه: فإذا حصل إجماع من الأمة على ما لا يرتضيه اللّه تعالى فمقتضى اللطف صرفهم عن ذلك وإلهام ما هو الواقع إليهم.

قال السيد الوالد (رضوان اللّه عليه):

«إن الغرض من الخلقة العبادة، كما قال سبحانه: {وَمَا

خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} والعبادة لا تتحقق إلاّ بإرشاد اللّه سبحانه إلى مواقع الأمر والنهي، فإذا كان الغرض ذلك - والمفروض أنّ العقل لا يُدرك تلك المواقع- لزم على اللّه سبحانه بمقتضى الحكمة هداية العباد إليها، فإذا لم يفعل كان نقضاً للغرض وهو قبيح على الحكيم إذاً.

ص: 289


1- الأعراف: 94.

فإذا اتفقت العلماء على شيء وكان حكم اللّه خلافه لزم بمقتضى قاعدة اللطف أن ينبّه اللّه سبحانه العباد على الحقّ ، ولا يكون ذلك إلاّ بإيجاد الخلاف بينهم حتى يكون مجال للواقع، ولا يضل العباد. فإذا لم يفعل ذلك كشف عن أنّه يُطابق الحكم الواقعي. وقد يُرتّب القياس هكذا: لو اتفق آراء العلماء على حكم لزم أما مطابقته لحكم اللّه الواقعي، وأما بطلان قاعدة اللطف، لكن قاعدة اللطف صحيحة فالحكم المتفق عليه هو حكم اللّه الواقعي»(1).

وقد اعتمد على هذه القاعدة في إثبات حجية الإجماع المحصل:

1- السيد المرتضى (رحمه اللّه) .

إلاّ إنه رجع عنه أخيراً كما يظهر من الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في كتاب (الغيبة) و(العدّة).

2- الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في كتاب (العدة) وغيره.

3- ويظهر من رسالة الطرابلسيات أنه مذهب أصحابنا قديماً.

4- واعتمدها فيه الشيخ الكراجكي (رحمه اللّه) في (كنز الفرائد).

5- وكذا المحقق الداماد.

6- وشريف العلماء.

وغيرهم ممن ذكرت أسماؤهم وكلماتهم في كتاب (كشف القناع) للمحقق التستري (رحمه اللّه) (2).

ص: 290


1- الوصول 3: 456- 457.
2- كشف القناع: 114- 149.

أقول: أورد على هذا الوجه أو يمكن أن يورد عليه بإيرادات:

1- عدم ثبوت وجوب جميع أنواع اللطف

الإيراد الأول: إن اللطف على ثلاثة أنواع(1):

1- اللطف المحصل لغرض الخلقة.

2- اللطف المحصل لغرض التكليف.

3- مطلق ما يقرّب العبد إلى الطاعة الواقعية ويبعده عن المعصية الواقعية. أو إلى تحصيل الملاكات الواقعية.

أما النوع الأول - أي اللطف المحصل لغرض الخلقة: فهو عبارة عن تهيئة المبادئ التي يتوقف عليها غرض الخلقة، بحيث لولا تهيئتها لصار الخلق عبثاً ولغواً.

ووجود هذا النوع هو مقتضى الحكمة الإلهية، ولا ينبغي الشكّ في لزومه، وإلا كان نقضاً للغرض. هذا من الناحية الكبروية.

وأمّا من الناحية الصغروية فقد طبق هذا النوع من اللطف - فيما طبق- على بعث الأنبياء والرسل (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

ثم أنه يدل على وجود الغرض وانتفاء العبث قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(2).

وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ

ص: 291


1- لم نتقيد في هذا المقام بالاصطلاحات التي جرى عليها المتكلمون (راجع: كشف المراد: 350 والقول السديد: 310 والمحصول 3: 191).
2- الذاريات: 56.

أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}(1).

وقوله عز من قائل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}(2).

وقد ذكر بعضهم: أن تحقق هذا النوع من اللطف يتوّقف على (العلم) و(القدرة). أي تبيين طريق العبادة وإعطاء المكلفين القدرة عليها.

وأما النوع الثاني - أي اللطف المحصل لغرض التكليف: فهو عبارة عما لولاه لما حصل الغرض من التكليف، ولا شكّ في لزومه أيضاً، بنفس البيان المتقدم. هذا من الناحية الكبروية.

وأما من الناحية الصغروية فقد طبق هذا النوع من اللطف على الوعد والوعيد والترغيب والترهيب.

ولا يخفى أن ذلك كله ليس دخيلاً في (تمكين المكلف من تحقيق الغرض) لكونه موقوفاً - عادة- على (العلم والقدرة فقط)، بل في (تحريك المكلف بإتجاه الغرض).

ومن هنا نجد أن الأنبياء (عليهم السلام) لم يكتفوا بإقامة الحجة على العباد، بل كانوا مبشرين ومنذرين أيضاً. قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}(3).

وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «أيها الناس: إن اللّه تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة(4)،

ص: 292


1- الأنبياء: 16- 17.
2- المؤمنون: 115.
3- النساء: 165.
4- لعل المراد بالأخلاق معناها الأعم الشامل لكل أنواع السلوك الجوارحي والجوانحي (منه (رحمه اللّه) ).

فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يُعَرِفَهم ما لهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلاّ بالترغيب، والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب.

والترغيب لا يكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك»(1).

وأما النوع الثالث - أي مطلق ما يقرب المكلفين إلى الطاعة الواقعية ويبعدهم عن المعصية الواقعية- فوجوبه محل تأمل؛ لعدم معلومية كونه غرضاً من الخلقة ولا غرضاً من التكليف ولم يثبت انطباق عنوان آخر ملزم عليه، فيدخل في (باب الرحمة)(2) لا في (باب الحكمة)(3).

2- الملاكات الأولية لم تجر العادة بحفظها، والثانوية محفوظة على كلّ تقدير

الإيراد الثاني: أنه اما أن يراد بالملاكات التي تقتضي قاعدة اللطف التحفظ عليها:

أ) الملاكات الثابتة بقطع النظر عن أحكام الشارع.

ب) أو الملاكات المترتبة على الأحكام الشرعية.

فلو «أريد من المصالح الحقيقية: الملاكات التكوينية الثابتة بقطع النظر عن أحكام الشارع وتشريعاته فمثل هذه الملاكات من الواضح عدم لزوم حفظها من قبل اللّه سبحانه على البشرية ولم تجر العادة أيضاً على حفظها

ص: 293


1- بحار الأنوار 5: 316.
2- وإن شئت فعبّر عن ذلك ب- (الفضل) (منه (رحمه اللّه) ).
3- المحصول 1: 191.

بتدخل مباشر من اللّه سبحانه، بل أوكل ذلك إلى خبرة البشر وبصيرتهم المتنامية المتطورة من خلال التجارب والممارسات ولعل الحكمة في ترك البشر وخبرته ليتكامل ويكدّ وتتفتّح قدراته وإمكاناته تدريجياً، والحاصل قاعدة اللطف لا يمكن تطبيقه على مثل هذه الملاكات الأولية التكوينية إما لعدم المقتضي لمثل هذا التطبيق أو للمزاحمة مع الملاك الذي ذكرناه، ولهذا لم يلزم على اللّه سبحانه أن يبعث أطباء كما بعث أنبياء، ولو أُريد تطبيقها على المصالح والملاكات البعدية التي تحصل في طول التشريع الرباني وهي ملاكات الطاعة والعبودية لله والتكامل المعنوي، وهي التي طريق حفظها منحصر باللّه سبحانه بما هو مشرع وواضع العقاب والثواب فكبرى تطبيق قاعدة اللطف على مثل هذه المصالح وان كان لا يخلو من وجه ولهذا طبقت القاعدة لإثبات أصل النبوة العامة. إلاّ أنّ صغرى ذلك غير منطبق في المقام؛ إذ لا فرق في حفظ هذه الملاكات الطولية بين الحكم الظاهري والواقعي فحتى إذا كان ما أجمع عليه الفقهاء خلاف الحكم الواقعي لا يكون ذلك خارجاً عن الشرع، بل على طبقه وبقاعدة أو أصل من أصوله ووظائفه المقررة ظاهرياً كما هو واضح»(1).

3- النقض بالجهل الواقع في موضوعات الأحكام الشرعية

الإيراد الثالث: لو كان مطلق ما يقرب العبد إلى الطاعة الواقعية واجباً للزم إرشاد الجهال بموضوعات الأحكام الشرعية إلى الواقع.

ولو كان كذلك لما جعلت الأصول الترخيصية التي أخذ في موضوعها

ص: 294


1- بحوث في علم الأصول 4: 306.

الجهل بالموضوع. ولما وقع مكلف في مخالفة الواقع نتيجة جهله بالموضوع أبداً والتالي باطل فالمقدم مثله.

بل ذكر الفقهاء: إنه لا يجب على المكلف تنبيه الجاهل بالموضوع على جهله، إلاّ فيما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج ولو من غير ذي الشعور، كالدماء مثلاً(1).

4- لا وجه للاقتصار على إلهام البعض الواقع

الإيراد الرابع: لو كان مطلق ما يقرب العبد إلى الطاعة واجباً لما اقتصر الباري سبحانه على إلهام البعض: الواقع؛ إذ القواعد العقليّة لا تقبل التخصيص.

فلا وجه لاختصاص البعض بقاعدة اللطف وحرمان الآخرين من بركاتها. وقد اكتفى بعضهم في تحقق اللطف بإظهار الخلاف ولو بلسان واحد، ولا يخلو من تأمل؛ إذ لا معنى لإرشاد واحدٍ وترك الآخرين يهيمون في أودية الضلال.

نعم، هو لطف في حقّ الأجيال الآتية، كي لا يتوهموا انعقاد الإجماع.

وبعبارة أخرى: ملاك اللطف (الحاجة) وهي في الجميع على حدّ واحد، فلا وجه باختصاص البعض به دون الآخرين، وأي فرق بين وقوع البعض في الضلال أو الكل؟

وعليه: فلابدّ من إلهام الجميع: الواقع.

وهو خلاف ما نجده خارجاً من الاختلاف الواقع في كثير من المسائل

ص: 295


1- العروة الوثقى، كتاب الطهارة، فصل يشترط في صحة الصلاة، المسألة (32).

الفقهية.

والخلاصة: إن إلهام البعض دون البعض تخصيص في القاعدة العقليّة، وإلهام الجميع خلاف ما نجده خارجاً. وبطلان التالي بقسميه دليل على بطلان المقدم.

5- المكلفون هم السبب في الحرمان

الإيراد الخامس: ما ذكره المرتضى (رحمه اللّه) أخيراً: من «أنه يجوز أن يكون الحقّ فيما عند الإمام (عليه السلام) والأقوال الأخر تكون كلها باطلة، ولا يجب عليه الظهور؛ لأنه إذا كنا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه ما معه من الأحكام نكون قد اتينا به من قبل نفوسنا منه. ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الذي عنده. »(1)

فإن قلت: إن الحكّام الظالمين بظلمهم، والآباء الأقدمين بخذلانهم كانوا هم السبب في الاستتار فما ذنبنا نحن، مع أن اللّه تعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(2).

قلت:

أولاً: إن عدم تحمل وزر الآخرين إنما هو في العقوبات الآخروية وفي العقوبات الشرعية - غالباً- أيضاً، أما في الآثار الوضعية التي تترتب على العمل في الدنيا فلا.

ص: 296


1- نقله عنه الشيخ الطوسي في عدة الأصول 2: 631.
2- الأنعام: 164.

قال اللّه تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}(1).

وقال سبحانه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}(2).

فما ارتكبه الظالمون والخاذلون الأقدمون كان سبباً لحرمان الأجيال الآتية من بركات ظهور المهدي المنتظر(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

كما أن مَن سمّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرم الأمة من بركات وجوده. وكما أن من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) حرم الأمة من بركات وجوده.

وثانياً: مع الغض عن ذلك نقول: إن ظهور الإمام المهدي(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) منوط بإصلاح مجموعة من المؤمنين - حُدّد عددهم في الروايات- أنفسهم، فمتى ما أصلحت أمرها ظهر الموعود، فالأمر ليس خارجاً عن أيدينا، ومن قبل أنفسنا أتينا.

والخلاصة: أن استمرار الغيبة مرتبط بأعمالنا ولذا قيل: «وجوده لطف, وتصرفه لطف آخر وعدمه منا».

نعم, من أصلح نفسه واصلح الآخرين بمقدار وسعه، دون أن يبلغ المجموع العدد المحدد، يكون متحملاً نتائج أعمال الآخرين.

6- المصالح التي اقتضت الغيبة تقتضي الكتمان

الإيراد السادس: إن المصالح التي اقتضت غيبة الإمام وأوجبت حرمان الناس من كثير من الفيوض المعنوبة، هي التي اقتضت رفع إيجاب إظهار

ص: 297


1- الأنفال: 25.
2- النساء: 9.

الحقّ، والردع عن الباطل فليس الحرمان من التعرف على حكم أعلى من التعرف على الإمام والاستضاءة بنوره (عليه السلام) ، ولا يتوهم من ذلك أنه ليس لوجوده في زمان الغيبة أي فائدة، فإن لوجوده (عليه السلام) فوائد مذكورة في محلّه ويظهر منه الشيء بعد الشيء، والأمر بعد الأمر بالطرق الظاهرة أو الخفية حسب ما اقتضاه الحكم والمصالح. ولا تقتصر فائدة وجوده عن فائدة وجود مصاحب موسى حيث كان له تصرفات لصالح الفقراء والمساكين، ومع ذلك ما كان يعرفه الخواص مثل موسى فضلاً عن العوام، وكانت تصرفاته بمرأى ومسمع من الناس وهم لا يرون بعض تصرفاته كخرق السفينة وقتل الغلام، وإلا لمنعوه عن الفعل»(1).

7- النقض بمن لم تتم عليه الحجة

الإيراد السابع: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) : من النقض بمن لم تتم عليه الحجة، كما في كثير من أهل البلاد البعيدة، ومن يموت في الفترة بين الرسل(2).

8- النقض بالإجماعين المتخالفين

الإيراد الثامن: ما ذكره رضوان اللّه عليه: من النقض بالإجماعين في عصرين يخالف أحدهما الآخر مما يوجد في الفقه، فما يقال في ذلك يقال بالنسبة إلى الإجماع في العصر الواحد(3). (فالقاعدة لا تدّل على أكثر من وجوب

ص: 298


1- المحصول 3: 195- 196.
2- الوصول 3: 457.
3- الوصول 3: 457.

الإرشاد حتى لا يلزم نقض الغرض لا أنها عامّة بحيث تقتضي كلّ إرشاد)(1).

9- الدليل أخصّ من المدّعى

الإيراد التاسع: ما ذكره المشكيني (رحمه اللّه) من أنه: يتم لو قام الإجماع على غير الإلزام وكان المحتمل كون الواقع هو الإلزام، أو قام على الإلزام وكان المحتمل إلزاماً آخر، أو في غيرهما لا يتحقّق ملاك اللطف(2).

هذا وقد يقال: بإن الملاك يتحقّق في غير ما ذكره باعتبار (اللوازم) لا باعتبار (المتعلق).

مثلاً: لو قام الإجماع على الإباحة وكان الحكم الواقعي هو الاستحباب فنسبة الإباحة إلى الشارع نسبة لا تطابق الواقع.

فالمجمعون وإن لم تفت مصلحة ملزمة في نفس المتعلق، إلاّ أنهم وقعوا في مفسدة النسبة المزبورة. ومقتضى اللطف الحيلولة دون ذلك.

10- عدم معلومية كون الواقع فعلياً منجّزاً

الإيراد العاشر: ما ذكره أيضاً.

من أن اللطف عبارة عن إتيان المقرب إلى الطاعة أو المبعد عن المعصية، وهما لا يتحققان إلاّ إذا كان الوجوب والحرمة المفروضان فعليين منجزين.

«وكون الواقع كذلك غير معلوم، أما لاحتمال عدم المقتضي للفعلية، أو لوجود المانع عنها، فكيف يستكشف كون ما اتفق عليه هو الواقع؟»(3) فتأمل.

ص: 299


1- الوصول 3: 457.
2- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 247.
3- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 247.
11- الإشكال في أصل القاعدة

الإيراد الحادي عشر: ما يظهر من الكفاية من بطلان القاعدة أساساً، قال: «وهي باطلة»(1).

وظاهر المحقق الأصفهاني: ارتضاء ذلك - بسكوته(2)، وصريح المشكيني موافقته على ذلك(3)، وممن صرح بذلك المفيد قال: «إن ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف إنما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه، وأنه لو لم يفعل لكان ظالماً»(4).

ويظهر النظر في ذلك مما تقدّم في الإيراد الأوّل. هذا تمام الكلام في الوجه الأول، وهو قاعدة اللطف الثابتة - كما هو المدّعى- بحكم العقل.

الوجه الثاني: الكتاب العزيز
اشارة

وقد استدل على حجية الإجماع بآيات من الكتاب العزيز.

الآية الأولى: آية المشاقة
اشارة

وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(5).

ص: 300


1- كفاية الأصول: 291.
2- نهاية الدراية 3: 192.
3- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 246.
4- أوائل المقالات: 25- 26.
5- النساء: 115.
بيان الاستدلال

أنه تعالى جمع بين (مشاقة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) و(اتباع غير سبيل المؤمنين) في الوعيد، فيكون محرّماً مثلها، فانه لا يحسن الجمع بين حلال وحرام في الوعيد، لكونه نظير قولنا: (من شرب الخمر وأكل الخبز استحق النار)، وإذا حرم (اتباع غير سبيل المؤمنين) وجب (اتباع سبيلهم) إذ لا واسطة بينهما، ويلزم من (وجوب اتباع سبيلهم): كون الإجماع حجة، كما يلزم من وجوب اتباع خبر الثقة: كونه حجة.

وبتقرير آخر: أن تتعلق الحرمة اما كلّ واحد منهما، وهو المطلوب.

أو أحدهما، وهو قبيح، لأنه ضم حلال إلى حرام، أو الجمع بينهما، وفيه أن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم.

وهذا الاستدلال مناقش فيه بمناقشات

1- القضية خارجية لا حقيقية

المناقشة الأولى: ما في المحصول من:

«إن الآية لا تدلّ على حجية إجماع الأمة بعد عصر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ وذلك لأنّ إيجاب التبعية لسبيل المؤمنين في عصره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأجل أنّ سبيلهم في ذلك العصر، هو سبيل نفس الرسول فكان الرسول والمؤمنون في جانب، والمنافقون والمشركون في جانب آخر، ومن المعلوم أنّ تبعية غير ذلك السبيل، ضلال ووبال، وتبعية مقابله هداية وسعادة، وأين ذلك عن كون نفس سبيل المؤمنين منفكّاً عن الرسول، حجّة. والآية ناظرة إلى عصره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومفادها قضية خارجية لا حقيقية»(1).

ص: 301


1- المحصول 3: 184.

والخلاصة: إن المراد ب- (المؤمنين) في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}: «المؤمنون في عصر الرسالة» لا مطلقاً، فلا يثبت المطلوب.

وفيه: إن الأصل في الأحكام الشرعية كونها مسوقة على نحو «القضايا الحقيقية» لا على نحو «القضايا الخارجية».

ف- «الموضوع» هو «اتباع غير سبيل المؤمنين» بنحو عام، وهذا العنوان كما ينطبق على «اتباع غير سبيل المؤمنين في عصر الرسالة» كذلك ينطبق على «اتباع غير سبيل المؤمنين في أي عصر» ولا وجه للتقييد.

ولو فتح هذا الباب - أي كون الأحكام الشرعية مسوقة على نحو القضايا الخارجية- لم يستقر حجر على حجر.

فيقال - مثلاً: إن الزكاة فرضت في «النقدين» لكونهما محور الحركة الاقتصادية في عصر التشريع وحيث أن «الدينار والدرهم» محور الحركة الاقتصادية في العصر الراهن فتجب فيها الزكاة أيضاً، أو أن جعل دية المرأة على النصف من دية الرجل كان باعتبار أنه لم يكن للمرأة «قيمة اقتصادية» لتساوي «القيمة الاقتصادية للرجل» وحيث أنها متساوية فعلاً فيها فيجب أن تتساوى دية الاثنين. وهكذا وهلم جرا.

2- الانصراف عن الأحكام الفرعية

المناقشة الثانية: دعوى انصراف الآية الكريمة عن «اتباع غير سبيل المؤمنين في الأحكام الفرعية»، واختصاصها في «اتباع غير سبيلهم في الأحكام الأصولية», وذلك بالشك أو الشرك، أو الكفر، أو النفاق، أو الارتداد، ويدل على ذلك ما في تفسير القمي من نزول الآية في «بشير»

ص: 302

الذي كان منافقاً ثم كفر ولحق بمكة(1).

وفيه: أن خصوص المورد لا يخصص الوارد.

والانصراف ممنوع, ويؤيده: ما روي من استدلال أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالآية الكريمة في الفروع.

فمن ذلك: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه أن: «... فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه ما تولى»(2).

ومن ذلك: ما في تفسير العياشي عن أحدهما(عليهما السلام): «لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا: أجعل لنا إماماً يؤمنا في شهر رمضان [الظاهر أن المراد في صلاة التراويح التي ابتدعها عمر بن الخطاب، ثم قال: «نعمت البدعة هذه»]. فقال: لا. ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وارمضاناه! فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعهم وما يريدون، ليصلي بهم من شاءوا، ثم قال: فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا»(3).

اللّهم إلاّ أن يقال: إن كلا الخبرين يرتبطان بمخالفة الإمام

ص: 303


1- تفسير القمي 1: 152.
2- نهج البلاغة: 366.
3- تفسير العياشي 1: 275.

المعصوم (عليه السلام) , فتأمل.

3- ظاهر الجملة الشرطية ترتّب تمام التالي على تمام المقدم

المناقشة الثالثة: إن ظاهر الجملة الشرطية الربط بين (تمام المقدم) و(تمام التالي) وترتب (تمام التالي) على (تمام المقدم) لا على كلّ بعض من أبعاضه. بمعنى كون كلّ من المذكورات فيه: بعض العلة التامة.

والمذكور في جملة الجزاء: (المجموع المركب من توليته ما تولى واصلائه جهنم)، والمذكور في الجملة الشرط: (المجموع المركب من مشاقة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واتباع غير سبيل المؤمنين).

مفاد الآية الكريمة ترتب ذلك المجموع المركب على هذا المجموع المركب، فوزان الآية الكريمة هو وزان جميع الجمل الشرطية التي رتب فيها تالٍ على مقدم ذي جزئين.

وعليه: فلا تدل الآية الكريمة على حرمة الاتباع المزبور؛ لكونه جزء العلة لا علّة تامة.

إشكالات ودفوع

لا يقال: إن هذا الأثر مترتب على (صرف مشاقة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) فما معنى ضم (اتباع غير سبيل المؤمنين) إليها في ترتب هذا الأثر؟

فإنه يقال: لم يعلم ترتب ذلك على صرف (المشاقة) إذ المشاقة بمعنى المخالفة بأن يكون في شق والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شق آخر، ومطلق المخالفة لا يستتبع اصلاء النار، فمن ارتكب صغيرة من الصغائر - مثلاً- لا يستحق النار.

ص: 304

لا يقال: المشاقة ليست بمعنى مطلق المخالفة، بل بمعنى المنازعة والخصومة، يقال: «تشاق القوم» أي تخالفوا وتعادوا.

و«تشاق الرجلان» أي تلاحا وأخذا في الخصومة يميناً وشمالاً.

قال اللّه تعالى: {ذَلِكَ

بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1).

وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(2).

فإنه يقال: لا مانع من ترتب الأثر على (شيء) وترتبه أيضاً على (المجموعة منه ومن شيء آخر) وإنما ذكرا معاً لكونه محل الكلام.

كما يقال: «إن القتل وأكل الأموال بالباطل سبب العقاب» مع كون أحدهما سبب العقاب أيضاً.

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}(3). مع أن الحبط مترتب على صرف الكفر.

قال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(5).

ص: 305


1- الأنفال: 13.
2- الحشر: 4.
3- محمد: 32.
4- المائدة: 5.
5- الأنعام: 88.

لا يقال: لو كان «الاتباع» مباحاً فما معنى مدخليته في ترتب مثل هذا الأثر؟

فإنه يقال: قد يكون للهيئة التركيبية أثر لا يكون للأبعاض، ولذا أمكن أن يكون ضم مباح إلى مباح سبباً للتحريم.

كما لو فرض ذلك في قولنا: «أيما امرأة خرجت من بيتها وتعطرت لعنتها ملائكة السماء والأرض».

وفي المعالم: ان الجيش يفتح المدن، مع أن الآحاد التي تركب منها لا يستطيع ذلك.

وفي الرسائل: إن الدال من روايات الاستصحاب غير معتبر، والمعتبر منها غير دال، فلعل الاستدلال بالمجموع من حيث المجموع.

وفي الطب: قد يترتب قطع الصفراء - مثلاً- على دواء مركب من عنصرين، مع إن هذا الأثر لا يترتب على كلّ منهما منفرداً.

وفي العلوم الطبيعية: الماء يروي، مع أنه مركب من عنصرين، كلّ واحد منهم بمفرده لا يروي العطشان.

وعليه، فقد يكون ل- (المشاقة) مع (خرق الإجماع العملي للمؤمنين) من الأثر السلبي ما لا يكون لأحدهما، فإن خرق جميع السنن الصالحة يبدأ بعمل فرد - عادة- وينتهي إلى جرأة الكثير.

وقد ورد في الحديث الشريف: «من سنَّ سنّةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (1).

ص: 306


1- بحار الأنوار 71: 204.

لا يقال: إنه يظهر من الروايتين السابقتين أن (صرف الاتباع المزبور) مبغوض،

فإنه يقال: هذا خروج عن الاستدلال بالكتاب العزيز إلى الاستدلال بالسنة الشريفة، وسيأتي الكلام في ذلك إنْ شاء اللّه تعالى في دليل (السنة).

وخلاصة المقال: إنه لم تظهر دلالة الآية الكريمة على كون (صرف اتّباع غير سبيل المؤمنين) مبغوضاً إلى درجة التحريم.

4- «المؤمنين» جمع محلّى فيدخل فيه المعصوم

المناقشة الرابعة: إن «المؤمنين» جمع محلّى باللام، وهو يفيد العموم، فيدخل فيهم «الإمام المعصوم (عليه السلام) »، بل هو سيدهم وإمامهم.

ومن المعلوم: أن من يتبع سبيلاً غير السبيل الذي فيه الإمام المعصوم (عليه السلام) مشمول لهذا الوعيد، إلاّ أن سبيل الإمام المعصوم (عليه السلام) في الإجماعات غير محرز عادةً، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

هذا ولكن قد يقال: أن المراد ب- «سبيل المؤمنين» معناه العرفي لا الدقي العقلي، فلا ينثلم بخروج الواحد قطعاً، فكيف إذا شك في الخروج؟

والمعنى العرفي ل- «سبيل المؤمنين» متحقّق حين إجماع الفقهاء، وإن شكّ في دخول الإمام المعصوم (عليه السلام) معهم.

نعم, لو علم بمخالفته (عليه السلام) فهو غير مشمول للآية قطعاً, لكن المشهور عدم قبول التسامحات العرفيّة، فأنهم يقولون: إن فهم العرف حجة في باب «المفاهيم» لا في باب «التطبيقات».

وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في ذلك في «الحاشية على المسائل

ص: 307

المتجددة» (1).

الآية الثانية: آية الاعتصام

وهي قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}(2).

بتقريب: إن الإجماع حبل اللّه تعالى، فيجب الاعتصام به ولا يجوز التفرق عنه.

وفيه: أن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع.

وكون «المجمع عليه»: «حبل اللّه» أول الكلام. والحكم لا يتكفل موضوعه. فالآية الكريمة لا تتكفل بإثبات الموضوع.

الآية الثالثة: آية (كنتم خير امة)

قال اللّه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(3).

وتقريب الاستدلال: إن اللّه تعالى وصف هذه الأمة بأنه خير أمة، وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا يجوز أن يقع منها خطأ، لأن ذلك يخرجها عن كونها (خيراً) ويخرجها عن كونها «آمرة بالمعروف» إلى أن تكون «آمرة بالمنكر» ومن كونها «ناهية عن المنكر» إلى أن تكون «ناهية

ص: 308


1- (المسائل المتجددة) كتاب يضمّ بين دفتيه ألف مسألة فقهية من المسائل المستحدثة المتجددة مع الاستدلال عليها، لآية اللّه العظمى الإمام السّيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) , ونظراً لأهميته العلمية وفائدته العملية قد علّق عليه نجله آية اللّه الفقيه المحقق السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) .
2- آل عمران: 103.
3- آل عمران: 110.

عن المعروف». ولا ملجأ إلاّ بالامتناع من وقوع شيء من القبائح من جهتها.

وفيه:

أولاً: إن المخاطب هو المجموع بما فيهم الإمام المعصوم (عليه السلام) وهو لا يخلو منه زمان.

وثانياً: أن إثبات «الخيرية» لا يستلزم «الإصابة»؛ إذ الحسن والقبح على أنواع:

1- أن يتحقّق في عملٍ (الحسن الفعلي) و(الفاعلي).

2- أن يتحقّق فيه (القبح الفعلي) و(الفاعلي).

3- أن يتحقّق فيه (الحسن الفعلي) و(القبح الفاعلي).

4- بالعكس.

فقد يكون الإنسان خيّراً ومثاباً على عمله، وإن كان عمله خطأ، والخيار يخطأون وإن كانوا معذورين، والمطلوب في المقام إثبات مطابقة الإجماع للواقع.

و«يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» معناه صدورهما منهم، لا أن كلّ ما يصدر منهم «أمر بالمعروف» و«نهي عن المنكر»، فوزانه وزان قولنا: «فلان يصلي» أي أنه تصدر منه الصلاة، لا أن كلّ ما يصدر منه «صلاة».

الآية الرابعة: آية الشهادة

وهي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(1).

ص: 309


1- البقرة: 143.

بتقريب: إن الوسط هو العدل والخيار. والعدل والخيار لا يصدر منه إلاّ الحقّ .

وفيه: إن ثبوت ذلك لا يلزم العصمة.

مع أن الخطاب للمجموع بما فيهم المعصوم (عليه السلام) . مع أنه قد يكون باعتبار البعض، والنسبة إلى الكل باعتبار وجود البعض فيهم، وبذلك تكون الشهادة خاصة لا عامة، ويكون وزان الآية الكريمة وزان قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً}(1).

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «فإن ظننت أن اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر تطلب شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية»(2).

فتحصّل من جميع ذلك أن في دلالة الكتاب العزيز على حجية الإجماع المحصل نوع غموض، فتأمل.

الوجه الثالث: السنة الشريفة
اشارة

وفيها روايات:

1- عدم اجتماع الأمة على ضلالة

الرواية الأولى: ما روي عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله: «لا تجتمع أمتي

ص: 310


1- المائدة: 20.
2- تفسير البرهان 1: 160.

على ضلالة»(1). وفي لفظ آخر: «لا تجتمع أمّتي على الضلالة».

وقد ذكر المحقق الكاظمي (رحمه اللّه) أن العلامة وافق العامة على ذلك في أوائل المنتهى.

المائة وأدّعى في آخر الأول من كتاب (الألفين) أنه متفق عليه - أي بين الفريقين- . وعدّد في القواعد: من خصائص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عصمة أمته - بناء على ظاهره -. وكذا في التذكرة(2).

مناقشات:

ويرد على ذلك:

أولاً: الإشكال في الرواية سنداً؛ إذ لم نجدها بطريق معتبر.

أ) فقد رويت في تحف العقول(3) والبحار(4) عن الإمام الهادي (عليه السلام) مرسلة, والإمام الهادي (عليه السلام) ينقلها عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ب) وقد نقلها المحدّث البحراني (رحمه اللّه) (5) عن الديلمي في كتابه قال: روي. ونحوه عن الخصيبي في هدايته.

ج) وفي نور البراهين للجزائري، قال: قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (6).

د) وفي المستدرك قال: النبوي(7).

ص: 311


1- تحف العقول: 458.
2- كشف القناع: 6.
3- تحف العقول: 458.
4- بحار الأنوار 2: 225.
5- مدينة المعاجز 3: 14.
6- نور البراهين 2: 405.
7- مستدرك سفينة البحار 2: 101.

ه) وفي شرح أصول الكافي للمازندراني قال: لقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1). وقد نقله عن الاحتجاج عن الإمام الهادي (عليه السلام) .

و) وفي الأربعين للماحوزي: روي عن عكرمة عن ابن عباس - في حديث- فقال أبو بكر: حديث سمعته عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا تجتمع أمتي على الضلالة. فلما رأيت اجتماعهم أتبعت حديثه وأعطيتهم الإجابة ولو علمت أن أحداً يختلف لامتنعت عن ذلك!

فقال (أمير المؤمنين (عليه السلام) ): أكنت من الأمة أو لم أكن وكذلك العصابة مثل سلمان, وعمار, وأبي ذر, والمقداد, وسعد بن عبادة ومَن معه من الأنصار.

قال: كلّ من الأمة.

فقال: فكيف تحتج بالحديث مع تخلّف هؤلاء عنك؟

قال: ما علمت تخلفهم إلاّ بعد إبرام الأمر!(2)

ثانياً: سلّمنا، لكن الأمة تشمل المعصوم (عليه السلام) .

ومن المعلوم أن الأمة المشتملة على المعصوم (عليه السلام) لا تجتمع على ضلالة، وقوّى هذا الوجه حجية الإجماع في حدّ ذاته. اللّهم إلاّ أن يقال: بالتسامح العرفي كما سبق.

ثالثاً: ما قيل: من إن الضلالة تستبطن الأثم والانحراف، وهي أخص من الخطأ وعدم الحجية المبحوث عنها في الإجماع، فإن خطأ المجمعين

ص: 312


1- شرح أصول الكافي 2: 340.
2- الأربعين للماحوزي: 273.

جميعاً في مسألة فرعية لا يساوي ضلالتهم.

ويرد عليه:

أن (الضلالة) في قبال (الهداية) فكلما لم تكن الهداية كانت الضلالة. قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}(1).

وقال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(2).

وقال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(3).

نعم, الضلال قد يستتبع العقوبة وقد لا يستتبعها، بل يكون معذوراً.

اللّهم إلاّ أن يقال: بانصراف لفظة (الضلالة) إلى (ما يستبطن الاثم والانحراف). فتأمل.

رابعاً: ما في المحصول: من أنه خبر واحد لا يمكن الاحتجاج به على مسألة أصولية(4).

وفيه: أن الملاك «الحجية» ولا فرق بين كون متعلق الحجة مسألة فرعية أو أصولية.

وما ذكر تقييد لإطلاق أدلة حجية أخبار الثقات بلا دليل واضح، مثلاً قوله (عليه السلام) : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا» (5)

ص: 313


1- الضحى: 7.
2- الكهف: 104.
3- الفاتحة: 7.
4- المحصول 3: 286.
5- وسائل الشيعة 27: 150.

مطلق يشمل ما روي في الأصول والفروع، فالتقييد بالأخير مما لم يظهر له وجه.

وهكذا سائر الأخبار والأدلة.

2- مقبولة عمر بن حنظلة

الرواية الثانية: مقبولة عمر بن حنظلة، وقد جاء فيها: «... المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(1).

وهذه الرواية يستدل بها في أبواب متعددة.

منها: باب «التعادل والتراجيح».

ومنها: باب «حجية الشهرة الفتوائية».

ومنها: باب «ولاية الفقيه».

ومنها: باب «تقليد الأعلم».

مناقشات:

وقد اشكل في ذلك من جهات:

أ) ضعف السند بابن حنظلة

الأولى: ضعف السند بعمر بن حنظلة؛ إذ لم يرد في حقه توثيق ولا مدح.

والجواب عن ذلك: أن هنالك طريقين للتخلّص عن هذا الإشكال:

الأول: إثبات التوثيق المخبري لعمر بن حنظلة.

ص: 314


1- الكافي 1: 68؛ تهذيب الأحكام 6: 302؛ وسائل الشيعة 27: 106.

الثاني: إثبات التوثيق الخبري لخصوص هذا الخبر.

أما الطريق الأول (التوثيق المخبري لابن حنظلة): فيمكن إثبات التوثيق المخبري لابن حنظلة أو المدح بثلاثة أمور:

الأمر الأول: الروايات الواردة في شأنه، هي ثلاث روايات:

أ) ما في بصائر الدرجات, عن بعض أصحابنا, عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : اني أظن أن لي عندك منزلة. قال: أجل(1).

وفيه: أنه مرسل.

مضافاً إلى كونه دورياً، لأنه إثبات وثاقة شخص بادعائه.

والقول: بإن الشيعي لا يكذب على إمامه مردود: بأنه مع الفسق لا رادع عن الكذب، بل عما فوقه.

أقصى الأمر: إفادته للظن، مع أن الظن لا يغني من الحقّ شيئاً.

والإنسداد الصغير في باب الرجال لا يثبت حجية الظن، كما مرت الإشارة إليه سابقاً.

ب) ما في روضة الكافي, عن محمد بن يحيى, عن أحمد بن محمد, عن علي بن الحكم, عن عمر بن حنظلة, عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم فإن الناس لا يتحملون ما تحملون»(2).

ويرد عليه إشكال الدور المتقدم.

ج) ما في الكافي عن يزيد بن خليفة أنه قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن

ص: 315


1- بصائر الدرجات: 4.
2- الكافي 8: 334.

عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : إذاً لا يكذب علينا»(1).

وفيه:

أولاً: الإشكال سنداً، فإن تلك الرواية ضعيفة، فإن يزيد هذا كعمر لم تثبت وثاقته.

نعم, هنالك طريق لإثبات وثاقة يزيد، وهو أنه روى عنه (صفوان بن يحيى) بسند معتبر(2).

بناءً على المختار من وثاقة من روى عنه (أحد الثلاثة) وهو المبحث المذكور في علم الرجال بعنوان (مشايخ الثقات).

وثانياً: الإشكال دلالة، فإن كلمة «إذا» تفيد «الجزاء» و«الترتب» فيكون ظاهر الحديث: «كونه لا يكذب علينا في خصوص هذا الخبر، لا في كلّ خبر». لا أقل من الإجمال، وهو يقتضي السقوط. فتأمل.

الأمر الثاني: رواية الاجلاء عنه كزرارة, وعبد اللّه بن مسكان وأضرابهم.

وفيه: أن رواية الاجلاء لا تدل على الوثاقة.

نعم, لو أكثر الاجلاء الرواية عن شخص، وكان ذلك في باب الأحكام الإلزامية، أو الأصول العقائدية واعتمدوا عليها، كان ذلك دليلاً على الوثاقة. وتفصيل الكلام موكول إلى بابه.

الأمر الثالث: أنه روى عنه (صفوان بن يحيى)، فيدل ذلك على وثاقته،

ص: 316


1- الكافي 3: 275؛ وسائل الشيعة 4: 133.
2- الكافي 3: 275.

بناءً على المختار، كما سبق قبل قليل.

وأما الطريق الثاني (التوثيق لخصوص المقبولة): فيمكن إثبات التوثيق الخبري لخصوص هذا الخبر بأمرين:

الأمر الأول: إنّ هذه الرواية قدر رواها المشايخ الثلاثة، خاصة مع لحاظ ضمان الكليني, والصدوق.

الأمر الثاني: أنها قد تلقاها الأصحاب بالقبول حتى اشتهرت بالمقبولة.

لا يقال: إنه احتجاج بالقبول، وهو إجماع, أو أضعف من الإجماع، لإثبات حجية الإجماع، فيؤول إلى إثبات الشيء بنفسه.

فأنه يقال: إن القبول قد يورث الاطمئنان بالصدور، فيكون استدلالاً بالاطمئنان, فتأمّل.

وعليه: فالظاهر: كون الرواية معتبرة.

ب) المقبولة في الروايتين لا الرأيين

الجهة الثانية: أن المقبولة وردت في الروايتين لا في الرأيين.

وفيه: أن مقتضى التعليل «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» العموم، فإن العلة تعم وتخصص.

وكون اللاّم للعهد خلاف الظاهر، وخلاف ما التزموا به في نظائر المقام، كما في قوله (عليه السلام) : «فإنّ اليقين لا ينقض بالشك» (1).

ج) المجمع عليه يشتمل على قول المعصوم (عليه السلام)

الجهة الثالثة: أن الموضوع «المجمع عليه» فيكون الإمام المعصوم (عليه السلام)

ص: 317


1- الحدائق الناضرة 5: 274.

داخلاً فيه.

وفيه: إن ذلك يستلزم تخصيص المورد؛ إذ مورد الرواية فيما لا يعلم الحكم الواقعي للإمام المعصوم (عليه السلام) .وكذا تدل عليه كلمة «أصحابك».

الجهة الرابعة: ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث الشهرة الفتوائية.

وسيأتي دفعه هنالك إن شاء اللّه تعالى.

3- الروايات الناهية عن اتباع غير سبيل المؤمنين

وقد مضت روايتان دالتان على ذلك في الآية الأولى.

وفي المقام روايات أخرى:

منها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «... ومن لم يعطها (أي الزكاة) طيب النفس بها ... فانه جاهل بالسنة. طويل الندم بترك أمر اللّه عزّ وجل والرغبة عما عليه صالحوا عباد اللّه يقول اللّه عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}(1)»(2).

ومنها: ما روي عنه (عليه السلام) : «وحري أن ينزع من دينه من اتبع غير سبيل المؤمنين»(3).

ومنها: ما عن أبان بن محمد قال: كتبت إلى الإمام الرضا (عليه السلام) : جعلت فداك، قد شككت في إيمان أبي طالب.

فكتب: «... أما بعد فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، إنّك إن لم

ص: 318


1- النساء: 115.
2- الكافي 5: 37.
3- تحف العقول: 167.

تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار»(1).

4- الروايات الدالة على لزوم اتباع الجماعة

منها: ما في نهج البلاغة من قوله (عليه السلام) :«والزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه على الجماعة»(2).

ومنها: ما فيه أيضاً: «... فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة»(3).

ومنها: ما في الصحيفة الكاملة السجادية من قوله (عليه السلام) : «وأكمل لي ذلك بدوام الطاعة ولزوم الجماعة»(4).

ومنها: ما في مسائل علي بن جعفر (عليه السلام) من قوله: «ثلاث موبقات - وعدَّ منها- وفراق الجماعة»(5). إلى غير ذلك مما يعسر ضبطه والإحاطة به.

ويرد على هاتين الطائفتين: بعض ما تقدّم. فتأمل.

والإنصاف إن هذا الوجه (أي السنة) دال على حجية الإجماع، وإن كانت بعض رواياته لا تخلو من ضعف، فتأمل.

الوجه الرابع: كاشفية الإجماع عن الحجة المعتبرة الخاصة
اشارة

ولنذكر مقدمة: إن الملازمة على أربعة أنواع:

ص: 319


1- كنز الفوائد: 80.
2- نهج البلاغة 2: 8.
3- نهج البلاغة 2: 31.
4- الصحيفة السجادية الكاملة: 104.
5- مسائل علي بن جعفر: 345.

1- الملازمة العقليّة: وتتحقق في موارد استحالة الانفكاك عقلاً، كالملازمة بين الخبر المتواتر وحصول القطع.

2- الملازمة الشرعية: وتتحقق في موارد التلازم الشرعي بين أمرين كالملازمة بين القصر والإفطار، وبالعكس. وكالملازمة بين النجاسة والحرمة.

3- الملازمة العادية: وتتحقق في موارد التلازم الغالبي بين أمرين، وإن كان لا يستحيل الانفكاك عقلاً. كما في التلازم بين طول العمر والهرم.

فإن الانفكاك ممكن, كما تحقق في الإمام المنتظر(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

4- الملازمة الاتفاقية: كالقطع الحاصل اتفاقاً من إخبار شخص بخبر.

وهنالك محاولة لإرجاع جميع أنواع الملازمات إلى (الملازمة العقليّة) ونظيره ما ذكره صاحب الكفاية من رجوع جميع أنواع المقدمات إلى المقدمة العقليّة، وليس البحث في ذلك بمهم فعلاً.

ومبنى هذا الوجه هو (الملازمة العادية) أو (الاتفاقية).

وعلى كلٍ فقد قال في المحصول: «أن يستكشف من إجماع المجمعين وجود الدليل المعتبر الذي لو وقفنا عليه كما وقفوا لحكمنا بما حكموا به ولم نتخطه، فيكون الإجماع بهذا الاعتبار من الأدّلة المعتبرة غير المفيدة للعلم، وهذا هو الوجه السابع من اثني عشر وجهاً في كلام المحقق التستري لحجية الإجماع المحصَّل وعند ذلك يحصل القطع من الإجماع على وجود الدليل المعتبر.

وهذا الوجه هو المعتمد خصوصاً إذا وقفنا على أصول الفقهاء في

ص: 320

العصور الماضية حيث إنهم صرفوا أعمارهم في حلّ مشكلاته وكشف معضلاته والتزموا بالإفتاء بالسماع عن المعصومين، وبالجملة: ملاحظة احتياطهم في الإفتاء وعدم العمل إلا بالنصوص دون المقاييس، تورث القطع بوجود حجّة في البين وصلت إليهم ولم تصل إلينا.

لا أقول: إن إجماعهم يكشف عن مطابقة رأيهم لنفس الواقع ونظر المعصوم. بل إن أجماعهم مع تورعهم في الفتيا، يكشف عن وجود حجة معتبرة في البين فإجماعهم كاشف عن الحجة على الحكم الواقعي لا عن حكم واقعي.

ويجري ذلك في الخبر المجمع عليه وإن كان ضعيفاً إذا وقع مورداً للاستناد؛ إذ يكشف عن وجود قرينة مقتضية عن جواز الاعتماد عليه لا العلم بصدقه – وسيوافيك تحقيقه في مبحث الشهرة- كما هو الحال في إجماعات المخالفين، إذ يكشف عن وجود دليل معتبر عندهم، وإن لم يكن معتبر عندنا»(1).

ثم اشترط في كاشفية الإجماع من وجود الدليل المعتبر شرطين:

«1- أن يستكشف من حال المجمعين عدم اعتمادهم في الإفتاء إلاّ على النصوص والروايات، لا على القواعد والأصول مطلقاً أو في كتابٍ خاص، كما هو الحال في الكتب المؤلّفة في الأُصول المتلقاة من الأئمة، مثل رسالة علي بن بابويه إلى ولده، وكتابي المقنع والهداية للصدوق، والمقنعة للشيخ المفيد، والنهاية للشيخ، وأضرابها. ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على

ص: 321


1- المحصول 3: 198- 199.

انتصار المرتضى وناصرياته، لاعتماده فيهما في الإفتاء على القواعد والأصول.

2- أن تكون المسألة من المسائل المعنونة في عصر الأئمة قطعاً أو ظنّاً، لا من المسائل التفرعية التي استنبط العلماء حكمها من الأصول والقواعد، ويُعلم ذلك من التعرّف على الكتب المؤلّفة في تلك العصور، فمنها ما ألّف في هذا المضمار، ومنها ما أُلّف في التفريع كالمبسوط وغيره، والإفتاء لا يكشف عن النص إذا ورد في القسم الثاني، فإذا اجتمع الشرطان، يكون احتمال اعتمادهم على أصل باطل أو قاعدة غير صحيحة، احتمالاً ضئيلاً لا يُعتنى به ويكون نفس الإجماع كاشفاً عن دليل وصل إليهم، ولم يصل إلينا»(1).

إيرادات
اشارة

وقد أورد على هذا الوجه بإيرادات:

الإيراد الأول: احتمال اعتمادهم على قاعدة أو أصل لا نرى تماميتهما أو انطباقهما

الإيراد الأول: ما في المصباح من احتمال اعتمادهم على قاعدة أو أصل لا نرى تماميتهما، أو لا نرى انطباقهما على المورد.

مثال الأول: الافتاء بالاستحباب اعتماداً على قاعدة «التسامح في أدلة السنن»].

ومثال الثاني: دعوى السيد المرتضى الإجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف استناداً إلى أن أصالة البراءة: مما اتفق عليه العلماء(2).

ص: 322


1- المحصول 3: 200- 201.
2- مصباح الأصول 2: 163.

وأجاب عنه في المحصول: باندفاع هذا الإيراد بالشرطين المذكوين قبل قليل.

الإيراد الثاني: عدم صلاحية المدارك المتحملة للإجماع للمدركية

الإيراد الثاني: ما في النهاية من: «إن مدارك الحكم الشرعي منحصرة في غير الضروريات وما أشبهها من المسلمات في أربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والدليل العقلي الذي يتوصل به إلى الحكم الشرعي، وحيث إن الكلام في نفس الإجماع فما يستند إليه المجعول لا محالة غيره من المدارك الثلاثة الآُخر.

ومن الواضح أن المدارك لهم ليس هو الكتاب وعلى فرض استظارهم من آية خفيت علينا جهة الدلالة لم يكن فهمهم حجة علينا، وكذا ليس مدركهم الدليل العقلي، إذ لا يتصور قضية عقلية يتوصل بها إلى الحكم الشرعي كانت مستورة عنا فينحصر المدرك في السنة وحيث لا يقطع، بل ولا يظن بسماعهم لقول الإمام (عليه السلام) أو برؤيتهم لفعله (عليه السلام) أو لتقريره (عليه السلام) ، بل ربما لا يحتمل ذلك في زمان الغيبة إلا من الأوحدي، فلا محالة ينحصر المدرك في الخبر الحاكي لقوله (عليه السلام) أو فعله (عليه السلام) أو تقريره (عليه السلام) , وفيه المحذور من حيث السند والدلالة.

أما من حيث السند فبأن المجمعين لو كانوا مختلفي المشرب من حيث حجة الخبر الصحيح عند بعضهم والخبر الموثق عند بعضهم الآخر والخبر الحسن عند آخرين لدلّ اتفاقهم على الحكم على أن المستند في غاية الصحة، وأما لو كانوا متفقي المسلك بأن كانوا يعتقدون حجية الخبر الموثق، فمن لا يعتقد إلا بالخبر الصحيح لا مجال له في الإستناد إلى هذا

ص: 323

الإجماع فضلاً عما إذا كانوا يعتقدون حجية الخبر الحسن، فإن الغالب لا يمكن استنادهم إليه، وأما من حيث الدلالة فأن الخبر المفروض إن كان نصاً في مدلوله صح الإستناد إليه منا أيضاً إلاّ أنه نادر واحتماله غير مانع، لأنه لا يتعين أن يكون نصاً في مدلوله لحجية الظاهر أيضاً، وإن كان ظاهراً في مدلوله فلا يجدي أيضاً؛ إذ ظهور دليل عند طائفة لا يستلزم الظهور عند آخرين وفهمهم ليس جية علينا، بل قد وجدنا المشهور من المتقدمين على استفادة النجاسة من أخبار البئر مع أن الأمر عند المتأخرين بالعكس، فلعل الخبر إذا نقل إلينا لم يكن ظاهراً عندنا»(1).

قوله: «لدل اتفاقهم على الحكم على أن المستند في غاية الصحة» لا يخلو من نظر؛ إذ مع الاختلاف في المشارب وتطابق نظر بعضهم مع نظرنا في أن الحجية مختصة ب- (خبر الثقة) مثلاً، قد لا يكون المستند في نظرنا في غاية الصحة، لاحتمال خطأهم في التطبيق.

مثلاً: اعتبروا الوكالة عن الإمام (عليه السلام) دليلاً على الوثاقة، فاعتمدوا على الراوي، مع أنها لا تدل عليها في نظرنا.

وكذا في أمثال ذلك ك- (شيخوخة الإجازة) و (رواية الاجلاء) و(رواية المشايخ الثلاثة) الخ.

إشكالان على الإيراد الثاني

ويرد على أصل الاستدلال:

ص: 324


1- نهاية الدراية 3: 185-186.

أ) احتمال استناد الإجماع إلى دليلين آخرين

أولاً: إن المستند للمجمعين يمكن أن يكون أمران آخران لا يترتب عليهما محذور.

الأول: ارتكاز المتشرعة

بمعنى إن الحكم الشرعي كان واضحاً لديهم، بحيث لم يكن الحكم - بعد هذا الوضوح- بحاجة إلى إقامة الدليل.

وهذا الوضوح كان نتيجة «التلقي» من الطبقات السابقة، حتى نصل إلى الطبقة المعاصرة للمعصومين (عليهم السلام) .

فيكون ذلك كاشفاً إنياً عن الموقف الشرعي.

فالإجماع نتيجة الارتكاز، والارتكاز نتيجة التلقي من الطبقات السابقة، وموقف الطبقات السابقة معلول للموقف الشرعي وكاشف عنه.

ولكي تتضح مسألة (الوضوح) نمثل مثلاً خارجياً، ثم نسوق بعض الأمثلة الشرعية، ولا مناقشة في الأمثال؛ إذ الغرض مجرد التقريب إلى الذهن.

أما المثال الخارجي: فهو «وضوح» وثاقة الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) عندنا، وهذا الوضوح تلقيناه من الطبقة السابقة علينا، وقد تلقوه من الطبقات السابقة عليهم، حتى تصل النوبة إلى الطبقة التي عاصرت الشيخ وعايشته وكانت وثاقته من المسلّمات عندهم.

وإذا سألتم عن الدليل على وثاقة الشيخ فقد تجيبون: إن وثاقته لا تحتاج إلى دليل؛ لأن القضايا النظرية هي التي تحتاج إلى الدليل، لا القضايا الضرورية.

ص: 325

أمثلة فقهية على الارتكاز المتشرعي

وأما الأمثلة الشرعية:

1- هل يجوز الوضوء باللّبن؟

قد تجيبون: لا. ولو سألتهم: ما الدليل؟ فقد تجيبون: لا نحتاج إلى الدليل لأن المسألة واضحة، فإن الوضوء الذي ورثناه من آبائنا، وهم من آبائهم، حتى تصل إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليس الوضوء باللبن وأمثاله.

2- ظواهر الألفاظ حجة، وهذه المسألة من الواضحات، وقد لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليها، بل ذكر بعضهم: أنها ليست من مسائل علم الأصول، لكونها من القضايا البديهية.

3- قد يقال: إن لبس المرأة لباساً ضيقاً يحكي كلّ تقاطيع بدنها من المنكرات في أذهان المتشرعة، وقد يقال: أن ذلك من الواضحات، إذ الحجاب الذي تلقيناه من الشارع لا يشمل مثل هذا.

4- عدم جواز مرجعية المرأة للتقليد ربما يقال أنها من الواضحات في أذهان المتشرعة.

قال في التنقيح: «إنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أن الوظيفة المرغوبة من النساء إنما هي التحجب والتستر وتصدي الأمور البيتية دون التدخل فيما ينافي تلك الأمور. من الظاهر ان التصدي للافتاء بحسب العادة جعل للنفس في معرض الرجوع والسؤال لأنهما مقتضى الرئاسة للمسلمين, ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً كيف ولم يرض بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة، فما ظنك بكونها قائمة بأمورهم ومديرة لشؤون

ص: 326

المجتمع ومتصدية للزعامة الكبرى للمسلمين. وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرعة يقيد الإطلاق»(1).

5- عدم جواز مرجعية الفاسق أو المخالف أو الكافر، قد يقال أنها من الواضحات.

قال في التنقيح: «وهل يحتمل أن يرجعهم الى رجل يرقص في المقاهي والأسواق أو يضرب بالطنبور في المجامع والمعاهد ويرتكب ما يرتكبه من الأفعال المنكرة والقبائح, أو من لا يتدين بدين الأئمة الكرام ويذهب الى مذاهب باطلة؟ عند الشيعة المراجعين إليه. فإن المستفاد من مذاق الشرع الأنور عدم رضا الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة فما ظنك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية. إذا إحتمال جواز الرجوع إلى غير العاقل أو غير العادل مقطوع العدم, فالعقل والإيمان, والعدالة معتبرة فيه بحسب البقاء لعين ما قدمناه في اعتبارها حدوثاً.

ولعل ما ذكرنا من الارتكاز المتشرعي هو المراد مما وقع في كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) من الإجماع على اعتبار الإيمان والعقل والعدالة في المقلّد»(2).

6- قد يقال: بأنّ عدم جواز الأكل والشرب المنافيان للهيئة في الصلاة من الواضحات في أذهان المتشرعة، وهكذا كلّ فعل ماحٍ للهيئة الصلاتية.

ص: 327


1- شرح العروة الوثقی 1: 187- 188.
2- شرح العروة الوثقی 1: 185- 186.

فإن الصلاة التي تلقيناها من الشارع - يداً بيد- ليست ما يكون فيها هذه الأفعال.

7- قد يقال: بأن جواز الصدقة عن الميت من الواضحات في أذهان المتشرعة، ولعل إجماع الإمامية على الجواز - على ما ادعاه علم الهدى (رحمه اللّه) - مستند إلى ذلك.

8- قد يقال: إن جواز أكل المارة من الثمار - في الجملة- من الأمور الواضحة. ولعل الإجماع على الجواز - على ما ادعاه ابن إدريس (رحمه اللّه) - مستنداً إلى ذلك.

9- قد يقال: إن كون الصاع أربعة أمداد كان من الواضحات في الأذهان.

ولعل الإجماع - الذي استدل به الشيخ (رحمه اللّه) في الخلاف- مستنداً إليه.

10- قد يقال: إن نجاسة بول الرضيع من الواضحات.

ولعل الإجماع – الذي ادعاه السيد المرتضى (رحمه اللّه) - مستنداً إلى ذلك الوضوح.

11- قد يقال: إن وجوب رمي الجمار - لا الاستحباب- من الواضحات في أذهان جميع المسلمين.

ولعل الإجماع - الذي ادعاه ابن إدريس (رحمه اللّه) - مستنداً إلى ذلك.

12- قد يقال: بأن عدم جواز التمتع بالجارية بلا إذن مولاها كان من الواضحات في الأذهان. ولعل الإجماع - الذي ادعاه المفيد (رحمه اللّه) - مستنداً إلى ذلك.

ص: 328

13- قد يقال: إن عدم انحصار المتعة في عدد معين من الواضحات.

ولعل الإجماع - الذي ادعاه ابن إدريس (رحمه اللّه) - مستنداً إلى ذلك.

14- قد يقال: بإنّ بطلان الصوم بغير المعتاد من الأكل والشرب - كالمعتاد. من الواضحات في أذهان المتشرعة.

ولعلّ الإجماع – الذي ادّعاه البعض- مستنداً إلى ذلك.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي يكون الوضوح مستند الإجماع، أو إحدى مستندات الإجماع.

والخلاصة: إنّ (الارتكاز والتلّقي) هو يمثّل الوسيط بين (الإجماع) و(الموقف الشرعي).

وهذا الارتكاز دليل قطعي كاشف عن الموقف الشرعي، وليس خبر آحاد ليُعترض عليه باحتمال عدم تماميته سنداً أو دلالة.

الثاني: السيرة المتشرعية

كما لو تلّقى المجمعون: جواز المسح ببعض الرجل من الطبقات السابقة حتى تصل النوبة إلى الطبقة المعاصرة للمعصومين (صلوات اللّه عليهم) أو تلقوا عدم وجوب غسل الأعلى، فالأعلى على نحو الدقي العقلي منها.

إشكال وجواب

فإن قيل: إن استناد المجمعين إلى (الارتكاز المتشرعي) أو (السيرة المتشرعية) أمر محتمل وليس بقطعي؟

قلتُ: هناك حالتان:

1- أنْ تُنفى جميع المستندات الأخرى التي يُحتمل استناد المجمعين

ص: 329

إليها، وحينئذٍ يدور الأمر بين إفتاء المجمعين بلا دليل، أو استنادهم إلى الارتكاز أو السيرة.

وحيث لا يُحتمل الأول، فيتعيّن الثاني.

2- أن تكون المستندات الأخرى محتملة أيضاً.

وحينئذٍ: يكون تعين الاستناد إلى هذين منوطاً ب- (حساب الاحتمالات) فقد يتعين كون المستند: أحد هذين لضعف الاحتمالات الأخرى إلى حدٍ لا يعتني به العقلاء.

شرائط كاشفية الإجماع

ثم إنه قد ذكر بعض المحققين مجموعة من الشرائط لكشف الإجماع عن الارتكاز المتشرعي نذكرها - بنوع تصرف:

1- أن يكون الإجماع من قبل المتقدمين:

أن يكون الإجماع من قبل المتقدمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث المعاصرين للمعصومين (عليهم السلام) .

وعلل ذلك بأن إجماع هؤلاء هو الذي يمكن أن يكشف عن ارتكاز عام لدى طبقة الرواة، دون الفقهاء المتأخرين.

وفيه: إن ملاك الحجية - وهو الكشف- مشترك بين إجماع المتقدمين والمتأخرين، فإجماع المتأخرين كاشف عن الارتكاز العام في هذه الطبقة، وهو كاشف عن الارتكاز العام في الطبقات المتقدمة، حتى تصل النوبة إلى الارتكاز العام في طبقة الرواة.

كما يظهر ذلك في مثال «مرجعية الفاجر الكافر للتقليد».

ص: 330

نعم, ربما تكون كاشفية إجماع المتقدمين عن الارتكاز - أو السيرة- أقوى؛ لأنه كلما مر الزمان وابتعدنا عن عهد النص زادت العوامل الخارجية التي يمكن أن تؤثر في صنع الارتكاز، إلاّ أن كاشفيته عنه موقوف على القطع بعدم مدخليتها فيه أو ضعف احتمالها على نحو لا يعتني به العقلاء، فتأمل.

2- عدم استناد المجمعين إلى مدرك موجود، وعدم احتمال ذلك.

أن لا يكون المجمعون قد استندوا إلى مدرك شرعي موجود، بل أن لا يحتمل ذلك احتمالاً معتداً به في حقهم، وإلاّ لم يكشف الإجماع عن الارتكاز في الصورة الأولى، ولم تكن الكاشفية قطعية، بل احتمالية في الصورة الثانية.

نعم, قد لا يؤثر ذلك في النتيجة المترتبة وهي «استنباط الحكم الشرعي»؛ إذ ربما يشكل استناد المجمعين إلى المدرك: قوة فيه ويكمل ما يبدو من نقصه مثل: فهم كلّ المتقدمين القريبين لعصر الرواية للحديث، فإن ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر، نظراً لقرب أولئك من عصر النص وأحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.

وذلك كما في الروايات التي حملوها على الاستحباب، مع ظهورها في حدّ ذاتها في الوجوب، كالروايات الآمرة بالتمشيط والتدهين مثلاً. إلاّ أن ذلك خروج عن محل الكلام كما لا يخفى.

3- عدم وجود قرائن عكسية تدل على عدم وجود الارتكاز.

أن لا توجد قرائن عكسية تدل على عدم وجود ذلك الارتكاز في طبقة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) المعاصرين لهم، والمتشرعة الذين كانوا في

ص: 331

عهدهم (عليهم السلام) ، بأن لا تدل القرائن على عدم وجود ذلك الارتكاز الذي يراد اكتشافه عن طريق الإجماع.

والوجه في هذا الشرط واضح بعدما عرفنا كيفية تسلسل الاكتشاف.

كما في الإجماع الذي ادعاه السيد الحكيم (عليهم السلام) في المستمسك على أنه لو تلفظ (الضاد) (ظاءً) في القراءة بطلت صلاته.

فإنّه قد يُدعى: إن القرائن تدل على أنه لم يكن في عهد المعصومين (عليهم السلام) مثل هذا الارتكاز أو السيرة، فإن عهدهم (عليهم السلام) امتد لفترة تزيد على مئتين وخمسين عاماً، وخلال هذه الفترة الممتدة اختلطت الحضارات والشعوب واللغات، ومن الواضح: أن كثيراً من غير العرب لا ينطقون الضاد ضاداً، بل أن كثيراً من العرب أنفسهم لا ينطقونها كذلك، ليس في ذلك العهد فقط، بل حتى في هذا اليوم، ومع ذلك لم نجد حتى رواية واحدة تدل على لزوم ذلك، أو على أن المسلمين كانوا يأمرون أولادهم وأصحابهم والمسلمين الجدد بذلك، كما لم نعثر على رواية واحدة تتضمن السؤال عن ذلك من الأئمة (عليهم السلام) ، ولو كان ذلك واجباً لبان وانتشر وكثر السؤال والجواب عنه في الروايات الشريفة.

لا يقال: لعلهم لم يكونوا يستطيعون أداء الحرف من مخرجه؟

فإنه يقال: إن كثيراً منهم كانوا يستطيعون ذلك بالتمرين، ومن الواضح وجوب المقدمة الوجودية للواجب المطلق.

مثال آخر: الإجماع المدّعى على نجاسة الكتابي، فقد قيل: إنه لا يظهر من الأسئلة الواردة في الروايات وجود ارتكاز على النجاسة في أذهان

ص: 332

المتشرعة في عهد المعصومين (عليهم السلام) .

4- أن لا تكون المسألة من المسائل العقليّة أو العقلائية.

أن تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقي حكمها عادةً إلاّ من قبل الشارع لا أن تكون المسألة من المسائل العقليّة أو العقلائية، مثل أن ظواهر الألفاظ حجة، أو أن قول اللغوي حجة، أو أن الصلاة في الدار المغصوبة باطلة، التي يحتمل استنادها إلى حكم العقل باستحالة اجتماع الأمر والنهي، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومع فقد هذا الشرط لا يتم الاكتشاف المذكور.

5- أن لا تكون من المسائل التفريعية.

أن لا تكون المسألة من المسائل التفريعية التي يمكن استفادة حكمها من عموم الدليل أو إطلاقه؛ إذ لا يتم حينئذٍ الاكتشاف المزبور، فأنه يحتمل الاستناد للعموم أو الإطلاق، هذا أولاً.

ب) حجية فهم الفقهاء الآخرين

وثانياً: أنه لا مانع من القول بحجية فهم الفقهاء الآخرين في صورة الجهل بالمستند, بل قد يقال بذلك حتى في صورة العلم بالمستند.

نعم, لو علم بالخطأ فلا مجال للحجية؛ إذ ظرف الحجج عدم العلم؛ وذلك لشمول الأدلة اللفظية لذلك.

كقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1).

فإن الموضوع «عدم العلم» وهو متحقّق في حقّ العامّي والمجتهد الذي

ص: 333


1- النحل: 43.

لم يفحص في الأدلة.

والقول بأن الموضوع «عدم القدرة على تحصيل العلم» خلاف ظاهر الدليل.

والسيرة العقلائية تدل على ذلك أيضاً؛ إذ ما أكثر رجوع الخبراء بعضهم إلى البعض الآخر، كرجوع الطبيب إلى طبيب آخر في المسائل التي لم يجتهد فيها، مع قدرته على الاجتهاد أو الاحتياط.

وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى مباحث «الاجتهاد والتقليد».

الإيراد الثالث: لو كان هناك دليل لبان

الإيراد الثالث: لو كان افتاء الفقهاء حاكياً عن وجود دليل معتبر فيجب أن تعثر عليه في الكتب الأربعة ونظائرها التي ألّفت لجمع ما في الأصول والمصنفات للقدامى من أصحابنا.

وفيه جوابان

أولاً: إن السيرة والارتكاز لا ينقلان عادةً.

بل قد يكونان في درجة من الوضوح بحيث يكون نقلهما مستهجناً.

وهذا نظير عدم توثيق بعض الأبرار في (علم الرجال) فأنهم قد بلغوا من الجلالة شئناً بحيث يكون التوثيق مستهجناً في حقهم.

وثانياً: ما في المحصول من أنه: «لم يثبت أنّ مؤلّفي الكتب الأربعة أحاطوا بجميع أخبار أئمتنا الطاهرين المبثوثة في أُصول أصحابهم ومصنّفاتهم والشاهد على ذلك:

استدراك صاحب الوسائل عليها بالروايات الكثيرة التي نقلها عن سبعين كتاباً، ولمّا كان عمله غير مستوعب، استدرك عليه المحدّث النوري بتأليف

ص: 334

مستدرك الوسائل، وكان سيّدنا الأُستاذ آية اللّه الحجة الكوه كمري بصدد تأليف مستدرك آخر، وقد هيأ أسبابه واشتغل لكن حالت المنيّة بينه وبين أملة فلبّى دعوة ربّه قبل إنجازه أُمنيته»(1).

هذا ولكن وجود رواية استند إليها المجمعون ولم ينقل إلينا منها عين ولا أثر لا في المجاميع الروائية ولا في الكتب الاستدلالية بعيد، فتأمل.

الإيراد الرابع: الاتفاق بنحو التعاقب لا يكشف عن الدليل المعتبر

الإيراد الرابع: ما في المنتقى من: «إن اتفاق الجمع الغفير كمائة من العلماء لو كان في عرض واحد لقربت هذه الدعوى، أما إذا كان بنحو التعاقب وفي الأزمنة المتعددة فلا ينفع ما قيل، إذ لايكشف الاتفاق المزبور عن وجود دليل معتبر واقعاً، لأنه من الممكن استناد القائلين في العصر المتأخر إلى إجماع العصر السابق أما لقاعدة اللطف، بنظرهم أو للملازمة الاتفاقية أو نحوهما، وهكذا حتى تصل النوبة إلى أسبق العصور، وهم لا يشكلون عدداً كبيراً، وإجماع مثلهم لا يكشف عن دليل معتبر، إذ من الممكن استناد كل منهم إلى دليل لا يكون حجة بنظرنا لو أطلعنا عليه كرواية ضعيفة قطع بمضمونها لقرائن قطعية بنظره ونحو ذلك، بل لو علم استنادهم إلى دليل واحد فلا نستطيع استكشاف حجيته، إذ من الممكن أنه رواية ظاهرة في معنى عندهم وهو ما أجمعوا عليه، ولكنها غير ظاهرة عندنا فيما استظهروه لو أطلعنا عليها»(2).

ص: 335


1- المحصول 3: 199.
2- منتقى الأصول 4: 241-242.

وفيه: إنه ربما يتم لو كان المراد الكشف عن «خبر» استند إليه الفقهاء في أسبق العصور، أما لو كان المراد الكشف عن «الارتكاز» أو «السيرة» فلا؛ إذ قد يكشف اتفاق الجمع غير الغفير عن ذلك.

نعم، يختلف «اتفاق الجمع الغفير» عن «غيره» في درجة الكاشفية، لا في أصل الكاشفية. هذا تمام الكلام في التقرير الأول.

وقد تحصل أنه لا بأس بادّعاء الكاشفية عن الدليل المعتبر ولو في الجملة، لكن بالتوضيح الذي ذكرناه.

الوجه الخامس: كاشفية اتفاق المرؤوسين عن رأي الرئيس عادةً
اشارة

بدعوى أن العادة تحكم بأن اتفاق المرؤوسين على أمرٍ يكشف - عادة- عن رأي الرئيس.

فاتفاق جميع الوزراء وأركان الحكومة على أمر يكشف عن موافقة السلطان بحكم العادة.

ولو قدم غريب بلداً ورأى أجراء قانون «التجنيد الإجباري في جميع أنحاء البلاد يحدس أن هذا قانون قد صدر مّمن بيده الأمور.

ويشترط في الكاشفية الاتفاق المزبور: انقياد المرؤوسين للرئيس.

وهناك عوامل تزيد كاشفية هذا الطريق:

منها: الورع والتدين؛ إذ أنه يخلق في النفس وازاعاً داخلياً يمنع الإنسان من المخالفة، بخلاف الانقياد المنبعث عن الرغبة أو الرهبة.

ومنها: عدم مشروعية الرأي والقياس والظنون والاستحسانات في نظر المجمعين، فأنها تزيد قوة كاشفية الاتفاق.

ص: 336

ومنها: الدقة في النظر.

ومن الواضح توفر هذه العوامل في فقهائنا العظام (رحمهم اللّه تعالى).

إيرادات ثلاثة

وأورد على هذا الوجه بإيرادات ثلاثة:

1- الكاشفية إنما تتم في صورة إمكان الوصول إلى شخص الرئيس عادةً

ما في المصباح من: أنه يتم فيما إذا كان المرؤوسون ملازمين لحضور رئيسهم، وأنى ذلك في زمان الغيبة(1)؟

وبعبارة أخرى: أن ذلك يتم في صورة إمكان وصول المرؤوسين إلى شخص الرئيس عادة، بخلاف ما لو لم يمكن الوصول إلى شخصه.

لا فرق بين إمكان الوصول إلى شخص الرئيس وإمكان الوصول إلى كلماته.

وأجاب عنه السبزواري (رحمه اللّه) :

«... بأنه إذا كان باب معظم الأحكام الصادرة منهم (عليهم السلام) مفتوحاً وكان ذلك في متناولنا وجرت العادة إلى الرجوع إليها في زمان الحضور والغيبة يكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم (عليه السلام) والعادة تقضي برضائهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم ورواة أحاديثهم معتبرة عرفاً»(2).

وبالجملة: الملازمة العادية بين إجماع الإمامية ورضاء المعصوم (عليه السلام) بما

ص: 337


1- مصباح الأصول 2: 163.
2- تهذيب الأصول 2: 73.

أجمعوا عليه ثابتة، وهذه الملازمة معتبرة عرفاً.

والخلاصة: أنه لا فرق بين إمكان الوصول إلى «شخص الرئيس» وإمكان الوصول إلى «كلماته».

ولذا لو رأينا اتفاق وكلاء مرجع من المراجع، المقيدين بآرائه، الملتزمين بعدم اتخاذ موقف بآرائهم على موقف واحد، نقطع - عادة- بأنه صادر عن رأي المرجع.

بل قد يحصل القطع بذلك من موقف وكيل واحد.

إلاّ أن ذلك غالبي لا دائمي، فتأمل.

2- الكاشفية تتم في التلاميذ العرضيين لا في الاتباع الطوليين

ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) من أن الحدس يتم في التلاميذ العرضيين أما في الاتباع الطوليين فلا(1).

ولعل وجه الفرق: احتمال أن يكون بعضهم قد وقع تأثير البعض الآخر ... في الاتباع الطوليين.

وتأثر اللاحق بالسابق في مجال الفتوى أمر واقع؛ ولذا نجد تأثر الذين جاءوا بعد الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) بآرائه إلى فترة طويلة، بل كانت آراؤه تعد في سلك الأدلة على الأحكام، وقد عبر غير واحد عن العلماء الذي جاءوا بعده إلى زمان ابن إدريس بالمقلدة - وإن كان الأمر بحاجة إلى تحقيق, كما نجد تأثّر التلاميذ بمشارب أساتذتهم تأثراً كبيراً.

وعندما نصل إلى الجيل الأوّل نجد أنهم لا يشكلون رقماً كبيراً يمكن

ص: 338


1- الأصول: 72.

أن يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) .

وهذا بخلاف ما لو كان المجمعون في عرض واحد كوكلاء مرجع واحد.

وقد يتأمل في ذلك: بأنه مع لحاظ الخصوصيات الأربع الموجودة في الجيل الأوّل: يكشف اتفاقهم عن رأي المعصوم (عليه السلام) - ولو في الجلمة.

فيكون اتفاقهم كاتفاق أصحاب الأئمة (عليهم السلام) - كزرارة ومحمد بن مسلم, والفضيل بن يسار, ومعروف بن خربوذ وبريد العجلي وأبي بصير- فكما أن اتفاقهم يكون كاشفاً - عادة- عن رأيه (عليه السلام) فكذلك اتفاق الجيل الأوّل من فقهاء عصر الغيبة، ولو كان عددهم قليلاً كعشرة مثلاً.

وعليه: فلا فرق بين التلاميذ الطوليين والعرضيين في الكاشفية فتأمل.

3- الكاشفية لا تتم في صورة الاتفاق الاتفاقي

ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) من أن: اتفاق المرؤسين على أمرٍ إن كان يشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهم الملازمة العادية بين اجماع المرؤسين ورضا الرئيس مجال.

وأما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطئ منهم على ذلك فهو مما لا يلازم عادةً رضا الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة (1).

مناقشات وردود

وأجيب بأن الأمر بالعكس، لأن إنكار الملازمة في صورة التواطؤ أولى وأقرب من صورة الإجماع بلا تواطؤ، فإن الاتفاق مع عدم الرابط بينهم

ص: 339


1- فوائد الأصول 3: 150-151.

يكشف عن وجود ملاك له من نص أو غيره، وأما الاتفاق مع التواطؤ فيحتمل أن يكون معللاً بأمر غير ما هو الواقع.

وهذا الجواب: محل نظر.

إذا الكلام في المرؤوسين المتعبدين المنقادين الذين لا يحتمل تواطؤهم على الكذب ولا صدورهم عن آرائهم.

ولعل وجه ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) : أنه مع التواطؤ يتم تلاقي الأفكار وتسدّ الثغرات المحتملة في الأمر، وقد أكد في الروايات الشريفة على المشورة، ف- (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله).

هذا ولكن الظاهر: إن الكاشفية موجودة سواء علم بالتواطؤ أو علم بالعدم أو شك في ذلك، كما في وكلاء المرجع المتعبدين برأيه، إذا اتفقوا على موقف معين.

نعم, ربما تختلف درجات الكاشفية، وإن كان أصل الكاشفية موجودأً في جميع الصور.

الوجه السادس: مسلك تراكم الظنون
اشارة

تقريره: إن فتوى الفقيه الواحد تحتمل الخطأ والصواب، وقد تفيد الظن بالواقع في بعض الأحيان، فإذا انضمّ إليها فتوى فقيه آخر زادت قوة الاحتمال أو الظن، وهكذا تزداد القوة حتى يصل الإنسان إلى درجة اليقين والاطمئنان.

وبعبارة أخرى: إن لفتوى الفقيه الواحد قيمة احتمالية معينة، فإذا انضمت إليها فتوى فقيه آخر زادت القيمة الاحتمالية، وهكذا تزداد القيمة حتى

ص: 340

يصل الإنسان إلى درجة إلغاء احتمال الخلاف، أما واقعياً – في صورة حصول اليقين- أو عملياً - في صورة حصول الاطمئنان.

ووزان الفتوى في ذلك وزان الخبر، فإن إخبار الشخص الواحد له قيمة معينة، فإذا انضمّ إليه إخبار شخص آخر زادت القيمة، وهكذا حتى يصل الخبر إلى درجة (التواتر) التي تفيد اليقين.

وقد يعبر عن هذا المسلك ب- «حساب الاحتمالات».

وعلى هذا يكون الإجماع من الأدلة القطعية الكاشفة عن الواقع، بخلاف الوجه الرابع، فإن الإجماع يكون كاشفاً فيه عن «الحجة المعتبرة».

وأورد على هذا الوجه بإيرادات

1- عدم اختلاف حكم المجموع عن حكم الآحاد

الإيراد الأول: ما نقل عن السيد المرتضى (رحمه اللّه) من أنه: (لا يجوز في جماعة يجوز الخطأ على كلّ واحد منها: أن ينتفي عن جماعتها.

وفيه نظر:

لأن حكم المجموع يمكن أن يختلف عن حكم الآحاد، كما يظهر بملاحظة «الخبر المتواتر».

وفي المعالم: إن الجيش يفتح المدن، مع أنه مركّب من آحاد لا تستطيع القيام بذلك. وقد سبق بعض الكلام في ذلك.

2- مسلك التراكم إنما يجدي في الأخبار الحسّيّة لا الحدسية

الإيراد الثاني: ما ذكر المحقق النائيني (رحمه اللّه) : من أنه «وإن كان مسلّماً في الخبر عن المحسوسات, كما في مورد الخبر المتواتر فأن احتمال التواطئ

ص: 341

على الكذب مستحيل عادة واحتمال الخطأ في الكل كذلك فلا محالة يترتب على مجموع الأخبار القطع بوجود المخبر به خارجاً إلاّ إنه ليس كذلك في موارد الإخبار عن الأمور الحدسية التي لابد فيها من إعمال نظر وفكر فإن احتمال الخطأ إذا كان متمشياً في خبر الواحد منهم فيكون متمشياً في خبر الجميع أيضاً»(1).

وفي المصباح: «إن ذلك مسلّم في الإخبار عن الحسّ كما في الخبر المتواتر، لأن احتمال مخالفة الواقع في الخبر الحسي إنما ينشأ من احتمال الخطأ في الحس أو احتمال تعمّد الكذب، وكلا الاحتمالين يضعف بكثرة المخبرين إلى أن يحصل القطع بالمخبر به وينعدم الاحتمالان. وهذا بخلاف الاخبار الحدسي المبني على البرهان، كما في المقام، فأن نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد، إذ احتمال كون البرهان غير مطابق للواقع لا يفرق فيه بين أن يكون الاستناد إليه من شخص واحد أو أكثر، ألا ترى أن اتفاق الفلاسفة على أمر برهاني كامتناع إعادة المعدوم مثلاً لا يوجب القطع به»(2).

أقول: وجود نكتة مشتركة للخطأ مشترك بين الأخبار الحدسية والحسّية.

مثلاً: لو أخبرنا الجمع الغفير بأن شخصاً قطع رأس آخر ثمّ أعاده إلى مكانه، فقد لا يحصل القطع بذلك، لاحتمال خطأ الجميع، كما يحدث في أعمال السحرة، قال اللّه تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ

ص: 342


1- أجود التقريرات 3: 172.
2- مصباح الأصول 2: 139.

وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}(1).

ولو أخبرنا الجمع الكثير برؤية الهلال فقد لا يحصل القطع بذلك، لوجود نصب يشبه الهلال في منطقة الرؤية.

فما ذكر من العبارات في الإخبارات الحدسية- مثلاً- (إن نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد) و(إن احتمال الخطأ إذا كان متمشياً في خبر الواحد منهم فيكون متمشياً في خبر الجميع أيضاً) يجري في الإخبارات الحسية أيضاً.

ولذا عرّف بعضهم المتواترات بأنها (قضايا تسكن إليها النفس سكوناً يزول مع الشكّ بواسطة إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع خطأهم في الفهم) فأضاف القيد الأخير لأجل ذلك.

نعم, الغالب حصول القطع من تراكم الظنون في الإخبارات الحسية دون الحدسية، لاحتمال وجود نكتة مشتركة للخطأ في الثانية دون الأولى غالباً.

3- حصول القطع يتوقف على اقتصار المجمعين على الأدلة القطعية

الإيراد الثالث: ما في كشف القناع: من أن هذا الوجه ربما يستقيم فيما إذا كان المجمعون أو معظمهم يوجبون الاقتصار في معرفة الأحكام على الأدلة القطعية من كلّ وجه ويدعون الوصول بها إلى العلم بالأحكام الأولية فنحكم حينئذٍ بإصابتهم لها. وأما إذا لم يكونوا كذلك فلا. ومن المعلوم أن المتأخرين قاطبة ومعظم المتقدمين أو كلهم على الثاني، وما يتراءى من كلام جماعة منهم من القول بالأول فمبني على نزاع منهم في اللفظ أو الاشتباه في الحكم كما بين في محله ... وعلى هذا فلا يحصل من الإجماع

ص: 343


1- الأعراف: 116.

المتداول بينهم القطع بوجود الدليل العلمي القاطع للعذر الحاسم للشبه من كلّ وجه؛ لاحتمال كون المستند في الفتوى دليلاً ظنياً معتبراً عند الكل أو المعظم وإن كان غير موجب للقطع أو الجزم(1).

ومثل لذلك في المحصول بما لو أخبرنا مئة شخص بظنهم بعدالة شخص فإنه لا يحصل القطع بعدالته، وكذا لو أخبروا بظنهم برؤية الهلال، وكذا لو أخبروا بظنهم بأن المرئي عن بعد، المتردد بين الإنسان والحيوان، هو الإنسان، فأنه لا يحصل اليقين(2).

نعم, لو طرح هذا الوجه (السادس) بأنه يحصل القطع بموافقة الإجماع للواقع أو لدليل معتبر كان له مجال, إلاّ إنه يكون تلفيقاً بين الوجه السادس والرابع, فلاحظ.

4- تراكم الظنون لا إطلاق له

الإيراد الرابع: ما ذكره الوالد (رحمه اللّه) من أن تراكم الظنون لا إطلاق له، لاختلاف الأخبار والأشخاص والقرائن.

وأجاب السبزواري (رحمه اللّه) عن الإيراد: «بأن المدار على حصول الاطمئنان النوعي، وهو مختلف بحسب المراتب، ويكفي حصول أول مرتبة منه كما في سائر الموار د» والظن النوعي حاصل في المقام (3) .

وقد يتأمل في ذلك بأن الاطمئنان النوعي يحصل فيما لو كانت المسألة

ص: 344


1- كشف القناع: 176.
2- المحصول 3: 198.
3- تهذيب الأصول 2: 74.

حسية أو حدسية قريبة من الحس، وأما لو كانت موغلة في الحدسية أو احتمل فيها ذلك فربما لا يحصل الاطمئنان النوعي.

وذلك كما في جملة من المسائل الفلسفية, كمسألة «امتناع إعادة المعدوم» و«الاشتراك المعنوي للوجود» و«وجود الهيولى الأولى» ونحوها.

بل الأمر كذلك في بعض المسائل الفقهية، كما في مسألة «صحة الصلاة المزاحمة بالأمر بالأهم» بناءً على مبادئ موغلة في النظرية، مثل «الترتّب» أو «كفاية الملاك» أو «إن الأمر يتعلق بالطبائع لا بالأفراد» ونحو ذلك. وعلى هذا فيصحّ ما في الأصول من أن تراكم الظنون لا إطلاق له.

الوجه السابع: التشرّف

وهو ما يطلق عليه «الإجماع التشرفي».

وتوضيحه: أنه قد يحصل لبعض الأولياء التشرّف بخدمة الإمام المنتظر (عليه السلام) وسماع قوله (عليه السلام) - أو نحوه- بعينه.

كما ينقل ذلك في أحوال الشيخ المفيد، وبحر العلوم، والمقدّس الاردبيلي رضوان اللّه عليه وحينئذٍ يدور أمره بين محذورين:

الأوّل: إظهاره مسنداً له إلى الإمام (عليه السلام) .

وفي ذلك محذورات:

منها: الإذاعة: مع أن أولياء اللّه تعالى يحبون - عادةً- كتمان مقاماتهم وفي الحديث الشريف: «وكان غامضاً في الناس»(1).

ص: 345


1- الكافي 2: 140، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قال اللّه عزّ وجلّ: إن مِن اغبط أوليائي عندي ... وكان غامضاً في الناس جعل رزقه كفافاً ...

ومنها: خوف التكذيب، لما روي عنهم (عليهم السلام) من: «أنه من أدعى الرؤية فكذبوه» (1). وفي ذلك نقض للغرض.

ومنها: أنه لو فتح هذا الباب لدخل منه الطامعون والمغرضون وغيّروا الأحكام وبدلوها.

ومنها: التقية في بعض الأزمان.

الثاني: كتمانه.

وفيه محذور «ضياع الحق».

فلدفع المحذورين، وللجمع بين الحقين (حق إظهار الحق، وحق كتمان التشرف) يبرز ذلك بصورة الإجماع.

ويكون المراد به «الإجماع ملاكاً» لا «الإجماع ذاتاً».

أي أن ما يتحقق بالنسبة إليه «ملاك الإجماع المحصل» أو ملاك من ملاكاته. فيكون ملحقاً بالإجماع صورة.

ولذلك نظائر: منها إطلاق «الإجماع» على اتفاق المعظم، لا الكل، كما أشار إليه الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه.

ومنها: إطلاق الدور على ما فيه ملاك استحالة الدور.

وربما يكون مستند كثير من الزيارات, والأعمال المعروفة التي لا يوجد لها مستند ظاهر هو التشرف، لا أن يكون ذلك من باب «الأخبار المطلقة» أو «الوجوه الاعتبارية» كما قيل بذلك في: طريقة الاستخارة بالسبحة، وفي

ص: 346


1- بحار الأنوار 109: 151.

دعاء «العلوي المصري» (1).

وهذا الطريق وإن كان من الناحية الكبروية متيناً، إلاّ إن إحراز ذلك في حق مدّعي الإجماع بعيد، فلا يكشف الإجماع عن مناط الحجية وهو رأي الإمام (عليه السلام) .

الوجه الثامن: دلالة التقرير
اشارة

وبيانه: أننا نستكشف رأي الإمام (عليه السلام) من جهة دلالة التقرير، الناشئ عن الإمساك عن النكير.

فإن المجمعين بمرآى من الإمام ومسمع، وهو متمكن من إنكار باطلهم، فيكون عدم الرد عليهم تقريراً لهم.

وقد قرّبه شريف العلماء (رحمه اللّه) بأن تقريره حجة في فعل الواحد، فكيف بالجمع الكثير والجمّ الغفير؟

وهذا الوجه لا يتوقف على القول بقاعدة اللطف، لأن «الأمر بالمعروف» و«النهي عن المنكر» و«إرشاد الجاهل» و«تنبيه الغافل» واجبة على المكلّف. والغيبة لا تمنع من ذلك لتمكنه (عليه السلام) من الردع.

ويرد عليه

أولاً: أن لازم ذلك وجوب الإنكار حتى مع الاختلاف.

وأجيب عن ذلك: بأن الإنكار موجود من قبل المحق؟

وفيه: إن صرف الإنكار لا يكفي، بل يجب كونه مؤثراً، فاللازم الردع من قبله (عليه السلام) .

ص: 347


1- بحار الأنوار 53: 227.

وثانياً: لم يعلم أن الإمام (عليه السلام) مكلّف حال الغيبة بالأمر والنهي والإرشاد والتنبيه.

وهل من الثابت: أنه يجب على (المسيح (عليه السلام) ) الردع عن كلّ منكر وإرشاد كلّ جاهل وهو في السماوات العلى؟

وثالثاً: لو فرض الوجوب فاحتمال التأثير شرط، وربما لا يكون هذا الشرط متوفراً إلاّ بالطرق غير الطبيعية التي لم يكلّف بسلوكها الإمام (عليه السلام) .

ثمّ لا يخفى: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يكونان مع علم الفاعل بهما، فلا موضوع للعنوانين في المقام، لغرض الخطأ في الاجتهاد.

الوجه التاسع: الإجماع كاشف عن وجود قاعدة معتبرة

أما عقلية, أو عقلائية أو شرعية.

وربما يكون هذا الوجه مبنى كثير من الإجماعات.

والفرق بينه وبين الوجه الرابع: أنه فيه يكشف الإجماع عن وجود دليل شرعي خاص، وفي المقام يكشف عن قاعدة عامة.

وقد أشار إلى ذلك صاحب الجواهر (رحمه اللّه) , قال في صلاة القضاء:

«والذي يقوى في ظني أن كثيراً من إجماعات القدماء بمعنى الاتفاق على القواعد الكلية التي تكون مدركاً لبعض الأحكام الجزئية» (1).

وقال في كتاب الكفارات: «وإجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء لا وثوق بالمراد منها على وجه يريح النفس في الفتوى بها

ص: 348


1- جواهر الكلام 13: 80 .

بالوجوب والحرمة، وإن قلنا بحجية الإجماع المنقول، لكن في الغالب ينقلونه على مقتضى العمومات ونحوها» (1).

قال السبزواري (رحمه اللّه) : «وكلامه في المقامين حسن متين كما لا يخفى على أهله».

وفي الفقه أمثلة متعددة لهذا النوع من الإجماع.

منها: ما وجّه المحقق به دعوى المرتضى والمفيد (رحمه اللّه) : «إن من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات» (2).

قال: «وأما قول السائل كيف أضاف المرتضى والمفيد ذلك إلى مذهبنا ولا نصّ فيه؟ أما علم الهدى فأنه ذكر في الخلاف أنه إنما أضاف ذلك إلى مذهبنا؛ لأن من اصلنا جواز العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات» (3).

ومنها: ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) في الخلاف: فيما إذا تعددت الشهود فيمن اعتقه المريض، وعين كلّ غير ما عينه الآخر ولم يف الثلث بالجميع.

قال: أن يزج السابق بالقرعة.

دليلنا: إجماع الفرقة واخبارهم فأنهم اجمعوا على أن كلّ أمرٍ مجهول فيه القرعة (4).

ص: 349


1- جواهر الكلام 33: 190.
2- المسائل الصاغانية: 116.
3- المسائل المصرية (الرسائل التسع): 215-216، وراجع: مصباح الفقيه 1: 551، فوائد الأصول 1: 205.
4- الخلاف 6: 290.

ومنها: ما قاله (رحمه اللّه) : إذا رجع الشاهدان بعد وقوع القتل أو القطع بشهادتهما وقالا: عمدنا كلنا وقصدنا أن نقتل أو نقطع: إن عليهما القود.

ثمّ ذكر قضيتين: أحدهما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) , والأخرى عن أبي بكر.

ثمّ قال: فهما قضيتان معروفتان لا يُعرف لهما منكر، فثبت أنهم أجمعوا عليه (1). إلى غير ذلك من الأمثلة.

وهذا الوجه لا يخلو من إشكال؛ إذ الاعتبار عندهم لا يلازم الاعتبار عندنا، أما لعدم المقتضي عندنا، أو لوجود المانع.

ويتحقق الأول في صورة عدم تمامية القاعدة التي استندوا إليها.

ويتحقق الثاني في صورة وجود المانع عن العمل بمقتضاها.

مثال الأوّل: استناد المجمعين في الفتوى بوجوب الميسور من المركّب الارتباطي إلى قاعدة «الميسور» مع عدم تماميتها عندما.

ومثال الثاني: استناد المجمعين في الفتوى بحلية «التتن» إلى «أصالة البراءة» مع وجود المانع عن الحكم بمقتضاها، من الضرر ونحوه - فرضاً.

اللّهم إلاّ أن يقال بحجية فهم الفقيه ولو لفقيه آخر ما لم يثبت الخطأ، فتأمل.

الوجه العاشر: الإجماع حجية عقلائية

أن يقال: إن الإجماع بذاته حجة عقلائية، وأنه منجِّز ومعذّر عند العقلاء.

وبعبارة أخرى: أن طرق الطاعة والمعصية عقلائية، والإجماع طريق من تلك الطرق لدى العقلاء، بل قد يدعى: إن الشهرة أيضاً كذلك، فكيف

ص: 350


1- الخلاف 6: 322، والمنقول عنه هو بالمضمون.

بالإجماع اليقيني المحصّل؟

نعم: لو كان هناك دليل أقوى كان هو المتبع كما هو الشأن في جميع الأدلة.

الوجه الحادي عشر: الإجماع الدخولي
اشارة

وهو أن يعلم بدخول شخص الإمام (عليه السلام) في جملة المجمعين بدون أن يعرفه بعينه.

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «كما إذا سمع الحكم من الإمام (عليه السلام) في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم فيحصل العلم بقول الإمام (عليه السلام) (1).

وهذا في غاية القلة، بل نعلم جزماً أنه لم يتفق لأحدٍ من هؤلاء الحاكين للإجماع، كالشيخين والسيدين وغيرهما.

ولذا صرّح الشيخ في العدة في مقام الرد على السيد حيث أنكر الإجماع من باب وجوب اللطف بأنه لولا قاعدة اللطف لم يمكن التوصل إلى معرفة موافقة الإمام (عليه السلام) للمجمعين»(2).

أقول: لكن يمكن فرض ذلك في زمن الحضور، كما إذا دخل المسجد، وعلم بأن أحد الحاضرين هو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدون أن يعرفه بعينه، إلاّ أننا لم نجد لتحقق الإجماع على هذا النحو حتى مورداً واحداً. نعم، هو كفرضية كبروية لا بأس به.

تذييل: في الإجماع التقليدي

أضاف السيد السبزواري (رحمه اللّه) إلى أنواع الإجماع نوعاً سماه ب- «الإجماع

ص: 351


1- فرائد الأصول 1: 192.
2- عدة الأصول 2: 631.

التقليدي».

ويمكن أن نطلق عليه «الإجماع الاحتجاجي» أو «الاقناعي» أيضاً.

نقدم لتوضيحه مقدمة وهي:

إن الحضارة عندما تكون حاكمة فأنها قد تفرض - فيما تفرض- قيمها وأفكارها ومصطلحاتها على الحضارات الأخرى.

وحينئذٍ قد تضطر الحضارات الأخرى إلى استخدام نفس تلك المصطلحات من باب الرضوخ للهيمنة الفكرية للحضارة الحاكمة ... أو من باب المباراة ... وربما يكون ذلك للاحتجاج، أو لإقناع المتأثرين بتلك الحضارات، أو لدفع الوهمة عن أنفسهم، أو لغير ذلك من الأغراض.

مثلاً: قد يقول المتدين: إن حكومة الأقلية في البلد الكذائي لا تنسجم مع (الديمقراطية) مع إن (الديمقراطية) بشكلها الغربي ليست من الإسلام، والموجود في الإسلام هو (الحرية) وبينها وبين الديمقراطية عموم وخصوص من وجه.

وحيث إن الحضارة السنية كان لها شكل من أشكال الحكومة وكانت تدعمها دول وحكومات، وكان فقههم يرتكز على الإجماع كثيراً، بل إن الإجماع هو الأصل لهم حسب ما يدعون وهم الأصل له - حسب ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) - اضطر الفقهاء لاستخدام كلمة (الإجماع) في بحوثهم الفقهية والأصولية، للاحتجاج والإقناع والإفحام.

والى بعض ما ذكر أشار السيد السبزواري (رحمه اللّه) حيث قال: «ثمّ أنه قد يكون الإجماع تقليدياً أو تشبيهاً،وذلك لأن الإجماع كان شائعاً بين العامة،

ص: 352

وكانت الخاصة جامدين(1) على نصوص الأئمة (عليه السلام) ولذا سموا بالمقلدة لدى العامة في أوائل الغيبة الكبرى، فأدعى الإجماع أعلام تلك العصور حتى في المسائل التي تكون النصوص فيها كثيرة لمصلحة التشابه مع العامة وإزالة مثل هذه الأسماء عن أنفسهم، وهذا الوجه كثير من الإجماعات التي ادعاها الشيخ (رحمه اللّه) »(2)، ونذكر فيما يلي نموذجاً واحداً لذلك:

فقد سأل المفيد (رحمه اللّه) عن الدليل على أن المطلِّق ثلاثاً في مجلس واحد يقع من طلاقه واحدة؟

فقال: الدلالة على ذلك من كتاب اللّه عز وجل، وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن إجماع المسلمين.

ثم استدل من الكتاب بظاهر قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}(3) وبيّن وجه الدلالة.

ثم قال: وأما السنة فإن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ.

وقال: ما وافق الكتاب فخذوه وما لم يوافقه فأطرحوه.

وقد بيّنا أن المرة لا تكون مرتان أبداً، وأن الواحدة لا تكون ثلاثاً، فأوجبت السنة إبطال طلاق الثلاث.

وأما إجماع الأمة فأنهم مطبقون على أن ما خالف الكتاب والسنة فهو

ص: 353


1- الأولى: متعبدين بها (منه (رحمه اللّه) ).
2- تهذيب الأصول 2: 75.
3- البقرة: 229.

باطل، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق الثلاث للكتاب والسنة، فحصل الإجماع على إبطاله.

هذا، والمتتبع في الكتب الفقهية والأصولية يجد الكثير من الأمثلة على ذلك.

تعقيب: هل العامّة أصل الإجماع؟

ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من «إن الإجماع هو الأصل لهم بزعمهم، وأنهم هم الأصل له» (1).

يرد على الشق الأول: تكذيب الواقع التاريخي لما زعموه، إذ لم يبايع الأول إلاّ نفر معدود، وقد رفضت الأغلبية البيعة، وتفصيل الكلام يحتاج إلى بسط لا يسعه المقام.

ويرد على الشق الثاني: إن الإجماع أصل عندنا، وليس مأخوذاً من العامّة.

ففي المقبولة: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» (2).

وفي النهج: «إنما اجتمع رأي ملأكم على اختيار رجلين»(3).

وفيه أيضاً: «وإن اجتمع الناس على إمامٍ طعنتم»(4).

وقد مضت بعض النصوص الكريمة الدالة على ذلك.

ص: 354


1- فرائد الأصول 1: 184، والمنقول عنه هو بالمضمون.
2- الحدائق الناضرة 1: 38.
3- نهج البلاغة 2: 9.
4- نهج البلاغة 2: 100.

المقام الثاني: في الإجماع المنقول

اشارة

ومحور الكلام في هذا المقام عادة: إن أدلة حجية (خبر الواحد) هل تشمل (الإجماع المنقول) أو لا؟ وذلك بعد الفراغ عن ثبوت حجية الخبر في الجملة. ونقدّم للبحث بمقدمتين:

أولاً: تقسيم ثلاثي للخبر

المقدمة الأولى: إن إخبار الواحد على ثلاثة أنواع:

1- الإخبار عن الموضوعات الخارجية في مقام الترافع ونحوه.

ولا إشكال في اعتبار العدد والعدالة في حجيته - على التفصيل المذكور في محله.

2- الإخبار عنها في غير مورد الترافع ونحوه.

وقد ذهب البعض إلى أنه كالأول.

والمختار - تبعاً لآخرين- كفاية الوثاقة.

3- الإخبار عن الأحكام الشرعية.

ولا شكّ في حجيّة خبر الواحد فيها، إلاّ إنّ الكلام في انطباق هذا الكلّي على المقام.

ثانياً: تقسيم سداسي للخبر

المقدمة الثانية: إن الإخبار عن الشيء - مع لحاظ ما ذكر في المقدمة الأولى- ينقسم إلى أقسام نذكر منها ستة:

ص: 355

1- أن يكون الإخبار عن أمر محسوس إخباراً ناشئاً عن الحس - كالمشاهدة مثلاً.

ولا شكّ في حجية هذا القسم من الإخبار، لبناء العقلاء، فإن احتمال تعمد المخبر الكذب مدفوع بعدالته أو وثاقته.

واحتمال غفلته مدفوع بأصالة عدم الغفلة التي استقرّ عليها بناء العقلاء، وتدل على ذلك أيضاً الأدلّة اللفظيّة.

2- أن يكون الإخبار عن أمر محسوس، مع احتمال أن يكون إخباره مستنداً إلى الحدس لا إلى الحسّ.

كما إذا أخبر عن نزول المطر مع احتمال أنه لم يره، بل أخبر به استناداً إلى المقدمات المستلزمة لنزول المطر بحسب حدسه، كالرعد والبرق مثلاً.

وهذا القسم كالأول، وذلك ل- (أصالة الحسّ) التي يبني عليها العقلاء.

3- أن يكون الإخبار عن حدس قريب من الحسّ، بحيث لا تكون له مقدمات بعيدة، وذلك كالإخبار عن الشجاعة مثلاً.

فإن الشجاعة ملكة باطنية يعرف وجودها بالحدس، إلاّ أن معرفة وجودها لا تحتاج إلى مقدمات نظرية بعيدة، بل تعرف من آثارها الظاهرة.

وهذا القسم كالأول أيضاً.

4- أن يكون إخباراً عن حدس بعيد عن الحسّ.

مع كون حدسه ناشئاً من (مبادئ) كانت الملازمة بينها وبين المخبر به تامة عند المنقول إليه، بحيث لو فرض إطلاعه على ذلك السبب لقطع بالمخبر به.

ص: 356

مثاله: أن يخبر الثقة (باتفاق ألف فقيه من الفقهاء) على (حكم) وتمت الملازمة بين (اتفاق الألف) و(ثبوت رأي الإمام (عليه السلام) ) في نظر المنقول إليه.

5- أن يكون إخباراً عن حدس بعيد عن الحسّ مع كون حدسه ناشئاً من مبادئ كانت الملازمة بينها وبين المخبر به غير تامة عند المنقول إليه.

كما لو نقل (اتفاق عشرة من الفقهاء على حكم) مع عدم ثبوت الملازمة بين (اتفاق العشرة) و(رأي الإمام (عليه السلام) ) في نظر المنقول إليه.

6- كالسابق، مع الشكّ في أن المخبر به هو (اتفاق الألف) أو (اتفاق العشرة).

ص: 357

صور في المقام

اشارة

إذا تمهد ذلك فنقول: إن في المقام صوراً:

الأولى: الإخبار الحدسي البعيد مع عدم ثبوت الملازمة في نظر المنقول إليه

اشارة

الصورة الأولى: أن يكون الإخبار عن اللازم عن حدس بعيد عن الحس، مع كون حدسه ناشئاً من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به غير تامة عند المنقول إليه(1).

كما في مثال الإخبار عن اتفاق (العشرة)، ولعل ذلك كثير في الإجماعات المنقولة، فالمخبر يخبر عن أمرين:

1- اتفاق العشرة؛ وذلك بالدلالة المطابقية.

2- موافقة الإمام (عليه السلام) ، وذلك بالدلالة الالتزامية، وربما يكون بالدلالة المطابقية أيضاً، فهل يكون إخباره عن (المدلول الالتزامي) حجة؟

وجوه عدم حجية الإجماع المنقول في الصورة الأولى
اشارة

ذكرت - يمكن أن تذكر- وجوه لعدم الحجية:

الأول: الدليل متكفل لتصديق الخبر لا لتصويب النظر

الوجه الأول: ما في النهاية من: «أن كون المخبر صادقاً في خبره غير كونه صائباً في نظره، والدليل متكفل لتصديق الخبر لا لتصويب النظر.

ص: 358


1- أو عند العقلاء عادة (لاحظ ما سيأتي من الوجه الثالث من وجوه عدم الحجية) (منه (رحمه اللّه) ).

بيانه: أن دليل التصديق وإن لم يكن ناظراً إلى خصوص التصديق المخبري كما أفاده الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) بل كان ناظراً إلى التصديق الخبري، والحكم بواقعية المخبر به لا إلى مجرد نفي احتمال تعمد كذبه إلا أن تصديقه في حسه واقعاً تصديقه فيما أحس به وليس تصديقه في حدسه واقعاً تصديقه فيما حدس به.

فإن القطع بسماعه لقول الإمام (عليه السلام) أنه يجب صلاة الجمعة يستلزم القطع بصدور هذا القول من الإمام (عليه السلام) ولكن لا يستلزم القطع بحدسه لرأي الإمام (عليه السلام) القطع برأيه، فتصديقه في سماعه وأنه أخبر عما له واقعية يستلزم تصديقه في واقعية المسموع ولكن ليس تصديقه في خبره عن حدسه مستلزماً لتصديقه فيما حدس به، بل يترتب على تصويبه في حدسه.

وبالجملة: فواقعية السماع يستلزم واقعية المسموع بخلاف واقعية الحدس فإنه لا يستلزم واقعية ما حدس به »(1).

تأملات في الوجه الأول

وفيه نظر من جهات:

الجهة الأولى: كما أن تصديق العادل في حدسه لا يستلزم تصديقه فيما حدس به كذلك تصديقه في حسّه لا يستلزم تصديقه فيما أحسّ به، فالتفريق بينهما غير واضح.

وبعبارة أدق: أن المحسوس ينقسم إلى قسمين:

1- المحسوس بالذات.

ص: 359


1- نهاية الدراية 3: 187-188.

2- المحسوس بالعرض.

و(ما أحسّ به العادل) هو المحسوس بالذات، كالذبذبات الصوتية التي انعكست في تلافيف آذانه.

وتصديقه في ذلك لا يلازم تصديقه في (المحسوس بالعرض) إذ قد لا يكون للإحساس مطابق في الخارج.

وما أكثر خطأ الحواس، فالإنسان يرى الجبل قريباً وهو بعيد، ويرى العمودين - من بعيد- متقاربين، وهما متباعدان، ويرى الشمس تغرب في البر، وتطلع من البر، ولا واقعية لذلك.

والخلاصة: أنه سواء كان معنى (التصديق): (التصديق فيما هو بالذات) أو (التصديق فيما هو بالعرض) فلا فرق في ذلك بين (الأمور الحسية) و(الحدسية).

وتفريق العقلاء فيما بين المقامين خروج عما نحن فيه من (أدلة التصديق)، فتأمل.

الجهة الثانية: إن هنالك ملازمة عرفية بين (التصديق في الحدس) و(التصديق فيما حدس به) كما أن هنالك ملازمة عرفية بين (التصديق في الحسّ) و(التصديق فيما أحسّ به). فواقعية الحدس تعبداً تستلزم واقعية ما حدس به تعبداً، عرفاً.

فإذا أخبرنا الشيخ بأنه (قطع بأن هذا رأي الإمام (عليه السلام) ) فأمر الشارع ب- (تصديقه) فمعنى ذلك عرفاً هو (تصديقه فيما حدس به أيضاً).

الجهة الثالثة: أن المخبر عن حدس كما يخبر عن (حدسه) كذلك يخبر

ص: 360

عن (ما حدس به) أي الواقعية الخارجية العينية، إلاّ أن أحد الإخبارين بالدلالة المطابقية، والآخر بالدلالة الالتزامية.

ودليل التصديق كما يشمل المدلول المطابقي للخبر كذلك يشمل المدلول الالتزامي.

ولذا بنوا على ان مثبتات الخبر حجة، فإن الإخبار بالخبر إخبار بها جميعاً، و(أدلة التصديق) تشملها جميعاً.

فلو قال: «زيد موجود» فهو إخبار عن جميع لوازم الوجود من التحيز والطول والعرض والعمق وغيرها، بل قد يكون مصب الإخبار هو المدلول الالتزامي للخبر، كما في الإخبار عن القطع؛ إذ لا موضوعية له، بل هو مجرد طريق إلى المقطوع به، فأدلة التصديق تتناوله أولاً وبالذات، كما أن الاخبار يتناوله أولاً وبالذات، فتأمل.

هذا ولكن سيأتي - إن شاء اللّه تعالى- انصراف العمومات عن الشمول للأخبار الحدسية البعيدة عن الحسّ إلاّ إنه أمر آخر لا يتوقف على ما ذكر في المقام من البرهان، فتأمّل.

الثاني: الأدلة الشرعية لحجية الخبر خاصة بالأخبار الحسّيّه

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم ( (رحمه اللّه) تعالى) - ونذكره بنوع من التصرّف- وهو: أنّ العمدة من الآيات الكريمات الدالّة على حجيّة خبر العادل مع آية النبأ، وهي إنما تدلّ على حجيّة الإخبار عن الحسّ فقط.

بيان ذلك:

1- إنّ في الخبر جهتين:

ص: 361

أ) احتمال تعمّد الكذب.

ب) احتمال الخطأ.

وواقعية المخبر به موقوفة على نفي الاحتمالين.

2- إن الآية الكريمة إنّما تنفي احتمال تعمد الكذب فحسب - لما سيأتي من القرائن- وأمّا «احتمال الخطأ» فهو منفي ب- (أصالة عدم الخطأ) العقلائية.

3- إنّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ إنّما هو في الأمور الحسيّة لا في الأمور الحدسية.

ونتيجة ذلك: إنّ الآية الكريمة بضميمة أصالة عدم الخطأ دليل الحجيّة في الأخبار الحسيّة.

وحيث إنّ هذه الضميمة غير متحققة في الأخبار الحدسية لا تعمها الآية الكريمة؛ لأنّ «نفي احتمال تعمّد الكذب» لا أثر له بالفعل، والآية الكريمة التي هي دليل الحجية بالفعل لا تعم ما لا أثر له بالفعل، لكونه لغواً.

فهي وإن كانت بحسب الاقتضاء قابلة للشمول، لكنها لا تشمل الأخبار الحدسية بالفعل(1).

قرائن خمس
اشارة

ثم إن الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) أقام خمس قرائن - بين شواهد ومؤيدات - على أن الآية الكريمة إنما تتكفل التأمين من جهة (احتمال تعمّد الكذب) فقط، ولا تدل على التأمين من جهة (احتمال الخطأ)، وهذه القرائن - مع

ص: 362


1- نهاية الدراية 3: 187.

شيء من التوضيح- هي:

1- اقتضاء التفصيل

القرينة الأولى: اقتضاء التفصيل؛ إذ الآية الكريمة فصلت بين (الفاسق) و(العادل)، ولا فرق بين (الفاسق) و(العادل) حين الإخبار من جهة احتمال الخطأ؛ لأن كون الشخص عادلاً لا يرفع احتمال خطأه. فهو والفاسق سيان من هذه الجهة، فلو كان المراد نفي احتمال الخطأ لم يكن للتفصيل وجه.

والحاصل: إن الفسق والعدالة مناطان لتعمد الكذب وعدمه، لا للخطأ وعدمه، وفيه: إن الفسق والعدالة وإن لم يصلحا مناطين ل- (التكذيب) و(التصديق) الخبريين، إلاّ أن هنالك جهة أخرى تصلح لكونها مناطاً لذلك وهي إرادة الشارع سد باب الرجوع للفاسق وفتح باب الرجوع للعادل.

وقد ذكر نظير ذلك الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) في اشتراط العدالة في مرجع التقليد حيث قال فيما حكي عنه: (إن اللّه تعالى يريد أن يكون باب الفاسق مسدوداً).

وبعبارة أخرى: أنه لا يوجد مانع من قول الشارع: «اعتبر خبر العادل واقعاً، لأني أريد أن يظل باب الرجوع إليه مفتوحاً».

وما ذكر في المقام يشبه ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من «المصلحة السلوكية» (1).

وعلى هذا فلا يكون هنالك فرق بين إخبارات العادل: الحسية منها والحدسية، نعم، سيأتي انصراف الأدلة عن الإخبارات الحدسية.

ص: 363


1- مصباح الأصول 2: 196.
2- دلالة التعليل

القرينة الثانية: دلالة التعليل.

بيان ذلك: إن مفاد التعليل هو كون احتمال الوقوع في الندم علّة لوجوب «التبين» في صورة كون الجائي بالخبر فاسقاً.

والتعليل المذكور إنما يصلح للعلية إذا كان الحكم بوجوب التبين من حيث احتمال تعمد الكذب فقط.

ولو أُريد وجوب التبين في خبر الفاسق من حيث احتمال الخطأ في خبره لزم كون التعليل بأمر مشترك؛ لأن احتمال الوقوع في الندم من حيث احتمال الخطأ أمر مشترك بين العادل والفاسق. وهذا بخلاف احتمال تعمد الكذب فإنه مختص بالفاسق.

ومن القبيح تعليل أحد الحكمين المتضادين بعلة مشتركة بينهما، إذ جعله علّة لأحدهما دون الآخر معناه عدم كونه علّة مشتركة، وهو خلف.

والخلاصة: إن احتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ أمر مشترك بين العادل والفاسق، فلا يصلح لتعليل الفرق به، فيعلم من ذلك أن المقصود من الآية الكريمة: نفي احتمال تعمد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق.

وفيه: إن هنالك أمرين مترتبين يمثلان بمجموعهما علّة الحكم:

الأول: خوف الإصابة السفهائية.

إذ الجهالة - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى- بمعنى السفاهة، أي الموقف الذي لا ينبغي للحكيم أن يتخذه، كأن يقتل شخصاً اعتماداً على خبر من لا

ص: 364

يعتمد عليه.

والثاني: الوقوع في الندم نتيجة الإصابة من السفهائية.

وهذه العلة المركبة تصلح تعليلاً للحكم من الحيثيتين.

وبعبارة أخرى: لا مانع من تعليل «التصديق الخبري» - لا المخبري فقط- في العادل بأنه ليس فيه خوف الإصابة السفهائية المتعقبة بالندم لأجل ذلك.

وتعليل «التكذيب الخبري» في الفاسق بوجود الخوف من ذلك فيه.

والخلاصة: إن الشارع لو قال: «إن جاءك عادل بنبأ فأبنِ عملاً عليه واعتبره واقعاً لعدم الخوف المذكور، بخلاف الفاسق» لم يكن مانع من ذلك.

3- اعتبار الضبط

القرينة الثالثة: اعتبار الضبط في الشاهد والراوي.

وكذا في مرجع التقليد والقاضي، فإن وجه الاشتراط على مبنى الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) واضح؛ إذ الآية الكريمة تنفي احتمال تعمّد الكذب، واصالة عدم الخطأ العقلائية تنفي احتمال الخطأ، إلاّ إن الأصالة المزبورة إنما تجري فيما لو كان المخبر ضابطاً، وأما في غير الضابط فلا تجري، فلا يكون خبر غير الضابط حجة.

ولو دلّت الآية الكريمة على نفي جميع الاحتمالات لم يكن وجه لهذا الشرط، لإطلاق الآية الكريمة، وعدم الحاجة إلى الأصل العقلائي كي يقال: إنه لا يجري إلاّ في حالة الضبط.

وفيه: أن الاشتراط على المبنى الآخر يمكن أن يكون لأحد وجهين:

ص: 365

الأول: الانصراف.

بيانه: إن الألفاظ تنصرف للأفراد المتعارفة.

ف- (العادل) ينصرف إلى من كان متعارفاً من العدول، وهو الضابط، وقد ذكر الفقهاء نظير ذلك في الآفاق غير المتعارفة (في كتاب الصوم) وفي أشبار الكر (في أحكام المياه).

وفي ما تجاوزت أصابعه العذار أو قصرت عنه، وفي الأغم والأنزع (في مباحث الوضوء)، كما ذكره الأصوليون في قطع القطاع، فيما لو أخذ القطع موضوعاً. فراجع.

الثاني: فحوى مقبولة عمر بن حنظلة، إذ ورد فيها (أصدقهما في الحديث).

مما يدل على كون أصل اشتراط الصدق في الخبر مفروغاً منه، وكون الاصدقية مقياس الترجيح بين الخبرين المتعارضين، وكثير السهو لا يصدق عليه أنه (صادق)؛ إذ الصدق - كما في المطول وغيره- هو (المطابقة للواقع) دون (مجرد المطابقة في الاعتقاد)، والمعذورية لا تستلزم كونه صادقاً.

4- عدم الاستدلال بآية النبأ على حجية الفتوى

القرينة الرابعة: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) بقوله: «ويؤيد ما ذكرناه أنه لم يستدل أحد من العلماء على حجية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ، مع استدلالهم عليها بآية النفر والسؤال»(1)؛ لأنّ الافتاء أمر حدسي، وآية النبأ لا

ص: 366


1- فرائد الأصول 1: 182.

تدل على نفي احتمال الخطأ، وأصالة عدم الخطأ لا تجري في الأمور الحدسية، ولو كانت آية النبأ مطلقة بحيث تشمل نفي احتمال الخطأ لاستدلوا بها على حجية فتوى الفقيه.

وفيه: مع أنه قد استدل بها عليها غير واحد من الفقهاء، أنه قد يكون لعدم صدق (النبأ) فإن (النبأ) هو الخبر، وإنما أطلق عليه (النبأ) لأنه ينقل من مكان إلى آخر، يقال (نبأ من أرض إلى أرض) أي انتقل، وهذا المفهوم لا يصدق لغة أو عرفاً على الفتوى، لا أقل من الإجمال.

5- اشتراط الاستناد على الحسّ في الشهادة

القرينة الخامسة: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) بقوله: «والظاهر إن ما ذكرناه - من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد - هو الوجه فيما ذهب إليه المعظم، بل أطبقوا عليه، كما في الرياض، من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم يستند إلى الحسّ»(1).

وفيه: أنه يمكن أن يكون الاشتراط لانصراف لفظة الشهادة إلى الشهادة الحسية.

كما في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ

عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

وقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ}(3).

ص: 367


1- فرائد الأصول 1: 182.
2- النور: 2.
3- الطلاق: 2.

وقوله عزّ من قائل حكاية عن بلقيس: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}(1).

واستعمالها في غير ذلك غير قادح في الظهور، كما أن استعمال صيغة الأمر في الندب قد قادح في ظهورها في الوجوب.

ويؤيد ذلك بعض الروايات.

مثل ما روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «... هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(2).

وقوله: «لا تشهد بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك»(3).

فانقدح: إن القرائن الخمس غير وافية. فتأمل.

يبقى الكلام في ظهور الآية الكريمة

والظاهر: إن دليل التصديق ليس ناظراً إلى خصوص التصديق المخبري، بل إلى التصديق الخبري والحكم بواقعية المخبر به تعبداً.

والخلاصة: إن ظاهر القضية الشرطية: إثبات الحجية الفعلية، لا إلغاء احتمال تعمد الكذب فقط.

وبعبارة أخرى: إن ظاهر الآية الكريمة: إنه إن جاءكم عادل بنبأ فأجروا وفقه، واعتبروه واقعاً، وتعاملوا معه معاملة الواقع، لا أنه إن جاءكم به فاحتمال الكذب وحده منفي، والجري العملي موقوف على جريان الأصول

ص: 368


1- النمل: 32.
2- وسائل الشيعة 27: 342.
3- الكافي 7: 383؛ وسائل الشيعة 27: 341.

العقليّة مثل (أصالة عدم الخطأ) و(أصالة عدم النسيان) و(أصالة عدم التجوز) ونحوها.

وبهذا الظهور العرفي يدفع ما قد يقال: من أن المفهوم تابع للمنطوق، ومفاد المنطوق: كون الفاسق لا رادع له عن الكذب، فهذه الحيثية هي المثبتة في المنطوق، والمنفية في المفهوم.

وجه الاندفاع: إن ذلك قد يكون علّة للجعل لا للمجعول، وبعبارة أخرى: أنه قد يكون حيثية تعليلية لا تقييدية، فتأمل.

هذا تمام الكلام في آية «النبأ».

سائر أدلة الحجية هل تشمل الأخبار الحدسية؟

وأما عمل القدماء وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) فقد ذكر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) أن من المعلوم عدم شموله إلاّ للرواية المصطلحة، وكذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات.

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «إن العمدة في تلك الأدلة هو الاتفاق الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) ومعلوم عدم شموله إلاّ للرواية المصطلحة وكذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات.

اللّهم إلا أن يدعى: أن المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام (عليه السلام) ولذا يجوز النقل بالمعنى، فإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام (عليه السلام) ولو بلفظ آخر، والمفروض أن حكاية الإجماع - أيضاً- حكاية حكم صادر عن المعصوم (عليه السلام) بهذه العبارة التي

ص: 369

هي معقد الإجماع أو بعبارة أخرى وجب العمل به. لكن هذا المناط لو ثبت دل على حجية الشهرة، بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها، كما عمل بفتاوى علي بن بابويه (قدس سره) بتنزيل فتواه منزلة روايته، بل على حجية مطلق الظن بالحكم الصادر عن الإمام (عليه السلام) »(1).

هذا ولكن قد يدّعى ظهور بعض الروايات في حجية الاجتهاد الحدسي. ففي رواية (أبان): «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس» (2). وفي رواية معاذ بن مسلم النحوي: «بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس» (3) الحديث. وكذا يظهر ذلك من رواية «ركب الجارية».

وتفصيل الكلام في مباحث الاجتهاد والتقليد.

وقد يتأمل فيه بأن الكلام في أدلة (حجية الخبر) لا أدلة (حجية النظر) فلاحظ.

الثالث: الكاشفية النوعية العقلائية خاصة بالأخبار الحسّية

الوجه الثالث: ما في النهاية وحاصله:

إن ملاك الخبر عند العقلاء هو: كاشفيته النوعية عن الواقع، وشرط تحقق هذه الكاشفية:

أ) صدور الخبر ممّن يوثق بقوله.

ب) وعدم وجود آفة في حاسته.

ص: 370


1- فرائد الأصول 1: 180.
2- وسائل الشيعة 30: 291.
3- وسائل الشيعة 16: 233.

فهذه الكاشفية تمثل (المقتضي) لبناء العقلاء.

والوقوع في الخطأ أحياناً لا يمنع عن تأثير هذا المقتضي ولا يزاحمه - كما هو واضح. وهذا الملاك مختص بالخبر الحسي أو ما هو كالحسّي.

(ولعل المراد بالأخير: ما له سببية نوعية للوصول إلى الواقع).

وأما الخبر عن حدس فلا توجد فيه الكاشفية النوعية ولو توفر الشرطان.

والخلاصة: إن المقتضي لبناء العقلاء هو الكشف النوعي الفعلي وهو مختص بالخبر الحسي أو ما هو كالحسّي.

ومنه يظهر: إن خبر العادل عن حدس إذا كان له عما لا سببية له عادةً كان مستنداً إلى ما لا طريقية له عادةً إلى الواقع، والعادل والفاسق على حد سواء في ذلك.

وبعبارة أخرى: حيث أن الخبر الحدسي مستند إلى ما هو في نفسه لا سببية له للوصول إلى الواقع يكون الخبر الحدسي غير كاشف عن الواقع، فكيف يبني عليه العقلاء؟(1)، والظاهر تمامية هذا الوجه.

تتميم الوجه الثالث

إلاّ أنه ينبغي أن يضاف إليه:

إن القدر المتيقن من الإجماع العملي لأصحاب الأئمة (عليهم السلام) على العمل بالخبر: الأخبار الحسّية.

وأما (الاجتهاد) و(التقليد) فهو شأن آخر، وكلامنا فعلاً في أدلة حجية الخبر.

ص: 371


1- نهاية الدراية 3: 180. والمنقول هو المضمون وليس اللفظ.

وإن المنصرف من أخبار حجية الخبر: غير الأخبار الحدسية المحضة؛ وذلك لأن الدليل لا ينحصر في (بناء العقلاء) فقط.

الثانية: الشكّ في كون نقل اللازم حسياً أو حدسياً؟

اشارة

الصورة الثانية: إن يشتبه الحال، بحيث لا يُعلم أنه نقله للازم (أي قول الإمام (عليه السلام) ) عن حسّ أو حدس بعيد عن الحسّ.

كما لو نقل الإجماع واحتمل سماعه الحكم من الإمام (عليه السلام) -بالتشرف- وكما احتمل كونه إخباراً عن حدس (مع عدم تمامية الملازمة- عند المنقول إليه أو عند العقلاء عادة)(1).

وهنا بحثان:

البحث الأول: بحث كبروي في (أصالة الحسّ العقلائية)

وهو: إن العقلاء كما يعتمدون على (خبر الثقة) فيما (علم كونه عن حسّ) كذلك يعتمدون عليه فيما (احتمل كونه عن حسّ).

حيث إن بناءهم ليس على التوقف والفحص إذا أخبروا لتبين يحتمل كونه حسياً وكونه حدسياً.

ولو اعتذر شخص عن عدم العمل بخبر الثقة باحتمال كونه عن حدس، لم يُقبل ذلك منه عند العقلاء، ويسمى ذلك ب- (أصالة الحسّ) العقلائية.

وقد تطرّق الأصوليون لذلك في المقام. كما تطرق له الفقهاء في كتاب الشهادات، وفي كتاب الطهارة، وفي كتاب الصوم، كما ذكره علماء

ص: 372


1- راجع ما ذكر في الصورة الأولى.

الرجال في بحوثهم الرجالية.

شرط جريان أصالة الحس

ولكن جريان (أصالة الحسّ العقلائية» مشروطة بأن لا تكون هنالك أمارة على الحدس أو اعتقاد الملازمة فيما لا تكون هنالك ملازمة نوعية، كغلبة اعتماد المخبر على الحدس الموجبة لإلحاق المشكوك بالغالب.

وعلى هذا يكون الشرط أمراً عدمياً، وهو الظاهر من عبارة الكفاية، إلاّ أن ظاهر النهاية كون الشرط أمراً وجوداً وهو ظهور حال المخبر في استناده إلى سبب متعارف.

قال: «إن مقتضى بناء العقلاء هو الكشف النوعي الفعلي عن الواقع فمع كونه ممن يوثق بقوله ولم يكن آفة بحاسته، وعدم استناد العاقل بحسب المتعارف إلا إلى سبب عادي متعارف لا ريب في كاشفية خبره نوعاً عن الواقع، وأما إذا اختلَّ هذا الظهور الأخير وهو مظهر حال العاقل في دعوى الجزم بشيء أنه مستند إلى سبب عادي متعارف بحيث وجدنا غالب المدعين للإجماع مستندين إلى سبب غير عادي أو وجدنا خصوص هذا المدعى يستند إلى سبب غير متعارف فلا كاشفية نوعية لخبره وإن احتمل استناده في خصوص هذه الدعوى إلى سبب متعارف كما إذا احتملنا أنه مع فرض غلبة كذبه يكون صادقاً في خبره الشخصي، أو مع وجود الآفة بحاسته ما أخطأ في خصوص هذا المورد، فكما لا يفيد هذا الاحتمال في تحقق الكشف النوعي كذلك»(1).

ص: 373


1- نهاية الدراية 3: 189.
البحث الثاني: بحث صغروي

في عدم انطباق الشرط المزبور على الإجماعات المنقولة عند الشكّ.

وهو إن الإجماعات المنقولة فاقدة للشرط المزبور؛ إذ أنها مبنية على حدس الناقل عادة، أو على اعتقاد الملازمة عقلاً، ولا ظهور لها في استنادها إلى سبب عادي متعارف.

ولم نجد في الإجماعات المنقولة ولا مورداً واحداً يقطع فيه باستناد الناقل إلى سماع الحكم مباشرة من الإمام (عليه السلام) أو رؤيته لفعله أو تقريره، بل ربما يدعى عدم وجود حتى مورد واحد يظن فيه بذلك.

وحيث كانت الإجماعات المنقولة فاقدة للشرط بتقريريه، فلا تجري فيها - عند الشكّ المزبور- «أصالة الحسّ العقلائية».

الثالثة: الإخبار الحدسي البعيد مع ثبوت الملازمة في نظر المنقول إليه

اشارة

الصورة الثالثة: أن يكون الإخبار عن اللاّزم عن حدس بعيد عن الحسّ مع كون حدسه ناشئاً من مبادئ كانت الملازمة بينها وبين المخبر به تامة عند المنقول إليه أو عند العقلاء عادةً.

والإجماع المنقول في هذا القسم حجّة، فإن (الملزوم)ثابت بإخبار الثقة أو العادل، و(الملازمة) ثابتة في نظر المنقول إليه - حسب الفرض.

وإذا ثبت الملزوم والملازمة ثبت اللازم قهراً، كما مضى في (اخبار الثقة باتفاق ألف من الفقهاء).

إشكال وجواب

هذا ولكن المنتقى لم يرتض الحجية قال: «إن ما يكون مشمولاً لأدلة

ص: 374

الخبر هو الاخبار عن الحكم أو الموضوع ذي الحكم، أما الاخبار عما ليس بحكم وليس بموضوع ذي حكم فلا تشمله أدلة الخبر لعدم الأثر العملي.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الإخبار عن إجماع العلماء ليس اخباراً عن حكم – كما هو واضح- ولا إخباراً عن موضوع لحكم شرعي، إذ الحكم الشرعي ورأي الإمام (عليه السلام) لا يترتب على الإجماع، وإنما يتحقق العلم به بطريق الملازمة العقلية أو غيرها عند العلم بالإجماع فجعل الحجية لنقل الإجماع لغو، إذ لا يترتب الأثر على حجية النقل.

وقد أجاب في الكفاية عن هذا الإشكال: بأن نقل الإجماع كنقل خصوصيات السائل من مكانه وزمانه التي يوجب اختلافها اختلاف المستفاد من الكلام، فحين يقال إنّ السائل عن مقدار الكر بالارطال مدني يحمل الرطل الوارد في النص على الرطل المدني في قبال الرطل العراقي، ونحو ذلك فكما لا يتوقف أحد في حجية مثل هذه الأخبار مع أنها ليست إخباراً عن حكم ولا موضوع حكم، وإنما عن خصوصية تكون دخيلة في معرفة خصوصية الحكم. ولكن هذا الجواب مندفع بوجود الفرق بين المقامين إذ خصوصية السؤال أو السائل أو المسؤول عنه من زمان أو مكان أو غير ذلك تلازم عرفاً معرفة خصوصية الحكم، وعليه فمن يخبر بأن السائل مدني – مثلاً- يخبر بالملازمة عن أن موضوع الحكم هو الرطل المدني للملازمة العرفية بينهما، فخبره في المدلول الالتزامي هو الحجة؛ لأنه إخبار عن موضوع الحكم الشرعي فيصح التعبد بحجيته وهذا بخلاف ما نحن فيه، إذ الفرض عدم حجية الخبر عن الإجماع في المدلول

ص: 375

الالتزامي، لأنه خبر عن أمر حدسي لا تشمله أدلة حجية الخبر والخبر عن المدلول المطابقي وهو نفس الإجماع ليس خبراً عن حكم ولا موضوع حكم فلا يصح التعبد بحجيته؛ لعدم الأثر العملي المترتب عليه»(1).

والخلاصة

أن لنقل الاتفاق دلالتين: مطابقية والتزامية.

أما المطابقية - وهي اتفاق الألف- فليست حكماً ولا موضوعاً لحكم.

وأما الالتزامية - وهي موافقة الإمام (عليه السلام) - فليس الإخبار عنها حجة؛ لأنه إخبار حدسي، فلا تشمل أدلة حجية الخبر لا المدلول المطابقي ولا الالتزامي.

وفيه نظر:

وذلك لأنه لا ملازم لاشتراط كون المخبر به حكماً أو موضوعاً ذا حكم، إذ لم يدل على ذلك دليل.

بل اللازم أن لا يكون جعل الحجية للخبر لغواً، وهو يحصل بترتب أثر عليه، ولو بوسائط، وذلك متحقّق في المقام.

وبمثل هذا يجاب عن الإشكال المعروف في الإخبار عن قول الإمام (عليه السلام) مع الواسطة. وللكلام تتمة ربما تذكر في تعريف الاستصحاب.

الرابعة: الإخبار الحدسي البعيد مع الشكّ في ثبوت الملازمة

الصورة الرابعة: ان يكون الإخبار عن اللازم إخباراً حدسياً بعيداً عن

ص: 376


1- منتقى الأصول 4: 240- 241.

الحسّ مع الشكّ في أن المخبر به مما يلازم رأي الإمام (عليه السلام) أو لا؟

كما لو قال (إجماعاً) ولم نعلم أنه عثر على رأي (عشرة من الفقهاء) فانتقل إلى رأي الإمام (عليه السلام) أو على رأي (الألف) فانتقل منه إليه.

والظاهر: أن نقل الإجماع ليس بحجة في هذه الصورة.

وللشك في ثبوت الملازمة، فيكون التمسك به من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

الخامسة: الإخبار بالسبب الناقص المتمّم بغيره

اشارة

الصورة الخامسة: أن لا تكون الملازمةبين المخبر به ورأي الإمام (عليه السلام) تامة في المقدار المنقول من السبب في نظر المنقول إليه.

إلاّ أنه يضم إليه ما حصل هو من:

أ) المنقولات الأخر (أي الإجماعات الأخر المنقولة).

ب) أو الأقوال الأخر.

ج) أو الأمارات الأخر (كخبر ضعيف، وشهرة محققة، ونحوهما) بحيث يكون المجموع بمقدار السبب التام.

مثلاً: لو فرضنا أن اتفاق (ألف من الفقهاء) يلازم في نظر الفقيه (رأي الإمام (عليه السلام) ) ونقل الشهيد الثاني (الإجماع) على حكم، وفرضنا أن إجماعه كاشف عن اتفاق (500) من الفقهاء، ثم تتبع الفقيه في أقوال المتأخرين عن الشهيد الثاني وحصل على اتفاق (500) آخرين من الفقهاء على الحكم، يتحصل لديه اتفاق (الألف) ويتم الانتقال إلى (رأي الإمام (عليه السلام) ).

ص: 377

قال في الكفاية: «كان المجموع كالمحصل»(1)؛ إذ لا فرق فيما يثبت بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي.

(ويكون حاله كما إذا كان كله منقولاً)(2)؛ إذ قد تقدّم أن ناقل الإجماع لو نقل اتفاق (الألف) انتقلنا من ذلك إلى (رأي الإمام (عليه السلام) ) للأدلة الآمرة بتصديق العادل، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاتفاق المزبور منقولاً كله، أو محصلاً كله، أو بعضه محصلاً وبعضه منقولاً.

(ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه(3) أو ما له دخل فيه وبه قوامه)(4).

أي بين أن يكون علّة تامة - كنقل اتفاق الألف- أو ناقصة - كنقل اتفاق الخمسمائة مع تحصيل اتفاق الخمسمائة الأخرى.

(كما يشهد به(5) حجيته(6) في)(7) الموارد التالية:

أ) (تعيين حال السائل)(8).

كما لو أخبر أن (حمران) الناقل عن الإمام (عليه السلام) ثقة، أو أن (البطائني)

ص: 378


1- كفاية الأصول: 290.
2- كفاية الأصول: 290.
3- أي تمام السبب (منه (رحمه اللّه) ).
4- كفاية الأصول: 291.
5- أي بعد التفاوت (منه (رحمه اللّه) ).
6- أي الخبر (منه (رحمه اللّه) ).
7- كفاية الأصول: 291.
8- كفاية الأصول: 291.

روى هذه الرواية في حال استقامته. أو أن (زرارة) الراوي هو (زرارة بن أعين) - الثقة- لا (زرارة بن لطيفة) المجهول.

ب) (وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها)(1).

كما لو قال الراوي: إن فلاناً سأل الإمام (عليه السلام) عن فأرة وقعت في بئر، فقال (عليه السلام) : «ينزح منها ثلاث دلاء».

فإنه لولا حجية قول الراوي في المقطع الأول يظل قول الإمام (عليه السلام) مجملاً لا يعلم المراد به.

ج) (وغير ذلك مما له دخل في تعيين مرامه من كلامه)(2).

كما لو أخبر الراوي المضمر أن مرادي من الضمير هو الإمام (عليه السلام) ، فإن هذا الإخبار ليس تمام الموضوع للحكم الشرعي، ولكنه دخيل في تعيين المرام(3).

وعلى هذا يكون نقل الإجماع - مع ضم الضمير المشار إليها- حجة.

والخلاصة

إن ترتب الأثر الضمني كافٍ في صحة التعبد، كما في البينة، فإن الأثر الشرعي يترتب على مجموع قولي الشاهدين.

إيراد في المقام

ولكن النهاية أشكل في الحجية، وتوضيح الإشكال يتوقف على تمهيد

ص: 379


1- كفاية الأصول: 291.
2- كفاية الأصول: 291.
3- ويحتمل أن المراد هو: مرام الإمام (عليه السلام) (منه (رحمه اللّه) ).

مقدمة وهي:

كيف يكون التنزيل؟

إن تنزيل شيء منزلة شيء إنما يكون بلحاظ ما للمنزل عليه من الأثر الشرعي، لا بلحاظ غير الأثر الشرعي. ولا بلحاظ ما لغيره(1) من الآثار الشرعية. مثلاً لو قال (عليه السلام) : «الفقاع خمر استصغره الناس» (2).

فهذا التنزيل إنما هو بلحاظ ما ل- «الخمر» من الأثر الشرعي -كالحرمة مثلاً- لا بلحاظ الآثار غير الشرعية، كإرواء العطش مثلاً ولا بلحاظ ما لغير الخمر من الآثار وإن كانت شرعية.

قال: «أنّ وجه الشبه لابدّ أن يلاحظ بين المشبه به والمشبه دون ما هو أجنبي عنهما، وهو من القضايا التي قياساتها معها» (3).

إذا عرفت ذلك فنقول:

عدم إمكان تنزيل الفتاوى المحكية منزلة الفتاوى المحصلة.

إنه لا يمكن تنزيل (الفتاوى المحكية) منزلة (الفتاوى المحصلة) بأدلة حجية الخبر، إذ:

أ) (الفتاوى المحصّلة) لا أثر شرعي لها، كي ينزل الإخبار عنها منزلتها فيه.

ب) و(القطع برأي الإمام (عليه السلام) ) وإن كان مسبباً عن (الفتاوى المحصّلة)

ص: 380


1- أي غير المنزل عليه (منه (رحمه اللّه) ).
2- وسائل الشيعة 17: 292.
3- نهاية الدارية 3: 182.

- ولو لكونها جزء السبب فيه- إلاّ أن القطع ليس بأثر شرعي لها، حتى يصح التعبد بلحاظه.

ج) و(رأي الإمام (عليه السلام) )- الملازم لفتوى الجماعة- وإن كان له أثر - وهو لزوم العمل مثلاً- إلاّ أنه ليس هو المنزل عليه.

والنتيجة: إن ما هو المنزل عليه - وهو الفتاوى المحصّلة- لا أثر شرعي له، وما له الأثر الشرعي - وهو رأي الإمام (عليه السلام) - ليس منزلاً عليه.

إشكالات على الإيراد
اشارة

هذا ولكن في المقام إشكالات:

1- ما الفرق في المقام بين المقام والإخبار عن أسئلة الرواة؟

الإشكال الأول: ما الفرق بين المقام وما تضمنته الأخبار من الأسئلة التي تعرف منها أجوبتها. والأفعال التي يُعرف تقرير الإمام (عليه السلام) لها؟

وأجاب في النهاية عن ذلك: ب«أنها مشتملة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها وخصوصياتها الموجبة لضيقها وسعتها والتعبد بها بلحاظ ما لها من الأحكام مما لا ينبغي الريب فيها، وكذا كون السائل مدنياً مثلاً فالرطل المذكور في كلامه مدني أيضاً فإن له دخلاً في الموضوع سعة وضيقاً، إذ لولا كونه مدنياً لم يرتب حكمه (عليه السلام) على الرطل المدني فهو أيضاً بهذا الاعتبار دخيل في الحكم الشرعي بخلاف (فتوى الجماعة) فإنها لا دخل لها في رأي الإمام (عليه السلام) حكماً وموضوعاً سعة وضيقاً»(1).

وهذا الجواب لا يخلو من نظر؛ إذ ليس المدار في حجية الخبر على

ص: 381


1- نهاية الدراية 3: 190- 191.

كون المخبر به (موضوعاً) أو (متعلقاً) أو نحو ذلك، بل المدار على (الملاك) الموجب لحجية الخبر في ذلك المقام.

وهذا الملاك يشمل ما نحن فيه أيضاً - كما سوف يتضح فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

2- اللازم كون المنزل ذا أثر شرعي دون المنزل عليه

الإشكال الثاني: إن اللازم كون المنزل ذا أثر شرعي دون المنزل عليه.

وذلك متحقّق في المقام:

بيانه: إن الفتاوى المحصّلة سبب(1) للقطع برأي الإمام (عليه السلام) ، وأثر القطع في المقام تنجيز رأي الإمام (عليه السلام) .

والتنجز قابل للجعل الشرعي - إذ هو كجعل الحلية أو الطهارة مثلاً- فالشارع - بالتنزيل- يجعل (نقل الفتاوى) منجزاً ل- (الفتاوى الواقعية) المنجزة ل- (رأي الإمام (عليه السلام) )، فيكون كالخبر القائم على خبر متعلق بحكم من الأحكام، فكما إنّ الخبر منجز للخبر المنجز للحكم، كذلك (نقل الفتاوى) منجز ل- (الفتاوى) المنجزة ل- (رأي الإمام (عليه السلام) )، لكون الفتاوى سبباً للقطع المنجز فتكون منجزةً أيضاً.

وبعبارة أخرى: (رأي الإمام (عليه السلام) ) بوجوده الواقعي ليس منجزاً. و(الفتاوى الواقعية) منجزة لرأيه (عليه السلام) ، إلاّ أن (الفتاوى) بوجودها الواقعي لا تصلح للتنجيز، فتكون (الفتاوى المنقولة) منجزة ل- (الفتاوى الواقعية) ومثبتة إياها في ذمة المكلّف.

ص: 382


1- أو جزء سبب - وكذا في ما يأتي من العبارات - (منه (رحمه اللّه) ).

إن قلت: الحجية في المنزل عليه بالعرض. وفي المنزل بالذات - بالتنزيل.

قلت: هذا التفاوت لا يضر، فهو نظير تنزيل (الخبر الواحد) منزلة (الخبر المتواتر) في الحجية.

فإن الحجة بالذات في المتواتر هو القطع الحاصل منه، ويتصف المتواتر بالحجية بالعرض، ومع ذلك يصح بلحاظ أصل الأثر تنزيل الخبر الواحد منزلة المتواتر.

الإيراد بالفرق بين الواسطة في الثبوت والعروض

هذا ولكن أجاب في النهاية عن (الإشكال الثاني): بأن التفاوت المزبور لا يضر إذا كانت الواسطة واسطة في الثبوت لا في ما إذا كانت واسطة في العروض فإنه لا أثر لذي الواسطة - حينئذٍ - حقيقة، بل بالعناية والمجاز (1).

واتصاف الفتاوى الواقعية بالمنجزية إنما هو من جهة اتصاف معلولها (أي القطع برأي الإمام (عليه السلام) ) بالمنجزية، فالقطع هو المنجز حقيقة، والسبب له منجز بالعناية، لا بالتبع، فلا أثر للفتاوى الواقعية حتى يكون المنقول كالمحصل فيما له من الأثر.

والخلاصة: إن تنزيل (الفتاوى المحكية) منزلة (الفتاوى المحصّلة) لا يصحّ، إذ لا أثر حقيقةً ل- (الفتاوى المحصّلة) فلا يكون للتنزيل المزبور معنى؛ إذ لا معنى لأن يقول الشارع: (نزلت المحكية منزلة المحصّلة في التنجز أو الحجية). مع أنها غير متصفة بالتنجز ولا بالحجية على نحو

ص: 383


1- نهاية الدراية 3: 183.

الحقيقة، فلا يترتب أثر على التنزيل، ولا يكون للمنزل أثر كما هو المدّعى في الإشكال الثاني.

التنظر في الإيراد

أقول: قد يتنظر في هذا الجواب من جهتين:

الأولى: إن الواسطة في المقام واسطة في الثبوت لا في العروض؛ إذ الواسطة في العروض إنما تكون في الأمرين العرضيين، كجريان الماء وجريان الميزاب، فجريان الماء واسطة في عروض (الجريان) على (الميزاب).

أما لو كان الأمران طوليين فالواسطة واسطة في الثبوت وذلك لأن أثر الأثر أثراً.

مثلاً: إذا كانت (حركة ألف) علّة ل- (حركة ب) و(حركة ب) علّة ل- (حركة ج) يصح أن تقول: إن (حركة ألف) علّة ل- (حركة ج).

وبعبارة أخرى: إن (حركة ألف) متصفة ب- (المحركية) ل- (حركة ج) ف- (حركة ب) واسطة في ثبوت (المحركية) ل- (ألف).

وعليه نقول: (الفتاوى المحصلة) في المقام لها أثر وهو القطع برأي الإمام (عليه السلام) ، والقطع برأي الإمام (عليه السلام) له أثر وهو: التنجز، فيصح أن نقول: الفتاوى المحصلة لها أثر وهو (التنجز).

وبعبارة أخرى: يصح أن نقول: الفتاوى المحصلة منجزة لرأي الإمام (عليه السلام) فهو نظير أن يقال: الخبر المتواتر سبب للقطع، والقطع سبب للتنجز، فالخبر المتواتر سبب للتنجز.

ص: 384

وبعبارة أخرى: (الخبر المتواتر منجز). فتأمّل.

الثانية: سلّمنا أن الواسطة واسطة في العروض.

لكن الأثر ينسب عرفاً لذي الواسطة، وإن كان بالدقة العقليّة أثراً للواسطة.

وحيث إن التنجز تصح نسبته عرفاً إلى الفتاوى المحصلة وإن كان بالدقة أثراً للقطع المعلول لها، يصحّ عرفاً تنزيل (الفتاوى المنقولة) منزلة (المحصلة) في ذلك الأثر.

وهذا التنزيل له أثر في تحديد موقف المكلّف تجاه الشارع - ولو كجزء العلة.

وبعبارة أخرى: إن التنزيل في المقام ينتهي إلى تحديد الموقف الشرعي ولو بوسائط.

3- عدم وجود الفرق بين نقل السبب التام والناقص

الإشكال الثالث: إنه لم يظهر الفرق بين نقل السبب التام والناقص؛ إذ ملاك عدم الحجية مشترك بينهما.

وأجاب عنه في النهاية: بأن نقل السبب التام له مدلول التزامي وهو الإخبار عن رأي الإمام (عليه السلام) ، فيكون حجة (1).

وفيه: أنه إخبار حدسي، فلا يكون حجة.

وبعبارة أخرى: أن المدلول المطابقي ليس موضوعاً لحكم ولا حكماً، والمدلول الالتزامي ليس الإخبار فيه حجة.

ص: 385


1- نهاية الدراية 2: 183.
4- عدم تمامية الإشكال لو كان المستند: السيرة العقلائية

الإشكال الرابع: أنه إنما يتم لو استند في حجية خبر الثقة إلى الأدلة اللفظية، أما لو استند على السيرة العقلائية فلا.

إن بناء العقلاء على اعتبار خبر الثقة، بلا فرق بين أن يكون سبباً تاماً أو ناقصاً. وقد أخبر الثقة باتفاق جمع من الفقهاء، فيكون حجة.

وحيث إن الاتفاق المزبور سبب ناقص في نظر المنقول إليه يضم إليه سائر الأمارات، فقد يكون سبباً تامّاً.

السادسة: الإخبار الحدسي عن الملزوم

الصورة السادسة: أن يكون الإخبار عن الملزوم إخباراً حدسياً بأن يتحدّس الناقل وجود الإجماع، فيكون من ضميمة حدسٍ إلى حدس (أي: الحدس برأي المعصوم (عليه السلام) ، والحدس بوجود الإجماع).

والظاهر: أن النقل في هذه الصورة ليس بحجّة، بناءً على أن الخبر الحدسي لا حجيّة فيه.

مثاله: ما ذكره الشيخ الأعظم رضوان اللّه عليه بقوله:

«ومن ذلك الإجماع الذي أدّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت في رسالته المسماة بخلاصة الاستدلال، حيث قال:

(أطبق الإماميّة عليه خلفاً عن سلف وعصراً بعد عصر وأجمعت على العمل به، ولا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيين، فإنّ ابني بابويه، والأشعريين، كسعد بن عبد اللّه صاحب كتاب الرحمة، وسعد بن سعد، ومحمد بن علي بن محبوب صاحب كتاب (نوادر الحكمة) والقمّيين

ص: 386

أجمع، كعلي بن إبراهيم بن هاشم، ومحمد بن الحسين بن الوليد، عاملون بأخبار المضايقة، لأنهم ذكروا أنه لا يحلُّ ردّ الخبر الموثوق برواته وحفظتهم الصدوق ذكر ذلك في (كتاب من لا يحضره الفقيه)، وخِرَّيت هذه الصناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودعٌ أخبار المضايقة في كتبه مفتٍ بها، والمخالف إذا عُلم باسمه ونسبه لم يضرّ خلافه) انتهى.

ولا يخفى: إنّ إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيٌ على الحدس والاجتهاد من وجوه:

أحدها: دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به، وهذا وإن كان غالبياً إلا إنّه لا يوجب القطع لمشاهدة التخلّف كثيراً.

الثاني: تمامية دلالة تلك الأخبار عند أولئك على الوجوب، إذ لعلهم فهموا منها بالقرائن الخارجية تأكد الاستحباب.

الثالث: كون رواة تلك الروايات موثوقاً بهم عند أولئك، لأنّ وثوق الحلّي بالرواة لا يدلّ على وثوق أولئك، مع أنّ الحلّي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقاتٍ، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر الواحد لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع، خصوصاً لمن يخطئ العمل بأخبار الآحاد.

وبالجملة، فكيف يمكن أن يُقال أنّ مثل هذا الإجماع إخبارٌ عن قول الإمام، فيدخل في خبر الواحد، مع أنّه في الحقيقة اعتمادٌ على اجتهادات الحلّي مع وضوح فساد بعضها، فإنّ كثيراًَ مّمن ذكر أخبار المضايقة قد ذكر

ص: 387

أخبار المواسعة أيضاً. وأنّ المفتي إذا عُلِم استناده إلى مدرك لا يصلح للرّكون إليه من جهة الدلالة أو المعارضة لا يؤثر فتواه في الكشف عن قول الإمام»(1).

السابعة: الشك في كون الإخبار عن الملزوم حسّياً أو حدسيّاً

الصورة السابعة: أنّ الشك في كون الإخبار عن الملزوم إخباراً حدسياً، والظاهر جريان «أصالة الحسّ» لكن بالشرط المتقدم في الصورة الثانية.

تنبيهات

التنبيه الأول: اختلاف الإجماعات المنقولة في مقدار دلالتها على السبب
اشارة

إن الإجماعات المنقولة تختلف في مقدار دلالتها على السبب، وذلك باختلاف الأمور المكتشفة بالنقل.

عوامل الاختلاف

ومن تلك الأمور:

1- اختلاف دلالة الألفاظ

فأنها تختلف في الصراحة والظهور والإجمال وفي تبيين حدود السبب.

مثلاً قد يقول الناقل: (أجمع المسلمون) أو (أجمع العلماء) أو (أجمع فقهاء الإسلام) أو (أجمع فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) ).

وقد يقول: (بلا خلاف).

وقد يقول: (لم أرَ فيه خلافاً) أو (لم يظهر فيه خلاف).

ص: 388


1- الوصائل 3: 49- 55.

2- اختلاف حال الناقل

فقد يكون واسع الباع موفور الإطلاع وقد لا يكون كذلك، وقد يكون ضابطاً، وقد لا يكون، وقد يكون متثبتاً في النقل، وقد لا يكون، وقد يكون واقفاً على الكتب، وقد لا يكون، وقد يكون متتبعاً للأقوال، وقد لا يكون، وقد يعتمد على وجدان الإجماع، وقد يعتمد على القواعد والأصول فيدّعي الإجماع، وقد يكون بطيء الاطمئنان، وقد لا يكون.

وقد قيل: إن الجامع لهذه الصفات جماعة من المتأخرين، كالفاضلين والشهيدين والفاضل الهندي ونحوهم.

3- اختلاف خصوصيات المسألة التي نقل فيها الإجماع

فقد تكون قديمة، أو مستحدثة، وقد تكون كثيرة الابتلاء، أو قليلة الابتلاء، وقد تكون محررة في كتب العلماء، أو مهملة فيها.

4- اختلاف مباني الناقلين

فقد يعتمد الناقل على (قاعدة اللطف) فلا يتم عنده الإجماع إلاّ لو اتفق الكل.

وقد يعتمد على (الحدس) فينتقل إلى رأي الإمام (عليه السلام) من اتفاق جماعة ولو مع مخالفة الكثيرين.

5- اختلاف العصور

فقد يكون عصره قريباً إلى عصر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، فتكون الإحاطة بالأقوال يسيرة، بخلاف ما لو كان عصره بعيداً، فإن الإحاطة بالأقوال المتكثرة مشكلة فتأمل، إلى غير ذلك من الأمور.

ص: 389

وقد يتعارض أمران أو أكثر من هذه الأمور، فلابد من الموازنة والترجيح.

التنبيه الثاني: في تعارض الإجماعين المنقولين
اشارة

لو تعارض إجماعان منقولان.

فقد قال في الكفاية: (إن التعارض لا يكون إلاّ بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين لاحتمال صدق الكل)(1).

وفيه:

أولاً: أنه مبني على أن السبب (مطلق الاتفاق الكاشف) أو (اتفاق الجميع في عصر من العصور).

فإنه عليها لا يكون ثمة تعارض في السبب، لإمكان انتقال فقيه من (اتفاق جماعة) إلى (موافقة المعصوم (عليه السلام) )، وانتقال فقيه آخر من (اتفاق جماعة أخرى) إلى (موافقة المعصوم (عليه السلام) ) أيضاً.

كما يمكن إجماع الفقهاء كافّة على حكم في عصر من العصور - كما لو فرض إجماع المتقدمين على انفعال البئر بمجرد الملاقاة.

وإجماع الفقهاء كافّة على ضده في عصر آخر - كما لو فرض إجماع المتأخرين على أن البئر لا تنفعل إلاّ بالتغيّر.

أما لو أريد بالسبب (اتفاق جميع العلماء في كلّ العصور) فالتعارض بحسب السبب قائم.

ويمكن دفع الإشكال بأن لفظة الإجماع لا يراد بها المعنى الأخير، بل

ص: 390


1- كفاية الأصول: 291.

ولا الثاني، وإن كانت بحسب الوضع اللغوي دالة عليه.

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «نعم، يمكن أن يقال إنّهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على إتّفاق الجماعة التي علم دخول الإمام (عليه السلام) فيها، لوجود مناط الحجّية فيه وكون وجود المخالف غير مؤثر شيئاً، وقد شاع هذا التسامح بحيث كاد أن ينقلب اصطلاح الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة إلى ما يعمّ اتّفاق طائفة من الإمامية، كما يُعرف من أدنى تتبع لموارد الاستدلال، بل إطلاقُ لفظ الإجماع بقول مطلق على إجماع الإمامية فقط، مع أنّهم بعضُ الأمة لا كلّهم، ليس إلاّ لأجل المسامحة، من جهة أنّ وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجية»(1).

ثانياً: إنّه مبني على أن المسبب هو (الحكم الواقعي) أو (رأي الإمام (عليه السلام) ).

إذ لا يمكن اجتماع حكمين متضادين في صقع الواقع، كما لا يمكن تعدد رأي الإمام (عليه السلام) .

وأما لو كان المسبب هو (وجود الدليل المعتبر) فحينئذٍ يمكن صدق الكل ولا تعارض، لإمكان استناد كلّ طائفة إلى دليل معتبر في حدّ ذاته.

ويمكن دفع الإشكال بأنّ المراد (الدليل المعتبر بالفعل) لا (بالقوة) ولا يحصل الاعتبار بالفعل إلاّ مع تمامية المقتضي وارتفاع الموانع - ومنها وجود المعارض. والمعتبر بالفعل لا يكون إلاّ واحداً.

وعليه: يتم ما في الكفاية من حصول التعارض في المسبب، وعدم

ص: 391


1- الوصائل 2: 365-366.

حصول التعارض في السبب(1).

[ لكن(2) أضاف في الكفاية(3) استدراكاً واستثناءً واستبعاداً.

أما الاستدراك فمع أنه لا تعارض في الفتاوى المنقولة بلحاظ السبب لكنها لا تصلح لأنْ تكون سبباً أو جزء سبب للكشف عن رأي الإمام (عليه السلام) ؛ وذلك للخلاف الذي وقع في نقل الإجماع، فتنتفي الصلاحية المذكورة.

أما الاستثناء فهو: إلا أن تكون في أحد النقلين خصوصية توجب انتقال المنقول إليه إلى رأي الإمام (عليه السلام) ، كما لو احتوى أحدهما على فتاوى جمع لا يفتون حسب الأصول والقواعد، وإنما يقفون على موضع النص الخاص، أو احتوى على فتوى ابن بابويه، حيث نقل إنها عبارة عن متون الروايات، أو احتوى على فتاوى أعلام فقهاء الطائفة المتقدمين في العلم والدقة والورع، فهذه الخصوصية في أحدهما قد تكون سبباً للانتقال إلى رأي الإمام (عليه السلام) .

ص: 392


1- ترك المصنّف (رحمه اللّه) هنا فراغاً بمقدار ست صفحات لعلّه لم يجد فرصة لكتابتها وأراد أن يكملها لاحقاً، لكن أمر اللّه وقضائه قد سبقه فقرّرها أحد تلامذته.
2- هذه هي الصفحات التي تركها (رحمه اللّه) فقرّرها أحد تلامذته.
3- كفاية الأصول: 291، وفيه: «... إنه لا يخفى أنّ الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلا بحسب المسبب، وأمّا بحسب السبب فلا تعارض في البين؛ لاحتمال صدق الكل، لكن نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلح لأن يكون سبباً، ولا جزء سبب لثبوت الخلاف فيها، إلا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه (عليه السلام) لو اطلع عليها، ولو مع اطلاعه على الخلاف، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلاً ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملاً بعيد، فافهم».

وأما الاستبعاد فقد قال: «إلا أنه بعيد»(1)، فإنّ الاطلاع على مثل تلك الخصوصية فيما لو كانت الفتاوى منقولة على نحو الإجمال بلفظ الإجماع بعيد، فإنّه مرآة إجمالية للفتاوى المجهولة، فكيف يعلم بتحقق تلك الخصوصية؟

نعم، لو نقلت على نحو التفصيل أمكن الانتقال المذكور.

لكنه محل تأمل من جهتين

الجهة الأولى: سلمنا أنّ الفتاوى المنقولة على نحو الإجمال لا تصلح أن تكون سبباً تاماً، لكن لا مانع من السببية الناقصة.

مثلاً: لو نقل المحقق الإجماع والعلامة الإجماع المضاد، فإنّ نقل المحقق يكشف عن اتفاق عشرة من الفقهاء مثلاً، لكنه لا يصلح للكاشفية، فإذا ضممنا إليه اتفاق عشرة من المنقولات أو الأقوال أو الأمارات الأُخر فإن كان المجموع بمقدار السبب التام حصل الانتقال إلى رأي الإمام (عليه السلام) ، فلم يظهر وجه لنفي كون الفتاوى المنقولة جزءاً للسبب.

الجهة الثانية: حول الاستبعاد المذكور، فإنّ الخصوصية غير منحصرة في شخص المجمعين أو في فتاواهم، وإنما قد تتحقق خصوصيات أُخر، كما لو كشف أحدهما(2) عن إجماع المتقدمين الكاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) مثلاً، فالخصوصية المذكورة تكون علة تامة للانتقال إلى رأي الإمام (عليه السلام) .

ص: 393


1- كفاية الأصول: 291، وفيه: «إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملاً بعيد».
2- أي: شخص المجمعين أو فتاواهم.

كما أنه قد تكون الخصوصية لنفس الناقل، حيث يعرف بدقته وتثبته في نقل الإجماع، كالشهيدين أو الفاضلين أو الفاضل الهندي، أو الشيخ الأنصاري، فيكون سبباً للانتقال المذكور.

و لعله إلى ذلك أشار إليه بقوله (فافهم).

التنبيه الثالث: في الإجماع المركب
اشارة

فإنّ الإجماع ينقسم إلى بسيط، وهو اتفاق الجميع على رأي واحد، ومركب وهو انقسام رأي الفقهاء إلى قولين أو أكثر، بحيث يلزم نفي قول آخر(1).

حجية الإجماع المركب

والكلام في حجية الثاني، ويبدو في بادئ النظر أن الإجماع المركب نوعان:

الأول: أن يكون له عقدان: سلبي وإيجابي، بأن يجمعوا على وجوب الجمعة أو استحبابها، مع اتفاقهم على عدم حرمتها.

ومآله إلى الإجماع البسيط؛ لأن العقد السلبي ينفي الحرمة، فيمكن القول بأنه انعقد الإجماع البسيط على نفي الحرمة، فيشمله مباحث الإجماع البسيط.

الثاني: أن لا يكون للإجماع المركب عقد سلبي، كأن يجمعوا على أنه واجب تعييني أو تخييري، فهل هذا الإجماع حجة في نفي الثالث؟

ص: 394


1- الفصول الغروية: 255؛ دروس في علم الأصول 2: 133، وفيه: «يقسم الإجماع إلى بسيط ومركب: فالبسيط هو الاتفاق على رأي معين في المسألة، والمركب هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتاً بالإجماع المركب...».

وهنا يمكن القول: إنَّ الثالث قد يكون مبايناً للقولين بالتباين الكلي، وقد لا يكون كذلك.

فعلى الأول: يمكن أن يكون حجة في نفي الثالث حسب المسالك المختلفة ، كما لو شك في طريق مكة، وانقسم الخبراء إلى طريقين أمكن نفي اختيار الثالث المباين لهما كلياً عبر المسالك المتقدمة.

مثلاً: بناءً على قاعدة اللطف، فإنّ اللّه لا يترك الأمة على ضلال، فلو كان الطريق الواقعي هو الثالث كان خلاف اللطف، فالقولان حجة في نفي الثالث.

وبناءً على مسلك الحدس أو حساب الاحتمالات، فاحتمال كون الثالث هو الطريق مع إجماع أهل الفن على خلافه بعيد، فيتم الحدس على مطابقة أحد القولين للواقع، ومخالفة الثالث للواقع قطعاً.

وعلى الثاني: بأنّ لا يباين الثالث الأولين مباينة كلية، وإنما مباينة جزئية، فلا يعلم أنَّ المتقدم ينفي الثالث

مثلاً: في باب إذن الولي في نكاح البكر، لو انقسم الفقهاء إلى مَنْ يشترط إذن الولي في نكاح البكر مطلقاً، ومَنْ لا يشترط مطلقاً، فجاء الثالث بالاشتراط في الدائم وعدمه في الموقت، أو الاشتراط مع الدخول وعدمه مع عدمه، فبناء على مسلك اللطف لم تجتمع الأمة على ضلال قبل القول الثالث، بل كل منهم أخذ بجانب من الواقع، وبناءً على مسلك الحدس لم يحصل الحدس القطعي على مخالفة الثالث للواقع أو الإمام (عليه السلام) .

ص: 395

ويؤيد ذلك ملاحظة حواشي العروة(1)، حيث الأقوال المتعددة التي بدأت بسيطة بين الوجوب والحرمة، ثم تعددت الأقوال، فلو كان الإجماع المذكور حجة في نفي الثالث لوجب إلغاء جميع التفصيلات.

التنبيه الرابع: في المتواتر المنقول بخبر الواحد

فلو نقل الخبر المتواتر عبر الخبر الواحد، كما لو قال الشهيد الثاني: تواترت الأخبار بأنَّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء، فالأخبار المذكورة متواترة محصلة عند الشهيد، لكنها منقولة إلينا حيث لم نعثر عليها.

وإجمال الكلام فيه : إن للخبر المذكور مدلولين: التزامي ومطابقي.

أما الأول: بمعنى كونه رأي الإمام (عليه السلام) فليس بحجة، لأنه إخبار حدسي، وأدلة حجية الخبر لا تشمل الإخبارات الحدسية.

وأما الثاني: فلابد من ملاحظة مقدار كشفه للسبب بلحاظ لفظ الناقل وحاله، وموضوع المسألة وما أشبه مما مضى، فلو كان سبباً تاماً وحصل منه القطع حصل الانتقال إلى لازمه، أما لو كان سبباً ناقصاً فلا يكون حجة، إلا بضم ضمائم تحوّل هذا السبب الناقص إلى سبب تام.

ويعلم بقية الكلام مما مضى في مباحث الإجماع المنقول بالخبر الواحد.]

ص: 396


1- العروة الوثقى 5: 614-616.

فصل في الشهرة

اشارة

ص: 397

ص: 398

فصل في الشهرة

ومن الظنون التي قيل باعتبارها بالخصوص: «الشهرة».

تنقيح محل البحث

اشارة

ولتنقيح محل البحث نقدّم مقدمة وهي: إن الشهرة على ثلاثة أنواع:

1- الشهرة الروائية.

2- الشهرة العملية.

3- الشهرة الفتوائية.

الشهرة الروائية

أما الشهرة الروائية: فهو بمعنى كثرة نقل الرواية، وبعبارة أدق: كثرة الناقل للرواية.

وفي قبال ذلك (الشذوذ) و(الندرة) بمعنى قلّة نقل الرواية، أو قلّة الناقل لها.

وقد ذهب المشهور إلى أن (الشهرة الروائية) من (مرجحات الخبرين المتعارضين) استناداً إلى مرفوعة زرارة، ومقبولة عمر بن حنظلة.

وموضع بحث ذلك هو «مبحث التعادل والتراجيح».

الشهرة العملية

وأما الشهرة العملية فهي عبارة عن: «شهرة خبر في الاستناد في الفتوى إليه».

ص: 399

وبعبارة أخرى: استناد المشهور إلى خبر في مقام الإفتاء.

وبعبارة ثالثة: اشتهار الرواية من حيث العمل، بأن يكون العامل بها كثيراً.

وهذه الشهرة جابرة للخبر الضعيف من حيث السند عند المشهور.

وفي قبال ذلك: إعراض المشهور عن رواية، فأنه يوجب وهن الرواية وإن كانت صحيحة أو حسنة أو موثقة عند المشهور.

والنسبة بين (الشهرة الروائية) و(الشهرة العملية) هي العموم من وجه، فقد يكثر الناقل للرواية دون أن يعمل بها المشهور، أو قد يكون العكس، وقد يجتمعان، وموضع بحث ذلك «مبحث حجية الخبر الواحد».

الشهرة الفتوائية

وأما (الشهرة الفتوائية) فهي محل الكلام فعلاً من حيث الحجية وعدمها.

وقد عرفت (الشهرة الفتوائية) بأنها عبارة عن: «اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام بين الفقهاء، من دون أن يعلم مستند الفتوى».

هذا ولكن الظاهر: إن القيد الأخير مستدرك؛ إذ مع العلم بالمستند: قد يبحث في أن المستند، هل ينجبر بالعمل فيكون حجة أو لا؟ وهذا هو بحث «الشهرة العملية».

وقد يُبحث في أن الشهرة بذاتها حجة مع قطع النظر عن إنجبار المستند بالعمل، وهذا هو بحث «الشهرة الفتوائية».

والخلاصة

أنه في «الشهرة المدركية» تارة يبحث في المدرك، وتارة يبحث في نفس الشهرة. فتأمّل.

ص: 400

وعليه: ينبغي تعريف الشهرة الفتوائية بأنها: «عبارة عن اشتهار الفتوى بين أرباب الفتوى، سواء علم استنادهم إلى رواية خاصة أو لا».

والظاهر: إن النسبة فيما بين «الشهرة العملية» و«الشهرة الفتوائية» هي العموم المطلق.

فكلما كانت شهرة عملية كانت شهرة فتوائية، ولا عكس؛ إذ قد يكون المستند دليلاً عقلياً وقد يكون مجهولاً.

أدلة حجية الشهرة الفتوائية

وقد استدل لحجية الشهرة الفتوائية بأدلة:

1- الدليل الأول: إن أدلة حجية الخبر الواحد تدلّ على اعتبار الشهرة بالفحوى - أي بالأولوية.

فإن مناط حجية الخبر: الظن النوعي الحاصل منه، والظن النوعي الحاصل من الشهرة أقوى من الظن النوعي الحاصل من الخبر، لا أقل من كونه مساوياً له، فيكون المناط في حجّيته موجوداً فيها، والعلة تعمّ وتخصص، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

وبعبارة أخرى: حجية الخبر إنما هي من باب الطريقية لا الموضوعية، والشهرة قد تكون أقوى من الخبر في الطريقية خاصة إذا كان الخبر مع الوسائط.

هذا ولا يخفى أن مقتضى هذا الدليل حجّية كل ظنٍ مساوٍ للظن الحاصل من الخبر أو أقوى منه، سواء حصل من الشهرة أو فتوى جماعة من الفقهاء, أو فتوى فقيه واحد، فاللازم ذكر هذا الدليل في جملة أدلّة حجية

ص: 401

«الظن المطلق» لا أدلة حجية «الشهرة» على نحو الخصوص.

الجواب عن الدليل الأول

وأجيب عن ذلك:

أولاً: بعدم دلالة أدلة حجية الخبر على كون مناط اعتباره إفادته للظن حتى يتعدّى إلى الشهرة بسبب العلة المشتركة.

غاية الأمر ينقح ذلك الظن، وهو لا يوجب إلاّ الظن بأنها أولى بالاعتبار ولا اعتبار بالاولوية الظنية.

توضيحه: إن الملاك أما قطعي وأما ظنّي.

والملاك القطعي غير موجود في المقام، إذ يحتمل كون ملاك حجية الخبر كونه غالب المطابقة للواقع، عند الشارع العالم بالغيب، بخلاف الشهرة عنده، كما يحتمل دخل خصوصية أخرى في ملاك حجية الخبر، ومجرّد احتمال ذلك كافٍ في منع الأولوية المذكورة، لأنّ الحكم بالأولوية يحتاج إلى القطع بالملاك، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وكذا الأمر في «المساواة».

وأما الملاك الظني فلا يجدي؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً.

ويرد عليه: بأنه تارة يكون مستند حجية الخبر: الأدلة اللفظية، وأخرى السيرة العقلائية.

وما ذكر إنما يتم على الأول، وأما على الثاني فلا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجية الخبر، بل بناؤهم قائم على اعتبار كل الامارات المفيدة للظن أو الاطمئنان، ومنها الشهرة؛ إذ حجية الامارات

ص: 402

العقلائية ليست من باب التعبد، بل من باب الطريقية، وليست ملاكات السير العقلائية غائبة عنّا، كما هو الشأن في الأحكام الشرعية، بل هي واضحة عندنا حاضرة لدينا، فإذا فرض أن طريقية الشهرة كانت كطريقية الخبر كانت مثله في الحجية.

بل لو فرض أن المستند: الأدلة اللفظية فلا يقدح بالاستدلال؛ إذ دليلية الدليل اللفظي لا تلغي دليلية السيرة العقلائية وإن فرض كونها أوسع من السيرة العقلائية في الحدود، وحيث إنها بملاك الطريقية، فإذا فرض كون الشهرة طريقاً كالخبر، كانت حجة مثله، بالملاك العقلائي المشترك، فتأمل(1).

ص: 403


1- ترك المصنّف (رحمه اللّه) هنا فراغاً بمقدار (25) صفحة لعلّه لم يجد فرصة لكتابتها وأراد أن يكملها لاحقاً، لكن أمر اللّه وقضائه قد سبقه فقرّرها أحد تلامذته وطبعت في الجزء السابع من الموسوعة.

ص: 404

فصل في الخبر الواحد

اشارة

ص: 405

ص: 406

ومن جملة الظنون التي قيل باعتبارها بالخصوص (الخبر الواحد).

وقبل الدخول في أصل المطلب نقدّم مقدمات ثلاث:

1- توقف حجية الخبر على جهات ثلاث

المقدمة الأولى: إن حجية الخبر تتوقف على ثلاث جهات:

الأولى: إحراز الصدور (أي صدور الخبر عن المعصوم (عليه السلام) ).

الثانية: إحراز الإرادة والظهور.

الثالثة: إحراز الجهة (أي كون الكلام صادراً لبيان الحكم الواقعي).

والذي يتكفل الجهة الثالثة: الأصول العقلائية الجارية لتنقيح صدور الكلام لبيان المراد النفس الأمري،، لا صدوره من أجل التقية ونحوها، ويصطلح على ذلك ب- (أصالة الجهة).

والذي يتكفل الجهة الثانية: الأوضاع اللغوية والعرفية والقرائن الخاصة والعامة المكتنفة للكلام وأصالة التطابق بين الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية.

والذي يتكفل الجهة الأولى(1): هذا البحث.

فالبحث في حجية الخبر بحث عن إثبات صدور المضمون عن

ص: 407


1- الموجود في الأصل (الجهة الثالثة) ونظنّه من سهو القلم.

المعصوم (عليه السلام) بالخبر الواحد ثبوتاً تعبدياً.

2- أهمية هذه المسألة

المقدمة الثانية: إن هذه المسألة بضميمة مباحث (التعادل والتراجيح) من أهم المسائل الأصولية؛ إذ على الخبر يدور رحى الفقه، ولولاها لانسدّ باب العلم.

إذ «الضروريات» قليلة في الفقه، وهي لا تفي إلاّ بإثبات الأحكام على نحو الإجمال.

و«اليقينيات» - الثابتة بالأخبار المتواترة أو بأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعية- قليلة أيضاً.

فغالب الأحكام الشرعية إنّما يثبت بأخبار الآحاد.

وبإثبات حجية الخبر ينفتح باب العلمي في الأحكام الشرعية وينسد باب الانسداد، وبعدمها ينسد باب العلمي وينفح باب الانسداد. فتأمل.

3- المراد بالخبر الواحد

المقدمة الثالثة: إن المراد بالخبر الواحد: ما لم يبلغ حدّ التواتر، وإن تعدّدت رواته أو طرقه.

وإنّما يُسمّى «الخبر الواحد» على نحو «التوصيف أو «خبر الواحد» - على نحو الإضافة. لغلبة ذلك فيه كما قيل: أو يكون ذلك من باب إطلاق الجزئي على الكلي، وإلاّ فالمتعدد الذي لم يصل إلى حد التواتر داخل فيه.

إذا عرفت ذلك نقول:

المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً حجية الخبر الواحد في الجملة

ص: 408

بالخصوص.

وخالف في ذلك جماعة من القدماء والمتأخرين.

منهم السيد المرتضى (رحمه اللّه) في «الذريعة» و «أجوبة المسائل التبّانيّات» و«رسالة في إبطال العمل بخبر الواحد» والقاضي بن البراج وابن زهرة في «الغنية» والطبرسي في «مجمع البيان» في تفسير «آية النبأ» وابن إدريس الحلي في «السرائر» وبعض آخر.

واحتمل السيد الوالد (رحمه اللّه) إرادتهم غير جامع الشرائط كما استظهر من عبارة الشيخ، أو في قبال العامة حتى يكون لهم مناص عند الاحتجاج(1).

وعلى كلّ : فقد استدلّ لهذا القول بالأدلة الأربعة:

أدّلة عدم حجية خبر الواحد

1- الكتاب العزيز

اشارة

ويدل على ذلك منه: الآيات الكريمة الناهية عن اتباع غير العلم.

منها قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2).

وقوله سبحانه: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(3).

وقوله عز من قائل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}(4).

وقوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ

ص: 409


1- الأصول: 650.
2- الإسراء: 36.
3- النجم: 28.
4- النجم: 23.

نَادِمِينَ}(1).

وقوله سبحانه: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(2).

بضميمة أن الخبر الواحد يتضمن ما يخالف الواقع، وهو اثم إذ المراد به الواقعي لا المعلوم.

الإيراد على الاستدلال

ويرد على الاستدلال بالكتاب العزيز لإثبات عدم الحجية أمور:

الأول: ما هو المختار:(3).

[حول الاستدلال بآية النبأ على حجية الخبر الواحد]

3- المفهوم كلّي له فردان

3- المفهوم كلّي له فردان(4)

الجواب الثالث: ما ذكره الملا صالح المازندراني (رحمه اللّه) في حاشيته على المعالم.

وتوضيحه: إن مفهوم آية النبأ كلّي له فردان:

الأول: أن لا يكون هنالك جاءٍ بالنبأ أصلاً.

الثاني: أن يكون هنالك جاءٍ بالنبأ، ولكنه لا يكون فاسقاً.

وحيث لا يجب التبين في الصورة الثانية – كالأولى- يكون ذلك

ص: 410


1- الحجرات: 6.
2- الحجرات: 12.
3- ترك المصنّف (رحمه اللّه) هنا فراغاً بمقدار (30) صفحة, لعلّه لم يجد فرصة لكتابتها وأراد أن يكملها لاحقاً، لكن أمر اللّه وقضائه قد سبقه فقرّرها أحد تلامذته وطبعت في الجزء السابع من الموسوعة.
4- من هنا بدأ المصنّف (رحمه اللّه) بعد (30) صفحة.

مستلزماً لحجية خبر العادل، وهو المطلوب.

4- حمل المفهوم على السالبة بانتفاء الموضوع خلاف الظاهر

اشارة

الجواب الرابع: ما ذكره المحقق القمي (رحمه اللّه) من أن جعل مدلول الآية الكريمة «على وجوب التبّين عند انتفاء خبر الفاسق لأجل عدم وجود ما يتبين عنه» يوجب حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع، وهو خلاف الظاهر(1).

والخلاصة:

إن حمل المفهوم على صورة عدم وجود جاءٍ بالنبأ أصلاً يوجب حمل السالبة على السالبة بانتفاء الموضوع.

وحمله على صورة وجود جاءٍ بالنبأ إلاّ إنه ليس بفاسق يوجب حمل السالبة على السالبة بانتفاء المحمول.

والأول خلاف الظاهر، بل قيل إن استعمال الجملة فيها مجاز، فيتعين الثاني.

مثلاً: لو قيل: «ليس زيد في الدار» يمكن أن يكون النفي لعدم وجود زيد في عالم الوجود أصلاً، ويمكن أن يكون لانتفاء كينونته في الدار مع وجوده في نفسه، والأول خلاف الظاهر، فيكون الظاهر الثاني.

ولا يخفى الفرق بين هذا الجواب والجواب المتقدم؛ إذ فيه حملت القضية على السالبة بانتفاء المحمول، بخلاف سابقه حيث جعل لها فردان.

ص: 411


1- قوانين الاصول: 433.
إيراد الشيخ الأعظم على الجوابين الأخيرين

وأورد الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) على هذين الجوابين:

«بأنّ مفاد القضية الشرطية - بحسب الدلالة العرفية أو العقلية: هو انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه.

نفرض مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ- لا يوجب انتفاء التبين عن خبر العادل الذي جاء به، لأنه لم يكن مثبتاً في المنطوق حتى ينتفي في المفهوم. فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع»(1).

وأضاف (رحمه اللّه) : «وليس هنا قضية لفظية سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أو لانتفاء الموضوع»(2).

توضحيه: إن المعتبر في انتزاع المفهوم: إبقاء القضية في طرف المفهوم على ما كانت عليه في طرف المنطوق.

ويتحقق ذلك بأن لا يكون هناك أي فرق بين المنطوق والمفهوم لا في الموضوع ولا في المحمول ولا في أية حيثية من الحيثيات، ويتمحض الفرق بينهما في الإيجاب والسلب فقط.

وعليه فمنطوق الآية الكريمة «مجيء الوليد مثلاً بالخبر».

ومفهومها: «عدم مجيء الوليد بالخبر».

ص: 412


1- فرائد الأصول 1: 257.
2- فرائد الأصول 1: 257.

وأما «مجيء أبي ذر مثلاً - بالخبر» فلم يكن مثبتاً في المنطوق، حتى يكون مثبتاً في المفهوم.

مثلاً: إذا قلنا «إن جاء زيد فأكرمه» لا يكون «مجيء عمرو» منظوراً إليه في المنطوق، فلا يكون منظوراً إليه في المفهوم أيضاً.

لا يقال: إن «عدم مجيء الفاسق بالنبأ» ينطبق على «مجيء العادل بالنبأ» أو يلازمه.

فإنه يقال: إن القضية لو لوحظت في حدّ ذاتها تكون شاملة لذلك، ولكن لو لوحظت بما أنها مفهوم للمنطوق الخاص لا تكون شاملة له.

وبعبارة أخرى: إن «مجيء العادل» مسكوت عنه في المنطوق والمفهوم، ولا إطلاق للمفهوم ليشمله مجيئه به؛ إذ ليس المولى في مقام البيان من هذه الجهة.

وأما ما ذكره المحقق القمي (رحمه اللّه) فإنما يصح لو كان هنالك دوران بين السالبتين، كما في مثال «ليس زيد في الدار» ولكن المفهوم في الآية الكريمة متعين للسالبة بانتفاء المحمول، فلا دوران.

مناقشة

أقول: الظاهر إن إيراد الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) تام. إلاّ أن الأولى أن يقال: إنه ليس للآية الكريمة مفهوم بالمعنى الأصولي - لا أن لها مفهوماً، إلاّ أنه على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ويظهر ذلك بملاحظة النظائر.

مثلاً, لو قيل: «إن قدم زيد من السفر فاستقبله» لم يكن للقضية مفهوم، لا

ص: 413

أن مفهومها هو «إن لم يقدم زيد من السفر فلا يجب عليك استقباله» لعدم وجود من يستقبل.

وكذا لو قيل: «إن تزوجت فلا تُضيع حقّ زوجتك».

وكذا في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(1).

وقوله سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}(2).

إلى غير ذلك من النظائر.

5- القضية ظاهرة في انحصار الموضوع

اشارة

الجواب الخامس: ما ذكره صاحب الكفاية قال: «مع أنه يمكن أن يقال: إن القضية ولو كانت مسوقة لذلك (أي لبيان تحقق الموضوع) إلاّ أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر»(3).

توضيحه

إننا لو سلّمنا إن الموضوع هو «مجيء الفاسق بالنبأ» لا «طبيعي النبأ» فكان الشرط محققاً للموضوع، إلاّ أنه مع ذلك يثبت المطلوب وهو حجية خبر العادل.

إذ ظاهر الآية الكريمة: انحصار «موضوع وجوب التبين» في «مجيء

ص: 414


1- النساء: 86.
2- الأعراف: 204.
3- كفاية الأصول: 296.

الفاسق بالنبأ».

ومن الواضح: إن الموضوع لو كان منحصراً يفيد سلب المحمول عن سائر الموضوعات فينتفي الحكم عند انتفاء هذا الموضوع المنحصر، ولو وجد موضوع آخر وهو «مجيء العادل بالنبأ».

وأورد عليه بأن القضية الشرطية لو كانت مسوقة لبيان الموضوع لا تفيد إلاّ كون الموضوع للحكم أمراً كذا ومن الواضح أن إثبات الحكم لموضوع لا يدل على انتفائه عن موضوع آخر.

وبعبارة أخرى استفادة الحصر من الآية المباركة تتوقف على دلالتها على المفهوم وبعد تسليم أنها مسوقة لبيان الموضوع لا مفهوم لها فكيف تصح دعوى ظهورها في الحصر(1).

توضيح وجه الانحصار

هذا ولكن أوضح في النهاية وجه إفادة الحصر ولو كانت الشرطية مسوقة لبيان الموضوع بقوله:

«إن أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلواً لها(2) فيما له من الشأن(3) بالإضافة إلى سنخ الحكم المنشئ(4) لأنّ انتفاء شخص الحكم(5) بانتفاء

ص: 415


1- مصباح الأصول 2: 160.
2- أي الشرط (منه (رحمه اللّه) ).
3- أي الموضوعية أو العلية (منه (رحمه اللّه) ).
4- أي طبيعي الحكم (منه (رحمه اللّه) ).
5- مثاله: هذه الحركة الشخصية (منه (رحمه اللّه) ).

شخص موضوعه(1) أو شخص علته(2) لا يحتاج إلى دلالة على الحصر.

فالحصر [إنما هو] بالإضافة إلى سنخ الحكم، فإن كان الواقع عقيبها(3) معلقاً عليه حقيقة الحكم(4) كانت السببية منحصرة، ومقتضى انحصار العلة انتفاء المعلول بانتفائها.

وإن كان محققاً للموضوع(5) كان الموضوع الحقيقي منحصراً فيما وقع عقيب الأداة، ومقتضى انحصار موضوع سنخ الحكم في شيء انتفائه بانتفائه وإن كان هناك موضوع آخر»(6).

التأمّل في التوضيح

وفيه: إن ما بني عليه الاستدلال - وهو ظهور أداة الشرط في الحصر في الجمل المسوقة لبيان الموضوع- محل تأمل؛ إذ قد يدّعى إن ظاهرها فيها هو (التعليق) و(الربط) فقط، وربما يدل على ذلك ملاحظة النظائر.

مثلاً, قولنا: «إن قدم زيد من السفر فاستقبله» لا يفهم منه عرفاً إن الموضوع الوحيد لوجوب الاستقبال هو «القدوم من السفر» ولا يوجد هنالك موضوع سواه؛ إذ ليس الكلام في مقام بيان ذلك، بل يفهم منه الربط والتوقيت، أي يجب عليك استقباله في ظرف القدوم.

ص: 416


1- كهذا المتحرك (منه (رحمه اللّه) ).
2- كهذا المتحرك (منه (رحمه اللّه) ).
3- أي عقيب الأداة (منه (رحمه اللّه) ).
4- كما في «إن جاء زيد فأكرمه» (منه (رحمه اللّه) ).
5- كما في «إن تزوجت فانفق على زوجتك» (منه (رحمه اللّه) ).
6- نهاية الدراية 3: 209.

وبعبارة أخرى: إنه في مقام بيان ربط الوجوب ب- (القدوم) في قبال (عدم القدوم) لا في قبال سائر الموضوعات، ولذا يكون ساكتاً عنها.

وكذا في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}(1) لا يستفاد منه «إن الموضوع الوحيد لوجوب الاستماع والإنصات هو قراءة القرآن، ولا يوجد موضوع للوجوب سواه» بل يستفاد منه صرف الربط والتعليق.

وكذا لو قيل: «إن رزقت ولداً فاختنه»، فإنه لا يستفاد منه «عدم وجوب ختان الأخ» أو «ختان ولد الجار»؛ إذ ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

بيان آخر لإفادة الحصر

وللنهاية بيان آخر في إفادة الجملة الشرطية المسوقة لبيان الموضوع: الانحصار، قال: «بل يمكن تقويته بدعوى أن أداة الشرط شأنها التعليق دائماً غاية الأمر أن المعلق عليه ربما لا يعقل له بدل يمكن أن ينوب عنه سواء كان علة كما في مثل (إن سأل زيد فأجبه) أو محققاً للموضوع كما في مثل (إن رزقت ولداً فاختنه) وأشباهه، فالانتفاء عند الانتفاء عقلي. وربما يعقل له بدل لكنه يؤخذ في القضية على نحو المحقق للموضوع بالعدول عن جعل الفسق معلقاً عليه كما في التقريب الأول من المتن إلى جعل المجيء معلقاً عليه مع كونه ذا بدل فيكون النكتة فيه إظهار حصر الموضوع في ما أخذ الشرط فيه محققاً له بدعوى أنه كالمحقق الذي ينتفي الحكم بانتفائه عقلاً، فيكون آكد في الدلالة على انتفاء الحكم عند انتفائه من سائر القضايا

ص: 417


1- الاعراف: 204.

الشرطية التي يدعى دلالتها على المفهوم»(1).

توضيحه
اشارة

إن أداة الشرط تفيد (التعليق).

(والمعلّق عليه) - أي الشرط- ينقسم إلى قسمين:

1- ما لا يعقل له بدل

مثل «إن رزقت ولداً فاختنه» فإن الطريق الوحيد لتحقق (المتعلق) - أي الجزاء- هو وجود (المعلق عليه) - أي الشرط- ولا يوجد هنالك طريق سواه.

ومن هنا يكون انتفاء المشروط (المعلّق) عند انتفاء الشرط (المعلق عليه) عقلياً تكوينياً قهرياً؛ إذ المفروض أنه لا طريق آخر لتحقق المشروط.

2- أن يعقل به بدل

وهذا القسم ينقسم إلى قسمين:

أ) أن لا يؤخذ على نحو الشرط المحقق للموضوع، مثل (إن جاءك زيد فأكرمه) ولا إشكال في ثبوت المفهوم حينئذٍ، إلاّ إن الانتفاء عند الانتفاء يكون تعبدياً.

ب) أن يؤخذ على نحو الشرط المحقق للموضوع.

ولابد لهذا العدول - من الأخذ بالنحو الأول إلى الأخذ بالنحو الثاني- من نكتة، وتلك النكتة هي «إظهار حصر الموضوع» بدعوى أنه «كالشرط المحقق للموضوع» الذي ينتفي الحكم بانتفائه قهراً.

ص: 418


1- نهاية الدراية 3: 209-210.

والخلاصة: إن النكتة في العدول بيان أن وزان هذه القضية وزان «الشرطية المسوقة لبيان الموضوع» فكما يكون الانتفاء فيها قهرياً عقلياً، كذلك يكون الانتفاء فيها قهرياً عقلياً.

ولا شك أنّ الانتفاء التكويني العقلي أقوى من الانتفاء التعبدي الشرعي، إذ لا يعقل الوجود فيه مطلقاً، بخلاف الأخير.

فتكون القضية المعدولة أقوى في الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء من سائر القضايا الشرطية التي يُدّعى دلالتها على العموم [أو المفهوم]. هذا كله بلحاظ الكبرى.

وأما بلحاظ الآية الشريفة: فكان يمكن جعل (فسق الجائي معلّقاً عليه) بأن يقال: «النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّن عنه».

إلاّ إنه جعل «مجيء الفاسق بالنبأ معلّقاً عليه». ووزان الأول وزان «إن جاء زيد فأكرمه». ووزان الثاني وزان: «إن رزقت ولداً فأختنه».

فالعدول إلى النحو الثاني دليل على انحصار الموضوع، ولا شك أنه مع انتفاء الموضوع المنحصر ينتفي الحكم.

وعليه: فإذا جاء العادل بالنبأ لا يجب التبيّن عنه، وهو المطلوب.

المناقشة في هذا البيان

وفيه: أنّ مورد نزول الآية الكريمة ليس هو «طبيعي النبأ» بل «مجيء الفاسق بالنبأ» فلا عدول حتى يسأل عن «نكتته» ويجاب بما ذكر.

وبعبارة أخرى: لو كان هنالك سؤال عن «النبأ» - كطبيعي- نعدل عن الجواب ب- «النبأ إن جاء به الفاسق» إلى «إن جاء الفاسق بالنبأ» كان لما ذكر

ص: 419

مجال.

ولكن ليس المطروح في المقام ذلك، بل «مجيء الفاسق بالنبأ» فإنه مورد نزول الآية الكريمة، فوزان ذلك وزان ما لو سألك سائل: إن جاءني فاسق بنبأ فماذا أفعل؟ فأجبت: إن جاء فاسق بنبأ فتبّين عنه.

والخلاصة

إنه لا عدول حتى يبني عليه ما ذكر.

مع انه مجرد تحليل عقلي، ولا تبنى الظهورات العقليّة على مثله، فتأمل.

6- استظهار وجود المفهوم من مورد النزول

الجواب السادس: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) قال: «الإنصاف أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول، فإن موردها - كما تقدّم- كان إخبار «الوليد» بارتداد «بني مصطلق» فقد اجتمع في إخباره عنوانان: كونه من الخبر الواحد وكون المخبر فاسقاً، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها، وقد علّق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقاً، فيكون الشرط لوجوب التبين هو «كون المخبر فاسقا» لا «كون المخبر واحداً» لأنه لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق.

ولا يتوهم: أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط أو إلى دلالة الإيماء، فأن ما

ص: 420

بينّاه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.

وبالجملة: لا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية، ولابد من أن يكون مورد النزول من صغرياتها وإلا يلزم خروج المورد عن العام وهو قبيح، بل العام بالنسبة إلى المورد كالنص وكأنه مذكور في العام بالنصوصية، فلابد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية، ولما اجتمع في مورد النزول عنوانان وعلق الحكم على أحدهما دون الآخر كان الجزاء مترتباً على خصوص ما علق عليه في القضية وهو كون المخبر فاسقاً مع فرض وجود العنوان الآخر وعدم دخله في الجزاء، وإلا لعلق الجزاء عليه، فيكون مفاد منطوق الآية بعد ضم المورد إليها، أن الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقاً فتبيوا «ومفاد المفهوم» أن الخبر الواحد إن لم يكن الجائي به فاسقاً فلا تتبينوا فالقضية تكون من القضايا الشرطية التي علق الحكم فيها على ما لا يتوقف عليه الحكم عقلاً»(1).

وفيه:

نقضاً لما لو قيل: «أكرم العالم» حيث اجتمع في الموضوع عنوانان: أحدهما أنه رجل، والآخر أنه عالم، فجعل الموضوع خصوص «العالم» دون «مطلق الرجل» كاشف عن انتفاء وجوب التبّين عند انتفائه، وهكذا الأمر في جميع «الجمل الوصفية» ولا يقولون بثبوت المفهوم فيها، وخاصة أن الوصف في الآية الكريمة غير معتمد على الموصوف.

وحلاًّ: بما ذكر في مفهوم «الوصف» فلاحظ.

ص: 421


1- فوائد الأصول 3: 169-170.

قوله: «والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلّيّة لتمييز الأخبار التي يجب التبّين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها».

فيه: أنه أول الكلام؛ إذ كما يحتمل كونها مسوقة لبيان ذلك يحتمل كونها مسوقة لبيان «حكم خبر الفاسق».

وبعبارة أخرى: لا شكّ أن الآية الكريمة تتضمن قاعدة كلّيّة، إلاّ أنه كما يحتمل ورودها لبيان «حكم طبيعي النبأ» كذلك يحتمل ورودها لبيان «حكم خبر الفاسق» إلاّ أن يدّعى الظهور في الأول، فتأمل.

قوله: «لأن لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه».

فيه: إن عدم التعليق لعله من أجل عدم كونه محل الكلام فعلاً، أو للتنبيه على فسق الوليد مثلاً، أو لغير ذلك.

قوله: «وبالجملة لا إشكال في أن الآية الكريمة بمنزلة الكبرى الكلّيّة ولابد من أن يكون مورد النزول من صغرياتها» يظهر الحال فيه مما تقدّم.

7- الآية في مقام تقرير المرتكزات العقلائية

الجواب السابع: ما أفاده السيد السبزوراي (رحمه اللّه) قال: «أن سياق الآية يدلّ على أنّها في مقام بيان القاعدة الكلّية، وتقرير ما ارتكز في العقول من دوران الاعتماد على شيء مدار الوثوق والاطمئنان به وإنّ هذا هو العلّة المنحصرة في ذلك فما يكون موثوقاً به يُعتمد عليه دون غيره »(1).

وهذا الجواب ينحل - ظاهراً - إلى جوابين:

ص: 422


1- تهذيب الأصول 2: 93.

أ) أن الآية الكريمة في مقام بيان القاعدة الكلّيّة.

وقد ظهر الجواب عنه مما تقدّم في «الجواب السادس».

ب) إنّها في مقام تقرير ما ارتكز في العقول.

وفيه: - مع التسليم- إن الكلام في أنها بصدد تقرير ذلك، أو تقرير ما ارتكز عندهم من «عدم حجية خبر الفاسق» لعدم «الأمن من الوقوع في مخالفة الواقع» عند ترتيب الأثر على خبره.

وبعبارة أخرى: إن الكلام في كونها بصدد تقرير المرتكزات العقلائية بلحاظ الجهتين، أو بلحاظ الجهة الثانية فقط. ولعل مورد النزول يؤيد كونها بصدد الثاني، فتأمل.

8- [الجواب الثامن]

اشارة

الجواب الثامن: ما ذكره بعض المحققين، حيث قال: «بإن الشرط يمكن أن يُصنف إلى ثلاثة أنحاء:

الأول: أن يكون الشرط عبارة عن سنخ تحقق الموضوع ونحو وجوده بحيث لا يتصور للموضوع وجود إلا بالشرط كقولك: (إذا رزقت ولداً فأختنه) فإن الفرق بين الشرط أو الموضوع للحكم في المثال كالفرق بين الإيجاد والوجود.

الثاني: أنْ يكون الشرط أجنبياً عن وجود الموضوع وإنّما هو أمر طارئ كقولك: (إن جاءك زيد فأكرمه).

الثالث: أن يكون الشرط نحواً من وجود الموضوع ولكنه غير منحصر به بل يمكن أن يوجد الموضوع بنحو آخر كما هو في الآية الكريمة لو

ص: 423

جاءت بعنوان: (النبأ إذا جاءكم به الفاسق فتبينوا) فإنّ مجيء الفاسق يراد به انباؤه وإيجاد النبأ إلا إنّه لا ينحصر وجوده به؛ إذ يعقل وجوده بإنباء العادل أيضاً فالشرط في هذا القسم حصّة خاصّة من الإيجاد فكأنّه قال النبأ إذا أوجده الفاسق فتبينّوا.

ولا إشكال في عدم المفهوم في النحو الأول كما لا إشكال في ثبوته في النحو الثاني, ويمكن أن يقرب وجه عدم المفهوم في الأول بأحد تقريبين:

الأول: إنّ المفهوم نفي حكم الجزاء على تقدير انتفاء الشرط وحينئذٍ إذا أُريد نفي مفاد الجزاء وهو وجوب ختن الابن عند انتفاء الشرط وهو وجوده فهذا انتفاؤه من باب السالبة بانتفاء الموضوع المحفوظ حتى في الجملة غير الشرطية فلا يكون لتركيب الشرطية دخل في تحصيله، وإن أُريد نفي وجوب ختن الأخ مثلاً بانتفاء وجود الولد فهذا سنخ مفاد آخر غير حكم الجزاء، والمفهوم لا يدلّ إلاّ على انتفاء مفاد الجزاء.

الثاني: إنّ المفهوم إنما يثبت بملاك إرجاع الشرط قيداً للحكم والنسبة الحكمية في الجزاء وبهذا تتميز الجملة الشرطية عن الوصفية التي يكون الوصف فيها من قيود الموضوع قبل طرو الحكم عليه فإذا كان الشرط نفس الموضوع ذاتاً فليس هناك تقييد زائد بين الحكم والشرط غير تقيده بموضوعه الثابت في كلَّ جملة حكمية فلا مفهوم.

وكلا التقريبين لا يجريان في القسم الثالث؛ لأن الموضوع ذاتاً محفوظ حتى مع انتفاء الشرط إذ الشرط حصة خاصّة من إيجاد ذلك الموضوع فلا يكون انتفاؤه مساوقاً مع انتفاء الموضوع ليكون الانتفاء عقلياً أو التقييد

ص: 424

مستحيلاً، وهكذا يثبت أنّ الصحيح ثبوت المفهوم في القسم الثالث كالقسم الثاني»(1).

ويرد عليه: أنه لو سلّم كبروياً فتطبيقه على المقام لا يخلو من غموض. إذ المحتملات في مفاد الآية الكريمة ثلاثة:

1- أن يكون مفادها: «الجائي بالنبأ - إن كان فاسقاً- فتبينوا عن نبأه» أو «نبأ المخبر - إذا كان الجائي به فاسقاً- يجب التبين عنه».

وحينئذ يكون الشرط من العوارض الخارجية ةيكون للجملة الشرطية مفهوم.

2- أن يكون مفادها: «نبأ الفاسق - إن جاءكم به الفاسق- فتبينوا عنه».

وحينئذٍ يكون الشرط من المقومات المنحصرة لوجود الموضوع، ولا يكون للجملة الشرطية مفهوم.

3- أن يكون مفادها: «النبأ - إن جاء به الفاسق- فتبينوا عنه».

وحينئذٍ يكون الشرط من المقومات غير المنحصرة، ويكون للجملة الشرطية مفهوم.

ولم يظهر كون الجملة الشرطية من قبيل الثالث، ومع تطرق الاحتمال يبطل الاستدلال.

بل قد يُدّعى ظهورها في كونها من قبيل الثاني، بقرينة المورد، كما سبق توضيحه. وقد أفيد بأن وجه الاستظهار كونها من قبيل الثالث هو: رجوع الضمير الواقع موضوعاً لوجوب التبين إلى المنبأ وهو مطلق وليس مقيداً

ص: 425


1- بحوث في علم الأصول 4: 351- 352.

بالفاسق.

وأورد عليه

بأن الضمير يرجع إلى المقصود من مرجعه أو المقيد لا مطلقه، فلو قال: «إذا جاءك رجل فأكرمه» لا يرجع الضمير إلى مطلق الرجل ولو غير الجائي، بل المستفاد منه لزوم إكرام الرجل الجائي الملحوظ في الشرط رغم عدم إضافة الرجل إلى المجيء، كذلك الحال في المقام فإن المقصود التبيّن عن النبأ الذي جاء به الفاسق لا مطلق النبأ.

هذا تمام الكلام في التقرير الأول.

التقرير الثاني

اشارة

ما أفاده الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) - وإن لم يرتضه- وملخصه:

«إن لخبر الفاسق حيثيتين:

أحدهما: ذاتية، وهي كونه «خبر واحد».

والثانية: عرضية، وهي كونه «خبر فاسق».

ولو كانت الحيثية الذاتية صالحة للعلية لوجب تعليق الحكم عليها؛ إذ التعليل بالوصف الذاتي - لو كان صالحاً للعلية- أولى من التعليل بالوصف العرضي؛ لحصوله قبل حصول العرضي، فيكون متقدماً عليه بالرتبة، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضي، فتعليق الحكم على الوصف العرضي قبيح وهو خارج عن طريق أهل المحاورة فإنه نظير تعليل نجاسة الدم بملاقاته للمتنجس مثلاً.

وعليه: فيستفاد عدم مدخلية الوصف الذاتي في الحكم، وكون العلة هي

ص: 426

الوصف العرضي، فينتفي وجوب التبين عند انتفائه، وهو المطلوب(1).

وأورد عليه بأمور

الأول: إن كون الخبر (خبر واحد) أيضاً من العناوين العرضية، ككونه (خبر فاسق) فكل منهما عنوان عرضي يحتمل دخله في الحكم، وتخصيص أحدهما بالذكر لعله لنكتة كالإشارة إلى فسق الوليد مثلاً.

وفيه: إن (الذاتي) يُطلق على معنيين:

1- ما يكون داخلاً في قوام الهيئة، وهو (الجنس) و(الفصل).

2- ما ينتزع عن مقام ذات الشيء، بحيث تكفي نفس الذات في انتزاعه، بلا احتياج إلى ضم ضميمة إليها.

مثلاً: انتزاع (الأبيض) من (الجدار) لا يكفي فيه لحاظ (ذات الجدار) بل لابدّ من ضميمة (البياض) إلى (الجدار) حتى ينتزع منه (الأبيض) ويحمل عليه.

وذلك بخلاف انتزاع (الممكن) من (الإنسان) فإن لحاظ نفس الذات وتصورها كافٍ في صحة حمله عليه، دون الاحتياج إلى ضميمة خارجية.

وكذا حمل (الزوج) على (الأربعة) و(الفوقية) على (السقف) ونحوهما. ويطلق على المعنى الأول للذاتي: (ذاتي باب الكليات). وعلى المعنى الثاني: (ذاتي باب البرهان).

و(النبأ) في الآية الكريمة يراد به ما يحتمل الصدق والكذب من الأخبار،

ص: 427


1- فرائد الأصول 1: 254، والمنقول عنه بالمضمون.

في قبال (الخبر المتواتر) أو (المحفوف بالقرينة القطعية) بقرينة (وجوب التبين عنه)؛ إذ الخبر المعلوم (متبين) فلا معنى (لوجوب التبين عنها) وبقرينة (التعليل) فإن خوف إصابة القوم بجهالة والوقوع في الندم لا يحتمل في الأخبار القطعية.

و(الخبر الواحد) يراد به (ما يحتمل الصدق والكذب) في حدّ ذاته.

إذا عرفت ذلك فنقول:

إن حمل عنوان (الخبر الواحد) على (الخبر غير العلمي) ذاتي له بذاتي باب البرهان؛ إذ يحتمل في نفسه الصدق والكذب، ولا يحتاج إلى لحاظ أمر خارج عن ذاته في صحته حمل هذا العنوان عليه, بل قد يقال: إنه عين ذاته.

فتحصل: أن كونه (خبراً واحداً) ذاتي له.

أما كونه (خبر فاسق) فلا يكفي في حمله على الخبر مجرد تصوّر الخبر، بل لابدّ من ملاحظة أمر خارج عن ذاته وهو (كون المخبر ممّن يصدر عنه الفسق). فيكون ذلك (عرضياً) له.

فصحّ ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) من دوران الأمر بين الوصف الذاتي والعرضي.

الثاني: أنه لو قيل بثبوت المفهوم للآية الكريمة وهو: «إن جاءكم غير الفاسق بنبأ فلا يجب التبين عنه» يلزم منه «حجية غير الفاسق» ولو لم يكن عادلاً.

وهو مما لا يمكن الالتزام به؛ إذ لا يمكن قبول خبر (المجنون) و(الصبي) و(من دخل مرحلة البلوغ دون أن يصدر منه طاعة أو معصية).

ص: 428

وفيه:

أولاً: إن رفع اليد عن إطلاق المفهوم - لأدلة خاصة دلت على اعتبار العدالة- لا يقدح في انعقاد المفهوم, فعدم حجية الواسطة إنما هو للدليل الخارجي.

والخلاصة: إن قوله: «إن جاءكم غير الفاسق بنبأ فلا يجب التبين» له فردان:

أحدهما: العادل.

الثاني: ما ليس بفاسق ولا عادل.

وخروج الثاني لأدلة خاصة لا يقدح في المفهوم.

وثانياً: إنه يمكن القول بإنه لا إطلاق للمفهوم بالنسبة إلى (الصبي) و(المجنون) ... لإطلاق المفهوم. كذا في «المصباح»(1).

ويرد عليه: أنه لا ملزم لتقييد «الردع الشرعي» بما « لا يرتدع عنه العقلاء لولا الردع».

كما لا ملزم لتقييد «البعث الشرعي» بما «لا ينبعث إليه العقلاء لولا البعث» وذلك للإطلاق.

مثلاً: لو كانت بعض الخبائث مما يرتدع عنها العقلاء بأنفسهم, فهل يمكن أن يقال: بإن قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ}(2) لا يشملها؟

ولو كان بعض العقلاء يرتدع عن الغيبة بذاته, فهل يمكن أن يقال أن

ص: 429


1- مصباح الأصول 2: 156.
2- الأعراف: 157.

قوله تعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}(1) لا يشملهم؟

الثالث: إن هذا التقرير يرجع إلى التقرير الثالث، وليس وجهاً مستقلاً في قباله؟ فيرد عليه ما يرد عليه.

التقرير الثالث

الاستدلال ب- «مفهوم الوصف» حيث علق وجوب التبين على «كون المخبر فاسقاً» ومقتضى التعليق انتفاء الوجوب عند انتفاء الفسق.

وأجاب الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ب- :عدم اعتبار المفهوم في الوصف، خصوصاً في الوصف غير المعتمد على موصوف محقق، كما فيما نحن فيه فإنه أشبه بمفهوم اللّقب(2).

أقول: مراده: عدم وجود المفهوم للوصف، لا أنه مع وجوده لا اعتبار له، على ما قرر في مبحث (المفاهيم).

إلاّ أن المصباح لم يرتضِ ذلك، واختار أن الوصف يدل على المفهوم، إلاّ أنه لا يجدي في المقام، قال: «إن الوصف وإن كان يدل على المفهوم إلا أن مفهوم الوصف هو أن الحكم ليس ثابتاً للطبيعة أينما سرت وإلا لكان ذكر الوصف لغواً، وأما كون الحكم منحصراً في محل الوصف بحيث ينتفي بانتفائه، فهو خارج عن مفهوم الوصف ويحتاج إلى إثبات كون الوصف علة منحصرة، ولا يستفاد ذلك من نفس الوصف، فإن تعليق الحكم على الوصف - لو سلم كونه مشعراً بالعلية- لا يستفاد منه العلة

ص: 430


1- الحجرات: 12.
2- فرائد الأصول 1: 256.

المنحصرة يقيناً، فإذا قال المولى: أكرم الرجل العالم، كان مفهوم الوصف أن وجوب الإكرام لم يتعلق بطبيعة الرجل، وإلا كان ذكر العالم لغواً، وأما انحصار وجوب الإكرام في العالم بحيث ينتفي بانتفائه فلا يستفاد منه إذ الوصف وإن كان مشعراً بالعلية، وإن العلم علة لوجوب الإكرام، إلا أنه لا يدل على انحصار العلية فيه، فيحتمل وجوب إكرام غير العالم أيضاً لعلة أخرى، ككونه هاشمياً مثلاً، وعليه فيكون مفهوم الوصف في الآية الشريفة إن وجوب التبيّن ليس ثابتاً لطبيعة الخبر، وإلا لكان ذكر الفاسق لغواً، ولا يلزم منه عدم وجوب التبين عن خبر غير الفاسق على الإطلاق، إذ لا يستفاد منه كون الوصف علة منحصرة لوجوب التبين، كي ينتفي بانتفائه بل يحتمل وجوب التبّين عن خبر العادل أيضاً، إذا كان واحداً، ويكون الفرق بين العادل والفاسق أن خبر الفاسق يجب التبين عنه ولو مع التعدد بخلاف خبر العادل، إذ مع التعدد يكون بيّنه شرعية لا يجب التبين عنها، فتحصل أنّه لا يستفاد من مفهوم الوصف انتفاء وجوب التبين عند انتفاء وصف الفسق»(1).

والخلاصة:

إن للوصف مفهوماً: هو انتفاء الحكم عن بعض أفراد الطبيعة حين انتفاء الوصف، لكن باعتبار كونه مسوقاً على نحو القضية المهملة لا يجدي، فمفهوم قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} هو «انتفاء وجوب التبين عن خبر غير الفاسق في الجملة» وهو لا يجدي في إثبات «حجية خبر

ص: 431


1- مصباح الأصول 2: 153.

العادل الواحد» كما هو المقصود في المقام، إذ لعل المراد بالمفهوم «انتفاؤه عن خبر غير الفاسق إذا كان متعدداً» - أي بينةً شرعية.

وفيما ذكره نظر:

إذ قد لا يدلّ الوصف على الانتفاء عند الانتفاء مطلقاً.

وإنما علّق الحكم على الوصف لكونه مورد السؤال، كما لو سألك عبدك: «ماذا أفعل عند مجيء العالم العادل»؟ فأجبت «أكرمه» فإنه يحتمل كون وجوب الإكرام ثابتاً لطبيعة العالم مطلقاً، إلاّ أن التخصيص بالعادل لمكان وقوعه في السؤال.

أو لكونه مورد ابتلاء المخاطب, أو للتأكيد مثل قولك: «إياك وظلم الطفل اليتيم» مع ثبوت الحرمة لظلم الطفل مطلقاً، أو لدفع توهم عدم الحرمة في مورد الوصف كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ}(1) مع تحقق الحرمة لطبيعي قتل الأولاد سواء كان هنالك إملاق أو لا؟

ومن هنا: لا مفهوم - بالمعنى الأصولي- للوصف في قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}(2).

ولقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ

اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ}(3). إلى غير ذلك من الأمثلة.

ففيما نحن فيه يحتمل ثبوت وجوب التبيّن بطبيعة الجائي بالنبأ أينما

ص: 432


1- الأنعام: 151.
2- آل عمران: 130.
3- النساء: 23.

سرت، والتوصيف بالفاسق إنما هو لكونه محل الابتلاء.

وصرف هذا الاحتمال كافٍ في نفي «المفهوم المهمل» إذ مجيء الاحتمال مبطل للاستدلال في المقام، باعتبار كونه مانعاً عن الظهور في المفهوم. وتتمة الكلام في غير المقام.

التقرير الرابع

اشارة

إنّ المطلوب هو «التبيّن».

ومعنى التبيّن هو: طلب البيان.

ومعنى البيان: هو: الوضوح والظهور والانكشاف.

والوضوح: فرعان: وضوح مستفاد من القرائن الخارجية، ووضوح مستفاد من عدالة المخبر.

فإذا جاء مخبر بخبر وتفحصنا عن حال المخبر فظهر لنا أنه رجل عادل ورع تقي فقد حصل «التبّين» المطلوب.

وعليه: فلا حاجة إلى التمسك بالمفهوم؛ إذ يدلّ المنطوق على حجية كلّ خبر يفيد الاطمئنان.

وفيه: إنه لا عموم له، سواء كان معنى «التبين» هو «التبين العلمي» أو «العرفي»؛ إذ خبر العادل قد يفيد العلم أو الاطمئنان، وقد لا يفيد ذلك لغرابة الخبر، أو لقوة احتمال الخطأ، أو لكون المخبر قطاعاً، أو لغير ذلك .. خاصة مع تعدد الوسائط في الخبر، كما هو الغالب في الأخبار المروية، وحينئذٍ لا يتحقّق التبين، وخاصة مع ملاحظة التعليل المذكور في الآية الكريمة. وسيأتي لذلك مزيد توضيح قريباً إن شاء اللّه تعالى.

ص: 433

البحث في المانع

هذا كله بلحاظ «المقتضي»، وقد تحصل قصوره.

وأما بلحاظ المانع فقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة لحجية الخبر الواحد بإشكالات بعضها: يختص بآية النبأ، وبعضها يشترك بينها وبين سائر الأدلة.

الإشكال الأول: المعارضة بين المفهوم وعموم التعليل

1- لو سلّمنا دلالة المفهوم على حجية خبر العادل إلاّ أنه معارض بعموم التعليل، وقد ذكر هذا الإشكال الشيخ في (العدة), والمرتضى في (الذريعة) وابن زهرة في (الغنية) والطبرسي في (مجمع البيان) والمحقق في (المعارج)، وجعله الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) أحد الإشكالين اللذين لا يمكن دفعهما.

بيانه: إن علّة وجوب التبيّن في خبر الفاسق هي (عدم العلم بمطابقته للواقع) و(معرضية الوقوع في الندم).

وهذه العلة موجودة بعينها في خبر العادل، لأنّ عدالة العادل وإنْ كانت تمنع من تعمده الكذب، إلاّ إنها لا تمنع عن خطأه واشتباهه؛ إذ العادل بما هو عادل ليس معصوماً عن الخطأ، فيجب التبين عن خبره، لوجوب التبين عن كلّ خبر غير علمي لا يؤمن في العمل به من الوقوع في مخالفة الواقع، بمقتضى عموم التعليل. فتتحقق المعارضة بينه وبين المفهوم.

وحينئذٍ: يكون الترجيح مع ظهور التعليل، لأنه أقوى ظهوراً من ظهور القضية الشرطية في المفهوم.

فإن الظاهر عند العرف: إن المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص، فالعلة تارة تخصص مورد المعلول وإن كان عاماً بحسب اللفظ كما لو قال:

ص: 434

«لا تأكل الرمان لأنه حامض» فيخصصه بالأفراد الحامضة، فيكون عدم التقييد في الرمان لغلبة الحموضة فيه أو لنحو ذلك(1).

وقد يوجب عموم المعلول وإن كان بحسب الدلالة اللفظية خاصاً، كما لو قيل: لا تشرب الأدوية التي تصفها لك النسوان؛ لأنك لا تأمن ضرره.

فإن مقتضى عموم التعليل: النهي عن تناول أي دواء لا يؤمن ضرره من أي واصف كان، ويكون تخصيص النسوان؛ بالذكر لنكتة خاصة أو عامة لاحظها المتكلّم. كذا ذكره الشيخ الأعظم رحمة اللّه عليه.

أقول: يكفي المثال الأول لإفادة الأمرين فإنه كما يخرج الرمان الحلو يدخل الليمون الحامض مثلاً.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فلعل النكتة في التخصيص بنبأ الفاسق التنبيه على فسق الوليد - مثلاً، فإن القرآن الكريم في موارد متعددة فضح هذه الشجرة الملعونة، كي لا تتخذ أسوة ومقياساً على مرّ الأجيال.

إيرادات
اشارة

وأورد على ذلك إيرادات:

أولاً: حكومة المفهوم على عموم التعليل

الإيراد الأول: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) من الحكومة.

قال: «المفهوم يكون حاكماً على العموم لأنه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع»(2).

ص: 435


1- كإفادة العلية، فإنه لو قيل: «لا تأكل الرمان الحامض» كان بياناً للحكم فقط، أما لو قيل: «لا تأكل الرمان لأنه حامض» أفاد الحكم والتعليل معاً (منه (رحمه اللّه) ).
2- فوائد الأصول 3: 172- 173.
مناقشات في حكومة المحقق النائيني

وترد على ذلك مناقشات:

1- ليس معنى الحجّيّة: جعل المحرزية

المناقشة الأولى: إن جعل الحجية ليس بمعنى جعل المحرزية الكاشفية والعلمية، بل معناه «وجوب الجري العملي» أو نحو ذلك.

فيقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل.

إذاً المفهوم يقتضي وجوب الجري العملي، والتعليل يقتضي وجوب التثبت والتبّين.

نعم، قد يقال: إن ظاهر قوله: «فلا تتبينوا» أنه مبين في عالم التعبد، فلا يحتاج إلى التبين، وهذا هو معنى الحكومة إلاّ أنه ليس بظاهر عرفاً في ذلك.

والخلاصة: إن المبنى محل تأمّل، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

2- عموم التعليل مانع عن ثبوت المفهوم

المناقشة الثانية: إن حكومة المفهوم على التعليل فرع ثبوت المفهوم. وعموم التعليل مانع عن ثبوت المفهوم، خاصة في مثل المقام مما كان التعليل فيه متصلاً بالقضية الشرطية، فإن وجود ما يحتمل القرينية مانع عن انعقاد الظهور.

وأجاب المحقق النائيني (رحمه اللّه) بما محصله:

بأنّ مانعية عموم التعليل عن ثبوت المفهوم محل تأمل؛ إذ أنها ليست إلاّ لأجل توهم المعارضة بين عموم التعليل وثبوت المفهوم.

وإلاّ فظهور القضية الشرطية في المفهوم مّما لا سبيل لإنكاره.

وبالحكومة ترتفع المعارضة.

ص: 436

«فإن ثبوت المفهوم للقضية لا يقتضي تخصيص عمومه [التعليل]، بل العموم على حاله، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا عن حكمه»(1). وقد مر أن مبنى المعارضة: الخروج الحكمي لا الموضوعي.

وبعبارة أخرى: التعليل يتكفل حكم موضوعه على فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده، ويخرج خبر العادل عن (ما وراء العلم) الذي هو الموضوع في العام، فلا يعقل أن تقع المعارضة.

والخلاصة: إن المفهوم حاكم على التعليل، ولا تنافي بين الحاكم والمحكوم كي يكون أحدهما مانعاً عن الآخر.

3- الحكومة دورية

المناقشة الثالثة: ما في النهاية من أن حكومة المفهوم المعلل منطوقة بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم - المثبت لحجّيّة خبر العادل حتى يرتفع به الجهالة تنزيلاً- دور واضح(2).

والظاهر أن مراده:

1- إن الحكومة تتوقف على عدم مانعية المنطوق.

لأنه لو فرض كون المنطوق مانعاً - وذلك لانعقاد عموم التعليل، وحيث إنه متصل يمنع عن ظهور القضية الشرطية في المفهوم - لم يكن مفهوم حتى يكون حاكماً.

2- وعدم مانعية المنطوق تتوقف على الحكومة.

ص: 437


1- فوائد الأصول 3: 173.
2- نهاية الدراية 2: 200.

لأنّ ذلك هو المدّعى في المقام. فالحكومة تتوقّف على الحكومة.

وقد بيّن بعض المعاصرين الدور بما جعله دوراً مضمراً، بالنحو التالي:

أ) حكومة المفهوم تتوقف على وجود المفهوم.

ب) ووجود المفهوم يتوقف على عدم انعقاد عموم التعليل - لكون التعليل متصلاً مانعاً عن انعقاد المفهوم.

ج) وعدم انعقاد عموم التعليل يتوقف على حكومة المفهوم.

وأجاب عنه ب- «أن عدم انعقاد عموم التعليل متوقّف على وجود المفهوم [وحكومته] لكن حكومة المفهوم لا تتوقف على عدم انعقاد عموم التعليل», بل تتوقف على انعقاده [أي المفهوم أي على وجود المفهوم].

وبهذا يرتفع الدور؛ إذ حكومة المفهوم لا تتوقّف على عدم انعقاد عموم التعليل [كما هو مفاد 1 و 2] بل تتوقف على انعقاد نفس المفهوم، لا على عدم انعقاد عموم التعليل.

هذا والظاهر عدم كفايته في دفع الإشكال؛ إذ حكومة المفهوم فرع انعقاد المفهوم، وانعقاد المفهوم فرع وجود المقتضي (وهو الوضع اللغوي أو العرفي) وعدم المانع (أي عدم انعقاد عموم التعليل).

وبعبارة أخرى: انعقاد مفهوم الجملة الشرطية متوقف:

أولاً: على اقتضاء الجملة الشرطية في المفهوم وهذا ما تتكفل به الأوضاع اللغوية والعرفية.

وثانياً: على عدم المانع؛ لأنه يمكن أن يكون للجملة الشرطية في حدّ ذاته مفهوم، لكن يمنع مانع عن هذا الظهور، وعموم التعليل مانع عن ظهور

ص: 438

الجملة الشرطية في المفهوم.

ولذا لابدّ لتتميم الجواب من التمسك بجواب المحقّق النائيني (رحمه اللّه) عن الإشكال الثاني، وهو أنّ وجود المانعية وجود المعارضة، ومع الحكومة ترتفع المعارضة.

وعليه: فالمقتضي (وهو الوضع) موجود.

والمانع: (وهو انعقاد عموم التعليل) مفقود.

وسبب ارتفاع المانع: الحكومة.

وقد تحصل من جميع ما تقدّم: إن الدور الذي ذكره في النهاية غير واضح.

4- لا حكومة على الشق الثاني من التعليل

المناقشة الرابعة: لو اقتصر في التعليل على قوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ}(1) لا عن الالتزام بالحكومة باعتبار أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً بالتعبد فهو خارج عن الجهالة موضوعاً، ولكن التعليل مذّيل بما يكون مانعاً عن المفهوم وهو قوله تعالى: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(2)؛ إذ الندم لا يكون إلاّ لأجل الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع، وهذا التعليل مانع عن المفهوم، لأن العمل بخبر العادل أيضاً لا يؤمن معه من الندم الناشئ من الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع.

والخلاصة: إن المفهوم حاكم على {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} وليس

ص: 439


1- الحجرات: 6.
2- الحجرات: 6.

حاكماً على {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} فإن ترتب الندامة من جهة احتمال مخالفة الواقع، وهذا الاحتمال موجود في خبر العادل أيضاً.

وأجاب عنه المصباح بقوله: «إن الوقوع في مفسدة مخالفة الواقعة (تارة) يكون مع العمل بالوظيفة المقررة شرعاً و(أخرى) يكون مع عدم العمل بها، والأول كما إذا عمل بالبينة الشرعية في مورد، ثم انكشف خلافها، والثاني كما إذا عمل بخلاف البينة فوقع في مفسدة مخالفة الواقع، والندم في القسم الأول مما لا أثر له إذ المكلّف فيه معذور في مخالفة الواقع، ولا يكون مستحقاً للعقاب بخلاف الندم في القسم الثاني، فأن المكلّف لا يكون معذوراً في مخالفة الواقع، ويكون مستحقاً للعقاب، وليس المراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الأول قطعاً وإلاّ يسقط جميع الامارات والطرق عن الحجية في الشبهات الحكمية والموضوعية لأن احتمال الوقوع في مخالفة الواقع موجود في الجميع، بل في القطع الوجداني أيضاً لاحتمال كونه جهلاً مركباً، وإن لم يكن القاطع ملتفتاً حين قطعه إلى ذلك. وبالجملة مجرد الندم على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع مع كون المكلّف عاملاً بالوظيفة غير مستحق للعقاب لا يكون منشأ لأثر من الآثار، ولا يصح التعليل به فالمراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الثاني أي الندامة على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع، مع كونه غير معذور في ذلك مستحقاً للعقاب وخبر العادل على تقدير حجيته خارج عن هذا التعليل موضوعاً؛ إذ المكلّف العامل بالحجة المعتبرة معذور في مخالفة الواقع غير مستحق للعقاب، فصح ما ذكرناه من أن المفهوم على تقدير دلالة الجملة الشرطية

ص: 440

عليه بنفسها حاكم على عموم التعليل لا أن التعليل مانع عن المفهوم»(1).

ولعل الأولى في الجواب أن يقال:

إنّ العلة المذكورة في الآية الكريمة ليست «الندم» ليقال بأن الندم قسمان، بل هي «الندم المتفرِّع على إصابة القوم بجهالة» بمقتضى فاء التفريع، ومع الحكومة يرتفع المتفرع عليه، فلا مجال للمتفرع.

والحاصل: إن العلة هي الندم المتفرع عن الإصابة بجهالة، ومع اعتبار الخبر الواحد علماً تعبداً لا إصابة للقوم بجهالة، فلا وجود لما تفرع عليه.

وبعبارة أخرى: قد يتحقّق من العمل بخبر الواحد ندم متفرع على العمل بالعلم، إلاّ أن ذلك لم يؤخذ علّة في الآية الكريمة، وما أخذ علّة فيها لا وجود له في المقام، فتدّبر.

5- المناقشة الخامسة:

المناقشة الخامسة: ما نسب إلى المحقق العراقي (رحمه اللّه) وتوضيحه: إن معنى الحكومة: إن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له بلحاظ الأثر الثابت له في المحكوم.

فيكون الحاكم مثبتاً لذلك الأثر لغيره بلسان ثبوت الموضوع, كما في «الفقّاع خمر» (2) أو نافياً له عن بعض مصاديقه بلسان نفي مثل «لا ربا بين الوالد وولده»(3).

ص: 441


1- مصباح الأصول 2: 164- 165.
2- بحار الأنوار 63: 500.
3- الحدائق الناضرة 19: 257.

والخلاصة: إن الحاكم يجب أن يكون ناظراً إلى الأثر الثابت في المحكوم، فيثبته بلسان إثبات الموضوع، أو ينفيه بلسان نفي الموضوع.

وهذا الضابط لا ينطبق على المقام، إذ لسان الدليل نفي الحكم من أول الأمر، لا نفي الموضوع بغرض نفي الحكم، فليس هنالك حكومة، فهو كما لو قال: (لا يحرم الربا بين الوالد وولده).

وعليه: يكون المفهوم مخصصاً لعموم التعليل، والمفروض عدم إمكان الالتزام بالتخصيص.

ويمكن الجواب: بأن التصرف في عقد الوضع أعم من أن يكون مستفاداً بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

والثانية متحققة في المقام؛ إذ هنالك ملازمة بين (نفي وجوب التبين عن خبر العادل) و(اعتبار خبره علماً تعبداً) - كما هو مدّعى المحقق النائيني (رحمه اللّه) .

وبعبارة أخرى: إن معنى (لا تتبينوا) في المفهوم إن خبر العادل مبين شرعاً، والتبين إنما يكون عن غير المبيّن، وهذا هو معنى الحكومة، إلاّ إنها مدلول عليها بالدلالة الالتزامية لا المطابقية.

6- المناقشة السادسة(1):

ص: 442


1- هذا آخر ما وجدناه من خط المصنّف (رحمه اللّه) , ويبدوا أنّه لشدّة انشغالاته العلميّة والدينيّة والإجتماعيّة لم يتمكن من مواصلة التأليف, مع أنّه أكمل مبحث البراءة في درسه الذي استمرّ إلى قبل وفاته بخمسة أيام، حيث وافته المنية صباح يوم الأحد 26/جمادى الأولى/ 1429 للهجرة النبويّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

مصادر التحقيق

1. أجود التقريرات، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، مؤسسة صاحب الأمر(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

2. الاستبصار فيما أختلف من الأخبار, الشيخ محمد بن الحسن الطوسي, دار الكتب الإسلامية.

3. الأصول الأصلية, السيد عبد اللّه شبّر, مؤسسة البلاغ.

4. أصول الكافي، ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، دار التعارف.

5. الأصول, السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة دار المهدي والقرآن الحكيم.

6. الأمالي, الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي, مؤسسة النشر الإسلامي.

7. الانتصار، الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي, مؤسسة النشر الإسلامي.

8. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية.

9. بحوث في علم الأصول، تقريرات السيد محمد باقر الصدر، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.

10. بصائر الدرجات, الشيخ محمد بن الحسن الصفار, مؤسسة الأعلمي.

ص: 443

11. بيان الفقه في شرح العروة الوثقى، السيد صادق الحسيني الشيرازي، دار الأنصار.

12. تأسيس الشيعة، السيد حسن الصدر، مؤسسة الأعلمي.

13. تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة, السيد شرف الدين علي الحسيني الأسترابادي, مؤسسة النشر الإسلامي.

14. التجرّي، السيد جعفر الحسيني الشيرازي، مؤسسة الإمام الرضا (عليه السلام) .

15. تذكرة الفقهاء، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلّي، المكتبة الرضوية.

16. الترتب، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي.

17. تفسير القمي, الشيخ علي بن إبراهيم القمّي, مؤسسة الأعلمي.

18. تقريرات المجدد الشيرازي، الشيخ علي الروزدري، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

19. تهذيب الأحكام، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية.

20. التوحيد، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، مؤسسة النشر الإسلامي.

21. توضيح نهج البلاغة, السيد محمد الحسيني الشيرازي, دار العلوم.

22. ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، منشورات الرضي.

23. جامع أحاديث الشيعة, السيد حسين الطباطبائي البروجردي، المطبعة

ص: 444

العلميّة.

24. جواهر الأصول، تقريرات السيد محمد باقر الصدر.

25. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام, الشيخ محمد حسن النجفي, دار الكتب الإسلامية.

26. الجوهر النضيد، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، الطبعة الحجرية.

27. الحاشية على كفاية الأصول، تقريرات السيد حسين الطباطبائي البروجردي، مؤسسة أنصاريان.

28. الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي.

29. حقائق الأصول، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) .

30. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الشيخ محمد كاظم الخراساني، منشورات البصيرتي.

31. درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسسة النشر الإسلامي.

32. دروس في علم الأصول, السيد محمد باقر الصدر, مؤسسة النشر الإسلامي.

33. الذريعة إلى أصول الشريعة, الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي، جامعة طهران.

34. الرجال, الشيخ أحمد بن علي النجاشي, مؤسسة النشر الإسلامي.

35. شرح الأسماء الحسنى، الحكيم الشيخ هادي السبزواري، منشورات

ص: 445

البصيرتي.

36. شرح العروة الوثقى, تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي, مؤسسة الخوئي الإسلامية.

37. شرح ألفية ابن مالك, عبد اللّه بن عقيل المصري، منشورات ناصر خسرو.

38. شرح نهج البلاغة, عبدالحميد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد المعتزلي, مؤسسة الأعلمي.

39. العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، مؤسسة الأعلمي.

40. علل الشرائع، الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، المكتبة الحيدرية.

41. عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، الشيخ محمد بن علي الأحسائي.

42. عوائد الأيام, الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي, منشورات البصيرتي.

43. عيون أخبار الرضا (عليه السلام) , الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي, منشورات الرضي.

44. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي.

45. الفقه (موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي)، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم.

46. فوائد الأصول، تقريرات الشيخ محمد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 446

47. الفوائد المدنية, الشيخ محمد أمين الأسترابادي, مؤسسة النشر الإسلامي.

48. قرب الإسناد، الشيخ عبد اللّه بن جعفر الحميري، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

49. القول السديد في شرح التجريد، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار الإيمان.

50. كامل الزيارات، الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه القمي.

51. كشف الغطاء, الشيخ جعفر كاشف الغطاء, مكتب الإعلام الإسلامي.

52. كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع, الشيخ أسد اللّه التستري, الطبعة الحجرية.

53. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الشيخ الحسن بن يوسف الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

54. كفاية الأصول المحشّى, حواشي الشيخ أبو الحسن المشكيني، دار الحكمة.

55. كفاية الأصول، الشيخ محمد كاظم الخراساني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

56. كمال الدين, الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي, منشورات ذوي القربى.

57. مباني منهاج الصالحين, السيد تقي الطباطبائي القمي, منشورات المحلاتي.

ص: 447

58. مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة التاريخ العربي.

59. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي، مؤسسة النشر الإسلامي.

60. المحاسن، الشيخ أحمد بن محمد البرقي، المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) .

61. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

62. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، الشيخ محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية.

63. المسائل المتجددة، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار الإمامة.

64. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الشيخ حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

65. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، مطبعة الآداب.

66. مصباح الأصول، تقريرات السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مكتبة الداوري.

67. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، دار الزهراء (عليها السلام) .

68. مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي.

ص: 448

69. مكارم الأخلاق, الشيخ الحسن بن الفضل الطبرسي, مؤسسة الأعلمي.

70. من لا يحضره الفقيه, الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي, مؤسسة النشر الإسلامي.

71. منتقى الأصول، تقريرات السيد محمد الحسيني الروحاني.

72. منتهى الدراية في توضيح الكفاية، السيد محمد جعفر الجزائري المروج، مؤسسة الفقاهة.

73. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، مطبعة النعمان.

74. الميزان في تفسير القرآن, السيد محمد حسين الطباطبائي, مؤسسة الأعلمي.

75. نهاية الأصول, تقريرات السيد حسين الطباطبائي البروجردي, مطبعة الحكمة.

76. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الاصفهاني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

77. نهج البلاغة, الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي, شرح صبحي الصالح, أنوار الهدي.

78. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

79. الوصائل إلى الرسائل، السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة عاشوراء.

80. الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار

ص: 449

الحكمة.

4. وقاية الأذهان، الشيخ محمد رضا الاصفهاني، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

ص: 450

فهرس المحتويات

المبحث الثالث: في تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة... 5

التقرير الأوّل: آثار الحجّة مرتّبة على الحجّة بوجودها العلمي... 5

الأوّل: أنّ الحجّة لها نحوان من الوجود... 5

الثاني... 5

الثالث: أنّ للحجّية آثاراً أربعة وهي... 6

توضيحات... 7

التوضيح الأوّل: الحجّة المقطوعة العدم هي الحجّة الإثباتية لا الثبوتية... 8

التوضيح الثاني: لا تناقض في قولنا :«الشكّ في الحجّية موضوع القطع بالعدم» لاختلاف المتعلّق 8

التوضيح الثالث: تحقّق الإنقياد غير موقوف على وجود الحجّة مطلقاً... 9

مناقشتان... 9

المناقشة الأُولى: أنّ في تقييد القاعدة نظراً... 9

تأمّلات في المناقشة الأُولى... 10

المناقشة الثانية: إنّ في إطلاق القاعدة نظراً... 13

التقرير الثاني: عدم جواز الإسناد دليل على عدم الحجّية... 14

إشكال المحقّق الخراساني على التقرير الثاني... 16

تأمّلات في الإشكال... 17

1- ثبوت الملازمة العرفية بين انتفاء جواز الإسناد وانتفاء الحجّية الشرعية... 17

2 - إمكان إسناد الظنّ على الحكومة إلى الشارع لقاعدة الملازمة... 17

3- مناقشة المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ... 19

التقرير الثالث: الاستصحاب... 23

إشكال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الاستصحاب... 23

مناقشتان لصاحب الكفاية في إشكال الشيخ... 25

ص: 451

1- الحاجة إلى الأثر إنّما هو في الأُصول الموضوعية... 25

إشكال المحقّق النائيني في المناقشة الأُولى... 26

بحثان... 27

حلّ محذور تحصيل الحاصل... 30

2- الأثر موجود في إستصحاب عدم الحجّية... 31

ايرادان للمحقّق النائيني (رحمه اللّه) على المناقشة الثانية... 31

هل تجري قوانين الحكومة في الأُصول المتوافقة؟... 34

تتميم: في جريان إستصحاب الحجّية وعدمه... 35

جوابان على الإشكال... 35

التقرير الرابع: التمسّك بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم... 37

إيرادان... 37

الإيراد الأوّل: مفاد العمومات الإرشاد إلى حكم العقل... 37

مناقشة... 39

الإيراد الثاني: التمسّك بالعمومات تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية... 40

مناقشات... 40

1- الأصل الموضوعي يُنقّح إندراج الأمارة المشكوكة في موضوع العمومات 40

2- النقض بالتمسّك بالأُصول العملية عند الشكّ في وجود الحجّة... 42

3 - استلزام ذلك لغوية العمومات الرادعة... 43

4 - الحكومة إنّما تتحقّق بعد الوصول... 43

[5- الحكومة رفع للموضوع تعبداً] ... 45

التقرير الخامس... 47

ويرد عليه... 47

أوّلا... 47

وثانياً... 48

يبقى الكلام في جهات تتعلّق بالتشريع... 48

الجهة الأُولى: الظاهر أنّ هنالك عنوانين تعلّق بهما التحريم... 48

ص: 452

الجهة الثانية... 51

الجهة الثالثة... 52

الجهة الرابعة... 55

الجهة الخامسة... 55

المبحث الرابع: ما خرج عن أصالة عدم حجّية الظنّ... 57

الفصل الأوّل: في حجّية الظواهر... 58

1- تشخيص الظهور... 59

2- حجّية الظهور... 60

أدلّة حجّية الظواهر... 60

1- سيرة المتشرّعة... 60

2- سيرة العقلاء... 62

أوّلا: تحقّق بناء العقلاء... 62

ثانياً: عدم الردع عن ذلك من قبل الشارع... 63

ثالثاً: عدم وجود المانع من الردع... 63

إشكالات في المقام... 63

1- وجود الأدلّة الرادعة عن العمل بالظنّ... 64

2- الإشكال في السيرة العقلائية صغرى وكبرى... 65

3- ثبوت الردع بلحاظ قسم خاص من الظواهر... 69

التحقيق في المقام... 72

تقرير آخر في السيرة العقلائية... 75

3- الروايات الدالّة على حجّية الظواهر... 77

أ- الروايات الآمرة بعنوان التمسّك بالكتاب والسنّة... 77

ب- الروايات الآمرة بالرجوع إلى الكتاب... 77

ج- استدلال المعصومين (عليهم السلام) بالظواهر القرآنية... 78

د- الشارع أفهم مرامه بالظهورات... 79

4- الإجماع... 82

تذييل... 84

ص: 453

حكم الشكّ في الإرادة... 87

المقام الأوّل: عدم انعقاد الظهور للكلام... 88

1- عدم العلم بالوضع... 88

2- احتمال قرينية الموجود... 89

3- إحتمال وجود القرينة... 90

تذييل... 91

المقام الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدّية بالظاهر... 97

تفصيلات في المقام... 98

1) التفصيل بين من قصد افهامه ومن لم يقصد... 99

توجيه هذا التفصيل... 99

البحث الأول: في قادحية التفصيل المزبور في حجية ظاهر الروايات وعدمها 101

البحث الثاني: في صحّة أصل التفصيل المذكور وعدمها... 101

أمّا بالنسبة إلى البحث الأوّل... 101

[1- الروايات الآمرة]... 101

2- الأحكام مشتركة... 108

3- كلّ راو مقصود بالافهام من السابق... 108

4- الإجماع والسيرة... 111

أمّا بالنسبة إلى البحث الثاني... 112

1- الاطباق على حجّية الظواهر مطلقاً... 113

2- جريان أصالة الظهور... 115

3- المناشئ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر والأُصول النافية لها... 116

2) التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيرها... 118

الوجه الأوّل: اختصاص فهم القرآن بأهله ومن خوطب به... 119

إشكالات... 120

أ- ضعف السند... 120

ب- المعارضة للكتاب العزيز... 123

ص: 454

ج- المعارضة للسنّة القطعية... 126

د- المراد بمن خوطب به «أهل الحقّ»... 126

ه- - المراد اختصاص المعرفة التفصيلية بأهل البيت (عليهم السلام) ... 127

الوجه الثاني: احتواء القرآن على مضامين شامخة... 131

والجواب عن ذلك... 132

1- عدم احتواء جميع الآيات على مضامين شامخة... 132

2- شموخ المعاني ينبغي أن لا يكون على حساب الهدف... 137

3- شموخ المضافين لا ينافي حجّية الظواهر... 138

الوجه الثالث: شمول (المتشابه) ل- (الظواهر)... 138

الأجوبة عن هذا الوجه... 139

1- المنع عن شمول المتشابه للظاهر... 139

2- المنهي عنه الإقتصار على المتشابه... 139

3- أنّه يلزم على هذا الاستدلال من وجود الشيء عدمه... 142

4- تخصيص العموم بالروايات الدالّة على حجّية الظواهر القرآنية 146

5- الآية مفسّرة بإتّباع أئمّة الضلال... 146

6- لا متشابه في القرآن بعد البيان... 153

7 - لو منع التشابه عن العمل بالقرآن لمنع عن العمل بالسنّة أيضاً 154

الوجه الرابع: العمل الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر... 157

ويرد عليه: جوابان حلّي ونقضي... 157

الجواب الحلّي... 157

الجواب النقضي... 163

الوجه الخامس: النهي عن التفسير بالرأي... 163

1- ما هو معنى «التفسير»؟... 164

2- ما هو معنى الرأي؟... 165

3- التخصيص بأخبار التمسّك بالقرآن والرجوع إليه... 168

تقسيم الأخبار إلى طوائف... 170

تتمّة: في شبهة تحريف القرآن الكريم... 184

ص: 455

تنبيهات... 192

التنبيه الأوّل: هل الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى؟... 192

التمسّك بالقرآن الكريم في أبواب المعاملات... 192

التمسّك بالقرآن الكريم في أبواب العبادات... 198

التنبيه الثاني: في حكم الاختلاف في القراءات... 198

1- مبنى تواتر القراءات... 199

2- مبنى حجّية القراءات... 200

3- مبنى جواز القراءة بالقراءات... 201

تذنبيات... 201

التذنيب الأوّل: ما عدا القراءة المشهورة ليس قرآناً... 201

التذنيب الثاني: يشترط في الثالث أن لا يكون مخالفاً لكلا المفادين... 202

التذنيب الثالث: هل تجري قواعد الترجيح في المقام؟... 202

التذنيب الرابع: حكم إحتمال مخالفة القراءات لقراءة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 203

[3) التفصيل بين الظن بالوفاق ... والعدم] ... 204

إيرادات على التفصيلين... 205

ويبقى الكلام في تنبيهات... 210

التنبيه الأوّل... 210

تذنيبان... 214

التنبيه الثاني... 215

ثمرات المسألة في الفقه والأُصول... 217

الاستدلال على عدم إندراج الفرد المشكوك... 223

مناقشات... 223

1- تقديم إطلاق الخاصّ على الشرطية المتولّدة من العام يجعل تخصيصه متعيّناً 224

2- العام لا نظر له إلى تشخيص مصاديقه... 225

3- الأُصول لا تجري لدى العقلاء عند الشكّ في الفردية... 227

تقرير آخر للمناقشة الثالثة... 228

ص: 456

تذييل... 229

تفريع: في صغرى فقهية أُدرجت في مبحث الدوران... 231

التنبيه الثالث... 232

مؤيّدات... 234

دليل حجية أصالة عدم النقل... 237

الأول: السيرة العقلائية... 237

الثاني: السيرة المتشرعية... 237

تذنيبان... 239

الأول: لو علم بالنقل وشك في المتقدم والمتأخر... 239

الثاني: لو شك في مؤثرية الموجود في النقل... 242

التنبيه الرابع: في تعارض الحقيقة العرفية واللغوية... 243

الفصل الثاني: في حجية قول اللغوي... 247

المقدمة الأولى: في ثمرة هذا المبحث... 247

المقدمة الثانية: في تنقيح محل البحث... 249

المقام الأول: في حجية قول اللغوي في تعيين الأوضاع... 251

الوجه الأول: السيرة العقلائية الخاصّة... 251

إيرادات... 251

1- عدم تسليم الاتفاق... 252

2- عدم ثبوت الرجوع في موارد ترتب الأثر العملي... 252

3- اشتراط حصول القطع... 254

4- اشتراط حصول شرائط الشهادة... 254

5- السيرة فاقدة لشرائط الحجية... 254

6- السيرة محتملة المدركية... 256

والوجه الثاني: الإجماع... 257

الوجه الثالث: السيرة العقلائية العامّة... 258

إيرادات ومناقشات... 258

أ) اشتراط الوثوق... 258

ص: 457

ب) اللغوي ليس خبيراً في تشخيص الأوضاع... 260

التحقيق في المقام... 261

ج) اللغوي ليس خبيراً بل هو مخبر... 263

الوجه الرابع: دليل الانسداد... 265

الوجه الخامس: العلم الإجمالي... 271

الوجه السادس: شمول أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام للمقام... 272

وقد يورد عليه:... 274

1- لا وجه للتفصيل... 274

2- أدلة الحجية لا تشمل الأخبار الحدسية البعيدة عن الحسّ... 275

3- الفارق: دلالة الاقتضاء... 276

4- استلزامه الدور... 279

الوجه السابع: انتفاء القرينة دليل الحقيقة... 280

المقام الثاني: في حجية قول اللغوي في إثبات موارد الاستعمال... 282

تذييل: في فائدة الرجوع إلى بحث اللغة... 282

الخلاصة... 283

فصل في الإجماع والبحث يقع في مقامين

المقام الأول: في الإجماع المحصل... 287

المبحث الأول: في معنى (الإجماع المحصل)... 287

المبحث الثاني: في وجه حجية الإجماع المحصل... 288

الوجه الأول: قاعدة اللطف... 288

1- عدم ثبوت وجوب جميع أنواع اللطف... 291

2- الملاكات الأولية لم تجر العادة بحفظها، والثانوية محفوظة على كلّ تقدير... 293

3- النقض بالجهل الواقع في موضوعات الأحكام الشرعية... 294

4- لا وجه للاقتصار على إلهام البعض الواقع... 295

5- المكلفون هم السبب في الحرمان... 296

6- المصالح التي اقتضت الغيبة تقتضي الكتمان... 297

7- النقض بمن لم تتم عليه الحجة... 298

ص: 458

8- النقض بالإجماعين المتخالفين... 298

9- الدليل أخصّ من المدّعى... 299

10- عدم معلومية كون الواقع فعلياً منجّزاً... 299

11- الإشكال في أصل القاعدة... 300

الوجه الثاني: الكتاب العزيز... 300

الآية الأولى: آية المشاقة... 300

بيان الاستدلال... 301

وهذا الاستدلال مناقش فيه بمناقشات... 301

1- القضية خارجية لا حقيقية... 301

2- الانصراف عن الأحكام الفرعية... 302

3- ظاهر الجملة الشرطية ترتّب تمام التالي على تمام المقدم... 304

إشكالات ودفوع... 304

4- «المؤمنين» جمع محلّى فيدخل فيه المعصوم... 307

الآية الثانية: آية الاعتصام... 308

الآية الثالثة: آية (كنتم خير امة)... 308

الآية الرابعة: آية الشهادة... 309

الوجه الثالث: السنة الشريفة... 310

1- عدم اجتماع الأمة على ضلالة... 310

2- مقبولة عمر بن حنظلة... 314

3- الروايات الناهية عن اتباع غير سبيل المؤمنين... 318

4- الروايات الدالة على لزوم اتباع الجماعة... 319

الوجه الرابع: كاشفية الإجماع عن الحجة المعتبرة الخاصة... 319

إيرادات... 322

الإيراد الأول: احتمال اعتمادهم على قاعدة أو أصل لا نرى تماميتهما أو انطباقهما 322

الإيراد الثاني: عدم صلاحية المدارك المتحملة للإجماع للمدركية... 323

إشكالان على الإيراد الثاني... 324

ص: 459

أ) احتمال استناد الإجماع إلى دليلين آخرين... 325

ب) حجية فهم الفقهاء الآخرين... 333

الإيراد الثالث: لو كان هناك دليل لبان... 334

وفيه جوابان... 334

الإيراد الرابع: الاتفاق بنحو التعاقب لا يكشف عن الدليل المعتبر... 335

الوجه الخامس: كاشفية اتفاق المرؤوسين عن رأي الرئيس عادةً... 336

إيرادات ثلاثة... 337

مناقشات وردود... 339

الوجه السادس: مسلك تراكم الظنون... 340

وأورد على هذا الوجه بإيرادات... 341

الوجه السابع: التشرّف... 345

الوجه الثامن: دلالة التقرير... 347

ويرد عليه... 347

الوجه التاسع: الإجماع كاشف عن وجود قاعدة معتبرة... 348

الوجه العاشر: الإجماع حجية عقلائية... 350

الوجه الحادي عشر: الإجماع الدخولي... 351

تذييل: في الإجماع التقليدي... 351

تعقيب: هل العامّة أصل الإجماع؟... 354

المقام الثاني: في الإجماع المنقول... 355

أولاً: تقسيم ثلاثي للخبر... 355

ثانياً: تقسيم سداسي للخبر... 355

صور في المقام... 358

الأولى: الإخبار الحدسي البعيد مع عدم ثبوت الملازمة في نظر المنقول إليه... 358

وجوه عدم حجية الإجماع المنقول في الصورة الأولى... 358

الأول: الدليل متكفل لتصديق الخبر لا لتصويب النظر... 358

الثاني: الأدلة الشرعية لحجية الخبر خاصة بالأخبار الحسّيّه... 361

قرائن خمس... 362

ص: 460

1- اقتضاء التفصيل... 363

2- دلالة التعليل... 364

3- اعتبار الضبط... 365

4- عدم الاستدلال بآية النبأ على حجية الفتوى... 366

5- اشتراط الاستناد على الحسّ في الشهادة... 367

سائر أدلة الحجية هل تشمل الأخبار الحدسية؟... 369

الثالث: الكاشفية النوعية العقلائية خاصة بالأخبار الحسّية... 370

الثانية: الشكّ في كون نقل اللازم حسياً أو حدسياً؟... 372

البحث الأول: بحث كبروي في (أصالة الحسّ العقلائية)... 372

البحث الثاني: بحث صغروي... 374

الثالثة: الإخبار الحدسي البعيد مع ثبوت الملازمة في نظر المنقول إليه... 374

إشكال وجواب... 374

والخلاصة... 376

الرابعة: الإخبار الحدسي البعيد مع الشكّ في ثبوت الملازمة... 376

الخامسة: الإخبار بالسبب الناقص المتمّم بغيره... 377

والخلاصة... 379

إيراد في المقام... 379

كيف يكون التنزيل؟... 380

إشكالات على الإيراد... 381

1- ما الفرق في المقام بين المقام والإخبار عن أسئلة الرواة؟... 381

2- اللازم كون المنزل ذا أثر شرعي دون المنزل عليه... 382

الإيراد بالفرق بين الواسطة في الثبوت والعروض... 383

التنظر في الإيراد... 384

3- عدم وجود الفرق بين نقل السبب التام والناقص... 385

4- عدم تمامية الإشكال لو كان المستند: السيرة العقلائية... 386

السادسة: الإخبار الحدسي عن الملزوم... 386

السابعة: الشك في كون الإخبار عن الملزوم حسّياً أو حدسيّاً... 388

ص: 461

تنبيهات... 388

التنبيه الأول: اختلاف الإجماعات المنقولة في مقدار دلالتها على السبب... 388

عوامل الاختلاف... 388

التنبيه الثاني: في تعارض الإجماعين المنقولين... 390

لكنه محل تأمل من جهتين... 393

التنبيه الثالث: في الإجماع المركب... 394

حجية الإجماع المركب... 394

التنبيه الرابع: في المتواتر المنقول بخبر الواحد... 396

فصل في الشهرة

فصل في الشهرة... 399

تنقيح محل البحث... 399

الشهرة الروائية... 399

الشهرة العملية... 399

الشهرة الفتوائية... 400

والخلاصة... 400

أدلة حجية الشهرة الفتوائية... 401

فصل في الخبر الواحد

فصل في الخبر الواحد... 407

1- توقف حجية الخبر على جهات ثلاث... 407

2- أهمية هذه المسألة... 408

3- المراد بالخبر الواحد... 408

أدّلة عدم حجية خبر الواحد... 409

1- الكتاب العزيز... 409

الإيراد على الاستدلال... 410

3- المفهوم كلّي له فردان... 410

4- حمل المفهوم على السالبة بانتفاء الموضوع خلاف الظاهر... 411

ص: 462

إيراد الشيخ الأعظم على الجوابين الأخيرين... 412

مناقشة... 413

5- القضية ظاهرة في انحصار الموضوع... 414

توضيحه... 414

توضيح وجه الانحصار... 415

التأمّل في التوضيح... 416

بيان آخر لإفادة الحصر... 417

توضيحه... 418

1- ما لا يعقل له بدل... 418

2- أن يعقل به بدل... 418

6- استظهار وجود المفهوم من مورد النزول... 420

7- الآية في مقام تقرير المرتكزات العقلائية... 422

8- [الجواب الثامن]... 423

وأورد عليه... 426

التقرير الثاني... 426

وأورد عليه بأمور... 427

التقرير الثالث... 430

التقرير الرابع... 433

البحث في المانع... 434

الإشكال الأول: المعارضة بين المفهوم وعموم التعليل... 434

إيرادات... 435

أولاً: حكومة المفهوم على عموم التعليل... 435

مناقشات في حكومة المحقق النائيني... 436

1- ليس معنى الحجّيّة: جعل المحرزية... 436

2- عموم التعليل مانع عن ثبوت المفهوم... 436

3- الحكومة دورية... 437

4- لا حكومة على الشق الثاني من التعليل... 439

ص: 463

5- المناقشة الخامسة:... 441

6- المناقشة السادسة:... 442

مصادر التحقيق... 443

فهرس المحتويات... 451

ص: 464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.