موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء الثاني) المجلد 5

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(5)

تبيين الأصول

الجزء الثاني

تأليف: آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج5: 3-275-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15(بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

----------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة:قدس

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج5: 3-275-204-964-978

----------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

فصل في قطع القطاع وفيه مباحث خمسة

اشارة

المبحث الأول: في مفهوم كلمة «القطاع»

المبحث الثاني: في حجّية قطع القطاع في القطع الموضوعي

المبحث الثالث: في حجّية قطع القطاع في القطع الطريقي

المبحث الرابع: في حجّية قطع القطاع مطلقاً - طريقياً كان أو

موضوعياً - لغيره

المبحث الخامس: في أنّه هل يجب على القطاع علاج نفسه؟

ص: 5

ص: 6

المبحث الأول : في مفهوم كلمة القطاع

هذه الكلمة تحتمل معاني:

1- أن تكون بمعنى «كثير القطع» وهذا المعنى هو المناسب لصيغة الكلمة.

قال في الألفية:

- في كثرة - عن فاعل بديل(1)

فَعّال أو مِفعال أو فعيل

2- أن تكون بمعنى «سريع القطع» وهذان المعنيان غير مرادين في المقام. لأنّ السرعة والكثرة قد تحصلان من توقّد البديهة, أو الإحاطة بالأسباب والملازمات الواقعية, أو النور الذي يقذفه اللّه - تعالى - في قلب من يشاء.

ولذا نرى العباقرة والروّاد الأوائل يلمحون ما لا يلمحه غيرهم, ويرون ما لا يراه غيرهم, بإعتبار معرفتهم بالعلل الواقعية, وإحاطتهم بجملة من الأسباب والمسببات لا يحيط بها غيرهم، ولعلّ ذلك من عوامل معيّنة أبي ذرّ (رحمه اللّه) وحده, كما أخبره به النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال- فيما روي عنه - : «يا أبا ذر تعيش وحدك, وتموت وحدك, وتُحشر يوم القيامة وحدك»(2).

ص: 7


1- شرح الفية ابن مالك 2: 111.
2- بحار الأنوار 74: 61.

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): «... ومنه يعلم أنّه لا يراد بالقطاع هنا: من كثر قطعه لكثرة علمه, كالمهندس الذي يكثر قطعه بصغريات الهندسة, ممّا ليس كذلك جاهل الهندسة»(1).

وفي علم المنطق في مباحث «الحدسيات» ما ربما ينفع هذا البحث. كما أنّ في علم التاريخ, وفي حياة الرواد الأوائل ما يجدي في المقام.

3- أن تكون بمعنى: من يحصل له القطع كثيراً من أسباب لا ينبغي حصولها منه فيكون هذا الإطلاق من استعمال اللفظ الموضوع للعام في الخاص, مجازاً, أو من باب «الحقيقة العرفية الخاصّة».

ثمّ إنّ معنى «لا ينبغي حصولها منه»: عدم كونها علّة تامة في نظر متعارف العقلاء لتكوين اليقين, إلاّ بضميمة خلل في نفس الناظر إليها وذلك كالمنام, والتطير, والتفؤّل, إخبار المنجّمين والرمّالين ونحو ذلك.

وفي طرف النقيض من «القطاع»: «الوسواسي» فإنه هو من لا يحصل له القطع من الأسباب التي ينبغي حصولها منه.

وعلى كل: فهاتان الحالتان حالتان مرضيّتان تنشآن عن شذوذ النفس وإنحرافها عن المنهج السويّ.

ثمّ أنّه قد يلحق بالموضوع ما كان بذاته خارجاً. وقد يخرج منه ما كان بذاته داخلاً.

ص: 8


1- الوصائل 1: 167.

أمّا الأول: فهو (كل إنسان سويّ قطع قطعاً ناشئاً عن سبب لا ينبغي حصوله منه). كما إذا اتفق أنّه حصل له القطع من رؤيا رآها, على نحو القضية الاتفاقية. وسبب الإلحاق: عموم (الملاك) فما يذكر في (القطاع) يذكر فيه أيضاً.

ونظير ذلك: إلحاق من (حصل له الشكّ من سبب لا ينبغي حصوله منه اتفاقاً) ب- (الوسواسي) في حكمه, فتأمل.

وأمّا الثاني: فهو (القطاع) إذا حصل له القطع من أسباب ينبغي حصوله منها، فإنه لا ينبغي الإشكال في حجّية قطعه, وإن فرض المصير إلى عدم حجّية قطع القطاع, وكلمات الفقهاء لا تشمله؛ إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية، ولعله من هنا قال في الكفاية: «...كما هو الحال غالباً في القطاع»(1).

قال في الوصول: «...وإن كان الأقرب إرادة إخراج القطع الذي حصل للقطاع من الأسباب المتعارفة»(2).

ونظير ذلك: الوسواسي إذا حصل له القطع بالنجاسة مثلاً عن طريق ينبغي حصوله القطع به, فإنّه لا ينبغي الإشكال في حجّية قطعه, فتأمل.

يبقى الكلام في قطع القطاع إذا حصل من سبب يتعارف حصوله منه, لكن لا لأجل كون السبب متعارفاً, بل لأجل حالته النفسية الشاذة التي

ص: 9


1- كفاية الأصول: 269.
2- الوصول 3: 350.

تجعله يقطع من كل شيء. والظاهر إلحاقه بالمتعارف من الأفراد في قطعهم المتعارف لشمول الأدلّة لذلك, فتأمل.

ص: 10

المبحث الثاني : في حجّية قطع القطاع في القطع الموضوعي

اشارة

لقد تقرّر في مباحث «القطع الموضوعي»: أنّ أمر القطع الموضوعي في السعة والضيق تابع للجعل المولوي. فقد يأخذ المولى طبيعي القطع في الموضوع, وقد يأخذ حصّة خاصّة منه فيه, وعلى أساس ذلك قد يقال: إنّ المولى إن أخذ القطع في موضع الحكم مقيّداً بما يحصل من سبب ينبغي حصوله منه لم يكن قطع القطاع حجّة, وإن أخذه مطلقاً كان قطعه حجّة.

مثلاً: لو قال المولى: «إن قطعت بشيء قطعاً ناشئاً من أسباب ينبغي حصول القطع منها: جازت لك الشهادة عليه» لم يحقّ للقطاع الشهادة على ما قطع به من سبب لا ينبغي حصوله منه.

وأما لو قال المولى: «إن قطعت بشيء مطلقاً جازت لك الشهادة عليه» حقّ له ذلك.

هذا ويوجد في المقام رأيان آخران:

الرأي الأول

ما ذهب إليه في المصباح من أنّه لا أثر لتقييد الشارع القطع بحصوله من الأسباب المتعارفة. قال: «وأمّا القطع الموضوعي فأمره - سعة وضيقاً - وإن كان بيد المولى, فله أن يجعل موضوع حكمه نوعاً خاصاً من القطع, وهو

ص: 11

القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة العادية, إلاّ إنّه لا أثر في ذلك؛ إذ القاطع وان كان ملتفتاً إلى حاله في الجملة, وأن قطعه قد يحصل من سبب غير عادي, إلاّ إنّه لا يحتمل ذلك في كل قطع بخصوصه, لأنّ القاطع بشيء يرى أنّ قطعه حصل من سبب ينبغي حصوله منه, ويخطّئ غيره في عدم حصول القطع له من ذلك السبب, فلا أثر للمنع عن العمل بالقطع الحاصل من سبب غير عادي بالنسبة إلى القطاع»(1).

الرأي الثاني

ما ذهب إليه في النهاية من التفصيل بين تقييد القطع الموضوعي «بما إذا حصل من سبب لا ينبغي حصوله منه» فهو لا يجدي في الردع عن ترتيب أثر القطع حال حصوله للقطاع, وتقييده «بما حصل من سبب متعارف» فلا إشكال فيه.

قال: «إنّ تقييد القطع الموضوعي بما إذا حصل من سببٍ ينبغي حصوله منه بهذا العنوان, لا يكاد يجدي في الردع عن ترتيب أثر القطع حال حصوله ولو مع إلتفات القاطع بأنّه كثيراً ما يقطع من سبب لا ينبغي حصوله منه؛ إذ حال حصوله يقطع بأنّ هذا السبب ينبغي حصوله منه, وإلاّ يؤول الأمر إلى حدوث المعلول بلا علّة في نظره, إلاّ إذا عقد القاطع مزيّة لنفسه في الالتفات إلى مزايا السبب بحيث يوجب احتفافه بها القطع لكل مَن التفت إليها, فهو عالم بأنّه سبب غير متعارف, لكنه يعتقد جهل الناس

ص: 12


1- مصباح الأصول 2: 53-54.

بمزاياه الموجبة لحصول القطع.

نعم، تقييد القطع بذوات الأسباب المتعارفة خال عن الإشكال؛ لأنّه غير مناف لحصول القطع من غيرها والردع عنه كما لا يخفى»(1).

وبناءً على ذلك لو قيّد الشارع القطع بذوات الأسباب المتعارفة, فقطع القطاع بشيء رآه ممّا ينبغي حصول القطع منه, لكنه لم يورث القطع لتعارف الناس, لم يكن قطعه حجّة.

مثلاً: لو قال الشارع: «إن قطعت بالسرقة من سبب يتعارف حصول القطع حقّ لك أن تشهد».

فقطع بسرقة زيد, باعتبار أنّه يطوف في الليالي, بدون أن يقتضي عمله ذلك, وبدون أن تكون في بدنه علّة, ورأى أنّ هذه القرائن ينبغي حصول القطع منها بالسرقة, لكنّه وجد متعارف الناس لا يحصل لهم القطع بها من ذلك, لم يحقّ له أن يشهد بالسرقة, لعدم تحقّق الموضوع.

وقبل مناقشة هذين الرأيين لا بأس بالإشارة إلى أمرين:

الأول: أنّه وردت كلمة -«القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة العادية» مضمون كلمة «القطع الحاصل من الأسباب التي ينبغي حصوله منها»(2)- في المصباح في سياق واحد. مع أن مفادهما مختلف.

فإنّ كلمة «القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة» مفادها كون القطع

ص: 13


1- نهاية الدراية 3: 87 - 88.
2- حيث قال: >إن قطعه حصل من سبب ينبغي حصوله منها< (منه (رحمه اللّه) ).

حاصلاً من سبب يتعارف حصول القطع منه لمتعارف الناس, فمثلاً:

التشكّلات البدرية, والهلالية لا يحصل منها القطع لمتعارف الناس بكروية الأرض, وإن كان يحصل منها ذلك للأوحدي من الناس, فليست من الأسباب المتعارفة: وإن كان ينبغي حصول القطع منها.

وأمّا كلمة «القطع الحاصل من الأسباب التي ينبغي حصوله منها» فمفادها كونها علّة تامة الصلاحية لحصول اليقين. ولعله اصطلاح, ولا مشاحة في الاصطلاح.

الثاني: أن قال تفصيل النهاية إلى إطلاق عدم الإجراء, إذ «القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة» خارج موضوعاً عن محلّ الكلام, وإلاّ لكان كل النوابغ الذين يرون من الملازمات الواقعية بين المقدّمات والنتائج ما لا يراه عموم الناس قطاعين, ولا يمكن الإلتزام بذلك, وقد سبقت الإشارة إلى بعض ما يتعلّق بالمقام.

إذا عرفت ذلك فنقول: إن نفي ترتب الأثر على تقييد الشارع القطع بكونه حاصلاً من سبب ينبغي حصوله منه يحتمل معنيين:

المعنى الأول: نفي ترتّب الأثر بالنسبة إلى نفس القطاع.

المعنى الثاني: نفي ترتّب الأثر بالنسبة إلى غير القطاع.

والمعنى الأول: يحتمل وجهين:

الوجه الأول: نفي ترتّب الأثر بالنسبة إلى القطاع في خصوص الجري العملي الفعلي.

ص: 14

الوجه الثاني: نفي ترتّب الأثر بالنسبة إلى القطاع مطلقاً.

فهذه معانٍ ثلاثة:

أمّا المعنى الأول: - أي نفي ترتّب الأثر بالنسبة إلى القطاع في خصوص الجري العملي الفعلي - فلعلّه حري بالقبول.

توضيحه: أن السبب على نوعين:

سبب تامّ الصلاحية - في نظر القاطع - لتوليد المسبب.

وسبب غير تامّ الصلاحية - في نظر القاطع - لتوليد المسبب.

ومع تحقّق ظاهرة من الظواهر في نظر القاطع لابدّ من اعتقاده بكون السبب تامّ الصلاحية لتوليد المسبب. وإلاّ وجد المعلول بدون وجود علته التامة في نظره, وهو محال.

وكما ينطبق ذلك على الظواهر الخارجية, ينطبق - أيضاً - على الظواهر النفسية، وحيث أنّ القطاع قطع بشيء من أسباب معيّنة, فلابد من اعتقاده بكون تلك الأسباب عللاً تامّة الصلاحية لحصول اليقين, وإلاّ لم يحصل له اليقين, وكان ظانّاً أو شاكّاً.

إن قلت: إن السبب هو المجموع المركّب من «الأسباب الخارجية» و «العوامل النفسية» أي أنّ المرض النفسي والشذوذ الروحي للقطاع دخيلان في حصول اليقين.

قلت: إنّ ذلك وإن أمكن تحققه ثبوتاً, وفي نظر غير القاطع إلاّ إنّه غير متحقق في نظر القاطع. وإلاّ فمع احتماله مدخلية الشذوذ النفسي في القطع لا يحصل له القطع, بل حصل له الترجيح أو الاحتمال.

ص: 15

ومثال ذلك: إنّ الأعمى لو احتمل مدخلية عماه في قطعه بحلول الليل, لم يحصل له القطع, وإن حصل له تزلزل بهذا الاحتمال.

وأمّا المعنى الثاني - وهو نفي ترتب الأثر بالنسبة إلى القطاع مطلقاً- ففيه نظر؛ إذ الأثر لا ينحصر في خصوص «الجري العملي الفعلي» بل هنالك آثار اُخر للتقييد.

مثلاً: لو قال المولى: «من قطع من سبب ينبغي حصوله منه بأنّ الماء يضرّه جاز له التيمم».

فأثر هذا التقييد: انتفاء الموضوع - ثبوتاً - بالنسبة إلى القطاع، ولذا تجب عليه الإعادة أو القضاء لو انكشف له الواقع - أي انكشف له كون السبب مما لا ينبغي حصول القطع منه - بل لو لم ينكشف له الواقع في حياته, وانكشف لوليّه بعد وفاته, وجب عليه القضاء.

أما لو كان القطع المأخوذ مطلقاً فيكون الموضوع محقّقاً واقعاً, ولو انكشف فيما بعد كونه حاصلاً من سبب لا ينبغي حصوله منه, ولا إعادة عليه ولا قضاء، فيكون نظير ما ذكره الفقهاء من أنّ خوف الضرر موضوع لجواز التيمم, ولو انكشف فيما بعد عدم وجود الضرر في الواقع.

وأمّا المعنى الثالث: - وهو نفي ترتب الأثر بالنسبة إلى غير القطاع - فهو غير صحيح؛ إذ يمكن للشارع أن يقيّد قبول الشهادة له بحصول القطع للشاهد من سبب ينبغي حصوله منه, أو يقيّد قبول فتوى المجتهد بكونها حاصلة من الأسباب التي ينبغي حصول القطع بالحكم الشرعي منها, مثل الروايات المعتبرة, لا ممّا لا ينبغي حصول القطع به منها, كالجفر والرمل والمنامات.

ص: 16

وقد إنقدح من جميع ما ذكرناه: إمكان تنصيص الشارع على الإطلاق. وإمكان تنصيصه على التقييد. فإن نصّ على الإطلاق كان قطع القطاع معتبراً, وإن نصّ على التقييد كان غير معتبر.

يبقى الكلام في حالة ثالثة. وهي أن يؤخذ القطع مطلقاً في الموضوع - أي لا ينصّ في الدليل لا على الإطلاق ولا على التقييد - كأن يقول: «من قطع بشيء حقت له الشهادة به». والمعروف بينهم أن هذه الحالة تلحق بحالة التنصيص على التقييد. والوجه في ذلك هو «الانصراف».

بيان ذلك: أن كل لفظ ينصرف إلى المتعارف, بلا فرق في ذلك بين الأمور الخارجية والنفسية.

مثلاً:

1- يجب في الوضوء غسل ما بين الإبهام والوسطى - عرضاً - كما ورد في النص الشريف. وكلمة الإبهام والوسطى تنصرف إلى المتعارف, فمن كانت إبهامه أو وسطاه مخالفة للمتعارف رجع إلى المتعارف. وهكذا بالنسبة إلى الوجه.

قال في العروة: «والأنزع والأغمّ ومن خرج وجهه أو يده عن المتعارف يرجع كل منهم إلى المتعارف, فيلاحظ أن اليد المتعارفة في الوجه المتعارف إلى أي موضع تصل, وأن الوجه المتعارف أين قصاصه فيغسل ذلك المقدار»(1).

ص: 17


1- العروة الوثقى 1: 142.

والعبارة وإن كانت لا تخلو من قصور, إلاّ إن المقصود غير خفي - كما أشار إليه بعض المحشين(1).

2- الأشبار في الكر, فإنها منصرفة إلى الأشبار المتعارفة، كما أُشير إلى ذلك في الوصائل(2).

3- اليوم والليل والدلوك والشروق والغروب والفجر كلّها تنصرف إلى المتعارف. قال في العروة:

«إذا فرض كون المكلف في المكان الذي نهاره ستّة أشهر, وليله ستّة أشهر أو نهاره ثلاثة وليله ستّة أو نحو ذلك فلا يبعد كون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة المتوسطة مخيّراً بين أفراد المتوسط»(3).

4- الدلاء التي ينزح بها البئر منصرفة إلى الدلاء المتعارفة.

5- الظنّ - الذي هو حجّة في الركعات وفي القبلة - ينصرف إلى الظنّ المتعارف.

6- للشك في الصلاة أحكام مذكورة في الكتب الفقهية, وهذه اللفظة منصرفة إلى الشك المتعارف. إلى غير ذلك من الأمثلة. والأمر في «القطع» كذلك, فإذا وردت كلمة القطع في النصوص الشرعية - مطلقة - فإنّها تنصرف إلى القطع المتعارف(4), فلا تشمل قطع القطاع. وهكذا الأمر فيما

ص: 18


1- العروة الوثقى: الحاشية رقم (7).
2- الوصائل 1: 201.
3- العروة الوثقی 2: 146.
4- أي ما حصل من سبب ينبغي حصول القطع منه (منه (رحمه اللّه) ).

يراد من القطع مثل كلمة «التبيّن» في قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}(1). بناءً على كون القطع المأخوذ فيه موضوعياً لا طريقياً.

ص: 19


1- البقرة: 187.

المبحث الثالث : في حجّية قطع القطاع في القطع الطريقي

اشارة

مثلاً: لو قال المولى: «الدم نجس» فلم يأخذ القطع في الموضوع, وإنّما القطع مجرد كاشف وطريق عقلاً لإحراز الموضوع. فقطع القطاع بأنّ هذا دم, فهل قطعه حجّة عليه أو لا؟ عمدة الأقوال في المسألة ثلاثة:

القول الأوّل: الحجّية مطلقاً. ذهب إليه الكفاية(1) والنهاية(2)، والمحقق النائيني (رحمه اللّه) (3)، والسيد الوالد (رضوان اللّه عليه)(4)، والمصباح(5) وغيرهم، وهو المعروف بين الأُصوليين.

القول الثاني: عدم الحجّية مطلقاً, قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «قد اشتهر في ألسنة المعاصرين(6) أنّ قطع القطاع لا اعتبار به ولعل الأصل في ذلك قد صرّح به كاشف الغطاء بعد الحكم بأنّ كثير الشكّ لا اعتبار بشكّه.

قال(7): «وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو ظنّه فيلغو اعتبارهما في

ص: 20


1- كفاية الأصول: 269.
2- نهاية الدراية 2: 41.
3- فوائد الأصول 1: 23.
4- الأصول 6: 602.
5- مصباح الأصول 2: 53.
6- في الوصائل 1: 198 >كصاحب الجواهر وغيره<.
7- كشف الغطاء 1: 64.

حقّه»(1).

القول الثالث: التفصيل بين المنجّزية والمعذّرية فقطع القطاع منجّز للتكليف, لكنه ليس بمعذّر. وإليه ذهب المحقق العراقي (رحمه اللّه) (2). وتبعه المنتقى(3).

أما القول الأول: وهو الحجّية مطلقاً فاستدل له أو يمكن أن يستدل له بأدلّة:

1- أنّ الحجّية من اللوازم الذاتية العقلية للقطع. ولوازم الذات لا تقبل الوضع ولا الرفع, ولا تنالها يد الجعل لا إثباتاً ولا نفياً, لا عقلاً ولا شرعاً.

ولا فرق في ذلك بين الموارد, إذ القواعد العقلية لا تقبل التخصيص. وعليه فلا يمكن تخصيص حجّية القطع الطريقي بغير القطاع, كما لا يمكن تخصيص زوجية الأربعة بمورد دون مورد, أو تخصيص استحالة اجتماع النقيضين بزمان دون زمان. وأوضح ذلك صاحب الكفاية:

بأنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله منه, وصحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنها بأنّه حصل كذلك، وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله(4).

ص: 21


1- فرائد الأصول 1: 65.
2- نهاية الأفكار 2: 44.
3- منتقى الأصول 4: 118.
4- كفاية الأصول: 269.

والخلاصة: أنّ القطع الذي هو موضوع عقلاً للحجّية لا فرق فيه بين الأسباب والموارد والأشخاص, لكون الحجّية ذاتية له, والذاتي لا يختلف و لا يتخلّف.

2- أنّه يلزم من سلب الحجّية عن القطع اجتماع الضدّين اعتقاداً مطلقاً وحقيقةً في صورة الإصابة.

3- أنّه يلزم منه نقض الغرض ولو في نظر القاطع.

4- ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من أنّه: «لا شكّ في أن أحكام الشك وغير العالم لا يجري في حقه, وكيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب عند عدم العلم, والقاطع بأنّه صلّى ثلاثاً بالبناء على أنّه صلّى أربعاً ونحو ذلك»(1).

أقول: هنا بحثان: بحث كبروي, وبحث صغروي.

أمّا البحث الكبروي - وهو أن القطع الطريقي هل هو حجّة أو لا؟ فالظاهر أنّ الحقّ فيه مع المشهور. أي أنّه لو فرض أن هنالك قطعاً طريقياً فهو حجّة, أي منجز للتكليف عقلاً في نظر القاطع مادام قاطعاً, كما أنّه معذّر عنه؛ وذلك لأنّ القطاع يرى أنّه وصل إلى الواقع, ومع وصوله إلى الواقع يأمره العقل بترتيب الآثار بما يوافق غرضه, ولا يعقل ردعه عن التحرّك نحوه.

مثلاً: إذا قال المولى: «اجتنب عن السمّ» وقطع القطاع بأنّ هذا «سمّ» فهنا

ص: 22


1- فرائد الأصول 1: 66.

يتشكل قياس لدى القطاع, صغراه وجدانية وكبراه برهانيّة, فتكون النتيجة قطعية. ولا يعقل أن يقال له: أنّه لا يجب الاجتناب عن هذا المائع (مع فرض عدم رفع المولى يده عن حكمه).

وأمّا البحث الصغروي: فلعل الحق فيه مع كاشف الغطاء وصاحب الجواهر والمشهور عن معاصري الشيخ الأعظم.

بيان ذلك: أن الألفاظ كما هي منصرفة إلى المتعارف في ذاتها, كذلك هي منصرفة إلى المتعارف في طرق إحرازها. فكما أن لفظ (اليوم), و(الليلة), و(الفجر), و(الشروق), و(الدلوك), و(الغروب), و(الشبر), و(الإبهام), و(الوسطى), و(الدلو), و(الظنّ), و(الشكّ), و(القطع) كلها تنصرف إلى المتعارف. كذلك عندما يقول المولى: (الدم يجب الاجتناب عنه) فإنّه ينصرف - عرفاً - إلى «الدم الذي علمت بنجاسته عن طريق عقلائي يجب الاجتناب عنه». فإذا عرف القطاع بكون شيء دماً عن طريق غير عقلائي - أي لا يبني عليه العقلاء - لم يكن حجّة؛ وذلك لانتفاء الموضوع.

وبعبارة مختصرة: المدّعى تحويل القطع في جميع موارد الأدلّة الشرعية إلى (القطع الموضوعي). ويؤيّد ذلك - أو يدل عليه - أمران:

الأول: السيرة العقلائية بين الموالي والعبيد.

مثلاً: إذا قال المولى لعبده: (بع الدار بالقيمة الرابحة) فالمنصرف من ذلك أن يحقّق العبد حول القيمة الرابحة بالطرق العقلائية المتداولة, كالذهاب إلى السوق, وسؤال أهل الخبرة ونحو ذلك. ولا يحق له - في نظر المولى والعقلاء - أن يبيعه بقيمةٍ أخبره الرمّال بأنها قيمة رابحة. فإذا باع

ص: 23

الدار عن هذا الطريق وتبيّن أنها لم تكن رابحة كان مستحقاً عند العقلاء للذم والعقاب. ولو اعتذر عند المولى بأنّه قطع من قول الرمّال بأن هذه القيمة قيمة رابحة, حقّ للمولى أن لا يقبل عذره, ويقول: بأنّ المنصرف العقلائي من «القيمة الرابحة» ما علم أنها قيمة رابحة عبر الطرق العقلائية المألوفة إلى غير ذلك من الأمثلة.

الثاني: ما ذكره الفقهاء: من أن قول المجتهد إنّما يكون حجّة على مقلِّده لو استنبط الحكم عبر الطرق المألوفة - كخبر الثقة والإجماع المحصل ونحوهما - أما لو استنبط الحكم عن طريق الرؤيا مثلاً لم يكن قوله حجّة.

واستدل السيد العمّ دام ظله على ذلك بأدلة منها: أن أدلّة التقليد منصرفة إلى المتعارف(1)، وهكذا الأمر في جميع الفنون.

مثلاً: لو قال المولى لعبده: (خذ المريض إلى الطبيب واعمل بأنظاره) كان المنصرف من ذلك (الأنظار) المستندة إلى الطرق المألوفة, لا الأنظار التي استند الطبيب فيها إلى الرمل أو الجفر أو الإسطرلاب، وكذا الأمر في باب (الشهادة) فإنّ شهادة الشاهد إنما تكون معتبرة إذا استند إلى الرؤية -مثلاً- لا ما إذا استند إلى طيران الغراب، وجريان الميزاب والرمل والإسطرلاب.

والحاصل: إنّه لا فرق في نظر العرف بين قول المولى: (إذا قطعت بكون شيء دماً فاجتنب عنه), وقوله: (الدم نجس) فكما أنّ الأول ينصرف إلى

ص: 24


1- بيان الفقه.

القطع المتعارف, كذلك ينصرف الثاني إلى الدم الذي أحرز كونه دماً عن الطريق المتعارف.

وهكذا لا يرى العرف الفرق بين قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}(1). وقوله: (حتى يطلع الفجر)، فإن التفكيك بينهما غير عرفي.

وبما ذكرناه يمكن أن يتمّ الجمع بين الرأيين (الحجّية مطلقاً وعدم الحجّية مطلقاً) إلاّ أن يقال: إنّه صلح من غير رضا الطرفين، فتأمل.

يبقى الكلام في القول الثالث وهو التفصيل بين المنجّزية والمعذّرية - كما ذهب إليه المحقق العراقي (رحمه اللّه) وتبعه المنتقى - ولعل الظاهر وجود نوع من الفرق بين النهاية والمنتقى في هذا التفصيل. فإنّ ظاهر النهاية: جريان هذا التفصيل في (القطاع المقصّر) وظاهر المنتقى: جريان هذا التفصيل في (القطاع الملتفت) والظاهر أنّ النسبة بين العنوانين هي (العموم من وجه) إذ (القطاع المقصّر) هو الذي قصّر في المقدمات, وإن لم يلتفت حين القطع إلى أن قطعه غير متعارف. و (القطاع الملتفت) هو الذي ظنّ إلى أن قطعه ناشئ عن طرقٍ غير متعارفة, وإن لم يكن مقصّراً في المقدمات.

وعلى كلًّ: فقد قال المحقق العراقي (رحمه اللّه) : «ولعلّه إلى ما ذكرنا نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطاع فيراد من ذلك عدم اعتباره في مقام المعذرية, ولو بملاحظة تقصيره في مقدمات قطعه من الأول الناشئ من جهة قلّة مبالاته، وعدم تدبره الموجب لخروجه بذلك عما عليه متعارف الناس من الاستقامة

ص: 25


1- البقرة: 187.

إلى الاعوجاج في السليقة, بنحو يحصل له القطع من كلَّ شيء مما لا يكون مثله سبباً عادياً لحصول الظن، بل الشك لمتعارف الناس, لا عدم اعتباره في مقام المنجّزية ومرحلة إثبات التكليف والاشتغال به»(1).

أقول: ربما يقال: إن هذا التفصيل مستدرك.

بيانه:

أن البحث في المقام يدور حول: أنّ كل ما ثبت لطبيعي القطع من الأحكام فهو ثابت لهذه الحصّة (أي قطع القطاع) أو لا؟

وبعبارة أخرى: أن المنجّزية الثابتة لطبيعي القطع في الحدود التي أثبت له فيها ثابتة لقطع القطاع أو لا؟

والمعذّرية الثابتة للطبيعي في الحدود التي تثبت له فيها ثابتة له أو لا؟

ومن الواضح: أن المنجّزية الثابتة للطبيعي مترتبة على مطلق القطع الطريقي.

إذ المنجزية: عبارة عن حكم العقل بثبوت الواقع في ذمة القاطع حين قطعه.

وبعبارة أخرى: حكمه بترتيب الآثار على القطع وفق ما يتعلّق به غرض القاطع. وهذه المنجّزية ثابتة للقطع الطريقي بشكل مطلق.

وأما «المعذرية»: فهي لا تترتب على كل قطع, بل على القطع الذي لم يقتصر صاحبه في مقدماته.

وأما لو قصّر في المقدمات فإنّه يكون مستحقاً للعقاب على تفويته للواقع؛ لأنّ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار - سواء كان وجوباً أو امتناعاً - .

ص: 26


1- نهاية الأفكار 3: 44.

وقد يقال: إنّه يستحق العقاب على نفس التقصير, لا على ما تورّط فيه من مخالفة الواقع, إلاّ إنّه محل إشكال.

وعلى كل حال: فالبحث في المقام أن المنجّزية الثابتة لطبيعي القطع مطلقاً, والمعذّرية الثابتة للقطع الذي لم يقصّر القاطع في مقدماته, ثابتة لقطع القطاع أو لا؟ فالقول بمنجزية قطع القطاع مطلقاً, ومعذريته إذا لم يكن من تقصير في المقدمات مستدرك؛ إذ لا خصوصية للقطاع في ذلك فيؤول هذا التفصيل إلى نفس القول الأوّل وهو أن (قطع القطاع حجّة مطلقاً).

وبعبارة أُخرى: ليس هذا تفصيلاً في قبال مختار الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ومن تبعه.

ولو كان المراد التنبيه على أنّ (القطاع) مقصّر في المقدمات مطلقاً, ففي إطلاقه إشكال؛ إذ قد لا يكون منه تقصير مطلقاً.

وأما المنتقى فقد قال: - في ضمن كلامٍ له -: «الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء ومعاملاتهم فيما بينهم ومع عبيدهم - التي هي الطريق لتشخيص أصل حجّية القطع في الجملة- هو عدم معذورية القاطع إذا كان قطعه من غير طريق متعارف, فمن أمر وكيله بشراء خاصة له بالقيمة السوقية فاشتراها الوكيل بأزيد منها إستناداً إلى قطعه بأن الثمن يساوي القيمة السوقية, لكنّه ملتفت إلى أن قطعه غير ناشئ عن سبب متعارف, فللموكّل أن لا يعذر وكيله ويعاتبه كما لا يخفى»(1).

ص: 27


1- منتقى الأصول 4: 118.

أقول: إن كان مورد تفصيله «القطاع المقصّر» - كما يظهر من كلامه- فيلاحظ عليه ما لوحظ على تفصيل النهاية.

وإن كان من مورد تفصيله «القطاع المكلّف» - كما يظهر من مواضع أخرى -, ففيه: أنّ سلب المعذّرية عن قطع القطاع غير المقصر محل إشكال؛ إذ عقوبة مثل هذا القطاع ظلم. وقد ورد في الروايات الشريفة أن من لم تتم عليه الحجّة لا يعاقب, بل يعاد امتحانه يوم القيامة, ويقرّر مصيره على أساس ذلك الامتحان.

وعلى كل حال: فمع وصول القطاع إلى الواقع بنظره, وعدم حصول تقصير منه في المقدمات, يكون معذوراً بحكم العقل, فلا يمكن سلب المعذّرية عن قطعه.

وأمّا ادّعاء التلازم بين (الإلتفات إلى القطاعية) و (التقصير في المقدمات) ففيه منع؛ إذ الإلتفات إلى (الظاهرة) لا يلازم الإلتفات إلى كون (هذه الظاهرة ظاهرة مرضية) كما في سائر الأمراض الروحية والجسدية.

تذييل

ما ذكر من حجّية قطع القطاع في القطع الطريقي المحض - بعنوان الكبرى الكلية - لا ينافي ثبوت أمور ثلاثة:

الأول: الإدانة والمسؤولية في صورة التقصير في المقدمات.

وبعبارة أخرى: استحقاق العقاب, أما على المخالفة الواقعية, أو على نفس التقصير في المقدمات. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. إلاّ إنّه لا خصوصية للقطاع في ذلك, بل يشمل كل قاطع بالخلاف إذا كان مقصّراً

ص: 28

في المقدمات.

الثاني: عدم إجزاء ما قطع به عن الواقع في صورة انكشاف الخلاف, فيجب عليه التدارك - فيما يحتاج إلى التدارك -؛ وذلك لأنّ الحكم معلق على الواقع ولم يحصل.

وقد تقرر في مباحث الإجزاء: أن موافقة الأوامر التخيلية لا تقضي الإجزاء.

نعم، قد يدل دليل خاص على اكتفاء المولى بالمأتي به وإن لم يطابق الواقع المأمور به, كما في حديث (لا تعاد) إلاّ إنّ الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية التي لا تنافيها حجّية قطع القطاع.

ثم إنّه لا فرق في الانكشاف بين أن ينكشف الأمر لنفس القطاع في حياته, أو ينكشف لوليه بعد وفاته.

وإن تأمل الوالد (رحمه اللّه) في الأخير(1).

ولا يخفى أن هذا - كسابقه - لا يختص بالقطاع, بل يعم كل قاطع بالخلاف.

الثالث: وجوب الردع. وللردع أشكال أربعة:

1- التشكيك.

2- التنبيه.

3- الإيهام.

4- الحيلولة.

ص: 29


1- الوصائل 1: 202.

بيان ذلك على نحو الإختصار:

1- أما التشكيك: فيحصل بإلفاته إلى أن مبادئ قطعه مما لا ينبغي حصول القطع منها, كأن يقال له: بأن هذا المخبر رجل فاسق, والفاسق لا رادع نفسي له عن الكذب, فكيف تعتمد على إخباره, وقد قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(1).

وليس ذلك من باب سلب حجّية القطع, بل من باب إزالة ذات القطع.

والمحال في المقام سلب الحجّية - القطع - على نحو السالبة بانتفاء المحمول, لا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وإزالة الموضوع أمر ممكن, بل واقع كثيراً, شرعاً وعرفاً, كما في قضية «أبان» وغيرها.

وعلى كل: فالتشكيك بمعنى تنزيل القطاع من القطع إلى الظن, أو الشكّ, أو الوهم أمر ممكن, ووجوبه لا ينافي حجّية القطع.

2- وأما التنبيه: فيحصل بإلفاته إلى مرضه النفسي الذي هو المبدأ لقطوعاته غير المتعارفة. وقد ذكر علماء الأخلاق: أن التنبيه إلى الأمراض الروحية والنفسية هو بداية الطريق لإصلاحها. كما هو الحال في الأمراض الجسدية. فالغفلة عن المرض من أخطر الأمور, واليقظة بداية رحلة العلاج.

3- وأما الإيهام: فيحصل بأن يقال له مثلاً: إن اللّه تعالى لا يريد منك

ص: 30


1- الحجرات: 6.

الواقع, لو فرض عدم تفطّنه أن اللّه تعالى يريد منه الواقع ومن كل أحد. على ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1).

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «لا يقال: إذا قلنا للقطاع: إنّ اللّه لا يريد منه الواقع كان كذباً؛ لأنّ اللّه تعالى يريد الواقع من كل أحد حتى من القطاع.

فإنه يقال: أما أن نقول له ذلك على وجه التورية, بأن نقصد الواقع في زعم القطاع, لا الواقع مطلقاً. وأما أن نقول له ذلك على وجه الأهم والمهم - كما تقدّم في كلام الشيخ المصنف (رحمه اللّه) »(2).

وما تقدّم هو أنّه «نُقِل أن الشيخ المصنف (رحمه اللّه) جاءه رجل مبتلى بالوسواس, كان يكبّر الصلاة إلى أن تطلع الشمس, وكلما كبّر قطع بأنّه لم يصحّ تكبيره, وهكذا كانت حاله في سائر الصلوات, فقال له الشيخ: لماذا أنت كذلك؟

قال: إني كلما كبّرت للصلاة أتاني الشيطان وقال لي: لم يصحّ تكبيرك قال الشيخ هل أنت تقلدني؟ قال: نعم, قال: فكبر لكل صلاة مرة, وبعد التكبير قل: الشيخ المرتضى قال لي صحّ تكبيرك, ثُمَّ إشرع في قراءة الحمد, وسمع الرجل كلام الشيخ حتى ذهبت عنه تلك الحالة, ولما قيل للشيخ: أبطلت صلواته مدة بما قلت له؟ قال: كان الأمر دائراً بين الأهم والمهم فأفتيته بالأهم, تخلّصاً من المهم»(3).

ص: 31


1- الوصائل 1: 205.
2- الوصائل 1: 173- 174.
3- الوصائل 1: 205.

4- وأما الحيلولة: فبالمنع تكويناً من إقدام القطاع على ما قطع به, كما لو قطع بأن زيداً كافر مهدور الدم, مع أنّه مسلم محقون الدم فأراد قتله, فمنعه - منعاً تكويناً - من ذلك.

هذا ولا يخفى أن وجوب الردع إنّما يكون في القطع المخالف للواقع المرتبط بالأحكام الشرعية, أو الموضوعات الخارجية المتعلقة بحفظ النفوس والأعراض, بل الأموال في الجملة - على تفصيل مذكور في الفقه - كما أنّه لا يختص بالقطاع, بل يشمل كل قاطع بالخلاف - في ضمن الحدود المشار إليها - .

وعلى كل حال: فوجوب الردع - بأحد أنحائه المتقدمة - لا ينافي حجّية القطع, إذ حجّية القطع إنّما تكون في فرض انحفاظ الموضوع, ففي هذه الحالة يحكم عقل القطاع بوجوب إتّباع القطع, ولا ينافي ذلك وجوب سعي الآخرين لنفي القطع موضوعاً, أو الحيلولة بين القاطع وما يريد عمله.

ص: 32

المبحث الرابع : في حجّية قطع القطاع مطلقاً - طريقياً كان أو موضوعياً - لغيره

والظاهر من كلمات الفقهاء رحمهم اللّه في بعض الموارد عدم حجّية قطع القطاع لغيره, لإنصراف أدلّة الحجّية عن ذلك. وقد مضت الإشارة إلى بعض الموارد, ونقتصر هنا على ما ذكره صاحب العروة (رحمه اللّه) . قال: «لا إعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة والنجاسة»(1) وقد وافقه على ذلك: كل من السيد الوالد والسيّد القمّي, والسيّد المرعشي(2) والمحقّق النائيني, والشيخ عبد الكريم الحائري, والسيّد أبو الحسن الأصفهاني والسيّد البروجردي, والسيّد الحكيم(3).

وقال السيّد الخوئي: «بمعنى أنّه لا يجب عليه تحصيل العلم بالطهارة, ولا يُعتمد على إخباره بالنجاسة»(4).

وقال السيّد الگلبايگاني: «وجه عدم اعتباره في الطهارة غير معلوم»(5).

وقال السيّد عبد الهادي الشيرازي: «لا فرق بين الوسواسي وغيره إلاّ في

ص: 33


1- العروة الوثقی 1: 57.
2- العروة الوثقی 1: 57.
3- العروة الوثقى: 1/ 156.
4- العروة الوثقى: 1/ 156.
5- العروة الوثقى: 1/ 156.

عدم اعتبار قوله بالنجاسة»(1).

وعلّل ذلك السيّد الحكيم في المستمسك بانصراف دليل حجّية الشهادة عن مثل ذلك(2).

ص: 34


1- العروة الوثقى 1: 156.
2- مستمسك العروة الوثقی 1: 450.

المبحث الخامس : في أنّه هل يجب على القطاع علاج نفسه؟

هنالك ردعان مفترضان بالنسبة إلى القطاع:

1- الردع اللاحق.

2- الردع السابق.

وقد سبق أن ردع القطاع عن العمل بالقطع الطريقي - بعنوان الكبرى الكلّية - محال, بعد حصول القطع.

ويبقى الكلام في الردع السابق على حصول القطع؛ وذلك بإيجاب العلاج على القطاع, أمّا عقلاً وأمّا شرعاً؛ كي لا يتورّط في مخالفة التكاليف الواقعية.

فنقول: إنّ في المقام صورتين:

الصورة الأُولى: أن لا يلتفت القطّاع إلى كونه قطّاعاً.

الصورة الثانية: أن يلتفت إلى كونه كذلك.

وفي الصورة الثانية هنالك فرضان:

الفرض الأول: أن لا يعلم - علماً إجمالياً - بوقوعه في مخالفة الواقع, مع تركه للعلاج.

الفرض الثاني: أن يعلم بذلك.

وفي الفرض الأول: هنالك شقّان:

الشق الأول: أن يتنجز التكليف بنحو من أنحاء التنجز.

ص: 35

الشقّ الثاني: أن لا يتنجّز التكليف بأي نحو من الأنحاء.

وفي الشق الثاني: هنالك حالتان:

الحالة الأولى: أن لا يكون المحتمل مهمّاً.

الحالة الثانية: أن يكون المحتمل مهمّاً.

وفي الفرض الثاني: توجد نفس هذه الشقوق والحالات.

فمجموع الصور: سبعة:

الصورة الأُولى: أن لا يلتفت القطاع إلى كونه قطاعاً.

وفي هذه الصورة لا يجب العلاج لفقدان شرط التكليف وهو (الالتفات) لكن ينبغي أن يعلم: أن المنفي ليس هو التكليف بوجوده الواقعي, بل التكليف بوجوده المنجز؛ وذلك لما تقرر في محلّه من أن تقييد الأحكام بالعلم بها - أو بعدم العلم على خلافها - باطل أو مستحيل.

وبعبارة أُخرى: المنفي في المقام هو (الفعلية بقول مطلق) لا (التكليف مطلقاً).

الصورة الثانية: أن يلتفت إلى كونه قطاعاً, مع عدم العلم الإجمالي بوقوعه في مخالفة الواقع لو ترك العلاج, وتنجّز التكليف بنحو من أنحاء التنجز. (كما لو فرض حلول وقت الواجب, أو فرضت فعلية الوجوب؛ لكون الواجب معلّقاً, أو مشروطاً بالشرط المتأخر)

وفي هذه الصورة قد يقال: بوجوب العلاج؛ وذلك لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. ومع عدم العلاج لا يقين بالبراءة من التكليف المنجز. وحصول اليقين للقطاع في ظرف الأداء لا يجدي بعد احتماله فعلاً

ص: 36

كون يقينه جهلاً مركباً.

وبعبارة أُخرى: ليس الكلام في يقين القطاع في ظرف أداء الواجب بفراغ ذمّته, بل الكلام في احتماله قبل ظرف الأداء بعدم إفراغه لذمته من التكليف المنجّز في ظرف الأداء, وهذا الاحتمال يحكم العقل بوجوب دفعه, بالمقدار المقدور للمكلّف, وذلك ما لا يحصل إلاّ بالعلاج. وعليه فإذا فرضنا حلول أشهر الحج على القطاع وتنجّز التكليف بالحج عليه, واحتمل أنّه لو لم يعالج نفسه تورّط في مخالفة الواقع, فإنّه يجب عليه العلاج, ليضمن إفراغ ذمّته من التكليف الفعلي المتوجّه إليه.

الصورة الثالثة: أن يلتفت إلى كونه قطاعاً, مع عدم العلم الإجمالي بوقوعه في مخالفة الواقع, وعدم تنجز التكليف عليه, وعدم كون المحتمل مهمّاً.

وفي هذه الصورة لا يجب العلاج؛ لأنّ تهيئة المقدمات الوجودية لواجب محتمل غير واجبة؛ لأنّ وجوب المقدمات عقلاً إنما يترشح من وجوب ذي المقدمة, فمع عدم وجوبه لا وجه لترشح الوجوب عليها.

الصورة الرابعة: أن يلتفت القطاع إلى كونه قطاعاً, مع عدم العلم الإجمالي بوقوعه في مخالفة الواقع, وعدم تنجّز التكليف عليه, وكون المحتمل مهمّاً, كما في مسائل الدماء والأعراض والأموال الخطيرة,

وفي هذه الصورة يجب العلاج؛ لأنّ احتمال المهم منجز للتكليف - على ما تقرّر في محله-

ومن ذلك: ينقدح الكلام في الصور الثلاث الباقية.

نعم، يمكن أن يقال: إنّه مع العلم بوقوعه في مخالفة الواقع يجب العلاج

ص: 37

مطلقاً ولو كان المحتمل غير مهم؛ وذلك لأنّ عدم العلاج يؤدّي إلى تفويت الأحكام الواقعية في ظرف وجوبها - بسبب القطع على خلافها - وذلك غير جائز في نظر العقل, وإن فرض القول بجواز تفويت الملاكات المولوية. إذ الكلام في المقام ليس في تفويت الملاك, بل في تفويت الأمر, وقد سبقت الإشارة إلى أن التكاليف الواقعية غير مقيدة بعدم القطع بالخلاف. مع أن تفويت الملاكات الواقعية غير جائز - على ما تقرّر في محلّه - .

الصورة

ص: 38

فصل في حجّية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدّمات العقلية وفيه مباحث

اشارة

المبحث الأول: في تحرير محل الكلام

المبحث الثاني: في حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية وعدمه

المبحث الثالث: في حجّية القطع من المقدمات العقلية- لو فرض حصوله-

المبحث الرابع: في أنّ الخوض في المقدّمات العقلية لتحصيل العلم مرغوب عنه

المبحث الخامس: في ما يوهم ردع الشارع عن العمل بالقطع

ص: 39

ص: 40

حجية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية

وقد يعبّر عن ذلك ب- (حجية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من غير الكتاب والسنّة).

والنسبة بين العنوانين وإن كانت هي العموم والخصوص المطلق, إلاّ أن المقصود من العام هو الخاص.

وفي المقام مباحث:

المبحث الأول: في تحرير محل الكلام.

المبحث الثاني: في حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية وعدمه. أي أن القطع بالحكم الشرعي هل يحصل من المقدمات العقلية أو لا؟ وهذا بحث صغروي.

المبحث الثالث: في حجّية القطع الحاصل من المقدمات العقلية - لو فرض حصوله - أي أن القطع بالحكم الشرعي لو حصل منها فهل هو حجّة أو لا؟ وقد يعبر عن ذلك ب- «إمكان الردع الشرعي عن القطع المزبور» بعد حصوله. وهذا بحث كبروي.

المبحث الرابع: في أن الخوض في المقدمات العقلية لتحصيل العلم بالأحكام الشرعية مرغوب عنه عقلاً وشرعاً.

المبحث الخامس: في ما يوهم ردع الشارع عن العمل بالقطع.

ص: 41

وفي الواقع: يعتبر هذا المبحث تعقيباً على هذا البحث والبحث السابق معاً, أي ما دام أنّه لا فرق في حجّية القطع بين الأشخاص والأسباب والموارد، فكيف منع الشارع عن العمل بالقطع في هذه الموارد؟

ص: 42

المبحث الأول : في تحرير محل الكلام

وفي محل الكلام أنظار ثلاثة:

الأول: ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أن البحث صغروي.

الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي: من أن البحث كبروي.

الثالث: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم: من أن البحث صغروي وكبروي معاً.

أما صاحب الكفاية: فقد ذكر: أن الأخباريين ليسوا بصدد منع حجّية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من المقدمات العقلية بعد حصوله. وإنما كلماتهم في صدد أحد أمرين:

1- أحدهما: منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وعليه فلا يحصل القطع بالحكم الشرعي من الحكم العقلي.

2- منع جواز الاعتماد على الظنون العقلية. وإنّ المقدمات العقلية لا تفيد إلاّ الظن. وعليه فما لا يكون حجّة هو (الترجيحات الظنّية العقلية) لا (الأحكام العقلية القطعية).

قال في الكفاية: «نسب إلى بعض الأخباريين أنّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية، إلاّ إن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها, وأنها إنما تكون: إمّا في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء, و حكم الشرع بوجوبه, كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد

ص: 43

الصدر(1) في باب الملازمة, فراجع. وإمّا في مقام عدم جواز الإعتماد على المقدمات العقلية؛ لأنّها لا تفيد إلاّ الظن كما هو صريح الشيخ المحدث الأمين الاسترآبادي (رحمه اللّه) ، حيث قال: في جملة ما استدل به في فوائده على إنحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين (عليهم السلام) : الرابع: أن كل مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسك بكلامهم (عليهم الصلاة و السلام)- إنّما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم اللّه تعالى, وقد أثبتنا سابقاً أنّه لا اعتماد على الظن المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها).

وقال: في جملتها أيضاً - بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة- ما هذا لفظه: (وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة، فنقول: إن تمسكنا بكلامهم (عليهم السلام) فقد عصمنا من الخطأ وإن تمسكنا بغيره لم يعصم عنه ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً, ألا ترى أنّ الإمامية استدلوا على وجوب العصمة بأنّه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده بإتباع الخطأ وذلك الأمر محال؛ لأنّه قبيح وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى) انتهى موضع الحاجة من كلامه. وما مهّده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة - أعلى اللّه مقامه- في الرسالة(2).

وقال في فهرست فصولها(3) أيضاً: (الأول: في إبطال جواز التمسك

ص: 44


1- هو السيد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القمي، صاحب شرح الوافية.
2- فرائد الأصول 1: 9.
3- الفوائد المدنية.

بالإستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم اللّه أو بحكم ورد عنهم (عليهم السلام) ) انتهى.

وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع, وإنّما همّه إثبات عدم جواز إتباع غير النقل فيما لا قطع»(1).

وعلى هذا: فالكبرى الكلية (وهي حجّية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية - لو فرض حصوله -) محلّ اتفاق الجميع.

وأما المحقق العراقي فقد استبعد أن تكون دعوى الأخباريين هي منع الصغرى. بل كلامهم في منع الكبرى. قال: «... مع أن كلماتهم كما ترى مشحونة بأنّه لو حصل العلم من غير الكتاب والسنة يطرح, ولا يصلح للمعارضة مع العلم الحاصل من الدليل النقلي ومن ذلك ترى الشيخ (رحمه اللّه) يستوحش من هذه المقالة غايته, وينادي بأنه ليت شعري مع حصول العلم من دليل العقل كيف يعقل حصول العلم بخلافه من غيره وبالعكس كما هو ظاهر»(2).

أقول: الظاهر أن الحقّ مع الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) إذ كلمات بعضهم راجعة إلى منع الصغرى, كما فيما هو المنقول عن المحدث الاسترابادي (رحمه اللّه) . وبعضها راجعة إلى منع الكبرى كما هو صريح عبارة السيد الصدر حيث قال: «إن المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو تركه, أو لا يجب إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول

ص: 45


1- كفاية الأصول: 270-271.
2- نهاية الأفكار 3: 24- 25.

المعصوم (عليه السلام) , أو فعله وتقريره لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أي طريق كان»(1). وظاهر عبارة المحدث الجزائري, والمحدث البحراني، فراجع.

ثم، إنّه قد يشكل بأنه لا معنى محصل للنزاع الصغروي؛ إذ حصول القطع بالحكم أمر وجداني لا يمكن إنكاره.

وفيه:

أن المراد أنّه لا ينبغي حصول القطع من المقدمات العقلية.

وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}(2) أن المنفي ليس «حصول الريب»؛ لكونه حاصلاً - وجدانا - للمرتابين, بل المراد أنّه ليس محلاً للريب, أو لا ينبغي فيه الريب, أو نحو ذلك.

ص: 46


1- فرائد الأصول 1: 60.
2- البقرة: 2.

المبحث الثاني : في حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدّمات العقلية

اشارة

إدراك العقل يتفرع إلى نوعين:

النوع الأول: إدراك العقل ما لا يحتاج في استنباط الحكم الشرعي إلى ضمّ ضميمة شرعية.

وهذا النوع ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: إدراك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في فعل من الأفعال - كإدراكه لوجود المفسدة في شرب الخمر مثلاً - .

القسم الثاني: إدراك العقل وجود الحسن أو القبح في فعل من الأفعال - كإدراكه قبح الظلم مثلاً- .

النوع الثاني: إدراك العقل ما يحتاج إلى إستنباط الحكم الشرعي منه إلى ضميمة شرعية.

مثلاً: إدراكه للملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته.

فإنه يحتاج إلى ضمّ ضميمة شرعية (كوجوب الحج مثلاً شرعاً) كي يستنبط من ذلك: (وجوب مقدمات الحج: كطي المسافة مثلاً).

وبعبارة أخرى: في هذا النوع: لا تصبح القضية العقلية التعليقية تنجيزية إلاّ بعد ضمّ المقدمة الشرعية. فالأنواع إذاً ثلاثة:

ص: 47

النوع الأول: إدراك العقل وجود المصلحة أو المفسدة

كما لو أدرك العقل المصلحة في (أستقرار النظام الإجتماعي) أو أدرك المفسدة في (شرب المخدرات).

فهل يستطيع أن ينتقل من ذلك إلى ثبوت الحكم الشرعي؟ فيحكم بأن (إقرار النظام الاجتماعي واجباً شرعاً)؟ وأنّ (شرب المخدَّرات حرام شرعاً).

قد يقال بذلك: باعتبار أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية - كما عليه العدلية -. وإدراك وجود العلّة مستلزم لإدراك وجود المعلول, فإذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة إنتقل إلى وجود الحكم الشرعي, على نحو الانتقال اللمّي.

ولكن ذلك محل إشكال من جهتين:

الجهة الأولى: ما في مصباح الأُصول: من أنّه (قد تكون المصلحة المدركة بالعقل مزاحَمة بالمفسدة, وبالعكس. والعقل لا يمكنه الإحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع, فبمجرد إدراك مصلحة أو مفسدة لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الشرعي على طبقها, وهذا القسم هو المتيقن من قوله (عليه السلام) : (إن دين اللّه لا يصاب بالعقول)(1) وقوله (عليه السلام) : (ليس شيء أبعد من دين اللّه عن عقول الرجال)(2).

وفي الدراسات: (أن مجرد وجود المصلحة أو المفسدة في شيء لا يستلزم ثبوت الحكم الشرعي على طبقها؛ إذ ربما تكون المصلحة مزاحمة

ص: 48


1- كمال الدين: 324.
2- مصباح الأصول 2: 55.

بالمفسدة وبالعكس, وربما تكون مقرونة بالمانع وربما تكون فعليتها مشروطة بشرط غير حاصل، والعقل لا يمكنه الإحاطة بجميع هذه الأمور؛ ولذا قيل: إنّ الشارع يفرّق بين المجتمعات ويجمع بين المتفرقات, والمتيقن من قوله (عليه السلام) : «إن دين اللّه لا يصاب بالعقول» هو هذا المورد, فالحق فيه مع الإخباريين المانعين عن حصول القطع بالحكم الشرعي من اليقين بوجود المصلحة أو المفسدة في شيء, ولا يبعد أن يكون نظر المانعين من حصول القطع من مقدمات عقلية إلى خصوص هذا القسم)(1).

وبعبارة أخرى: أن وجود المعلول رهين وجود (العلّة التامة) والعلة التامة: مركبة من ثلاثة أجزاء:

1- وجود المقتضي: كالنار في الإحراق.

2- عدم المانع: كعدم رطوبة الورقة في المثال.

3- وجود الشرط: كالمحاذاة في المثال.

و(المصالح والمفاسد الواقعية) ليست (علّة تامّة) ل- (جعل الحكم), بل (هي مجرّد مقتضٍ), وهو غير كافٍ في وجود (المقتضي), بل لابدّ من إدراك (وجود جميع الشرائط) و (انتفاء جميع الموانع أيضاً), وأنّى للعقل الإحاطة بجميع ذلك؟

كيف؟ وقد قال اللّه تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(2).

وقد يمثّل لذلك: بأنّ شخصاً - كجعفر بن أبي طالب صلوات اللّه عليهما

ص: 49


1- دراسات في علم الأصول 3: 77.
2- الإسراء: 85.

- لو أدرك في بداية البعثة: وجود المفسدة في شرب الخمر, فهل يستطيع الإنتقال من ذلك إلى الحكم بحرمة شرب الخمر شرعاً؟

وكذا لو أدركنا وجود المصلحة في بعض الأحكام التي سوف تظهر على يد الحجّة المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) فهل نستطيع أن نسند الحكم فعلاً إلى الشارع؟

والسرّ في ذلك: أن الظواهر التشريعية ربما يتدخل ما لا يحصى من العوامل في تكوينها. تماماً كالظواهر التكوينية. وهذه الظواهر قد لا يكتشفها - بمجموعها - الإنسان, ربما إلى عصر الظهور, وربما لا يكتشفها حتى في ذلك العصر. فمن أين يقطع العقل بكون الملاك المدرك ملاكاً تامّاً مستجمعاً لجميع الشرائط وفاقداً لجميع الموانع؟ ومن هنا نجد أنّ المتشرعين الوضعيين يكتشفون في كل يوم خصوصيات جديدة بالأمور فيغيّرون القوانين التي شرّعوها من قبل, أو يضيفون إلى القوانين المشرّعة شروطاً أو إستدراكات.

وعليه: فلا يبقى إلاّ إخبار من يتصل بعالم الغيب المحيط بكل شيء بكون الملاك تامّاً, أو بإخباره بالحكم الكاشف - كشفاً آنياً - عن وجود الملاك التام للحكم.

هذا وقد يتأمل في ما ذكر من وجهين:

الوجه الأول: أن لا يفتقر في الحكم بوجود (المعلول) إلى إحراز وجود (علته التامة) المركبة من (وجود المقتضي) و(عدم المانع) و(وجود الشرط), بل يكفي في الحكم: إحراز وجود المقتضي فقط, فيحكم بوجود المقتضي عنده.

ص: 50

وقد تطرّقوا لهذا الأمر في موضعين:

أ- في باب «الإستصحاب», في بيان الفرق بين قاعدة «الاستصحاب» وقاعدة «المقتضي والمانع» حيث ذهب جمع إلى إرتضاء هذه القاعدة, أما اعتماداً على الأدلّة الشرعية الآمرة بعدم نقض اليقين بالشك, أو على أصالة عدم المانع, أو على السيرة العقلائية.

هذا ولا يخفى إنّ«المقتضي» يطلق على معانٍ ثلاثة:

الأول: ما يترشح منه الأثر خارجاً وتكويناً كالنار بالنسبة إلى الإحراق.

الثاني: الموضوع المترتب عليه الأثر الشرعي في عالم التشريع, كملاقاة النجاسة, فإنها مقتضية للانفعال.

الثالث: ما يكون داعياً إلى جعل الحكم على موضوعه, أي الملاك الموجود في المتعلّق.

فإذا بني على قبول قاعدة (المقتضي والمانع) وشمولها للمقتضي بالمعنى الثالث: أمكن الحكم بوجود «الحكم» عند إدراك العقل لوجود «المصلحة» أو «المفسدة» في المتعلّق.

وفي الفقه فروع كثيرة تترتب على هذه القاعدة:

منها: ما لو علم بالملاقاة وشك في الكرّية.

فإنّ الملاقاة مقتضية للانفعال, والكرّيّة مانعة, فإذا شك في الكرّية, حكم بالانفعال, بناءً على قاعدة (المقتضي والمانع).

ومنها: ما لو علم بوصول الماء - في الوضوء - إلى البشرة, وشك في وجود المانع عن تحقّق الغسل. ومنها: غير ذلك.

ب- في مباحث الظن.

ص: 51

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «واستدل المشهور على الإمكان - أي إمكان التعبد بالخبر الواحد- بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال.

وفي هذا التقرير نظر؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

فالأولى أن يقرر هكذا إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان»(1).

هذا ولكن قاعدة «المقتضي والمانع» مخدوشة مبنى. و«أصالة الإمكان» لا أصل لها. والتفصيل موكول إلى محله.

الوجه الثاني: أن هذا الجواب إنّما يتمّ في فرض إدراك العقل «وجود المقتضي» فقط. أمّا لو فرضنا إدراكه الملاك التام - المركب من وجود المقتضي وعدم المانع ووجود الشرط - في مورد من الموارد فلا يتم هذا الجواب، كما لو فرضنا أن العقل أدرك (الملاك التام) الذي يقتضي (تحريم استعمال المخدَّرات) التي تهدم دين الإنسان ودنياه, حيث إنّما تستلزم الفقر والمرض والرذيلة وتضييع الحقوق وترك الفرائض. فإنّه - في هذا الفرض - ينتقل إلى حرمة (تناول هذه المخدَّرات). وكذا لو أدرك العقل الملاك التام لوجوب (حفظ النظام), أو أدرك الملاك التام لإجراء الحدود في عهد الغيبة, إلى غير ذلك من الأمثلة. فهذا الدليل أخص من المدعى.

وبعبارة أخرى: إنّما يقوم هذا الدليل - المذكور في المصباح - على نحو

ص: 52


1- فرائد الأصول 1: 41.

السالبة الجزئية لا السالبة الكلية.

الجهة الثانية: أنّه وإن فرض إدراك العقل الملاك التام لحكمٍ من الأحكام, إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم الانتقال إلى ثبوت (الحكم الشرعي) في ذلك المورد.

بيان ذلك: أن مقولة «تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية» - التي بُني عليها الاستدلال - إنما تعني: توقف ثبوت الأحكام على وجود الملاك التام, ولا تعني: استلزام وجود الملاك التام لثبوت الأحكام.

وبعبارة أخرى: مفاد هذه القاعدة: أن كل حكم ملازم لوجود الملاك. وينعكس ذلك - بالعكس المستوي - إلى أن بعض أفراد الملاك التام ملازم لوجود الحكم, فإن العكس المستوي للموجبة الكلية هو الموجبة الجزئية, كما تقرّر في محلّه.

وبعبارة موجزة: البرهان قام على أن كل حكم ملازم للملاك ولا برهان على أن كل ملاك ملازم للحكم.

إن قلت: إنّ عدم حكم الشارع على طبق الملاكات الواقعية النفس الأمرية مستلزم لتفويت تلك الملاكات, وهو قبيح لا يصدر من الشارع, بل هو خلاف قاعدة «اللطف» التي يبنى عليها أصل وجود الشرائع الإلهية.

قلت: إنّه لا يوجب التفويت؛ لإمكان اعتماد الشارع على حكم العقل في الباعثية والزاجرية.

مثلاً: العقل يدعو إلى «إقرار النظام الإجتماعي» و «الشورى» و «عدم الإسراف في الأكل والشرب» و «مراعاة النظافة» ويقرر: أن الحيازة سبب

ص: 53

للملك , وأن التعدّي على ملك الآخرين وحقهم قبيح, وأنّ الكذب قبيح ... و... فيمكن للشارع أن يعتمد على حكم العقل في ذلك كله, بلا حاجة إلى إنشاء حكم جديد.

هذا ويمكن التفصيل في المقام: بأن العلّة المدركة للعقل على نوعين:

1- علّة المجعول.

2- علّة الجعل(1).

فإن كانت العلّة المدركة علّة للمجعول فليس الشارع ملزماً بتقنين الحكم لجواز إكتفائه بحكم العقل. وإن كانت العلّة المدركة علّة للجعل - أي الملاك التام الذي يقتضي الجعل - فإنّه لا محالة ينتقل إلى ثبوت «الجعل»؛ لأنّ إدراك العقل لوجود العلّة التامة يستلزم إذعانه بثبوت المعلول. هذا ولا يخفى الفرق بين الجعل والمجعول, فإنّ المجعول أمر اعتباري وعاؤه عالم الاعتبار بينما الجعل أمر حقيقي وعاؤه عالم التكويني.

ولعله إلى ما ذكر أشير في «البحوث» بقوله: «إن الشارع تارة يكون غرضه في مقام حفظ الحسن وترك القبيح بنفس مرتبة ودرجة حافظية ومحركية المرتبة الذاتية الموجودة في الفعل نفسه من حيث اقتضائه للحسن أو القبح واستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب, وأخرى يفرض أن غرضه يتعلّق بمرتبة أقوى وأشدّ من ذلك, فعلى الأول لا موجب لافتراض

ص: 54


1- ليس المراد بعلة الجعل والمجعول: ما إصطلح عليه في مقام آخر من أن علّة الجعل: هي >الحكمة< التي لا يشترط فيها الإطراد والإنعكاس, وعلّة المجعول: هي >العلّة< التي يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً, كالإسكار لحرمة الخمر, بل المراد ما ذكر في المتن، فتأمل (منه (رحمه اللّه) ).

أن المولى يعمل مولويته ويجعل على وزان الحكم العقلي حكماً شرعياً وإنّما يرشد إلى ما هو واقع من الحسن أو القبح الذاتيين في الفعل, وعلى الثاني لا محالة يتصدى من أجل تأكيد تلك الحافظة وتشديدها إلى إعمال المولوية والأمر به أو النهي عنه»(1).

هذا ولكن حيث إنّه لا سبيل لنا - إثباتاً - إلى التشخيص أن العلّة من أي النوعين, فيكفي الشك في ذلك في عدم ثبوت وجود الحكم الشرعي. فلا نستطيع أن ننتقل من إدراك العلّة إلى حكم الشارع على طبقها. فتأمل.

ومن جميع ما ذكر ينقدح النظر فيما قد يقال: إن الملازمة بديهية وواضحة باعتبار أن الشارع سيد العقلاء فإذا حكم العقلاء بما هم عقلاء كان في طليعتهم وأول الحاكمين به.

وعلى هذا فالتعبير بالملازمة مسامحة. وإنّما يصحّ التضمن؛ لإندراج الشارع في العقلاء, فيأتي حكمه ضمن حكمهم.

وجه النظر: إمكان إكتفائه بحكمهم, كما يكتفي الأب بنهي الإبن الأكبر الابن الأصغر عن تناول ما يضره. ويأتي هنا التفصيل المتقدم.

وأما ما في البحوث من الجواب عن ذلك: بأن حكم العقلاء إنما يصدر باعتبار وقوعه في طريق مصالحهم وحفظ أنظمتهم, والشارع سبحانه خارج عن دائرة تلك المصالح والنظام فأي ملزم لأن يحكم بأحكامهم وتشريعاتهم(2).

ص: 55


1- بحوث في علم الأصول 4: 139.
2- بحوث في علم الأصول 4: 139.

ففيه نظر. فإن الشارع وإن كان خارجاً - بذاته - عن دائرة تلك المصالح. إلاّ إنّه داخل - بغرضه - في دائرة تحقيقها.

وبعبارة أخرى: أن غرض الشارع وغرض العقلاء (تحقيق تلك المصالح) لكن من جهتين مختلفتين:

فغرض العقلاء: حفظ مصالحهم ونظامهم.

وغرض الشارع: حفظ مصالح العقلاء ونظامهم.

وذلك على أساس قاعدة (اللطف) التي تقتضي تقريب العباد إلى مصالحهم الواقعية, وإبعادهم عن مفاسدهم الواقعية.

وقد ذكر في محله: أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلي - قبل أن يكون شرعياً - .

وقد نقل: أنّه سئل السيد البروجردي (رحمه اللّه) عن دليل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقرأ هذا البيت:

اگر خاموش بنشينى گناه است***اگر بينى كه نا بينا وچاه است

ولعلّه إشارة إلى ما ذكرناه من كون الوجوب عقلياً.

ويؤيد ذلك - أو يدل عليه - أن الأب لو ترك الطفل يتناول الطعام المسموم ولم يردعه عن ذلك كان عند العقلاء ملوماً.

النوع الثاني: إدراك العقل الحسن والقبح

وفي «الحسن والقبح» بحوث ثلاثة:

الأول: أصل وجود الحسن والقبح.

الثاني: إدراك العقل للحسن والقبح.

ص: 56

الثالث: استلزام إدراك العقل للحسن والقبح للقطع بثبوت الحكم الشرعي في موردهما. وكلامنا - فعلاً - في الثالث.

قال في المصباح: (وأما القسم الثاني «أي إدراك العقل الحسن أو القبح» فهو وإن كان مما لا مساغ لإنكاره, فإنّ إدراك العقل حسن بعض الأشياء وقبح البعض الآخر ضروري, كيف؟ ولولا ذلك لا طريق لإثبات النبوة والشريعة, فإنّه لولا حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب لم يمكن تصديق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لإحتمال الكذب في ادعائه النبوة.

إلاّ إنك قد عرفت في بحث التجري أن هذا الحكم العقلي في طول الحكم الشرعي وفي مرتبة معلوله, فإن حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية إنّما هو بعد صدور أمر مولوي من الشارع, فلا يمكن أن يستكشف الحكم به الشرعي)(1).

أقول: الحسن والقبح نوعان:

1- الحسن والقبح الواقعان في طول الحكم الشرعي - أي في مرحلة متأخرة عنه - كحسن الطاعة وقبح المعصية عقلاً. وهذا ما نريد عن أنّه لا يمكن استتباعه لحكم الشرعي.

2- الحسن والقبح الواقعان بصورة منفصلة عن الحكم الشرعي كحسن العدل, وقبح الظلم عقلاً. والمحذور المذكور في كلام المصباح لا يأتي في هذا القسم مع أن دعوى عدم الإمكان في القسم الأول محل نظر, وتفصيل الكلام في محلّه.

ص: 57


1- مصباح الأصول 2: 55- 56.

فالأولى: أن يستدل بما ذكرناه في القسم الأول من أن صرف الحسن أو القبح - عقلاً - لا يستلزم الجعل الشرعي؛ لإمكان إكتفاء الشارع بحكم العقل. وسوق الكلام في هذا القسم كسوقه في سابقه.

النوع الثالث: إدراك العقل لغير المستقلات العقلية

أي ما يتوقف استنباط الحكم الشرعي منه إلى ضمّ ضميمة شرعية وفي هذا النوع توجد هنالك حالتان:

الأولى: إذعان العقل بثبوت الملازمة.

الثانية: عدم إذعان العقل بثبوت الملازمة.

أمّا في الحالة الأولى: فإنّ العقل سوف يقطع بثبوت الحكم الشرعي - قهراً - عند قطعه ب- «الضميمة الشرعية»؛ وذلك لأنّ العلم بالملازمة والعلم بثبوت الملزوم يستتبع العلم باللازم قهراً.

مثلاً: لو قطع العقل بالملازمة العقلية بين (وجوب الشيء شرعاً) و(وجوب مقدمته شرعاً).

وقطع ب- (وجوب شيء - كالحج مثلاً), فإنّه سوف يقطع بالوجوب الشرعي لمقدمات ذلك الشيء قهراً. وهكذا لو قطع بالملازمة العقلية بين (وجوب الشيء شرعاً) و (حرمة ضده الخاصّ شرعاً) فإنّه لو قطع بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد, فإنّه سوف يقطع بحرمة ضدها الخاصّ - وهي الصلاة مثلاً -.

وأمّا في الحالة الثانية: فإنّه سوف يقطع بانتفاء الحكم الشرعي, مع ضميمة حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان. فإذا لم يذعن العقل بالملازمة

ص: 58

بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته شرعاً, قطع - بضميمة القاعدة المزبورة- بعدم وجوب مقدمات شرعاً, وإلاّ لزم التكليف بلا بيان.

وعلى كل حال, فهذا القسم - الثالث - له المدخلية في القطع بالحكم الشرعي, إثباتاً أو نفياً.

نعم: هنا كلام في دلالة النصوص الشريفة على موضوعية العلم الحاصل عن طريق الكتاب والسنّة في فعلية الأحكام الشرعية.

وبعبارة أخرى: أخذ العلم بالجعل عن طريق خاص في فعلية المجعول. وعلى ذلك لا يحصل القطع بالملازمة لأخذ العلم عن طريق المقدمات الشرعية في فعلية الأحكام. إلاّ أنه سوف تأتي - قريباً - مناقشة هذا المبنى إن شاء اللّه تعالى.

ص: 59

المبحث الثالث : في حجّية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: في إمكان ردع الشارع عن القطع الحاصل من المقدمات العقلية, وتجريده عن الحجّية. وهذا بحث ثبوتي.

المقام الثاني: في حصول هذا الردع وعدمه. وهذا بحث إثباتي.

المقام الأوّل: في إمكان ردع الشارع عن القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدّمات العقلية

اشارة

والمعروف بين الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ومن تأخر عنه عدم الإمكان؛ لكون الحجّية ذاتية للقطع, ولا يمكن سلب الذاتي عن الذات إلاّ إن المحقق النائيني (رحمه اللّه) ذهب إلى الإمكان.

قال في المصباح: «إنّ العلامة النائيني (رحمه اللّه) إلتزم بإمكان المنع عنه بمعنى لا يرجع إلى المنع عن العمل بالقطع, ليرد بأنّ حجّية القطع ذاتية لا يمكن المنع عن العمل به, بل بمعنى يرجع إلى تقييد الحكم بعدم كونه مقطوعاً به من غير الكتاب والسنّة, فيكون التصرف من الشارع في المقطوع به لا في القطع ليكون منافياً كحجيته الذاتية, وذكر لتقريب مراده في المقام مقدمات ثلاث:

المقدمة الأُولى

أنّه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم, لاستلزامه

ص: 60

الدور؛ لأنّ القطع طريق إلى متعلقه بالذات, فالقطع بحكم متوقف على تحقّق الحكم, توقّف الانكشاف على المنكشف, ولامناص من أن يكون الحكم في رتبة سابقة على تعلّق القطع به ليتعلق به القطع ويكشف عنه, وإذا فرض أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم, كان الحكم متوقفاً عليه توقف الحكم على موضوعه, وهذا هو الدور الواضح.

المقدمة الثانية

ما ذكره في بحث التعبدي والتوصّلي: من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق؛ لأنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة, فكل مورد لا يكون قابلاً للتقييد لا يكون قابلاً للإطلاق، فلا يكون هنالك تقييد ولا إطلاق.

ونتيجة هاتين المقدّمتين: إنّ الأحكام الشرعية الأولية مهملة بالقياس إلى علم المكلف بها وجهله؛ لأنّ تقييدها بالعلم بها غير ممكن بمقتضى المقدمة الأُولى, وإطلاقها بالنسبة إلى العلم والجهل أيضاً غير ممكن بمقتضى المقدمة الثانية, فتكون مهملة لا محالة.

المقدمة الثالثة

أنّه مع ذلك كان الإهمال في مقام الثبوت غير معقول؛ لأنّ الملاك إمّا أن يكون في جعل الحكم لخصوص العالم به, فلا بد من تقييده به.

وإمّا أن يكون في الأعم منه, فلا بد من تعميمه, وحيث إنّ تقييد الحكم بالعلم به في نفس دليله غير ممكن, وكذا تعميمه, فلا بد من تتميمه بجعل ثانوي يُعبّر عنه بمتمم الجعل, فإمّا أن يقيد بالعلم وسماه بنتيجة التقييد, أو يعمم وسماه بنتيجة الإطلاق, فالجعل الأوّل متعلّق بنفس الحكم بنحو الإهمال. والجعل الثاني يبين إختصاصه بالعالم أو شموله للجاهل أيضاً.

ص: 61

وهذا لا يكون مستلزماً للدور أصلاً.

ثم إنّه في كل مورد ثبت فيه تخصيص الحكم بالعالم به - كما في موارد وجوب الجهر والإخفات, ووجوب التقصير في الصلاة - نلتزم فيه بنتيجة التقييد, بمقتضى ما دلّ على كفاية الجهر في مورد الإخفات, وبالعكس مع الجهل, وكفاية التمام في موضع القصر كذلك, وكل مورد لم يثبت فيه ذلك نقول فيه بنتيجة الإطلاق, للعمومات الدالة على اشتراك العالم والجاهل في التكليف.

فتحصل: أن تقييد الحكم بالقطع - الحاصل من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص - ممّا لا مانع منه بمتمم الجعل, فالمنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة - على هذا النحو - بمكان من الإمكان, ففي مقام الثبوت لا محذور فيه, إلاّ إن مقام الإثبات غير تام؛ لعدم تمامية ما ذكره الأخباريون من الأدلّة على المنع من العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة.

وبالجملة المنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى الراجع إلى تقييد المقطوع به ممكن, إلاّ أنّه لم يدل على وقوعه دليل إلاّ في موارد قليلة, كالقطع الحاصل من القياس على ما يظهر من رواية أبان»(1).

أقول: أمّا المقدّمة الأُولى: فقد مضى الكلام فيها.

وأمّا المقدّمة الثانية: ففيها مناقشتان:

ص: 62


1- مصباح الأصول 2: 56- 58.

المناقشة الأولى

أنّ التقييد له معنيان:

1- التقييد بالمعنى المصدري: فيراد باستحالة التقييد أن نفس عملية التقييد مستحيلة.

2- التقييد بالمعنى الإسم المصدري، فيراد باستحالة التقييد: إستحالة اختصاص الحكم بالمقيّد أمّا استحالة التقييد بالمعنى الأول فهي تستلزم إستحالة الإطلاق, فتكون القضية مهملة, ولا يصحّ القول: إنها مطلقة ولا أنها مقيدة.

كما لو فرض أن المولى العرفي مات بعد قوله: «جئني بماء» ولم نعلم أنّه أراد تقييد «الماء» بوصف أو لا؟

ونحوه ما لو مات الموصي بعد الإتيان بالمنعوت وقبل الإتيان بالنعت - المحتمل إرادته له -.

ونظير ذلك ما لو هبّت ريح أو ثارت ضوضاء فلم نعلم أن المولى قيّد مطلوبه أو لا؟

أو سدّ العبد أُذن نفسه, فلم يسمع باقي كلام المولى - لو كان له باقٍ - أو سدّ فم المولى, قبل إتمامه كلامه, لو كان له تمام.

وأمّا استحالة التقييد بالمعنى الثاني, فتستلزم ضرورية الإطلاق, فإنّه إذا استحال اختصاص الحكم بالحصة, فلا بد من عموم الحكم لجمع الحصص.

مثلاً: لو استحال تقييد متعلق الطلب بامتثاله؛ لأنّه يوجب تحصيل

ص: 63

الحاصل.

أو تقييده بعصيانه؛ لأنّه يوجب اجتماع الضدين أو النقيضين, فلا بد من عموم الحكم لكلتا الحصتين.

وهكذا: لو استحال تقييد معروض الوجوب الغيري - في باب المقدّمة - بكونها «مرحلة» فإنّه لا بد من عموم الحكم لكلتا الحصتين.

وما نحن فيه من هذا القبيل. فإذا استحال تقييد الحكم بالعلم به, أو بالجهل به, فلا بد من عموم الحكم لكلتا الحالتين.

وعلى هذا: فالتقابل في النوع الأوّل من قبيل تقابل العدم والملكة, فلا يصدقان إلاّ في المحل القابل.

أمّا التقابل في النوع الثاني, فهو من قبيل تقابل السلب والإيجاب ولا يخلو منهما شيء, فتأمّل.

المناقشة الثانية

ما في مصباح الأصول: من أنّه تكفي في تقابل العدم والملكة القابلية في الجملة.

وهذه العبارة في حدّ ذاتها تحتمل تفسيرين:

التفسير الأول: أنّه لا يجب في صحّة سلب «الملكة» عن «الموضوع» قابليته لها قابلية شخصية وقتية, بل تكفي القابلية مطلقاً:

بيان ذلك: أنّه قد يكون الملحوظ في القابلية:

1- القابلية المقيّدة: بأن يلاحظ خصوص القابلية الشخصية في خصوص الوقت؛ أي قابلية شخص موضوع العدم للملكة في الوقت.

ص: 64

2- وقد يكون الملحوظ: القابلية المطلقة. أي القابلية الصنفية أو النوعية أو ا لجنسية. في الوقت أو خارجة ولا يشترط في القابلية الحقيقية ملاحظة: (القابلية الشخصية في الوقت). وإن كان ذلك شرطاً في القابلية المشهورية, بل تكفي القابلية الصنفية أو النوعية أو الجنسية في الوقت أو خارجه لصحة إطلاق (العدم) على (الموضوع).

مثلاً: يقال: (الإنسان عاجز عن الطيران) بلحاظ قابلية الجنس للطيران, فإنّ جنس الإنسان - أي الحيوان - قادر على الطيران, فيسلب عن النوع, باعتبار قابلية الجنس له.

ويقال: (الأكمه عاجز عن الإبصار) باعتبار قابلية نوع الإنسان للإبصار ويقال (المجنون عاجز عن إدراك الكميات) بنفس الاعتبار. إلى غير ذلك من الأمثلة.

التفسير الثاني: أنّه يكفي في صحّة إطلاق (العدم) على (الموضوع) قابليته لبعض المتعلّقات, لا لخصوص ما سلب عنه.

وهذا التفسير هو ما قصده المصباح. قال: «إن التقابل بين التقييد والإطلاق وإن كان من تقابل العدم والملكة, كما ذكره (رحمه اللّه) ؛ لأنّ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد فيما كان قابلاً له, إلاّ أنّه لا يعتبر في تقابل العدم والملكة القابلية في كل مورد بشخصه, بل تكفي القابلية في الجملة, ألا ترى أن الإنسان غير قابل للاتصاف بالقدرة على الطيران مثلا.

ومع ذلك صحّ اتصافه بالعجز عنه, فيقال: إنّ الإنسان عاجز عن الطيران, وليس ذلك إلاّ لكفاية القابلية في الجملة, وأنّ الإنسان قابل للاتصاف

ص: 65

بالقدرة في الجملة, وبالنسبة إلى بعض الأشياء. وان لم يكن قابلاً للاتصاف بالقدرة على خصوص الطيران, وكذا الإنسان غير متصف بالعلم بذات الواجب تعالى, مع أنّه متصف بالجهل به, وليس ذلك إلاّ لأجل كفاية القابلية في الجملة, فإنّ الإنسان قابل للاتصاف بالعلم بالنسبة إلى بعض الأشياء, وإن كان غير قابل للاتصاف بالعلم بذاته تعالى وتقدّس. وعليه فاستحالة التقييد بشيءٍ تستلزم ضرورية الإطلاق أو التقييد بضده, كما أن استحالة الجهل له تعالى تستلزم ضرورية العلم له، فاستحالة تقييد الحكم بقيدٍ تقتضي ضرورية الإطلاق أو التقييد بضدّه، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بحث التعبدي والتوصلي. ففي المقام حيث إنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل؛ لما عرفت من استلزامه الدور, وتقييده بالجهل به أيضاً محال؛ لعين ذلك المحذور, فيكون مطلقاً بالنسبة إلى العلم والجهل لا محالة في الجعل الأولي, بلا حاجة إلى متمّم الجعل»(1).

وهذه المناقشة بكلا تفسيرها صحيحة في الجملة لا بالجملة.

أمّا التفسير الأوّل: فيرد على إطلاقه ما في «الأصول» من أنّه عليه يلزم صحّة وصف الجدار بالعمى - لقابلية جنسه وهو «الجسم» للبصر - . ووصفه بالجهل - لقابلية جنسه للعلم(2)، بل يلزم صحّة إطلاق كل (عدم) على (الموضوع) باعتبار قابلية جنس من أجناسه للملكة.

ص: 66


1- مصباح الأصول 2: 58 - 59.
2- الأصول: 607.

وأمّا التفسير الثاني: فيرد على إطلاقه: أنّه عليه يلزم صحّة نعت البطل العملاق بالعجز عن رمي الريشة مسافة مئة متر - مثلاً- ؛ لأنّه قادر على بعض المقدورات.

وكذا صحّة وصف أولياء اللّه تعالى بعجزهم عن «جمع النقيضين» أو «الضدين» باعتبار قدرتهم على بعض المتصورات, إلى غير ذلك من الأمثلة.

وعلى ذلك: فصحة الإطلاق منوطة بحكم العرف بصحة الحمل أو عدمه وصحة السلب وعدمه, الكاشف كشفاً إنّياً عن الوضع اللغوي, فتأمّل.

وعلى كل حال: فبانهدام المقدّمة الثانية ينهدم دليل المحقّق النائيني؛ لأنّه كان مبنيّاً على أن الأحكام مهملة, وقد تبيّن كونها مطلقة. إلاّ إن ذلك لا يقدح في مدعاه؛ لأنّ مدعاه: إمكان تقييد الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص - أي الكتاب والسنّة - ومن الواضح إمكان ذلك, وذلك بتحويل العلم من طريقي إلى موضوعي.

وأمّا الإطلاق فهو قابل للتقييد. ولا فرق في إمكان ذلك بين الكلام الواحد, والكلامين؛ لأنّ كل كلماتهم (عليهم السلام) مثل كلام واحد في مجلس واحد. فيمكن أن تكون النصوص الآتية قرينة على التقييد.

نعم: لو فرض كون العلم طريقياً؛ فالردع غير ممكن.

قال الوالد (رحمه اللّه) : (وإمكانه - أي التقييد في المقطوع به - واضح وواقع, فلا حاجة إلى ما ذكره - أي المحقق النائيني (رحمه اللّه) - من المقدمات).

يبقى الكلام في أن التزام المحقّق النائيني بنتيجة التقييد في موارد وجوب الجهر والإخفات, والقصر والتمام محل نظر.

ص: 67

إذ يرد عليه:

أولاً: أنّ العنوان المذكور في الرواية هو الجهر فيما ينبغي فيه الإخفات، أو الإخفات فيما ينبغي فيه الجهر, وهذا التعبير ظاهر في ثبوت الحكم الأولي للجاهل أيضاً.

ثانياً: تسالم الفقهاء على أنّ الجاهل بالحكمين مستحق للعقاب عند المخالفة فيما إذا كان جهله عن تقصير, فإنّه على تقدير اختصاص الحكم بالعالم لا معنى لكون الجاهل مستحقاً للعقاب, وهذا يؤيد ما ذكرناه. كذا ذكره في المصباح(1).

بل يمكن أن نقول: إنّه لو لم ينهض دليل على ذلك لم يتعيّن ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) ؛ لاحتمال المقام - ثبوتاً - الاختصاص - أي اختصاص الحكمين بالعالم بهما - أو الاجتزاء - أي اجتزاء الشارع بالمأتي به عن المأمور به - بل في بعض الموارد رفع الشارع يده عن المأمور به- بعد ثبوته - مع عدم إتيان المكلف بشيء أصلاً, كما في بعض موارد قاعدة «الجبّ». ثُمَّ إنّه لا ينحصر الاختصاص أو الاجتزاء بالموردين المذكورين, بل هنالك موارد آخر, خصوصاً في باب الحج, كما ذكره الوالد (رحمه اللّه) في بعض المواضع.

وأمّا المنع عن القطع الحاصل من القياس, كما قد يستظهر من رواية أبان, فسوف يأتي الكلام فيه في مقام الإثبات إن شاء اللّه تعالى.

ص: 68


1- مصباح الأصول 2: 59 - 60.

المقام الثاني: في وقوع الردع الشرعي عن القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدّمات العقلية

اشارة

وقبل الشروع في البحث لا بأس بالإشارة إلى ما في المصباح من عدم الإحتياج إلى البحث في المقام الثاني (أي وقوع الردع عن العمل بالقطع) بعد ثبوت إستحالة الردع في المقام الأول(1).

والسبب في ذلك: أن مقام الثبوت متقدّم رتبة على مقام الإثبات, فإذا كان وقوع الشيء محالاً ثبوتاً لا تصل النوبة إلى البحث في وقوعه إثباتاً وقد قيل: «الشيء قرر فأمكن فاحتاج فأوجب فوجب» فالإمكان يقع في المرحلة الثابتة فالوجوب في المرحلة السابقة. وهذه المراحل مندرجة في الترتّب العقلي التحليلي, فلا تصل النوبة إلى مرحلة بعد تجاوز المهية المرحلة السابقة.

وحيث قد ثبت في المقام الأول: إستحالة الردع, فلا مجال للبحث في وقوعه.

وما ذكره لا يخلو من تأمل؛ إذ تظل الحاجة إلى البحث في المقام الثاني ثابتة من جهتين:

الجهة الأولى: تفسير الظواهر اللفظية التي توهم الخلاف. وقد يعبر عن ذلك ب- (التأويل) وفائدة ذلك: تحصيل العلم بمفاد الأدلّة أولاً, وحل شبهات المخالفين ثانياً.

وهو نظير أنّه لو ثبت استحالة رؤية اللّه تعالى عقلاً, فإنّ الحاجة تظل

ص: 69


1- مصباح الأصول 1: 60.

قائمة إلى البحث عن الظواهر اللفظية التي توهم وقوع الرؤية أو إمكانها؛ وذلك للجهتين المزبورتين, فتأمل.

الجهة الثانية: أن الردع الشرعي وإن كان مستحيلاً من الناحية الكبروية, إلاّ أنّ البحث في الروايات الواردة قد يؤدّي بنا إلى أن المقام ليس من صغريات تلك الكبرى الكلية. أي أن القطع المأخوذ في المقام ليس طريقياً حتى يستحيل الردع عنه, بل هو قطع موضوعي.

وتقرير ذلك أن يقال: إنّ الأحكام الشرعية قد أخذ في موضوعها قيد, وهو عدم العلم بجعلها من ناحية الأدلّة العقلية.

وبانتفاء القيد ينتفي الموضوع, وبانتفائه ينتفي الحكم الشرعي قهراً.

لا يقال: مع العلم بجعل الحكم الشرعي كيف ينفي ثبوته؟

فإنّه يقال: إن الثابت «الجعل» حسب ما يكشف عنه العلم, والمنفي هو «المجعول» بمقتضى القيد المذكور في الأدلة.

فالقطع المزبور ليس قطعاً بالحكم الفعلي, ولا ينفع العلم بالصدور الواقعي عنهم (عليهم السلام) , بل لابد من بيانهم كي يصل الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية.

وبعبارة أخرى: قد أُخذ العلم بمرتبة الإنشاء بنحو معيّن في موضوع الفعلية بمقتضى هذه الروايات, ومع الالتفات إلى ذلك لا يحصل القطع بالحكم الفعلي, وإن أمكن أن يحصل القطع بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي.

وهو نظير ما لو علم شخص في بداية البعثة بإنشاء الشارع حرمة شرب الخمر في اللوح المحفوظ, مع عدم إبلاغ ذلك إلى المكلفين, فإنّ الجعل

ص: 70

وإن كان ثابتاً, إلاّ إن المجعول - أي الحرمة - لا يكون منجزاً في حق المكلّف, وإن علم بإنشائه.

بل قد نقل الكاظمي (رحمه اللّه) أن المحقق النائيني (رحمه اللّه) نفى البعد عن كون الأحكام مقيدة بما إذا لم يكن المؤدي إليها مثل الجفر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق غير المتعارفة(1).

وعلى كل حال, فالبحث في المقام الثاني قد يؤدي إلى كون القطع المأخوذ في المقام موضوعياً لا طريقياً ونتيجته مهملة.

وقد يؤدي إلى حرمة سلوك طريق الاستدلالات العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية, كما يظهر ذلك من رواية أبان وغيرها.

وسوف يأتي البحث عن ذلك في المبحث الرابع إن شاء اللّه تعالى.

إذا تقرّر ذلك: نقول: إنّه قد استدل للمدّعى بأخبار كثيرة, يمكن تصنيفها ضمن طوائف أربع.

الطائفة الأولى: الروايات الناهية عن العمل بالرأي.

الطائفة الثانية: الروايات الدالة على أن العلم الصحيح عبارة لما صدر عن أهل البيت (عليهم السلام) وإن كل ما لم يصدر منهم فهو باطل.

الطائفة الثالثة: الروايات الدالة على أن دلالة ولي اللّه تعالى شرط في صحّة الأعمال وترتب الثواب عليها.

الطائفة الرابعة: الروايات الدالة على مدخلية تبليغ الحجّة في جواز التديّن بحكمه وقوله.

ص: 71


1- فوائد الأصول 3: 14.

وفيما يلي نستعرض بعض الروايات الواردة:

1- الروايات الناهية عن العمل بالرأي

1- عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه»(1).

2- وعنه (عليه السلام) : «لا رأي في الدين»(2).

3- عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) : «من نظر برأيه هلك»(3).

4- عن أبي جعفر (عليه السلام) : «من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ومن دان اللّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللّه حيث أحلّ وحرّم في العلم»(4).

5- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر»(5).

2- الروايات الدالة على أن العلم الصحيح عبارة عمّا صدر عن أهل البيت (عليهم السلام) وإن كلّ ما لم يصدر منهم فهو باطل

1- قال أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة «شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً صحيحاً خرج من عندنا أهل البيت»(6).

قال صاحب الوسائل (رحمه اللّه) : روى الصفّار في بصائر الدرجات أحاديث

ص: 72


1- وسائل الشيعة 27: 45.
2- وسائل الشيعة 27: 51.
3- وسائل الشيعة 27: 40.
4- وسائل الشيعة 27: 42.
5- وسائل الشيعة 27: 60.
6- وسائل الشيعة 27: 43.

كثيرة بهذا المعنى(1).

2- عن أبي جعفر (عليه السلام) : «فليذهب الحسن [أي البصري] يميناً وشمالاً فو اللّه ما يوجد العلم إلاّ ههنا»(2).

3- في حديث: «إن أردت العلم الصحيح فعندنا أهل البيت فنحن أهل الذكر الذين قال اللّه: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}»(3).

4- عن أبي جعفر (عليه السلام) : «كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(4).

5- ما دلّ على أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول(5).

6- ما دلّ على أنّه لاشيء أبعد عن دين اللّه من عقول الناس(6).

3- الروايات الدالة على أن دلالة ولي اللّه تعالى شرط في صحّة الأعمال وترتب الثواب عليها

1- عن أبي جعفر (عليه السلام) : «أما لو أنّ رجلاً صام نهاره وقام ليله وتصدق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على اللّه ثواب ولا كان من أهل الإيمان»(7).

2- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث قال:« من لم يأتِ اللّه عزّ وجلّ يوم

ص: 73


1- وسائل الشيعة 27: 43.
2- وسائل الشيعة 27: 19.
3- النحل: 43. والحديث في وسائل الشيعة 27: 72.
4- وسائل الشيعة 27: 75.
5- وسائل الشيعة 27: 43.
6- الوصائل 1: 174.
7- الوصائل 1: 163.

القيامة بما أنتم عليه لم تقبل منه حسنة, ولم يتجاوز له عن سيئةٍ».

3- قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لعبّاد بن كثير:«اعلم أنّه لا يتقبل اللّه منك شيئاً حتى تقول قولاً عدلاً»(1).

ولا بأس بالإشارة إلى مبحثين يتعلّقان بهذه الطائفة:

المبحث الأول: في كيفية التوفيق بين (العدل الإلهي) و (نفي الثواب على مثل هذه الأعمال. مع حسنها الذاتي, فالتصدق - مثلاً - حسن بحكم العقل الفطري فكيف لا يترتب عليه الثواب؟ وهكذا بالنسبة إلى عبادة اللّه عزّ وجلّ.

وفيه: أن الحسن على نوعين:

1- الحسن الشرعي.

2- الحسن العقلي.

فإن أريد الأول فهو منفي, وإن أريد الثاني فلا ملازمة بينه وبين استحقاق الثواب.

بيان ذلك:

أن (الحسن الشرعي) إنّما يتحقق في صورة مطابقة (المأتي به) ل- (المأمور به) وهي لا تكون إلاّ في حالة استجماع العمل بجميع الشرائط التي اعتبرها المولى فيه. فإذا فرضنا أن المولى اعتبر (الولاية) شرطاً في صحّة العمل - كما هو ظاهر الروايات المعتبرة التي ذكرها صاحب الوسائل (رحمه اللّه) في أبواب مقدمات العبادات، وفي كتاب القضاء, وتطرّق لها

ص: 74


1- الكافي 8: 107؛ وسائل الشيعة 1: 119.

الفقهاء في كتاب الصوم في مبحث اشتراط الإيمان في صحّة الصوم - كان العمل الفاقد للولاية باطلاً.

فكما أن من رفض الإيمان باللّه سبحانه أو النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يصحّ عمله, كما هو مقتضى قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}(1).

وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}(2). فكذلك من رفض الولاية.

وقد يقال: هذا في العالم أو الجاهل المقصّر, فما بال القاصر؟

والجواب: أن الفرق إنّما يتم في (الشروط العملية) أما في (الشروط الواقعية) فلا فرق.

مثلاً: لو صلّى المكلّف مستدبر القبلة أو بدون طهارة حَدَثية جاهلاً بالحكم أو بالموضوع لم يشفع له جهله في صحّة عمله ولو كان جهله عن قصور؛ لأنّ الاستقبال أو الطهارة الحَدَثية شرط واقعي.

نعم، هنا بحث آخر: وهو إنّ الجاهل القاصر يمتحن يوم القيامة, فإن نجح لم يدخل النار.

وقد تطرّق لذلك علماء الكلام, كما وردت بمضمونه بعض الروايات

ص: 75


1- التوبة: 54.
2- آل عمران:91.

الكريمة. إلاّ أنّ ذلك أجنبي عمّا نحن فيه.

كما أن استحقاق الثواب على (الانقياد) - لو فرض المصير إليه - لا يقدح فيما نحن فيه إذ استحقاق الثواب على الإنقياد لا يلازم صحّة العمل, بل يجامع بطلانه.

وأمّا سببية بعض الأعمال لتخفيف العذاب عن الكافر, كما في قصة عتق أبي لهب لجاريته, وكما في قضية «حاتم», وكما في قضية أنوشيروان, فمع فرض ثبوتها يجاب: بكون ذلك أثراً وضعياً لهذه الأعمال, والأثر الوضعي يغاير الثواب, فإنّه عبارة عن الجزاء المقرون بالتحريم, بينما الأثر الوضعي يترتب على الشيء قهراً, كما يترتب على الرياضات الروحية بعض القدرات الخارقة, وإن لم يطلق عليها الثواب.

هذا ويمكن حمل (نفي الثواب) في الأحاديث المزبورة على (نفي الثواب الكامل) لا نفي أصل الثواب, فتأمل. هذا كله بالنسبة إلى (الحسن الشرعي).

وأمّا (الحسن العقلي) فلا ملازمة بينه وبين استحقاق الثواب على المولى.

توضيحه: أن استحقاق الثواب إنّما يكون في صورة كون العمل مأموراً به من قبل المولى.

وأمّا لو لم يكن مأموراً به من قبله فلا استحقاق للثواب, وإن فرض كون العمل حسناً في حدّ ذاته.

فمن أنفق على فقير لا يحق له أن يطالب بالجزاء من شخص لم يأمره بذلك, وإن فرض ثبوت الحسن الذاتي لهذا الإنفاق.

ولو نوقش في ذلك, وفرض كون الحسن الذاتي للعمل كافياً في

ص: 76

استحقاق المثوبة, أو كونه بضميمة الإضافة إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة كافياً في الاستحقاق المزبور قلنا: إنّ الاستحقاق المفروض إنّما يكون مع عدم فقدان العمل لما اشترطه المولى فيه, وقد سبق اشتراط المولى الولاية في صحّة الأعمال.

مثلاً: لو فرض أن المولى اشترط (استقبال القبلة) في الصلاة فصلّى مستدبر القبلة لم يصحّ أن يقال: أنّ الحسن الذاتي للعبادة مع الإتيان بها بقصد التقرّب إلى المولى - مثلاً - يكفيان في استحقاق الثواب عليها.

وهكذا لو صلّى صلاة ذات خمس ركعات مثلاً. مع أن أصل استحقاق الثواب على الإتيان بالمأمور به محل تأمل.

إذ يمكن أن يقال بكونه تفضلاً من المولى سبحانه ولطفاً. وتفصيل الكلام في غير المقام.

المبحث الثاني: في دلالة هذه الروايات الشريفة على أخذ دلالة ولي اللّه تعالى في موضوع الأحكام.

وقد أوضح ذلك المنتقى بقوله: «أنّ بيان الحكم قد يكون بإنشائه بما يدل عليه من الصيغ وقد يكون ببيان ترتب الثواب أو العقاب على متعلقه, فيستفاد تحريم القتل من قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ...}(1). كما يستفاد إستحباب الصبر من قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(2).

ص: 77


1- النساء: 93.
2- البقرة: 155.

ومن هنا ادّعي دلالة أخبار «من بلغ» على إستحباب العمل الذي ورد في إستحبابه خبر ضعيف, وإن نوقشت دلالتها من جهة أخرى تذكر في محلها.

وكما أن إثبات الثواب على عمل ظاهر عرفاً في تعلّق الأمر به, كذلك نفي الثواب عليه ظاهر عرفاً في عدم مطلوبيته وعدم تعلّق الأمر به, إلاّ إذا قامت قرينة على ثبوت الأمر به كالالتزام بتوجه الأمر إلى المخالفين, مع عدم ترتب الثواب على أعمالهم لفقدان الولاية - ما حققناه في الفقه- ولا مانع من نفي الثواب, مع وجود الأمر بلحاظ صدور أمر مكروه من العبد بكراهة شديدة تنفي استحقاقه العقاب لبعده عن المولى, وترك الولاية من قبيل ذلك.

وعليه: فرواية زرارة المتقدّمة ظاهرة في نفي الثواب عن كل عمل لم يكن بدلالة ولي اللّه تعالى, ومقتضى ذلك عدم الأمر به مع عدم دلالة ولي اللّه تعالى, فتكون ظاهرة في أخذ دلالة ولي اللّه في موضوع الأحكام, ولا محذور فيه عقلاً لما عرفت من صحّة أخذ العلم بمرتبة الإنشاء في موضوع الفعلية»(1).

وفيما ذكره نظر, سوف يأتي التعرض إليه لاحقاً إن شاء اللّه تعالى.

4- الروايات الدالة على مدخلية تبليغ الحجة (عليه السلام) في جواز التدين بحكمه وقوله

1- عن أبي جعفر (عليه السلام) : «من دان اللّه بغير سماع من صادق ألزمه اللّه التيه يوم القيامة»(2).

2- عن الصادق (عليه السلام) : «... شرّ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه

ص: 78


1- منتقى الأصول 4: 112.
2- وسائل الشيعة 27: 75.

منّا...»(1). إلى غير ذلك من الأخبار.

وهذه الأخبار - المدرجة ضمن الطوائف الأربع - متواترة بالتواتر المعنوي, أو الإجمالي. مضافاً إلى أن بعضها صحيح السند, فلا حاجة إلى البحث في سند كل واحد واحد منها...

قال السيد الصدر (رحمه اللّه) في شرح الوافية: «أن المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو تركه أو لا يجب إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أي طريق كان»(2).

ويرد على ذلك أمور
أولاً: عدم دلالة الأخبار على مدخلية توسّط الحجة (عليه السلام) في فعلية الأحكام

وقبل الشروع في ذلك لا بأس بالإشارة إلى أن عدم الدليل - أو عدم الدلالة - يكفينا, ولا نحتاج إلى الدليل على العدم.

والسبب في ذلك: أن مرجع الدعوى المنسوبة إلى الأخباريين إلى تقييد موضوع الأدلّة الشرعية ب- «عدم العلم بها من ناحية الأدلّة العقلية» أو ب«العلم بها من طريق الأدلّة النقلية»، فيكون مثال قول الشارع: «الخمر حرام» إلى «الخمرة التي علمت بإنشاء حرمتها عن طريق الأدلّة النقلية محرمة»، ويكفي عدم الدليل على التقييد في تحكيم «أصالة الإطلاق».

وعلى كل حال, فهذه الدعوى وإن كانت ممكنة ثبوتاً, إلاّ أنّه لا دليل

ص: 79


1- الكافي 2: 402؛ وسائل الشيعة 27: 70.
2- فرائد الأصول 1: 60؛ الوصائل 1: 268.

عليها في مقام الإثبات.

والأخبار المذكورة سيقت لبيان أمر آخر غير ما نحن فيه (أي مدخلية توسط الحجة (عليه السلام) في فعلية الأحكام).

ولهذا الجواب تقريرات أربعة

التقرير الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من: «أنّ المقصود من أمثال الخبر عدم جواز الإستبداد بالأحكام الشرعية بالعقول الناقصة الظنية»(1)، فموضوعها أجنبي عمّا نحن فيه؛ إذ موضوع بحثنا هو: الأحكام العقلية القطعية. وموضوع الروايات الرادعة: الأحكام العقلية الظنّية، فالموضوع يغاير الموضوع.

وقد يقال: ما هي القرينة على هذا التقييد, مع إطلاق الأخبار, فمثلاً قوله (عليه السلام) : «إن دين اللّه لا يصاب بالعقول»(2) أو قوله (عليه السلام) : «لاشيء أبعد عن دين اللّه من عقول الناس»(3) وغيرهما تشمل الأحكام القطعية والظنية على حدًّ سواء.

والجواب: أنّه يمكن عدّة شواهد للإستدلال على هذا التقرير, أو تأييده - ولو في ا لجملة - وهذه الشواهد هي:

1- الغلبة.

2- وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب.

ص: 80


1- فرائد الأصول 1: 60.
2- كمال الدين: 324؛ مستدرك الوسائل 17: 262.
3- الوصائل 1: 185.

3- الانصراف.

4- فهم المشهور.

5- تحليل معنى كلمة «الرأي».

1- الغلبة: بمعنى: شيوع ظاهرة الاعتماد على المقدّمات الظنية وندرة وجود ظاهرة الاعتماد على المقدّمات القطعية لاستنباط الأحكام الشرعية في عهد المعصومين (عليه السلام) ، بل لا نعرف - في بادئ النظر - وجود الظاهرة الثانية في عهدهم (عليه السلام) والدليل يُحمل على الفرد الشائع لا النادر.

توضيح ذلك: أنّ إحدى الظواهر الخطيرة التي شاعت في عهد المعصومين (عليه السلام) وخاصة في عهد الصادقين (عليهم السلام) حتى تحوّلت إلى جريان عام يملأ الساحة هي ظاهرة الإعتماد على الظنون والإستحسانات العقلية لإستنباط الأحكام الشرعية.

وكان من قادة هذا التيار: أبو حنيفة, وقتادة, والحسن البصري, وسلمة ابن كهيل, والحكم بن عيينة وغيرهم. وقد كان لنشوء هذه الظاهرة أسباب متعددة من جملتها:

وجود منطقة فراغ كبيرة في المجال التشريعي, مع أنّ المفروض في (الفقه): أن يلبّي جميع إحتياجات الحياة, ويستوعب الحياة كلها استيعاباً طولياً واستيعاباً عرضياً.

وقد نشأت منطقة الفراغ هذه؛ بسبب قلّة النصوص الموروثة لديهم حتى نقل عن بعضهم أنّه ما صحّ عنده عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ تسعة أحاديث فقط.

أمّا سبب قلّة النصوص الدينية فيعود إلى منع «تدوين الحديث» في عهد

ص: 81

الثاني, محاولة منه لطمس الآثار الواردة في أهل البيت (عليهم السلام) .

وقد إستمرّت حالة المنع هذه إلى عهود بعيدة.

وحيث إنّ الأحكام العقلية القطعية - في مجال الأمور التشريعية, وخاصّة التعبدية منها - قليلة جداً.

وحيث إنّ قادة «مدرسة الرأي» لم يكونوا مستعدين للرجوع إلى أهل البيت ظلماً وعلوّاً, كما لم يكن علماء أهل الكتاب مستعدين للرجوع إلى خاتم الأنبياء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أنّهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم.

وحيث إنّه كان لابدّ لهؤلاء القادة من ملأ منطقة الفراغ هذه, حفاظاً على مواقعهم ومصالحهم الدنيوية الزائلة؛ لذا اضطرّ هؤلاء إلى التشبث بالقياسات والاستحسانات العقلية الظنية الواهية. وعلى كلَّ حال فقد تدرجت القضية على هذا النحو:

1- محاولة طمس الآثار الواردة في أهل البيت (عليهم السلام) .

2- منع تدوين الحديث.

3- ضآلة النصوص الدينية الموروثة.

4- نشوء منطقة الفراغ, مع ملاحظة عدم وفاء الأحكام العقلية القطعية بملأ هذه المنطقة, وعدم إستعداد أئمة المخالفين للرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) الذين أمر اللّه تعالى بالرجوع إليهم

5 - السعي لملأ منطقة الفراغ هذه بالإستحسانات والظنون العقلية وقد تصدّى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لهذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد الدين في الصميم, وجرّدوا حملات مباشرة للتنبيه على أخطار هذا الإتجاه, بمختلف

ص: 82

الألسنة, فكانت تلك الروايات الكريمة.

وعليه: فالروايات الكريمة وردت في مقام الردع عن هذه الظاهرة الاجتماعية الشائعة، وهذا بخلاف الاعتماد على الأحكام العقلية القطعية, فإنّه أمر نادر لا يستدعي مثل هذا الإهتمام, بل لا نعرف - في بادئة النظر - وجوده في عهدهم (عليهم السلام) , كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

هذا ولكن هذه القرينة بهذا النحو من البيان لا تخلو من تأمل.

إذ المدّعى: إن كان ورود الروايات الشريفة في خصوص (الظاهرة النادرة) كان لهذا الجواب مجال، إلاّ إنّ المدّعى وروده الردع عن عنوان عام يشمل الأفراد الشائعة والنادرة على حدٍّ سواء. ولا ضير في ذلك.

وبعبارة أخرى: أن هذه الروايات الكريمة وردت في مقام الردع عن (الجامع) وهو الاستناد إلى غير دلالة ولي اللّه تعالى.

ولهذا الجامع فردان:

1- الاستناد إلى الأحكام العقلية الظنية.

2- الاستناد إلى الأحكام العقلية القطعية.

فالروايات الكريمة في مقام حصر الرجوع إلى أبوابهم (عليهم السلام) , وإغلاق غير تلك الأبواب, سواء تمثل في الظن أو في القطع، وهذا الأمر سارٍ في جميع المطلقات والعمومات.

مثلاً: لو فرضنا أن للبيع أفراداً شائعة وأفراداً نادرة, فتارة نقول: إنّ دليل حلية البيع كقوله تعالى: {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ}(1) سيق لبيان الأفراد النادرة. وهذا

ص: 83


1- البقرة: 275.

لا يخلو عن إشكال.

وتارة نقول: إن الدليل سيق لبيان كلي يشمل الأفراد الشائعة والنادرة وهذا لا إشكال فيه, بل هو أمر ضروري بمقتضى أصالة العموم, أو أصالة الإطلاق.

2- وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب: وذلك مانع من انعقاد الإطلاق خصوصاً لو لوحظ أن المخاطب ببعضها: سلمة بن كهيل، والحكم بن عيينة وأمثالهما. وإن بعضها ورد في الحسن البصري وأمثاله.

وفي هذا التقرير نظر:

أما أولاً: فلما تقرّر في محلّه: من أنّ وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب كوجوده في الخارج لا يمنع عن انعقاد الإطلاق, وليس من مقدمات الحكمة.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ وجود القدر المتيقن محتمل القرينية, ومحتملها كمقطوعها تمنع عن انعقاد الإطلاق, كما ذكروه في مباحث المطلق والمقيد, ومبحث الأمر عقيب الحظر, فتأمل.

وأمّا ثانياً: فلأنّ بعض الروايات عامّة لا مطلقة, مثل قوله (عليه السلام) : «كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(1) ونحوه.

والعموم غير متوقف على مقدمات الحكمة, على ما هو المعروف بينهم من الفرق بين المطلق والعام في ذلك, فتأمل.

ص: 84


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 312.

3- الانصراف: أي أنّ هذه الروايات منصرفة إلى الاستدلالات الظنية, على ما كان متعارفاً عند «مدرسة الرأي» في تلك العهود.

ولذا لو عرضت هذه الروايات على الذهن غير المشوب لم يرها ناظرة إلى البراهين العقلية القطعية.

ومتى ما تحقّق الإنصراف - أي تحوّل وجهة اللفظ عن حصًّة خاصة من حصص الطبيعي - لم يمكن الأخذ بالإطلاق, وإن كان سبب ذلك الغلبة, فليس نفي الإطلاق لصرف الغلبة, بل لتحوّل وجهة اللفظ, ولو بسبب الغلبة.

4- فهم المشهور: وقد فهم المشهور من الفقهاء رحمهم الله قديماً وحديثاً: أن هذه الروايات الكريمة غير ناظرة إلى الإستدلالات العقلية القطعية.

وفهمهم مؤيّد أو دليل على اختلاف المبنيين في ذلك, بل المستفاد من كلمات صاحب الكفاية: الإجماع على ذلك؛ إذ جعل الخلاف في المقام صغروياً لا كبروياً, وقد مضت الإشارة إلى ذلك.

5- معنى كلمة «الرأي»: وهذا الشاهد يرتبط بخصوص الطائفة الأولى.

إذ الرأي عبارة عن (الاعتبار الظني الراجح) على ما سوف يأتي تفصيله في مباحث حجّية ظواهر الكتاب إن شاء اللّه تعالى, فتكون الروايات الكريمة ناظرة إلى خصوص الظنون الممنوعة, كالقياس والاستحسان, وتدلّ على ذلك بعض روايات المقام, كالرواية الرابعة من الطائفة الأولى.

ولو فرض إجمال كلمة الرأي وتردّدها بين مطلق الأحكام العقلية, أو خصوص الأحكام العقلية الظنية كفى ذلك في اختصاص الردع بالأقل.

والخلاصة: إنّه بهذه القرائن الخمسة (الغلبة, والقدر المتيقن في مقام

ص: 85

التخاطب, والانصراف, وفهم المشهور, وتحليل كلمة «الرأي») نقول: إنّ الروايات الكريمة في مقام الردع عن خصوص العمل بالمقدمات العقلية المنتهية إلى الظن بالأحكام الشرعية, لا ما يعمّ العمل بالأحكام العقلية القطعية.

التقرير الثاني: وهو يشابه التقرير الأول إلاّ أنّه أشمل منه.

وحاصله: أن الروايات الواردة في المقام على طائفتين:

1- ما دلّ على الردع عن العمل بالأحكام العقلية الظنية.

2- ما دلّ على مدخلية «الولاية» في صحّة الأعمال.

وكلتا الطائفتين أجنبيتان عن محل الكلام.

التقرير الثالث: وهو يشابه التقريرين الأولين, إلاّ أنّه أشمل منهما.

وحاصله: أن الروايات الكريمة ناظرة إلى أحد الأمرين السابقين, أو إلى الردع عن الاستقلال عن المعصومين (عليهم السلام) في مقام الاستنباط, وذلك بالرجوع مباشرة إلى الكتاب أو السنّة المروية عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو العقل من دون الرجوع إلى أئمة أهل البيت الذين أمر اللّه تعالى بالرجوع إليهم للوقوف على المخصَّصات للعمومات أو المقيدات للمطلقات أو المبيّنات للمجملات, ولو أورث ذلك القطع بالحكم الشرعي, كما كان عليه ديدن فقهاء العامّة.

قال المحقق النائيني (رحمه اللّه) : «وظاهر هذه الطائفة أنها في مقام الردع عما يفعله أئمة النفاق والكفر عليهم لعائن اللّه من الاستقلال في الفتوى بآرائهم الفاسدة المبنيّة على العمل بالأقيسة والاستحسانات الظنية من دون الرجوع

ص: 86

إلى أئمة الهدى صلوات اللّه عليهم, بل ربما كانوا يعارضونهم وأين ذلك ممن يعتقد بإمامتهم ويرجع في مقام الفتوى إلى كلماتهم والأخبار الصادرة عنهم صلوات اللّه عليهم وربما يتفق له استقلال عقله بحسن شيء, أو متجه ويستكشف من أدائهم صلوات اللّه عليهم بطريق الإن لما ثبت عنده من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وعدم كونها جزافية»(1).

التقرير الرابع: أن هذه الروايات الكريمة ناظرة إلى أحد الأمور الثلاثة السابقة أو إلى أمر رابع: وهو الردع عن التسرّع في إنكار الأدلّة الشرعية؛ لصرف غرابتها, ولو أورث ذلك القطع.

كما يظهر ذلك من رواية (أبان) الواردة في قطع أصابع المرأة وسوف يأتي التعرّض لذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

يبقى الكلام فيما ذكره المنتقى من ظهور نفي الثواب عرفاً في إنتفاء الأمر.

وفيه: أن انتفاء الثواب لا يتعيّن كونه معلولاً لانتفاء الأمر, بل يمكن أن يكون معلولاً لأحد أمور:

1- إنتفاء الأمر أصلاً, كما في صوم الصمت.

2- إنتفاء وصف له مدخلية في وجود المهيّة بناءً على الصحيح, أو في وجود المهيّة المطلوبة بناءً على الأعم, كالصلاة مستدبراً للقبلة. ويمكن إرجاع الثاني - بوجهٍ - إلى الأول.

3- إنتفاء وصف له مدخلية في الكمال, كالصلاة مع إنشغال القلب بالأمور الدنيوية.

ص: 87


1- أجود التقريرات 2: 41.

4- الإحباط. ولذا ينتفي الثواب عن عمل الكافر مع وجود الأمر- بناءً على ما هو المعروف من تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول - . والملازمة العرفية المدّعاة غير واضحة، فتأمل.

ثانياً: لا ملازمة بين توسط الحجة (عليه السلام) والسماع منه

ثانياً: سلّمنا مدخلية توسط الحجة (عليه السلام) في فعلية الأحكام. لكن لاملازمة بين توسط الحجة (عليه السلام) والسماع عن الحجة (عليه السلام) .

وبعبارة أخرى توسط الحجّة أعم من السماع عن الحجة (عليه السلام) ,فقد يقطع العقل بالتوسط, مع عدم السماع منه (عليه السلام) ويمكن بيان ذلك بأحد نحوين:

النحو الأوّل: وهو مركب من مقدّمتين:

1- أننا قد نقطع بالحكم الإنشائي الإلهي في واقعة ما.

أمّا بالعقل المستقل, كما لو قطع المكلف بوجوب حفظ النفس المحترمة شرعاً, أو بواسطة مقدمة عقلية, كوجوب مقدمة الواجب شرعاً, فإنّه يدرك بواسطة مقدمة عقلية, وهي: وجود التلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة.

2- أنّنا قد نقطع بأنّ حكم تلك الواقعة قد صدر من الحجة (عليه السلام) ؛ لكونها من الوقائع التي يكثر الابتلاء بها, وانتفاء المانع من بيان حكم اللّه تعالى بها.

إذ مع عموم الابتلاء: إمّا أن يفرض عدم سؤال المكلفين عن حكم تلك الواقعة, وهو خلاف كون المتدينين بصدد إفراغ ذمّتهم من التكاليف الموجهة إليهم.

وإمّا يفرض أنّهم سألوا ولم يجب المعصوم (عليه السلام) , وهو خلاف قاعدة اللطف, على فرض انتفاء المانع من الجواب.

ص: 88

بل لو فرض عدم سؤال المكلفين عدم حكم الواقعة, كان مقتضى القاعدة المزبورة إبتداء الحجة (عليه السلام) ببيان الحكم الشرعي في تلك الواقعة,

وحينئذٍ نقطع بتوسط الحجة (عليه السلام) في بيان ذلك الحكم الإنشائي, فيصل الحكم الإنشائي إلى مرحلة العقلية بذلك؛ لاستجماعه قيود موضوعه.

النحو الثاني: وهذا النحو أوسع دائرة من النحو الأول؛ لأنّه يشمل ما هو محل الابتلاء وما هو خارج عن محل الابتلاء, وهو مركب من صغرى وكبرى.

أما الصغرى: فهي أن هذا العمل مقرَّب إلى اللّه تعالى, أو إلى الجنّة(1). وذلك بحكم العقل القطعي.

مثلاً لو فرضنا أن هنالك يتيماً يكاد أن يموت من الجوع, ولا ولي له, ولا يمكن استئذان الحاكم الشرعي في الإنفاق عليه من أمواله, فقد يقطع العقل بأنّ تولي عدول المؤمنين لشؤونه مما يقرّب إلى الجنة قطعاً. وهكذا الأمر في جميع الأمور الحسبية الأخرى.

وأما الكبرى: فهي أن كل ما هو مقرب إلى اللّه تعالى قد صدر الأمر به من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدليل قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع: «معاشر الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ أمرتكم به، وما من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة الاّ وقد نهيتكم عنه»(2).

ص: 89


1- وهكذا الكلام في ما يبعّد عن اللّه تعالى أو عن الجنّة (منه (رحمه اللّه) ).
2- وسائل الشيعة 12: 27؛ الكافي 2: 74.

فالصغرى: «وهي أن هذا مقرّب» وجدانية.

والكبرى: «وهي أن كل مقرّب قد أمر به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » برهانية.

فالنتيجة: «وهي أن الحكم المدرك قد صدر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتوسط في تبليغه» قطعية.

نعم: قد يدعى ظهور الأخبار في موضوعية السماع (ولو كان السماع بالواسطة) وأن مطلق الصدور غير كاف.ٍ

ووجه الظهور دخول محل الكلام في عموم قوله (عليه السلام) : «إن دين اللّه لا يصاب بالعقول»(1) ونحوه.

وحينئذٍ: فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك بالعقل لما صدر عن الحجة (عليه السلام) .

ثالثاً: السماع من الحجة (عليه السلام) يعمّ السماع من الحجّة بالذات والحجة بالتبع

ثالثاً: سلمنا لزوم السماع عن الحجة (عليه السلام) في فعلية الأحكام وعدم كفاية مطلق توسط الحجة (عليه السلام) .

لكن السماع المذكور يعم السماع من الحجّة بالذات والسماع من الحجّة بالتبع أو بالعرض.

والثاني حاصل في المقام؛ لأنّ الحجة (عليه السلام) قرر الحجّية للعقل.

وقد اعتمدنا على ما قرره الحجة (عليه السلام) في إستنباط الحكم الشرعي. وبعبارة أخرى: العمل بما يحكم به العقل عمل بدلالة ولي اللّه تعالى حيث إنّه (عليه السلام) أرشدنا إلى ذلك؛ إذ قد استفاضت الأخبار الشريفة على أن العقل

ص: 90


1- مستدرك الوسائل 17: 262.

حجّة من حجج اللّه تعالى.

وأما الروايات الرادعة فهي تردع عن العمل بالعقل بما هو هو, لا بما هو مستند إلى الحجة (عليه السلام) , كما في الظنون والاستحسانات العقلية.

ولما ذكرناه نظائر في الفقه. مثلاً: رأي غير الأعلم ليس بحجة على المعروف, فإذا أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم, جاز تقليده, فهو وإن كان فاقداً للحجية بالذات, إلاّ أنّه واجد لها بالتبع, أو بالعرض, ونستطيع أن نقول: إن تقليد غير الأعلم في الصورة المفروضة هو تقليد للأعلم في الواقع.

وهكذا الأمر في البقاء على تقليد الميت إستناداً إلى فتوى الحي بجواز البقاء أو وجوبه.

بل قد ذكر في محله: أنّه لو كان رأي الميّت في مسألة البقاء أوسع دائرة من رأي الحي في هذه المسألة, وأفتى الحي بجواز البقاء جاز البقاء في الدائرة الوسيعة على التفصيل المقرّر في محله.

والسرّ في ذلك: أنّها لم تكن واجدة للحجية بالعنوان الأولي, إلاّ أنّه تصبح واجدة لها بالعنوان الثانوي. فراجع.

رابعاً: الجمع بين الروايات الرادعة والروايات المعارضة

رابعاً: لو فرض عدم وفاء الأجوبة المتقدمة نقول إنّ الروايات الرادعة معارضة بروايات اُخر, وهذه الروايات المعارضة تنقسم إلى طائفتين:

الطائفة الأُولى: ما دلّ على حجّة العلم ولزوم اتّباعه.

الطائفة الثانية: ما دل على حجّة العقل ولزوم اتّباعه.

والجمع بين الروايات الرادعة والروايات المعارضة يقتضى حمل الأولى على الأحكام العقلية الظنية, والثانية على الأحكام العقلية القطعية،

ص: 91

نعم قد يقال: بأنه جمع تبرعي وليس عرفياً.

خامساً: ترجيح الروايات المعارضة على الروايات الرادعة بالكتاب العزيز

وفي هذا الجواب شقّان:

الشق الأول: ترجيح الطائفة الأُولى من الروايات المعارضة على الروايات الرادعة بالكتاب العزيز.

بيان ذلك: أن النسبة بين (الأدلة الرادعة) والطائفة الأولى من الروايات المعارضة (أي ما دلّ على حجّة العلم ولزوم إتباعه): هي العموم من وجه.

فمورد افتراق الأولى: الأحكام العقلية الظنية.

ومورد افتراق الثانية: العلم المستند إلى الأدلّة الشرعية.

ومورد اجتماعهما: العلم المستند إلى الأدلّة العقلية.

والكتاب العزيز مرجح لما دلّ على حجّة العلم ولزوم اتباعه, قال سبحانه: {... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(1).

وقال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ}(2).

وقال عزّ من قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(3).

الشق الثاني: ترجيح الطائفة الثانية من الروايات المعارضة على الروايات

ص: 92


1- الزمر: 9.
2- آل عمران: 18.
3- المجادلة: 11.

الرادعة بالكتاب العزيز.

بيان ذلك:

أن النسبة بين الأدلّة الرادعة والطائفة الثانية من الروايات المعارضة أي ما دلّ على حجّة العقل ولزوم اتّباعه: هي العموم من وجه، فمورد افتراق الأولى: الأحكام العقلية الظنية، ومورد افتراق الثانية: هي الأحكام العقلية الفطرية, فإن العقل الفطري الخالي من شوائب الأوهام, حجّة من حجج الملك العلام, ولا يمكن أن يقال: بشمول الروايات الرادعة للحكم - ولو في الجملة - فإنّه به ثبتت الإلوهية, والنبوة, وغيرهما من الأصول, ولا يعقل أن تردع الروايات عمّا ثبت أصلها به، ومورد اجتماعهما هو: الأحكام العقلية النظرية.

والكتاب مرجّح في مورد التعارض لما دلّ على حجّية العقل ولزوم اتباعه. قال اللّه تعالى: {... لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(1). وقال سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(2). وقال عزّ وجلّ: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(3)(4).

إن قلت: أدلّة حجّة العقل تشمل الظنون العقلية أيضاً, كما تشمل قطوعات العقل النظري وقطوعات العقل البديهي, فتكون الأدلّة الرادعة

ص: 93


1- البقرة: 164.
2- البقرة: 269.
3- الأعراف: 169.
4- الأصول الأصلية: 206.

أخص؛ لعدم شمولها إلاّ للأحكام العقلية الظنية وأحكام العقل النظري, فتخصّصها.

قلت:

أولاً: أدلّة حجّية العقل منصرفة عن الأحكام الظنية, وكيف يراد بقوله «العقل ما عبد به الرحمان واكتسب به الجنان»(1): ما يعم الظنون القياسية التي كان يعملها أبو حنيفة وأمثاله؟ أم كيف يراد ب- «أن لله حجتين: ...وحجة باطنة هي العقل»(2) الاستحسانات الواهية التي كان يقوم بها أصحاب مدرسة الرأي؟

وثانياً: أن مرجعية العقل مطلقاً تساوي مرجعية خصوص القطعي من أحكامه؛ لأنّ العقل بنفسه يحكم بعدم جواز الاعتماد على الظن. على ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في بداية مباحث الظن(3).

وبعبارة أخرى: الروايات, تثبت الحجّية للأحكام العقلية وعندما نرجع للعقل نجد له أحكاماً كثيرة, ومن جملة أحكامه أن الظن ليس بحجة, فنستند إلى هذا الحكم العقلي في الحكم بعدم حجّية جميع الظنون العقلية.

ونظير ذلك: أن المولى لو قال لعبده كلام ولدي حجة.

فرجع العبد إلى ولد المولى فقال له: (ما قلته لك في حالة الغضب, أو في حالة النوم فليس بحجة).

ص: 94


1- الكافي 1: 11.
2- الكافي 1: 16.
3- فرائد الأصول 1: 104.

فمقتضى الفهم العرفي اختصاص حجّية قول ولد المولى بما قاله في غير حالة الغضب، أو النوم.

وبعبارة أخرى: وزان تخصيص (الحجة التبعية) وزان تخصيص (الحجة الأصلية).

فكما لو أن المولى قال: كلام ولدي حجّة عليك إلاّ فيما يقوله في حالة الغضب, فكذا لو تمّ هذا التخصيص على يد الولد. فتأمل، وسوف تأتي المناقشة في هذا الجواب (الخامس) بعد قليل إن شاء اللّه تعالى.

سادساً: تساقط الروايات الرادعة والروايات المعارضة

لو فرضنا عدم الترجيح بين الروايات الرادعة والروايات المعارضة، فالنتيجة هي التساقط في مورد الإجتماع, فلا يبقى دليل على الردع المذكور.

إن قلت: كما لا يبقى دليل على الردع لا يبقى دليل على الحجّية.

قلت: الدليل على الحجّية موجود, وهو العمومات أو المطلقات.

بيان ذلك يتوقّف على توضيح كبرى كلية: وهي أنّه إذا ورد عام أو مطلق, وورد في جزئي من جزئياته خاصّان متعارضان.

فهنا احتمالان:

الاحتمال الأول: أن نقول إنّ جميع الأدلّة (العام الفوقاني والخاصّان المتعارضان) تتعارضان في مورد الإجتماع وتتساقط؛ لأنّ نسبة الجمع إلى هذا الجزئي نسبة واحدة.

الاحتمال الثاني: أن نقول إن الخاصّين يتعارضان ويتساقطان, ويبقى

ص: 95

العموم الفوقاني سليماً عن المعارض، وهذا الثاني هو الأقرب، والسبب في ذلك: أنّه لا تعارض بين العام والخاصّين.

أمّا الخاصّ الموافق لحكم العام؛ فلأنه يعتبر تأكيد الحكم العام في ذلك الجزئي.

وأمّا الخاصّ المخالف لحكم العام؛ فلأنه يعتبر تخصيصاً, والمخصّص لا يناقض المخصَّص.

ولو فرض التعارض فهو تعارض بدوي غير مستقر, ولا تجري فيه أحكام التعارض المستقرّ, التي هي الملحوظة في المقام.

إذاً فالتناقض الحقيقي قائم بين الخاصّين.

وحيث فرض عدم الترجيح يتساقطان. ويبقى العموم الفوقاني, فيندرج تحته الجزئي.

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم العلماء). وورد دليلان متعارضان في جزئي من جزئيات الموضوع - كزيد العالم مثلاً- فقال أحدهما: (أكرم زيداً). وقال الآخر: (لا تكرم زيداً). حصل التعارض بين الخاصين, وبقي العام الفوقاني ولذلك نظائر في الفقه. وما نحن فيه من هذا القبيل. إذ أدلّة الأحكام الأولية مطلقة أو عامة. وتقييدها أو تخصيصها بخصوص «ما حصل العلم به عن طريق الأدلّة النقلية» خلاف الإطلاق أو العموم.

والمانع عن هذا العموم أو الإطلاق: الروايات الرادعة. وحيث إن الروايات الرادعة مبتلاة بالمعارض (الروايات المعارضة) تسقطان معاً, فتبقى العمومات أو الإطلاقات الفوقانية بلا دليل على التخصيص أو التقييد. ويتم

ص: 96

بذلك المطلوب.

هذا ولكن قد يناقش في الجوابين الأخيرين بأن الترجّح بالكتاب العزيز, أو التساقط فرع التعارض, ولا تعارض في المقام؛ لأنّ الروايات الرادعة ليس مفادها عدم حجّية القطع, أو العلم حتى تعارض الروايات الدالة على حجّية القطع أو العلم، بل مفادها تحويل العلم من الطريقية إلى الموضوعية. وما مفاده التحويل المزبور لا يناقض ما دلّ على حجّية القطع, أو العلم؛ لأنّ حجّية العلم, أو القطع إنّما تكون مع ثبوت الموضوع. وما مفاده التحويل المزبور مفاده انتفاء الموضوع, ولا تناقض بين ما يثبت محمولاً على تقدير ثبوت موضوعه وما مفاده انتفاء ذلك الموضوع.

مثلاً: لو قال المولى: «صم للرؤية» فقطع المكلّف عبر الحسابات الفلكية القطعية بتولد الهلال ووجوده, من دون إمكان مشاهدته, فقطعه هذا ليس بحجة بمقتضى الدليل المزبور.

وهذا الحكم لا ينافي أدلّة حجّية القطع؛ لأنّ مفاد الدليل المزبور كون القطع في المقام موضوعياً لا طريقياً. أي أنّ مفاد الدليل المزبور: «أن وجود الهلال واقعاً ليس موضوعاً لثبوت الشهر». بل«الوجود المرئي», أو «الوجود الذي تمكن رؤيته», فإذا انتفى ذلك انتفى ثبوت الشهر؛ لانتفاء موضوعه.

وكذا الأمر في باب الشهادات, حيث إنّ موضوع جواز الشهادة ليس «وقوع الزنا» - مثلاً - بل «الزنا المرئي, كالميل في المكحلة وكالرشا في البئر».

فبانتفاء الرؤية ينتفي جواز الشهادة, وإن قطع بوقوع الزنا بالتحليل العلمي المختبري - مثلاً - .

ص: 97

سابعاً: الأدلّة الظنية لا تعارض الدليل القطعي

سابعاً: أن هذه الروايات الرادعة ظنيّة, والدليل الظنّي لا يصلح لمعارضة حكم العقل القطعي.

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «ومع تسليم ظهورها [أي الأخبار], فهو أيضاّ من باب تعارض النقل الظنّي مع العقل القطعي؛ ولذلك لا فائدة مهمة في هذه المسألة؛ إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضا اللّه جلّ ذكره بمخالفته, فلا يعقل ترك العمل بذلك مادام هذا القطع باقياً, فكل ما دل على خلاف ذلك فمؤوّل أو مطروح»(1).

ولعل مراده (رحمه اللّه) ظنية الدلالة بأن يقال - مثلاً - : إنّ شمول الروايات الرادعة للمقام بالإطلاق أو العموم والإطلاق, أو العموم ليس أكثر من ظن. منتهى الأمر أنّه ظن معتبر. إلاّ أن الظن المعتبر لا يصلح لمعارضة الدليل القطعي, فلا بد من تأويله ومع عدم إمكان التأويل تصل النوبة إلى الطرح. كما أن ما دلّ على رؤية اللّه تعالى مؤوّل أو مطروح بعد دلالة الأدلّة القطعية على استحالة رؤيته تعالى.

وأمّا السند فقد سبق أنّه قطعي. كما أن مراده (رحمه اللّه) : الظن النوعي أو الشأني, وإلاّ فالقطع لا يجامع الظن الشخصي بالخلاف, بل ولا الشكّ, بل ولا الوهم.

هذا: ولكن ما ذكره (رحمه اللّه) لا يخلو من نظر. إذ ليس المدّعى: أن العقل القطعي ليس بحجة, بل أن القطع بالحكم الشرعي لا يحصل مع الالتفات

ص: 98


1- فرائد الأصول 1: 62؛ الوصائل 1: 182.

إلى هذه الأخبار الرادعة - على فرض تسليم دلالتها؛ لكون القطع المأخوذ فيها موضوعياً. كما لا يحصل القطع بدخول الشهر مع العلم بتولّد الهلال واقعاً - لو التفت المكلّف إلى الأخبار الدالة على مدخلية«الرؤية الخارجية - إمكاناً أو وقوعاً»- في الموضوع. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك فراجع.

ص: 99

المبحث الرابع : في أن الخوض في المقدمات العقلية لتحصيل العلم بالأحكام الشرعية مرغوب عنه

اشارة

المبحث الرابع: في أن الخوض في المقدمات العقلية لتحصيل العلم بالأحكام الشرعية مرغوب عنه ولو في الجملة. ونتحدّث حول ذلك في أمور:

1- في مفهوم الخوض المزبور.

2- في أنّه مرغوب عنه شرعاً.

3- في أنّه مرغوب عنه عقلاً.

4- في الأثر المترتّب على كون الخوض المذكور مرغوباً عنه.

5- في الخوض في الأمور العقلية لإدراك ما يتعلّق بأصول الدين.

الأمر الأول: في مفهوم الخوض في المقدمات العقلية

والمذكور في كلام الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) «الركون إلى العقل لما يتعلّق بإدراك مناطات الأحكام الشرعية؛ لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام»(1).

وذلك على نحو الإنتقال اللمّي:

توضيحه:

أن الأحكام الشرعية تابعة للملاكات الواقعية النفس الآمرية على ما قرّر

ص: 100


1- الوصائل 1: 184.

في محله، فإذا رأى العقل حكماً حاول أن يكتشف علّته الواقعية, فإذا اكتشفها انتقل إلى ثبوت الحكم في الجزئيات المماثلة؛ لوجود العلّة فيها.

و«العلّة المكتشفة» تارة تكون «منصوصة», كما في روايات الاستصحاب وهنا لا إشكال في ثبوت الحكم في كل جزئي توفّرت فيه «العلّة».

وتارة تكون «مستنبطة», يستند استنباطها إلى القرائن المكتنفة.

وهذا هو الذي ذكره الشيخ (رحمه اللّه) أنّه موجب للوقوع في الخطأ كثيراً.

مثلاً: يحلّل العقل مسألة ثبوت العدّة على المطلّقة, فيلاحظ أن (اليائس) لا عدّة لها, وأن (الصغيرة) لا عدة لها, وأن (غير المدخول بها) لا عدة لها, فيحدس من ذلك أن السبب في ثبوت العدة (محذور اختلاط المياه), وأن علّة إنتفاء العدة في الثلاثة انتفاء هذا المحذور.

فينتقل من ذلك أن (مقلوعة الرحم) لا عدة لها, و (المرأة العقيمة) لا عدة لها و(من بوشر معها بحائل) لا عدة لها؛ لانتفاء علّة العدة في الثلاثة, وبانتفاء العلّة ينتفي المعلول.

مثال آخر: يحدس العقل أن علّة الأمر بغسل (المتنجّسات) بالماء المطلق هو (إزالة العين عن المحل) ينتقل من ذلك إلى كفاية الغسل بالماء المضاف, كماء الورد - بناءً على كونه مضافاً - أو المطهّرات الحديثة لتحقّق الغرض المولوي بالغسل به.

وهذا يوجب الوقوع في الخطأ كثيراً؛ إذ من أين يقطع العقل بأنّ علّة ثبوت العدة هي «اختلاط المياه»؟

ومن أين يقطع بأنّ علّة الأمر بغسل المتنجسات بالماء المطلق: هو (إزالة

ص: 101

العين عن المحل). إلى غير ذلك من الأمثلة.

هذا ولكن الظاهر: أن محل البحث أعم مما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) ؛ إذ محل البحث الأُنس بالقواعد العقلية, وفقدان حالة « التسليم» للمعصومين (عليهم السلام) , ووجود حالة من «التشكيك» الباطني في الأحكام التعبّدية, كما يلاحظ ذلك في بعض المتجدّدين، وسوف يتضح ذلك في الأمر الثاني إن شاء اللّه تعالى.

الأمر الثاني: في أن الخوض المذكور مرغوب عنه شرعاً

ويدلّ على ذلك:

أولاً: خصوص رواية أبان بن تغلب المروية في الكافي. وفي هذه الرواية بحثان:

1- بحث سندي.

2- بحث دلالي.

أما البحث الأول: فقد ذكر في «المصباح» أن هذه الرواية ضعيفة السند, فلا يصحّ الاعتماد عليها(1).

أقول: هذه الرواية رواها الكليني (رحمه اللّه) بطريقين:

الطريق الأول: عن محمد بن إسماعيل, عن الفضل بن شاذان, عن ابن أبي عمير, عن عبد الرحمن بن الحجاج, عن أبان بن تغلب.

وليس في هذا السند من يتأمل فيه سوى (محمد بن إسماعيل). وفيه احتمالات:

ص: 102


1- مصباح الأصول 2: 60.

الاحتمال الأول: تعيّن كونه (محمد بن إسماعيل بن بزيع). وقد أصرّ على ذلك السيد حسن الصدر (رحمه اللّه) في رسالة ألفها لإثبات(1) ذلك. وعليه تكون الرواية (صحيحة) بطريقها الأول.

الاحتمال الثاني: إشتراكه بين ثلاثة أشخاص:

محمد بن إسماعيل بن بزيع - الثقة - .

ومحمد بن إسماعيل البرمكي - الثقة- .

ومحمد بن إسماعيل البندقي - الذي لم يوثّق - .

وحيث لا معين لكونه أي واحد منهم تكون الرواية ضعيفة.

الاحتمال الثالث: تعيّن كونه «محمد بن إسماعيل البندقي», والسبب في ذلك أن الكليني (رحمه اللّه) يروي عن (ابن بزيع) بواسطتين, وعن (البرمكي) بواسطة واحدة. وهنا روى عنه بلا واسطة, فيتعيّن كونه (البندقي). وعليه تكون الرواية ضعيفة أيضاّ.

هذا ولكن يمكن التغلب على الضعف المذكور - في الاحتمالين الأخيرين - بأحد طريقين:

1- الطريق الأول: إكثار الكليني (رحمه اللّه) الرواية عنه. فقد روى الكليني (رحمه اللّه) عن محمد ابن اسماعيل (513) رواية في الكافي الشريف.

ورواية الكليني عن شخص مرّة أو مرات قليلة لا تدلّ على وثاقة المروي عنه؛ لإحتمال إعتماده على القرائن الخارجية في قبول الرواية, إلاّ أنّ إكثار

ص: 103


1- اسمها - كما ذكرها العلامة الحجة السيد شرف الدين عند ترجمته للسيد حسن الصدر - البيان البديع في أنّ محمد بن إسماعيل المبدوء به في أسانيد الكافي إنّما هو بزيع.

الرواية عن شخص تدلّ على أن الإعتماد المزبور كان لأجل القرينة الداخلية - أي وثاقة المروي عنه - فيكون إعتماد الكليني على هذه الكثرة الكاثرة من روايات (محمد بن إسماعيل) دليلاً على توثيقه إياه, فتكون الرواية صحيحة (على إصطلاح المتأخرين في معنى الصحيح, أي ما يرويه عدل إمامي ضابط ثقة في جميع الطبقات).

2- الطريق الثاني: ورود اسم محمد بن إسماعيل راوياً عن الفضل بن شاذان في أسانيد «كامل الزيارات». بناءً على ظهور عبارة ابن قولويه في توثيقه جميع مشايخه. إلاّ إن المبنى لا يخلو من إشكال, على ما تقرّر في محلّه.

الطريق الثاني: علي بن إبراهيم, عن أبيه, عن ابن أبي عمير, عن عبد الرحمن بن الحجّاج, عن أبان بن تغلب.

وقد ذهب جمع إلى وثاقة «إبراهيم بن هاشم» لقرائن:

منها: رواية ولده علي بن إبراهيم في تفسيره عنه. وقد قال في مقدمة التفسير: « وعن ثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم»(1).

وهذه العبارة إن لم تدل على وثاقة جميع مشايخه, فلا أقل من دلالتها على وثاقة مشايخه المباشرين.

ومنها: إكثاره الرواية عنه جدّاً. ولا يحتمل حصول هذا الإكثار من دون إعتقاده بوثاقته.

ص: 104


1- تفسير القمي: 16.

ومنها: وروده في أسناد كامل الزيارات, بناءً على شهادة (ابن قولويه) بوثاقة جميع من ورد اسمه فيه لقوله: «..ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا»(1).

ومنها: نشره حديث الكوفيين بقم. قال النجاشي: «وأصحابنا يقولون: إنّه أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم هو»(2).

مع ما عرف من مدرسة قم من التشدّد في الروايات, حتى أنّ أحمد بن محمد بن عيسى أخرج «البرقي» من قم لروايته عن الضعفاء وإعتماده المراسيل.

وهل يمكن لرجل, كإبراهيم بن هاشم أن ينشر حديث الكوفيين بقم, من دون أن يواجه بالإنكار, إلاّ مع كونه ثقة - في نظر القميين - , بل في أعلى درجات الوثاقة؟

ومنها: نقل ابن طاوس الإتفاق على وثاقة إبراهيم بن هاشم. وابن طاوس وإن كان من المتأخّرين, ولا عبرة بتوثيقاتهم على المعروف, إلاّ أن نقله الإتفاق تكشف عن ذهاب بعض القدماء - إن لم يكن كلّهم - إلى الوثاقة, وذلك كافٍ في إثباتها.

وعلى كلٍ فقد ذهب جمع إلى وثاقة «إبراهيم بن هاشم» إعتماداً على هذه القرائن.

فإن كفت في إثبات الوثاقة فبها, وإلاّ فلا أقل من إفادتها مدح الرجل,

ص: 105


1- كامل الزيارات: 37.
2- رجال النجاشي: 16.

بلا إشكال.

وعليه تكون الرواية (صحيحة) أو (حسنة), فتكون معتبرة على كل تقدير. وعليه فلم يظهر وجه لتضعيف المصباح للرواية.

والعجيب أنّه عبر عنها ب- «صحيحة أبان بن تغلب» في مواضع متعددة من «مباني تكملة المنهاج» وإعتمد عليها. فراجع(1).

وأما البحث الثاني: (أي البحث الدلالي) فيتوقف على ذكر متن الرواية.

فنقول: روى الكليني (رحمه اللّه) في الكافي - بالسندين المذكورين - عن أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة؟ قلت:كم فيها؟ قال عشر من الإبل. قلت: قطع اثنتين. قال: عشرون - قلت: قطع ثلاثاً. قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعاً. قال: عشرون. قلت: سبحان اللّه يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول: الذي جاء به شيطان!؟ فقال مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين»(2).

وفي هذا النص الشريف دلالة على أن أُنس الذهن بالمعادلات العقلية بحيث يؤدي إلى إنكار الأحكام الشرعية - أو التشكيك فيها - مردوع عنه

ص: 106


1- مباني تكملة المنهاج 2: 395.
2- الكافي 7: 300؛ من لايحضره الفقيه 4: 119؛ وسائل الشيعة 29: 352؛ جامع احاديث الشيعة 31: 508.

شرعاً.

بيان ذلك:

أن المركوز في ذهن أبان: «أنّ كل جناية أكبر لابدّ أن تكون عقوبتها أكثر».

وحيث إنّ قطع أربعة من أصابع المرأة أعظم من قطع ثلاثة من أصابعها, فلابد أن تكون عقوبتها أكبر, أو مساوية له على الأقل.

وهذا المركوز في ذهن أبان جعله يسارع إلى إنكار الرواية المعتبرة التي وردته وهو بالعراق, ويبرأ ممّن قال بذلك, ويقول: إنّ الذي جاء به شيطان.

كما جعله يتعجّب مما حكم به الإمام (عليه السلام) - وهو بالمدينة - وقد طبّق أبان هذه القاعدة خطأً على الحكم المتعلّق بقطع أصابع المرأة. مع غفلته عن أنّه لو سلمت تمامية القاعدة في حدّ ذاتها, فلا يتعيّن أن تكون العقوبة الأشد, أو المساوية في هذه النشأة, بل يمكن أن توكل - كلياً أو جزئياً - إلى الدار الآخرة.

ونظير ذلك: الحكم الوارد في باب الصيد. فإنّ من صاد مرّتين خطأً تجب عليه كفّارتان. ومن صاد مرتين أو أكثر عمداً لا تجب عليه إلاّ كفارة واحدة. مع أن ذلك يستلزم مساواة كفارة الصيد عمداً مرّة مع الصيد - عمداً - مراراً وأشديّة كفارة من صاد خطأً مراراً على من صاد عمداً مراراً. وليس كذلك؛ إذ قد ورد في الآية الكريمة: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ}(1). فقد

ص: 107


1- المائدة: 95.

أوكل جزاء من كرّر الصيد متعمداً إلى الآخرة, أو إلى انتقام إلهي في الدنيا, مع ارتفاع ما زاد عن الكفّارة الواحدة عنه.

وفي المقام كلام طويل تعرّض إلى بعضه السيد الوالد (رضوان اللّه عليه) في الوصائل, فراجع(1).

وعلى كل حال: فأُنس الذهن بالمعادلات العقلية قد يؤدّي بالإنسان إلى إنكار الأحكام الشرعية, أو التشكيك فيها, ومحاولة تأويلها بأي نحو كان, أو التجرّأ على طرحها.

ثانياً: الروايات العامة الواردة بمضمون: «أن دين اللّه لا يصاب بالعقول»(2) و«أنّه لاشيء أبعد عن دين اللّه من عقول الناس»(3) ونحو ذلك.

الأمر الثالث: في أن الخوض المذكور مرغوب عنه عقلاً

ويمكن أن يستدلّ لذلك بدليلين:

الدليل الأول: وهو مركّب من مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن كل (علم) له (منهج).

وهنالك تناسب طبيعي بين طبيعة العلم وطبيعة المنهج. وإن شئت عبّرت ب- (السنخية) فيما بينهما.

والمقدمة الثانية: أن من سلك المنهج غير الطبيعي وتورّط في مخالفة المولى فليس معذوراً عند العقلاء. ولعل في قوله تعالى: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ

ص: 108


1- الوصائل 1: 186.
2- مستدرك الوسائل 17: 262.
3- الوصائل 1: 174.

أَبْوَابِهَا}(1) إشارة إلى ذلك.

توضيح ذلك: يتمّ ببيان أمثلة:

المثال الأول: في العلوم الطبيعية هنالك منهجان:

1- المنهج التحليلي العقلي.

2- المنهج التجريبي.

فقد يجلس الإنسان في غرفة مغلقة ويحاول تحليل الظواهر الطبيعية عبر التحليلات العقلية.

وقد يمارس التحليل المختبري في تحليل تلك الظواهر.

مثلاً:

أ- عندما نحاول تحليل «الصور المرآتية» قد نحلّلها على ضوء المعطيات التجريبية. وقد نحللها عبر المناهج التحليلية العقلية, فنتوصّل إلى أن هذه الصور ظلال المُثُل الموجودة في «عالم المثال», كما توصّل إلى ذلك بعض الفلاسفة.

ب- وفي تحليل طبيعة «الأفلاك» قد نمارس المنهج العلمي التجريبي، وقد نمارس المنهج التحليلي العقلي الذي لجأ إليه بعض القدماء, فتوصّلوا إلى أن الأفلاك عناصر صلبة غير قابلة للخرق والالتئام, وأنكروا على ضوء ذلك المعراج الجسماني, كما أشار إلى ذلك العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في البحار.

ج- وإنفصال العكس عن العاكس والظلّ عن ذي الظلّ قد تخضعه

ص: 109


1- البقرة: 189.

للملاحظات العلمية التجريبية. وقد نحلّله تحليلاً عقلياً - في الأبراج العاجية - فنتوصّل إلى استحالة انفصال العكس عن العاكس, والظل عن ذي الظل.

وقد نقل: أن أحدهم عندما سمع باختراع «أداة التصوير» قال: لقد إنقلب علمنا جهلاً!

د- وعلّة دوران الأفلاك قد نحاول التوصل إليها عبر المنهج التجريبي, فننجح أو نخفق في ذلك.وقد نحاول اكتشافها بالمناهج العقلية فنتوصل إلى أن دوران الأفلاك لإدراك كمال «العقل الأول» أو لنيل أمرٌ قدسي لذيذ! وهكذا وهلم جرّا.

المثال الثاني: في القضايا الطبية قد نحاول التوصل إلى النتائج عبر التحليلات الفلسفية, وقد نحاول التوصل إليها عبر البحث الميداني المباشر.

وقد نقل: أن طبيباً نهى فيلسوفاً عن الجمع بين طعامين, فقال الفيلسوف: لا يخلو من أن يكون هذان الطعامان متوافقين في الطبع أو متخالفين, فإن كانا متوافقين لم يضرّني أكلهما. وإن كانا متخالفين أضرَّ كل طبع صاحبه.

فقال الطبيب: لقد دلّتنا التجارب على ضرر الجمع. فلم يعتن الفيلسوف بكلامه وأكلهما, فابتلي بالفالج بعد أيّام.

المثال الثالث: في القضايا اللغوية قد نحاول اللجوء إلى المعادلات العقلية, فنحاول - مثلاً - عبر التحليل العقلي أن نعرف أن المصغّر يصغر أو لا؟ وأن مضارع فَعَلَ - بالفتح - هو يَفْعَلُ – بالفتح, أو يَفْعِلُ - بالكسر؟ وقد نلجأ إلى كتب اللغة لنعرف ذلك..

وعلى كل حال: فمن لجأ إلى غير المنهج الطبيعي في (العلم) و

ص: 110

(المعرفة) وتورّط في مخالفة المولى ... لم يكن عند العقلاء معذوراً...وكان عندهم بالعقوبة جديراً.

وبتعبير آخر, كما أن طرق الطاعة والمعصية عقلائية, كذلك طرق العلم بمرادات المولى يجب أن تكون عقلائية.

وبتعبير ثالث, كما أنّه يجب سلوك الطرق العقلائية في إفراغ الذمة من تكاليف المولى, كذلك يجب سلوك الطرق العقلائية في العلم بتكاليف المولى. فإذا سلك الطريق غير العقلائي وتورّط في المخالفة استحق الذم والعقاب.

وقد سبق أن العقل لا يستطيع الإحاطة بالعلل الواقعية للأحكام...ولو فرض أنّه أدرك بعض المقتطبات, فهو لا يستطيع إدراك موانعها ومزاحماتها.

وعليه فلابد من سلوك الطريق السمعي في معرفة الأحكام الشرعية.

نعم: هنالك أحكام بديهية عقلية لا بأس بالركون إليها, وليس الكلام فيها.

الدليل الثاني: ما أشار إليه الشيخ (رحمه اللّه) من أن الركون إلى العقل في إدراك مناطات الأحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيراً, وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك.

أقول: إن أراد الشيخ (رحمه اللّه) بذلك: حصول علم إجمالي تدريجي بوقوع الخائض نفسه في الخطأ كثيراً؛ لسلوكه طريق الإستنباطات العقلية, فهو متين, بناءً على ما تقرّر في محلّه من عدم الفرق في منجّزية العلم الإجمالي

ص: 111

بين كون أطرافه دفعية, أو تدريجية. وأمّا إن أراد غير ذلك ففيه تأمل. وتفصيله موكول إلى غير المقام.

الأمر الرابع: في الآثار المترتبة على كون الخوض المذكور مرغوباً عنه

هنالك أثران يترتّبان على كون الخوض المذكور مرغوباً عنه:

الأثر الأول: كون الخائض عاصياً مستحقّاً للذم والعقاب, لو أدّى خوضه في المقدّمات العقلية للوقوع في مخالفة الواقع؛ وذلك لأنّ ما بالإختيار لا ينافيه.

الأثر الثاني: كون الخائض متجّرياً, لو لم ينته به خوضه إلى التورّط في مخالفة الواقع.

الأمر الخامس: في الخوض في الأمور العقلية لإدراك ما يتعلّق بأصول الدين

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «وأوجب من ذلك [أي الركون إلى العقل فيما يتعلّق بإستنباطات مناطات الأحكام] ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية لإدراك ما يتعلّق بأصول الدين, فإنّه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد. وقد أشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر»(1).

أقول: الأمور على ثلاثة أنواع:

1- ما هو ضدّ العقل: كقول النصارى بالتثليث, أي كون الواحد ثلاثة, والثلاثة واحداً, في نفس الوقت.

ص: 112


1- فرائد الأصول 1: 21.

2- ما هو وفق العقل: كالبديهيات الحكمية, والقواعد الرياضية.

3- ما هو فوق العقل: والقسم الثالث يتنوع إلى نوعين:

الأول: ما يستحيل للعقل إكتناهه بالإستحالة الذاتية أو الوقوعية.

الثاني: ما يستحيل للعقل إكتناهه بالإستحالة الغيريّة(1).

وكثير من القضايا العقائدية:

أ- يستحيل على العقل إكتناهها - بالإستحالة الذاتية أو الوقوعية, مثل إكتناه ذات اللّه سبحانه, فإن اللّه تعالى غير محدود, والعقل الإنساني محدود, ولا يمكن للمحدود أن يحيط بغير المحدود. وقد عقد العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في البحار باباً بعنوان «باب النهي عن التفكر في ذات اللّه تعالى»(2). وقد وردت روايات رادعة عن ذلك. مثل: «لا تفكروا في ذات اللّه, فتكفروا» و«من تفكر في ذات اللّه تزندق»(3).

ب- أو لا وسيلة للعقل لإدراكها, وإن لم يكن إدراكها يمتنع ذاتاً ولا

ص: 113


1- الإمتناع الذاتي: عبارة عن كون الشيء بحيث يقتضي بذاته العدم اقتضاءً حتمياً, ويحكم العقل - عند تصوّره - بأنه ممتنع الوجود, كاجتماع النقيضين وارتفاعهما. والإمتناع الوقوعي: عبارة عن كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل أو المحال, فليست إستحالته نابعة من ذاته, بل من غيره, فالإستحالة في القسم الأول ذاتية, وفي الثاني تبعية. وقد قال بعضهم: إنّ جميع المحالات ترجع إستحالاتها إلى إستحالة اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما. والإمتناع الغيري: عبارة عن كون الشيء مستحيل التحقّق لعدم تحقّق علته التامة فكل شيء لم تتحقق علته التامة يطلق عليه أنّه ممتنع غيري. كذا قيل (منه (رحمه اللّه) ).
2- بحار الأنوار 3: 257.
3- الكافي 8: 22، وفيه: «ومن فكر...»؛ غرر الحكم: 618.

وقوعاً ككثير ويتعلّق بتفاصيل النشأة الأخرى.

وعلى كل حال فالخوض في مثل هذه الأمور قد يعرّض الإنسان إلى الهلاك الدائم والعذاب الخالد, كما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) .

وقد توصّل كثير من الذين خاضوا في هذه المجالات إلى نتائج خطيرة.

منها: وحدة الموجود. فقد ذهبوا إلى أن الموجود واحد, وسائر الأشياء مظاهر ذلك الوجود, ومثّلوا لذلك بالحبر وما يكتب به. والبحر وأمواجه.

وقال بعضهم: (سبحاني ما أعظم شأني)!!

وقال الآخر: (ليس في جبّتي سوى اللّه)!!

وروى ثالث عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: (هو نحن ونحن هو)!!

ومنها: إذابة الحدود بين عبادة الخالق وعبادة غيره.

وأنشد شاعرهم في ذلك:

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست ***يقين كردى كه دين در بت پرستى است

وأنشد الآخر:

عقد الخلائق في الإله عقائداً***وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وأنشد الثالث:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة***فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف***وألواح توراة ومصحف قرآن

وذكر أحدهم: أن فرعون كان موحّداً, وقد قبضه اللّه تعالى إليه طاهراً مطهّراً لم يشبه دنس.

ص: 114

وذكر الآخر: إنّ موسى (عليه السلام) لما عاد من الطور, ورأى أن هارون (عليه السلام) نهى قومه عن عبادة العجل, غضب وقال لهارون (عليه السلام) : لِمَ نهيتم عن عبادة العجل أما تعلم أن اللّه يحب أن يعبد في آية صورة كان المعبود؟!!

وذكر أيضاّ: أن نوحاً (عليه السلام) كان من أهل الظاهر, وأن قومه كانوا من أهل الباطن, وأنهم إنّما عبدوا ودّاً, وسواعاً، ويغوث، ويعوق, ونسراً, فإنما كانت عبادتهم في الواقع لله تعالى, وإنّ غرقهم لم يكن في الطوفان, وإنّما في بحار رحمة اللّه تعالى!!

ومنها: قولهم بالجبر في أفعال الإنسان.

ومنها: قولهم بالجبر في اللّه سبحانه - كما أشار إليه الوالد (رحمه اللّه) في الفقه.

ومنها: قولهم بالعقول العشرة. وبأنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد.

ومنها: قولهم بقدم العالم, مع إجماع الشرائع - على ما ذكره الشيخ الأعظم - على حدوثه, بالحدوث الزماني. إلى غير ذلك.

قال الوالد (رضوان اللّه عليه) تعليقاً على كلام الشيخ: «وأوجب من ذلك..» «وجه الأوجبية: أن الانحراف في فروع الدين يوجب العصيان وبعض العقاب, أمّا الإنحراف في أصول الدين, فإنّه يوجب الكفر ودوام العقاب والعياذ باللّه العاصم»(1).

وقال: «ولذا كان بعض الفقهاء يشترطون على من كان يريد درس الفلسفة, أنّ يقوّي أولاً وقبل كل شيء مباني أصول دينه, ويحكّم أساس

ص: 115


1- الوصائل 1: 193.

فكره وعقائده بالكتب الكلامية المستقيمة, وبمطالعة الآيات والروايات الواردة في أصول الدين, ثُمَّ يتعلّم عند من يُعرف بالإستقامة التامة والذي يذكر الآيات والروايات في درسه, ويردّ بها الأمور المنحرفة لدى الوصول إليها في التدريس واللّه العاصم»(1).

ص: 116


1- الوصائل 1: 193- 194.

المبحث الخامس : في ما يوهم ردع الشارع عن العمل بالقطع

اشارة

انتهينا في المباحث الماضية إلى أنّ القطع الطريقي حجّة مطلقاً, وأنه لا فرق في حجيته بين الأشخاص والموارد والأسباب, إلاّ أنّه قد وقعت موارد في الشرع توهم ردع الشارع عن العمل بالقطع. وقبل الشروع في بيان هذه الموارد لا بأس بالإشارة إلى أن في هذه الموارد جهتين من البحث:

1- مخالفة العلم الإجمالي.

2- مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي.

توضيح ذلك: أنّ العلم التفصيلي قد يتولّد من العلم الإجمالي فيكون الإبهام والغموض مصباحاً للعلم الذي هو علّة, مع عدم وجود أي إبهام أو ترديد في العلم الذي هو معلول.

مثلاً: لو علم الإنسان بأنه ترك في صلاته أمّا الركوع أو السجدتين, فهنا وإن كان هذا العلم إجمالياً, إلاّ إنّه يتولّد منه علم تفصيلي ببطلان صلاته على كل تقدير، وكذا لو علم تفصيلاً ببطلان صلاته بواحد مردّد بين الحدث أو الاستدبار.

وكلامنا في المقام من ناحية مخالفة العلم التفصيلي, لا الإجمالي.

المورد الأول: درهما الودعي

لو أودع شخص عند (الودعي) (درهماً), وأودع آخر عنده (درهمين)

ص: 117

فضاع أحد الدراهم الثلاثة بلا تعدًّ ولا تفريط فهنا احتمالات(1):

1- إعطاء صاحب الدرهمين: درهماً وثلثاً. وإعطاء صاحب الدرهم: ثلثي درهم.

وقد قيل: إنّه أحد أقدار العلاّمة.

ومبنى هذا الإحتمال: حصول الشركة القهرية في المال؛ وذلك على أثر «الإختلاط» والإمتزاج.

فهذه الدراهم الثلاثة بعد الإختلاط صارت مشتركة بين المالكين على نسبة مالهما.

فملك صاحب الدرهم: ثلث درهم من الدرهم الأول, وثلثاً من الثاني, وثلثاً من الثالث.

وملك صاحب الدرهمين: ثلثي درهم من الدرهم الأول, وثلثين من الثاني, وثلثين من الثالث, فإذا ضاع أحد الدراهم الثلاثة وقعت الخسارة بحسب النسبة في المال فالضائع من صاحب الدرهم ثلث درهم فيبقى له ثلثان. والضائع من صاحب الدرهمين ثلثا درهم, فيبقى له درهم وثلث.

وفيه:

أولاً: أن الدليل أخص من المدّعى؛ إذ في المقام صورتان:

1) حصول الإمتزاج أولاً, وضياع أحد الدراهم بعد ذلك.

2) ضياع أحد الدراهم الثلاثة بلا إختلاط ولا إمتزاج, كما لو فرض أنّه

ص: 118


1- وفي المقام احتمالات أخرى يمكن معرفتها ممّا ذكره صاحب العروة في كتاب الخمس - المسألة (30) (منه (رحمه اللّه) ).

أودع كل درهم خزانة, ثُمَّ ضاع أحدها.

والدليل المذكور إنّما يتأتّى في الصورة الأولى, لا الثانية.

ثانياً: أن هنالك عنوانين: (الإمتزاج) و (الإشتباه). والشركة فرع الإمتزاج, لا الإشتباه.

بيان ذلك: أن الإمتزاج الموجب للشركة القهرية: إنما هو فيما إذا كان الإمتزاج موجباً لوحدة المالين في نظر العرف.

وذلك بأنْ ينعدم الموضوع السابق في نظر العرف, ويتولد موضوع جديد.

فإذا فرضنا: أن كل واحدٍ من المالكين كان يملك كيلوا من الحليب فاختلط الكيلوان, يرى العرف أن كل واحد من الكيلوين قد انعدم وتولد موضوع جديد.

وبإنعدام الموضوع الأول تنعدم الملكية الإستقلالية, وتتولد ملكية جديدة مشاعة.

والمقام ليس من هذا القبيل؛ إذ تكون الملكية الإستقلالية محفوظة لكلًّ من المالكين, منتهى الأمر أنّه اشتبه الموضوع.

2- أن يعطى درهم واحد لصاحب الدرهمين. وأمّا الدرهم الآخر فيقرع بينهما. فمن خرجت القرعة باسمه اُعطي الدرهم الثاني بتمامه.

هذا ولكن في القرعة إشكالات.

منها: أن موضوعها (الأمر المبهم) و (المجهول) وهذا العنوان لا يتحقّق إلاّ مع اتضاح التكليف الواقعي ولا الظاهري.

ص: 119

والتكليف الظاهري معلوم في المقام على ما سوف تأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه تعالى- .

3- أن يعطى أحد الدرهمين لصاحب الدرهمين. ويقسّم الدرهم الثاني بين المالكين. فيعطى لصاحب الدرهمين درهم ونصف ولصاحب الدرهم نصف درهم، وقد وردت بذلك رواية السكوني وأفتى على مقتضاها المشهور.

وهنا قد يأتي الإشكال: بأنّ ذلك منافٍ للعلم الإجمالي؛ إذ نعلم أن أحد النصفين قد اُعطي لغير مالكه. وقد يتولّد من هذا العلم الإجمالي علم تفصيلي, كما لو انتقل النصفان إلى ثالث بالهبة - مثلاً - فاشترى بالدرهم جارية - فرضاً - فهنا يعلم تفصيلاً بعدم تملكه لتمام هذه الجارية - لكون أحد النصفين مستحقّاً, فيكون وطيه لها حراماً ومع أنّ ظاهر الفتاوى ترتيب آثار الملكية على هذا الشراء.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأجوبة:

1- الولاية الشرعية

ومقدّمة لبيان ذلك لا بأس أن نذكر: أن وراء ملكيتنا للأشياء ملكية أخرى: هي ملكية الشارع - تعالى -, وهنالك فرقان بين هاتين الملكيتين:

1- أن ملكية الشارع للأشياء ملكية حقيقية, أما ملكيتنا للأشياء فهي ملكية إعتبارية.

وإذا أردنا أن نقرّب فكرة الملكية الحقيقية نمثّل بملكية النفس لصورها الذهنية. فهذه الصور معلولة للنفس, وقائمة بها, ومرهونة في وجودها

ص: 120

بوجودها, وفي بقائها ببقائها.

أمّا ملكية الإنسان لردائه - مثلاً- فهي مجرد أمر اعتباري, توجّه بالاعتبار وتنتفي بالإعتبار, ولا يوجد هنالك عُلقة حقيقية تكوينية بين الرداء والإنسان.

2- أنّ ملكية الشارع للأشياء ملكية ذاتية, أما ملكيتنا فهي ملكية تبعية.

وبناءً على ذلك فالملكية الحقيقية الذاتية هي للشارع - تعالى - أما ملكيتنا فهي ملكية إعتبارية تبعية, وهي تقع في طول ملكية الشارع ومتأخرة رتبة عنها.

وعليه: فما المانع أن يحكم الشارع - وهو المالك الحقيقي الذي له الولاية على الأموال والأنفس - بالتنصيف, وبتمليك غير المالك الأول نصف الدرهم؟

وبعبارة أخرى: أنّ الحفاظ على الملكية الفردية وحدودها هي إحدى الملاكات في نظر الشارع, بل هو من الملاكات المهمة. ولكن الملاكات الواقعية قد يحصل فيما بينها التزاحم, وقد يقدّم بعضها على البعض الآخر للأهمية أو غيرها. فيجرد الشارع - وهو المالك الحقيقي -: المالك الاعتباري عن ملكيته مراعاة لبعض الملاكات الأهم. وما نحن فيه يمكن أن يكون من هذا القبيل.

فالشارع في المقام ملّك غير المالك نصف درهم مراعاة لملاكٍ من الملاكات الواقعية- كقطع دابر الخصام مثلاً - فيدخل في ملكه بالتعبد الشرعي.

ص: 121

فلا تكون ثمّة مخالفة للعلم الإجمالي, ولا بأس بتصرّف شخص ثالث في مجموع النصفين, باشتراء الجارية بهما, إذ قد انتقل إليه كل من النصفين من مالكه الواقعي, فلا مخالفة للعلم التفصيلي.

وقد سوّغ الشارع التصرف في مال الغير في موارد:

منها: الأكل من بيوت من تضمّنتهم الآية الكريمة.

ومنها: التوضؤ والشرب من الأنهار الكبيرة.

ومنها: الاستفادة من الأراضي الوسيعة.

ومنها: أكل المخمصة.

ومنها: حق المارّة.

ومنها: المشي في الأرض المغصوبة إذا توقف إنقاذ غريق عليها.

على التفاصيل التي ذكرها الفقهاء رحمهم اللّه في محالها.

هذا ولكن لا يخفى أن في المقام احتمالات:

1- الملكية الواقعية المطلقة.

2- الملكية الواقعية المراعاة.

3- الملكية الظاهرية.

فإن بني على أحد الأولين تمّ هذا الوجه. وإن بني على الأخير لم يجز للثالث التصرّف في مجموع النصفين.

وربما يظهر من بعض العبائر الأول، وصريح الوالد (رحمه اللّه) الثاني.

وقد إستدل عليه ب- : «أنّه المستفاد من سكوت النص في المقام, وفي الدابة المتنازع عليها إذا كان لكل منهما شاهد, أو حلف, أو لا أيّهما

ص: 122

لأيهما»(1).

إلاّ أن هذه الملكية مراعاة بعدم إنكشاف الخلاف؛ إذ الانكشاف يوجب الإنقلاب, كخروج بدل الحيلولة عن ملك المعطى له بحصول المبدل(2).

وقد يقال: بأنّ النصَّ منصرف عن صورة «العلم الإجمالي», فلكل واحد منهما أن يتصرّف في النصف المنتقل إليه تصرّف المالك, ولكل من إنتقل إليه هذا النصف أن يتصرّف فيه تصرّف المالك؛ لأنّه مقتضى إطلاق إمضاء الشارع الملكية الظاهرية - المستفاد من سكوت النص في مقام البيان.

ولكن لا ظهور للنص في شمول هذا الحكم لصورة العلم الإجمالي بالخلاف, كما في صورة اجتماع النصفين عند ثالث.

كما أن «التذكية الظاهرية» - المستفادة من جعل الحجّية لسوق المسلم، أو يد المسلم -تترتب عليها آثارها, حتى يحصل العلم - ولو الإجمالي- بالخلاف.

وكما أن الإباحة الظاهرية المستفادة من قوله (عليه السلام) : «كل شيء لك حلال» يرتب عليها آثارها حتى يحصل العلم بالخلاف.

فوزان رواية السكوني في المقام وزان جميع الأدلّة التي تثبت أحكاماً ظاهرية, فإنها غير ظاهرة في ثبوت هذا الحكم حتى في صورة العلم الإجمالي بالخلاف؛ بل قد يقال بإستحالة جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي, فتأمل. وتفصيل الكلام موكول إلى غير المقام.

ص: 123


1- الأصول 5: 608.
2- الأصول 5: 608.

2- قاعدة العدل والإنصاف

والفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن الوجه المتقدم كان يبتني على استفادة الحكم من النص الخاصّ الوارد في المقام, بينما يبتني هذا الوجه على اندراج الحكم تحت القاعدة العامة.

ولذا لو فرض تضعيف الوجه الأوّل - باعتبار ضعف رواية السكوني سنداً, مع المصير إلى أن الشهرة الفتوائية غير جابرة للرواية الضعيفة - أمكن تخريج الحكم وفق القاعدة العامة.

كما أنّه لو فرض عدم قبول القاعدة العامة أمكن إثبات الحكم بالنص الوارد في المقام - لو فرضنا حجيته - وهذه القاعدة مبتنية على أحد أمرين:

1- السيرة العقلائية: وكأنّ مبناها تقديم الموافقة القطعية الجزئية على الموافقة الاحتمالية الكلّية, فإنّه لو أُعطي تمام المال لأحدهما احتمل وصول تمام المال إلى مالكه, واحتمل عدم وصول شيء منه إليه, بخلاف التنصيف, فإنّه - عليه - يعلم بوصول بعض المال إلى مالكه جزماً, وإن لم يصل إليه بعضه الآخر كذلك. فيكون التنصيف مقدمة لوصول بعض المال إلى صاحبه. ويكون من قبيل صرف مقدار من المال مقدمة لإيصاله إلى مالكه الغائب حسبةً إلاّ أنّه من باب المقدمة الوجودية, والمقام من باب المقدمة العلمية(1).

2- الروايات الخاصة: الروايات الخاصة الواردة في بعض الموارد, كما

ص: 124


1- مصباح الأصول 2: 62.

لو تداعى شخصان مالاً وأقام كل منهما البينة, فإنّه يحكم بتنصيف المال بينهما - على التفصيل المذكور في محلّه - فأنّه قد تُلغى خصوصية المورد, ويدعى فهم العرف عدم الخصوصية؛ لوجود البينتين المتعارضتين, بل المناط «عدم الحجّة المعينة لأحد الطرفين» في القضايا المالية, فيندرج المقام في تلك الكبرى المستنبطة.

هذا وقد اختلفت كلمات صاحب العروة (رحمه اللّه) حول هذه القاعدة. ففي كتاب الخمس أفتى بالتنصيف في بعض الفروع, مما يظهر منه قبوله لهذه القاعدة(1). وفي كتاب الزكاة ذهب إلى الإحتياط(2).

كما اختلفت كلمات المحقق الخوئي. فقد إرتضى هذه القاعدة في بعض كلماته(3) بينما ذهب في بعض كلماته الأُخر إلى انّه لا مستند لهذه القاعدة إلاّ«عذوبة لفظها»(4).

وذهب الوالد (رضوان اللّه عليه) إلى ارتضاء هذه القاعدة فيما عثرت عليه من كلماته. وتفصيل الكلام موكول إلى محله.

ثم إنه هل مقتضى القاعدة المزبورة الملكية الواقعية أو الظاهرية؟

الظاهر أنّه إن إستند في ثبوتها إلى السيرة العقلائية فمن البعيد نهوضها على الملكية الواقعية, وإن إستند فيها إلى الروايات فيجري فيها الكلام

ص: 125


1- العروة الوثقی، كتاب الخمس, مسألة 30.
2- العروة الوثقی، كتاب الزكاة, ختام فيه مسائل متفرقة.
3- مصباح الأصول 2: 62.
4- مباني تكملة المنهاج 1: 54.

المتقدم. وسوق الكلام على هذا الوجه كسوقه في سابقه.

المورد الثاني: واجد المني في الثوب المشترك

لو وجد شخصان منيّاً في الثوب المشترك بينهما, وعلما علماً إجمالياً بكونه من أحدهما فقد ذكروا:

1- أنّه يجوز اقتداء أحدهما بالآخر مع أن المأموم يعلم - علماً تفصيلياً - ببطلان صلاته, أمّا لجنابته هو, أو لجنابة الإمام.

2- وأنه يجوز لثالث الاقتداء بهما في صلاة واحدة, كما لو اقتدى بأحدهما فطرأ له عذر من إتمام الصلاة فاقتدى بالثاني مع أنّه يعلم ببطلان صلاته, أمّا لجنابة الإمام الأول, أو الإمام الثاني.

3- ويجوز الإقتداء بهما في صلاتين مترتبتين, كالظهر والعصر, مع أنّه يعلم تفصيلاً ببطلان الصلاة المترتبة على صاحبتها, كالعصر في المثال أما لجنابة الإمام، أو لفوات الترتيب, فإن كان الإمام الأول جنباً بطلت الظهر, وعلى أثر ذلك تبطل العصر أيضاً؛ لوقوعها قبل وقوع الظهر. وإن كان الإمام الثاني جنباً بطلت العصر؛ لبطلان صلاة الإمام.

والجواب عن ذلك:

أن هنالك مبنيين في مسألة (موضوع صحّة الائتمام).

1- أن يقال: إنّ موضوع صحّة الائتمام: الصحّة الظاهرية, أو الإعتقادية لدى الإمام. أي أن الصحّة في نظره كافية في صحّة الإئتمام به سواء كان ذلك لأجل قطعه الوجداني بالطهارة - مثلاً - أو لأجل قطعه التعبدي بها, كما لو استصحب الطهارة, فيصحّ الإئتمام به وإن قطع المأموم ببطلان

ص: 126

صلاته تفصيلاً.

فعلى هذا المبنى يقرّر الجواب: بأن العلم الإجمالي غير منجّز, والعلم التفصيلي غير متحقّق في المقام, فلا مانع من جواز الاقتداء.

بيان ذلك:

1) أن شرط تنجيز العلم الإجمالي هو العلم بثبوت التكليف - في متن الواقع - على كل تقدير. أما لو كان العلم بذلك ثابتاً على تقدير دون تقدير, فلا تنجيز لأدلة الشبهة البدوية, المؤمِّن منها بالأصول الترخيصية.

وفي المقام احتمالان:

الأول: أن يكون المأموم هو الجنب, فتكون صلاته باطلة, ويوجّه إليه بالتكليف بالإعادة أو القضاء.

الثاني: أن يكون الإمام هو الجنب, وعلى هذا تكون صلاة المأموم صحيحة؛ لواجديتها للشرط وهو مطلق الصحّة ولو الظاهرية أو الاعتقادية لدى الإمام, فلا يكون ثمّة علم إجمالي بالبطلان.

2) ومنه ينقدح أنّه لا علم تفصيلي بالبطلان يتولّد من العلم الإجمالي.

إذاً فقولكم: إن الائتمام خلاف العلم الإجمالي, أو التفصيلي.

فيه: أن العلم الإجمالي غير منجّز, والعلم التفصيلي غير متحقّق.

وعلى هذا فلا مانع من أن يستصحب المأموم حالته السابقة (يرتب عليها آثارها, فإن كان متطهراً إستصحب الطهارة وصلّى).

وإن كان محدثاً بالأصغر إستصحب الحدث الأصغر وتوضأ وصلى.

2- أن يقال: إن موضوع صحّة الإئتمام هو (صحة صلاة الإمام واقعاً).

ص: 127

وهنا يوجد محذوران في الاقتداء:

أ- مخالفة العلم الإجمالي المنجّز, وهو سارٍ في جميع قواعد الاقتداء.

ب- مخالفة العلم التفصيلي, وهو سارٍ في بعضها.

توضيح ذلك:

أ- إنّ العلم الإجمالي - على هذا المبنى - جامع لشرائط التنجيز, وكلا طرفي العلم ذو أثر؛ لأنّ المأموم في المثال الأول إن كان جنباً فصلاته باطلة؛ لفقدان الطهارة الحدثية, وإن كان إمامه جنباً فصلاته أيضاً باطلة؛ لفقدان الإمام الطهارة.

وحيث إنّ هذا العلم الإجمالي منجز لا تجري الأصول المؤمِّنة, ولا يجوز الاقتداء وهذا المحذور سارٍ في جميع موارد الاقتداء: الثلاثة المذكورة وغيرها.

ب- أنّه يتولّد من هذا العلم الإجمالي علم تفصيلي للمأموم ببطلان صلاته. وهذا المحذور إنّما يسري في بعض موارد الاقتداء, لا في كلّها.

فهو يعمّ الموارد الثلاثة المذكورة في المتن. ولا يسري في بعض الموارد الاُخر.

مثلاً: لو اقتدى ثالث بالواجدين في صلاتين غير مترتّبتين, فإنّه يعلم علماً إجمالياً ببطلان إحدى صلاتيه,وإن لم يعلم تفصيلاً ببطلان إحداهما بخصوصها...

ومن جميع ما تقدّم: انقدح أنّه بناءً على المبنى الثاني - وهو المشهور المنصور - لا نقول بجواز الاقتداء في أي واحدٍ من الفروع الثلاثة

ص: 128

المذكورة, فلا يصحّ النقض على مسألة «منجزية العلم التفصيلي» بذلك.

المورد الثالث: الإقراران المتعاقبان المتضادان

اشارة

فقد ذكروا أنّه لو أقرّ أحد بعين لشخص، ثُمَّ أقرَّ بها لشخص آخر يحكم بإعطاء العين للمقرّ له الأول. وإعطاء البدل (من المثل في المثلي والقيمة في القيمي) للثاني.

وقد يجتمع العين والبدل عند شخص ثالث (بهبة أو نحوها) فيعلم إجمالاً بحرمة التصرّف في أحدهما.

ثم إنّه لو اشترى بهما(1) شيئاً يعلم تفصيلاً بعدم جواز التصرف فيه؛ لكون بعض ثمنه ملكاً للغير, فلم يدخل المثمن في ملكه.

وفي هذا المورد بحثان:

البحث الأول: بحث مبنائي

وهو أن في أصل الحكم المذكور تأملاً؛ إذ إنّ أصل الحكم المذكور ممّا لم يرد به نص خاص, بل تم تخريجه بمقتضى القواعد. وقد ذكر في المصباح أن الإقرار الأوّل يوجب إعطاء العين للمقر له الأول بمقتضى قاعدة الإقرار, فيحكم بكونها له ظاهراً.

ومقتضى الإقرار الثاني أن العين كانت ملكاً للمقر له الثاني. وحيث إن المقر أتلفها بإقراره الأوّل يحكم عليه بالضمان لقاعدة الإتلاف(2).

ص: 129


1- أي بعين المال, أما لو كان بكلّي في الذمة فيدخل المبيع كاملاً في ملكه. على ما قرر في محله (منه (رحمه اللّه) ).
2- مصباح الأصول 2: 66.

هذا ولكن استشكل الوالد (رضوان اللّه عليه) في ذلك بما مؤدّاه: أن الإقرار الثاني إقرار في ملك الغير. باعتبار أنّه قد ثبت بالإقرار الأول كون العين ملكاً للغير. والإقرار في ملك الغير غير نافذ, سواء ثبتت الملكية المزبورة بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي فلا يترتب أثر على الإقرار الثاني(1).

وقد يتأمّل في ذلك: باعتبار أن للإقرار الثاني مدلولين: مدلولاً مطابقياً ومدلولاً التزاميّاً, أما (المدلول المطابقي) فهو (ملكية المقر له الثاني للعين), وأما (المدلول الالتزامي), فهو (أنّه اتلف على المقر له الثاني ملكه بإقراره الأول).

وأدلة حجّية الإقرار وإن لم تشمل الإقرار الأول لما ذكر, إلاّ أنها تشمل الثاني؛ لما ثبت في محلّه من شمول أدلّة حجّية الإقرار للمداليل الإلتزامية أيضاً وإن كانت من اللوازم غير البيّنة, فيكون ضامناً للبدل.

وقد يجاب عن هذا التأمل: بأن (الدلالة الالتزامية) تابعة ل- (الدلالة المطابقية), فإذا سقطت الأمارة عن الحجّية في المدلول المطابقي سقطت حجيتها في المدلول الالتزامي أيضاً؛ وذلك لأنّ الأمارة تحكي عن لازم مساوٍ للمدلول المطابقي, لا أعمّ منه, وإن كان يمكن أن يكون في حدّ ذاته اعم منه, فما يوجب إبطاله يوجب إبطاله, أو باعتبار أنّ أدلّة الحجّية - سواء كانت الأدلّة اللفظية أو بناء العقلاء أو غيرهما - لا تشمل المداليل الالتزامية مع فرض سقوط المداليل المطابقية عن الحجية, وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

ص: 130


1- الأصول 5: 609.
البحث الثاني: بحث بنائي

وخلاصته أن المقام مما لم ترد به آية أو رواية, فيجب أن نلاحظ مقتضى القاعدة. والظاهر أن مقتضى القاعدة: أن نفوذ الأحكام الظاهرية - بالمعنى الأعم للحكم الظاهري - مشروط بعدم قيام العلم - ولو الإجمالي - على الخلاف. وقد ثبتت ملكية كل من المقر لهما بالحكم الشرعي الظاهري - للأول بسبب الإقرار, وللثاني بسبب الإقرار والإتلاف - فالملكية الظاهرية لكل منهما ثابتة. فتترتب آثار الملكية الظاهرية.

فلو اشترى العين ثالث من الأول, والبدل رابع من الثاني حق لكل منهما التصرف فيما انتقل إليه, كما يحق لكل أحد التصرف فيما انتقل إليه من مالكه الظاهري.

أما لو اجتمعا - العين والبدل - عن ثالث, فلا يحق له التصرف فيهما, للعلم الإجمالي - في جميع الصور -, وللعلم التفصيلي - في بعضها - وهذا سارٍ في جميع الأدلّة الظاهرية, فإنّ نفوذها مغيّى بعدم حصول العلم التفصيلي أو الإجمالي – بالخلاف، بل قد يقال باستحالة جعل الأحكام الظاهرية في أطراف العلم الإجمالي - على تأمل يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

نعم، لو قيل: بأن الحكم الظاهري في حق كل أحد نافذ واقعاً في حق الآخر صحّ ما ذكر من الفروع.

فيقال في المقام: بأنّ الملكية الظاهرية لأحد، موضوع لجواز تصرّف الآخر واقعاً.

ص: 131

وعليه فيجوز للثالث التصرّف فيها معاً؛ إذ ليس له علم إجمالي بحرمة التصرف في أحدهما؛ لأنّ الشارع حكم بجواز ذلك بمقتضى ولايته الشرعية. وكذا الحكم في المال المشترى بها.

أمّا لو لم نقل بذلك فنلتزم بعدم جواز التصرّف في كلا المالين للعلم الإجمالي بحرمة التصرف في أحدهما. وكذا فيما اشتري بهما للعلم التفصيلي.

المورد الرابع: في اختلاف المتبايعين في تعيين الثمن أو المثمن

لو اختلف المتبايعان في الثمن أو المثمن, بعد الإتفاق على وقوع أصل البيع, وكان اختلافهما في المتباينين؛ إذ لو اختلفا في الأقل والأكثر فقد تكفل النص الخاصّ حكمه.

مثلاً: ادّعى البائع أن المبيع عبد, وادّعى المشتري كونه جارية.

ففي مثل ذلك إن أقام أحدهما البينة دون الآخر يحكم له, وإلاّ وصلت النوبة إلى التحالف. فإن المقام من موارد التحالف, حيث إن كلاً منهما يدّعي على الآخر حقّاً وإلزاماً وينكر ما يلزمه به الآخر. أما البائع؛ فلأنه وإن كان أصل ملكيته للمثمن - ألف دينار مثلاً - معلوماً, إلاّ إنّه يدّعي على المشتري حقّ الإلزام به بدفعه بمجرّد إعطائه العبد.

وأمّا المشتري فيدعي على البائع ملكيته للجارية, وبالتالي يدّعي حق إلزامه بدفعها بمجرّد تقديم الثمن إليه. فإن حلف أحدهما ونكل الآخر يقدّم قوله. وإن تحالفا يحكم بالانفساخ ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الأول.

ص: 132

وهنا قد يقال: إن الحكم بردّ الثمن إلى المشتري - في المثال يخالف للعلم التفصيلي بكونه ملكاً للبائع سواء كان ثمناً للعبد أو الجارية.

ثم إنّه لو انتقل العبد والجارية إلى ثالث أفتوا بجواز تصرّفه فيهما مع أنّه يعلم بعدم انتقال أحدهما إليه من مالكه الواقعي وهو المشتري, وقد يتولّد من العلم الإجمالي علم تفصيلي بالمخالفة.

والجواب: أن هنالك طريقين للتخلص من الإشكال:

1- أن ينفى وجود العلم.

2- أن ينفى وجود الحكم.

أما الطريق الأول: فهو أن ينفى وجود العلم بالمخالفة التفصيلية أو الإجمالية وله طرق:

الأول: أن يقال: إن التحالف موجب للإنفساخ واقعاً بالتعبد الشرعي, فإنّ الشارع جعل هنالك فواسخ شرعية.

مثلاً: اللعان موجب لفسخ النكاح.

وتلف العين قبل القبض موجب لفسخ البيع.

فليكن التحالف أحد الفواسخ الشرعية, وعليه ينفسخ البيع واقعاً, ويرجع كل من العوضين إلى ملك مالكه الأول. وعليه فلا مخالفة للعلم الإجمالي أو التفصيلي, ولا مانع من تصرّف الآخر أو الثالث.

الثاني: أن يقال إنه من باب التقاص الخاصّ الذي أمر به الشارع.

الثالث: أن يقال إنه من باب الولاية الشرعية.

وأما الطريق الثاني - أي نفي وجود الحكم - (أي جواز التصرف فيه)

ص: 133

فتقريره ما سبق من أن الأحكام الظاهرية نافذة إلاّ إذا اصطدمت بالعلم - ولو الإجمالي - .

المورد الخامس: لو اختلف المتداعيان في سبب الانتقال

بعد الإتفاق على أصل الإنتقال, كما لو قال البائع: بعتك الجارية, وقال الآخر: وهبتني إياها، فحينئذٍ تُردّ الجارية - بعد التحالف - إلى مالكها الأوّل, مع العلم التفصيلي بخروجها عن ملكه.

والجواب:

أن الهبة المحتملة تارة تفترض جائزة وأخرى لازمة.

ففي الصورة الأولى: يقطع برجوع الملك إلى مالكه الأول. إذ لو كان موهوباً فنفس تداعيه من قبل واهبه رجوع عرفاً, نظير إنكار الوكالة, فإنّه يعد فسخاً لها ولو كان مبيعاً, فباعتبار أنّ المشتري لا يدفع الثمن يكون للبائع حق الفسخ والرجوع, وتداعيه له رجوع لا محالة. فلا مخالفة إحتمالية فضلاً عن القطعية.

وأمّا في الصورة الثانية فكل منهما يدّعي شيئاً وينكر ما يدّعيه الآخر, فأحدهما يدّعي البيع وينكر الهبة, والآخر بالعكس, فيكون المورد من موارد التحالف ويجري فيه ما ذكرناه في الفرع السابق. واللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 134

فصل في العلم الإجمالي وفيه مباحث ثلاثة

اشارة

المبحث الأول: في حقيقة العلم الإجمالي

المبحث الثاني: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي

المبحث الثالث: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي

ص: 135

ص: 136

المبحث الأول : في حقيقة العلم الإجمالي

اشارة

وفي حقيقته إحتمالات ثلاثة:

الإحتمال الأول

أن العلم الإجمالي عبارة عن العلم المتعلّق بالفرد المردّد, وربما يظهر ذلك من صاحب الكفاية في حاشيته عليها في بحث الواجب التخييري.

فقد ذكر هناك: أنّ «أحد الشيئين لا بعينه» مما يصحّ أن يتعلّق به بعض الصفات الحقيقية ذات الإضافة كالعلم فضلاً عن الصفات الإعتبارية المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما(1).

هذا ولا يخفى أنّه قد بحثت مسألة «الفرد المردّد» في مواطن متعددة من الفقه:

منها: ما لو باعه صاعاً من صبرة.

فقد يقال: بإنّ المبيع هو الصاع المردّد بين أصوع الصبرة.

ومنها: ما لو قلّد أحد المجتهدين المستجمعين لشرائط التقليد.

فقد يقال: بإنه قلّد الفرد المردّد.

ويرد على هذا الاحتمال: إنّ الفرد المردّد إما أن يفترض وجوده في

ص: 137


1- كفاية الأصول: 141 (الهامش).

عالم العين, وإما أن يفترض وجوده في عالم الذهن.

1- أما افتراض وجوده في عالم العين فلا يمكن القبول به؛ إذ لا تردد في الخارج فإن الوجود الخارجي مساوق للتعيّن والتشخّص, والشيء ما لم يتشخّص ولم يتعيّن لم يوجد, فالموجود الخارجي معيّن وليس مردداً.

نعم: قد لا يعلم المكلّف أنّ قطرة الدم وقعت في هذا الإناء أو ذاك إلاّ إنّ الأمر معيّن في عالم الثبوت.

وقد لا يعلم الرائي: إنّ الشبح القادم إنسان أو حيوان. ولكن الحقيقة - في علم اللّه تعالى ومَنْ كُشِفَ له الغطاء - معيّنة.

2- وأما افتراض وجوده في عالم الذهن, فهو أيضاً غير قابل للقبول؛ وذلك لأنّ الذهن مرتبة من مراتب الخارج.

فكما لا يوجد الفرد المردّد في الخارج لا يوجد أيضاً في الذهن.

توضيح ذلك:

إنّ الصور الذهنية عبارة عن صور علمية منقوشة في لوح النفس, والنفس موجود من موجودات عالم الخارج, فالصور المنقوشة فيها موجود من موجودات عالم الخارج.

كما لو كانت هنالك نقوش مرسومة على لوحة, وكانت اللوحة موجودة في غرفة, فإنّ النقوش ستكون موجودة في الغرفة أيضاً,

ويظل في المقام سؤالان: أحدها كلّي, والآخر جزئي.

السؤال الأوّل: إنّه لاشك أنّ هنالك وجودات ذهنية وأخرى خارجية ولا شك في أن أحدهما غير الآخر, وقد ألغيتم الفرق بين الموجودات الذهنية

ص: 138

والخارجية.

والجواب: إنّ هذه المغايرة إنّما تحصل بالقياس, أي بقياس الوجود الذهني إلى الوجود الخارجي.

وإلاّ فلو لوحظ أصل الوجود فستكون - بهذا اللحاظ- جميع الموجودات خارجية.

كما أن انقسام الوجود إلى (الموجود بالفعل) و (الموجود بالقوّة) إنّما هو بقياس بعض أفراد الوجود إلى البعض الآخر, وإلاّ فالوجود يساوق الفعلية, وإلاّ لم يكن وجوداً.

فكما أنّ الدجاجة موجودة, كذلك قوة الدجاجة موجودة بالفعل في البيضة, وإلاّ لم يصحّ جعلها قسماً من أقسام الوجود.

وعليه: فكما أنّ الموجود الخارجي متعيّن وليس مردّداً عن الوجود الذهني.

وبعبارة أخرى: الموجود الذهني موجود من موجودات عالم الخارج, والوجود الخارجي مساوق للتعيّن والتشخّص.

السؤال الثاني: إنّه لاشك في وجود «الفرد المردّد» في الذهن, ولذا يصحّ تقسيم الموجود في الذهن: إلى المعيّن والمردّد, فكيف ينفي وجود الفرد المردّد؟

والجواب: إنه مردد بالحمل الأوّلي الذاتي لا بالحمل الشائع الصناعي, ومقياس فردية الفرد وكونه هو هو: الحمل الشائع لا الحمل الأولي, أي أن الموجود في الذهن مفهوم الفرد المردّد؛ لا واقع الفرد المردّد, إذ مفهوم

ص: 139

الفرد المردّد معيّن.

ولنمثّل هنا بأمثلة لتقريب الفرق بين الحمل الأولي والحمل الشائع.

1- إذا قلنا: (شريك الباري ممتنع الوجود) فقد يقال: إنّكم حكمتم بامتناع وجوده, مع أنّه قد وجد في الذهن, باعتبار وقوعه موضوعاً في القضية المعقولة, ولا شك في وجودها بتمام أجزاءها في الذهن.

والجواب: إنّ الموجود في الذهن هو (شريك الباري) بالحمل الأولي, أي مفهوم شريك الباري والصورة الذهنية له.

إلاّ إنّه بالحمل الشائع ليس شريك الباري, بل هو مخلوق من المخلوقات, بل هو مخلوق مخلوق الباري, فكيف يكون شريكاً للباري.

وهكذا إذا قلنا: (إجتماع النقيضين ممتنع الوجود).

فإنّ الموجود في الذهن: صورة إجتماع النقيضين, لا واقع إجتماع النقيضين, كما أن الموجود على الورق لفظ (اجتماع النقيضين) لا واقع إجتماع النقيضين.

فكما أنّ الوجود الكتبي ل- (اجتماع النقيضين) ليس من مصاديق اجتماع النقيضين كذلك الوجود الذهني ل- (اجتماع النقيضين) ليس من مصاديق إجتماع النقيضين.

2- إذا قلنا: (المعدوم المطلق لا يُخبر عنه). فقد يقال: بأنّكم أخبرتم عنه بعدم الإخبار عنه. وهذا تهافت.

والجواب هو: إن المعدوم المطلق الذي أُخبر عنه في هذه القضّية الحملية معدوم مطلق بالحمل الأولي, إلاّ أنّه فرد من أفراد الوجود بالحمل

ص: 140

الشائع. فقد أُخبرنا عن موجود لاعن معدوم مطلق.

3- إذا قلنا: (الفعل لا يخبر عنه). فقد يقال: بأنّ هذا إخبار عن الفعل.

والجواب: إنه إخبار عن إسم لاعن فعل, والذي ما يُخبر عنه هو واقع الفعل - أي الفعل بالحمل الشائع- والدليل على كونه اسماً دخول الألف والّلام عليه.

4- إذا قلنا: «الفاعل يتأخر عن الفعل ولا يتقدم عليه». فقد يقال: بإنّ هذا الفاعل تقدّم على الفعل.

والجواب: إن هذا الفاعل الذي وقع في ابتداء الجملة (فاعل) وليس (بفاعل) و (مبتدأ) و (ليس بمبتدأ).

فهو فاعل بالحمل الأولي, وليس بفاعل بالحمل الشائع.

وهو مبتدأ بالحمل الشائع, وليس بمبتدأ بالحمل الأولي.

5- إذا قلنا: (إنّ الجزئي ما لا يمكن فرض انطباقه على كثيرين). فقد يقال: بإنّ هذا الجزئي يمكن فرض انطباقه على كثيرين, فهو ينطبق على (هذا القلم) و (هذا الجدار) و (هذا النبات).

والجواب: إنّ هذا الجزئي جزئي بالحمل الأولي, وليس بجزئي بالحمل الشائع. إلى غير ذلك من الأمثلة.

وبناءً على جميع ما تقدّم نقول:

إنه إذا لم يكن للفرد المردّد وجود لا في صقع الذهن, ولا في عالم العين, فكيف يتعلّق به العلم؟ وهل يمكن تعلّق العلم بالمعدوم المطلق؟

ص: 141

الاحتمال الثاني

وهو الذي ذهب إليه المحقق الأصفهاني, ونُسب إلى المحقق النائيني أنّ العلم الإجمالي عبارة عن: العلم المتعلّق بالجامع.

وبعبارة ثانية: أنّه عبارة عن علم تفصيلي بالجامع مقترن بشكوك تفصيلية بعدد أطراف ذلك العلم.

وبعبارة ثالثة: أنّه عبارة عن العلم بالجامع والجهل بالخصوصيات.

وبعبارة رابعة: أنّه عبارة عن ضمّ علم إلى جهل.

توضيحه: أن هنالك ثلاث حالات.

1- أن نعلم أن قطرة دم وقعت في هذا الإناء المعيّن.

2- أن نشكّ أنّها وقعت في هذا الإناء أو لا؟

3- أن نعلم أنّها وقعت في أحد الإناءين قطعاً, ولكن لا نعلم أنها وقعت في هذا أو ذاك.

فالحالة الأُولى: علم لا جهل معه.

والحالة الثانية: جهل لا علم معه.

والحالة الثالثة: علم معه جهل.

ويعبّر عن الحالة الأُولى: بالعلم التفصيلي.

وعن الحالة الثانية: بالشكّ الابتدائي.

وعن الحالة الثالثة: بالعلم الإجمالي.

ففي الحالة الأُولى: علم غير مشوب بأي نوع من أنواع الجهل والغموض.

وفي الحالة الثانية: شكّ غير ممتزج بأي لون من ألوان العلم.

ص: 142

وفي الحالة الثالثة: يمتزج عنصران: عنصر الوضوح, وعنصر الخفاء.

ف- «أصل الوقوع» لاشك فيه, ولكن «الإناء الذي وقع فيه الدم» غير معيّن. فهنا «علم»؛ لأنك لا تشك في أصل الوقوع. «وشكّ», لأنك لا تدري أن الدم وقع في أي واحد منهما.

وأفضل صيغة لغوية تمثّل واقع العلم الإجمالي هي «إمّا وإمّا». فنقول: «وقعت قطرة دم إمّا في هذا الإناء أو ذاك».

ف«وقعت» قضية حملية بتّية وتمثّل بُعد العلم.

و«إمّا وإمّا» تمثّل بُعد الشك والإبهام في تلك القضية.

قال المحقق الأصفهاني: «حقيقة العلم الإجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا تفارق العلم التفصيلي في حدّ العلمية, وليسا هما طوران من العلم»(1).

«... بل طرف العلم ينكشف به تفصيلاً لا مجال في التردّد فيه بما هو طرف للعلم, نعم متعلق طرف العلم مجهول أي غير معلوم, بل ضمّ الجهل إلى العلم صار سبباً لهذا الإسم, وإلاّ فالعلم علم دائماً ومتعلقه بحدّه منكشف به تفصيلاً من غير ترديد في نفس ما هو طرف العلم.

والخلاصة:

أن طرف العلم معلوم, ومتعلّق الطرف غير معلوم.

وقد يبرهن على هذا الاحتمال (الثاني):

بأنّ العلم في المقام لا يخلو من محتملات أربعة:

ص: 143


1- نهاية الدراية 2: 89.

1- أن يكون بلا متعلّق.

2- أن يكون متعلّقاً بالفرد بعنوانه التفصيلي وبحدّه الشخصي المعيّن.

3- أن يكون متعلّقاً بالفرد بحدّه الشخصي المردّد بين الحدّين أو الحدود.

4- أن يكون متعلّقاً بالجامع.

والأول: خلاف كون العلم صفة حقيقية ذات إضافة, فلا يُعقل انكشاف بلا منكشف.

والثاني: يوجب انقلاب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي.

والثالث: يستلزم القول بالفرد المردّد, وقد عرفت أنّه لا وجود له لا في الخارج ولا في الذهن.

فيتعيّن الرابع.

وقد ناقش المحقّق العراقي - على ما حكي عنه - في هذا الاحتمال بأنّ العنوان القائم في أفق العلم ينطبق على الواقع بتمامه, فلا يُعقل تعلّقه بالجامع. ويمكن توضيح ذلك من خلال مقدّمتين:

1- أن كل عنوان جامع يستحيل أن ينطبق على الفرد بتمامه.

2- أنّ العنوان القائم في أفق العلم الإجمالي ينطبق على الواقع بتمامه.

توضيح المقدمة الأُولى: يبتني على معرفة كيفية انتزاع «الجامع».

وإجمال القول فيه: إنّ الأفراد الخارجية لحقيقة ما تتركب - في التحليل العقلي - من حيثيتين:

1- الحيثية الأُولى: هي حيثية «الخصوصيات الفردية» التي تختص بكل

ص: 144

واحد واحد من الأفراد ويمتاز بها بعضها عن البعض الآخر.

2- والحيثية الثانية: هي حيثية «القدر المشترك» الذي يشترك فيه الأفراد جميعاً.

والعقل يقوم بإلغاء الخصوصيات الفردية, ويركّز النظر على «القدر المشترك» بين الأفراد.

ومن هنا نستطيع أن نقول: إنّ الجامع لا ينطبق إلاّ على الحيثية الجامعة في الأفراد, التي هي جزء تحليلي من الفرد.

ومعه يستحيل أن ينطبق العنوان الجامع على الفرد بتمامه - وبما له من الخصوصيات الفردية - أي بما هو فرد. مثلاً: «الإنسان» عبارة عن «الحيوان الناطق».

و «زيد الخارجي» مركّب من «الحيوان الناطق» و «المشخّصات الفردية» كالكم, والكيف والأين والمتى... الخ. - التي تعتبر مشخّصات لزيد أو أمارات لتشخّصه.

أمّا طوله فهو داخل تحت مقولة «الكم».

وأمّا لونه فهو داخل تحت مقولة «الكيف».

وأمّا زمانه فهو داخل تحت مقولة «المتى».

وأما مكانه فهو داخل تحت مقولة «الأين».

إلى غير ذلك من مصاديق المقوّمات العرضية.

وأمّا عنوان «الإنسان» فهو لا ينطبق إلاّ على «حيثية الحيوانية والناطقية» في زيد. لا على زيد بتمامه.

ص: 145

وأمّا المقدّمة الثانية: فتوضيحها:

أن العنوان القائم في أفق العلم الإجمالي هو عنوان «أحد الإناءين» - مثلاً -.

وهذا العنوان ينطبق على الفرد الخارجي بتمامه, وبما له من الخصوصيات الفردية, ولهذا نستطيع أن نشير إلى الإناء الخارجي ونقول: «هذا أحد الإناءين».

ولهذا إذا أمر المولى العبد بالإتيان بإحدى الخصال الثلاث فاختار «الإطعام» - مثلاً - نستطيع أن نقول: إنّ ما أتى به هو إحدى الثلاث.

والظاهر أنّ المقدمة الثانية لا نقاش فيها.

وأما المقدّمة الأُولى فيمكن أن يتأمّل فيها من جهتين:

1- إن العناوين - بلحاظ دخول الخصوصيات الفردية فيها - على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن تلحظ بشرط متين - أي بشرط دخولها فيها - كما لو وضع الأب اسم «زيد» لولده المتشخّص بالخصوصيات الكذائية.

النوع الثاني: أن تلحظ بشرط لا.

مثل صرف الحقيقة - أيّة حقيقة كانت- فإنّها تلحظ بشرط لا بالإضافة إلى المنظمّات (أي الغرائب والأجانب كالمادة ولواحقها).

فالعقل يسقط الصرف من كل حقيقة عن إضافته عن كلّ ما هو غيره من الشوائب الأجنبية, كالبياض إذا أسقط عنه الموضوعات (كالثلج والعاج والقطن وغيرها) واللواحق (كالزمان والمكان, والجهة وغيرها).

النوع الثالث: أن تلحظ لا بشرط.

ص: 146

وذلك بأن يلحظ العنوان على نحو لو كانت الخصوصية موجودة انطبق على الفرد بتمامه, ومع عدم وجودها لا يمتثل - في صدق العنوان - شيء؛ لأنّ ذلك هو مقتضى اللاّبشرطية, وذلك مثل عنوان (البيت) بالإضافة إلى (السرداب) مثلاً, فإن كان السرداب موجوداً كان جزءاً من عنوان (البيت), وإن لم يكن لم ينقص من البيت شيء, ومثل عنوان (الصلاة) بالإضافة إلى (القنوت) مثلاً.

وقد يدّعى: أنّ الكلّيات التي هي من قبيل (الإنسان) و (النبات) و (الحيوان) ونحوها من هذا القبيل.

ف- (الإنسان) مثلاً موضوع لمهيّة (الحيوان الناطق) على نحو اللاّبشرط. فتنطبق على (زيد) بتمامه لا على جزئه التحليلي العقلي فقط.

2- مع التسليم نقول: إنّ العناوين الجامعة على نوعين:

أ- الجوامع الذاتية.

ب- الجوامع العرضية.

والأخيرة تنطبق على ما هو فردها بالعرض بماله من الخصوصيات الفردية.

وذلك كعنوان (الفرد) و(الخاص) و(الشخص) و(الشيء) و(الممكن) ونحوها، بل المحقّق العراقي التزم بذلك, وقد اعتبرها جوامع اختراعية مصطنعة من قبل الذهن, لا أنّها منتزعة من الخارج.

وعنوان (أحد الشيئين) من النوع الثاني من الجوامع, فكيف يُستدل على عدم تعلّق العلم الإجمالي بالجامع بانطباقه على الفرد بتمامه؟ وهذه المناقشة

ص: 147

(الثانية) مذكورة في البحوث.

الاحتمال الثالث

وهو المنسوب إلى المحقق العراقي(1): إنّ العلم الإجمالي عبارة عن العلم المتعلّق بالواقع.

وقد ذكر المحقق العراقي: أنّه بقي أنّ بعض أهل الفضل من المعاصرين يدّعي تعلّق العلم الإجمالي بالجامع, وأنه لا تفاوت بينه وبين العلم التفصيلي من حيث العلم, و إنّما الفرق بينهما في المعلوم, وأنه في التفصيلي صورة الفرد, وفي الإجمالي صورة الجامع مع الشك في الخصوصية الفردية.

وهذا غير تام بل الفرق بينهما من ناحية نفس العلم, مع كون المعلوم بينهما معاً «الواقع» أي الفرد بما له من الخصوصيات الفردية. و إنّما العلم الإجمالي علم منسوب بالإجمال، كالمرآة غير الصافية, فإنّ المرئي فيها شخص معيّن, إلاّ أن المرآة لا تعكسه عكساً واضحاً. ووزان العلم وزان المرآة، وكسماع صوت الأذان من بعيد, مع تردّده بين كونه هذا الفصل أو ذاك.

وذلك بخلاف العلم التفصيلي, فإن الاحساس فيه احساس واضح لا مشوب.

وبعبارة أُخرى: أنّ الصورة الذهنية في العلم الإجمالي هي صورة الفرد لا صورة الكلّي, أي أنّها صورة متطابقة مع الفرد الخارجي, لا صورة متطابقة

ص: 148


1- نهاية الأفكار 2: 166.

مع الجامع وبإزاء الحيثية الخارجية المشتركة.

إلاّ إن هذه الصورة صورة إجمالية أي أنّ انكشافها مشوب بالإجمال والغموض, وليس واضحاً.

إن قلتَ: هل الحدّ الشخصي للفرد داخل في الصورة الذهنية أو لا؟ والأول: مضان العلم بالحدّ الشخصي وهو موجب للانقلاب. والثاني: يؤول إلى العلم بالجامع, إذ لانريد به إلاّ الصورة المعرّاة عن الحدود الشخصية.

قلتُ: الفرق من ناحية نفس العلم لا المعلوم, فالمعلوم صورة الفرد بحدّه الشخصي, إلاّ إنّه مع ذلك ليس كالعلم التفصيلي لأن العلم والانكشاف مجمل مخلوط فيه بحيث لاتتميّز الخصوصيات.

ثم، إنّ هنالك نظرية أُخرى في المقام تحاول الجمع بين الآراء الثلاثة, ذكرت في (البحوث), ويمكن أن نطلق عليها ب- (النظرية التوفيقية).

وبيان هذه النظرية موقوف على توضيح مقدمة وهي:

أن جزئية المفهوم لاتتحقق بضم مهيّة إلى مهيّة ومفهوم إلى مفهوم, وقيد إلى قيد, وخصوصية إلى خصوصية.

وذلك لأنّ أي قيد وخصوصية ومفهوم ومهيّة لو لاحظناها فهي في نفسها قابلة للصدق ولإنطباق كثيرين.

وما يمكن انطباقه على كثيرين لا يمكن أن يحصّل جزئية المفهوم, وإن فرض انحصار مصداقه خارجه؛ لأنّ ملاك الجزئية عدم إمكان فرض الصدق على كثيرين, لا فعلية عدم الصدق على كثيرين فبإضافته إلى الجامع لانستطيع أن نحصل على مفهوم لا يصدق على كثيرين.

ص: 149

فإنّ إضافة الكلّي إلى الكلّي لا تصيّره جزئياً حقيقياً, بل جزئياً إضافياً.

مثلاً مفهوم (الرجل) كلّي, فإذا اضفنا إليه (العالم) بقي على كلّيته وإن تضيّقت دائرة انطباقه, فإذا إضفنا إليهما (المتّقي) لم يخرج عن الكلية بعد, فإذا أضفنا إليها (الذي عمره أربعون عاماً) لم يصبح جزئياً, لإمكان فرض صدق المجموع على الكثيرين, فإذا أضفنا إليها (وأبوه عمرو) لم يتغيّر عمّا كان عليه من الكلّية... وهكذا وهلّم جرّا..

وعلى كل، فكلّما زادت القيود قلّ الوجود, إلاّ أنّ قلّة الوجود لا تخرج المفهوم عن إمكان الصدق على كثيرين فلا يكون المفهوم المقيّد جزئياً.

و إنّما الجزئية في المفاهيم الكلّية بالإشارة بالمفهوم إلى واقع الحصّة والوجود الخارجي.

فإنّ الشخص الحقيقي يكون بالوجود لا بالماهيات مهما جمعناها بنحو التركيب والتلفيق.

ووزان الإشارة بالمفهوم وزان الإشارة الخارجية, فكما أننا بالإشارة بالأصبع الخارجية نحصل جزئية المشار إليه, كذلك الأمر في الإشارة بالمفاهيم الذهنية.

وعلى أساس ذلك نقول: أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بمفهوم كلّي, لقابليته للانطباق على أكثر من واحد وبهذا صحّ الاتجاه الثاني إلاّ أنّ هذا المفهوم ملحوظ بنحو الإشارة إلى الخارج.

وبهذا يختلف عن الجامع الذي يتعلّق به الوجوب - مثلاً - في مرحلة الجعل, لأنّه غير ملحوظ كذلك, وإن كان ملحوظاً بما هو فانٍ في الخارج.

ص: 150

وبذلك اللحاظ (اللحاظ الإشاري) يكون المفهوم متعلّقاً بالفرد, بلا حاجة إلى ضمّ خصوصية أُخرى, بل لافائدة في ضمّها مالم تكن إشارة.

وبعبارة أُخرى: أنّ المفهوم الكلّي مستخدم بنحو الإشارة إلى الخارج, وحقيقة الجزئية ذلك. وبهذا صحّ الاتّجاه الثالث (القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد).

إن قلتَ: إنّ حدّ الفرد إن كان داخلاً في الصورة العلمية فالعلم تفصيلي لا إجمالي, وإلاّ كان العلم متعلّقاً بالجامع لا بالفرد.

قلتُ: إنّ الجزئية ليست بدخول الحدّ في الصورة العلمية, بل بالإشارة. وهي متحقّقة في المقام.

كما صحّ الاتّجاه الأول القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالمردّد؛ لأنّ الإشارة في موارد العلم الإجمالي لا يتعيّن المشار إليه فيها من ناحية الإشارة نفسها؛ لأنها إشارة إلى واقع الوجود, وهو مردّد بين الوجودين الخارجيين لا محالة.

فالتردد في الإشارة بمعنى أن كلاً منها صالح؛ لأنّ يكون هو المشار إليه؛ فالمشار إليه هو مشار إليه مردّد.

وليس هذا بابه باب وجود الفرد المردّد ذهناً, أو خارجاً ليقال بأنّه مستحيل، بل من باب صلاحية الإشارة للإنطباق على أكثر من واحد... كما لو أشرنا بالإصبع الخارجية إلى جهة وقلنا: أحد هذين الرجلين هو العالم.

وخلاصة المطلب

أ- أنّ العلم الإجمالي متعلّق بمفهوم كلّي.

ص: 151

ب- إلاّ إنّ هذه الكلّية تختلف عن الكلية في باب الجعل الشرعي؛ لأنّ المفهوم الكلّي مستخدم بنحو الإشارة إلى الخارج, وحقيقة الجزئية ليست بدخول الحدّ في الصورة العلمية بل بالإشارة.

ج- إلاّ إنّ الإشارة صالحة للإنطباق على أكثر من واحد وبهذا يتمّ التوفيق بين الاتّجاهات الثلاثة.

والواقع أنّ كل واحد من الاتّجاهات الثلاثة قد أُخذ بطرفٍ ولاحظ زاوية معيّنة في مقام التشخيص حقيقة العلم الإجمالي, فلاحظ وتأمّل.

ص: 152

المبحث الثاني : في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي

اشارة

وينبغي أن يعلم أولاً:

أنّ ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي له مرتبتان:

1- حرمة المخالفة القطعيّة

بمعنى حرمة ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية, وحرمة ترك جميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، فلا يجوز إرتكاب الجميع في الشبهة التحريمية، كما لا يجوز ترك الجمع في الشبهة الوجوبية.

فلو علم أنّ إحدى المرأتين اخته من الرضاعة لم يجز أن ينكح المرأتين.

ولو علم أنّ القبلة في إحدى الجهتين لم يجز له ترك الصلاة بالمرّة.

2- وجوب الموافقة القطعية

اشارة

بمعنى وجوب ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمة, ووجوب الإتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية.

ففي المثال الأول: لا يجوز له أن ينكح أيّة واحدة من المرأتين.

وفي المثال الثاني: يجب عليه الإتيان بالصلاة إلى الجهتين.

وينبغي أن يعلم ثانياً:

أنّ البحث في كلّ واحدة من الجهتين مبتنٍ على أحد طرفي الترديد في الجهة الأُخرى.

ص: 153

إذ البحث في حرمة المخالفة القطعية وعدمها - في المقام الأول - مبتنٍ على اختيار عدم وجوب الموافقة القطعية - في المقام الثاني - وإلاّ فلو قلنا بوجوب الموافقة القطعية - في المقام الثاني - فلا مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها - في المقام الأول - .

كما أنّ البحث في وجوب الموافقة القطعية وعدمه - في المقام الثاني - مبتنٍ على اختيار حرمة المخالفة القطعية - في المقام الأول - .

وإلاّ فلو قلنا بعدم الحرمة - في المقام الأول - فلا مجال للبحث عن وجوب الموافقة القطعية وعدمه - في المقام الثاني - . ولذا لا يكون البحث في إحدى الجهتين مغنياً عن البحث في الجهة الأُخرى.

وينبغي أن يعلم ثالثاً: أنّه قد جرت - عند كثير من الأُصوليين - على البحث عن الجهة الأُولى في مبحث (القطع), وعلى البحث عن الجهة الثانية في مبحث (البراءة).

والإشكال على هذه المنهجية أقرب إلى الإشكالات الفنية منها إلى الإشكالات الواقعية, فتأمل.

وعلى كلِّ فكلامنا فعلاً متمحّضاً في البحث عن الجهة الأُولى وهي حرمة المخالفة القطعية.

وفيه مباحث ثلاثة:

1- هل أنّ العقل - الحاكم على الإطلاق في باب الإطاعة والعصيان- يفرّق بين العلم التفصيلي والاجمالي في تنجيز التكليف أو لا؟

2- هل يمكن للشارع أن يرخّص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي,

ص: 154

وذلك بارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية, وترك جميع الأطراف في الشبهة الوجوبية, أو لا؟

3- هل وقع الترخيص الشرعي في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي أو لا. وذلك بعد الفراغ في المبحث الثاني عن الإمكان.

الأول: هل العقل يفرّق بين العلم التفصيلي والإجمالي في تنجيز التكليف أو لا؟

الأول(1): هل العقل يفرّق بين العلم التفصيلي والإجمالي في تنجيز التكليف أو لا؟

وقد يفرّق في ذلك بينهما بأحد بيانين:

الأول: عدم تحقّق العصيان.

الثاني: عدم تمامية البيان. ولعلّ مآلهما إلى أمر واحد.

أمّا الأول: فربما يقال: إنّه يعتبر في تحقّق موضوع العصيان - القبيح عقلاً - (العلم بمخالفة المولى حين العمل)، فمع عدم العلم لا عصيان فلا قبح في نظر العقل في الاقتحام.

والمقام ليس كذلك؛ إذ لا علم بالمخالفة حين ارتكاب كلّ واحد من الأطراف, لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر.

غاية الأمر: أنّه بعد ارتكاب جميع الأطراف يحصل للمكلّف العلم بالمخالفة، وتحصيل العلم بالمخالفة ليس حراماً.

ولذا لو ارتكب المكلّف ما هو مشكوك الحرمة بالشكّ البدوي تمسّكاً بأصالة البراءة لامانع له بعد ذلك من تحصيل العلم بحرمة مافعله بالسؤال من

ص: 155


1- كتب المصنّف (رحمه اللّه) (المبحث الأول) وفيما سيأتي (المبحث الثاني) ولأنّ هذه المباحث الثلاث إنما هي في المبحث الثاني من بحوث العلم الإجمالي, ولكي لا تختلط المباحث رجّحنا حذف كلمة (المبحث) من هذه المباحث الثلاث.

المعصوم (عليه السلام) , أو بالجفر والرمل وغير ذلك.

وبعبارة اُخرى: أنّ ماهو قبيح في نظر العقل لا يخلو من أحد عناوين ثلاثة:

1- مخالفة المولى.

2- العلم بمخالفة المولى.

3- المخالفة المعلومة حين العمل للمولى.

لا سبيل إلى الأول, إذ المخالفة متحقّقة في حالات الجهل والنسيان القصوريين, مع انتفاء القبح والعصيان.

وكذا لا سبيل إلى الثاني, لما سبق من أنّ العلم بمخالفة المولى ليس حراماً. فيتعيّن الثالث.

وأجاب عنه في المصباح: «بأنّه المعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة هو وصول التكليف, وأمّا تمييز المكلّف به, فلا دخل له في الحكم المذكور أصلاً, ولذلك لا ريب في حكم العقل بقبح المخالفة بإرتكاب جميع الأطراف دفعة, كما إذا نظر إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما مع أنّ متعلّق التكليف غير مميّز»(1).

وهذا الكلام متين في حدّ ذاته, إلاّ إنّه ينبغي أن يُعرف: أنّه ماهو المراد من «وصول التكليف» - وإن كان ذلك غير مؤثّر في نتيجة البحث في المقام -.

فإن الوصول نوعان:

1- الوصول العلمي.

2- مطلق الوصول, ولو كان احتمالياً,

ص: 156


1- مصباح الأصول 2: 70.

فإن أُريد الأول - كما هو ظاهر المصباح - فلا يتم في موارد متعدّدة.

منها: الشبهات الحكمية قبل الفحص, مع عدم وصول التكليف فيها بلحاظ الكبرى.

ومنها: الشبهات الموضوعية في الثلاثة المهمّة (الدماء، والأعراض, والأموال الخطيرة).

فلو علم بحرمة قتل محقون الدم, واحتمل كون هذا الشبح القادم من بعيد محقون الدم حكم العقل بحرمة رميه, وتحقّق المخالفة على تقدير كونه محقون الدم واقعاً مع عدم وصول التكليف بلحاظ الصغرى.

ومنها: الشبهات الموضوعية في موارد متعدّدة (غير الثلاثة المهمة) حكم الفقهاء فيها بوجوب الفحص.

مثل: مَنْ شكَّ في كونه مستطيعاً للحجّ أو لا.

ومثل: مَنْ شكَّ في بلوغ أمواله مقدار النصاب.

ومثل: مَنْ شكَّ في طلوع الفجر مع عدم توقّف العلم على الفحص.

ومنها: مطلق الشبهات الموضوعية - إلاّ ما استثني - في نظر جملة من الفقهاء - ومنهم السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه), والسيد العم دام ظله.

والخلاصة: أنّه في جميع هذه الموارد يحكم العقل بتنجّز التكاليف الواقعية بصرف الاحتمال, وقبح المخالفة بمجرد ذلك, ولا يتوقّف الأمر على الوصول العلمي للتكليف - صغرى وكبرى.

فجعل الملاك في حكم العقل بقبح المخالفة, واستحقاق العقاب عليها, خصوصاً (وصول التكليف من حيث الصغرى والكبرى وصولاً علمياً) لا

ص: 157

يخلو من نظر, فتأمل.

وأمّا الثاني (وهو عدم تمامية البيان).

فبيانه: أنّ البيان لم يتم بعد؛ إذ ليس في المقام إلاّ العلم بالكبرى, وهو لا يكفي في مقام التنجّز.

وفيه: أنّ البيان بيانان: بيان تفصيلي, وبيان إجمالي.

والأول وإن لم يتحقق في المقام, إلاّ إنّ الثاني حاصل, وهو كافٍ في التنجّز.

الثاني: هل يمكن للشارع الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي أو لا؟
اشارة

وفي المقام نظريتان:

النظرية الأُولى: إمكان الترخيص.

النظرية الثانية: عدم إمكان الترخيص.

[النظرية الأولى: أمكان جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي]

إمكان الترخيص، وللترخيص طريقان:

الأول: تقييد الأحكام الواقعية بالعلم التفصيلي.

الثاني: جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي بلا تصرّف في الحكم الواقعي أصلاً.

فلنبحث في الطريقين:

1- تقييد الأحكام الواقعية بالعلم التفصيلي

وذلك بأن تكون الأحكام الواقعية مقيّدة بالعلم التفصيلي, فمع عدم العلم

ص: 158

التفصيلي ينتفي الموضوع, فينتفي الحكم.

والدور مندفع بأنّ العلم بالجعل مأخوذ في موضوع المجعول أو بأنّ ذلك مأخوذ على نحو نتيجة التقييد, وسيأتي بعض الكلام في أطراف ذلك إن شاء اللّه تعالى.

2- جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي بلا تصرّف في الحكم الواقعي أصلاً

وفي المقام نظريتان:

النظرية الأُولى: إمكان الجعل

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى ذلك, وأجاب عن كلام المشهور القائلين بتحقّق المناقضة - بالترخيص - بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال, والترخيص الظاهري وفي كلا الطرفين, بجوابين: نقضي وحلّي.

أما الجواب النقضي فهو يحتوي على شقّين:

الشقّ الأول: النقض بالترخيص في الشبهات البدوية.

فلو كانت هناك مناقضة بين التكليف الالزامي وجعل الترخيص لما أمكن الترخيص في الشبهات البدوية, كما لو شكّ أنّ هذا المائع نجس أو لا, فإنّ الشارع رخّص للمكلّف في الاقتحام, بقوله: (كل شيءٍ لك حلال)(1) و(كل شيء لك طاهر)(2).

إن قلتَ: فرق بين المقامين, فإنه في الشبهات البدوية لا قطع بالمناقضة،

ص: 159


1- الحدائق الناضرة 1: 49.
2- جواهر الكلام 1: 305.

بل المتحقّق احتمال المناقضة, وهذا بخلاف العلم الإجمالي فإنّ المناقضة قطعية.

قلتُ: المناقضة الإحتمالية كالمناقضة القطعية؛ وذلك لأنّ المناقضة مقطوعة العدم دائماً. فلا مجال لإحتمال تحقّقها, كما لامجال للقطع بتحقّقها.

فإذا كانت المناقضة القطعية ممتنعة, كانت المناقضة الاحتمالية ممتنعة. ولو كانت المناقضة الإحتمالية ممكنة, كانت المناقضة القطعية ممكنة أيضاً.

والسرّ في ذلك: إنّ إمكان المناقضة الإحتمالية كاشف عن كونها ليست (مناقضة) في الواقع. فإذا لم تكن مناقضة, كان قطعيها - كمحتملها - ممكناً.

وحيث إنّ المناقضة الاحتمالية - في الشبهات البدوية - ممكنة فالمناقضة القطعية - في أطراف العلم الإجمالي - ممكنة أيضاً.

والحاصل: أنّه إمّا أن يقال بجواز المناقضتين, أو يقال بامتناعهما, وحيث قيل بجواز إحداهما - وهي الاحتمالية - فلا بدّ من القول بجواز الأُخرى - وهي القطعية.

وبعبارة اُخرى: أنّ الشبهة البدوية والشبهة المحصورة من وادٍ واحد فكما يجوز الترخيص في الأُولى يجوز الترخيص في الثانية أيضاً, وما به التفصّي عن المحذور فيها كان به التفصّي في المقام.

هذا ولكن قد أشكل عليه في المصباح بقوله:

«إنّ الأحكام الشرعية لا مضادّة بينها في أنفسها, إذ الحكم ليس إلاّ

ص: 160

الاعتبار، أي اعتبار شيء في ذمّة المكلّف من الفعل أو الترك. ومن الواضح عدم التنافي بين الأمور الاعتبارية, وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ, بأن يقول المولى: افعل كذا ولا تفعل كذا, كما هو ظاهر, إنّما التنافي بينها في موردين:

(الأول) - في المبدأ (الثاني) في المنتهى.

والمراد بالمبدأ إمّا يُعبّر عنه بعلّة الحكم مسامحة من المصلحة والمفسدة, كما عليه الإمامية والمعتزلة, أو الشوق والكراهة, كما عليه الاشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

والمراد من المنتهى مقام الإمتثال. أمّا التنافي من حيث المبدأ؛ فلأنّه يلزم من اجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة مثلاً اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلّق بلا كسر وانكسار, وهو من اجتماع الضدين, ولا إشكال في استحالته, وكذا الحال في اجتماع الوجوب والترخيص, أو اجتماع الحرمة والترخيص, فإنّه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في شيء واحد, أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها, وهو من اجتماع النقيضين المحال.

إمّا التنافي بين الأحكام من حيث المنتهي وهو مقام الامتثال, فلعدم تمكّن المكلّف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر, فيقع التنافي والتضاد في حكم العقل بلزوم الامتثال.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في الشبهات البدوية أصلاً, لامن ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

ص: 161

أمّا من ناحية المبدأ فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس الحكم لا في متعلّقه, كما في الحكم الواقعي, سواء كان الحكم الظاهري ترخيصياً لمجرّد التسهيل على المكلّف, أو الزامياً لغرض آخر من الأغراض, فلا يلزم من مخالفته للحكم الواقعي اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد. وأمّا من ناحية المنتهى؛ فلأن الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي وعدم تنجّزه؛ لعدم وصوله إلى المكلّف, فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلّف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله, فلامانع من امتثال الحكم الظاهري. وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلّف وحكم العقل بلزوم امتثاله لايبقى مجال للحكم الظاهري؛ لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

وبعبارة اُخرى حكم العقل بلزوم الامتثال إنّما هو بعد وصول الحكم إلى المكلّف, بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ووصول كلا الحكمين إلى المكلّف في عرض واحد محال؛ لكون الحكم الظاهري دائماً في طول الحكم الواقعي, فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلاّ بلزوم امتثال الحكم الواقعي، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لايحكم العقل إلاّ بلزوم امتثال الحكم الظاهري, فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال أبداً.

هذا بخلاف الحكم الظاهري المجعول في أطراف العلم الاجمالي, فإن التنافي - بينه وبين الحكم الواقعي الواصل بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال

ص: 162

- واضح, كما تقدّم من عدم الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي والإجمالي, فإنْ كان الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي المعلوم بالإجمالي على ماهو المفروض لزم محذور اجتماع الضدين في مقام الامتثال, فكيف يقاس المقام بالشبهة البدوية»(1).

وفيه: أنّ نفس الملاك الذي يتكفّل برفع التنافي بين الحكم الواقعي والترخيص الظاهري في مرحلة المبدأ, يتكفّل برفع التنافي بين الحكمين في مرحلة «المنتهى».

بيان ذلك: أنّه إذا فُرِضَ وجود مفسدة في متعلّق الحكم الواقعي - كشرب النجس مثلاً - أنشأ الشارع حكمه الواقعي بتحريم الشرب.

وإذا فُرِضَ وجود مصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي - كالتسهيل على المكلّفين مثلاً - أنشأ الشارع حكمه الظاهري بجواز ارتكاب جميع الأطراف.

ولا منافاة بين الحكمين في مرحلة المنتهى؛ لأنّ الحرمة إنشائية, والترخيص فعلي.

والمنافاة إنّما تتحقق بين حكمين إنشائيين, أو حكمين فعليين, لا بين حكم إنشائي وآخر فعلي.

وبعبارة أُخرى: الملاكات الواقعية ربما يحصل بينها التزاحم.

وفي التزاحم يقدّم الأهم من الملاكات - إن كان, وإلاّ كان الحكم هو التخيير - فلو فرض أنّه في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي كان ملاك

ص: 163


1- مصباح الأصول 2: 72- 73.

الحكم الواقعي ثابتاً, إلاّ أنّه كان مزاحماً بملاك أهم يقتضي الترخيص.

فالشارع يُنشئ الحرمة الإنشائية الواقعية للمتعلّق - مثلاً - باعتبار وجود ملاكها فيه.

والإباحة الفعلية الظاهرية في الاقتحام في كلا الطرفين باعتبار رجحان ملاك الترخيص على ملاك الخطر بلحاظ مرحلة الفعلية.

ومآل ذلك إلى تقييد فعلية الحكم الواقعي بكونه معلوماً بالتفصيل.

إن قلتَ: إنّ ذلك خلاف ما قام عليه الإجماع من اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام الواقعية.

قلتُ: القدر المتيقّن من الإجماع الاشتراك في الحكم الإنشائي, لا الحكم الفعلي.

إن قلتَ: إنّ تقييد الفعلية بالعلم التفصيلي دوري.

قلتُ: لا إشكال في ذلك إذا كان بنحو «نتيجة التقييد».

ومع الإشكال في ذلك, فاختلاف المرتبة كفيل برفع الدور, إذ أخذ العلم التفصيلي بالحكم الإنشائي في موضوع الحكم الفعلي.

إن قلتَ: لو كان الحكم الواقعي إنشائياً محضاً فلا يجدي تعلّق القطع به, أو قيام الأمارة عليه في صيرورته فعلياً.

قلتُ: الحكم الإنشائي جُعِلَ في المقام على نحو لو علم به المكلّف أصبح فعلياً, فتأمل.

هذا ولكن قد يقال: بأنّ هذا التصوير خروج عن موضوع المسألة؛ لأنّ موضوع المسألة هو وجود «العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي».

ص: 164

وقد فرض أنّه لاعلم إجمالي بالتكليف الفعلي؛ إذ لا تكليف فعلي فإنّ ماذكر يؤول إلى أخذ «العلم التفصيلي في موضوع فعلية الأحكام الشرعية».

فإذا انتفى العلم التفصيلي انتفى الموضوع, وبانتفاءه ينتفي الحكم, وبانتفاء الحكم ينتفي العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي, بل ينقلب إلى علم تفصيلي بعدم التكليف الفعلي.

وموضوع المسألة هو العلم بتكليف يريده المولى - فعلاً - ولم يرفع يده عنه, ولا يتحقّق ذلك إلاّ بإطلاق الموضوع, وعدم كون العلم التفصيلي قيداً فيه.

وحينئذٍ: لا يمكن للشارع أن يحكم على المكلّف - حكماً فعلياً - بالاجتناب عن الحرام الواقعي الموجود في البين, ثُمَّ يقول له: رخّصت لك في الاقتحام في كلا الطرفين.

اذاً: الفرق موجود بين الشبهة البدوية والعلم الإجمالي, في إمكان جعل الترخيص في الشبهة البدوية, لعدم التنافي في مرحلة المنتهى, وعدم إمكان جعل الترخيص في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي, للمتنافي فيها.

وبعبارة اُخرى: نتسائل هل العلم التفصيلي مأخوذ في موضوع الحكم الفعلي أو لا؟

فإن أُخِذَ فيه كان خروجاً عن موضوع البحث وهو «العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي إذ لاتكليف فعلي مع انتفاء العلم التفصيلي».

وإن لم يُؤخذ منه كان الحكم الواقعي فعلياً فكيف يرخّص في ترك امتثاله؟ وهل هو إلاّ اجتماع المتناقضين أو المتضادّين؟

نعم، قد يقال: إنّ ذلك وإن كان صحيحاً لو لوحظ البحث الأُصولي في حدِّ نفسه إلاّ أنّ البحث الاصولي بحث مقدّمي من أجل تطبيقه على

ص: 165

الصغريات الفقهية.

وحينئذٍ فنقول: إنّه لو علم المكلّف بوقوع قطرة دم في أحد الاناءين, فهل يستطيع الشارع أن يرخّص له في شرب كلا الاناءين, مع حكمه بتحريم شرب النجس؟

والجواب: نعم؛ لأنّ مآل ذلك إلى تقييد (لا تشرب النجس) - في مرحلة الفعلية - بالعلم بالتفصيلي، فلا امتناع في الترخيص.

وبعبارة اُخرى: ليس في المقام أكثر من إطلاق أدلّة الأحكام الواقعية في مرحلة الفعلية, والاطلاق قابل للتقييد.

فكما يستطيع الشارع أن يقول بدواً: (النجس المعلوم تفصيلاً يجب - فعلاً- الاجتناب عنه).

كذلك يستطيع أنْ يقول: (النجس يجب - فعلاً - الاجتناب عنه) - ومن الواضح أنّ لهذا الدليل اطلاق يشمل صورة العلم التفصيلي والإجمالي.

ثم يقيّد الشارع هذا الاطلاق - في مرحلة الفعلية - بقوله: (كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)(1).

وبالنتيجة يكون المآل التفصيلي:

بين انحفاظ الموضوع «الترخيص في أطراف الحكم الواقعي الفعلي المعلوم بالإجمال»، فلا يمكن الترخيص. وبين عدم انحفاظ الموضوع فيمكن الترخيص، ولعلّه بما ذكرنا يمكن وقوع الصلح بين الطرفين, وارتفاع الخلاف من البين؛ إذ يعود الخلاف لفظياً حينئذٍ, فتأمّل.

ص: 166


1- الحدائق الناضرة 1: 140.

هذا وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تقرير آخر لإمكان الترخيص في الاحتمال الرابع من محتملات عبارة صاحب الكفاية في جوابه الحلّي.

الشق الثاني: النقض بالنتيجة غير المحصورة.

فلو اشتبه النجس بين أفراد غير محصورة, وأجاز المولى ارتكاب بعض الأطراف, فإنّه مع فعليّة التكليف الواقعي أجاز الشارع المخالفة الاحتمالية.

وقد سبق أنّه لافرق بين المناقضة القطعية والاحتمالية, ولو قيل بجواز ارتكاب جميع الأطراف تدريجاً كانت هنالك مناقضة قطعية للتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال, فيكون الأمر أوضح.

وفيه: أنّ هذا النقض قد يرد على مَن يرى موضوعية هذا العنوان (عنوان الشبهة غير المحصورة) - بما هي شبهة غير محصورة - في تسويغ جواز الاقتحام في بعض الأطراف أو كلّها.

أما لو قيل: بأنّ هذا العنوان لا موضوعية له في جواز الاقتحام, إذ لم ترد لفظة (الشبهة غير المحصورة) في آيةٍ كريمة, أو روايةٍ شريفة, وإنّما هي من العناوين المستحدثة.

فلا يرد الإشكال، إذ لا يجوز الإقتحام - حينئذٍ- مطلقاً في الشبهة المحصورة بما هي غير محصورة، بل يكون مدار جواز الاقتحام: مايلازم هذا العنوان - عادة - أو يقارنه من العناوين الطارئة الرافعة للتكليف.

مثلاً: لو كان الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة غير المحصورة موجباً للضرر, أو الحرج أو العسر أذِنَ الشارع في الاقتحام؛ وذلك لحكومة (لا ضرر) ونحوه على الأحكام الأولية، فيرتفع الحكم بوجوده.

ص: 167

فجواز الاقتحام إنّما هو لانتفاء الحكم, كما يجوز الاقتحام مع العلم التفصيلي بالحرمة إذا طرء عنوان الحرج أو الضرر أو العسر - بالشرائط المقرّرة في محلّه -.

وكذا إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء, إذ في هذه الحالة ينتفي العلم بالتكليف؛ لأنّ النجس الواقعي إن كان في الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء لم يمكن ثمّة تكليف في متن الواقع؛ لأنّ التكليف تكليفٌ بالاجتناب غير المقدور, وهو - كالتكليف بفعل غير المقدور - قبيح, فتعود الشبهة بدوية، ويجري فيها ما ذكرناه في الشبهة البدوية.

والخلاصة: أنّ المدار ليس عنوان (الشبهة غير المحصورة) بما هي هي, وإنّما على القارئ المقارنة الرافعة للتكليف, فينتفي حينئذٍ التكليف, وبانتفاءه لا يكون الترخيص مناقضة قطعية, أو احتمالية.

فلا يصحّ قياس أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة بالشبهة غير المحصورة.

وأما الجواب الحلّي: فخلاصته انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري مع العلم الإجمالي.

قال صاحب الكفاية: ولا يبعد أن يقال: إن التكليف حيث لم ينكشف به(1) تمام الإنكشاف(2) وكانت مرتبة الحكم الظاهري(3) معه محفوظة جاز

ص: 168


1- أي بالعلم الاجمالي (منه (رحمه اللّه) ).
2- بل كان مجملاً من حيث المتعلق (منه (رحمه اللّه) ).
3- وهي الجهل بالتكليف الواقعي (منه (رحمه اللّه) ).

الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً(1).

وقد أشكل فيه المحقّق الأصفهاني بأنّه ما الملحوظ في مقولة إنحفاظ المرتبة؟

واحتمل فيه إحتمالات أربعة:

الاحتمال الأول: أن يكون ذلك بلحاظ تعليقية حكم العقل بالاستحقاق على عدم المؤمّن من الشارع كما توهّم.

وأورد عليه: بأنّ مخالفة التكليف المعلوم ظلم عليه, وهو قبيح بالذات, وتخلّف الذاتي عن ذي الذاتي محال, فلا حكم من العقل هنا بنحو الاقتضاء والتعليق, بل بنحو العلّية والتنجّز(2).

وقد ذكر سابقاً: أنّ هتك حرمة المولى والظلم عليه من العناوين القبيحة بالذات, وتخلّف الذاتي عن ذي الذاتي محال. بداهة أنّ كل عنوان محكوم عليه بالقبح:

1- إمّا أن يكون بنفسه وبعنوانه موجباً للذم والعقاب.

2- أو بما هو منتهٍ إلى عنوان كذلك.

وذلك للزوم انتهاء كل ما بالعرض إلى ما بالذات.

وعنوان (الظلم) من العناوين التي بنفسها وبعنوانها - من غير انتهائها إلى عنوان آخر - يحكم عليه بالقبح.

فلو فرض حفظ عنوانه دون حكمه لزم التخلّف, وهو خلف.

ص: 169


1- كفاية الأصول: 272.
2- نهاية الدراية 3: 96.

بخلاف عنوان الكذب فإنّه لو خلّي وطبعه يقتضي القبح, ولكن إذا عرض عليه عنوان الإصلاح كان حسناً مع أنّ عنوانه محفوظ عند طروّ العنوان الحسن.

ومنه تبيّن أنّ مخالفة المولى مالم تتصف بعنوان الهتك والظلم لاتوجب الذم والعقاب - ولو اقتضاءً - حيث إنّها لو خليت ونفسها لا تندرج تحت عنوان الظلم, بل إذا قامت الحجّة على التكليف.

فما لم تتّصف المخالفة بعنوان الظلم لا موضوعية لها للحكم بالقبح أصلاً, ومع اتصافها بعنوان هتك الحرمة والظلم يستحيل التخلّف, فلا يكون هذا الحكم العقلي على نحو الاقتضاء, بل على نحو العلّية, بنحو التنجيز لا بنحو التعليق.

ويمكن التنظير بالعلم التفصيلي, حيث إنّه لا يمكن الإذن في المخالفة, فإنّه إذن في الظلم والمعصية, وهو قبيح, نعم يمكن رفع الشارع يده عن الحكم, فيكون انتفاء القبح من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع, كما يمكن رفع جميع الأمور الانتزاعية يرفع منشأ انتزاعها.

وهكذا الأمر في العلم الإجمالي هذا, وما ذكره وإن كان صحيحاً في الجملة, إلاّ أنّ انطباقه على عبارة صاحب الكفاية لا يخلو من غموض.

الاحتمال الثاني: أن يكون انحفاظ المرتبة بلحاظ إناطة الإنشاء الواقعي بوصوله تفصيلاً في صيرورته بعثاً وزجراً شرعاً.

ومرجع ما ذكر إلى جعل العلم التفصيلي شرطاً في بلوغ الإنشاء الواقعي إلى درجة الحكم الفعلي الحقيقي, أو جعل الجهل التفصيلي مانعاً عن

ص: 170

بلوغه كذلك.

وأورد عليه: بأنّ الكلام في العلم الطريقي المحض لا في العلم المأخوذ في الموضوع.

وإلاّ فالعلم التفصيلي أيضاً يمكن أن لا يكون منجّزاً, لإناطة الإنشاء في الباعثية والزاجرية بعلم تفصيلي حاصل من سبب خاص أو في مورد مخصوص.

وقد سبق: أنّ الكلام هنا متمحّض في الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي(1).

وفيه: أنّ كون الكلام في ذلك أوّل الكلام.

وقد سبق: أنّ بحث العلم الإجمالي ينبغي أن يلحظ بما هو مقدّمة للتطبيق على الصغريات الفقهية, فراجع.

نعم, هذا التفسير لا ينسجم مع ظاهر عبارة الكفاية, إذ ظاهرها أنّ للعلم الإجمالي خصوصية, وهي عدم إنكشاف الواقع معه تمام الانكشاف, وانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري معه, والتفسير المذكور مشترك بين العلم الإجمالي والتفصيلي.

الاحتمال الثالث: أن يكون بلحاظ عدم وصول غرض المولى إلى حدًّ ينافيه جعل الحكم الظاهري في أطرافه(2).

ص: 171


1- نهاية الدراية 3: 96- 97.
2- وقد طرح المحقّق الأصفهاني هذا الوجه في ذيل الوجه القادم كتقريب للفعلي من وجه, والفعلي بقولٍ مطلق (منه (رحمه اللّه) ).

قال في النهاية نقلاً عن صاحب الكفاية في البحث, وفي أوائل هذه المباحث: «إنّ الغرض من التكليف تارةً, يكون بجدًّ يوجب قيام للمولى مقام البعث وإيصاله إلى المكلّف ولو بنصب طريق موافق أو إيجاب الاحتياط, فمثله لايجوز الترخيص في خلافه, فأنّه نقض للغرض, وأخرى لا يكون بذلك الحد, بل بحيث إذا وصل من باب الإتفاق لتنجّز وكان سبباً لتحصيل الغرض من المكلّف, فمثله يجوز الترخيص في خلافه وسدّ باب وصوله, وأدلّة الأُصول الشاملة لموارد العلم الإجمالي كاشفة عن أنّ الغرض من سنخ الثاني وليس مثلها في مورد العلم التفصيلي»(1).

وأورد عليه: بأنّ هذا التفصيل يجدي في الحكم على خلاف الحكم الواقعي, لا على خلاف الحكم الواصل من باب الاتّفاق, مع حكم العقل بعدم الفرق بين أنحاء الوصول(2).

وفيه: أنّه يمكن كون الغرض بحدٍ لا يوجب قيام المولى مقام البعث نحوه إلاّ مع العلم التفصيلي.

وبعبارة اُخرى: الغرض على ثلاثة أنواع:

1- شديد.

2- ومتوسّط.

3- وضعيف.

ص: 172


1- نهاية الدراية 2: 100.
2- نهاية الدراية 2: 100.

فالغرض الشديد يقتضي قيام المولى مقام البعث, ولو في الشبهة البدوية؛ وذلك بإيجاب الاحتياط -مثلاً- كما في الدماء مثلاً، وقد ذكر ما ينفع المقام في بحث «العنوان والمحصّل».

والغرض المتوسّط يقتضي قيام المولى مقام البعث, مع حصول العلم مطلقاً, ولو من باب الاتفّاق, ولايقتضي القيام مقام البعث في الشبهات البدوية وذلك كما في أبواب الطهارة والنجاسة والحلّية و الحرمة, مثلاً.

والغرض الضعيف يقتضي قيام المولى مقام البعث في خصوص صورة العلم التفصيلي, ولا يقتضي القيام مقام البعث لا في الشبهات البدوية ولا في صورة العلم الإجمالي.

ويمكن التنظير للمقام بإرادة الإنسان الكتاب المعيّن, فإن علم به تفصيلاً أخذه, وإن علم به إجمالاً في ضمن عدّة كتب ترك البحث عنه.

وكما يصحّ هذا في الإرادة التكوينية, كذلك يصحّ في الإرادة التشريعية - كما في قول المولى للعبد: «ائتني بالكتاب الكذائي».

فإنّ وزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية, إلاّ إنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بتحريك المريد عضلات نفسه نحو المطلوب, والإرادة التشريعية تتعلّق بتحريك المريد عضلات المكلّف باختياره نحو المطلوب.

وفيه: إنّ مآل ذلك إلى الوجه الثاني أو الرابع, فليس وجهاً آخر في قبالهما.

وبعبارة اُخرى نقول: هل الغرض الواقعي للمولى يشمل صورة العلم

ص: 173

الإجمالي أو لا؟

فإنْ شمله كان جعل الأُصول الترخيصية تفويتاً للغرض - وإن كان في منتهى درجات الضعف - .

وإن لم يشمله لم يكن حكم, إذ الحكم تابع للغرض, ولا يُعقل إطلاق الحكم مع تقييد الغرض.

وبعبارة ثالثة: نقول: قولكم (بحيث إذا وصل من باب الاتّفاق لتنجّز) يراد به مطلق الوصول أو الوصول التفصيلي, فإن اُريد الأول فقد تحقق.

وإن أريد الثاني فهذا كاشف عن أنّ الغرض لا يتحقق إلاّ في صورة العلم التفصيلي, وحيث أنّ الحكم تابعه - في سعته وضيقه - للغرض يكون ثبوت الحكم خاصاً بصورة العلم التفصيلي.

الاحتمال الرابع: أن يكون بلحاظ فعلية الحكم الواقعي من وجه, وفعلية الحكم الظاهري من جميع الوجوه.

قال المحقق الأصفهاني: «وإن كان انحفاظ المرتبة بلحاظ فعليّة الحكم الواقعي من وجه, وفعليّة الحكم الظاهري من جميع الوجوه, ولا منافاة بين الفعليّة المطلقة ومطلق الفعلية, بل بين الفعليين من كلّ وجه وهو الفعلي بقولٍ مطلق وهذا هو المراد هنا كما نصّ عليه في مبحث الاشتغال»(1).

وقبل المناقشة في ذلك لا بأس ببيان كيفية نشوء نظرية «الفعلي من وجه دون وجه» على نحو الإجمال والاختصار.

ص: 174


1- نهاية الدراية 2: 99.

فنقول: إنّ هذه النظرية نشأت كمحاولة لحلّ مشكلة التناقض بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري وقد ذكر صاحب الكفاية ما توضيحه:

أن الحكم الواقعي يمكن افتراض كونه بأحد أشكال ثلاثة:

1- أن يكون الحكم الواقعي إنشائياً محضاً.

وهذا الفرض لا يمكن القول به؛ لأنّه لو كان كذلك لظلّ إنشائياً محضاً حتّى بعد تعلّق العلم به، أو قيام الأمارة عليه.

توضيحه: العلم الوجداني والتعبّدي كاشفان عن الواقع لامبدّلان للواقع عمّا هو عليه, فدورهما دور الكشف لا القلب والتغيير والتبديل والتحويل.

فإذا تعلّق العلم بحكم اقتضائي ظلّ اقتضائياً, أو بحكم إنشائي ظلّ إنشائياً.

فلو فرضنا أنّ الحكم الواقعي لهذا الإناء المشكوك نجاسته بالشبهة البدوية حكم إنشائي محض فقامت الأمارة على كونه محرّماً لم يصبح الحكم فعلياً؛ لأنّه لو أصبح فعلياً لزم انقلاب المعلوم بالعلم, والمفروض انكشاف المعلوم بالعلم.

2- أن يكون الحكم الواقعي فعليّاً من جميع الجهات.

وهذا الفرض لا يمكن القبول به أيضاً؛ إذ كيف يمكن أن يجتمع حكمان فعليان تامّا الفعلية متضادّان؟ فإن الفعليتين التامّتين المتضادّتين لا يمكن اجتماعهما.

3- أن يكون الحكم الواقعي فعليّاً من جهة دون جهة.

ولا مانع من اجتماعه مع حكم فعلي تام الفعلية - أي الحكم الظاهري-

ص: 175

ويمكن تصوير ذلك بأحد نحوين:

1- أنّ الشرط أمرٌ وجودي.

أي أنّه لو علم به أصبح فعلياً من جميع الجهات وتنجّز.

2- أنّ الشرط أمر عدمي.

أي أنّ الفعلية المطلقة مشروطة بعدم قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف, فمع عدم قيام الأمارة أو الأصل يكون فعليّاً من جميع الجهات.

أما لو قام أحدهما على الخلاف فيظلّ فعلياً من جهةٍ دون جهة. وإذا فرض الإشكال في التصوير الأول, فإنّ التصوير الثاني لا إشكال فيه.

وبعبارة اُخرى: الحكم الواقعي مقتضٍ, وقيام الأمارة مانع والمقتضي يخفى مع (العلّة التامّة على الخلاف).

وهذا الاحتمال (الرابع) قد ناقش فيه المحقق الاصفهاني بقوله: «إنّ الفعلي من وجه بهذا المعنى إنّما يمكن جعل حكم فعلي مطلق على خلافه, أو على وفاقه إذا كان محتملاً أو مظنوناً, فإنّه مالم تقم الحجّة عليه لا يكون فعلياً مطلقاً كي يلزم اجتماع الضدين والمثلين, وأمّا إذا قامت الحجّة عليه, فلا.

وقد بيّنا أنّ العلم الإجمالي في حدّ العلمية كالعلم التفصيلي, ولافرق في الوصول المقوّم للباعثيّة الفعليّة والزاجريّة الفعليّة بين الوصول التفصيلي والإجمالي.

ومع كفاية هذا المقدار من الوصول عقلاً في تحقّق البعث والزجر, فلا يُعقل بعث آخر، أو زجر آخر، أو ترخيص على خلاف الحكم الواصل»(1).

ص: 176


1- نهاية الدراية 3: 97.

وهذه المناقشة يمكن توضيحها ببيان أمرين:

الأمر الأول: أنّ الفعلية لها معنيان:

1- الفعلية من قبل المولى.

2- الفعلية بقول مطلق (أو من جميع الوجوه).

ومقوّم الأُولى: الإنشاء بداعي جعل الداعي.

ومقوّم الثانية: قيام الحجّة عليه.

توضيحه:

أنّ إنشاء الحكم - بلحاظ الداعي - يمكن فيه إفتراضات ثلاثة:

1- أن يكون بلا داعٍ.

وهذا الإفتراض محال, لأنّ الإنشاء فعل اختياري, فيستحيل صدوره بلا داعٍ، ككل الأفعال الاختيارية.

2- أن يكون بغير داعي جعل الداعي, من الدواعي.

فلو كان كذلك لم ينطبق عليه عنوان (الأمر) و(النهي) و (البعث) و (الزجر)، بل كان مصداقاً لذلك الداعي.

فالإنشاء بداعي التهديد - كما في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}(1) تهديد.

والإنشاء بداعي التعجيز - كما في قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}- تعجيز(2).

ص: 177


1- فصلت: 40.
2- البقرة: 23.

ويستحيل أن ينقلب عمّا هو عليه, فيصير بعثاً حقيقياً, وزجراً حقيقياً, وحكماً واقعياً. فليس المنشأ بهذا الداعي من مراتب الحكم الحقيقي.

3- أن يكون بداعي جعل الداعي.

وهذا وإن لم يكن قبل الوصول مصداقاً للبعث والزجر الفعليين.

لكنه فعليّ بمعنى آخر, أي أنّه هو تمام مابيد المولى, وتمام ما يتحقّق من قبله فيكون الحكم قد تكامل من جهة المولى - بما هو مشرّع وحاكم.

نعم, لو قامت الحجّة على هذا الإنشاء صار مصداقاً للبعث والزجر الفعليين, وأصبح فعلياً بقول مطلق.

الأمر الثاني: أنّ الفعلي من قبل المولى إنّما يمكن جعل حكم فعلي مطلق على خلافه، إذا لم تقم الحجّة عليه فلم يصل إلى درجة الفعلية المطلقة.

كما في التكاليف المشكوكة, أو المظنونة بظنًّ غير معتبر؛ وذلك لعدم المنافاة بين (الفعلي من وجه) و (الفعلي من جميع الوجوه).

أمّا إذا قامت الحجّة عليه, فإنّه يصل إلى مرتبة «الفعلية المطلقة» فلايمكن جعل حكم فعلي مطلق على خلافه؛ لأنّه يوجب اجتماع الفعليتين المطلقتين, وهو محال.

إذا تبين ذلك فنقول: إنّ العلم الإجمالي مصداق من مصاديق «الحجّة», وبه يصل (الفعلي من وجه) إلى المكلّف, فيصير (فعلياً من جميع الوجوه)، فلا يُعقل جعل حكم فعلي مطلق في قباله.

والخلاصة:

ص: 178

أنّ الحكم الواقعي وصل إلى درجة الفعلية المطلقة بالعلم الإجمالي, فلا يُعقل جعل حكم فعلي مطلق يقتضي الترخيص في الاقتحام في كل أطرافه.

هذا ولكن ما ذكره لا يخلو من تأمّل.

وبيانه مركّب من كبرى وصغرى.

أما الكبرى فهي أنّ قيام الحجّة على نوعين:

1- القيام على ثبوت المقتضي.

2- القيام على ثبوت العلّة التامّة.

فإذا فرض قيام الحجّة على صرف (ثبوت المقتضي) فلا مانع من جعل (حكم فعلي من جميع الجهات) على ضدّه.

فإنّه لامنافاة بين (ثبوت المقتضي لشيءٍ) و(تحقّق ضدّه لوجود علّته التامّة).

وبعبارة اُخرى: (إن كان الفعلي من قبل المولى منوطاً بشرط) فلا تتحقّق الفعلية المطلقة بمجرّد العلم به. بل تفتقر إلى تحقّق ذلك الشرط خارجاً - أيضاً.

وأمّا الصغرى: فلأنه يمكن فرض (إناطة فعلية الحكم الواقعي) ب- (عدم قيام الأمارة أو الأصل على ضدّه).

فمع قيام الأمارة أو الأصل على الضدّ - في صورة الشكّ - لايصل الحكم الواقعي إلى درجة الفعليّة المطلقة, فيمكن جعل حكم فعلي مطلق - يقتضي الترخيص في الاقتحام في كلا الطرفين - على ضدّه؛ هذا ثبوتاً.

وأما إثباتاً - وإن كان خارجاً عن محل الكلام فعلاً - فإنّه قد يُدّعى: بأنّ

ص: 179

موضوع الحكم الظاهري - المأخوذ في لسان أدلّته - قد تحقّق.

ففي مثال الإناءين اللذين نعلم بوقوع قطرة من الدم في أحدهما نقول: إنّ الإناء الأول مشكوك, فيكون مصداقاً ل- (كلّ شيء لك حلال), والإناء الثاني مشكوك, فيكون مصداقاً لنفس الأصل, والجامع وإن كان معلوم الحرمة, إلاّ إنّ المقصود إجراء الأصل في الفرد لا في الجامع.

فهنا من ثبوت الترخيص في كلا الطرفين نستكشف عدم وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية التامّة.

والخلاصة: أنّ ثبوت موضوع الأصل العملي كاشف عن عدم فعلية الواقع التامّة.

وبعبارة اُخرى: إنّ تحقّق موضوع الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي كاشف إنّي عن عدم كون الحكم الواقعي فعلياً من جميع الجهات, بل هو فعلي من جهةٍ دون اُخرى.

نعم, لو لم يثبت حكم الأصل يرتفع المانع عن فعلية التكليف, فيكون العلم به منجّزاً.

وهذا هو معنى اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز, فالمراد به أنّه يكون منجّزاً لو لم يمنع عنه مانع.

ومنه يعلم: أنّ العلم الإجمالي ليس كالشكّ الذي لايؤثّر في التنجيز أصلاً؛ إذ أنّه مؤثّر فيه بالوجدان مع عدم وجود المانع؛ والدليل على ذلك صحّة مؤاخذة العبد لو اقتحم في أطراف العلم الإجمالي.

وليس كالعلم التفصيلي في كونه علّة تامّة للتنجيز - لعدم انحفاظ مرتبة

ص: 180

الحكم الظاهري في مورد العلم التفصيلي, فلا يظلّ هنالك مانع من فعلية التكليف - بل هو(1) مقتضٍ للتنجيز, ومعنى الاقتضاء أنّه منجّز للتكليف إنْ لم يمنع عن ذلك مانع.

والمانع عن ذلك شمول الأصل للطرفين الكاشف عن عدم كون الحكم الواقعي تامّ الفعلية, فلا يكون العلم به منجّزاً.

والخلاصة: أنّه أخذ «عدم قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف» في موضوع الفعلية(2). ومن كلّ ذلك يظهر الفرق بين العلم التفصيلي و الإجمالي.

فمرتبة الحكم الظاهري ليست منحفظة مع العلم التفصيلي؛ لعدم وجود الشك, مع انحفاظها في صورة العلم الإجمالي, لوجود الشكّ.

هذا ولكن قد يقال: بإنّ البحث يعود لفظياً؛ إذ المراد ب- (العلم الإجمالي) إن كان (العلم الإجمالي بالتكليف الذي وجدت علّته التامّة) - وذلك بتحقّق شرائط الموضوع وانتفاء الموانع - فلامجال للترخيص.

وإن كان المراد: (العلم الإجمالي بالمقتضي وحده) فالترخيص ممكن... وسوق باقي الكلام يُعلم ممّا مضى, فتأمّل.

النظرية الثانية: عدم إمكان جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي

أ- وممّن ذهب إلى ذلك المحقّق النائيني (رحمه اللّه) قال - كما في أجود التقريرات - : «.. وأمّا صحّة جعل الحكم الظاهري في مورد العلم الإجمالي

ص: 181


1- أي العلم الإجمالي.
2- منتقى الأصول 4: 122.

مع عدم التصرّف في الواقع أصلاً, فالحقّ عدمها في الأُصول التنزيلية مطلقاً, وفي غيرها إذا لزم من جريان الأُصول المخالفة العملية. فالمحذور في جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ:

أحدهما: لزوم التناقض من جريانه, وهذا لا يتحقّق إلاّ في موارد الأُصول التنزيلية.

ثانيهما: لزوم المخالفة القطعية, وهذا لا يتحقّق إلاّ في موارد العلم بثبوت التكليف لا نفيه.

وتوضيح ذلك: أنّ الأصل الجاري في أطراف العلم الإجمالي إمّا أن يكون من الأُصول المحرزة متكفّلاً للتنزيل أم لا؟ وعلى كلٍّ من التقديرين فإمّا أن يكون العلم الموجود المخالف لمؤدّى الأصل مثبتاً للتكليف, أو نافياً له, فالصور أربع:

أما الصورة الواحدة منها - وهي ما إذا كان العلم نافياً للتكليف مع كون الأصل غير متكفّل للتنزيل - فلا مانع من جريان الأصل فيها, وهذا كما إذا علم إجمالاً بملكيّة أحد المالين له, أو بزوجية إحدى المرأتين له, أو بمهدورية دم أحد الشخصين, فإنّ الأُصول الجارية في تلك الموارد - وهي أصالة حرمة التصرف في الأموال، وأصالة حرمة ترتيب آثار الزوجية، وأصالة حرمة القتل - غير متكفّلة للتنزيل حتّى يلزم من جريانها المناقضة للمعلوم بالإجمال الموجود في مواردها, ولا العلم الإجمالي مثبت للتكليف فيها حتّى يلزم من الأُصول الجارية المخالفة له مخالفة عملية, فكلا المحذورين المذكورين مرتفع في هذه الصورة.

ص: 182

وأما بقية الصور فالمحذور من جريان الأصل [في الأطراف] في بعضها لزوم المخالفة العملية فقط, وفي بعضها خصوص لزوم التناقض, وفي بعضها كلاهما معاً.

ففيما [إذا] كانت الأُصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي من الأُصول النافية ولكنّها لم تكن من الأُصول المحرزة - كما إذا علم بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين غير المعلوم حالتهما السابقة - فيلزم من اجرائها تجويز المخالفة القطعية ليس إلاّ؛ إذ المفروض أنّ الأصل القابل للجريان في أطراف العلم - في المثال - ليس إلاّ أصالة الطهارة, وحيث إنّها ليست من الأُصول المحرزة فلا تكون مناقضة للنجاسة المعلومة اجمالاً, إلاّ إنّه يلزم من جريانها في كلًّ من الطرفين تجويز المخالفة القطعية للنجاسة المعلومة في البين إجمالاً.

وفيما إذا كانت الأُصول من الأُصول المثبتة وكانت من الأُصول المحرزة أيضاً, فيلزم من إجرائها في أطراف العلم الإجمالي التناقض ليس إلاّ؛ كما إذا علم بطهارة أحد الإناءين المعلوم نجاستهما سابقاً, فإنّ الحكم ببقاء نجاسة كلّ من الإناءين وإن لم يلزم منه مخالفة عملية لتكليف معلوم إلاّ أنّه يناقض الحكم بالطهارة المعلومة في البين إجمالاً, فلا يكون قابلاً للتعبد في نظر المكلّف فلايمكن جعله.

وفيما إذا كانت من الأُصول المحرزة النافية للتكليف - كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين المعلوم طهارتهما سابقاً - فيلزم من جريانها في الأطراف المناقضة وتجويز المخالفة القطعية معاً.

ثمّ إن ترتّب تجويز المخالفة القطعية على جريان الأصل في أطراف

ص: 183

العلم الإجمالي فيما إذا كان نافياً للتكليف المعلوم في البين, وبطلان هذا اللاّزم من الوضوح بمكانٍ لا يحتاج معه إلى بيان.

وأما لزوم التناقض من جريان الأُصول المحرزة في أطراف العلم الإجمالي فربما يقال بعدمه؛ نظراً إلى أنّ مجرى الأصل إنّما هو كل واحدٍ واحدٍ من الأطراف المفروض عدم العلم بتحقق المعلوم بالإجمال فيه, فمرتبة جعل الحكم الظاهري محفوظة, والمناقضة اللاّزمة من مخالفة مفاد الأُصول للمعلوم بالإجمال هي المناقضة المتحققة في موارد الشبهات البدوية أيضاً.

نعم, لو كان كلّ واحد من الأطراف بحيث علم تحقّق المعلوم بالإجمال فيه, لما كان هناك مجال لجريان الأصل, وكان مناقضة مفاد الأصل للمعلوم من باب مناقضة الترخيص مع العلم التفصيلي, لكن أين ذلك من المقام غير المعلوم وجود المعلوم بالإجمال في كل من الأطراف؟

مثلاً: إذا علم بنجاسة أحد الإناءين المعلوم طهارة كلًّ منهما سابقاً, فإن كان مفاد استصحاب الطهارة فيهما هو البناء على عدم وقوع النجاسة فيهما رأساً, فلا إشكال في مناقضة ذلك للنجاسة المعلومة في البين إجمالاً, ولكنه ليس كذلك, بل مفاد الأصل هو الحكم بطهارة كلّ واحد واحد من الإناءين مع قطع النظر عن الآخر, وأين ذلك من المناقضة المذكورة؟

ولكنّه لا يخفى فساد ذلك؛ إذ الأصل الجاري في كل واحدٍ من الأطراف وإن لم يكن ناظراً إلى الأصل الجاري في الطرف الآخر إلاّ أنّه كيف يمكن الجمع بين مؤدّى الأصلين في حكم الشارع والبناء على طهارة

ص: 184

كلًّ منهما في زمانٍ واحد مع العلم بحكمه بنجاسة أحدهما واقعاً مع أنّه ليس الجمع بين المؤدّيين إلاّ عين نفي الحكم للمعلوم بالإجمال في البين!؟

والحاصل: أنّ مؤدّى كلّ من الأصلين وإن لم يكن مناقضاً للمعلوم بالإجمال بنفسه إلاّ أنّه مع ضمّ مؤدّى الأصل الآخر إليه في حكم الشارع يكون مناقضاً له لامحالة»(1).

وخلاصة الكلام

1- أنّ الأصل إن كان غير محرز وكان مثبتاً للتكليف, فجريانه لا يستلزم (لا المناقضة) و (لا المخالفة).

2- وإن كان غير محرز وكان نافياً للتكليف, فجريانه وإن لم يستلزم (المناقضة) إلاّ أنّه يستلزم (المخالفة).

3- وإن كان محرزاً ومثبتاً للتكليف, فجريانه يستلزم (المناقضة) وإن لم يستلزم (المخالفة).

4- وإن كان محرزاً ونافياً للتكليف, فجريانه يستلزم (المناقضة) و(المخالفة) معاً.

وفيه:

أوّلاً: أنّه لا مناقضة.

قال المحقّق العراقي: «لنا مجال النقض بمشكوكيّة كلّ واحد من الطرفين ومعلوميّة أحدهما, مع أنّ بين الشكّ واليقين كمال الناقضة, وحينئذٍ فلو ادّعى الطرف بأنّ مركز الترخيص هو المشكوك بلا سرايته إلى العنوان

ص: 185


1- أجود التقريرات 3: 89 - 92.

المعلوم, من أين يسري الترخيص إلى الجهة المعلومة»(1).

ولا يخفى أنّ الجواب نقضي, كما أنّه خاص بمحذور المناقضة.

وفيه: وجود الفرق بين المقامين, إذ اليقين والشكّ صفتان تتعلقّان بالمعلوم بالذات, ومتعلّق كل منهما يختلف عن متعلق الآخر، إذ هما صورتان ذهنيتان مختلفتان, وجميع الصور الذهنية يختلف بعضها عن البعض الآخر، وأمّا المعلوم بالعرض فليس اليقين والشكّ صفة حقيقية لهما, فلا يجتمعان في شيء واحد.

وأمّا ما نحن فيه: فالمفروض أنّ الشارع حكم بالنجاسة على أحدهما المعيّن المعلوم عند اللّه تعالى, وإن كان مجهولاً عندنا, لا على عنوان أحدهما ومفهومه الذهني، فإذا حكم - بالأصل المحرز - بطهارة كل واحد منهما اجتمع في النجس الواقعي الحكمان المتضادّان.

ثانياً: أنّه لامناقضة ولامخالفة. وتقريره يُعلم ممّا سبق.

وحاصله: أنّ الحكم الفعلي من قبل المولى يمكن أن يكون منوطاً بشرط، فلا تتحقّق الفعلية المطلقة بمجرّد العلم بالحكم, بل تفتقر إلى تحقّق ذلك الشرط خارجاً أيضاً, كما هو الشأن في جميع القضايا الشرطية، فإذا فُرِض إناطة فعلية الحكم الواقعي ب- (عدم قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف) فمع قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف لايصل الحكم الواقعي إلى درجة الفعلية المطلقة فيمكن جعل حكم فعلي مطلق على ضدّه, فترتفع

ص: 186


1- فوائد الأصول 3: 77.

- بذلك - المناقضة والمخالفة؛ إذ المناقضة إنّما تكون بين الفعليين من كلّ وجه. لا بين الفعلي من وجه, والفعلي من كلَّ وجه، والمخالفة إنّما تكون مع تحقّق الشرط لا بدونه, فراجع وتأمّل.

ب - وأما المحقّق العراقي فقد ذكر: أنّ الترخيص في المعصية قبيح، والترخيص في أطراف العلم الإجمالي مناقض - بحسب الارتكاز الوجداني - لما علم ثبوته في عهدة المكلّف.

قال: «وهو أمر مرتكز يكشف عن العليّة التامّة للتنجيز بالنسبة إلى العلم الإجمالي »(1).

وفيه:

أولاً: أنّه يتمّ بالنسبة إلى الأُصول النافية لا المثبتة.

وثانياً: أنّ المعصية إنّما تتحقق مع وجود الشرط لا بدونه, فمع عدم وجود الشرط وكون الحكم فعلياً من وجهٍ دون وجه لا يكون الإذن في الاقتحام إذناً في المعصية.

وكذا لو قيل بتقييد الأحكام الواقعية بالعلم التفصيلي - وإن كان خارجاً عن محل كلامه (رحمه اللّه) - .

الثالث: هل وقع الترخيص الظاهري في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي أو لا؟
اشارة

وهذا البحث إنّما تصل النوبة إليه إذا فُرض المصير إلى إمكان الترخيص - في المبحث الثاني -.

ص: 187


1- نهاية الأفكار 3: 46.

وإلاّ فمع اختيار الامتناع - ثبوتاً- لا تصل النوبة إلى الوقوع - إثباتاً - ولو فرض وجود مايدلّ على الترخيص فلا بدّ من رفع اليد عن ظاهره, لأجل القرينة العقلية القطعية على الخلاف, وعلى كلّ حال...فالقول بالوقوع مستند إلى إطلاقات أدلّة الأُصول العملية.

وقد أُجيب عن ذلك بوجوه
الوجه الأول: محذور المناقضة بين الصدر والذيل

إذ قد منع الشيخ (رحمه اللّه) من شمول أدلّة الأُصول العملية لأطراف العلم الإجمالي, بدعوى حصول المناقضة حينئذٍ بين إطلاق الصدر, وإطلاق الذيل في تلك الروايات.

وذلك لأنّ مقتضى اطلاق الصدر في مثل قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام»(1), هو جريان الأصل وثبوت الترخيص الظاهري في جميع أطراف العلم الإجمالي إذ كل واحد من الأطراف مشكوك فيه - مع قطع النظر عن الآخر.

ومقتضى إطلاق (العلم) في الذيل - الذي جعل غايته للحكم الظاهري - هو عدم جريان الأصل وعدم ثبوت الحكم الظاهري في أحد الإناءين المعلوم نجاسته بالعلم الإجمالي فتلزم - من ثبوت الإطلاقين - المناقضة بين الصدر والذيل؛ لأنّ السالبة الجزئية - المستفادة من الذيل - نقيض الموجبة الكليّة - المستفادة من الصدر. فلابد من رفع اليد عن أحد الإطلاقين.

ص: 188


1- تذكرة الفقهاء 12: 191.

وحيث أنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر فلا محالة تكون الروايات مجملة من هذه الجهة فلا يصحّ التمسك بها في المقام.

وفيه:

الإيراد الأول: إجمال الأدلّة المغيّاة لايسري إلى غير المغيّاة

أوّلاً: ما ذكره صاحب الكفاية في مباحث الإستصحاب:

من أنّه على تقدير إجمال هذه الروايات المذيّلة بذكر الغاية لامانع من التمسّك بالروايات التي ليس فيها هذا الذيل. كقوله (عليه السلام) : «رفع ما لا يعلمون»(1) وقوله (عليه السلام) : «الناس في سعة ما لا يعلمون»(2).

وإجمال دليل مغيّى لايسري إلى غيره ممّا ليس فيه الغاية المذكورة.

وقد يورد عليه بإيرادين:

الأول: (3) ظهور الروايات غير المغيّاة - عرفاً - في نفس مفاد الروايات المغيّاة فإن قوله (عليه السلام) : «رفع ما لايعلمون» مثلاً ينحلّ إلى قضيتين:

الأُولى: أنّ مالايعلمون مرفوع عنهم.

الثانية: أنّ ما يعلمون غير مرفوع عنهم.

فإذا شمل الحديث موارد العلم الإجمالي لزم التناقض, إذ كلّ طرف مشكوك فيه, فيكون الحكم مرفوعاً, وأحدهما معلوم, فلايكون الحكم مرفوعاً, وقال الشمول إلى التناقض في الدليل, كما في الروايات المغيّاة.

ص: 189


1- عوائد الأيام 2: 361.
2- الحدائق الناضرة 1: 43.
3- في الأصل (الإيراد الأوّل), لكننا حذفنا (الإيراد) حتى لا تختلط العناوين.

منتهى الأمر أنّ التناقض في الروايات المغيّاة متحقّق بين جملتين مختلفتين (الصدر والذيل) والتناقض في الروايات غير المغياة مستبطن في نفس الجملة الواحدة.

والدليل على ذلك: أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية, فتعليق الرفع على (عدم العلم) مشعر بعلّيته للرفع, وبانتفاء العلّة ينتفي المعلول, وبذلك يتم تكوّن القضيتين.

وفيه: أنّ مقتضى العلّية المزبورة (انتفاء شخص الحكم) عند (انتفاء الوصف).

ولا يكفي في تحقّق المفهوم ذلك, بل لابدّ من دلالة القضية على (انتفاء سنخ الحكم) عند (الانتفاء) ليكون للقضية مفهوم.

وبعبارة اُخرى: أنّ ثبوت المفهوم موقوف على دلالة القضية على انتفاء (طبيعي الحكم) عند (الانتفاء) ولا يكفي في ذلك دلالتها على انتفاء (الحصّة من الحكم) عند (الانتفاء).

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم الفقير) فالجملة مشعرة بعليّة الفقر لوجوب الإكرام.

ومقتضى العليّة المزبورة (انتفاء هذه الحصّة من وجوب الإكرام) عند انتفاء (الفقر)؛ وذلك لأنّ الموضوع بالنسبة إلى المعلول, كالعلّة بالنسبة إلى المعلول, وبانتفاء العلّة - أو ما هو كالعلّة - ينتفي المعلول - أو ماهو كالمعلول - قهراً.

إلاّ إنّ ذلك لا يدلّ على انتفاء (طبيعي وجوب الإكرام) عند انتفاء الفقر مع ثبوت العلم - مثلاً - إذ قد يجب إكرام العالم, بملاك آخر, غير الملاك الثابت في وجوب إكرام الفقير.

ص: 190

ففي المثال المزبور وإن إنتفى بالنسبة إلى العالم وجوب الحصّة الخاصة من الإكرام التي ثبتت للفقير, إلاّ إنّ ذلك لا ينفي وجوب حصّة اُخرى من طبيعي الإكرام متعلقة بالعالم بما هو عالم.

وعليه يكون (أكرم الفقير) ساكتاً عن إنتفاء طبيعي الإكرام وثبوته عند إنتفاء الفقر.

وهكذا لو قلنا: (محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) فإنّه وإن انتفت الحصّة الخاصة من الرسالة عن غير (النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) إلاّ أنّ هذه القضية لا تدلّ على انتفاء طبيعي الرسالة عن (المسيح بن مريم) - على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام -.

ففي مانحن فيه وإن ثبت ارتفاع الحصّة الخاصّة من (الرفع) في صورة إرتفاع (انتفاء العلم) إلاّ إنّ ذلك لا يدلّ على انتفاء (طبيعي الرفع) عند ارتفاع (انتفاء العلم) بل قد يكون الرفع ثابتاً مع وجود العلم - ولو في الجملة كما في موارد العلم الإجمالي -. وأما التمسك ب- (الظهور العرفي) فعهدته على مدّعيه.

فتحصّل أنّ الايراد الأول على ما ذكره صاحب الكفاية غير واضح.

الثاني:(1) أنّ المناقضة بين أطراف الدليل التعبّدي وإن لم تكن متحقّقة في الروايات غير المغيّاة إلاّ إنّ المناقضة متحقّقة بينها وبين أدلّة الأحكام الواقعية, كما أنّها متحقّقة بينها وبين الحكم العقلي بلزوم العمل وفق القطع.

ص: 191


1- حذفنا كلمة (الإيراد) حتى لا تختلط العناوين.

بيانه:

أنّ قوله (عليه السلام) : «رفع ما لا يعلمون» - وأمثاله من الروايات غير المغيّاة - إنْ شمل أطراف العلم الإجمالي, واقتضى الترخيص في الأطراف كلّها, تحقّق التناقض بينه وبين أدلّة الأحكام الواقعية, مثل (الخمر حرام).

فإنّ مقتضى (الخمر حرام) وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعية الموجودة في البين.

ومقتضى الترخيص في الطرفين عدم وجوب الاجتناب عنها. وهذه مناقضة بيّنة.

كما أنّ الترخيص في الأطراف يناقض حكم العقل بلزوم امتثال التكليف الواصل إلى العبد - ولو كان الوصول وصولاً إجمالياً - .

فتحصّل: أن المناقضة في الروايات المغيّاة قائمة في نفس أطراف الدليل التعبّدي, وفي الروايات غير المغيّاة قائمة بين الدليل التعبدي من جهة وأدلّة الأحكام الواقعية وحكم العقل من جهة ثانية.

ويرد عليه: أنّ المناقضة مع أدلّة الأحكام الأولية منتفية, لكون الحكم الواقعي فعلياً من جهةٍ دون جهة.

ومنه ينقدح انتفاء المناقضة مع حكم العقل, وقد سبق تقرير ذلك, فراجع, هذا وستأتي تتمّة للكلام حول ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الإيراد الثاني: لا مناقضة بين الصدر والذيل في الأدلّة المغيّاة

ثانياً: ما ذكره صاحب الكفاية أيضاً - في حاشيته على الرسائل - من أنّه لا مناقضة بين الصدر والذيل من الأدلّة المغيّاة, قال ماتوضيحه:

ص: 192

إنّ المناقضة - في الروايات المغيّاة - مبنيّة على إستفادة حكم تأسيسي شرعي تعبّدي من الذيل.

ولكن الظاهر أنّ مفاد الذيل ليس حكماً تعبّدياً, بل هو إرشاد إلى حكم العقل, فإنّ العقل يحكم بحجّية القطع, ووجوب إتّباعه, وهذه الحجّية غير قابلة لا للوضع ولا للرفع - كما سبق في أوائل مباحث القطع - ومفاد الذيل أنّ الحلية مستمرة إلى حصول القطع، فإذا حصل القطع إرتفع الترخيص الظاهري، ووجب اتّباع القطع. ومن الواضح: أنّ هذا المفاد هو عين ما حكم به العقل.

ثم إنّ هذا الحكم الإرشادي الذي تضمّنه الذيل إنّما ذكر تقريباً لما أُفيد في الصدر وتأكيداً له.

ومن الواضح أنّ التأكيد ليس له مفاد في قبال ما يؤكّده, بل هو تأييد له.

وعليه: يعم الصدر أطراف العلم الإجمالي, دون أنْ يزاحمه الذيل, إذ لا مفاد له في قباله, بل هو صرف تأكيد لمفاده(1).

قال في النهاية: «مبنى المعارضة على أنّ قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) متكفلّة لحكم شرعي حتّى يؤخذ بإطلاقها, فيعارض الصدر, أو لمجرّد التأكيد, حتّى لايكون لها إطلاق, نظراً إلى أنّ التأكيد ليس له مفاد في قبال مايؤكّده, حتّى يؤخذ بإطلاقه, وقد استظهر الثاني شيخنا (رحمه اللّه) (2).

ثمّ لا يخفى أنّ التأكيد على نوعين:

1- التأكيد المعنوي.

ص: 193


1- درر الفوائد: 252.
2- نهاية الدراية 5: 255.

مثل (رأيت زيداً نفسه) و {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ}(1).

2- التأكيد اللفظي.

وذلك كقولك: (إدرجي إدرجي) وقوله تعالى: {كَلاّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}(2).

والمراد في المقام ليس التأكيد اللفظي ولا المعنوي..لكون الذيل مفاداً مستقّلاً عن مفاد الصدر؛ بل المراد أنّ لازمه التأكيد.

التأمل في الإيراد الثاني

وهذا الإيراد الثاني لا يخلو من تأمّل.

وبيانه يتوقف على بيان أمرين:

الأمر الأول: في ملاك كون الدليل مولوياً أو إرشادياً.

الأمر الثاني: في كون الذيل المذكور في الروايات المغيّاة حكماً تعبّدياً مولوياً, أو إرشاداً إلى ماحكم به العقل.

الأمر الأول: في ملاك المولوية والإرشادية

أمّا بالنسبة إلى الأمر الأول: فقد يقال:

إنّ الحكم الشرعي: إمّا أنْ لايوجد في مورده حكم عقلي أو عقلائي مستقل، وإمّا أن يوجد. وعلى الثاني: فإمّا أن يكون موضوع الحكم الشرعي - بلحاظ ذاته - أوسع من موضوع الحكم العقلي أو العقلائي, وإمّا أن لا يكون كذلك - بأنْ يكون مساوياً له أو أضيق دائرة منه - وعلى الثاني فإمّا

ص: 194


1- الحجر: 30.
2- الفجر: 21.

أن لايوجد محذور عقلي من كون الأمر الشرعي مولوياً أو يوجد.

وحمل الأمر على الإرشاد إنّما يكون في القسم الأخير فقط, دون الأقسام الثلاثة الأُول.

بيان ذلك: أن الحكم الشرعي على أقسام أربعة.

1- أنْ لايكون في مورده حكم عقلي أو عقلائي مستقل وفي هذه الحالة يكون الحكم الشرعي حكماً مولوياً كما في غالب تفاصيل الأمور التعبّدية.

مثلاً: لو قال المولى: (طف بالكعبة سبعة أشواط) كان أمراً مولوياً بلا إشكال, لعدم وجود حكم عقلائي, أو عقلائي في هذا المورد.

2- أن يكون في مورده حكم عقلي - أو عقلائي.

إلاّ إنّ موضوع الحكم الشرعي أوسع دائرة من موضوع الحكم العقلي أو العقلائي وفي هذه الحالة لا داعي إلى القول بأنّ الحكم الشرعي إرشاد إلى الحكم العقلي أو العقلائي؛ لأنّه خلاف إطلاق الدليل الشرعي أو عمومه.

وصرف حكم العقل أو العقلاء على بعض حصص الموضوع لا يصلح أن يكون من قرينة على صرف الحكم الشرعي عن ظاهره.

مثلاً: لو كان بناء العقلاء جارياً على إعمال الاستصحاب في حالة وجود الظن بالوفاق فقط فلا يقدح ذلك في عموم قوله (عليه السلام) : «لاتنقض اليقين بالشك»(1) لحالة الشكّ أو الظنّ بالخلاف.

وكذا لو كان بناء العقلاء قائماً على حجّية الخبر الواحد في خصوص مالم يكن ظنٌ على خلافه, فإنّه لايقدح في عموم الأدلّة الشرعية المتكفّلة

ص: 195


1- الحدائق الناضرة 1: 53.

لحجّية الخبر الواحد مثل (إِن جائكم عادل بنبأ فلا تتبينوا) - الذي هو مفهوم آية النبأ, بناءً على ثبوته لها - لصورة الظن بالخلاف إلى غير ذلك من الأمثلة ويدلّ على ذلك سيرة الموالي والعبيد.

3- أن يكون في مورده حكم عقلي أو عقلائي إلاّ إن الحكم الشرعي أضيق دائرة من دائرة الحكم العقلي, أو العقلائي, أو مساوٍ لها.

وهذا القسم الثالث يتنوّع إلى نوعين:

النوع الأول: أنْ لا يكون هنالك محذور عقلي من كون الأمر الشرعي مولوياً.

وفي هذه الحالة ينبغي أن يقال: بأنّ الأمر الشرعي مولوي؛ وذلك لظهوره عرفاً فيه؛ وذلك كما في النهي الشرعي عن (الظلم) - مثلاً - مع وجود الحكم العقلي بقبح الظلم أو بحرمته.

لا يقال: الحكم الشرعي يكون لغواً حينئذٍ.

فإنّه يقال: يكفي في دفع اللغوية باعثية الأمر الشرعي, بما لا يوجد في الأمر العقلي عند الكثيرين.

توضيحه: أنّ كثيراً من الناس لا ينبعثون عن البعث العقلي, ولا ينزجرون عن الزجر العقلي ولكنهم ينبعثون عن البعث الشرعي, وينزجرون عن الزجر الشرعي.

فإذا قيل لهم: (أنّ الطعام الفلاني ضارّ) لم يكفّوا انفسهم عنه, أمّا لو قيل لهم: (بأنّه مكروه) إنكمشت نفوسهم عنه وتركوه, فيكون جعل الحكم الشرعي المولوي سبباً للباعثية والمركبة.

ص: 196

ويدلّ على كون الحكم مولوياً في هذه الحالة أنّ المولى لو أمر عبده بما أمره به عقله, فلم يمتثله إستحقّ العقاب, ولو عاقبه - والحال هذه - لم يكن عندهم ملوماً, بل كان العبد به عندهم جديراً.

مثلاً: لو نهى المولى عبده عن أكل طعام ضارّ يوقعه في فراش المرض سنة - مثلاً - فأكله, حقّ له عقوبته على مخالفة (الهيئة) مع أنّه لاعقاب في مخالفة الأمر الإرشادي على (الهيئة) وإنّما تحيط بالعبد المفسدة الكامنة في (المادة) فقط.

ومثاله الشرعي: أنّ اللّه تعالى نهى المكلّفين عن قتل أنفسهم.

فقال عزّ من قائل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}(1) وهذا الحكم مما يحكم به العقل أيضاً.

فإذا قتل المكلّف نفسه استحقّ العقاب على مخالفة الهيئة, مضافاً إلى المفسدة الكامنة في ذات القتل, والذي تحيط بمَنْ يقتل نفسه.

قال اللّه تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ}(2).

النوع الثاني: أن يكون هنالك محذور عقلي يترتّب على كون الأمر الشرعي مولوياً، وفي هذه الحالة لامحيص عن صرف الأمر من المولوية إلى الإرشادية، كما ادّعي ذلك في أوامر الطاعة, حيث قيل باستلزام المولوية فيها للدور أو التسلسل، فتحصّل أنّ الأصل في كلّ أمرٍ هو المولوية ... إلاّ أن يكون هنالك محذور عقلي في كونه مولوياً.

ص: 197


1- النساء: 29.
2- النساء: 93.

وقد يضاف إلى ذلك: ظهوره في الإرشادية, أو عدم ظهوره في المولوية وعليه تكون الأقسام خمسة, فتأمل.

الأمر الثاني: في أنّ الذيل في الروايات المغيّاة مولوي أو إرشادي؟

وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني فقد يقال الظاهر: أن الحكم العقلي بمنجّزية العلم الإجمالي حكم تعليقي - على ما مرّ بيانه بصيغه المختلفة - .

فيكون المقام من قبيل القسم الأول, أي ما لا يوجد في مورده حكم عقلي مستقل فيكون الذيل حكماً شرعياً مولوياً.

بيان ذلك: أنّ هنالك احتمالين في الغاية:

1- أن تكون الغاية خصوص «العلم التفصيلي».

2- أن تكون الغاية الأعم من «العلم التفصيلي» و «العلم الإجمالي » والعقل لا يحكم بأي واحد من الطرفين.

فإذا جعل الشارع الغاية هذا أو ذاك كان جعله تأسيساً لا تأكيداً, إذ لا حكم للعقل حتّى يكون مؤكّداً له ومآل ذلك إلى تحديد الموضوع -شرعاً.

فمآل الأول إلى قوله: «كل شيء لم تعلم علماً تفصيلّياً بخلافه فهو لك حلال».

ومآل الثاني إلى قوله: «كل شيء لم تعلم علماً تفصيلّياً أو إجمالياً بخلافه فهو لك حلال».

ولو فُرِض حصول الشك في كون الغاية أيّهما؟ لم يقدح في المولوية؛ لأنّها ثابته على كلا التقديرين, فتحصّل أنّ الجواب الثاني لصاحب الكفاية

ص: 198

محل تأمّل.

إشكال النهاية على الإيراد الثاني

هذا وقد أشكل المحقّق الإصفهاني على الإيراد الثاني لصاحب الكفاية بقوله: «التحقيق: أنّ قضية (لكنه تنقضه بيقين آخر) لا يُعقل أن تكون متكفّلة لحكم شرعي تعبّدي؛ إذ مع اليقين بالحكم لا يُعقل جعل الحكم على وفقه, ولا على خلافه, فلا مجال له عقلاً حتّى يُنفى بالظهور في خلافه، بل التحقيق: إنّها قضية عقلية إرشادية إلى الجري على وفق اليقين... فلابدّ من تحقيق حال القضية العقلية الإرشادية وإن مايقضي به العقل حسب اقتضاء اليقين ماذا؟ ليكون القضية إرشادا إليه.

ومن الواضح أنّه لافرق في نظر العقل بين اليقين الإجمالي والتفصيلي في الجري على مقتضاهما, ورفع اليد عن الشك, فكما أنّ وثاقة اليقين السابق, كانت مقتضية للجري على وفقها, وعدم الاعتناء بالشك, فكذا مقتضى اليقين اللاحق هو الجري على وفقه وعدم المعاملة معه معاملة الشك حتّى يتمحضّ للتمسك باليقين السابق»(1).

وفيه: أنّه وإن سلم ذلك بلحاظ الكبرى الكلّية... إلاّ إنّ الكلام في المقام أنّ الشارع يستطيع أن يغيّي «الحلّية الظاهرية» بخصوص «العلم التفصيلي» أو يغييها ب- «الأعم منه ومن العلم الإجمالي » فيكون الذيل حكماً تعبّدياً شرعياً, وعليه لا يبقى مجال لما ذكره.

ص: 199


1- نهاية الدراية 5: 255.
الإيراد الثالث: وقوع المناقضة في كلمات الشيخ في الإلتزام بقضية المناقضة

ثالثاً: وقوع المناقضة في كلمات الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الالتزام بقضية «المناقضة بين الصدر والذيل».

قال في المنتقى: «إنّ الشيخ مع التزامه بأنّ أدلّة الإستصحاب لا تشمل أطراف العلم الإجمالي للزوم المناقضة بين الصدر والذيل, ولذا لم يلتزم بجريان الإستصحاب في مورد لا يكون جريانه فيه مستلزماً للمخالفة العملية, كما لو علم إجمالاً بطهارة أحد الإناءين اللَذين تكون حالتهما السابقة هي النجاسة, فإنّه منع من إجراء استصحاب النجاسة في كل منهما؛ للعلم الإجمالي بالخلاف, مع التزامه بذلك. التزم بجريان الإستصحاب في بعض موارد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة, كما لو علم اجمالاً بأنّه توضأ بمائع مردّد بين الماء والبول, فإنّه التزم بجريان استصحاب طهار البدن وبقاء الحدث, مع أنّه يعلم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما.

فيسأل الشيخ (رحمه اللّه) : بأنّه إن كان المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي هو قصور الأدلّة عن ذلك فلا وجه لجريانها في هذا المورد.

وإن كان المانع هو استلزامها المخالفة العملية, كان اللاّزم إجراء الإستصحاب فيما لو علم إجمالاً بطهارة أحد الإناءين مع كون الحالة السابقة لهما هي النجاسة, مع أنّه لم يلتزم بذلك, فالتفكيك بين الصورتين غير وجيه.

وهذا الإيراد عليه تعرّض له الكثير ممّن تأخر من الشيخ ولم يستوضح أحد منهم الجواب عنه»(1).

ص: 200


1- منتقى الأصول 5: 67- 68.

وهذا الإشكال وإن كان اشكالاً مبناً, إلاّ أنّ تناوله لا يخلو عن فائدة.

وأجاب عنه المنتقى بأنّ «الشيخ (رحمه اللّه) - في الرسائل في أواخر الإستصحاب - أشار إلى جهة الفرق. ومحصّل الجواب عن هذا الإيراد بملاحظة ما أشار إليه الشيخ هو: أنّ المعلوم بالإجمال في هذه الصورة وهو الواحد المردّد بين طهارة البدن وبقاء الحدث ليس بموضوع لأثر شرعي, فلا يكون مشمولاً للذيل, وهو وجوب النقض؛ لأنّه لايشمل إلاّ ماكان ذا أثرٍ. وعليه فيبقى الصدر متحكّماً بلا مزاحم, بخلاف مورد العلم بطهارة أحد الإناءين, فإنّ طهارة أحدهما المعلومة بالإجمال ذات أثر, فيصح التعبّد بها فيكون الذيل شاملاً للمعلوم بالإجمال فيتحقّق التهافت»(1).

ويرد عليه:

أولاً: أنّ كلاًّ من طرفي العلم الإجمالي - في مثال مَن توضأ غفلةً بالمائع المردّد - موضوع لأثرٍ شرعي.

أمّا بقاء الحدث فأثره واضح - مثل عدم جواز مسّ القرآن الكريم.

وأمّا طهارة البدن فأثره جواز الدخول في الصلاة أو الطواف - مثلاً، فإنّ طهارة البدن شرط في الدخول في الصلاة والطواف، وإرجاع الشرط إلى مانعية النجاسة لا يخلو عن تكلّف, فتأمّل. والمعلوم بالإجمال لا يعدوهما.

وثانياً: أنّه لايشترط كون الموضوع المتعبّد به موضوعاً لأثرٍ شرعي بل يكفي كونه بنفسه حكماً شرعياً.

ص: 201


1- منتقى الأصول 5: 68.

والطهارة حكم شرعي, منتهى الأمر أنّه وضعي لا تكليفي, إلاّ أنّه لافرق في إمكان التعبّد بين الأحكام التكليفية والوضعية.

وثالثاً: أنّه لا يشترط كون الموضوع المتعبّد به موضوعاً لأثر شرعي, ولا كونه حكماً شرعياً, مطلقاً؛ بل يكفي عدم اللغوية في التعبّد به.

وقد ذكر نظير ذلك في شمول أدلّة الحجّية للأخبار بواسطة أو وسائط, فإذا قال الشيخ قال المفيد...الخ...فليس المخبر به للشيخ (وهو إخبار المفيد) حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي, فكيف تشمله أدلّة حجّية الخبر الواحد؟

وأجيب عن ذلك بأجوبة: منها: أنّه لم يدل دليل من آية, أو رواية على لزوم كون مؤدّى الأمارة حكماً شرعياً, أو ذا أثر شرعي, وإنّما يعتبر ذلك من جهة حكم العقل بأنّ مالايكون له أثر شرعي لغو لايصدر من الحكيم, ويكفي في دفع اللغوية وقوع الخبر في سلسلة إثبات الحكم الشرعي الصادر من المعصوم (عليه السلام) .

وكذا في استصحاب عدم التكليف, فإنّ عدم التكليف ليس حكماً شرعياً, ولا موضوعاً لأثر شرعي.

وطهارة البدن تقع في سلسلة علل إثبات الحكم الشرعي ولو في الجملة فلا يكون التعبّد بها وقوعاً.

ومن أمثلة ذلك: أنّ من آثار طهارة البدن وجوب الوضوء في بعض الصور.

فإنّ البدن إذا كان نجساً, ودار الأمر بين رفع الخبث ورفع الحدث, فإنّه

ص: 202

يقدّم الأول, تقديماً لما لا بدل له على ما له البدل, وذلك من مرجّحات باب التزاحم, مع أنّه منصوص عليه في بعض صوره, فإذا ثبتت طهارة البدن ولو بالعلم التعبّدي ما وجب الوضوء, فتأمّل.

فتحصّل أنّ الإيراد الثالث وارد على كلمات الشيخ (رحمه اللّه) .

الإيراد الرابع: دلالة كلمة (بعينه) على أنّ المراد من الذيل خصوص العلم التفصيلي

رابعاً: إنّ كلمة (بعينه) الواردة في الذيل, تشهد بأنّ المراد من (العلم) في (الذيل), هو خصوص (العلم التفصيلي) لا الأعم منه ومن العلم الإجمالي.

وحينئذٍ: فيشمل الصدر أطراف العلم الإجمالي بلا معارض؛ إذ تستمر الحليّة الظاهرية في كلّ من طرفي العلم الإجمالي, إلى حصول العلم التفصيلي بالحرمة, وحيث إنّ الغاية لم تحصل في مفروض المقام, فالحلية الظاهرية المذكورة في المغيّي مستمرّة.

وأُجيب عن ذلك: بأنّ كلمة (بعينه) كما تستخدم في تمييز المعلوم كذلك تستخدم في تمييز العلم.

توضيح ذلك: أنّ كلمة (بعينه) تستخدم في معنيين

1- تأكيد العلم.

وذلك لدفع توهّم وقوع الاشتباه, أو وقوع التجوّز, في الكلام.

مثلاً: لو قال شخص: (رأيت الخضر) فقد يتوهّم السامع أنّه رأى شخصاً آخر, فيقول (بعينه) دفعاً لذلك التوهّم.

ولو قال شخص: (رأيتُ الملكَ يقتل خالداً) فقد يتوهّم السامع أنّه رأى شرطي الملك يفعل ذلك, فتجوّز المتكلّم, وأطلق عليه الملك, للملابسة

ص: 203

القائمة بينهما, فيقول (بعينه) دفعاً لذلك التوهّم.

2- تمييز المعلوم.

فيكون مفاد الكلمة حصول العلم التفصيلي, وتمييز المعلوم عن غيره.

ففي قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم الحرام بعينه»(1).

إن استُظهر أنّ المراد من (بعينه) هو المعنى الأوّل بعينه يكون المراد من الحديث الشريف (استمرار الحلّية الظاهرية حتّى حصول العلم اليقيني بالخلاف) فلا يجدي الظن في إرتفاع الحلّية, وحينئذٍ يكون مقتضى إطلاق (العلم) في الذيل الشمول للعلم التفصيلي و الإجمالي, فيظلّ التناقض قائماً بين الصدر والذيل, ويتحقّق الإجمال في الدليل.

وإن قيل: بأنّ المراد غير معلوم بعينه, وإنّ الّلفظ يحتمل المعنيين, لم يقدح ذلك في النتيجة المتوخّاة وهي إجمال الرواية؛ إذ محتمل القرينية في الكلام المتّصل يقدح في الظهور, فيظلّ المراد من الصدر مجملاً, فلا يصحّ التمسك به؛ لإثبات الحليّة الظاهرية في أطراف العلم الإجمالي.

هذا ولكن أشكل في المصباح على هذا الجواب بقوله: «إنّ ما أفاده من أنّ كلمة (بعينه) لتأكيد العلم لا لتميز المعلوم لو سلم في رواية مسعدة ابن صدقة من قوله: (كل شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه) لا يتم في رواية عبد اللّه بن سنان من قوله (عليه السلام) : (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه) فإنّ مفاده معرفة الحرام بعينه, ومعرفة الحرام بعينه ظاهر عرفاً في تمييزه عن غيره, ولاسيّما مع ذكر كلمة

ص: 204


1- من لايحضره الفقيه 3: 175.

(منه) وظهور معرفة الحرام من الشيء بعينه في تمييز الحرام عن غيره غير قابل للإنكار, فتكون الغاية ظاهرة في خصوص العلم التفصيلي, بخلاف الجملة الأُولى, فإنّ مفادها معرفة أنّه حرام بعينه, أي معرفة الحرمة, فيمكن أن تكون كلمة (بعينه) تأكيداً للمعرفة, ولا يخفى الفرق بحسب المفهوم العرفي بين معرفة أنّ الشيء حرام بعينه, ومعرفة الحرام من الشيء بعينه»(1).

وقد تبع في هذا الإشكال الشيخ (رحمه اللّه) حيث قال: «وأمّا قوله (عليه السلام) : «فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» فله ظهور فيما ذكر, حيث إنّ قوله «بعينه» قيد للمعرفة, فمؤدّاه إعتبار معرفة الحرام بشخصه, ولايتحقق ذلك إلاّ إذا أمكنت الإشارة الحسّية إليه.

وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوماً بهذا العنوان, إلاّ إنّه مجهول باعتبار الأمور المميزة له في الخارج عن إناء عمرو, فليس معروفاً بشخصه»(2).

هذا ولكن الظاهر أنّ الرواية الشريفة ظاهرة في الشبهة غير المحصورة, فلا تشمل مانحن فيه أصلاً، فإنّ مفاد الرواية - حسب الظاهر - أنّ كل طبيعة منقسمة فعلاً إلى أفراد محلّلة وأفراد محرّمة, بحيث كان هذا الانقسام هو السبب في الشكّ في حرمة هذا الفرد أو ذاك, فتلك الطبيعة محلّلة لك - أبداً - حتّى تعرف الحرام منها بعينه.

وبعبارة أُخرى: أنّ كل كلّي - كاللحم - فيه قسم حلال - كالمذكّى -

ص: 205


1- مصباح الأُصول 2: 76.
2- الوصائل 8: 232 - 233.

وقسم حرام - كالميتة - فهذا الكلّي - أي اللحم - لك حلال أبداً, فكلْ منه - أبداً - حتّى تعرف أنّ هذا الفرد معيّناً هو المحرّم، والمنساق من مثل هذا التعبير هو الشبهة غير المحصورة، وهنالك قرائن تشهد لذلك, وسوف يأتي التعرض لذكرها إن شاء اللّه تعالى.

نعم: يبقى الكلام في أنّ الشبهة غير المحصورة - بما هي شبهة غير محصورة - لها موضوعية في حلّية الأطراف, أو أنها بما هي ملازمة - أو مقارنة - للعناوين الرافعة للتكليف موضوع للحكم بالحلّية. وسيأتي الكلام في ذلك في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

الإيراد الخامس: القدر المتيقّن هو العلم التفصيلي

خامساً: أنّ القدر المتيقّن - في ذيل روايات الإستصحاب - والعلم - من روايات البراءة - هو اليقين التفصيلي والعلم التفصيلي, فالصدر يشمل - بلحاظ ذاته - الأطراف كلّها والذيل لايشملها؛ فلا تناقض. ذكره في المنتقى(1).

وفيه: أنّ القدر المتيقّن الخارجي, والقدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يضرّان بالإطلاق. ولو أريد بذلك الإنصراف, فسيأتي ما فيه إن شاء اللّه تعالى.

الإيراد السادس: الإنصراف إلى العلم التفصيلي

سادساً: إنصراف كلمة اليقين والعلم - المذكورتين في الغاية - إلى اليقين والعلم التفصيلي. ذكره المحقّق العراقي في نهاية الأفكار(2).

ص: 206


1- منتقى الأصول 5: 65.
2- نهاية الأفكار 3: 300.

وفيه: أنّ عهدة دعوى الإنصراف على مدّعيه؛ إذ لاشاهد لها, إلاّ وجود قيد (بعينه), وقد سبق الكلام في أنّه لايدلّ على المدّعى.

الإيراد السابع: ظهور العلم المأخوذ في الغاية في خصوص ما يكون منافياً للشكّ

سابعاً: ما في المصباح من: «أنّ العلم المأخوذ في الغاية في هذه الأخبار ظاهر عرفاً في خصوص مايكون منافياً للشك رافعاً له, بأنْ يكون متعلّقاً بعين ماتعلّق به الشك, وكذا الحال في مثل قوله (عليه السلام) : (ولكن إنقضه بيقينٍ آخر) فإنّ الظاهر منه تعلّق اليقين الآخر بعين ماتعلّق به الشك ليكون نقضاً له, وكذا الحال في أدلّة البراءة أنّ قوله (عليه السلام) : (حتّى تعلم أو تعرف أنّه حرام), ومن الواضح أنّ العلم الإجمالي لايكون رافعاً للشك في كلّ واحد من الأطراف؛ لعدم تعلّقه بما تعلّق به الشك, فإنّه تعلّق بعنوان جامع بينهما, وهو عنوان أحدهما. وعليه فالغاية لا تشمل العلم الإجمالي فيكون اطلاق الصدر محكماً»(1).

وفيه: أنّ هنالك ثلاث صور:

الأُولى: أن لايتعلّق اليقين اللاّحق بما تعلّق به اليقين السابق, بأن تتحقّق المغايرة بين المتعلّقين في الذات والخصوصيات.

وفي هذه الحالة لا يصدق النقض قطعاً.

الثانية: أن يتعلّق اليقين اللاحق بما تعلّق به اليقين السابق بذاته وخصوصياته.

ص: 207


1- مصباح الأصول 2: 76.

الثالثة: أن يتعلّق اليقين اللاحق بما تعلّق به اليقين السابق بذاته لا بخصوصياته؛ وذلك بأن يكون المتعلّق واحداً بالذات ولو بعنوان آخر.

والظاهر صدق (النقض) في الحالتين.

ولا قرينة على لزوم تعلّق اليقين السابق بخصوصياته؛ بل الظاهر كفاية وحدة المتعلّقين ذاتاً - ولو بعنوان آخر - في صدق النقض.

والعلم الإجمالي وإن تعلّق بالجامع, إلاّ إنّ تعلّقه به ليس بما هو هو بل بما هو مرآة للخارج, وبما هو مشير إليه, ومطابقه هو الفرد الواقعي المتعيّن في نفسه, وإن كان مجهولاً عندنا, وعلى هذا يكون أحد الفردين معلوم الانتقاض حينئذٍ, فيكون الذيل شاملاً لموارد العلم الإجمالي, فيتحقّق المناقضة بين الصدر والذيل.

وبعبارة اُخرى: لو قلنا أنّ ما لاقى الدم واقعاً من الإناءين نجس لم يصدق إنّنا نقضنا اليقين بالشكّ, بل نقضنا اليقين باليقين.

وليس المدّعى: أنّ هذا الإناء بعينه نجس, أو ذاك بعينه, بل الملاقي الواقعي للنجس.

وهذا المقدار كافٍ في شمول الذيل ومثل ذلك يقال في أدلّة البراءة.

الإيراد الثامن: لازم المناقضة: عدم جريان الأُصول في صورة عدم تنجيز العلم الإجمالي

ثامناً: ما في المصباح أيضاً من: «أنّ لازم ما ذكره من قصور الأدلّة عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي, ولو لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً؛ لخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء, أو لكون الامتثال حرجياً أو ضرورياً, مع انّه (رحمه اللّه) لايلتزم بذلك

ص: 208

قطعاً. وأمّا على ماذكرناه من أنّ المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ثبوتي من جهة تنجيز العلم الإجمالي التكليف الواقعي, ولزوم اجتماع الضدين في مقام الامتثال, فلا محذور في جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي في زمن خروج بعضها عن محلِّ الابتلاء, أو كون الامتثال حرجياً أو ضرورياً, إذ العلم الإجمالي حينئذٍ لا يكون منجّزاً ولا يحكم العقل بلزوم امتثال الحكم الواقعي؛ لعدم القدرة عليه, أو لاستلزامه الحرج أو الضرر, فلا يلزم اجتماع الضدين في مقام الامتثال, فلا مانع من جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي»(1).

وفيه: أنّ محذور المناقضة لايرد في صورة عدم تنجّز العلم الإجمالي؛ إذ لاعلم بالحرمة فلا يشمله الذيل (حتّى تعلم أنّه حرام).

مثلاً: في صورة خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء يوجد في عالم الثبوت احتمالان:

الأول: وقوع قطرة الدم - مثلاً - في الإناء الواقع في محلّ الابتلاء وعليه تكون الحرمة ثابتة.

الثاني: وقوعها في الإناء الخارج عن محل الابتلاء, فلا تكون الحرمة ثابتة؛ وذلك لقبح التكليف بغير المقدور - سواء كان تكليفاً بالترك أو بالفعل.

وإذاً: فالأمر دائر بين تولّد التكليف في متن الواقع وعدم تولّده, فتكون

ص: 209


1- مصباح الأصول 2: 76 - 77.

الشبهة بدوية, فلا تكون مشمولة للذيل, فتكون الأطراف مندرجة تحت الصدر بلا معارض.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الوجه الأول (أي المناقضة بين الصدر والذيل) غير تامّ؛ لكفاية بعض الايرادات الثمانية في الردّ عليه.

ينفى الكلام من الوجوه الأُخرى التي استدلّ بها - أو يمكن أن يستدلّ - على عدم شمول أدلّة الأُصول العملية - ولو في الجملة - لأطراف العلم الإجمالي.

الوجه الثاني: الانصراف إلى الشبهات البدوية

قال الوالد (رحمه اللّه) في الأُصول: «الظاهر عدم شمول أدلّة الأُصول لها (أي لأطراف العلم الإجمالي) سواء المذيّلة وغيرها, لإنصرافها إلى البدوية»(1).

وقد ذكرنا سابقاً: أن ملاك الإنصراف: تحوّل وجهة اللفظ عن مصداق من مصاديق الطبيعة أو حصّة من حصصها, بحيث لا يراهما العرف مشمولين؛ لإطلاق الدليل أو عمومه.

والظاهر أنّ الإنصراف ثابت في أدلّة الأُصول العملية عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي. وسيأتي مزيد توضيح لذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

الوجه الثالث: ظهور التمثيل في تحديد الكبرى

وقال (رحمه اللّه) فيه أيضاً: «..ولأنّ المثال بالشيء: لعلّه سرقة, والزوجة لعلّها رضاعية, يعطي تحديد الكبرى, ولو شملت(2) أطرافه حقّ التمثيل به؛ لأنّه

ص: 210


1- الأصول 5: 614.
2- في المصدر >سلّمت< لكن الظاهر من السياق ما أثبتناه (منه (رحمه اللّه) ).

أبعد عن الذهن»(1).

أقول: هذه أشارة إلى رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة, والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدع فبيع قهراً, أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(2).

فهذه الأمثلة كلّها من الشبهات البدوية, ولو كانت الكبرى المذكورة في صدر الرواية شاملة لموارد العلم الإجمالي لمثّل في الرواية بمثال من العلم الإجمالي؛ إذ في شمول الكبرى المذكورة لها نوع خفاء.

فالأمثلة المذكورة تكون قرينة على أنّ موضوع الحكم بالحلّ «كل شيء مشكوك بالشبهة البدوية».

ولو نوقش في ظهور التمثيل في التحديد, فلا أقل من كونه محتمل القرينية, وذلك قادح في العموم, إذا ورد في كلام متصل, كما هو الحال في المقام, فتأمّل.

الوجه الرابع: عدم ترخيص الشارع في الاقتحام في بعض الصغريات الفقهية

وقال (رحمه اللّه) فيه أيضاً: «ولأن العلاج الشرعي فيه ب- (يهريقهما) و (بيعا ممّن

ص: 211


1- الاصول 5: 614.
2- وسائل الشيعة 12: 60.

يستحل) و (الإقتراع على القطيع المنزو على أحده) يعطي عدمه»(1).

أقول: قد يناقش في المثال الأول: بجواز الإقتحام في الطرفين, بأحد نحوين:

الأول: أن يتوضّأ بأحد الماءين المشتبهين ويصلّي, ثُمَّ يغسل مواضع الوضوء وما لاقاه الماء الأول بالماء الثاني, ويعيد الصلاة مرّة ثانية.

وهذا النحو لا إشكال فيه مطلقاً؛ لأنّه يتكفّل بتأمين الطهارة الحدثية والخبثية في الصلاة.

الثاني: أن يتوضّأ بأحد الماءين, ثُمَّ يغسل مواضع وضوءه بالماء الثاني, ثُمَّ يتوضّأ به, ويُصلّي بعد ذلك صلاة واحدة - أي بلا تكرار - ولاشك أنّه يكون حينئذٍ واجداً للطهارة الحدثية.

وأمّا الطهارة الخبثية فقد يقال: بأنّ إستصحاب الطهارة والنجاسة - اللذين يعلم بكونه متّصفاً بهما في وقت ما - يتعارضان ويتساقطان, فتصل النوبة إلى أصالة الطهارة, كما هو الحال في جميع موارد تعاقب الطهارة والحدث على محلًّ واحد, بدون علم بالمتقدّم والمتأخر من الحالتين.

وقد يُناقش في المثال الثاني: بعدم تسليم وجوب الاجتناب, وجواز تناول أحدهما. كما ذهب إليه ابن ادريس, والعلاّمة رحمهمااللّه.

هذا ولكن لا يخفى أنّ المناقشة الأُولى غير قادحة, إذ لا تدلّ على عدم تنجيز العلم الإجمالي, بل على عدم موضوعية الإراقة, والمنجّزية محفوظة

ص: 212


1- الأصول 5: 614.

في الطرق الثلاثة؛ إذ ليس فيها مخالفة قطعية للعلم الإجمالي, بل فيها موافقة قطعية للعلم الإجمالي، مع أنّ الثاني منهما محل تأمّل, وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى الفقه(1).

وأمّا المناقشة الثانية فهي ضعيفة, ومحل التفصيل كتاب الأطعمة والأشربة, والمكاسب المحرّمة من الفقه(2).

هذا ولكن قد يناقش أصل هذا الوجه بأنّه يدل على تنجيز العلم الإجمالي في بعض الجزئيات, مع أنّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

وقد يرد بذلك بأنّ استفادة الضابطة الكلّية من هذه الموارد الجزئية ممكنة بإحدى طرق ثلاثة:

الأول: عدم القول بالفصل.

وهذا مبني على كون (عدم القول بالفصل) حجّة, أمّا لو قيل: بإنّ الحجّة هو (القول بعدم الفصل) - مطلقاً أو في الجملة - فلا.

الثاني: الأولوية.

وذلك بأن يقال: إنّه عهد من الشارع المقدّس التسامح في مسألة (الطهارة والنجاسة) و (الحلّية والحرمة في باب الأطعمة والأشربة).

ومع ذلك لم يرضَ باستعمال كلا الإناءين المشتبهين, بل ولا باستعمال أحدهما.

وكذا في اشتباه المذكّى بالميتة, والموطوء بغيره, فكيف بسائر الموارد

ص: 213


1- العروة الوثقی 1: 41؛ شرح العروة الوثقی 7: 10، 42.
2- الفقه 76: 172.

التي يعلم كونها أكثر أهميّة من هذه الموارد؟ كما في (الأموال) و(الدماء) و (الأعراض) ونحوهما.

الثالث: تنقيح المناط.

وذلك بأن يقال: إنّ المناط - عرفاً - في هذه الموارد هو الاشتباه... ولاخصوصية لها في نظر العرف, فيتعدّى إلى سائر الموارد.

فإن وفت هذه الطرق الثلاثة بالمطلوب كان هذا الوجه دليلاً, وإلاّ فلا أقل من كونه مؤيَّداً.

الوجه الخامس: قرينية سائر الروايات

فإنّ بعض الروايات الواردة تدلّ على أنّ المراد ببعض الروايات الواردة في المقام: عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة, لا في الشبهة المحصورة.

منها: رواية عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن؟ فقال لي: «لقد سألتني عن طعام يعجبني, ثُمَّ أعطى الغلام درهماً فقال: ياغلام ابتع لنا جبناً. ثُمَّ دعا بالغداء فتغدّينا معه. فأتى بالجبن فأكل فأكلنا. فلما فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله؟ قلت: بلى ولكنّي أُحبّ أن أسمعه منك. فقال: سأُخبرك عن الجبن وغيره: كل ماكان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(1).

ص: 214


1- وسائل الشيعة 17: 90.

ومنها: رواية معاوية بن عمّار, عن رجل من أصحابنا قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر (عليه السلام) : أنّه لطعام يعجبني, وسأخبرك عن الجبن وغيره: كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه»(1).

فإنّ هاتين الروايتين واردتان في الشبهة غير المحصورة, ولا يتبادر إلى الذهن العرفي: الشبهة المحصورة أبداً.

وهذه المشكلة كما كانت في السابق, فهي موجودة في الوقت الحاضر أيضاً.

فإنّ الإنسان قد يعلم باحتواء بعض الأعيان الموجودة في السوق على مواد محرّمة, وكذا قد يعلم بأنّ بعض اللّحوم الموجودة غير مذكّاة, وقد يعلم أنّ بعض المطاعم تبيع الأطعمة المحرّمة.. وهكذا.. كل ذلك على نحو الشبهة غير المحصورة.. وذلك ما يثير الشك والشبهة في النفوس..

فأراد الإمام (عليه السلام) أنْ يبين: أنّ الطبيعة المنقسمة إلى أفراد محلّلة ومحرّمة, فهي لك محلّلة أبداً حتّى تعرف أنّ هذا الفرد حرام بعينه, فتدعه.

ولا ينساق إلى الذهن شمول الرواية لما إذا علم أنّ أحد هذين الجبنين أو اللّحمين حرام, على نحو الشبهة المحصورة.

ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام) : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله, وإن لم تعلم فاشترِ وبعْ وكلْ, واللّه إني لأعترض السوق فأشتري بها اللّحم والسمن والجبن, واللّه ما أظنُّ

ص: 215


1- وسائل الشيعة 17: 12.

كلّهم يسمون هذه البربر وهذه السودان»(1).

وحيث إنّ صحيحة عبد اللّه بن سنان تتضمّن نفس المضمون؛ بل إنها تحتوي على نفس الألفاظ تقريباً, فتكون ظاهرة في الشبهة غير المحصورة.

وتدلّ على ذلك كلمة «أبداً» في الصحيحة, فإنّه لاموقع لاستخدامها في الشبهة المحصورة, فتأمّل.

الوجه السادس: الترخيص في الاقتحام ترخيص في المعصية عرفاً وتفويت للملاكات الواقعية الملزمة

وهذا الوجه ينحل إلى شقّين:

أ- أن الترخيص في الإقتحام في جميع الأطراف ترخيص في المعصية, وفيه بحثان:

الأول: إنّ الترخيص في الاقتحام ليس ترخيصاً في المعصية حقيقةً؛ وذلك لما سبق من أن مآل الترخيص إلى تقييد إطلاق أدلّة الأحكام الواقعية، ومع التقييد لا حكم, فلا معصية, فلا ترخيص في المعصية حقيقة.

الثاني: إنّ الترخيص في الاقتحام ترخيص في المعصية عرفاً؛ وذلك لأنّ ما ذكر دقّة عقلية, لا يلتفت العرف إليها, بفهمه الساذج, بل يرى أن الترخيص: ترخيص في المعصية حقيقة، فإذا قال المولى: (الخمر حرام)، ثمّ قال: (إذا اشتبهت الخمر بين اناءين فاشربهما معاً). رأى العرف ذلك ترخيصاً في المعصية, ومناقضة من قبل المولى لحكمه الأول.

وهذا الارتكاز العرفي سببٌ لعدم انعقاد ظهور أدلّة الأُصول العملية في

ص: 216


1- وسائل الشيعة 17: 91.

الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

فإنّ ردْع هذا الإرتكاز يحتاج إلى نصوص صريحة واضحة قاطعة حتّى يرتدع العرف عن ارتكازه.

وبالجملة: فالعرف لا يرتدع عن فطرته بهذه النصوص العامّة, حتّى ترد عليه بيانات واضحة وصريحة وقاطعة.

وحينئذٍ: فيكون المراد بالروايات الشريفة: الشبهات غير المحصورة, أو الشبهات البدوية.

ب- إنّ الترخيص في الاقتحام في جميع الأطراف تفويت للأغراض الواقعية لا للزومية.

وفيه بحثان:

الأول: أن الترخيص المزبور ليس تفويتاً حقيقة؛ وذلك لإمكان افتراض كون الأغراض اللزومية الكامنة وراء الترخيص أهم - في نظر المولى - من الأغراض اللزومية الكامنة وراء الالزام - التحريم مثلاً - في صورة القسم الإجمالي, فيرجِّح المولى تلك الملاكات على هذه الملاكات.

إلاّ إن الترخيص يعد تفويتاً عند العرف, وتجاوزاً للعلل الواقعية الكامنة وراء تشريع الأحكام الالزامية.

مثلاً: لو أن مشرّعاً وضعياً منع من تناول المخدَّرات, وعلّل ذلك بأنّه يوجب هدم الاقتصاد, و افساد العقول, وتحطيم العوائل و... و...

ثم أجاز تناول المخدّر المشتبه بين طرفين.

فإنّه يُعدّ متناقضاً مع نفسه عرفاً, ويعد ذلك تفويتاً منه للمصالح الواقعية, وإلقاءً في المفاسد الواقعية.

ص: 217

فلو قال والحال هذه: (كل مالم تعلم فهو لك سائغ) لم يرَ العُرف كون ذلك شاملاً لأطراف العلم الإجمالي.

وهكذا لو قال الشارع: (درهم من الربا أعظم عند اللّه تعالى من سبعين زنية كلّها بذات محرم)(1).

ثم قال: لو علمت إجمالاً أنّ إحدى المعاملتين ربوية فأقدم عليهما.

فإنّه يراه العرف متناقضاً مع نفسه, ومفوّتاً للملاكات النفس الأمرية.

فلو قال الشارع - والحال هذه: (كلّ شيء لك حلال) لم يتبادر إلى الذهن الشمول لأطراف العلم الإجمالي, لارتكاز المناقضة.

والمناقضة وإن كانت خلاف الواقع الدقّي - كما سبق - إلاّ أنّ ظهور الألفاظ ليس تابعاً للدقّة العقلية؛ بل للظهورات العرفية ... وهذا المقدار من الارتكاز كافٍ في نفي الظهور.

هذا ولا يخفى إمكان إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الثاني.

الوجه السابع: وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب

فإنّ القدر المتيقّن من الروايات هو «الشبهة البدوية» أو «الشبهات غير المحصورة» وقد مرّ سابقاً ما في هذا الدليل, فراجع.

الوجه الثامن: فهم المشهور

فإنّ المشهور فهموا إختصاص الروايات الشريفة بالشبهات البدوية, أو غير المحصورة.

وحجّية فهم المشهور يمكن أن تقرّب بإحدى تقريبات ثلاثة:

ص: 218


1- النهاية: 375, باب الربا.

التقريب الأول: إنّ فهم المشهور أمارة عقلائية, ولا يقصر عن غيره من الأمارات العقلائية, كالخبر الواحد ونحوه.

فلو فهم مشهور أهل الفن شيئاً من لفظٍ معيّن, ولم نقطع بخطأهم فيه, ولم تقم أمارة على الخلاف, كان فهمهم منجّزاً ومعذّراً عند العقلاء.

نعم: لو قطعنا بخطأهم, لم يكن حجّة, ولو قامت أمارة على الخلاف لوحظت الترجيحات أو تساقطا.

التقريب الثاني: عموم التعليل في مقبولة عمر بن حنظلة, بقوله (عليه السلام) : (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه)(1).

فإنّ المورد وإن كان خاصاً بالشهرة الروائية, إلاّ أنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد, والعلّة تعمم وتخصّص.

التقريب الثالث: أن يبنى ذلك على حساب الاحتمالات, كما هو الأمر في الإخبارات الحسّية.

أن الخبر الحسّي له قيمة احتمالية معينة عند العقلاء، فإذا انضمّ إليه خبر ثانٍ زادت القيمة الاحتمالية عندهم، وهكذا حتّى يصل الأمر إلى درجة يلغى معه احتمال الخلاف:

إمّا إلغاءً واقعياً (ويعبّر عن ذلك بالقطع) أو علمياً (ويعبر عن ذلك بالاطمئنان أو الظنّ المعتبر), فإنّ الذهن البشري لايستطيع البناء على الاحتمالات الضعيفة والجري عليها، وهذه المعادلة جارية في الإخبارات الحدسية أيضاً، ففهم فقيه للنصّ الشرعي الوارد عن المعصوم (عليه السلام) له قيمة

ص: 219


1- الحدائق الناضرة 1: 38.

احتمالية معيّنة, فإذا انضم إليه فهم فقيه ثانٍ .. وثالث .. زادت القيمة الاحتمالية .. وهكذا حتّى يصل الأمر إلى درجة يلغى معها احتمال الخلاف واقعياً, أو علمياً، وخصوصاً لو كانت الشهرة شهرة القدماء؛ وذلك لقربهم من عهد النصّ, ووجود قرائن بيدهم قد لا توجد بيدنا.

وأقوى من ذلك: ما لو كانت الشهرة شهرة الفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين - معاً.

نعم: ما ذكر معناه دليلية الشهرة - ولو في الجملة - ولا يعني انحصار الدليلية فيها، فقد ينهض دليل أقوى في قبالها وقد ينهض دليل مكافىء لها، كما أن الخبر الواحد دليل, لكن قد ينهض في مقابله ماهو أقوى منه, أو ما هو مكافئ له, أو يوجد ما يوجب وهنه, كالإعراض مثلاً، وقد فهم المشهور - قديماً وحديثاً - أنّ هذه الروايات الشريفة غير ناظرة إلى أطراف العلم الإجمالي، بل كاد يكون إجماعاً.

وقد قال صاحب الجواهر (رحمه اللّه) : إنّ ظاهر هذه الأخبار حلّ الجميع, ولكن لم يعمل بها إلاّ نادر من الطائفة(1).

وهذا المقدار قد يوجب الاطمئنان بالمقصود, ويمكن إرجاع هذا التقريب إلى التقريب الأول.

الوجه التاسع: عدم انطباق الضابطة على الأمثلة المذكورة

وقد ذكر هذا الإشكال في خصوص رواية مسعدة بن صدقة.

فإنّ الحلّية الجارية في الأمثلة المذكورة فيها ليست مستندة إلى أصالة

ص: 220


1- جواهر الكلام 23: 397.

الحل, بل إلى أمارات أُخرى.

فإنّ مثال «الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة» يستند الحل فيها إلى «قاعدة اليد». وكذا في مثال «المملوك عندك لعلّه حرٌّ قد باع نفسه, أو خُدع فبيع قهراً».

وأمّا مثال «امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك». فإن الحلية فيها مستندة إلى الغلَبة - إذ الغالب ثبوت الحلية الذاتية, وانتفاء الحرمة النسبية, أو المصاهرية, أو الرضاعية - أو استصحاب العدم الأزلي.

وهذا يوجب وهن الرواية؛ إذ وردت فيها ضابطة لا تنطبق على الأمثلة المذكورة فيها, فلا يمكن الاستدلال بإطلاقها على عدم اعتبار العلم الإجمالي.

وفيه:

أولاً: المراد بالحلية المذكورة في صدر الرواية, الحلية بالمعنى الأعم من الحلية الأماراتية والحلية الأصلية. وتكون الأمثلة المذكورة فيها حينئذ بياناً لبعض المصاديق.

ويمكن أن يكون المثالان الأوّلان مثالين للحلّية الأماراتية, والمثال الثالث مثالاً للحلية الأصلية - بناءً على عدم اعتبار قاعدة الغلبة واستصحاب العدم الأزلي.

وثانياً: أنّه يمكن أن يقال: بجريان الأمارات و الأُصول معاً, إذا كانت متوافقة في النتيجة, وكذا في الأُصول السببية المسببّية.

ص: 221

المبحث الثالث : في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي

اشارة

أي أنّ التكليف الثابت هل يسقط بالامتثال الإجمالي أو لا؟ ويقع البحث في مقامين:

المقام الأول: في كفاية الإمتثال الإجمالي مع تمكّن المكلّف من الإمتثال التفصيلي.

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي القطعي والامتثال التفصيلي الظنّي.

المقام الثالث: في كفاية الإمتثال الإجمالي مع عدم تمكن المكلّف من الامتثال التفصيلي.

المقام الأول: في كفاية الامتثال الإجمالي مع تمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي

اشارة

وله صورتان:

1- أن يكون ذلك في الأمور التوصّلية.

2- أن يكون ذلك في الأمور التعبّدية.

والصورة الأُولى تنقسم إلى قسمين:

أ- أن يكون ذلك في الأمور التوصّلية التي لا تتوقّف على قصد الإنشاء.

ب- أن يكون ذلك في الأمور التوصلية التي تتوقف على قصد الإنشاء.

والصورة الثانية تنقسم إلى قسمين:

ص: 222

أ- أن يستلزم ذلك التكرار.

ب- أن لا يستلزم ذلك التكرار.

فمجموع الصور أربع.

القسم الأول: الامتثال الإجمالي في الأمور التوصلية التي لا تتوقف على قصد الإنشاء
اشارة

وفيها بحثان:

البحث الأول: في الحكم الوضعي

والظاهر أنّه لا إشكال فيها بلحاظه؛ وذلك لأنّ المفروض بمقتضى توصّليتها سقوط الأمر فيها بمجرد وجود المأمور به خارجاً, من دون أن يعتبر فيه شيئاً آخر.

فإذا فرض تحقّقه في الخارج - ولو في ضمن أمور متعددة - يسقط الأمر لا محالة.

وبتعبير آخر: الغرض في هذا القسم حصول المتعلّق في الخارج بأي نحو اتّفق, والمفروض أنّه حصل فيه, فيتحقّق الغرض, وبتحققه يسقط الأمر لا محالة.

مثلاً: لو علم أنّ أحد المائين مطلق والآخر مضاف فغسل ثوبه بهما معاً حصل له العلم بفراغ الذمّة.

وكذا لو علم أنّه مديون بدينار إمّا لزيد أو لعمرو, فأعطى لكل منهما ديناراً, فإنّه يحصل له العلم بأداء التكليف.

البحث الثاني: في الحكم التكليفي

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): (إذا لم يكن محذور خارجي)(1).

ص: 223


1- الأصول 5: 615.

والظاهر أن المراد تقييد الحكم التكليفي لا الوضعي، كما يظهر من تمثيله ب- «السرَف في المال» أو «الإضاعة للعمر» في الهامش.

فإذا غسل الثوب بالماءين فربما يكون ذلك إسرافاً, وهو محرّم تكليفاً مطلقاً أو في الجملة, إلاّ أنّ ذلك غير قادح بترتّب الأثر الوضعي - أي الطهارة - وسقوط الأمر, منتهى الأمر أنّه ضمّ الطاعة إلى المعصية في عمله.

القسم الثاني: الإمتثال الإجمالي في الأمور التوصلية المتوقفة على قصد الإنشاء

كالعقود والايقاعات، فلو لم يعلم العاقد أن المفيد للزوجية هي الصيغة المتعدية إلى الزوجين بنفسها, أو المتعدية بواسطة حرف الجر, فكررها مرتين, مع تمكنه من الإمتثال التفصيلي, فهل يكفي ذلك؟

إستشكل الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في ذلك, وإشكاله يتركب من كبرى وصغرى.

أما الكبرى: فهي أن الجزم معتبر في الإنشاء إجماعاً؛ ولذا لايصح التعليق في الإنشائيات - بالإجماع -.

وأما الصغرى: فهي أن الترديد ينافي الجزم.

وفيه: أن هنالك أربعة أمور في الإنشاء:

1- الإنشاء: وهو عبارة عن الإعتبار النفساني المبرز (باللفظ أو الكتابة وغيرهما).

وبعبارة اُخرى: إيجاد موجود إعتباري في وعاء الإعتبار.

2- السبب: كقوله (بعت) و (قبلت).

3- المسبّب: كالإنتقال الخاصّ أو الملكية المترتبة على الإيجاب

ص: 224

والقبول.

4- السببية: وهي العلقة الخاصة الحاصلة بين السبب والمسبّب.

ووزان الأمور الإعتبارية في ذلك وزان الأمور التكوينية.

مثلاً (النار) سبب, و (الحرارة) مسبب, و (العلقة الخاصّة فيما بينهما) سببية, و (إشعال النار) إيجاد لها في وعاء التكوين.

والترديد الضارّ القادح بالإجماع إنّما هو الترديد في الإنشاء, أي الترديد في الاعتبار النفساني, أي يتردّد هل يعتبر أو لا؟ وهل يوجد الموجود الإعتباري في وعائه أو لا؟

ومآل ذلك إلى عدم القصد؛ لأنّ عدم القصد كما يتحقّق في صورة (القصد إلى العدم) كذلك يتحقّق في صورة (التردّد).

وقد يدّعى: أن التعليق يؤول إلى الترديد في الإنشاء (أي في الاعتبار النفساني).

فلو قال: (وهبتك هذا المال إن كنت تقياً), كان مفاد ذلك تردد المالك في حصول الشرط وعدمه, وبالتردد في الشرط يحصل التردد في المشروط, فلا يكون جازماً بإنشاء الهبة, بل متردداً فيها - وإن كان ذلك محل تأمل, مطلقاً, أو في الجملة, وتفصيل ذلك في محلّه - وأما التردد في (السبب) أو (المسبّب) أو (السببية) فلا ينافي (الجزم).

ومعنى التردد في السبب: أن يتردد في أن السبب الممضى شرعاً, والمؤثّر أثره هذا أو ذاك؟

ومعنى التردّد في المسبّب: أن يتردّد في أنّ ما يترتّب على هذا السبب هو

ص: 225

هذا وذاك.

ومعنى التردّد في السببية: أن يتردّد في تأثير (هذا السبب) في (ذاك المسبب) وعدمه.

مثال الأول: أن يتردّد في أن سبب إيجاد العلقة الزوجية هو قوله: (أنكحت موكّلتي موكّلك) أو (أنكحت موكّلتي بموكّلك) - مثلاً - .

فإنّ التردد في ذلك لاينافي الجزم بالإنشاء, بل هو مريد لإيجاد العلقة الزوجية, قاصد إياه, نعم هو متردد في أن المنشأ يتحقق بهذا اللفظ أو ذلك. والتردد فيه لايسري إلى التردد في نفس الإنشاء، بل أن قصده الجدّي للإنشاء هو الباعث له على الجمع بين أطراف العلم الإجمالي.

فإذا سألنا العاقد لِمَ كرّرت الصيغة مرّتين؟

أجاب: لأحرز وجود المنشأ خارجاً.

والحاصل: أن الدليل دلّ على شرطية (الجزم بالإنشاء) وأمّا العلم بأنّ المنشأ يتحقق بهذا اللفظ معيّناً أو بذاك فلم يدلّ عليه دليل.

ومثال الثاني: أن يتردد في أن المنشأ بهذا اللفظ الخاصّ هو (الهبة) أو (الصدقة) - لجهله باللغة العربية مثلاً - مع إرادته للنتيجة المترتبّة, على كل تقدير.

ومثال الثالث: أنْ يشك أنّ (العقد على الرضيعة التي لا يمكن الاستمتاع بها) سبب لإيجاد (العلقة الزوجية) أو لا؟ فإنّ الشكّ في السببية لاينافي الجزم بالإنشاء، بل إنّ العلم بعدم السببية لاينافي الجزم بالإنشاء, كالغاصب الذي يعلم أن بيع العين المغصوبة ليس سبباً شرعاً للانتقال, مع إنشائه

ص: 226

التمليك جزماً، وكالوالد الذي يقوم باجراء معاملة ربوية مع ولده, قاطعاً بأنّ ذلك غير ممضى شرعاً, مع إرادته البتّية للإنشاء, ثُمَّ علم بأنّ ذلك جائز شرعاً.

وبتقرير آخر: أنّ في المقام صوراً أربع:

1- التردّد في الأنشاء وعدمه، وهذا هو القادح في العقود والإيقاعات بالإجماع.

2- النية على تقدير دون تقدير، كما في العقود التعليقية، وربما يدعى أوْل ذلك إلى الأوّل.

3- النسبة على كل تقدير ... مع عدم التشخيص المحقّق للمنشأ.

4- النسبة على كل تقدير مع تشخيص ما يحقّق المنشأ، وكما أن الجزم موجود في الصورة الرابعة, كذلك هو موجود في الصورة الثالثة, منتهى الأمر أنّه لايعلم أنّ المحقّق للمنشأ والوجه له في وعاء الاعتبار هذا أو ذاك؟ ولم يدلّ على اعتبار العلم المزبور دليل.

القسم الثالث: الأمور التعبّدية التي يتوقف الإمتثال الإجمالي فيها على التكرار
اشارة

ويمكن فرض ذلك في الشبهات الحكمية والموضوعية.

مثال الأول: أن يتردّد المكلّف: في أنّ وظيفته الظهر أو الجمعة, أو القصر أو الاتمام.

ومثال الثاني: أن تشتبه القبلة بين الجوانب الأربعة.

كل ذلك مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي، فهل تكفي الموافقة الاجمالية في ذلك؟ بأن يجمع بين الظهر والجمعة, أو القصر والاتمام,

ص: 227

ويصلّي إلى الجهات الأربع مثلاً؟

أشكل في ذلك من جهات:

1- من جهة الإخلال بالوجه.

2- من جهة الإخلال بالتمييز.

3- من جهة أنّ التكرار لعب وعبث بأمر المولى.

4- من جهة أنّ مرتبة الامتثال التفصيلي مقدّمة بحكم العقل على مرتبة الامتثال الإجمالي.

5- من جهة أنّ التكرار مستلزم لعدم تمحّض العمل العبادي في الداعي القربي.

6- التكرار أجنبي عن سيرة المتشرّعة.

7- التكرار تشريع محرّم.

وفيما يلي نستعرض بإذن اللّه تعالى هذه الجهات:

1- الإخلال بالوجه

حيث إنّ المكلّف حين الإتيان بكل واحدة من الصلاتين عند اشتباه القبلة - مثلاً - لايعلم بوجوبها؛ إذ لايعلم أنّها مواجهة للقبلة أو لا؟ فلا يستطيع أن يقصد الوجوب.

مع أن نيّة الوجه - أي الوجوب والندب - شرط في صحّة العبادات.

ويرد عليه
أولاً: لا إخلال بالوجه بوجهٍ

أولاً: ما في الكفاية من: أنّه لا إخلال بالوجه بوجهٍ في الإتيان مثلاً

ص: 228

بالصلاتين المشتملتين على الواجب؛ لوجوبه غاية الأمر أنّه لا تعيين له ولا تمييز, فالإخلال إنّما يكون به(1).

توضيحه: أن بين عنوانَي (الوجه) و (التمييز) عموماً من وجه؛ إذ يجتمع العنوانان فيما لو أتى بالظهر - مثلاً - لوجوبها, باتجاه القبلة المعلومة، ويفترق التمييز فيما لو أتى بصلاة العيد بدون أن يعرف أنها واجبة, أو مستحبّة، ويفترق الوجه عن التمييز فيما لو أتى بصلاة الظهر, لوجوبها, إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة، حيث إنّ داعي المكلّف إلى فعل كل واحد من المحتملين - أو المحتملات - هو الأمر المتعلّق بالواجب، فإتيانه بكل واحد من الطرفين أو الأطراف منبعث عن ذلك الأمر، فلا محالة يكون قاصداً للوجوب فيكون قصد الوجه متحقّقاً.

مثلاً: في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}(2) هنالك موضوع هو «الصلاة» ومحمول هو «أقم».

وباعث المكلّف إلى الإتيان بالصلوات الأربع جزماً هو قوله تعالى: «أقم».

نعم، الشك والتردّد في انطباق الموضوع على هذا المصداق أو ذاك.

فالمفقود هو التمييز؛ لعدم تمييز المأمور به عن غيره؛ لأنّ احتمال انطباق المأمور به على كل واحد من المحتملات موجود, وأما الوجه فهو محفوظ. وهذا الجواب كما ترى جواب بنائي، وأما الجواب الثاني فهو جواب مبنائي

ص: 229


1- كفاية الأصول: 274.
2- الإسراء: 78.

كما لايخفى.

ثانياً: أنّه لادليل على اعتبار قصد الوجه

توضيحه: أنّه ذُكِرت هنالك ثلاثة أدلّة لاعتبار قصد الوجه:

الدليل الأول لاعتبار قصد الوجه: قصد العناوين المحسّنة موقوف على قصد الوجه

الدليل الأول: ما في النهاية من: «أنّ الأغراض القائمة بموضوعات الأحكام واقعاً عناوين لها في نظر العقل, حيث لايذعن العقل بحسن شيء إلاّ بما له من الوجه الحسن المنطبق عليه بلحاظ قيام الجهة المعنية به قيام العرَض بموضوعه. وهذا الفعل بما له من الوجه العقلي موضوع للحكم الشرعي واقعاً لتنزه ساحة الشارع عن الأغراض النفسانية والاقتراحات الغير العقلائية.

ومع معلومية الوجه العقلي يجب إتيان الفعل بذلك الوجه؛ حتّى يصدر عنه بما هو فعل حسن بالاختيار.

ومع عدم معلوميته يجب إتيانه بالوجه الشرعي المحاذي للوجه العقلي, حتّى يصدر الحسن بما هو حسن عن هذا الوجه بالاختيار»(1).

وهذا الدليل يتركّب من مقدّمات ثلاث:

1- إنّ الحيثيات التعليلية المترتّبة على الموضوعات واقعاً حيثيات تقييدية لها في نظر العقل.

فإذا وجب «القيام» ل- «المؤمن» من أجل «التعظيم» - مثلاً - فموضوع الوجوب في الواقع هو «القيام التعظيمي».

ص: 230


1- نهاية الدراية 3: 109.

وإلاّ فطبيعي القيام - ولو كان لأجل هدف آخر, أو كان بهدف الإهانة مثلاً - ليس واجباً في نظر العقل.

بتعبير آخر: الواجب في نظر العقل: إمّا طبيعي القيام, أو القيام على نحو الإهمال, أو حصّة خاصّة من القيام - وهي القيام المقيّد بالتعظيم - , لا سبيل إلى الأول. والإهمال غير متصوّر في موضوعات الأحكام العقلية, فيتعيّن الثالث.

والخلاصة: أن القيام بانطباق «الجهة المحسّنة» وبما هو معنون ب- «العنوان المحسّن» يكون حسناً.

2- إنّ الشارع إذا حكم على «موضوع» من الموضوعات ب- «حكم من الأحكام», فليس حكمه حكماً كيفياً, نابعاً من الإرادة الجزافية, و إنّما حكمه نابع من انطباق «العناوين المحسّنة» أو «العناوين المقبّحة» على الموضوع.

فليس مطلق «ضرب اليتيم» مطلوباً للشارع, بل المطلوب له هو «ضرب اليتيم التأديبي». إلى غير ذلك من الأمثلة.

3- إنّ «العناوين المحسّنة» أو «المقبحّة» إن علمت فلابدّ من الإتيان بالفعل بما هو معنون بتلك العناوين, وإلاّ لم يكن الفعل - بما هو معنون بها- صادراً بالاختيار.

فإذا ضرب الشخص اليتيم للتشفّي لا يكون فعله حسناً؛ إذ «ضرب اليتيم» ليس حسناً بذاته, وكذا «ضرب اليتيم للتشفّي». وأمّا «ضرب اليتيم تأديباً» فلم يكن فعلاً اختيارياً, حتّى يكون حسناً, إذ مقوّم الاختيارية: القصد, وحيث إنّه لم يقصده لا يكون اختيارياً, ولو فرض ترتّبه عليه في الخارج.

ص: 231

والحاصل: أنّ المقصود في المثال غير حسن. والحسن غير مقصود, فلا يكون اختيارياً, فلا يكون حسناً، هذا كلّه في صورة معلومية «العنوان المنطبق».

وأمّا في صورة مجهولية «العنوان المنطبق» فلا بدّ من قصده إجمالاً, حتّى يكون الفعل الحسن بما هو (حسن بانطباق العنوان عليه) صادراً عنه بالاختيار.

مثلاً: لو نوى المكلّف «أصلي الصلاة التي أوجبها المولى» يكون قاصداً لذلك العنوان الواقعي المجهول المنطبق على الصلاة؛ لأنّ الصلاة التي أوجبها المولى ليست «طبيعي الصلاة», بل هي «الصلاة المعنونه بذلك العنوان الحسن المجهول», وبالنية المزبورة يتحقق قصد ذلك العنوان.

وهكذا لو جعل الوجوب غاية لا وصفاً, كما لو قال: «أصلي الصلاة لوجوبها».

ويرد على هذا الدليل:

أنّه - ولو فرض تسليم مقدّماته الثلاث - لا يدل على المطلوب؛ إذ المطلوب الإشارة القصدية إلى «العنوان المنطبق»، وهي كما تحصل بقصد الوجه, كذلك تحصل بغيره.

مثلاً لو نوى الإتيان بالصلاة التي أمر بها المولى تحقّقت الإشارة القصدية؛ إذ الصلاة التي أمر بها المولى ليست طبيعي الصلاة؛ بل حصة خاصّة منها. وكذلك لو نوى الإتيان بالصلاة المقرِّبة إلى المولى, أو المحبوبة للمولى, أو الواجدة للملاك الواقعي, أو غير ذلك..

والحاصل: أن الدليل المزبور أخص من المدّعى.

ص: 232

الدليل الثاني: لاعتبار قصد الوجه

الدليل الثاني ما ذكره الوالد (رضوان اللّه عليه) في الفقه.

ومؤدّاه: أن العمل العبادي مهية قابلة للوقوع على وجه الوجوب والندب، والجنس القابل للوقوع على وجوه متعدّدة لا يتعين على وجه منها إلاّ بمعّين وهو النية, وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح, إن وقع على وجه منها، أو وجود الجنس بدون الفصل, إن وقع خالياً عن وجه من الوجوه(1).

وأقول: يمكن تبديل (الترجيح بلا مرجّح) إلى (الترجّح بلا مرجّح), فإنّه لا إشكال في امتناعه؛ لأنّه مساوق لوجود المعلول بدون وجود (علته) وأما الترجيح بلا مرجح ففيه خلاف, وإن كان المختار أوّله إلى الترجّح بلا مرجّح.

ويمكن الجواب عنه بوجهين - مستفادين مما ذكره الوالد (رضوان اللّه عليه) في الفقه- .

الأول: المناقشة في إطلاق الصغرى؛ إذ العمل العبادي يمكن أن يتعيّن في الوجوب وحده, أو الندب وحده, فلا يكون مشتركاً, حتّى يحتاج إلى التعيين.

مثلاً: الوضوء قبل الوقت يمكن أن يتعيّن في الندب فقط, وبعده يمكن أن يتعيّن في الوجوب فقط.

الثاني: المناقشة في النتيجة المدعاة؛ إذ النتيجة المتحصلة - ولو بعد تسليم الصغرى والكبرى - لزوم التعيين بالنية.

ص: 233


1- الفقه.

وكما أنّ ذلك يحصل بنيّة الوجه كذلك قد يحصل بغيره, كنيّة ما خوطب به أولاً, ونحو ذلك.

والحاصل: أنّه إن كان المدّعى إشتراك المهيّة مطلقاً, فالكليّة محل إشكال.

وإن كان المدعى إشتراكها في الجملة, فتحتاج في حالة الإشتراك إلى نيّة الوجه, فمآل ذلك إلى أنّ نية الوجه لاموضوعية لها؛ بل الموضوعية للتعيين, فيكون المدار عليه لا عليها, وذلك مساوق لإلغاء شرطيتها, إلاّ بمقدار مالها من الطريقية.

الدليل الثالث: لاعتبار قصد الوجه قاعدة الاشتغال

الدليل الثالث: قاعدة الاشتغال, فإن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

والشك في المقام شك في الامتثال, فيكون مجرىً للاحتياط, وهو لايحصل إلاّ بقصد الوجوب والندب. نعم، لو كان الشك شكاً في الإشتغال, كان مجرىً للبراءة.

وفيه: أن الأصل عند الشك هو البراءة؛ لأنّ الشك يدور بين الأقل والأكثر, كذا ذكره الوالد (رضوان اللّه عليه) في الفقه(1).

توضيحه: أن الإشتغال اليقيني إنّما هو بالأقل, والمفروض أن المكلّف أتى به، والأكثر مشكوك في أصل اشتغال الذمّة به, فيكون مجرىً للبراءة، ولا فرق في جريان البراءة عن الأكثر بين الأقل والأكثر الإستقلاليين

ص: 234


1- الفقه.

والإرتباطيين - على ما قرّره في محلّه - .

هذا ولكن قد يقال: إن ذلك إنّما يتم في التقسيمات الأولية للخطاب, لا في التقسيمات الثانوية, وقصد الوجه من الانقسامات الّلاحقة للتكليف, فيكون مجرىً للاحتياط. وتفصيل الكلام، والنقض والإبرام موكول إلى مباحث «التعبّدي والتوصّلي».

الدليل الرابع: لإعتبار قصد الوجه الإجماع

الدليل الرابع:(1) لإعتبار قصد الوجه الإجماع

الدليل الرابع: الإجماع المدّعى في كلمات المتكلمين.

وفيه:

أولاً: أنّ الإجماع المصطلح - بمعنى اتفاق الكل - غير متحقّق قطعاً, لمخالفة جمهرة كبيرة من الفقهاء رحمهم اللّه في ذلك.

وملاك حجّية الإجماع غير حاصل في المقام؛ إذ أن اتفاق هذا المقدار من الفقهاء على الوجوب لا يكشف - كشفاً إنيّاً - عن رأي المعصوم (عليه السلام) فلا يكون حجة.

وثانياً: لو فرض تحقّق الإجماع المصطلح فلا ينفع في المقام؛ لأنّه محتمل الاستناد أو مقطوعه, ومثله ليس بحجة على المعروف.

وقد مضى التأمّل في الوجه الثاني في بعض المباحث المتقّدمة.

ثمّ إنّه لا يخفى ورود بعض الإشكالات الأُخر على شرطية قصد الوجه تعلم من البحث التالي (أي بحث التمييز).

ص: 235


1- لا يخفى أنّ المصنّف (رحمه اللّه) قد ذكر - سابقاً- أنه هنالك ثلاثة أدلّة لإعتبار قصد الوجه، ولكنه جاء بأربعة.
2- الإخلال بالتمييز
اشارة

والمراد ب- «التمييز» إحراز إنطباق عنوان المتعلّق المأمور به على الفعل المأتي به بعينه, أو إحراز إنطباق متعلق الوجوب على الفعل.

فمَن صلّى إلى أربع جهات عند إشتباه القبلة لا يحرز إنطباق عنوان «الصلاة إلى القبلة» المأمور بها على كل واحدة واحدة من الصلوات الأربع.

ومَن جمع بين القصر والتمام عند اشتباه الوظيفة, لايحرز انطباق متعلق الوجوب على «القصر» أو «الإتمام» والتمييز شرط في صدق الامتثال.

ويرد عليه: أنّ البحث في شرطية التمييز يجب أن يتم على مرحلتين:

1- مرحلة الأدلّة الاجتهاديّة.

2- مرحلة الأُصول العمليّة.

أمّا بلحاظ المرحلة الأُولى فهنالك أمران ينفيان مدخلية التمييز في صحّة العمل, وتحقّق الإمتثال:

الأول: الإطلاق اللفظي:

حيث إنّ الأدلّة الشرعية تعرضت لبيان الشرائط والأجزاء المعتبرة في العبادات.

ولم نجد رواية واحدة, في باب الطهارة, والصلاة والصوم, والخمس والزكاة, والحجّ, وغيرها من العبادات, تدلّ على شرطية التمييز.

وقد تقرّر في محلّه: أنّ ظاهر اللّفظ الذي تعلّق به التكليف كونه تمام الموضوع لمراد المولى, ولو كان هنالك شيء آخر دخيل في مراد المولى لوجب عليه - بمقتضى الحكمة - أخذه في الموضوع اللفظي.

ص: 236

وبعبارة اُخرى: أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت - التي هي من الأُصول العقلائية - تقتضي: أنّ ما أُخذ في اللفظ هو تمام مراد المولى, وإن ما لم يؤخذ في اللفظ ليس له مدخلية في المراد, وإلاّ لزم على المولى البيان.

هذا ولكن قد يقال: إنّ التمسك بالإطلاق إنّما يصحّ في الإنطباقات السابقة على التكليف, وأما الإنقسامات اللاّحقة فلا؛ إذ لا يمكن أخذها في المتعلّق وإذا استحال التقييد, لم يصحّ التمّسك بالإطلاق.

وما ذكر محل إشكال, ولكن لوفرض التسليم بذلك, تصل النوبة إلى الدليل الثاني, وهو:

الثاني: الإطلاق المقامي.

والتمسّك به لا يختصّ بقيد دون قيد؛ بل يعمّ جميع القيود, ولو كانت من التقسيمات الثانوية.

بيان ذلك: أنّ الشيء الذي له مدخلية في الغرض على نوعين:

النوع الأول: أن يكون مركوز المدخلية في الغرض في أذهان عامّة الناس.

النوع الثاني: أن لا يكون كذلك؛ بل يكون مما يغفل عن مدخلية فيه عادة.

فإن كان من قبيل الأول: لم يلزم أخذه في الموضوع, وذلك لكفاية الإرتكاز في لزوم تحصيله.

وذلك نظير اعتبار السلامة في العوضين, فإنّه مرتكز عند المتعاقدين؛ ولذا لا يحتاج إلى التصريح به في العقد, ويكفي في اعتبارها اعتماد

ص: 237

المتعاقدين على هذا الارتكاز.

وإن كان من قبيل الثاني لزم على المتكلّم بيانه, وإلاّ لأخلّ بالغرض, إذ لا ارتكاز يُعتمد عليه, ولا بيان يرجع إليه.

والتمييز من القسم الثاني, لغفلة عامّة الناس عن دخله في الغرض, فلو كان دخيلاً فيه لزم على الشارع - بمقتضى الحكمة - التنبيه عليه, وإلاّ لأخلّ بالغرض اللاّزم استيفاؤه, وقد عرفت خلوّ الأخبار عن اعتبار التمييز فيقطع بعدم دخله في الغرض(1).

والخلاصة:

أنّ عدم التنبيه على المدخلية يكشف - كشفاً إنّياً - عن عدم الدخل في غرض المولى.

وأمّا بلحاظ المرحلة الثانية - أي مرحلة الأُصول العملية - .

والمرجع في هذه ا لمرحلة: «البراءة»؛ لأن الشك في شرطية التمييز شرط في قيد زائد, والأصل في الشكّ في التكليف هو البراءة.

لكن هذا إنّما يتمّ على مبنى: إمكان أخذ قصد التمييز في متعلّق الأمر, وأما على مبنى عدم الإمكان, ففيه تفصيل يوكل إلى محلّه, واللّه المستعان.

تذييل

ثُمَّ إنّه قد يقال: أن الكلام في المقام في (الموافقة القطعية الإجمالية) وما ذكر من شرطية (الوجه) أو (التمييز) مآله إلى أنّ العمل (موافقة احتمالية) أو

ص: 238


1- منتهى الدراية 4: 160.

(مخالفة قطعية) وهذا خروج عن محل الكلام.

توضيحه: أن محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان الاختلاف بين الامتثالين:

(الإجمالي والتفصيلي) من جهة الإجمال والتفصيل لا غير.

فالقول بأن الامتثال الإجمالي مستلزم لعدم الإتيان بالمأمور به على ماهو عليه - للإخلال بالوجه أو التمييز - خروج عن محلّ البحث.

إذ لو احتمل مدخلية الوجه أو التمييز في صحّة العمل لايكون المأتي به موافقة إجمالية قطعية, بل موافقة احتمالية، كما أنّه لو قطع بمدخلية الوجه أو التمييز في صحّة العمل لايكون المأتي به موافقة اجمالية قطعية, بل موافقة احتمالية.

كما أنّه لو قطع بمدخلية الوجه أو التمييز في صحّة العمل كان مخالفة قطعية للتكليف, وكل ذلك خروج عن محل البحث.

وبعبارة أُخرى: أنّ البحث في أنّ العقل في مقام الامتثال هل يحكم بلزوم العلم التفصيلي عند الإتيان بالمأمور به حال الإتيان به, وأن الموافقة الإجمالية القطعية هل تجدي عند الإتيان بالمأمور به بجميع قيوده أو لا؟

فالقول بدخل قيد شرعاً في المأمور به وأنّه لا يحصل إلاّ بالعلم التفصيلي, أو القول باحتمال المدخلية خروج عن الموضوع؛ إذ الكلام في الامتثال الإجمالي وأنه مُجز ٍ أو لا, لا فيما (لا يكون امتثالاً) أو (لا يعلم كونه امتثالاً).

وفيه: أن ذلك وإن كان صحيحاً لو لوحظ البحث الأُصولي في حدّ نفسه إلاّ أنّ البحث الأصولي بحث مقدّمي, من أجل تطبيقه على الصغريات

ص: 239

الفقهية، فلا مانع من البحث عن انطباق الكبرى الأصولية على صغرى فقهية معيّنة, وعدم انطباقها عليها.

3- التكرار عبث ولعب بأمر المولى

وهو ينافي كون العمل طاعة وعبادة.

وبعبارة اُخرى: التكرار لعب وليس طاعة بنظر العقلاء.

مثلاً: لو أمر المولى عبده بإتيان كتاب معيّن من المكتبة, وكان العبد متمكّناً من تعيينه, فلم يفعل, وأتى بجميع كتب المكتبة, فإنّه يعد عند العقلاء لاعباً بأمر المولى مستهزءاً مستحّقاً للعقوبة، ومع هذا كيف يحقق عنوان «الطاعة» المعتبرة في العبادات(1).

ومثّل له في الوصول بما لو اشتبهت القبلة في أربعة جوانب, واللّباس في عشرة, وما يصحّ السجود عليه في عشرين, فاحتاط بثمانمأة صلاة مع التمكّن مع الفحص, فإنه يعدّ لاعباً وعابثاً عرفاً(2).

وهذا الإشكال ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (3).

والجواب عن ذلك بأمرين: أحدهما صغروي والآخر كبروي.

أ- المناقشة الصغروية

(أمّا الجواب الصغروي): فهو ما ذكره في الكفاية بقوله: «إنّه ربما يكون

ص: 240


1- الوصول 3: 369.
2- الوصول 3: 371.
3- فرائد الأصول 2: 409.

لداعٍ عقلائي»(1).

توضيحه: أن مدار الدليل هو عنوان «اللّعب»، واللّعب إنّما يكون في صورة عدم نشوء التكرار عن الداعي العقلائي، والداعي العقلائي كثيراً ما يكون موجوداً، كما إذا كان في برّية واشتبهت عليه جهة القبلة, وكان يتمكّن من الرجوع إلى البلد؛ ليشخّص جهة القبلة, ويصّلي صلاة واحدة إليها، ولكن كان الرجوع أشقّ بكثير من الصلاة إلى الجوانب الأربعة, فإن التكرار في هذه الحالة لا يعد لعباً من العقلاء قطعاً.

وهكذا لو اشتبه عليه اللباس الطاهر في اثنين, وكان يستطيع معرفة الطاهر بالسؤال, إلاّ أنّه كان في السؤال منّة وذلّة, بحيث كان التكرار أهون من تحمّلها, فإن التكرار لا يعدّ لعباً.

والخلاصة: أن وجود الداعي العقلائي يخرج العمل عن اللغوية والعبثية.

هذا ولكن أشكل عليه المصباح بقوله: «هذا الجواب غير وافٍ بدفع الإشكال؛ لأن اللعب إن سرى إلى نفس الامتثال لا يجدي كونه بغرض عقلائي؛ إذ الكلام في العبادة المتوقفة على قصد القربة, ولا يجدي في صحّتها مطلق اشتمالها على غرض عقلائي, بل لابدّ من صدورها عن قصد التقرّب, واللعب لا يوجب القرب, فلا يصحّ التقرّب به»(2).

وخلاصة هذا الإشكال: أن وجود الغرض العقلائي لايكفي في عبادية العبادة.

ص: 241


1- كفاية الأصول: 274.
2- مصباح الاصول 2: 83.

مثلاً: لو صام بقصد الصحة, أو حجّ بقصد السياحة, أو صلّى بقصد تقوية العضلات وتنشيط جريان الدورة الدموية في العروق, لم يصحّ ذلك, وإن كان غرضه غرضاً عقلائياً، فقولكم: إنّ التكرار ناشئ عن غرض عقلائي غير مجدٍ.

وبعبارة اُخرى: التكرار ضد الطاعة, فلا يكون طاعة, وإن كان الداعي إليه عقلائياً.

وفيما ذكر - من الإشكال- نظر: إذ ليس مدّعى الكفاية أنّ (التكرار وإن كان لعباً, إلاّ إنّه لغرض عقلائي)، بل المدّعى (أنّ التكرار ليس لعباً؛ لوجود الغرض العقلائي).

وبعبارة اُخرى: وجود الداعي العقلائي يخرج العمل عن اللعب والعبث، فقوله: «إنّ اللعب إن سرى إلى نفس الامتثال ... الخ».

فيه: أنّه مع فرض تحقّق الغرض العقلائي: لا لعب, ولا سراية، وليس معنى ذلك: أن (وجود الغرض العقلائي) ينافي عنوان (اللعب) مطلقاً؛ بل المراد أنّه ينافيه في خصوص المقام. كما يظهر ذلك من المثالين المتقدمين, فراجع.

ب- المناقشة الكبروية

وأما (الجواب الكبروي) فله تقريران:

التقرير الأول ما في الكفاية: من أنّ التكرار إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها(1).

ص: 242


1- كفاية الأصول: 274.

توضيحه: أن اللّعب - لو فرض حصوله - على نحوين:

1- اللّعب بأمر المولى.

2- اللّعب في كيفية طاعة المولى.

ومعنى (اللّعب بأمر المولى): صدور الفعل عن داعي السخرية والاستهزاء بأمر المولى, فلا يصدر العمل عن داعٍ رحماني, بل عن داعٍ شيطاني, أو نفساني فلا يكون منبعثاً عن الأمر.

ونظير المقام - وإن لم يكن منه - قول بني إسرائيل (حنطة) بدل قول (حطّة) الذي أُمروا به - كما في بعض التفاسير -.

ولا إشكال في عدم كون العمل طاعة حينئذٍ وذلك لا يختص بصورة التكرار، بل يجري في الاحتياط الذي لا يستلزم التكرار, كما لو دار الواجب بين الأقل والأكثر فأتى بالأكثر, مستهزءاً لاعباً، بل وكذا في صورة العلم التفصيلي بالمأمور به، فإنه لا يصحّ المأتي به في جميع الصور؛ لعدم تحقّق الطاعة حينئذ.

وأما لو كان داعي المكلّف أمر المولى, ولكن كان لاعباً في نحو امتثال أمر المولى وكيفية طاعته, فلا يضر بصدق الطاعة؛ لأنّ الفعل ناشئ - حينئذٍ - عن الداعي الإلهي.

والخلاصة: أنّ المكلّف يكون لاعباً في كيفية الطاعة, لا في أصل الطاعة, التي هي عبارة عن الانبعاث المترتب على بعث المولى.

فالعبث في هذه المرحلة لايقدح في صدق عنوان (الطاعة) على (أصل العمل).

ص: 243

وبعبارة أُخرى: معنى اللّعب في كيفية الطاعة: ضمّ ما ليس بطاعة إلى ماهو طاعة, وذلك لاينافي صدق الطاعة على ماهو طاعة.

التقرير الثاني ما في النهاية: من أن اللعب في المقام - لو فرض حصوله -, في طريق تحصيل اليقين بطاعة الأمر.

توضيحه: أن لتحصيل اليقين بإطاعة الأمر طريقين:

أحدهما: معرفة الواجب وإتيان الواجب بعينه, فيحصل له اليقين بإطاعة الأمر وإسقاطه.

ثانيهما: إتيان محتملات الواجب الواقعي - كالصّلاة إلى الجوانب الأربعة عند اشتباه القبلة - فإنّه يوجب حصول اليقين بإطاعة الأمر الواقعي وسقوطه.

والمكلّف قد يختار الطريق الأوّل لتحصيل اليقين بإطاعة الأمر, وقد يختار الطريق الثاني. وسبب إختيار الطريق الثاني أحد أمور ثلاثة:

1- الداعي الإلهي.

2- الداعي العقلائي - غير الإلهي.

3- الداعي النفساني.

قال: فتارة يختاره لداعٍ محبوب وهو الاشتغال بالانقياد المحبوب عقلاً في مدّة مديدة. وأخرى يختاره لداعٍ عقلائي, وهو فيما إذا كان يحصل معرفة الواجب أكثر مؤونة من إتيان المحتملات, فسهولة الطريق تدعوه إلى اختياره. وثالثة: لا لذا ولا لذاك؛ بل لمجرّد غرض نفساني. فتحصيل يقين من أصله وإن كان كما في سائر الموارد, إلاّ إنّ تحصيل اليقين من هذا الطريق الخاصّ لغرض نفساني, فيصدق اللّعب على تحصيل اليقين من

ص: 244

هذا الوجه لا على نفس الفعل الذي هو سبب لحصول اليقين بالإطاعة.

قال: «ومنه تعرف أنّه كما لا لعب ولا عبث في الأمر كذلك في كيفية إطاعته, و إنّما اللعب في تحصيل اليقين, حيث لا مرجّح عقلائي لتحصيل اليقين من هذا الوجه الخاص»، وذلك أجنبي عن اتصاف الإطاعة بعنوان اللعب. فالداعي إلى تحصيل اليقين بإطاعة الأمر هو الداعي في غير هذا المورد - وهو إسقاط العقاب في وجدان العقل مثلاً - فاللعب في كيفية تحصيل اليقين بإطاعة الأمر، وهو أجنبي عن اتصاف الإطاعة بعنوان (اللعب)(1).

وقد يُنظر لذلك بما إذا قال المولى لعبده: (جئني بماءٍ) فأتى له الماء عبر طريق غير مألوف. فإنّه لاعب في الطريق, وإن كان ممتثلاً في أصل الإتيان بالماء.

والفرق: أن «سلوك الطريق» في المثال: مقدّمة وجودية, وفيما نحن فيه «الإتيان بالمحتملات» مقدّمة علمية، فتأمّل.

4- مرتبة الإمتثال التفصيلي متقدّمة- عقلاً- على مرتبة الإمتثال الإجمالي

وهذا هو الذي ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) قال: «مراتب الإمتثال والإطاعة بحكم العقل أربعة:

1- الإمتثال التفصيلي.

سواء كان بالعلم الوجداني, أو الطرق والأمارات و الأُصول المحرزة التي تقوم مقام العلم، فإنّ الامتثال بالظنون الخاصّة وبالأُصول المحرزة

ص: 245


1- نهاية الدراية 3: 113 - 114 (بتصرف).

يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني، بل الامتثال بالظن المطلق عند انسداد باب العلم بناءً على الكشف أيضاً يكون حكمه حكم الامتثال بالعلم وفي عرضه، فإن حال الظن المطلق بناءً على الكشف حال الظنّ الخاص؛ لأنّ معنى الكشف هو أنّ الشارع جعل الظنّ حجة, مثبتاً للأحكام الواقعية, وطريقاً محرزاً لها, فيكون الامتثال به في عرض الامتثال العلمي.

2- الامتثال العلمي الإجمالي.

كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

3- الامتثال الظنّي.

سواء في ذلك الظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره، أو الظن المطلق عند انسداد باب العلم بناءً على الحكومة, فإنّ معنى الحكومة هو حكم العقل بتعيين الامتثال الظنّي, عند تعذر الامتثال العلمي, فيكون الظنّ بناءً على الحكومة واقعاً في طريق الإمتثال.

4- الامتثال الاحتمالي.

كما في الشبهات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذر الامتثال الإجمالي أو الظنّي.

ولا إشكال في أنّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي, إلاّ بعد تعذّر الامتثال الظنّي, ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي, إلاّ بعد تعذّر الامتثال الإجمالي.

وإنّما الإشكال في المرتبتين الاوّليين...

فقيل: إنهما في عرضٍ واحد.

وقيل: بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي, مع الإمكان على الامتثال

ص: 246

الإجمالي، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط, وهذا هو الأقوى في خصوص ما استلزم منه تكرار جملة العمل(1).

وقد استدل على مدّعاه بقوله: «إنّ الإطاعة بالمعنى الأخصّ المعتبر في العبادات لا تتحقق مع التمكّن من التحرّك عن نفس الإرادة بالتحرك عن احتمالها, والعقل يستقل بعدم حسن الاحتياط والتحرّك عن الاحتمال مع التمكن عن الانبعاث عن نفس الإرادة, ولو تنزّلنا عن ذلك, فحيث إنّ كون الامتثال الاحتمالي في عرض الامتثال التفصيلي لم يقم عليه دليل, فلا محالة نشكّ في كونه في عرضه ومقتضى القاعدة حينئذٍ هو عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي, ولا مجال للتمسك بحديث الرفع في رفع هذا الشك؛ لأنّ مورد جريانه هو ما إذا كان المشكوك من الأمور التي وضعها ورفعها بيد الشارع إمضاء أو تأسيساً, وأما الأمور المشكوك اعتبارها في الطاعة العقلية فلا يكون حديث الرفع متكفلاً لرفعها. (وبالجملة) الأمور التي اعتبرها العقل في الطاعة أو يحتمل اعتبارها فيها عقلاً, وإن كانت قابلة للتصرّف شرعاً, كأن يحكم الشارع بدليل مخصوص بكون الامتثال الاحتمالي في عرض الامتثال التفصيلي, وليس وزان ذلك وزان ما لا يقبل التصرّف الشرعي أصلاً كطريقية القطع وأمثالها, إلاّ إن حديث الرفع ليس ناظراً إلاّ على رفع الأحكام المجعولة شرعاً إمضاء أو تأسيساً, فيكون قاصراً عن الشمول لما يحتمل اعتباره في الطاعة عقلاً, وبذلك يفرّق بين المقام

ص: 247


1- فوائد الاصول 3: 73.

وبين الشك في اعتبار نيّة الوجه ومعرفته في صحّة العبادة فإن الشك هناك؛ لرجوعه إلى الشك في اعتبار أمر زائد على ما هو معتبر عند العقل شرعاً يكون مورد الحديث الرفع بخلاف المقام؛ فإن الشك فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعة العقلية ضرورة أن حُسن الاحتياط من الأحكام التي يستقل العقل بها, ومع الشك في تحققه لا يمكن التمسك بحديث الرفع الناظر إلى رفع الأحكام المجعولة الشرعية إمضاء أو تأسيساً, وإذا لم يمكن التمسك بحديث الرفع فمقتضى قاعدة الاشتغال, هو عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي»(1).

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكره المحقق العراقي (رحمه اللّه) بقوله: «الإنبعاث لا يكون إلاّ عن الجزم بالأمر ولو إجمالاً، و إنّما الاحتمال مقدّمة لتطبيق ما يدعوه جزماً على مورده لا أنّ ما يدعوه بنفسه هو احتمال الأمر وبين الأمرين فرق واضح»(2).

توضيحه: أنّ الإنبعاث:

1- تارة يكون ناشئاً من احتمال الأمر.

كمَنْ احتمل أن المولى أمره بشيء..فأتى به رجاءً.

2- وتارةً يكون ناشئاً من الجزم بالأمر.

والانبعاث في المقام ناشئ من الجزم بالأمر.

فمن يصلّي إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة لا شك أنّ داعيه إلى ذلك

ص: 248


1- أجود التقريرات 3: 79- 81.
2- نهاية الأفكار 3: 53.

«الأمر المعلوم» ب- «الصلاة إلى القبلة»، وإنّما الاحتمال مقدمة لتطبيق «الداعي القطعي» على «فرده».

فهنالك طبيعي تعلّق به الأمر قطعاً مثل «الصلاة إلى القبلة».

وحيث إنّنا نحتمل أن يكون مصداقه «هذا» و «ذاك» نأتي بهما.

فالاحتمال ليس داعياً, بل «مقدمة تطبيقية».

ومثّل السيّد العم دام ظله لذلك: بأن الذي يسلك طريقين لعلمه الإجمالي بوجود مال له في أحدهما, إنّما محرّكه حقيقة وواقعاً للسير في كلا الطريقين هو وجود المال, وسلوك الطريق المحتمل إنّما هو لاجتماع المحتملات وتحصيل المال بالنتيجة»(1).

وأورد عليه بعض المتأخرين بقوله: «إنّه لا يُعقل أن يدعو شيء إلى أمر ما لم يكن ذلك الشيء موجودا,ً فإنّ الداعوية هي الاقتضاء والبعث من المقتضي. ومع عدم المقتضي لا اقتضاء يُعقل ولا بعث يتصور، ففي صورة العلم بالأمر يكون الأمر موجوداً ومتحققاً في النفس, فيؤثّر الداعوية والاقتضاء والبعث. وأما في صورة الاحتمال: لما لم يكن موجوداً في النفس فلا يُعقل أن يؤثر الاقتضاء فيها و إنّما الموجود هو احتماله, فيكون نفس الاحتمال هو الداعي»(2).

وأجاب السيد العم (دام ظله) عن ذلك بقوله: «إنّنا لا ننكر أنّ الاحتمال هو الداعي, و إنّما نقول: كون الاحتمال هو الداعي معناه أنّ نفس الأمر كان

ص: 249


1- بيان الفقه 1: 119.
2- بيان الفقه 1: 119.

داعياً قوياً وباعثاً أكيداً - فعلاً - بحيث أثّرت هذه الداعوية والباعثية من الأمر حتّى في محتملات الأمر, فباعثيّة الداعوية الاحتمالية لا تتم إلاّ مع باعثية الداعوية النفسية الواقعية, كما مثّلنا بسلوك طريقين في أحدهما مال»(1).

والخلاصة: أنّ داعوية الباعث الاحتمالي معلولة لداعوية الباعث القطعي.

أقول: الظاهر أنّ العلّة في المقام مركّبة من أمرين:

1- العلم الإجمالي بالواقع.

2- احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الفرد.

والأول وحده لا يكفي في التحرّك؛ إذ انتفاء الاحتمال مساوق للقطع بالعدم, ومعه لا يُعقل التحرك؛ لأنّه يكون بلا غاية تقتضيه.

والثاني وحده قد لا يكفي, إذ قد لا ينبعث المكلّف عن الاحتمال المجرّد، فالعلّة في المقام مجموع «العلم» و «الاحتمال».

فقول المحقق النائيني (رحمه اللّه) بأنّ الاحتمال هو الباعث لا يخلو من نظر، كما أنّ قول المحقق العراقي (رحمه اللّه) بأنّ العلم هو الباعث لا يخلو من نظر أيضاً.

ولعلّ الخلاف في المقام, لفظي بين الأعلام، فتأمّل.

وعلى كلّ حال: فإن أراد المحقق النائيني بأنّ الاحتمال وحده هو الباعث في المقام فلا تخلو صغراه من نظر، وإن أراد أنّه يشترط في صدق «الطاعة» باعثية العلم منفرداً - بلا ضميمة الاحتمال - ففي كبراه إشكال.

ثانياً: أنّه لا طولية تكوينية بين منشأ الانبعاث التفصيلي ومنشأ الانبعاث الإجمالي؛ وذلك لأنّ الانبعاث عن نفس البعث الخارجي غير معقول، و إنّما

ص: 250


1- بيان الفقه 1: 120.

الانبعاث ناشئ عن (القطع بالبعث).

والدليل على ذلك: دليل الدوران والترديد الذي ذكرناه في أوائل مباحث (القطع).

وليس (احتمال البعث) في طول (القطع البعث), بل هما في مرتبة واحدة.

وبعبارة اُخرى: المعلوم بالعرض - وهو البعث بوجوده الخارجي العيني - ليس باعثاً.

والمعلوم بالذات - أي البعث بوجوده الذهني القطعي - في رتبة واحدة مع (احتمال البعث).

فلايصحّ جعل منشأ الانبعاث التفصيلي في مرتبة (العين) ومنشأ الانبعاث الإجمالي في مرتبة (الأثر), والقول بأنّ مرتبة العين متقدّمة على مرتبة الأثر.

ثالثاً: لو فرضنا أنّ منشأ الانبعاث الإجمالي في طول منشأ الانبعاث التفصيلي, إلاّ أنّ هذه الطوليّة طولية تكوينية. وهي لا تلازم الطولية التشريعية, بين «الانبعاث عن ذات البعث» و «الانبعاث عن احتمال البعث»؛ إذ لابرهان على ذلك، بل البرهان قائم على خلافه, وهو حكم العقل بأنه لافرق بين الامتثال التفصيلي والإجمالي.

رابعاً: ما في المحصول من: أنّ الانبعاث في عامّة الموارد ليس من أمر المولى, بل عمّا يترتب على الأمر من المثوبة والعقوبة, إلاّ المخلصين(1).

ص: 251


1- المحصول 3: 101.

وذلك مشترك بين الإمتثال التفصيلي والإجمالي, فلا طولية في المقام.

هذا كلّه بلحاظ الأدلّة الاجتهادية.

وأما بلحاظ الأُصول العملية فقد سبق أنّ المحقق النائيني (رحمه اللّه) ذهب إلى أنّ مقتضى القاعدة الإشتغال.

والجواب عن ذلك: بأنّ الانبعاث التفصيلي إما أن يحتمل دخله في غرض المولى, أو لا.

فإن احتمل دخله في الغرض, كان حاله حال (قصد الامتثال) و (قصد الوجه) من حيث إمكان اعتباره شرعاً بأمر آخر. فيكون مرفوعاً بالبراءة الشرعية عند الشكّ.

ولو فرض عدم شمول أدلّة البراءة الشرعية للمقام: فلا مانع من شمول البراءة العقلية لتحقّق الموضوع وهو (عدم البيان) في المقام.

ومدخلية الانبعاث التفصيلي في تحقّق الغرض ليست بدرجة من الوضوح تغني عن البيان, فيكون عدم البيان تفويتاً للغرض.

هذا كلّه إن قلنا باستحالة أخذ «القيود الثانوية» في المكلّف, وإلاّ فالأمر أوضح.

والحاصل:

1- أنّه إن قيل بإمكان أخذ قيد «الانبعاث التفصيلي» في متعلّق الأمر - ككل القيود الثانوية - جرت البراءة عن دخله فيه, عند الشكّ.

وبعبارة اُخرى: الشك المزبور شكّ في شرط يمكن اعتباره شرعاً في المتعلّق, والشك في الشرطية مجرى للبراءة لا للاشتغال.

ص: 252

2- وإن قيل باستحالة أخذه فيه, أمكن التنبيه شرعاً على دخله في الغرض بأمر آخر, ولو بجملة خبرية تدلّ على دخله في غرضه, فمع الشك تجري البراءة الشرعية.

3- ومع فرض عدم جريان البراءة الشرعية لامانع من جريان البراءة العقلية في المقام.

هذا مع الغضّ أنّه لا تصل النوبة إلى الشك لوجود الإطلاق اللّفظي, أو الإطلاق المقامي.

وإن لم يحتمل دخله في الغرض, فيسقط الغرض بمجرد الموافقة الإجمالية, وبسقوطه يسقط الأمر, لاستحالة بقاء المعلول بعد ارتفاع علّته, فلا معنى للاشتغال، فتأمّل.

5- التكرار مستلزم لعدم تمحّض العمل العبادي في الداعي القربي

وقد ذُكر هذا الإشكال في المنتقى.

قال: «إنّ التقرّب يحصل بإتيان العمل بداعٍ مقرّب, ومن الواضح أن الداعي يكون متأخراً بوجوده الخارجي عن العمل ومترتباً عليه, ولكنه بوجوده التصوري العلمي سابق على العمل.

ولأجل ذلك يمتنع أن يؤتى بالعمل بداعي الأمر؛ لأنّ نفس الأمر ممّا لا يترتب بوجوده الخارجي على العمل, بل هو سابق عليه و إنّما الصحيح الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر وتحقّق موافقته خارجاً, فأنه مما يترتب على العمل ومن الأمور المقربة.

ولا يخفى أنّه في مورد دوران الواجب بين عملين يحتمل في كلًّ منهما

ص: 253

أن يكون هو الواجب, يمتنع أن يؤتى بكل منهما بداعي احتمال الأمر, إذ احتمال الأمر كالعلم به سابق على العمل غير مترتب عليه خارجاً, فلا يصلح للداعوية, ولا يمكن الإتيان بكلٍّ منهما بداعي تحقّق الموافقة؛ إذ لا علم بتعلق الأمر به فيستلزم ذلك التشريع المحرّم.

نعم، أحد الفعلين موافق للأمر قطعاً ولكنه لا بعينه, فهو حين يأتي بالفعلين يدعوه داعيان, أحدهما تحصيل الموافقة، والآخر التخلص من تعب تحصيل العلم - مثلاً - والأول داعٍ إلهي قربي والآخر غير قربي- وإن كان عقلائياً.

ومن الواضح أنّ الداعي الإلهي لا يتعيّن واقعاً لموافق الأمر وغيره لمخالفه, كي يصدر العمل الواجب عن داعٍ قربي خالص, بل نسبة الداعيين إلى كلٍ من الفعلين على حدٍ سواء, بمعنى أنّه لاتمييز لأحدهما على الآخر في مقام الداعوية, وعليه فيصدر كل من الفعلين عن داعيين, أحدهما إلهي, والآخر دنيوي وهو ينافي المقربية»(1).

ويمكن المناقشة في ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنّ الدليل أخصّ من المدعى؛ إذ يمكن أن يكون (الداعي الآخر) قريباً، وقد سبق أنّ المكلّف قد يختار طريق الامتثال الإجمالي لداعٍ إلهي, وهو الاشتغال بالإنقياد المحبوب عقلاً في مدّة مديدة.

نعم: في صورة كون (الداعي الآخر): داعياً عقلائياً - غير إلهي - أو داعياً نفسانياً يرد الإشكال.

ص: 254


1- منتقى الأصول 4: 129.

الوجه الثاني: أنّ أصل المبنى الذي بُني عليه الدليل كلّه محل تأمّل، فإنه عبارة عن (لزوم الإتيان بالعمل العبادي بداعٍ قربي)، مع تفسير الداعي ب(العلّة الغائية) التي هي (العلّة في فاعلية الفاعل بماهيتها, والمعلولة له بإنّيتها), والتي هي (أوّل الفكر وآخر العمل)، ولم يدل دليل على لزوم وجود الداعي - بهذا المعنى - في العمل العبادي ولذا تكفي إضافة العمل إلى المولى - بأي نحو من أنحاء الإضافة- فيكفي الانبعاث عن (نفس الأمر) وإن لم يكن «داعياً» بالمعنى المصطلح, كما يكفي الإتيان بالعمل لكونه (محبوباً) للمولى، أو لكونه (واجداً للملاك المولوي).. أو لغير ذلك، وهذا المعنى متحقق في المقام؛ إذ الإنبعاث عن (احتمال الأمر) نحو من أنحاء الإضافة إلى المولى, وهو كافٍ - في نظر العقلاء - في تحقّق عبادية العبادة.

إن قلت: المحذور لا زال قائماً إذ (الانبعاث) وإن كان ناشئاً عن (احتمال البعث) إلاّ إنّ اختيار المكلّف (الانبعاث عن احتمال البعث) على (الانبعاث عن البعث القطعي) ناشئ من الدواعي غير القربية - كسهولة العمل مثلاً - .

قلت: إنّ ذلك غير قادح؛ لأنّه من قبيل (الداعي إلى الداعي). وقد حرر في الفقه: أنّه لا يقدح في صحّة العبادة. وإلاّ لورد الإشكال في جميع العبادات الأستيجارية، فالمقام نظير من (يؤدي الصلاة لله تعالى) ويكون هذا المجموع المركّب من (العلّة والمعلول) معلولاً ل- (رغبة الحصول على المال), فتكون (الرغبة المزبورة) داعية إلى (الصلاة الداعية إلى قصد القربة).

ونظيره جميع العبادات التي يؤتى بها لله تعالى, لأجل بعض الأغراض

ص: 255

الدنيوية، كصلاة الاستسقاء, وصلاة الحاجة, ونحوهما.

الوجه الثالث: «أنّ انضمام داعٍ مباح غير قربي إلى الداعي القربي لا يضر في مقربية العمل وصحّة العبادة, كما هو محرر في الفقه, فلو جاء بالصلاة في مكان معيّن بداعي أنّه أكثر برودة من غيره لم يضر بعبادية الصلاة فليكن فيما نحن فيه كذلك».

وأجاب عنه ب- : «أنّ الموارد التي يلتزم فيها بعدم قدح الضميمة المباحة تختلف عمّا نحن فيه؛ إذ في تلك الموارد توجد جهتان نفس العمل بذاته وتطبيقه على فرد خاص اُخذت الطبيعة بالإضافة إليه لابشرط والمكلّف يأتي بالعمل بداعٍ قربي لكنه يأتي بالخصوصية بداعٍ غير قربي, وهو لا يضرّ لتباين الخصوصية عن ذات العمل, بل لا يمكن الإتيان بالخصوصية بداعٍ قربي بعد أخذ الطبيعة بالنسبة إليها لا بشرط, إلاّ أن يقوم دليل على استحبابها في نفسها كالصلاة في المسجد، فالضميمة المباحة في هذه الموارد لاتدعو إلى نفس العمل, بل إلى خصوصيّة. وليس الحال فيما نحن فيه كذلك, بل العمل نفسه يؤتى به عن داعيين كما تقدّم»(1).

الوجه الرابع: «دعوى إمكان الإتيان بالمأمور به الواقعي بداعي الموافقة والاطاعة, ببيان: أن كلاً من الفعلين يؤتى به بداعي موافقة الأمر على تقدير الأمر به, فعلى تقدير تعلّق الأمر به واقعاً يكون قد أتى به بداعي الموافقة؛ لأنّ حصول المقدّر عليه يقتضي حصول المقدر. فالواجب الواقعي من بين

ص: 256


1- منتقى الأصول 4: 132.

العملين قد أتي به بقصد الموافقة وهو قصد مقرب».

وأجاب عنه: «بأنّ الإرادة المنجّزة المتعلّقة بالفعل يمتنع أن تصدر عن مجرد الموافقة على تقدير, إذ من المحتمل ان لا يتحقق التقدير والحال أنّ الإرادة حاصلة, فلا بد أن تتحقق بلحاظ كلا تقديري الفعل, والداعي يختلف باختلاف التقديرين, فتكون صادرة عن داعيين على تقديرين, يعني: انّه يدعو إلى الفعل الموافقة على تقدير تعلّق الأمر به والتخلّص عن التعب في تحصيل العلم على تقدير عدم تعلّق الأمر به, فيحصل التشريك في مقام الداعوية المستلزم لاختلال العبادية والتقرّب»(1).

والمتحصل من جميع ماذكر عدم ورود الإشكال الخامس لما ذكر من الوجهين الأولين.

6- التكرار أجنبي عن سيرة المتشرّعة

أنّ التكرار في العبادات مع التمكن من الإمتثال التفصيلي أجنبي عن سيرة المتشرعة, غير معهود عندهم.

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكره السيد العم دام ظله من أنّه: «إن كان المراد سيرة جماعة من المتشرعة, فليست هذه السيرة حجّة شرعية على بطلان مثل هذا الاحتياط»(2).

والحاصل: أنّ الأمر دائر بين عدم وجود السيرة على تقدير. وعدم حجّيتها على تقدير آخر؛ إذ لو أريد «سيرة الكل المتّصلة» ففيها الإشكال

ص: 257


1- منتقى الأصول 4: 132.
2- بيان الفقه 1: 114.

صغرى؛ لعدم تحقّقها، ولو أريد «سيرة جماعة», ففيها الإشكال كبرى؛ لعدم حجّيتها.

ثانياً: ما ذكره أيضاً: «من أنّ الاحتياط مطلقاً فيما نحن فيه ليس أجنبياً عن سيرة المتشرّعة, لما نرى المتدينين الملتزمين قد يحتاطون بالتكرار في العبادات, مع وجود الحجّة عندهم على أحد الطرفين, بل يُنقل عن بعض الفقهاء الكبار أمثال العلاّمة الحلّي, والشيخ الأنصاري, ونحوهما أمثال ذلك, بل الفقهاء والمقدّسون من المتدينين يعتبرون مثل ذلك إيغالاً في الانقياد والقرب إلى المولى, فكيف يقال: إنّه أجنبي عن سيرة المتشرّعة. نعم: ما أدّى من ذلك إلى الوسوسة فهو الأجنبي عن سيرة المتشرعة وهو المبغوض للشارع, والوسوسة خارجه عن محل الكلام»(1).

ولا يخفى أنّ هذا إيغال في ردّ الدعوى صغروياً, وليس دليلاً قائماً في حدّ ذاته؛ إذ ليست سيرة جماعة من المتدينين أو الفقهاء حجّة، كما أنّ قيامها في صورة إمكان العلم الوجداني بالواقع محل تأمّل.

ثالثاً: أنّ العمل لا لسان له، والعمل يشمل - بذاته أو بملاكه - الترك أيضاً، فلا يدلّ على الحرمة, بل يدلّ على عدم الوجوب، وليس المدّعى «وجوب الاحتياط» كي يدلّ الترك على عدمه، بل المدّعى «جواز الاحتياط» والترك - على فرض ثبوته- لا يدلّ على عدم الجواز, ولعلّ الوجه في استقرار السيرة على الترك: جوازه, أو حبّ اللّه تعالى أن يؤخذ

ص: 258


1- بيان الفقه 1: 114.

برخصة كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه.

7- الإحتياط تشريع محّرم

أنّ الإحتياط بالتكرار تشريع محرّم؛ لأنّ الشارع أمر بصلاة واحدة, لا بصلاتين فإتيان صلاتين تشريع محرّم, والحرمة في العبادة تقتضي الفساد.

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكره السيد العم دام ظله من: «أنّ الاحتياط مقابل التشريع, فالتشريع عرفاً ولغةً وشرعاً هو: إدخال ماليس من الدين في الدين, أو شك إنّه من الدين, والإتيان به تديناً وبعنوان إنه دين اللّه, والاحتياط خلاف هذا تماماً, فإنّه إتيان شيء برجاء كونه ديناً, ومطلوباً واقعاً؛ لتحصيل الواقع المعلوم من الشريعة محبوبيته على كل حال، فلو أتى المكلّف بصلاة الظهر مرتين بعنوان أن الشارع أمر - وجوباً - بصلاتين للظهر كان هذا تشريعاً محرّماً, أمّا لو أتى بصلاتين بعنوان إن الشارع أمر بصلاة واحدة وإني لا أعلم هل أمر بصلاة واحدة في هذا الثوب, أم بصلاة واحدة في ذلك الثوب؟ فإنّ هذا ليس من التشريع»(1).

ثانياً: أنّ مركز التشريع: النفس, إذ هو عبارة عن نسبة مالم يعلم كونه من الدين إلى الدين, ومركز النسبة: النفس, لا العمل, فلا ينهى عنه حتّى يستتبع البطلان، إلاّ أن يقال: إنّ عنوان التشريع وإن لم ينطبق على العمل, إلاّ إنّه ينطبق عليه عنوان (البدعة) وهو كافٍ في إبطال العمل، أو يقال: بأنّ

ص: 259


1- بيان الفقه 1: 111.

عدم الأمر كافٍ في البطلان، فتأمّل.

ثالثاً: أنّ التشريع متحقّق فيما زاد على المأمور به الواقعي, وأمّا فيه فلا تشريع؛ لكونه طاعة للمولى, وليس في الطاعة تشريع، فتأمّل.

القسم الرابع: الأُمور التعبّدية التي لا يتوقّف الامتثال الإجمالي فيها على التكرار
اشارة

كما إذا تردّد أمر عبادي بين الأقلّ والأكثر، فهل يكفي الامتثال الإجمالي فيها مع تمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي؟

مثلا: لو شكّ المكلّف أنّ «القنوت» واجب في الصلاة أو لا؟ وتمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالواقع, فهل يحقّ له أن يصلّي صلاة محتوية على القنوت، ويترك تحصيل العلم التفصيلي أو لا؟

والإشكال في ذلك من جهات:

الجهة الأُولى: من جهة الإخلال بنيّة الوجه.

حيث إنّه مع عدم تحصيل العلم بحكم الجزء لا يمكن أن يؤتى بالعمل بنيّة الوجه (أي بقصد الوجوب أو الاستحباب).

والجواب عن ذلك يتمّ من خلال البحث في مقامين:

المقام الأوّل: هل الموافقة الإجمالية تستلزم الإخلال بنيّة الوجه بلحاظ المجموع المركّب؟

المقام الثاني: هل الموافقة الإجمالية تستلزم الإخلال بنيّة الوجه بلحاظ الجزء المشكوك؟

أمّا المقام الأوّل

فالمعروف بين الفقهاء رضي اللّه عنهم أنّ إشتمال المجموع المركّب على أجزاء

ص: 260

مشكوكة الوجوب لايقدح في «نيّة الوجه» بالإضافة إلى «المجموع المركّب»، بل لا يقدح اشتمال المجموع المركّب على أجزاء يعلم بعدم وجوبها في «نيّة الوجه» بلحاظ «المجموع المركّب».

قال صاحب العروة (رحمه اللّه) : « لا ينافي نيّة الوجوب اشتمال الصلاة على الأجزاء المندوبة، ولايجب ملاحظتها في ابتداء الصلاة، ولا تجديد النيّة على وجه الندب حين الإتيان بها»(1).

ووافقه على ذلك السيّد الوالد، والشيخ الحائري، والمحقّق العراقي، والسيّد أبو الحسن الأصفهاني، والسيّد البروجردي، والسيّد عبدالهادي الشيرازي، والسيّد الخونساري، والسيّد الگلپايگاني.

وعلّق السيّد الحكيم (رحمه اللّه) بعد قوله « الأجزاء المندوبة» بقوله: «الظاهر أنّ الأجزاء المستحبّة يؤتى بها بقصد الأمر الندبي غير أمر الصلاة، ويكفي صحّته إجمالا»(2).

وعلّق المحقّق النائيني (رحمه اللّه) بقوله: «بشرط أن لا ينوي وجوبها»(3).

وتحقيق المطلب أنّ دوران الأمر في المقام على نحوين:

النحو الأوّل: دوران أمر المشكوك بين كونه جزء المهيّة أو جزء الفرد.

وبعبارة أُخرى بين كونه جزءاً واجباً أو جزءاً مستحبّاً.

وبعبارة ثالثة بين كونه جزءاً واجباً و أمراً مستحبّاً.

ص: 261


1- العروة الوثقى 2: 440.
2- العروة الوثقى2 : 440.
3- العروة الوثقى 2: 440.

وذلك كالسورة لو فرض الشكّ في كونها جزءاً واجباً من الصلاة، أو أمراً مستحبّاً؟

النحو الثاني: دوران أمر المشكوك بين كونه جزءاً داخلاً -بنحويه: جزء الفرد، وجزء المهيّة- أو مقارناً خارجاً من غير مدخلية له في الصلاة، أصلاً. وذلك كجلسة الاستراحة، لو فرض دوران أمرها بين الجزئية، وكونها أمراً مقارناً لا يرتبط بالصلاة أصلاً.

وهنالك نحو ثالث وهو دوران أمر المشكوك بين الجزئية والمانعية، كما لو فرض الشكّ في كون التسبيحة الثانية والثالثة من الركعة الثالثة والرابعة واجباً، أو محرّماً لأجل استلزامهما وقوع بعض الصلاة خارج الوقت، إلاّ أنّ هذا النحو أجنبي عن محلّ الكلام؛ إذ هو من دوران الأمر بين المحذورين ولا يمكن الاحتياط فيه، وكلامنا في المقام في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، فينحصر البحث في النحوين الأوّلين:

النحو الأوّل: دوران أمر المشكوك بين كونه جزء المهية أو جزء الفرد.

وفي هذه الصورة يمكن: قصد الوجه بنحو تفصيلي رغم احتواء المجموع المركّب على ما يحتمل إستحبابه؛ وذلك بأحد بيانين:

1- البيان الأوّل: إنطباق الطبيعة على الفرد

وتوضيح ذلك يتمّ ببيان أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ الوجوب قد تعلّق بالطبيعي (أو بالطبيعة).

وهذا واضح، لأنّ موضوع الصلاة واجبة هو طبيعي الصلاة.

الأمر الثاني: إنّ الطبيعي ينطبق على الفرد بتمام ما له من المشخّصات

ص: 262

الفرديّة - على نحو الانطباق القهري.

توضيحه: بمثال من المركّبات الحقيقية: إنّ زيداً مركّب من حيثيتين: حيثية الهيئة النوعية التي هي عبارة عن الحيوان الناطق. وحيثية المشخّصات الفردية - التي هي عبارة عن الكمّ, والكيف, والأين, والمتى, وغيرها من المقولات العرضية. و زيد عبارة عن المجموع المركّب من « المهية النوعية والمشخّصات الفردية، وحيث إنّ زيداً إنسان، وحيث إنّ الطبيعي ينطبق على فرده بتمامه وكماله، باعتبار وضعه للمفهوم اللاّبشرطي، واللاّبشرط يجتمع مع ألف شرط ينطبق الإنسان - وهو الطبيعي- على زيد - وهو الفرد- بتمام ما يحتوي عليه من أجزاء المهية وأجزاء المشخّصات الفردية. أي أنّ زيداً بكلّه إنسان. لا أنّه إنسان بأجزائه التحليلية فقط (أي بحيوانيته وناطقيته).

مثال آخر: للبيت نوعان من الأجزاء:

أجزاء المهية، كالجدران الأربعة والسقف مثلاً، وأجزاء الفرد: كالسرداب، وأجزاء الفرد إن لم توجد لم يقدح وجودها في صدق المهية على ما هو واجد للجدران الأربعة والسقف، وإن وجدت انطبق عليها مفهوم البيت بتمامها وكمالها، لا أنّ البيت هو ما عدا السرداب، فالبيت المحتوي على السرداب بيت فقط، لا أنّه بيت وزيادة.

وكما الأمر في المركّبات الحقيقية كذلك هو في المركّبات الاعتبارية فوزانها وزانها.

فالصلاة لها أجزاء دخيلة في تكوين المهية - كالركوع مثلاً - ولها أجزاء

ص: 263

دخيلة في تكوين الفرد - كالاستعاذة مثلاً. وحيث إنّ الطبيعي ينطبق على الفرد بتمامه وكماله, ينطبق طبيعي الصلاة على المجموع المركّب من أجزاء المهية وأجزاء الفرد، لا أنّه ينطبق على أجزاء المهية فقط.

وبعبارة أُخرى: الصلاة موضوعة لطبيعة لها عرض عريض وتشمل أفراداً مختلفة، فهي تشمل الصلاة في أوّل الوقت وآخره، والصلاة في البيت والمسجد والحمّام، والصلاة الواجدة للقنوت والفاقدة له، وهذه كلّها تمثّل المشخّصات للطبيعة.

وكما أنّ طبيعي الصلاة ينطبق على الصلاة في أوّل الوقت بتمامها وكمالها، أي بما لها من الخصوصيات الزمانية، وينطبق على الصلاة في المسجد بتمامها وكمالها أي بما لها من الخصوصيات المكانية، كذلك ينطبق على الصلاة مع القنوت بتمامها وكمالها - أي بما لها من الخصوصيات الفردية الكذائية.

كما أنّ الإنسان ينطبق على زيد بتمامه، مع أنّه مركّب من المهية النوعية والمشخّصات الفردية.

وبناءً على ذلك نقول:

السورة - لو شككنا في كونها جزءاً واجباً أو مستحبّاً - لا يخلو أمرها - في عالم الثبوت - من حالتين:

1- أن تكون جزء الهيئة الصلاتية، وحينئذٍ لا يكون هنالك مانع من إتيان المجموع المركّب بنيّة الوجوب: غاية أو وصفاً.

2- أن تكون جزء المشخّصات الفردية، وحيث إنّ الطبيعة تنطبق على

ص: 264

الفرد بشراشره، تنطبق الطبيعة الصلاتية على المأتي به بتمامه وكماله.

فيصح أن ينوي الإتيان بالصلاة الواجبة في حال الإتيان بالصلاة المحتوية على السورة المستحبّة، كما يصحّ أن ينوي الإتيان بالصلاة لوجوبها.

2- البيان الثاني: الأجزاء المستحبّة مستحبّات نفسيّة ظرفها الواجب

حيث ذهب في المصباح إلى أنّه لا معنى للجزء المستحبّ وإنّ ما يسمّى بالأجزاء المستحبّة عبارة عن مستحبّات نفسيّة ظرفها الواجب.

قال في مباحث قاعدة الفراغ والتجاوز: «إنّ الجزئية والاستحباب ممّا لا يجتمعان، ولا يعقل كون شيء جزءاً للواجب ومستحباً؛ إذ الإهمال في مقام الثبوت غير متصور، فإمّا أن تكون الطبيعة المأمور بها مطلقة بالنسبة إلى الخصوصيات، أو تكون مقيدة بوجود خصوصية على نحوٍ يكون التقيد والقيد كلاهما داخلين في المأمور به، أو على نحو يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، فيكون جزءاً على الأول، وشرطاً على الثاني، أو تكون مقيّدة بعدم شيء فيكون مانعاً، ففيما إذا لم تكن الطبيعة المأمور بها مقيدة بوجود خصوصية ولا بعدمها، يكون المكلّف مخيّراً في تطبيقها في ضمن أي خصوصية من الخصوصيات، غاية الأمر كون الخصوصية (تارة) راجحة و(أخرى) مرجوحة و(ثالثة) بلا رجحان ولا مرجوحية، كإيقاع الصلاة في المسجد، أو في الحمّام، أو في الدار، وكالصلاة مع القنوت، أو بدونه، فجميع هذه الخصوصيات غير داخلة في المأمور به. ومعنى كون القنوت - مثلاً- جزءاً مستحباً للصلاة أنّه قد أُمر به إستقلالاً, غاية الأمر كون الصلاة ظرفاً لوقوعها، وإنّ وقوعها في الصلاة موجب لكثرة ثوابها. وبهذا يفترق

ص: 265

عن الدعاء المأثور في شهر رمضان، فإنّ الصوم وإن كان ظرفاً لوقوعه أيضاً، إلاَّ أنّ الدعاء المذكور عبادة بنفسه، ويترتّب الثواب عليه، كما يترتب على الصوم، لا أنّه يوجب كثرة ثواب الصوم.

فتلخّص بما ذكرناه أنّ إطلاق الجزء على الأمور المستحبة مسامحة في التعبير، وليست بأجزاء حقيقة»(1).

ورتّب على ما ذكره بعض الفروع الفقهية منها: أنّه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز عند الشكّ في جزء من المركّب بعد الدخول في أمر مستحبّ، كالشكّ في القراءة مع الدخول في القنوت، وكذا الشكّ في التكبير بعد الدخول في الاستعاذة.

قال: «ويعرف ممّا ذكرناه حكم جملة من الفروع التي ذكرها السيّد (رحمه اللّه) في العروة في الختام المتعلّق بالعلم الإجمالي»(2).

أقول: هنا بحثان:

البحث الأوّل: إنّ هذا المبنى محلّ تأمّل.

بيانه: أنّ أجزاء المهية تتنوّع إلى نوعين:

1- أجزاء تنتفي المهية بانتفائها.

2- وأجزاء لا تنتفي المهية بانتفائها.

ويتحقّق النوع الأوّل فيما لو كانت مدخلية الأجزاء في المهية بالذات،

ص: 266


1- مصباح الأصول 3: 300-301.
2- مصباح الأصول 3: 301.

ويتحقّق النوع الثاني فيما لو كانت مدخليتها فيها بالتبع أو بالعرض.

مثلاً: لو أمر المولى عبده برسم خطّ، كان مخيّراً بين رسم الخطّ القصير - أي أقلّ ما يتحقّق به طبيعي الخطّ- والطويل.

فإذا فرضنا أنّ العبد اختار الثاني كان ما زاد على أقل ما يتحقّق به طبيعي الخطّ جزء الفرد المتحقّق من طبيعي الخطّ.

وحيث إنّ طبيعي الخطّ ينطبق على فرده بتمامه وكماله يكون ما زاد جزء المهية المأمور بها.

إلاّ إنّ هذه الجزئية جزئية للطبيعي بتبع جزئيته للفرد، أو بعرضها. ولا يصحّ أن يقال: إنّ المأتي به خطّ وزيادة بل هو خطّ فقط.

والحاصل: أنّ العبد أتى بالمأمور به لا أنّه أتى بالمأمور به وزيادة، وخاصّة إذا كان رسم الخطّ الطويل على نحو الدفعة - كما لو وضع إصبعه بطولها دفعة على الرمال - لا على نحو التدريج، فهذا العمل مصداق للطبيعة المأمور بها، لا أنّه مصداق للمأمور به ولغيره.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فالقنوت - مثلاً- جزء مهيّة الصلاة، إلاّ أنّه بانتفائه لا تنتفي المهيّة، لو فرض كونه مستحبّاً، لأنّ جزئيته لها ليست بالذات، بل بتبع جزئيته للفرد أو بعرضها، وبانطباق الطبيعي عليه - أي على الفرد.

ونظير المقام - من بعض الوجوه: مصاديق الواجب التخييري والواجب الكفائي، ففي الواجب التخييري يتعلّق الوجوب بالجامع - على ما هو مختار بعض المحقّقين- فإذا اختار المكلّف أحد أفراده كان واجباً، إلاّ أنّه بانتفاء

ص: 267

الفرد لا تنتفي مهيّة الجامع، لإمكان تحقّقها ضمن فرد آخر، وهكذا الأمر في الواجب الكفائي، فتأمّل.

والخلاصة: أنّ المولى أمر بطبيعة ذات عرض عريض، فتنطبق على الفرد الواجد للأجزاء المستحبّة، كانطباقها على الفرد الفاقد، فيكون بكماله وتمامه واجباً.

وممّا يؤيّد ذلك: ما ارتكز في أذهان المتشرّعة من جزئية القنوت -مثلاً- للصلاة، وإنّ المصلّي لا يخرج حالة القنوت عن الصلاة، ليعود إليها بعد القنوت، بل هو متلبّس بالصلاة، سواء كان في حالة القراءة، أم القنوت، أم الركوع، فتأمّل.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ الشكّ في وجوب جزء لا ينافي قصد الوجوب الوضعي بالمجموع المركّب، بل لا ينافيه العلم بالاستحباب. فانقدح أنه لا إخلال بنيّة الوجه بلحاظ المجموع المركّب في هذه الصورة.

البحث الثاني: أنّه لو فرض تسليم المبنى يكون طريقاً ثانياً لإثبات المطلوب، أي إثبات إمكان قصد الوجه تفصيلاً بلحاظ المجموع المركّب مع وجود الشكّ المزبور.

وذلك أنّ المشكوك لا يكون جزءاً من المجموع المركّب - لو فرض كونه مستحبّاً في الواقع- فلا مانع من نيّة الوجه بلحاظ المجموع المركّب.

وبعبارة أُخرى: القنوت لا يخلو أمره - في عالم الثبوت - من فرضين.

الفرض الأوّل: أن يكون واجباً في الواقع. وعليه تكون أجزاء المجموع المركّب واجبة كلّها، فلا مانع من نيّة الوجوب بالمجموع المركّب.

ص: 268

الفرض الثاني: أن يكون مستحبّاً نفسيّاً ظرفه الواجب. وعليه: يكون خارجاً عن حريم المهيّة الصلاتية، فلا مانع من نيّة الوجوب بالنسبة إلى المجموع المركّب.

النحو الثاني: دوران أمر المشكوك بين كونه جزءاً داخلاً أو مقارناً خارجاً.

وفي هذه الصورة يمكن أيضاً قصد الوجه، إلاّ أنّه يكون إجمالياً، حيث إنّ المكلّف يقصد الإتيان بالواجب الواقعي المردّد بين الأقل والأكثر، وإن لم يستطع قصد الوجه تفصيلاّ لإجمال متعلّق الوجوب. ولا فرق بين القصد التفصيلي والإجمالي، لتحقّق المطلوب في الصورتين.

المقام الثاني

هل الموافقة الإجمالية تستلزم الإخلال بنيّة الوجه بلحاظ الجزء المشكوك؟

وبعبارة أُخرى: هل يستطيع المكلّف الإتيان بنفس الجزء المشكوك بداعي وجوبه، أو استحبابه، أو بوصف وجوبه واستحبابه؟

والجواب: كلاّ؛ إذ لا علم له بالوجوب، أو الاستحباب، فيكون الإتيان به بداعيهما أو بوصفهما تشريعاً محرّماً.

إلاّ أنّه يجب البحث في المقام عن ملاك اعتبار قصد الوجه؛ لنرى أنّه هل يقتضي اعتبار الوجه النفسي فقط؟ أو يعمّ الوجه الغيري أو العرضي أيضاً؟

ذهب في النهاية إلى الأوّل واستدلّ عليه بقوله: «أنّ من يقول باعتبار قصد الوجه إنّما يعني الوجه النفسي دون الغيري أو العرضي؛ إذ منشؤه أن

ص: 269

الأعراض القائمة بموضوعات الأحكام واقعاً عناوين لها في نظر العقل، حيث لا يذعن العقل بحسن إلاَّ بما له من الوجه الحسن المنطبق عليه، بلحاظ قيام حجة المحسنة به قيام العرض بموضوعه، وهذا الفعل بما له من الوجه العقلي موضوع للحكم الشرعي واقعاً؛ لتنزه ساحة الشارع عن الأغراض النفسية والاقتراحات الغير العقلائية، ومع معلوميّة الوجه العقلي يجب إتيان الفعل بذلك الوجه، حتى يصدر عنه بما هو فعل حسن بالاختيار، ومع عدم معلوميته يجب إتيانه بالوجه الشرعي المحاذي للوجه العقلي، حتى يصدر الحسن بما هو حسن عن هذا الوجه بالاختيار، ومن الواضح أن الوجه الشرعي المحاذي للوجه العقلي ليس إلاَّ الوجوب النفسي دون الغيري والعرضي، أو الجزئية المنتزعة عن كل واحد بلحاظ الوجوب النفسي المتعلّق بالعمل»(1).

توضيحه:

1- إنّ الحيثيات التعليلية المترتّبة على الموضوعات واقعاً حيثيات تقييدية لها في نظر العقل.

2- إنّ الشارع إذا حكم على موضوع من الموضوعات فليس حكمه حكماً كيفياً، بل هو نابع من انطباق العناوين المحسّنة أو المقبّحة عليه.

3- إنّ العناوين المحسّنة إن علمت فلابدّ من الإتيان بالفعل بما هو معنون بتلك العناوين، وإلاّ لم يكن الفعل بما هو معنون بها صادراً بالاختيار، وإن جهلت فلابدّ من قصدها إجمالا حتّى يكون الفعل الحسن بما هو حسن

ص: 270


1- نهاية الدراية 3: 109.

بانطباق العنوان عليه صادراً بالاختيار، وبنيّة الوجه تمّ القصد الإجمالي، وقد مضى بيان ذلك.

وهذا الملاك كما ترى يختصّ بالواجبات الإستقلالية، وأمّا الواجبات الضمنية فلا يسلّم وجود عنوان من العناوين المحسّنة أو المقبّحة، ينطبق على كلّ جزء جزء من أجزاء المجموع المركّب.

مثلاً: القيام للمؤمن حسن، لانطباق عنوان التعظيم عليه، فلابدّ من قصده، إلاّ أنّه لا يسلّم وجود عنوان من العناوين المحسّنة ينطبق على كلّ جزء من أجزاء الحركة القيامية ليكون قصد ذلك العنوان لازماً، بل لو فرض وجود عنوان من العناوين المحسّنة ينطبق على كلّ جزء لم يكن منشأً لهذا الوجوب المتعلّق بالمجموع المركّب؛ لكونه وجوباً ارتباطياً واحداً، ولو كان العنوان المحسّن المنطبق على الجزء ملاكاً للوجوب لم يكن الوجوب ضمنيّاً، بل كان وجوباً إستقلالياً، وهو خلف.

إذن، فالأمر يدور بين عدم وجود عنوان محسّن ينطبق علی الجزء، وعدم كونه ملاكاً للوجوب، فلا يجب قصده بقصد الوجه.

وممّا يدلّ على ذلك: أنّ من قصد عنوان التعظيم بالقيام كالمؤمن - مثلا - كان فعله منعوتاً بالحسن، وإن لم يقصد بكلّ جزء من أجزاء القيام عنواناً من العناوين المحسّنة منطبقاً عليه.

إيرادان

ولكن قد يورد على ذلك بإيرادين:

الإيراد الأوّل: مركّب من صغرى وكبرى

أمّا الصغرى فهي: أنّ جزء العبادة عبادة.

ص: 271

وأمّا الكبرى فهي: أنّ كلّ عبادة يعتبر فيها قصد الوجه، إذ لا فرق بين عبادة وعبادة.

وأجاب عنه في النهاية: بأنّه قياس مغالطي(1).

توضيحه: أنّ العبادة يمكن أن يراد بها أحد معنيين:

الأوّل: ما يكون حسناً بذاته.

الثاني: ما لا يحصل الغرض منه إلاّ إذا أُتي به بداعٍ قربي. فإن أُريد المعنى الأوّل: فالصغرى ممنوعة، وإن أُريد المعنى الثاني: فالكبرى ممنوعة؛ إذ لو أُريد من العبادة ما يكون حسناً بذاته فالصغرى غير مسلّمة؛ إذ لا يجب أن يكون جزء ما هو معنون بعنوان حسن حسناً بنفسه - كما مثّلنا سابقاً بأجزاء الحركة القياميّة- بل هو مقوم للمعنَّون بعنوان حسن.

وإن أُريد ما لا يحصل الغرض منه إلاّ إذا أُتي به بداعٍ قربي فالكبرى غير مسلّمة؛ إذ ليس الوجه في اعتبار قصد الوجه عقلاً إلاّ ما سمعت من أنّه لقصد العنوان الحسن الواقعي إجمالاً.

وبعبارة أُخرى: قصد الوجه له طريقية نحو قصد العنوان الحسن الواقعي المجهول على نحو الإجمال، وليس له موضوعية في حدّ ذاته فلا يجب قصد الوجه في كلّ عبادة بهذا المعنى، بل في كلّ عبادة بالمعنى الأوّل(2).

وبتعبير آخر: أنّ القياس المزبور فاقد لشرطية تكرّر الحدّ الوسط؛ إذ العبادة في الصغرى بالمعنى الثاني، والعبادة في الكبرى بالمعنى الأوّل، فلا

ص: 272


1- نهاية الدراية 3: 110.
2- نهاية الدراية 4: 301.

يكون القياس صحيحاً.

وهذا الجواب وإن كان متيناً في الجملة، إلاّ أنّه بحاجة إلى تتميم؛ وذلك لأنّ من الممكن أن يكون جزء ما هو معنون بعنوان حسن حسناً في حدّ ذاته، كالقنوت في الصلاة: مثلاً، فإنّه يمكن افتراض تعنونه بعنوان حسن في حدّ نفسه، كعنوان الخضوع للمولى أوالتضرّع إليه.

قال سبحانه: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}(1)...

وحينئذٍ يشمله قوله: (بل من كلّ عبادة بالمعنى الأوّل) فيجب فيه قصد الوجه مع عدم وجوبه.

فالأولى أن يقال: إنّ صرف التعنون بعنوان حسن لا يوجب قصده، إلاّ إذا كان ملاكاً للحكم المولوي.

مثلاً: الصلاة معنونة بعنوان حسن هو « الناهي عن الفحشاء والمنكر » أو « معراج المؤمن » - مثلاً. وهذا العنوان ملاك للوجوب.

فيجب قصده - ولو إجمالاً، بقصد الوجه.

وهي أيضاً معنونة بعنوان حسن آخر وهو أنّها «محصّلة نشاط الروح وصحّة البدن، وطاردة القلق والتوتّر عن الإنسان»- مثلاً. فلو فرض أنّ هذا العنوان ليس ملاكاً للوجوب المولوي، فلا يجب قصده - ولو إجمالاً - بل ربما يكون قصده قادحاً في العبادية. وعليه نقول: إنّ المفروض في المقام أنّ العنوان المنطبق على الأجزاء ليس ملاكاً للوجوب؛ لأنّه وجوب ارتباطي، ومقتضى العنوان المنطبق لو فرض كونه ملاكاً للحكم: الوجوب

ص: 273


1- الأنعام: 43.

الاستقلالي، فلا يجب قصده.

والمتحصّل من جميع ما ذكر: أنّ الأولى أن يجعل الملاك مجموع ما ذكر من:

1- وجود العنوان المنطبق.

2- وكونه ملاكاً للوجوب المولوي.

ولعلّ ذلك هو مقصود النهاية فتأمّل.

الإيراد الثاني

أنّ ملاك اعتبار قصد الوجه لا ينحصر فيما ذكر في النهاية؛ بل هنالك وجوه أُخرى تدلّ على اعتباره، وبعضها وإن لم يشمل الواجبات الضمنية، كالإجماع المدّعى - مثلاً -؛ لكونه دليلاً لبيّاً يقتصر فيه على القدر المتيقّن، إلاّ أنّ بعضها الآخر يعمّ الواجبات الاستقلالية والضمنية، كقاعدة الاشتغال مثلاً، فإنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وهي لا تحصل إلاّ بقصد الوجه في كلّ جزء جزء من أجزاء المركّب.

ويمكن الجواب: بأنّ المراد أنّ عمدة الأدلّة ذلك، وهو مختصّ بالواجبات الاستقلالية.

هذا ولا يخفى وجود الحاكم على الأصالة المزبورة، على ما مضى، فراجع.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّه لا مانع من الامتثال الإجمالي في دوران الأمر بين الأقل والأكثر من ناحية قصد الوجه.

هذا مضافاً إلى ما سبق من أنّ قصد الوجه دليل على وجوبه، بل الدليل

ص: 274

قائم على عدم الوجوب، فراجع.

الجهة الثانية: من جهة وجوب تعلّم الأجزاء والشرائط:

حيث إنّه لو جاز الإحتياط في المقام لما وجب تعلّم الأجزاء والشرائط، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

ووجه بطلان التالي، الأدلّة الدالّة على وجوب التعلّم الظاهرة في الوجوب النفسي.

من الآيات الكريمة، كآية النفْر(1) والسؤال(2)، والروايات الشريفة الدالّة على وجوب تحصيل العلم والتفقّه وذمّ ترك السؤال، مثل قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «طلب العلم فريضة»(3)، وغيره، وكلّها يوجب تعلّم أجزاء وشرائط العبادات التي بها تتحقّق مهيّاتها، فلو فُتح باب الاحتياط لجاز ترك التعلّم في صورة إمكان تحصيل العلم التفصيلي الوجداني، والاقتصار على الامتثال الإجمالي.

وقد ذهب إلى وجوب التعلّم وجوباً نفسيّاً المحقّق الأردبيلي (رحمه اللّه) (4) وصاحب المدارك (رحمه اللّه) (5)، ومال إليه صاحب الكفاية(6).

وفيه: أنّ تعلّم الأحكام ليس واجباً نفسياً، بل هو واجب طريقي، أي أنّه واجب باعتباره طريقاً إلى العمل، فإذا فرض وجود طريق آخر -

ص: 275


1- التوبة: 122.
2- النحل: 43.
3- وسائل الشيعة 27: 25.
4- مجمع الفائدة والبرهان 2: 110.
5- مدارك الأحكام 3: 219.
6- كفاية الأصول: 377.

كالاحتياط - أغنى عنه.

والأمر في حدّ ذاته وإن كان ظاهراً في الوجوب النفسي - كظهوره في الوجوب العيني التعييني - إلاّ أنّ هنالك قرينتين في المقام تدلاّن على كون الوجوب طريقياً:

القرينة الأُولى: القرينة الداخلية بتقريب: ظهور خصوصيّة مادّة (السؤال) و (التعلّم) و (التفقّه) ونحوها من العناوين المأخوذة في أدلّة المقام في كون الوجوب طريقيّاً لا موضوعيّاً، فالأمر بالسؤال ونحوه ظاهر - بحسب الارتكاز العرفي - في الوجوب الطريقي، ويُعلم ذلك بملاحظة النظائر العرفية.

مثلا: إذا قيل: «سل عن الطريق الناس الأعراب». أو قيل «تعلّم قوانين البلد الذي تحلّ فيه». فلذلك ظهور في الطريقية للعمل، فإذا فرضنا وجود طريق آخر - كالاحتياط - كان المكلّف مخيّراً بينه وبين الطريق الأوّل.

القرينة الثانية: القرينة الخارجية

وتتمثّل في بعض الروايات الواردة في المقام.

منها: ما عن مسعدة بن زياد، قال: سمعت جعفر بن محمّد (عليه السلام) وقد سُئل عن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(1)، فقال: إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه فتلك

ص: 276


1- الأنعام: 149.

الحجّة البالغة(1).

وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

الجهة الثالثة: من جهة الإجماع على لزوم معرفة الأجزاء والشرائط.

وهو ظاهر كلام الشريف الرضي (رحمه اللّه) في مسألة الجاهل بوجوب القصر، وظاهر تقرير أخيه الشريف المرتضى (رحمه اللّه) له على ذلك، إذ ظاهر كلامهما ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها(2).

وفيه: أنّ الإجماع المصطلح - بمعنى اتّفاق الكل - غير متحقّق؛ لمخالفة جمهرة كبيرة من الفقهاء، كصاحب المدارك وبحر العلوم وكاشف الغطاء وغيرهم رحمهم اللّه؛ بل كاد أن يكون إجماعاً بين المتأخرين. والإجماع الملاكي غير حاصل؛ إذ اتّفاق هذا المقدار من الفقهاء على الوجوب لا يكشف - كشفاً إنّياً - عن رأي المعصوم (عليه السلام) .

هذا تمام الكلام في الامتثال الإجمالي، مع تمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي العلمي.

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي القطعي والامتثال التفصيلي الظنّي

اشارة

والمراد بالظنّ:

1- تارة يكون«الظنّ الخاصّ» - أي الظنّ الذي قام على اعتباره دليل بالخصوص، غير دليل الانسداد، كالدليل الخاصّ القائم على حجّية خبر

ص: 277


1- الأمالي: 227؛ بحار الأنوار 2: 29.
2- فرائد الأصول 1: 194.

الثقة مثلاً.

2- وأُخرى يكون «الظنّ المطلق» الثابت اعتباره بدليل الانسداد - لو فرض تسليمه.

فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل
اشارة

في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي القطعي والامتثال التفصيلي الظنّي - بالظنّ الخاصّ.

وفيه بحثان:

1- بحث ثبوتي.

2- وبحث إثباتي.

أمّا البحث الثبوتي: فهو أنّ الدليل الذي يدلّ على حجّية الظنّ الخاصّ على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون مفاده حجّية الظنّ في ظرف عدم التمكّن من الامتثال العلمي الإجمالي (أي الاحتياط). فيكون جعل الحجّية جعلاً خاصّاً بصورة عدم التمكّن من العلم - حتّى الإجمالي منه.

وفي هذه الحالة يكون الامتثال الإجمالي متعيّناً؛ لأنّه يوجب العلم، مع عدم وجود طريق آخر للامتثال؛ لعدم اعتبار الظنّ حسب الفرض.

النحو الثاني: أن يكون مفاد حجّية الظنّ مطلقاً - أي حتّى في صور التمكّن من الامتثال العلمي الإجمالي.

وهنا يكون كلا الطريقين مجزياً، أمّا الامتثال الظنّي التفصيلي فلفرض

ص: 278

إطلاق دليله، وأمّا الامتثال العلمي الإجمالي فلأنّه محرز للواقع.

وأمّا البحث الإثباتي: فقد يقال: إنّ ظاهر أدلّة حجّية الظنون الخاصّة - بل كاد أن يكون صريح جملة منها- أنّ الظنّ حجّة مطلقاً.

مثلاً أدلّة حجّية خبر الثقة كقوله (عليه السلام) : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا»(1) وقوله (عليه السلام) : «العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان...»(2). وغيرهما تقتضي حجّية الخبر وإن أمكن الامتثال الإجمالي القطعي - كما هو كذلك في كثير من الموارد.

وهكذا الأمر في أدلّة حجّية الظنّ في الشبهات الموضوعية - وإن كانت خارجة عن محلّ الكلام - مثل أدلّة حجّية الظنّ في باب القبلة، كقوله (عليه السلام) : «تحرّ القبلة جهدك»(3) وقوله (عليه السلام) : «يجزيه التحرّي.. »(4) وقوله (عليه السلام) : «ضع الجدي خلف... »(5) وغيرها...، فإنّ الامتثال الإجمالي القطعي ممكن في المقام، وذلك بالصلاة إلى أربع جهات. ولم نجد - ولا مورداً واحداً - علّق جواز العمل بالظنون الخاصّة (في الشبهات الحكمية) بعد التمكّن من الامتثال القطعي الإجمالي.

وعليه يكون المكلّف مخيّراً بين الامتثال التفصيلي الظنّي، والامتثال

ص: 279


1- وسائل الشيعة 27: 149-150.
2- الكافي 1: 330.
3- مستدرك الوسائل 3: 187.
4- الاستبصار 1: 296.
5- تهذيب الأحكام 2: 45، وفيه >ضع الجدي في قفاك وصلِّ<.

الإجمالي القطعي.

أمّا الأوّل؛ فلإطلاق أدلّته، وأمّا الثاني؛ فلتحقّق موضوعه وهو «الاحتمال الوجداني».

وبعبارة أُخرى: وزان العلم التعبّدي وزان العلم الوجداني، فكما أنّ المكلّف مخيّر بين الامتثال القطعي التفصيلي والامتثال القطعي الإجمالي كذلك هو مخيّر بين الامتثال الظنّي التفصيلي والامتثال القطعي الإجمالي، بل هو أولى منه كما لا يخفى.

تذييلات

التذييل الأوّل: أنّه لو فرضت الطولية بين الإمتثال القطعي التفصيلي، والإمتثال القطعي الإجمالي، فهل الطولية ثابتة بين الامتثال الظنّي التفصيلي والامتثال القطعي الإجمالي؟

كما لو تمكّن المكلّف من تحصيل الحجّة التعبّدية على حكم القصر أو الإتمام، فترك ذلك وجمع بين الصلاتين؟

الظاهر أنّ مباني «الطولية» - في ذلك المقام- مختلفة، وباختلافها تختلف النتيجة في هذا المقام.

فتارة تكون النتيجة الطولية، وأُخرى تكون العرضية، وثالثة: التفصيل - مثلاً:

1- لو كان المبنى: أنّ التكرار لعب وعبث بأمر المولى، فهو يختصّ بصورة دوران الأمر بين الامتثال القطعي التفصيلي، والامتثال القطعي الإجمالي.

ص: 280

وأمّا في صورة الدوران بين: الامتثال الظنّي التفصيلي، والامتثال القطعي الإجمالي فلا لعب ولا عبث، لو اختار طريق الاحتياط، إذ يكون هنالك داعٍ عقلائي للاحتياط وهو «الوصول إلى الواقع» و«تحصيل الغرض الواقعي المولوي»، وهو لا يتوقّف بالامتثال التفصيلي الظنّي؛ بل بالامتثال اليقيني الإجمالي.

وبعبارة أُخرى: الامتثال التفصيلي الظنّي وإن ضمن المعذرية إلاّ أنّه لا يضمن الوصول إلى الواقع ومن هنا يحتاط المكلّف لضمان الوصول إليه.

وعليه: فإذا فرض كون الاحتياط عبثاً في صورة التمكّن من الموافقة القطعيّة التفصيليّة، فإنّه يعتبر إيغالاً في الانقياد للمولى في صورة التمكّن من الموافقة الظنّية التفصيلية، كما تشمله أوامر الاحتياط كقوله (عليه السلام) : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1). وعليه يكون المكلّف مخيّراً بين الموافقة الظنّية التفصيلية، والموافقة القطعيّة الإجمالية.

2- لو كان المبنى: أنّ التكرار مستلزم لعدم تمحّض العمل في الداعي القربي فمقتضاه التفصيل؛ إذ العدول عن الامتثال الظنّي التفصيلي إلى الامتثال القطعي الإجمالي إن كان للتخلّص منه مشقّة تحصيل العلم التعبّدي، كان العمل باطلاً، للتشريك في الداعي. وإن كان لأجل الوصول إلى الواقع والاحتياط الذي هو حسن على كلّ حال كان العمل صحيحاً.

فتكون النتيجة الطولية في الصورة الأُولى، والعرضية في الصورة الثانية.

هذا ولكن ذكر في المنتقى: «.. فالعدول عنه إلى الموافقة الإجمالية

ص: 281


1- وسائل الشيعة 27: 167.

يلازم التشريك في الداعي في كلّ من العملين .... فتختلّ المقربية المعتبرة في العبادة»(1). والنظر فيه يظهر ممّا تقدّم.

3- لو كان المبنى الإجماع المدّعى - مثلاً- فالظاهر شموله للصورتين.

وذلك لأنّه نقل الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والآخذ بالاحتياط، مع أنّ الامتثال التفصيلي في صورة التقليد يكون ظنيّاً لا قطعيّاً في كثير من الحالات، وكذا في صورة الاجتهاد. فمقتضى هذا المبنى: الطولية بين الامتثالين.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ المبنى تارةً يقتضي صحّة الاحتياط، وأُخرى بطلانه، وثالثة: التفصيل.

تتمّة التذييل الأوّل: سبق أنّ المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ذهب إلى أنّ مرتبة الامتثال القطعي التفصيلي متقدّمة على مرتبة الامتثال القطعي الإجمالي، لأنّه مع التمكّن من الترك عن الإرادة المعلومة - كما في صورة الامتثال التفصيلي - لا يحسن الترك عن الإرادة المحتملة - كما في صورة الامتثال الإجمالي. وقد ذكر أنّ جميع ما ذكر في العلم الوجداني يجري في الظنون المعتبرة؛ لأنّها علم تعبّدي. وعليه لا يجوز التنزّل إلى الامتثال الإجمالي القطعي، مع التمكّن من الامتثال التفصيلي الظنّي. مثلاً: لا يجوز الاقتصار على الاحتياط في دوران الأمر بين الظهر والجمعة، بل يجب الامتثال التفصيلي الظنّي.

وأشكل عليه في البحوث بما توضيحه:

ص: 282


1- منتقى الأصول 4: 134.

أنّه لابدّ من ملاحظة:

1- ملاك الطولية من جانب.

2- ومقتضى دليل الحجّية من جانب آخر.

أمّا ملاك الطولية فهو ما سبق: من أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر متأخّر رتبة عن الانبعاث عن الأمر المعلوم. وأمّا مقتضى دليل الحجّية فهو تنجيز الاحتمال، والتأمين عن الاحتمال الآخر، لا جعل ما ليس بعلم علماً حقيقةً.

ومنه يظهر أنّ الملاك المزبور يختصّ بالامتثال التفصيلي الوجداني، ولا يشمل الامتثال التفصيلي التعبّدي؛ لأنّ الانبعاث فيه عن احتمال الأمر أيضاً لا عن العلم به.

والظاهر: أنّ هذا الإيراد متين على مبنى التنجيز والإعذار، وأمّا على مبنى وجود الأوامر الظاهرية فالانبعاث فيه يكون عن نفس الأمر الظاهري المعلوم، فيدور الأمر بين الانبعاث عن نفس الأمر - بالامتثال التفصيلي الظنّي - والانبعاث عن احتمال الأمر - بالامتثال الإجمالي القطعي - والأوّل مقدّم على الثاني، حسب مبنى المحقّق النائيني (رحمه اللّه) .

نعم: قد يقال: بأنّه يمكن الانبعاث عن نفس الأمر حتّى على مبنى التنجيز والإعذار، لكن لا عن الأمر الذي تضمّنه دليل الحكم الفرعي؛ لعدم ثبوته، بل عن دليل حجّية خبر الثقة مثلاً، كآية النبأ مثلاً. فتأمّل.

التذييل الثاني: ذكرنا أنّه لا فرق بين العلم الوجداني والعلم التعبّدي - مطلقاً أو في الجملة. ولكن يبقى هنالك فارق في المقام، وهو أنّه مع العلم الوجداني لا يبقى مجال للاحتياط؛ إذ العلم الوجداني لا يجامع احتمال الخلاف حتّى يحتاط.

ص: 283

وبعبارة ثانية: موضوع الاحتياط (الاحتمال الوجداني) ومع (العلم الوجداني) لا يبقى مجال للاحتمال الوجداني المضادّ.

وبعبارة ثالثة: القاطع يرى أنّه قد وصل إلى الواقع، فلا معنى لأن يسلك طريق الاحتياط للوصول إلى الواقع، فإنّ ذلك تحصيل للحاصل، وهذا بخلاف العلم التعبّدي، فإنّه لا ينافي احتمال الخلاف، ومعه لا مانع من ضميمة الاحتياط إلى الامتثال الظنّي، بل يكون الاحتياط في المقام - ممّا لا يلزمه الشارع بإدراك الواقع قطعاً - إيغالاً في العبودية والانقياد للمولى - تعالى شأنه.

التذييل الثالث: في جواز تقديم المحتمل على المظنون.

وقع الكلام بين الأعلام في جواز تقديم المحتمل على المظنون في صورة اختيار المكلّف طريق الاحتياط؟

فقد يقال: بعدم جواز ذلك، واختاره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) جرياً على مبناه من كون الاطمئنان الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني قال (رحمه اللّه) : «نعم: إذا عمل المكلّف على طبق الظنّ فلا بأس بإتيان الطرف الآخر المحتمل رجاءً.

مثلاً: إذا علم المكلّف بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة في يوم الجمعة، فالاحتياط بإتيان الصلاتين وإن كان لايحسن قبل الامتثال التفصيلي مع التمكن منه، إلا أنه إذا تفحص عن الأدلة وبنی علی وجوب خصوص صلاة الظهر مثلاً وأتى بها، فيحسن في حقه الاحتياط بإتيان صلاة الجمعة رجاءً؛ لإدراك الواقع، فإن الدليل الظني لا يوجب رفع موضوع الاحتياط، وهو الاحتمال الوجداني، كما كان في القطع الوجداني كذلك، فغاية ما يقتضيه

ص: 284

دليل الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف. والعمل على طبقه في قبال الأمارة من دون اعتناء بها، وأمّا إلغاء احتماله مطلقاً حتى بعد العمل على طبق الأمارة، وسقوط مقتضاها فلا يتكفّل له الأمارة أصلاً.

وهذا هو السر في احتياط العلاّمة الأنصاري (رحمه اللّه) في بعض موارد الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام بتقديم الإتمام على القصر، واحتياط تلميذه العلامة الشيرازي (رحمه اللّه) في تلك الموارد بتقديم القصر على الإتمام»(1).

أقول: الظاهر حصول نوع من الخلط في مفهوم التقدّم والتأخّر، تأخّر رتبة الامتثال الإجمالي عن الامتثال التفصيلي؛ إذ تارةً: يكون المراد كونه بديلا عنه، وهنا قد يقال بتقدّم ذاك على هذا - أي لا يصحّ أن يكون بديلاً عنه- للبرهان المتقدّم. وأُخرى: يراد التقدّم والتأخّر الزمانيان، ولم ينهض البرهان المتقدّم لإثباته.

هذا مضافاً إلى ما في المصباح من: «أنّ الإتيان بالمظنون يكون بداعي الأمر الجزمي الثابت باليقين التعبدي، سواء قُدِّم على المحتمل أو أُخّر عنه، والإتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث، بلا فرق بين التقديم والتأخير، فالكبرى الكلية المذكورة في كلام النائيني (رحمه اللّه) على تقدير تسليمها لا تنطبق على المقام، ولا تفيد لزوم تقديم المظنون على المحتمل»(2).

نعم: قد يقال: بأنّ تقديم المظنون على المحتمل كمال الاعتناء بكلام المولى.

ص: 285


1- أجود التقريرات 3: 83-84.
2- مصباح الأصول 2: 85.

مثلاً: لو قال المولى لعبده: قول ولدي قولي، فقال الولد: إنّ المولى أراد منك الاتّجاه إلى المشرق واحتمل العبد خطأ الولد، وإنّ المولى أراد منه الاتّجاه إلى المغرب، فإنّ تقديم الموهوم - الاتّجاه نحو الغرب- على المظنون - الاتّجاه نحو المشرق- لا يخلو من شائبة عدم كمال الاعتناء بكلام المولى. إلاّ أنّ ذلك يفيد الأولوية، لا الاحتياط الوجوبي، فتأمّل.

المبحث الثاني

في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي القطعي, والامتثال التفصيلي الظنّي - بالظنّ المطلق.

أي الظنّ الثابت اعتباره بدليل الإنسداد - على فرض تسليمه.

ومجمل الكلام في ذلك: إنّ ظاهر كلام الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي - على تفصيل ذكره.

قال: «والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط»(1).

هذا ولكن صاحب الكفاية لم يرتضِ ما ذهب إليه الشيخ الأعظم واختار التفصيل في المقام(2).

تقريره: بأنّ مبنى الإنسداد:

1- تارةً يكون من مقدّماته عدم جواز الإحتياط - لإستلزام العسر المخل بالنظام أو غير ذلك.

ص: 286


1- فرائد الأصول 3: 73.
2- كفاية الأصول: 276.

2- وتارةً يكون من مقدّماته: عدم وجوب الإحتياط.

فإن بُني على الأوّل فالمتعيّن هو الأخذ بالإمتثال الظنّي التفصيلي؛ لبطلان الاحتياط حسب الفرض. وعليه فلا مناصّ من الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي الإجتهاد والتقليد وإن احتاط في العبادات.

وإن بُني على الثاني: فلا إشكال في الاجتزاء بالامتثال التفصيلي الظنّي، كما لا إشكال في الاجتزاء بالإمتثال الإجمالي العلمي.

أمّا الأوّل فللدليل الدالّ على حجّيته - كما تقتضيه مقدّمات الانسداد على فرض تسليمها. وأمّا الثاني؛ فلأنّه إحراز للواقع، فيكون وزان الظنّ المطلق وزان الظنّ الخاصّ.

المقام الثالث: في كفاية الامتثال الإجمالي مع عدم تمكّن المكلّف من الإمتثال التفصيلي

ولا ينبغي الإشكال في الكفاية، سواء استلزم الاحتياط التكرار أم لا، وسواء كان من الأُمور التوصّلية أم التعبّدية، وسواء كان في الشبهة الموضوعية أم الحكمية؛ وذلك: لحكم العقل والشرع بحسن الاحتياط في هذه الحال.

وبتقرير آخر: الإمتثال الإجمالي هو غاية ما يتمكّن منه العبد في مقام إمتثال أمر المولى.

وبتقرير ثالث: أنّ وجوه المنع السابقة لا يرد شيء منها في المقام.

مثلاً: الطولية التي بنى عليها المحقّق النائيني (رحمه اللّه) لا مسرح لها في المقام؛ إذ ليس الانبعاث عن شخص الأمر ممكناً، على ما هو المفروض، وكون الاحتياط مستلزماً للّهو واللّعب غير وارد؛ إذ لا لهو ولا لعب، بل الداعي

ص: 287

العقلي والشرعي موجود، وهو إحراز امتثال أمر المولى.

والإجماع المدعى خاصّ بصورة التمكّن من طريقي الاجتهاد والتقليد، وهكذا الأمر في سائر الوجوه.

مثال ذلك: إذا لم يعلم المكلّف أنّ وظيفته القصر أو التمام، ولم يكن له طريق إلى الامتثال التفصيلي - مطلقاً - فلا شكّ في جواز الاحتياط؛ بل وجوبه.

مثال آخر: إذا لم يعلم المكلّف أنّ أيّاً من الماءين هو المطلق، ولم يكن له ماء محرز الإطلاق، فلا إشكال في جواز التوضؤ بهما معاً.

مثال ثالث: إذا لم يستطع المكلّف من العلم بصيغة النكاح المؤثّرة في إيجاد العلقة الزوجية، ولم يستطع تحصيل الحجّة على ذلك، فلا إشكال في جواز الجمع بين صيغ النكاح التي يعلم بوجود الصيغة المؤثّرة في ضمنها.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

هذا تمام الكلام في مباحث القطع.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 288

المقصد الثاني : الأمارات

اشارة

ص: 289

ص: 290

مقدّمة

تحتوي على مباحث:

المبحث الأوّل: في عدم إقتضاء الظنّ الحجّية بذاته

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: في عدم إقتضاء الظنّ للحجّية بذاته في مرحلة إثبات التكليف. أي أنّ الظنّ ليس حجّة بذاته في تنجيز الحكم المظنون.

المقام الثاني: في عدم إقتضاء الظنّ للحجّية بذاته في مرحلة إسقاط التكليف. أي أنّ الظنّ ليس حجّة بذاته في التأمين عن التكليف الذي إشتغلت به ذمّة المكلّف قطعاً.

المقام الأوّل: في عدم إقتضاء الظنّ للحجّية في مرحلة إثبات التكليف

اشارة

وتفصيل الكلام في ذلك: إنّ هنالك ثلاثة أنحاء من النسبة بين المعروض والعارض:

النحو الأوّل: نسبة الضرورة. وقد يعبّر عنها بنسبة العلّية التامّة، كنسبة الأربعة إلى الزوجية.

النحو الثاني: نسبة الرجحان الذاتي. وقد يعبّر عنها بنسبة الإقتضاء بالمعنى الأخصّ، كنسبة النار إلى الإحراق.

ومعنى الاقتضاء - بالمعنى الأخصّ - كون الشيء مؤثّراً لولا المانع.

النحو الثالث: نسبة اللاإقتضاء. وقد يعبّر عنها بنسبة اللابشرطية المطلقة،

ص: 291

كنسبة الماهية إلى الوجود أو العدم، ونسبة الجدار إلى البياض واللابياض.

أمّا النحو الأوّل

فمن الواضح أنّ الحجّية بالنسبة إلى الظنّ ليست ضرورية الثبوت، وليست الحجّة من ذاتيات الظنّ، لا بذاتي باب البرهان ولا بذاتي باب الكلّيات؛ وذلك بخلاف القطع، فإنّه يقتضي الحجّية بذاته، فهي لازمة ذاته، ولا يمكن أن تنفك عنه بأي حال من الأحوال.

ويدلّ على ذلك الوقوع، فإنّ الشارع سلب الحجّية عن بعض الظنون حتّى القوية منها، كالقياس، فلو كان الظنّ يقتضي الحجّية - على نحو العلّية التامّة - لم يمكن سلبها عنه.

وأمّا النحو الثاني: أي الاقتضاء بالمعنى الأخصّ

بمعنى كون الظنّ مؤثّراً في الحجّية لولا المانع. فالمعروف بينهم أنّ الظنّ لا يقتضي الحجّية على هذا النحو في مرحلة إثبات التكليف.

وبعبارة أُخرى: إنّ صرف عدم المانع لا يكفي في حجّية الظنّ، بل تحتاج الحجّية - في مرحلة ثبوت التكليف - إلى المقتضي، كالجعل الشرعي مثلا.

وبناءً على ذلك، لو ظنّ المكلّف من الأمارات أو الطرق التي لم تثبت حجّيتها بحكم من الأحكام لم يكفِ ذلك في تنجيز التكليف في ذمّته.

أدلّة المشهور على عدم الاقتضاء
اشارة

وقد استدلّ للمشهور في ذلك بأدلّة.

ص: 292

1- حكم العقل

إستقلال العقل بعدم إقتضاء الظنّ للحجّية - بأي نحو من الأنحاء - وأنّه إذا وصل الظنّ للعبد بتكليف من قبل المولى لم يحكم عقله بكونه منجّزاً عليه، ولم يره تحت الخطر.

وبعبارة أُخرى: الحجّية ذات آثار، أو تستبطن أُموراً:

منها: المنجّزية عند الإصابة.

ومنها: المعذّرية عند الخطأ.

ومنها: أنّ مخالفة الحجّة تعتبر تجرّياً.

وهذه الآثار أو المقوّمات كلّها منتفية عن الظنّ لو لوحظ في حدّ ذاته. وهو دليل على انتفاء الحجّية.

2- بناء العقلاء

بناء العقلاء على عدم ترتّب تلك الآثار على الظنّ بما هو هو من دون ضميمة مرجّح خارجي.

وبين (حكم العقل) و(بناء العقلاء) عموم مطلق؛ إذ بناء العقلاء قد ينشأ من (حكم العقل) وقد ينشأ من غيره.

مثال الأوّل: بناء العقلاء - بما هم عقلاء - على استحقاق العاصي للعقوبة، وحكم العقل بذلك.

ومثال الثاني: بناؤهم على العمل بقوانين المرور مثلا، مع عدم حكم العقل بذلك.

فالإشارة الحمراء - مثلا - تواضع العقلاء على وجوب التوقّف عندها في بعض البلاد من أجل عدم إختلال النظام، لا لأنّها بذاتها تقتضي التوقّف،

ص: 293

ولا لإنطباق عنوان على خصوصها يقتضيه لدى العقل.

ولذا تواضعوا على إقتضائها: الإنطلاق في بعض البلاد الأُخر.

وهكذا الأمر في كثير من العادات والتقاليد التي استقرّ عليها بناء بعض المجتمعات، والتي قد تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر.

والحاصل: إنّ العقل قد يرى الشيء بذاته معروضاً لحكم، كما في قضية (الظلم قبيح)، وقد يراه مصداقاً للمعروض، كما في قضية: (تعذيب ذي الروح قبيح). وقد لا يراه معروضاً ولا مصداقاً للمعروض، وحينئذ فقد يبني عليه العقلاء لجهة من الجهات، فيكون بناء العقلاء قائماً عليه، دون حكم العقل.

هذا وقد يقال: بأنّ بينهما عموماً من وجه، إذ قد يكون حكم العقل ثابتاً بدون وجود بناء من العقلاء عليه، كما في حكم العقل باستحالة عدم تناهي الأبعاد. إلاّ أنّ ذلك إنّما يجري في قضايا العقل النظري، وإمّا بلحاظ العقل العملي فالنسبة هي العموم المطلق، فتأمّل.

3- انتفاء الخلاف بين المتشرّعة

نفي الخلاف بين المتشرّعة، أو تسالمهم على ذلك.

أقول: لم يُعلم كون الدليل الثالث دليلا في عرض الدليل الثاني.

بيان ذلك: أنّ تسالم المتشرّعة على شيء على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون تسالمهم على شيء بما هم متشرّعة، كما لو فرض تسالمهم على مسح الرجل ببعض الكفّ في الوضوء.

وهذا التسالم - إن ثبت - كاشف إنّي عن البيان الشرعي، على نحو

ص: 294

كشف المعلول عن علّته.

النحو الثاني: أن يكون تسالمهم على شيء بما هم عقلاء، كتسالمهم على العمل بظواهر الألفاظ، وهذا لا يكشف عن البيان الشرعي، إلاّ بضميمة التقرير الشرعي - بشرائطه المقرّرة.

وقد يشكّ في كون التسالم من هذا القبيل أو ذاك. وحيث إنّ الأصل عدم الحجّية لا تثبت حجّية المشكوك إلاّ لو ضمّ إليه التقرير الشرعي.

وعلى كلّ حال: فما نحن فيه من قبيل ما يشكّ في اندراجه في النحو الأوّل أو الثاني، وحينئذ لا ينهض دليلا مستقلا في عرضه.

فالعمدة - إذاً - حكم العقل وبناء العقلاء.

مناقشة الوالد رحمه اللّه في مبنى المشهور

هذا ولكن السيّد الوالد (رحمه اللّه) أشكل في مبنى المشهور، إذ إنّه ذهب إلى أنّ الظنّ يقتضي الحجّية إلاّ أن يمنع عنها مانع. واستدلّ على ذلك بأمرين:

الأول: بناء العقلاء على العمل بالظنّ

بناء العقلاء على العمل بالظنّ في كافّة أُمورهم- إلاّ ما خرج بالدليل(1).

أقول: حتّى أنّهم يعملون بالظنّ في الأُمور الخطيرة، مثل قضايا النفوس والأموال الخطيرة. مثلا: الملايين من العقلاء يركبون الوسائل النقلية الحديثة، مع عدم القطع بالسلامة، مع أنّ « نفس الإنسان » أهمّ شيء عنده -عادةً- وهكذا في ركوب السيارة والباخرة ونحوهما.

ص: 295


1- الأصول: 619.

ولعلّ الوجه في ذلك: عدم كفاية القطعيات لإدارة النظام، كما ألمع إليه (رحمه اللّه) بعنوان الاحتمال(1).

الثاني: سيرة المتشرّعة

جريان سيرة المتشرّعة على الإكتفاء بالظنّ في الأُمور المرتبطة بالشارع، مثل اكتفائهم بالظنّ في إعطاء الخمس والزكاة، وكذا في شؤون الأوقاف، ومثل ذلك في العبادات الإستيجارية ونحوها.

ولا يخفى أنّ هذا مرتبط بالإكتفاء بالظنّ في مرحلة سقوط التكليف، وكلامنا فعلا في الإكتفاء به في مرحلة ثبوت التكليف.

موارد فقهية ومسائل أُصولية إعتبر فيها الظنّ

قال (رحمه اللّه) : ويؤيّده قوله (عليه السلام) : «حتّى يستبين»(2) - في رواية مسعدة بن صدقة - فإنّ الظنّ نوع من الإستبانة عرفاً، وقوله (عليه السلام) : «يجزيه التحرّي فأما إذا تمكن فلابد من الصلاة إلى أربع جهات»(3) – في تعيين جهة القبلة- وقوله (عليه السلام) : «ليسأل الناس الأعراب»(4) في تحديد الميقات. وما ورد من حجّية الظنّ في الركعات(5). ونحو ذلك ما ذكره صاحب العروة (رحمه اللّه) من تقديم مظنون الأعلمية على غيره عند عدم إمكان العلم(6).

ص: 296


1- الأصول: 619.
2- الكافي 5: 313-314.
3- الاستبصار 1: 296.
4- الأصول: 620.
5- الأصول: 620.
6- العروة الوثقى 1: 23-24.

وقال (رحمه اللّه) : ويصدق ما ذكرناه: حجّية الخبر والظواهر والمشهور(1).

ثمّ إنّه (رحمه اللّه) فرّع على ما سبق كون الظنّ قابلا للمنع على مبناه وللتتميم على مبنى المشهور(2).

وقال (رحمه اللّه) : وأيضاً من جهة الدليل الأقوى علماً أو ظنّاً فإنّه يسقط الأضعف، كما هو بناء العقلاء أيضاً(3).

وقال (رحمه اللّه) : «إنّ تعبّد العقلاء في أُمورهم به، والشارع لم يحدث طريقاً جديداً إلاّ ما استثناه، فالأصل بالعكس»(4).

مناقشتان

الأولى

أقول: في المقام بحثان: أحدهما صغروي والآخر كبروي.

فهل العقلاء يعوّلون على الظنّ أو الاطمئنان في شؤونهم؟

أمّا البحث الصغروي فحاصله: إنّ العقلاء هل يعوّلون على الظنّ أو الاطمئنان في شؤونهم؟

مثلا: لو فرضنا أنّ مدينة تحتوي على مليون سيارة، وكانت حوادث الاصطدام بمعدّل عشر حوادث في كلّ يوم، فإنّ نسبة احتمال إصطدام

ص: 297


1- الأصول: 620.
2- الأصول: 619.
3- الأصول: 619.
4- الأصول: 631. «ومراده بالعكس كما أشار إليه في الهامش: إنّ الأصل جواز التعبّد بالظن إلاَّ إذا دلّ الدليل على عدمه» (منه (رحمه اللّه) ).

السيارة التي يركب فيها الإنسان هي نسبة العشرة إلى المليون، أي نسبة الواحد إلى المئة ألف.

وهذه النسبة - في ضوء حساب الاحتمالات - نسبة ضئيلة جدّاً لا يعتني بها العقلاء؛ إذ العقلاء لا يسعهم الاعتناء بالاحتمالات الضئيلة في مقام العمل...، وإن كان لهذه الاحتمالات موقع في معادلات (العقل النظري) ولذا قيل: (إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال).. إلاّ أنّ هنالك فرقاً بين معادلات (العقل النظري) و (العقلى العملي) - ومرادنا به ما يبني عليه العقلاء في مقام العمل.

وعلى هذا فالإنسان الذي يركب السيارة يشعر بالاطمئنان - عادةً - بالسلامة، لا أنّه يظنّ بها.

وهذه النسبة الإحتمالية تنخفض إلى درجة كبيرة حين ركوب الطائرة؛ إذ ربما يكون احتمال التعرّض للخطر نسبة الواحد إلى المليون، وإن كان المحتمل أشدّ خطورة، وعلى كلّ فمن غير الواضح اعتماد العقلاء في شؤونهم على مجرّد الظنّ.

موارد مستثناة

نعم, قد يتسامح العقلاء في الأُمور الحقيرة فيعتمدون فيها على الظنّ، بل قد يكتفون فيها بصرف الإحتمال؛ لعدم وجود أهميّة لها في نظرهم.

كما أنّهم قد يعتمدون على الظنّ فيما لو كان المورد من قبيل (العنوان المطلوب تحقّقه جزماً) في صورة عدم إمكان (المحصّل القطعي)، فيتنزّلون إلى الظنّ، بل إلى الاحتمال، لتحصيل العنوان المقصود، كما لو إبتلي

ص: 298

الإنسان بمرض خطير يمكن أن يؤدّي به إلى الهلاك، فإنّه قد يطرق جميع الأبواب - حتّى المظنونة والموهومة - لتحصيل الشفاء.

كما أنّه في صورة إنسداد باب العلم والعلمي يتنزّل العقلاء من الإمتثال القطعي إلى الإمتثال الظنّي، بإعتبار قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

الثانية

هل العقلاء يعتبرون الظنّ حجّة فيما بين الموالي والعبيد؟

وأمّا البحث الكبروي، فحاصله: أنّه لو سلّم تعويل العقلاء على الظنّ إلاّ أنّ هنالك أمرين:

1 - اعتماد العقلاء على الظنّ فيما تعلّقت به أغراضهم الشخصية.

2 - اعتبارهم الظنّ حجّة - أي منجّزاً ومعذّراً- فيما بين الموالي والعبيد.

وهذا لا يخلو من تأمّل؛ إذ قد يقال بعدم إستحقاق العبد العقاب في صورة الظنّ بالتكليف ظنّاً لم يثبت اعتباره، كما لو ظنّ بالتكليف من خبر فاسق، أو من الرؤيا مثلا. ولو سُئل العبد بأنّه لِمَ لمْ ترتّب الأثر على الظنّ بالتكليف؟ لإستطاع أن يجيب بأنّه ظنّ لم يثبت إعتباره.

هذا في مرحلة المنجّزية.

وكذا الأمر في مرحلة المعذّرية، فلو كلّف المولى عبده بتكليف فأخبره فاسق لم تثبت حجّية خبره برفع المولى يده عن التكليف، وحصل له الظنّ بذلك، لم يعذر في ترك الامتثال.

التأمّل في الصغريات المذكورة

يبقى الكلام فيما أُشير إليه من الظنون الخاصّة التي قام الدليل - الشرعي

ص: 299

أو العقلائي - على حجّيتها؛ إذ لا إشكال في كونها منجّزة للتكليف ومعذّرة عنه، إلاّ أن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

ويمكن نقض التمسّك بها لإثبات حجّية مطلق الظنّ بالصغريات الأُصولية والفقهية، التي ثبت عدم اعتبار الظنّ فيها، أو قيل بذلك.

فمنها: الظنون القياسية، ونحوها.

ومنها: الظنون الرجالية(1).

ومنها: ما ذكره صاحب العروة (رحمه اللّه) في باب التقليد بقوله: «الظنّ بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفي في جواز العمل، إلاّ إذا كان حاصلا من ظاهر لفظه شفاهاً أو لفظ الناقل أو من ألفاظه في رسالته، والحاصل أنّ الظنّ ليس حجّة، إلاّ إذا كان حاصلا من ظواهر الألفاظ منه أو من الناقل»(2).

وقد وافق على ذلك السيّد الوالد(3) والمحقّق النائيني والشيخ عبد الكريم الحائري، والعراقي، والسيّد أبو الحسن الاصفهاني، والسيّد البروجردي، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد الحكيم، والسيّد الخونساري(4).

ومنها: ما ذكره في العروة في أحكام الأوقات من كتاب الصلاة بقوله: «لا يجوز الصلاة قبل دخول الوقت، فلو صلّى بطلت وإن كان جزء منه قبل الوقت، ويجب العلم بدخوله حين الشروع فيها، ولا يكفي الظنّ لغير ذوي

ص: 300


1- معجم رجال الحديث 1: 40.
2- العروة الوثقى 1: 60.
3- العروة الوثقى 1: 60.
4- العروة الوثقى 1: 60.

الأعذار، نعم يجوز الاعتماد على شهادة العدلين على الأقوى، وكذا على أذان العارف العدل، وأمّا كفاية شهادة العدل الواحد فمحلّ إشكال، وإذا صلّى مع عدم اليقين بدخوله ولا شهادة العدلين أو أذان العدل بطلت...»(1).

إلى آخر الفروع التي ذكرها في هذا الفصل(2).

ومنها: ما ذكره في مباحث الشكّ في الصلاة، من أنّ الظنّ بإتيان الصلاة كالشكّ، سواء كان في داخل الوقت أم خارجه، وكذا الظنّ بعدم الإتيان(3).

ومنها: ما ذهب إليه البعض من أنّ الظنّ في أفعال الصلاة كالشكّ، وما ذهب إليه البعض الآخر من لزوم مراعاة الاحتياط في المقام(4).

ومنها: ما ذهب إليه البعض في كتاب الزكاة، من أنّ مدّعي الفقر لا يصدق، وإن حصل منه الظنّ، بل لابدّ من حصول الوثوق(5).

ومنها: ما ذهب إليه البعض في كتاب الصوم من أنّه لا يجوز الإخبار عن المعصومين (عليهم السلام) على سبيل الجزم مع الظنّ بالكذب، بل وكذا مع احتمال الكذب(6)، إلى غير ذلك من الموارد.

ثمّ إنّه سيأتي الكلام في جريان سيرة المتشرّعة على الإكتفاء بالظنّ في المقام الثاني، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 301


1- العروة الوثقى 2: 276.
2- العروة الوثقى 2: 276.
3- العروة الوثقى 3: 230.
4- العروة الوثقى 3: 318.
5- العروة الوثقى 4: 105.
6- العروة الوثقى 3: 551.

المقام الثاني: في عدم اقتضاء الظنّ للحجّية في مرحلة إسقاط التكليف

اشارة

وسوق الكلام فيه كسوقه في سابقه، إلاّ أنّ هذا المقام يختصّ بمخالفة جملة من المحقّقين لمبنى المشهور، مضافاً إلى السيّد الوالد (رحمه اللّه) .

منهم: المحقّق الخونساري(1)، ومنهم: المحقّق البهبهاني على ما حكي عنهما(2).

الوجوه المحتملة للمخالفة

وقد قيل في وجه ذلك أُمور ثلاثة:

الأوّل: ما إحتمله في الكفاية من أنّه لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل(3).

بيانه: إنّه لو كان دفع الضرر المحتمل واجباً لم يجز الاكتفاء بالظنّ بالفراغ عن التكليف؛ لاحتمال بقائه، المستلزم لاحتمال الضرر على المخالفة، لكن دفع الضرر المحتمل غير لازم، فيجوز الاكتفاء بالظنّ.

وبتقرير آخر: مدرك حكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية هو: قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، فإذا قلنا بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل سقط مدرك قاعدة الاشتغال، فلا تجب البراءة اليقينية، بل يكفي البراءة الظنّية.

الثاني: ما احتمله السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه) من أنّ من المحتمل أن

ص: 302


1- مشارق الشموس: 147.
2- الوصول 3: 376.
3- كفاية الأصول: 275.

يكون وجه ذلك: بناء العقلاء على الاكتفاء به فيه(1).

الثالث: ما احتمله المشكيني (رحمه اللّه) من احتمال كون مستنده هو انسداد باب العلم غالباً في باب الفراغ(2).

ويحتمل أن يكون الوجه في ذلك أيضاً ما سبق نقله عن الوالد (رضوان اللّه عليه) من جريان سيرة المتشرّعة على الإكتفاء بالظنّ في مقام إفراغ الذمّة من التكليف(3).

وهذه الوجوه لا تخلو من نظر
الوجه الأوّل: عدم لزوم دفع الضرر المحتمل

أمّا الوجه الأوّل: فلأُمور:

1- إقتضاء ذلك لكفاية مطلق الإمتثال الإحتمالي

الأمر الأوّل: أنّه لو قلنا بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل فاللازم الإكتفاء بإحتمال الإمتثال مطلقاً، ولا وجه لإشتراط الظنّ.

بيان ذلك: أنّ هنالك صوراً ثلاث:

1- كون الإمتثال مظنوناً.

2- كون الإمتثال مشكوكاً.

3- كون الإمتثال موهوماً.

وفي الصور الثلاث لا يقين بالضرر، بل الموجود احتمال الضرر، فإذا لم

ص: 303


1- الأصول: 621.
2- كفاية الأصول (المحشى) 3: 149.
3- الأصول: 620.

يكن دفع الضرر المحتمل واجباً لزم اقتضاء الظنّ والشكّ والوهم لسقوط التكليف، فلِمَ خصّص الإقتضاء بالظنّ؟

وبعبارة أُخرى: أنّ ما ذكر يقتضي الإكتفاء بالإمتثال الإحتمالي مطلقاً، فلِمَ خصّص بالظنّي؟

2- لا صغرى للقاعدة في المقام

الأمر الثاني: ما ذكره المشكيني (رحمه اللّه) في حاشيته من أنّ صغرى تلك القاعدة ممنوعة في باب الفراغ؛ لكون الضرر قطعيّاً، ببركة إستصحاب التكليف المشكوك إتيان متعلّقه أو إستصحاب عدم إتيانه(1).

والحاصل: أنّه لا صغرى للقاعدة في المقام.

وقد يورد عليه: بأنّه إمّا أن يراد بالضرر: العقوبة أو غيرها.

فإن أُريد الأوّل فليس قطعياً، وإن كان دفعه واجباً، وإن أُريد الثاني: فليس دفعه واجباً، وإن كان قطعياً.

بيانه: أنّه إن أُريد بالضرر العقوبة فليست بقطعية، بل هي محتملة، بل العقوبة ليست بقطعية في المعصية الثابتة بالعلم الوجداني.

وإن أُريد بالضرر غير العقوبة - كإنحطاط الدرجة... فهو وإن كان قطعياً إلاّ أنّ دفعه غير معلوم اللزوم عقلا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ نفس إستحقاق العقوبة ضرر يلزم دفعه عقلا، وإن لم تكن فعلية العقوبة ثابتة.

ص: 304


1- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 149.

وقد ذكر بعضهم أنّ الظهار معصية معفوّ عنها لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ

لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}(1) مع لزوم التجنّب عنها بحكم العقل، فتأمّل.

3- الخلاف في الأضرار الدنيوية لا الأُخروية

الأمر الثالث: ما في المصباح من أنّ «الخلاف في لزوم دفع الضرر المحتمل وعدمه إنما هو في الضرر الدنيوي لا في الضرر الأخروي، فإنه لم يخالف أحد في لزوم دفع الضرر المحتمل الأخروي مع تنجّز التكليف، ألا تری أنه ليس في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي، وفي الشبهة الحكمية قبل الفحص إلاَّ إحتمال الضرر، ومع ذلك أوجبوا الاحتياط في الأول، والفحص في الثاني، وليس ذلك إلاَّ لوجوب دفع الضرر المحتمل»(2).

ويرد عليه: أنّه ليس الملاك في وجوب دفع الضرر المحمتل - بل المقطوع - وعدمه كونه دنيوياً أو أُخروياً، بل كونه خطيراً أو يسيراً، فإن كان خطيراً وجب دفعه ولو كان دنيوياً - كهلاك النفس مثلا، وإن كان يسيراً لم يجب دفعه ولو كان أُخروياً.

ويشهد لذلك أنّ احتمال الضرر الأُخروي قائم في الإتيان بجميع المكروهات، بل لا يبعد القطع بالضرر فيها؛ إذ لا أقل من الندم على الإتيان بها، بل ورد في بعض الروايات أنّ الإتيان بالمباحات يورث الندم في الآخرة، كما يظهر من خبر «الصناديق الثلاثة» مع أنّ العقل لا يوجب دفع

ص: 305


1- المجادلة: 2.
2- مصباح الأصول 2: 89.

هذا الضرر المحتمل، أو المقطوع. فليس الملاك ما ذكره.

قال السيّد العمّ (دام ظله) : «الضرر إمّا بالغ كبير، أو صغير حقير، وكل منهما دنيوي وأخروي، أما الضرر البالغ الكبير فلا شك أن دفعه لازم بالفطرة، سواء كان دنيوياً كضرر القتل، وقطع الأطراف وتلف ما يملك، أم أخروياً، كضرر ارتكاب المحرمات الموجب لاستحقاق العقاب في الدار الآخرة، وأما الضرر الحقير اليسير فلا يلزم الفطرة دفع المتيقن منه، فكيف بالمظنون منه أو المحتمل، سواء كان دنيوياً كضرر نتف شعرة خفيفة، أو قلع جلدة رقيقة، أم أخروياً كضرر (سوء الحساب) الذي يخشاه المتقون في قوله تعالى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}.

نعم، بحكم الفطرة يحسن رفعه، لكن بلا إلزام على فعله، أو ذمّ أكيد على تركه...»(1).

ومنه يعلم الكلام في:

4- الخلاف في الأضرار اليسيرة لا الخطيرة

الأمر الرابع: وهو أنّ الخلاف إنما هو في الأضرار اليسيرة، وأمّا الخطيرة فلا خلاف ولا إشكال في وجوب دفعها، وحيث إنّ الضرر المحتمل في المقام خطير - وهو العقاب- فيجب دفعه، وذلك بسبب تركه التكليف المقطوع به بلا مؤمّن.

5- إناطة لزوم الطاعة بموضوع الضرر غير واضحة

الأمر الخامس: أنّ إناطة باب الطاعة بموضوع الضرر لا يخلو من نظر،

ص: 306


1- بيان الفقه 1: 10-11.

سواء في باب التكليف المعلوم بقاؤه، أم المحتمل بقاؤه؛ إذ لزوم الطاعة يرتبط باقتضاء مولوية المولى وعبودية العبد، سواء كان هنالك ضرر - مقطوع أو محتمل - أم لم يكن.

وبعبارة أُخرى: أنّ نفس مولوية المولى وعبودية العبد تقتضيان الامتثال مع غضّ النظر عن مسألة وجود العقاب وعدمه.

وحينئذ نقول: هل مولوية المولى تقتضي امتثال التكليف المحتمل بقاؤه أو لا؟ أي إنّ امتثال هذا التكليف هل هو من شؤون المولوية والعبودية أو لا؟

فإن اقتضت ذلك وجب الإتيان، وإن لم تكن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ثابتة، وإن لم تقتض ذلك فلا تنهض القاعدة بإثبات وجوب الاتيان؛ لأنّ ثبوت القاعدة فرع ثبوت موضوعها، ومع عدم اقتضاء مولوية المولى لشيء لا احتمال للضرر، فلا يجب دفعه.

فالمدار - إذاً - على ملاحظة مدى اقتضاء مولوية المولى، لا قاعدة دفع الضرر المحتمل.

وبعبارة أُخرى: مولوية المولى إن اقتضت الإفراغ اليقيني وجب الإتيان - وإن لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، وإن لم تقتض ذلك فلا ضرر محتمل كي يجب دفعه. فالقاعدة أجنبية عن المقام على التقديرين، اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بها كدليل ثان على وجوب الإتيان لو فرض المصير إلى اقتضاء مولوية المولى للإتيان.

الوجه الثاني: بناء العقلاء على الاكتفاء بالظنّ في باب السقوط

وأمّا الوجه الثاني وهو إحتمال كون المستند بناء العقلاء على الاكتفاء بالظنّ في باب الفراغ.

ص: 307

مناقشتان

ففيه: أوّلا: ما أجاب به الوالد (رضوان اللّه عليه) من أنّ مقتضى هذا الوجه أن يكون الثبوت كذلك(1)، وعليه فلا يصحّ التفكيك بينهما.

ثانياً: أنّه لم يثبت بناء العقلاء على كفاية الظنّ في باب الفراغ وكونه معذّراً عن التكليف الثابت.

مثلا: لو قال المولى لعبده: (أعط زيداً هذا المال) فظنّ أنّه زيد، فهل يكفي - في نظر العقلاء - إعطاؤه المال؟ وكذا لو قال: (أعط المريض الدواء الكذائي) فظنّ أنّه هو هو.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

وكذا الكلام في سيرة المتشرّعة.

الوجه الثالث: انسداد باب العلم غالباً في باب الفراغ

وأمّا الوجه الثالث: وهو احتمال كون المستند انسداد باب العلم غالباً في باب الفراغ.

مناقشتان

ففيه مناقشتان: صغروية وكبروية.

أمّا المناقشة الصغروية، فهي أنّه لا إنسداد؛ إذ تحصيل العلم أو العلمي بمكان من الإمكان.

مثلا: لو قال: (صلّ إلى القبلة) أمكن تحديد الجهة بالعلم الوجداني أو التعبّدي في كثير من الأحيان.

ص: 308


1- الأصول: 620.

ولو قال: (أعط الخمس إلى الهاشمي) أمكن معرفة كونه هاشمياً بالعلم أو العلمي في كثير من الأحيان.

وأمّا المناقشة الكبروية فهي أنّ العبرة في جريان أحكام الانسداد: الانسداد الغالبي في باب الأحكام، لا الانسداد في أي باب من الأبواب.

قال في المعجم في مقام ردّ دعوى حجّية الظنون الرجالية للإنسداد: «إن انسداد باب العلم في كل موضوع لا يوجب حجية الظن في ذلك الموضوع، وإنّما العبرة في حجية الظن من باب الكشف أو الحكومة بانسداد باب العلم بمعظم الأحكام الشرعية، فإن ثبت ذلك كان الظن بالحكم الشرعي - وإن نشأ من الظن الرجالي- حجة، سواء أكان باب العلم في الرجال منسداً أم لم يكن، وإذا كان باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام مفتوحاً لم يكن الظن الرجالي حجة، سواء أكان باب العلم بالرجال منسداً أم لم يكن»(1).

والسرّ في ذلك: أنّ من مقدّمات دليل الانسداد: أنّ الاحتياط يوجب العسر أو الحرج أو اختلال النظام، والبراءة تستلزم الخروج عن الدين، وهذا الملاك غير متحقّق في المقام، فتأمّل.

ص: 309


1- معجم رجال الحديث 1: 40.

المبحث الثاني: في إمكان التعبّد بالأمارات الظنّية

اشارة

أي هل يمكن جعل الحجّية للظنّ أو لا؟ وذلك كجعل الشارع الحجّية لخبر الثقة أو البيّنة أو الشهرة أو قول اللغوي أو نحو ذلك.

وقبل الخوض في المبحث لابدّ أن نشير إلى معنى « الإمكان » المقصود في المقام.

فنقول:

معاني الإمكان

اشارة

إنّ للإمكان معاني ثلاثة، بغضّ النظر عن القسم الرابع وهو «الإمكان بالقياس» لعدم ارتباط له بالمقام.

1- الإمكان الذاتي.

2- الإمكان الوقوعي.

3- الإمكان الإحتمالي.

1- الإمكان الذاتي

وهو عبارة عن تساوي نسبة المهيّة إلى الوجود والعدم بالنظر إلى نفس ذاته، بحيث لا يقتضي بذاته أحدهما.

وبعبارة أُخرى: ما ليس له بذاته ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم. فيكون في قبال (الوجوب الذاتي) و (الإمتناع الذاتي) اللذين هما عبارة عن كون الشيء بحيث يقتضي - بلحاظ ذاته - الوجود أو العدم اقتضاءً حتمياً،

ص: 310

ويحكم العقل بمجرّد تصوّره أنّه (واجب الوجود) أو (ممتنع الوجود) كوجود اللّه سبحانه - في طرف الوجوب -, وكاجتماع النقيضين - في طرف الامتناع.

وهذا المعنى للإمكان الذاتي لا ينافي إمتناعه بلحاظ ما هو خارج عن الذات، فالممكن بالذات يمكن أن يكون ممتنعاً بالغير.

2- الإمكان الوقوعي

وهو عبارة عن كون الشيء بحيث لا يستلزم وجوده ولا عدمه محذوراً عقلياً.

وبعبارة أُخرى: ما لا يترتّب على وقوعه مفسدة.

وبعبارة ثالثة: ما لا يلزم من فرض وجوده ولا عدمه محال ولا باطل.

وفي قبال ذلك (الإمتناع الوقوعي) وهو عبارة عن كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل أو المحال، وإن لم يكن بمحال ذاتاً، مثل إدخال المطيعين في النار، فإنّه أمر ممكن بلحاظ ذاته، غير أنّ صدوره لمّا كان مناقضاً للحكمة كان محالا.

3- الإمكان الإحتمالي

وهو عبارة عن عدم الجزم بإمتناع الشيء بمجرّد سماعه.

وبعبارة أُخرى: احتمال الإمكان والإمتناع، فالإمكان هنا بمعنى نفس الإحتمال، أي إحتمال وجوده وإمتناعه وعدم القضاء بشيء حتّى تتبيّن الحال.

وبعبارة ثالثة: الإمكان الذاتي عبارة عن صفة ثابتة للمهية، والإمكان الوقوعي عبارة عن حقيقة ثابتة في عالم التكوين، أمّا الإمكان الاحتمالي

ص: 311

فهو عبارة عن حالة نفسية وصفة باطنية حقيقتها عدم الجزم بشيء حتّى يتّضح الواقع.

والخلاصة: إنّ هنالك إمكاناً في مقابل الإمتناع، وإحتمالا في مقابل القطع بالعدم، والأخير هو الإمكان الاحتمالي، وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس بقوله: «كلّما قرع سمعك من الغرائب(1) فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان»(2).

ويشهد لذلك: أنّ المحتمل كما يكون على تقدير ثبوته ممكناً كذلك ربما يكون واجباً أو ممتنعاً، فكيف يحكم بكونه ممكناً بأحد المعنيين الأوّلين؟

مثلا: إذا سمع أنّ هنالك موجوداً ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، داخل في الأشياء لا بالممازجة، وخارج عنها لا بالمباينة.. إلى آخر صفاته تعالى ... فليجعله في بقعة الإمكان، مع كونه واجباً في نفسه. فلا يمكن أن يكون المقصود جعله في «بقعة الإمكان الذاتي» بل المقصود جعله في «بقعة الإمكان الاحتمالي».

كما أنّه لو سمع بوجود ممكن غير متناه - كالفضاء اللاّمتناهي مثلا - فليجعله في بقعة الإمكان الإحتمالي، لا أنّه يجعله في بقعة «الإمكان الوقوعي» لاحتمال كونه ممتنعاً وقوعياً.

وعليه يكون «الغريب» أعمّ من «الواجب» و«الممكن» و«الممتنع» ويكون

ص: 312


1- أو غرائب الزمان.
2- أو قائم البرهان. راجع: الإشارات والتنبيهات 3: 418.

جعله في بقعة الإمكان عبارة عن عدم التسرّع إلى إنكاره حتّى ينهض البرهان على جليّة الحال.

ما هو محل النزاع من معاني الإمكان؟

اشارة

أمّا الإمكان الذاتي، فقد قيل إنّه ليس مورداً للنزاع، وقد عبّر عن وجه ذلك بتعبيرات مختلفة.

فقد قيل: إنّه لا إشكال في عدم كون التعبّد بالظنّ ممتنع التحقّق ذاتاً، وبالنظر إلى نفسه بلا لحاظ لوازمه.

وقيل: إنّه لم يقع فيه نزاع بين الأعلام.

وقيل: إنّه ليس بأمر خفي حتّى يقع فيه النزاع، بداهة قابلية الظنّ - ذاتاً - للحجّية، وليس هو كاجتماع النقيضين أو الضدّين.

وقيل: إنّ البحث في الإمكان الذاتي من شؤون الفلاسفة لا الأُصوليين.

وأمّا الإمكان الاحتمالي فليس أزيد من عدم القضاء بشيء، ومثل ذلك لا يليق أن يقع مورداً للنزاع.

وبعبارة أُخرى: الإمكان الاحتمالي من الأُمور الوجدانية الواضحة التحقّق، إذ كلّ شيء محتمل الوقوع قبل قيام البرهان على إستحالته أو إمكانه، ومثل ذلك غير محتاج إلى إقامة البرهان، مع أنّ المشهور أقاموا البرهان على ما ذهبوا إليه، كما أنّه غير جدير بالخلاف، إذ لا يحتمل أن يكون مدّعى (ابن قبّة) عدم إمكان انقداح (الإمكان الاحتمالي) في أُفق النفس، ومذهب المشهور إمكانه.

وبعبارة ثالثة: الحكم بالإمكان بالمعنيين الأوّلين يحتاج إلى الدليل؛ لأنّه

ص: 313

حكم على المهيّة بأنّها متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، أو حكم على وجود الشيء بأنّه لا يترتّب عليه محذور في عالم التكوين، ولا يصحّ الحكم إلاّ بالدليل.

وهذا بخلاف المعنى الثالث فإنّه ليس إلاّ الاجتناب عن الحكم، وهو لا يحتاج إلى الدليل، بل هو مستمر إلى أن يدلّ دليل على أحد الأمرين.

فتعيّن - إذاً - كون النزاع في (الإمكان الوقوعي) وهو أمر يمكن إحرازه بالبرهان كسائر المسائل العلمية.

هذا ولكن لا يخفى أنّ بعض الوجوه المذكورة لامتناع التعبّد بالظنّ ترجع إلى دعوى «الاستحالة الذاتية».

قال في النهاية: «إنّ التعبّد بالظنّ إذا كان معناه جعل الحكم المماثل فجعل المثل في مورد وجود المثل أو الضد واقعاً عين الجمع بين المثلين أو الضدين في موضوع واحد، لا أنه يلزم من إيجاد المثل في مورد الابتلاء بالمثل جمع بين المثلين غير إيجاد المثل في موضوع مبتلى بمثله، نعم إن التعبد بالظن معنى لازمه جعل حكم مماثل لا عينه، فحينئذٍ لازمه الجمع بين المثلين»(1).

وللكلام تتمّة ستأتي عن قريب إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

ثمّ إنّه بعد الفراغ عن بيان معاني الإمكان:

ينبغي البحث في مقامين:

المقام الأوّل: مقتضى الأصل عند الشكّ في الإمكان.

ص: 314


1- نهاية الدراية 2: 121.

المقام الثاني: المحاذير التي قد تورد على القول بالإمكان.

المقام الأوّل: مقتضى الأصل عند الشكّ في الإمكان
اشارة

أي أنّنا لو فرضنا حصول الشكّ في إمكان التعبّد بالظنّ وعدمه، فهل هنالك أصل متّبع في هذا المقام؟

أصالة الإمكان عند الشيخ الأعظم

ذهب الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) إلى وجود أصل في المقام، وقد يعبّر عنه ب«أصالة الإمكان». وقال: «إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الإستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان»(1).

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): «إنّ العقلاء - مثلاً- يحكمون بعدم إستحالة أن يوجد حيوان له أربعة رؤوس، وأن يكون جبل من ذهب، وأن يطول عمر إنسان إلى ملايين السنين؛ وذلك لأنهم لا يجدون في عقولهم ما يوجب الإستحالة، فالحكم بالإمكان لا يحتاج إلى القطع بعدم الإستحالة، بل على عدم وجدان ما يوجب الاستحالة، وإلاّ فلو كان الأمر بحاجة إلى القطع لما أمكن للعقلاء أن يحكموا بالأمثلة الثلاثة المذكورة وغيرها، مع أن العقل لا يحيط بأسباب الإمكان والإستحالة الوقوعية، وإن أحاط بأسباب الإمكان والاستحالة الذاتية.

وقول ابن سينا: «ما قرع سمعك من غرائم الزمان فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان» إشارة إلى ما ذكرناه من أنّه إذا لم يكن

ص: 315


1- فرائد الأصول 1: 106.

عندك دليل واضح على الاستحالة فقل إنّه ممكن»(1).

الإيرادات الثلاثة لصاحب الكفاية

وأورد عليه صاحب الكفاية بإيرادات ثلاثة:

1 - المنع من ثبوت سيرة العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشكّ في إمكان شيء وإمتناعه، سواء كان المشكوك فيه الإمتناع الوقوعي أم الذاتي.

قال الوالد (رضوان اللّه عليه): «فلو شكّ في إمكان وجود المجرّد سوى اللّه - المختلف فيه - لم يكن بناؤهم على ترتيب آثار الإمكان عليه، بل المحقّق عندهم هو لزوم الفحص والبحث عن إستحالته وإمكانه»(2)، بل ذكر المشكيني (رحمه اللّه) كفاية الشكّ في ذلك(3).

2 - المنع من حجّية السيرة على تقدير ثبوتها.

إمّا:

أ- لعدم قيام دليل قطعي على إعتبارها.

ب- والظنّ بإعتبارها لا يكفي في الحجّية.

لأنّ هذا الظنّ فرد من أفراد « طبيعي الظنّ » الذي لم يثبت إمكان التعبّد به، فكيف يستدلّ به عليه؟

وبعبارة أُخرى: أنّه مستلزم للدور.

ص: 316


1- الوصائل 2: 12.
2- الوصول 3: 377.
3- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 152.

قال المشكيني (رحمه اللّه) : «إنّه لو كان الدليل على حجّيته هو القطع، ففيه منع الصغرى، ولو كان هو العلم بعدم الامتناع الوقوعي في حجية مطلق الظن - الذي أحد مصاديقه الظن المفروض- موقوف على حجية البناء، وهي - أيضاً- موقوفة على حجية الظن المفروض، وحجيته موقوفة على العلم بعدم الامتثال الوقوعي في حجّيته»(1).

3- أنّه مع فعلية التعبّد بالظنّ لا حاجة إلى البحث عن الإمكان، ومع عدمها لا فائدة في البحث عنه.

فهنا دعويان:

أمّا الدعوى الأُولى: فلأنّ الفعلية متفرّعة على الإمكان، بل قيل: «الشيء قرّر, فأمكن, فاحتاج, فأوجب, فوجب, فأوجد, فوجد,» فلو فرضت فعلية التعبّد بالظنّ فهي كاشفة عن إمكانه سابقاً، فالبحث عن الإمكان مستدرك.

وأمّا الدعوى الثانية: فلوضوح أنّ الأثر العملي مترتّب على فعلية التعبّد بالظنّ لا على مجرّد إمكانه.

هذا توضيح ما في الكفاية من الإيرادات الثلاثة(2).

المناقشة في الإيرادات الثلاثة

وهذه الإيرادات يمكن أن يناقش فيها بمناقشات.

الحاجة إلى إثبات الإمكان

أمّا الإيراد الثالث: فبأنّ دلالة الوقوع على الإمكان - باعتبار عدم وقوع

ص: 317


1- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 151.
2- كفاية الأصول: 276.

المحال في الخارج - متوقّفة على إحراز صغروية (الواقع) ل- (الكبرى المدعاة). ولا يتمّ هذا الإحراز إلاّ بنفي جميع الاحتمالات الأُخر؛ إذ حجّية الاحتمال مبطل للاستدلال في باب الأُمور العقلية، وإن لم يكن مبطلا له في باب الظواهر اللفظية، لابتنائها على الظنون النوعية، بخلاف الأُولى، فإنّها تبتني على القطع، وهو لا يجامع احتمال الخلاف مطلقاً.

وبعبارة أُخرى: أنّ دليل الوقوع لا ينهض دليلا على الإمكان بالنسبة إلى من يدّعي الامتناع الوقوعي أو الذاتي؛ إذ المنكر لا يرى ما يدّعيه المثبت من الوقوع واقعاً، أو لا يرى الواقع صغرى للكبرى المدعاة، فإذا دلّ دليل - بظاهره - على وقوع محال فلابدّ من طرحه أو تأويله.

مثلا:

لو ادّعى شخص امتناع انعدام الموجود فاستدلّ على الإمكان بالوقوع، في مثل تحوّل الحي ميّتاً، أمكن له أن يمنع صغروية الأمثلة لمدّعى الخصم، باعتبار أنّ الواقع ليس انعداماً للموجود بل هو تفرّق أجزائه أو تغيير صورته - مثلاً.

وقريب من ذلك: الكلام في الشاكّ.

وبعبارة ثالثة: عدم الحاجة إلى إثبات الإمكان في دعوى الوقوع إنما هو مع تسليم المنكر لدليل الوقوع، وأمّا مع إنكاره، أو شكّه فلا محيص عن إثبات الإمكان أولا، وإقامة الدليل على الوقوع ثانياً.

اجتماع شروط حجّية السيرة العقلائية

وأمّا الإيراد الثاني: فبما ذكره المشكيني (رحمه اللّه) من: «أنّه إذا سلّم البناء فلا

ص: 318

ريب حينئذ في تحقّق المقدّمتين الأخيرتين، وهما عدم الردع، وعدم المانع عنه، فحينئذ يثبت من الثلاثة الحجّية، لإفادتها القطع»(1).

وهذا الجواب لا يخلو من تأمّل، وتوضيحه يتمّ في طي بيان كبرى وصغرى.

أمّا الكبرى: فهي أنّه لا يكفي في حجّية السيرة العقلائية ما ذكر من الأركان الثلاثة، بل لابدّ من ضميمة ركن رابع وهو وجود المقتضي للردع؛ إذ ملاك حجّية السيرة العقلائية هو الإمضاء الشرعي وهو لا يتحقّق إلاّ في صورة ارتباط السيرة الفعلي بالمجال التشريعي، أو خطر امتدادها إلى هذا المجال، بنحو يعتدّ به عند العقلاء.

فالأوّل: كما في اعتبار العقلاء الحيازة سبباً للملكية.

والثاني: كما في اعتمادهم على ظواهر الألفاظ أو خبر الثقة.

فيقال - حينئذ: إنّ هذه السيرة لو لم تكن مرضية من قبل الشارع لوجب عليه النهي عنها، من باب النهي عن المنكر، أو تعليم الجاهل، أو حفظ الأغراض الواقعية، أو نحو ذلك، فعدم الردع يدلّ على كونها مرضية من قبله.

وأمّا الصغرى: فهي أنّ الركن الرابع من أركان حجّية السيرة منتف في المقام؛ إذ لا ارتباط للسيرة العقلائية بالمجال التشريعي، ولا خطر لامتدادها إليه لا على نحو يعتدّ به عند العقلاء؛ وذلك لأنّ «أصالة الإمكان» عبارة عن موقف عملي يتبناه العقلاء عند الشكّ في الاستحالة والإمكان، ومع وجود الأدلّة الاجتهادية لا تصل النوبة إليها.

ص: 319


1- كفاية الأصول (المحشّى) 3: 152.

والمفروض توفّرها - أي الأدلّة الاجتهادية - في المقام؛ إذ القائل بالإمكان - وهو المشهور - نهضت لديه الأدلّة الاجتهادية عليه، والقائل بالامتناع - وهو ابن قبّة - نهضت لديه الأدلّة الاجتهادية عليه، ولم نعلم أحداً من الفقهاء أعوزته الأدلّة الاجتهادية خلال القرون المتمادية فلجأ إلى «أصالة الإمكان»، واحتمال تحقّق ذلك في الماضي أو المستقبل نادرٌ لو استدعى البيان الشرعي لأوجب تحقّقه في كلّ شيء بنى عليه العقلاء - ولو نظرياً - باعتبار إمكان الارتباط بالمجال التشريعي، ولو بواسطة النذر، فتأمّل.

وأمّا الإيراد الأوّل فسوف يتّضح الحال فيه عند الحديث عن المعنى الآخر ل«أصالة الإمكان» إن شاء اللّه تعالى.

إيراد المحقّق النائيني على أصالة الإمكان

وهنالك إيراد رابع على أصالة الإمكان ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) قال:

« المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي، يعني أنّ من التعبد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع، من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، واستلزامه الحكم بلا ملاك، واجتماع الحكمين المتنافيين، وغير ذلك من التوالي الفاسدة المتوهمة في المقام، أو أنه لا يلزم شيء من ذلك؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني، بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين، فإن الإمكان التكويني لا يتوهم البحث عنه في المقام، وذلك واضح»(1).

ص: 320


1- فوائد الأصول 3: 88.

وفي أجود التقريرات: «والإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي، بمعنى أن التعبد بالأمارة هل يلزم منه محذور في عالم التشريع أم لا؟ وليس المراد منه الإمكان التكويني المختص بالأمور الخارجية حتى يبحث في أنّ الأصل العقلائي هل هو الحكم بالإمكان حتى يثبت الامتناع أم لا كما هو واضح»(1).

أقول: التشريع فعل تكويني من قبل المولى، كما أنّ المحذورات المفروضة في المقام هي محذورات تكوينية.

أمّا الدعوى الأُولى: فلأنّ التشريع عبارة عن: إرادة مظهرة - بوسيلة من وسائل الإظهار - من قبل المولى.

وبعبارة أدقّ: التشريع: إظهار الإرادة المولوية، ولا شكّ أنّ الإرادة أمر تكويني، كما أنّ الإظهار فعل تكويني.

وبتقرير آخر: التشريع عبارة عن اعتبار المولى شيئاً في ذمّة المكلّف، أو مطلقاً، ولا شكّ أنّ الاعتبار فعل تكويني للمولى كسائر الأفعال التكوينية، وإن كان المعتبر أمراً اعتبارياً مفروض الوجود في وعاء الاعتبار.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ المحذورات المفروضة في المقام هي عبارة عن اجتماع الضدّين، أو طلب الضدّين أو صدور القبيح ممن يستحيل صدوره عنه ونحو ذلك، وهذه كلّها محذورات تكوينية. واختلاف متعلّق الإمكان غير قادح في وحدة المفهوم. فالإمكان عبارة عن تساوي نسبة المهيّة إلى الوجود والعدم، أو عدم ترتّب تالي باطل أو محال على الشيء،

ص: 321


1- أجود التقريرات 2: 109.

وهذا المعنى واحد بالذات، وإنّ اختلف متعلّقه. كما أنّ الامتناع عبارة عن ضدّ ذلك أو نقيضه، وهو أيضاً واحد بالذات، وإن اختلفت المتعلّقات.

ولو صحّ التقسيم باعتبار تعدد المورد لأمكن تقسيم الإمكان إلى الجمادي والنباتي والحيواني والإنساني وغيرها.

والحاصل: أنّه لو تمّت أصالة الإمكان فهي تجري في الأُمور التكوينية والتشريعية على حدّ سواء، لوحدة الملاك في الاثنين.

معنى آخر ل- (أصالة الإمكان)

هذا ولكن يحتمل أن يقال: إنّه ليس مراد الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من أصالة الإمكان: الحكم على الشيء المشكوك فيه بالإمكان عند لحاظه في حدّ ذاته، بل الحكم على (الشيء المشكوك فيه) بالإمكان بلحاظ ظاهر الدليل.

وتوضيح ذلك يبتني على بيان مقدّمة كلّية وهي: إنّ ظواهر الكلام حجّة، وقد قامت على العمل بالظواهر السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع، فإذا دلّ ظاهر الدليل على شيء وشككنا في إمكانه وامتناعه - باعتبار احتمال استلزامه لتوالٍ باطلة أو ممتنعة - واحتملنا كون المراد غير الظاهر - بأن يكون الأمر من الأوامر الاختبارية أو الاعتذارية مثلا، لا أمراً ناشئاً من الإرادة الجدّية - ففي هذه الحالة يبني العقلاء على الأخذ بظاهر الدليل ويحكمون بإمكان الشيء المشكوك، بمعنى عدم استلزامه للتوالي الفاسدة.

مثلا في قصّة أمر نبي اللّه إبراهيم (عليه وعلى نبيّنا وآله الصلاة والسلام) بذبح ولده إسماعيل(1) (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) لو فرض أنّنا

ص: 322


1- مجمع البيان 8: 319.

شككنا في إمكان تعلّق الوجوب الحقيقي - الذي هو ظاهر الأمر - بذبح الولد، وعدم إمكانه، لاحتمال استلزامه لتوالٍ فاسدة، فيكون - بهذا اللحاظ - محالا على الحكيم نحكم بالإمكان، وبتعلّق الإرادة الجدّية بذبح الولد، تبعاً لظاهر الدليل.

والسرّ في ذلك أنّ ظاهر الكلام حجّة، ولا يزاحم الحجّة إلاّ الحجّة، ولا شكّ أنّ احتمال الامتناع ليس بحجّة، فلا يرفع اليد عنها بذلك.

إذا تمهّد ذلك نقول: إنّ ظاهر آية النبأ - مثلا - حجّية خبر الثقة، وظاهر مقبولة عمر بن حنظلة - مثلا - حجّية الشهرة، وظاهر رواية مسعدة ابن صدقة - مثلا - حجّية البيّنة، إلى غير ذلك من الظنون الخاصّة التي قام على اعتبارها الدليل التعبّدي.

فلو شكّ في استلزام (التعبّد بالظنّ) للمحال لم يجز رفع اليد عن ظهور هذه الأدلّة بصرف الاحتمال، وبني على (أصالة الإمكان) وعمل بظاهر الدليل.

وبهذا تنتفي الإشكالات الثلاثة التي طرحها صاحب الكفاية على أصالة الإمكان وذلك:

1- لثبوت السيرة العقلائية على الأخذ بظواهر الكلام، ما لم يمنع عن ذلك مانع - كثبوت الاستحالة العقلية.

2- ولثبوت حجّية هذه السيرة، بالإمضاء الشرعي، على ما تقرّر في محلّه.

3- ولأنّ مورد هذه السيرة إنّما هو وقوع الدليل على التعبّد، فلا يكون الحكم بالإمكان فاقداً للأثر.

ص: 323

تذنيبان

التذنيب الأوّل: التفصيل في جريان أصالة الإمكان بين الأُمور العملية والأُمور الاعتقادية.

وقد ذكر هذا التفصيل في النهاية.

قال: «إنّ الشيء تارةً يطلب فيه الجزم به، كما في أصول العقائد والمعارف اليقينية، بناءً على اعتبار اليقين فيها دون مجرد عقد القلب والبناء على ثبوتها، فمثله لا يعقل الجزم بثبوته إلاَّ مع الجزم بإمكانه، فلا يجامع احتمال الاستحالة.

وأخرى يطلب منه الجري على وفقه والعمل على طبقه دون الجزم بتحققه كالحكم العملي، ومنه التعبد بالظن، فإنّه لا يعتبر فيه الجزم بثبوته لئلا يجامع احتمال استحالته، فمثله يكفي فيه مجرد وجود الحجة على ثبوته، فالدليل المتكفل لحجية الخبر مثلاً - سواء كان ظاهر الكتاب أو الأخبار المتواترة معنىً، أو سيرة العقلاء مع عدم ردع الشارع عنها- يكون حجة على حجية الخبر من دون منافاة لاحتمال الاستحالة؛ إذ الحجة لا يزاحمها إلاَّ الحجة واحتمال الاستحالة ليس بحجّة»(1).

وفرّع على ذلك أنّ: «تصحيح ما صدر عن بعض المتكلّمين من التمسك بأصالة الإمكان لتصديق ما ورد في المعاد الجسماني وأشباهه بمثل ما ذكرنا غير صحيح؛ إذ المطلوب فيه الاعتقاد واليقين دون العمل، كي يكون

ص: 324


1- نهاية الدراية 3: 120.

الظهور حجة فيه، وكي لا يمنع عن حجية احتمال الاستحالة»(1).

وعليه: فلا محيص عن البحث في الأدلّة حتّى يحصل اليقين بثبوت ذلك.

ومنه يعلم: أنّ تمسّك البعض لنفي الإله الثاني ب«أصالة عدم الزائد» لا يجدي في حصول اليقين، بل لابدّ من التأمّل في البراهين العقلية والنقلية كي يحصل ذلك، قال اللّه تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}(2).

التذنيب الثاني: لا استقلال لأصالة الإمكان.

إن مآل ما ذكر هو أنّه لا أصل ل- «أصالة الإمكان» لا بالمعنى الأوّل، ولا بالمعنى الثاني.

أمّا بالمعنى الأوّل، فلعدم ثبوت السيرة العقلائية عليها. وأمّا بالمعنى الثاني، فلعدم استقلال أصالة الإمكان - بهذا المعنى- عن حجّية الظواهر. وقد أُشير إلى ذلك في النهاية(3).

المقام الثاني: المحاذير التي قد تورد على القول بالإمكان
اشارة

ما قيل أو يمكن أن يقال: في بيان ما يلزم من التعبّد بغير العلم من المحال أو الباطل - ولو لم يكن بمحال - أُمور.

وقد اختلفت العبارات في تقرير ذلك، ونكتفي هنا ببيان ثلاثة منها:

التقرير الأوّل: التقرير الثلاثي

إنّ المحذورات المفترضة ثلاثة:

ص: 325


1- نهاية الدراية 3: 121.
2- آل عمران: 18.
3- نهاية الدراية 3: 120-121.

1- إجتماع المثلين أو الضدّين أو التصويب

بيان ذلك: أنّه لو جعل المولى الحجّية للأمارة الظنّية، فإمّا أن يفرض بقاء الواقع على واقعه أو لا.

فإنّ فرض بقاء الواقع على واقعه - بأن ظلّت الأحكام الواقعية المثبتة في اللوح المحفوظ مثلا على ما هي عليه- فإمّا أنّ تطابق الأمارة الواقع أو لا.

فإن طابقت الواقع لزم إجتماع المثلين في مرحلة (الحكم الواقعي، والحكم الظاهري الذي أدّت إليه الأمارة). وفي مرحلة الإرادة (إرادة ينشأ منها الحكم الواقعي، وإرادة ينشأ منها الحكم الظاهري) وفي مرحلة الملاك (مصلحة ينشأ منها الحكم الواقعي، ومصلحة ينشأ منها الحكم الظاهري).

وإن خالفت الواقع: لزم اجتماع الضدّين في مرحلة الحكم، وفي مرحلة الإرادة والكراهة، وفي مرحلة الملاك، أي أنّ ذلك يوجب اجتماع الإيجاب والتحريم مثلا، والإرادة والكراهة، والمصلحة والمفسدة الملزمتين، بلا كسر وانكسار في البين.

وإن فرض عدم بقاء الواقع على واقعه لزم التصويب، وأن لا يكون غير مؤدّيات الأمارة أحكام.

2- طلب الضدّين

وذلك فيما إذا أخطأت الأمارة، وأدّت إلى وجوب ضدّ الواجب مثلا.

مثلا لو كان الواجب واقعاً، السير إلى المشرق فأدّت الأمارة إلى وجوب السير إلى المغرب، لزم طلب المولى للضدّين من المكلّف، وطلب الضدّين محال - إن قلنا بسراية التضادّ من المراد إلى الإرادة عند الالتفات- وقبيح -

ص: 326

إن لم نقل بذلك - فيكون محالا على التقديرين على المولى الملتفت الحكيم.

ثمّ إنّ التضادّ يعمّ ما كان التضادّ بين المتعلقين تضادّاً تكوينياً، وتضادّاً شرعياً. ولا يخفى الفرق بين هذا المحذور وسابقه، إذ في هذا المحذور فرض تعدّد المتعلّق، وفي المحذور السابق فرضت وحدته.

3- تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة

والأوّل يتحقّق فيما لو أدّت الأمارة إلى عدم وجوب ما هو واجب في الواقع، والثاني يتحقّق فيما لو أدّت الأمارة إلى عدم حرمة ما هو حرام في الواقع، بل يمكن فرض ذلك في باب المستحبّات والمكروهات أيضاً.

التقرير الثاني: التقرير الرباعي

إنّ المحذورات المتوهّمة في المقام ترجع إلى أحد أُمور أربعة:

1- الملاكات - أي ملاكات الأحكام - كاجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار في البين.

2- مبادئ الخطابات، كاجتماع الإرادة والكراهة والحبّ والبغض.

3- نفس الخطابات، كاجتماع الوجوب والحرمة.

4- لوازم الخطابات، كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة.

لا يقال: إنّ الملاكات مندرجة ضمن مبادئ الخطابات.

فإنّه يقال: الملاكات بوجودها العيني ليست مبدأً للخطابات، بل الوجود الذهني للملاكات هو المبدأ، بدليل الدوران والترديد الذي ذكرناه في بداية مباحث «القطع»، فقد يكون الملاك متحقّقاً في الواقع دون أن يكون

ص: 327

منشأ للخطاب لغفلة الآمر عنه، وقد لا يكون متحقّقاً وينشأ الخطاب لتوهّم الآمر وجوده في الخارج.

نعم, في المولى الحقيقي الذي لا يغفل ولا يسهو وأوليائه المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) تكون الملاكات الواقعية هي المنشأ، فتندرج ضمن مبادئ الخطابات، فتأمّل.

التقرير الثالث: التقرير الثنائي

وحاصله أنّ المحذورات المتصوّرة في المقام عبارة عن:

1 - المحذورات الملاكية. ويندرج في ذلك (تدافع الملاكات) و(تفويت الملاكات الواقعية).

2 - المحذورات الخطابية. ويندرج في ذلك (المحذور في نفس الخطاب) و (المحذور في مبادئ الخطاب).

ص: 328

الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

اشارة

والجواب عن المحذورات المتصوّرة في المقام «أنّ ما ادّعي لزومه إمّا غير لازم أو غير باطل».

والشقّ الأوّل راجع إلى منع الصغرى، أي لزوم ما ادّعي لزومه، والشقّ الثاني راجع إلى منع الكبرى أي بطلان اللازم.

هذا إجمال الجواب، وأمّا تفصيله فيتمّ بذكر المحذورات واحداً بعد الآخر.

المحذور الأوّل: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة

اشارة

والظاهر أنّ هذا المحذور مسلّم من الناحية الصغروية؛ إذ لا شكّ في حصول الخطأ في الأمارات الظنّية - ولو في الجملة- فإنّه لا يحتمل كون جميع أخبار الثقات مطابقة للواقع، وكذا الأمر في سائر الأمارات غير العلمية.

ونحو ذلك يجري في الأُصول العملية، وإن كانت خارجة عن محل الكلام فعلا، فإنّه لا يحتمل كون «أصالة البراءة» أو «الطهارة» أو «الحلّية» ونحوها مطابقة للواقع في جميع موارد جريانها؛ ولذا قد يتمسّك فقيه باستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، والآخر بأصالة الطهارة، ولا يحتمل كون كلا الأصلين مطابقاً للواقع.

إلاّ أنّ الكبرى محل إشكال.

وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان مقدّمة وهي:

ص: 329

أقسام الخير والشرّ

إنّ الأُمور تنقسم بلحاظ كونها خيراً أو شرّاً بحسب الإحتمال العقلي إلى خمسة أقسام:

1- الخير المحض.

2- الخير الكثير (الغالب على الشرّ).

3- الخير المساوي للشرّ.

4- الشرّ المحض.

5- الشر الكثير (الغالب على الخير).

والظاهر: قبح الإقدام على الأقسام الثلاثة الأخيرة.

أمّا (الشرّ الكثير) ففعله ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح.

ومنه يظهر الكلام في (الشرّ المحض).

وأمّا (الخير المساوي للشرّ) فهو ترجيح بلا مرجّح، والترجيح بلا مرجّح قبيح في المقام بلا إشكال، وإن فرض القول بعدم قبحه في أنّهما ترجيح فرد من أفراد الكلّي الذي تعلّق به الغرض على الفرد الآخر، كما في رغيفي الطالب، وطريقي الهارب، لكونه فاقداً للغاية العقلائية في المقام.

ولو قيل باستحالة الترجيح بلا مرجّح، لأوله إلى الترجّح بلا مرجّح، وهو مساوق لوجود المعلول بلا وجود علّته، فسيكون الأمر أوضح، فتأمّل.

مثال (الشرّ الكثير) الإقدام على تجارة يخسر فيها (ألف دينار) ويربح فيها (مائتين).

ومثال (الشر المحض) الإقدام على تجارة يخسر فيها (ألف دينار) دون

ص: 330

أن يحصل على أي ربح.

ومثال (الخير المساوي) الإقدام على تجارة يربح فيها (ألف دينار) ويخسر فيها (ألف دينار).

وأمّا القسمان الأوّلان: فلا إشكال فيهما.

أمّا الإقدام على ما هو (خير محض) فالأمر فيه واضح، كالإقدام على تجارة يربح فيها ألف دينار بدون أيّة خسارة.

وأمّا الإقدام على ما هو (خير كثير): فلا إشكال فيه أيضاً، وذلك لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير.

وقد عرفت أنّ الإقدام على ما هو (شرّ كثير) قبيح. فيكون تركه داخلا في مقابله.

مثلا: ترك الإقدام على تجارة يربح فيها (ألف دينار) ويخسر فيها (مائة دينار), لأجل عدم حصول تلك الخسارة قبيح.

مثال آخر: ترك الزواج الذي هو خير كثير لأجل الشرّ القليل الذي يصاحبه, قبيح.

مثال ثالث: تعطيل معامل صناعة العطر في العالم التي فيها خير كثير، لأجل تأذّي بعض الأفراد من رائحة العطر أحياناً قبيح.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

وأمّا المناقشة في بعض الأمثلة المذكورة في المقام فلا تضرّ بالكبرى الكلّية، لأنّها مناقشة في أصل ثبوت الموضوع، والمفروض الفراغ من تحقّقه، فلاحظ.

إذا تمهّد ذلك فنقول:

ص: 331

في التعبّد بالأمارات الظنّية خير كثير

لو فرضنا أنّ التعبّد بالأمارة غير العلمية هو من القسم الثاني، أي كانت فيه مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء...، ففي هذه الحالة يكون التعبّد بها أمراً سائغاً، بل ربما يكون لازماً.

ولنمثّل للخير الكثير الموجود في التعبّد بالأمارة - بعنوان الاحتمال واللّه العالم بحقيقة الحال: إنّ في مقابل التعبّد بالأمارة الظنّية طريقين آخرين هما:

(إيجاب تحصيل العلم التفصيلي بالواقع) - كما في زمان ظهور المعصوم (عليه السلام) وإمكان الإستعلام منه.

و (إيجاب الإحتياط) - كما في عهد الغيبة، أو عدم إمكان الاستعلام.

وفي كلا الطريقين شرّ كثير - على ما أُشير إليه في بعض الكلمات.

أمّا الطريق الأوّل: فلأنّ الاستعلام المباشر من المعصومين (عليهم السلام) في غالب تلك الأزمنة كان يعرّض أهل الحقّ إلى خطر جسيم، وربما كان يسبّب ذلك إستئصالهم وقلع جذورهم، وذلك لأنّ الحكّام كانوا يعتبرون أنفسهم خلفاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقادة في الدنيا والدين، ومرجعاً في كلّ صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يطيقون أن يروا أحداً يطرق أبواب غير بيوتهم، أو يستفسر عن حكم شرعي من غير عملائهم، ويكفيك أن تعلم: أنّ أحداً لم يكن يستطيع أن يبيّن الواقع حتّى في مثل قضية الهلال، بل إنّ الإمام (عليه السلام) أفطر في يوم من شهر رمضان لأنّ السلطان الحاكم اعتبر ذلك اليوم يوم عيد قائلاً: «إن أفطر يوماً من شهر رمضان وأقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب

ص: 332

عنقي»(1). وإنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) عندما سئل عن مسألة من مسائل الحيض أسرّ بالجواب إلى السائل وقال: «سرّ اللّه فلا تذيعوه، ولا تعلموا هذا الخلق أصول دين اللّه، بل إرضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال»(2).

وإن شخصاً احتاج أن يتلبّس بلباس بائع الخيار لكي يسأل من الإمام (عليه السلام) مسألة شرعية تتعلّق به إلى غير ذلك من النماذج التاريخية، وهي كثيرة.

فدار الأمر بين: تشريع العمل بأخبار الثقات - ونحوها - الموصلة غالباً إلى الواقع، وإن أخطأته أحياناً، وإيجاب تحصيل العلم الموجب لوصول بعض أهل الحقّ إلى الواقع في بعض المسائل.

ولا شكّ في أنّ الطريق الأوّل وإن احتوى على شرّ قليل، إلاّ أنّه أرجح من الطريق الثاني، باعتبار احتوائه على خير كثير، وهو: حفظ الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) وحفظ أهل الحقّ، وعدم تعرّضهم للتعذيب والتنكيل والتقتيل والتشريد والحرمان، بل الإبادة والاستئصال، ممّا كان يسبّب حرمان المليارات من الناس من الوصول إلى الحقّ على مدى الأُلوف من السنوات.

وأمّا الطريق الثاني: - أي الاحتياط- فلأنّه مستلزم للحرج الشديد والإخلال بالنظام ورغبة الناس عن الدين، بل خروج كثير منهم عن الدين، فإنّ المشرّع الحكيم لابدّ له من ملاحظة طاقة الناس واستعدادهم في تشريع الأحكام.

ومن هنا: أمضى الشارع السيرة العقلائية القائمة على العمل بالظنون

ص: 333


1- الكافي 4: 83.
2- الكافي 3: 92-93.

النوعية - المتمثّلة في اعتبار الثقات ونحوها - وإن ردع عن بعضها لما فيها من المفاسد - كالقياس ونحوه.

فإن قلت: إنّ هذا إنّما يتمّ إذا أمر بتحصيل العلم أو الاحتياط مطلقاً، وأمّا إذا أمر بهما بدرجة لا تستلزم الحرج والعسر ونحوهما فلا.

قلت: إنّ نفس هذا التكليف يصير سبباً للعسر والحرج، ورغبة جمهرة من الناس عن الدين، بل خروج جملة من الناس من الدين، فاكتفى الشارع بالأمارات الظنّية.

تذنبيان
التذنيب الأوّل: تصوير الخير الكثير على المباني المختلفة في حجّية الأمارات

لا يخفى أنّ هنالك مباني ثلاثة في حجّية الأمارات.

1- أنّ حجّيتها من باب الطريقية، بمعنى أنّه لا مصلحة في العمل بالأمارة في قبال مصلحة الواقع، فإن أصابت الأمارة الواقع، أدرك المكلّف مصلحة الواقع، وإلاّ لم يدرك شيئاً من المصلحة. وهذا المبنى هو المنسوب إلى المشهور.

2- إنّ حجّيتها من باب السببية، بمعنى أنّ قيام الأمارة على شيء سبب لحصول المصلحة في المؤدّى، وإن فرض كون الأمارة مخالفة للواقع.

3 - إنّ حجّيتها من باب المصلحة السلوكية، بمعنى أنّ العمل بالأمارة فيه مصلحة، وإن لم تكن هناك مصلحة في مؤدّى الأمارة.

مثلا: العمل بأخبار الثقات يوجب ارتباط الناس بهم، ومحوريتهم في المجتمع، وذلك سبب لنشر الفضيلة والتقوى بين الناس.

ص: 334

وقد نقل عن الشيخ محمّد تقي الشيرازي (رحمه اللّه) في مسألة «عدم جواز تقليد الفاسق»: إنّ اللّه تعالى أراد أن يغلق أبواب بيوت الفسّاق.

وهذا المبنى هو المنسوب للشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

وعلى المباني الثلاثة يمكن تصوّر وجود « المصلحة الغالبة » إلاّ أنّها تارةً تفرض في الواقع، وأُخرى في المؤدّى، وثالثة في الطريق.

التذنيب الثاني: هل يجب كون المصلحة غالبة؟

هل يجب في تسويغ التعبّد بالأمارات الظنّية كون المصلحة غالبة؟

صريح الكفاية لزوم كونها كذلك(1).

ولكن المشكيني (رحمه اللّه) لم يرتض ذلك، وقال: «لا محذور في المساوي أيضاً، بل الظاهر عدم المحذور إذا كان زيادة الواقع بمقدار غير لازم الاستيفاء»(2).

ونحوه ما ذكره الوالد (رحمه اللّه) (3).

واستشهد المشكيني (رحمه اللّه) على ذلك ب«جواز تخيير المكلّف بين أمرين أو أُمور يكون أحدهما أو أحدها أزيد مصلحة بمقدار غير لازم الاستيفاء»(4).

هذا ولكن قد يقال: بعدم كفاية المساوي أو الأدنى؛ وذلك لأنّ تشريع الحجّية للأمارة يكون - حينئذ - لغواً.

ص: 335


1- كفاية الأصول: 277.
2- كفاية الأصول (المحشى) 3: 167.
3- الوصول 3: 385.
4- كفاية الأصول (المحشى) 3: 167.

مثلا: الإقدام على تجارة يربح فيها ألفاً ويخسر ألفاً، لغو لا يصدر عن الحكيم الملتفت، وكذا الإقدام على تجارة يربح فيها ألفاً ويخسر فيها ألفاً وواحداً - إذا فرض كون الواحد غير لازم المراعاة.

وبعبارة أُخرى: لابدّ من وجود «الغاية العقلائية» في الفعل، والظاهر كونها مفقودة في المقام.

وأمّا ما استشهد به المشكيني (رحمه اللّه) فقد يورد عليه: بأنّ القياس مع الفارق، وذلك لأنّ المصلحة في المثال كائنة في الجامع، واستيفاؤها هو مقصود الشارع، وأمّا المصلحة الكائنة في هذا الفرد بعينه فهي غير لازمة الاستيفاء.

مثلا: المصلحة الكائنة في « طبيعي الصلاة » - وهي النهي عن الفحشاء والمنكر مثلا - هي التي يلزم استيفاؤها في نظر الشارع، وللمكلّف تطبيق هذا الطبيعي على أيّة حصّة من حصصه وإن كان بعض أفرادها - كالصلاة في المسجد - أكثر مصلحة من البعض الآخر - كالصلاة في البيت.

ولا فرق فيما ذكر بين كون التخيير عقلياً - كما في المثال - أو شرعياً - كما في خصال الكفّارة- وعدم إمكان فرض وجود الجامع الحقيقي في بعض الموارد - لو سلّم - لا يقدح في المقام، لإمكان فرض الجامع الانتزاعي مثل عنوان «أحدها».

ودعوى أنّه لا وجود له مندفعة بأنّه موجود بوجود منشأ انتزاعه.

كما يمكن فرض عنوان واحد يترتّب على مجموع الخصال، كعنوان التأديب ونحوه.

وهذا بخلاف المقام فإنّ جعل الحجّية لما تكون مصلحته مساوية

ص: 336

لمفسدته أو أدنى فاقد للغاية العقلائية، وإن لم يكن فاقداً للغاية مطلقاً، فيكون لغواً لا يصدر من الحكيم الملتفت، فتأمّل.

المحذور الثاني: اجتماع المثلين أو الضدّين أو التصويب

المحذور الثالث: طلب الضدّين

وقد أُجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: الحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية

اشارة

الوجه الأوّل: ما ذكره صاحب الكفاية من: «أنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته، والحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدّى إليه الطريق»(1).

وهذا الجواب في واقعه راجع إلى منع صغرى الإشكال «أي أنّ ما أدّعي لزومه غير لازم».

وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان ماهية المجعول في باب الأمارات غير العلمية.

ماهية المجعول في باب الأمارات الظنّية
اشارة

فنقول: إنّ في المقام أقوالا ثلاثة:

القول الأوّل: المجعول صرف الحجّية

القول الأوّل: أنّ المجعول في باب الأمارات غير العلمية هو صرف الحجّية، بلا استتباع ذلك جعل حكم ظاهري بحسب ما تؤدّي إليه الأمارة.

ص: 337


1- كفاية الأصول: 277.

توضيح ذلك: أنّ الحجّية من الاعتبارات القابلة للجعل، فهي نظير «الزوجية» و «الملكية» بمعناهما الاعتباري لا بمعنى «قابلية الانقسام إلى متساويين» أو بمعنى «الهيئة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء مقيّدة بانتقاله» والحرّية والرقّية ونحوها.

ومعنى جعل الحجّية: ترتيب آثار الحجّة الذاتية من التنجيز والتعذير وكون موافقتها انقياداً ومخالفتها تجرياً على الأمارة غير العلمية، في صورتي الإصابة والخطأ.

ففي صورة إصابة الأمارة لو قال العبد: لم أعلم كذا لم يقبل منه وكانت لله تعالى عليه الحجّة، إذ يمكن أن يقال له: إنّنا قد جعلنا لك طريقاً إلى الواقع منجّزاً له، فلِمَ خالفته؟

وأمّا في صورة خطأ الأمارة فللعبد أن يعتذر عن عدم امتثاله للواجب الواقعي بعدم علمه به، وقيام الطريق المنصوب من قبل المولى على عدم الوجوب - مثلا.

وليس جعل الحجّية مستتبعاً لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما يؤدّي إليه الطريق.

مثلا: إذا قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة فليس ذلك مستتبعاً لإنشاء وجوب صلاة الجمعة، بحيث يكون هذا الإنشاء إنشاءً جديداً للوجوب مماثلا للوجوب الواقعي المثبت في اللوح المحفوظ لصلاة الجمعة، في صورة مصادفة الأمارة للواقع، ومقابلا له في صورة مخالفة الأمارة للواقع.

وإذا قام الخبر على حرمة الغراب فليس معنى ذلك إنشاء حرمة جديدة

ص: 338

مماثلة للحرمة الواقعية - في صورة الإصابة - ومضادّة لها - في صورة الخطأ.

فوزان «الأمارة غير العلمية» وزان «القطع» فكما أنّ معنى حجّية القطع - بذاته - هو كونه منجّزاً ومعذّراً.. إلى آخر آثار القطع.. لا جعل حكم مستأنف في مورده، كذلك معنى حجّية الأمارة.

وبعبارة أُخرى: كما أنّ العلم بشيء لا يوجب جعل الحكم الثاني على طبقه، كذلك الطريق المجعول.

وهذا نظير الأمارات العقلائية.

مثلا: إذا قال المولى لعبده: «اذهب إلى مكّة» ثمّ قال له: «سل - إن جهلت الطريق - الناس الأعراب».

فالموجود في المقام حكم واقعي واحد هو «وجوب الذهاب إلى مكّة» وأمّا مؤدّى الطريق «أي سلوك هذا الطريق الخاصّ» فليس حكماً في قبال الحكم الواقعي، بل هو منجّز للتكليف الواقعي إن أصاب الواقع، ومعذّر عنه إن أخطأ الواقع.

ففي مورد إصابة الطريق ليس للمولى تكليفان: أحدهما واقعي هو «وجوب سلوك طريق مكّة» والآخر ظاهري هو «وجوب سلوك طريق مكّة» وفي مورد الخطأ ليس هناك تكليفان: أحدهما واقعي هو «وجوب سلوك طريق مكّة» والآخر ظاهري هو «وجوب سلوك طريق تركستان»، بل ليس هنالك إلاّ التكليف الواقعي، وكان ما جعل منجّزاً للتكليف الواقعي ومعذّراً عنه.

ص: 339

والخلاصة: أنّ جعل الطريق ليس جعلا للحكم، بل جعل لصرف المنجّزية والمعذّرية.

القول الثاني

إنّ المجعول في باب الأمارات غير العلمية هو: الحجّية - التي هي من الأحكام الوضعية - مع استتباع ذلك لجعل حكم ظاهري، بأن يدّعى أنّ ذلك من قبيل لوازم المهيّة، نظير الزوجية بالنسبة إلى الأربعة فإذا جعلت الحجية بالأصالة فلا محالة ينجعل ذلك الحكم الظاهري أيضاً - بالتبع أو بالعرض- فلازم جعل الحجّية لقول زرارة الدال على وجوب صلاة الجمعة هو إنشاء المولى لوجوب صلاة الجمعة.

القول الثالث

إنّ الحجّية غير مجعولة بنفسها، ولكنّها مجعولة بتبع - أو بعرض - جعل منشأ انتزاعها، أي الأحكام التكليفية. فالمجعول أصالة: حكم ظاهري، مع اتّباعه لجعل حجّية الأمارة فالحجّية أمر انتزاعي، ومن لوازم جعل ذلك الحكم الظاهري.

فالحجّية نظير « الملكية » المنتزعة من جواز تصرّف المالك في ماله، وعدم جواز تصرّف غيره فيه بدون إذنه. ونظير «الملكية» المنتزعة من جواز الاستمتاع ووجوب الانفاق ونحوهما من الأحكام.

وهذا القول يبتني على إنكار الجعل في الأحكام الوضعية، والالتزام بانتزاعها من الأحكام التكليفية، فإنّه لا معنى لجعل الوضعيات إلاّ جعل الأحكام التكليفية التي تنتزع منها.

ص: 340

ففي المقام: جعل الحجّية لقول زرارة معناه جعل الوجوب لصلاة الجمعة - الذي هو مؤدّى قول زرارة - مثلا. وإلى ذلك ذهب الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1).

النتيجة

وحيث إنّ صاحب الكفاية اختار القول الأوّل فرّع عليه إرتفاع المحذورين (الثاني والثالث).

1- أمّا اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادّين، فلأنّه لا حكم ظاهري على طبق الأمارة كي يلزم الاجتماع المزبور، بل ليس في مورد الأمارة المعتبرة حكم غير الحكم الواقعي.

2- وبمثل ذلك يرتفع محذور طلب الضدّين.

3- وأمّا اجتماع المصلحة والمفسدة أو الإرادة والكراهة أو المصلحتين أو المفسدتين أو الإرادتين والكراهتين، فلعدم وجود مصلحة أو مفسدة في متعلّق الأمارة، ولعدم تعلّق إرادة أو كراهة به.

4- وأمّا التصويب، فلعدم انقلاب الواقع عمّا هو عليه، وعدم كون مؤدّى الأمارة حكماً مجعولاً.

والحاصل: أنّ ما يسمّى ب- «الحكم الظاهري» ليس حكماً تكليفياً وإنّما هو من سنخ الأحكام الوضعية، والحكم الواقعي من سنخ الأحكام التكليفية، ولا تنافي بين حكم تكليفي وآخر وضعي، وإنّما يتحقّق التنافي فيما كان الحكمان من سنخ واحد.

أقول: ينبغي البحث في مقامين:

ص: 341


1- فرائد الأصول: 350-351.

1- البناء. 2- المبنى.

البحث البنائي

أمّا البحث البنائي، فالظاهر أنّ ما ذكر لا يخلو من قصور، لأنّه وإن كان وافياً بدفع المحذور في مرحلة (الحكم) إلاّ أنّه غير واف بدفع الإشكال في مرحلة (مبادئ الحكم).

بيان ذلك: أنّ العمل بمفاد الحجّة المجعولة إمّا أن يكون مراداً للمولى أو لا. فإن لم يكن مراداً لم يجب على المكلّف الجري العملي وفقها، ولم تكن موضوعاً لحكم العقل بلزوم الطاعة، وهو خلف فرض حجّيتها.

وإن كان مراداً: حصل التدافع بين الإرادتين - في صورة خطأ الأمارة - وتعلّق إرادتين متماثلتين بمراد واحد - في صورة إصابة الأمارة.

مثلا: لو كان الحكم الواقعي «وجوب السير إلى المشرق» وأدّت الأمارة إلى «وجوب السير إلى المغرب» وفرضنا كون العمل بمؤدى الأمارة مراداً للمولى، فحينئذ تتعلّق الإرادة المولوية بالسير إلى المشرق والمغرب في آن واحد، وهو طلب للمحال أو طلب محال (على ما تقرّر في محلّه من سريان استحالة المراد إلى الإرادة عند الالتفات، وعدمه).

ولو فرض أداء الأمارة إلى وجوب السير إلى المشرق اجتمعت على ذلك إرادتان مستقلّتان، وهو محال.

ثمّ نسأل: هل هذه الإرادة ناشئة من ملاكات واقعية أو لا؟ فإن لم تنشأ منها فهو خلاف فرض عدم كون إرادة المولى إرادة جزافية، وإن نشأت منها، حصل التدافع بين الملاكات، أو التماثل، وكلاهما محال.

ص: 342

هذا ولكن قد يقال: إنّ الأمر باتّباع الحجّة المجعولة ناشئ من نفس المبادئ التي ينشأ منها الحكم الواقعي، وعليه فلا يوجد هنالك تدافع في مرحلة المبادئ، كما لا يوجد تماثل فيها، لأنّ ذلك فرع الاثنينية، ولا اثنينية في المقام، وسوف يأتي الكلام في ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

البحث المبنائي
اشارة

وأمّا البحث المبنائي فهو أنّ هنالك ثلاثة افتراضات في تصوير المعتبر في باب الأمارات، أي ما تعلّق به الاعتبار الشرعي - بناءً على القول الأوّل.

الأوّل: أن يكون المعتبر المنجّزية للواقع والمعذّرية عنه.

الثاني: أن يكون المعتبر العلمية والطريقية والمحرزية للواقع.

الثالث: أن يكون المعتبر نفس مفهوم الحجّية «أي كون الشيء بحيث يصحّ الاحتجاج به».

ونتعرّض فيما يلي إلى توضيح الافتراضات الثلاثة بإذن اللّه تعالى.

الافتراض الأوّل: اعتبار المنجّزية للواقع والمعذّرية عنه

وقد قيل: إنّه محال. ووجه الاستحالة ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) بقوله: «إنّ المنجّزية والمعذّرية من الأحكام العقلية الصرفة المترتّبة على وصول الحكم وعدمه، فمن دون اعتبار صفة المحرزية والوسطية في الإثبات كيف يمكن ترتّبهما على وجود الأمارة، ومع اعتبارهما يكون ترتّبهما قهرياً غير قابل للجعل الشرعي»(1).

وفي المصباح: « التنجيز والتعذير بمعنى حسن العقاب على مخالفة

ص: 343


1- أجود التقريرات 3: 131.

التكليف مع قيام الحجّة عليه، وعدمه مع عدمه من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص. فالتصرّف من الشارع لابدّ وأن يكون في الموضوع، بأن يجعل شيئاً طريقاً ويعتبره علماً تعبّداً، وبعد قيام ما اعتبره الشارع علماً على التكليف يترتّب عليه التنجيز والتعذير عقلا لا محالة»(1).

والخلاصة: أنّ الاعتبار المزبور يوجب التخصيص في حكم العقل، أو تحصيل الحاصل، وكلاهما محال.

وبعبارة أُخرى: أنّه يوجب وجود العنوان الانتزاعي بدون وجود منشأه، أو تحصيل الحاصل.

وأُورد على ذلك في المنتقى، بناءً على مذهب المشهور من أنّ استحقاق العقاب أمر عقلي: ب- «أنّ جعل العقاب من قبل الشارع على الواقع عند قيام الأمارة يكون بنفسه بياناً رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا مخصصاً له؛ إذا الحكم بقبح العقاب بلا بيان يكون حكماً عقلياً تابعاً للملاكات الواقعية وليس حكماً جعلياً كي يكون تابعاً للبناء والجعل.

وإذا فرض أن اعتبار الطريقية - كما عليه المحقق ا لنائيني- أو مفهوم الحجية - كما عليه المحقق الأصفهاني- يستلزم ارتفاع موضوعه وتصحيح العقاب على الواقع المجعول من دون أن يتغير الواقع بالاعتبار، فليكن الأمر كذلك في اعتبار نفس المنجزية رأساً؛ إذ دعوى الفرق بين الاعتبارين في تغير الحكم العقلي التابع للملاك الواقعي دعوى لا تستحق الالتفات

ص: 344


1- مصباح الأصول 2: 104.

والسماع.

وبالجملة: نفس جعل المنجزية بيان للواقع المجهول يصحح العقاب ويرفع موضوع القاعدة، لا أنه يوجب تخصيصها، كما أنه لا يتوقف على جعل الحجّية قبل ذلك»(1).

أقول: الجعل نوعان:

1- جعل بالذات.

2- وجعل بالعرض.

فإن أُريد الجعل بالذات فهو محال؛ إذ المنجّزية والمعذّرية حكمان عقليان ينتزعان من جعل الحجّية - ونحوها - وعدمه- والأُمور الانتزاعية يرتهن وجودها بوجود منشأ انتزاعها.

فإن جعلت الحجّية ونحوها كانتا منجعلتين بالعرض، فلا يمكن جعلهما مرّة أُخرى، لأنّه تحصيل للحاصل. وإن لم تجعل كان من المحال جعلهما، لأنّه مساوق لوجود الأمر الانتزاعي بلا وجود منشأ انتزاعه.

فوزان المنجّزية والمعذّرية وزان زوجية الأربعة، التي يستحيل جعلها بالذات، لا في حالة وجود الأربعة، ولا في حالة عدم وجودها، إذ الأوّل تحصيل للحاصل، والثاني إيجاد للمنتزع بلا وجود منشأ انتزاعه.

والحاصل: أنّ المنجّزية والمعذّرية دون الجعل.

نعم, لو أُريد: (المجعولية بالعرض) أو كان جعل المنجّزية معنىً كنائياً عن جعل الحجّية - ونحوها - فلا إشكال.

ص: 345


1- منتقى الأصول 4: 148-149.

ولعلّ الخلاف لفظي في المقام فتأمّل.

الافتراض الثاني: إعتبار العلمية والطريقية إلى الواقع

وبعبارة أُخرى: الوسطية في الإثبات.

وبعبارة ثالثة: وصول الواقع بالخبر ومحرزية الخبر للواقع.

وبعبارة رابعة: تنزيل الوصول الظنّي منزلة الوصول القطعي.

وبعبارة خامسة: تحقيق الموضوع ليترتّب عليه الأثر العقلي.

وقد أشكل عليه: بأنّ هذا الأثر إنّما استفيد من بناء العقلاء عملا على المؤاخذة على التكليف الواصل قطعاً أو تعبّداً، فإمّا أن يكون البناء على الاتّباع ثابتاً أو لا، ففي ما لا بناء عملي لهم على اتّباعه لا معنى لتحقيق الموضوع، وفيما كان لهم بناء عملي - كخبر الثقة- لا حاجة إلى اعتباره لترتّب ذلك الأثر.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ بناءً على كون عمل الشارع إمضاء ما عليه بناء العقلاء في باب الأمارات الظنّية بضميمة أنّ الموجود في بناء العقلاء: العمل بالأمارات، لا اعتبار الأمارة إحرازاً ووصولا للواقع. وليس ذلك بواضح، بل الظاهر كون عمل الشارع تأسيساً.

وتظهر الثمرة فيما لو كانت حدود التعبّد الشرعي أو أوسع أو أضيق دائرة من حدود البناء العقلائي.

وهذا الأمر سار في جميع القواعد الأُصولية، والقواعد الفقهية، والأحكام الفرعية.

مثلا: العقلاء يبنون على الاستصحاب من باب «الظنّ» إلاّ أنّ ذلك لا

ص: 346

يوجب حصر حدود التعبّد الشرعي الاستصحابي بإطار الظنّ، لظهور أدلّة الاستصحاب في التأسيس، وعليه لا يبقى مانع من التمسّك بإطلاقها ولو في صورة الشكّ أو الظنّ بالخلاف.

والعقلاء يبنون على قاعدة التجاوز من باب الأذكرية حين العمل، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع عن ادّعاء شمول الأدلّة اللفظية ولو لصورة الغفلة حين العمل - كما ذهب إليه جمع من الفقهاء.

وبناءً على ذلك يمكن للشارع أن يؤسّس حجّية خبر الثقة بلسان، الحجّية، أو بلسان الطريقية إلى الواقع، بدون أي فرق بينهما في النتيجة.

الافتراض الثالث: إعتبار نفس مفهوم الحجّية

وأُورد عليه: بأنّه خال عن الشاهد، فإنّه لا أثر من هذا الجعل في الأدلّة الشرعية، بل الموجود إمضاء ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة - مثلا – بالسكوت، وليس إمضاء السيرة بالسكوت جعلا للحجّية.

وما في الروايات من الإشارة إلى ثقات الرواة مثل (عليك بهذا الجالس) - مشيراً إلى زرارة - و (العمري وابنه ثقتان) فهو ناظر إلى بيان الصغرى مع كون الكبرى مسلّمة عندهم.

وفيه: أنّ ظاهر الأدلّة إثباتاً في بعض الموارد هو جعل الحجّية كقوله (عليه السلام) : «فإنّهم حجّتي عليكم». ولا مانع ثبوتي من ذلك، فهذا الجعل ممكناً ثبوتاً وظاهر إثباتاً.

وأمّا كون ذلك إخباراً عن كونهم حجج اللّه تعالى لا إنشاء للحجّية كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من اللّه سبحانه، ويكفي التوصيف بأنّهم حجج

ص: 347

إمضاء عمل العقلاء، فهو خلاف الظاهر.

وقد مرّت الإشارة إلى الثمرة فيما بين الإمضاء والتأسيس.

ثمّ لا يخفى أنّ المبحوث عنه في المقام الحجّية الجعلية الاعتبارية، وأمّا الحجّية الجعلية الانتزاعية فلا إشكال فيها، وذلك كحجّية الظاهر عند العرف، فإنّه بملاحظة بنائهم العملي على الاتّباع والاحتجاج يصحّ انتزاع هذه الحيثية منه بلا إشكال.

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: اختلاف الحكمين بكون أحدهما حقيقياً والآخر طريقياً

اشارة

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية أيضاً، وهو مبني على اختيار أحد المبنيين الآخرين في ماهية المجعول في باب الأمارات (أي استتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية، أو بأنّه لا معنى لجعلها إلاَّ جعل تلك الأحكام).

قال في الكفاية: «نعم لو قيل بإستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية، أو بأنه لا معنى لجعلها إلاَّ جعل تلك الأحكام، فإجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلاَّ أنهما ليسا بمثلين أو ضدين، لأن:

أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبه لإنشائه الموجب للتنجز، أو لصحة الإعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فيما يمكن هناك إنقداحهما، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلاَّ أنه إذا أوحى بالحكم الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي، أو ألهم به الولي، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما الإرادة

ص: 348

أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق، بل إنما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقياً.

والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة لإنشائه بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلاَّ العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا- فلا يلزم أيضاً اجتماع وإرادة وكراهة، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً، وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادة بين الإنشائين فيما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما إتفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلاَّ بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي»(1).

توضيحه: أنّ الحكم على قسمين:

1 - الحكم الحقيقي.

2 - الحكم الطريقي.

فالحكم الحقيقي هو ما ينشأ عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه. وهذه المصلحة أو المفسدة تستتبع الإرادة أو الكراهة المولوية، وتلك الإرادة أو الكراهة توجب إنشاء البعث أو الزجر.

وأمّا الحكم الطريقي، فهو ما ينشأ عن مصلحة في نفس الإنشاء، وتلك المصلحة هي عبارة عن كونه منجّزاً للواقع ومعذّراً عنه، بدون أن تكون هنالك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، ولا إرادة أو كراهة متعلّقة به. فهو يشبه « الأوامر الصورية » كالأوامر الاعتذارية والاختبارية في كون

ص: 349


1- كفاية الأصول: 277-278.

المصلحة في نفس الإنشاء لا في المتعلّق.

مثلا: أمر اللّه تعالى إبراهيم (عليه وعلى نبيّنا وآله الصلاة والسلام) بذبح ولده إسماعيل (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) لم يكن لمصلحة في المتعلّق (أي ذبح إسماعيل) ولا لإرادة متعلّقه به، إذ كان في ذبحه مفسدة عظيمة، وكفى في ذلك أنّه كان يترتّب على ذبحه فقدان السبب الظاهري لوجود نبيّنا الأكرم وآله الأطهار (صلوات اللّه عليهم أجمعين) لكن نفس إنشاء الأمر كان فيه مصلحة، وتلك المصلحة هي - مثلا - امتحان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وبقاؤهما نموذجاً للاستعداد للتضحية في سبيل اللّه تعالى على مرّ الأجيال.

وما نحن فيه من هذا القبيل. فإنّ الأوامر الواقعية، حقيقية، والأوامر الظاهرية طريقية.

وبهذا تنحلّ المحذورات المتصوّرة في المقام، فلم تجتمع إرادة ولا كراهة، ولا مصلحة ولا مفسدة، إذ شرط الاجتماع وحدة الذات، ولا وحدة في المقام؛ إذ مصلحة الحكم الواقعي في المتعلّق، ومصلحة الحكم الظاهري في نفس الإنشاء وجعل الطريقية للأمارة، والإرادة في الحكم الواقعي متعلّقة بالمتعلّق، والإرادة في الحكم الظاهري متعلّقة بنفس الإنشاء.

وبعبارة أُخرى: المصلحة أو المفسدة والإرادة أو الكراهة مختصّة في الحكم الواقعي، وجعل الحجّية للإرادة لا يستلزم إرادة ولا كراهة بالنسبة إلى متعلّق الطريق وهو المؤدّى.

ويبقى اجتماع الحكمين، وهو لا محذور فيه في المقام؛ إذ المحذور إنّما

ص: 350

يترتّب لو كان الحكمان من سنخ واحد، بأن كان كلاهما حقيقياً أو طريقياً، أمّا لو اختلفا في السنخ فلا محذور لعدم كونهما مثلين أو ضدّين، كما لا محذور في اجتماع حكم اقتضائي، وآخر إنشائي، اتّفقا، أو اختلفا.

والحاصل: أنّه لا اجتماع في مرحلة المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة لاختلاف المتعلّق. ولا اجتماع في مرحلة الحكم لاختلاف السنخ.

ثمّ لا يخفى: أنّ تسمية الحكم الطريقي بذلك لأنّه جعل طريقاً إلى الواقع، ومن أجل كونه منجّزاً له ومعذّراً عنه.

وبعبارة أُخرى: المراد بالحكم الطريقي الإنشاء بداعي تنجيز الواقع لا بداعي البعث الجدّي، فالغرض من إنشائه جعل المنجّز والمعذّر.

التأمّل في الوجه الثاني

وهذا الوجه يرد عليه: ما تقدّم في الوجه الأوّل من البحث البنائي.

هذا ولكن قد يدفع المحذور بأنّ الأمر باتّباع الحجّة المجعولة ناشئ من نفس المبادئ التي ينشأ منها الحكم الواقعي، فلا توجد مصلحة وراء مصلحة الواقع فيه، فلا يمكن أن تتعلّق به إرادة تشريعية أُخرى.

وعليه: فلا يوجد هنالك تدافع في مرحلة (المبادئ) كما لا يوجد تماثل فيها، لأنّ ذلك فرع الاثنينية، ولا اثنينية في المقام.

وبعبارة أُخرى: أنّ المحذور يتمّ لو افترض كون مبادئ الحكم الظاهري مغايرة لمبادئ الحكم الواقعي، وأمّا لو افترض كونها عين مبادئ الحكم الواقعي فلا.

توضيحه: أنّ هنالك ملاكات ثابتة في متن الواقع، وهذه الملاكات كما تقتضي إنشاء الأحكام الواقعية على طبقها كذلك تقتضي التعبّد بطرق ظنّية

ص: 351

للوصول إلى تلك الأحكام الواقعية؛ وذلك لأنّ القطع وإن كان طريقاً إلى تلك الأحكام، إلاّ أنّ الاقتصار عليه يوجب تفويت الملاكات الواقعية في كثير من الأحيان، لعدم حصول القطع بها غالباً، ولذلك عبّد الشارع المكلّفين بالطرق الظنّية التي يعلم أنّها توصل إلى الواقع كثيراً.

مثاله العرفي: أنّه لو كان الغرض شفاء المريض - مثلا - فهذا الغرض كما يقتضي بعث المريض نحو ما يعلم أنّه يحقّق هذا الغرض، كذلك يقتضي بعثه نحو الطرق العقلائية التي يظنّ أنّها تحقّق الغرض، وإن أمكن أن تخطئ الواقع في بعض الأحيان، وذلك لأنّ الاقتصار على العلم يؤدّي إلى تفويت الملاكات الواقعية في كثير من الأحيان. وذلك مثل (قول الخبير) مثلا:

هذا ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه إنّما يقتضي دفع المحذور في مرحلة « الملاك »، وأمّا في مرحلة الإرادة فالمحذور باق على حاله؛ وذلك لأنّه كما لا يمكن تدافع إرادتين أصليتين، كذلك لا يمكن تدافع إرادتين تبعيتين.

مثلا: إذا كان الغرض الأصلي (الكون في المقصد) تتولّد من ذلك إرادة تبعية بطي المسافة. وكما لا يمكن تدافع إرادتين أصليتين كذلك لا يمكن تدافع إرادتين تبعيتين، بأن يريد المولى (السير إلى المشرق) و (السير إلى المغرب) في وقت واحد للكون في ذلك المكان. ومنه يظهر الكلام في تماثل الإرادتين أيضاً.

ففيما نحن فيه كما تتعلّق الإرادة بالعمل بالأحكام الواقعية كذلك تتعلّق بالعمل بمؤدّي الطريق، وحينئذ: إذا افترض خطأ الأمارة لزم تعلّق إرادتين بأمرين متضادّين وهو محال، ولو افترض إصابتها لزم اجتماع إرادتين

ص: 352

متماثلتين وهو محال أيضاً.

هذا مضافاً إلى أنّ اتّحاد مبادئ الحكم الواقعي والظاهري غير محتمل في بعض الموارد.

مثلا: النجاسة الواقعية لمشكوك الطهارة فيما لو كان نجساً واقعاً قد تكون نابعة من الخباثة الواقعية الكامنة في ذات النجس، بينما الطهارة الظاهرية - المستفادة من قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء لك طاهر» قد تكون نابعة من مصلحة التسهيل على المكلّفين مثلا، فلاحظ.

الوجه الثالث: إنكار وجود مبادئ للحكم الواقعي

اشارة

وهذا الوجه طرحه صاحب الكفاية في إطار خاصّ - وهو بعض الأُصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية -, إلاّ أنّنا نطرحه في إطار عام يشمل جميع الأحكام الظاهرية- سواء كانت مؤدّيات الأمارات أم مؤدّيات الأُصول العملية.

وحاصل جوابه: إنكار وجود إرادة أو كراهة مولويتان تتعلّقان بالحكم الواقعي، فيما يمكن انقداحهما فيه، وهو بعض المبادئ العالية كالنفس النبوية والولوية صلوات اللّه عليهما، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلاّ العلم بالمصلحة والمفسدة، كما يراه صاحب الكفاية.

وعلى كل: فالإرادة والكراهة لا تتعلّقان بالحكم الواقعي أصلاً، فلا يلزم اجتماع إرادتين أو كراهتين متماثلتين، ولا إرادة وكراهة أصلاً(1).

ومنه ينقدح أنّه لا توجد هنالك مصلحة ملزمة ولا مفسدة ملزمة وراء

ص: 353


1- كفاية الأصول: 277-278.

الحكم الواقعي، والمصلحة والمفسدة الملزمتان - كالإرادة والكراهة - تختصّان بالحكم الظاهري فقط.

والخلاصة: أنّ الحكم الواقعي حكم لا توجد وراءه مصلحة ملزمة ولا مفسدة ملزمة ولا إرادة ولا كراهة، وحصول كلّ ذلك معلّق على قيام الحجّة عليه، فلا منافاة إذاً بين الحكمين لا في مرحلة الملاك، ولا في مرحلة الإرادة والكراهة، ولا في مرحلة نفس الحكم.

وبالجملة: فالحكم الواقعي فعلي تعليقي والحكم الظاهري فعلي حتمي.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ مرتبة (الفعلية) لا تلازم البعث والزجر مطلقاً، بل إنّما تستلزمهما إذا لم ينقدح في النفس النبوية أو الولوية - صلوات اللّه عليهما - الإذن في المخالفة، فإذا انقدح في نفسهما الإذن فيها فلا تتحقّق فعلية الحكم بمعنى إيجاب البعث والزجر، إذ الإذن مانع عنها.

والخلاصة: الفعلية الحتمية تلازم البعث والزجر الفعليين لا الفعلية التعليقية.

إشكالات على الوجه الثالث
اشارة

ولكن هنا مجموعة من الإشكالات قد تورد على هذا الوجه:

1- استلزام ذلك لعدم فعلية الحكم الواقعي

الإشكال الأوّل: ما طرحه نفس صاحب الكفاية(1) من أنّ الالتزام بعدم وجود الإرادة أو الكراهة في المبادئ العالية يستلزم عدم فعلية الحكم

ص: 354


1- كفاية الأصول: 278.

الواقعي؛ وذلك لأنّ ملاك الفعلية وجود الإرادة والكراهة، والمفروض أنّ الحكم الواقعي لم تتعلّق به إرادة ولا كراهة، وإذا لم يصر الحكم فعلياً كان إنشائياً محضاً، ولو كان إنشائياً محضاً لم يُجدِ قيام الأمارة في صيرورته حكماً فعلياً، كما سوف يأتي بيانه قريباً، إن شاء اللّه تعالى.

والخلاصة: أنّ عدم انقداح الإرادة والكراهة مساوق لعدم فعلية الحكم الواقعي(1).

وأجاب عنه: بأنّ الحكم الواقعي ليس إنشائياً، بل هو فعلي تعليقي.

وتوضيح كلامه: أنّ الحكم الفعلي على نحوين:

1) الحكم الفعلي المنجّز. وهو عبارة عن الحكم الذي قامت عليه الحجّة، سواء تمثّلت في العلم الوجداني أم التعبّدي.

2) الحكم الفعلي المعلّق. وهو عبارة عن الحكم الذي لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، أو الحكم الذي لو نهضت عليه حجّة لتنجّز، فالأحكام الواقعية فعلية معلّقة، بينما الأحكام الظاهرية فعلية منجّزة.

وبهذا يظهر الفرق بينها وبين الأحكام الإنشائية، إذ الأحكام الإنشائية لا تتنجّز ولو بتعلّق القطع بها، فكيف بقيام الأمارة عليها؟

وهذا بخلاف الأحكام الفعلية التعليقية فإنّها تتنجّز بقيام الأمارة عليها، لتحقّق شرط الفعلية التنجيزية حينئذ.

وبعبارة أُخرى: الأحكام الواقعية مجعولة على نحو القضايا الشرطية، وكما أنّ القضية الشرطية تظلّ في طور التعليق وتمثّل مجرّد علاقة بين

ص: 355


1- كفاية الأصول: 278.

المقدّم والتالي، حتّى يتحقّق المقدّم فيتحقّق عندئذ التالي، كذلك الأحكام الواقعية، فهي لا تتنجّز إلاّ عند تحقّق الشرط وهو علم المكلّف، أو قيام الحجّة.

2- استلزامه لوجود حكم بلا مبادئ

الإشكال الثاني: أنّ الالتزام بذلك يستلزم وجود حكم بلا مبادئ؛ إذ لا تكون وراء الحكم الواقعي، مصلحة ملزمة، ولا مفسدة ملزمة ولا إرادة، ولا كراهة.

والجواب عن ذلك: أنّ المبادئ التعليقية موجودة، وذلك هو مقتضى المسانخة بين سنخ الحكم وسنخ مبادئه. فكما أنّ الحكم تعليقي، فالمبادئ تعليقية أيضاً.

وقد قرّر في محلّه: أنّ الوجود التعليقي نحو من أنحاء الوجود.

3- استلزام للتصويب

الإشكال الثالث: أنّ الالتزام بذلك يستلزم التصويب.

والجواب عن ذلك: أنّ التصويب عبارة عن عدم الحكم أصلا في الواقع، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ حتّى في صورة الإذن الظاهري في المخالفة هنالك حكم واقعي فعلي تعليقي.

4- إشكال النهاية على الوجه الثالث

الإشكال الرابع: ما في النهاية: من:

أ- «أنّه لو أُريد من ذلك: الفعلية من جهة لا من جميع الجهات. ففيه: أنّ الفاقد لبعض جهات الفعلية باق على الشأنية، والشيء ما لم ينسدّ جميع

ص: 356

أبواب عدمه لم يوجد، فهو حكم غير فعلي»(1).

توضيحه: أنّنا لو فرضنا معلولا يتقوّم وجوده بعلّة مركّبة من عشرة أجزاء - مثلاً- ووجد جزء من تلك الأجزاء فإنّ المعلول يصبح وجوده فعلياً من هذه الجهة، ولو وجد جزء ثان أصبح وجوده فعلياً من جهتين، فلو فرضنا أنّه وجدت تسعة أجزاء أصبح وجود المعلول فعلياً من تلك الجهات، إلاّ أنّ ذلك لا يخرجه من الشأنية إلى الفعلية؛ إذ لابدّ من انسداد جميع أبواب العدم على الشيء حتّى يوجد، وما دام باب واحد من أبواب العدم مشرعاً فإنّه لا يوجد الشيء.

مثلا: لو كان لمدينة عشرة أبواب وكان حفظ المدينة من العدو متوقّفاً على سدّ جميع هذه الأبواب، فسددنا باباً واحداً أصبح حفظ المدينة فعلياً من قبل هذه الباب، فإذا سددنا تسعة أبواب أصبح حفظ المدينة فعلياً من قبل هذه الأبواب التسعة، إلاّ أنّ ذلك لا يعني تحقّق الحفظ بالفعل، لأنّ المفروض توقّفه على سدّ جميع الأبواب العشرة.

ففيما نحن فيه لو فرضنا أنّ فعلية الحكم متقوّمة بجهات ووجدت كلّها، لكن بقيت الجهة الأخيرة - وهو علم المكلّفين بالحكم- كان الحكم فعلياً، من قبل تلك الجهات، وغير فعلي من قبل هذه الجهة، ومعنى ذلك أنّ الحكم ليس فعلياً بل هو شأني.

وهذا كرّ على ما فرّ منه صاحب الكفاية؛ إذ إنّه أراد أن يتخلّص من محذور شأنية الحكم فوقع فيه.

ص: 357


1- نهاية الدراية 3: 150.

ب- «ولو أُريد من ذلك كون الفعلية ذات مراتب، فالفعلي من مرتبة لا ينافي الفعلي من مرتبة أُخرى.

ففيه: أنّ الشدّة والضعف لا يرفع تماثل فردين من طبيعة واحدة، ولا تضادّ فردين من طبيعتين متقابلتين، كما يظهر لمن أمعن النظر في اجتماع سواد ضعيف مع سواد قوي، أو سواد ضعيف مع بياض قوي في موضوع واحد»(1).

توضيحه: أنّه لو لم يرد صاحب الكفاية كون الحكم الواقعي فعلياً من جهة دون جهة، بل أراد كونه فعلياً تامّ الفعلية، إلاّ أنّ الحكم الواقعي فعلي بمرتبة ضعيفة من الفعلية، والحكم الظاهري فعلي بمرتبة شديدة من الفعلية.

ففيه: أنّه لا يمكن اجتماع فعليتين متماثلتين، ولو اختلفتا بالشدّة والضعف، لأنّه يوجب اجتماع المثلين، ولا اجتماع فعليتين متضادّتين ولو اختلفتا كذلك، لأنّه يوجب اجتماع الضدّين، كما يظهر من المثالين المذكورين.

ج- «وأمّا إذا أُريد من الحكم الفعلي من جهة: الحكم بداعي إظهار الشوق المطلق لا بداعي البعث والتحريك فهو فعلي من قبل هذه المقدمة،

ففيه: ما تقدم سابقاً أن الشوق إذا بلغ حداً ينبعث منه جعل الداعي كانت إرادة تشريعية، وهي منافية لإرادة أخرى على خلافها أو الإذن في خلافها، وإذا لم يبلغ هذا الحد فلا يكون القطع به موجباً للامتثال، ولا مثل الإنشاء بداعي إظهار الشوق المطلق جعلاً للداعي، إذ لا ينقلب الشيء عمّا هو عليه كما مرّ مراراً»(2).

ص: 358


1- نهاية الدراية 3: 150.
2- نهاية الدراية 3: 151.

توضيحه: إنّه إن أراد إنّ داعي المولى إلى إنشاء الحكم الواقعي إظهار الشوق إليه، لا البعث والتحريك، فيكون الحكم الواقعي فعلياً من قبل المقدّمة الشوقية وإن لم يكن فعلياً من قبل المقدّمة التحريكية.

ففيه: إنّ الشوق إن كان شديداً بحيث ينبعث منه جعل الداعي في نفس المكلّف كان إرادة تشريعية - كما أنّه لو كان بحيث ينبعث منه تحريك العضلات كان إرادة تكوينية - فإذا تعلّقت الإرادة التشريعية بالحكم الواقعي فكيف يمكن وجود إرادة تشريعية على خلافها، أو الإذن في خلافها، كما هو مقتضى الأمارات أو الأُصول العملية.

وإن كان ضعيفاً بحيث لم يبلغ هذا الحدّ، أو كان هناك مانع من وصوله إليه، كما في السواك مثلا، حيث إنّ « المشقّة النوعية » منعت من الأمر الوجوبي بالسواك، كما هو المستفاد من الحديث الشريف المروي عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك»(1) فحينئذ لا يكون القطع بمثل هذا الحكم موجباً للامتثال، فكيف بالأمارة؛ لأنّ القطع والأمارة مجرّد كاشفين عن الواقع، ولا يقلبان الشيء عمّا هو عليه.

أقول: مضافاً إلى أنّ الشقّ الثاني غير مراد لصاحب الكفاية - ظاهراً - وإلى أنّ الشقّ الثالث يرجع إلى الشقّ الأوّل يرد على هذا الإشكال ما في المنتقى من: «إنّه ليس المهمّ بنظر الكفاية هو تسمية الحكم الواقعي فعلياً وعدم تسميته إنشائياً؛ إذ لا أثر للتسمية في واقع المطلب وإنما المهم هو التزامه بأن الحكم الواقعي بنحو يكون العلم به أو قيام الأمارة عليه منجزاً له،

ص: 359


1- وسائل الشيعة 2: 17.

سواء سُمّي الحكم الواقعي إنشائياً أم فعلياً، في قبال الالتزام بأنه إنشائي صرف، بحيث لا يكون العلم به منجزاً - كما ينسب إلى الشيخ.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المحقق الأصفهاني لا ينفي واقع هذا الأمر، وإنّما ينفي صحة تسمية الحكم الواقعي بالفعلي، فلو وافقناه في أنه حكم إنشائي لم يختل الجمع بهذا الوجه، ولم ينتفِ ما رتبه صاحب الكفاية عليه من أنّ عدم الإذن على الخلاف يحقق فعليته المستلزمة للبعث والزجر؛ إذ لا مانع أن يكون الحكم الواقعي إنشائياً، ولكنه بهذه الصفة.

وبعبارة أخرى: إن تسمية ما سماه صاحب الكفاية ب«الفعلي من جهة» بالإنشائي لا يوجب وقوع صاحب الكفاية فيما فرّ منه من الالتزام بأنّ الواقع إنشائي صرف لا يتنجز بالعلم، وهذه الدعوى هي مهمة صاحب الكفاية، فإنّ مهمته واقعية لا لفظية»(1).

5- استلزام ذلك للدور

الإشكال الخامس: أنّه يوجب الدور ونحوه، كما قرّر في مبحث أخذ القطع بالحكم موضوعاً لنفس الحكم.

والجواب عن ذلك: أنّ المحذور إنّما يتمّ لو اتّحدت الرتبة، أمّا مع اختلاف الرتبة فلا محذور.

ومن جميع ذلك ينقدح تمامية الوجه الثالث الذي ذكره صاحب الكفاية، وذلك بخلاف الوجهين الأوّلين.

ص: 360


1- منتقى الأصول 4: 154.

الوجه الرابع: الحكم الواقعي إنشائي محض

وهذا الوجه منسوب إلى الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

وحاصله: أنّ الحكم الواقعي في موارد الأمارات والأُصول ليس فعلياً، بل هو إنشائي محض.

قال (رحمه اللّه) : «فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير الظانّ بخلافه، وشأني في حقّه»(1).

ولا يخفى اختلاف هذا الوجه مع الوجه الثالث الذي ذكره صاحب الكفاية، فإنّه نفى الفعلية التنجّزية وأثبت الفعلية التعليقية، أمّا الشيخ فقد نفى الفعلية مطلقاً.

ويرد عليه: أنّ لازم كون الحكم إنشائياً عدم لزوم امتثال مؤدّيات الأمارات والأُصول؛ لأنّها تكشف عن أحكام إنشائية، ومن المعلوم أنّ الحكم الإنشائي لا يجب امتثاله إذا تعلّق به العلم الوجداني، فكيف إذا تعلّق به العلم التعبّدي؟

لا يقال: إنّه مبني على بقاء الأحكام الواقعية على صفة الإنشائية حتّى بعد قيام الأمارات أو الأُصول عليها، وأمّا بناءً على أنّ قيامها سبب لوصولها إلى مرتبة الفعلية فلا وجه للإشكال لصيرورتها بواسطة الأمارات أو الأُصول فعلية.

فإنّه يقال: إنّ الأمارات مجرّد كواشف عن الواقع، لا مغيّرة للواقع،

ص: 361


1- فرائد الأصول 1: 114.

فوزان العلم التعبّدي وزان العلم الوجداني في الحكاية عن الواقع الخارجي على ما هو عليه من الوصف. وحيث إنّ الحكم إنشائي صرف تغيّره الأمارة عمّا هو عليه، فكيف يصبح فعلياً.

نعم، لو أُريد بذلك الفعلية التعليقية أصبح الحكم فعلياً منجّزاً بتحقّق ما علّق عليه، فتأمّل.

الوجه الخامس: جواب النهاية

اشارة

فقد ذكره في النهاية.

وتوضيحه: أنّه تارةً يبحث في اجتماع الضدّين أو المثلين بلحاظ مرحلة الإرادة والكراهة، وأُخرى يبحث في ذلك بلحاظ الحكم المجعول.

فهنا مقامان:

المقام الأوّل
اشارة

أمّا بالنسبة إلى المقام الأوّل، فقد التزم في النهاية بعدم وجود إرادة أو كراهة بالنسبة إلى فعل المكلّف في المبدأ الأعلى، ولا في سائر المبادئ العالية، بل في مطلق من كان بعثه أو زجره لأجل صلاح الغير،

وعلّله: ببداهة أنّ الشوق النفساني لا يكون إلاّ لأجل فائدة عائدة إلى جوهر ذات الفاعل أو إلى قوّة من قواه، وإلاّ فحصول الشوق الأكيد إلى الفعل على حدّ المعلول بلا علّة، وإنّما يتصوّر الشوق الأكيد إلى فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد إيّاه.

وحيث إنّ أفعال المكلّفين لا يعود صلاحها وفسادها إلاّ إليهم, فلذا لا معنى لإنقداح الإرادة في النفس النبوية والولوية فضلاً عن المبدأ الأعلى.

ص: 362

وعليه: فليس بالنسبة إلى فعل المكلّف إرادة أصلا(1).

ويرد عليه المناقشة الكبروية

أوّلا: ما ذكره السيّد الوالد (رضوان اللّه عليه) من: «إنّنا نجد في العقلاء الشوق النفساني إلى الإصلاح، وإن لم تكن الفائدة المذكورة»(2).

وهذه مناقشة في الكبرى المذكورة في كلام النهاية.

وتوضيحها: إنّنا نمنع إنحصار وجود الشوق النفساني بحالة وجود فائدة عائدة إلى جوهر الذات أو قوّة من قواها. بدليل: إنّ المؤمن - مثلا - قد يحب أن يعمّ الإيمان الكرة الأرضية كلّها، وإن لم تترتّب على ذلك أيّة فائدة عائدة إليه، والكافر قد يحب أن يعمّ الكفر الأرض كلّها، وإن لم تترتّب على ذلك فائدة عائدة إلى شخصه.

ومن هنا نجد: أنّ المؤمنين ينتظرون ظهور المهدي المنتظر (عجّل اللّه تعالى فرجه) ليقيم الإيمان والعدل في أرجاء المعمورة كلّها، وهم يردّدون: «أين المنتظر لإقامة الأمت والعوج، أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان، أين المدّخر لتجديد الفرائض والسنن، أين المتخير لإعادة الملة والشريعة»(3).

وأمّا البرهان العقلي المذكور في كلامه:

ففيه: أنّ العلّة هي السنخية بين الذات والصفات النفسانية، قال اللّه تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}(4). والعمل كما يشمل العمل الجوارحي

ص: 363


1- نهاية الدراية 3: 122.
2- الأصول: 628.
3- بحار الأنوار 99: 107.
4- الإسراء: 84.

كذلك يشمل العمل الجوانحي. فالإنسان الطيّب يتجلّى الطيّب حتّى في أفعاله النفسية، والإنسان الخبيث يترشّح الخبث حتّى على حالاته الباطنية، وقد تكون العلّة هي تحقّق الغرض وهو أعمّ من حصول المنفعة.

وقد ذكر بعض الفقهاء في كتاب الإجارة صحّة الإجارة وإن لم تعد فائدة منها إلى المستأجر، إذا كانت محقّقة لغرض عقلائي، كمن يستأجر شخصاً لتنظيف مدينة من المدن مع عدم عود نفع من ذلك إليه.

والمناقشة الصغروية

وثانياً: ما ذكره (رحمه اللّه) أيضاً من: «إنّ الفائدة تعود إلى أوليائه تعالى، فإنّ إيمان الناس وعملهم الصالح يوجب ثوابهم، كما دلّ عليه العقل والنقل»(1).

وهذه مناقشة صغروية، فلو فرض تسليم الكبرى المدعاة لم يقدح في المقام؛ إذ أنّها لا تنطبق عليه.

والظاهر أنّ مراده ب- (النقل): الأخبار العامّة الدالّة على أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة(2).

فكلّ عمل صالح يعمله المؤمنون منذ بعثة النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى أن تقوم الساعة يكتب مثل ثوابه للنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باعتباره الدالّ على الخير.

وأمّا الأخبار الخاصّة فلم أعثر عليها في هذه العجالة.

وفي المنتقى: «إنّ ما ذكره من عدم عود مصلحة إلى المكلف - بالكسر- في موارد الأحكام غير تام على إطلاقه؛ إذ هو مسلم بالنسبة إلى

ص: 364


1- الأصول: 628.
2- الكافي 5: 9.

المبدأ الأعلى جل اسمه، وأما بالنسبة إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الولي (عليه السلام) فغير مسلّم، لتصور مصلحة عائدة إليهما من الأفعال، ولو بلحاظ كمال الأمة المنسوبة إليهم، فإنه مما يوجب تحقق الشوق إلى ما يوجب كمالها، نظير الشوق لما فيه مصلحة الابن خاصة باعتبار انتسابه إلى أبيه.

وعليه، فتحقق الإرادة والكراهة في نفس النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الولي (عليه السلام) ممكن»(1).

الإشكال في الإرادة التكوينية المتعلّقة بنفس البعث والزجر

وثالثاً: ما ذكره (رحمه اللّه) أيضاً من أنّه: «كيف تتعلّق التكوينية تارةً بالبعث وأُخرى بالزجر»(2).

توضيحه: أنّ المحقّق الأصفهاني وإن نفى وجود إرادة تتعلّق بفعل المكلّف إلاّ أنّه اعترف بوجود إرادة تكوينية تتعلّق بنفس البعث والزجر، وهذه لا تردّ على فعل المكلَّف - بالفتح - بل على فعل المكلِّف - بالكسر - وهي تتعلّق بفعل المريد لا بفعل المراد منه، فلا مانع - إذاً - من حصول الشوق إلى نفس البعث والزجر وتعلّق الإرادة بهما.

وعليه، يظلّ الإيراد بأنّه كيف تتعلّق إرادتان تكوينيتان بأمرين متضادّين - يتضادّ متعلّقاهما - أعني البمعوث - نحوه والمزجور عنه، فإنّ التضادّ يسري من المتعلّق إلى نفس الفعل المراد، ومنه إلى نفس الإرادة، فتكون إرادة للمحال، بل إرادة محالة، على ما ذكر في محلّه.

هذا ولكن سيأتي في المقام الثاني - إن شاء اللّه تعالى - ذهاب المحقّق

ص: 365


1- منتقى الأصول 4: 158.
2- الأصول: 627.

الأصفهاني إلى أنّه لا بعث ولا زجر واقعاً بالنسبة إلى الحكم الواقعي، فلا إرادة تكوينية تتعلّق بهما.

عدم تكفّل الجواب بحلّ المحذور في مرحلة المصلحة والمفسدة

ورابعاً: أنّ ما ذكر وإن فرض تكفله بحلّ المحذور في مرحلة «الإرادة والكراهة» إلاّ أنّه لا يتكفّل بحلّ المحذور في مرحلة « المصلحة والمفسدة» إذ يلزم اجتماع مصلحتين ملزمتين متماثلتين، أو مفسدتين كذلك أو مصلحة ومفسدة متضادّتين.

هذا ولكن قد يقال: كما أنّه لا بعث ولا زجر واقعاً، ولا إرادة ولا كراهة واقعاً، فكذلك لا مصلحة ملزمة ولا مفسدة ملزمة بالنسبة إلى الحكم الواقعي. هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل.

المقام الثاني
اشارة

وأمّا بالنسبة إلى المقام الثاني، أي البحث في اجتماع الضدّين أو المثلين بلحاظ الحكم المجعول. فقد ذكر في النهاية أنّه لا محذور بهذا اللحاظ.

وتوضيح كلامه يتمّ بالبحث في أمرين:

الأوّل: ما هي حقيقة البعث والزجر التشريعيين؟

وأجاب عنه بأنّه جعل ما يدعو بالإمكان(1).

توضيحه: أنّ في حقيقة البعث والزجر احتمالين:

1- أنّهما عبارة عن جعل ما يدعو إلى الفعل أو الترك، بالفعل، أو

ص: 366


1- نهاية الدراية 3: 124.

بالضرورة.

وهذا باطل ل- «بداهة دخالة إرادة العبد واختياره في حصول أحدهما»(1).

2- إنّهما عبارة عن جعل ما يدعو بالإمكان. وهذا هو الصحيح.

الثاني: أنّ الداعوية الإمكانية للإنشاء لا تعقل إلاّ بعد وصول الإنشاء إلى المكلّف.

قال في النهاية: «إنّ الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي تمام ما بيد المولى لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة إمكاناً، إلاَّ بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول، ضرورة أن الأمر الواقعي وإن بلغ ما بلغ من الشدة والقوة لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة ويوجب انقداح الداعي في نفس العبد، وإن كان في مقام الانقياد ما لم يصل إليه، فلا يعقل أن يكون الإنشاء بالداعي المزبور داعياً بالإمكان إلاَّ بعد وصوله حتى يكون بحيث يترتب على مخالفته العقاب؛ ليكون محققاً للدعوة على أي تقدير...»(2).

ونتيجة ذلك أنّه لا بعث ولا زجر بالنسبة إلى الأمر الواقعي؛ لعدم وصوله إلى المكلّف.

وعليه: لا يكون هنالك تضادّ ولا تماثل بين الحكم الواقعي والظاهري، « التضادّ والتماثل بين البعثين والزجرين، والبعث والزجر، فإنّ استحالة داعيين متماثلين أو متضاربين إنما هي مع وجود الموجب لهما، والمفروض أنّ الأمر الواقعي الغير الواصل لا يوجب الدعوة، فلا منافي للبعث والزجر

ص: 367


1- نهاية الدراية 3: 124.
2- نهاية الدراية 3: 124.

الحقيقيين على طبق الأمارة المتضمنة للتكليف والترخيص على خلاف الحكم الواقعي، فالأمر في الأحكام الظاهرية من قبيل المقتضي، وفي الواقعية من قبيل اللاّاقتضاء»(1).

والخلاصة: إنّ الحكم الواقعي حكم بلا بعث ولا زجر، فلا ينافي البعث والزجر طبق الحكم الظاهري.

وبعبارة أُخرى: الحكم الواقعي - لعدم وصوله إلى العبد - لا يوجب الدعوة، والأمر الظاهري يوجب الدعوة، ولا منافاة بين ما لا يوجب الدعوة وما يوجب الدعوة وهذا المبنى لو تم فإنه يتكفل برفع المحذور حتى عن مبادئ الحكم قال في النهاية: «بل لو فرضنا انبعاث الإرادة التشريعية عن فائدة عائدة إلى المراد منه لم يلزم ثبوت إرداتين تشريعيتين، لما مرّ مراراً من أنّ الشوق ما لم يصل إلى حد ينبعث عنه العضلات، أو ينبعث منه البعث الحقيقي لا يكاد يكون مصداقاً للإرادة التكوينية أو التشريعية ... فكما لا بعث حقيقي واقعاً لا إرادة تشريعية واقعاً»(2).

ومنه ينقدح: أنّه لا مصلحة ملزمة ولا مفسدة ملزمة واقعاً.

أقول: هنا تفريعان وتوضيحان ومناقشتان.

تفريعان

1- إنّ مرتبة التنجّز والفعلية في كلّ الأحكام واحدة، إذ كلاهما متقوّم

ص: 368


1- نهاية الدراية 3: 123.
2- نهاية الدراية 3: 122 .

بالوصول، فقبل الوصول كما لا تنجّز فكذلك لا فعلية(1).

وهذا المبنى يخالف مبنى صاحب الكفاية حيث اعتبر ان مراتب الحكم أربع: مرتبة الاقتضاء، ومرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلية، ومرتبة التنجّز.

2 - إنّ الحكم على خلاف الحكم الواقعي حكم على طبق القاعدة، لا من جهة اللاّبدّية والجمع بين الحكم الواقعي والظاهري(2).

توضيحان

1 - أنّه لابدّ أن يراد ب- «إمكان الانبعاث» الأعمّ من إمكان الانبعاث نحو المأمور به أو نحو مقدّماته؛ إذ الشيء قد يمكن الانبعاث نحوه مباشرة، وقد لا يمكن ذلك، كما في المسبّبات التوليدية، فإنّه لا يمكن الانبعاث نحو المتعلّق على نحو المباشرة، وما يمكن الانبعاث عنه فعلا هو الأسباب، وأمّا متعلّق الأمر فهو يحصل بعد وجود الأسباب قهراً، وكذا في كلّ فعل ذي مقدّمات غير حاصلة في أوّل وقت التكليف، كالصلاة في أوّل الوقت لمن لم يكن متطهّراً. وذلك كلّه باعتبار أنّ الممكن بالواسطة ممكن.

2- إنّه لابدّ أن يراد ب- « إمكان الانبعاث » الأعمّ من إمكان الانبعاث نحو الشيء - فيما لو كان بسيطاً - أو نحو أبعاضه - فيما لو كان مركّباً- فإنّ الوجوب المنصبّ على الفعل المركّب من أُمور تدريجية الوجود مبعوث إليه ببعث واحد في أوّل الوقت، مع عدم إمكان امتثال غير الجزء الأوّل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: الإنشاء بلحاظ تعلّقه بأمر مستمرّ أو بأمر تدريجي

ص: 369


1- نهاية الدراية 3: 151.
2- نهاية الدراية 3: 151.

الحصول كأنّه منبسط على ذلك المستمرّ أو التدريجي، فله اقتضاءات متعاقبة، بكلّ اقتضاء يكون بالحقيقة بعثاً إلى ذلك الجزء من الأمر المستمرّ أو المركّب التدريجي، فهو ليس مقتضياً بالفعل لتمام ذلك المستمرّ أو المركّب، بل يقتضي شيئاً فشيئاً. وإلى ذلك ذهب صاحب النهاية في موضع آخر.

إلاّ إنّه خلاف ما يفهمه العرف من الدليل، من وحدة الأمر وكونه موجوداً اعتبارياً وحدانياً قارّاً، وكون الوجوب السيّال غير القارّ وجوباً عقلياً مستنداً إلى الوجوب الشرعي الواحد.

مناقشتان
الأُولى: الحكم اعتبار لا يؤخذ في صحته إمكان الانبعاث

الأُولى: أنّ الحكم اعتبار مجعول في عهدة المكلّف، أو اعتبار يرتبط بنحو من الارتباط بالمكلّف، ينشأ من ملاك خاصّ أو إرادة خاصّة، ولا يؤخذ في صحّته لدى العقلاء (إمكان الانبعاث)، نعم لابدّ أن يكون هنالك أثر مصحّح للجعل، دفعاً للغوية.

مثلا: النائم الذي استمرّ نومه طيلة الوقت المحدّد، ولم يكن مقصّراً في المقدّمات، أو قيل بعدم لزوم تهيئتها، مكلّف، مع عدم تمكّنه من الانبعاث نحو المكلّف به.

وبعبارة أُخرى: أنّه إمّا أن يقال بتوجّه التكليف إليه في الوقت، أو يقال بعدم توجّهه إليه، فعلى الأوّل ينتقض المبنى، وعلى الثاني يلزم عدم وجوب القضاء...، باعتبار أنّه إمّا أن يكون بنفس الأمر الأوّل، أو بأمر جديد.

لا سبيل إلى الأوّل لفرض أنّه لا أمر، والثاني موقوف على صدق عنوان

ص: 370

الفوت المأخوذ في قوله (عليه السلام) : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1) موضوعاً لوجوب القضاء، وحيث لا أمر، فلا فوت، فلا يجب القضاء، مع أنّ المسلّم وجوبه.

والمصحّح للتكليف - مع عدم إمكان الانبعاث في داخل الوقت - تحقّق موضوع الأمر بالقضاء مثلا.

ونحوه الأمر في الجاهل.

مثلا: لو جهل وجوب الصيام عليه جهلا قصورياً، واستمرّ عذره إلى موته، لم يمكنه الانبعاث نحو المكلّف به، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع توجّه التكليف إليه بالصيام. والمصحّح العقلائي لذلك، أمر ابنه الأكبر بقضاء ما فاته من الصيام - مثلاً.

فوزان الأحكام التكليفية فيما نحن فيه وزان الأحكام الوضعية، فكما أنّه لا مدخلية للوصول إلى المكلّف في فعلية الحكم الوضعي، فيمكن للشارع أن يجعل في ذمّة المكلّف حكماً من الأحكام الوضعية مع كون المكلّف غافلا أو جاهلا أو ناسياً، بل يمكن أن يجعل في ذمّة شخص حكماً منها مع كونه مجنوناً، فكذلك الأمر في الأحكام التكليفية، وذلك لوحدة الملاك في المقامين.

مثال ذلك: حكم الشارع بالجنابة على من تحقّق منه سببها وإن كان جاهلا بالموضوع أو الحكم، وكذا حكمه على المتلف مال الغير بالضمان وإن كان طفلا أو مجنوناً.

ص: 371


1- تهذيب الأحكام 3: 164.

والسبب في ذلك الجعل وأمثاله وجود مصحّح له وإن لم يترتّب عليه أثر، بل وإن لم يمكن الجري العملي وفقه - لعدم وصوله إليه.

الثانية: إمكان الداعوية ولو في صورة الجهل

الثانية: ما في المنتقى من أنّ: «ما ذكره من أنّ إمكان الداعوية لا يثبت إلاَّ في حال الوصول فإنّه ممنوع؛ وذلك لأن داعوية الأمر نحو متعلقه في صورة العلم ليست تكوينية قهرية، نظير تأثير الأسباب التوليدية في مسبباتها كالنار في الإحراق، وإنما هي بلحاظ ما يترتب على الموافقة والمخالفة من ثواب وعقاب، وهذا الملاك بعينه ثابت في صورة الجهل البسيط واحتمال الأمر؛ إذ يقطع بترتب الثواب عند الإتيان بالعمل، ويحتمل العقاب - مع غض النظر عن المعذّر- وهذا يكفي في الداعوية نحو الفعل، وعليه فلا يتوقف إمكان الداعوية على الوصول»(1).

ويمكن أن يناقش في ذلك:

أوّلا: بأنّ الوصول أعمّ من الوصول بعنوانه أو بعنوان آخر، وقد وصل الأمر الواقعي إلى المكلّف بعنوان (الاحتياط)، سواء كان الأمر بالاحتياط العقل، أم النقل، على نحو الوجوب، أم الاستحباب.

والخلاصة: أن (احتط) نوع من أنواع وصول الحكم الواقعي إلى المكلّف - على فرض ثبوته في متن الواقع.

وبتقرير آخر: الداعوية إنّما هي لأوامر الاحتياط، وقد تحقّق وصولها إلى

ص: 372


1- منتقى الأصول 4: 158-159.

المكلّف.

وثانياً: أنّ داعوية التكليف المجهول وإن أمكنت أحياناً إلاَّ أنّها غير ممكنة في غالب الأحيان، إذ التكليف المجهول تارةً يكون بسيطاً، وأُخرى مركّباً، والداعوية ممكنة في النوع الأوّل لا الثاني - غالباً.

مثلا: لو احتمل المكلّف حرمة ابتداء الكافر بالسلام، وفرض كونها ثابتة في الواقع أمكنه الإنبعاث عن البعث المحتمل لكونه أمراً بسيطاً.

وهكذا في جميع الشبهات الحكمية قبل الفحص إذا كانت بسيطة ساذجة.

أمّا لو احتمل وجوب عبادة مركّبة عليه - كالحجّ - فإنّه لا يمكنه إمكاناً عادياً الإنبعاث عن البعث الواقعي المحتمل، لكون الحجّ عملا مركّباً معقّداً.

إلاّ أنّ هذه المناقشة لا تخلّ بما ذكره المنتقى لكفاية الموجبة الجزئية في نقض السالبة الكلّية المدعاة في النهاية.

والمتحصّل من جميع ذلك أنّ ما ذكره صاحب النهاية في المقامين غير واضح.

الوجه السادس: تعدّد الرتبة

اشارة

وهذا الوجه منسوب إلى السيّد محمّد الأصفهاني (رحمه اللّه) .

وقيل: إنّه يظهر من كلمات الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في أوّل مباحث البراءة وأوّل مباحث التعادل والتراجح.

وتقريره: إنّ محذور اجتماع المتضادّين أو المتماثلين مختصّ بما إذا كان الحكمان في رتبة واحدة، دون ما إذا كانا في رتبتين. والمقام من قبيل الثاني.

توضيحه: إنّ موضوع الحكم الواقعي (نفس الشيء) مع غضّ النظر عن

ص: 373

تعلّق العلم أو الجهل به، وموضوع الحكم الظاهري الشيء بوصف أنّه مشكوك في حكمه الواقعي. وحينئذ: فالحكم الظاهري متأخّر عن الشكّ في الحكم الواقعي تأخّر كلّ حكم عن موضوعه، والشكّ في الحكم الواقعي متأخّر عن نفس الحكم الواقعي تأخّر كلّ عارض عن معروضه، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين:

إحداهما: تأخّره عن موضوعه أي الشكّ.

وثانيتهما: تأخّر موضوعه عن الحكم الواقعي الذي هو متعلّق الشكّ.

ولا محذور في اجتماع حكمين فعليين مع تعدّد رتبتهما؛ إذ لا يكون ثمّة اجتماع في الواقع.

والخلاصة: أنّ مناط هذا الجمع هو تعدّد الرتبة مع فعلية الحكمين معاً، فهو تصرّف في رتبة الحكم، وهذا بخلاف الجمع الرابع، فإنّه تصرّف في نفس الحكم، بحمل الحكم الواقعي على الإنشائي والظاهري على الفعلي، كما هو واضح.

وهذا الوجه يرد عليه
1- جواب الكفاية

أوّلا: ما في الكفاية من: «إنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أنّه(1) يكون في مرتبته(2) أيضاً(3)، وعلى تقدير المنافاة لزم

ص: 374


1- أي الحكم الواقعي (منه (رحمه اللّه) ).
2- أي في مرتبة الحكم الظاهري (منه (رحمه اللّه) ).
3- أي كما أنّه موجود قبل مرتبة الحكم الظاهري (منه (رحمه اللّه) ).

اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة(1)»(2).

هذا ولكن هذا الجواب محلّ إشكال من الناحية الفنية.

بيان ذلك: «إنّه لا يعقل تجافي المتقدّم عن رتبته، ليكون في المرتبة المتأخرة - كما هو في المرتبة المتقدمة- بداهة أنّه لا يكون التقدم والتأخر إلاَّ لملاك يقتضيهما، ومع حصول ملاك التقدم في الشيء لايعقل أن يحصل فيه ملاك التأخر أيضاً؛ إذ هو جمع بين المتنافيين، كيف لا؟ والرتبة هي نحو وجود الشيء - على ما سبق- فما اتصف بنحو من الوجود كيف يكون موصوفاً بنحو آخر منه؟

فمثلاً: ملاك التقدم بالطبع أن لا يكون للمتأخر وجود إلاَّ وللمتقدم وجود، ولا عكس، فإنه يمكن أن يكون للمتقدم وجود وليس للمتأخر وجود، كالواحد والكثير، فإنه لايمكن أن يكون للكثير وجود إلاّ والواحد موجود، ويمكن أن يكون الواحد موجوداً والكثير غير موجود، فوجود المتقدم بالطبع في الرتبة المتأخرة مساوق لتوقف الوجود عليه - بمقتضی كونه في الرتبة المتقدمة - ، وعدم توقفه عليه - بمقتضی كونه في الرتبة المتأخرة - كما أن وجود المتقدم بالعِليّة في الرتبة المتأخرة مساوق لاستناد الوجود إليه وعدم استناده إليه، وهو تهافت»(3).

وعليه، فإذا كان الحكم الواقعي متقدّماً على الحكم الظاهري فكيف

ص: 375


1- أي مرتبة الحكم الظاهري (منه (رحمه اللّه) ).
2- كفاية الأصول: 279.
3- الترتب: 62.

يكون معه في الرتبة؟

2 - ملاك الاجتماع المحال في باب المثلين أو الضدين

ثانياً: أنّ ملاك الاجتماع - المستحيل في المتضادّين أو المتماثلين - هو المعيّة الوجوديّة لا الرتبيّة.

بيان ذلك: أنّ ملاك الاجتماع المستحيل لا يخلو من احتمالات ثلاثة:

1- أن يكون هو المعية الرتبية.

2- أن يكون هو المعية الوجودية الزمانية.

3- أن يكون هو مطلق المعيّة الوجودية.

والأوّل هو الظاهر من كلمات السيّد الأصفهاني، والثاني هو محتمل كلمات المحقّق الأصفهاني في النهاية، والثالث هو ظاهر كلام السيّد الوالد في الأُصول.

أمّا الاحتمال الأوّل فقد ذكر أنّه تكفي في دفعه الفطرة السليمة؛ إذ المعاندة والمطاردة بين الضدّين وغيرهما من أنحاء المتقابلين إنّما تكون بحسب الوجود، والتعدّد الرتبي لا يرفع الاجتماع الوجودي. وهذا هو المستفاد من كلمات النهاية(1).

وينبّه على ذلك: أنّه لو قيل: «إنّ هذا الجدار أبيض وأسود في وقت واحد» لم يعقل ولو فرض كونهما في رتبتين.

وإنّه لو قيل: «إنّ هذا الماء متّصف بالحرارة الشديدة والضعيفة » لم

ص: 376


1- نهاية الدراية 3: 156.

يقبل، مع أنّ اتّصاف الماء بالحرارة الضعيفة متقدّم - بنحو من أنحاء التقدّم - على إتّصافه بالشديدة، إذ الطفرة ممتنعة - ولو بالإمتناع العادية - في الحالات، كامتناعها في الزمان والمكان.

وإنّه لو قيل: «إنّ فلاناً متّصف بالاجتهاد المتجزّئ والمطلق في آن واحد» لم يصدق، وإن كان الأوّل متقدّماً على الأخير، ولا يشفع اختلاف الرتب في تسويغ الاجتماع، فتأمّل.

وعلى كلّ، فالأولى إيكال الأمر إلى الوجدان، وهو كاف في الحكم بالامتناع.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو محلّ تأمّل؛ إذ التجرّد لا يسوغ التضادّ - كما ألمع إليه السيّد الوالد (رحمه اللّه) - في الأُصول- ولذا يستحيل إتّصاف المجرّد بالأوصاف المتضادّة كاستحالة إتّصاف المادي بها.

فلو فرض أنّ الروح مجرّدة إستحال أن تتّصف بالجبن والتهوّر والشجاعة - مثلا - في وقت واحد.

نعم يحتمل أن يكون مراد النهاية بالقيد اعتبار وحدة الزمان، لكن يظلّ أنّه لا وجه لتخصيصها بالذكر من بين الوحدات الثمان - أو التسع - المعتبرة فتأمّل.

وعلى كلٍّ، فالاحتمال الأخير هو المتعيّن.

وعليه، فمجرّد عدم كون أحد الحكمين في رتبة الآخر لا يرفع المزاحمة بعد المعيّة الوجودية، فالتعدّد الرتبي بين الحكمين لا يرفع محذور التضادّ ولا التماثل بعد المعيّة الوجودية المفروضة فيهما.

ولعلّ مراد صاحب الكفاية بما ذكره هذا المعنى، فمراده بكون الحكم

ص: 377

الواقعي في رتبة الحكم الظاهري: المعيّة الوجودية لا الرتبة العقلية التحليلية.

بيان ذلك: أنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن مع الحكم الواقعي في جميع تقاديره وحالاته الوجودية؛ إذ ليس في تقدير العلم بالحكم الواقعي حكم ظاهري، لانتفاء موضوعه(1).

كما ليس في تقدير الغفلة عنه حكم ظاهري، بناءً على ما هو المعروف من ظهور الألفاظ في الفعلية، فمع كون الشكّ تقديرياً لا فعلية لموضوع الحكم الظاهري، فلا ثبوت للمحمول.

ولكن الحكم الواقعي يكون مع الحكم الظاهري في تقدير الشكّ؛ وذلك لإطلاق الحكم الواقعي وثبوته في صورة العلم والغفلة والشكّ.

ففي هذا التقدير يجتمع الحكمان المتضادّان.

3 - النقض بأخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه

ثالثاً: لو كان الاختلاف الرتبي مجدياً في دفع التطارد لأجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه، لتأخّره عنه برتبتين - بداهة تأخّر العلم عن معلومه والمحمول عن موضوعه - فيخرج الحكمان عن التزاحم بنفس التقريب المزبور.

وفيه: وجود الفارق بين المقامين، وذلك لوجود خصوصية في مورد النقض لا توجد فيما نحن فيه، وهي استلزام الأخذ المذكور للغوية لامتناع تصديق المكلّف به، بعد تصديقه بضدّه، فلا يمكن جعله بداعي جعل الداعي، لعدم ترتّبه عليه، وما لا يترتّب على الشيء في علم الجاعل لا

ص: 378


1- أو ظرفه (منه (رحمه اللّه) ).

يمكن أن يكون غرضاً للجعل، فهو من صغريات الردع عن العمل بالقطع، واستحالته نابعة من استحالته. وهذا بخلاف ما نحن فيه.

والخلاصة: أنّ من الممكن الذهاب إلى الإمكان فيما نحن فيه، والقول بالاستحالة في مورد النقض، فتأمّل.

4- ما قيل من أنّ تأخّر الشكّ عن الحكم ممنوع

وسيأتي الكلام فيه في الوجه السابع إن شاء اللّه تعالى.

الوجه السابع: اختلاف الموضوع

اشارة

وقد حكى هذا الوجه الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه اللّه) عن أُستاذه المحقّق السيّد محمّد الأصفهاني الفشاركي (رحمه اللّه) ، وهو يختلف عن الوجه السابق بكونه بلحاظ إختلاف موضوع الحكمين، بخلاف الوجه السابق فإنّه بلحاظ تعدّد رتب الحكمين.

ولا يخفى أنّ تعدّد الرتبة يستلزم اختلاف الموضوع، ولا عكس، مثلا: لا منافاة بين بياض وجه زيد وسواد شعره، لاختلاف الموضوع، مع كونهما في رتبة واحدة،

وملخّصه:

1- إنّ الأحكام لا تتعلّق بالموضوعات الخارجية، حتّى يتوهّم أنّ الشرب الخارجي المجهول حكمه مجمع لموضوع الحكم الواقعي والظاهري، فيلزم اجتماع المتضادّين في موضوع واحد، بل تتعلّق بالموجودات الذهنية من حيث إنّها حاكية عن الخارج.

2- إنّ العنوان المتعلّق للحكم الواقعي مع العنوان المتعلق للحكم

ص: 379

الظاهري لا يجتمعان في الوجود الذهني، حتى يكون هناك مجمع عنواني لموضوعي الحكمين؛ وذلك لأن موضوع الحكم الواقعي نفس الفعل المجرد عن لحاظ العلم بحكمه والشك فيه، وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بوصوف كونه مشكوك الحكم، فكيف يجتمع لحاظ التجرد ولحاظ الاتّصاف(1).

مثلا: إذا تصوّر الآمر «صلاة الجمعة» فلا يمكن أن يتصوّر معها إلاَّ الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبة، مثل كونها في المسجد أو الدار، وأمثال ذلك. وأما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً فليس مما يتصور في هذه الرتبة؛ لأن هذا الوصف مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم، والأوصاف المتأخرة عن الحكم لا يمكن إدراجها في موضوعه.

فلو فرضنا أنّ صلاة الجمعة - في كل حال أو وصف يتصور معها في هذه الرتبة- مطلوبة بلا منافٍ ومزاحم، فإرادة المريد تتعلق بها فعلاً، وبعد تعلّق الإرادة بها تتصف بأوصاف أُخر لم تتصف بها قبل الحكم، مثل أن تصير معلومة الحكم تارة ومشكوكة الحكم أخرى.

فلو فرضنا - بعد ملاحظة إتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم- تحقق جهة المبغوضية فيه، يصير مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة، ولا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته؛ لأن الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلاً فعلاً؛ لأن تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع

ص: 380


1- نهاية الدراية 3: 157-158.

النظر عن الحكم، وهذه ملاحظته مع الحكم.

فإن قلت: العنوان المتأخر وإن لم يكن متعقلاً في مرتبة تعقل الذات، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخر، فعند ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللحاظ، فلا يعقّل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات.

قلت: تصور ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأولي مبني على قطع النظر عن الحكم؛ لأن المفروض كون الموضوع موضوعاً للحكم، فتصوره يلزم أن يكون مجرداً عن الحكم، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابد وأن يكون بلحاظ الحكم، ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته(1).

والخلاصة

1- إنّ الشكّ لا يلاحظ في موضوع الوجوب (الحكم الواقعي)؛ لأنّه من التقسيمات الثانوية التي تأتي من قبل الأمر، فلا يمكن أن تؤخذ في متعلّقه.

2 - والذات لا تلاحظ في موضوع الحرمة (الحكم الظاهري) لأن الذات لوحظت في موضوع الحكم الواقعي مجرّدة عن الحكم.

وبعبارة أُخرى: موضوع الحكم الواقعي مأخوذ على نحو (بشرط لا)، وموضوع الحكم الظاهري مأخوذ على نحو (بشرط شيء)، ومن الواضح أنّ (ما هو بشرط لا) لا يجتمع مع (ما هو بشرط شيء) أبداً.

ص: 381


1- درر الفرائد 2: 352-353.
ويرد عليه
المناقشة في امتناع أخذ ما يأتي من قبل الحكم في موضوعه

أوّلا: أنّه مبني على امتناع أخذ ما يأتي من قبل الحكم في موضوعه، وهو ممنوع؛ لأنّ المحذور إنّما يكون في صورة اتّحاد نحوي الوجود (السابق واللاحق) فيستلزم الأخذ المذكور تقدّم الشيء على نفسه أو غير ذلك من المحاذير.

وأمّا لو فرض اختلاف نحوي الوجود فلا محذور؛ إذ يكون المتقدّم غير المتأخّر.

وقد ذكروا تقدّم العلّة الغائية على فاعلية الفاعل وتأخّرها عنها، لاختلاف نحوي الوجود، فإنّ المتقدّم العلّة الغائية بماهيتها، والمتأخّر العلّة الغائية بإنّيتها، فلم يتقدّم الشيء على نفسه، ولم يتأخّر عن نفسه.

ومن هنا يبدو للنظر عدم امتناع أخذ (قصد امتثال الأمر) في متعلّقه؛ إذ القصد المتأخّر هو القصد بالحمل الشائع، وأمّا المأخوذ في المتعلّق فهو القصد بالحمل الأوّلي، أي أنّه مفهوم القصد والصورة الذهنية له، وليس مفهوم الشيء فرداً له، ولا هو هو بالحمل الشائع فالمتقدّم هو المفهوم الذهني، والمتأخّر هو المصداق الخارجي.

وعلى هذا يشكل ما بنى عليه المحقّق الفشاركي (رحمه اللّه) من امتناع أخذ التقسيمات الثانوية في موضوع الخطاب - كالشكّ في الحكم الواقعي.

المناقشة في تأخّر الشكّ عن المشكوك

ثانياً: ما قيل من أنّ تأخّر الشكّ عن الحكم ممنوع، فإنّ الشكّ في الشيء

ص: 382

لا يستلزم تحقّق المشكوك في الخارج، وإلاّ لزم انقلاب الشكّ علماً لو علم بهذه الملازمة، ومع الغفلة ينقلّب إذا توجّه.

وفيه: أنّه وإن كان متيناً في حدّ ذاته، إلاّ أنّه لا شكّ في تأخّر الشكّ عن المشكوك في خصوص المقام؛ إذ من الثابت أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل، فإذا شكّ المكلّف في ذلك الحكم كان الشكّ متأخّراً عن نفس الحكم خارجاً.

مثلا: للتتن حكم ثابت في متن الواقع، فإذا شكّ المجتهد فيه كان شكّه في مرحلة متأخّرة عن ذات الحكم.

ثالثاً: النقض بأخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه.

وقد مضى الكلام فيه في الوجه السادس.

المناقشة في إعتبار التجرّد في الموضوع

رابعاً: ما ذكره في النهاية: وقد بناه على تمهيد مقدّمة وهي - بتوضيح وتصرّف- إنّ للماهية لحاظين:

1- إذ تارةً تلاحظ بنفسها، بحيث يكون النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها، من دون إضافتها وقياسها إلى الخارج عن ذاتها، أي يكون الملحوظ البنّية الداخلية للمهيّة، بدون لحاظ أي شيء آخر غير دخيل في تكوين المهية، وفي هذه الملاحظة ليست المهية إلاّ هي، وبهذا اللحاظ قيل «المهية من حيث هي ليست إلاّ هي»، فهي ليست بموجودة ولا معدومة، وليست بطويلة ولا غير طويلة، وليست بيضاء ولا غير بيضاء... الخ، بل ليست واجدة بوجدان ماهوي إلاّ لذاتها وذاتياتها (الجنس والفصل)، فلا تصلح في

ص: 383

هذه الملاحظة إلاّ للحكم عليها بذاتها وذاتياتها لا بما هو خارج عنها، فإنّه خلف، إذ المفروض عدم مقايستها وإضافتها إلى الخارج عن ذاتها.

ويوضّح ذلك: أنّه عندما نلاحظ التعريف اللغوي للإنسان - مثلا - فإنّنا لا نجد فيه (الوجود) ولا (العدم) ولا (البياض) ولا (السواد) ولا (الطول) ولا (القصر) ولا (الذكورة) ولا (الأُنوثة)، بل نجد فيه (الحيوانية والناطقية - مثلا) فقط؛ إذ المقام مقام معرفة ذات المهية، لا ما هو خارج عن مقام ذاتها، فليس الإنسان في تعريفه (ذكراً) ولا (أُنثى) ولا (خنثى)، وإن كان خارجاً لا يخلو منها؛ إذ المقصود معرفة نفس الحقيقة التي تتركّب منها مهية الإنسان، لا ما هو خارج عن ذات المهية، وإن كان لوازمها التي لا تنفكّ. ويقال لهذه المهية (المهية من حيث هي) و(المهية المهملة).

2- وأخرى تلاحظ المهية مقيسة إلى الخارج عن ذاتها.

وهي في هذه الملاحظة لها اعتبارات ثلاثة:

الأوّل: اعتبارها مع ذلك الشيء (القيد) - كالكتابة مثلا - ويقال لها (المهية بشرط شيء).

الثاني: اعتبارها مع عدمه، ويقال لها (المهية بشرط لا).

الثالث: اعتبارها بحيث لا تكون مقترنة به ولا بعدمه، ويقال لها (المهية لا بشرط).

وحيث إنّ التقسيم بحاجة إلى مقسم، مثلا لو قسّمنا الإنسان إلى ذكر وأُنثى أصبح عندنا قسمان هما: الإنسان الذكر والإنسان الأُنثى ومقسّم هو طبيعي الإنسان، لذلك فلابدّ من وجود مقسم لهذه الأقسام الثلاثة، ويصطلح

ص: 384

عليه ب- (اللاّبشرط المقسمي). بينما يصطلح على القسم الثالث من الأقسام الثلاثة ب- (اللاّبشرط القسمي). فاللاّبشرط المقسمي هو إنّما يكون لا بشرط بالإضافة إلى هذه الاعتبارات الثلاثة.

أمّا اللاّبشرط القسمي فهو اللاّبشرط من حيث القيد المفروض - كالكتابة مثلا - فيكون قسيماً ل- (بشرط شيء) و (بشرط لا).

ثمّ ليعلم أنّه لا تعيّن ل- (اللاّبشرط المقسمي) إلاّ أحد هذه التعيّنات الثلاثة، وإلاّ لم يكن مقسماً؛ إذ المقسم لا يكون منحازاً عن أقسامه.

وعليه، فموضوع كلّ محمول خارج عن مقام ذات المهية - وإن كان لازم ذاتها- لابدّ من أن تكون له أحد التعيّنات الثلاثة.

ف- (شرب التتن) - مثلا - بالإضافة إلى (العلم بحرمته):

1- لا يعقل أن يكون بشرط شيء، أي أن يقول المولى: (شرب التتن بشرط العلم بحرمته: حرام)، للزوم الخلف، أو الدور أو نحو ذلك من المحاذير المذكورة في مبحث (أخذ القطع بالحكم موضوعاً لحكم نفسه).

2- ولا يعقل أن يكون بشرط لا، بأن يقول المولى: (شرب التتن بقيد عدم العلم بحرمته: حرام)، فبمجرّد أن يعلم المكلّف بحرمته يصبح حلالا؛ للزوم الخلف، أو غير ذلك من المحاذير المذكورة في مبحث (أخذ القطع بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه).

3- ولا يعقل أن يكون مهملا من حيث العلم بالحكم وعدمه، أي يكون من قبيل «المهية المهملة»؛ إذ لا اعتبار للمهية المهملة إذا قيست بالخارج عن ذاتها، بخلاف المقام فإنّه مقام الحكم عليها بالحرمة مثلا.

ص: 385

4- ولا يعقل أن يكون اعتباره اعتبار اللاّبشرط المقسمي؛ إذ لا تعيّن للاّبشرط المقسمي إلاّ أحد التعيّنات الثلاثة، كما أنّ الكلمة لا تعيّن لها إلاّ تعيّن (الاسم) أو (الفعل) أو (الحرف) - مثلا - ولا تعيّن لها في حدّ ذاتها.

5- فلا محالة يكون تعيّنه تعيّن (اللاّبشرط القسمي)، أي أنّ المولى لاحظ شرب التتن بحيث لا يكون مقترناً بالعلم بالحكم ولا بعدمه.

والخلاصة: أنّ موضوع الأحكام الواقعية بلحاظ قيد العلم بالحرمة وعدمه لوحظ على نحو «اللاّبشرط القسمي».

هذا وفي المقام إشكالان
الإشكال الأوّل

أنّ ما يستحيل التقييد به يكون الإطلاق مستحيلا من جهة، لتقابل الإطلاق مع التقييد تقابل العدم بالإضافة إلى الملكة، فالإطلاق عدم التقييد بما من شأنه التقييد به، وحيث إنّ التقييد محال في المقام - لما سبق من استحالة تقييد الموضوع بالعلم بحكمه أو بعدم العلم - يكون الإطلاق محالا أيضاً.

وبعبارة أُخرى، كما أنّ استحالة اتّصاف الجدار ب- (البصر) ملازمة لعدم صحّة إطلاق (الأعمى) عليه، كذلك استحالة (تقييد) الموضوع في المقام ملازمة لعدم صحّة إطلاق (المطلق) عليه، فلا يكون الموضوع مأخوذاً على نحو (اللاّبشرط القسمي).

والجواب عن هذا الإشكال يمكن أن يصاغ بصياغات متعدّدة، إلاّ أنّنا نختار أحدها في المقام.

ص: 386

وهو: أنّ المحذور: تارةً يكون في ثبوت الحكم على الحصّة (أي المقيّد)، وأُخرى يكون في ذات التقيّد.

فالنحو الأوّل من المحذور يثبت في الإطلاق أيضاً؛ إذ المحذور قائم في ثبوت الحكم على الحصّة المعيّنة، سواء كان الثبوت بإطلاق أم تقييد.

وأمّا النحو الثاني فهو غير جار في المطلق؛ إذ مركزه نفس التقيّد، والمفروض عدمه في المطلق، ومقامنا من قبيل الثاني لا الأوّل؛ إذ لا محذور في ثبوت الحكم في حالتي العلم والجهل، وإنّما المحذور في نفس تقييد الموضوع بحالة العلم أو حالة الجهل، فيرتفع بالإطلاق.

والخلاصة: أنّه في النحو الأوّل يكون التقابل تقابل العدم والملكة، فيكون امتناع التقييد ملازماً لامتناع الإطلاق.

وأمّا في النحو الثاني فيكون التقابل تقابل السلب والإيجاب، فيكون امتناع التقييد ملازماً لوجوب الإطلاق، لا لامتناعه. وللكلام تتمّة تطلب من مباحث (التوصّلي والتعبّدي).

الإشكال الثاني

أنّ الإطلاق في المقام يستلزم الجمع بين المحذورين؛ إذ تقييد الموضوع بصورة العلم بالحكم محال، وتقييده بصورة عدم العلم بالحكم محال أيضاً، فيكون الإطلاق في قوّة التصريح بكلا التقييدين، فيستلزم الجمع بين كلا المحذورين.

والجواب: أنّ الإطلاق ليس (جمعاً بين القيود) بل هو (رفض للقيود).

مثلا: لو كانت الرقبة مطلقاً - أعمّ من كونها مؤمنة أو كافرة - محكومة بوجوب العتق، فليس معنى ذلك أنّ (الرقبة المؤمنة) محكومة بالوجوب

ص: 387

وإنّ (الرقبة الكافرة) محكومة به، بل الإطلاق لدفع قيدية الإيمان والكفر، فذات الرقبة هي المحكومة بالحكم، والإيمان والكفر من عوارض الموضوع، لا أنّهما مقوّمان للموضوع، وإلاّ لزم الخلف.

بتقريب: أنّ مقتضى الإطلاق كون ذات الرقبة هي الموضوع، بلا مدخلية لوصف الإيمان والكفر في الموضوع، ومقتضى أخذهما في الموضوع مدخليتهما في الموضوع، وهو خلف.

ونتيجة ما تقدّم: أنّ موضوع الحكم الواقعي هو (شرب التتن) مطلقاً، أي على نحو اللاّبشرط القسمي، بلحاظ العلم بحكمه والجهل، وموضوع الحكم الظاهري (شرب التتن) في صورة الجهل بالحكم الواقعي، فيجتمع في (شرب التتن) في صورة الجهل بالحكم: حكمان متضادّان أو متماثلان وهو محال.

قال المحقّق الأصفهاني: «وليس اللحاظ اللاّبشرطي دخيلا في موضوعيته للحكم، بل لتسرية الحكم إلى جميع أفراد الموضوع وحصصه بلحاظ عوارضه المتأخّرة عن الحكم، فذات المحكوم بالحرمة محفوظة في ضمن المجهول على الفرض، فيلزم اجتماع الحكمين في شرب التتن المجهول حكمه»(1).

[المناقشة في لحاظ تجرّد الموضوع]

خامساً: ما قيل من أنّ لحاظ تجرّد الموضوع عن الحكم يستلزم لحاظ

ص: 388


1- راجع نهاية الدراية 3: 158-162.

الحكم في مرتبة الموضوع، مع أنّه حَكَم بامتناعه، وجَعَل الحالات اللاحقة للموضوع - كالحكم والشكّ فيه - ممّا يمتنع لحاظه في ذات الموضوع.

وفيه: إن الممتنع ليس (لحاظ الحكم) بل (أخذ الحكم في الموضوع)، فتصوّر التقسيمات الثانوية - ونفس الحكم - حين الخطاب لا مانع منه وجداناً ولا يستلزم محذور تقدّم الشيء على نفسه وغيره، والمحذور إنّما هو في أخذ الحكم أو التقسيمات الثانوية في ذات الموضوع، وحيث إنّ المفروض أنّ المولى لاحظ (التجرّد عن الشكّ في الحكم) في الموضوع ولم يأخذ نفس (الشكّ) أو (الحكم) فيه فلا محذور.

فإن قلت: التجرّد متعلّق ب- «الشكّ» والشكّ متعلّق ب- «الحكم» وحيث إنّ التجرّد مأخوذ في الموضوع يكون متعلّقه ومتعلّق متعلّقه مأخوذين أيضاً.

قلت: كلاّ فإنّ التقييد داخل والقيد خارج.

ومآل ذلك إلى أخذ الحصّة في الموضوع لا الطبيعي، فلاحظ.

الوجه الثامن: لا محذور في المراحل الثلاث

ما في المصباح من أنّه ينبغي أن يبحث حول المحذور في مراحل ثلاث:

1- مرحلة الحكم.

2- مرحلة المبدأ.

3- مرحلة المنتهى.

أمّا بالنسبة إلى المرحلة الأُولى فقد قال: «إنّ الأحكام الشرعية لا مضادّة بينها في أنفسها؛ إذ الحكم ليس إلاَّ الاعتبار، أي اعتبار شيء في ذمة المكلف، من الفعل أو الترك، ومن الواضح عدم التنافي بين الأمور

ص: 389

الاعتبارية، وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ، بأن يقول المولى: افعل كذا، ولا تفعل كذا كما هو ظاهر»(1).

أقول: ما ذكره بالنسبة إلى هذه المرحلة حري بالقبول، وقد أحال الأمر في الكبرى إلى الوضوح، ولإقامة البرهان على ذلك محلّ آخر.

ولكن مجمل الأمر: أنّ التضادّ صفة للموجودات الحقيقية، والأُمور الاعتبارية موجودات فرضية في وعاء الاعتبار - الذي هو وعاء فرضي أيضاً. فالتضادّ بينها ليس تضادّاً حقيقياً، بل هو تضادّ فرضي، فقولنا «أنّه لا مانع من اجتماع الضدّين في الأُمور الاعتبارية» معناه أنّه «لا تضادّ فيها» لا «أنّه تضادّ سائغ».

وأمّا بالنسبة إلى المرحلة الثانية أي مرحلة «مبدأ الحكم» وهو ما يعبّر عنه مسامحة بعلّة الحكم من المصلحة والمفسدة أو الإرادة والكراهة فقد قال: «إنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس جعل الحكم لا في متعلقه، كما في الحكم الواقعي، فلا يلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة والمفسدة، أو وجود المصلحة وعدمه، أو وجود المفسدة وعدمه في شيء واحد؛ إذ الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في متعلقاتها، والأحكام الظاهرية ليست تابعة لما في متعلقاتها من المصالح، بل تابعة للمصالح في أنفسها، فإنها مجعولة في ظرف الشك في وجود المصلحة الواقعية، وقد لا تكون مصلحة في المتعلق واقعاً، فكيف يمكن أن

ص: 390


1- مصباح الأصول 2: 72.

تكون تابعة للمصالح الواقعية في المتعلقات؟ ففي موارد الاحتياط - كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص- جعل وجوب الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط، وهي التحفظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها، والتحذر عن الوقوع في المفسدة الواقعية أحياناً، وفي موارد الترخيص - كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص أو في الشبهة الموضوعية مطلقاً- جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة، وهي التسهيل على المكلّفين»(1).

أقول: ترد على ما ذكره في هذه المرحلة مناقشتان:

الأُولى: ما في البحوث من « أنّ نشوء الحكم عن مصلحة في الجعل نفسه غير معقول، وإنما الحكم لابد وأن ينشأ من مصلحة في متعلقه، سواء كانت ثابتة فيه بقطع النظر عن جعل ذلك، أم في طول الجعل وبلحاظه، كما في الأوامر التي يراد منها تطويع العبيد على الإطاعة والامتثال، ولعل جملة من الأوامر العبادية تكون كذلك، وأما جعل الحكم لمصلحة في نفس الجعل الذي هو فعل المولى مع خلو المتعلق عن مصلحة حتى في طول الجعل، فمثل هذا الحكم لا يكون موضوعاً لحق الطاعة عقلاً؛ لأن تمام الغرض منه تحقق بنفس جعله الذي هو فعل المولى من دون حاجة إلى امتثال أصلا»(2).

توضيحه: أنّه لو جعل شخص للمولى العرفي مكافأة على جعل حكم من الأحكام، فكانت المصلحة متمحّضة في نفس جعل الحكم، فجعل المولى

ص: 391


1- مصباح الأصول 2: 109.
2- بحوث في علم الأصول 4: 194.

الحكم بلحاظ تلك المصلحة، فإنّ الغرض من الجعل يكون قد تحقّق بنفس الجعل، وبتحقّق الغرض يسقط الحكم، لأنّ الغرض بالنسبة إلى الحكم كالعلّة بالنسبة إلى المعلول، ولا يعقل بقاء المعلول بعد انتفاء علّته، وإذا سقط الحكم لم تكن حاجة إلى الامتثال أصلا.

وعليه، فإذا كانت الأحكام الظاهرية من هذا القبيل لم يجب امتثالها، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

هذا ولكن الظاهر أنّ هذه المناقشة مناقشة لفظية لا واقعية؛ إذ مراد المصباح أنّ الملاك تارةً يكون في المتعلّق بالخصوص - كما في الأحكام الواقعية- وتارةً لا يكون فيه بالخصوص...، بل في موطن آخر، كما في الأحكام الظاهرية. فمصلحة عدم تنفير الناس عن الدين أو نحو ذلك تدعو المولى إلى «الحكم بإباحة شرب الماء المشكوك في طهارته ونجاسته» وإن فرض أنّ الشرب ليس فيه مصلحة أصلا.

الثانية: ما سبق في مناقشة الوجه الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية وحاصله: استلزام ذلك لاجتماع إرادتين متماثلتين أو متضادّتين: إحداهما تتعلّق بالحكم الواقعي، والأُخرى تتعلّق بالعمل بمفاد الحجّة المجعولة، فراجع.

وأمّا بالنسبة إلى المرحلة الثالثة - أي مرحلة منتهى الحكم - فقد ذكر في المصباح: «إنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي وعدم تنجّزه؛ لعدم وصوله إلى المكلف، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله، ولا باستحقاق العقاب على مخالفته،

ص: 392

فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري، وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم العقل بلزوم امتثاله، وباستحقاق العقاب على مخالفته لا يبقى مجال للحكم الظاهري؛ لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

وبعبارة أخرى: حكم العقل بلزوم الامتثال إنما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري، ووصول كلا الحكمين إلى المكلّف في عرض واحد محال؛ لكون الحكم الظاهري دائماً في طول الحكم الواقعي، فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلاَّ بلزوم الحكم الواقعي، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلاَّ بلزوم امتثال الحكم الظاهري، فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال أبداً»(1).

وفيه: أنّ الوصول يعمّ الوصول التفصيلي والإجمالي، والوصول التفصيلي وإن كان منتفياً في مقام الشكّ؛ إذ لا علم بنوع الحكم، إلاّ أنّ الوصول الإجمالي متحقّق، للعلم بوجود حكم من الأحكام الخمسة في الواقعة المشكوكة.

وحينئذ: يلزم أحد محذورين على سبيل البدل، إمّا اجتماع المثلين أو الضدّين في مرحلة المنتهى.

مثلا: نحن نعلم أنّ هنالك حكماً واقعياً متعلقاً ب«شرب التتن» مشتركاً بين العالم به والجاهل. وهذا الحكم لا يخلو من أحد احتمالين:

1- أن يكون مماثلا للحكم الظاهري، أي يكون مباحاً مثلا في متن

ص: 393


1- مصباح الأصول 2: 110.

الواقع، وحينئذ: تجب على المكلّف موافقتان، لفرض وجود حكمين وإرادتين وملاكين يتعلّق أحدهما بالحكم الواقعي والآخر بالحكم الظاهري، وهو محال.

2- أن يكون مضادّاً للحكم الظاهري، أي يكون حراماً مثلا في متن الواقع، وفي هذه الحالة تجب على المكلّف (موافقة ومخالفة) أو (موافقة ولا موافقة) أو (مخالفة ولا مخالفة) لفرض وجود حكمين وإرادتين وملاكين يتعلّق أحدهما بالحكم الواقعي والآخر بالحكم الظاهري، وهو محال أيضاً. فالمحذور باق في مرحلة المنتهى. فتأمّل.

الوجه التاسع: الأحكام الظاهرية أحكام إرشادية

اشارة

وقد نقل هذا الوجه الشيخ عبدالكريم الحائري (رحمه اللّه) عن المحقّق الفشاركي (رحمه اللّه) (1).

وخلاصة هذا الوجه: أنّ الأوامر الظاهرية ليست بأوامر مولوية، بل هي أوامر إرشادية ترشد المكلّفين إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات، فلا يلزم اجتماع الضدّين، لأنّه مبني على كون الأوامر الطرقية أحكاماً مولوية.

توضيحه:

الانسداد الشرعي كالعقلي

إنّ انسداد باب العلم قد يكون عقلياً، وقد يكون شرعياً.

ومعنى الانسداد العقلي: أن لا يكون للمكلّف - تكويناً - طريق للوصول

ص: 394


1- درر الفوائد 2: 354.

القطعي إلى الواقع.

ومعنى الانسداد الشرعي: أن يكون للمكلّف طريق قطعي للوصول إلى الواقع، إلاّ أنّ الشارع العالم بالواقعيات يرى أنّ في التزام المكلّف بتحصيل اليقين مفسدة، فيجب - بمقتضى الحكمة - دفع هذا الالتزام عنه. ثمّ بعد دفعه عنه لو رأى الشارع أنّه لو أحال المكلّف إلى نفسه عمل بكلّ ظنّ فعلي من أي سبب حصل، ورأى أنّ سلوك بعض الطرق أقرب إلى الواقع من البعض الآخر (كخبر الثقة بالقياس إلى القياس مثلاً) فلا محذور في إرشاده إليه، فوزان الانسداد الشرعي وزان الانسداد العقلي، فكما أنّه لا يلزم اجتماع الضدّين في صورة الانسداد العقلي، كذلك لا يلزم اجتماع الضدّين في صورة الانسداد الشرعي.

مثلا: لو انسدّ باب العلم بجهة القبلة في دفن الميّت مثلا، فإنّ العقل يتنزّل من الامتثال القطعي إلى الامتثال الظنّي. فلو فرض أداء الظنّ إلى خلاف الواقع لم يلزم اجتماع حكمين شرعيين متضادّين؛ إذ ليس الحكم الشرعي إلاّ واحداً، ولا اجتماع حكمين عقليين متضادّين، إذ ليس الحكم العقلي إلاّ واحداً كذلك.

فإذا كانت القبلة في طرف الجنوب فالأمر الشرعي - الثابت في متن الواقع - هو (وجه الميّت إلى جهة الجنوب) ولو ظنّ المكلّف بكون القبلة في طرف الشمال كان الأمر العقلي (وجه الميّت إلى جهة الشمال) فليس هنا حكمان شرعيان متضادّان، بل حكم شرعي ناشئ من الملاكات الواقعية، وحكم عقلي ناشئ من ظنّ المكلّف بعد وقوعه في مخمصة

ص: 395

الجهل بالواقع، وكذلك الأمر في الانسداد الشرعي.

والخلاصة: أنّ الشارع لا يحكم باتّباع خبر الثقة - مثلا - على نحو الأمر المولوي المتتبّع مخالفته لاستحقاق العقاب، بل يقول للمكلّف: اتّباع خبر الثقة أقرب في الوصول إلى الواقع من اتّباع القياس، وهذا الأمر أمر إرشادي لا يترتّب على مخالفته عقاب، كما في أوامر الأطباء - مثلاً، لكن العقل لا يجوّز مخالفته؛ إذ لا تجوز - عقلا - مخالفة الخبير، فيكون مثل الشارع مثل شخص واقف على مرتفع يرشد المارّة ويقول: هذا الطريق أقرب إلى المقصود من ذاك، إذ يحكم العقل - حينئذ- بلزوم اتباعه. فإذا خالفه المكلّف وتورّط في مخالفة الواقع استحقّ العقاب، لا على مخالفة الأمر الطريقي، بل على مخالفة الأمر الواقعي. فما يقال في دفع المحذور في صورة الانسداد العقلي يدفع به المحذور في صورة الانسداد الشرعي.

هذا توضيح الجواب بنوع من التصرّف(1).

التأمّل في الجواب

إلاّ أنّه لا يخلو من تأمّل؛ وذلك لأنّ الأوامر المولوية وإن اختلفت عن الأوامر الارشادية في ترتّب العقاب على مخالفة الهيئة في الأُولى دون الثانية، إلاّ أنّ الإرادة التي ينشأ منها النوعان واحدة، والمبادئ التي تنشأ منها تلك الإرادة واحدة؛ وذلك لأن الإرادة عبارة عن الشوق الشديد(2) المستتبّع

ص: 396


1- درر الفوائد 2: 354.
2- أو حالة تتبّع الشوق الشديد (منه (رحمه اللّه) ).

لتحريك العضلات نحو المقصود - في الإرادة التكوينية - أو تحريك الغير نحوه - في الإرادة التشريعية.

وحينئذ: فإمّا أن يقال: بعدم انقداح الإرادة بالنسبة إلى متعلّق الأوامر الإرشادية، أو يقال بالانقداح. والأوّل كأنّه خلاف الوجدان، كما يرى في أمر الوالد المشفق لأولاده إرشاداً، فيتعيّن الأخير.

وحينئذ: تجتمع إرادتان متضادّتان في صورة خطأ الأمارة، إحداهما مولوية والأُخرى إرشادية، فالمولى يريد - مثلا - السير إلى المشرق بإرادة مولوية، ويريد السير إلى المغرب بإرادة إرشادية، وهذا غير معقول.

وعليه: فالأولى إنكار تعلّق الإرادة الفعلية الحتمية بالحكم الواقعي - كما ذكرناه في بعض الأجوبة المنصرمة - فراجع.

الوجه العاشر: ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في المقام

اشارة

ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) من: أنّ التحقيق في الجواب أن يقال: إنّ موارد الأحكام الظاهرية التي توهّم مناقضتها للأحكام الواقعية على أقسام ثلاثة:

1- موارد الأمارات والطرق المؤدّية إلى مخالفة الأحكام الواقعية.

2- موارد الأُصول التنزيلية.

3- موارد الأُصول غير التنزيلية.

والتخلّص من الإشكال يتوقّف على معرفة المجعول الشرعي في كلّ مورد من هذه الموارد حتّى يظهر عدم مضادّته للحكم الواقعي الثابت في مورده، فهنا مباحث ثلاثة:

ص: 397

المبحث الأوّل: موارد الأمارات والطرق
اشارة

وقد إختار المحقّق النائيني (رحمه اللّه) أنّ المجعول في باب الأمارات والطرق هو: المحرزية والطريقية والوسطية في الإثبات، دون الأحكام البعثية والزجرية.

توضيح ذلك: يتمّ ضمن البحث في أُمور ثلاثة:

أوّلا: إمكان كون المجعول في باب الأمارات والطرق هو الطريقية والوسطية في الإثبات.

ثانياً: وقوع ذلك.

ثالثاً: النتيجة المترتّبة على المختار في المقام.

أوّلا: إمكان أن يكون المجعول في باب الأمارات والطرق نفس الطريقية

وقد طرح المحقّق النائيني (رحمه اللّه) هذا السؤال: هل يمكن أن يكون المجعول في باب الأمارات والطرق نفس المحرزية والوسطية في الإثبات؟ أو لابدّ أن يكون المجعول هو الحكم التعليقي - البعثي أو الزجري - والطريقية أمر منتزع من الحكم التكليفي؟

وأجاب (رحمه اللّه) عن ذلك بأنّ جميع الأحكام الوضعية - غير الجزئية والشرطية والسببية والمانعية - ممّا يمكن أن تنالها يد الجعل التشريعي، فوزان الطريقية وزان الملكية والزوجية والرقّية وغيرها في كونها قابلة للاعتبار ممّن بيده الاعتبار، فكما أنّ اعتبار الملكية من الشارع اعتبار صحيح تترتّب عليه آثار كثيرة، كذلك اعتبار المحرزية والطريقية، ويترتّب على هذا الاعتبار ما يترتّب على الاحراز الوجداني من الآثار - ككونه منجّزاً

ص: 398

للواقع مثلاً.

هذا ولا يخفى أنّ إثبات الإمكان كاف في المقام؛ إذ مجرّد إمكان أن يكون المجعول في باب الأمارات والطرق ذلك كاف في دفع الشبهة بلا حاجة إلى إثبات الوقوع؛ إذ الكلام في إمكان التعبّد بالظنّ، لا في وقوعه.

ثانياً: وقوع ذلك

ممّا يدلّ على أنّ المجعول في باب الأمارات والطرق محض صفة المحرزية ليس إلاّ: أنّه ليس في الشريعة طريق مجعول ابتدائي أبداً، بل الطرق الشرعية هي التي يعتمد عليها العقلاء في أُمور معاشهم ومعادهم. وإنّما يعتمد العقلاء عليها باعتبار طريقيتها إلى الواقع، وإحرازها إيّاه، نظير العلم الوجداني، وإن احتمل مخالفتها للواقع، إلاّ أنّهم لا يعتنون بهذا الاحتمال، ويفرضونه كالعدم.

وإذا كانت الطرق المجعولة طرقاً عقلائية، ولم يكن للشارع بالإضافة إليها تصرف إلاّ إمضاؤها، فلابدّ أن يكون المجعول الشرعي محض صفة الطريقية والكاشفية، ضرورة أنّ جعل الأحكام التكليفية في موارد تلك الطرق غير محتمل من العقلاء بالكلّية، بل شأنهم إلغاء احتمال الخلاف الموجود في موارد تلك الطرق، وجعله كالعدم، والمعاملة معها معاملة الطرق العلمية.

ثالثاً: النتيجة

ونتيجة جميع ما تقدّم: إنّ حال الأمارات حال العلم الوجداني في أنّه ليس في مواردها أحكام تكليفية غير الأحكام الواقعية، فلا تحقّق المضادّة

ص: 399

بينهما. فكما لا موجب لتوهّم المضادّة في صورة تخلّف العلوم الوجدانية وخطئها كذلك لا موجب لتوهّمها في صورة مخالفة الأمارات. ولا فرق بينهما إلاّ في أنّ الأمارات محرزة للواقع بحكم الشارع والعلوم الوجدانية محرزة لها تكويناً. وهذا لا يكون فارقاً فيما هو المهمّ في المقام.

وبما ذكرناه يندفع الإشكال ويكون انتفاء التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع(1).

مناقشات

أقول: في ما ذكره (رحمه اللّه) تأمّل من وجوه:

1- ليس في الأدلّة عين ولا أثر من مسألة جعل الطريقية

الوجه الأوّل: أنّه ليس فيما بأيدينا من الأدلّة عين ولا أثر من مسألة «جعل الطريقية»، بل ظاهر الأدلّة أنّ المجعول الشرعي وجوب الجري العملي على طبق الأمارات على أنّها هي الواقع. فلاحظ قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2)، وقوله (عليه السلام) : «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) فلا يجوز لك أن تردّه»(3)، وقوله (عليه السلام) :«إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» - وأومأ إلى زرارة(4)، وقوله (عليه السلام) : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه»(5).

ص: 400


1- أجود التقريرات 3: 128-131 (بتصرف).
2- النحل: 43.
3- وسائل الشيعة 27: 143.
4- وسائل الشيعة 27: 143.
5- وسائل الشيعة 27: 140.

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، والأخبار الارجاعية إلى ثقات الرواة على نحو كليّ، والأخبار الارجاعية إلى آحاد الرواة من الأصحاب الثقات.

نعم، قد تومئ بعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة إلى مسألة (الكاشفية)، كما في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(1) وقوله (عليه السلام) : «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون»(2) إلاّ أنّها ليست ظاهرة في (جعل الكاشفية) بل الظاهر منها أنّ الكاشفية جهة تعليلية لجعل وجوب العمل، لا أنّها متعلّق الجعل الشرعي، بل يكفي احتمال ذلك، فإنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

وهذا الجواب جواب مبنائي كما لا يخفى.

2- عدم وفاء الجواب بدفع الإشكال في مرحلة المبدأ والمنتهى

الوجه الثاني: وهو جواب بنائي: وهو أنّ هذا الوجه - على فرض تمامية المبنى - لا يفي بدفع الإشكال؛ إذ لا يعقل وجود جعلين يقتضيان جريين متضادّين، وينشئآن من مبدأين متضادّين ولو اختلف الحكمان في السنخ والمهية.

وما صنعه المحقّق النائيني (رحمه اللّه) هو تغيير مهية أحد الحكمين، إذ أبدل الحكم التكليفي الظاهري إلى حكم وضعي. وهذا المقدار لا يفي بدفع

ص: 401


1- الحجرات: 6.
2- الكافي 1: 330.

المحذور، بل المحذور ثابت في المبدأ والمنتهى.

وبعبارة أُخرى: جعل الطريقية يستلزم الجري العملي وفق الطريق المجعول، وهو لا يجتمع مع جعل الحكم الواقعي الذي يستلزم جرياً عملياً مضادّاً وفقه، كما أنّ جعل الطريقية يستلزم إرادة العمل بمقتضى الطريق، وهو لا يجتمع مع الإرادة الجدّية الحتمية المتعلّقة بالحكم الواقعي. ومنه يظهر الكلام في مرحلة الملاك أيضاً.

وأمّا ما ذكره (رحمه اللّه) من «أنّ وزان جعل الوسطية في الإثبات وزان العلم المخالف للواقع»(1) ففيه نظر؛ إذ في موارد العلم المخالف للواقع لا جعل من قبل الشارع، ولا إرادة من قبله، ولا ملاك في العمل بمقتضاه، والجري العملي المضادّ للواقع مقتضى خطأ المكلّف في التشخيص، وهذا بخلاف جعل الطريقية من قبل الشارع، فلاحظ.

3 - الطريقية ممّا لا تنالها يد الجعل التشريعي

الوجه الثالث: ما قيل من أنّ الطريقية تنالها يد الجعل التشريعي؛ لأنّ الشيء لو كان واجداً لهذه الصفة تكويناً فلا معنى لاعطائها له، وإن كان فاقداً له - كالشكّ - فلا يعقل أن يصير ما ليس بكاشف كاشفاً وما ليس بطريق طريقاً، فإنّ الطريقية ليست أمراً اعتبارياً كالملكية حتّى يصح جعلها بالاعتبار، وقس عليه تتميم الكشف وإكمال الطريقية. فكما أنّ اللاّكاشفية ذاتية للشكّ لا يصحّ سلبها عنه، فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتي للأمارات لا يمكن سلبه عنها. فما هو القابل للجعل إنّما هو وجوب العمل

ص: 402


1- أجود التقريرات 3: 129.

على طبق الإخبار ووجوب ترتيب الأثر على مؤدّاها.

أقول: يرد عليه

أ: نقضاً: بورود نظيره في موارد متعدّدة

مثلا: في استصحاب حياة (زيد) - مثلا - لا يخلو الأمر في عالم الثبوت من أن يكون زيد واجداً لصفة الحياة تكويناً أو لا.

فعلى الأوّل لا معنى لإعطاء الشارع له الحياة، لكونه تحصيلا للحاصل، وعلى الثاني لا يعقل أن يصير ما ليس بحي حيّاً، فإنّ الحياة ليست أمراً اعتبارياً كالملكية حتّى يصحّ جعلها بالاعتبار، وبعبارة أُخرى يكون إعطاء الحياة له - في هذا الفرض - جمعاً بين الضدّين أو النقيضين.

فما به يكون الجواب في باب الاستصحاب - ونحوه - يكون به الجواب في المقام.

ب: وحلاً:

بأنّا نختار الشقّ الأوّل، وهو: أنّ الأمارات واجدة تكويناً للطريقية، إلاّ أنّ إعطاء الشارع الطريقية لها ليس تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ الحاصل الطريقية التكوينية، وهي ليست مورداً للجعل الشرعي، والمجعول الشرعي الطريقية التعبّدية(1)، وهي ليست بحاصلة.

فالحاصل - وهو الطريقية التكوينية - غير مجعول، والمجعول - وهو الطريقية التعبّدية - غير حاصل، والخلاصة: أنّ الشارع يجعل الكاشفية تعبّداً.

ص: 403


1- أو الطريقية تعبّداً (منه (رحمه اللّه) ).

ولو فرض اختيار الشقّ الثاني - وهو أنّ الأمارات فاقدة تكويناً للطريقية - لم يقدح، فإنّ المجعول الطريقية تعبّداً، لا تكويناً، فلا يرد الإشكال المزبور.

ومنه يظهر الكلام في استصحاب حياة زيد، فإنّ الحاصل الحياة التكوينية، أو اللاحياة التكوينية، وهما ليسا مورداً للجعل، والمجعول الحياة التعبّدية - أو الحياة تعبّداً - وهي ليست بحاصلة.

والخلاصة: أنّ الشارع يجعل الحياة تعبّداً، فإنّ الحياة التكوينية لها آثار، فالشارع يجعل هذه الحياة تعبّداً في مورد الشكّ، أي يقول: اعتبرها موجودة، ليتحقّق موضوع تلك الآثار.

4- وجود طرق تأسيسية شرعية

الوجه الرابع: أنّ ما ذكره (رحمه اللّه) من «أنّه ليس في الشريعة طريق مجعول ابتدائي أبداً، وإنّما الطرق الشرعية هي التي يعتمد عليها العقلاء في أُمور معاشهم ومعادهم»(1). لكاشفيتها عن الواقع، فالمجعول الشرعي صرف صفة الطريقية والمحرزية غير واضح؛ إذ يمكن القول بأنّ في الطرق الشرعية طرقاً تأسيسية مجعولة بالجعل الابتدائي الشرعي، وذلك مثل (خبر العدل)، فإنّ بناء العقلاء على اعتبار الوثاقة لا العدالة، وبين (العدالة) و (الوثاقة) عموم من وجه، على ما قرّر في محلّه، فتأمّل.

ولو فرض كون الطرق الشرعية إمضائية كلّها فلم يعلم كون نكتة الإمضاء لدى الشارع صرف الكاشفية عن الواقع؛ إذ يمكن أن تكون

ص: 404


1- أجود التقريرات 3: 129.

الكاشفية حكمة لا علّة يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً؛ ولذا يمكن أن يكون حدود المجعول الشرعي أوسع من حدود المجعول العقلائي - أي ما بنى عليه العقلاء في مقام العمل باعتبار كاشفيته عن الواقع.

مثلا: العقلاء يعملون بقاعدة الفراغ من حيث إنّها كاشفة عن الواقع، وهذه الحيثية حيثية تقييدية عندهم، إلاّ أن الشارع يمكن أن لا يتقيّد بحيثية الكاشفية، فيمكن أن يعتبر القاعدة حجّة ولو في صورة عدم وجود نكتة الكاشفية، كما في حالة الغفلة حين العمل واحتمال المطابقة الاتّفاقية للواقع، وذلك لمصالح الأُمّة، كالتسهيل على المكلّفين - مثلا - حيث أفتى بعض الفقهاء بجريان قاعدة الفراغ في ذلك.

وكذا الأمر في قاعدة (اليد) فإنّها أمارة - عند العقلاء - على الملكية وهي حجّة - عندهم - باعتبار كاشفيتها عن الواقع، لكن للشارع أنّ لا يتقيّد بهذه النكتة؛ إذ قد يكون ملاك التسهيل أو الحيلولة دون اختلال النظام سبباً لجعل الحكم ولو في صورة عدم وجود نكتة الكاشفية، كما ربما يومأ إليه قوله (عليه السلام) : «لولا هذا لما قام للمسلمين سوق»(1). ثمّ إنّه لم يثبت كون النكتة عند العقلاء صرف الكاشفية عن الواقع.

والخلاصة:

1- أنّه لم يثبت كون الطرق الشرعية إمضائية كلّها، بل يمكن القول بأنّ للشارع طرقاً تأسيسية.

2- لو فرض كونها إمضائية كلّها فلم يعلم كون نكتة الإمضاء لدى

ص: 405


1- عوالي اللئالي 1: 392.

الشارع صرف الكاشفية عن الواقع.

3- ثمّ إنّه لم يثبت كون نكتة الاعتبار عند العقلاء صرف الكاشفية والطريقية.

والحاصل: أنّه لم تثبت الصغرى المدعاة في كلامه (رحمه اللّه) ولا الكبرى فتأمّل.

المبحث الثاني: موارد الأُصول التنزيلية
اشارة

والمستفاد من كلمات المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في هذا المقام وفي أوائل مباحث القطع وفي مباحث الاستصحاب دفع الإشكال في موارد الأُصول التنزيلية بما يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي:

في القطع جهات ثلاث:

إنّ القطع له جهات ثلاث:

1- جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم، حيث إنّ النفس تٌنشئ في صقعها صورة على طبق ذي الصورة - على الخلاف في حقيقة العلم- وفي هذه الصفة يشترك القطع مع سائر الصفات النفسانية.

2- جهة كشف هذه الصورة عن المعلوم، ومحرزيته له، وإرائته للواقع الخارجي. وفي هذه الجهة يختلف العلم عن سائر الصفات التي لا إضافة لها إلى الخارج، كالشجاعة - مثلاً.

3- جهة الجري والبناء العملي على وفق العلم. فالعلم بوجود الأسد في الطريق يقتضي الفرار منه، والعلم بوجود الماء يقتضي التوجّه إليه من قبل العطشان، إلى غير ذلك من الأمثلة، والجهة الأُولى حقيقة العلم، والجهة الثانية: صفة وجدانية، والجهة الثالثة: أمر قهري.

ص: 406

ما هو المجعول في موارد الأُصول التنزيلية؟

والمجعول في باب الأمارات: الجهة الثانية، والمجعول في باب الأُصول المحرزة: الجهة الثالثة.

وللمحقّق النائيني (رحمه اللّه) تعبيرات متعدّدة في هذا المقام، مثل: أنّ المجعول في باب الأُصول المحرزة: الجري العملي على وفق العلم، أو البناء العملي على الواقع، أو البناء على ثبوت الواقع عملاً، أو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم، أو الحركة والجري العملي نحو المعلوم، أو الإحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدّى، أو الجري العملي على أنّه هو الواقع، أو الهوهوية العملية، أو البناء العملي على كون المؤدّى هو الواقع، أو الوسطية في الإثبات من حيث الجري العملي لا من حيث انكشاف الواقع.

وعليه، فالأُصول المحرزة تشارك الأمارات في أنّ المجعول في مواردهما ليس هي الأحكام التكليفية، حتّى يتوهّم لزوم اجتماع الضدّين.

احتمالات ومناقشات

ويرد عليه، أنّ كون المجعول هو (الهوهوية العملية) يحتمل معاني ثلاثة:

الأوّل: أنّ المجعول هو (الجري العملي التكويني).

وهو غير معقول؛ لأنّ الجري العملي التكويني فعل المكلّف، ولا معنى لجعله؛ إذ الجعل التشريعي إنّما ينال الأُمور الاعتبارية لا الأُمور الواقعية، فلا يمكن للشارع - من حيث إنّه شارع - أن يجعل الجري العملي التكويني للمكلّف.

ص: 407

الثاني: أنّ المجعول هو (إيجاب الجري العملي) و (الأمر بمعاملة المشكوك معاملة الواقع).

وهذا كرّ على ما فرّ منه؛ إذ (الإيجاب) من سنخ الأحكام التكليفية، فيكون للشارع إيجابان متضادّان، أو نحو ذلك.

مثلا: يكون مقتضى الواقع وجوب تقسيم أموال زيد، باعتباره ميّتاً في الواقع، ومقتضى الاستصحاب حرمة تقسيم أمواله، باعتبار ثبوت الحياة تعبّداً له.

الثالث: أن يكون المراد أنّ البناء العملي المزبور شأن العقلاء والشارع أمضى بناءهم على ذلك. فالمراد بجعل الجري العملي إمضاؤه.

وفيه: أنّه لا يعقل اجتماع إرادة إمضائية وأُخرى تأسيسية، كما لا يعقل اجتماع إرادتين تأسيسيتين أو إمضائيتين.

ومقتضى الإمضاء تعلّق إرادة الشارع بما بنى عليه العقلاء، وهذه الإرادة ثابتة في فرض موافقة الأصل التنزيلي للواقع ومخالفته له...، فتجتمع في فرض المخالفة إرادة تأسيسية متعلّقة بالحكم الواقعي، وإرادة إمضائية متعلّقة بالحكم الظاهري، وهو محال.

وقد ذكر المحّق العراقي (رحمه اللّه) أنّ التعبير بالهوهوية العملية وإن كان تعبيراً عرفانياً لطيفاً، إلاّ أنّنا لا نفهم من هذا التعبير معنى محصّلا(1).

المبحث الثالث: موارد الأُصول غير التنزيلية
اشارة

والأمر فيها أشكل من الأمر في الأمارات والأُصول التنزيلية.

ص: 408


1- فوائد الأصول 3: 110.

قال المحقّق النائيني (رحمه اللّه) :«الأُصول غير التنزيلية ليست ناظرة إلى الواقع أصلا، فلا يمكن أن يكون المجعول فيها هو الوسطية في الإثبات ونفس صفة الطريقية، بل لابدّ من الالتزام بكونه فيها هي الأحكام التكليفية، تحريمية كانت - كما في موارد النفوس والأعراض، بل الأموال في الجملة - أو لا - كما في موارد أصالة الإباحة في الشبهات البدوية. وعليه فلتوهّم لزوم اجتماع الضدّين عند مخالفة الأصل للواقع مجال واسع»(1).

وقد بنى (رحمه اللّه) دفع الإشكال على كبرى وصغرى.

البحث الكبروي

أمّا الكبرى: فهي - بتوضيح منّا: أنّ التأخّر على نوعين:

1- تأخّر موضوع أحد الحكمين عن الآخر.

مثاله: ما قيل من أنّ موضوع الحكم الظاهري - وهو الشكّ - متأخّر عن الحكم الواقعي، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين، ضرورة تأخّر المحمول عن الموضوع، والشكّ عن المشكوك، وعلى ذلك بني ارتفاع المنافاة بين الحكمين.

إلاّ أنّ ذلك غير مجد في دفع المحذور، فإنّ المفروض هو إطلاق الحكم الواقعي لحال الشكّ فيه - بنتيجة الإطلاق - والمفروض وجود الحكم الظاهري في حال الشكّ - لتحقّق موضوعه - فيلزم اجتماع الحكمين المتنافيين في صورة الشكّ.

إلاّ أنّ هنالك نوعاً آخر من أنواع التأخّر، وهو مراد سيّد أساتيذنا العلاّمة

ص: 409


1- أجود التقريرات 3: 135.

الشيرازي (رحمه اللّه) من عدم كون الحكم الظاهري منافياً للحكم الواقعي لترتّبه عليه، وهو:

2- تأخّر جعل أحد الحكمين عن جعل الآخر، بحيث يكون متفرّعاً عليه.

مثال ذلك: أن يقول الطبيب للمريض (كل الدواء)، وحيث اشتبه الدواء المقصود بين دواءين يقول للمريض (كل كلا الدواءين)، فإنّ الوجوب الثاني متفرّع على الوجوب الأوّل ومعلول له، وفي هذه الحالة ترتفع المنافاة بين الحكمين؛ لأنّه إذا فرض أنّ جعل أحد الحكمين متفرّع على جعل الآخر، وعند فرض وجوده، فيستحيل التضادّ بينهما، ضرورة عدم استلزام وجود أحدهما - حينئذ - عدم الآخر وانتفاءه.

وبعبارة أُخرى: حيث إنّ الحكم الثاني معلول للحكم الأوّل وناشئ منه فلا منافاة بينهما؛ لعدم المطاردة بين العلّة والمعلول، بل بينهما كمال الملائمة كما لا يخفى.

والحاصل: أنّ مرادنا من الترتّب في المقام ترتّب نفس الحكم الظاهري على الحكم الواقعي، الرافع للتنافي بين الحكمين(1).

التأمّل في البحث الكبروي

أقول: هذه الكبرى - بهذا المقدار من البيان، ومع الغض عمّا سيأتي في البحث الصغروي - غير واضحة؛ لأنّ ملاك التضادّ - وجوداً وعدماً - ليس (المعية الرتبية) بل (المعية الوجودية). فمجرّد عدم كون أحد الحكمين في رتبة الحكم الآخر، أو تفرّعه عليه، لا يرفع المزاحمة بين الحكمين بعد

ص: 410


1- أجود التقريرات 3: 136.

(المعية الوجودية) فيما بينهما.

وينبّه على ذلك: أنّه لو فرض كون أحد النقيضين معلولاً للنقيض الآخر، فهل يعقل اجتماعهما، لتفرّع أحدهما على الآخر؟

وعلى ما ذكره (رحمه اللّه) يلزم التفصيل في مسألة «استحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين» بأنّه إن كانا عرضيين فلا يعقل اجتماعهما، وإن كانا طوليين - بأن كان أحدهما معلولا للآخر - فلا مانع من الاجتماع، لترتّب أحدهما على الآخر، الرافع للتنافي بين الأمرين. وذلك ممّا لا يساعده الوجدان.

والحاصل: أنّ فعلية حكمين متضادّين في زمان واحد ممتنعة، سواء كان كلّ منهما في عرض الآخر، أم تفرّع وجود أحدهما على وجود الآخر.

وعلى هذا فما ذكره (رحمه اللّه) من ملاك الامتناع بقوله: «إنّ التضاد بين الحكمين إنّما يعقل إذا كانا متّحدين في الرتبة»(1) محلّ نظر. وقد ذكروا أنّ ما يلزم من وجوده عدمه محال، فهذا التفرّع ملاك الاستحالة لا ملاك الإمكان.

البحث الصغروي

وأمّا الصغرى فهي تبتني على مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى

أنّ للشكّ جهتين:

1- جهة أنّه صفة من الصفات، وحالة من حالات المكلّف.

2- جهة أنّه موجب للحيرة والتردّد في الحكم الواقعي.

ص: 411


1- أجود التقريرات 3: 136.

والشكّ بلحاظ الجهة الأُولى مشمول للأحكام الواقعية، بنتيجة الاطلاق. وبلحاظ الجهة الثانية موضوع الحكم الظاهري. فليس المأخوذ في موضوع الأُصول الشكّ بلحاظ الجهة الأُولى، وإنّما أخذ فيه بما أنّه موجب لتحيّر المكلّف من حيث العمل.

قال (رحمه اللّه) : «وهذا واضح جدّاً»(1).

أقول: ولعلّ مراده: أنّه لو أخذ فيه بما أنّه صفة، لأخذت جميع الصفات النفسانية في موضوعه، لوجود نفس الحيثية فيها، فتأمّل.

المقدّمة الثانية

أنّ كلّ تكليف يقصر عن استيفاء الملاك الموجب لجعله، لابدّ فيه من جعل المتمّم، بأن يُنشئ المولى تكليفاً آخر، بضميمة إلى التكليف الأوّل يصل المكلّف إلى تمام الملاك.

ولذلك أمثلة:

منها: وجوب قصد القربة.

ومنها: إيجاب المقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، كما في وجوب الغسل قبل الفجر لمن يجب عليه صوم الغد.

ومنها: إيجاب العلم قبل وقت الواجب المشروط به.

ومنها: إيجاب الفحص عند الشكّ في القدرة.

ومنها: إيجاب الفحص في الشبهات الحكمية.

ومنها: إيجاب الفحص في بعض الشبهات الموضوعية.

ص: 412


1- أجود التقريرات 3: 137.

ففي المثال الأوّل يقول المولى: (حجّ) وحيث إنّ ذلك لا يفي بالغرض، يُنشئ المولى تكليفاً ثانياً بقوله (ليكن حجّك بقصد القربة)، فيكون الجعل الثاني متمّماً للجعل الأوّل. ولا يمكن أخذ قصد القربة في متعلّق التكليف الأوّل لكونه من التقسيمات الثانوية، على ما قرّر في محلّه.

وفي المثال الثاني يقول المولى (صم بين الحدّين) وحيث إنّ ذلك لا يفي بالغرض، يقول (اغتسل قبل الفجر)، ولا يمكن أن يترشّح الوجوب من «وجوب الصوم بين الحدّين» على مقدّمته الوجودية «أي الغسل قبل الفجر» لعدم فعلية وجوب الصوم قبل الفجر - بناءً على كون الوجوب مشروطاً لا معلّقاً- وهكذا في سائر الأمثلة، والجامع بين جميع هذه الموارد: قصور الجعل الأوّل عن استيفاء الملاك، والاحتياج إلى جعل آخر. نعم تختلف هذه الموارد في جهات لا يهمّ بيانها الآن.

الأحكام الواقعية غير قابلة للمحرّكية في ظرف الجهل

وبعد بيان هاتين المقدّمتين ذكر (رحمه اللّه) : أنّ الأحكام الواقعية لا تكون بنفسها قابلة للمحرّكية والباعثية في حال الشكّ - وإن كانت شاملة لصورة الشكّ بنتيجة الإطلاق - إذ المحرّكية والباعثية تتوقّفان على وصول الحكم بنحو من أنحاء الوصول، ومع عدمه يكون المكلّف في حيرة(1). فهل يجب جعل المتمّم في هذه الحالة؟

ذكر (رحمه اللّه) تفصيلاً في المقام، وهو: أنّه تارة تكون ملاكات الأحكام

ص: 413


1- أجود التقريرات 3: 138.

الواقعية من الأهمية بمرتبة تقتضي جعلا آخر في ظرف الشكّ، يوجب كون الحكم الواقعي واصلا بطريقه ومتنجّزاً ولو مع الجهل به، كما في موارد إيجاب الاحتياط(1).

مثلا: لو شكّ أن الشبح القادم من بعيد هل هو إنسان محقون الدم أو حيوان مهدور الدم، أمره المولى بالاحتياط، باعتبار أهمية ملاك «حفظ النفس المحترمة».

وأُخرى: لا تكون تلك الملاكات مقتضية إلاّ لجعل نفس الأحكام الواقعية، من دون أن تستبع جعلا آخر في ظرف الجهل.

مثلا: يجعل المولى النجاسة الواقعية للدم، ثمّ يقول: ما شككت أنّه دم أو صبغ أحمر فلا يجب الاجتناب عنه.

وفي كلتا الصورتين لا يتحقّق التضادّ بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري.

أربعة بيانات لتوجيه عدم التضادّ بين الحكمين

والمستفاد من مجموع كلمات المحقّق النائيني (رحمه اللّه) بيانات أربعة في توجيه عدم تحقّق التضادّ، الأولان منهما يتعلّقان بالصورة الأُولى والأخيران منهما يتعلّقان بالصورة الثانية.

البيان الأوّل: أنّ مرتبة وجوب الاحتياط هي مرتبة تنجّز الأحكام الواقعية، وهي مترتّبة ومتفرّعة على مرتبة جعل نفس الأحكام، فيستحيل أن

ص: 414


1- أجود التقريرات 3: 138-139.

يكون الحكم المجعول في هذه المرتبة مضادّاً للحكم الواقعي المترتّب عليه هذا الجعل.

ويتّضح ذلك بما ذكرناه سابقاً من قول الطبيب: (كل كلا الدواءين) -عند اشتباه الدواء المطلوب.

البيان الثاني: أنّ الحكم بوجوب الاحتياط إمّا أن يكون مطابقاً للحكم الواقعي - بأن يكون الشبح المجهول إنساناً محقون الدم - أو لا - بأن يكون حيواناً مهدور الدم مثلاً- وفي كلتا الصورتين لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط والحكم الواقعي، فإنّ المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو، وإن لم يكن كذلك فلا يجب الاحتياط لانتفاء علّته، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدّمي - وإن كان من جهة أُخرى يغايره.

والحاصل: أنّه لمّا كان وجوب الاحتياط متمّماً للجعل الأوّل - أي وجوب حفظ نفس المؤمن مثلا - يدور مدار الوجوب الواقعي، ولا يعقل بقاء المتمّم، مع عدم وجود المتمّم، فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل أن يقع بينهما التضادّ؛ لاتّحادهما في مورد المصادفة، وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة، فأين التضادّ(1)؟

وفي أجود التقريرات: «إنّ حكم الشارع بوجوب الاحتياط ... يوجب تنجّز الواقع في ظرف الاصابة، وصحّة العقوبة على مخالفته؛ إذ الحكم

ص: 415


1- فوائد الأصول 3: 117-118.

الواقعي وإن لم يكن واصلاً بنفسه إلاّ أنّه واصل بطريقه وهو إيجاب الاحتياط، فيتمّ موضوع صحّته العقاب، وهي مخالفة الحكم الواصل، وفي موارد عدم الإصابة يكون حكماً صورياً لا يترتّب على مخالفة شيء إلاّ على القول باستحقاق العقاب على التجرّي»(1).

البيان الثالث: أنّ مرتبة البراءة مرتبة المعذّر عن الحكم الواقعي وهي مرتبة على رتبة أصل الحكم الواقعي، فلا يعقل تضادّهما.

وبعبارة أُخرى: مرجع أصالة البراءة إلى عدم جعل المنجّز للحكم الواقعي في مرتبة الشكّ على تقدير وجوده الواقعي، وجعل ما يكون معذّراً على هذا التقدير، وهذه المرتبة متأخّرة عن مرتبة الحكم الواقعي، ويستحيل تحقّق التضادّ أو التناقض مع اختلاف الرتبتين.

وكما أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يكون مضادّاً مع الحرمة الواقعية، فكذلك حكم الشارع بالبراءة لا يكون مضادّاً لها.

البيان الرابع: أنّ الرخصة المستفادة من حديث الرفع في عرض المنع المستفاد من إيجاب الاحتياط، وإيجاب الاحتياط في طول الواقع، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً.

مناقشات
1- ملاك التضادّ والمعية الوجودية

أوّلا: ما ذكرناه سابقاً من أنّ ملاك التضادّ «المعية الوجودية» لا «الرتبية»،

ص: 416


1- أجود التقريرات 3: 139.

وحينئذ: تمتنع فعلية حكمين متضادّين ولو فرض اختلافهما في الرتبة، أو تأخّر جعل أحدهما عن جعل الآخر.

2- التفرّع إنّما يتّم في صورة كون الحكم الواقعي هو الوجوب

ثانياً: ما في المنتقى من: « أنّ تفرّع وجوب الاحتياط عن الواقع إنما يتم لو كان الواقع هو الوجوب أيضاً، أما إذا كان الحكم الواقعي إباحة فلا معنى لتفرّع وجوب الاحتياط عليه، وكونه بملاك المحافظة عليه على ملاكه، فإنّ وجوب الاحتياط إنما يتفرع عن الوجوب الواقعي لا الإباحة الواقعية»(1).

مثلاً: لو كان الشبح المجهول إنساناً محقون الدم أمكن أن يقال إن (وجوب الإحتياط) متفرع على (وجوب حفظ النفس المحترمة).

أما لو كان حيواناً مهدور الدم يكون جائز القتل في الواقع, فلا يعقل أن يكون (وجوب الإحتياط) ناشئً من (الإباحة الواقعية) الثابتة لقتله.

ويرد عليه: أنّه إنّما يتمّ لو لوحظت كلّ واقعة واقعة مع قطع النظر عن سائر الوقائع، أمّا لوحظت الوقائع على نحو كلّي ومنضمّاً بعضها إلى بعض فلا يرد الإشكال.

بيانه: أنّ المولى يعلم أنّ في الاقتحام في الشبهات البدوية إزهاقاً لنفوس بريئة، ففي عشرة آلاف شبهة يتّفق وجود ألف نفس محقونة - مثلاً- وحيث إنّ ملاك «حفظ النفس المحترمة» مهم جدّاً في نظر الشارع يأمر بالاحتياط في جميع هذه الموارد، فالأمر بالاحتياط في جميع الموارد متفرّع

ص: 417


1- منتقى الأصول 4: 164.

على وجوب حفظ النفس في الموارد المصادفة للواقع.

ولهذا نظائر في القوانين العقلائية، مثلا: المقنّن يعلم أنّ خمسة بالمئة من الذين يتجاوزون الإشارة الحمراء تتفق لهم حوادث مروعة، وحيث إنّ الوقاية من هذه الحوادث مهمّ في نظره يشرّع وجوب التوقّف في جميع الموارد المئة.

والسرّ في ذلك أنّ تمييز ما يصادف الواقع وما لا يصادفه أمر عسير، وإيكال ذلك إلى تشخيص المكلّف يوجب تفويت الملاك الواقعي المهمّ في كثير من الأحيان، ولذا يأخذ المولى أو المشرّع بالحائطة، ويأمر بالاجتناب في جميع الموارد.

3- إنكار وجوب الاحتياط -عند المخالفة- يستلزم إنكار منجّزية وجوب الاحتياط

ثالثاً: ما في المنتقى أيضاً: من «أنّ ما ذكره أخيراً من أن وجوب الاحتياط عند المصافة حكم حقيقي، وعند المخالفة حكم صوري تخيلي.

إذ فيه: إن الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار منجزية وجوب الاحتياط؛ إذ المكلف يشك في مصادفة وجوب الاحتياط للواقع وعدمه، ومعه يشك في أن الحكم حقيقي فيستلزم التنجز أو صوري فلا يستلزمه, ومع هذا الشك لا يصلح الوجوب للتنجيز والبيانية فيكون المورد من مصاديق قاعدة قبح العقاب بلا بيان»(1).

فكما أنّ الحكم الواقعي لا باعثية له في صورة الشكّ في وجوده، فكذا وجوب الاحتياط لا يصلح لباعثية في صورة الشكّ.

ص: 418


1- منتقى الأصول 4: 164-165.

ونتيجة ذلك: صيرورة وجوب الاحتياط في جميع الموارد لغواً، فإنّ وجوب الاحتياط إنما يكون في صورة الشك في الحكم الواقعي، وحيث إن وجوب الاحتياط مشكوك - كالحكم الواقعي- لاحتمال كون وجوبه وجوباً تخيلياً موصوفاً فلا يجب الاحتياط.

أقول: ذكر هذا الإشكال المحقق العراقي (رحمه اللّه) وأجاب عنه ب: إن المصلحة إذا كانت مهمة بنحو لا يجوز منه المولى حتى في ظرف الجهل بها فقهراً الإرادة المتعلقة به وأمره يكون تبعاً لهذا الاهتمام، ومثل هذه الإرادة والأمر نفس احتماله منجز عقلاً وخارج من موضوع قبح العقاب بلا بيان، وإن الأمر الطريقي كاشف عن هذا الاهتمام، ولذا يكون منجزاً للواقع عند المطابقة، كما أن مخالفته كاشفة عن عدم الاهتمام به، خصوصاً مع ترخيصه على خلافه، فيكون موجباً لعذره حتى مع فرض انفتاح بابه (1).

بيان ذلك: أن المصلحة إذا كانت مهمة جداً تكون إرادتها ثابتة حتى في صورة الجهل بوجودها.

وفي مثل ذلك يحكم العقل بوجوب مراعاة المصلحة المحتملة حتى مع الشك وهذا الحكم العقلي بيان رافع لموضوع قاعدة «قبح العقاب بلا بيان»، كما أنّه رافع لموضوع البراءة الشرعية، وهو «عدم العلم» فلا يبقى مجال لجريانهما. والكشف عن تلك الأهمية هو الأمر بالاحتياط، فلا يقال: إنّه عليه لا يبقى مجال لأوامر الاحتياط.

ويوضّح ذلك ما ذكروه في مسألة «العنوان والمحصّل» فإنّه إذا كان

ص: 419


1- فوائد الأصول 3: 116 (الهامش).

«العنوان» مهمّاً جدّاً بحيث يريده الشخص على كلّ تقدير، فإنّ ذلك يبعثه نحو الإتيان ب«ما يظنّ كونه محصّلا له» بل «ما يشكّ كونه محصّلاً» بل «ما يتوهّم كونه كذلك» - فضلا عمّا يعلم كونه محصّلاً.

مثلا: لو ابتلي شخص بالداء الخبيث - والعياذ باللّه - فإنّ ملاك «الحفظ على النفس» يدفعه لتناول حتى ما يحتمل احتمالا ضعيفاً كونه علاجاً.

وقد سئل السيّد الوالد (رحمه اللّه) عن تناول «سرطان البحر» بالطريقة المذكورة في محلّها لعلاج «داء السرطان» مع أنّه لا يعلم كونه علاجاً قطعاً، فأجاب بالجواز.

4- إمكان داعوية الحكم الواقعي في ظرف الجهل

رابعاً: ما في المنتقى أيضاً من أنّ ما ذكره من أنّ الحكم الواقعي لا داعوية له قبل الوصول ممنوع، إذ يرد عليه: إمكان الداعوية مع فرض الجهل أيضاً(1).

وقد مضى بيان ذلك، ومضى التنظّر فيه فراجع.

5 - تقييد أدلّة الاحتياط بخصوص صورة المصادفة خلاف إطلاق الأدلّة

خامساً: أنّ تقييد أوامر الاحتياط بخصوص صورة المصادفة خلاف ظاهر الأدلّة، فإنّ قوله (عليه السلام) : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2) مطلق يشمل صورتي المصادفة والمخالفة. وكذا قوله (عليه السلام) : «فما اشتبه عليك علمه

ص: 420


1- منتقى الأصول 4: 164.
2- وسائل الشيعة 27: 167.

فالفظه»(1).

إن قلت: ظاهر بعض أدلّة الاحتياط أنّ ملاك الأمر به الوقوع في محالة الواقع، والعلّة تعمّم وتخصّص. مثل قوله (عليه السلام) : «فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(2)، وقوله (عليه السلام) : «من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(3).

قلت: العلّة إن كانت علّة المجعول - أي الحكم المنشأ - دار الحكم مدارها وجوداً وعدماً، كالضرر في حرمة أكل العظم - مثلاً- وإن كانت علّة الجعل - أي نفس الإنشاء - لم يدر مدارها كذلك، كوجوب العدّة تحفّظاً من اختلاط المياه وضياع الإنساب، فإنّ الوجوب ثابت ولو مع الأمن من ذلك، كما في المرأة المقلوعة الرحم مثلا.

وقد أشار إلى ما يقرب من ذلك المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في كلامه، وأجاب عنه بما لا يخلو عن غموض فراجع(4).

والظاهر أنّ التعليلات المذكورة في المقام من قبيل الثاني لا الأول، لا أقل من الشكّ، فتكون هذه الطائفة مجملة، فلا تصلح للقدح في إطلاق الطائفة الأُولى بعد انعقاده، فإنّ محتمل القرينية إنّما يقدح إذا كان متّصلا لا منفصلا، فتأمّل.

ص: 421


1- نهج البلاغة 3: 70.
2- الكافي 1: 50.
3- وسائل الشيعة 27: 167.
4- أجود التقريرات 3: 146.
6- ما يكون في عرض المتأخّر لا يجب كونه متأخّراً

سادساً: إنّ ما ذكره (رحمه اللّه) من أنّ الرخصة المستفادة من حديث الرفع في عرض المنع المستفاد من إيجاب الاحتياط، وحيث إنّه في طول الواقع يكون ما في عرضه في طوله أيضاً، محلّ تأمّل؛ إذ ما يكون في عرض المتأخّر عن الشيء تارةً يكون واجداً بنفسه لملاك التأخّر عن ذلك الشيء، فيكون متأخّراً عنه، لا لكونه في عرض المتأخّر عنه، بل لوجود ملاك التأخّر فيه.

مثاله: التأخّر الزماني، فإنّ ما في عرض المتأخّر زماناً عن «نوح» (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) يكون متأخّراً عنه، لا لكونه في عرض المتأخّر عنه، بل لوجود ملاك «التأخّر الزماني» فيه.

وكذا الأمر في التأخّر المكاني.

وتارةً يكون فاقداً بنفسه لذلك الملاك، وحينئذ فلا يصحّح كونه في رتبة المتأخّر: كونه متأخّراً؛ إذ يكون التأخّر حينئذ بلا ملاك يقتضيه.

والأمر في المقام كذلك؛ إذ تأخّر «المنع» المستفاد من إيجاب الاحتياط عن الحكم الواقعي تأخّر رتبي، والتأخّر الرتبي لا يكون إلاّ لملاك يقتضيه، فلا يصلح صرف «كون الرخصة المستفادة من حديث الرفع في عرضه» دليلا على كونها متأخّرة عن الحكم الواقعي، إلاّ لو ثبت كونها واجدة لملاك التأخّر الرتبي مثله.

والخلاصة: أنّه مع فقدان ملاك التأخّر لا تنفع العرضية شيئاً، ومع وجدانه يكون هو ملاك التأخّر، لا العرضية، فتكون ضميمتها إليه كضميمة الحجر إلى الإنسان.

ص: 422

ونظير المقام - من بعض الوجوه - ما ذكروه من أنّ مصاحب العلّة ليس بعلة، وإنّ مصاحب المعلول ليس بمعلول، فحمرة النار ليست علّة للإحراق وإن صاحبت العلّة، وإمكان الممكن ليس معلولا، وإنّ صاحب المعلول، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل - لو كان ممكناً قبل إعطائه الإمكان - أو انقلاب المهيّة - لو كان في حدّ ذاته ممتنعاً أو واجباً - أو خلو الشيء عن المواد الثلاث - لو فرض خلوّه في حدّ ذاته عنها - والتوالي بأسرها باطلة.

الوجه الحادي عشر: تعدّد حيثيات الوجود بلحاظ تعدّد المقدّمات

اشارة

وقد نقل هذا الوجه السيّد الحكيم (رحمه اللّه) عن بعض المحقّقين من مشايخه المعاصرين (والظاهر أنّ مراده هو المحقّق العراقي (رحمه اللّه) ) قال: وتوضيحه: أنّ تضادّ الأحكام التكليفية الحقيقية إنما هو من جهة تنافي الإرادة والكراهة والرضا، التي هي المعيار في كون الحكم التكليفي حكماً حقيقياً لا صورياً، بل قد عرفت في مبحث الاجتماع أن الوجه في التنافي بين الأمور المذكورة تنافي مباديها أيضاً، أعني ترجّح الوجود على العدم، أو ترجّح العدم على الوجود وتساويهما في نظر المولى؛ إذ من المعلوم بالبديهة أن الشيء الواحد بما هو واحد لا يقبل أن يكون وجوده أرجح من عدمه، وعدمه أرجح من وجوده، أما إذا كان للشيء الواحد جهات من الوجود فيمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ جهة، وعدمه أرجح من وجوده بلحاظ جهة أخرى، ولا يكون تنافٍ بين الترجيحين المذكورين من جهة اختلاف الجهة فالوجود الواحد إذا كان له مقدمات متعددة تتعدد جهاته بتعدد تلك المقدمات إذ حيثية وجوده من قبل مقدمة بعينها غير

ص: 423

حيثيته من قبل المقدمة الأخرى، كما أنّ المرّكب الواحد ذي الأجزاء المتعددة بلحاظ أجزائه المتعددة تتعدد جهات وجوده، فيصحّ أن يكون وجوده من قبل بعض الأجزاء بعينه أرجع من عدمه ووجوده من قبل البعض الآخر مرجوح لعدمه، فالمركب المذكور إذا كان كان وجوده راجحاً من جميع الجهات تحدِّث إرادة في نفس الفاعل متعلقة بتمام جهات الوجود المذكور فتبعث إلى فعل تمام أجزائه، وإذا كان راجحاً من بعض الجهات دون بعض تحدث الإرادة متعلقة بذلك البعض فتبعث إلى فعل بعض الأجزاء دون بعض، بل ربما يكون الوجود من جهة البعض الآخر مرجوحاً فيكون موضوعاً للكراهة فتجتمع الإرادة والكراهة في موضوع واحد من جهتين، مثلاً البيت المرّكب من جدران وسقوف قد يكون وجوده راجحاً من حيثيتي الجدران والسقوف معاً فتحدث الإرادة المتعلّقة بهما معاً فتبعث إلى بناء الجدران ووضع السقف عليها، وقد يكون راجحاً من جهة الجدران مرجوحاً من جهة السقف فتحدث الباعثة على بناء الجدران فيبني الجدران ولا يضع عليها السقوف، ولو وضعها آخر خرّبها لما فيه من المفسدة مثل انهدام العمارة أو أمرٍ آخر، وهكذا الحال في الشيء الواحد ذي المقدمات المتعددة فيجري فيه ما ذكرنا في المركب حرفاً بحرف.

ثم نقول: قد عرفت فيما علقناه على مباحث الطلب والإرادة، أن الإرادة التشريعية التي هي مناط كون الحكم حقيقياً من سنخ الإرادة التكوينية، بل هي نحو خاص منها، غاية الأمر أنها متعلقة بالوجود من حيث جعل الحكم، فإن الواجبات المولوية الصادرة من العبيد في مقام الإطاعة لما كانت

ص: 424

صادرة عن إرادة العبد الناشئة عن علمه بحكم مولاه بتوسط حكم العقل بحسن العقاب على تقدير المخالفة كان لوجودها في الخارج مقدمات هي جعل الحكم من قبل المولى، وعلم العبد به، وحدوث إرادته بتوسط الداعي العقلي.

وحينئذٍ فقد تتعلق إرادة المولى بوجود فعل ذي المصلحة من جميع الجهات المذكورة، فتحدث إرادة غيرية للمولى بهذه الأمور، فتبعث على جعل الحكم وإعلامه للعبد، وتهديده وتخويفه إلى أن تحصل له إرادة الفعل فيفعل. وقد تتعلّق الإرادة بالوجود بلحاظ بعض هذه الجهات، فإن تعلقت بالوجود من جهة جعل الحكم وتشريعه سميت هذه الإرادة إرادة تشريعية، واقتضت حينئذٍ مجرد تشريع الحكم، فإن تعلقت أيضاً بالوجود بلحاظ الإعلام اقتضت حينئذٍ إعلامه ... وهكذا؛ وحينئذٍ كل إرادة للوجود من جهة إنما تنافي كراهتها من تلك الجهة، ولا تنافيها من جهة أخرى أصلاً.

إذا عرفت هذا عرفت أن الترخيص في ظرف الشك لا ينافي الإرادة الواقعية؛ لأنها إنما تعلقت بالوجود من جهة جعل الحكم لا غير، والترخيص إنما هو بلحاظ وجود الحجة على الحكم - أعني جهة الإعلام- وهذه الجهة لم تكن موضوعاً للإرادة حسب الفرض.

نعم، لو فرض كون الواقع مراداً من جهة الحكم، ومن جهة إقامة الحجة عليه بإعلام أو إيجاب احتياط أو غيرهما امتنع الترخيص حيئنذٍ، لكن هذا ليس من محل الكلام في شيء - أعني منافاة الحكم الظاهري للحكم الواقعي- بل يكون من منافاة الحكم الظاهري للحكم الظاهري التي لا كلام فيها، ولا مجال لإنكارها نظير منافاة الترخيص الواقعي للمنع الواقعي، ومثلها

ص: 425

منافاة الترخيص حال العلم بالواقع للتحريم الواقعي»(1).

والخلاصة:

1- أنّ تضادّ الأحكام التكليفية إنّما هو من جهة تنافي الإرادة والكراهة والحبّ والبغض، وتنافي هذه الأُمور باعتبار تنافي مبادئها، أي ترجّح الوجود على العدم أو العكس أو التساوي.

2- أنّ الشيء الواحد بما هو واحد لا يقبل أن يكون وجوده أرجح من عدمه وعدمه أرجح من وجوده، أمّا إذا كان للشيء جهات من الوجود فيمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ جهة، وعدمه أرجح من وجوده بلحاظ جهة أُخرى، ولا تنافي بين الترجيحين لاختلاف الجهة.

فإذا كان للوجود الواحد مقدّمات تتعدّد جهاته بتعدّد تلك المقدّمات، كما أنّ الأمر في المركّب ذي الأبعاض كذلك.

3- أنّ الإرادة التشريعية نحو من أنحاء الإرادة التكوينية ولها مقدّمات ثلاث:

أ- جعل الحكم.

ب- علم العبد.

ج- إرادة العبد بتوسّط الداعي العقلي.

وكما أنّه يمكن أن تتعلّق إرادة الفاعل «بوجود البيت من جهة الجدران دون السقوف» كذلك يمكن أن تتعلّق الإرادة التشريعية بوجود المراد من جهة جعل الحكم دون جهة إعلام العبد.

ص: 426


1- حقائق الأصول 2: 77-79.

وكما لا تنافي بين تعلّق الإرادة التكوينية ببناء الجدران دون بناء السقوف، بل قد تتعلّق الإرادة بهدم السقوف لو نصبها الغير، كذلك لا تنافي بين تعلّق الإرادة التشريعية بوجود المراد من جهة إنشاء الحكم دون إعلام العبد، بل قد تتعلّق الإرادة بالإعلام المضادّ.

وقد ارتضى السيّد الحكيم (رحمه اللّه) هذا الوجه قائلا: «وظنّي أنّ ما ذكرنا كلّه واضح جدّاً بأدنى تأمّل»(1).

توضيح

أقول: في المقام إرادة نفسية، وإرادات غيرية مترشّحة منها.

وفي متعلّق الإرادة النفسية احتمالات ثلاثة:

1- أن يكون متعلّقها إنشاء الحكم فقط، بأن يكون الجعل هو تمام المراد.

2- أن يكون متعلّقها الجري العملي مطلقاً.

3- أن يكون متعلّقها الجري العملي في صورة العلم.

فعلى الأوّل لا يجب امتثال الحكم ولو علم به المكلّف؛ لتحقّق الغرض بمجرّد إنشاء الحكم، على ما مرّ توضيحه سابقاً.

وعلى الثاني: يتحقّق التناقض أو التضادّ في مرحلة (المبدأ) و (المنتهى)، فلم يندفع المحذور المزبور.

وعلى الثالث: تكون الإرادة المتعلّقة بالحكم الواقعي إرادة تعليقية،

ص: 427


1- حقائق الأصول 2: 80.

فيكون قال كلام المحقّق العراقي (رحمه اللّه) إلى الجواب الثالث الذي ذكره صاحب الكفاية فلاحظ.

الوجه الثاني عشر: إنكار وجود مبادئ للحكم الظاهري في متعلّقه

اشارة

وقد ذهب إليه في البحوث، وبناه على مقدّمات هي:

«المقدّمة الأُولى: أنّ الغرض سواء كان تكوينياً أم تشريعياً إذا أصبح مورده معرضاً للاشتباه والتردد فإن كان بدرجة بالغة من الأهمية، بحيث لا يرضى صاحبه بتفويته فسوف تتوسع دائرة محركيته، فتكون أوسع من متعلق الغرض الواقعي، فمثلاً لو تعلق غرض تكويني بإكرام زيد، وتردد بين العشرة وكان الغرض بمرتبة لا يرضى صاحبه بفو اته، فلا محالة سوف يتحرك في دائرة أوسع، فيكرم العشرة جميعاً لكي يحرز بلوغ غرضه، وهذه التوسعة أمر وجداني لا ينبغي النزاع فيه، وهي توسعة في المحركية وفاعلية الغرض والإرادة لا في نفسهما، بل الغرض والحب والإرادة باقية على موضوعها الواقعي، وهو إكرام زيد لا غيره؛ إذ لا غرض نفسي في إكرام غيره، ليتعلّق شوق أو إرادة به ولا هو مقدمة لوجود المراد، وهو إكرام زيد لتتعلّق الإرادة الغيرية به.

ومرجع ذلك الى أنّ نفس احتمال الإنطباق منشأ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب الواقعي، كالقطع به لشدة أهميته ونفس الشيء صادق في حق الغرض التشريعي الذي يكون صاحب الغرض وهو المولى، متعلق غرضه فعل مأموره، فإنه إذا كان غرضه بدرجة عالية من الأهمية بحيث لا يرضى بفواته حتى مع التردد والاشتباه، فسوف يوسع دائرة محركية غرضه

ص: 428

من دون أن تتوسع دائرة نفس الغرض بمبادئه، وتكون توسعة دائرة المحركية هنا بمعنى جعل الخطابات تحفظ الغرض الواقعي بأي لسان كان من الألسنة، فإنّ ذلك لا يغير من جوهرها شيئاً، فإن روحها عبارة عن خطابات تبرز بها شدة اهتمام المولى بغرضه الواقعي بدرجة لا يرضى بفواته مع التردد والاشتباه، وبهذا يكون منجزاً على العبد عقلاً، ورافعاً لموضوع البراءة والتأمين العقلي على القول به؛ لأنه مشروط - كما تقدم سابقاً- بعدم إحراز أهمية غرض المولى بالنحو المذكور وهذا يعني أنّ الخطاب الموسّع الذي هو الخطاب الظاهري ليس على طبقه غرض في متعلّقه، ولكنّه مع هذا ليس بمعنى أنّ المصلحة في نفس جعله»(1).

المقدّمة الثانية: أنّ التزاحم بين حكمين على ثلاثة أقسام:

1- التزاحم الملاكي: وهو فيما إذا افترض وجود ملاكين في موضوع واحد أحدهما يقتضي محبوبيته والآخر يقتضي ما ينافيها ويضادها كالمبغوضية مثلاً فيقع التزاحم الملاكي بمعنى أنه يستحيل أن يؤثر كلّ منهما في مقتضاهما لمكان التضاد بينهما ومن خصائص هذا التزاحم أنّه لا يكون إلاّ في موضوع واحد وإلا لم يكن هناك اجتماع الضدين فلو كان كلّ من الملاكين في موضوع أو حيثية تقييدية غير موضوع الآخر فلا محذور في تأثيرهما معاً في إيجاد الحب والبغض، وكذلك من أحكام هذا التزاحم تأثير أقوى المقتضيين بعد الكسر والإنكسار في إيجاد مقتضاه وحينئذ يكون مقتضاه فعليّاً ومقتضى الآخر ساقطاً مطلقاً.

ص: 429


1- بحوث في علم الأصول 4: 201-202.

2- التزاحم الامتثالي: وهو ما إذا كان الملاكان في موضوعين وفعلين إلاّ إنه للتضاد بينهما لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال فهذا التزاحم إنما هو في مرحلة الامتثال الناشئ من ضيق القدرة على الجمع والقدرة تكون دخيلة في التحريك والأمر ولا يشترك وجودها في المحبوب أو المبغوض ومن هنا تكون مبادئ الحكم من الحب والبغض فعلية في موارد هذا السنخ من التزاحم ما لم يفرض دخل القدرة في الملاك والغرض نفسه.

3- التزاحم الحفظي: وذلك فيما إذا فُرض عدم التزاحم الملاكي لتعدد الموضوع وعدم التزاحم الامتثالي لإمكان الجمع بين مصب الغرضين والفعلين المطلوبين واقعاً وإنما التزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند الاشتباه واختلاط موارد أغراضه الإلزامية والترخيصية أو الوجوبية والتحريمية فأن الفرض المولوي يقتضي الحفظ المولوي له في موارد التردد والاشتباه بتوسيع دائرة المحركية بنحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ حيث لا يمكن توسعة دائرة المحركية بلحاظهما معاً فلا محالة يختار المولى أهمهما في هذا المقام. ومن هنا يُعرف أن هذا التزاحم بين الغرضين والملاكين ليس بلحاظ تأثيرهما في إيجاد الحب والبغض لأنهما متعلقان بموضوعين واقعيين متعددين ولا بلحاظ تأثيرهما في الإلزام الواقعي بهما بقطع النظر عن حالة الاشتباه والتردد؛ لأنهما بوجوديهما الواقعيين مما يمكن الجمع بينهما بل بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما بالنحو المناسب له.

ص: 430

المقدمة الثالثة: أنّ الترخيص على قسمين فتارة يكون ناشئاً من عدم المقتضي في الإلزام، وأخرى يكون ناشئاً من المقتضي في الإباحة وإطلاق العنان بمعنى أنّ هناك مصلحة في أن يكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه وإن كان كلٌّ من الفعل والترك خالياً عن مصلحة(1).

وعلى ضوء هذه المقدمات الثلاث نستخلص النتيجة المرجوة في المقام فنقول: أنه تارة يكون الحكم الظاهري إلزامياً والواقعي ترخيصياً كما لو أوجب المولى الاحتياط في قسم من الشبهات بأي لسان كان وأخرى يفرض العكس وفي كليهما لا محذور.

أما في القسم الأوّل فلأنّ مرجعه إلى أن المولى حينما يشتبه على عبيده أحكامه الإلزامية ولا يوجد طريق لرفع هذا الاشتباه له أو لا مصلحة في ذلك فلا محالة يحفظ أغراضه الإلزامية الواقعية بتوسعة دائرة المحركية لها فيجعل حكماً ظاهرياً إلزامياً روحه عبارة عن إيجاب الاحتياط نتيجة شدة اهتمامه بأغراضه الواقعية الإلزامية وعدم رضاه بفواته حتى في حالات الشكّ والاشتباه بالمباحات الواقعية من دون أن يلزم من ذلك اجتماع الضدين في مورد المباح الواقعي ولا المثلين في مورد الحرمة الواقعية، لما قلنا في المقدمة الأولى من أنه لا توسعة في غرضية الغرض بمبادئه بل متعلقه هو الأمر الواقعي وليست هذه الخطابات إلاّ توسعة المحركية لذلك الغرض المنصب على متعلقه الواقعي، كما أن تقديم الغرض الإلزامي لأهميته لا يعني زوال الأغراض الواقعية الترخيصية أو غيرها المخالفة مع الغرض

ص: 431


1- بحوث في علم الأصول 4: 203-204.

الإلزامي الذي رجحه المولى ذاتاً وإنما يعني زوال حفظها التشريعي بتوسيع دائرة محركيتها ظاهراً لعدم أهميتها في قبال الأغراض الإلزامية المرجّحة كما تقدّم في المقدمة الثانية فلا منافاة بين هذه التوسعة في المحركية والأغراض الواقعي في مورد المخالفة.

وأما في القسم الثاني فلعين ما تقدّم في القسم الأوّل بإضافة نكتة أن الأحكام الترخيصية الواقعية في هذا القسم لابدّ وأن تكون عن مقتضٍ للترخيص وأن يكون العبد مطلق العنان من قبل المولى ولا يكفي مجرد عدم المقتضي للإلزام فأن الحكم الترخيص الناشئ عن عدم المقتضي للإلزام لا يمكنه أن يزاحم مقتضي الإلزام، فدليل جعل الحكم الظاهري الترخيصي بنفسه يدلّ على وجود أغراض ترخيصية اقتضائية من هذا القبيل، وكذلك الحال فيما إذا جعل حكم ظاهري إلزامي في مورد حكم واقعي إلزامي مخالف.

وقد ظهر من مجموع ما تقدّم معنى قولنا إنّ الغرض إذا كان بدرجة من الأهمية فيستدعي من المولى حفظه عند الاشتباه بتوسيع دائرة محركيته فإن درجة الأهمية هذه يراد بها ما إذا كان حفظه التشرعي أهم من حفظ الغرض الآخر.

ومن هنا يُعرف بأن هناك فعليتين للغرض الواقعي، فعلية بقطع النظر عن التزاحم الحفظي، وفي هذه الفعلية يكون الغرض الواقعي بمبادئه من الحب والبغض والإرادة فضلاً عن الملاك محفوظاً في متعلقه الواقعي، وفعلية أخرى بلحاظ التزاحم الحفظي وتعني فعلية المحركية لأحد الغرضين في موارد الاشتباه والتزاحم الناشئ منه التي لا تكون إلاّ لأهم الغرضين الفعليين

ص: 432

بالفعلية الأولى(1).

وهذا الذي ذكرناه في وجه الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية واضح جداً في فرض إنسداد باب العلم وأما إذا فرضنا انفتاح بابه وإمكان سعي المكلف للوصول العلمي إلى الواقع فلابدّ لتصوير وقوع التزاحم الحفظي حينئذٍ من فرض عناية زائدة هي أن يفرض وجود مصلحة في أن يكون العبد مطلق العنان من ناحية السعي والتعلّم فيحكم بالترخيص من دون السعي حفاظاً على مصلحة إطلاق عنان العبد من ناحيته(2).

المناقشة في الوجه الثاني عشر
اشارة

أقول: يمكن المناقشة في ما بنى عليه الاستدلال من أنّ التوسعة في فاعلية الغرض والإرادة لا في نفس الغرض والإرادة، بأنّ التوسعة حاصلة في الغرض والإرادة أيضاً، وذلك ببيان أُمور:

الأوّل

أنّه في صورة عروض الاشتباه على الموضوع(3) تتعلّق الإرادة بأمرين:

1- الإتيان بالموضوع المحقّق للغرض الواقعي.

2 - العلم بالإتيان بالموضوع المزبور.

وكما أنّ الأوّل مراد ومحبوب لوجود الملاك فيه، كذلك الثاني.

مثلا: لو كانت (الصلاة إلى القبلة) مرادة ومحبوبة، فكما تتعّلق الإرادة

ص: 433


1- بحوث في علم الأصول 4: 204- 205.
2- بحوث في علم الأصول 4: 206.
3- المراد به: المتعلّق.

بالإتيان بها تحصيلا للملاك الواقعي الكامن فيها، كذلك تتعلّق بالعلم بالإتيان بها عند اشتباه القبلة، وهو موقوف على (الصلاة إلى أربع جهات) - مع غضّ النظر عن الدليل الخاصّ الوارد في المقام، والسبب في ذلك أنّ المكلّف يهمّه الحصول على (المؤمّن) العقلي، وهو لا يحصل إلاّ بالعلم المزبور.

الثاني

أنّ الإرادة والمحبوبية كما تترشّح من (ذي المقدّمة) على (مقدّماته الوجودية) كذلك تترشّح على (مقدّماته العلمية)، والاتيان بالأطراف المشتبهة كلّها(1) وإن لم يكن مقدّمة وجودية للمراد - لأنّ المأتي به إمّا هو نفس المراد أو مباينه، ولا مقدّمية بين الشيء ونفسه، كما لا مقدّمية بينه ومباينه - إلاّ أنّه مقدّمة علمية فتترشّح الإرادة والمحبوبية والكراهة والمبغوضية من المراد عليه.

الثالث

أنّه كما لا يمكن اجتماع إرادة وكراهة نفسيتين أو غيريتين في موضوع واحد، كذلك لا يمكن اجتماع إرادة نفسية وكراهة غيرية أو إرادة غيرية وكراهة نفسية في موضوع واحد.

مثلا: لا يعقل أن يكون «نصب السلّم» الذي هو مقدّمة وجودية ل«الكون على السطح» مجمعاً للإرادة الغيرية المترشّحة من إرادة الكون على السطح، والكراهة النفسية - الناشئة من مفسدة واقعية كائنة فيه.

ص: 434


1- في الشبهة الوجوبية، والاجتناب عنها كلها في الشبهة التحريمية (منه (رحمه اللّه) ).

وبناءً على كلّ ما تقدّم: تجتمع في المقام إرادة وكراهة ومحبوبية ومبغوضية وإن اختلفتا بالنفسية والغيرية، وهو محال.

مثلا: لو كان دفن الميّت المسلم محبوباً للمولى، ودفن الميّت الكافر مبغوضاً له، واشتبه المكلّف في كون هذا الميّت مسلماً أو كافراً، فأمره المولى بدفنه؛ للتزاحم بين الغرضين الواقعيين - الغرض الكامن في دفن المسلم والغرض الكامن في عدم دفن الكافر - وترجيح الأهمّ منهما - وهو الأوّل - اجتمعت في هذا العمل: الكراهة والمبغوضية النفسية - لفرض كونه كافراً في الواقع - والإرادة والمحبوبية - الغيرية - لكون الدفن في موارد الشبهات مقدّمة لتحصيل الغرض الواقعي الأهمّ - وقد سبق أنّ الاجتماع المزبور محال.

ثمّ إنّه قال في البحوث: «إنّ ما ذكره صاحب الكفاية من وجود فعليتين للحكم الواقعي يمكن أن يريده هذا المعنى وإن كان تعبيره قاصراً عنه»(1).

وهو غير واضح، إذ مآل جواب صاحب الكفاية إلى إنكار وجود مبادئ للحكم الواقعي - على التفصيل الذي مضى - ومآل هذا الجواب إلى إنكار وجود مبادئ للحكم الظاهري في متعلّقه - على ما سبق بيانه - فكيف يكون مآله إليه؟

هذا تمام الكلام في المبحث الثاني من مباحث «الأمارات» وهو «إمكان التعبّد بالأمارات الظنّية».

ص: 435


1- بحوث في علم الأصول 4: 206.

ص: 436

فهرس المحتويات

فصل في قطع القطاع وفيه مباحث خمسة

المبحث الأول: في مفهوم كلمة القطاع... 7

المبحث الثاني: في حجّية قطع القطاع في القطع الموضوعي... 11

الرأي الأول... 11

الرأي الثاني... 12

المبحث الثالث: في حجّية قطع القطاع في القطع الطريقي... 20

تذييل... 28

المبحث الرابع: في حجّية قطع القطاع مطلقاً - طريقياً كان أو موضوعياً - لغيره... 33

المبحث الخامس: في أنّه هل يجب على القطاع علاج نفسه؟... 35

فصل في حجّية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدّمات العقلية وفيه مباحث

المبحث الأول: في تحرير محل الكلام... 43

المبحث الثاني: في حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدّمات العقلية... 47

النوع الأول: إدراك العقل وجود المصلحة أو المفسدة... 48

النوع الثاني: إدراك العقل الحسن والقبح... 56

النوع الثالث: إدراك العقل لغير المستقلات العقلية... 58

المبحث الثالث: في حجّية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية... 60

المقام الأوّل: في إمكان ردع الشارع عن القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدّمات العقلية 60

المقدمة الأُولى... 60

ص: 437

المقدمة الثانية... 61

المقدمة الثالثة... 61

المقام الثاني: في وقوع الردع الشرعي عن القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدّمات العقلية... 69

1- الروايات الناهية عن العمل بالرأي... 72

2- الروايات الدالة على أن العلم الصحيح عبارة عمّا صدر عن أهل البيت (عليهم السلام) وإن كلّ ما لم يصدر منهم فهو باطل... 72

3- الروايات الدالة على أن دلالة ولي اللّه تعالى شرط في صحّة الأعمال وترتب الثواب عليها... 73

4- الروايات الدالة على مدخلية تبليغ الحجة (عليه السلام) في جواز التدين بحكمه وقوله 78

ويرد على ذلك أمور... 79

أولاً: عدم دلالة الأخبار على مدخلية توسّط الحجة (عليه السلام) في فعلية الأحكام... 79

ثانياً: لا ملازمة بين توسط الحجة (عليه السلام) والسماع منه... 88

ثالثاً: السماع من الحجة (عليه السلام) يعمّ السماع من الحجّة بالذات والحجة بالتبع... 90

رابعاً: الجمع بين الروايات الرادعة والروايات المعارضة... 91

خامساً: ترجيح الروايات المعارضة على الروايات الرادعة بالكتاب العزيز... 92

سادساً: تساقط الروايات الرادعة والروايات المعارضة... 95

سابعاً: الأدلّة الظنية لا تعارض الدليل القطعي... 98

المبحث الرابع: في أن الخوض في المقدمات العقلية لتحصيل العلم بالأحكام الشرعية مرغوب عنه... 100

الأمر الأول: في مفهوم الخوض في المقدمات العقلية... 100

الأمر الثاني: في أن الخوض المذكور مرغوب عنه شرعاً... 102

الأمر الثالث: في أن الخوض المذكور مرغوب عنه عقلاً... 108

الأمر الرابع: في الآثار المترتبة على كون الخوض المذكور مرغوباً عنه... 112

الأمر الخامس: في الخوض في الأمور العقلية لإدراك ما يتعلّق بأصول الدين... 112

ص: 438

المبحث الخامس: في ما يوهم ردع الشارع عن العمل بالقطع... 117

المورد الأول: درهما الودعي... 117

المورد الثاني: واجد المني في الثوب المشترك... 126

المورد الثالث: الإقراران المتعاقبان المتضادان... 129

البحث الأول: بحث مبنائي... 129

البحث الثاني: بحث بنائي... 131

المورد الرابع: في اختلاف المتبايعين في تعيين الثمن أو المثمن... 132

المورد الخامس: لو اختلف المتداعيان في سبب الانتقال... 134

فصل في العلم الإجمالي وفيه مباحث ثلاثة

المبحث الأول: في حقيقة العلم الإجمالي... 137

الإحتمال الأول... 137

الاحتمال الثاني... 142

الاحتمال الثالث... 148

وخلاصة المطلب... 151

المبحث الثاني: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي... 153

1- حرمة المخالفة القطعيّة... 153

2- وجوب الموافقة القطعية... 153

الأول: هل العقل يفرّق بين العلم التفصيلي والإجمالي في تنجيز التكليف أو لا؟... 155

الثاني: هل يمكن للشارع الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي أو لا؟... 158

وخلاصة الكلام... 185

الثالث: هل وقع الترخيص الظاهري في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي أو لا؟... 187

وقد أُجيب عن ذلك بوجوه... 188

الوجه الأول: محذور المناقضة بين الصدر والذيل... 188

الإيراد الأول: إجمال الأدلّة المغيّاة لايسري إلى غير المغيّاة... 189

الإيراد الثاني: لا مناقضة بين الصدر والذيل في الأدلّة المغيّاة... 192

الإيراد الثالث: وقوع المناقضة في كلمات الشيخ في الإلتزام بقضية المناقضة... 200

ص: 439

الإيراد الرابع: دلالة كلمة (بعينه) على أنّ المراد من الذيل خصوص العلم التفصيلي... 203

الإيراد الخامس: القدر المتيقّن هو العلم التفصيلي... 206

الإيراد السادس: الإنصراف إلى العلم التفصيلي... 206

الإيراد السابع: ظهور العلم المأخوذ في الغاية في خصوص ما يكون منافياً للشكّ 207

الإيراد الثامن: لازم المناقضة: عدم جريان الأُصول في صورة عدم تنجيز العلم الإجمالي... 208

الوجه الثاني: الانصراف إلى الشبهات البدوية... 210

الوجه الثالث: ظهور التمثيل في تحديد الكبرى... 210

الوجه الرابع: عدم ترخيص الشارع في الاقتحام في بعض الصغريات الفقهية 211

الوجه الخامس: قرينية سائر الروايات... 214

الوجه السادس: الترخيص في الاقتحام ترخيص في المعصية عرفاً وتفويت للملاكات الواقعية الملزمة... 216

الوجه السابع: وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب... 218

الوجه الثامن: فهم المشهور... 218

الوجه التاسع: عدم انطباق الضابطة على الأمثلة المذكورة... 220

المبحث الثالث: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي... 222

المقام الأول: في كفاية الامتثال الإجمالي مع تمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي... 222

القسم الأول: الامتثال الإجمالي في الأمور التوصلية التي لا تتوقف على قصد الإنشاء... 223

البحث الأول: في الحكم الوضعي... 223

البحث الثاني: في الحكم التكليفي... 223

القسم الثاني: الإمتثال الإجمالي في الأمور التوصلية المتوقفة على قصد الإنشاء... 224

القسم الثالث: الأمور التعبّدية التي يتوقف الإمتثال الإجمالي فيها على التكرار 227

1- الإخلال بالوجه... 228

ويرد عليه... 228

أولاً: لا إخلال بالوجه بوجهٍ... 228

ثانياً: أنّه لادليل على اعتبار قصد الوجه... 230

ص: 440

الدليل الأول لاعتبار قصد الوجه: قصد العناوين المحسّنة موقوف على قصد الوجه... 230

الدليل الثاني: لاعتبار قصد الوجه... 233

الدليل الثالث: لاعتبار قصد الوجه قاعدة الاشتغال... 234

الدليل الرابع: لإعتبار قصد الوجه الإجماع... 235

2- الإخلال بالتمييز... 236

تذييل... 238

3- التكرار عبث ولعب بأمر المولى... 240

4- مرتبة الإمتثال التفصيلي متقدّمة- عقلاً- على مرتبة الإمتثال الإجمالي... 245

5- التكرار مستلزم لعدم تمحّض العمل العبادي في الداعي القربي... 253

6- التكرار أجنبي عن سيرة المتشرّعة... 257

7- الإحتياط تشريع محّرم... 259

القسم الرابع: الأُمور التعبّدية التي لا يتوقّف الامتثال الإجمالي فيها على التكرار... 260

أمّا المقام الأوّل... 260

المقام الثاني... 269

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الامتثال الإجمالي القطعي والامتثال التفصيلي الظنّي... 277

المبحث الأوّل... 278

تذييلات... 280

المبحث الثاني... 286

المقام الثالث: في كفاية الامتثال الإجمالي مع عدم تمكّن المكلّف من الإمتثال التفصيلي 287

المقصد الثاني: الأمارات

مقدّمة... 291

المبحث الأوّل: في عدم إقتضاء الظنّ الحجّية بذاته... 291

المقام الأوّل: في عدم إقتضاء الظنّ للحجّية في مرحلة إثبات التكليف... 291

أمّا النحو الأوّل... 292

وأمّا النحو الثاني: أي الاقتضاء بالمعنى الأخصّ... 292

أدلّة المشهور على عدم الاقتضاء... 292

ص: 441

1- حكم العقل... 293

2- بناء العقلاء... 293

3- انتفاء الخلاف بين المتشرّعة... 294

مناقشة الوالد6 في مبنى المشهور... 295

مناقشتان... 297

المقام الثاني: في عدم اقتضاء الظنّ للحجّية في مرحلة إسقاط التكليف... 302

الوجوه المحتملة للمخالفة... 302

وهذه الوجوه لا تخلو من نظر... 303

الوجه الأوّل: عدم لزوم دفع الضرر المحتمل... 303

1- إقتضاء ذلك لكفاية مطلق الإمتثال الإحتمالي... 303

2- لا صغرى للقاعدة في المقام... 304

3- الخلاف في الأضرار الدنيوية لا الأُخروية... 305

4- الخلاف في الأضرار اليسيرة لا الخطيرة... 306

5- إناطة لزوم الطاعة بموضوع الضرر غير واضحة... 306

الوجه الثاني: بناء العقلاء على الاكتفاء بالظنّ في باب السقوط... 307

مناقشتان... 308

الوجه الثالث: انسداد باب العلم غالباً في باب الفراغ... 308

مناقشتان... 308

المبحث الثاني: في إمكان التعبّد بالأمارات الظنّية... 310

معاني الإمكان... 310

1- الإمكان الذاتي... 310

2- الإمكان الوقوعي... 311

3- الإمكان الإحتمالي... 311

ما هو محل النزاع من معاني الإمكان؟... 313

المقام الأوّل: مقتضى الأصل عند الشكّ في الإمكان... 315

أصالة الإمكان عند الشيخ الأعظم... 315

الإيرادات الثلاثة لصاحب الكفاية... 316

ص: 442

المناقشة في الإيرادات الثلاثة... 317

إيراد المحقّق النائيني على أصالة الإمكان... 320

معنى آخر ل- (أصالة الإمكان)... 322

تذنيبان... 324

المقام الثاني: المحاذير التي قد تورد على القول بالإمكان... 325

التقرير الأوّل: التقرير الثلاثي... 325

التقرير الثاني: التقرير الرباعي... 327

التقرير الثالث: التقرير الثنائي... 328

الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري... 329

المحذور الأوّل: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة... 329

أقسام الخير والشرّ... 330

في التعبّد بالأمارات الظنّية خير كثير... 332

تذنبيان... 334

التذنيب الأوّل: تصوير الخير الكثير على المباني المختلفة في حجّية الأمارات... 334

التذنيب الثاني: هل يجب كون المصلحة غالبة؟... 335

المحذور الثاني: اجتماع المثلين أو الضدّين أو التصويب... 337

المحذور الثالث: طلب الضدّين... 337

الوجه الأوّل: الحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية... 337

ماهية المجعول في باب الأمارات الظنّية... 337

القول الأوّل: المجعول صرف الحجّية... 337

القول الثاني... 340

القول الثالث... 340

النتيجة... 341

البحث البنائي... 342

البحث المبنائي... 343

الافتراض الأوّل: اعتبار المنجّزية للواقع والمعذّرية عنه... 343

الافتراض الثاني: إعتبار العلمية والطريقية إلى الواقع... 346

ص: 443

الافتراض الثالث: إعتبار نفس مفهوم الحجّية... 347

الوجه الثاني: اختلاف الحكمين بكون أحدهما حقيقياً والآخر طريقياً... 348

التأمّل في الوجه الثاني... 351

الوجه الثالث: إنكار وجود مبادئ للحكم الواقعي... 353

إشكالات على الوجه الثالث... 354

1- استلزام ذلك لعدم فعلية الحكم الواقعي... 354

2- استلزامه لوجود حكم بلا مبادئ... 356

3- استلزام للتصويب... 356

4- إشكال النهاية على الوجه الثالث... 356

5- استلزام ذلك للدور... 360

الوجه الرابع: الحكم الواقعي إنشائي محض... 361

الوجه الخامس: جواب النهاية... 362

المقام الأوّل... 362

ويرد عليه المناقشة الكبروية... 363

والمناقشة الصغروية... 364

الإشكال في الإرادة التكوينية المتعلّقة بنفس البعث والزجر... 365

عدم تكفّل الجواب بحلّ المحذور في مرحلة المصلحة والمفسدة... 366

المقام الثاني... 366

تفريعان... 368

توضيحان... 369

مناقشتان... 370

الأُولى: الحكم اعتبار لا يؤخذ في صحته إمكان الانبعاث... 370

الثانية: إمكان الداعوية ولو في صورة الجهل... 372

الوجه السادس: تعدّد الرتبة... 373

وهذا الوجه يرد عليه... 374

1- جواب الكفاية... 374

2 - ملاك الاجتماع المحال في باب المثلين أو الضدين... 376

ص: 444

3 - النقض بأخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه... 378

4- ما قيل من أنّ تأخّر الشكّ عن الحكم ممنوع... 379

الوجه السابع: اختلاف الموضوع... 379

والخلاصة... 381

ويرد عليه... 382

المناقشة في امتناع أخذ ما يأتي من قبل الحكم في موضوعه... 382

المناقشة في تأخّر الشكّ عن المشكوك... 382

المناقشة في إعتبار التجرّد في الموضوع... 383

هذا وفي المقام إشكالان... 386

الإشكال الأوّل... 386

الإشكال الثاني... 387

[المناقشة في لحاظ تجرّد الموضوع]... 388

الوجه الثامن: لا محذور في المراحل الثلاث... 389

الوجه التاسع: الأحكام الظاهرية أحكام إرشادية... 394

الانسداد الشرعي كالعقلي... 394

التأمّل في الجواب... 396

الوجه العاشر: ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في المقام... 397

المبحث الأوّل: موارد الأمارات والطرق... 398

أوّلا: إمكان أن يكون المجعول في باب الأمارات والطرق نفس الطريقية... 398

ثانياً: وقوع ذلك... 399

ثالثاً: النتيجة... 399

مناقشات... 400

1- ليس في الأدلّة عين ولا أثر من مسألة جعل الطريقية... 400

2- عدم وفاء الجواب بدفع الإشكال في مرحلة المبدأ والمنتهى... 401

3 - الطريقية ممّا لا تنالها يد الجعل التشريعي... 402

4- وجود طرق تأسيسية شرعية... 404

المبحث الثاني: موارد الأُصول التنزيلية... 406

ص: 445

ما هو المجعول في موارد الأُصول التنزيلية؟... 407

احتمالات ومناقشات... 407

المبحث الثالث: موارد الأُصول غير التنزيلية... 408

البحث الكبروي... 409

التأمّل في البحث الكبروي... 410

البحث الصغروي... 411

الأحكام الواقعية غير قابلة للمحرّكية في ظرف الجهل... 413

أربعة بيانات لتوجيه عدم التضادّ بين الحكمين... 414

مناقشات... 416

1- ملاك التضادّ والمعية الوجودية... 416

2- التفرّع إنّما يتّم في صورة كون الحكم الواقعي هو الوجوب... 417

3- إنكار وجوب الاحتياط -عند المخالفة- يستلزم إنكار منجّزية وجوب الاحتياط... 418

4- إمكان داعوية الحكم الواقعي في ظرف الجهل... 420

5 - تقييد أدلّة الاحتياط بخصوص صورة المصادفة خلاف إطلاق الأدلّة... 420

6- ما يكون في عرض المتأخّر لا يجب كونه متأخّراً... 422

الوجه الحادي عشر: تعدّد حيثيات الوجود بلحاظ تعدّد المقدّمات... 423

توضيح... 427

الوجه الثاني عشر: إنكار وجود مبادئ للحكم الظاهري في متعلّقه... 428

المناقشة في الوجه الثاني عشر... 433

الأوّل... 433

الثاني... 434

الثالث... 434

فهرس المحتويات... 437

ص: 446

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.