موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء الأول) المجلد 4

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(4)

تبيين الأصول

الجزء الأول

تأليف : آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه: الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر: قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری: 21ج.

شابك: دوره: 8-270-204-964-978

ج4: 6-274-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی: فيپا

يادداشت: عربي

مندرجات: ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع: اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره: 1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی: 297/312

شماره كتابشناسی ملی: 4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

----------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج4: 6-274-204-964-978

----------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

القسم الثاني : مباحث الحجج والأصول العمليّة

اشارة

ص: 5

ص: 6

المقصد الأوّل : في مباحث الحجج

اشارة

ص: 7

ص: 8

مقدمة

جرت عادة المتأخرين من الأصولييّن - في بداية مباحث الحجج والأصول العمليّة- على تقسيم حالات المكلّف تجاه الحكم الشرعي حين التفاته إليه إلى ثلاثة أقسام(1).

وفي المقام مباحث متعددة، نقتصر منها على مبحثين:

المبحث الأول: في تقسيم حالات المكلّف حين التفاته إلى الحكم الشرعي.

المبحث الثاني: في شمول المقسم لغير المجتهد.

ص: 9


1- قيّد الالتفات إلى الحكم ليس باعتبار أخذه فيه؛ لما تقرّر في محلّه من اشتراك الأحكام، بل باعتبار تفرّع حصول الحالات الثلاثة عليه (منه (رحمه اللّه) ).

المبحث الأول : في تقسيم حالات المكلّف حين التفاته إلى الحكم الشرعي

اشارة

ونذكر فيما يلي جملة من التقسيمات التي ذكرها الأعلام في المقام، وهي كالتالي:

1- التقسيم الثلاثي، للشيخ الأعظم.

2- التقسيم الثنائي، للمحقق الخراساني.

3- التقسيم الثلاثي، للمحقق الخراساني أيضاً.

4- تقسيم المحقق الأصفهاني.

5- تقسيم السيد البروجردي.

6- التقسيم الرباعي، لبعض الأعلام.

7- التقسيم الخماسي.

1) التقسيم الثلاثي للشيخ الأعظم
اشارة

قال (رحمه اللّه) : «اعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكمٍ شرعي فإمّا أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن، فإن حصل له الشك فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل، وتسمّى بالأصول العمليّة»(1).

ثمّ جعل كتابه مشتملاً على ثلاثة مقاصد:

ص: 10


1- فرائد الأصول 1: 25.

الأوّل في القطع.

والثاني في الظنّ.

والثالث في الأصول العمليّة التي هي المرجع عند الشك.

إشكالات على تقسيم الشيخ الأعظم
اشارة

وقد أُشكل على هذا التقسيم بإشكالات:

1- التعميم في مورد التخصيص(1).

2- التخصيص في مورد التعميم.

3- تداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام.

4- عدم صحة التقابل بين الظنّ والشكّ.

5- جعل ما ليس بموضوع موضوعاً للأحكام.

ونستعرض هذه الإشكالات تباعاً بإذن اللّه تعالى.

1- التعميم في مورد التخصيص

وقد ذُكر هذا الإشكال في الكفاية، حيث أشكل على إطلاق «الحكم» في كلام الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) وقيّده في تقسيمه بإضافة نعت «الفعلي» إليه.

فقال: «اعلم أنّ البالغ الذي وُضِع عليه القلم إذا التفت إلى حكمٍ فعلي...»(2).

وعليه يكون المقسم هو خصوص (مَن التفت إلى الحكم الفعلي) وأمّا

ص: 11


1- المقصود من كلمة «التعميم» و«التخصيص» في خصوص المقام: ما يشمل الإطلاق والتقييد (منه (رحمه اللّه) ).
2- كفاية الأصول: 257.

(من التفت إلى الحكم غير الفعلي) فهو غير ملحوظ فيه.

وقد ُوجّه ذلك باختصاص أحكام القطع بما إذا كان متعلّقاً بالحكم الفعلي دون غيره - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

أقول: ورود هذا الإشكال أو عدم وروده متوقّف على تفسير كلمة «الفعلي»، إذ أنّها في حدّ ذاتها وبما هي هي تحتمل تفسيرين وإن كان الثاني منهما أقرب إلى مساق كلام الكفاية.

التفسير الأول للحكم الفعلي

أن يكون المراد بالحكم الفعلي: الحكم الذي وجد موضوعه في الخارج كوجوب الحجّ حين وجود «المكلّف المستطيع» في الخارج، فإنّ هذا الوجوب يكون فعليّاً حينئذٍ بسبب وجود موضوعه في الخارج، ومن هنا قيل: «إنّ فعليّة الحكم منوطة بفعليّة موضوعه».

وفي قبال الحكم الفعلي - بهذا المعنى- الحكم الذي لم يوجد موضوعه في الخارج، بعد تحقّق إنشائه من قبل المولى بداعي البعث أو الزجر(1)(2).

ومنشأ التخصيص بالفعلي بهذا المعنى - لو فرضت إرادة صاحب الكفاية له- اختصاص أحكام القطع - وكذا أحكام الظنّ والشكّ- بالقطع به دون غيره.

ص: 12


1- سيأتي - إن شاء اللّه تعالى- إنّ داعي إنشاء الحكم الحقيقي لا ينحصر في داعي البعث والزجر، فلاحظ وتأمل (منه (رحمه اللّه) )
2- وعليه: فيكون المقسم للفعلي - بهذا المعنى- الحكم المنشأ من قبل المولى بداعي البعث والزجر كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97)، فإنه تارة يكون موضوعه متحققاً في الخارج وأخرى لا يكون متحققاً فيه (منه (رحمه اللّه) ).

فمن قطع بوجوب دفع شاة على من ملك أربعين شاةً، مع كونه غير مالك لها بالفعل، لا يترتّب على قطعه شيء.

ومن قطع بوجوب الحجّ على المستطيع، وهو غير مستطيع، لا يترتّب على قطعه بذلك شيء.

ومن قطع بوجوب النفقة على الزوجة وهو غير متزوج لا يجب عليه شيء، إلى غير ذلك من الأمثلة، ومثل القطع في ذلك الظن والشك.

تأملان في التخصيص على التفسير الأول

هذا ولكن الظاهر أنّ التخصيص ب«الفعلي» بهذا المعنى لا يخلو من نظر وذلك من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ هذا الإشكال يبتني على القول بأن الأحكام الشرعيّة مجعولة على نحو «الاشتراط» كما هو مبنى صاحب الكفاية.

أمّا بناءً على أنّ الأحكام الشرعيّة مجعولة على نحو «التعليق» - كما هو المنسوب للشيخ الأعظم واختاره بعض المعاصرين- فلا يبقى موضوع لهذا الإشكال.

إذ عليه تكون الأحكام الشرعيّة فعليّة دائماً، ويكون «الحكم» مساوقاً ل«الفعلية» إثباتاً ونفياً، بمعنى أنّه كلّما كان هنالك حكم كانت فعليّة، وكلّما لم تكن فعليّة لم يكن حكم، وعليه: فلا حاجة إلى تقييد «الحكم» ب«الفعلي»؛ إذ يكون تقييداً بعرضٍ لازم وهو غير لازم.

وأثر فعليّة الوجوب - مثلاً- في «الواجب المعلّق» مع كون الواجب استقبالياً هو وجوب التحرّك نحو مقدماته التي لم تؤخذ في الموضوع

ص: 13

بوجودها الاتفاقي، ولو عقلاً.

إلى غير ذلك من آثار فعليّة الأحكام التعليقيّة، إلاَّ إنّ هذا الإشكال على صاحب الكفاية مبنائي، كما أن إشكاله على الشيخ الأعظم مبنائي أيضاً، فيكون إشكاله على الشيخ الأعظم وارداً على مبناه - أي الاشتراط- لا على مبنى الشيخ الأعظم - أي التعليق- فتأمل.

الجهة الثانية: إنّ هنالك أثراً مهمّاً على القطع بالحكم غير الفعلي - بمعنى ما لم يتحقّق موضوعه في الخارج- بعد إنشائه من قبل المولى بداعي البعث والزجر، وهو جواز الإفتاء به، فإنّ المجتهد إذا علم بصدور الحكم من المولى له الإفتاء به، وإن لم يبلغ مرتبة الفعليّة، لا بالنسبة إلى نفسه، ولا بالنسبة إلى غيره(1)، فيفتي بوجوب الحج على المستطيع وإن لم يكن المستطيع موجوداً في الخارج، ويفتي بوجوب الصوم في شهر رمضان وإن لم يهلّ هلال الشهر بعد، وهكذا.

وبالجملة: وظيفة المجتهد هي بيان الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة على الموضوع المقدّر وجوده بنحو القضية الحقيقيّة بلا فرق بين أن يكون الموضوع محقّقاً في الخارج أو لا - مضافاً إلى وظائفه الأخرى المذكورة في محلّها.

والخلاصة: إنّ القطع بالحكم غير الفعلي وإن فرض أنّه ليس له أثر

ص: 14


1- لا يخفى أنّ فعليّة الحكم تلحظ بالنسبة إلى كل مكلّف بنفسه، ولكن توجد في المجتهد خصوصيّة توجب لحاظ الغير معه - أي من يقلّده- وسيأتي في المبحث الثاني من هذه المقدّمة الكلام في تحليل مهيّة هذه الخصوصيّة إن شاء اللّه تعالى (منه (رحمه اللّه) ).

بالنسبة إلى مقام العمل، إلاَّ أنّ له أثراً بالنسبة إلى مقام الإفتاء.

وبعبارة أخرى: جواز الإفتاء حكم فعلي، مرتّب على القطع بالحكم غير الفعلي، كترتبه على القطع بالحكم الفعلي، وكفى بذلك أثراً.

ويوضّح ذلك: أنّ المقصود الأصلي في المقام ليس هو الجري العملي، بل بيان نحو مرجعيّة الحجج والأصول العمليّة وكيّفيّة إعمالها للمجتهد مطلقاً، فعلم الأصول كما يتكفل بيان كيفيّة حركة المجتهد عند استنباطه للأحكام الفعليّة التي تحقّق موضوعها في الخارج بتمام ما له من القيود، كذلك يتكفل بيان كيفيّة حركته عند استنباطه للأحكام التي لم يتحقق موضوعها بعد في الخارج، فلا فرق يبن القطع بالأحكام الفعليّة وغيرها بلحاظ الغرض الذي من أجله دوّن علم الأصول، وبلحاظ الآثار التي تترتب على القطع بالحكم.

ثمّ إنّه إذا كان هذا الأثر مختصّاً بالمجتهد، فهنالك أثر آخر لا يختصّ به، وهو «حرمة الإنكار»؛ إذ يحرم إنكار أحكام اللّه تعالى سواء كان موضوعها محقّقاً في الخارج أو لا.

ونحو ذلك «جواز الإخبار» فيما لو كانت القضيّة من الضروريات، أو اليقينيّات، أو قامت عليها الحجّة.

كما أنّ من الآثار المشتركة «وجوب الموافقة الالتزاميّة» على القول بذلك، كما هو مبنى جمع من الأصولييّن(1).

ص: 15


1- منهم السيد الوالد مُدّ ظله في الأصول: 598.

ثمّ إنّه قد يضاف إلى ما تقدّم: إمكان وقوع الحكم غير الفعلي ضمن مقدّمات قياس ينتج حكماً فعلياً، فيكون القطع به واقعاً في سلسلة العلل الوجوديّة - أو في سلسلة المعدّات- للقطع به، مثلاً: التفات غير المستطيع إلى وجوب الحجّ على المستطيع ينتج الحكم بفسق المستطيع الذي لم يحجّ، وترتيب آثار الفسق على تركه - مثل عدم جواز الائتمام به في الصلاة- فيكون التفاته إلى الحكم غير الفعلي بالنسبة إليه جزء العلّة في إثبات الحكم الفعلي بالنسبة إليه، فتأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى التفسير الأوّل للحكم الفعلي.

التفسير الثاني للحكم الفعلي

أمّا التفسير الثاني فهو أن يكون المراد ب(الحكم الفعلي) الحكم الذي وصل إلى مرتبة البعث والزجر، في قبال الحكم الإنشائي والاقتضائي.

ووجه التخصيص بالفعلي بهذا المعنى - لوكان هو مراد صاحب الكفايّة كما لعله الظاهر: ما ذكره بقوله: «وخصّصنا بالفعلي لاختصاصها - أي أحكام القطع- بما إذا كان متعلّقاً به- أي بالحكم الفعلي»(1).

فمن قطع - في بداية البعثة النبويّة الشريفة- باقتضاء الخمر للحرمة - باعتبار الخباثة الكامنة فيها- لم يحرم عليه شرب الخمر، وكذا لو قطع بحرمتها الإنشائيّة.

تأملان في التخصيص على التفسير الثاني

ص: 16


1- كفاية الأصول: 257.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ عمدة آثار القطع - كوجوب الموافقة عقلاً، وحرمة المخالفة كذلك، وحكم التجرّي- وإن كانت منوطة بالقطع بالحكم الفعلي إلاَّ إن بعض آثار القطع الأخرى تترتّب على القطع المتعلّق بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي، مثل أنّ موافقته ربما توجب استحقاق المثوبة، كما اعترف به صاحب الكفاية، حيث قال:

«ثمّ لا يذهب عليك أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعلياً، وما لم يصر فعلياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة(1).

وقد علّل السيّد الوالد مُدّ ظله ذلك بانطباق عنوان الانقياد عليه(2).

فما يظهر منه في المقام من نفي جميع الآثار عن القطع بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي لا يخلو من نظر.

وثانياً: إنّ «الحكم» مساوق ل«مرتبة الفعليّة»، والحكم قبل تلك المرتبة - بل وبعدها- ليس بحكم، على ما قرر في محلّه.

وقد صرّح صاحب الكفاية بنفسه بأنّ الحكم ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لا يكون أمراً ولا نهياً.

قال في ذيل كلامه المتقدّم: «وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي، ولا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان ممّا

ص: 17


1- كفاية الأصول: 258.
2- الوصول 3: 287.

سكت اللّه عنه كما في الخبر، فلاحظ وتدبر»(1).

وكيف يكون حكماً ما ليس بأمر ولا نهي - كما أنّه ليس بإباحة- مع أنّ انتفاء الأصناف ملازم لانتفاء النوع وانتفاء الأنواع ملازم لانتفاء الجنس؟!

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّ تقييد صاحب الكفاية «الحكم الملتفت إليه» بكونه «فعلياً» لا وجه له، إن أُريد به المعنى الأول للفعليّة، ومستغنىً عنه إن أُريد به المعنى الثاني للفعليّة، بل لا وجه له على هذا التقدير أيضاً ولو في الجملة، على ما مضى قريباً، فلاحظ.

وبناءً على ذلك: فالإشكال الأول على تقسيم الشيخ الأعظم غير وارد.

2- التخصيص في مورد التعميم

وقد ذكر هذا الإشكال أيضاً صاحب الكفايّة.

قال: «وإنّما عمّمنا متعلّق القطع لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيّة»(2).

توضيح ذلك: أنّ الشيخ خصّص متعلّق القطع ب«الحكم الواقعي» - كما هو ظاهر تقسيمه.

مع أنّ الآثار التي تترتّب على القطع بالحكم الواقعي - ممّا هي محل الكلام في المقام(3)- تترتّب بعينها على القطع بالحكم الظاهري.

وعليه ينبغي تعميم متعلّق القطع، وتوحيد الأقسام الثلاثة.

ص: 18


1- كفاية الأصول: 258.
2- كفاية الأصول: 257.
3- القيد لإخراج ما ليس محل الكلام فيه كالإجزاء مثلاً (منه (رحمه اللّه) ).

بيان ذلك: أنّنا نفرض وجود ثلاثة مكلّفين:

1- التفت المكلّف الأول إلى حكم المرأة المتوفى عنها زوجها وقطع قطعاً وجدانيّاً بكون عدّة هذه المرأة أربعة أشهر وعشراً.

فهذا قاطع بالحكم الشرعي الواقعي.

2- والتفت المكلّف الثاني إلى حكم العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه، فبحث في الأدلّة الشرعيّة، فعثر على أمارة معتبرة تدلّ على الحرمة - كخبر الثقة مثلاً.

فهذا أيضاً قاطع بالحكم الشرعي؛ إذ الحرمة مفاد خبر الثقة، وقد أمرنا الشارع في الأدلّة القطعيّة بالأخذ بخبر الثقة، نحو قوله (عليه السلام) :«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا»(1).

منتهى الأمر: أنّه قاطع بالحكم الشرعي الظاهري لا الواقعي.

3- والتفت المكلّف الثالث إلى حكم الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه أو بتصفيق الرياح أو بوقوع أجسام طاهرة تزيل عنه التغيّر، فشك في بقاء النجاسة، ولم يعثر على دليل قطعي يدلّ على النجاسة أو الطهارة، ولا على أمارة معتبرة، فاعتمد على أصل عملي وهو الاستصحاب- مثلاً.

فهذا أيضاً قاطع بالحكم الشرعي؛ إذ الشارع هو الذي أمر بعدم نقض اليقين بالشكّ، وقال: «لا تنقض اليقين بالشك»(2)، منتهى الأمر أنّه قاطع بالحكم الشرعي الظاهري لا الواقعي.

ص: 19


1- وسائل الشيعة 1: 27.
2- تهذيب الأحكام 1: 8.

وليس هناك فرق فارق بين الحالات الثلاث.

إذ أثر القطع بالحكم هو: وجوب الموافقة عقلاً، وحرمة المخالفة كذلك، إلى غير ذلك من أحكام القطع(1).

وهذه الآثار كما تترتّب على القطع بالحكم الواقعي كذلك تترتّب على القطع بالحكم الظاهري.

وحيث كانت الآثار مشتركة بين القطع بالحكم الواقعي والقطع بالحكم الظاهري، فلا وجه لجعل متعلّق القطع خصوص الحكم الواقعي وتقسيم المكلّف إلى قاطع بالحكم الواقعي وظانّ به وشاكّ فيه، إذ يكون التقسيم حينئذٍ لغواً؛ لعدم ترتّب أثر عملي عليه.

مثلاً: تقسيم المرأة الحائض إلى قرشيّة ونبطيّة وغيرهما متين؛ لاختلاف الحكم فيما بين الأقسام.

أما تقسيم المصلّي إلى أسود وأبيض فهو لغوٌ؛ إذ لا يختلف حكم المصلّي الأسود عن حكم المصلّي الأبيض.

والخلاصة: أنّه لا وجه لتقسيم الشيخ المكلّف إلى قاطع بالحكم الواقعي وظان به وشاكّ فيه لكون الكل(2) قاطعاً بالحكم بمعناه الأعم، وعدم اختلاف حكم الأقسام فيما يُذكر للقطع من الأحكام.

وعلى ذلك يبتني التقسيم الثنائي لصاحب الكفاية، كما سيجيء إن شاء اللّه.

ص: 20


1- مثل حرمة التجرّي - على القول بها- (منه (رحمه اللّه) ).
2- حتى الظانّ والشاكّ في صورة العثور على الأمارات المعتبرة أو جريان الأصول العمليّة الشرعيّة (منه (رحمه اللّه) ).
مناقشات

ويرد على ذلك أمور:

الأول: أنّ هناك لحاظين:

أحدهما: لحاظ المكلّف قبل استفراغه الوسع في تحصيل الأدلّة المتكفّلة لبيان الحكم الشرعي.

وثانيهما: لحاظه بعده.

فباللحاظ الأول: يكون تارة قاطعاً بالحكم الشرعي الواقعي، وأخرى ظانّاً به، وثالثةً شاكّا فيه.

وباللحاظ الثاني: يكون قاطعاً بالحكم بمعناه الأعم من الواقعي والظاهري.

وهذان اللحاظان وإن كانا صحيحين في حدّ ذاتهما، إلاَّ أنه ينبغي ملاحظة الغرض الذي من أجله دوّنت مباحث الحجج والأصول العمليّة، وهو بيان نحو مرجعيتها، وكيفية إعمالها من قبل المجتهد وهذا أوفق بتقسيم الشيخ الأعظم؛ إذ بيّن فيه أنّ المكلّف إن قطع بالحكم الواقعي كان حجّة عليه.

وإن حصل له الظنّ به: كان المرجع الأمارات المعتبرة.

وإن حصل له الشكّ فيه: كان المرجع الأصول العمليّة.

وعلى هذا التقسيم: تحفظ الطوليّة فيما بين القطع والأمارات والأصول العمليّة(1).

ص: 21


1- وأمّا إشكال التداخل بين الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام فسوف يأتي التعرض له إن شاء اللّه تعالى (منه (رحمه اللّه) ).

أمّا تقسيم الكفاية الثنائي: فلا يتكفّل بيان نحو مرجعيّة الحجج والأصول العمليّة، كما لا تحفظ فيه الطوليّة فيما بينها؛ إذ تندرج كلّها تحت عنوان «القطع بالحكم الشرعي».

والأول: أقرب من الناحية الفنية، فتأمل.

الثاني: إنه مبني على ثبوت «الأحكام الظاهريّة» في موارد الأمارات، وأنّ للشارع حكمين: حكماً واقعياً وحكماً ظاهرياً، وأنّ مفاد الأمارة الموافقة: الحكم الواقعي ومفاد الأمارة المخالفة الحكم الظاهري.

وهذا المبنى محل تأمّل؛ إذ قد يقال بأنّ الأمارات الشرعيّة كالأمارات العقلائيّة والعقلاء يعملون بالأمارات باعتبار أنها طرق إلى الواقع، فإن صادفت الواقع تكون منجزة له، وإلاّ كانت معذّرة عنه لا باعتبار كون مؤدياتها أحكاماً ظاهريّة.

وقد أنكر صاحب الكفاية وجود الأحكام الظاهريّة في موارد الطرق والأمارات(1).

وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى مبحث الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.

وعلى ذلك يخرج العلم بمؤديات الأمارات المعتبرة عن موضوع «القطع بالحكم بمعناه الأعم» وتكون وظيفة المكلّف عند قيام الأمارة المعتبرة - على تقسيم صاحب الكفاية الثنائي الآتي- الرجوع إلى الظنّ أو الأصول

ص: 22


1- كفاية الأصول: 277.

العقليّة؛ إذ ليس في موردها قطع بالحكم الواقعي عادة، وهو ظاهر، ولا قطع بالحكم الظاهري لإنكار صاحب الكفاية وجود الأحكام الظاهريّة في مورد الطرق والأمارات.

مثلاً: لو قطع المكلّف بحرمة شرب الخمر واقعاً، دخل ذلك في القطع بالحكم الواقعي.

ولو قطع بإباحة التتن - اعتماداً على أصالة الإباحة الشرعيّة- دخل ذلك في القطع بالحكم الظاهري.

أمّا لو قامت الأمارة المعتبرة - كخبر الثقة- على حرمة العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ولم يحصل للمجتهد القطع الوجداني بالحكم الواقعي، فهنا لا قطع بالحكم الواقعي؛ لأنّه المفروض، ولا قطع بالحكم الظاهري؛ لعدم وجود الأحكام الظاهريّة في مورد الطرق والأمارات، على ما هو مبنى صاحب الكفاية، فيخرج المورد عن موضوع القطع بالحكم ويدخل على تقسيم الكفاية في باب الرجوع إلى الظن أو الأصول العقليّة، وهو خلاف الواقع، فتدبّر.

اللّهمّ إلاَّ أن يقال: إنّ إلغاء الشارع لاحتمال الخلاف في الأمارة المعتبرة، وأمره بتصديق العادل، ونهيه عن التشكيك فيما روى عنهم (عليهم السلام) ثقاتهم ونحو ذلك يدلّ على تنزيل «مؤدّى الأمارة» منزلة «الحكم الواقعي» فيكون هنالك نوعان من الحكم الواقعي: الحكم الواقعي الحقيقي، والحكم الواقعي التنزيلي.

وعلى هذا يندرج مفاد الأمارة المعتبرة في «الحكم الواقعي»، ويكون

ص: 23

المكلّف الملتفت إلى ذلك قاطعاً بالحكم الواقعي.

إلاَّ أنّ ذلك لا يخلو - كما ترى- من تكلّف.

الثالث: ما سيجيء إن شاء اللّه تعالى من ورود نظير هذا الإشكال على التقسيم الثنائي لصاحب الكفاية، فلاحظ.

3- تداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام

وهذا الإشكال ذكره صاحب الكفاية أيضاً(1).

بيانه: أنّه بناءً على التقسيم الثلاثي للشيخ يلزم تداخل موارد الأمارات والأصول العمليّة بحسب الحكم؛ وذلك لأنّ الشيخ جعل مدار الرجوع إلى الأمارات هو الظنّ، ومدار الرجوع إلى الأصول العمليّة هو الشكّ، مع أنّه ليس الأمر كذلك، فقد يكون المكلّف شاكّاً في الحكم ولكن قام لديه عليه دليل معتبر - كخبر الثقة مثلاً- فيتعين عليه الأخذ به ولا يجري في حقّه الأصل، كما أنّه لو كان ظانّاً بالحكم بظنّ غير معتبر - كالظنّ القياسي مثلاً- لا يحقّ له الأخذ به، ويجري في حقّه الأصل.

والحاصل: أنّه لو كانت - في صورة انتفاء القطع- حجّة كانت المرجع، سواء كانت الحالة الوجدانيّة للمكلّف الظنّ أو الشكّ، ولو لم تكن حجّة كان المرجع الأصول العمليّة، سواء كانت الحالة الوجدانيّة له الظنّ أو الشكّ، بينما يلزم على تقسيم الشيخ أن تكون بعض موارد جريان الحجج محكومة بالأصول العمليّة، وبعض موارد جريان الأصول العمليّة محكومة

ص: 24


1- كفاية الأصول: 258.

بالظنون غير المعتبرة، وهذا هو التداخل.

4- عدم صحّة التقابل بين الظنّ والشكّ

توضيح ذلك:

1- إنّ الملاك في حجّيّة الأمارات: الظنّ النوعي لا الظنّ الشخصي، فقد لا يحصل للمكلّف الظنّ الشخصي من خبر ثقة، ومع ذلك يكون حجّة عليه.

2- إنّ الظنّ النوعي يمكن اجتماعه مع الشكّ الشخصي، وما لا يمكن اجتماعهما هو الظنّ النوعي مع الشكّ النوعي.

وعليه يرد الإشكال بأنّه لا مقابلة حقيقة بين (الظنّ) و(الشكّ) في التقسيم الثلاثي للشيخ؛ لإمكان اجتماع الظنّ النوعي مع الشكّ الشخصي، فيما لو شك بمطابقة أمارة معتبرة للواقع، مع أنّه يلزم في العناوين المتقابلة التي تحمل عليها أحكام مختلفة أن تكون مسوقة على نحو المنفصلة الحقيقيّة أو مانعة الجمع.

5- جعل ما ليس بموضوع موضوعا

إذ الشكّ ليس موضوعاً للأحكام بعنوانه، بل الموضوع (عدم الحجّة)، كما أنّ الظنّ ليس موضوعاً للأحكام بعنوانه، بل الموضوع هو (الحجّة)، فيلزم على تقسيم الشيخ الأعظم جعل ما ليس بموضوع موضوعاً.

والفرق بين هذا الإشكال والإشكال الثالث أنّه أعمّ منه - أي من الثالث-

بيان ذلك: أنه لو كان بين العنوانين نسبة (التبابين مثلاً) يلزم - فيما لو جعل أحدهما مكان الآخر- (جعل ما ليس بموضوع موضوعاً) و(التداخل في الأحكام)- لو فرض اختلاف أحكامهما.

ص: 25

أما لو كان بينهما نسبة (التساوي) يلزم جعل ما ليس بموضوع موضوعاً دون أن يكون هناك تداخل في الأحكام، فطلوع الشمس ووجود النهار أمران متساويان، إلاَّ أنّ علّة وجود الحرارة طلوع الشمس لا وجود النهار، فلو قيل:إنّ وجود النهار علّة لوجود الحرارة جعل ما ليس بموضوع موضوعاً، مع عدم لزوم التداخل في الأحكام، فتأمّل.

المناقشة في الإشكالات الثلاثة الأخيرة

أقول: بيان عدم ورود هذه الإشكالات الثلاثة الأخيرة على تقسيم الشيخ (رحمه اللّه) يتوقّف على بيان مطلب كلّي وهو: أنّ التقسيم يتوقف على وجود ملاك يتم التقسيم بلحاظه، وهذا الملاك يتمثّل عادةً في أحد الأمرين التاليين:

1- ملاحظة الواقعيّة العينيّة الخارجيّة التي تختلف آثارها ولو في الجملة.

2- ملاحظة الآثار التي تقع محطّاً للنظر ويتعلّق بها الغرض.

فمثلاً: في باب المياه يمكن أن نلاحظ اختلاف المياه في الوجود العيني الخارجي إلى أنواع مختلفة، ثمّ نقسّم المياه بهذا اللحاظ إلى (الماء القليل) و(ماء الكرّ) و(ماء المطر) و(الماء الجاري) و(ماء البئر) و(ماء العيون)، و(ماء الحمّام)، ثمّ نبحث عن أحكام كل واحدٍ من هذه الأنواع.

ويمكن أن نلاحظ انقسام المياه بلحاظ الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بها، فنقسّم المياه بهذا اللحاظ إلى (ما ينفعل بالملاقاة) و(مالا ينفعل بالملاقاة) - مثلاً.

وكل من اللحاظين صحيح في حدّ ذاته، وإن كان يمكن أن يكون بعضها أقرب - من الناحية الفنيّة- من الآخر.

ص: 26

وقد لاحظ الشيخ: أنّ الحالة الوجدانيّة للمكلّف في الوجود الخارجي العيني حين التفاته إلى الحكم الشرعي لا تخلو من إحدى حالات ثلاث: القطع، الظنّ، الشكّ، ثمّ بحث عن أحكام القطع، وأحكام الظنّ، وأحكام الشكّ، فحكم بأنّ القطع حجّة بذاته، وأنّ الظنّ قسمان: معتبر وغير معتبر، وأنّ الشكّ: إن كانت في مورده أمارة معتبرة فحكمه حكم القطع، وإن لم تكن في مورده أمارة معتبرة فهو مجرى للأصول العمليّة.

وعليه فلا يرد عليه إشكال التداخل؛ إذ ليس الشيخ ناظراً في تقسيمه إلى الحكم كي يرد عليه إشكال التداخل، بل هو ناظر إلى تقسيم الموضوع الخارجي، في رتبة سابقة على الحكم؛ كي يتبيّن حكم كل حالة من الحالات.

كما لا يرد إشكال عدم صحّة التقابل بين الظنّ والشكّ؛ إذ المراد الظنّ الشخصي، كما تقتضيه قرينة المقابلة مع القطع والشكّ.

كما لا يرد إشكال (جعل ما ليس بموضوع موضوعاً)؛ إذ ليس تقسيم الشيخ ناظراً إلى موضوعيّة الشكّ بما هو شكّ، ولا الظنّ بما هو ظنّ، بل إلى تحقّق هذه الحالات الثلاث في الوجود الخارجي، تمهيداً لبيان وظيفة المكلّف عند كل حالة، فتأمّل.

جواب المحقّق العراقي (رحمه اللّه)

ثمّ إنّ المحقق العراقي (رحمه اللّه) أجاب عن مجموعة من الإشكالات التي اُوردت على تقسيم الشيخ الأعظم بأن تثليث الأقسام في المقام ليس بلحاظ مرحلة الحجّيّة الفعليّة، بل بلحاظ ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقيّة والحجّيّة من حيث الوجوب والإمكان والامتناع، حيث إنّ

ص: 27

القطع من جهة تماميته في الكشف عن الواقع ممّا وجب حجّيته عقلاً، ولا يعقل المنع عنه.

والظنّ من جهة نقصه في الكاشفيّة ممّا أمكن حجّيته شرعاً.

وأمّا الشكّ فحيث إنّه لا كشف فيه أصلاً؛ لكونه عبارة عن نفس الترديد بين الاحتمالين الذي هو عين خفاء الواقع كان ممّا يمتنع حجّيته، ويستحيل اعتباره حجّة في متعلّقه؛ لأن(1) اعتبار الحجّيّة والطريقيّة إنّما يكون فيما من شأنه الكشف عن الواقع ولو ناقصاً لا فيما لا يكون كذلك، نعم أحد طرفي الشكّ وهو الاحتمال فيه جهة كشف ضعيف عن الواقع كالوهم المقابل للظنّ، فأمكن اعتباره شرعاً حجّة في متعلّقه بتتميم كشفه، ولكنّه خارج عن الفرض؛ إذ الكلام في نفس الشكّ بما هو شكّ وترديد بين الاحتمالين، وإلى ذلك نظر الشيخ في تثليث الأقسام في المقام كما صرّح به في أوّل البراءة بقوله: القطع حجّة في نفسه لا بجعل جاعل. الخ...(2).

ولا يرد على ذلك إشكال كون البحث في الوجوب والإمكان والامتناع بحثاً غير مناسب لتقسيم الحالات في صدر الكتاب، باعتبار أنّه يلزم أن يلحظ في التقسيم: كون الأقسام عناوين إجمالية لمواضيع الكتاب، وليس في التقسيم بالنحو المزبور هذه الخصوصية.

وذلك لكون هذا البحث مقدمة لتقسيم المباحث على نحو تكون

ص: 28


1- وقد علّله في المنتقى بأنه مستلزم لجعل الطريقيّة إلى المتناقضين وهو محال، منتقى الأصول 4: 6 (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الأفكار 3: 4-5.

عناوين إجماليّة لمواضيع الكتاب، مع أنّ اللزوم المذكور من قبيل «لزوم ما لا يلزم» فتأمل.

ثمّ لا يخفى أن إرادة مجموع الاحتمالين من الشك بلا ملزم، وإرادة أحدهما تستلزم معقوليّة جعل الحجّة له بنكتة طريقيّة أو نفسيّة، كما أشار إليه بعض الأعلام، فتأمل.

2) التقسيم الثنائي لصاحب الكفاية
اشارة

قال: «اعلم أنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به، أو بمقلّديه فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لابدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة، وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخييّر على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى»(1).

توضيحه: إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم شرعي واقعي أو ظاهري فهنالك مرحلتان(2):

الأولى: أن يحصل له القطع بالحكم الشرعي.

ص: 29


1- كفاية الأصول: 257.
2- وربما تجعل المراحل ثلاثاً، بتحويل المرحلة الثانية إلى مرحلتين، قال في النهاية: «القسمة ثلاثيّة أيضاً، فإنّ الأقسام المختلفة في الأحكام ثلاثة: القطع بالحكم والظنّ الانسدادي على الحكومة، وعدمهما، سواء كان ظنّ ولم يتمّ دليل الانسداد على الحكومة، أو لم يكن» نهاية الدراية 3: 15 (منه (رحمه اللّه) ).

الثانية: أن يحصل له القطع بالوظيفة العقلية.

أما الأولى: فهي تشمل القطع بالحكم الشرعي الواقعي، وقيام الأمارة على الحكم الشرعي، وجريان الأصول العمليّة الشرعيّة.

وأمّا الثانية: فهي مترتّبة على الأولى، ولا تصل النوبة إليها إلاَّ في حالة فقدان الأولى، ولها مرحلتان:

أ- حكم العقل(1) باتباع الظنّ.

وهذا متوقف على شروط ثلاثة:

حصول الظنّ للمكلّف.

تماميّة مقدّمات الانسداد (انسداد باب العلم والعلمي).

كون نتيجة مقدّمات الانسداد الحكومة (أي حكم العقل بحجّيّة مطلق الظنّ).

فإن لم يحصل له الظنّ، أو حصل ولكن لم تتم مقدّمات الانسداد فتصل النوبة إلى المرحلة الثانية وهي:

ب- الانتهاء إلى الأصول العقليّة.

وتبقى حالة حصول الظنّ على تقدير تماميّة مقدّمات الانسداد - على تقدير الكشف (أي كشف العقل عن حكم الشارع بحجّية مطلق الظنّ في هذه الحالة)- فإنّها داخلة في المرحلة الأولى (القطع بالحكم الشرعي)؛ إذ على ذلك يكون الظنّ من الأمارات الشرعيّة لا العقليّة.

ص: 30


1- أو إدراكه لذلك - على اختلاف المبنيين- (منه (رحمه اللّه) ).

والحاصل: إن الصور في المقام أربع:

1- أن يحصل له الظنّ، وقد تمّت مقدمات الإنسداد على تقدير الكشف.

2- أن يحصل له الظنّ، وقد تمّت مقدمات الإنسداد على تقدير الحكومة.

3- أن يحصل له الظن، ولم تتمّ مقدمات الإنسداد.

4- أن لا يحصل له الظن.

ففي الصورة الأولى: يكون القاطع بالحكم الشرعي.

(فتكون هذه الصورة داخلة في المرحلة الأولى).

وفي الصورة الثانيّة: يحكم العقل باتباع الظن (وهي المرحلة الأولى من المرحلة الثانيّة).

وفي الصورتين الأخيرتيّن: يكون المُحكّم: الأصول العقلية (وهي المرحلة الثانيّة من المرحلة الثانيّة).

إيرادات على التقسيم الثنائي

وأورد على هذا التقسيم - مضافاً إلى ما تقدّم في الإشكال الثاني على التقسيم الثلاثي للشيخ:

أولاً: ما في المصباح: من أن المناسب للتقسيم الثنائي المذكور هو البحث عن القطع بالحكم - الأعم من الواقعي والظاهري- في باب، والبحث عن الظنّ الانسدادي على الحكومة والأصول العمليّة العقلية في باب ثانٍ(1).

ص: 31


1- مصباح الأصول 2: 10.

وعليه فلا يبحث عن كل من الأمارات والأصول العمليّة الشرعيّة في باب مستقل، بل تدرج كلّها في القطع بالحكم الشرعي، ويفكّك بين الظنّ الانسدادي على الكشف، فيدرج في القسم الأول «القطع بالحكم الشرعي»، والظنّ الانسدادي على الحكومة فيدرج في القسم الثاني: «القطع بالوظيفة العقليّة»، ويفكك بين الأصول العمليّة، فيدرج الشرعي منها - كالبراءة الشرعيّة- في القسم الأول، والعقلي منها - كالبراءة العقليّة- في القسم الثاني. وذلك كلّه خلاف المنهج المتداول في كتب علم الأصول.

وفيه: أنّه إن أُريد بالتقسيم: وضع فهرست لمباحث الكتاب، فالإشكال وارد، وإلاّ فلا، نعم الأولى تطابق كيفيّة التقسيم مع منهج أبحاث الكتاب إلاَّ مع وجود المحذور الخارجي، كاتباع طريقة القوم، أو التسهيل على المبتدئين، فتأمل.

ثانياً: ما فيه أيضاً من أنّ جعل التقسيم ثنائياً غير مناسب في نفسه؛ إذ الحكم الظاهري مورده عدم العلم بالحكم الواقعي، فهو بطبعه في طول الحكم الواقعي، سواء كان مستفاداً من الأمارة المعتبرة أم من الأصل العملي الشرعي، فلو جعل التقسيم ثنائياً يجمع بين العلم بالحكم الواقعي، وعدم العلم به في مقام التقسيم، ويصير ما في طول الحكم الواقعي طبعاً في عرضه وضعاً(1).

وفيه: أنّه إن كان المقصود بيان الترتّب الطولي بين القطع من جهة، والأمارات والأصول العمليّة من جهة أخرى، ورد الإشكال وإلاّ فلا.

ص: 32


1- مصباح الأصول 2: 10.

نعم، الأنسب التقسيم الثلاثي - أو نحوه- ليناسب الوضع الطبع، فتأمّل.

ثالثاً: إن القطع بالوظيفة الفعليّة، وبعبارة أخرى تشخيص الوظيفة الفعليّة موجود في جميع موارد الطرق والأمارات، والأصول العقليّة والنقليّة، ولا يتصوّر الجهل بالوظيفة الفعليّة أصلاً، ولو بعد البحث والفحص.

وكون منشأ العلم بالوظيفة حكم الشرع، أو حكم العقل، لا يوجب الفرق ما دامت النتيجة لزوم الجري العملي.

وبذلك يكون صاحب الكفاية قد كرّ على ما فرّ منه، (أعني التفكيك بين موضوعات متحدة الأثر).

فلا محيص عن جعل التقسيم وحدانياً، ولم يصنع ذلك أحد فيما نعلم، ولم يرضه صاحب الكفاية نفسه، ولا يناسب ذلك ما يذكر عادة في بداية كتب المباحث العلميّة، فتأمّل.

وأجاب عنه في المنتقى: بأنه ليس في توحيد الأقسام إشارة ولو إجمالية إلى مباحث الكتاب، بينما على التثنية يتحقّق ذلك(1).

وفيه: أنه ما دامت الإشارة الإجماليّة إلى مباحث الكتاب لازمة، والتفكيك بين موضوعات متحدة الأثر ثابتاً على كل تقدير، فلا وجه لإشكال الكفاية على تقسيم الشيخ: باتحاد آثار الأقسام، وعدوله إلى التقسيم الثنائي الذي يرد عليه نفس الإشكال.

رابعاً: إنّ هذا التقسيم ليس تقسيماً للمباحث الأصوليّة الواردة في الكتاب؛ إذ البحث يكون عن حجّيّة الخبر أو ثبوت الاستصحاب ونحو

ص: 33


1- منتقى الأصول 4: 8.

ذلك، وهذا ممّا يؤدّي - في صورة إعمال الاستنباط- إلى القطع بالحكم، فالقطع بالحكم ممّا يترتّب أحياناً على المباحث الأصوليّة.

وعليه فليس التقسيم تقسيماً للمباحث المحرّرة، بل تقسيماً بلحاظ ما يترتّب عليها أحياناً، وهو خروج عن المفروض من كون الملحوظ في التقسيم أن تكون الأقسام عناوين إجماليّة لأبحاث الكتاب(1).

وفيه: أنّه يكون بياناً للغاية المترتّبة على مباحث الكتاب، ولا محذور فيه.

نعم، الاُولى أن يكون التقسيم بلحاظ المباحث المحرّرة في الكتاب، فتأمل.

خامساً: ما قيل من أنّ المراد إن كان هو القطع التفصيلي، فالبحث عن الإجمالي منه في المقام يصير استطرادياً، ولا يرضى به القائل، وإن كان أعم يلزم دخول مسائل الظنّ حتى على الحكومة في المقام، فإنّه من مسائل العلم الإجمالي، إلاَّ أنّ دائرته أوسع من العلم الإجمالي المذكور في مبحث القطع، وكون دائرته أوسع غير دخيل في جهة البحث.

وفيه: إنّ المراد الأعم، وأمّا مسائل الظنّ فهي ذات جهتين، فتندرج بإحداهما في مباحث القطع، وبالأخرى في مباحث الظنّ.

3) التقسيم الثلاثي لصاحب الكفاية

قال: «وإن أبيت إلاَّ عن ذلك - أي عن النحو من التقسيم الثلاثي الذي ذكره الشيخ- فالأولى أن يقال:

ص: 34


1- منتقى الأصول 4: 8، وقد نقله عن المحقق العراقي والمحقق الأصفهاني.

إن المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا.

وعلى الثاني: إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا.

ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق»(1).

وهذا التقسيم خالٍ عن إشكال التداخل- لو فرض وروده على تقسيم الشيخ.

إذ عليه يكون ملاك الرجوع إلى الأمارة: وجود الدليل المعتبر على حجّيتها، لا إفادتها الظنّ.

وملاك الرجوع إلى الأصل العملي: عدم وجود الأمارة المعتبرة في مورده، لا الشكّ، فلا يتداخل شيء من موارد الأمارات في شيء من موارد الأصول العمليّة، ولا العكس.

مثلاً: الظنّ الحاصل من القياس المتعلّق بحكم شرعي يلحقه حكم الشكّ، فيرجع في مورده إلى الأصول العمليّة.

والشكّ الذي قد يحصل للمكلّف بالحكم الشرعي مع كونه مؤدّى خبر الثقة لا عبرة به، بل يجب عليه الأخذ بمؤدّى الخبر.

ولكن يرد عليه: أنّ المبحوث عنه في الفصل الثاني من مباحث الحجّج والأمارات: ذات الأمارة بما هي هي، لا الأمارة المعتبرة.

قال في النهاية: «موضوع البحث عن الاعتبار هو الطريق اللابشرط من حيث الاعتبار وعدمه، لا الطريق المعتبر؛ فإنّه لا يعقل عروض الاعتبار

ص: 35


1- كفاية الأصول: 257-258.

وعدمه على الطريق المعتبر»(1).

توضيحه: إنّ الموضوع لو كان «الأمارة المعتبرة» لزم البحث - في الفصل الثاني- عن عوارضها؛ إذ «موضوع كل شيء ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية»، وحينئذ نقول: إنّه إنْ حمل الاعتبار على مصداق من مصاديق الموضوع - كما لو قلنا: «خبر الثقة معتبر»- لزم تحصيل الحاصل - إن كان الاعتبار المأخوذ في المحمول عبارة عن نفس الاعتبار الذي أخذ في الموضوع- أو اجتماع المثلين - إن كان اعتباراً آخر- وإن حمل عدم الاعتبار على مصداق من مصاديق الموضوع- كما لو قلنا: «القياس غير معتبر»- لزم اجتماع النقيضين.

وبتقرير آخر: إنّ المقصود بالتقسيم أن يكون كالفهرست لما يبحث عنه في الكتاب، والبحث في «الأمارات» إنّما هو بحث عن كونها معتبرة أو لا- مضافاً إلى سائر العوارض المَعْتورة عليها- مثلاً: نبحث أنّ خبر العادل معتبر أو لا، وأنّ الإجماع المنقول معتبر أو لا، وأنّ قول اللغوي معتبر أو لا، فالموضوع ذات الأمارة، فإذا جعل الموضوع «الأمارة المعتبرة» لزم البحث عن عوارضها، لا عن اعتبارها وعدمه؛ إذ يكون البحث عن اعتبارها وعدمه بحثاً عن «ثبوت الشيء»، لا بحثاً عن «ثبوت شيء لشيء»، مع أنّ اللازم هو الثاني.

هذا ويمكن الذبّ بأنّ هنالك لحاظين في المقام:

الأول: أن يلاحظ في مقام التقسيم: كونه كالفهرست لما يبحث عنه في

ص: 36


1- نهاية الدراية 3: 17.

الكتاب من موضوعات.

الثاني: أن يلاحظ في مقام التقسيم: الترتّب الطولي في الحجج والأصول العملية، هو الذي ينفع المجتهد في نحو استنباطه للأحكام.

والإشكال إنّما يرد لو لوحظ الأول، لا الثاني؛ إذ عليه لا إشكال في كون الأمارة المعتبرة وحدها هي المتقدّمة على إجراء الأصول العملية، لا مطلق الأمارة، فتأمّل.

4) تقسيم المحقق الأصفهاني

قال في النهاية: «فحق التقسيم أن يقال:

إنّ الملتفت إلى حكمه الشرعي إمّا أن يكون له طريق تامّ إليه أو لا.

وعلى الثاني إمّا أن يكون له طريق ناقص - لوحظ لا بشرط- أو لا.

وعلى الثاني: إمّا أن لا يكون له طريق أصلاً، أو يكون له طريق بشرط عدم الاعتبار، وعلى أي تقدير ليس له طريق لا بشرط.

فالأول هو القطع وهو موضوع التنجّز.

والثاني هو الطريق المبحوث عن اعتباره وعدمه.

والثالث: موضوع الأصول(1).

وأورد عليه في المنتقى باستلزامه التداخل، ولكن من إحدى الناحيتين، فإنه وإن لم يرد عليه لزوم دخول ما أخذ مورداً للأصل في موضوع الحجّية؛ لأن ما أخذه مورداً للأصل من لم يقم لديه طريق لا بشرط، وهو لا يكون

ص: 37


1- نهاية الدراية 3: 17.

بوجه موضوعاً للحجّية والطريقية، ولكن ما أخذه موضوعاً للبحث في الأمارة يكون موضوعاً للأصل في بعض أفراده؛ فإنّ الطريق إذا لم يقم دليل على اعتباره كان مورده من موارد الأصول، مع أنه يصدق قيام الطريق لا بشرط من حيث الاعتبار وعدمه(1).

وفيه: أنّ المحقّق الأصفهاني ليس في صدد بيان موضوع إجراء الأمارات أو الأصول.

بل في صدد فهرسة مواضيع الكتاب وفصوله.

فالفصل الأول في: بحث القطع.

والثاني: في بحث الأمارات - المعتبرة وغير المعتبرة.

والثالث: في الأصول العمليّة التي يبحث عنها بعد البحث عن الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة.

فهو لم يجعل الثاني مورداً للتمسك بالأمارة، بل جعله مورداً للبحث في الأمارة. وعليه فلا تداخل أصلاً.

5) تقسيم السيّد البروجردي

قال (رحمه اللّه) - على ما في تقريراته:

«ويمكن التقسيم بالثنائي على وجه لا يرد عليه شيء، وهو بأن يقال: إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم:

إمّا أن يقوم عنده حجّة على الحكم - سواء كانت الحجّة عقلية أم

ص: 38


1- منتقى الأصول 4: 10.

شرعية- أو لا يقوم.

فعلى الأول: المرجع الحجّة على الحكم - من القطع أو الأمارة المعتبرة-

وعلى الثاني: المرجع هو الأصول العمليّة من البراءة، والاشتغال والتخيير على حسب اختلافات المقامات والأحوال»(1).

ويرد عليه: عدم انحفاظ الطولية - في هذا التقسيم- بين القطع والأمارات المعتبرة، مع أنّ ظرف الأمارات المعتبرة هو عدم العلم بالواقع، لكن قد مضى التنظّر في ذلك، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى خروج مباحث القطع عن التقسيم لو أريد بالحجة المعنى المنطقي أو الأصولي لها، اللّهم إلاَّ أن يراد المعنى اللغوي والعرفي، لكن ذلك خلاف أولوية التقيّد بمصطلحات كل علم فيه، أو يكون الإدراج مبنيّاً على التغليب، أو يقال بإنّها مستعملة فيه بمعناها العرفي، على ما سوف تأتي الإشارة إليه في بداية مباحث القطع إن شاء اللّه تعالى، فتأمل.

6) التقسيم الرباعي

ويقرب من التقسيم الثلاثي لصاحب الكفاية: التقسيم الرباعي لبعض الأعلام؛ وذلك بجعل الرجوع إلى الوظيفة العمليّة الشرعيّة في المرتبة الثالثة، وإلى الوظيفة العمليّة العقلية في المرتبة الرابعة(2).

ص: 39


1- الحاشية على كفاية الأصول 2: 7-8.
2- جواهر الأصول: 9.
7) التقسيم الخماسي

ويقرب منهما: التقسيم الخماسي؛ وذلك بتنويع الأصول العمليّة الشرعيّة إلى نوعين، مترتّبين في مرتبتين طوليتين:

المرتبة الأولى: الأصول العمليّة المحرزة - كالاستصحاب.

المرتبة الثانية: الأصول العمليّة غير المحرزة - كالبراءة.

ونكتفي بهذا المقدار من البحث، مخافة التطويل، واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 40

المبحث الثاني : في شمول المقسم لغير المجتهد

اشارة

وقع البحث في أنّ المقسم - سواء جعلناه «المكلّف» كما صنعه الشيخ الأعظم، أو «البالغ الذي وضع عليه القلم» كما صنعه صاحب الكفاية- هل يختص بالمجتهد أو يعم العامي أيضاً؟

وينبغي البحث في مقامات ثلاثة:

المقام الأول: في أنّ (مباحث الحجج والأصول العملية) هل تشمل العامي أو لا؟

المقام الثاني: في أنّ أدلّة الحجج والأصول العمليّة هل تشمل غير المجتهد أو لا؟

المقام الثالث: لو فرض أنّ أدلّة الأحكام الظاهرية لا تشمل غير المجتهد، فهل يمكن توجيه إفتاء المجتهد في موردها للمقلّد على طبق القاعدة، أو لا؟

ومع فرض العدم، هل توجد في أدلّة جواز التقليد خصوصية يوجّه بها جواز إفتاء المجتهد فيها للمقلّد ورجوع المقلّد فيها للمجتهد؟

المقام الأول: في أنّ مباحث الحجج والأصول العملية هل تشمل غير المجتهد أو لا؟

والبحث في هذا المقام مترتّب على التسليم بشمول أدلّة الحجج والأصول العمليّة للمجتهد والعامي على حدّ سواء، وإلاّ فلو فرض المصير إلى اختصاص الأدلّة بالمجتهد، فلا وجه لتعميم البحث للفريقين كما لا يخفى.

ص: 41

ومن هنا يلاحظ في بعض العبارات الاستدلال للشمول - وعدمه- في هذا المقام بعموم الأدلّة - وعدمه- في ذلك المقام.

وعلى كلٍّ: ففي المقام احتمالان: الشمول، وعدمه.

أمّا الاحتمال الأول: فقد وجّهه في المصباح: باشتراك المقلّد مع المجتهد في أحكام الحالات الثلاث، فكما أنّ المجتهد، إن حصل له القطع عمل بقطعه، وإن لم يحصل له وقام عنده طريق معتبر، عمل به، وإن لم يحصل له لا هذا ولا ذاك، رجع إلى الأصول العملية، فكذلك المقلّد في الأحكام المذكورة.

قال: «فإنّ حصل له القطع بحكم من الأحكام عمل به بلا حاجة إلى الرجوع إلى المجتهد.

وإن لم يحصل له القطع: فإن قام عنده طريق معتبر، وليس إلاَّ فتوى المجتهد، عمل به.

وإن فقده أيضاً وبقي شاكّاً في الحكم رجع إلى الأصول العمليّة - على نحو يأتي.

هذا كلّه في الحكم الواقعي، وكذا الحال في الحكم الظاهري.

فإن حصل له القطع به - كما إذا قطع بفتوى المجتهد في مورد- عمل به، وإلاّ فإن قام عنده طريق معتبر - كما إذا أخبر عدلان بأنّ فتوى المجتهد كذا- أخذ به.

وإلاّ رجع إلى الأصل العملي، فإن كان متيقّناً بفتوى المجتهد وشكّ في تبدّلها يستصحب بقاءها.

ص: 42

وإن أفتى أحد المجتهدَين بالوجوب والآخر بالحرمة دار الأمر بين المحذورين فيتخيّر.

وإن أفتى أحدهما بوجوب القصر مثلاً، والآخر بوجوب التمام وجب عليه الاحتياط، إلاَّ أن يثبت قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامي، على ما ادّعاه شيخنا الأنصاري (رحمه اللّه) إذاً فيتخيّر.

والحاصل: أنّه لا فرق بين المجتهد والمقلّد إلاَّ في خصوصية الطرق والأمارات، فإنّ طرق المجتهد إلى الأحكام هي الكتاب والسنة، وطريق المقلّد هو فتوى المجتهد فقط، وكما أنّ ظواهر الكتاب والسنّة حجّة للمجتهد، كذلك ظاهر كلام المجتهد حجّة للمقلّد، فلا وجه لاختصاص المقسم بالمجتهد»(1).

وقال بعض الأعلام: «إنّ غير المجتهد يعلم بأنه مكلّف بأحكام اللّه سبحانه، فإذا التفت إلى واقعة فإمّا أن يحصل له القطع بالحكم سلباً، أو إيجاباً، ولو لكون المسألة ضرورية كحرمة الخمر أو يقينية بإجماع ونحوه، كحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب الثلثين، أو لا يحصل له ذلك، فعلى الأول يكون قطعه حجّة في حقه كقطع المجتهد، وعلى الثاني فإمّا يحصل له الظن المناسب في شأنه وهو فتوى المجتهد ويحصل له القطع بحجيته من ضرورة أو إجماع، فأيضاً يعمل بقطعه ويكون ظنه حجّة، وإن لم يحصل له لا قطع ولا قطعي، أما لأنّه لم يتمكن من الوصول إلى فتوى المجتهد، أو لا مجتهد لكي يصل إلى فتواه، أو لم يقطع بحجية الفتوى فينتهي لا محالة

ص: 43


1- مصباح الأصول 2: 7.

إلى الشك، فلابدّ وأن يستقل عقله بوظيفة، إما البراءة أو الاشتغال، أو التفصيل حسب الموارد.

فنفس المراحل المتحققة في حق المجتهد تتحقق في غير المجتهد أيضاً، ولكن مع فرق بينهما في عدم توفر بعض مصاديق العلم أو العلمي في حق غير المجتهد، وهو لا يجعله خارجاً عن المقسم، ولا يؤدي إلى تخصيص منهجة التقسيم بخصوص المجتهد»(1).

وما ذكراه لا يخلو من نظر؛ وذلك لأنّ عموم الموضوعات والمحمولات وخصوصها تابعان لعموم الغرض وخصوصه.

مثلاً: لو قيل في علم النحو «الكلمة إمّا اسم، أو فعل، أو حرف» ثمّ جعل كل واحد من الثلاثة موضوعاً لحكم أو أحكام، فالمقسم لا يشمل غير «الكلمة العربية» وإن وجد الاسم والفعل والحرف في لغة أخرى، بل وإن فرض الاشتراك في كثير من أحكام الثلاثة بينهما؛ لأن غرض علم النحو هو صيانة اللسان عن الخطأ اللفظي في كلام العرب - على ما ذكره بعضهم- وحيث إنّ الغرض خاص يكون موضوع العلم خاصاً بالكلمة العربية كما تكون موضوعات المسائل خاصّة بها أيضاً.

وفي المقام حيث إنّ الغرض من تدوين (مباحث الحجج والأصول العملية) هو بيان نحو تعامل المجتهد مع الكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي(2)؛ لذا يكون المقسم خاصاً بالمجتهد.

ص: 44


1- بحوث في علم الأصول 4: 9-10.
2- حسب تعريف المحقق النائيني (رحمه اللّه) (فوائد الأصول 1: 19).

وبعبارة أخرى: الغرض مخاطبة المجتهد، فيكون هو المختص بالخطاب.

وبعبارة ثالثة: الغرض من «علم الأصول» هو وضع خارطة تبيّن كيفية حركة المجتهد في عملية الاستنباط، وأنّ مرجعه في كل حالة ماذا؟ ومن الواضح أنّ من يتحقّق فيه هذا الغرض ليس إلاَّ المجتهد فقط.

وقد يُقرر ذلك بأن: أخصّية المحمول دليل على أخصّية الموضوع؛ لإستحالة حمل الأخص - بما هو أخص- على الأعمّ - بما هو أعمّ- لاستلزامه الخلف، وحيث إنّ المنقسم إلى القاطع والظانّ والشاكّ - بما يترتّب على ذلك من الآثار- هو خصوص المجتهد (إذ العامي لا يستطيع تمييز أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية أو الموضوعية، وبالتالي فلا يستطيع معرفة كون قطعه حجة عليه أو لا؟ ولا يستطيع تحديد شرائط تنجيز العلم الإجمالي، ولا التفريق بين الظنون المعتبرة وغير المعتبرة، ولا تنقيح مجاري الأصول العملية، ولا يميّز بين الحاكم والمحكوم، والوارد والمورود، وذلك كله في كثير من الحالات)؛ لذلك يكون المجتهد هو المراد من المقسم.

هذا ولكن قد يقال: بعدم تسليم أخصية الغرض؛ إذ الغرض بيان الكليات المنطبقة على موضوعاتها، ولا شكّ أنّ بعض القواعد المبحوث عنها في علم الأصول تنطبق على العامي، منتهى الأمر أنه عاجز عن تشخيص غالب مجاريها، وهو لا ينافي صحة تطبيقه ما تمكّن من تشخيص مجراه على موضوعه، ووزانه في ذلك وزان المجتهد المتجزّي - على فرض وجوده- إذ أنه مع عدم قدرته على تشخيص مجاري بعض الأمارات أو الأصول مشمول للمقسم، ولم يذهب أحد - فيما نعلم- إلى عدم شموله

ص: 45

له بدعوى عدم استطاعته تشخيص بعض المجاري.

قال في الحاشية: (ولا خصوص من بلغ درجة الاجتهاد، كما ربما يوهمه اختصاص بعض الأحكام الآتية به؛ إذ لا عبرة بظنّ غيره بالحكم أو شكّه فيه، لعموم أحكام القطع، وإمكان منع الاختصاص في أحكامهما... الخ)(1).

وقال في النهاية: (تعميم المكلّف إلى المجتهد والمقلّد وتعميم الحكم أيضاً أولى؛ لأنّ جملة من مباحث القطع والأصول العقلية تعمّ المقلّد أيضاً، فلا وجه للتخصيص بالمجتهد)(2).

أقول: ومثلهما بعض مباحث الانسداد.

ومن هنا أمكن أن يقال للمقلّد: (إن قطعت فقطعك حجّة عليك)، (إن علمت إجمالاً بوجوب أحد الشيئين عليك، وكان كلاهما محلاً لإبتلائك، وجب عليك الإتيان بهما)، (الظن المطلق ليس بحجة)، (الظن الحاصل من ظواهر الألفاظ حجّة)، (الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ البراءة اليقينية)، (إن انسدّ عليك باب العلم بالواقع وبالوظيفة فاحتط، وإن لم يمكن الاحتياط ولا التأخير فاعمل بظنّك، وإن لم يترجّح لديك أحد الطرفين فاختر المحتمل تعيّنه، وإن تكافئ الاحتمالان فاختر أحدهما). إلى غير ذلك.

وفي الفقه فروع تتفرّع على ذلك - ونحوه:

قال صاحب العروة (رحمه اللّه) : (إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم

ص: 46


1- درر الفوائد: 1.
2- نهاية الدراية 3: 14.

بأعلمية أحدهما ولا البيّنة، فإن حصل الظنّ بأعلمية أحدهما تعيّن تقليده، بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية يقدّم، كما إذا علم أنّهما أمّا متساويان أو هذا المعيّن أعلم، ولا يحتمل أعلمية الآخر، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميته(1).

وقال: (إن كان الأعلم منحصراً في شخصين ولم يمكن التعيين، فإن أمكن الاحتياط بين القولين فهو الأحوط، وإلاّ كان مخيّراً بينهما)(2).

وقال: (يجب على العامي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم أو عدم وجوبه، ولا يجوز أن يقلّد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم)(3).

وقال: (يجب على العامي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم أن يحتاط في أعماله)(4).

وقال: (إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا، وكذا البيّنتان، وإذا تعارض النقل مع السماع عن المجتهد شفاهاً قدّم السماع، وكذا إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع، وفي تعارض النقل مع ما في الرسالة قدّم ما في الرسالة مع الأمن من الغلط)(5).

ص: 47


1- العروة الوثقى 1: 11.
2- العروة الوثقى 1: 15.
3- العروة الوثقى 1: 16.
4- العروة الوثقى 1: 17.
5- العروة الوثقى 1: 20.

وقال: (إذا عرضت مسألة لا يعلم حكمها ولم يكن الأعلم حاضراً فإن أمكن تأخير الواقعة إلى السؤال يجب ذلك، وإلاّ فإن أمكن الاحتياط تعيّن، وإن لم يمكن يجوز الرجوع إلى مجتهد آخر، الأعلم فالأعلم، وإن لم يكن هناك مجتهد آخر ولا رسالته يجوز العمل بقول المشهور بين العلماء، إذا كان هناك من يقدر على تعيين قول المشهور... وإذا لم يقدر على تعيين قول المشهور يرجع إلى أوثق الأموات، وإن لم يمكن ذلك أيضاً يعمل بظنّه، وإن لم يكن له ظنّ بأحد الطرفين يبني على أحدهما...)(1).

وقال: (الظنّ بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفي في جواز العمل، إلاَّ إذا كان حاصلاً من ظاهر لفظه شفاهاً، أو لفظ الناقل، أو من ألفاظه في رسالته، والحاصل: إن الظنّ ليس بحجّة، إلاَّ إذا كان حاصلاً من ظواهر الألفاظ منه أو من الناقل)(2).

وقال: (في الضروريات لا حاجة إلى التقليد... وكذا في اليقينيات، إذا حصل له اليقين)(3).

وقال: (إذا شكّ في موت المجتهد أو في تبدل رأيه، أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده، يجوز له البقاء إلى أن يتبين الحال)(4).

وقال: (إذا قلّد مجتهداً ثمّ شك في أنه جامع للشرائط أم لا وجب عليه

ص: 48


1- العروة الوثقى 1: 20-21.
2- العروة الوثقى 1: 24.
3- العروة الوثقى 1: /8.
4- العروة الوثقى 1: 15.

الفحص)(1).

إلى غير ذلك من الفروع التي ذكرها (رحمه اللّه) وذكرها غيره رضوان اللّه عليهم أجمعين.

وأما دعوى اختصاص الانقسام المذكور بالمجتهد وحده.

ففيها: أنه ملحوظ على نحو العموم الاستغراقي لا المجموعي، فينحل بعدد الكليات المنطبقة على موضوعاتها، ولا يشترط في انطباق كلّي على موضوعه بالنسبة إلى مكلّف انطباق سائر الكليات بالنسبة إليه، فتأمل.

هذا ولكن الإنصاف: أن الغاية من علم الأصول مختصة بالمجتهد، والفائدة غير الغرض، ويؤيد ذلك ما ذكره جملة من الأساطين في تعريف علم الأصول وبيان الغاية منه، فتأمل.

المقام الثاني: في أنّ أدلة الأحكام الظاهرية هل تشمل غير المجتهد أو لا؟
اشارة

وفيه قولان، وقد استدلّ للتخصيص بالمجتهد بأدلّة:

1- عدم حصول الظن والشك لغير المجتهد

الدليل الأول: إنّ غير المجتهد لا يحصل لديه الظن والشك - كالقطع لغفلته- وحصولهما يتفرع على الالتفات إلى الحكم بالبداهة(2).

وأجاب عنه في المنتقى - ضمن كلام له- بوضوح حصول الظن

ص: 49


1- العروة الوثقى 1: 15.
2- كأن المقصود أنه مع عدم حصولهما لا تثبت الأحكام المترتّبة عليهما؛ لأن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع - وما هو بمنزلته- وقد تقرر أن موضوع الأحكام الظاهرية أو ظرفها: الظن أو الشك (منه (رحمه اللّه) ).

والشك بالنسبة إلى غير المجتهد؛ إذ أنه عند التفاته إلى الحكم يحصل له الشكّ غالباً والتردّد في طرفيه، ومنع حصول الألتفات لديه ممنوع بالبداهة.

وهكذا قد يحصل له الظنّ، شخصياً كان أو نوعياً؛ إذ قد يعلم بورود خبر في حكم خاصّ، كما قد يترجّح لديه أحد احتمالي الحكم ثبوتاً أو عدماً(1).

هذا ولكن قد يشكل: بأنه لا كلية؛ إذ كثيراً ما لا يلتفت العامي إلى الحكم أصلاً، فلا يحصل لديه الظنّ أو الشكّ، فمن لم يلتفت إلى الحكم ولم تحصل لديه إحدى الحالتين لا يشمله الحكم.

والجواب عن ذلك:

أولاً: بما ذكره المحقّق العراقي (رحمه اللّه) من إمكان التعميم بعدم القول بالفصل(2).

وهذا الجواب لا يخلو من تأمّل؛ إذ عدم القول بالفصل ليس حجّة، بل الحجّة: القول بعدم الفصل، ولم يثبت وجوده في المقام، بل ربما يدعى ثبوت عدم وجوده؛ لعدم وجدان عين ولا أثر من هذه المسألة في كلمات أغلب المتأخرين، فضلاً عن المتقدمين.

على أنه لو فرض ثبوت القول بعدم الفصل في المقام فهو محتمل الاستناد، بل مظنونه، ومثله ليس بحجة على المعروف، وإن كان ذلك محل

ص: 50


1- منتقى الأصول 4: 12.
2- نهاية الأفكار 3: 3.

تأمّل، على ما سيجيء في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

فتحصّل أنّ عدم القول بالفصل ليس بحجّة، وأنّ القول بعدم الفصل لم يثبت وجوده في المقام، بل ربما يدعى ثبوت عدمه، وعلى فرض ثبوته فهو محتمل الاستناد، فتأمّل.

وثانياً: بإمكان التعميم بقاعدة الاشتراك في التكليف.

وفيه: أنّ قاعدة الاشتراك إنّما تتم مع فرض وحدة الموضوع، وأمّا مع التعدّد فلا.

وقد ذكروا ذلك في مسألة «مدرك الشريعتين»، وسيأتي مزيد توضيح له إن شاء اللّه تعالى.

والأَولى في الجواب أن يقال: أن وضوح حصول الصفتين لغير المجتهد في الجملة كافٍ في ردّ دعوى السلب الكلّي المذكور في الدليل، فإنّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلّية، هذا مع النقض بنفس المجتهد؛ إذ قد لا يحصل له الالتفات - بأي معنى فُرض في المقلّد- إلى موضوع من الموضوعات مطلقاً، فلا تحصل لديه واحدة من الحالتين ، وعليه: فلا يبقى وجه للتفصيل بين (المجتهد) و(المقلّد)، بل ينبغي التفصيل بين (الملتفت - مجتهداً كان أو لا) و(غير المتلتف -كذلك).

ثمّ إنه قد مضت الإشارة في خامس الإيرادات على تقسيم الشيخ (رحمه اللّه) إلى عدم موضوعية الظنّ والشكّ للأحكام، بل الموضوع هو (الحجّة) و(اللاحجّة) وثبوت الحجّة في متن الواقع كافٍ، نعم: في الأصول العمليّة كلام سوف يأتي التعرّض إليه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 51

2- عدم التفات العامي لأدلة الأحكام الظاهرية

الدليل الثاني: أنّ العامي غير ملتفت إلى أدلّة الأحكام الظاهرية، وشمول الدليل لغير الملتفت إليه لغو.

وهذا الوجه ترد عليه مناقشتان: إحداهما صغروية، والأخرى كبروية(1).

أمّا المناقشة الصغروية فهي: أنّ الالتفات أعم من التفصيلي والإجمالي؛ لكفاية الإجمالي في دفع اللغوية، وهو حاصل للعامي كثيراً بفتوى الفقيه(2)؛ لإلتفاته إلى وجود أدلّة تستند إليها الفتوى - ولو ارتكازاً.

وليس المراد بالإجمال هنا: خصوص العلم بأنّ مستند هذه الفتوى هو إمّا خبر الثقة أو الإجماع أو السيرة أو نحوها، بل الأعم منه ومن العلم بأنّ هناك مستنداً معتبراً لهذه الفتوى، وإن لم يعرف ماهية المستند بأي نحو من الأنحاء.

وهذا القدر من التفات العامي إلى دليل الحكم الظاهري كافٍ في شموله له.

وهذا الأمر لا يختصّ بالفقه، بل يعمّ جميع الفنون، فإذا قال الطبيب الثقة الحاذق للمريض: «اجتنب هذا الغذاء» علم المريض - عادة- وجود جهة تقتضي حظر تناول هذا الغذاء، وإن لم يعلمها بالتفصيل.

ص: 52


1- هذا مضافاً إلى ورود بعض المناقشات عليه أيضاً، وسوف يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى (منه (رحمه اللّه) )
2- أو نحوها (منه (رحمه اللّه) ).

وأمّا المناقشة الكبروية فهي: أنّ اشتراط وجود الالتفات إلى أدلّة الأحكام الظاهرية في شمولها للمكلّف يوجب الدور أو الخلف، أو غير ذلك من المحاذير المذكورة في مبحث استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم.

وهل تجري هذه المناقشة في خصوص الأمارات، أو تشمل الأصول العمليّة أيضاً؟ فيه بحث سوف يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

3- عجز العامي عن تشخيص موارد الأصول والأمارات

الدليل الثالث: إنّ العامي عاجز عن تشخيص موارد الأصول والأمارات ومجاريها، وغير قادر على فهم مضامينها والفحص التامّ في مورادها، والحال أنّ اختصاص تلك الخطابات بالمتمكّن من تشخيص مجاريها والقادر على الفحص التام في مواردها في الوضوح كالنار على المنار.

وحاصل هذا الدليل أخذ لزوم الفحص موضوعاً للحكم الظاهري أو ظرفاً له، وحيث إنّ العامي غير قادر على الفحص، والمشروط عدم عند عدم شرطه لا تشمله أدلّة الأحكام الظاهرية مطلقاً.

ويرد عليه: أنّ ارتفاع المانع من إحراز شمول ظاهر الأدلّة لا يتوقّف على فحص المكلّف بنفسه، بل يتحقّق بالأعم من فحصه هو بنفسه، وفحص المجتهد.

بيان ذلك: أنّ المانع من شمول ظاهر الأدلّة أمران - كما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) :

الأول: العلم الإجمالي بوجود مقيّدات ومخصّصات فيما بأيدينا من

ص: 53

الكتب للعمومات والإطلاقات.

الثاني: إنّ أصالة العموم والإطلاق إنّما تجري فيما إذا لم يكن دأب المتكلّم التعويل على المقيّدات والمخصصات المنفصلة، إذ لا مدرك للأخذ بأصالة العموم والإطلاق إلاَّ بناء العقلاء عليها في محاوراتهم، وليس من بناء العقلاء عليها إذا كان العام والمطلق في معرض التخصيص والتقييد، بحيث كان المتكلّم بالعام والمطلق يعتمد كثيراً على المنفصلات، ولا يبيّن تمام مراده في كلام واحد، فإنه لا تجري حينئذٍ مقدّمات الحكمة في مصب العموم والإطلاق؛ لأنّ عمدة مقدّمات الحكمة هي كون المتكلّم في مقام بيان مراده، وهذه المقدّمة لا تجري بالنسبة إلى المتكلّم الذي يكون شأنه ذلك، أي يعتمد على المنفصلات كثيراً.

ومن المعلوم لكل من راجع الأخبار أنّ الأئمة صلوات اللّه عليهم كثيراً ما يعتمدون في بيان المخصّصات والمقيّدات على المنفصلات، فإنه كثيراً ما يكون العام وارداً من إمام (عليه السلام) والمخصّص من إمام آخر، والعام الذي يكون من شأنه ذلك - أي في معرض التخصيص- لا تجري فيه أصالة العموم(1).

إذا تقرر ذلك فنقول: إن انحلال العلم الإجمالي ولو حكماً لا يتوقّف على فحص المكلّف بنفسه، بل على الأعم من فحصه وفحص الخبير أو الثقة - حسب اختلاف الموارد في الاحتياج إلى فحص الخبير، أو كفاية

ص: 54


1- فوائد الأصول 2: 541.

فحص الثقة- وبعبارة أخرى على الأعم من اليقين الوجداني الحاصل بفحصه بنفسه واليقين التعبدي الحاصل بفحص الثقة أو الخبير.

وكذلك بناء العقلاء على إجراء أصالة العموم أو الإطلاق لا يتوقّف على فحص المكلّف بنفسه، وهكذا في سائر ما ذكر في المقام من ما يمنع عن شمول ظاهر الأدلّة للمكلّف قبل الفحص.

مثلاً: لو ورد في الدليل {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ}(1)، فظاهر هذا الدليل: العموم، إلاَّ إنه لا يمكن التمسّك بهذا الظهور لوجود المانع وهو العلم الإجمالي، أو عدم جريان أصالة العموم عند العقلاء، أو غيرهما، إلاَّ أنّ هذا المانع يرتفع بفحص الخبير أو الثقة، وعدم وجدانه أمارة على الخلاف.

وقد ورد في الفقه نظير ذلك.

قال صاحب العروة (رحمه اللّه) في مسألة وجوب الفحص عن الماء إلى اليأس إذا كان في الحضر، وفي البرية: يكفي الطلب غلوة سهم في الحزنة ولو لأجل الأشجار، وغلوة سهمين في السهلة في الجوانب الأربعة، بشرط احتمال وجود الماء في الجميع، قال:

«إذا شهد عدلان بعدم الماء في جميع الجوانب أو بعضها سقط وجوب الطلب فيها أو فيه، وإن كان الأحوط عدم الاكتفاء»(2).

وعلّله السيّد الوالد في الفقه: بعموم حجّية البيّنة في الموضوعات، وليس الطلب واجباً تعبّدياً، فإذا قاما على العدم كان ذلك بمنزلة العلم بعدم

ص: 55


1- البقرة: 275.
2- العروة الوثقى 1: 334.

الماء.... إلى آخر كلامه(1).

وفي التنقيح: «لأنّ حال البيّنة حال العلم الوجداني بعدم الماء في جانب أو جميع الجوانب، فكما أنّ الرواية لا تشمل مورد العلم بالعدم كذلك لا تشمل مورد العلم التعبّدي بالعدم، فإنّ الاحتمال مع قيام البيّنة على عدم الماء موجود بالوجدان، إلاَّ أنه ملغى عند الشارع المقدّس، بل الحال كذلك فيما إذا شهد به عدل واحد، بل لا تعتبر العدالة في المخبر أيضاً، لكفاية الوثاقة في حجّية الخبر في الأحكام والموضوعات على ما أوضحناه في الأصول من جريان السيرة العقلائية على الاعتماد والأخذ بخبر الثقة»(2).

وقال صاحب العروة أيضاً:

«الظاهر كفاية الاستنابة في الطلب وعدم وجوب المباشرة، بل لا يبعد كفاية نائب واحد عن جماعة، ولا يلزم كونه عادلاً بعد كونه أميناً موثّقاً»(3).

وعلّله السيد الوالد في الفقه بأنه استبانة عرفية فيشمله قوله (عليه السلام) في خبر مسعدة بن صدقة «حتّى تستبين»؛ ولأنّه مثل أهل الخبرة فالدليل الدالّ على حجّيته دالّ على حجّيته، وللمناط في قوله (عليه السلام) «يسأل الناس الأعراب»... إلى آخر كلامه(4).

ص: 56


1- الفقه 1: 33.
2- شرح العروة الوثقى 1: 91-92.
3- العروة الوثقى 1: 334.
4- الفقه 16: 36.
4- عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا تنطبق على العامي

الدليل الرابع: ما ذكره في النهاية من أنّ عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا تنطبق إلاَّ على المجتهد، فإنه الذي جاءه النبأ، أو جاءه الحديثان المتعارضان، وهو الذي أيقن بالحكم الكلّي وشكّ في بقاءه وهكذا(1).

قال بعض الأعلام:

إنه يستظهر ذلك من دليل الحجّية الدالّ على أنه إذا جاءك خبر من الثقة مثلاً فهو حجّة، وعنوان جاءك إنّما يصدق على من وصله الخبر لا الخبر بوجوده الواقعي.

ويرد عليه:

أولاً: أنّ معنى المجيء ليس هو الوصول إلى شخص المكلّف، بل «جعل الحكم في معرض الوصول إلى عموم المكلّفين مع عدم مانع للمكلّف الخاصّ» وهذا كما تقول الدولة: «إذا جاءكم طلب الدولة للالتحاق بالجيش فانفروا» أو «إذا جاءتكم ورقة الضرائب فادفعوا» فإنّ معنى ذلك جعله في معرض الوصول، مع إزاحة عذر المكلّف.

وحيث إنّ أدلّة الأحكام الظاهرية في معرض الوصول إلى عموم المكلّفين مع عدم وجود مانع للمكلّف الخاص يكون التكليف فعلياً في حقّه.

ثانياً: إنّ مجيء الحديثين المتعارضين ونحو ذلك أعمّ من المجيء الإجمالي والتفصيلي، والمجيء الإجمالي حاصل للعامي بفتوى المجتهد.

ص: 57


1- نهاية الدراية 3: 383.

ونظير المقام ما ذكروه من أنّ أدلّة (من بلغه ثواب على عمل) تشمل (فتوى المجتهد بالاستحباب) فإنه بلوغ إجمالي للثواب، وقد مضى نظير هذا الجواب، فراجع.

ثالثاً: ما ذكره بعض الأعلام من أنّ هناك في أدلّة الأحكام الظاهرية ما لم يؤخذ فيه عناوين من هذا القبيل.

وقد يمثّل له بنحو: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا»(1) {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(2) {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}(3).

رابعاً: إنّه لو فرض قصور الأدلّة اللفظية عن الشمول فبناء العقلاء، وسيرة المتشرّعة وأمثالهما من الأدلّة اللبّية لا قصور فيها.

فمثلاً: لو فرض أنّ آية «النبأ» وأمثالها قاصرة عن الشمول للخبر الذي لم يصل إلى نفس المكلّف، فالسيرة العقلائية أو المتشرّعية تدلّ على حجّية مطلق الخبر، ولو وصل إلى الخبير الذي يرجع إليه المكلّف ولم تصل إليه بنفسه.

وفي خصوص الاستصحاب ونحوه من الأصول العمليّة هنالك بحث سوف نتطرّق إليه في المقام الثالث إن شاء اللّه تعالى.

خامساً: ما في النهاية: من أنّ أدلّة الإفتاء والاستفتاء توجب تنزيل

ص: 58


1- وسائل الشيعة 1: 27.
2- الإسراء: 15.
3- البقرة: 159.

المجتهد منزلة المقلّد، فيكون مجيء الخبر إليه بمنزلة مجيء الخبر إلى مقلّده، ويقينه وشكّه بمنزلة يقين مقلّده وشكّه، وإلاّ لكان تجويز الإفتاء والاستفتاء لغواً(1)، ونظيره ما ذكره المحقق العراقي(2).

المقام الثالث: في تحليل عملية إفتاء المجتهد بناء على عدم شمول أدلّة الأحكام الظاهرية لغيره
اشارة

انتهينا - في المقام الثاني- إلى أنّ عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية تشمل المجتهد وغير المجتهد، وأنه لا مانع من ذلك، لا من ناحية مسألة (الالتفات) ولا من ناحية (وجوب الفحص).

ولكن: لو فرض أنّ عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا تشمل إلاَّ المجتهد، فكيف تفسّر عملية الإفتاء؟

ووجه الإشكال: «المركوز في الأذهان أنّ عملية الإفتاء تكون من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، كالرجوع إلى الطبيب مثلاً، وهذا موقوف على وجود واقع محفوظ مشترك بين الخبير وغيره يدركه الخبير بنظره ولا يدركه غيره فيرجع إليه، وهذا إنما ينطبق في باب الرجوع إلى المجتهد، فيما إذا كان الحكم الواقعي مقطوعاً للمجتهد؛ لأنه بذلك قد أدرك ما يكون مشتركاً بينهما ثابتاً في الواقع ويكون نظره مجرد خبرة وطريق إليه.

وأما لو فرض عدم القطع الوجداني بالحكم وإنما انتهى إليه عن طريق وظيفة ظاهرية مقررة، كرواية معتبرة سنداً، أو ظهور حجّة، أو أصل عملي

ص: 59


1- نهاية الدراية 3: 14.
2- نهاية الأفكار 3: 3.

أو نحو ذلك، فكيف يفتي غيره الذي لا يشترك معه في مقومات تلك الوظيفة، فأنه إن أراد أن يفتي بالحكم الواقعي فهو إفتاء بما لا يعلم وإن أراد أن يفتي بالحكم الظاهري فهو مخصوص بالمجتهد بحسب الفرض؛ لأن موضوعه متقوم به لا بغيره»(1).

لكي تكتمل الصورة نذكر أربع مراحل: - وإن كانت الأولى منها خارجة عن موضوع البحث.

المرحلة الأولى: أن ينكشف للمجتهد الحكم الشرعي بالقطع الوجداني

وفي هذه الحالة ينكشف للمجتهد واقع مشترك بين العالم به والجاهل - لما قرّر في محلّه من أدلّة اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل.

فيخبر المجتهد المقلّد بذلك الواقع المشترك.

وحيث إنّ خبر المجتهد حجّة - بأدلّة التقليد: العقلية والنقلية- يتنجّز ذلك الواقع بهذا الإخبار على ذمّة المكلّف - إن لم يتنجّز قبل ذلك بالعلم الإجمالي، أو بالاحتمال.

وهذا أمر يجري في جميع الفنون حين يخبر الخبير عن واقع مشترك توصل إليه بالعلم الوجداني، مثلاً: لو أخبر الطبيب عن وجود سمّ قاتل في طعام معيّن، وجب على الإنسان الاجتناب عنه.

المرحلة الثانية: انكشاف الحكم بالأمارة المعتبرة

المرحلة الثانية: أن ينكشف لدى المجتهد الحكم الشرعي بالأمارة

ص: 60


1- بحوث في علم الأصول 4: 10.

المعتبرة -كخبر الثقة مثلاً.

وهنا نلاحظ وجود ثلاثة أمور:

الأول: الدليل المتضمّن لحكم المسألة الأصوليّة - وهي حجّية خبر الثقة مثلاً- من قبيل «آية النبأ»(1).

الثاني: الدليل المتضمّن لحكم المسألة الفرعية - كالرواية المتضمّنة لحرمة الغراب الأبقع(2).

الثالث: مفاد الدليل المتضمّن لحكم المسألة الفرعية.

والأول وإن كان خاصّاً بالمجتهد؛ لأنه هو الذي جاءه النبأ.

والثاني: وإن كان خاصّاً به؛ لأنه الملتفت إلى الحكم الظاهري القادر على الفحص في أطرافه.

إلاَّ أنّ معنى الاختصاص: اختصاص الخطاب لا اختصاص المفاد.

وبعبارة أخرى: الدليل خاصّ لا المدلول.

ولا منافاة بين توجيه الخطاب إلى أحد، وعمومية المفاد الذي تضمّنه الخطاب لكل أحد.

مثاله: أن يوجه الدليل الخطاب إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقول: «يا أيّها النبي العدّة واجبة» مثلاً؛ إذ يكون الخطاب خاصّاً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

إلاَّ أنّ مدلول الخطاب أي الحكم الذي تضمّنه وهو وجوب العدّة مثلاً يكون عاماً لكل المؤمنين.

ص: 61


1- الحجرات: 6.
2- وسائل الشيعة 24: 126.

وما نحن فيه كذلك.

فمن جاءه الدليل المتضمّن لحكم المسألة الأصوليّة هو خصوص المجتهد، ومفاد هذا الدليل: حجّية خبر الثقة.

والدليل المتضمّن لحكم المسألة الفرعية: خاصّ بالمجتهد، بمعنى أنّ المخاطب به هو خصوص المجتهد.

إلاَّ أنّ الحكم الذي تضمّنه عام لكل المكلّفين.

فهو لم يقل: «يا أيّها المجتهد يحرم عليك الغراب الأبقع».

بل قال: «يا أيّها المجتهد يحرم على جميع المكلّفين الغراب الأبقع».

وهذا العموم مستفاد من إطلاق الخطاب، أو من تنصيصه على الشمول.

وحينئذٍ نقول:

إنّ «حرمة الغراب على جميع المكلّفين» انكشفت للمجتهد بالعلم التعبّدي، فيخبر المقلّد بذلك الواقع المنكشف، ولا محذور في ذلك.

وحيث إن إخبار المجتهد حجّة يتنجّز ذلك الواقع، بذلك الإخبار.

المرحلة الثالثة: انكشاف الوظيفة مع تحقّق الموضوع عند المقلد

المرحلة الثالثة: أن تنكشف للمجتهد الوظيفة العمليّة المستفادة من الأصول العمليّة مع تحقّق موضوع تلك الأصول في حقّ المقلّد.

وهذا أمر قد يحدث كثيراً، خاصّة بالنسبة إلى أفاضل الطلبة.

مثلاً: يشكّ العامي في أنّ التدخين حلال أو حرام فيسأل المجتهد عن الحكم.

وحيث إن موضوع «البراءة الشرعية»: «ما لا يعلمون» وحيث إنّ العامي تحقّق في حقّه هذا الموضوع يقول له المجتهد: التدخين حلال.

ص: 62

وهذا نظير: أن يشكّ العامي في طهارة ثوبه ونجاسته مع الجهل بحالته السابقة فيسأل المجتهد عن الحكم فيفتيه بالطهارة؛ وذلك لتحقّق الموضوع في حقّ العامي، وهو «الشكّ».

وبعبارة مختصرة: الموضوع متحقّق في شأن المقلّد، فيرتّب المجتهد عليه المحمول.

وهكذا لو تيقّن المقلّد بوجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور، وشكّ في بقاء الوجوب في زمن الغيبة وسأل المجتهد عن حكم الجمعة في عهد الغيبة.

ففي هذه الحالة موضوع جريان الاستصحاب متحقّق في حقّ المقلّد، وهو اليقين السابق والشكّ اللاحق.

فيقول له المجتهد: لا تنقض اليقين بالشكّ.

وأمّا مسألة عدم وجود الحاكم أو الوارد على الأصل العملي، أو المعارض له، فتُحلّ بإخبار المجتهد- ولو على نحو الإجمال- بعدم وجوده.

ولا فرق بين إحراز «عدم الوارد أو الحاكم أو المعارض» وجداناً، وإحرازه تعبّداً.

والمفروض أنّ المقلّد يحرز ذلك - تعبّداً- بإخبار المجتهد.

فلا يبقى أي مانع من شمول الأصل العملي للمقلّد، وإفتاء المجتهد إيّاه بمؤداه.

المرحلة الرابعة: انكشاف الوظيفة مع عدم تحقّق الموضوع لدى المقلّد

المرحلة الرابعة(1): أن تنكشف للمجتهد الوظيفة العمليّة المستفادة من

ص: 63


1- الظاهر أنّ البحث في المرحلة الرابعة: لا يختص بمبنى اختصاص الخطابات الظاهرية بالمجتهدين، فتأمّل جيّداً (منه (رحمه اللّه) ).

الأصول العملية، مع عدم تحقّق موضوع تلك الأصول في حقّ المقلّد، ولا تحقيقها.

مثلاً: المقلّد أسلم جديداً، ولا علم له بوجوب الجمعة من قبل، ولا شكّ لاحق له، بل لم يلتفت إلى وجوب الجمعة مطلقاً، أو لو فرض وجود الشكّ اللاحق له إلاَّ أنّ اليقين السابق غير متحقّق.

فهل يستطيع المجتهد أن يفتي له بالوجوب، بدون تحقّق أركان الاستصحاب فيه؟

لا شكّ أنّ المجتهد ذو يقين سابق وشكّ لاحق بالحكم وهو بهذا اللحاظ يستطيع إجراء الاستصحاب.

إلاَّ أنه يستطيع أن يرتّب المحمول على نفسه، وعلى كل من توفّر لديه الموضوع.

أمّا أن يفتي بوجوب الجمعة في حقّ المقلّد الذي لم يتحقّق في حقّه الموضوع فهو ترتيب للمحمول على من لم يوجد في حقّه الموضوع.

وهو يشبه أن يفتي المجتهد الحاضر بوجوب الإتمام على مقلّده المسافر، أو على جميع مقلّديه - الحاضر منهم والمسافر.

فكيف تحلّ هذه المعضلة؟

هنالك محاولات - وإن كان بعضها خاصّاً ببعض الأصول العملية.

الأولى: ما في المصباح:

من أنه (إن كان الحكم ممّا لا يلتفت إليه المقلّد، كما إذا لم يكن فعلياً في حقّه ومورداً لابتلائه إلى الآن، فلابدّ للمجتهد أن يجري الاستصحاب

ص: 64

بلحاظ يقينه وشكّه(1)؛ لكونه متيقّناً بالحكم في حقّ مقلّده شاكّاً في بقائه على ما تقدم(2)، وكذا الحال فيما إذا كان الشكّ مورداً للاحتياط، كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف فيفتي، بوجوب الاحتياط بمقتضى علمه الإجمالي...)(3).

لا يقال: إنه مصادرة؛ إذ البحث في أنّ المجتهد كيف يجري الاستصحاب على المقلّد بلحاظ يقينه وشكّه، مع عدم تحقّق اليقين والشكّ في حقّ مقلّده؟

فالجواب عن ذلك: بأنّه يجري الاستصحاب بهذا اللحاظ مصادرة.

وهو نظير أن يحكم المجتهد الحاضر بوجوب الإتمام على المقلّد المسافر بلحاظ كونه - أي كون نفس المجتهد- حاضراً.

ورجوع الجاهل إلى العالم إنّما يصح لو كان الموضوع مشتركاً بين الاثنين، أو كان الموضوع متحقّقاً في الجاهل دون العالم، لا ما إذا كان الموضوع متحقّقاً في العالم دون الجاهل.

وبعبارة أخرى: ليس محل كلامنا فعلاً في وظيفة الجاهل، بل في وظيفة العالم؛ إذ كيف يفتي للجاهل بحكم لم يتحقّق موضوعه فيه؟!

ص: 65


1- أي يقين وشكّ نفس المجتهد (منه (رحمه اللّه) ).
2- قال فيما تقدّم: «وله أن يجري الاستصحاب بلحاظ يقين نفسه وشكّه فإنه متيقّن بالحكم في حقّ مقلّده شاكّ في بقائه فيجري الاستصحاب ويفتي بمؤدّاه ويرجع المقلّد إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم؛ إذ لا اختصاص لوجوب رجوع الجاهل إلى العالم بما إذا كان علم العالم مستنداً إلى العلم الوجداني أو الأمارة» مصباح الأصول 2: 8.
3- مصباح الأصول 2: 8.

وهكذا الكلام في موارد العلم الإجمالي بالتكليف.

ونظير ما ذكرناه في المقام يجري في الشبهات الموضوعية.

مثلاً: لو علم الثقة بوقوع قطرة دم في أحد الإنائين، فهنا يجب عليه الاجتناب عن كليهما، وذلك لوجود العلم الإجمالي بالتكليف ولو أخبر المكلّف بذلك حصل له علم إجمالي تعبّدي بالتكليف، فيجب عليه -عقلاً- الاجتناب عن كليهما مقدّمة لليقين بامتثال ذلك التكليف.

ولكن هل يستطيع الثقة أن يقول للمكلّف: (اجتنب عن كلا الإنائين) في فرض عدم حصول العلم الإجمالي له - لا الوجداني ولا التعبّدي- مع عدم تحقّق الموضوع في حقّه - ومع تحقّق موضوع «أصالة الطهارة» عنده- إذ أنه يشكّ في طهارة كل واحد من الإنائين على نحو الشبهة البدوية، والحكم في هذه الحالة إجراء أصالة الطهارة.

فالمخبِر - بالكسر- وإن وجب عليه الاجتناب عن كلا الإنائين - لوجود العلم الإجمالي- إلاَّ أن المخبَر - بالفتح- لا يجب عليه الاجتناب عن أي واحد منهما لكون شكّه شكّاً بدوياً.

فإنّه يقال: إنّ هنالك مرحلتين:

الأولى: وظيفة المجتهد نفسه.

الثانية: وظيفة المقلّد.

أمّا بالنسبة إلى المرحلة الأولى: (وظيفة المجتهد نفسه) فالظاهر تحقّق أركان الأصل العملي بالنسبة إليه.

إذ أنّه - مثلاً- على يقين بأنّ المرأة الحائض يحرم عليها التمكين لزوجها

ص: 66

خلال فترة الحيض، وعلى شكّ من بقاء هذه الحرمة عليها في الفترة المتخلّلة بين انقطاع الدم والغسل.

وإجراؤه الاستصحاب ذو أثر عملي بالنسبة إليه وهو «جواز الفتوى».

ومع تمامية الأركان في حقّه لا يوجد هنالك مانع من شمول الدليل، أي «لا تنقض اليقين بالشكّ» له، فيستصحب بقاء حرمة المرأة الحائض على زوجها.

وأمّا بالنسبة إلى المرحلة الثانية (أي وظيفة المقلّد): فدليل الأصل العملي وإن لم ينطبق على المقلّد - لفرض عدم وجود اليقين أو الشك له- إلاَّ أنّ هنالك دليلاً آخر ينطبق عليه وهو «أنّ الجاهل يجب عليه الرجوع إلى العالم» - المستفاد من الأدلّة اللفظية والسيرة العقلائية- فيتعيّن عليه العمل بما أفتى به.

والحاصل: أنّ المجتهد ينطبق عليه موضوع «لا تنقض اليقين بالشكّ».

والمقلّد ينطبق عليه موضوع: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1) - ونحوه من الأدلّة.

وبهذين الانطباقين يتمّ تخريج عملية الفتوى من قبل المجتهد، والأخذ بها من قبل المقلّد.

وإلى ذلك أشار في المنتقى - في ضمن كلام له- حيث قال: «بإنّ المجتهد ذو يقين وشكّ، فموضوع الاستصحاب متوفّر فيه؛ لأنه كان على

ص: 67


1- الأنبياء: 7.

يقين بأن حكم المقلّد كان كذا، وهو الآن يشك في بقاء حكم المقلّد، غاية الأمر دعوى أن الاستصحاب بالنسبة إليه ليس بذي أثر عملي فلا يصح؛ إذ الحكم لا يرتبط به. وتنحل هذه الدعوى بتصور أثر عملي لأجراء الاستصحاب بالنسبة إلى المجتهد وهو موجود، إذ يترتب على إجراء الاستصحاب وثبوت الحكم الظاهري به جواز الإفتاء به، وإسناده إلى المولى، إذ بدونه يكون إسناده محرماً؛ لأنه تشريع وهذا أثر عملي يصحح إجراء الاستصحاب من قبل المجتهد، نظير إجراء الاستصحاب في الأمور الموضوعية لترتب آثارها الشرعية، وإجراء الحاكم الاستصحاب في بقاء ملكية زيد - مثلاً- أو غيرها من الأحكام التي تكون موضوع الدعوى مع عدم ارتباطها به عملاً أصلاً، لأجل ترتيب جواز الحكم بها لزيد.

وجملة القول: يجوز إجراء المجتهد الاستصحاب لترتيب أثره العملي الثابت في حقّ نفسه، وهو جواز الإفتاء به لا في حقّ مقلّده كي يقال: أنه لا يقين له ولا شكّ فلا حكم استصحابي في حقّه، فيستصحب المجتهد حكم المقلد الذي كان على يقين منه ويبني على بقائه ليترتب عليه جواز الإفتاء به، وإذا أفتى به المجتهد جاز للمقلد بأدلة التقليد الأخذ به»(1).

الثانية: أن يلتزم بعدم موضوعية اليقين والشكّ في باب الاستصحاب، وبكون مفاد أدلّة الاستصحاب هو اعتبار بقاء الحادث، فإذا ثبت الحدوث لدى المجتهد ثبت لديه البقاء بمقتضى أدلّة الاستصحاب، فيحصل له اليقين

ص: 68


1- منتقى الأصول 4: 19.

بوظيفة المقلّد، فيخبره بها.

قال في المنتقى - ضمن كلام له: «[إن التزمنا] في باب الاستصحاب بما هو صريح صاحب الكفاية وظاهر الشيخ في بعض المواطن - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى- من أن اليقين والشك مستعملان في أدلة الاستصحاب بنحو الاستعمال الكنائي من دون مدخلية لهما أصلاً، فيراد بهما المتيقن والمشكوك، ويكون مفاد أدلة الاستصحاب هو اعتبار بقاء الحادث.

وبعبارة أخرى: مفادها اعتبار الملازمة بين الحدوث والبقاء وبذلك دفع صاحب الكفاية الإشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الثابتة حدوثاً بدليل تعبّدي، من جهة عدم اليقين بالحدوث، إذ لا يحتاج مع هذا إلى وجود اليقين بالحدوث، بل ثبوت الحدوث بأي دليل يكفي لإثبات البقاء، بعد كون مفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء، فما يدل على الحدوث يدل على البقاء بالملازمة بعد ضميمة الحكم بالملازمة بمقتضى الاستصحاب.

وبالجملة [إن قلنا](1) بإلغاء صفة اليقين والشكّ عن الموضوعية بالمرّة بتاتاً... فلا إشكال، بل حال الحكم المستصحب حال مؤدّى الأمارة؛ وذلك لأن أدلّة الاستصحاب تفيد الملازمة بين الحدوث والبقاء، من دون دخل لليقين بالحدوث. فإذا ثبت الحدوث لدى المجتهد ثبت لديه البقاء بمقتضى أدلة الاستصحاب، فيحصل له اليقين بحكم المقلّد الظاهري، وهو لا

ص: 69


1- في المصدر: «تارة نقول».

محذور فيه كما عرفت، فلا فرق بين الاستصحاب والأمارة على هذا المبنى»(1).

هذا وتحقيق المناقشة في المبنى موكول إلى محلّه.

الثالثة: أن يلتزم بأنّ الموضوع المأخوذ في دليل الاستصحاب - أي اليقين والشكّ- أعمّ من شكّ المكلّف أو يقينه، وشكّ الخبير الذي يرجع إليه أو يقينه.

وبهذا ينطبق نفس دليل الأصل العملي على العامي، لكن ببركة أدلّة التقليد، فيكون المقام من قبيل الورود الذي يحقّق فرداً واقعياً للموضوع، لكن ببركة الدليل التعبّدي، نظير تحقيق أدلّة حجّية خبر الثقة فرداً واقعياً لموضوع الحجّة المحمول عليه جواز الإفتاء بها للمجتهد.

توضيحه: أنّ هنا دليلين:

الدليل الأول يقول: لا تنقض اليقين بالشكّ.

وظاهره لو خلى ونفسه: اليقين الشخصي والشكّ الشخصي.

والدليل الثاني يقول: إذا جهلت شيئاً فارجع إلى المجتهد.

ومآل هذا الدليل - الثاني- إلى قيام المجتهد مقام الجاهل في حالاته وأحكامه، فيكون شكّ الخبير شكّ الجاهل، ويقينه يقينه.

وبذلك يدخل الجاهل - بعناية أدلّة التقليد- في موضوع الأصل العملي حقيقة؛ إذ يكون مفاد أدلّة التقليد: التوسعة في موضوعات الأحكام

ص: 70


1- منتقى الأصول 4: 18-19.

الظاهرية على نحو يشمل المقلّد أيضاً.

مثلاً: إذا فرض أنّ الدليل قام على لزوم ذبح الذبيحة عند شراء الإنسان داراً.

وقام دليل ثانٍ على أنّ عمل الوكيل كالأصيل.

واشترى وكيل الإنسان داراً.

فهنا يدخل شراء الوكيل في عنوان «شراء الأصيل» موضوعاً حقيقة، وإن كان ذلك ببركة الدليل الثاني. والأمر في المقام كذلك.

والفرق بين ما ذكر هنا، وما ذكر في الإجابة الأولى: أنّ حاصل التخريج الأول: انطباق عنوان جديد على المقلّد، مغاير للموضوع المنطبق على المجتهد، مكمّل له.

وحاصل التخريج الثاني: إدخال المقلّد في نفس موضوع الدليل المنطبق على المجتهد، لكن ببركة أدلّة التقليد.

والنتيجة وإن كانت واحدة، إلاَّ إنّ التخريج مختلف.

هذا ولكن الشأن في إثبات ظهور أدلّة التقليد - عرفاً- في ذلك، فتأمّل.

الرابعة: أن يلتزم بأنّ «اليقين» و«الشكّ» يعمّان الفعليين والتقديريين - على ما ذهب إليه بعض الأصوليين.

والمقلّد ذو يقين وشكّ تقديريين، بمعنى أنه لو التفت لتيقّن وشكّ.

إلاَّ أنّ هذا خلاف المعروف بينهم من ظهور الألفاظ في الفعلية، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى مباحث الاستصحاب.

الخامسة: قاعدة الاشتراك في التكليف.

ص: 71

بيان ذلك: أنه إذا تيقّن المجتهد بوجوب الجمعة وشكّ في بقاء الوجوب تمّت أركان الاستصحاب في حقّه، فيستصحب الوجوب.

وإذا ثبت الوجوب في حقّه يتعدّى إلى غيره - ممن لا يقين سابق له أو لا شكّ لاحق له- بقاعدة «الاشتراك في التكليف».

وفيه: إن قاعدة الاشتراك في التكليف إنّما تجري في الأحكام الواقعية - المنكشفة بالقطع أو المحكي عنها بالأمارات المعتبرة.

أمّا مؤدّيات الأصول العمليّة فهي تختص بمن تحقّق موضوعها لديه، والاشتراك في التكليف إنّما يكون مع وحدة الموضوع، لا مع التعدّد، على ما قرّر في محلّه.

وقد ذكر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) وغيره: أنّ استصحاب «مدرك الشريعتين لأحكام الشريعة السابقة: إنّما يجدي بالنسبة إلى نفسه، ولا ينفع غيره ممن لم يدركهما لعدم توفّر أركان الاستصحاب لديه.

وعلى هذا يكون كل مكلّف - بالنسبة إلى الأصول العملية- تابعاً لحالته النفسية، وأنّها هي (الشكّ البدوي) أو (العلم الإجمالي) أو (اليقين السابق والشكّ اللاحق).

والخلاصة: إن ثبوت وجوب الجمعة للمتقّين الشاكّ لا يلازم ثبوته لغيره ممن ليس موضوعاً للاستصحاب.

السادسة: «فإذا قلنا: بأن المجعول هو الحكم الظاهري في حق من لا يعلم بالحكم الواقعي، فقيام الخبر عند المجتهد على حكم الحائض غير العالمة بحكمها بضميمة دليل اعتباره الراجع إلى بيانه جعل مؤداه حكماً

ص: 72

ظاهراً، يوجب حصول اليقين الوجداني للمجتهد بالحكم الظاهري الثابت في حق الحائض، وليس في هذا أي محذور؛ إذ لا محذور في حصول اليقين لشخص بحكم شخص آخر، إذ ليس من التعبد في شيء كي يدّعى استحالته لمن لم يكن له علاقة بالحكم عملاً. وإذا فرض أن يقين المجتهد المزبور حجّة على الحائض بدليل التقليد، جاز متابعته في يقينه»(1).

لا يقال: إن هنالك أمرين:

1- أصل الفتوى.

2- متعلّق الفتوى.

ولا إشكال في مشروعية أصل الفتوى.

وأمّا متعلّق الفتوى: فلا يصحّ أن يجعل الموضوع فيه مطلق المكلّف، بل المكلّف الذي تحقّق فيه موضوع الأصل العملي (اليقين السابق والشكّ اللاحق - مثلاً).

إذ لا يصحّ تطبيق المحمول على أوسع من حدود الموضوع فلا يصحّ أن يقول: «إنّ كل مكلّف تجب عليه الجمعة في عهد الغيبة» بل «كل مكلّف له يقين سابق وشكّ لاحق تجب عليه الجمعة».

إذ لا يصحّ للمجتهد أن يعتمد على دليلٍ موضوعه ضيّق فيفتي به في إطار موضوع واسع.

وبعبارة أخرى ظاهر موضوع الأصل العملي أنه حيثية تقييدية، فلا يجري إلاَّ فيمن تحقق فيه الموضوع.

ص: 73


1- منتقى الأصول 4: 16.

فأنّه يقال: ما دام عمل المقلّد مستنداً إلى فتوى المجتهد الذي تحقّق فيه الموضوع فيكون تحرّكه في ضمن دائرة موضوع الأصل العملي، لا خارجه.

وهذا نظير ما لو رجع من مات مقلّده إلى الحي في مسألة جواز البقاء، فأفتى له بجواز البقاء، فبقي على تقليد الميّت في سائر المسائل - غير مسألة البقاء- فإنه في الصورة وإن كان مقلّداً للميّت، إلاَّ أنّه في الواقع مقلّد للحي.

وهكذا لو رجع إلى الأعلم في مسألة تقليد الأعلم فأفتى له بجواز تقليد المفضول فقلّده في سائر المسائل - غير مسألة تقليد الأعلم- فإنّه في الواقع مقلّد للأعلم في ذلك؛ إذ يستمدّ مشروعية تحركه في إطار فتاوى المفضول من خلال فتوى الأعلم بجواز تقليده.

وما نحن فيه من هذا القبيل.

إذ ما دام المجتهد علم بحرمة التمكين على الحائض خلال فترة نزول الدم، وشكّ في بقاء الحرمة بعد الانقطاع وقبل الاغتسال فاستصحب الحرمة وأفتى بحرمة التمكين على الحائض بعد الطهر وقبل التطهّر، فتحرّك الحائض ضمن دائرة هذه الفتوى يكون ضمن دائرة موضوع الأصل العملي «اليقين السابق والشكّ اللاحق»، ولو فرض أنّها لم يكن لها يقين سابق بالحرمة، أو لم يكن لها لا يقين سابق ولا شكّ لاحق.

وبعبارة أخرى: إنّ جري الحائض خارج حدود الموضوع مستند إلى جري المجتهد داخل حدود الموضوع، فيكون جريها بالنتيجة داخل حدود الموضوع.

ص: 74

ومهما يكن... فهذا الدليل - المذكور في المنتقى- على المبنى الأول(1)متين.

وأمّا على المبنى الثاني(2) فالظاهر وجود حلقة مفقودة لابدّ من إثباتها ليتمّ البرهان.

وهي: دعوى أنّ إفتاء المجتهد للمقلّد بخلاف الحالة السابقة نقض لليقين بالشكّ، وهو منهي عنه.

وهذه الدعوى لا تخلو من خفاء.

توضيح ذلك:

الأولى: يتمّ بمثال من الشبهة الموضوعية.

وهو: أنّ البينة لو علمت بوقوع نجاسة في إناء معيّن وشكت في بقائها فهنا توجد حالات ثلاث:

1- أن يكون الإناء محل ابتلائها الشخصي.

ولا إشكال هنا في جريان الاستصحاب؛ لتمامية أركانه بالنسبة إليها.

2- أن يكون الإناء محل ابتلاء مكلّف آخر، وتخبره البيّنة بوقوع النجاسة سابقاً في الإناء، مع فرض شكّ المكلّف في حالته الفعلية.

وهنا تتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة إلى المكلّف، لعدم الفرق بين اليقين الوجداني والتعبّدي، فيجري بالنسبة إليه الاستصحاب.

ص: 75


1- المنقول في الصفحة 85-86.
2- المنقول في الصفحة 87.

3- أن لا تخبره البيّنة بذلك ويكون شكّ المكلّف في نجاسة الإناء شكّاً بدوياً، بلا علم بنجاسته السابقة.

فهنا لو لاحظت البيّنة وضع المكلّف الفعلي «وهو أنّه شاكّ في طهارة الإناء ونجاسته بلا علم بحالته السابقة» وقالت له: إنّ الإناء لك طاهر... فهل يصدق حينئذٍ أنّ البيّنة نقضت اليقين بالشكّ؟

وقد يدّعى أنّ سيرة المجتهدين جارية على ذلك - في الشبهات الموضوعية- إذ يلاحظون في الجواب الوضع النفسي للمكلّف، فيفتونه طبق ذلك، وإن كان وضعهم النفسي - أي المجتهدين- بخلاف ذلك.

وهكذا لو جاء شخصان إلى المجتهد وقال الأول: إنّي أعلم - علماً إجمالياً- بوقوع قطرة دم في أحد الإنائين فما هي وظيفتي؟

وقال الثاني: إنّني أشكّ شكّاً بدوياً في نجاسة الإنائين فإنّ المجتهد يقول للأول: اجتنب عن الإنائين.

ويقول للثاني: كلاهما لك طاهر.

مع أنّ إحدى الفتويين مخالفة للواقع قطعاً.

وما ذاك إلاَّ لأنّ المجتهد لاحظ الحالة النفسية لكل واحد من المستفتيين.

ونظير ما ذكرناه في الشبهة الموضوعية يجري في الشبهة الحكمية إذ لا شكّ في صدق «النقض» في الحالتين الأوليين، أمّا في الحالة الثالثة ففيه غموض.

وعلى كلٍّ: فإن أحرز صدق النقض - عرفاً- صحّ دليل المنتقى، وإلاّ فلا.

ص: 76

ثمّ أنّه لم يُعلم بأنّ (صاحب المنتقى) يرضى بنظير ما ذكره في المقام في الشبهات الموضوعية أو لا؟

مثلاً: لو علمت البيّنة بنجاسة الإناء سابقاً وشكّت في بقاء النجاسة فاستصحبتها، فهل يحقّ لها أن تقول لمن لا علم له سابق بالنجاسة: يجب عليك الاجتناب عن هذا الإناء، مع أنه ظاهراً موضوع ل«كل شيء لك طاهر» و«كل شيء لك حلال»؟

وقد ذهب بعض المعاصرين إلى تخيير البيّنة بين الأمرين، فتأمّل!

الثانية: ثمّ لا يخفى أنّ دليل (المنتقى) إنّما يجري في الاستصحاب، وأمّا في مثل العلم الإجمالي فلا.

فلو علم المجتهد إجمالاً بحرمة أحد الشيئين - على نحو الشبهة الحكمية- فلا يتكفل هذا الدليل جواز إفتائه بالحرمة لمقلّديه؛ إذ موضوع حكم العقل بوجوب الاجتناب هو «العلم» أو هو شرط الحكم بذلك، وهذا الموضوع أو الشرط محقّق في حقّ المجتهد، فكيف يفتي للمقلّد بوجوب الاجتناب عن الاثنين مع عدم تحقّق موضوع الحكم العقلي في حقّه؟

الثالثة: قاعدة الاشتراك في التكليف: «إن إثبات الحكم بقاعدة الاشتراك إنما هو مع عدم الاختلاف في الصفة المعبر عنه بالوحدة الصنفية، فلا يجوز إثبات تكليف المسافر للحاضر وبالعكس بقاعدة الاشتراك. والحكم في المقام بما أنه ليس من الحكم الواقعي المستفاد من الأمارة بلا لحاظ اليقين والشك، بل من الأحكام الظاهرية المستفادة من الاستصحاب على الفرض، فلا يمكن تسرية الحكم الثابت على مَن تيقّن وشكّ إلى غيره، فإنّ قاعدة

ص: 77

الاشتراك وإن كانت جارية في الأحكام الظاهرية أيضاً، إلاَّ أنها إنما تجري مع حفظ الموضوع للحكم الظاهري: مثلاً إذا ثبت الحكم ببراءة لأحد عند الشك في التكليف، يحكم لغيره أيضاً بالبراءة إذا شكّ في التكليف، لقاعدة الاشتراك. ولا يعقل إثبات الحكم بالبراءة لغير الشاك بقاعدة الاشتراك، ففي المقام مقتضى قاعدة الاشتراك ثبوت الحكم لكل مَن تيقن بالحكم ثمّ شك في بقائه، لا ثبوته لجميع المكلفين حتى مَن لم يكن متيقناً بالحكم وشاكّاً في بقائه»(1).

الرابعة: الإطلاق المقامي في أدلة التقليد(2).

ص: 78


1- مصباح الأصول 3: 147-148.
2- ترك المصنّف (رحمه اللّه) هنا فراغاً بمقدار عشرة أسطر.

القطع وأحكامه

اشارة

ص: 79

ص: 80

القطع وأحكامه

اشارة

القطع وأحكامه(1)

تمهيد

وقبل الدخول في مباحث القطع لا بأس بالتطرّق إلى أنّ الآثار المذكورة للقطع هل هي آثار القطع أو [الواقع] المقطوع به؟

قال المحقّق النائيني (رحمه اللّه) في أثر (وجوب متابعة القطع): إنّ المراد من وجوب متابعة القطع وجوب متابعة المقطوع من الواقع المرئي بالقطع(2).

والظاهر أنّ مراده أنّ وجوب المتابعة ليس من آثار القطع، بل من آثار الواقع، لكن لا مطلقاً، بل حين تعلّق القطع به، أو بشرط تعلّق القطع به.

أقول: تارةً يقع الكلام في القطع الموضوعي وأخرى في القطع الطريقي.

أما القطع الموضوعي: فسوف يأتي الكلام فيه بأقسامه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 81


1- لا يخفى أنّ إدراج مباحث القطع في «الحجج» مبني على «التغليب»، أو على إرادة المعنى اللغوي والعرفي من «الحجّة» لا المنطقي والأصولي، وإن كان الأولى: التقيّد بمصطلحات كل علم فيه، أو على ما ذكره المجدّد الشيرازي الكبير (رضوان اللّه عليه) من أنّ الحجّة عند الأصوليين ما كان قاطعاً للعذر فيما بين العبد وبين اللّه تعالى... إلى آخر ما ذكره (راجع تقريرات الروزدري 3: 247) وتبعه على نحو ذلك المحقق الخراساني (رحمه اللّه) في حاشيته، حيث ذهب إلى عدم وجود اصطلاح جديد لها في الأصول، بل هي مستعملة فيه بالمعنى الذي يستعمل في العرف العام (راجع درر الفوائد: 27) وتبعهما على مثل ذلك السيد البروجردي (رحمه اللّه) (راجع نهاية الأصول: 394) (منه (رحمه اللّه) ).
2- فوائد الأصول 3: 6.

وأمّا القطع الطريقي - وهو محلّ الكلام- فربما يقال: إنّ الآثار مترتّبة على نفس القطع، لا على المقطوع به.

ودليل ذلك: قاعدة الدوران والترديد.

إذ قد يكون قطع ولا واقع مقطوع به فيترتّب عليه آثار القطع مثل (حكم العقل بوجوب المتابعة، حرمة المخالفة القطعية في العلم الإجمالي عقلاً، قبح التجرّي... الخ) كما يترتّب عليه الجري العملي وفق المقطوع، مع تمامية شرائطه(1).

وقد يكون واقع ولا قطع، فلا تترتّب عليه تلك الآثار.

وعلى كلٍ: فالقطع هو الموضوع لجميع هذه الآثار لا المقطوع به - أي الواقع العيني الخارجي.

إن قلت: المفروض أنّ القطع الطريقي في محلّ الكلام فكيف يكون موضوعاً لما ذكر من الآثار؟

قلت: القطع طريقي بمعنى أنه لم يؤخذ في موضوع الخطاب الشرعي... وموضوعي بمعنى أنه أخذ في موضوع الآثار العقلية.

فموضوع «الحرمة» الشرعية: «ذات الخمر» لا «المقطوع كونه خمراً».

إلاَّ أنّ موضوع وجوب المتابعة عقلاً - مثلاً- «مقطوع الخمرية» لا «ذات الخمرية».

إن قلت: القطع الذي هو حجّة على المكلّف - عقلاً- لا ينظر فيه، بل

ص: 82


1- سوف تأتي الإشارة إلى هذه الشرائط في المبحث الثاني من أحكام القطع (منه (رحمه اللّه) ).

ينظر به، فكيف نظرتم فيه وجعلتموه موضوعاً لوجوب المتابعة عقلاً؟

قلت: القطع يطلق على:

1- ما هو كذلك بالحمل الأولي الذاتي.

2- ما هو كذلك بالحمل الشائع الصناعي.

وما لا يمكن الحكم عليه بذاته لأنه منظور به لا فيه هو الثاني، وأما الأول فيمكن أن يلاحظ بذاته ويحكم عليه بوجوب المتابعة، لكن لا بما هو هو، بل بما هو مرآة لأفراده الخارجية الملحوظة إجمالاً بلحاظه، وهذا نظير قولنا: «المعدوم المطلق لا يخبر عنه»(1)، مع أنّ هذا إخبار عنه بعدم الإخبار عنه، فهو إخبار عن مفهوم المعدوم المطلق بما هو مرآة لأفراده المفترضة، وكذلك قولنا: «الفعل لا يخبر عنه»(2).

والأمر في المقام كذلك؛ إذ نحكم على «القطع الطريقي» بما هو مفهوم كلّي بوجوب المتابعة عقلاً وغير ذلك من الآثار لكن باعتبار مرآتيته للأفراد الخارجية.

إن قلت: القاطع إنّما يتحرّك باعتبار المقطوع به، لا باعتبار القطع... فالعطشان إنّما يحرّكه «الماء» بوجوده العيني الواقعي لا «قطعه بوجود الماء». وكذا الأمر في سائر الآثار.

قلت: الأثر وإن كان بنظر القاطع أثر المقطوع به لا القطع... لأنه حين القطع يرى أنه واصل إلى الواقع... إلاَّ أنّ الأثر واقعاً أثر القطع لا المقطوع

ص: 83


1- نهاية الحكمة: 29.
2- شرح كافية ابن الحاجب 1: 29.

به، بدليل الدوران والترديد الذي ذكرناه سابقاً.

إن قلت: إن بعض الآثار المذكورة للقطع لا تترتّب على القطع بما هو قطع، بل على صرف الاحتمال مع عدم المؤمّن - كما في مبنى قبح التجرّي في بعض صوره.

قلت: المراد بالقطع ما يعمّ القطع بالواقع وبالوظيفة، فتأمّل.

قال المحقق العراقي (رحمه اللّه) :

«لا شبهة في أنّ الأعمال المترتّبة على القطع ليس من لوازم المرئي بوجوده الواقعي، بل إنّما هي من لوازم وجوده الزعمي الملحوظ في ظرف لحاظه طريقاً إلى الواقع بلا التفات إلى زعميته، وحينئذٍ لا بأس بإضافة مثلها إلى نفس القطع، بل لا يضاف بالنظر الآخر الثانوي إلا إليه»(1).

وقال: «لا يخفى أن الآثار المترتبة على القطع من نحو وجوب الطاعة عقلاً أو الجري عملاً، إنما كانت آثاراً لنفس القطع بحيث كان القطع بما هو طريق إلى الواقع تمام الموضوع للآثار المزبورة، لا أنها من آثار المقطوع والمرئي بوجوده الواقعي كما توهم، كيف وفي ملاحظة موارد الجهل المركب شهادة على خلافه كما في القاطع بالتكليف بالقطع المخالف للواقع، حيث إنه بمجرد قطعه يترتّب عليه حكم العقل بلزوم الامتثال وحسن الإطاعة؛ ولذا لم يشك أحد في حسن الانقياد، وكالعطشان القاطع بكون السراب ماءً، والجبان القاطع بكون الشبح أسداً... حيث لا

ص: 84


1- فوائد الأصول 3: 6 (الهامش).

حكم للعقل في الأول بوجوب الاجتناب ولا ينقدح في النفس تلك الحالة الباعثة للتوجه نحو الماء فإنه يكشف ذلك كله عن ما ذكرناه، من كون تلك الآثار من آثار العلم والكاشف، ومن لوازم المرئي بوجوده الزعمي الملحوظ كونه في لحاظه مرآةً للخارج، بنحو لا يلتفت بهذا اللحاظ إلى ذهنيته، لا من آثاره بوجوده الواقعي ولعلّ منشأ التوهم المزبور أيضاً هو ما يقتضيه العلم وغيره من الصفات من التعلق أوّلاً وبالذات بالصور الذهنية الملحوظ كونها مرآةً للخارج، بنحو لا يلتفت إلى ذهنيتها إلا بلحاظ آخر ثانوي، فإن هذه الجهة من المرآتية للخارج صار منشأ لتخيل كون تلك الآثار آثاراً للمرئي بوجوده الخارجي الذي هو المعلوم بالعرض، مع كونها بحسب الدقة والحقيقة بالنظر الثانوي من آثار المرئي بوجوده الذهني، ومن لوازم نفس العلم من حيث منوريته وكاشفيته»(1).

هذا كله بناءً على المعروف بينهم من اتحاد العلم والمعلوم بالذات، أي إنّ هنالك وجوداً نورياً واحداً في أفق النفس نعبّر عنه تارة ب«العلم» أو «القطع» وأخرى ب«المعلوم بالذات» أو «الصورة الذهنية».

فالحقيقة واحدة ذاتاً، وإن كان اللحاظ مختلفاً.

ولو ذهب ذاهب إلى الاختلاف الحقيقي بين «العلم» و«الصور الذهنية» أمكن القول بأن العلم بالصور الذهنية هو المحرك لا نفس هذه الصور، وكذا الأمر في سائر الآثار، فتأمّل.

فتحصل من جميع ذلك أنّ الآثار آثار القطع لا المقطوع - أي الواقع

ص: 85


1- نهاية الأفكار 3: 9-10.

العيني الخارجي- هذا وقد يقال بالتفصيل بين الآثار.

فبعضها - وهو المعظم- يترتّب على نفس القطع، كوجوب العمل على وفق القطع عقلاً، وحرمة التجرّي أو قبحه، وحرمة المخالفة القطعية عقلاً للتكليف المعلوم بالإجمال.

وبعضها يترتّب على الواقع الخارجي، مثل وجوب الموافقة الالتزامية، بناءً على كون دليله شرعياً مثل {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ}(1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}(2)، وما عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : «لو أنّ قوماً عبدوا اللّه ووحّدوه ثمّ قالوا لشيء صنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لِمَ صنع كذا؟ أو وجدوا ذلك في أنفسهم كانوا بذلك مشركين»(3) - ونحوها من النصوص الشريفة لو فرض دلالتها على المدّعى- فإنّ الحرام الواقعي بناءً على هذا المبنى يجب الالتزام بحرمته، لا الحرام المقطوع بكونه حراماً؛ وذلك لما تقرر في محله من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل وبعضها يترتب على القطع، والواقع الخارجي معاً مثل «منجزية القطع للتكليف»، فإنّ التكليف بوجوده الواقعي غير منجّز على المكلّف إلاَّ إذا تعلّق به القطع.

كما أنّه لو قطع بالتكليف ولم يكن تكليف في الواقع لا تنجّز للتكليف

ص: 86


1- النساء: 65.
2- النساء: 136.
3- بحار الأنوار 1: 133.

الواقعي إذ لا وجود له...

نعم، لو خالف قطعه فهو متجرٍّ وتشمله أحكام التجرّي.

وقد يورد على هذا التفصيل: أما بالنسبة إلى الثاني فبأنه عليه تكون المسألة استطرادية لا من مباحث «القطع» ويكون وزانها وزان سائر المسائل الفقهية.

وأما بالنسبة إلى الثالث فبأنّ المسألة الأصوليّة عبارة عن «حجّية القطع» الشاملة للمنجزية والمعذرية، والموضوع فيها يشمل القطع المطابق والمخالف لا «منجزية القطع للتكليف» ليكون الموضوع خاصاً بالقطع المطابق، وعليه تكون الآثار مترتبة على القطع فقط فتأمّل.

ص: 87

ص: 88

أحكام القطع

اشارة

ونذكر - بإذن اللّه تعالى- أحكام القطع وآثاره في ضمن مباحث:

المبحث الأول: في طريقية القطع

المبحث الثاني: في وجوب الحركة على وفق القطع

المبحث الثالث: هل يمكن للشارع المنع عن العمل بالقطع أو لا؟

المبحث الرابع: في معذرية القطع

ص: 89

ص: 90

المبحث الأول : في طريقية القطع

اشارة

ومعنى الطريقية: الكاشفية عن الواقع.

وفي هذا المبحث فصلان:

الفصل الأول: في ثبوت الطريقية للقطع وعدمه.

الفصل الثاني: في أن طريقية القطع قابلة للجعل أو لا؟

الفصل الأول: في ثبوت الطريقية للقطع وعدمه

قال الشيخ (رحمه اللّه) : (لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجوداً؛ لأنه بنفسه طريق إلى الواقع)(1).

أقول:

تارةً يدّعى أنّ الطريقية ذاتية مطلق القطع.

وأخرى بأنّ الطريقية ذاتية القطع في نظر القاطع.

وثالثة بأنّ الطريقية ذاتية القطع في صورة الإصابة.

ورابعة: بأنّ الطريقية عين ذات القطع.

والأولى: قد توهمها بعض العبارات في بادئ النظر وإن كانت إرادتهم

ص: 91


1- فرائد الأصول 1: 29.

لها بعيدة جداً.

والثانية: ذكرها السيد الوالد (دام ظله) بصدد توجيه كلمات الأساطين رحمهم اللّه قال: (... فقولهم: إنّ الكشف ذاتي له يراد به في نظره)(1).

والثالثة: محتمل عبارة بعض المعاصرين.

والرابعة: ظاهر عبارة بعض الأصوليين.

وهذه الدعاوى محل تأمّل.

أمّا الدعوى الأولى: فلأنّ الذاتي لا ينفك عن الذات... سواء أريد به ذاتي باب الكليات أو ذاتي باب البرهان(2).

والحال أنّ الطريقية تتخلّف كثيراً عن القطع.. وكيف يكون ما هذا شأنه ذاتياً لمطلق القطع.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ الذاتي ملاكه الواقع، لا الأنظار، وله واقع محفوظ مشترك بين العالم به والجاهل والمعتقد والمنكر، وهذا الواقع لا يختلف باختلاف الأنظار وإن اختلف الأفراد في الوصول إليه وعدم الوصول.

فالإنسان ذاتي النطق - بذاتي باب الكلّيات.

ص: 92


1- الأصول 5: 77.
2- يراد بالذاتي في باب الكليات الخمسة: ما ليس بخارج عن حدّ ذات الشيء «أي الجنس والفصل والنوع» وبعبارة أخرى: ما تتقوم به ذات الموضوع. ويراد بالذاتي في كتاب «البرهان» ما ينتزع من نفس ذات الشيء فيكفي ذاته في انتزاعه بلا توسط لغير ذاته، كالزوجية بالنسبة للأربعة (منه (رحمه اللّه) ).

والأربعة ذاتيها الزوجية - بذاتي باب البرهان.

ولا يختلف ذلك باختلاف أنظار الناظرين، ولو فرض أن شخصاً اعتقد أن الفردية ذاتية للأربعة، أو أن البياض ذاتي للجدار، فهل يصح القول بكونهما ذاتيين لها باعتبار كونهما كذلك في نظره؟

وأما الدعوى الثالثة: فلأننا نجد - بالوجدان- أنّ حالتنا في الحالتين - حالة القطع المصيب وحالة القطع المخطئ- واحدة...، والاختلاف إنما هو في أمر عرضي خارج عن الذات، كاختلاف السهمين المرميين المتماثلين من جميع الجهات في الإصابة وعدمها لأمر خارجي عرضي، فكيف يختلف ذاتياً أمرين وجدانيين متحدين في الصفات؟!

وبما تقدم يظهر النظر في الدعوى الرابعة.

ويمكن توجيه بعض هذه الدعاوى بأن الملحوظ فيها هو «المعلوم بالذات» لا «المعلوم بالعرض»، فإن الإنفكاك الواقع كثيراً، إنما هو بين «العلم» و«المعلوم بالعرض» - وموطنه أفق العين، وأما «المعلوم بالذات»- وموطنه أفق الذهن- فهو لا ينفك عن العلم مطلقاً، لمكان الاتحاد الذاتي أو التلازم القهري القائم بينهما.

كما يمكن توجيه الدعوى الثانية بأن المقصود إثبات وجوب الحركة على وفق القطع، ونحو ذلك من الآثار، وهي لا تتوقف على الطريقية الواقعية، بل الطريقية في نظر القاطع كافية في إثبات الآثار المزبورة، فتأملّ.

الفصل الثاني: في أنّ طريقية القطع قابلة للجعل أو لا؟

اشارة

طريقية القطع إلى «المعلوم بالعرض» أو «المعلوم بالذات» - على ما

ص: 93

مضى- هل هي قابلة للجعل أو لا؟

ملخّص الكلام في ذلك: أنّ الجعل نوعان: جعل تكويني وجعل تشريعي.

1- أما الجعل التكويني

أ- فبناءً على أنّ الطريقية عين القطع يصحّ جعلها جعلاً بسيطاً بالذات، وذلك بإيجاد القطع تكويناً في نفس العبد.

بل يمكن لأي شخص إيجاد القطع في نفسه، أو في نفوس الآخرين إذا أوجد مقدمات حصوله فيها، فإنه وإن لم يكن مقدوراً مباشرياً، إلاَّ أنه مقدور بالواسطة، والمقدور بالواسطة مقدور.

ومنه ينقدح إمكان التكليف بالأصول الاعتقادية، كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}(1)، ونحوه التكليف بالتحلي ببعض الفضائل الأخلاقية المتعلقة بالجوانح، أو التخلي عن بعض الرذائل الأخلاقية المتعلقة بها، فلاحظ.

وكما يصح جعل الطريقية جعلاً بسيطاً بالذات، يصح جعلها جعلاً مركباً بالعرض، فلاحظ.

ب- وبناءً على أنّ الطريقية من - ذاتيات القطع- لا يصح جلعها إلاَّ بالعرض (أي بعرض جعل ملزومها بالذات بسيطاً) مركباً وبسيطاً سواء أريد بذلك ذاتيات باب الكليات أو ذاتيات باب البرهان، فإن الذاتيات لا يمكن

ص: 94


1- محمد: 19.

جعلها بالذات، بل إنما تجعل بعرض جعل نفس الذات.

وذلك كزوجية الأربعة، حيث إنّها غير مجعولة بالذات، بل بعرض جعل الأربعة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الوجود، وأمّا بالنسبة إلى «المهيّة» و«الاتصاف» فهي ليست بمجعولة إلاَّ بالعرض بسيطاً ومركباً - وهذا كلّه بناءً على أصالة الوجود واعتبارية المهيّة - .

وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

2- وأمّا الجعل التشريعي

فربما يقال: بأنّه لغو؛ إذ الطريقية حاصلةٌ للقطع تكويناً، فيلغو إعطاؤها له تشريعاً، بل يكون ذلك أردأ أنواع تحصيل الحاصل؛ لأنه تحصيل تعبّدي لما هو حاصل تكويناً.

مثلاً: لو فرضنا أنّ الحرارة لازمة تكويناً للنار يلغو جعل الحرارة لها تشريعاً... لأنه إعطاء الشيء لما هو واجد له، فيكون لغواً، على تأمل وإشكال يأتي التعرّض له فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

ومن ملازمات عدم قابلية طريقية القطع للوضع، عدم قابليتها للرفع، على ما تأتي الإشارة إليه - بإذن اللّه تعالى -(1).

ص: 95


1- راجع المبحث الثالث من مباحث «أحكام القطع» الصفحة 112.

المبحث الثاني : في وجوب الحركة على وفق القطع

اشارة

قال الشيخ (رحمه اللّه) : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجوداً(1).

وفي الكفاية: (لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم الحركة على طبقه جزماً)(2).

وهنا بحثان:

البحث الأول: في المراد من موضوع العنوان أعني «القطع»

وينبغي أن يكون المراد «بعض أنواع القطع» لا «مطلق القطع» وإن كان ظاهر بعض العبارات الإطلاق.

إذ لا شكّ في عدم وجوب الحركة عقلاً على وفق مطلق القطع، بل إنّما تجب إذا أذعن العقل بوجود أثر لازم الاستيفاء، ولم يكن هنالك مزاحم أهم ولا مساو في نظر القاطع.

فلو قطع بوجود بركان في المريخ مثلاً لم يجب عليه شيء في نظر العقل؛ لعدم ترتّب أثر على القطع والمقطوع به في نظره - فرضياً؛ وذلك

ص: 96


1- فرائد الأصول 2: 29.
2- كفاية الأصول: 258.

لأن اللازم وجود غرض تترتّب عليه الحركة، وحيث لا أثر فلا غرض فلا وجوب للحركة، بل تحقّق الحركة خارجاً ممتنع؛ إذ العلة الغائية علّة فاعلية، العلة الفاعلية على ما فصّل في محلّه.

ولو قطع بوجود ماء في النهر ولم يكن عطشه شديداً لم يجب عليه شيء.

وهكذا لو كان الغرض لازم الاستيفاء غير أنه كان مزاحماً بالأهم أو بالمساوي في نظره.

هذا ولكن قد يُدّعى وجود أثر لازم الاستيفاء في كل قطع؛ لأن القاطع بوصوله إلى الواقع - في زعمه- يرى مثلاً إنطباق حرمة «إفتراء الكذب شرعاً» على القول بخلاف ما قطع به، فيترتّب على ذلك: حكم العقل بالإنزجار عنه، أو يحكم العقل بلزوم الإنزجار بشكل مستقل بدون توسط الحكم الشرعي.

ولا يخفى ما فيه: أما بالنسبة إلى الشق الأول: فلأنّ ترتّب الحكم العقلي فرع الالتفات إلى الحكم الشرعي، فلو فرض عدم الالتفات إليه، فلا يكون ثمة حكم من قبل العقل.

وأما بالنسبة إلى الشق الثاني: فلأنّ حكم العقل فرع الالتفات إلى الأثر اللازم الاستيفاء غير المزاحم، فلو فرض عدم الالتفات إلى الأثر لم يحكم العقل بشيء، فإنّ وجوب الحركة عقلاً إنما يرتهن بالشيء بوجوده العلمي لا بوجوده العيني، وبين الوجودين عموم من وجه، وقد سبق بعض الكلام في ذلك في بداية مباحث القطع فراجع، هذا كله إن كان المراد بالقطع مطلقه.

وأما لو قيل: إن ما يتعلق به غرض الأصولي - بما هو أصولي- هو البحث

ص: 97

عن «خصوص القطع بالحكم المولوي» لا «مطلق القطع» ولا «القطع بما له أثر لازم الاستيفاء عقلاً بدون مزاحم»؛ وذلك باعتبار أن خصوص الغرض يقتضي تخصيص الموضوع، وإن كان مستند الحكم عاماً، فلا ينبغي - عليه أيضاً- إطلاق القول بوجوب الحركة على طبق القطع، لشمول الحكم للمندوب والمكروه الذين لا يحكم العقل بوجوب الحركة على طبقهما، إلاَّ أن يراد خصوص الوجوب والتحريم لا غيرهما، فتأمل.

البحث الثاني: في المراد من محمول العنوان

اشارة

أعني «وجوب الحركة على طبق القطع» إذ أنه يحتمل معانٍ أربعة:

1- الوجوب العقلي.

2- الوجوب العقلائي.

3- الوجوب الشرعي.

4- الوجوب الفطري.

ونتحدث فيما يلي حول الأوليين، وأما البحث حول الأخيريين فقد ذكر في مباحث الاجتهاد والتقليد من الفقه(1).

1) الوجوب العقلي
اشارة

وفيه مبحثان:

1- ثبوت الوجوب العقلي.

2- منشأ الوجوب العقلي.

ص: 98


1- بيان الفقه 1: 7.
1- ثبوت الوجوب العقلي

أما المبحث الأول فظاهر عبارة الشيخ وصريح الكفاية: ثبوت الوجوب العقلي في المقام.

واستدل عليه في الكفاية بشهادة الوجدان المغنية عن إقامة البرهان قال: (وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان)(1).

نعم، قد يكون الأمر الضروري لخفاء تصوره يخفى تصديقه، فاللازم توجيه الذهن إلى تصوره - كما ذكره السيد الوالد (دام ظله) (2).

وأضاف السيد الوالد في الوصول: (أن إقامة البرهان على ذلك غير معقول؛ لأنّه لابدّ وأن ينتهي إلى القطع، وإلاّ لم يفد علماً، ولم يكن برهاناً، وانتهاؤه إلى القطع مستلزم للتسلسل)(3).

بيان ذلك:

أن المطلوب إقامة البرهان: على (أنّ القطع يجب اتّباعه) فإذا أقمنا البرهان فمنتهى ما نخرج به هو «القطع» ب«وجوب اتّباع القطع».

وحينئذٍ: ننقل الكلام إلى ذلك القطع - أي القطع بوجوب اتباع القطع- فهل يجب اتباعه؟

إن قلتم: يجب اتّباعه بالوجدان.. فذلك متوفّر في القطع الأول.. فلِمَ لم

ص: 99


1- كفاية الأصول: 258.
2- الوصول 3: 284.
3- الوصول 3: 284.

تستدلّوا عليه بالوجدان؟

وإن قلتم: يجب اتّباعه بالبرهان. فمنتهى ما تخرجون به من هذا البرهان هو القطع. وهكذا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية.

وفي هذا البيان نظر.

إذ عندما نقيم البرهان على وجوب اتّباع القطع نخرج ب(القطع بوجوب اتّباع القطع).

والدليل على وجوب اتّباع ذلك القطع: هو نفس هذا البرهان.

أي أنه يدلّ على وجوب اتّباع طبيعي القطع، وهو يشمل هذا الفرد (أي القطع بوجوب اتّباع القطع).

فالأولى أن يقرّر على هذا النحو.

إنّ المطلوب إقامة البرهان على (أنّ القطع يجب اتّباعه).

ولكي يكون البرهان قطعياً يجب أن تكون صغراه وكبراه قطعيتين.

فيقول المستدلّ:

الصغرى قطعية، والكبرى قطعية فالنتيجة قطعية.

فنقول: بأي دليل يجب اتّباع قطعكم بالصغرى والكبرى.

فإن استُدلّ عليه بالوجدان، فلِمَ لم يُستدل منذ البداية به على(وجوب اتّباع القطع)، مع أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

وإن أُريد إقامة البرهان.. تسلسل الأمر إلى غير نهاية.

نظريتان أخريان

هذا ولكن أصل وجود حكم للعقل - سواء كان مفاده وجوب اتباع

ص: 100

القطع أو غيره- وقع محلاً للكلام وتوجد في هذا المجال نظريتان.

النظرية الأولى:

ما في النهاية من أنّه لا حكم للعقل مطلقاً، ودور العقل هو الإدراك المجرّد.

قال: «لا يذهب عليك أنّ المراد بوجوب العمل عقلاً ليس إلاَّ إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلّق به القطع، لا أنّ هناك بعثاً وتحريكاً من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به... ضرورة أنه لا بعث من القوّة العاقلة وشأنها إدراك الأشياء»(1).

وفيه: أنّ باعثية العقل وزاجريته من «الوجدانيات» - وهي من أقسام اليقينيات كما ذكر في بحث «الصناعات الخمس»(2).

والإنسان يحسّ من وجدانه: الفرق بين «الرؤية المجرّدة للعقل» - كإدراكه أنّ الواحد نصف الاثنين، أو قبح المنظر المشوّه- وبين «الرؤية المصحوبة بالتحريك»، كما في البعث نحو العدل والزجر عن الظلم.

وتؤيديه بعض الظواهر كقوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(3) وقوله سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}(4) وفي الحديث الشريف: «من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه

ص: 101


1- نهاية الدراية 3: 17-18.
2- الجوهر النضيد: 311.
3- النازعات: 40.
4- الطور: 32.

قبل تعليم غيره»(1).

«من كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللّه ساتر»(2).

وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في «الترتّب» وتمام الكلام موكول إلى محله.

ثمّ: لا يخفى أنّ النتيجة وهي (الجري العملي) مترتّبة على كلا التقديرين؛ إذ سواء قلنا بحكم العقل بوجوب متابعة القطع، أم قلنا بإذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة القطع، فنتيجة ذلك الجري العملي طبق القطع على كلا المبنيين. فالثمرة للبحث علمية لا عملية.

النظرية الثانية:

ما ذهب إليه في (المنتقى) قال: «إن النفس تشتمل على قوى متعددة، كالقوة الغضبية والقوة الشهوية، ولكل من هذه القوى ملائمات ومنافرات بالإضافة إليها وبلحاظها، فالانتقام مما يلائم القوة الغضبية، وينافرها عدم الانتقام. ومن قوى النفس القوة العقلية ولها ملائمات ومنافرات أيضاً. فالنفس تدرك أن هذا الأمر ممّا يلائم القوة العقلية.

وبالجملة: الذي نلتزم به حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم، بمعنى ملائمة الأول ومنافرة الثاني للقوة العاقلة.

ص: 102


1- قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم. نهج البلاغة: قصار الحكم، رقم (73).
2- بحار الأنوار 75: 455.

والتعبير بحكم العقل، تعبير عرفي، على حدّ التعبير بحكم القوة الغضبية على الإنسان، بلحاظ ما للقوة من اقتضاء العمل الملائم، وليس المراد ما قد يظهر من بعض العبارات من أن له بعثاً وتحريكاً وزجراً، كأحكام الشارع. فأنه ليس شأن العقل هو البعث والزجر، بل شأنه إدراك الأشياء»(1)، ونحوه ما ذكره صاحب الكفاية في التعليقة على الرسائل (2).

وفيه: أن هنالك مراحل:

1- الإدراك «أي إذعان العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وهو فرد من أفراد العلم».

2- الملائمة والمنافرة للقوّة العقلية - وهو من مقولة «الانفعال»- فكما أنّ للبدن انفعالاً بالكيفيات المعتورة عليه، فللشامّة انفعال منافر عند استشمام الروائح الخبيثة، وملائم عند استشمام الروائح الطيبة، وهكذا بالنسبة إلى سائر الحواس... كذلك بالنسبة إلى القوّة العقلية، فهي تلائم العدل، وتنافر الظلم، فتأمّل.

3- الحكم العقلي- بالباعثية والزاجرية... وهو من مقولة «الفعل».

ووزان ذلك: وزان البعث والزجر الخارجيين.

والظاهر وجود المرحلة الثالثة كوجود المرحلتين الأوليين والدليل ما سبق.

ثمّ الظاهر أن هذا البعث(3) إرشادي لا مولوي؛ إذ لا عقاب على مخالفة

ص: 103


1- منتقى الأصول 4: 25-26.
2- كما نقله عنه في نهاية الدراية 3: 339.
3- وكذا الزجر (منه (رحمه اللّه) ).

الهيئة، والعقاب في صورة مخالفة القطع للواقع، إنما هو باعتبار الخروج عن زيّ الرقية، وهتك الحرمة المولوية، لا على مخالفة الأمر العقلي باتّباع القطع بما هو هو، فتامّل.

2- منشأ الوجوب العقلي

ظاهر بعض العبارات أن منشأ الوجوب العقلي: هو استحقاق العقاب على مخالفة المولى وظاهر عبارة النهاية أن حقيقة الرؤية العقلية عبارة عن إذعان العقل باستحقاق العقاب على المخالفة.

هذا ولكن الظاهر: أنّ نفس مولوية المولى مقتضية للوجوب العقلي.. ولو مع قطع النظر عن مسألة استحقاق العقاب.

توضيحه بالمثال:

إننا لو فرضنا أن الأبوين مع وقوعهما في سلسلة المعدّات لوجود الولد بذلا جهوداً كبيرة في سبيل تنشأة الولد وتربيته، وكانت جميع تلك الجهود لأجله لا لذاتهما... فأن ذلك يولد حقاً للوالدين على الولد في طاعتهما في نظر العقل - ولو في الجملة- ولا يرتهن هذا الحق بلحاظ فعليّة العقوبة أو بلحاظ استحقاق العقوبة على المخالفة، بل هو حق ذاتي في نظر العقل.

فكيف بالمولى الحقيقي الذي وهب لعبيده الوجود، ووهبهم من النعم ما لا يحصى، ويرتهن بقاؤهم بإمداده فيضه في كل آن، ولو انقطع هذا الفيض في آنٍ لانتهى كل شيء؟

ألا يدرك العقل: وجود حقّ الطاعة لهذا المولى الحقيقي على عبيده ولو مع غضّ النظر عن مسألة استحقاق العقوبة؟وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

ص: 104

تذييل:

ثمّ إن هنا كلاماً آخر للنهاية حاصله: أن استحقاق العقوبة على المخالفة ليس من الآثار القهرية واللوازم الذاتية لمخالفة التكليف المعلوم قطعاً، بل من الآثار الجعلية من العقلاء.

قال: «إنّ استحقاق العقاب ليس من الآثار القهرية واللوازم الذاتيّة لمخالفة التكليف المعلوم قطعاً، بل من اللوازم الجعلية من العقلاء، لما سيأتي عمّا قريب إنشاء اللّه تعالى أن حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة، بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته وهو ظلم عليه والظلم قبيح أي مما يوجب الذم والعقاب عند العقلاء، فدخل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظلم بنحو الشرطيّة جعلي عقلائي لا ذاتيّ قهريّ كسائر الأسباب الواقعية والآثار القهرية»(1).

وهذا المبنى لا يخلو من نظر... لأن له لوازم يصعب الالتزام بها.

منها: عدم استحقاق العقاب بالنسبة إلى المكلّف الذي عصى مولاه، قبل تحقق الجعل العقلائي لقضية الاستحقاق.

مثلاً: لو فرضنا أنه لم يوجد في الكون إلاَّ مكلّف واحد، فعصى مولاه، ولم يكن المولى قد جعل استحقاق العقوبة على المخالفة، فهل يستحق العبد العقاب أو لا؟

ص: 105


1- النهاية 3: 22، 28،30،60.

بمعنى أننا لو حلّلنا بعقولنا القضية فعلاً وتساءلنا: أنّ المولى لو عاقبه، فهل العقاب وقع في محلّه أو لا؟

الظاهر: أنه نعم، بحكم الوجدان.

أما على مبنى النهاية: فإن مثل هذا المكلّف لا يستحق العقاب... لأن الاستحقاق منوط بالجعل العقلائي... ولا جعل... فلا يصح عقابه، ولو وقع لكان ظلماً... وتستمر الحال على ذلك حتى يتشكل مجتمع عقلائي، ويقرر استحقاق العقاب على المخالفة، أو يجعل الشارع الاستحقاق على المخالفة، جعلاً مستقّلاً عن جعل التكليف، بحيث يكون هنالك جعلان من قبل المولى: جعل للتكليف، وجعل آخر لإستحقاق العقاب، وأما ما ذكره في طي كلامه من أنّ علة جعل الاستحقاق من قبل العقلاء هي الحفاظ على «المصالح العقلائية العامة»، فلازمه عدم استحقاقه العقاب على الظلم، أو المعصية في صورة عدم إخلالها بها؛ وذلك لأنه في هذه الصورة تنتفي العلة، وبانتفائها ينتفي المعلول قهراً.

وبعبارة أخرى: إنّ بقاء النوع وحفظ النظام - ونحوها- محبوبة من جميع العقلاء وهي تدعوهم إلى الحكم بمدح ما فيه المصلحة العامة، وذمّ ما فيه المفسدة العامة، وجعل استحقاق العقاب على المخالفة.

فلو فرضنا انتفاء مفسدة العلة، كمن مثّل بحيوان قطّعه بالمقراض قطعة قطعة في جزيرة نائية، ولم يترتب على ذلك أي مفسدة عامة، بل لم يطّلع على ذلك أحد من الناس حتى انقراض العالم، فلازم كلام النهاية أنه لا يستحق العقاب، ولو عوقب لكان عقابه ظلماً، مع أن الوجدان لا يساعد على ذلك.

ص: 106

اللّهم إلاَّ أنْ يقال: إنّ ذلك حكمة لا علة، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى ما في المنتقى من «أن ما ذكره من أن الحكم بحسن العدل بمعنى استحقاق المدح عليه، والحكم بقبح الظلم بمعنى استحقاق الذم عليه، ليس من الأحكام العقلية الداخلة في القضايا البرهانية، بل من الداخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء وأنظارهم، فيكون حكماً مجعولاً لا أمراً واقعياً - ما ذكره بهذا الصدد- غير صحيح؛ وذلك لأن المراد من النظر ما يساوق بناء العقلاء في مقام العمل.

وعليه فنقول: إنّ بناء العقلاء العملي يمتنع أن يكون عن ارتجالٍ، فإنّ ذلك ينافي مع فرض كونهم عقلاء، بل لابدّ أن ينشأ بناءهم عن أمر راجح، بحيث يكون ما بنوا عليه من مصاديقه أو أسبابه.

وعليه، فإذا فرض أن بناءهم على قبح الظلم ناشئ عن أمر راجح، كحفظ النظام مثلاً فننقل الكلام في ذلك الأمر الراجح، فهل يكون رجحانه وحسنه أمراً عقلياً أو عقلائياً، فعلى الثاني، ننقل الكلام فيما دعى إليه ويتساءل عن أنه أمر عقلي واقعي أو عقلائي جعلي وهكذا، وعلى الأول، يلزم أن لا يكون حسن العدل وقبح الظلم أمراً عقلائياً مجعولاً، بل أمراً عقلياً واقعياً؛ لأنه من مصاديق العنوان الراجح، فالعدل حفظ النظام وهو حسن، والظلم إخلال به وهو قبيح»(1).

إن قلت: إذا كانت قضية «استحقاق العقاب على المخالفة» من القضايا البرهانية فهي مندرجة في أية واحدة منها؟

ص: 107


1- منتقى الأصول 4: 24-25.

قلت: إنها مندرجة في «الأوليات» أي ما يكفي صرف تصور الموضوع والمحمول والنسبة في الحكم عليها.

ولذا نرى أن «الطفل» الذي لا يفهم مسألة «بناء العقلاء» أو مسألة «اختلال النظام»، أو مسألة «حفظ المصالح العامة»، يرى نفسه مستحقاً للعقاب عند المخالفة، بخلاف ما لو لم يرتكب معصية فإنّه يرى إيقاع العقاب عليه ظلماً وعدواناً.

بل قد يدّعى: أن مسألة الاستحقاق فطرية... فتعم غير الإنسان أيضاً، فتأمّل.

إنْ قلت: إذا كانت قضية الاستحقاق من القضايا البرهانية، فكيف وقع فيها النزاع من العقلاء؟- وقد استدل بذلك في النهاية على عدم كونها منها(1).

قلتُ: أن نزاع العقلاء لا يكون دليلاً على عدم ضرورية المسألة، فإنها بذاتها لا تقتضي الحكم ما لم تنضم إلى ذلك عوامل متعددة.

منها: فقدان الشبهة.

ومنها: غير ذلك(2).

ألا ترى عدم تحقق الواسطة بين (الوجود والعدم) من الضروريات.. مع أن بعض المعتزلة ذهبوا إلى تحققها وسموها ب(الحال)، وعرفوها بأنّها صفة لموجود لا موجودة ولا معدومة.

ص: 108


1- نهاية الدراية 3: 30.
2- المنطق 1: 22.

وإنّ احتياج الممكن إلى المؤثر من الضروريات... مع إنكار البعض لذلك.

وإنّ ثبوت (الوجود) من الضروريات... مع أن السوفسطائيين أنكروا وجود الواقعية مطلقاً... وأنكر بعضهم وجود المنكر والمنكر والإنكار جميعاً.

إن قلتَ: إذا كان كذلك فلماذا أدرجوا هذه القضية في المشهورات؟

قلتُ: للمشهورات معنيان:

الأول: المشهورات بالمعنى الأعم... وهي ما تطابقت عليها آراء العقلاء، وإن كان يدعوهم إلى ذلك كونها أولية.

وعلى هذا فقد تدخل القضية الواحدة في (اليقينيات) و(المشهورات) باعتبارين.

الثاني: المشهورات بالمعنى الأخص أو (المشهورات الصرفة)... وهي القضايا التي لا عمدة في التصديق بها إلاَّ الشهرة وعموم الاعتراف بها:

مثل: (إنّ الفقير إذا أصبح ملكاً فلابدّ أن يكون ظالماً).

ومثل تشاؤم بعض العرب بنعيق الغراب.

وينبغي أن يكون المراد في المقام المعنى الأول، فلا ينافي إدراج القضية في المشهورات: كونها أولية.

ولو فرضنا أنه أريد المعنى الثاني لم يكن مورداً للتصديق؛ لما ذكرناه آنفاً. فلاحظ.

ثمّ إنّ أثر هذا البحث يظهر في إمكان الردع عن العمل بالقطع وعدمه،

ص: 109

على تفصيل وتأمل يأتي التعرض له إن شاء اللّه تعالى(1).

2) الوجوب العقلائي

وقد أنكر وجوده في المقام صاحب النهاية، حيث قال: «كما أنه لا بعث ولا تحريك اعتباري من العقلاء»(2).

ولم يرتض ذلك السيد الوالد (دام ظله) وقال: «مع وضوح أنّهم يبعثون ويحرّكون»(3).

أقول: البعث يمكن أن يراد به أحد معاني ثلاثة:

1- البعث الخارجي التكويني، بمعنى التحريك العملي، ولا شكّ في وجوده.

فالأب - مثلاً- يبعث ولده بعثاً تكوينياً نحو ما يراه مصلحة ملزمة، ويزجره زجراً تكوينياً عمّا يراه مفسدة ملزمة، فيوجر الدواء المرّ في حلق ولده عند مرضه، وينتزع من يده الطعام الضارّ إذا أراد أن يتناوله، وهكذا الأمر في سائر العقلاء.

2- البعث الاعتباري نحو ما يرونه مصلحة، والزجر الاعتباري عمّا يرونه مفسدة، وهذا موجود في جميع المجتمعات المدنية حيث يقنّنون القوانين التي يرونها في صالح الفرد، أو المجتمع عبر «القوّة التشريعية»، بل يلزمون

ص: 110


1- راجع المبحث الثالث الصفحة 83.
2- نهاية الدراية 3: 18.
3- الأصول 5: 78.

الأفراد بإطاعتها عبر «القوة التنفيذية»، بل حتى المجتمعات البدائية لا تخلو عادة من التقنين والتنفيذ.

3- البعث الاعتباري نحو اتّباع القطع. وهذا هو الذي نفاه المحقّق الأصفهاني. وفيه نظر.

إذ قد يقال بتحقق البعث الاعتباري نحو اتّباع القطع من قبل العقلاء على غرار تحقّق البعث الاعتباري نحو اتّباع القطع من قبل العقل.

بمعنى أن العقلاء يلزمون القاطع باتّباع قطعه بتكليف المولى، ويرونه مستحقاً للعقوبة لو خالف قطعه - ولو فرض كون قطعه مخالفاً للواقع.

فالمقام نظير سائر موارد توارد الوجوب العقلي والعقلائي، فكما يأمر العقل والعقلاء بالعدل - بمختلف مصاديق- ويزجر العقل والعقلاء عن الظلم - بمختلف أفراده- كذلك يأمر العقل والعقلاء باتّباع القطع.

ثمّ إنه يأتي في المقام ما ذكرناه آنفاً من كون هذا الوجوب إرشادياً لا مولوياً، فتأمّل.

ص: 111

المبحث الثالث

المبحث الثالث : هل يمكن للشارع الردع عن العمل بالقطع أو لا؟

اشارة

والمعروف في كيفية طرح العنوان هو: أنّه هل يمكن للشارع المنع عن العمل بالقطع أو لا؟

وطرحه بعض الأصوليين بعنوان: أنّه هل يمكن للشارع جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به كما تجعل الأحكام الظاهرية في موارد الشبهات البدوية أو لا؟

وهذا أولى إذ قد لا يمنع الشارع من العمل بالقطع ولكن الفرض ترخيصه في ترك العمل وفق الحكم المقطوع به، كما لو قطع المكلّف بنجاسة الإناء فرخص له الشارع في التعامل معه معاملة الطاهر.

فهذا أشمل من الأول.

ولنقدّم لتنقيح محل البحث ثلاث مقدمات

الأولى: إنّ القطع على ثلاثة أنواع

1- القطع بالحكم الاقتضائي.

2- القطع بالحكم الإنشائي.

3- القطع بالحكم الفعلي.

أما في الأوليين فلا مانع من جعل حكم مخالف للحكم المقطوع به، بأن

ص: 112

يقول الشارع مثلاً: إن قطعت بالحرمة الاقتضائية أو الإنشائية لكذا فهو لك حلال... إذ ليست الحرمة الإقتضائية، أو الإنشائية حكماً حقيقة، ولو فرض كونها حكماً حقيقة، فلا تضاد بينها وبين الحكم الفعلي المخالف على ما سوف يأتي في مباحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري إن شاء اللّه تعالى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في بداية مباحث القطع(1)، فالكلام فعلاً في النوع الثالث.

الثانية: إن القطع قسمان

1- قطع موضوعي.

2- قطع طريقي.

أما بالنسبة إلى الأول فللشارع أن يجعل قسماً خاصاً من القطع موضوعاً للحكم، أو جزءاً من الموضوع، فإذا انتفى ذلك القسم من القطع انتفى الموضوع، وبانتفائه يكون انتفاء المحمول قهرياً، إذ نسبة الموضوع إلى المحمول كنسبة العلّة إلى المعلول، فانتفاؤه مستلزم لانتفائه.

مثلاً: لو رتّب الشارع جواز الشهادة بالزنا على القطع بالزنا الحاصل عن طريق الرؤية، كالميل في المكحلة، وكالرشا في البئر فحصل له القطع بالزنا عن طريق التحليل المختبري، أو الحدس القطعي، لم يحق له الشهادة بذلك، فالكلام هنا: في القطع الطريقي لا الموضوعي، وفي المقام تفصيل سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 113


1- راجع الصفحة 99-100 من هذا الكتاب.
الثالثة: إن الردع عن العمل بالقطع نوعان

1- الردع بفرض إزالة الموضوع.

2- الردع بفرض آخر مع فرض انحفاظ الموضوع.

والأول لا إشكال فيه، مع توفر مقتضيات ذلك، وهو من باب تغيير الحكم بتغيير موضوعه، والمحاجة مع أهل الضلالة - لو فرض قطع بعضهم بصحة معتقده- هي من هذا الباب.

فالكلام في النوع الثاني

والمعروف أنّه لا يمكن للشارع المنع عن العمل بالقطع الطريقي المتعلّق بالحكم الفعلي، مع فرض انحفاظ الموضوع، واستدل على ذلك بوجوه:

الوجه الأول: لزوم التفكيك بين اللازم العقلي وملزومه.

واللوازم العقلية غير قابلة للوضع، ولا للرفع، فإنّ الأول تحصيل للحاصل.

والثاني: خلف - وإن كان محل البحث فعلاً هو الثاني.

مثلاً: لو كانت الزوجية لازماً عقلياً لذات الأربعة فلا يمكن إعطاء الزوجية لها؛ لأنّها واجدة للزوجية، فاعطاؤها إيّاها تحصيل للحاصل.

كما لا يمكن سلب الزوجية من الأربعة؛ لأنه خلاف فرض كونها من لوازم ذات الأربعة.

نعم، يمكن جعل الزوجية بالعرض، وذلك بجعل ملزومها بالذات.

كما يمكن رفعها بالعرض، وذلك برفع ملزومها بالذات [وحيث إنّ «الحجية» و«وجوب العمل» من اللوازم العقلية ل«ذات القطع» فلا يمكن سلبها من القطع وإلاّ لزم التفكيك المزبور].

ص: 114

قال صاحب الكفاية: «ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً. وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً»(1).

وقد يقرر هذا الوجه بأنه إن أُريد بالردع إزالة الحجّية الذاتية، فهو تفكيك للذاتي عن الذات وهو محال.

وإن أُريد جعل ما يخالف الحكم المقطوع به رغم ثبوت الحجّية الذاتية، فهذا تناقض مع حكم العقل.

وإن أُريد إزالتها بإزالة موضوعها تكويناً، فهذا لا إشكال فيه، إلاَّ أنه خروج عن محل الكلام.

وهذا الدليل قد يُناقش فيه من جهتين:

الجهة الأولى: ما في النهاية: «من أنّ الامتناع إنّما يجري في المتلازمين واقعاً لا جعلاً»(2)، وحيث إن استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المقطوع به أمر جعلي لا لازم عقلي، يصح تفكيكه عن القطع، وبه ينتفي وجوب العمل بالقطع عقلاً - بمعنى إذعانه باستحقاق العقاب على المخالفة.

وهذا المبنى قد تقدم النظر فيه فراجع.

الجهة الثانية: ما ذهب إليه صاحب الفصول (رحمه اللّه) وتبعه على ذلك بعض المعاصرين من أنّ حكم العقل بوجوب متابعة القطع بالحكم الفعلي ليس

ص: 115


1- كفاية الأصول: 258.
2- نهاية الدراية 3: 22.

تنجيزياً، بل هو معلّق على عدم ورود الترخيص في المخالفة من الشارع.

وبعبارة أخرى: ليس القطع علّة تامّة للحجّية، بل هو مقتضٍ لها.

ومن الواضح إمكان إبطال اقتضاء المقتضي بوجود المانع عن المقتضى وربما يمكن أن يوضّح ذلك بالبيان التالي:

إن العمل بالقطع قد يكون فاقداً للملاك - كما في صورة القطع المخالف للواقع- وقد يكون واجداً للملاك، إلاَّ أنه مزاحم بالملاك الأهم (1) - كما في صورة القطع المطابق للواقع- ولذلك يرخص الشارع في ترك العمل بالقطع، أو يردع عن العمل به، ومع الالتفات إلى ذلك لا يأبى العقل - الحاكم بحجّية القطع- عن الترخيص أو الردع المذكورين.

مثلاً: ربما يكون ملاك عدم عمل الوسواسي بقطعه أقوى من الملاك الموجود في عمله بقطعه، فيأمره الشارع بعدم العمل بقطعه، فلو قطع بنجاسة مائع أمره الشارع بالتعامل معه معاملة الطاهر؛ لوجود الملاك الأهم في معاملته معه كذلك.

وهكذا لو علم الشارع أنّ عمل المكلّفين بقطوعاتهم الحاصلة عن طريق المنام والجفر والرمل ونحوها تترتّب عليه مفاسد أشدّ من المفاسد المترتّبة على ترك العمل بالقطع فيمكن له أن ينهى عن العمل دفعاً للأفسد بالفاسد.

وقد يجاب عن هذه المناقشة بأن مآل ذلك:

أما إلى زوال الموضوع أي القطع.

ص: 116


1- وقد يقال بكفاية المساوي في الحكم بالترخيص، فلاحظ (منه (رحمه اللّه) ).

وأما إلى كون الردع بفرض إزالة الموضوع.

وأما إلى وجود ملاك يقتضي تقييد موضوع الحكم - بالمعنى الأعم للتقييد- وبانتفاء القيد ينتفي الموضوع، فينتفي الحكم قهراً، وبالنتيجة يكون القطع في أمثال هذه المقامات موضوعياً لا طريقياً.

وهذا نظير العناوين الثانوية، كما لو قال الشارع: (أكل الميتة حرام) ثمّ قال: (إلاَّ ما اضطررتم) فإن نتيجة الجمع بين الدليلين هي: أن أكل الميتة غير المضطر إليها حرام.

ومن هنا يظهر النظرة فيما ذكره صاحب الفصول (رحمه اللّه) حيث مثّل لمنع الشارع عن العمل ببعض أقسام القطع بما إذا قال المولى لعبده: لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك، أو يؤدّي إليه حدسك، بل اقتصر على ما يصل إليك مني بطريق المشافهة والمراسلة(1).

اللّهمّ إلاَّ أن يكون مراده القطع الموضوعي، كما استظهره السيّد الوالد (دام ظله) (2).

هذا وفي المقام تفصيل ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه تعالى(3).

الوجه الثاني: ما في الكفاية من أنّ الردع عن العمل بالقطع يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقاداً مطلقاً، وحقيقة في صورة الإصابة(4).

ص: 117


1- فرائد الأصول 1: 67.
2- الوصائل 1: 178.
3- راجع الصفحة 139.
4- كفاية الأصول: 258.

فلو قطع المكلّف بأنّ شرب العصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين حرام، فسوّغ له المولى شربه، فإن كان العصير حراماً في الواقع: اجتمعت الحرمة والإباحة في صقعه، وفي نظر القاطع أيضاً.

وإن كان مباحاً في الواقع: اجتمعتا في نظره، وإن لم تجتمعا في صقع الواقع.

وقد يسأل: ما هو محذور اجتماع الضدّين في اعتقاد المكلّف؟

والجواب: إنه لا يمكن تصديق المكلّف بهما معاً، وما لا يمكن تصديق المكلّف به يستحيل جعله من قبل المولى بداعي جعل الداعي.

قال في النهاية: «وكفى به - أي باجتماع الضدّين أو المتناقضين في نظر القاطع- مانعاً؛ لعدم تمكن المكلّف من تصديقه بعد تصديقه بمثله أو ضدّه أو نقيضه، فلا يعقل من المولى حينئذٍ البعث والزجر؛ لأنهما لجعل الداعي، والمفروض استحالته في نظر المكلّف»(1).

فمثلاً: لو قال الشارع: (الخمر حرام).

فسأل المكلّف المولى: هل الخمر حرام بأي طريق علمت به خمريتها؟ أو إذا علمت بطريق خاص؟

فقال المولى: بل هي حرام بأي طريق علمت.

فقطع المكلّف بأنّ هذا المايع خمر، فحينئذ يقطع بأنّه حرام.

فإذا قال له المولى: إنّ هذا المائع حلال لم يستطع المكلّف تصديق كلا

ص: 118


1- نهاية الدراية 3: 19-20.

الدليلين؛ لأنه يراهما متناقضين أو متضادّين.

وحيث إنّ التكليف المولوي هو بداعي جعل الداعي في نفس المكلّف، فإذا استحال «جعل الداعي في نفس المكلّف» يستحيل التكليف، لفقدانه علّته الغائية، مع أنّ وجود الشيء رهين بعلله الأربع.

وبالجملة: استحالة تصديق المكلّف بالتكليف تستلزم استحالة التكليف، لفقدانه غايته.

ويمكن أن يناقش في هذا الوجه بمناقشتين.

المناقشة الأولى:

ما قيل من أنّه لا تضادّ في الأحكام الشرعية.

وفي النهاية: «إن الحكم سواء كان بمعنى الإرادة والكراهة أو البعث والزجر الاعتباريين ليس فيه تضاد وتماثل، فإنها من صفات الأحوال الخارجية للموجودات الخارجية»(1).

وفيه نظر:

إذ أنه وإن لم يكن تضاد بين نفس الأحكام، لكونها أمور اعتبارية - بالمعنى الأخص للاعتبار لا بالمعنى الأعم الشامل للإنتزاعيات- والأمور الاعتبارية لا وجود لها، إلاَّ ما في وعاء الاعتبار، الذي هو - أيضاً- موجود افتراضي، فلا يصح نعتها لا بالتضاد ولا بغيره من النعوت الحقيقية؛ لأن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، كما هو واضح.

ص: 119


1- نهاية الدراية 3: 20.

إلاَّ أن المحذور هو التضادّ في المنتهى- بالذات- والتضادّ في المبدأ- بالتبع.

بيان ذلك: إنّ التضادّ يطلق على ثلاثة أنواع:

1- التضادّ بالذات: بأن يكون التضادّ ذاتياً ناشئاً من ذات المتضادّين.

2- التضادّ بالتبع: بأن يكون التضادّ غيرياً معلولاً لعلّة خارجة عن الذات.

3- التضادّ بالعرض: بأن يكون التضادّ مجازياً ويكون مصحّح إطلاقه على ما وصف به الملابسة بينه وبين ما اتصف به حقيقة.

والانبعاث والانزجار التكوينيان متضادّان؛ إذ لا يمكن للمكلّف أن ينبعث - انبعاثاً تكوينياً- نحو الشيء، وينزجر - انزجاراً تكوينياً- في نفس الوقت عن ذلك الشيء وهذا تضادّ بالذات.

ومن المقرّر في محلّه: سراية التضادّ - ونحوه من النعوت- من المراد إلى الإرادة - حين الالتفات.

مثلاً: إذا كان السير إلى المغرب والسير إلى المشرق متضادّين فلا يعقل تعلّق إرادة المريد بهما معاً - مع التفاته إلى كونهما متضادّين.

وحينئذٍ: يكون بين إرادة الانبعاث والانزجار المتضادّين تضادّ بالتبع، فلا يعقل إرادتهما معاً من قبل المولى.

وأمّا التضادّ في نفس الأحكام فليس تضادّاً بالذات، ولا بالتبع، بل هو تضادّ بالعرض.

وعلى كل حال: فوجود التضادّ بالذات في المنتهى، وبالتبع في المبدأ يكفي في استحالة وجود حكمين متضادّين.

ص: 120

وأما غير الوجوب والحرمة من سائر الأحكام فيعلم الكلام فيها مما تقدم، فليتأمل.

ثمّ إن عدم تحقق التضاد بين الأحكام الشرعيّة في متن الواقع لا يرفع محذور اجتماع الضدين في اعتقاد القاطع - ولو في الجملة- فلا يمكن تصديق المكلّف بالدليلين معاً، وإن رفع محذور اجتماع الضدين حقيقة في صورة الإصابة.

المناقشة الثانية:

إنّ الداعي إلى جعل التكليف لاينحصر في جعل الداعي، بل يمكن أن يكون غيره أيضاً، وعليه: فلا مانع من جعل حكمين في ذمّة المكلّف: أحدهما بداعي جعل الداعي، والآخر بداعٍ آخر، وسيأتي تفصيل ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

الوجه الثالث: إنه يلزم منه لغوية جعل الأحكام؛ إذ المولى لو جعل أحكاماً، ثمّ قال للمكلّف: إن علمت بها لم تجب عليك كان الجعل لغواً، فتأمّل.

الوجه الرابع: إنه يلزم منه نقض الغرض، حقيقة في صورة الإصابة، واعتقاداً مطلقاً؛ إذ الأحكام تابعة لملاكات في متعلّقها - على ما هو المعروف بين العدلية- أو في الجعل.

فإذا جعل المولى العلم بالحكم موضوعاً لضدّ ذلك الحكم أو نقيضه؛ لزم تفويت الملاكات الواقعية على المكلّف ونقض الغرض، وهو قبيح.

هذا تمام الكلام في الوجوه المستدلّ بها لامتناع ردع الشارع عن العمل

ص: 121

بالقطع الطريقي.

تفصيل في المقام:

ولكن قد يقال: إن الردع التشريعي عن العمل بالقطع الطريقي له صور، وقبل الشروع في ذلك لا بأس بالإشارة إلى أن داعي المكلّف - بالكسر- إلى التكليف لا ينحصر في (إيجاد الداعي) في نفس المكلّف - بالفتح- بل يمكن أن يكون غيره أيضاً.

مثلاً: ربما يكون إيجاد الداعي في نفس المكلّف محالاً - بالاستحالة الغيرية- فلا يمكن أن يكون غرضاً من التكليف المكلّف الملتفت؛ لأن ما يعلم الفاعل بعدم ترتبه على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً له منه؟ فلابدّ أن يفرض الداعي شيئاً آخر.

فالنائم مثلاً: فيخاطب بأداء الفريضة بلا إشكال مع أنّ جعل الداعي في نفسه نحو المتعلق محال؛ ولذا يكون الداعي شيئاً آخر، وقد يفرض كونه هو بعث المكلّف نحو القضاء حين الاستيقاظ، باعتبار فوت الفريضة، الذي لا يتحقق إلاَّ بثبوت التكليف في داخل الوقت.

والعاصي - مثلاً- مكلّف بالتكاليف بلا إشكال، وكذا الكافر بالنسبة إلى الأصول الاعتقادية بلا خلاف، بل بالنسبة إلى الفروع العملية أيضاً بناءً على المشهور من أنّ الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، الامتثال، فلا يصحّ أنْ يكون داعي المولى إلى التكليف إيجاد الداعي، بل هو داعٍ آخر وقد يُفرض كونه إتمام الحجة على العبد.

وبالجملة: اللازم أن يكون هنالك أثر مصحح للتكليف، دفعاً للغوية، ولا

ص: 122

يتعين كونه جعل الداعي.

إذا تمهّد ذلك فنقول:

إن ردع القاطع بالحكم الفعلي عن العمل مع فرض انحفاظ الموضوع على نحوين:

النحو الأول: أن يكون بداعي جعل الداعي.

والظاهر أنه محال مطلقاً، سواء كان القاطع مصيباً في قطعه أم مخطئاً، وذلك لإستحالة وجود داعيين نحو أمرين متضادين - أو متناقضين- في نفس الوقت.

وحيث إنّ المراد محال تكون الإرادة محالة أيضاً، على ما قرر في محله.

ولا فرق فيما ذكرناه بين كون القطع طريقياً واقعاً أو موضوعياً، مع فرض حصول القطع للقاطع بالحكم الفعلي، فما يظهر من بعض الكلمات من كون المراد على القطع الطريقي لا يخلو من نظر.

النحو الثاني: أن يكون بداعٍ آخر.

وهنا صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون القاطع مصيباً في قطعه، ولم يتضح للردع فرض معقول.

الصورة الثانية: أن يكون القاطع مخطئاً في قطعه، والظاهر أنه لا بأس به.

وأثر الردع: وجوب القضاء - مثلاً- بعد انكشاف الواقع، ولو لوليّه بعد موته.

وقد يشكل على الردع بفرض إزالة الموضوع في صورة مطابقة القطع

ص: 123

للواقع.

والجواب: أنه يمكن أن يفرض بسبب تزاحم الملاكات، وتقديم الشارع الأهم منها على المهم.

وذلك مثل ردع الشارع الوسواسي عن تجديد الطهارة الحدثية في صورة قطعه بانتقاضها، مع مطابقة قطعه، في صورة إمكان إزالة القطع، كما لو لم يلتفت إلى أن قطعه طريقي - كما لعله الغالب في الغالب- وذلك لقلع جذور الوسوسة عن نفسه مثلاً.

وأما كون الحجّية لازماً عقلياً لا يمكن انفكاكها عن القطع، فلا يقدح في ذلك؛ إذ ليس الردع بداعي سلب الحجّية العقلية، بل بداعي ترتيب آخر.

وأما اجتماع الضدين اعتقاداً فلا يلزم، إذ في طرف القطع لا تصديق من قبل القاطع إلاَّ بالحكم المقطوع به، وبعد زوال القطع لا تصديق إلاَّ بالحكم الآخر.

وأما اللغوية ففيه: أن الحكم المقطوع به ليس ثابتاً في متن الواقع، وإلى الآخر ليس بداعي جعل الداعي كي يكون لغواً.

وأما نقض الغرض ففيه أنه تحقيق للغرض لا نقض له.

تذنيب: في ردع الوسواسي عن العمل بقطعه

وأما ردع الوسواسي عن العمل بقطعه فيما فرض كونه قطعاً طريقياً، فلعل الغرض منه أحد أمرين:

الأول: السعي لإزالة الموضوع (أي القطع) سواء فرض كون قطعه مخالفاً للواقع أم مطابقاً.

ص: 124

الثاني: ترتيب بعض الآثار على الردع، كوجوب القضاء مثلاً بعد انكشاف الواقع، وذلك في فرض كون قطعه مخالفاً للواقع.

وأمّا محذور اجتماع الحكمين المتضادّين، فيندفع: بأن أحدهما بداعي جعل الداعي، والآخر بداعٍ آخر، ولا مانع من اجتماع حكمين بداعيين مختلفين.

مثلاً: يمكن أن يكون الأمر بتحصيل الشرط في المقام بداعي القضاء عند انكشاف الواقع، ولو لوليّه بعد موته، والنهي عن اتّباع الوسوسة بداعي جعل الداعي، فلا منافاة بين الاثنين.

ويؤيد ما ذكرناه - في الجملة- ما قاله الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «وإن أريد بذلك وجوب ردعه - أي القطاع.. ولو بأن يقال له - في الجملة: إن اللّه سبحانه لا يريد منك الواقع، لو فرض عدم تفطّنه لقطعه، بأن اللّه يريد الواقع منه ومن كل أحد فهو حقّ لكنّه يدخل في باب الإرشاد، ولا يختص بالقطاع، بل بكل من قطع بما يقطع بخطئه فيه من الأحكام الشرعية، والموضوعات الخارجية المتعلّقة بحفظ النفوس والأعراض، بل الأموال في الجملة»(1).

ولا يستشكل على ذلك بأنه مخالف للواقع، فإنه إمّا أن يكون مسوقاً على وجه التورية، أو من باب الأهم والمهم، كما ذكره السيّد الوالد (دام ظله) (2).

ص: 125


1- فرائد الأصول 1: 66.
2- الوصائل 1: 174.

تنبيه

هذا كلّه في الردع التشريعي.

وأما الردع التكويني - كأن يقبض على يد من يريد قتل من يقطع بكونه مهدور الدم- فالظاهر جوازه مطلقاً، إلاَّ في فرض أداء ذلك إلى تفويت الملاكات المولوية الملزمة، كما لو قطع بكون زيد مهدور الدم، وكان قتله على يده لازماً، فإنه لا يجوز ردعه ردعاً تكوينياً عن ذلك، فتأمل.

ص: 126

المبحث الرابع : في معذرية القطع

كما أنّ القطع منجّز للتكليف كذلك هو معذّر عنه، والمنجّزية ثابتة في صورة إصابة القطع للواقع، بينما المعذّرية ثابتة في صورة خطأ القطع للواقع.

والدليل على ثبوت المعذّرية هو شهادة الوجدان.

وقد يقرر ذلك بعدم تحقق المنجزية - عقلاً- وهو ملازم لثبوت المعذرية كذلك.

بيان ذلك: إنّ التكليف بوجوده الواقعي النفس الأمري، دون أن يصل إلى المكلّف لا يمكن أن يكون محرّكاً له فكيف يحكم العقل- أو الشرع- بلزوم الانبعاث والتحرّك عنه.

فلابدّ أن يكون التكليف واصلاً بنحو من أنحاء الوصول إلى المكلّف كي يكون منجّزاً عليه.

وبعبارة أخرى: التكليف بوجوده الواقعي ليس موضوعاً لحقّ الطاعة عقلاً، بل بما هو واصل إلى المكلّف يكون موضوعاً لذلك - ولو كان الوصول بصرف الاحتمال، في صورة كونه منجّزاً للتكليف- ولا وصول حتى احتمالي في حالة القطع بالعدم.

وانتفاء المنجزية عقلاً ملازم لثبوت المعذرية كذلك - كما تقدم.

وتدل على ذلك أيضاً: الروايات الشريفة الواردة في معذورية الجاهل

ص: 127

القاصر، وأنه يمتحن في الآخرة.

منها: ما في الخصال قال: أبي، عن محمّد العطار، عن الأشعري، عن علي بن إسماعيل، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا كان يوم القيامة احتج اللّه عز وجل على خمسة: على الطفل، والذي مات بين النبيين، والذي أدرك النبي وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، فكل واحد منهم يحتج على اللّه عز وجل، قال فيبعث اللّه إليهم رسولاً فيؤجج لهم ناراً فيقول لهم: ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن عصى سيق إلى النار» قال الصدوق (رضي الله عنه) : إنّ قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك ويقولون: «إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء تكليف، ودار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة، ودار الجزاء للكافرين إنما هي النار». وإنما يكون هذا التكليف من اللّه عز وجل في غير الجنة والنار، فلا يكون كلّهم في دار الجزاء ثمّ يصيرون إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم، فلا وجه لإنكار ذلك ولا قوة إلاَّ باللّه(1).

ومنها: ما في معاني الأخبار قال: أبي عن سعد، عن أحمد بن محمّد عن أبيه، عن حماد عن حريز، عن زرارة، قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) .. مثله(2).

ومنها: في الكافي قال: علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن

ص: 128


1- بحار الأنوار 5: 289-290.
2- بحار الأنوار 5: 290.

أبي عبد اللّه (عليه السلام) .... أنه سئل عمّن مات في الفترة، وعمّن لم يدرك الحنث والمعتوه؟ فقال: يحتج اللّه عليهم، يرفع لهم ناراً فيقول لهم: ادخلوها فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى قال: ها أنتم قد أمرتكم فعصيتموني(1).

ومنها: ما في الكافي بهذا الإسناد قال: ثلاثة يحتج عليهم: الأبكم، والطفل، ومن مات في الفترة، فيرفع لهم ناراً فيقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى قال تبارك وتعالى: هذا قد أمرتكم فعصيتموني(2).

ولا يستلزم ما ذكرناه: تقيّد الأحكام بالعلم بها، بل الأحكام مطلقة، إلاَّ أن تنجّزها منوط بالوصول.

ثمّ لا يخفى أن المعذرية خاصّة بالقطع القصوري.

وأمّا القطع عن تقصير في المقدّمات فلا يكون معذّراً.

فلو علم أن قراءته للكتب الكذائية توجب إنحراف عقيدته فقرأها وقطع بما خالف الواقع لم يكن معذوراً.

والسبب في ذلك: أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار، وأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ويجمع هاتين القاعدتين قولهم: «ما بالاختيار لا ينافيه».

ومثل ذلك مثل ما لو ألقى بنفسه من شاهق فإن الارتطام بالأرض،

ص: 129


1- بحار الأنوار 5: 292.
2- بحار الأنوار 5: 293.

وتهشم العظام، وزهوق الروح، ليست أموراً اختيارية بذاتها، إلاَّ أن اختيارية مقدماتها كافية في إجراء أحكام الاختيار عليها.

نعم، عدم المنافاة إنما هو بلحاظ العقاب، وإن كانت المنافاة ثابتة بلحاظ الخطاب، على ما فصّل في محلّه.

ثمّ لا يخفى أن الآثار الوضعية تترتّب على الشيء، وإن كان الفاعل معذوراً في ارتكابه، ولعله من أجل ذلك يستعيذ المؤمن كل يوم عادة من أن ينخرط في سلك الظالين، كما يستعيذ من أن ينخرط في سلك المغضوب عليهم بقوله: {اهْدِنَا

الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.

والحمد لله رب العالمين

ص: 130

فصل في التجري

اشارة

ص: 131

ص: 132

والمراد به اصطلاحاً «المخالفة الاعتقادية» أي المخالفة في اعتقاده، مع عدم كونها مخالفة في الواقع، كمن شرب مائعاً باعتقاد أنه خمر فبان خلاًّ، أو ترك الصيام في يوم اعتقد أنه أول شهر رمضان، ثم بان أنه كان آخر شهر شعبان. هكذا قيل، ولكن الظاهر أن التجري أعم من ذلك؛ إذ هو عبارة عن الاقتحام فيما لا يوجد فيه مؤمّن عقلي ولا شرعي، وإن لم تتحقق المخالفة القطعية في اعتقاده، كما لو اقتحم في بعض أطراف العلم الإجمالي المنجز برجاء تحقق المعصية، أو لعدم المبالاة بمصادفة الحرام، أو برجاء عدم تحقق المعصية فاتفق عدم مصادفة المعصية، وكذا الأمر في الاقتحام في الشبهات الحكمية، قبل الفحص في الصور الثلاث.

نعم، مع وجود المؤمّن العقلي أو الشرعي لا يصدق عنوان التجري، وإن احتمل تحقق المخالفة للحكم الواقعي، كما في شرب التتن اعتماداً على أصالة البراءة مثلاً.

وقد أشار إلى ذلك الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الرسائل(1) وسيأتي بعض ما يرتبط بهذا البحث في ختام مباحث التجري إن شاء اللّه تعالى(2).

ص: 133


1- فرائد الأصول 2: 10.
2- راجع الصفحة 276.

ثمّ إنّ النسبة بين المعنى الاصطلاحي للتجرّي والمعنى اللغوي هي «العموم المطلق».

إذ التجرّي لغة مأخوذ من «الجرأة» وهي تعمّ المخالفة الاعتقادية والواقعية.

وفي دعاء الصباح «وتبّاً لها لجرأتها على سيّدها ومولاها»(1).

ثمّ إنّ في التجري مباحث ثلاثة:

المبحث الأول: في حرمة الفعل المتجرّى به.

المبحث الثاني: في قبح الفعل المتجرّى به.

المبحث الثالث: في استحقاق المتجرّي للعقاب.

ص: 134


1- بحار الأنوار 91: 244؛ الدعاء والزيارة: 117.

المبحث الأول : في حرمة الفعل المتجرّى به

اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: في حرمة الفعل المتجرّى به بالعنوان الأولي.

المقام الثاني: في حرمة الفعل المتجرّى به بالعنوان الثانوي.

المقام الأول: في حرمة الفعل المتجرّى به بالعنوان الأولي

اشارة

وقد استدل على ذلك بأدلة نذكرها ضمن العناوين التالية:

1- التمسك بالإطلاقات الأولية لحرمة الفعل المتجرى به.

2- التمسك بالإجماع لحرمة الفعل المتجرى به.

3- التمسك بقاعدة الملازمة لإثبات حرمة الفعل المتجرى به.

4- التمسك بالنصوص الشريفة لإثبات حرمة الفعل المتجرى به.

1- التمسك بالإطلاقات الأولية لحرمة الفعل المتجرى به
اشارة

وتقريب ذلك بوجهين بينهما التقاء جزئي:

الوجه الأول

إن الموضوع للحرمة وإن كان بحسب الظاهر من الدليل الخمر الواقعية - مثلاً- إلاَّ أنّ هناك صارفاً عن هذا الظهور وهو القرينة العقلية الموجودة في المقام، وذلك لأنه إن كان المراد «الخمر الواقعية» فلابدّ من تضمين الإصابة للواقع في الموضوع بأن يقال: «لا تشرب الخمر المصادفة للواقع»،

ص: 135

والإصابة وعدم الإصابة ليسا اختياريين للمكلّف، وإلاّ لما أخطأ قاطع في الدنيا، فلا يمكن تعلّق التكليف به، فهذه القرينة العقلية توجب صرف الكلام عن هذا الظهور، ليكون المراد من «لا تشرب الخمر»: «لا تشرب مقطوع الخمرية»، فإذا كان المراد «لا تشرب مقطوع الخمرية» يكون المتجرّي مخالفاً لهذا التكليف كالعاصي(1).

وبعبارة أخرى: إنّ متعلّق التكليف يجب أن يكون مقدوراً للمكلّف؛ لعدم صحّة التكليف بغير المقدور، وليست المصادفة والمخالفة واقعتين تحت الاختيار حتى يتعلّق التكليف بالمصادف دون المخالف، فيجب أن يكون متعلّق التكليف (شرب مقطوع الخمرية) سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً، فيكون نسبة العصيان إلى المطابق والمخالف على حدّ سواء(2).

ويرد عليه

أوّلاً: إنّ مقدورية بعض أجزاء الفعل- أو مقدّماته- كافية في مقدورية الفعل.

توضيحه: أنه لو كان مركّب، وكانت بعض أجزائه اختارية، وكان البعض الآخر غير اختياري، فعمله المكلّف كان عمله اختيارياً.

وهكذا لو كان عمل غير اختياري - بذاته- لكن مبادءه كانت اختياريّة فاختار المكلّف الإتيان بمبادئه كان نفس العمل اختيارياً.

ص: 136


1- جواهر الأصول: 46.
2- وقريب منه ما في المحصول 3: 35.

مثلاً: الإحراق ليس فعلاً اختيارياً للمكلّف لو لوحظ بما هو هو، فإنه فعل للنار، والنار «فاعل بالطبع» للإحراق، لكن باعتبار أنّ مبدءه - وهو الإلقاء في النار مثلاً- فعل اختياري للمكلّف يكون نفس «الإحراق» فعلاً اختيارياً للمكلّف ولذا ذكروا أنّ (المقدور بالواسطة مقدور).

وعلى هذا يكون «شرب الخمر المصادف للواقع» مقدوراً للمكلّف، باعتبار القدرة على الشرب، وإن لم تكن المصادفة اختيارية.

وهذا المقدار كافٍ في صحّة التكليف أولاً، وفي صحّة العقوبة ثانياً.

ومن هذا الباب ما ذكروه من (أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار) و(أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار).

وقد سبق بعض الكلام في ذلك(1).

ثانياً: ما ذكره بعض المعاصرين من أنّ الإصابة أمر اختياري، وإن كان عدم الإصابة غير اختياري، ولا يضرّ عدم اختياريته باختيارية الأولى.

واستدل على ذلك بشهادة الوجدان على أنّ قاتل حمزة قتله اختياراً(2).

ولعلّ مراده ما ذكر أولاً، كما يظهر من بعض كلماته، وإلاّ ففيه أنّ اختيارية الاختيار متقوّمة بإمكان تعلقه بالطرفين.

وأمّا ما يكون أحد طرفيه اختيارياً دون الآخر، فليس اختياراً، بل وجوباً، فالكون في الحيّز للأجسام ليس اختيارياً، لعدم كون نقيضه اختيارياً. وعدم الطيران في الهواء للإنسان ليس اختيارياً، لعدم كون نقيضه اختيارياً.

ص: 137


1- راجع الصفحة 143-144.
2- المحصول 3: 46.

قال في التجريد: «وتعلّقها بالطرفين» وقال في شرح التجريد: «هذا هو المشهور من مذهب الحكماء والمعتزلة، وهو أنّ القدرة متعلّقة بالضدين، وقالت الأشاعرة: إنّما تتعلّق بطرف واحد، وهو خطأ لوقوع الفرق بين القادر والموجب»(1).

وأمّا ما استشهد به من الوجدان ففيه: أنّ الوجدان يدلّ على أن «قتل حمزة» كان عملاً اختيارياً ل«وحشي»، ولو لا اختيارية بعض مبادئه أو أبعاضه، ولا يدلّ على أنّ نفس الإصابة كانت اختيارية.

وستأتي إن شاء اللّه تعالى بعض الأجوبة الأخرى في «الوجه الثاني».

الوجه الثاني

ما نقله المحقّق النائيني (رحمه اللّه) عن بعضهم، وهو مركّب من ثلاث مقدّمات.

وحيث إنّ المقدمة الأولى لا يتوقف عليها الاستدلال نقتصر على ذكر المقدمتين الأخريين.

أمّا أولاهما: فهي أنّ العلم وحضور صورة الموجود الخارجي في النفس هو الموضوع والعلّة لتحقّق الإرادة التكوينية ضرورة استحالة الانبعاث أو الانزجار عن الموجود الخارجي ما لم يتّصف بصفة المعلومية، بداهة أنّ العطشان لا يعقل تحرّكه عن الماء الخارجي ما لم يعلم بوجوده، بل ربما يموت عطشاً مع وجود الماء عنده، كما أنّ الإنسان لا يفرّ من الأسد الخارجي ما لم يعلم بوجوده ولو ترتّب على عدم الفرار افتراسه له وهذا

ص: 138


1- كشف المراد: المقصد الثاني في الجواهر والأعراض، الفصل الخامس في الأعراض، المسألة الثالثة والعشرون: 354.

بخلاف القاطع بوجود الماء أو الأسد فإنه يتحرّك نحو الماء ويفرّ من الأسد، وإن لم يكن هناك ماء أو أسد في الخارج وكان القطع غير مصيب للواقع.

فتحصّل: أنّ الموجب للحركة أو الهرب إنّما هو نفس صفة العلم ليس إلاَّ، ولها موضوعية في تحقّق الإرادة من دون فرق بين أن يكون للصورة النفسانية واقع يطابقها أو لم يكن.

وأمّا ثانيتهما: فهي أنّ الإرادة التكوينية واختيار العبد في الخارج هي التي تكون إرادة المولى محرّكة لها، فطلب المولى وإرادته التشريعية هو الموجب لتحقّق إرادة العبد واختياره.

ويترتّب على هاتين المقدمتين أنّ التكليف بحسب مقام التعلّق وإن كان يتعلّق بنفس الموضوع الخارجي، إلاَّ أنّه في مقام التحريك إنّما يحرّك إرادة العبد واختياره في فرض العلم، وللصورة النفسانية موضوعية لتحقّق الإرادة، والمقدار الممكن للعبد وما هو باختياره إنّما هو ترك شرب ما قطع بخمريته، والإصابة وعدمها وخمرية المائع الخارجي وعدمها أجنبيتان عن اختيار العبد وإرادته، فكما أنّ العاصي اختار شرب الخمر لقطعة بخمرية المائع الخارجي، فكذلك المتجري اختار ذلك أيضاً لقطعه بها، والجهة الاختيارية مشتركة بينهما، فيكون تحريك التكليف الواقعي مشتركاً بينهما لا محالة، وهذا معنى ما ذكرناه من شمول الإطلاقات الواقعية لعنوان المقطوع، ولو كان القطع غير مصادف للواقع(1).

ص: 139


1- أجود التقريرات 3: 44-45.

وقد نستطيع أن نبيّن هاتين المقدّمتين بالشكل التالي:

1- إنّ حضور صورة المعلوم لدى العالم له الموضوعية في تحقّق الإرادة التكوينية للمكلف، وبعبارة أخرى: إنّ الإرادة التكوينية للمكلّف تابعة للعلم.

2- إنّ الإرادة التشريعية للمولى تستهدف إيجاد الإرادة التكوينية للمكلف نحو المطلوب. وحيث إنه لا يعقل أن يكون هدف الإرادة التشريعية المولوية (تحريك الإرادة التكوينية المصادفة للواقع) في نفس المكلّف، لما سبق في المقدمة الأولى من أن محرّك الإرادة التكوينية للمكلف ليس الواقع الخارجي، بل الصورة العلمية.

لذلك يكون هدف الإرادة التشريعية (تحريك مطلق الإرادة) في نفس المكلّف، أي (إرادة ما يراه الفاعل واقعاً) سواء صادف الواقع أم لا.

وبعبارة أخرى: غرض الإرادة التشريعية للمولى، من قوله: (لا تشرب الخمر): تحريك الإرادة التكوينية للمكلّف نحو اجتناب ما قطع أنه خمر، لا تحريك إرادته نحو اجتناب الخمر الواقعية، فيكون مفاد الدليل: (لا ترد شرب مقطوع الخمرية)، وهذا الدليل قد خالفه العاصي والمتجرّي على حدّ سواء فيكون المتجرّي عاصياً كالعاصي، وبتعبير أدق: يكون عاصياً حقيقة..

وهذا التقريب يرد عليه أمور

الأول: ما في المصباح: من النقض بالواجبات، لعدم اختصاص الدليل المذكور بالمحرمات، فلو فرض أنّ الواجب المستفاد من قول المولى (صلّ في الوقت) هو اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت، فصلّى المكلّف مع

ص: 140

القطع بدخول الوقت ثمّ بأن خلافه، فلابدّ من الالتزام بسقوط التكليف؛ لتحقّق المأمور به الواقعي، وهو ما قطع بكونه صلاة في الوقت، فلزم القول بالإجزاء في موارد الأوامر العقلية الخيالية، ولم يلتزم به أحد من الفقهاء(1).

ومثّل له السيّد الوالد (دام ظله) بما لو صام في شعبان قاطعاً أنّه شهر رمضان، فيلزم على هذا القول كفايته(2).

وقد يورد على ذلك: بأنّ مفاد الدليل إذا كان وجوب اختيار فعل ما قطع بكونه صلاة في الوقت وجب عليه التكرار لو قطع ثانياً بدخول الوقت وذلك لتحقّق فرد جديد من أفراد الموضوع، وكلّما تحقّق فرد جديد للموضوع شمله الحكم، فيلزم التكرار، فهو نظير ما لو كان في أفق فدلكت عليه الشمس فصلّى الظهرين، ثمّ سافر إلى أفق آخر بمركبة سريعة السير فدلكت عليه الشمس من جديد فإنه يتوجّه نحوه وجوب جديد على ما أفتى به بعض الفقهاء، فلا يلزم - إذاً- القول بالإجزاء.

فالأحرى أن يمثّل لذلك بما علم من الخارج بوجوب المرّة الواحدة فقط مثل وجوب الحج، فلو قطع أنه بالغ أو حرّ، وحج، ثمّ بان أنه ليس كذلك، يجب - على هذا القول- سقوط الحج، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به، وكذا في مسألة الاستطاعة على الأقوى، ولعلّ الصيامَ من هذا القبيل فتأمل.

الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) من منع المقدّمة الأولى قال: (إنّ الإرادة إنّما تنشأ من العلم بالموجود الخارجي بما أنّه طريق إليه، لا بما أنّه

ص: 141


1- مصباح الأصول 2: 21.
2- الأصول 5: 84.

له موضوعية، ضرورة أنّ القاطع بوجود الماء أو الأسد إنّما يتحرك أو يهرب لا من جهة وجود صفة نفسانية بما هي صفة، بل من جهة انكشاف الموجود الخارجي بها، والمحرّك إنّما هو الموجود الخارجي، لكن لا مطلقاً بل بعد الانكشاف.

وبالجملة: القاطع حيث إنّه يرى الواقع يتحرّك نحوه، لا أنّ الرؤية بنفسها محرّكة له، وهذا ظاهر وجداني لا يحتاج إلى زيادة بيان)(1).

وبناءً على ذلك يكون المحرّك للإرادة التكوينية للمكلّف مركّباً من جزئين:

1- الواقع الخارجي.

2- وانكشافه بالعلم.

أو (الواقع الخارجي بشرط الانكشاف) لا مجرّد (العلم).

فيكون متعلّق الإرادة التشريعية للمولى: هذه الإرادة (أي الإرادة التكوينية التي هي طريق إلى الواقع الخارجي المعلوم)، وهذه الإرادة مفقودة في المتجرّي؛ إذ لا (واقع معلوم)، بل المتحقّق مجرّد قطع غير مطابق للواقع، فلا يكون مشمولاً للأدلّة الأولية.

قال المحقّق النائيني: (إنّ المحرّك هو نفس التكليف الواقعي المشروط بوجود موضوعه واقعاً، وهو مفقود في المتجرّي على الفرض)(2).

ص: 142


1- أجود التقريرات 3: 45.
2- أجود التقريرات 3: 46.

وفيه: أنّ الحصر غير حاصر، بل هنالك شقّ ثالث في المقام.

بيانه: أنّ المحتملات في المقام ثلاثة:

1- أن يكون المحرّك وجود الصفة النفسانية بما هي صفة في القاطع.

2- أن يكون المحرّك وجود الصفة النفسانية بما أنّها كاشفة عن الواقع.

3- أن يكون المحرّك وجود الصفة النفسانية بما أنّها مزعومة الكاشفية عن الواقع.

والظاهر هو الثالث، لما سبق في أوّل مباحث القطع(1).

وحينئذ: يكون المحرّك (الصورة الذهنية) المنطبعة في أفق النفس بضميمة (العلم بأنّ هذه الصور الذهنية مطابقة للواقعية العينية الخارجية) وهذا (العلم) بذاته هو صورة ذهنية، فلم يخرج الأمر عن حيطة (العلم) و(الصور الذهنية).

وبعبارة أخرى: ليس المحرّك (الصورة النفسية الساذجة) بل (الصورة النفسية) منضمّة إلى (صورة نفسية أخرى مفادها: أنّ الصورة النفسية الأولى حاكية عن الواقعية العينية ومطابقة لها وكاشفة عنها).

فهاتان الصورتان المنضّمتان هما المحرّك للقاطع.

وعلى ذلك يصحّ القول: إنّ الواقع الخارجي في معزل عن التحريك، وإنّ المحرّك هو (القطع) فقط، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أن ظاهر الدليل إناطة الحرمة ب(ذات الخمر) لا ب(الخمر المعلومة) ولا ب(العلم بالخمرية).

ص: 143


1- راجع الصفحة 99.

وقد اشتهر بينهم أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية، لا لها بما هي معلومة، وستأتي تتمّة للكلام عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: ما في (المنتقى) و(الأصول) من منع ثانٍ للمقدمة الأولى، وحاصل هذا الوجه: أنّ المحرّك للإرادة التكوينية للمكلّف ليس خصوص (العلم)، بل هو (الالتفات) وبين (العلم) و(الالتفات) عموم مطلق؛ لشمول الأخير للوهم والشكّ والظنّ والقطع، فلا يصحّ جعل المحرّك خصوص (العلم).

قال في المنتقى: (بإنّ ما ذكر من أنّ التحرّك والانبعاث والإرادة ممّا يتوقّف على العلم، وإن العلم تمام الموضوع بالنسبة إليها، غير صحيح؛ إذ الإرادة تتحقق في صورة الاحتمال، فالعطشان لو احتمل وجود الماء لديه تحرك نحوه باحثاً عنه في مظان وجوده، ومن أقدم على فعل مع الاحتمال وتبييّن مصادفته للواقع، يرتب عليه آثار الفعل الاختياري، فلو رمى شخص شبحاً بالرصاص محتملاً أنه إنسان كما أنه يحتمل أن يكون شجرة، فتبّين أنه إنسان وقتل بالرصاص، رتب على قتله آثار القتل الاختياري.... ويترتب على الفعل آثار الفعل الاختياري)(1).

ونحوه - مختصراً- في الأصول - وإن كان قد ذكر في مقام آخر(2).

ويرد على ذلك:

أوّلاً: إنّ حضور صورة المعلوم لدى العالم على نحوين:

ص: 144


1- منتقى الأصول 4: 39.
2- الأصول 5: 84.

1- الحضور التصوّري.

2- الحضور التصديقي.

والحضور التصوري عبارة عن الصورة الساذجة الحاصلة من الشيء عند العقل - والصورة الساذجة عبارة عن صورة لا يكون معها حكم.

والحضور التصديقي عبارة عن تصوّر معه حكم، على ما ذكره ابن سينا في الإشارات والفخر الرازي، أو هو الحكم فقط على ما هو مذهب الحكماء على ما ذكره بعضهم.

ولعلّ مراد المستدلّ ب(إنّ العلم هو المحرّك للإرادة التكوينية للمكلّف) هو (العلم بالمعنى الأعم الشامل للتصوّر والتصديق) لا (خصوص التصديق فقط)، وحينئذ لا يرد الإشكال.

ثانياً: لو فرض ورود الإشكال فهو لا يغيّر من النتيجة التي رامها المستدلّ؛ إذ يكون المراد ب(لا تشرب الخمر) حينئذٍ (لا تشرب ما علمت أنه خمر - بالمعنى الأعم للعلم)، وهذا الدليل كما خالفه العاصي كذلك خالفه المتجرّي، فيكون عاصياً حقيقة.

نعم، بعض صغريات (العلم) - أي ما كان في ارتكابه مؤمّن عقلي أو شرعي- خرجت عن حيّز التحريم، وهو لا يقدح في الدليل؛ لإمكان تخصيص العمومات وتقييد المطلقات، فتأمل.

الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه اللّه) من منع المقدّمة الثانية: ومفاد ما ذكره: أنّ متعلّق الإرادة التشريعية للمولى: ليست (الإرادة التكوينية للمكلّف)، بل (الفعل الصادر عن إرادة).

ص: 145

وهنا سؤالان:

أ) ما هي ثمرة ذلك؟

والجواب: إنّ ثمرة ذلك أنّ الموضوع لم يتحقّق في المقام، إذ لو كان الموضوع (إرادة شرب الخمر) فقد تحقّق في (المتجرّي)، إلاَّ أن الموضوع هو (شرب الخمر الإرادي) ولم يتحقق ذلك في المتجرّي.

وبعبارة أخرى: متعلّق الإرادة التشريعية (شرب الخمر الإرادي) ولم يتحقق والمتحقّق (إرادة شرب الخمر) ولم تتعلّق بها الإرادة التشريعية فالمتعلّق ليس متحقّقاً، والمتحقّق ليس متعلّقاً وعليه لا يكون المتجرّي عاصياً للخطاب.

ب) ما هو الدليل؟

والجواب: إنّ الدليل هو ثلاثة أمور:

1- ظهور الدليل، بضميمة حكم العقل بقبح تكليف الموجب.

2- إنّ «الفعل الإرادي» هو الذي تترتب عليه المصلحة والمفسدة الملحوظتان في التكليف.

لا «إرادة الفعل»، وبين «الفعل الإرادي» و«إرادة الفعل» عموم مطلق، إذ الإرادة قد تتحقّق بدون تحقّق «الفعل الإرادي» - كما في المتجرّي.

قال المحقق النائيني (رحمه اللّه) : «إنّ الإرادة التشريعية وإن كانت محرّكة للإرادة التكوينية ونسبتها إليها نسبة حركة المفتاح إلى حركة اليد، إلاَّ أن كون حركتها مرادة بنحو المعنى الإسمي الاستقلالي ممنوع، بل المراد هو الفعل الصادر بالإرادة والاختيار؛ لأنه هو الذي تترتب عليه المصلحة أو

ص: 146

المفسدة، والإرادة تكون مرادة بنحو المعنى الحرفي غير الاستقلالي»(1).

وقال: «إنا لو سلّمنا هذه المقدّمة ولكن التزمنا بكون متعلّق الإرادة التشريعية هو الفعل الإرادي دون نفس الإرادة والاختيار بنحو المعنى الاسمي - كما عرفت- فلا يكون المتجرّي مشتركاً مع العاصي ضرورة أنه بانكشاف الخلاف في فرض التجرّي ينكشف أن متعلّق الإرادة التكوينية - وهو شرب المايع الخارجي- لم يكن متعلّقاً للإرادة التشريعية؛ إذ المفروض تعلّقها بنفس شرب الخمر الواقعي، وهو غير متحقق والمتحقق إنما هو إرادة الشرب واختياره المفروض عدم كونها متعلّقة للإرادة التشريعية»(2).

وقال في المصباح: «بإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، كما هو المشهور من مذهب العدلية، والمستفاد من ظواهر الأدلة الشرعية، فأن الظاهر - من مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}- إن النهي عن الفحشاء والمنكر إنما هو من آثار نفس الصلاة، لا من آثار ما قطع بكونه صلاة، ولو لم يكن في الواقع صلاة، وكذا في الأوامر الصادرة من الموالي العرفية، فإنها أيضاً تابعة للأغراض الشخصية المتعلقة بنفس العمل فلا محالة يكون البعث نحو نفس العمل، وإنما الاختيار طريق إلى حصول العمل خارجاً في مقام الامتثال، فلا دخل للقطع في متعلق التكليف أصلاً»(3).

ص: 147


1- أجود التقريرات 3: 46.
2- أجود التقريرات 3: 46-47.
3- مصباح الأصول 2: 21.

3- إن الإرادة والاختيار تكون مغفولة عنها حين الفعل، ولا يلتفت الفاعل إليها، فلا يصلح لأن يتعلق التكليف بها، وقد ذكر ذلك المحقق النائيني (رحمه اللّه) في فوائد الأصول(1).

وناقش فيه المحقق العراقي (رحمه اللّه) : بحصول الالتفات كثيراً إلى إرادتنا حين الامتثال، كما في العبادات، خصوصاً عند الاخطاري في النية(2).

ويمكن الجواب أيضاً بأن الالتفات الإجمالي متحقق دائماً، فيصلح لتعلق التكليف به فتأمل.

الخامس: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه اللّه) من منع ثانٍ للمقدّمة الثانية، قال: (إنّ التكليف بشيء إذا كان من شأنه الدعوة فلا جرم يكون المدعو إليه عنواناً في طول عنوان المعروض... فما هو المعروض لا يعقل أخذ الإرادة فيه ولو قيداً؛ لأنّ الإرادة الناشئة عن غير دعوة التكليف أجنبية عن التكليف والإرادة الناشئة عن التكليف معلول التكليف، فكيف يكون قيد موضوعه؟ فما توهّم في دفع المقدّمة الأُولى مندفع بهذا الكلام؛ إذ الفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول التكليف لا معروضه، فلا محيص عن تجريد المعروض عن الإرادة رأساً كما لا يخفى على الناظر الدقيق، وحينئذٍ هذا البرهان شاهد خروج الإرادة عن حيّز التكليف)(3).

ص: 148


1- فوائد الأصول 3: 39.
2- فوائد الأصول 3: 38.
3- فوائد الأصول 3: 38.

ويرد عليه:

أولاً: النقض بنفس الفعل، فإنّه معلول التكليف في كثير من الأحيان، فكيف يكون معروضاً له؟

ثانياً: الحل، بأنّ المعروض هو الشيء بماهيته- لا بما هي هي بل بما هي مرآة للخارج- والمعلول هو الشيء بإنّيّته - أي بوجوده العيني.

وبعبارة أخرى: المعروض هو الشيء بوجوده الذهني، والمعلول هو الشيء بوجوده الخارجي.

وعليه: فلا يلزم تقدّم الشيء على نفسه، وأخذ ما يأتي من قبل التكليف في متعلّقه، وهذا نظير ما ذكروه في العلّة الغائية، فإنّها علّة فاعلية الفاعل بوجودها الذهني، ومعلولة له بوجودها الخارجي، وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في «الترتّب»(1)، وتفصيله موكول إلى مباحث «التعبّدي والتوصّلي».

فتحصّل من جميع ذلك: إنّ إطلاقات الأدلّة الأوّلية لا تنهض لإثبات حرمة الفعل المتجرّى به.

2- التمسّك بالإجماع لحرمة الفعل المتجرّى به
اشارة

وقد ذكر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) موردين قام الإجماع فيهما - أو حكي- على حرمة الفعل المتجرّى به، وهما:

1- دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة

ص: 149


1- الترتّب: 124.

وإن انكشف بقاء الوقت.

قال الشيخ (رحمه اللّه) : «فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان، فيشمل القطع بالضيق»(1).

2- استظهار الشيخ عدم الخلاف بينهم في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه، ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه، فتأمّل(2).

وهذا الإجماع المدّعى مناقش فيه من جهات

الجهة الأولى: عدم ثبوت الإجماع - صغروياً- في المورد الأول:

أ) فكثير من العلماء لم يذكروا هذه المسألة مطلقاً، فكيف يمكن تحقّق الإجماع؟ وهذا ما ذكره السيّد الوالد (دام ظله) (3).

ب) وحكي عن النهاية وشيخنا البهائي التوقّف في العصيان(4).

ج) واستوجه في التذكرة عدم العصيان(5).

د) واستقرب العدم السيّد المجاهد في المفاتيح(6).

وكذا لم يثبت الإجماع في المورد الثاني.

ص: 150


1- فرائد الأصول 1: 37.
2- فرائد الأصول 1: 38.
3- الوصائل 1: 52.
4- فرائد الأصول 1: 38.
5- تذكرة الفقهاء 2: 291؛ فرائد الأصول 1: 38.
6- مفاتيح الأصول: 308؛ فرائد الأصول 1: 38.

هذا ولكن لا يخفى: أنّ المناقشة الصغروية - في حدّ ذاتها- لا تقدح بالإجماع على مبنى الحدس إذا فرض وجوده.

نعم، في كثير من الأحيان توجد هنالك ملازمة بين تحقّق المخالفة وانتفاء الحدس، فينتفي - بإنتفائه- ملاك حجّية «الإجماع»، والظاهر أنه كذلك في المقام.

الجهة الثانية: لو فرض ثبوت الإجماع على الحرمة في الموردين لم ينفع لإثبات الحرمة فيما نحن فيه؛ وذلك لأن ثبوتها فيه موقوف على كون الملاك الحرمة فيهما أنه مخالفة اعتقادية لتكليف «صلِّ في الوقت» و«لا تلقِ بنفسك إلى التهلكة»، وليس ذلك بثابت؛ إذ يحتمل موضوعية الظن والقطع في المقامين، بمقتضى الإجماع أو النصوص الخاصة(1)، فتكون المخالفة واقعية، ولو بعد انكشاف الخلاف، لا اعتقادية.

وبعبارة أخرى: يحتمل أن يكون مفاد الدليل في المورد الأول «أن من ظنّ بضيق الوقت - أو قطع بذلك- يجب عليه البدار، ولو لم يبادر عصى ولو انكشف الخلاف»، فمن أخّر الصلاة يكون قد خالف هذا التكليف مخالفة واقعية، وكلامنا في المقام في المخالفة الاعتقادية، وهكذا الأمر في المورد الثاني.

والخلاصة: إنّ الكلام في القطع الطريقي، وفي هذين الموردين يحتمل أخذ الظن والقطع على نحو الموضوعية.

إن قلت: موضوعية الظن والقطع في الموردين لا تعدو صرف احتمال؟

ص: 151


1- كرواية الحلبي المروية في الوسائل 3: 3/باب 4، من أبواب المواقيت، حديث 18.

قلت: التعميم موقوف على ثبوت الطريقية، ومع احتمال موضوعية الظن والقطع لا يكون هنالك قطع بالملاك، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

هذا وقد يقال: بوجود الأصل العملي المؤمّن في مسألة من ظنّ ضيق الوقت، وهو استصحاب بقاء الوقت استصحاباً استقبالياً، فلا يكون تحقّق المعصية إلاَّ باعتبار الدليل الاجتهادي الحاكم - أو الوارد- عليه، ومقتضى ذلك موضوعية الظن والقطع جزماً فتأمّل.

وأما البحث الفقهي عن الحكم في الموردين فهو موكول إلى محلّه.

الجهة الثالثة: ما قد يقال من أن المسألة عقلية.

أقول: هذا الكلام في حدّ ذاته يمكن أن يقصد به أحد معنيين وإن كان الثاني منها هو محط النظر في المقام.

المعنى الأول: أنّ نفس المسألة عقلية.

والمسائل العقلية: يرجع فيها إلى (العقل) لا إلى (الشرع) فهنا صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى: فلأنّ العقل هو الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق.

فالعاصي مستحقّ للعقاب عقلاً، ولا يمكن للشارع أن يقول: إنّه غير مستحقّ للعقاب.

نعم، له أن يرفع فعليّة العقاب تفضّلاً، إلاَّ أنّ الاستحقاق غير الفعلية.

والجاهل القاصر غير مستحقّ للعقاب عقلاً، ولا يمكن للشارع أن يقول: إنه مستحقّ للعقاب.

ص: 152

فالاستحقاق وعدمه كالزوجية(1) وعدمها لا يقبلان الوضع ولا الرفع.

نعم، يمكن الرفع برفع منشأه - وهو الحكم- كما يمكن الوضع بوضع منشأه، إلاَّ أن الكلام في الرفع بالذات والوضع بالذات، لا بالعرض، وبناءً على ذلك تكون المسألة استحقاق التجري للعقاب وعدمه مسألة عقلية لا شرعية.

وأمّا الكبرى: فلأنّ الوضع والرفع في المسائل العقلية ليسا بيد الشارع حتى يستطرق بابه، بل بيد العقل، فيكون هو المرجع.

وعليه: يكون مرجع المجمعين عقولهم، لا الشرع، فلا يستكشف رأي الشارع من خلال الإجماع.

فلو فرضنا تحقّق الإجماع على تناهي الأبعاد، فهو لا يكشف عن أنّ المجمعين استطرقوا باب الشارع، وأخذوا منه ذلك، بل يكشف عن حكم عقولهم بذلك.

وهكذا لو فرض تحقّق الإجماع على عدم وجود الجزء الذي لا يتجزّأ، أو غيره من المسائل العقلية.

وبعبارة أخرى: المقصود التوصل من خلال الإجماع إلى رأي المعصوم (عليه السلام) ، وهذا إنّما يتحقّق في المسائل التعبّدية لا في المسائل العقلية.

وهذه الكبرى - لو تمّت- أجنبية عن محل الكلام؛ إذ الكلام فعلاً في «حرمة الفعل المتجرّى به وعدمها» لا في «استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه».

المعنى الثاني: إنّ هذه المسألة ممّا يدخلها العقل وله إليها سبيل، وكل

ص: 153


1- المقابلة للفردية، لا الزوجية الاعتبارية (منه (رحمه اللّه) ).

مسألة للعقل إليها سبيل فلا حجّية للإجماع فيها، فهذه صغرى وكبرى.

أمّا الكبرى: فلأنّ الإجماع لا يكون حجّة إلاَّ بتأمين جهات ثلاث:

الأولى: الأمن من قول المجمعين بغير علم.

الثانية: أن يكون طريق علمهم منحصراً بنحو من البلوغ عن المعصوم (صلوات اللّه وسلامه عليه).

الثالثة: عدم احتمال الخطأ في علمهم، بما بلغ إليهم عن طريق المعصوم (عليه السلام) .

والجهة الأولى: يؤمّنها علمنا بعدالتهم أو ثاقتهم.

والجهة الثالثة: يتكفّلها حساب الاحتمالات.

أمّا الجهة الثانية: فبيانها: أنّ المسائل الشرعيّة على نحوين:

النحو الأول: المسائل التعبّدية الصرفة التي ينحصر طريق علم المجمعين بها في قول المعصوم (عليه السلام) ، أو فعله أو تقريره، مثل أنّ صلاة الصبح ركعتان، وأنّ الطواف بالكعبة سبعة أشواط، وفي مثل هذه المسائل يكون الإجماع كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) ؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك مدرك آخر غيره استند إليه المجمعون.

النحو الثاني: المسائل الشرعيّة التي يوجد للعقل إليها سبيل، مثل: حرمة الظلم، فإنّ العقل يدرك قبح الظلم ووجوب تركه، وفي هذا النحو لا يكشف الإجماع عن رأي المعصوم (عليه السلام) ؛ لاحتمال استناد المجمعين في استنباطهم للحرمة إلى حكم العقل بقبح الظلم، بضميمة قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع.

ص: 154

إن قلت: هذا مجرّد احتمال؟

قلتُ: صرف الاحتمال قادح؛ وذلك لأنّ ملاك حجّية الإجماع: الكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ؛ ولا يُعلم كون الإجماع في المقام واجداً لهذا الملاك، ولا يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ومن كل ذلك يظهر النظر في الاستدلال بالإجماع في كل المسائل الشرعيّة الفرعية التي للعقل طريق إليها، مثل حرمة الغصب، ووجوب ردّ الوديعة - مثلاَ.

بل يظهر النظر في الاستدلال بالإجماع في كل المسائل الشرعيّة الأصوليّة التي للعقل إليها سبيل، مثل: البراءة والاحتياط، هذا بيان الكبرى.

وأمّا الصغرى: فلأنّ «حرمة التجرّي» ممّا للعقل إليها سبيل، لاحتمال استناد المجمعين فيها إلى حكم العقل بقبح التجرّي، بضميمة قاعدة الملازمة، فلا يكون الإجماع فيها حجّة.

وما ذكرناه هو المستفاد من تقريرات الميرزا الشيرازي الكبير (رحمه اللّه) مع بعض الإضافات والتوضيحات.

قال: «ثمّ إنا قيّدنا جواز التمسك بالإجماع في المسألة في الفرض الأول بكونه كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) قطعاً للتنبيه على عدم العبرة فيها في ذلك الفرض أيضاً باتفاق طائفة لم يعلم بدخول المعصوم (عليه السلام) فيهم، وإنّما يراد به استكشاف رأيه من باب الحدس لأجل أنه لا عبرة به مع فرض كشفه عن رأيه (عليه السلام) ؛ لقيام احتمال أن يكون قول كل واحد من المجمعين عن رأيه وعقله لا عن تعبد المعصوم (عليه السلام) له به، وعلى تقدير حصوله لا حجّية فيه فينحصر مورد

ص: 155

صلاحيته لذلك فيما لم يكن إليه سبيل لعقول غير أهل العصمة.

فمن هنا ينقدح الإشكال في الإجماع في جميع المسائل الفرعية المماثلة للمقام، وهي: ما للعقل إليها سبيل، كمسألة حرمة الظلم أو الغصب مثلاً الذي هو قسم منه، بل وفي جميع المسائل الأصوليّة الشرعيّة المماثلة له أيضاً، كمسألة حجّية الخبر، أو مطلق الظن شرعاً عند الانسداد وكمسألتي البراءة والاحتياط، وكذا مسألة الاستصحاب.

والحاصل: أنه إذا كانت المسألة مما انحصر طريقها في البلوغ عن المعصوم (عليه السلام) مع فرض اتفاق من عداه إلى حدّ يمتنع تواطؤهم على الكذب على أحد طرفيها، والقول بغير علم فيقال: إنّ هؤلاء يمتنع تواطؤهم بأجمعهم على الكذب والقول بغير علم فجملة منهم صادقون فيما قالوا وقاطعون به لا محالة، وطريق قطعهم فيها منحصر في البلوغ من المعصوم (عليه السلام) ، فما قالته تلك الجملة واصل منه (عليه السلام) ، فنستنتج من هاتين المقدمتين، ونستكشف منهما أن ما اتفقوا عليه واصل منه (عليه السلام) ، ومن المعلوم أن المقدمة الأخيرة منتفية فيما إذا كانت المسألة مما للعقل إليها سبيل، والأولى بمجردها غير وافية بالمطلوب ومن هنا يظهر عدم صلاحية الاتفاق للكشف عن المطلوب المذكور»(1).

وما ذكره (رحمه اللّه) بعنوان الكبرى لا يخلو من تأمل، إذ يمكن أن يُدعى أنّ (إجماع أهل الفن) وإن كان محتمل الاستناد منجّز ومعذّر عند العقلاء

ص: 156


1- تقريرات المجدد الشيرازي 3: 275-276.

الذين هم المرجع في طرق الطاعة والمعصية، كما هو مقرر في محلّه.

ومن هنا نجد الخبراء يعتمدون على (إجماع أهل الفن) في مختلف الشؤون.

فالطبيب يعتمد على (إجماع الأطباء) في المسائل الطبية وإن احتمل - صرف احتمال- استناد المجمعين إلى ما لا يكون حجّة في الواقع، وهكذا الأمر في سائر الفنون، فتأمّل.

نعم، الحجّة ظرفها الشكّ، فإذا قطع بخلاف إجماع أهل الفن لا يبقى هنالك مجال للإجماع، كما هو الشأن في كل الحجج الظنيّة الأخرى.

كما أنّه لو تعارض إجماع أهل الفن مع حجّة أخرى فإن المحكم هو القواعد المذكورة في تعارض الحجج، فتأمّل.

هذا كله في الإجماع المحتمل الاستناد، وأما الإجماع المقطوع الاستناد فللبحث فيه مجال آخر.

3- التمسك بقاعدة الملازمة لإثبات حرمة الفعل المتجرّى به

وتقرير ذلك:

1- إنّ الفعل المتجرّى به قبيح ومحرّم بحكم العقل.

2- وكلما حكم العقل بقبحه وحرمته حكم الشارع بحرمته.

ونتيجة ذلك: حرمة الفعل المتجرى به شرعاً.

وقد تقرّر الصغرى بنحو (القبح الفاعلي) لا (القبح الفعلي).

وقد نوقش هذا الدليل بوجوه:

ص: 157

الوجه الأوّل: ما يستفاد من كلمات المحقّق النائيني (رحمه اللّه) (1) من أنّ القبح الفاعلي لا يمكن استتباعه للخطاب الشرعي المولوي بحرمة ارتكاب الفعل المتجرّى به؛ إذ أن هذا الاستتباع يمكن أن يفرض على نحوين:

1- أن يفرض استتباع القبح الفاعلي لسراية الحرمة الثابتة ل(شرب الخمر الواقعية) إلى (شرب مقطوع الخمرية).

2- أن يفرض استتباع القبح الفاعلي لثبوت حكم آخر مماثل لحكم (شرب الخمر الواقعية) على (مقطوع الخمرية)، والفرض الثاني فيه صورتان:

الأولى: أن يكون (الحكم المماثل) محمولاً على خصوص عنوان (المتجرّي).

الثانية: أن يكون (الحكم المماثل) محمولاً على عنوان يعمّ (المتجرّي والعاصي).

والفروض الثلاثة كلّها ممتنعة.

ولنتحدّث حول كل واحد من الفروض الثلاثة بإذن اللّه تعالى.

الفرض الأول: أن يفرض استتباع القبح الفاعلي لسراية نفس الحرمة الثابتة ل(شرب الخمر الواقعية) إلى (شرب مقطوع الخمرية).

وهو محال؛ لأنّ القبح الفاعلي في مرتبة متأخّرة عن التكاليف الواقعية؛ إذ ثبوت الحرمة للخمر الواقعية هو الموجب لثبوت القبح الفاعلي في شرب

ص: 158


1- فوائد الأصول 3: 42-46، أجود التقريرات 1: 382، 2: 26.

(مقطوع الخمرية)، ولولا الحرمة لما كان هناك قبح في شربه، وما كان في مرتبة متأخّرة عن التكليف لا يمكن استتباعه له، كما أنّ الابن الكائن في مرتبة متأخّرة عن (الأب) لا يمكن استتباعه له؛ لأنّه يوجب تقدّم الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه.

وبعبارة أخرى: (شرب الخمر) موضوع (الحرمة) فيكون متقدّماً عليها تقدّم كل موضوع على حكمه، و(القبح الفاعلي لشرب مقطوع الخمرية) متأخّر عن (الحرمة)؛ إذ لولاها لما كان قبيحاً، فلا يعقل أن يكون هذا القبح مولّداً لنفس الحرمة، فإنّه يوجب أن يكون ما في المرتبة الثانية في المرتبة

الرابعة، وهو محال.

وقد يجاب عن ذلك:

أوّلاً: بأن الاستتباع على نحوين:

1- الاستتباع بنحو العلّية.

2- الاستتباع بنحو الكاشفية.

فإن كان المدّعى الأول لزم المحال.

وأمّا إذا كان الثاني فلا؛ إذ لا مانع من أن يكون المتأخّر رتبة كاشفاً عن المتقدّم.

وهذا ما يجري في جميع البراهين الإنيّة التي ينتقل فيها من المعلول إلى العلّة.

مثال ذلك: إنّ الدخّان متأخّر عن النار ثبوتاً، وإن كان متقدّماً عليها إثباتاً.

وحكم العقل بالقبح أو إدراكه له ليس مولّداً للحكم الشرعي، بل هو

ص: 159

كاشف عن ثبوته من قبل، فلا يرد المحذور.

فمثلاً: لو حكم العقل بقبح الظلم، فانتقلنا عبر قانون الملازمة إلى حرمة الظلم شرعاً، فهذا لا يعني أنّ الحكم العقلي ولّد الحرمة الشرعية، بل معناه أنّه كشف عنها.

وهذا الجواب لا يخلو من تأمل؛ إذ الحكم العقلي وإن كشف عن ثبوت الحكم الشرعي من قبل، إلاَّ أن ذلك لا يجدي في دفع المحذور المذكور في المقام، وذلك لأنّ القبح ليس أمراً جعلياً، بل هو أمر واقعي أدركه العقل، وهذا القبح الواقعي علّة للحكم الشرعي، والكاشف عن ثبوته (قانون الملازمة)؛ وحيث إنّ (قبح شرب مقطوع الخمرية) متوقف على (حرمة شرب الخمر الواقعية) فلا يمكن أن يكون علّة لها بشخصها وإن أمكن أن يكون علة لحرمة أخرى مماثلة لها، فتأمل.

وثانياً: بما في (جواهر الأصول) من «أنّ الحكم له وجودان، وجود في مرحلة الجعل والتشريع ووجود في ناحية المجعول أي مرحلة الفعلية، فإنّ الأحكام مجعولة بنحو القضايا الحقيقية، فقبل تحقيق الموضوع فيها يكون الحكم موجوداً بالوجود الإنشائي والفرضي، وبعد تحقق الموضوع يكون موجوداً بالوجود الفعلي، فالحكم بحرمة الفعل المتجرّى به وإن كان متأخراً عن الحكم بحرمة الخمر واقعاً في مرحلة الفعليّة وتحقق الموضوع؛ لأن موضوعه متأخر عن الحكم الأول وفي طوله إلاَّ أنه لا مانع من أن يكون مجعولاً مع الحكم الأول بجعل واحد، ويكون في عرضه، إذ في مقام الجعل والإنشاء لا نحتاج إلى وجود الموضوع وتحققه في الخارج، بل

ص: 160

يكفي فيه فرض وجوده»(1).

وفي (البحوث): «أمّا ما أفيد من لزوم أخذ التحريم المتأخر مع المتقدّم فيرده ما هو مقرر في محله بمناسبة البحث عن حجّية الخبر مع الواسطة من أنه بلحاظ عالم المجعولات والأحكام الفعليّة لا مانع من تأخر بعضها عن بعضٍ، وأخذ بعضها في موضوع البعض الآخر مع كونها جميعاً مجعولة بخطاب واحد، وجعلٍ واحد وفي المقام يكون وصول الحرمة الفعليّة للخمر الواقعي الذي يريد شربه مأخوذاً من موضوع الحرمة الفعليّة للتجري، ولا محذور وإن كانا مجعولين بخطاب واحد»(2).

وهذا الجواب لا يخلو من نظر؛ إذ الكبرى وإن كانت مسلّمة إلاَّ أنّ انطباقها على المقام لا يخلو من خفاء، والقياس المزبور قياس مع الفارق؛ إذ في مثال الخبر مع الواسطة: شمول الدليل للفرد الأول - أي الخبر الأول- يولّد فرداً جديداً من أفراد الموضوع، منتهى الأمر أنّه فرد تعبّدي لا وجداني، بينما في المقام: الفرد الثاني موضوع جديد مباين للموضوع الأول ولو على نحو التباين الجزئي.

بيان ذلك: أنّه إذا أخبرنا (ألف) بأنّ (باء) أخبره بكذا، يكون إخبار (ألف) إخباراً حسّياً، فإذا قال الشارع: (صدّق العادل)، وفرض كون (ألف) عادلاً، وجب تصديق إخبار (ألف) وما أخبر به (ألف): (أنّ باء أخبره بكذا).

وحيث إنّ معنى التصديق إلغاء احتمال الخلاف - عملاً- وافتراض أنّ ما

ص: 161


1- جواهر الأصول: 50.
2- بحوث في علم الأصول 4: 59-60.

أخبر به العادل واقع حقّاً - في مرحلة الجري العملي- يتولّد عندنا من شمول المحول للموضوع فرد جديد من أفراد الموضوع، وهو إخبار (باء)، منتهى الأمر أنّه (إخبار تعبّدي) - أي ثابت وجوده بالتعبّد الشرعي.

وحيث إنّ (باء) أيضاً عادل يشمله (صدق العادل) فنصدّق بخبره وهكذا.

أمّا فيما نحن فيه فلا يوجد هناك فرد جديد للموضوع، بل هو موضوع مباين للموضوع الأول؛ إذ قضية «الخمر حرام» موضوعها «الخمر الواقعية» وثبوت هذا المحمول (حرام) لهذا الموضوع (الخمر الواقعية) يستتبع حكم العقل بقبح التجرّي، وحيث إنّ العقل حكم بقبح التجرّي يحكم الشرع بحرمته، إلاَّ أنّ (مقطوع الخمرية) ليس فرداً من أفراد (الخمر الواقعية) لا حقيقة ولا تعبّداً؛ إذ بين الخمر الواقعية ومقطوع الخمرية عموم من وجه، ولو لوحظ (مقطوع الخمرية) بما أنّ القطع فيه مخالف للواقع - كما هو محل البحث في المقام- كان بين العنوانين (تباين كلي)، فإذا لم يكن (مقطوع الخمرية) فرداً حقيقياً ولا تعبدياً ل(الخمر الواقعية) فكيف يشمله دليل الحرمة بنفسه؟ وأما انكشاف كون الموضوع أعم - بعد حكم العقل بالقبح والملازمة- فهو بلا كاشف.

وبعبارة أخرى: بعد فرض كون (الحرمة) محمولة على (الخمر الواقعية) يمتنع ثبوتها لغيرها، وكونها محمولة على عنوان أعم لا برهان عليه إثباتاً، بل البرهان قائم على خلافه - وهو الظهور اللغوي والعرفي- وإن كان ممكناً في حدّ ذاته ثبوتاً.

وبعبارة ثالثة: الحكم أمر اعتباري، والأمر الاعتباري تناط حدوده بحدود

ص: 162

الاعتبار، فإذا اعتبر على موضوع معين، أي الخمر الواقعية - كما هو مقتضى الظهور- فكيف يتعدى إلى موضوع آخر؟

اللّهم إلاَّ أن يكون مدّ نظر المجيب: صرف الإمكان في عالم الثبوت، وإن لم يساعده الظهور في عالم الإثبات، فتأمل.

ومن هنا ينقدح إشكال آخر على الفرض الأول غير ما ذكر آنفاً من أنّ المتأخّر رتبة عن الحكم لا يمكن أن يكون مستتبعاً له.

الفرض الثاني: أن يفرض استتباع القبح الفاعلي لثبوت حرمة مماثلة للحرمة الثابتة ل(شرب الخمر الواقعية) مغايرة لها، وتكون هذه الحرمة محمولة على خصوص عنوان (المتجرّي) أو (العالم المخالف علمه للواقع).

والخطاب على هذا النحو غير معقول على ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه اللّه) ، وهو مبني على قاعدة كلّية مفادها:

أنّ كلّ تكليف لا يصل إلى المكلّف إلاَّ بعد انقلاب موضوع التكليف غير معقول؛ لأنّه لا يمكن أن يكون محرّكاً للمكلّف؛ إذ قبل وصول الخطاب لا تحريك باعتبار عدم الوصول، وبعد الوصول لا تحريك باعتبار انقلاب الموضوع، فيكون جعل هذا الخطاب لغواً.

مثلاً: الناسي للسورة لا يمكن أن يخاطب ب«يا أيّها الناسي للسورة لا تجب عليك السورة»؛ إذ بمجرد الخطاب ينقلب متذكّراً.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل.

إذ لو علّق التحريم على عنوان «المتجرّي» فقبل وصول التحريم: لا باعثية للتكليف، وبعد وصوله يلتفت المتجرّي إلى خطأه، فينقلب

ص: 163

الموضوع. وعلى كل تقدير لا تكون هنالك باعثية للتكليف.

وبعبارة أخرى: الالتفات إلى العنوان الذي تعلّق به الخطاب ممّا لابدّ منه في تنجيز التكليف، وبمجرّد التفات المتجرّي إلى الخطاب يخرج عن كونه معنوناً بذلك العنوان.

قال المحقّق النائيني (رحمه اللّه) : «إنّ الالتفات إلى العنوان الذي تعلّق به الخطاب ممّا لابدّ منه، والمتجرّي لا يمكن أن يلتفت إلى أنّه متجرّي؛ لأنّه بمجرد الالتفات يخرج عن كونه متجرّياً، فتوجيه الخطاب على وجه يختصّ بالقبح الفاعلي فقط لا يمكن»(1).

وهذا الدليل مناقش فيه من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ من الممكن تعليق التكليف على عنوان «المتجرّي»، أو «القاطع المخالف قطعه للواقع» بدون استلزام ذلك لإنقلاب الموضوع، أو اللغوية.

بيان ذلك:

أ) إنّ الخطابات الشرعيّة ليست عادة خطابات شخصية، بل هي خطابات قانونية كلّية، والقضية فيها مسوقة على نحو القضايا الحقيقية.

ب) إنّ تنجّز التكليف يتوقّف على وصوله إلى المكلّف صغرى وكبرى، وللوصول أقسام:

1- أن تصل الكبرى والصغرى وصولاً تفصيلياً.

ص: 164


1- فوائد الأصول 3: 44.

2- أن تصلا وصولاً إجمالياً.

3- أن تصل الكبرى وصولاً إجمالياً والصغرى وصولاً تفصيلياً.

4- عكس الصورة الثالثة.

وكل هذه الأنواع يتنجّز فيها الواقع على المكلّف.

ج- إنّ التجرّي لا يختصّ بموارد «القطع الوجداني» بالواقع، بل يثبت أيضاً في موارد «القطع التعبّدي» بالواقع، كما لو قامت البيّنة على خمرية هذا المائع، على ما سوف يأتي إن شاء اللّه تعالى.

وحينئذٍ: فلو فرضنا أنّ الشارع قال: «الفعل المتجرّى به حرام» وقامت البيّنة على خمرية هذا المائع، واحتمل المكلّف كون البيّنة مخالفة للواقع، فيحصل للمكلّف العلم التفصيلي بالكبرى (وهي «إنّ الخمر حرام» و«وإنّ الفعل المتجرّى به حرام»).

والعلم الوجداني الإجمالي بالصغرى (وهي: إنّ هذا المائع إمّا خمر في الواقع أو خلّ).

فيتولّد من ذلك علم تفصيلي بحرمة شرب هذا المائع.

إمّا لأنّه خمر، وشرب الخمر حرام، وإمّا لأنّه خل، وشرب مقطوع الخمرية - ولو بالقطع التعبدي- حرام.

ولهذا الجعل أثر كبير؛ إذ في موارد قيام الطرق على الخمرية، واحتمال مخالفة الطريق للواقع: لو فرض أنّ الفعل المتجرّى به ليس بمحرم، فربما يقتحم المكلّف في الفعل برجاء أن لا يكون خمراً في الواقع، أمّا لو فرض أنّ الفعل المتجرّى به حرام، يعلم المكلّف أنّ اقتحامه محرّم على كل حال

ص: 165

سواء بان الواقع خمراً أم خلاًّ فيمكن أن يكون ذلك رادعاً له عن الاقتحام.

إذاً: فلا يكون جعل الشارع للحرمة على «الفعل المتجرّى به» مستلزماً لانقلاب الموضوع، كما لا يكون لغواً أيضاً(1)، ولعل هذا هو ما أشير إليه في البحوث(2).

كما أنه قد يجعل من الآثار: وجوب الاستغفار؛ إذ لو علم المكلّف أن التجري حرام شرعاً، وأقدم على شرب مقطوع الخمرية، فإنه وإن لم ير نفسه مشمولاً للخطاب حين الاقتحام، إلاَّ أنه بعد انكشاف الحال يعلم بصدور المخالفة منه، منتهى الأمر أنه ارتكب محرماً بتخيل محرم آخر، أي أنه تخيل اقتحامه في مخالفة (النهي عن شرب الخمر) فبان اقتحامه في مخالفة (النهي عن التجري) فهو نظير من اقتحم في (الغيبة) بزعمه فبان أنها (تهمة)؛ وذلك لا يقدح في كون ما اقتحم فيه معصية على كلّ تقدير، فيكون أثر الحرمة المحمولة على خصوص عنوان التجرّي وجوب الاستغفار بعد انكشاف الحال، بخلاف ما لو تحمل الحرمة عليه، فإنّه لا يجب الاستغفار؛ لعدم ارتكابه محرماً شرعياً، وهذا المقدار من الأثر كافٍ في دفع اللغوية.

وأيضاً: قد يجعل من الآثار سقوط العدالة وعدمه على تفصيل يأتي إن شاء اللّه تعالى(3).

ص: 166


1- لاحظ أيضاً الصفحة 132 من هذا الكتاب.
2- بحوث في علم الأصول 4: 60.
3- راجع الصفحة 282.

الجهة الثانية: لو فرضنا عدم إمكان أخذ المتجري عنواناً في الخطاب لكن يمكن:

أ) أخذ عنوان خاصّ في الخطاب مثل «يا زيد يحرم عليك شرب هذا المائع».

ب) أو أخذ عنوان عام ملازم للعنوان الواقعي (أي عنوان «المتجرّي») مساوٍ له، مع عدم التفات المكلّف إلى الملازمة بين العنوانين.

وهذا نظير ما ذكروه في إمكان خطاب الناسي بعنوان خاصّ (مثل يا زيد) أو عام ملازم (مثل: البارد المزاج أو الحار المزاج أو البلغمي المزاج).

فتحصّل أنّ الخطاب في الفرض الثاني ممكن.

الفرض الثالث: أن يفرض استتباع القبح الفاعلي لثبوت حرمة مماثلة للحرمة الثابتة ل(شرب الخمر الواقعية) مغايرة لها، وتكون هذه الحرمة محمولة على عنوان يعمّ المتجرّي والعاصي، مثل عنوان «الطاغي» أو «المتمرّد على مولاه» أو «من هو في صدد العصيان» ونحو ذلك.

وقد ذكر المحقق النائيني (رحمه اللّه) أنّه أيضاً غير معقول.

وبيان ذلك يتوقّف على توضيح مقدّمة وهي:

إنّه لا معنى لتشريع حكم لا يصلح للانبعاث عنه ولو في مورد، بل يجب أن يصلح الحكم للباعثية بحيال ذاته ولو في الجملة، فإذا فرضنا وجود خطابين، فالصور المتصوّرة بين موضوعي الخطابين هي أربع:

الصورة الأولى: أن يكون بين الموضوعين تباين كلّي، كما لو قال: (الغراب الأبقع حرام) (العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه حرام)، ولا

ص: 167

إشكال في هذه الصورة.

الصورة الثانية: أن يكون بين الموضوعين عموم من وجه كما لو قال: (أكرم العالم) وقال (أكرم الهاشمي) وهذه الصورة لا إشكال فيها أيضاً.

إذ أنّ كلاّ من الحكمين يصلح للباعثية بحيال ذاته، ولو في مورد الافتراق.

وأمّا في مورد الاجتماع فيتأكّد الحكمان، فلا مانع من تشريعهما معاً.

الصورة الثالثة: أن يكون بين الموضوعين تساوٍ كلّي، فإن كان الخطاب الثاني بغرض تأكيد الخطاب الأول فلا مانع منه وهو خارج عن محل الكلام.

أمّا لو كان بعنوان تشريع حكم ثانٍ، فهو لغو لأنّه لا يصلح للباعثية مستقلاً ولو في مورد.

وبعبارة أخرى: إن كان الحكم الأول صالحاً للباعثية والمحركية فالحكم الثاني لغو، وإن لم يكن صالحاً لذلك فالثاني لا يزيد عليه بشيء، فيكون جعله لغواً أيضاً.

الصورة الرابعة: أن يكون بين الموضوعين عموم وخصوص مطلق، وفي هذه الحالة يكون الخطاب الأخص لغواً؛ لأنه لا يصلح أن يكون باعثاً ومحرّكاً بحيال ذاته ولو في موردٍ. هذا كلّه بلحاظ الكبرى.

وأمّا بلحاظ الصغرى: فإنّ النسبة بين موضوعي (اجتنب الخمر الواقعية) و(اجتنب مقطوع الخمرية)، وإن كانت هي العموم من وجه؛ إذ الخمر الواقعية قد لا تكون مقطوعة الخمرية، ومقطوع الخمرية قد لا يكون خمراً

ص: 168

واقعاً، وقد يجتمعان.

وقد سبق أنه لا مانع من تشريع حكمين بين موضوعيهما عموم من وجه إلاَّ أنه في نظر القاطع: النسبة بين الخطابين عموم مطلق؛ إذ لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع، ودائماً يرى مصادفة قطعه للواقع، فهو يرى أنّ خطاب (اجتنب عن مقطوع الخمرية) أخص موضوعاً من (اجتنب الخمر الواقعية).

وحينئذٍ يعود الإشكال الذي ذكر في صورة (العموم والخصوص المطلق)؛ إذ الخطاب العام إن كان صالحاً للمحرّكية والباعثية فيكون جعل الخطاب الخاصّ لغواً، وإن لم يكن صالحاً لذلك يكون جعله لغواً أيضاً.

وبتقرير آخر: لو فرض أنّ (للخمر) حكماً، ول(مقطوع الخمرية) حكماً آخراً فلو علم بخمرية مائع، فإن حرّكه خطاب (اجتنب في الخمر) فلا فائدة في (اجتنب عن مقطوع الخمرية) بلحاظ المحرّكية والباعثية، وإن لم يحرّكه خطاب (اجتنب عن الخمر) لم يصلح خطاب (اجتنب عن مقطوع الخمرية) لتحريكه وبعثه.

وليس ل(اجتنب عن مقطوع الخمرية) مورد آخر يمكن استقلاله فيه في الباعثية.

وبعبارة ثالثة: العلم بالخمرية ملازم للعلم بوجوب الاجتناب المحمول على (الخمر الواقعية).

فتوجيه خطاب آخر ب(وجوب الاجتناب عن مقطوع الخمرية) لا يجدي شيئاً.

قال المحقق النائيني: «بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائماً وإن لم يلزم ذلك في الواقع؛ لأنّ النسبة بين حرمة الخمر

ص: 169

الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من وجه، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان - كما في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي- إلاَّ أنّه في نظر العالم دائماً يلزم اجتماع المثلين؛ لأن العالم لا يحتمل المخالفة ودائماً يرى مصادفة علمه للواقع، فدائماً يجتمع في نظره حكمان، ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحركاً لإرادة العبد بحيال ذاته، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد، وفي مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي يصلح كل من الحكمين للباعثية بحيال ذاته ولو في مورد افتراق كل منهما عن الآخر، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين، بخلاف المقام، فأنه لو فرض أن للخمر حكم ولمعلوم الخمرية أيضاً حكم، فبمجرد العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أنه رتب على ذات الخمر، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب، والحكم الآخر المترتب على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثاً ويلزم لغويته، وليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية، فإن العلم بالخمرية دائماً ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتب على الخمر الواقعي، وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل المخالفة، فتوجيه خطاب آخر على معلوم الخمرية لا يمكن»(1).

ويرد عليه:

أولاً: أنه لا مانع - عقلاً- من وجود أمرين يتعلّق أحدهما بالكلّي،

ص: 170


1- فوائد الأصول 3: 45-46.

والآخر بحصّة خاصّة منه؛ إذ الأمر تابع للملاك، ويمكن فرض وجود ملاك عام يرتبط بالكلّي، وملاك خاص يختصّ بالحصّة، وكما يمكن - ثبوتاً- أن يقتضي الملاك الخاصّ: تأكيد الحكم العام في مورد الحصّة كذلك يمكن أن يقتضي تشريع حكم ثانٍ محمول على خصوص الحصّة.

مثلاً: يكون في (الزنا) ملاك عام يقتضي تحريمه بشكل عام، وفي (الزنا بالمحارم) ملاك خاص يقتضي تحريمه بالخصوص، مضافاً إلى التحريم الثابت له بما هو فرد من أفراد الكلّي.

وهكذا بالنسبة إلى (الغيبة) و(غيبة العلماء) مثلاً.

وربما نجد نظائر لذلك في القوانين العقلائية.

مثلاً: يقرّر المشرّع (حرمة القتل قانونياً بشكل عام) و(حرمة مكرّرة لقتل الصنف المعيّن).

ولا يتعيّن في هذا المورد وأمثاله أن يكون التحريم المتعلّق بقتل الصنف المعيّن تغليظاً للحرمة الأولى، بل يمكن أن يكون اعتباراً لتحريم ثانٍ، خاصة إذا فرض سبق التحريم المتعلق بالحصة على التحريم المتعلّق بالكلي، فتأمل.

وبتقرير آخر: المحذور المفترض في الحكمين المتماثلين:

1- إن كان محذور (اجتماع المثلين).

ففيه: أنّ المحال اجتماع المثلين في وعاء العين أو الانتزاع، وأما وعاء الاعتبار فحيث إنه ليس وجوداً حقيقياً، بل هو وجود اعتباري فلا مانع من اجتماع المثلين فيه لو لوحظ في حدّ ذاته، والوجدان قاضٍ بأنه مع قصر

ص: 171

النظر على وعاء الاعتبار لا مانع من اجتماع المثلين فيه، بل لا مانع من اجتماع الضدّين فيه أيضاً، وقد سبق بعض الكلام في ذلك.

وأما محذور (اجتماع إرادتين) فسوف يأتي التعرض له في مبحث (الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري) إن شاء اللّه تعالى.

مع أنه يمكن فرض إرادة واحدة شديدة، ينشأ منها اعتباران متماثلان متعلقان بشيء واحد.

2- وإن كان المحذور هو اللغوية وعدم ترتّب الأثر العملي على الجعل الثاني.

ففيه: أنّ ذلك باعث كبير للكثيرين، فإذا قيل لهم: إنّ في العمل الكذائي عشر تحريمات من عشر حيثيات، وعشر عقوبات، كان ذلك أكثر ردعاً لهم من فرض العقوبة الواحدة - ولو مغلّظة.

3- وإن كان المحذور عدم الوقوع خارجاً.

ففيه: أنّ الكلام في الإمكان لا في الوقوع.

ومن هنا يمكن أن يتعدّى إلى دعوى إمكان تشريع عدّة أحكام متماثلة على موضوع واحد، بحيث يكون لكل تكليف عقاب مستقل.

مثلاً: يقول المولى: «الغيبة محرّمة، باعتبار أنّها تورث تمزيق الأواصر الاجتماعية»، ويتبع هذا التحريم عقاب للمخالف، ويقول: «الغيبة محرّمة بتحريم ثانٍ، باعتبار أنّها تسبّب جرأة الناس على المعصية»، ويتبع هذا التحريم عقاب مستقل مغاير للعقاب الأول. وهكذا لو قال المولى الغيبة فيها حرمتان: حرمة من جهة انتهاك حقّ اللّه تعالى، وحرمة من جهة انتهاك حقّ

ص: 172

الناس، ويتبع كل حرمة عقوبة، وربما يتمّ العفو عن المغتاب من جهة انتهاكه الحقّ الأول، ولا يتم العفو عنه من جهة انتهاكه الحقّ الثاني.

وهكذا في سائر الأمثلة.

نعم، لابدّ من وجود غرض عقلائي في تعدّد الجعل، وإلاّ كان عملاً سفهائياً.

وعلى كل حال، فحيث إنّ شرب (مقطوع الخمرية) فيه خصوصية لا توجد في كلّي (شرب الخمر) يمكن أن يجعل المولى في (شرب مقطوع الخمرية) تحريماً ثانياً مغايراً للتحريم الثابت في (شرب الخمر)، فيجتمع في (شرب مقطوع الخمرية) تحريمان، ولا يلزم من ذلك أي محذور عقلي.

ثانياً: ما في (البحوث): «من أنّ النسبة بين الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية في المقام أيضاً العموم من وجه بحسب نظر القاطع؛ لأنه يعلم أنه ربما يكون شيء معلوم الخمرية ولو عند غيره أو في مرّة أخرى مع عدم كونه في الواقع خمراً... فيكون جعل حكمين معقولاً من زاوية نظره أيضاً»(1).

ويرد عليه: أنّه غير وافٍ بدفع محذور عدم صلاحية التكليف الثاني للمحرّكية - ولو في مورد- إذ القاطع وإن رأى أنّ بين الدليلين في سائر قطوعه أو في قطوع غيره: عموماً من وجه، إلاَّ أنّ كل قاطع حين القطع يرى أنّ بين الدليلين عموماً مطلقاً، فلا يصلح الأخص في نظر القاطع (أي خطاب «اجتنب عن مقطوع الخمرية») للباعثية مطلقاً، ولو في مورد واحد، فيكون جعله لغواً.

ص: 173


1- بحوث في علم الأصول 4: 61.

ثالثاً: ما في المنتقى من أنّ «هذا إنّما يتمّ في باب المحرّمات لا الواجبات؛ إذ مع اعتقاد وجوب شيء لا تكون الحرمة الناشئة من التجرّي واردة على نفس متعلّق الوجوب، بل الحرمة تتعلّق بالترك؛ لأنّه عنوان المخالفة والعصيان ومن الواضح أنه لا تماثل بين وجوب الفعل وحرمة الترك لاختلاف الموضوع»(1).

وفيه: أنه وإن كان وافياً بدفع (محذور اجتماع المثلين) إلاَّ أنه لا يفي بدفع (محذور ملاك استحالة اجتماع المثلين)؛ إذ التكليف الوجوبي مثل «صلِّ في الوقت» إن كان واجداً للباعثية والمحرّكية - في مثل سلمان وأبي ذر رحمهمااللّه يكون جعل التحريم على «التجري بترك الصلاة عند القطع بضيق الوقت، مع مخالفة القطع للواقع» لغواً؛ لأنه تحصيل للحاصل.

وإن لم يكن التكليف الوجوبي واجداً للباعثية والمحرّكية - في مثل أبي سفيان وأبي لهب لعنة اللّه عليهما- يكون التكليف التحريمي لغواً، لعدم ترتّب أثر عليه؛ إذ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

رابعاً: إنّ الباعثية في الجملة كافية في دفع محذور اللغوية وهي متحقّقة عند القطع التفصيلي الكبروي والقطع الإجمالي الصغروي، وذلك في مورد تنجّز التكليف بالعلم التعبّدي لا الوجداني، وقد سبق تفصيل الكلام في ذلك(2)، فتحصّل من جميع ذلك: أنّ الفرض الأول: محال.

ص: 174


1- منتقى الأصول 4: 47.
2- راجع الصفحة 184.

وأمّا الفرضان الأخيران: فهما ممكنان.

الوجه الثاني: من وجوه المناقشة في الدليل الثالث من الوجوه المستدلّ بها على (حرمة الفعل المتجرّى به) أي (التمسك بقاعدة الملازمة لإثبات الحرمة) ما في المصباح: «إنّ حكم العقل إنما هو بمعنى إدراكه ليس إلاَّ، (فتارة) يدرك ما هو في سلسلة علل الأحكام الشرعيّة من المصالح والمفاسد، وهذا هو مورد قاعدة الملازمة؛ إذ العقل لو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال، وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة، علم بوجوبه الشرعي لا محالة، بعد كون الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد، وكذا لو أدرك مفسدة ملزمة بلا مزاحم، علم بالحرمة الشرعيّة لا محالة.

لكن الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة أو نادرة جداً؛ إذ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية والجهات المزاحمة لها، ولذا ورد في الروايات: إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول، وأنه ليس شيء أبعد عن دين اللّه من عقول الرجال.

و(أخرى): يدرك العقل ما هو في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية، كحسن الإطاعة وقبح المعصية، فإن هذا الحكم العقلي فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي، وحكم العقل بقبح التجرّي وحسن الإنقياد من هذا القبيل، فقاعدة الملازمة أجنبية عنه، فلا دليل على أنّ حكم العقل بقبح التجري يستلزم الحرمة الشرعية، بل لنا أن ندّعي عدم إمكان جعل حكم شرعي مولوي في المقام؛ إذ لو كان حكم العقل - بحسن الانقياد والإطاعة وقبح التمرد والمعصية- كافياً في إتمام الحجّة على العبد، وفي بعثه نحو العمل وزجره عنه - كما هو الصحيح- فلا حاجة إلى جعل حكم شرعي

ص: 175

مولوي آخر، وإن لم يكن كافياً، فلا فائدة في جعل حكم آخر؛ إذ هو مثل الحكم الأول، فيكون جعل الحكم لغواً يستحيل صدوره من الحكيم تعالى وتقدّس»(1).

وفيما ذكره نظر وذلك؛ لأنّ المحرّكية عن التكليف لها درجات تختلف باختلاف درجات الإيمان:

فقد لا توجد إلاَّ في صورة القطع الوجداني بالتكليف.

وقد توجد في صورتي القطع الوجداني والتعبدي بالتكليف(2).

فلو فرضنا وجود «العلم التعبّدي» بالتكليف في مورد، كما لو قامت البيّنة على خمرية المائع، ولم يتحقّق عند المكلّف «العلم الوجداني»؛ لاحتمال خطأ البيّنة، فربما يقتحم في الشرب، برجاء خطأ البيّنة، وعدم كون ذلك المائع خمراً في الواقع، فلا يتحقّق منه عصيان لتكليف «لا تشرب الخمر»، وإن كان لاحق له في ذلك لتنجّز التكليف بالبيّنة.

أمّا لو فرضنا استتباع القبح العقلي للحرمة الشرعيّة ل«الفعل المتجرّى به»، فهنا يتولّد للمكلّف علم تفصيلي بحرمة شرب هذا المائع، متولّدٍ من العلم الإجمالي؛ إذ لو كان المائع خمراً في الواقع كان شربه مخالفة لتكليف «لا تشرب الخمر» المولوي، ولو كان المائع خلاًّ في الواقع كان شربه مخالفة لتكليف «لا تشرب مقطوع الخمرية» المولوي، ولذا ربما يمتنع المكلّف عن

ص: 176


1- مصباح الأصول 2: 26.
2- ولا يخفى اختلاف الحالات الوجدانية للمكلّف حين قيام الطريق، ظناً وشكاً ووهماً، كما لا يخفى اختلاف المكلفين في الانبعاث باختلاف هذه الحالات (منه (رحمه اللّه) ).

الشرب، لئلاّ يتورّط في المخالفة القطعية للتكليف المولوي.

إن قلت: حكم العقل بقبح التجرّي كافٍ في الردع.

قلت: الحكم العقلي قد لا يكون رادعاً للكثير من المكلّفين؛ إذ مخالفة الحكم العقلي وإن كانت تورث الوقوع في المفاسد الواقعية وتوجب تفويت المصالح الواقعية، إلاَّ أن ذلك ممّا لا يأبه به كثير من الناس، وهذا بخلاف مخالفة الحكم الشرعي الذي يستتبع استحقاق العقوبة الأخروية ونحوها من التبعات.

وبتقرير مختصر: على الملازمة تكون هنالك ثلاثة أحكام مترتبة:

1- الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب عن الخمر.

2- الحكم العقلي بقبح التجرّي.

3- الحكم الشرعي بحرمة التجرّي.

وحيث إنّ الأول ربما لا يكون باعثاً؛ لاحتمال المكلّف عدم كون المائع خمراً - في موارد العلم التعبّدي بالخمرية- وإنّ الثاني ربما لا يكون باعثاً، لضعف باعثية الحكم العقلي لدى الكثيرين فلا يكون هنالك مانع من جعل الشارع الحرمة المولوية للفعل المتجرّى به؛ إذ يكون له أثر في الباعثية والمحرّكية، ولا يكون جعله لغواً(1)، هذا مضافاً إلى ما سبق في مناقشة الوجه الأول، فراجع.

الوجه الثالث: من وجوه المناقشة في الدليل الثالث من الوجوه المستدلّ

ص: 177


1- لاحظ الصفحة 184.

بها على (حرمة الفعل المتجرّى به) أي: (التمسّك بقاعدة الملازمة لإثبات الحرمة) ما في المصباح - أيضاً- من: «إنّ القبح- الذي يتوهم استتباعه للحكم الشرعي- لو كان مختصاً بعنوان التجري أي مخالفة القطع للواقع ففيه - مضافاً إلى فساد هذا الاختصاص، وإن حكم العقل بالقبح في صورة مصادفة القطع للواقع وصورة مخالفته له على حد سواء، إذ ملاكه - وهو هتك المولى والجرأة عليه- موجود في كلتا الصورتين - أنّ هذا غير قابل للبعث والمحركية أصلاً- إذ من مبادئ قدرة المكلّف على الامتثال المعتبرة في صحة التكليف هو الالتفات إلى الموضوع.

والالتفات إلى هذا العنوان - أي القطع المخالف للواقع- مساوق لزواله، نظير الالتفات إلى النسيان، فكما لا يمكن توجيه التكليف إلى الناسي بعنوان الناسي إذ التكليف شرط للتكليف ومع الالتفات إلى كونه ناسياً ينقلب النسيان إلى الذكر وينتفي الموضوع، كذا لا يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع؛ إذ مع عدم الالتفات لا يصحّ التكليف، ومع الالتفات إلى مخالفة قطعه للواقع يزول القطع.

وأمّا لو كان القبح المتوهم استتباعه للحكم الشرعي عاماً شاملاً للتجرّي والمعصية بجامع الهتك والجرأة على المولى، كان جعل الحكم الشرعي مستلزماً للتسلسل؛ إذ التجرّي أو العصيان قبيح عقلاً على الفرض، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية، وعصيان هذه الحرمة أو التجري فيها أيضاً قبيح عقلاً.

والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشرعية، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ص: 178

فتحصّل أنّ حكم العقل - بقبح العصيان والتجري وبحسن الإطاعة والانقياد- لا يستلزم حكماً شرعياً مولوياً، بل لا يمكن جعل الحكم في مورده على ما عرفت، ولذا حملوا الأوامر الشرعيّة - الدالة على وجوب الإطاعة، وللنواهي الشرعيّة الدالة على حرمة المعصية- على الإرشاد دون المولوية»(1).

أقول: يرد على الإشكال الثاني من الفرض الأول - أي عدم قابلية الحكم للبعث والمحركية أصلاً- ما سبق في الفرض الثاني من الوجه الأول.

ويرد على إشكال التسلسل الوارد في الفرض الثاني:

إنه لا إشكال في التسلسل في الأمور الاعتبارية.

توضيحه: إن التسلسل يمكن أن يفرض في ثلاثة موارد:

المورد الأول: التسلسل في الوجودات الخارجية.

مثل أن يكون (ألف) معلولاً ل(ب)، و(ب) معلولاً ل(ج)، و(ج) معلولاً ل(د) وتذهب السلسلة على هذا النحو إلى غير نهاية.

وهذا محال على ما قرر في محلّه.

نعم، وقع الكلام في كونه محالاً مطلقاً أو في الجملة، وتفصيل الكلام في غير المقام.

المورد الثاني: التسلسل في الأمور الانتزاعية.

ولا إشكال فيه؛ وذلك لأنه ينقطع بانقطاع اللحاظ.

ص: 179


1- مصباح الأصول 2: 26-27.

مثلاً: لو قلنا: (الإنسان ممكن) فقد يسأل أن (ثبوت الإمكان للإنسان) هل هو بالوجوب أو بالامتناع أو بالإمكان؟

والجواب: أنه لا سبيل إلى الأخيرين لاقتضاء الأول منهما: امتناع ثبوت الإمكان للإنسان واقتضاء الثاني منهما: إمكان عدم ثبوت الإمكان للإنسان.

فيتعيّن الأول: أي (إن الإمكان ثابت للإنسان بالوجوب).

وبعبارة أخرى: إن ثبوت الإمكان للإنسان ضروري وحينئذٍ ننقل الكلام إلى هذا الوجوب ونقول: (وجوب ثبوت الإمكان للإنسان) هل هو بالوجوب أو بالامتناع أو بالإمكان؟

أي أن وجوب الإمكان للإنسان: واجب أو ممتنع أو ممكن؟

والجواب: إنه واجب وعليه يتحقق (وجوب وجوب ثبوت الإمكان للإنسان) وهكذا إلاَّ أنه لا امتناع في ذلك؛ إذ الإمكان والوجوب انتزاعيان عقليان، فينتزع العقل الوجوب الأول ثمّ ينتزع (وجوب الوجوب) ثمّ ينتزع (وجوب الوجوب الوجوب) وهكذا حتى يكل أو ينصرف، فتنقطع السلسلة، فيكون المتحصّل من المعاني الانتزاعية: مقداراً محدوداً يقف عند حدّ معين، لا مقداراً غير محدود.

ومع هذا يكون التسلسل في الأمور الانتزاعية.

المورد الثالث: التسلسل في الأمور الاعتبارية.

ولا إشكال فيه أيضاً؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار، مثلاً: الشرع يقول: (لا تشرب الخمر) فيقول العقل: (طاعة هذا النهي حسنة) فيقول الشرع على أثر حكم العقل: (طاعة هذا النهي واجبة) فيلتفت العقل إلى هذا الحكم

ص: 180

الشرعي (الأخير) ويقول: (هذه الطاعة حسنة).

وحيث إنّ ما حكم به العقل يحكم به الشرع يعدل الشارع (هذه الطاعة واجبة) وهكذا حتى ينقطع الحكم العقلي فينقطع الاعتبار الشرعي.

وقد دفع الوالد (رضوان اللّه عليه) الإشكال الوارد على صاحب العروة (رحمه اللّه) ، حيث قال في مبحث الصلوات على النبي وآله (صلوات اللّه عليهم أجمعين): «نعم ذكره في ضمن قوله: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد لا يوجب تكرارها وإلاّ لزم التسلسل»(1) يكون ذلك من التسلسل المحال؛ إذ الاستحباب يستمر حتى يفقد المكلّف القدرة - بالنوم مثلاً- فيرتفع الحكم، أو يقع في العسر أو الحرج أو ا لضرر فينتفي الاستحباب - بناءً على رفع هذه العناوين حتى للأحكام الاستحبابية- دفعه بالانصراف، وجعل لزوم التسلسل وجهاً للانصراف.(2)

وظاهر ذلك أنه لا إشكال من الناحية الثبوتية في التسلسل في الأمور الاعتبارية، وإنما الإشكال إثباتي، فتحصل أن التسلسل في المورد الثالث - كالمورد الثاني- مما لا إشكال فيه وواقع الأمر: أنه لا تسلسل في الموردين؛ لأنّ الانقطاع بانقطاع اللحاظ معناه عدم ذهاب الأمر إلى غير نهاية، لا وقوفه عند حدّ معين فإذا قيل: (أنه لا إشكال في التسلسل فيها) فمعناه: أنه ليس بتسلسل.

وأما تصور (أحكام شرعية غير متناهية) بتبع (أحكام عقلية غير متناهية)

ص: 181


1- العروة الوثقى 1: 505.
2- الفقه 22: 239.

فهو تسلسل بالحمل الأول الذاتي، لا بالحمل الشايع الصناعي، وملاك فردية الفرد الثاني لا الأول كما هو واضح، وبناءً على ذلك كله يظهر أن إشكال التسلسل في الفرض الثاني غير وارد. هذا وللكلام بقية ندعها لمقامها. واللّه الموفق وهو المستعان.

4- التمسك بالنصوص الشريفة لإثبات حرمة الفعل المتجرى به
أولاً: القرآن الكريم

أما من الكتاب الحكيم فآيات:

منها: قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}(1).

ومنها: قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2).

ومنها: قوله عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(3).

ومنها: قوله تعالى: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(4).

بضميمة ما ورد في تفسير هذه الآية الكريمة من الروايات الشريفة ففي

ص: 182


1- البقرة: 284.
2- القصص: 83.
3- النور: 19.
4- آل عمران: 183.

تفسير العيّاشي، عن سماعة قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول في قول اللّه: «{قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وقد علم أن هؤلاء لم يقتلوا ولكن فقد كان هوائهم مع الذين قتلوا فسماهم اللّه قاتلين لمتابعة هوائهم ورضاهم لذلك الفعل»(1).

وفيه: عن عمر بن معمر، وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «لعن اللّه القدرية، لعن اللّه الحرورية، لعن اللّه المرجئة، لعن اللّه المرجئة، قلت: جعلت فداك لعنت هؤلاء مرّة ولعنت هؤلاء مرتين؟ فقال: إنّ هؤلاء زعموا أن الذين قتلونا مؤمنين فثيابهم ملطّخة بدمائنا إلى يوم القيامة أما تسمع لقول اللّه: {الَّذِينَ

قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} إلى قوله: {صَادِقِينَ} قال: فكان بين الذين خوطبوا بهذا القول وبين القاتلين خمس مائة عام، فسمّاهم اللّه قاتلين برضاهم بما صنع أولئك»(2).

وفي تفسير العياشي، عن محمّد بن الأرقط، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال لي: تنزل الكوفة؟ قلت: نعم، قال: فترون قتلة الحسين (عليه السلام) بين أظهركم؟ قال: قلت: جعلت فداك ما رأيت منهم أحداً، قال: فإذا أنت لا ترى القاتل إلاَّ من قتل أو مَن وليّ القتل، ألم تسمع إلى قول اللّه: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(3). فأي

ص: 183


1- تفسير العياشي 1: 208.
2- تفسير العياشي 1: 208-209.
3- آل عمران: 183.

رسول قبل الذي كان محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى رسول، إنما رضوا قتل أولئك فسمّوا قاتلين (1).

ونحو ذلك قوله تعالى: {وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ}(2)، ففي تفسير القمي قال: «هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء، وإنما قتلهم أجدادهم وأجداد أجدادهم فرضوا هؤلاء بذلك فألزمهم اللّه القتل بفعل أجدادهم، فكذلك من رضي بفعلٍ فقد لزمه وإن لم يفعله»(3).

ومنها: قوله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}(4).

دلّت الآية الكريمة على أن الفؤاد يرتكب الذنب أيضاً، وإلاّ لم يصح عقابه.

ومنها: قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(5).

وقد قيل: إنّ الآيات المباركات تدلّ على المقصود بالفحوى.

والمراد بذلك: الأولوية؛ إذ لو كان الرضا المجرد بالحرام محرماً فالرضا المقرون باقتحام ما تعتقد حرمته أولى بالحرمة.

وهكذا الأمر في سائر العناوين المذكورة في الآيات الكريمة.

ص: 184


1- تفسير العياشي 1: 209.
2- آل عمران: 182.
3- تفسير القمي 1: 157.
4- الهمزة: 6-7.
5- الإسراء: 36.
ثانياً: السنة الشريفة

وأما السنة الشريفة فطوائف:

الطائفة الأولى

ما دلّ على أن اللّه تعالى يعطي الناس على نياتهم، ويحشرهم على نياتهم، فعَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وهُوَ فِي دِيوَانِ هَؤُلَاءِ وهُوَ يُحِبُّ آلَ مُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويَخْرُجُ مَعَ هَؤُلَاءِ في بَعْثِهِمْ فَيُقْتَلُ تَحْتَ رَايَتِهِمْ قَالَ: «يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى نِيَّتِهِ قَالَ وسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مِسْكِينٍ خَدَمَهُمْ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبَ مَعَهُمْ شَيْئاً فَيُغْنِيَهُ اللَّهُ بِهِ فَمَاتَ فِي بَعْثِهِمْ قَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ إِنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِي اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى نِيَّاتِهِم»(1).

وفي الكافيِ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أُكْثِرُ الْغَزْوَ وأَبْعُدُ فِي طَلَبِ الْأَجْرِ وأُطِيلُ الْغَيْبَةَ فَحُجِرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقَالُوا لَا غَزْوَ إِلَّا مَعَ إِمَامٍ عَادِلٍ فَمَا تَرَى أَصْلَحَكَ اللَّهُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُجْمِلَ لَكَ أَجْمَلْتُ وإِنْ شِئْتَ أَنْ أُلَخِّصَ لَكَ لَخَّصْتُ؟ فَقَالَ بَلْ أَجْمِلْ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة»(2).

الطائفة الثانية

ما ورد من تعليل خلود أهل الجنة وأهل النار بعزم كل من الطائفتين على الاستمرار في طريق الطاعة أو المعصية.

ص: 185


1- وسائل الشيعة 17: 201-202.
2- الكافي 5: 20.

ففي الكافي عَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) : «إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا اللَّهَ أَبَداً، وإِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ أَبَداً فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} قَالَ عَلَى نِيَّتِه»(1).

الطائفة الثالثة

ما دلّ على أنّ القاتل والمقتول كلاهما في النار، فعنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ الْقَاتِلُ والْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْلاً»(2).

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنه) قَالَ لَمَّا فَرَغَ أمير المؤمنين عَلِيٌّ (عليه السلام) مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَضَعَ قَتَباً عَلَى قَتَبٍ ثُمَّ صَعِدَ عَلَيْهِ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ يَا أَهْلَ الْمُؤْتَفِكَةِ يَا أَهْلَ الدَّاءِ الْعُضَالِ يا أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ يَا جُنْدَ الْمَرْأَةِ رَغَا فَأَجَبْتُمْ وعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ ودِينُكُمْ نِفَاقٌ وَأَحْلامكُمْ دِقَاقٌ ثُمَّ نَزَلَ يَمْشِي بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَمَشَيْنَا مَعَهُ فَمَرَّ بِالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ يَا حَسَنُ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ قَتَلْتَ بِالْأَمْسِ أُنَاساً يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ يُصَلُّونَ الْخَمْسَ ويُسْبِغُونَ الْوُضُوءَ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ

ص: 186


1- الكافي 2: 85.
2- تهذيب الأحكام 6: 174.

الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَدْ كَانَ مَا رَأَيْتَ فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تُعِينَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا فَقَالَ واللَّهِ لَأَصْدُقَنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خَرَجْتُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ فَاغْتَسَلْتُ وَتَحَنَّطْتُ وَصَبَبْتُ عَلَيَّ سِلَاحِي وأَنَا لَا أَشُكُّ فِي أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ هُوَ الْكُفْرُ فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْخُرَيْبَةِ نَادَانِي مُنَادٍ يَا حَسَنُ إِلَى أَيْنَ ارْجِعْ فَإِنَّ الْقَاتِلَ والْمَقْتُولَ فِي النَّارِ فَرَجَعْتُ ذَعِراً وجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ أَشُكَّ أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ هُوَ الْكُفْرُ فَتَحَنَّطْتُ وصَبَبْتُ عَلَيَّ سِلَاحِي وخَرَجْتُ أُرِيدُ الْقِتَالَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْخُرَيْبَةِ فَنَادَانِي مُنَادٍ مِنْ خَلْفِي يَا حَسَنُ إِلَى أَيْنَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَإِنَّ الْقَاتِلَ والْمَقْتُولَ فِي النَّارِ؟ قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) : صَدَقَتَ أَ فَتَدْرِي مَنْ ذَلِكَ الْمُنَادِي؟ قَالَ: لا قَالَ (عليه السلام) : ذَاكَ أَخُوكَ إِبْلِيسُ وصَدَقَكَ أَنَّ الْقَاتِلَ والْمَقْتُولَ مِنْهُمْ فِي النَّارِ فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الآنَ عَرَفْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْقَوْمَ هَلْكَى»(1).

فعن الأصبغ بن نُباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول للناس: «سلوني قبل أن تفقدوني؛ لأني بطرق السماء أعلم من العلماء وبطرق الأرض أعلم من العالم، أنا يعسوب الدين، أنا يعسوب المؤمنين وإمام المتقين وديّان الناس يوم الدين، أنا قاسم النار وخازن الجنان، وصاحب الحوض والميزان وصاحب الأعراف، فليس منّا إمام إلاَّ وهو عارف بجميع أهل ولايته وذلك قوله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، ألا أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فإنّ بين جوانحي علماً جمّاً، فسلوني قبل أن تشغر برجلها فتنة شرقية وتطأ في خطامها بعد موتها وحياتها وتشبّ نار

ص: 187


1- بحار الأنوار 32: 225.

بالحطب الجزل من غربي الأرض رافعة ذيلها تدعو يا ويلها لرحله ومثلها فإذا استدار الفلك قلتم مات أو هلك بأيّ وادٍ سلك فيومئذٍ تأويل هذه الآية: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}، ولذلك آيات وعلامات أولهن إحصار الكوفة بالرصد والخندق وتخريق الروايا في سكك الكوفة وتعطيل المساجد أربعين ليلة وكشف الهيكل وخفق رايات حول المسجد الأكبر تهتز القاتل، المقتول في النار»(1).

الطائفة الرابعة

ما دلّ على استحقاق العقاب لمن ارتكب بعض مقدمات الحرام بقصد ترتب الحرام عليه، فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ومن مشى في نميمة بين اثنين سلّط اللّه عليه في قبره ناراً تحرقه إلى يوم القيامة، وإذا خرج من قبره سلّط اللّه عليه تنيّناً أسود ينهش لحمه حتى يدخل النار»(2).

وفي الكافي عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألا أنبئكم بشراركم، قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب»(3).

ص: 188


1- بحار الأنوار 52: 272.
2- عقاب الأعمال: 284.
3- الكافي 2: 225، وقد اختلفت هذه الرواية في الكتب المختلفة ففي الخصال: 183 جاء النص (الباغون للبراء العيب)، وفي وسائل الشيعة 12: 18 (الباغون للناس العيب)، وفي 8: 408 (الملتمسون للبراء العثرات)، وفي المستمسك 9: 150 (الباغون للبراء العنت).

وفيه عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة: غارسها وحارسها وبايعها ومشتريها وشاربها والآكل ثمنها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها»(1).

وعن مسعدة بن زياد قال: وحدثني جعفر بن أبيه: أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إن شرّ الناس يوم القيامة المثلث، قيل: يا رسول اللّه، وما المثلث؟ قال: الرجل يسعى بأخيه إلى إمامه فيقتله، فيهلك نفسه، وأخاه، وإمامه»(2).

الطائفة الخامسة

ما دلّ على أن الرضا بفعلٍ كفاعله، فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :«من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمرٍ فرضيه كان كمن شهده»(3).

وعن عبد السلام بن صالح الهروي، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) - في حديث: «ومن رضي شيئاً كان كمن آتاه، ولو أن رجلاً قُتِلَ بالشرق فرضي بقتله رجل بالغرب لكان الراضي عند اللّه شريك القاتل»(4).

وبهذا الإسناد عن الرضا (عليه السلام) : «قال: قلت له: لأي علة أغرق اللّه عزّ وجلّ الدنيا كلّها في زمن نوح (عليه السلام) وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فقال: ما كان فيهم أطفال؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ أعقم أصلاب قوم نوح وأرحام نسائهم

ص: 189


1- الكافي 6: 429.
2- قرب الإسناد: 29؛ الاختصاص: 228.
3- وسائل الشيعة 16: 138.
4- وسائل الشيعة 16: 139.

أربعين عاماً فانقطع نسلهم فغرقوا ولا طفل فيهم، وما كان اللّه عزّ وجلّ ليهلك بعذابه من لا ذنب له، وأما الباقون من قوم نوح (عليه السلام) فأغرقوا لتكذيبهم لنبي اللّه نوح (عليه السلام) ، وسائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذبين، ومن غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهده وأتاه»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «العامل بالظلم والراضي به والمعين عليه شركاء ثلاثة»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إنّما يجمع الناس الرضا والسخط فمن رضي أمراً فقد دخل فيه، ومن سخطه فقد خرج منه»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه وعلى كلِّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، ثمّ إثم الرضا به»(4).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «الغيبة كفر والمستمع لها والراضي بها مشرك»(5).

هذا ولكن يمكن المناقشة في هذا الدليل بوجوه:

الوجه الأول: إنّ هذه النصوص لا تدلّ على (حرمة الفعل المتجرّى به)، بل على (استحقاق العقاب للمتجرّي)، ولا ملازمة بين (استحقاق العقاب

ص: 190


1- التوحيد: 392؛ علل الشرائع 1: 30.
2- وسائل الشيعة 16: 140.
3- المحاسن 1: 262؛ وسائل الشيعة 16: 140.
4- بحار الأنوار 97: 96.
5- مستدرك الوسائل 9: 133.

على فعل) و(حرمة ذلك الفعل شرعاً).

وهذا الوجه محل تأمّل؛ لأنه وإن فرض إنكار الملازمة العقلية بين (استحقاق العقاب) و(الحرمة) إلاَّ أنّ الملازمة العرفية قائمة.

ومردّ ذلك إلى ظهور الدليل عرفاً في ثبوت الحرمة، خاصّة ما ورد فيه الوعيد بالنار، كما لو ورد أنّ من اغتاب مؤمناً حبس كذا عاماً في نار جهنم(1) فإن ظاهره - عرفاً- حرمة هذا الفعل، ومن هذا القبيل ما سبق من حديث (القاتل والمقتول في النار)(2)، وحديث (فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء)(3)، وحديث (ينهش لحمه حتى يدخل النار)(4)، ونحوها قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(5).

نعم: قد يقال بالتفصيل.

1- بين ما لا يستقل العقل بثبوت استحقاق العقاب فيه.

فورود الدليل التعبّدي باستحقاق العقاب فيه ملازم - عرفاً- للحرمة الشرعية، كما لو ورد الدليل باستحقاق العقاب على حرمة أكل الغراب -

ص: 191


1- مستدرك الوسائل 9: 114، وقد ورد الحديث: «من اغتاب مؤمناً حبسه في طينة خبال ثلاثين خريفاً، قيل: وما طينة خبال؟ قال ما يصير طيناً من صديد فروج الزواني».
2- التهذيب 6: 174.
3- الكافي 3: 85.
4- ثواب الأعمال: 284، وقد ورد الحديث: «ومن مشى في نميمة بين اثنين سلط اللّه عليه شجاعاً (تنيناً) أسوداً ينهش لحمه حتى يدخل النار.... الخبر».
5- النور: 19 {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.

مثلاً.

2- وما يستقل العقل بثبوت الاستحقاق فيه.

فلا ملازمة بين ورود النص بالاستحقاق و(الحرمة).

إذ يكون ورود النصّ - في هذا المورد- إرشاداً لحكم العقل وتأكيداً له، ولا يدلّ على أزيد مما استقل به العقل من ثبوت العقاب، وبعبارة أخرى لا يكون للدليل حينئذٍ ظهور في المولوية، كي يدلّ على التحريم الشرعي، بل يكون متمحّضاً في الإرشاد.

وهذا التفصيل - أيضاً - لا يخلو من نظر؛ إذ الملاك في الملازمة في باب الأدلّة اللفظية «الظهور العرفي للدليل».

والظاهر ثبوته في كلا الموردين.

منتهى الأمر: أنّه يكون للدليل في المورد الثاني مدلولان:

مدلول مطابقي: يؤكّد حكم العقل باستحقاق العقاب.

ومدلول التزامي: يؤسّس «الحرمة الشرعية».

ولا مانع من كون الدليل ذا مدلولين: أحدهما تأكيدي والآخر تأسيسي.

مثلاً: لو حكم العقل باستحقاق العقاب على (تفويت الملاكات المولوية الملزمة)، وفرض ورود دليل تعبّدي على أنّ تفويت الملاكات المولوية يوجب استحقاق العقاب، فلا مانع من القول بظهور الدليل عرفاً في ثبوت (الحرمة الشرعية).

ثمّ إنّ هنا كلاماً آخر يرد على التفصيل والإطلاق معاً، وهو أنّ الأدلّة المزبورة ليس لسان جميعها: لسان بيان استحقاق العقاب، بل لسان بعضها:

ص: 192

لسان الحرمة والإثم.

مثل ما ورد من أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعن في الخمرة عشرة، إذ ظاهر اللعن هو التحريم، ما لم تقم قرينة على الخلاف، وإلى ذلك ذهب السيد الوالد (رحمه اللّه) ، فتأمل.

وما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به»(1).

وما ورد أن «من رضي بفعل فقد لزمه»(2).

وما ورد من قوله (عليه السلام) : «فألزمهم القتل برضاهم ما فعلوا»(3)، وما ورد من أنه «سمّاهم اللّه قائلين برضاهم بما صنع أولئك»(4).

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ المناقشة الأولى في الدليل وهي (أنّ ثبوت العقاب لا يلازم الحرمة) غير واردة.

إذ:

1- هنالك ملازمة عرفية بين الأمرين.

2- هناك تصريح بثبوت الحرمة على نحو الدلالة المطابقية.

الوجه الثاني: ما يظهر من المحقّق النائيني (رحمه اللّه) (5) عند البحث في بعض

ص: 193


1- وسائل الشيعة 16: 141.
2- تفسير القمي 1: 157.
3- الكافي 2: 409.
4- وسائل الشيعة 16: 269.
5- أجود التقريرات 3: 58؛ فوائد الأصول 3: 52.

روايات المقام من أن مفاد هذه الأدلة المؤاخذة على قصد ارتكاب الحرام الواقعي في صورة التلبس بمقدماته، ومنع مانع عن وقوعه فلا ربط لها بالحرام الخيالي، وتبعه على ذلك في المصباح(1).

أ) وأشكل عليه المحصول: بأنّ المتجرّي والعاصي يقصدان الحرام الواقعي لا الخيالي، غير أنّ الأول في مقام التطبيق خاطئ دون الثاني، وهذا المقدار لا يخرج المتجرّي عن حريم الروايات.

وفيه: إنّ المقصود: أنّ الأدلة إنّما تتناول حالة تصدي المكلّف للحرام الواقعي لا الخيالي، كما لو تُصدِّي لقتل مؤمن محقون الدم فلم يقدر على ذلك، أما لو تصدّى لقتل كافر مهدور الدم بتخيل أنه مؤمن محقون الدم، فهي غير مشمولة للأدلة.

ب) وأشكل عليه المحقّق العراقي (رحمه اللّه) (2) بالمناط الأولوي، ولعل ظاهر كلامه أن المناط هو القصد.

ووجه الأولوية: أنه في مورد الروايات الشريفة منعه مانع من الاقتحام، أما المتجرّي فلم يمنعه مانع من الاقتحام.

ولذا قال ما معناه: (كيف يكون عدم منع المانع عن العمل مانعاً عن حرمته)؟

ويرد عليه: أنّ المناط مستنبط لا منصوص، ولم يثبت كون المناط

ص: 194


1- مصباح الأصول 2: 29.
2- فوائد الأصول 3: 52.

(صرف قصد المعصية مع الاقتحام فيما يعتقد كونه معصية)، بل يحتمل كون الملاك (القصد) و(الاقتحام) و(المطابقة) بل ظاهر بعضها ذلك.

فمثلاً: (لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة ساقيها) ظاهر الرواية: «ساقي الخمرة الواقعية» لا «ساقي ما يعتقد أنه خمر» وهكذا رواية «يسعى بأخيه إلى إمامه» الموضوع فيها «السعي بالأخ»، لا «من يعتقد أنه أخ» وهكذا نعم المناط منصوص في رواية «القاتل والمقتول في النار»، وهو دال على العموم، كما سوف تأتي الإشارة إلى ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى(1).

ج) والأولى في الجواب أن يقال: إنّ بعض الأدلّة الواردة في المقام مطلقة وهي تشمل التصدّي للحرام الواقعي والخيالي.

مثل:

1- إنّ اللّه عزّ وجلّ يحشر الناس على نيّاتهم(2).

2- فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء(3).

3- {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4).

4- رواية «إذا التقى المسلمان»(5) فإنّ موردها وإن كان «التقاء

ص: 195


1- راجع الصفحة 216.
2- الكافي 5: 20.
3- الكافي 2: 85.
4- النور: 19.
5- وسائل الشيعة 15: 148.

المسلمين» إلاَّ أنّ التعليل أعمّ.

5- {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}(1).

6- {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}(2).

إلى غير ذلك من الأدلة التي ظاهرها أن تمام الموضوع لاستحقاق العقوبة «صرف النية» - ونحوها- لا «النية المطابقة للواقع».

وبناءً على ذلك فالجواب الثاني غير تام، إلاَّ إنه سيق على نحو الموجبة الجزئية.

الوجه الثالث: لو سلّمنا أنّ الآيات الكريمة والروايات الشريفة دالّة على الحرمة، إلاَّ أنّ موضوع الحرمة لا يتعيّن كونه (الفعل)، بل يمكن أن يكون (النيّة المظهرة بالفعل)، أو (النيّة مطلقاً).

بل ذلك هو الظاهر من بعض الأدلة مثل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}.

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}.

(فبالنيّات خلّد هؤلاء).

ص: 196


1- البقرة: 284.
2- القصص: 83.

و(إثم الرضا به).

نعم، ظاهر رواية (لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المثلث) حرمة نفس العمل الخارجي.

ونحوها رواية (من مشى في نميمة بين اثنين) وكذا رواية (لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة)، فتأمل.

الوجه الرابع: قصور الأدلة عن النهوض بإثبات (حرمة الفعل المتجرّى به) قصوراً دلالياً - مع غض النظر عن القصور السندي في بعضها- وهذا القصور معلّل في الجملة مضافاً إلى ما تقدّم في بعض الوجوه السابقة بأحد أمور - على سبيل منع الخلو لا على سبيل منع الجمع.

الأول: المغايرة العنوانية:

1- مغايرة العناوين المأخوذة في بعض هذه النصوص الشريفة للعنوان المأخوذة في محلّ البحث، مثلاً: أخذ في بعض هذه الوجوه الأدلّة (الرضا) كما في قوله (عليه السلام) : «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه».

والظاهر أنّ (الرضا) مغاير ل(القصد) - الذي هو محلّ الكلام- والنسبة فيما بين العنوانين هي العموم والخصوص من وجه، إذ قد يرضى الإنسان بفعل، ولا يقصد فعله، كما في من يرضى بمنكر يأتيه شخص ولا يعتقد فعله، وقد يقصد فعل شيء ولا يرضى به، كما فيمن يقصد شرب الدواء المرّ ولا يرضى به، أو يقصد بتر ساقه - لإصابته بمرض خبيث- ولا يرضى به، أو يقصد إعطاء الضرائب للدولة ولا يرضى به.

والمتجرّي وإن قصد المعصية، إلاَّ أنّه قد لا يرضى بذلك وإنّما أقدم

ص: 197

عليها؛ لأنّه مقهور لغرائزه وقد غلبت عليه شقوته، وقد يقدم على المعصية وهو يبكي فرقاً من عذاب اللّه تعالى، أو ألماً من عذاب الوجدان.

لا يقال: الرضا متحقق في المقام؛ لأنّه لو لم يرض بالفعل لم يقدم عليه؛ لأنّه يقال: المراد ب«الرضا» في الأدلّة المزبورة الارتياح إلى العمل، وانبساط النفس نحوه، وطيب النفس به وهي قد لا تتحقق بالنسبة إلى المتجرّي؛ لأنّ المراد ب«الرضا»: هو طيب النفس بالعمل، وهو غير متحقق فيه، فتأمل.

هذا ولكن ظاهره (عليه السلام) : «وعلى كل داخل باطل إثمان إثم العمل به وإثم الرضا به» أعمية مفهوم «الرضا» فتأمل، وما ذكر في عنوان «الرضا» يجري في عنوان «الحب»، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الثاني: خصوصية الوارد:

2- خصوصية الوارد في مجموعة من النصوص الكريمة المذكورة فلا تنهض بإثبات الكلية المدعاة، وفرق بين خصوصية المورد التي لا تخصّص الوارد، وبين خصوصية الوارد التي تخصص الدليل في إطاره؛ إذ في خصوصية المورد يكون هنالك إطلاق للوارد أو عموم أو نحوهما يفيد سريان الحكم إلى الموارد الأخرى، بخلاف خصوصية الوارد حيث لا يكون هنالك شيء من ذلك، فيكون تسرية الحكم إلى مورد آخر: قياساً منهياً عنه.

مثلاً: في حديث (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) لا يستفاد أنّ صرف الإرادة موضوع للحرمة بل (إرادة القتل).

ص: 198

ومن الممكن أن يكون الشارع المقدّس قد شدّد في القتل ونحوه ما لم يشدّد في غيره، فجعل إرادته محرّمة، بخلاف إرادة سائر المحرّمات.

وقد اشتهر بين الفقهاء: وجوب الاحتياط في الثلاثة المهمّة: الدماء، والأعراض، والأموال العظيمة.

وكذا في حديث: (لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة)؛ إذ قد يكون للخمر خصوصية لا يصح معها تعديّة الحكم منها إلى غيرها، ونحو ذلك ما ورد في (حب شياع الفاحشة في الذين آمنوا)، و(إرادة العلو في الفساد في الأرض)، و(الرضا بالظلم) وغيرها فلاحظ.

ولذا قال الوالد (رحمه اللّه) : إنّ الصغريات لا تثبت الكلي.

الثالث: المقدّمة الموصلة:

3- إنّ المقدمة موصلة في بعض النصوص الشريفة المذكورة بخلاف ما نحن فيه، مثلاً: في قوله (عليه السلام) : «الرجل يسعى بأخيه إلى إمامه فيقتله» المقدمة موصلة، حيث فرّع القتل على سعيه، وهذا بخلاف مبحث التجري حيث إنّ المقدمة غير موصلة.

وهكذا في قوله (عليه السلام) : «لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة» إذ قد يدّعى أن ظاهره: حرمة الغرس الموصل إلى شرب الخمر، والسقي الموصل إلى ذلك.... إلى آخر العناوين المأخوذة في الحديث الشريف، وإلاّ لم يصدق «غارسها»، بل غارس ما قصد إيصاله إلى الخمر، فتأمل.

الرابع: المحرّمات النفسية:

4- ويحتمل أن تكون بعض العناوين المأخوذة في الروايات الشريفة

ص: 199

محرّمات نفسية أي أنها محرّمة في حدّ ذاتها، لا أنّها حرّمت لكونها تجرّياً على الحرام.

مثلاً:

1- «فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء».

يحتمل أن يكون «البناء على المعصية دائماً» بذاته معصية - لو فرضنا اعتبار الدليل الدال على الحرمة- فهو بنفسه نوع معصية، لا أنه تجرٍ على المعصية، غاية الأمر أنه معصية تكون جوانحية لا جوارحية، والمعصية كما يمكن أن تكون جوارحية يمكن أن جوانحية كما في الشرك والنفاق ونحوهما.

فالقصد المزبور يوجب العقاب باعتباره معصية في حدّ ذاته، لا أنه يوجب العقاب باعتبار تعلّقه بالمعصية.

2- «إذا التقى المسلمان بسيفيهما».

يحتمل كون حرمته لأجل عنوان «المحاربة» المحرّم بنفسه.

ولذا وجب فيه الحدّ - كما ذكروه في كتاب الحدود والتعزيرات.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر التعليل، فتأمّل.

3- الرضا بالإثم.

يحتمل كونه من المحرّمات النفسية القلبية، لا أنه يوجب العقاب من باب قصد المعصية.

أي أنه قصد إثم - بالتوصيف- لا قصد الإثم - بالإضافة- والثاني هو محل الكلام لا الأول.

ص: 200

4- «لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة».

يحتمل كون هذه المقدّمات: محرّمات نفسية، إذ من المحرّمات ما يحرم جميع مقدّماته أو بعضها كما في الربا.

5- الآية الكريمة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1) وردت في ذيل قصة «قارون، والمفهوم من إرادة العلو والفساد - على ما ذكر بعضهم: ليست إرادة العلو القلبي فقط، بل الإرادة المستتبعة للتعالي العملي والإفساد الخارجي، على النحو الذي عمله قارون، ولا شك إنّ مثل تلك الإرادة المستتبعة لمثل ذلك العمل محرّمة ولو باعتباره»، فتأمل.

6- المقصود بالآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2) قذف الأبرياء بالفاحشة - على ما أفيد- ولا شك أن القذف معصية في حدّ ذاته ومن هنا قال اللّه تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(3).

الخامس: عدم ثبوت الإطلاق في الدليل:

5- عدم ثبوت الإطلاق في مجموعة من الأدلة المذكورة في المقام، بحيث يشمل محل البحث.

ص: 201


1- القصص: 83.
2- النور: 19.
3- النور: 11.

مثلاً: الآية الكريمة: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}(1) تدل على أن للقلب معاصي، ولكنها لا تدل على أن كل ما يرتكبه القلب حرام، إذ ليست في صدد البيان من هذه الجهة، وهكذا قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(2)، وأما الآية الكريمة: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه...}(3) فليست في صدد: أن كل ما في النفس محاسب عليه، وإلاّ لزم تخصيص الأكثر؛ إذ أكثر الإدراكات والإرادات والخيالات محلاً للمؤاخذة، فإنّ إرادة المباح أو المستحب، أو المكروه أو الواجب غير مؤاخذ عليها.

بل في صدد: أنّ ما فرض محرّماً من الأمور القلبية - كالشرك أو الكفر أو نحوهما من الأمور التي هي محل المحاسبة- لا فرق فيه بين الإبداء والإخفاء بالنسبة إلى اللّه تعالى الذي هو علاّم الغيوب، وأقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وإن كان ذلك يختلف بالنسبة إلى الإنسان.

وحيث إنّ الآية الكريمة ليست في صدد البيان من هذه الجهة لا يتم لها إطلاق ليشمل محل البحث.

ويؤيّد ذلك سياق الآية الكريمة حيث إنّها وردت في كتمان الشهادة، فتأمّل.

ثم إنَّه لو فرض تمامية الروايات الشريفة الدالة على العقاب بقصد

ص: 202


1- الهمزة: 6-7.
2- الإسراء: 36.
3- البقرة: 284.

المعصية سنداً ودلالة، يبقى الكلام في معارضتها بطائفة اُخرى تدل على عدم ترتب العقاب على قصد الحرام.

ففي الوسائل: عن زرارة، عن أحدهما (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته أنّ مَنْ همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومَنْ همَّ بحسنة وعملها كتبت له عشراً، ومَنْ همَّ بسيئة لم تكتب له، ومَنْ همَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة»(1).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه»(2).

ويمكن الجمع بين الطائفتين بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، حيث قال: «ويمكن حمل الأخبار الأول على مَنْ ارتدع عن قصده بنفسه، وحمل الأخبار الأخيرة على مَنْ بقي على قصده حتى عجز عن الفعل لا باختياره»(3).

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكره السيد الوالد (رضوان اللّه عليه) من: «أنّ هذا جمع تبرعي؛ لأنه لا شاهد في اية من الطائفتين عليه»(4).

ص: 203


1- وسائل الشيعة 1: 51.
2- وسائل الشيعة 1: 51.
3- فرائد الأصول 1: 48.
4- الوصائل 1: 113.

هذا، ولكن قد يقال: إنَّ الشاهد على هذا الجمع قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول اللّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتلاً»(1).

بتقريب: أن الظاهر من هذه الرواية أن المقتول كان قصده قتل صاحبه مستمراً حتى حصل له العجز عن قتله، فاستحقاقه للعقاب إنما هو لأجل بقائه على قصده، فتكون هذه الرواية قرينة على الجمع المذكور.

وأورد عليه: بضعف الحديث؛ إذ قد ورد في سنده الحسين بن علوان، وهو عامي لم يوثق(2)، وعمرو بن خالد وهو زيدي بتري من رؤساء الزيدية(3)، ومثل هذا لا يصح أن يقع شاهداً.

وثانياً: ما ذكره السيد العم دام ظله من أنَّ المورد لا يخصص الوارد، فالمورد - وهو عن الانقلاع عن نية الحرام - لا يخصص الوارد المطلق(4).

أقول: خاصة لو لوحظ التعليل في ذيل الرواية، أي قوله: «لأنّه أراد قتلاً»، فإن العلة تعمم وتخصص.

وثالثاً: ما ذكره السيد العم دام ظله (5) أيضاً من أنَّ بعض الروايات لا يمكن تخصيصها بذلك، كرواية: خلود أهل النار فيها(6).

ص: 204


1- وسائل الشيعة 11: 148.
2- رجال النجاشي: 52.
3- اختيار معرفة الرجال 2: 498؛ رجال الطوسي: 142.
4- التجري: 90، منقول عن مجلس درسه (دام ظله).
5- منقول عن مجلس درسه (دام ظله).
6- وسائل الشيعة 1: 50.

أقول: لعل عدم الإمكان بلحاظ التعليل، أي: قوله (عليه السلام) : «لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أنْ لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً»(1)، وإلا فالمورد من مصاديق البقاء على القصد حتى طرو العجز غير الاختياري عن الفعل.

هذا، ولكن الرواية ضعيفة؛ لكون المنقري ضعيفاً، قال النجاشي: «كان ضعيفاً»(2)، وأما أحمد بن يونس فلم يعنون في كتب الرجال، ومثله أبو هاشم، الذي استظهر كونه ابن يحيى المزين.

اللّهم إلا أنْ يقال: بصحة جميع ما في الكافي الشريف، ولكن المبنى لا يخلو من إشكال، على ما ذكر في علم الرجال، فراجع.

الوجه الثاني: ما ذكره (رحمه اللّه) من إمكان حمل الأخبار الأول على مَنْ اكتفى بمجرد القصد، والثانية على مَنْ اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات. قال (رحمه اللّه) : «كما يشهد له حرمة الإعانة على المحرم، حيث عمه بعض الأساطين لإعانة نفسه على الحرام»(3). وأضاف (رحمه اللّه) : «ولعله لتنقيح المناط، لا للدلالة اللفظية»(4).

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكره السيد الوالد (رضوان اللّه عليه) من أنَّ هذا الجمع أقرب إلى التبرع(5).

ص: 205


1- وسائل الشيعة 1: 50.
2- رجال النجاشي: 53.
3- فرائد الأصول 1: 48.
4- فرائد الأصول 1: 48.
5- الوصائل 1: 94.

وثانياً: ما ذكره السيد العم (دام ظله) من أنَّ بين التجري والاشتغال بالمقدمات عموماً من وجه، فقد يكون تجرٍ بلا مقدمات، وقد تكون مقدمات بلا تجرٍ، ومورد الاجتماع: التجري مع المقدمات، وما كان أعم من وجه لا يمكن الاستدلال به(1).

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الوالد (رضوان اللّه عليه) بقوله: «وربما كان هناك جمع ثالث وهو: أنَّ ما كان من شأن القلب يكون معاقباً به ومثاباً عليه إذا كان من الدين(2)، ولذا ورد أنَّ الرضا بعقر ناقة صالح سببّ هلاك الراضين به، وجاء في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) : ولعن اللّه أمة سمعت بذلك فرضيت به، وهكذا أمثال ذلك. أما إذا لم يكن من أصول الدين لم يكن معاقباً إلا على عمل المعصية. وهذا وإن كان بحاجة إلى توجيه لكن لعله أوفق بروايات نفي الإثم، بل لعله المركوز في أذهان المتشرعة»(3).

الوجه الرابع: إنَّ الروايات المحرمة إنّما هي في مورد الأول إلى الحرام، وغير المحرمة في غيره.

وأجاب عنه السيد العم دام ظله:

أولاً: بأنه جمع تبرعي لا شاهد له.

وثانياً: إنّ بعض الروايات لا يمكن تخصيصها بذلك، فقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لأنه أراد قتل صاحبه» كيف يخصص؟ بل مورده فيما لم يفعل المقتول حراماً

ص: 206


1- التجري: 90، منقول عن مجلس درسه (دام ظله).
2- أي: من أصول الدين.
3- الوصائل 1: 114-115.

سوى نيته(1).

الوجه

الخامس: حمل ما دل على نفي العقاب على العفو وعدم فعلية العقاب، وما دل على ثبوته على الاستحقاق.

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكره السيد العم دام ظله من أنه جمع تبرعي.

ثانياً: ما ذكره أيضاً: من أنّ بعض الأخبار الدالة على الحرمة تدل على فعلية العقاب لا استحقاقه فقط، كما في روايات خلود أهل النار فيها، وقوله (عليه السلام) : «لأنّه أراد قتل صاحبه»(2).

الوجه السادس: ما في المصباح من: «أن مفادها(3) هي المؤاخذة والمحاسبة على نية المعصية الواقعية، وقصد ارتكاب الحرام الواقعي، كما هو مورد النبوي المذكور، فلا ربط لها بالحرام الخيالي، وما يعتقده المكلف حراماً مع عدم كونه حراماً في الواقع»(4).

واُجيب عنه: «أنّ المتجري والعاصي يقصدان الحرام الواقعي لا الخيالي ، غير أنّ الأول في مقام التطبيق خاطئ دون الثاني، وهذا المقدار لا يخرج المتجري عن حريم الروايات»(5).

ص: 207


1- التجري: 90 - 91، منقول عن مجلس درسه (دام ظله).
2- التجري:90، منقول عن مجلس درسه (دام ظله).
3- أي: الروايات.
4- مصباح الأصول 2: 29.
5- المحصول 3: 43.

الوجه السابع: ما فيه أيضاً: من «أنّه لو سلمنا كون مفادها أعم من ذلك لا دلالة لها على حرمة الفعل المتجرى به شرعاً، كما هو محل الكلام ومورد الاستدلال»(1).

هذا تمام الكلام في المقام الأول، وهو حرمة الفعل المتجرى به بالعنوان الاولي.

المقام الثاني: في حرمة الفعل المتجرى به بالعنوان الثانوي

المقام الثاني: في حرمة الفعل المتجرى به بالعنوان الثانوي(2)

وفيه بحثان:

البحث الأول: في حرمة الهتك ونحوه بشكل كلي، وهذا بحث كبروي.

البحث الثاني: في انطباق عنوان الهتك ونحوه على التجري، وهذا بحث صغروي.

أمّا البحث الأول: فالظاهر أنّه لا إشكال في حرمة الهتك، وقد استند الفقهاء العظام إلى هذا العنوان في الفتوى بالحرمة في موارد مختلفة.

ونذكر فيما يلي بعض المصاديق:

أولاً: ما يتعلق بالقرآن الكريم:

1 - يجب إزالة النجاسة عن ورق المصحف الشريف وخطه، بل عن جلده وغلافه في صورة الهتك(3).

ص: 208


1- مصباح الأصول 2: 29.
2- كعنوان (الهتك) ونحوه.
3- العروة الوثقی 1: 188، وفيه: «تجب الإزالة عن ورق المصحف الشريف وخطه، بل عن جلده وغلافه مع الهتك».

2 - يحرم مس خط المصحف الشريف وورقه بالعضو المتنجس في صورة الهتك، وإن كان اللامس متطهراً من الحدث(1).

3 - لا يجوز وضع الشيء النجس على القرآن الكريم وإن كان جافاً؛ لأنّه هتك لحرمته(2).

4 - إذا كان المصحف للغير ففي جواز تطهيره بغير إذنه إشكال، إلا إذا كان تركه هتكاً، ولم يمكن الاستيذان منه، فإنه حينئذٍ لا يبعد وجوبه(3).

5 - لا يجب منع الأطفال والمجانين من المس إلا إذا كان مما يعد هتكاً(4).

ثانياً: ما يتعلق بالمساجد:

1 - لا يجوز إدخال عين النجاسة في المساجد، وإن لم يستلزم تنجيسها، إذا كان موجباً لهتك حرمتها(5)، كما لا يجوز إدخال الشيء المتنجس فيها إذا استلزم الهتك(6).

2 - الأحوط إعلام الغير إذا لم يتمكن من الإزالة في صورة إيجاب بقاء

ص: 209


1- العروة الوثقی 1: 188، وفيه: «كما أنه معه يحرم مس خطه أو ورقه بالعضو المتنجس، وإن كان متطهرا من الحدث».
2- العروة الوثقی 1: 188.
3- العروة الوثقی 1: 191.
4- العروة الوثقی 1: 358.
5- العروة الوثقی 1: 178.
6- العروة الوثقی 1: 178، فصل: يشترط في صحة الصلاة، م2، وراجع كتاب الصلاة، فصل في بعض أحكام المسجد «الثالث».

النجاسة هتك حرمة المسجد(1).

3 - إذا رأى الجنب نجاسة في المسجد ولم يمكنه إزالتها بدون المكث في حال المرور، واستلزم تأخير التطهير إلى أن يغتسل هتك حرمة المسجد، فلا يبعد جواز المكث بمقدار التطهير، بل وجوبه (2).

ثالثاً: ما يتعلق بالمشاهد المشرفة:

1 - المشاهد المشرفة كالمساجد في حرمة التنجيس، بل وجوب الإزالة إذا كان تركها هتكاً، بل مطلقاً على قول(3).

2 - يحرم اجتياز الحائض من أروقة المشاهد المشرفة إذا استلزم الهتك(4).

3 - يشترط أن يكون مكان المصلي مما لا يحرم الوقوف والقيام والقعود عليه، كقبر المعصوم (عليه السلام) أو غيره مما يكون الوقوف عليه هتكاً لحرمته(5).

رابعاً: ما يتعلق بالأموات:

1 - إذا دفن الميت بلا غسل جاز، بل وجب نبش قبره لتغسيله أو تيممه إلا إذا استلزم هتك حرمته، فإنه يكون حراماً حينئذٍ.

وكذا إذا ترك بعض الأغسال ولو سهواً أو تبين بطلانها أو بطلان بعضها،

ص: 210


1- العروة الوثقی 1: 187.
2- العروة الوثقی 1: 185.
3- العروة الوثقی 1: 188.
4- العروة الوثقی 1: 604.
5- العروة الوثقی 2: 383.

وكذا إذا دفن بلا تكفين او مع الكفن المغصوب(1).

2 - إذا تنجس بدن الميت بعد الغسل أو في أثنائه وجب إزالتها عن جسده، ولو كان بعد وضعه في القبر، إذا أمكن بلا مشقة ولا هتك(2).

3 - لا يجوز دفن المسلم في مثل المزبلة والبالوعة ونحوهما فما هو هتك لحرمته(3).

4 - تنجيس القبور وتقذيرها بما يوجب هتك حرمة الميت على فتوى بعض، إلا أنّ صاحب العروة (رحمه اللّه) ذهب إلى الكراهة(4).

5 - لو ترك استقبال الميت وجب نبشه ما لم يتلاشى ولم يوجب هتك حرمة، سواء أكان عن عمدٍ أم جهل أم نسيان(5).

6 - الأحوط الاقتصار في القدر الواجب على ما هو أقل قيمة، فلو أرادوا ما هو أغلى قيمة يحتاج الزائد إلى إمضاء الكبار في حصتهم، وكذا في سائر المؤن، فلو كان هناك مكان مباح لا يحتاج إلى بذل مال أو يحتاج إلى قليل لا يجوز اختيار الأرض التي مصرفها أزيد إلا بإمضائهم، إلا أن يكون ما هو الأقل قيمة أو مصرفاً هتكاً لحرمة الميت، فحينئذ لا يبعد خروجه من أصل التركة (6).

ص: 211


1- العروة الوثقى 2: 55.
2- العروة الوثقی 2: 57.
3- العروة الوثقی 2: 116.
4- العروة الوثقی 2: 128.
5- العروة الوثقی 2: 316.
6- العروة الوثقی 2: 72.

7 - يحرم التخلي على قبور المؤمنين إذا كان هتكاً لهم(1).

خامساً: مسائل متفرقة:

هذا مضافاً إلى مسائل اُخرى متفرقة أفتى فيها بعض الفقهاء بالحرمة.

1 - الحكم بعدم جواز البناء على القبور الموجودة في المقبرة الموقوفة على عامة الناس، لاستلزامه الهتك وغيره(2).

2 - الحكم بعدم جواز النظر إلى ما يحرم النظر إليه من صورة الأجنبية البالغة إذا كانت في الصورة غير بالغة، إذا كان فيه هتك لها أو إثارة للشهوة(3).

3 - الحكم بعدم جواز قطع عضو من أعضاء الميت المسلم باعتباره هتكاً(4).

4 - الحكم بعدم جواز ارتكاب منافيات المروءة إذا كان فيه هتك للفاعل، وبإسقاط ذلك للعدالة في الصورة المزبورة(5).

5 - الحكم بعدم جواز الدخول إلى الحمام لمَنْ كان لابساً خاتماً كتب عليه أسماء اللّه تعالى إذا كان مؤدياً إلى هتك حرمتها(6).

ص: 212


1- العروة الوثقی 1: 329.
2- صراط النجاة 1: 292.
3- صراط النجاة 1: 326.
4- صراط النجاة 1: 353.
5- صراط النجاة 1: 436.
6- صراط النجاة 2: 432.

6 - الحكم بعدم جواز إعطاء الأدعية المروية للكفار إذا كانت في معرض الهتك(1).

7 - الحكم بعدم صحة الصلاة فرادى في المسجد إذا كان استوجبت هتك حرمة الإمام(2).

8 - الحكم بحرمة حكاية صوت يضحك منه، مع كونه معروفاً أنّه للهجة قوم مؤمنين أو أهل منطقة معينة، في صورة تحقق هتك أهاليها المؤمنين(3).

9 - الحكم بعدم جواز بناء ما يوجب هتك حرمة المسجد فوقه في فضائه التابع له عرفاً، سواء أكان ذلك في جهة الأسفل أم في جهة الأعلى(4).

إلى غير ذلك من المسائل المختلفة.

وأما المبحث الثاني وهو انطباق عنوان الهتك على التجري، فسيأتي ضمن النقطة الأولى من الأمر الثاني من المبحث الثاني، فانتظر.

ص: 213


1- صراط النجاة 2: 439.
2- صراط النجاة 2: 95.
3- صراط النجاة 2: 425.
4- صراط النجاة 2: 533.

المبحث الثاني : في قبح الفعل المتجرى به وعدمه

اشارة

وجوهر البحث يتلخّص في أمرين:

الأمر الأول

اشارة

أنّ ما عليه الفعل المتجرّى به - في حدّ ذاته- من الصفة العقلية - أعني الحسن أو القبح أو اللاحسن واللاقبح- هل يتغير بتعلّق (القطع المخالف للواقع) به أو لا؟

مثلاً: شرب الخلّ في حدّ ذاته ليس حسناً ولا قبيحاً - عقلاً- فلو قطع بكونه خمراً فهل تعلّق القطع بذلك يجعل الشرب قبيحاً؟

مثال آخر: الصدق حسن، فلو قطع بكون هذا الكلام - الذي هو صدق في الواقع- كذباً فهل يجعله القطع قبيحاً أو لا؟

ولا يخفى أنّ الكلام كما يجري في التجرّي، كذلك يجري في الانقياد.

مثلاً: قتل مؤمن محقون الدم قبيح في حدّ ذاته، فلو قطع بأنه كافر مهدور الدم فقتله، فهل يجعل القطع هذا الفعل حسناً أو لا؟

ذهب صاحب الكفاية إلى بقاء الفعل على ما هو عليه من الحسن، أو القبح بلا حدوث تفاوت فيه أصلاً، بسبب تعلّق القطع به(1).

ص: 214


1- كفاية الأصول: 260.

واستدلّ على ذلك بدليلين:

الدليل الأول

إنّ الفعل المتجرّى به - أو المنقاد به- بما هو مقطوع الوجوب أو الحرمة، لا يكون اختيارياً.

وما لا يكون اختيارياً لا يكون حسناً ولا قبيحاً.

فهنا صغرى وكبرى.

أمّا الكبرى فواضحة.

فلو قتل في المنام شخصاً محقون الدم لا يكون عمله هذا قبيحاً، لعدم كونه اختيارياً.

وأمّا الصغرى أي عدم كون الفعل المتجرّى به - أو المنقاد به- بما هو مقطوع الوجوب أو الحرمة اختيارياً.

فيمكن إثباته عن طريقين:

1- انتفاء القصد.

2- انتفاء الالتفات.

أما الأوّل وهو انتفاء القصد

فبيانه:

1- إنّ المتجرّي لم يقصد الإتيان بالفعل بما هو مقطوع الحرمة، أي لم يقصد هذا العنوان، بل القطع ملحوظ آلة وطريقاً.

2- وأنّه كلّما انتفى القصد لم يكن الفعل اختيارياً.

أمّا المقدمة الثانية فواضحة.

ص: 215

إذ الفعل الاختياري يجب أن يكون مسبوقاً بمبادئ الاختيار ومنها القصد، فإذا لم يكن قصد لم يكن الفعل اختيارياً.

وأمّا المقدمة الأولى: فلأنّ المتجرّي يقصد (شرب الخمر) لا (شرب مقطوع الخمرية).

فشرب الخمر له عنوانان:

عنوان ذاتي استقلالي: وهو أنه شرب للخمر.

وعنوان طارئ آلي: وهو أنه شرب مقطوع الخمرية.

والمتجرّي يقصد الأول لا الثاني.

فإذا لم يكن (شرب مقطوع الخمرية) مقصوداً فلا يكون اختيارياً، فلا يكون هذا العنوان ملاكاً للقبح.

وأمّا الثاني وهو انتفاء الالتفات

فلأنّ المتجرّي لا التفات له إلى قطعه، بل هو غافل عنه.

فالقاطع يرى الأشياء بالقطع ولا يرى القطع، كما أنّ الرائي يرى الأشياء بالنور ولا يرى النور، فالقطع منظور به لا منظور فيه، ومع انتفاء الالتفات لا اختيار؛ إذ يمتنع تعلّق الإرادة بشيء مع الغفلة عنه.

ومع انتفاء الإرادة والاختيار لا يكون الفعل قبيحاً.

وهذا الدليل يرد عليه أمران:

1- إذا لم يكن (شرب مقطوع الخمرية) بما هو كذلك اختيارياً فلا وجه لاستحقاق العقوبة عليه، مع أن المختار استحقاق المتجري العقاب.

وأجاب صاحب الكفاية عن ذلك: بأنّ الاستحقاق إنما هو ل(القصد)

ص: 216

و(الإرادة) لا للفعل، ويبقى الكلام في كون نفس (الإرادة) ومقدماتها اختيارية، وتفصيله يطلب من مباحث (الطلب والإرادة).

2) الالتفات ثابت، وانتفاء القصد غير ضائر.

بيان ذلك: أمّا بالنسبة إلى الشقّ الأول فبأنّ الالتفات على نحوين:

1) الالتفات التفصيلي (وقد يعبر عنه بالالتفات الخطوري).

2- الالتفات الإجمالي (وقد يعبر عنه بالالتفات الارتكازي).

والالتفات الإجمالي إلى القطع متحقق، كما في جميع الأمور المعلومة للنفس بالعلم الحضوري، فوزان القطع وزان اللذة والألم والخوف ونحوها - أي ما هو لذة وألم وخوف بالحمل الشايع الصناعي- مما هي ملتفت إليها ولو إجمالاً، بل قد ذكر بعضهم: أنّ الملتفت إليه أولاً وبالذات هو نفس القطع، والالتفات إلى المقطوع إنّما يكون بواسطته، فالقطع كالنور في كونه هو المرئي أولاً وبالذات، وسائر المرئيات مرئية - به- ثانياً وبالتبع، فتأمل.

وأمّا الشقّ الثاني وهو أنّ انتفاء القصد غير ضائر:

فتوضيحه: أنه إذا فرضنا أنّ عنواناً من العناوين كان ملاكاً للحسن أو القبح:

فتارة: يكون ذلك العنوان هو الباعث والمحرّك، ولا شكّ أنّ العمل يكون حينئذٍ متّصفاً بالقبح أو الحسن.

مثلاً: «الإيذاء العدواني» قبيح، فإذا ضرب اليتيم بقصد إيذائه عدواناً، كان عمله قبيحاً.

وتارةً: لا يكون ذلك العنوان هو الباعث، ولكنّه يكون ملتفتاً إليه.

والظاهر: أنّ مجرّد الالتفات إلى العنوان كافٍ في ترتيب آثار الفعل

ص: 217

الاختياري، ولو لم يكن الفعل بقصده.

مثلاً: لو التفت إلى أنّ ضرب اليتيم إيذاء عدواني، لكن لم يكن الضرب بداعي الإيذاء، بل بداعي إبداء قوّته مثلاً، فإنّه يعدّ فعله فعلاً اختيارياً، وتترتّب عليه آثار الفعل الاختياري.

وبناءً على هذا: فإذا فرضنا أنّ عنوان (مقطوع الحرمة) ملاك للقبح العقلي، وعنوان (مقطوع الوجوب) ملاك للحسن العقلي، كفى الالتفات إلى هذا العنوان في كون الفعل اختيارياً، ولو لم يكن الإتيان به بقصده، بل كان بقصد ما عليه الفعل من عنوانه الذاتي الاستقلالي.

هذا ولكن سيأتي- إن شاء اللّه تعالى- أنّ عنوان (المقطوعية) ليس ملاكاً للحسن والقبح العقليين.

ثمّ إنّ هنا إشكالاً يتعلّق بالقول ببقاء الفعل على ما كان عليه من الحسن أو القبح؛ إذ قد يشكل عليه بأن العنوان الواقعي غير مقصود للفاعل، بل هو مغفول عنه، فلا يكون اختيارياً، فلا يكون حسناً ولا قبيحاً، فالمتجري بالصدق - مثلاً- لا يلتفت إلى كون كلامه صدقاً حتى يكون فعله حسناً.

وأجاب عنه السيّد الحكيم (رحمه اللّه) (1) بأنّ المراد الحسن - أو القبح- الشأني لا الفعلي.

وإلاّ فاشتراط الاختيار في فعليّة الحسن أو القبح ضروري.

وهذا الجواب لا يخلو من تأمل. إذ الشأنية عبارة عن (الوجود بالقوّة)

ص: 218


1- حقائق الأصول 2: 13.

والوجود بالقوّة مساوٍ ل(عدم الوجود بالفعل).

فإذا قلنا - مثلاً- أن النطفة إنسان بالقوة، فمآل ذلك إلى أنها ليست بإنسان بالفعل.

نعم، في النطفة قوّة واستعداد لا يوجدان في (الحصاة) مثلاً، وهذه القوّة موجودة بالفعل، إلاَّ أنّها فعليّة الاستعداد، لا فعليّة الإنسان.

وتفصيل الكلام في ذلك في مباحث (انقسام الوجود إلى ما بالفعل وما بالقوّة) فراجع.

وعلى كلٍّ: فالحسن الشأني مساوٍ لعدم الحسن الفعلي، وكذا القبح.

وهو خلاف ظاهر كلام الكفاية.

ولعلّ الأولى في الجواب أن يقال: إنّ هناك مراحل ثلاث:

1- واجدية الشيء للملاك أو فاقديته له.

وهذا الأمر أمر تكويني، وهو غير منوط بالاختيار.

2- ملائمة الشيء للفطرة أو منافرته لها.

وهو كالأول غير منوط بالاختيار.

ولعلّ المراد ب(المحبوبية) و(المبغوضية) في كلام صاحب الكفاية هذا المعنى.

ويحتمل كونهما متأخّرين عن (الملائمة) و(المنافرة)، فتكون المراحل أربع.

3- ما يستحقّ فاعله المدح أو الذم.

والظاهر إناطة هذا المعنى بالاختيار.

ص: 219

وربما يكون مراد صاحب الكفاية بكون الفعل على ما كان عليه من الحسن أو القبح الذاتيين: المعنيين الأوّلين اللذين لا يضرّ في تحقّقهما انتفاء الاختيار.

ثمّ: إنّ هنا كلاماً آخر لصاحب الكفاية غير ما تقدّم من (أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الوجوب أو الحرمة لا يكون اختيارياً).

وهو قوله: (بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع بأنّ مائعاً خمر مع أنه لم يكن بالخمر)(1)، وإن ذكره في غير المقام.

ونحوه: ما في تعليقته على الرسائل.

وحاصله أنّ التجرّي على نحوين:

1- التجري في صورة الخطأ المتعلق بالأحكام كما إذا قطع بأن الكنعت حرام، وأكله ثمّ تبين كونه حلالاً في الواقع، ولا شك في كون العمل في هذه الصورة اختيارياً، إذ أنه تصور أكل الكنعت وصدق بفائدته وعزم، وجزم، وأراد ذلك، وتصور كونه حراماً لا يخلّ بكونه مقصوداً، إذ تخلف الوصف أو الداعي لا يخلّ بمقصودية الفعل.

2- التجرّي في صورة الخطأ المتعلّق بالموضوعات كما إذا قطع بكون مائع خمراً فشرب فبان خلاّ وهنا يكون الاختيار منتفياً، إذ يكون في المقام عنوانان:

ص: 220


1- كفاية الأصول: 262.

أحدهما: (شرب الخمر) ولم يتحقّق في الخارج فلا معنى لافتراض كونه إراديّاً، إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، وحيث لم يتحقّق (شرب الخمر) فلا معنى لفرض كونه إرادياً.

وثانيهما: (شرب الخل) ولم يتصوّره المتجرّي ولم يمل إليه ولم يقصده، فكيف يكون اختيارياً مع عدم وجود مبادئ الاختيار؟

وبعبارة أخرى: ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد، فلا يكون ما وقع اختياراً لعدم كونه مقصوداً.

ولا يخفى أن هذا الكلام يغاير الكلام السابق؛ إذ الكلام السابق مقيّد وعام، مقيّد بلحاظ كون الفعل المتجرّى به مقيّداً بحيثية كونه مقطوع الحرمة، وعام للتجرّي في صورتي الخطأ المتعلق بالأحكام والموضوعات، أما هذا الكلام فهو مطلق وخاص.

مطلق بلحاظ الحيثية المذكورة، وخاص بالتجرّي في صورة الخطأ المتعلق بالموضوعات.

وأجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره في النهاية(1): من أنّ الحركة لا تخلو من كونها بقسر القاسر أو بالطبع أو بالإرادة.

وشرب هذا المائع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسّية، ليس معلولاً لقسر القاسر ولا للطبع مطلقاً، بل هو معلول للإرادة.

غاية الأمر أنّ تعلّق الإرادة الشخصية بشرب هذا المائع الحسّي بواسطة

ص: 221


1- نهاية الدراية 2: 55.

اعتقاد أنه الخمر، وتخلّفه لا يوجب كون هذا الشرب الشخصي بلا إرادة.

وبالجملة: الشوق الكلّي إلى شرب الخمر يتخصّص بشرب هذا المائع الخاص بواسطة اعتقاد أنه الخمر، والخطأ في التطبيق لا يخرج هذا الشرب عن كونه إرادياً.

وحاصل ما ذكره أنّ هنالك ثلاثة أمور:

1- الشوق الكلّي إلى شرب الخمر.

2- اعتقاد أن هذا المائع الخاص خمر - على نحو الخطأ في التطبيق.

3- تخصّص الشوق الكلّي بالشوق إلى شرب هذا المائع.

فيكون شرب هذا المائع مراداً، وذلك كما في جميع موارد الخطأ في التطبيق، وله في الفقه أمثلة كثيرة.

وبهذا يكون المحقّق الأصفهاني قد نقل مركز الكلام من (شرب الخمر) و(شرب الخل) و(شرب المائع) إلى عنوان (شرب هذا المائع الشخصي)، فتخلّص بذلك من الإشكال.

وما ذكره متين، إلاَّ أنّ عدم ذكره للقسم الرابع من أقسام الحركة وهو أن تكون الحركة بالجبر غير واضح الوجه، وإن لم يخل ذلك بالاستدلال، إذ الفاعل إمّا على ما ذكروا أن يكون له علم بفعله أو لا.

وعلى الثاني فإمّا أن يلائم فعله طبعه أو لا.

فالأول هو الفاعل بالطبع.

والثاني هو الفاعل بالقسر.

وعلى الأول: فإمّا أن يكون فعله بإرادته أو لا.

ص: 222

والأول هو الفاعل بالإرادة (وله أقسام كالفاعل بالرضا أو بالقصد أو بالعناية أو بالتجلّي).

والثاني: هو الفاعل بالجبر.

الوجه الثاني: ما نقله المحقق الخراساني في حاشية الفرائد من: (أنّ العام بتبع إرادة الخاص يكون إرادياً).

توضيحه: أنّ هنا فردين:

فرداً لم يقع - وهو شرب الخمر.

وفرداً لم يقصد - وهو شرب الخلّ.

إلاَّ أنّ الفرد الذي لم يقع كان مقصوداً - كما هو المفروض- وحيث إنّ الفرد المقصود يندرج تحت عنوان عام يشمل الفردين (كشرب المائع) يكون ذلك العنوان العام مقصوداً بالتبع.

وقد تحقّق ذلك العنوان العام المقصود بالتبع في الخارج، منتهى الأمر أنه لم يتحقّق ضمن الفرد المقصود، بل ضمن فرد آخر، وذلك لا يخلّ بكونه واقعاً ومتحقّقاً.

إذاً: فالعنوان العام (مقصود) و(واقع).

وجوهر هذا الوجه: نقل الكلام من (الفرد) إلى (الكلّي)؛ إذ الفرد كان مردّداً بين (عدم المقصودية) و(عدم الوقوع)، أمّا الكلّي فهو (مقصود) و(واقع).

وهذا نظير القسم الثاني من استصحاب الكلّي، حيث إنّ أركان الاستصحاب مختلّة في الفرد؛ إذ (الفرد الطويل) - كالفيل- لا يقين سابق بوجوده، و(الفرد القصير) - كالبق- لا شكّ لاحق في بقائه - لانعدامه قطعاً

ص: 223

على فرض وجوده- إلاَّ أنّ (الكلّي) - كالحيوان- يتوفّر فيه اليقين السابق، والشكّ اللاحق، فتكون الأركان تامّة فيه، فلا يكون مانع من استصحابه.

ويرد على هذا الوجه:

أنّ في المقام خمسة عناوين:

1- الخاص الأول - وهو المقصود- ولم يتحقّق.

2- الخاص الثاني - وهو الواقع- ولم يقصد.

3- الحصّة من العام الموجودة في ضمن الخاص الأول: ولم تتحقّق.

4- الحصّة من العام الموجودة في ضمن الخاص الثاني، ولم تقصد.

وتوضيح عدم مقصوديتها:

أنّ ما (يقصد بالتبع) أو (بالعرض) يكون تابعاً ل(ما يقصد بالذات) في أحكامه وأحواله، ولا حكم له في حدّ ذاته.

فإن كان المقصود بالذات موجوداً كانا موجودين.

وإن كان معدوماً كانا معدومين.

وهكذا في سائر العوارض والأحكام.

وهذا نظير ما ذكروه في (مقدّمة الواجب) من أنّ (الإرادة الغيرية) المتعلّقة بها تابعة للإرادة النفسية المتعلّقة بنفس الواجب فإن كانت الإرادة النفسية مطلقة كانت مطلقة، وإن كانت مقيدة كان كذلك.

وحيث إنّ (الخاص الثاني) لم يقصد، فالحصّة من العالم المتحققة في ضمنه ليست مقصودة أيضاً.

كما أنّه إذا فرضنا أنّ (زيداً) لم يقصد، فالحصّة من الإنسان الموجودة

ص: 224

في ضمنه لا تقصد أيضاً.

5- العام بما هو هو، ولا وجود له إلاّ في الذهن.

والوجود الذهني لا تترتب عليه الآثار المترقبة من الموجود في الخارج.

وحيث إن انبعاث المتجرّي كان بلحاظ الأثر فلا يكون العام بما هو عام مقصوداً له.

نعم، يمكن القول بأن شرب هذا المائع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسية مقصودة بالذات، فيكون (شرب المائع) مراداً بالتبع، إلاَّ أن ذلك رجوع إلى الوجه الأول.

الوجه الثالث: ما في تقريرات الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه اللّه) من أنه: «لا شك في أنّ كل عنوان يكون ملتفتاً إليه حال إيجاده وكان بحيث يقدر على تركه يصير اختيارياً، وإن لم يكن مورداً للغرض الأصلي، مثلاً لو شرب الخمر مع العلم بكونها خمراً لا لأنها خمر، بل لأنها مايع بارد يصح أن يعاقب عليه لأنه شرب الخمر اختياراً، وإن لم يكن كونها خمراً داعياً ومحركاً له على الشرب؛ لأنه يكفي في كون شرب الخمر اختيارياً صلاحية كون الخمرية رادعة له، وكونه قادراً على تركه، ونظير هذا محقق فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجامع فإنّ من شرب مائعاً باعتقاد أنه خمر يعلم بأنّ هذا مصداق لشرب المائع، ويقدر على تركه، فكيف يحكم بعدم كون شرب المائع اختيارياً له؟ فإن خص العنوان الموجود اختياراً بما كان محطاً للإرادة الأصلية للفاعل فاللازم أن يحكم في المثال الذي ذكرنا بعدم كون شرب الخمر اختيارياً؛ لعدم تعلق الإرادة الأصلية بعنوان الخمر - كما هو

ص: 225

المفروض- ولا أظن أحداً يلتزم به وإن اكتفى في كون العنوان اختيارياً، بمجرد كونه معلوماً، وملتفتاً إليه حين الإيجاد، بحيث يصلح لأن يكون رادعاً له، فحكمه بعدم كون الجامع فيما نحن فيه أعني شرب المائع اختيارياً لا وجه له، وكيف كان فالحكم بعدم اختيارية العناوين المنطبقة على الفعل المتجرى به بأسرها، حتى الجامع لما هو واقع وما هو مقصود مما لا أرى له وجهاً»(1).

وهذه العبارة - كما ترى- تحتمل وجهين:

أحدهما: ما سبق في الوجه الثاني، ويرد عليه ما سبق فيه.

والثاني: مركّب من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى: فهي إنّ الجامع ملتفت إليه ومقدور على فعله وتركه، وإن لم يكن محطّ الإرادة.

وأمّا الكبرى: فهي إنّ الشيء كلّما كان ملتفتاً إليه ومقدوراً على فعله وتركه كان اختيارياً، وإن لم يكن إرادياً، فالإرادة غير مقوّمة لاختيارية الفعل.

وأشكل عليه في النهاية بإشكالين:

أحدهما يتعلّق بالكبرى.

والآخر بالمثال.

أمّا الأول: فقد ذكر أنّ الفعل الاختياري ما صدر عنه شعور وقدرة

ص: 226


1- درر الفوائد 2: 336.

وإرادة لا مجرّد الأولين(1).

وفيه:

إنّ ملاك اختيارية الفعل الصادر عن الفاعل كونه صادراً عن سلطنته، بحيث كان له أن يتركه، ويكفي في تحقّق ذلك: مجرد الالتفات إلى العنوان وصدوره منه في حالة كان له أن يمتنع عنه فيها.

ونذكر فيما يلي بعض المؤيّدات لذلك:

1- لو كان متعلّق الإرادة سبباً لتحقّق الحرام في الخارج، مع عدم كون الحرام مراداً للفاعل.

ففي هذه الحالة يكون «الحرام» اختيارياً، ويعامل مع الفاعل معاملة «المختار» إذا كان ملتفتاً إليه قادراً على تجنّبه، مع أنه لم يرد الحرام ولم يشتق إليه، ربما يكرهه كراهة شديدة.

مثلاً: لو حفر حفرة في الطريق العام بغرض العبث واللّهو، لكنه علم بسقوط المارّة فيها، وموتهم على إثر ذلك، فهنا يتعامل مع هذا الفاعل معاملة «القاتل»، وتترتّب على فعله آثار القتل الاختياري، لو كان ملتفتاً قادراً، مع أنّ المفروض عدم إرادته للقتل.

ولا مانع من تعلّق الإرادة التكوينية بالمقدّمة دون النتيجة، أو النتيجة دون المقدّمة، أو اللازم دون ملزومه، أو الملزوم دون لازمه، أو أحد المتلازمين دون الآخر.

كما لا مانع من تعلّق الرغبة أو الشوق بأحدها دون الآخر.

ص: 227


1- نهاية الدراية 3: 34.

ووزان الإرادة التكوينية في ذلك وزان الإرادة التشريعية، فكما أنّ الإرادة التشريعية يمكن أن تتعلّق بأحد المتلازمين - بالمعنى الأعم للتلازم- دون الآخر، كذلك الإرادة التكوينية، وتفصيل الكلام في غير المقام.

2- لو كان متعلّق الإرادة سبباً للإكراه على الحرام.

كما لو علم أنه لو ذهب إلى المكان الفلاني أكرهه المكره على الإفطار، فأنه لو أفطر تجب عليه الكفارة ككل إفطار اختياري، مع أنه قد لا يحب الإفطار ولا يريده - وأما وجوب القضاء فهو ثابت في كل إكراه ولو لم تكن مقدمته اختيارية كما قرر في الفقه.

3- لو كان متعلّق الإرادة سبباً للإلجاء إلى الحرام كما لو علم أنه لو ذهب يوجر الطعام في حلقه، فإن «إفطاره» هذا محكوم بحكم « الإفطار الاختياري» وتترتب عليه آثاره.

4- لو كان متعلّق الإرادة سبباً للاضطرار إلى الحرام كما لو علم أنه لو توغّل في عمق الصحراء اضطرّ لأكل الميتة فأنه يعامل معاملة المختار، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}(1).

ومن هنا ذكروا (أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار)، و(أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار).

5- المعروف بينهم أنّ إرادة اللّه تعالى بمعنى (علمه).

- وإن ناقش فيه الوالد (رضوان اللّه عليه) وذكر أنه مخالف لظاهر الآيات

ص: 228


1- البقرة: 173.

والروايات.

وعلى هذا: ينفك الاختيار عن الإرادة، إذ لا شكّ في كونه تعالى مختارً، لا موجباً.

وبناءً على كل ذلك: يكون إشكال النهاية غير وارد.

وأمّا الإشكال المتعلّق بالمثال - الذي بنى عليه الدرر بنيانه- فقد ذكر في النهاية: أنّ في المثال إرادة تبعية، فلا يمكن أن يكون مثالاً لعدم وجود الإرادة.

إذ الشوق المتعلّق بالتبريد بالمائع قد انبعث عنه شوق إلى مقدّمة التبريد، فشرب الخمر مراد بتبع إرادة التبريد.

والحرام لا تتفاوت اختياريته بتفاوت الأغراض الداعية إليه، فتأمل.

الوجه الرابع: النقض بما لو قصد فرداً من أفراد الحرام فبان فرداً آخر.

مثلاً: قصد شرب الخمر العنبي، فبان خمراً تمرياً.

فعلى مبنى صاحب الكفاية نستطيع أن نقول: ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد، فلم يصدر عنه فعل اختياري، فلا يعاقب عقاب شارب الخمر، ولا يكون عمله قبيحاً، وإن استحقّ العقوبة - بنحو من أنحائها- على قصده المتجلّي بفعله بناءً على استحقاق المتجري للعقاب - كما هو مختار صاحب الكفاية.

لا يقال: إنّه في المثال قد قصد شرب الخمر، وعقوبة شرب الخمر لم تعلّق على (شرب الخمر المتخصّص بكونه عنبياً أو تمرياً أو غيرهما)، بل على (طبيعي شرب الخمر).

ص: 229

فإنه يقال: في المثال توجد أربعة عناوين:

1- (شرب الخمر العنبي) ولم يتحقّق في الخارج.

2- (شرب الخمر التمري) ولم يتعلّق به قصد الشارب.

3- (شرب الخمر بما هو خمر) ولم تتعلّق به إرادة الشارب، إذ المفروض أنه يريد شرب الخمر العنبي بخصوصه، لا شرب الخمر في أي فرد تحقّق.

4- (شرب هذا الخمر الشخصي الجزئي المشار إليه بالإشارة الحسّية).

ولا يخلو صاحب الكفاية ومن تبعه إزاء هذا العنوان من أحد أمرين:

أ) أن يذهب إلى أنه ليس إرادياً ولا اختيارياً، وحينئذٍ يرد النقض المزبور.

ب) أن يذهب الى أنه إرادي واختياري، ولذلك يستحقّ عليه العقوبة المترتّبة على شرب الخمر.

وحينئذٍ ننقل الكلام الى المتجرّي في الموضوعات ونقول:

إنّ شربه لهذا المائع الشخصي الجزئي المشار إليه بالإشارة الحسّية اختياري؛ إذ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

وحينئذٍ: ينهدم أساس المبنى.

مثال آخر: لو شرب الماء - باعتقاد أنه خمر- في شهر رمضان.

فعلى مبنى صاحب الكفاية ينبغي أن نقول: بأنه لا كفّارة عليه.

إذ الكفّارة منوطة بالإتيان بالمفطر اختياراً، ولا اختيار في المقام.

نعم، عليه القضاء لنيّة إتيان المفطر.

ص: 230

مثال ثالث: لو واقع أجنبية باعتقاد أنّها هند فبانت دعداً، فعلى مبناه ينبغي أن يقال: بأنه لا يحدّ حدَّ الزاني، لعدم إتيانه بفعل اختياري، ولا يكون عمله هذا قبيحاً، وإن استحق العقوبة لنيّته المظهرة.

ومن البعيد التزامه بهذه اللوازم.

الوجه الخامس: إنّ بداهة الوجدان حاكمة بالفرق بين فعل مسلوب الاختيار - كالنائم- وبين المتجرّي، فتأمل.

وبناءً على كل ما سبق ينقدح: أنّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية في الدليل الأول من عدم اختيارية الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة أو مطلقاً في صورة الخطأ المتعلق بالموضوعات، غير ظاهر الوجه.

الدليل الثاني

الدليل الثاني - على بقاء الفعل على ما هو عليه من الحسن أو القبح بلا حدوث تفاوت فيه أصلاً بسبب تعلّق القطع به - ما ذكره في الكفاية أيضاً قال: «إنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى، بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنه عدوّه، وكذا قتل عدوّه مع القطع بأنه ابنه، لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً»(1).

وحاصله: شهادة الوجدان بعدم تأثير القطع المخالف للواقع في الحسن

ص: 231


1- كفاية الأصول: 260.

والقبح عقلاً، وعدم كونه ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً ليتغير - بسبب طروّه- حال الشيء عما كان عليه.

فليس «القطع بالقبح» من المبادئ المقبحة للفعل في نظر العقل، أو مما يوجب المبغوضية لدى المولى،كما أنّ «القطع بالحسن» ليس من العناوين المحسنة للفعل في نظره، أو مّما يوجب المحبوبية لديه.

كل ذلك بحكم الوجدان.

وقد تبعه المحقق النائيني (رحمه اللّه) على ذلك، وذكر أنّ القطع طريق محضّ إلى متعلّقه، لا دخل له في الحسن والقبح، ولم يستدلّ لذلك بشيء، وادّعى أنه وجداني(1).

وقد يمثّل لذلك بالنور حيث إنّ دوره دور «الكاشف عن الحقائق المحسوسة»، فهو يكشف ما هي عليه، وليس له دخل في تغيّرها عمّا هي عليه.

وأورد على ذلك: بأنّ الوجدان شاهد على خلافه، وأنّ العقل حاكم بقبح الفعل المتجرّى به.

أقول: هذا البحث يمكن أن يطرح بنحوين:

النحو الأول: أن يقال: هل القطع بالحرمة بما هو هو - وبغض النظر عن انطباق أي عنوان آخر من العناوين المقبحة على الفعل المتجرّى به- من الوجوه والاعتبارات التي يكون بها القبح عقلاً؟

والظاهر أنه ليس كذلك.

ص: 232


1- مصباح الأصول 2: 24.

النحو الثاني: أن يقال: هل القطع بالحرمة ملازم لعنوان آخر من العناوين المقبّحة ينطبق على الفعل المتجرّى به فيجعله قبيحاً؟

ولعل الظاهر: أنّه نعم، وسوف يأتي الكلام في ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ «الفعل المتجرّى به» لا يكون قبيحاً باعتبار تعلّق القطع به - بما هو هو.

الأمر الثاني

اشارة

- من الأمرين الذين يمثلان جوهر البحث في قبح الفعل المتجرّى به وعدمه: إنّ القطع بالحرمة هل يلازم وجود عناوين أُخر مقبحة تنطبق على الفعل المتجرّى به فتجعله قبيحاً عقلاً؟

ذكر أنّ هنالك عناوين مقبحة تنطبق على الفعل المتجرّى به فتجعله قبيحاً، مثل (الهتك) و(الإهانة) و(الظلم) و(الطغيان) و(التعدي) ونحو ذلك.

واستيفاء البحث في ذلك يكون بالبحث في نقطتين:

النقطة الأولى: في انطباق عنوان (الهتك) ونحوه على الفعل المتجرّى به.

النقطة الثانية: في كيفية علاج التزاحم بين الجهة الذاتية والجهة العرضية.

النقطة الأولى: في انطباق عنوان الهتك ونحوه على الفعل المتجرى به

ولعل الظاهر أنه أمر وجداني.

فللمولى - في نظر العقل- حرمة، كما أنّ لأوامره ونواهيه حرمة.

والمتجري: هتك حرمة المولى وتعدّى على حريمه وانتهاك هذه الحرمة لا يناط بفعل الحرام الواقعي فقط، بل بالأعم منه ومن فعل الحرام

ص: 233

الاعتقادي.

مثلاً: لو فرضنا أنّ شخصاً حمل على مولاه عالماً عامداً وطعنه بالسكين، ثمّ تبيّن له أنه لم يكن مولاه، بل كان تمثاله،... ألا يعدّ عمله هذا انتهاكاً لحرمة المولى، وتعدّياً على مقامه؟ وقد يكون ذلك إهانة له في الأنظار أيضاً.

قال السيد الوالد (رحمه اللّه) إنّه خروج عن رسم العبودية، بل الأمر كذلك في التجرّي على إنسان عادي - وإن لم يعتقد الفاعل بشرع- حيث يرون قبح عمله.

وبناءً على ذلك: يكون للفعل المتجرّى به عنوانان:

عنوان ذاتي أوّلي - مثل «شرب الخل بما هو هو»- وليس الفعل بهذا الاعتبار قبيحاً، بل هو باقٍ على حالته الأوّلية.

وعنوان عرضي ثانوي - وهو عنوان الهتك والإهانة ونحوهما- والفعل بهذا الاعتبار يكون قبيحاً، فتأمل.

قال الوالد (رحمه اللّه) : ونظير ذلك يجري في الحرام، فإذا انطبق عنوان المحرّم على الشيء كان حراماً(1) وقد سبق الكلام في ذلك.

وقد أورد على هذا الوجه بأمور، ربما يعلم الحال فيها مما تقدم إلاَّ أننا نذكرها في المقام لإتمام الفائدة:

الأول: إنّ كونه هتكاً للمولى أوّل الكلام، إذ هو تخيّل هتك المولى،

ص: 234


1- الأصول: 580.

وأنّى لهم بإثبات كون تخيّل الهتك هتكاً، نعم هو بمثابة من لا مانع له من هتك المولى(1).

والجواب مركّب من كبرى وصغرى.

أمّا الكبرى فهي إنّه لو كان عنواناً عام، قبيح في نظر العقل، أو محرّم في نظر الشرع، وكان لذلك العنوان العام مصداقان، فارتكب المكلّف فعلاً بتخيّل أنه أحد المصداقين، فبان أنه المصداق الآخر، فلا شكّ في أن عمله يكون قبيحاً أو محرّماً، كما لو اغتاب أخاه المؤمن - بزعم كونها غيبة- فبان كونها تهمة مثلاً، وهذه الكبرى مما لا شك فيها.

وأمّا الصغرى: فإنّ عنوان (الهتك) - الذي لا شكّ في قبحه في نظر العقل- ذو مصداقين (المعصية الواقعية)، و(المعصية الاعتقادية)، بناءً على ما سبق من أنّ المعصية الاعتقادية هتك لحرمة المولى وخروج عن رسوم العبودية، منتهى الأمر أنّ المتجرّي تخيّل أنّ (الهتك) قد تحقّق ضمن حصةٍ، فبان تحققها ضمن حصّة أخرى، وهو لا يخل بكون هذا العمل (هتكاً لحرمة المولى) على كل حال.

والخلاصة: (أنّه هتك لحرمة المولى بتخيّل هتك آخر)(2) فالهتك حاصل على كل حال.

وبعبارة أخرى: أنه تخيل هتك أي فرد من أفراد الهتك مع انكشاف كونه فرداً آخر من أفراده، لا (تخيّل الهتك)، كي لا يكون الهتك واقعاً مطلقاً،

ص: 235


1- نقله في التجرّي: 74.
2- التجرّي: 75.

فتأمّل.

الثاني: ما في المحصول «إنّ العناوين المقبحة المتوهمة في المقام لا تتجاوز عن خمسة، ثلاثة منها قائمة بالجنان، كالجرأة والعزم على المعصية والطغيان، واثنان منها قائمان بالفعل المتجرّى به، أعني هتك الحرمة والظلم على المولى.

أما الثلاثة الأولى: فهي وإن كانت موجبة للقبح لكنها قائمة بالجنان والقلب، والفعل المتجرّى به كاشف عنها، وقبح المكشوف لا يسري إلى الكاشف، فلو دلّ فعل المكروه على تواجد الجرأة وروح الطغيان في قلب الإنسان، لا يكون الكاشف موصوفاً بالقبح.

وأمّا الاثنان الباقيان: فهما من خصائص المعصية، إذ فيها يتعدّى عن حريم المولى، فيصدق أنه ظلم وهتك لحرمته بنقض القانون، لا ما إذا لم يفعل شيئاً ولو عن غير اختيار، ولعل هتك الحرمة من خصائص بعض المعاصي أيضاً لا كلها»(1).

وفيه: إن قوله: (هما من خصائص المعصية) أوّل الكلام، إذ المدّعى أنّ الهتك كما يتحقّق ضمن (المعصية الواقعية)، كذلك يتحقّق في ضمن (المعصية الاعتقادية).

فإنّ للمولى مقاماً(2) والمتجرّي هتك حرمة هذا المقام ولا شك في أنّ

ص: 236


1- المحصول 3: 34-35.
2- قال اللّه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. النازعات: 40-41.

ذلك قبيح عقلاً، فتأمل.

الثالث: ما في الدرر قال: «والذي أوقع مدّعي قبح الفعل في الشبهة كون الفعل المذكور في بعض الأحيان متحداً مع بعض العناوين القبيحة، كهتك حرمة المولى، والاستحفاف بأمره تعالى شأنه، وأمثال ذلك ممّا لا شبهة في قبحه وأنت خبير بأنّ اتحاد الفعل المتجرّى به مع تلك العناوين ليس دائمياً؛ لأنّا نفرض الكلام فيمن أقدم على مقطوع الحرمة، لا مستخفاً بأمر المولى ولا جاحداً لمولويته، بل غلبت عليه شقوته كإقدام المسلمين على المعصية، ولا إشكال في أن نفس الفعل المتجرّى به، مع عدم اتحاده مع تلك العناوين لا قبح فيه أصلاً»(1).

وفيه: أنّ ملاك قبح التجرّي ليس الاستخفاف بأمر المولى، ولا جحد مولويته، كي ينتفي بانتفائهما، بل ملاك القبح (هتك حرمة المولى) وهو حاصل على كل حال.

وبعبارة أخرى: إنّه من العناوين الملازمة لكل أفراد التجرّي، وإن تجرّدت عن الاستخفاف بأمر المولى، أو جحد مولويته، فتأمل.

النقطة الثانية: في التزاحم بين الجهة الذاتية والجهة العرضية

والظاهر أنّه لا تزاحم مطلقاً بلحاظ مرحلة (الحسن والقبح) بين الجهتين... إذ الحسن هو بمعنى: ما يستحق فاعله المدح.

والقبيح هو بمعنى: ما يستحقّ فاعله الذمّ - على ما فسّروهما بهما.

ص: 237


1- درر الفوائد 2: 337.

ولا شكّ أنّ الالتفات إلى العنوان المحسن أو المقبح - كقصدهما- شرط في حسن الفعل أو قبحه.

فلو قام ملتفتاً إلى أنّ قيامه إكرام للمؤمن، قاصداً ذلك، كان قيامه حسناً، ولو قام غير ملتفت إلى ذلك، أو غير قاصد له، لم يكن قيامه حسناً.

وحيث إنّ المتجرّي لم يلتفت إلى (العنوان المحسن) - لو فرض وجوده- لا يكون عمله حسناً.

فلو أنقذ ولياً من أولياء اللّه تعالى باعتقاد أنه عدوّ من أعداء اللّه تعالى لم يكن إنقاذه (حسناً)؛ لعدم التفاته إلى كونه إنقاذاً للولي.

وعلى هذا: فلا تؤثّر الجهة الذاتية أثرها.

وتبقى الجهة العرضية وحدها فيكون الفعل متمحّضاً في (القبح) فقط.

وأما التزاحم بلحاظ مرحلة (الملاك) و(المحبوبية والمبغوضية) و(الحكم)، فاستيفاء الكلام فيها موكول إلى مبحث (التزاحم)، ومبحث (اجتماع الأمر والنهي)، ومبحث (كيفية الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية) فراجع.

إلاَّ أنّ النتيجة لا تخلّ بما نحن فيه من تمحّض الفعل المتجرّى به في القبح فسحب.

ص: 238

المبحث الثالث : في استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه

وقد أقيمت عدّة براهين على الاستحقاق

البرهان الأول

ما نقله المحقّق النائيني (رحمه اللّه) عن سيّد أساتيذه العلامة الشيرازي (رحمه اللّه) (1).

وهو مبتنٍ على مقدّمات.

وحيث إنّ المقدّمة الثالثة من البرهان يمكن أن تشكّل برهاناً كاملاً نذكرها هنا كبرهان مستقل.

وتوضيحه: إنّ موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية لا يخلو من محتملات ثلاثة:

1- أن يكون الموضوع: التكليف بوجوده الواقعي.

2- أن يكون الموضوع: العلم المصادف للواقع.

3- أن يكون الموضوع: العلم مطلقاً.

أمّا الاحتمال الأول فلا يمكن المصير إليه؛ لأنّ التكليف بوجوده الواقعي لا يمكن أن يكون محرّكاً وباعثاً للمكلّف، فكيف يمكن للمولى أن يترقّب من المكلّف التحرّك عنه والانبعاث عنه، وكيف يمكن أن يقع موضوعاً

ص: 239


1- أجود التقريرات 2: 28.

لحقّ الطاعة عقلاً؟

وقد سبق: أنّ الشيء بوجوده العيني لا يمكن أن يكون محرّكاً ما لم ينضم إليه الوجود العلمي.

وأمّا الاحتمال الثاني: فهو مركّب من جزين (العلم) (المصادف).

ومن الواضح: أنّه لابدّ من إحراز الموضوع بتمام أجزائه كي يترتّب عليه المحمول.

فيكون إحراز (المصادفة) لازماً في حكم العقل بالوجوب، والإحراز غير متحقّق، لاحتمال أن لا يكون (العلم) مطابقاً للواقع.

فلا يجب امتثال تكليف واصل من قبل المولى أصلاً لاحتمال انكشاف الخلاف فيه.

وهذا يستلزم سدّ باب حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية بالكلّية.

وبالجملة: فما يمكن أن يكون موضوعاً للحكم العقلي هو نفس (الإحراز) ليس إلاَّ، وأمّا تخصيصه بفرد دون فرد فغير معقول، وموجب للمحذور المذكور. فيتعيّن الاحتمال الثالث.

وهذا الموضوع مشترك بين العاصي والمتجرّي.

فكما أنّ العاصي أحرز التكليف، فحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقاب على المخالفة، فكذلك المتجرّي.

وفيه: إنّنا يمكن أن نختار الشقّ الثاني ولا يلزم المحذور المزبور.

إذ المحذور كان: عدم تحقّق الإحراز لاحتمال كون العلم غير مطابق

ص: 240

للواقع.

وهذا المحذور غير وارد، إذ لنا أن نتساءل عن صقع تحقق هذا الاحتمال؟ فهل هذا الاحتمال متحقق في صقع عقل القاطع حين القطع؟ أو في صقع عقل غيره حين النظر إلى القطع؟ أو في صقع عقل القاطع؟ لا حين القطع؟

فإن أريد الأول فهو غير صحيح؛ إذ القطع لا يجامع احتمال الخلاف، فيكون الشقّ الثاني محرزاً للقاطع.

وإذا أحرز الجزءان ترتّب عليه حكم العقل، نعم بعد انكشاف الخلاف ينقلب الإحراز إلى الإحراز الضد، فترتفع الآثار.

وإن أريد الثاني: فتحقّق هذا الاحتمال لا يضرّ بحكم العقل - أي حكم عقل القاطع حين القطع- بوجوب الطاعة وحرمة المعصية.

بل لو فرض قطع الآخرين بالعدم لم يضرّ ذلك أيضاً بحكم عقل القاطع؛ إذ القاطع يجري وفق قطعه - طبقاً لغرضه- ولا يحرّكه قطع الآخرين أو ظنّهم أو شكّهم أو وهمهم. ومنه ينقدح الكلام في الثالث - بنوع من الفرق غير خفي- وبناءً عليه يكون ما ذكر من المحذور غير تام.

وهذا الموضوع (العلم المصادف للواقع) كما ترى متحقّق في العاصي، دون المتجرّي، فيمكن التفريق بينهما بذلك في استحقاق العقوبة.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه اللّه) أجاب عن هذا البرهان: بأنّنا نرتضي كون الموضوع هو (العلم).

إلاَّ أنّ هذا الموضوع غير مشترك بين القاطع والمتجرّي.

ص: 241

قال: «فلأنّ العلم وانكشاف الواقع وإن كان هو الموضوع في هذا الحكم العقلي -كما عرفت في المقدمة الثانية- إلاَّ أنّه غير متحقق في باب التجري والمتحقق في مورده هو الجهل المركب وأنى لهم بإثبات سراية أحكام العلم للجهل ولسنا ندّعي أنّ أحكام العلم ثابت لفرد دون فرد، بل ندّعي عدم ثبوت أحكام العلم لغيره»(1).

وفيه: إنّ البحث ليس لغوياً، ولا عرفياً، ولا منطقياً، ليدّعى عدم وجود (العلم) في مورد (الجهل المركب).

وإنّما هو بحث عقلي وجوهره: إنّ (القطع المصادف) لا يمكن أن يكون موضوعاً لحكم العقل فيكون (مطلق القطع) هو الموضوع، ومطلق القطع كما يشمل (العلم) يشمل (الجهل المركب) أيضاً.

ولا يرد على ذلك المحذور اللفظي الذي طرحه المحقّق النائيني (رحمه اللّه) .

البرهان الثاني

ما نقله المحقّق النائيني (رحمه اللّه) عن الميرزا الشيرازي الكبير (رحمه اللّه) - وهو المقدّمة الرابعة في كلامه.

وحاصله: أنّ الملاك في حكم العقل باستحقاق العقاب:

إمّا: القبح الفعلي، أو القبح الفاعلي.

والأول غير صحيح، فيتعيّن الثاني، وهو مشترك بين العاصي والمتجرّي.

قال: «إنّ الملاك لحكمه بوجوب الطاعة إذا استحال كونه هو القبح

ص: 242


1- أجود التقريرات 3: 54.

الفعلي، وإلاّ لزم استحقاق العقاب في موارد الجهل أيضاً، فلابد وأن يكون الملاك له هو القبح الفاعلي، لانحصار الملاك في أحدهما وعدم قابلية شيء آخر للملاكية، وإذا كان هو الملاك فلابد من الالتزام باستحقاق المتجري للعقاب، كالعاصي، لثبوت القبح الفاعلي في كليهما، وما يختص بالعاصي من القبح الفعلي قد عرفت كونه أجنبياً عن الملاك واستحالة كونه موجباً لاستحقاق العقاب»(1).

وأجيب عن ذلك بعدم كون الحصر حاصراً؛ لإمكان اختيار شقّ ثالث وهو أنّ الملاك مجموع القبحين.

وهذا الملاك متحقّق في العاصي دون المتجرّي؛ إذ لا قبح فعلي في الفعل المتجرّى به.

وهذا الجواب لا يخلو من نظر، وذلك لما سبق من أنّ الفعل المتجرّى به قبيح(2).

منتهى الأمر أنّ القبح الفعلي للفعل المتجرّى به ثابت له بعنوانه العرضي لا له بعنوانه ا لذاتي، وذلك: ليس بمؤثر في المقام.

وعليه فيكون الملاك: (أي مجموع القبحين) مشتركاً بين العاصي والمتجرّي.

فالأولى في الجواب أن يقال:

إننا ولو سلّمنا كون ملاك استحقاق العقاب: القبح الفاعلي، إلاَّ أنّ ذلك

ص: 243


1- أجود التقريرات 3: 54.
2- راجع الصفحة 242.

لا يثبت المدّعى؛ وذلك لأنّ القبح الفاعلي له درجات، ولم يستدلّ في البرهان على أنّ كل درجات القبح الفاعلي ملازمة لاستحقاق العقاب، حتى يثبت أنّ القبح الفاعلي الموجود في التجرّي ملازم لاستحقاق العقاب.

بل نستطيع أن نقول: إنّه ثبت أنّ بعض درجات القبح الفاعلي غير ملازمة لاستحقاق العقاب.

فمثلاً: خلف الوعد قبيح، لكن هذا القبح غير ملازم لاستحقاق العقاب - على المعروف.

مثال آخر: الإضرار بالنفس - ما لم يبلغ درجة إهلاك النفس أو قطع عضو من الأعضاء أو شلّ قوة من القوى- بدون وجود غرض عقلائي في ذلك قبيح، لكن هذا القبح لا يلازم استحقاق العقاب - على المعروف.

مثال ثالث: إتلاف الوقت وتضييع العمر من القبائح العقلية، وهو مورث للحسرة والندامة في الدنيا والآخرة، بل كان الأولياء يستغفرون حتى من ارتكاب المباحات، إذ لا ينبغي للَّبيب أن يشتغل بغير الحقّ، ولو كان بشكل مباح من المباحات، لكن هذا القبح غير ملازم لاستحقاق العقاب، إلى غير ذلك من الأمثلة، فتأمل.

البرهان الثالث

مركب من ملازمتين:

الأولى: الملازمة بين حرمة التجري عقلاً وحرمته شرعاً؛ إذ كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

الثانية: الملازمة بين حرمة التجري شرعاً، واستحقاق العقاب عليه.

ص: 244

وفيه:

أولاً: عدم تسليم الملازمة الأولى مطلقاً، إذ يمكن أن يحكم العقل بحرمة شيء ولا يحكم الشرع بالحرمة.

وسوف يأتي إن شاء اللّه تعالى إن أصل قانون الملازمة غير ثابت.

ثانياً: مع تسليم قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع نقول: إنّ القاعدة إنما تجري في سلسلة العلل، لا في سلسلة المعلولات كما في المقام.

ثالثاً: مع تسليم جريان القاعدة حتى في سلسلة المعلولات نقول: إنّ التلازم بين الحكمين إنّما هو على نحو الاقتضاء، لا على نحو العلّية التامّة.

وقد يمنع المقتضي عن مقتضاه مانع.

كما ذكروا أنّ الأمر بالطاعة عقلاً لا يستتبع الأمر به شرعاً؛ لوجود المحذور العقلي في ذلك.

وفيما نحن فيه: التلازم بين الحكمين مستلزم ل(اللغوية) أو (انقلاب الموضوع)، أو (سراية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر)، أو نحو ذلك من المحاذير وقد سبق تقييم هذه المحاذير(1)، وعليه يكون هذا الإشكال (أي ما ذكر بعنوان «ثالثاً») غير وارد.

البرهان الرابع

إن التجري حرام شرعاً بما ينطبق عليه من العناوين العرضية المحرمة،

ص: 245


1- راجع الصفحة 227.

ويترتب على ذلك استحقاق العقاب وقد سبق الكلام في ذلك(1).

البرهان الخامس

ما ذكره صاحب الكفاية من شهادة الوجدان.

قال: «الحقّ أنّه يوجبه (أي يوجب القطع: استحقاق العقاب)، لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتكه لحرمة مولاه، وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان».

وقال: «كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان»(2).

توضيح ذلك:

1- أنّ هنالك دائرتين:

الأولى: (دائرة الأوامر والنواهي) التي يجب على العبد الانبعاث عن أولاها والانزجار عن ثانيتها.

والثانية: (دائرة رسوم العبودية) أي قواعدها وأصولها التي يجب على العبد اتّباعها.

والنسبة بين الدائرتين هي العموم والخصوص المطلق.

فالدائرة الأولى أخصّ مطلقاً، والثانية أعمّ مطلقاً.

وليست وظيفة العبد: إطاعة الأوامر والنواهي فقط، بل يجب عليه اتّباع

ص: 246


1- راجع الصفحة 222.
2- كفاية الأصول: 256.

رسوم العبودية، وعدم الخروج عن زيّ الرقية، وإلاّ استحقّ العقاب.

ونمثّل لذلك بأمثلة:

أ- تفويت الملاكات المولوية الملزمة سبب لاستحقاق العقاب مع عدم اندراجه في دائرة الأوامر والنواهي.

مثلاً: لو سقط ابن المولى في البئر، وكان المولى نائماً أو غائباً فلم يأمره - على أثر ذلك- بإنقاذه، فإنّه يجب على العبد الإنقاذ، ولو لم يفعل استحقّ العقاب.

ب- تعجيز النفس عن توجّه الأمر المولوي.

كما لو دخل في غرفة وأغلقها على نفسه، وألقى المفتاح في البئر، قبل حلول وقت الواجب، فعجّز نفسه عن امتثال الواجب في ظرفه، فإنّه يستحقّ العقاب، هذا على مبنى كون الوجوب مشروطاً، وأمّا على التعليق فإنه يكون قد خالف نفس الأمر.

ج- تعجيز المولى عن توجيه الأمر أو النهي، في صورة إمكان ذلك في حقه.

كما لو أراد المولى أن يأمره بشيء، فقام العبد إليه ومنعه من الكلام.

فإنّ ذلك خروج عن رسوم العبودية، وخلع لزيّ الرقّية وذلك سبب لاستحقاق العقوبة.

2- الاستحقاق حكم عقلي، غير قابل للوضع ولا للرفع، فهو كزوجية الأربعة، وقد سبق بيان ذلك(1).

ص: 247


1- راجع الصفحة 172-173.

وبناءً على ذلك نقول: إنّ الإقدام على ما أحرز أنه مبغوض المولى، خروج عن رسوم العبودية، وخلع لزيّ الرقّية، وهو موجب لاستحقاق العقاب عقلاً.

ومعنى الاستحقاق: أنه لو وقع لوقع في محلّه، فلو عاقب المولى عبده المتجرّي لم يكن بذلك ملوماً، بل كان العبد به جديراً.

قال في الحقائق: «والتأمل في طريقة العقلاء وملاحظة سيرتهم مع عبيدهم وتوجيه لومهم لهم، والوقيعة بهم وما عليه العبيد من بنائهم على تقصيرهم، وخوفهم من ذلك أشد الخوف وانقطاع ألسنة أعذارهم، ولا سيّما مع ملاحظة كون المخالفة من حيث هي أجنبية عن مقام الصلاحية يقتضي الحكم بالأول(1). [أي أن مناط العقاب في نظر العقل هو كون العبد في مقام التمرد والطغيان وإظهار الجرأة على مولاه].

البرهان السادس

ما نقله الشيخ (رحمه اللّه) في الرسائل، ومن قبله المحقّق السبزواري (رحمه اللّه) في الذخيرة، والمحقّق القمّي (رحمه اللّه) في القوانين.

وقد أطلق عليه دليل «السبر والتقسيم».

كما أطلق عليه دليل «الدوران والترديد».

وتقريره: أنّنا لو فرضنا شخصين، قطع أحدهما بكون مائع خمراً، والآخر بكون مائع آخر خمراً، فشرباهما، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع، ومخالفة

ص: 248


1- حقائق الأصول 2: 10.

الآخر:

1- فإمّا أن يستحقّ كلاهما العقاب.

2- أو لا يستحقّه أحدهما.

3- أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع، دون الآخر.

4- أو العكس.

لا سبيل إلى الثاني والرابع؛ لوضوح استحقاق العاصي للعقاب.

والثالث: مستلزم لإناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو منافٍ لمقتضى العدل.

بيانه: أنّ الجهات الاختيارية كلّها مشتركة بين العاصي والمتجرّي، فكلاهما أرادا شرب الخمر وكلاهما ذهبا إلى المخمر، وكلاهما طلبا الخمر، وكلاهما شربا ما قطعا بأنه خمر - مثلاً.

منتهى الأمر أنّ العاصي (صادف) قطعه الواقع، والمتجرّي (لم يصادف) قطعه الواقع.

ولا شكّ أنّ المصادفة وعدمها ليستا اختياريتين، فلو أنيط العقاب بالمصادفة وعدمها، لزم إناطة العقاب بما هو خارج الاختيار.

وحيث بطلت الاحتمالات الثلاثة تعيّن الاحتمال الأول.

والجواب عنه:

أوّلاً: ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) من أنّا نلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع؛ لأنه عصى اختياراً، دون من لم يصادف.

قولك: «إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج

ص: 249

عن الاختيار» ممنوع.

فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح، إلاَّ أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم(1).

فهنالك أمران:

1- العقاب على ما لا يرجع - بالمآل- إلى الاختيار وهو قبيح.

كما لو أجبر الشخص على شرب الخمر، فإن عقابه قبيح.

2- عدم العقاب على ما ليس بالاختيار،قبحه ليس بثابت.

كما لو لم يشرب الخمر، لعدم وجود الخمر.

بيان ذلك: - كما يستفاد من كلمات بعض الأصوليين- أنّ تحقّق الفعل خارجاً موقوف على سدّ جميع أبواب العدم المشرعة عليه.

بينما يكفي انفتاح باب واحد من أبواب العدم لكي لا يتحقّق الفعل في الخارج.

وهذا أمر مقرّر في محلّه.

ومحور الكلام هنا: أنه لا يلزم أن يكون سدّ جميع أبواب العدم اختيارياً للفاعل، كي يكون الفعل اختيارياً.

بل يكفي في اختيارية الفعل: كون سدّ واحد منها باختيار المكلّف.

وإلاّ فليس في العالم معصية واحدة يكون سدّ جميع أبواب عدمها باختيار المكلّف.

ص: 250


1- فرائد الأصول 1: 40.

مثلاً: «شرب الخمر» له مجموعة من أبواب العدم مشرعة عليه:

1- عدم وجود العنب – وسائر ما يتّخذ منه الخمر- في العالم.

2- عدم وجود القدرة المالية للمكلّف، كي يشتري الخمر.

3- عدم وجود القدرة البدنية للمكلّف كي يشترب الخمر.

4- عدم مصادفة القطع بالخمرية للواقع.

5- عدم وجود الرغبة والميل والإرادة لشرب الخمر إلى غير ذلك...

فإذا كان باب واحد من أبواب العدم هذه مشرعاً لم يتحقّق شرب الخمر في الخارج.

وإذا أريد تحقّق الشرب خارجاً من قبل فاسق، فلابدّ من انسداد أبواب العدم كلّها هذه.

ويكفي في اختيارية (شرب الخمر) كون سدّ باب العدم الأخير اختيارياً، ولا يشترط كون سدّ جميع الأبواب اختيارياً.

فلو فرض أنّ وجود العنب لم يكن اختيارياً للشارب، لم يقدح ذلك في كون شرب الخمر اختيارياً، ما دام قد شربها برغبته وإرادته.

ولو فرض أنّ وجود القدرة البدنية لم يكن باختيار المكلّف فلا يقدح ذلك في اختيارية الشرب وهكذا...

ولو قيل بلزوم كون انسداد جميع الأبواب اختيارياً، إذاً فلا تتحقّق في عالم التكوين ولا معصية واحدة، إذ لا أقل من كون (وجود نفس الشارب) غير اختياري.

ولا شكّ أنه من دون سدّ باب (عدم وجود الشارب) لا يمكن تحقّق

ص: 251

الشرب خارجاً.

بيان آخر: لو فرض أنّ للشيء ألف مقدّمة وكان 999 منها غير اختياري، بينما كان الجزء الأخير اختيارياً، فارتكبه المكلّف عالماً عامداً، فلا شكّ أنه يكون الشيء اختيارياً، وتترتّب عليه آثار الفعل الاختياري عند العقلاء.

ومن هنا قيل: (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار).

وقيل أيضاً: (الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار).

ومن هنا يعتبر من ألقى بنفسه من شاهق بإرادته (قاتلاً لنفسه بالاختيار) مع أنّ جذب الأرض له، وتهشّم عظامه ليس باختياره.

ومن هنا ينقدح أنّ عدم كون (المصادفة) اختيارية، لا يقدح في كون (شرب الخمر) في العاصي اختيارياً. هذا كلّه بالنسبة إلى العاصي.

وأمّا بالنسبة إلى المتجرّي: فهو غير معاقب، لعدم تحقّق شرب الخمر منه في الخارج.

إن قلت: إنّ عدم المصادفة ليس اختيارياً.

قلنا: لا بأس بعدم العقاب على ما ليس بالاختيار.

فإنّ من كان أعمى، فلم ينظر إلى الأجنبية، لا يستحق العقاب وإن كان عدم نظره معلولاً لعدم بصره، الذي هو أمر غير اختياري.

ومن لم يشرب الخمر، لكونه في سجن منقطع، لا يستحق العقاب، وإن كان عدم شربه معلولاً لعدم قدرته على شرب الخمر. وهكذا في سائر الأمثلة.

ثمّ إنّ الشيخ (رحمه اللّه) وغيره استشهدوا ببعض الشواهد لعدم المحذور في

ص: 252

كون التفاوت بين الأشخاص بأمر خارج عن الاختيار - مع مراعاة ما ذكرناه سابقاً، من لزوم إناطة استحقاق العقاب باختيارية، ولو بعض المقدّمات.

نذكر منها:

1- الأخبار الدالّة على أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.

فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة، فاتّفق كثرة العامل بأحدهما وقلّة العامل بالآخر، فإنّ ثواب الأول يكون أعظم، هذا مع أنّ قلّة العامل وكثرته أمران اتّفاقيان خارجان عن الإرادة والاختيار.

2- وقد اشتهر أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجراً واحداً.

ونسبه سلطان العلماء (رحمه اللّه) في حاشية المعالم إلى الرواية(1)، مع أن الإصابة ليست باختياره.

3- ما ورد من تضاعف ثواب الإمام بكثرة المأموم.

4- ما ورد من إعطاء ثواب أعمال الولد لوالده.

قال الشيخ (رحمه اللّه) : والأخبار في ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحدّ التواتر، ثم لا يخفى أن هنالك فرقاً بين «الثواب» و«العقاب» وذلك لأنّ أصل الثواب فضل، فمزيده يكون فضلاً أيضاً، ولا إشكال في مزيد التفضل لبعض الجهات وإن لم تكن اختيارية، وهذا بخلاف العقاب، فإنه لا يكون

ص: 253


1- حاشية سلطان العلماء على المعالم: 80.

إلاَّ بالاستحقاق، فتأمل.

وإلى ذلك أشار السيد الوالد (رحمه اللّه) في الوصائل(1).

ثانياً: ما ذكره السيد الأخ في التجرّي قال: «إن لازم ذلك تساويهما في العقاب - الدنيوي منه والأخروي- والذم مطلقاً؛ إذ لو قيل بالتفاوت فيقال بإنّه كيف فرّق بينهما بما لا يرجع إلى الاختيار، مع أنّ الضرورة قاضية بعدم حدّ غير المصادف وحدّ المصادف مثلاً، كما أنّ ذمهما مختلف شدةً وضعفاً كما أنّ العقاب الأخروي كذلك»(2) فتأمل.

البرهان السابع

ما في النهاية: «وإن كان الاستحقاق بحكم العقل كما هو ظاهر المشهور، فحينئذٍ لا ينبغي الشبهة في استحقاق العقاب على التجرّي؛ لاتحاد الملاك فيه مع المعصية الواقعية.

بيانه: إن العقاب على المعصية الواقعية ليس لأجل ذات المخالفة مع الأمر والنهي، ولا لأجل تفويت غرض المولى بما هو مخالفة وتفويت، ولا لكونه ارتكاباً لمبغوض المولى بما هو، لوجود الكل في صورة الجهل.

بل لكونه هتكاً لحرمة المولى وجرأة عليه، إذ مقتضى رسوم العبودية إعظام المولى وعدم الخروج معه عن زيّ الرقّية، فالإقدام على ما أحرز أنه مبغوض المولى خلاف مقتضى العبودية ومنافٍ لزيّ الرقّية وهو هتك

ص: 254


1- الوصائل 1: 77.
2- التجري: 79.

لحرمته وظلم عليه»(1).

وهو مبني على مسلك المشهور من أن استحقاق العقاب من اللوازم القهرية العقلية، لا من الآثار الشرعيّة الجعلية، وإلاّ فعلى مبنى الجعل قد يقال بأن المتجري لا يستحق العقاب؛ لأنّ الشارع لم يجعل الاستحقاق إلاَّ على المعصية الحقيقية، وسيأتي الكلام في ذلك قريباً إن شاء اللّه تعالى(2).

وحاصل كلامه: إنّ العقاب على المعصية الحقيقية إمّا أن يكون:

1- لأجل ذات المخالفة مع الأمر والنهي.

2- أو لأجل تفويت غرض المولى بما هو هو.

3- أو لأجل كونه ارتكاباً لمبغوض المولى بذاته.

4- أو لأجل كونه هتكاً لحرمة المولى وجرأة عليه.

لا سبيل إلى الثلاثة الأوَل، لوجود الكل في صورة الجهل فيتعيّن الرابع.

وهذا الملاك مشترك فيما بين المعصية والتجرّي إلى آخر كلامه.

وهو إن أراد بذلك ما ذكره في الكفاية (وقد ذكرناه في البرهان الخامس) - كما يظهر من آخر كلامه- فهو متّجه.

وإن أراد غير ذلك ففيه أنّ الحصر غير حاصر، إذ هنالك شقّ خامس وهو: أن يكون العقاب لأجل (المخالفة العمدية)، أو (تفويت الغرض العمدي)، أو (إرتكاب مبغوض المولى عمداً).

ص: 255


1- نهاية الدراية 3: 29.
2- راجع الصفحة 266.

ومن الواضح: أنّ هذا الملاك خاص بالعاصي، فلا يكون المتجرّي - بناءً عليه- مستحقاً للعقاب.

تذييل

لا يخفى أن في استحقاق العقوبة مبنيين:

1- أن يكون من اللوازم القهرية العقلية.

2- أن يكون من الآثار الشرعيّة الجعلية.

فالشارع على المبنى الثاني جعل الاستحقاق تتميماً لمحركيّة أوامره ونواهيه؛ إذ أنّ أغلب الناس تجّار أو عبيد، والأوحدي من يعبد اللّه تعالى لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنّته، وإنّما لكونه تعالى أهلاً للعبادة، فلولا جعل الشارع استحقاق العقاب لما كانت الأوامر والنواهي الشرعيّة محركة للأكثر.

فعلى هذا المبنى - كما اختاره في النهاية- قد يقال: إنه لا مقتضي لاستحقاق العقاب؛ إذ لم يثبت جعل الشارع الاستحقاق في التجرّي. وإن ثبت جعله في المعصية الحقيقية.

وفيه:

1- الإشكال مبنى، إذ المبنى غير مرضي، وله لوازم يبعد التزام بها حتى المحقّق الأصفهاني بها - كما سبقت الإشارة إلى ذلك(1).

2- الإشكال بناءً، بوجود الحرمة الشرعيّة في مورد التجرّي، إذ هو هتك

ص: 256


1- راجع الصفحة 223-224.

لحرمة المولى، وقد أفتى الفقهاء بكون الهتك محرّماً، فهتك حرمة الكعبة المشرفة حرام، وهتك القرآن الكريم حرام، وهتك التربة الحسينية حرام، وهتك حرمة المؤمن حرام، وهتك حرمة المسجد حرام، إلى آخر ما ذكره الفقهاء في مواطن مختلفة.

فإذا فرض كون التجرّي هتكاً لحرمة المولى كان بنفسه محرّماً.

كما أنه قد يستدل بقاعدة الملازمة على كونه معصية حقيقية لحكم الشارع(1).

وقد جعل الشارع الاستحقاق على المعصية الحقيقية.

نعم، هو اقتحام في معصية، بتخيّل كونها معصية أخرى، وبعبارة أخرى: هو هتك لحرمة المولى بتخيل هتك آخر، فتأمل.

برهان على عدم استحقاق المتجري للعقاب

اشارة

وقد استدلّ على عدم استحقاق المتجري للعقاب ببرهان مركّب من مقدّمات:

الأولى: أنّ بين المعصية والتجرّي: جهة امتياز وجهة اشتراك.

أمّا جهة الامتياز فهي انطباق عنوان (المخالفة) عليها دونه.

وأمّا جهة الاشتراك فهي انطباق عنوان (الجرأة على المولى) و(الخروج عن رسوم العبودية)، و(خلع زيّ الرقّية) ونحو ذلك من العناوين عليهما معاً.

الثانية: أنّ الجهة المختصة أعني: (المخالفة الاختيارية للمولى) تمام

ص: 257


1- راجع الصفحة 251.

الموضوع للتقبيح العقلي والعقلائي، ولاستحقاق العقاب عند العقل وعند العقلاء.

فالعقل لو لاحظ عنوان (المخالفة الاختيارية للمولى) مجرّدة عن كافّة العناوين والاعتبارات الأخر يحكم بقبحها واستحقاق العقاب عليها.

وهكذا الأمر عند العقلاء.

الثالثة: لو فرض حكم العقل باستحقاق العقاب على التجرّي فليس هذا الحكم بملاك يختصّ بالتجرّي، ولا يوجد في المعصية؛ إذ لا يوجد مثل هذا الملاك.

بل هو بملاك مشترك بين التجرّي والمعصية الحقيقية، مثل بعض العناوين المتقدّمة.

وعليه يلزم القول بتعدّد الاستحقاق في صورة المصادفة:

أحد الاستحقاقين للجهة المختصة.

والآخر للجهة المشتركة.

والحاصل: أنّ هناك ثلاثة ملاكات مفترضة للاستحقاق:

1) الملاك الخاص بالمتجرّي، وهو غير موجود.

2) الملاك الخاص بالعاصي، وهو ثابت عند العقل والعقلاء.

3) الملاك المشترك بين العاصي والمتجرّي.

فعلى القول بوجود الملاك المشترك يلزم في المعصية الحقيقية استحقاقان:

أحدهما: لمخالفة المولى.

ص: 258

وثانيهما: للخروج عن رسوم العبودية - ونحوه.

إذ أنّ تعدّد الأسباب يستلزم تعدّد المسبّبات.

مع أنّ ضرورة المذهب وبناء العقلاء قائمان على وجود استحقاق واحد في المعصية الحقيقية.

وهذا البرهان يمكن أن يجاب عنه بأجوبة

الجواب الأول: النقض ب(تفويت الملاكات المولوية الملزمة) فإنّه يشترك مع (المعصية) في كون كليهما خروجاً عن رسوم العبودية، وخلعاً لزيّ الرقّية، وتفترق عنه في انطباق عنوان (المخالفة العمدية لتكليف المولى عليها دونه، إذ لا أمر فلا مخالفة فيه، فتكون السالبة بانتفاء الموضوع).

وهذه الجهة المشتركة - الموجودة في التفويت- إمّا أن يقال بأنّها لا توجب استحقاق العقاب، أو يقال بأنّها توجبه.

لا سبيل إلى الأول؛ لأنّ الاستحقاق حكم عقلي، والظاهر حكم العقل باستحقاق العبد العقاب على التفويت.

فلو غرق ابن المولى في البئر في حال غيبته، فلم ينقذه العبد، محتجّاً بأنّه لا أمر، لم يقبل منه.

ولو غرق نفس المولى، ولم يستطع أن يأمر عبده بإنقاذه، فلم ينقذه، ما كان عند العقلاء معذوراً. فيتعيّن الثاني.

وحينئذٍ يقال: إنّه يجتمع في المعصية الحقيقية جهتان تقتضيان الاستحقاق: الجهة المختصّة، والجهة المشتركة، فيستحق العاصي عقابين.

ص: 259

والخلاصة: أنه إن قيل بأنّ الجهة المشتركة لا توجب الاستحقاق كان خلاف حكم العقل.

وإن قيل بأنّها توجبه لزم تعدّد الاستحقاق في المعصية.

فما يجاب به عن المحذور في (التفويت)، يجاب به عنه في (التجري).

وهكذا الأمر في (تعجيز المكلّف نفسه عن امتثال التكليف قبل تولّده)، وفي (تعجيز المولى العرفي)، فتأمل.

الجواب الثاني: - وهو جواب حلّي: إنّ (الملاك المختصّ بالمعصية) - أي المخالفة الاختيارية للتكليف- ليس بما هو هو ملاكاً للاستحقاق.

بل بما هو مصداق من مصاديق (الملاك المشترك) - أي الهتك أو الخروج عن رسوم العبودية وخلع زيّ الرقّية.

فإنّ العبودية لها أصول وقواعد ومراسيم، وكل خروج عن هذه الرسوم قبيح عقلاً، ويوجب استحقاق العقاب.

منتهى الأمر أنّ (الملاك المشترك) ذو مصاديق، منها:

1- المخالفة الاختيارية للمولى.

2- تفويت الملاكات المولوية الملزمة.

3- تعجيز المولى العرفي.

4- تعجيز النفس عن امتثال التكليف.

5- ارتكاب ما قطع أنه مبغوض المولى.

فإذا تحقّق الكلّي ضمن فرد من هذه الأفراد لم يترتّب عليه إلاَّ استحقاق واحد، إذ ليس السبب المصداق بما هو هو، بل الطبيعي، وقد تحقّق الطبيعي

ص: 260

مرّة واحدة.

وعدم التعليل بالملاك المشترك، والاقتصار على التعليل بالحصّة، لا يستلزم مدخليتها بذاتها في العلّية، إذ هو ملحوظ إجمالاً أو ارتكازاً.

وذلك نظير: أنّ الغصب قبيح وموجب للاستحقاق في نظر العقل.

والقتل قبيح وموجب للاستحقاق.

والإيذاء قبيح وموجب للاستحقاق.

لكن ليست السببية لهذه العناوين لذاتها وبما هي هي، بل لاندراجها تحت عنوان (الظلم).

وهذا الجواب لا يخلو من تأمّل، وذلك لما سوف يأتي إن شاء اللّه تعالى في الوجه الرابع.

الجواب الثالث: أن يلتزم بتداخل المعصيتين والعقوبتين.

قال صاحب الفصول (رحمه اللّه) : «فإنّ التحقيق أنّ التجرّي على المعصية معصية أيضاً، لكن إن صادفها تداخلاً وعُدّا معصية واحدة»(1).

ولازم ذلك: التداخل في العقوبتين أيضاً.

ولعلّ وجهه: الجمع بين أمرين:

أحدهما: حكم العقل باقتضاء تعدّد السبب تعدّد المسبب.

وكل من المعصية والتجرّي سبب مستقل لاستحقاق العقاب.

وثانيهما: ما ادّعي من الإجماع والبداهة وضرورة المذهب على وحدة العقاب في المعصية المصادفة للواقع.

ص: 261


1- الفصول: 88.

فيجمع بالتداخل.

فوحدة العقوبة - مع تعدّد السبب- كاشفة عن تداخل المسبّب.

ويرد عليه: أنّ تعدّد الأسباب له صور أربع:

1- تعدّد الأسباب في الأمور التكوينية والعقلية، مع عدم وجود مانع من تعدّد المسبّب.

2- تعدّد الأسباب في الأمور التكوينية والعقلية، مع وجود مانع من تعدّد المسبّب.

3- تعدّد الأسباب في الأمور الشرعيّة والتعبّدية، مع عدم دلالة دليل على التداخل في المسبّب.

4- تعدّد الأسباب في الأمور الشرعيّة والتعبّدية مع دلالة دليل على التداخل في المسبّب.

أمّا الصورة الأولى: فالظاهر أنّ كل مؤثّر يؤثّر أثره، وذلك كمصباحين، حيث إنّ كلاً منهما يؤثّر في الإنارة بشكل مستقل.

وإن أريد إقامة البرهان على ذلك نقول: إنّ هنالك عدّة فروض متصوّرة في المقام.

1- أن يكون أحد السببين معيّناً هو المؤثّر دون الآخر، وذلك ترجّح بلا مرجّح.

2- أن يكون أحدهما المردّد هو المؤثّر، وقد ثبت في محلّه: أنّ الفرد المردّد لا وجود له لا خارجاً ولا ذهناً.

3- أن لا يكون أي واحد منهما مؤثّراً، وذلك انقلاب عن العلية بلا علة.

ص: 262

4- أن يتحوّل كل منهما إلى علّة ناقصة، فيكون جزء العلّة، ويحدث بين السببين الكسر والانكسار في مقام العلّية، ولا مقتضي لهذا الانقلاب؛ إذ المفروض أنه لا تزاحم بين السببين في مقام التأثير، كي يكون التزاحم مانعاً عنه، فيكون تحوّل العلّة التامّة إلى علّة ناقصة معلولاً بلا علّة.

وحيث بطلت هذه الاحتمالات الأربعة يتعيّن الاحتمال الأخير وهو:

5- أن يؤثّر كل من السببين في معلوله بشكل مستقل.

وأما الصورة الثانية: فالظاهر أنه يحدث الكسر والانكسار بينهما في مقام التأثير، فيكون كل منهما جزء العلة، ولكن بنحو متكافئ، وذلك مثل رصاصتين، لو كانت كل واحدة منهما منفردة لقتلت، ولكن اتّفق اجتماعهما على شخص واحد.

أمّا سائر الفروض فهي باطلة:

1- فأن يؤثّر أحد السببين معيّناً دون الآخر فهو ترجّح بلا مرجّح.

2- وأن يؤثّر أحدهما المردّد: فقد سبق أنه لا وجود للمردّد.

3- وأن لا يؤثّر أي واحد منهما فهو انقلاب بلا علة، كما أنه خلاف وجدان المعلول خارجاً.

4- وأن يؤثّر كلاهما على نحو العلّية التامّة، فهو يوجب تحقّق قتلين في الخارج مع عدم قابلية المحل لذلك، أو توارد علّتين مستقلّتين على معلول شخصي واحد.

5- وأن يكون كل منهما جزء العلة ولكن بشكل غير متكافئ: فهو ترجّح بلا مرجّح.

وأمّا الصورة الثالثة: فالأصل عدم التداخل وذلك، كما لو نذر نذرين

ص: 263

مستقلّين.

وأمّا الصورة الرابعة: فالمتّبع دلالة الدليل، وذلك مثل ما ورد في باب الطهارة، وقد ذكر الوالد (رضوان اللّه عليه) أربعة تفسيرات للتداخل في هذه الصورة الرابعة، فراجع(1).

وما نحن فيه من قبيل الصورة الأولى؛ إذ علّية المعصية أو التجرّي للاستحقاق علّية عقلية، ولا مانع من تعدّد المسبّب، فيتعيّن التعدّد، وعليه فلا يكون هنالك وجه للتداخل. وأما فعليّة العقوبة فليس الكلام فيها، كما سوف يأتي عن قريب إن شاء اللّه تعالى(2).

الجواب الرابع: عدم تسليم بطلان التالي في قولهم: (لو كان التجرّي موجباً لاستحقاق العقاب لزم تعدّد الاستحقاق في المعصية الحقيقية، لوجود جهتين: الجهة المختصة والجهة المشتركة)، وذلك: لوجود المقتضي وعدم المانع.

فهنا دعويان:

الدعوى الأولى: وجود المقتضي لتعدّد الاستحقاق.

وبيان ذلك: أنه لو كان هناك (طبيعي) يوجب استحقاق العقاب، وكان هذا الطبيعي (ذا وجوه).

فتارةً ينطبق على فعل خارجي وجه واحد من وجوهه.

ص: 264


1- الفقه 9: 378.
2- راجع الصفحة 274-275.

وهنا لا شكّ في وحدة الاستحقاق.

وتارةً ينطبق وجهان - أو عدّة وجوه- على الفعل الخارجي الواحد، وهنا يمكن القول بتعدّد الاستحقاق عقلاً.

مثلاً: الظلم قبيح، وهو سبب لاستحقاق العقاب، إلاّ أنّ الظلم ذو وجوه:

فالقتل وجه من وجوهه.

والإيذاء وجه من وجوهه.

وقطع رزق عائلة وجه من وجوهه.

وبين هذه الوجوه: عموم من وجه.

إذ قد يكون قتل ولا إيذاء - كما في المبنّج فرضاً- وقد يكون إيذاء ولا قتل... الخ.

فإذا فرضنا أنّ جميع هذه الوجوه اجتمعت في فعل خارجي واحد أمكن القول بتعدّد استحقاق العقاب عقلاً حينئذٍ.

والمقام من هذا القبيل.

إذ(الخروج عن رسوم العبودية) - ونحوه- عنوان طبيعي ذو وجوه:

فمن وجوهه: تفويت الملاك المولوي الملزم.

ومنها: المخالفة العمدية لتكليف المولى.

ومنها: ارتكاب ما قطع أنه مبغوض للمولى.

وبين هذه العناوين عموم من وجه.

إذ قد يكون تفويت للملاك بلا مخالفة للتكليف - كما سبق في مثال غرق ابن المولى في البئر.

ص: 265

وقد يكون مخالفة بلا تفويت - كما لو كان الأمر لمصلحة في نفسه لا في المتعلق، وقد يمثّل له بالأوامر الاختبارية والاعتذارية- وهكذا..

وعليه يمكن القول بتعدّد الاستحقاق في المعصية الحقيقية:

استحقاق لمخالفة التكليف.

واستحقاق لتفويت الملاك.

واستحقاق لارتكاب ما قطع أنه مبغوض المولى، هذا كله لو قيل بأن سببه الجهة المختصة للاستحقاق ليست سببية ذاتية، بل باعتبار اندراجها تحت الجهة المشتركة. وأما لو قيل بسببيتها وبما هي هي فلعل الأمر يكون أوضح.

وأمّا الدعوى الثانية: وهي عدم المانع فلأنّ الإجماع والضرورة والبداهة قائمة على (وحدة العقاب)، لا (وحدة الاستحقاق).

وفرق بين وحدة الفعليّة ووحدة الاستحقاق.

إذ ربما يكون هنالك استحقاق لعقوبات متعدّدة، لكن العقوبة الفعليّة تكون واحدة، رحمة من المولى وتفضّلاً.

بل ربما لا يعاقب العبد أصلاً مع استحقاقه.

وقد اشتهر بينهم أنّ الوفاء بالوعيد غير واجب.

كما ذكر بعض الفقهاء أنّ الظهار حرام معفو عنه لقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}(1).

ص: 266


1- المجادلة: 2.

وورد في الآية الكريمة: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}(1).

وورد في الأحاديث الشريفة: أنّ الشيطان يطمع في رحمته تعالى، لما يراه يوم القيامة من رحمته.

الجواب الخامس: أن يناقش في أصل ثبوت الإجماع والضرورة والبداهة على (وحدة الفعلية)، مع انطباق عناوين متعدّدة على المعصية الحقيقية، فتأمّل.

ص: 267


1- النساء : 48، 116.

ختام : تذكر فيه تنبيهات

التنبيه الأول: في عدم اختصاص أحكام التجري بمخالفة القطع المخالف للواقع

اشارة

قد يتوهّم أنّ أحكام التجرّي - العقلية والشرعية- مختصّة بمخالفة «القطع المخالف للواقع».

وهذا التوهّم غير صحيح؛ إذ قوام التجرّي ب«مخالفة الحجّة المخالفة للواقع».

بيان ذلك: أنّ الحجّة - بمعنى ما يحتجّ به المولى على العبد، والعبد على المولى- لها مصاديق:

1- القطع.

2- الأمارات والطرق المعتبرة.

3- الأصول العملية.

وأحكام التجرّي تشمل ما لو خالف أي فرد من أفراد (الحجّة المخالفة للواقع)، ولا تختص بمخالفة القطع المخالف للواقع.

مثلاً: لو قامت البيّنة على خمرية مائع، فشربه، فبان خلاً، كان متجرّياً ومحكوماً بأحكامه.

ولو نهض الاستصحاب على خمرية مائع، فلم يبالِ، ونقض اليقين

ص: 268

بالشكّ، فشربه، كان متجرّياً ومحكوماً بأحكامه.

وكل ذلك لوحدة الملاك في الجميع.

هذا وقد مضى في بداية مباحث التجرّي بعض ما يرتبط بالمقام فراجع(1).

هذا وقد يتوهم عدم جريان أحكام التجرّي في موارد الأمارات والطرق والأصول العملية.

وبعبارة مختصرة: عدم جريانها في موارد الحكم الظاهري بدعوى أنه خالف الحكم الظاهري - كمفاد الخبر الواحد أو مؤدّى الاستصحاب.

ومخالفة الحكم الشرعي معصية، وليست تجرّياً.

لا يقال: المفروض أنه قد انكشف الخلاف، فلم تكن هنالك مخالفة للحكم الشرعي.

فإنّه يقال: هنالك أمران:

1- تارةً ينكشف الخلاف، بمعنى عدم ثبوت الحكم من الأول، وذلك كما في القطع المخالف للواقع.

2- وتارةً ينتفي موضوع الحكم فينتفي الحكم، كما لو انقلبت الخمر خلاً.

والأحكام الظاهرية من قبيل القسم الثاني، فإنّها مجعولة في ظرف الجهل بالواقع، فإذا انكشف الخلاف انتفت بانتفاء موضوعها، لا أنه يستكشف بذلك عدم ثبوت الحكم من الأول.

ص: 269


1- راجع الصفحة 155.

وعليه: فلا يتصور كشف الخلاف في الحكم الظاهري، فتكون مخالفته عصياناً لا تجرّياً(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنه مبني على وجود الأحكام الظاهرية.

وهذا المبنى محل تأمّل؛ إذ يمكن الذهاب إلى أنّ الأمارات والطرق مجرد منجّزات ومعذّرات.

فلم تكن هنالك مخالفة لا للحكم الظاهري - لعدم وجوده- ولا للحكم الواقعي - لفرض خطأ الطريق أو الأمارة- فلا يكون ثمّة إلاَّ التجري بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

ثانياً: مع تسليم وجود الأحكام الظاهرية نقول: إنّ الحكم على نوعين:

حكم حقيقي ينشا عن مبادئ نفسية حقيقية.

وحكم طريقي ينشأ عن مبادئ طريقية.

فالمولى له أحكام واقعية، وقد جعل خبر الثقة - مثلاً- طريقاً للحفاظ على تلك الواقعيات، لا أنه في نفسه ذو ملاك.

ومخالفة الحكم الطريقي بما هي هي ليست مخالفة حقيقية، ولا تترتّب عليها آثار المخالفة، ولا يترتّب عليها استحقاق العقاب.

مثلاً: لو قال المولى: «اذهب إلى مكّة» ثمّ قال: «إن جهلت الطريق فسل الناس الأعراب».

ص: 270


1- مصباح الأصول: 17-18.

فسؤال الأعراب لا موضوعية له في حدّ ذاته، بل هو صرف طريق لمعرفة طريق مكّة، ولو لم يسأل الناس الأعراب واتّفق وصوله إلى مكّة فليس بعاصٍ، وإن كان متجرّياً بالنسبة إلى الأمر الحقيقي.

وهكذا لو قال المولى: «إن مرضت واحتجت إلى الدواء، فسل الطبيب».

ونظير ذلك من بعض الوجوه: الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات الوجودية، كما لو قال: «ادخل السوق واشتر اللحم» وقد قال في الكفاية: إنّ مخالفة الأمر المقدّمي ليست بمخالفة.

والدليل على ما ذكرناه: الظهور العرفي، فوزان {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1) وزان «سل الطبيب إن احتجت إلى الدواء».

نعم، ذهب الشيخ إلى «المصلحة السلوكية» في باب الطرق والأمارات، فليست هنالك طريقية صرفة، وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

نعم ذلك كله لا يجري في الأصول العملية.

تذنيبان
التذنيب الأول: عدم وجود قسم رابع للحجّة

أضاف في المصباح(2) قسماً رابعاً وقال: إنّ بحث التجرّي يعمّ كل منجّز للتكليف، ولو كان مجرّد احتمال، وذلك كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف، فإنّ الاقتحام في بعض الأطراف داخل في التجرّي، وكذا الحال في الشبهات البدوية قبل الفحص، ومراده بذلك الشبهات الحكمية، وأمّا

ص: 271


1- النحل: 43؛ الأنبياء: 7.
2- مصباح الأصول 2: 18.

الشبهات الموضوعية فليس مبناه وجوب الفحص، وإن كان الوالد (رحمه اللّه) وجمع قد ذهبوا إلى الوجوب فيها إلاَّ ما استثني.

ويرد عليه: أنه مورد لأصالة الاحتياط، فلا وجه لعدّه قسماً رابعاً.

التذنيب الثاني: في سبب تخصيص العنوان ب«القطع»

علّل في المصباح تخصيص عنوان البحث بالقطع بكونه أظهر الحجج وأوضح المنجزات(1)، ويمكن تعليله أيضاً: بعموم القطع للقطع بالواقع والوظيفة، فالمستصحب - مثلاً- وإن لم يكن له قطع بالواقع، إلاَّ أنّ له قطعاً بالوظيفة.

وقد سبق أنّ القطعين مشتركان في الأحكام والآثار.

التنبيه الثاني: في اختصاص أحكام التجري بمخالفة القطع الطريقي وعدمه

القطع نوعان:

1- قطع طريقي.

2- قطع موضوعي.

وقد ذكر أنّ أحكام التجرّي تختص بمخالفة القطع الطريقي؛ إذ فيه يمكن انكشاف الخلاف. وأمّا القطع الموضوعي فلا يتصوّر فيه كشف الخلاف، بالنسبة إلى الحكم ليتحقق التجرّي.

إذ الموضوع هو (القطع) لا (المقطوع) ومادام الموضوع محقّقاً، فالمحمول ثابت.

ص: 272


1- مصباح الأصول 2: 18.

والمفروض أنّ المكلّف خالف، فيكون عمله معصية حقيقية، لا تجرّياً.

مثلاً: لو نذر التصدّق بدرهم إذا قطع بحياة ولده فقطع بحياته، ولم يتصدّق - في المدّة التي عيّنها- ثمّ تبيّن أنّ ولده كان - حين القطع- ميّتاً فليس ذلك تجرّياً، بل هو عصيان حقيقي؛ لأنّ الموضوع لم يكن (حياة الولد) بل (القطع بحياة الولد)، وحيث ثبت الموضوع ترتّب المحمول وقد خالفه فيكون عاصياً.

هذا ولكن في إطلاق ما ذكر إشكالاً.

إذ يمكن فرض التجرّي في بعض أنواع القطع الموضوعي.

بيانه: أنّ القطع الموضوعي على نوعين:

1- أن يكون القطع تمام الموضوع.

2- أن يكون القطع جزء الموضوع، والواقع هو الجزء الآخر فلو قطع بالواقع وخالف، ثمّ بانت مخالفة قطعه للواقع كان متجرّياً.

مثلاً: لو نذر أن يتصدّق بدرهم إذا قطع بحياة ولده وكان ولده حيّاً في الواقع، فلم يتصدّق، ثمّ بانَ ولده ميّتاً حين القطع، فهو متجرٍّ.

إذ الموضوع كان «القطع مع مصادفة الواقع» أو «الواقع المقيّد بالقطع».

والمفروض أنّ الموضوع لم يكن متحقّقاً واقعاً، إلاَّ أنه اعتقد تحقّقه فخالفه، فتكون مخالفته مخالفة اعتقادية، فيكون متجرّياً.

التنبيه الثالث

ما ذكر في القطع يجري في الظن المأخوذ موضوعاً، وكذا في الاحتمال المأخوذ موضوعاً.

ص: 273

ففي الجميع يكون الحكم ثابتاً في الواقع، ولو كان الظن أو الاحتمال مخالفاً للواقع.

وذلك لأنّ الموضوع هو نفس الظنّ أو الاحتمال، لا المظنون والمحتمل، فلا يقدح عدم ثبوت المظنون أو المحتمل في الواقع، في ثبوت الحكم، فتكون المخالفة معصية لا تجرّياً.

وقد مثّل لأخذ الظن موضوعاً بعدّة أمثلة:

1- فقد ذكر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) أنه لا خلاف بينهم ظاهراً في أنّ سلوك طريق مظنون الضرر معصية، ولو انكشف الخلاف بعدئذٍ.

وعليه: فلو فاتت منه الصلاة في هذا السفر لابدّ من القضاء تماماً ولو بعد انكشاف عدم الضرر.

2- وذكر أنّ جماعة ادّعوا الإجماع على أنّ الظان بضيق الوقت يجب عليه البدار، ولو لم يبادر كان عاصياً ولو انكشف بقاء الوقت.

3- ذكر بعضهم أنّ الظانّ بتضرّره بالطهارة المائية تجب عليه الطهارة الترابية، ولو توضّأ أو اغتسل مع ظنّه كان فعله محرّماً. وفي هذه الأمثلة مناقشات توكل إلى محلّها.

التنبيه الرابع: في أن التجري مخل بالعدالة أو لا؟

اشارة

وقبل الدخول في صلب الموضوع لا بأس بالبحث في معنى «الإخلال» المأخوذ في عنوان الموضوع.

فنقول: إنّ في العدالة والفسق مبنيين:

1- أنّهما نقيضان، أو ضدان لا ثالث لهما، أو هما من قبيل العدم

ص: 274

والملكة.

فعلى هذا المبنى يكون ما يخلّ بالعدالة سبباً للفسق. فتترتّب عليه أحكام الفاسق.

2- أنّهما ضدّان لهما ثالث، وهو الواسطة بين الفسق والعدالة. ويتصوّر ذلك مثلاً في المخلوق دفعة، فإنّه ليس فاسقاً ولا عادلاً. وكذا قد يتصوّر في الطفل أوّل بلوغه.

وعليه: فلا تترتّب على من ليس عادلاً ولا فاسقاً أحكام العدالة، ولا أحكام الفسق.

فلا يصلّى خلفه، إذ الصلاة مشروطة بالعدالة. ولا تجوز إهانته، لو فرض قيام الدليل على وجوب إهانة الفاسق.

وبعد هذا نعود إلى سؤال: هل التجرّي يخلّ بالعدالة (بأي معنى فرض للإخلال) أو لا؟

والجواب: هنالك مبنيان في التجرّي:

1- مبنى الحرمة الشرعيّة - سواء فرض مركز الحرمة نفس الفعل، لكونه هتكاً لحرمة المولى مثلاً، أو القصد والعزم- لدلالة النصوص على حرمة مثل هذه النيّة.

2- مبنى عدم الحرمة الشرعية.

أولاً: على مبنى الحرمة الشرعية

في مفهوم العدالة هنالك مبانٍ نذكر منها:

1- أنّ العدالة هي الإتيان بجميع الوظائف الشرعية، بمعنى الإتيان

ص: 275

بالواجبات، وترك المحرمات: الكبائر منها والصغائر، وعلى هذا المبنى يكون المتجرّي غير عادل؛ لأنّ التجرّي معصية، سواء فرضت صغيرة أو كبيرة، أو شكّ في كونها من أي واحد من القسمين، وسواء فرض مركزها: الفعل، أو النيّة.

2- أنّ العدالة عبارة عن الاستقامة في جادّة الشرع. بمعنى فعل الفرائض، وترك الكبائر (ومن الكبائر: الإصرار على الصغائر). وعلى هذا المبنى يتنوّع التجرّي إلى نوعين:

النوع الأول: التجرّي على الذنوب الصغيرة.

وهذا النوع غير مخلّ بالعدالة إذ لا يزيد التجرّي على الصغيرة على نفس الصغيرة فإذا كانت الصغيرة بنفسها غير قادحة في العدالة، فكيف يكون التجرّي قادحاً فيها؟

وبعبارة أخرى: إذا كانت المخالفة الواقعية غير مخلّة، فكيف تكون المخالفة غير الواقعية مخلّة؟

ومرجع هذا الوجه إلى الأولوية العرفية. ولو فرض عدم كون الأولوية كافية، فلا أقل من الشك في كونها صغيرة أو كبيرة، وسيأتي أنّ الشكّ يلحق المعصية المشكوكة بالصغيرة حكماً.

النوع الثاني: التجرّي على الكبيرة. وهل هذا النوع ينطبق عليه عنوان الكبيرة؟ هنالك ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يقال أنّ التجرّي على الكبيرة معصية كبيرة إمّا مطلقاً أو في الجملة.

ص: 276

أمّا لأنّ إطلاقات الأدلّة الأوّلية تشمل العاصي والمتجرّي على حدّ سواء - على ما سبق بيانه- أو للأدلّة الخاصة مثل (القاتل والمقتول كلاهما في النار). أو لكونه عظيماً في أنفس أهل الشرع.

وعلى هذا المبنى يكون التجرّي على الكبائر مسقطاً للعدالة مطلقاً - كما متقضى الوجه الأول- أو في الجملة - كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين.

الحالة الثانية: أن يقال أنه محكوم بحكم الصغيرة؛ إذ لا دليل على كونه كبيرة. وعلى هذا الاحتمال: لا يكون مسقطاً للعدالة.

الحالة الثالثة: أن يشكّ. وحيئنذٍ يجب أن نبحث في حكم ما لو شكّ في كون المعصية صغيرة أو كبيرة؟ والظاهر أنّ هنالك مرحلتين.

المرحلة الأولى: مرحلة الأصل السببي.

المرحلة الثانية: مرحلة الأصل المسبّبي.

أمّا المرحلة الأولى: فربما يقال: بإنّ الأصل عدم كون المشكوك معصية كبيرة.

وفي هذا الأصل إشكالان:

الإشكال الأول: أنه معارض بأنّ الأصل عدم كونه معصية صغيرة.

وقد يجاب عن هذا الإشكال: بأنّ هذا الأصل لا أثر شرعي له.

فالمعصية الكبيرة لها أثر شرعي وهو سقوط العدالة مثلاً.

أمّا المعصية الصغيرة: فلا أثر شرعي لها. وإثبات كون المشكوك معصية كبيرة بنفي كونه صغيرة فتترتّب عليه آثار الكبيرة، إثبات لأحد الضدّين بنفي الضد الآخر، وهو أصل مثبت.

ص: 277

الإشكال الثاني: أنه ما المراد من هذا الأصل؟

فإن أريد أنّ «أصل العدم» أصل مستقل قائم بذاته.

ففيه: أنه لا دليل على هذا الأصل.

وإن أريد الاستصحاب.

ففيه: أنه لا حالة سابقة له، إذ المعصية منذ الأول إمّا صغيرة أو كبيرة.

ولم يثبت كون المشكوك معصية غير كبيرة في زمان، كي يستصحب هذا النعت في زمن الشكّ.

نعم، لو قيل: «باستصحاب العدم الأزلي» أمكن نفي كونه كبيرة إذ قبل خلق الكون والمكان والزمان والإنسان، أو قبل بدء التكليف لم يكن المشكوك معصية كبيرة، ولو لانتفاء الموضوع، فإذا شكّ في طروّ نعت الكبيرة استصحب العدم الأزلي.

نظير ما ذكر في إثباته عدم كون المرأة قرشية، باستصحاب العدم الأزلي، إلاَّ أنّ المبنى غير مرضي، على ما قرّر في محلّه.

فتحصّل من جميع ذلك: أنه لا يوجد هنالك أصل سببي في المقام.

فتصل النوبة إلى المرحلة الثانية: وهي مرحلة الأصل المسبّبي.

مثلاً: لو كان الشخص عادلاً وارتكب ما شكّ في كونه كبيرة أو صغيرة، تستصحب عدالته التي كانت ثابتة سابقاً.

3- المبنى الثالث: أنّ العدالة بمعنى الملكة.

(أي ملكة فعل الواجبات وترك المحرّمات الكبيرة)، والملكة هي الحالة الراسخة في النفس التي تصدر عنها الأفعال بسهولة. فهي تملك الإنسان،

ص: 278

ويملكها الإنسان. وعلى هذا المبنى هنالك ثلاث صور:

الصورة الأولى: التجرّي على الكبيرة (كما لو شرب الخل باعتقاد كونه خمراً) والظاهر أنه مخل بالعدالة؛ إذ يكشف هذا العمل عن عدم وجود الملكة فيه؛ إذ الملكة حالة تردع الإنسان عن شرب الخمر مثلاً، ومادام قد شرب ما قطع بأنه خمر، إذاً فلا رادع نفسي له عن شرب الخمر، فلا يكون عادلاً.

الصورة الثانية: التجرّي على الصغيرة النابع من عدم مبالاته عن اقتحام الصغيرة مكرّراً.

وهذا أيضاً مخلّ بالعدالة؛ إذ لا تكون الملكة موجودة في هذه الحالة؛ إذ لا مانع لديه من ارتكاب الصغيرة مكرّراً.

الصورة الثالثة: التجرّي على الصغيرة الذي لا ينبع من ذلك. كما لو أراد حلق لحيته مثلاً مرّة واحدة فقط. والظاهر أنه غير مضرّ بالملكة. فكما أنّ حلق اللحية مرّة واحد واقعاً لا يضرّ بالعدالة، كذلك التجرّي على حلق اللحية مرّة واحدة لا يضرّ بالعدالة.

ثانياً: على مبنى عدم الحرمة الشرعيّة

ويختلف الحال في ذلك باختلاف المباني في مفهوم العدالة.

1- فعلى المبنى الأول: لا يضرّ التجرّي بالعدالة.

2- وعلى المبنى الثاني: لا يضرّ بها أيضاً.

وذلك لعدم ارتكاب المتجرّي إثماً مطلقاً، وإن فرض كونه مستحقاً للعقاب.

3- أمّا على المبنى الثالث فتجري فيه المباحث التي ذكرت قبل قليل في

ص: 279

المبنى الثالث على مبنى «الحرمة الشرعيّة للتجرّي» واللّه العالم بحقيقة الحال.

التنبيه الخامس: في الحالات الجوانحية للمكلف المخالف للحجة غير العلمية

اشارة

الحجّة غير العلميّة - سواء كانت أمارة أو طريقاً أو أصلاً عملياً- تنقسم إلى قسمين:

1- الحجّة المثبتة للتكليف.

2- الحجّة النافية للتكليف.

القسم الأول: الحجّة المثبتة للتكليف

كما لو قامت البيّنة على خمرية هذا المائع.

والموقف النفسي للمكلّف المخالف للحجّة المثبتة للتكليف ينقسم إلى أقسام ثلاثة:

1- أن يرتكب ما قامت الحجّة على تحريمه - مثلاً- برجاء أنه محرم كأن يشرب ذلك المائع برجاء أنه خمر.

2- أن يرتكبه برجاء أنه ليس بمحرّم.

3- أن يرتكبه وهو غير مبالٍ بكونه محرّماً أو غير محرّم.

ثمّ أنه في جميع الصور الثلاثة، إمّا أن تتبيّن مصادفة الحجّة للواقع (كأن يتبيّن أنّ المائع كان خمراً في الواقع). أو تتبيّن مخالفة الحجّة للواقع (كأن يتبيّن أنّ المائع لم يكن خمراً في الواقع). فهنا صور ست:

أمّا صور مصادفة الحجّة للواقع:

وهي ثلاث: فالمكلّف عاصٍ حقيقةً، ورجاء أنّ المائع ليس خمراً في الواقع، أو اللاّمبالاة، لا يغيّر من النتيجة شيئاً.

ص: 280

وذلك لوجود «العلم التعبّدي» بالحرمة حين الاقتحام.

ولا فرق بين العلم التعبّدي» و«العلم الوجداني» في الأثر الملحوظ في المقام.

فكما أنه لو قطع قطعاً وجدانياً بخمرية هذا المائع، فشربه، فبان قطعه مصادفاً للواقع، يكون عاصياً حقيقة.

كذلك لو قطع قطعاً تعبّدياً بخمرية هذا المائع، فشربه، فبان قطعه مصادفاً للواقع، فإنّه يكون عاصياً حقيقة.

وبعبارة أخرى: كما أنّ التكليف الواقعي (مثل «لا تشرب الخمر») يتنجّز في ذمّة المكلّف بالعلم الوجداني. كذلك يتنجّز بالعلم التعبّدي.

وحيث تنجّز التكليف الواقعي في ذمّة المكلّف، وخالفه، يكون عاصياً حقيقة.

ويبقى الكلام في صور عدم مصادفة الحجّة للواقع:

وهي ثلاث:

1- أن يرتكب ما قامت الحجّة على تحريمه (مثلاً) برجاء أنه محرّم كأن يشرب ذلك المائع برجاء أنه خمر. ثمّ بان أنه لم يكن خمراً في الواقع، وقد ذكر المحقّق النائيني (رحمه اللّه) أنّ المكلّف حينئذٍ يكون متجرّياً بالنسبة إلى الواقع. وظاهر كلامه أنه ليس بمتجرّ بالنسبة إلى الطريق(1).

وربما يوضّح ذلك بأنّ الواقع ثبت عند المكلّف بالعلم التعبّدي، فأقدم على مخالفته، إلاَّ أنه بان مخالفة الأمارة - مثلاً- للواقع، فيكون متجرّياً

ص: 281


1- فوائد الأصول 3: 53.

بالنسبة إلى الواقع.

وأمّا الطريق: فمفاد أدلّة حجّية الطريق «إلغاء احتمال الخلاف» وقد ألغى المكلّف احتمال الخلاف، حيث إنه شرب المائع بانياً على أنه خمر. هذا ولكن الشقّ الثاني من كلامه لا يخلو من تأمّل.

إذ إلغاء احتمال الخلاف معناه «إلغاؤه عملاً» لا «التزاماً». وقد عصى المكلّف ذلك. وستأتي تتمّة الكلام في الصورة الثانية إن شاء اللّه تعالى.

2- أن يرتكب ما قامت الحجّة على تحريمه (مثلاً) برجاء أنه ليس بمحرّم، كأن يشرب ذلك المائع برجاء أنه ليس بخمر - لاحتماله مخالفة الأمارة للواقع- ثمّ بان المائع لم يكن خمراً.

وقد ذكر المحقّق النائيني (رحمه اللّه) : أنه يكون متجرّياً بالنسبة إلى الطريق والتعبّد بإلغاء احتمال الخلاف والبناء على أنه خمر.

وظاهر كلامه: أنه لا يكون متجرّياً بالنسبة إلى الواقع. وما ذكره لا يخلو من تأمل.

أمّا أولاً: فلأنّه لا فرق بين ثبوت التكليف بالعلم الوجداني أو التعبّدي المخالفين للواقع. فكما أنه إذا ثبت - بالعلم الوجداني- خمرية مائع، فشربه المكلّف، فبان أنه ليس بخمر، يكون متجرّياً. كذلك - إذا ثبتت خمريته بالعلم التعبّدي. إذ الملاك مشترك فيما بين المقامين. سواء جعل الملاك: الإقدام على ما أحرز المكلّف أنه مبغوض المولى. أو: الإقدام على ما لم يثبت مؤمن شرعي أو عقلي بالنسبة إليه.

وأمّا ثانياً: فلأنه لا حكم ظاهري، كي يكون المكلّف متجرّياً بالنسبة

ص: 282

إليه، بمخالفته الاعتقادية له.

وبعبارة أخرى: أنه إن بني على عدم وجود الأحكام الظاهرية: فلا تجري، من باب السالبة بانتفاء الموضوع. فلا حكم، كي تكون له موافقة، أو مخالفة، أو تجرٍّ، وإنّما هي طريق محض إلى الواقع.

وإن بني على وجودها: فلا تجري أيضاً؛ إذ تكون مخالفته حينئذٍ معصية حقيقية للتكليف الظاهري.

وأمّا ثالثاً: فلأنه لو فرض وجود الأحكام الظاهرية فليست ناشئة من مبادئ حقيقية بل من مبادئ طريقية. فلا تعتبر المخالفة لها مخالفة، ولا الموافقة لها موافقة، ولا التجرّي بالنسبة إليها تجرّياً. وقد سبق بعض الكلام في ذلك.

3- أن يرتكب ما قامت الحجّة على تحريمه (مثلاً) غير مبال بكونها مصادفة للواقع أو مخالفة. ثمّ بانت مخالفة الحجّة للواقع.

والظاهر جريان البحوث المتقدّمة في القسمين الأوّلين فيه أيضاً.

فتحصّل أنّ المكلّف في الصور الثلاث يكون متجرّياً بالنسبة إلى الواقع.

تذنيب:

يبقى الكلام في مسألة «الرضا بالحرام» في الصور الثلاث الأخيرة.

ومجمل الكلام: أنه لو قيل بحرمة الرضا بالحرام مطلقاً وبالملازمة بين «رجاء كون المقتحم فيه محرّماً» أو «اللاّمبالاة بكونه محرّماً» وبين «الرضا بالحرام» يكون عمله مقروناً بالحرام من هذه الجهة، ولكن الملازمة محل تأمّل. وتفصيل الكلام في غير المقام. ومنه يتّضح الأمر بالنسبة إلى الصور

ص: 283

الثلاث الأولى.

القسم الثاني: الحجّة النافية للتكليف

كما لو قامت البيّنة على أنّ هذا المائع ليس بخمر، ومثل ذلك يد المسلم، وسوق المسلمين، واستصحاب الحلّية، وأصالة البراءة، وغيرها.

والموقف النفسي تجاه الحجّة النافية للتكليف ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- أن يشرب هذا المائع برجاء أنه خمر، فمع أنّ البيّنة قامت على خمرية هذا المائع، إلاَّ أنّ احتمالها مخالفتها للواقع قائم، فيشرب المكلّف ذلك المائع برجاء خمريته، لخبث باطنه، وزيغ قلبه.

2- أن يشرب المائع برجاء أنه ليس بخمر.

3- أن يشرب المائع غير مبالٍ بكونه خمراً أو لا.

وفي كل من الأقسام الثلاثة:

1- إمّا أن تصادف الحجّة الواقع (كأن يتبيّن أنّ المائع كان خلاً في الواقع) فيتطابق مقام الإثبات ومقام الثبوت.

2- وإمّا أن لا تصادف الحجّة الواقع (كأن يتبيّن أنّ المائع كان خمراً في الواقع) فيتخالف مقام الإثبات ومقام الثبوت. فالأقسام ستّة.

وقد ذهب المحقّق النائيني في مسألة: من شرب المائع المحكوم بعدم الخمرية، برجاء كونه خمراً، إلى أنّ الحجّة لها وجودان:

1- وجود واقعي.

2- ووجود استنادي.

وما يكفي في دفع عنوان (المعصية) و(التجرّي) هو الحجّة بوجودها

ص: 284

الاستنادي، وأمّا الحجّة بوجودها الواقعي، فلا تكفي في ذلك، فلو أكل لحماً من سوق المسلمين مستنداً إلى (أمارية السوق شرعاً) - أي منبعثاً في أكله عنها- كان فعله محلّلاً إن كان اللحم مذكّى واقعاً، وكان معذوراً لو كان ميتة واقعاً.

وأمّا لو أكل اللحم المزبور غير مستند إلى ذلك:

1- فإن كان اللحم ميتة كان عاصياً حقيقة.

2- وإن كان مذكّى كان متجرّياً.

وننقل كلامه (رحمه اللّه) في مقطعين:

المقطع الأول: قال: «إنّه في موارد الأصول والأمارات النافية للتكليف وإن أمكن الاحتياط وكان حسناً إلاّ إنّ من لم يحتط واقتحم فيها إذا كان في اقتحامه مستنداً إلى الحجة الموجودة فيها، فلا يتحقق منه التجرّي - إلى أنْ قال- فلا موجب لقبحه»(1).

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأول: إنّ العقاب في هذه الصورة عقاب على تكليف لم يصل إلى المكلّف، بل على تكليف لا يمكن وصوله إلى المكلّف.

ومن الواضح: أنّ العقاب بلا بيان قبيح.

مثلاً: لو فرض أنّ المكلّف أكل العظم، غير مبالٍ بكونه محلّلاً أو محرّماً، وكان العظم حراماً في الواقع، إلاَّ أنّ فتوى المجتهد الذي كان يجب عليه الرجوع إليه كانت هي الحلّية، فمن القبيح أن يعاقب من أجل الحرمة

ص: 285


1- أجود التقريرات 3: 60-61.

الواقعية الثابتة في أكل العظم؛ إذ لا طريق للمكلّف للوصول إلى هذه الحرمة. بشكل مباشر، ومفاد الطريق هو الحلّية، فحتّى لو سلك الطريق فإنه لن يصل إلى الحرمة، فكيف يعتبر عاصياً لخطاب «لا تأكل العظم» ويعاقب من هذه الجهة؟

وفيما نحن فيه: حيث إنّ الواقع محجوب عن المكلّف، وحيث إنّ مفاد الطريق - كالبيّنة- هو الحلّية، تكون الحرمة الواقعية غير واصلة إلى المكلّف، فيكون العقاب عليها عقاباً بلا بيان، وهو قبيح.

وقد يورد على هذا الإشكال: بأنّ الوصول نوعان: وصول تفصيلي، ووصول إجمالي (والمراد بالإجمال: الإجمال المنطقي، إن لم يكن هناك إجمال أصولي).

وبمجرد احتمال وجود التكليف: يتم الوصول الإجمالي له، ويتنجّز في ذمّة المكلّف، كما قرّر ذلك في مبحث وجوب الفحص في الشبهات الحكمية.

والحجّة النافية: تسقط التنجّز إذا استند إليها المكلّف.

وأمّا لو لم يستند إليها فليست كافية - في نظر العقلاء - في المعذّرية وسقوط التنجّز.

وبتقرير آخر: المنجّزية تولّدت بصرف الاحتمال، فإذا شكّ في سقوطها بصرف وجود الحجّة، من غير استناد إليها، استصحبت المنجّزية.

وربما يورد على هذا الإيراد: بإطلاق دليل الحجّة. فإنّ مفاد دليل حجّية سوق المسلمين - مثلاً- أنّ اللحم المأخوذ منه بحكم المذكّى.

ص: 286

ومقتضى إطلاق الدليل: إنه لا فرق في كونه كذلك بين الاستناد إليه، وعدمه. فيكون الدليل هو المسقط لتنجّز الحكم الواقعي، وهو المعذّر.

ولم يثبت بناء العقلاء على استحقاق العقاب لو اتّفقت مخالفة الأمارة النافية للواقع.

اللّهمّ: إلاَّ أن يستشكل بعدم ثبوت الإطلاق؛ لعدم تمامية مقدّمات الحكمة؛ لعدم ثبوت كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة. فتأمّل.

وسوف تأتي تتمّة للكلام عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

الإشكال الثاني: أنّ عدم كفاية الحجّة بوجودها الواقعي في معذورية المكلّف، لا يستلزم كون المعذّر: الحجّة بوجودها الاستنادي، بل يمكن أن يكون الحجّة بوجودها العلمي.

بيان ذلك أنّ في المعذّرية احتمالات:

1- أن تناط بالحجّة بوجودها الواقعي.

2- أن تناط بالحجّة بوجودها الاستنادي.

3- أن تناط بالحجّة بوجودها العلمي.

وانتفاء الأول لا يستدعي ثبوت الثاني لإمكان الثالث، بل هو الظاهر.

والسبب في ذلك: إنّ من رسوم العبودية: أن لا يرتكب العبد ما لم يعلم بوجود مؤمّن مولوي عليه.

فإذا اقتحم في ذلك استحقّ العقاب عليه.

ومعنى الاستحقاق: رؤية العقل العبد جديراً بالعقاب، وعدم ذمّ العقلاء المولى على عقوبته لعبده.

ص: 287

مثلاً: لو أنّ عبداً باع بيت مولاه بدون علمه بالمؤمّن، وكان المولى غير راضٍ بذلك واقعاً، فالعبد يستحق العقوبة على ذلك، وإن فرض أداء الطريق المنصوب من قبل المولى إلى جواز بيع البيت، مع عدم علم العبد بذلك.

وهكذا لو قتل أسير المولى بدون علمه بالمؤمن.

فمفاد هذا الإشكال: التفصيل بين (العلم بالحجّة) و(عدم العلم) ففي الأول يكون المكلّف معذوراً - لو خالف الواقع- دون الثاني.

ولا أثر للاستناد وعدمه في الصورتين.

والحلّية الظاهرية المستفادة من أدلّة الحجج لا تلازم (انتفاء العقاب على خروجه عن رسوم العبودية بالنسبة إلى الحرمة الواقعية).

وهكذا الأمر في فتوى المجتهد بالحلّية مع كون الواقع هو الحرمة، في فرض عدم علم المكلّف بالفتوى.

الإشكال الثالث: إنّ بين عنوانين (رجاء مصادفة الحرام) و(الاستناد إلى الحجّة) عموماً من وجه.

فقد يتحقّق الأول دون الثاني، كما في الفاسق الذي يرتكب عملاً راجياً كونه محرّماً، دون أن يستند إلى الحجّة النافية، بل دون أن يعلم بوجودها.

وقد يتحقّق الثاني دون الأول، كما في المتديّن الذي يأكل اللحم المأخوذ من سوق المسلمين، مستنداً إلى أماريته على الحلّية، دون أن يرجو مصادفة ذلك للحرام، بل ربما يكره أكل الحرام أشدّ الكره.

وربما يجتمع العنوانان، كمن استند إلى الحجّة النافية في الاقتحام راجياً مصادفة الفعل للحرام.

ص: 288

ومعنى استناده إلى الحجّة: إنه لولا الترخيص الشرعي الظاهري لم يقتحم.

وتوضيح ذلك: إنه نفرض وجود ثلاثة أواني:

الإناء الأول: إناء فيه ماء.

والإناء الثاني: إناء قامت البيّنة على أنّ فيه خمراً.

والإناء الثالث: إناء قامت البيّنة على أنّ ما فيه ليس بخمر.

والمكلّف يجتنب الإناء الأول: إذ لا حاجة له في شرب الماء.

ويجتنب الثاني: إذ لا يريد أن يتورّط في مخالفة المولى.

ويرتكب الثالث، باعتبار احتماله خطأ البيّنة وكون المائع خمراً في الواقع، فيشربه برجاء الخمرية، المؤمّن عنها بالتأمين الشرعي.

وبعبارة أخرى يريد أن يشرب خمراً محلّلة! - في فرض مخالفة الحجّة النافية للواقع.

ففي هذه الصورة يجتمع العنوانان.

ومن الواضح: أنّ تعليل أحد العنوانين العامين من وجه بوجود العنوان الآخر، أو بانتفاء العنوان الآخر غير صحيح.

فالقول بتحريم مطلق (رجاء الحرام) مستنداً في ذلك إلى (عدم الاستناد إلى الحجّة النافية) استدلال بالأخص على الأعم.

المقطع الثاني: من كلام المحقّق النائيني: فيما لو اتّفقت مصادفة الحجّة النافية للواقع وقد حكم (رحمه اللّه) بأنّ المكلّف إذا لم يستند إلى الحجّة محكوم بأحكام التجرّي.

ص: 289

قال: «بل لو بنينا على استحقاق المتجرّي للعقاب - إلى أن قال: عن المرتكب»(1).

والظاهر: جريان ما تقدّم من البحث في أنّ المناط «الاستناد» أو «العلم» في المقام أيضاً.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ المكلّف لو اقتحم في موارد الحجّة النافية، بدون علم بوجودها: فإن اتّفقت مخالفة الحجّة للواقع: كان عاصياً. وإن اتّفقت مصادفتها له: كان متجرّياً.

ولا فرق في الصورتين بين الاستناد إليها وعدمه.

تذنيب:

يبقى الكلام في مسألة «الرضا بالحرام» وسوق الكلام فيه كسوقه في التذنيب المتقدّم. واللّه العالم بحقيقة الحال.

التنبيه السادس: في صحة العمل العبادي المتجرّى به وعدمها

وقد ذكر المحقّق العراقي - وتبعه المنتقى- أنّ ذلك هو ثمرة البحث في المسألة.

والظاهر أنّ مراده بذلك أنّها الثمرة الكلّية، وأمّا الثمرات الجزئية فهي متعدّدة.

منها: ما سبق من أنّ التجرّي يخلّ بالعدالة أو لا(2).

ص: 290


1- أجود التقريرات 3: 61.
2- راجع التنبيه الرابع.

ومنها: استحقاق المتجرّي للحدّ والتعزير وعدمه.

وعلى كلٍ: فقد يمثّل للعمل العبادي المتجرّى به بأمثلة:

1- لو صام اليوم المحكوم عليه بأنه اليوم الأول من شوال، ثمّ بان أنه الثاني منه.

2- لو تركت الحائض الاستبراء عند احتمال انقطاع الدم، وصلّت ثمّ تبيّن كونها طاهرة.

3- لو اعتقد غصبية الثوب أو المكان وصلّى فيه ثمّ تبيّنت الإباحة.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

وتحقيق الحال في ذلك متوقّف على بيان ملاك عبادية العبادة.

والظاهر أنّها منوطة بحيثيتين:

إحداهما: مرتبطة بالعمل.

والثانية: مرتبطة بالعامل.

1- أمّا الحيثية الأولى: - المرتبطة بالعمل- فهي صلاحية العمل المأتي به للمقرّبية إلى المولى في حدّ ذاته.

فصوم يوم العيدين مبعد عن المولى، فلا يصلح للمقرّبية إليه.

والطواف بالثوب المغصوب مبعد عنه، فلا يصلح للمقرّبية إليه. وهكذا...

2- وأمّا الحيثية الثانية - المرتبطة بالعامل- فهي إضافة العامل العمل بنحو من أنحاء الإضافة.

والإضافة قد تتحقّق بنيّة امتثال أمر المولى، أو بنيّة التقرّب إليه، أو لكونه أهلاً للعبادة، أو لنحو ذلك.

ص: 291

بل تتحقّق أيضاً برجاء التقرّب، كما في موارد الاحتياط.

وبناءً على ذلك يكون الظاهر في المقام التفصيل حسب اختلاف المباني:

1- فعلى مبنى عدم الحرمة الشرعيّة للتجرّي مطلقاً.

فالظاهر: صحة العمل العبادي المتجرّى به، إذا تمشّى من العامل قصد القربة.

ولا فرق في ذلك بين القول باستحقاق المتجرّي للعقاب، أو عدم الاستحقاق.

إذ استحقاق العقاب على التجرّي لا يمنع من عبادية العمل، إذا تحقّقت الحيثيتان السابقتان.

2- على مبنى الحرمة الشرعية، وكون مركزها نفس العمل.

فالظاهر: بطلان العمل، لاختلال الشرط الأول؛ إذ المحرّم مبعد عن المولى، فلا يصلح أن يكون مقرّباً إليه.

3- على مبنى الحرمة الشرعيّة وكون مركزها النيّة.

فالظاهر صحّة العمل؛ إذ الحرمة لا تسري إلى نفس العمل، وتقف على العزم والنيّة، فلا يكون ثمّة قصور في صلاحية العمل للمقرّبية.

تذنيب:

قد يتساءل عن كيفية إمكان الجمع بين اعتقاد المتجرّي حرمة العمل وإضافته العمل إلى المولى؟

والظاهر أنه لا مانع من اجتماع الاعتقاد المزبور والإضافة المذكورة.

1- أمّا في صورة ثبوت الحرمة بالحجّة غير العلمية، فلاحتمال المتجرّي

ص: 292

خطأ الحجّة، فينوي التقرّب إلى اللّه تعالى، لاحتمال كون العمل عبادة واقعاً.

2- وأمّا في صورة ثبوت الحرمة بالقطع، فلأنّ كثيراً من العوام لا يلتفتون إلى الملازمة بين الحرمة والمبعدية، وبين الحرمة والبطلان، فهم يصلّون في الدار المغصوبة، مع علمهم بحرمة العمل، لجهلهم بكون الصلاة في الدار المغصوبة باطلة ومبعدة عن المولى، وإنّما يريدون بذلك إفراغ ذمّتهم من الأمر الإلهي المتوجّه إليهم.

وقد رأينا من يحجّ بالثياب المغصوبة، مع علمه بحرمة ذلك؛ لإفراغ ذمّته من الأمر الإلهي.

نعم، لو التفت المكلّف إلى كون العمل المحرّم مبعّداً عن المولى، فلا يمكنه أن ينوي التقرّب به إليه.

ص: 293

ص: 294

فصل في القطع الطريقي والموضوعي وفيه جهات من البحث

اشارة

ص: 295

ص: 296

الجهة الأولى : في انقسام القطع إلى الطريقي والموضوعي

اشارة

ينقسم القطع إلى قسمين:

1- القطع الطريقي

وهو القطع الذي لم يؤخذ - واقعاً- في موضوع الحكم(1) بل(2) كان مجرّد طريق إلى إثبات متعلّقه.

فيكون الحكم مترتّباً على نفس الموضوع بما هو هو، من دون أن يكون للقطع أيّة مدخلية في ترتّب الحكم(3).

ومن هنا: لا يقع القطع الطريقي وسطاً، ولا يطلق عليه الحجّة بالاصطلاح المنطقي، إذ «الحجة» في مصطلح المنطقيين: عبارة عن الوسط الذي يحتجّ به على ثبوت الأكبر للأصغر، كالتغيّر في قولنا: «العالم متغيّر، وكل متغيّر حادث، فالعالم حادث».

فإنّ (التغيّر): هو الوسط الذي يُحتج به لثبوت الحدوث للعالم في النتيجة، وبعبارة أخرى: هو الواسطة في إثبات الحدوث للعالم.

ص: 297


1- كما لم يؤخذ في محموله (منه (رحمه اللّه) ).
2- وقد يعرّف بأنه القطع الذي لم يؤخذ في موضوع الحكم... (منه (رحمه اللّه) ).
3- وإن كان له دخل في تنجيزه العقلي، كما سيأتي قريباً إن شاء اللّه تعالى (منه (رحمه اللّه) ).

أمّا القطع الطريقي فلا يقع وسطاً، مثلاً ليس من الصحيح أن يقال: هذا مقطوع البولية، ومقطوع البوليّة نجس؛ إذ الكبرى كاذبة؛ فإن الشارع لم يرتب النجاسة على مقطوع البوليّة، بل على نفس البول؛ ولذا لا يناط التنجيس بالبول المعلوم، بل بالبول الواقعي.

فلو لاقى الماء بولاً صار متنجساً، وإن لم يعلم المكلّف ببوليّته، فلو توضّأ بذلك الماء كان وضوؤه باطلاً، ولو صلّى بذلك الوضوء كانت صلاته باطلة؛ لأنّ الطهارة الحدثيّة شرط واقعي - في الصلاة- كما أنه ليس من الصحيح أن يقال(1):

هذا مقطوع الخمريّة، ومقطوع الخمرية حرام؛ إذ الكبرى كاذبة، لأنّ الشارع لم يحمل الحرمة على مقطوع الخمريّة، بل على الخمر بما هي هي، وبين (مقطوع الخمريّة) و(الخمر بما هي هي) عموم من وجه(2).

نعم للقطع الطريقي أثران:

أ- إثبات الموضوع، كإثبات كون هذا المائع خمراً.

فوزان القطع الطريقي وزان النور، فكما أنّ النور يكشف وجود الأشياء الخارجيّة المبصرة، كذلك القطع يكشف - عند القاطع- وجود موضوعات الاحكام الشرعيّة أو العقلية.

ب- تنجيز الحكم، فبدون القطع - أو مايقوم مقامه- لا تنجز للأحكام

ص: 298


1- المثال الأول مثال للحكم الوضعي، وهذا المثال مثال للحكم التكليفي (منه (رحمه اللّه) ).
2- ولو فرض كون «حرمة الخمر» بمعنى «حرمة مقطوع الخمريّة» كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مباحث التجري -كان القطع موضوعياً، لاطريقياً على ما هو المفروض في المقام- (منه (رحمه اللّه) ).

الإلهية، ولايستحق المكلف العقوبة على المخالفة، إلاّ أنّ القطع دخيل في التنجّز فقط، لا في أصل ثبوت الحكم (بما للحكم من مراتب: الاقتضاء والإنشاء والفعليّة).

فلو قطع بأنّ هذا خمر، وقطع بأن الخمر حرام، تنجزت الحرمة في حقّه، وإلاّ فلا(1).

هذا ولايخفى أنّ الغالب في الأحكام الشرعيّة المترتبة على الموضوعات الخارجيّة، أن يكون القطع فيها طريقيّاً لا موضوعياً.

2- القطع الموضوعي

وقد عُرف بتعريفين:

أ- أنّه ما اُخذ في دليل الحكم(2).

وفيه نظر؛ إذ الأخذ في الدليل قد يكون على وجه يستفاد منه - عرفاً أو بقرينة سائر الأدلة - الطريقية المحضة، فيكون الحكم معلقاً على «الموضوع الخارجي بما هو هو» لا «بما هو مقطوع به»، وإنما ذكر القطع في الدليل لكونه - مثلاً - أظهر الطرق التي يثبت بها الموضوع(3).

مثلاً: في قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}(4). أخذ «التبيّن» في الدليل، إلاّ أنه لا مدخليّة

ص: 299


1- إذا لم يكن مقصّراً في المقدمات (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الاصول 1: 30-31.
3- سيأتي الحديث حول ذلك مفصلاً إن شاء اللّه تعالى.
4- البقرة: 187.

له في الحكم، إذ الحكم معلّق على «طلوع الفجر واقعاً» لا على «تبيّن الطلوع»(1).

ومن هنا ذكر الفقهاء أنه لو فعل المفطر ثمّ ظهر سبق طلوع الفجر وجب عليه القضاء وان استثنيت بعض الموارد؛ للنص الخاص(2)، وسيأتي قريباً تتمة الكلام في هذا التعريف إن شاء اللّه تعالى.

ب- ما أُخذ في موضوع الحكم واقعاً، بحيث لولاه لما كان الحكم متحققاً، ومن هنا يقع القطع الموضوعي وسطاً، ويطلق عليه (الحجة).

والظاهر أنّ قول الشيخ (رحمه اللّه) : «انه لا يطلق عليه (الحجة)(3) يُراد به الحجّة بالمعنى الاُصولي لا بالمعنى المنطقي، فراجع.

ومثال القطع الموضوعي: أن (الحق المقطوع به يجوز القضاء به)، فجواز القضاء مترتب على (الحق المعلوم) لا على (الحقّ بوجوده الواقعي) وقد ورد في الحديث الشريف: «.... ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار»(4).

ص: 300


1- الفقه 35: 268.
2- العروة الوثقى 2: 135.
3- فرائد الاُصول 1: 30.
4- وسائل الشيعة 27: 22.

الجهة الثانية : في تقسيمات القطع الموضوعي

اشارة

قُسّم القطع الموضوعي إلى تقسيمات:

التقسيم الأول

اشارة

تقسيم القطع الموضوعي إلى وصفي، وكشفي.

الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من أنّ القطع الموضوعي ينقسم إلى قسمين:

1- ما أُخذ في الموضوع بنحو الصفتيّة(1).

2- ما أُخذ في الموضوع بنحو الكاشفيّة(2).

وبعبارة اُخرى: ينقسم القطع الموضوعي إلى قسمين:

1- القطع الموضوعي الوصفي.

2- القطع الموضوعي الكشفي.

وقد أوضح هذا التقسيم في الكفاية بقوله: «وذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة - ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره، صحّ أن يؤخذ بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة، بإلغاء جهة كشفه، أو

ص: 301


1- الأولى الوصفية، إذ النسبة ترد الأشياء إلى أُصولها (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الاُصول 1: 30-31.

اعتبار خصوصية اُخرى فيه معها، كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه»(1).

توضيحه: أنّ الصفات على ثلاثة انحاء:

1- الصفات غير الحقيقيّة، والمراد بكونها غير حقيقية، أنها لا وجود لها إلاّ في وعاء الاعتبار، فوجودها متقوم بالاعتبار، وزوالها متقوم بزوال الاعتبار أيضاً؛ وذلك كمفهوم الملكيّة (الاعتباريّة) مثلاً(2).

2- الصفات الحقيقية المحضة، والمراد بكونها محضة، أنّها غير متقوّمة بإضافتها إلى متعلّق، وذلك كالكيفيات المحسوسة التي لا تحتاج في وجودها إلاّ إلى وجود الموضوع فقط، كالبياض مثلاً، وكالكيفيات النفسانيّة(3) القائمة بالنفس التي لا تحتاج في تحققها - وراء وجود موضوعها - إلى إضافتها إلى شيء آخر، كالشجاعة مثلاً.

3- الصفات الحقيقية ذات الإضافة، وهي الصفات المتأصلة المحتاجة في وجودها إلى المتعلق، مضافاً إلى حاجتها إلى الموضوع، وذلك كالقطع - مثلاً - فإنّه صفة متأصلة ذات إضافة، فهو محتاج في وجوده إلى المتعلق (أي المقطوع به) كما هو محتاج في وجوده إلى الموضوع (أي نفس

ص: 302


1- كفاية الأصول: 263.
2- لا يخفى أنه قد يراد ب- «الصفات غير الحقيقية»: الصفات التي لا تأصل لها، أي ليس لها ما بإزاء في الخارج، وبهذا تعم: الأمور الإعتباريّة (كالملكية)، والأمور الإنتزاعيّة التي يكون وجودها بوجود منشأ إنتزاعها، كالزوجيّة - في قبال الفرديّة- مثلاً، فلاحظ (منه (رحمه اللّه) ).
3- أو: النفسيّة (منه (رحمه اللّه) ).

القاطع) وبناءً على ذلك يكون للعلم جهتان:

1- جهة كونه صفة حقيقيّة قائمة بالنفس، فيكون وزانه في ذلك وزان بقية الصفات النفسانيّة، كالجود، والشجاعة، ونحوهما.

2- جهة كونه متعلّقاً بالغير، وكاشفاً عنه، وحاكياً عنه، ومرآة له، فيكون طريقاً إلى إحراز متعلّقه.

فإن أُخذ القطع في الموضوع بلحاظ الجهة الأولى كان «قطعاً موضوعياً وصفياً»، وإن أخذ فيه بلحاظ الجهة الثانية كان «قطعاً موضوعياً كشفياً»، وهاتان الجهتان وإن لم يمكن انفكاكهما عن العلم، ولا انفكاك أحداهما عن الأخرى، لكنّ الملحوظ في نظر جاعل الحكم قد يكون هذه الجهة (أي العلم بما هو صفة) وقد يكون الأُخرى (أي العلم بما هو كاشف).

وعلى هذا يكون مراد الكفاية «بإلغاء جهة كشف القطع» عدم لحاظ هذه الجهة، وإلاّ فالكاشفيّة ذاتيّة للعلم، فكيف يعقل إلغاؤها وسلبها عنه؟

قال في النهاية: «انّ إحدى الجهتين فيه وإن لم تنفك عن الاُخرى، لكن للحاكم لحاظ إحدى الجهتين واعتبارها في حكمه دون الاُخرى، فالتفكيك في وعاء الاعتبار لا دخل له بالتفكيك في حقيقته»(1).

ولتقريب الذهن نذكر المثالين الآتيين:

الأول: لو كانت زوجة الإنسان رحماً له، تجتمع في هذه الزوجة حيثيتان: حيثيّة الزوجية وحيثيّة الرحميّة، فقد تترتّب بعض الأحكام عليها بلحاظ الحيثيّة الأُولى، كوجوب النفقة مثلاً، وقد تترتب بعض الأحكام عليها

ص: 303


1- نهاية الدراية 3: 46.

بلحاظ الحيثية الثانية كحرمة قطعها.

مثال آخر: الوجود والماهيّة - في الممكنات - لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلاّ إنّ بعض الأحكام تترتّب على الممكنات بما لها من الحيثيّة الوجوديّة، وبعضها تترتب عليها بما لها من الحيثيّة الماهويّة، إلى غير ذلك من الأمثلة.

الإشكال في القطع الموضوعي الوصفي

هذا ولكن أشكل في النهاية(1) في القطع الموضوعي الوصفي، وتوضيح الإشكال: إنّ في القطع حيثيتين:

1- حيثيّة ما به الاشتراك مع سائر الاعراض.

2- حيثيّة ما به الامتياز عن سائر الاعراض.

فالبحث يقع في مقامين:

المقام الأول: أن تلحظ حيثيّة مابه الاشتراك، ويجعل القطع موضوعاً بلحاظ إحدى الحيثيّات المشتركة، والمحذور في هذا اللحاظ: مشاركة سائر الأعراض مع القطع في الموضوعيّة؛ إذ العلّة تعم، وكون الفرد مصداقاً لكلي يقوم به الملاك ترجيح بلا مرجح، وهو - على مختار جمع - محال، لأوله إلى الترجُّح بلا مرجح، وهو مساوق لوجود المعلول بلا وجود علته.

فلنلاحظ الحيثّيات الموجودة في القطع، والتي يشترك بها مع سائر الأعراض:

ص: 304


1- نهاية الدراية 3: 46-48.

1- فمنها: أنّه عرض، فلو جعل موضوعا بهذا اللحاظ لشاركته في الموضوعيّة جميع الأعراض (الكم - الكيف - الإضافة - الأين - المتى - الوضع - الجدة - الفعل - الإنفعال).

2- ومنها: أنّه من مقولة الكيف، فتشاركه - عليه - جميع أنواع مقولة الكيف (الكيفّيات المختصّة بالكمّيات - الكيفيّات النفسانّية - الكيفيّات الاستعدادّية - الكيفيّات المحسوسة).

3- ومنها: أنّه من نوع الكيف المختص بذوات الأنفس (الكيفيّات النفسانّية) فتشاركه - عليه - سائر الكيفيات القائمة بالأنفس (كالشجاعة، والجود، والحياة).

4- ومنها: أنّه كيف نفساني له إضافة إلى طرفه إضافة اشراقية، فحينئذ يشاركه: الظن، والاحتمال، بل التصور المحض ايضاً.

5- ومنها: انّه كاشف كشفا تصديقياً عن متعلقة، وحينئذ فيشاركه خصوص الظن.

فإن أريد بأخذ القطع من حيث كونه صفة من الصفات القائمة بالشخص أخذه من إحدى الجهات المزبورة، لزم الاشتراك، ولايمكن المصير إليه.

مثاله: أنّه لو جعل الخمر العنبي موضوعا لحكم شرعي - كالحرمة - بلحاظ جهة مشتركة - كالاسكار - فإن ما توفرت فيه تلك الجهة - كالخمر التمري - يشترك معه في الحكم.

المقام الثاني: أن تلحظ حيثية ما به الامتياز، ويجعل القطع موضوعاً بلحاظ تلك الحيثية المختصة، وهذه الحيثية هي «الكشف التام عن متعلقه»

ص: 305

بحيث لا يبقى بينه وبين المعلوم حجاب.

وهذا هو الذي يكون به القطع قطعاً لأن حقيقة النوع بفصله الأخير، كما قرر في محله.

وحينئذ نقول: انّه لا يعقل حفظ القطع بمرتبته الأخيرة - التي بها يكون هو هو - ومع ذلك لا تلاحظ جهة كشفه التام؛ لأن حفظ الشيء مع قطع النظر عما به هو هو محال، كحفظ الإنسان مع قطع النظر عن إنسانيته.

كما لو قلنا: اننا نجعل الإنسان موضوعاً للحكم الكذائي بقطع النظر عن إنسانيته، أو حيوانيّته، أو ناطقيّته.

فإن في ذلك جمعاً بين المتناقضين؛ إذ لحاظ الانسان موضوعاً مساوٍ للحاظ إنسانيته وحيوانيّته وناطقيّته، فقطع النظر عنها معناه الجمع بين لحاظ الشيء وقطع النظر عن لحاظه.

الخلاصة: انّه لو لوحظ القطع بما هو وصف لزم اشتراك جميع الأعراض الأخرى معه في الموضوعّية.

إعادة النظر في انقسام القطع الموضوعي إلى الوصفي والكشفي

وحينئذ يجب إعادة النظر في تقسيم القطع الموضوعي إلى: الوصفي، والكشفي، إما بإنكار التقسيم، أو بتوجيهه، أو بطرح تقسيم بديل.

وقد ذكرت هنا وجوه:

الوجه الأول

ما ذكره في النهاية، حيث قال: «الأولى أن يقال: إن مراد الشيخ الأجّل (رحمه اللّه) من التقسيم أن المأخوذ في القضيّة اللفظّية تارةً: طريق محض لبّاً، وأخرى

ص: 306

جزء الموضوع حقيقة، فليس للعلم الموضوعي حقيقة إلاّ قسم واحد»(1).

وتوضيح هذا الجواب يتلخص في نقاط:

1- اختيار التعريف الأول من تعريفي «القطع الموضوعي» أي (ما اخذ في دليل الحكم) لا (ما أخذ في موضوع الحكم واقعاً).

وعلى ذلك فكلما ذكر في دليل الحكم (القطع) أو (العلم) أو (التبيّن) أو (اليقين) ونحو ذلك، يكون القطع فيه قطعا موضوعيا، وكلما لم يذكر فيه ذلك يكون القطع قطعاً طريقيّاً.

2- تقسيم القطع الموضوعي إلى:

أ- قطع موضوعي(2) طريقي(3) : وهو ما ذكر في الدليل (القطع) لكن لم يكن القطع دخيلاً واقعاً في موضوع الحكم. كما في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ...}(4).

فإن القطع فيه (موضوعي) لأخذه في دليل الحكم لفظا، و(طريقي) لعدم أخذه في موضوع الحكم واقعاً؛ إذ الملاك (طلوع الفجر) لا (تبيّن طلوع الفجر)(5).

ب- وقطع موضوعي حقيقي: وهو ما ذكر القطع في دليل الحكم،

ص: 307


1- نهاية الدراية 3: 50.
2- أي ظاهراً ولفظاً (منه (رحمه اللّه) ).
3- أي واقعاً ولباً (منه (رحمه اللّه) ).
4- البقرة: 187.
5- سبقت الإشارة إلى هذا المثال والمثال الذي يليه فلاحظ (منه (رحمه اللّه) ).

وكان دخيلاً واقعاً في موضوعه، مثل «جواز القضاء بالحق المعلوم».

فإن القطع فيه (موضوعي) لعين ما سبق و(حقيقي) لإناطة مشروعية القضاء ب- (العلم بالحق) - ولو على نحو جزء العلّة - فمع انتفاء (العلم) تنتفي المشروعية.

3- ارجاع القطع الموضوعي الطريقي(1) إلى القطع الطريقي بحسب الواقع.

4- انكار انقسام القطع الموضوعي الحقيقي إلى: وصفي وكشفي، بل ليس له إلاّ قسم واحد.

وبناءً على ذلك يكون القطع على ثلاثة أنواع:

1- القطع الطريقي، كما في «البول نجس».

2- القطع الموضوعي الطريقي، كما في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ...}(2).

3- القطع الموضوعي الحقيقي - كما في قوله (عليه السلام) : «القضاة أربعة..»(3).

وحيث إن مآل الثاني إلى الأول تكون الأقسام في الواقع اثنين فقط.

ثم قال: «ويؤيّده ما حكى عن بعض نسخ الكتاب بعد الفراغ عن حكم الشق الأول من القطع الموضوعي ما لفظه: (ويظهر ذلك إمّا بحكم العقل بكون العلم طريقاً محضاً، وإما بوجود الأدلّة الأُخر على كون هذا الحكم

ص: 308


1- وهو المسمّى بالموضوعي الكشفي (منه (رحمه اللّه) ).
2- البقرة: 187.
3- وسائل الشيعة 27: 22.

المنوط بالعلم ظاهراً معلّقاً على نفس المعلوم، كما في غالب الموارد)»(1).

أقول: هذا التقسيم الثلاثي إنّما يتمُّ لو لم نستطع تصوير انقسام القطع الموضوعي الحقيقي إلى قسمين:

1- القطع الموضوعي الحقيقي الوصفي.

2- القطع الموضوعي الحقيقي الكشفي.

وإلاّ كانت الأقسام أربعة.

وسوف تأتي- إن شاء اللّه تعالى - بعض الوجوه في تصوير هذا الانقسام.

الوجه الثاني

ما ذكره في المنتقى بقوله: إن أخذ القطع بما هو صفة يكون بطورين:

أحدهما: يرجع إلى إلغاء جهة كشفه.

والآخر: يرجع إلى اخذ خصوصية اُخرى فيه، مضافاً إلى جهة كشفه، فأخذ القطع موضوعاً بنحو الصفتية بالطور الأول غير صحيح.

نعم، أخذه بالطور الثاني لا مانع منه بأن تلحظ في القطع مع جهة حكايته وكاشفيتّه عن متعلقة خصوصية أُخرى فيه، كخصوصية ركون النفس واستقرارها بالنحو الخاص الملازمة للقطع؛ إذ هي من آثار القطع بشيء ولا تترتّب على غيره(2).

وتوضيح ذلك: أنّ في القطع خصوصيات وجوديّة وعدميّة مترتّبة عليه: فالخصوصيات الوجوديّة: مثل سكون النفس واستقرارها وطمأنينتها.

ص: 309


1- نهاية الدراية 3: 50.
2- منتقى الاصول 4: 68-69.

والخصوصيات العدميّة: مثل طرد الهمّ والقلق والاضطراب.

فالجاعل إن لاحظ في القطع كاشفيّته الذاتيّة عن متعلّقة، واعتبره موضوعاً بهذا اللحاظ كان القطع (قطعاً موضوعيّاً كشفيّاً)، كما قد يقال ذلك في (...ورجل قضى بالحق...)(1)

وإن لاحظ فيه - مضافاً اليها - هذه الخصوصيّات كان القطع (قطعاً موضوعياً وصفيّاً).

مثلاً: لو ابتلي شخص بفقدان ولده، وخشي على سلامته وأصيب بالهم والقلق والاضطّراب لذلك، فنذر أنّه لو قطع بحياة ولده - بما يلازم ذلك القطع من زوال الهمّ والقّلقّ والاضطّراب - فإنّه يتصدّق بدينار، فإنّ هذا القطع يكون (قطعاً موضوعياً وصفيا). ويترتب على ذلك - مثلاً - أنّه قد يقال بعدم قيام الامارات والاصول مقام القطع الموضوعي الوصفي في الأثر، فلو قامت البينة على حياة ولده، ولم يحصل له القطع الوجداني بذلك لا يجب عليه أن يتصدّق بدينار؛ لعدم تحقق الموضوع، وهذا بخلاف القطع الموضوعي الكشفي.

وسيأتي بيان ذلك - مع ما فيه من النقض والإبرام - في الجهة الثالثة، إن شاء اللّه تعالى(2).

ولا يخفى أن مآل هذا الوجه إلى التسليم بإشكال استحالة إلغاء جهة الكشف في «القطع الموضوعي الوصفي» وتوجيه التقسيم بأنه قد تلحظ جهة «كون النفس» مثلاً في القطع - مضافاً إلى جهة الكشف - فيكون

ص: 310


1- وسائل الشيعة 27: 22.
2- راجع الصفحة 329.

«قطعاً موضوعيّاً وصفيّاً» وقد لاتلحظ فيه إلاّ جهة الكشف فيكون «قطعاً موضوعياً كشفياً».

الوجه الثالث

الوجه الثالث(1)

ماذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) (2)،

وبيانه:

أن في القطع حيثيتين:

أحدهما: مرتبطة ب- «الصورة» - التي هي المعلوم بالذات -.

والأخرى: مرتبطة ب- «ذي الصورة» - الذي هو المعلوم بالعرض -.

فيمكن أن يؤخذ القطع من الجهة الأولى موضوعاً للحكم، وهو المراد من أخذه فيه على نحو «الصفتية».

ويمكن أن يؤخذ من الجهة الثانية موضوعاً للحكم، وهو المراد من أخذه فيه على نحو «الطريقية والكاشفية».

وبيان ذلك: أن وزان العلم وزان النور الحسّي، فإن النور الحسّي له جهتان:

جهة الظهور الذاتي، حيث انّه ظاهر بذاته، ولا يحتاج إلى شيء آخر في ظهوره.

وجهة الإظهار العرضي، حيث انّه يظهر الحقائق الخارجية المحسوسة، [وكذلك العلم له جهتان:

ص: 311


1- لعل الفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين: ان النظر فيها إلى «المعلوم بالذات» بينما النظر فيه إلى «الذي هو المعلوم بالعرض»، فتأمل (منه (رحمه اللّه) ).
2- فوائد الاصول 3: 11.

جهة أنّه نور قائم بنفس العالم، ظاهر بنفسه، من دون أن يحتاج في ظهوره للعالم إلى صورة علميّة اُخرى تظهره وتجليّه.

وجهة انّه مظهر للحقائق الخارجيّة، وكاشف لها، فلو أخذ في الموضوع بالاعتبار الأول كان «موضوعيّاً صفتّياً» ولو اُخذ فيه الموضوع بالاعتبار الثاني كان «موضوعيّاً كشفيّاً».

وقد أورد عليه في النهاية: بأن هذا اللحاظ لحاظ كون القطع تمام الموضوع، أو جزءه، لا لحاظ الصفتية والكاشفية(1).

وتوضيحه: أنّنا إذا لاحظنا في القطع جهة الصورة (أي المعلوم بالذات) واعتبرنا بهذا اللحاظ موضوعاً، كان ذلك مساوقاً لأخذ القطع تمام الموضوع.

وإذا لاحظنا فيه جهة كاشفيّة هذه الصورة عن ذي الصورة( الذي هو المعلوم بالعرض) واعتبرنا القطع بهذا اللحاظ موضوعاً، كان ذلك مساوقاً لأخذ القطع جزء الموضوع. فبينما كان المحقّق النائيني يريد بيان: الصفتيّة والكاشفية، فإذا به يبيّن التماميّة والجزئيّة. وفيه:

أولاً: أما بالنسبة إلى القطع الموضوعي الكشفي، فإنّ لحاظ صفة في موضوع حكم لايستلزم تقيّد الحكم بوجود تلك الصفة؛ وذلك لأن الصفة ان لوحظت على نحو (العلّة) دار مدارها الحكم وجوداً وعدماً، مثل: إن ضرب اليتيم - باعتبار اتصافه بكونه ظلماً - قبيح عقلاً.

ص: 312


1- نهاية الدراية 3: 49-50.

وإن لوحظت على نحو (الحكمة) فلا دوران.

وبعبارة اُخرى: العلّة قد تكون علّة للمجعول، وهنا يُرتهن الحكم بها في وجوده وعدمه، وقد تكون علّة للجعل، وهنا لا يُرتهن بها فيهما. مثل أنّ الخمر - باعتبار اتّصافها بكونه مسكر(1) - محرّمة، وهذا التحريم ثابت حتّى لو لم تتّصف بالإسكار - كقطرة من الخمر مثلاً -. ومثل ذلك كثير في الاحكام الشرعية(2).

وحينئذ نقول: ان لحاظ الكاشفيّة في القطع الموضوعي لا يستلزم تقيد الحكم بالكشف، بل هو (لا بشرط) بلحاظ ذلك؛ ولذا يمكن أن يقيد بالمطابقة، أو يطلق بلحاظها، فاللحاظ الطريقي الكشفي في القطع الموضوعي لايساوق كون القطع جزء الموضوع، بل يمكن أن يكون تمامه أيضاً.

وبعبارة اُخرى: لحاظ الكشف علّة للجعل لا للمجعول، فتخلف الكشف لا يضر بكونه ملاحظاً.

وثانياً: واما بالنسبة إلى القطع الموضوعي الوصفي، فاللحاظ الوصفي لايستلزم كون الموضوع (بشرط لا) بلحاظ المطابقة، بل قد تعتبر معه المطابقة، وقد يطلق بلحاظها، وعلى هذا فلا يساوق لحاظ القطع صفة كونه تمام الموضوع بل أن يكون جزءه ايضاً؛ وذلك بأن يلاحظ أنّ الظهور الذاتي للصورة العلميّة دخيل في ترتب الحكم، لكن لا على نحو العلّة

ص: 313


1- كما يستفاد ذلك من العلل المذكورة في الأخبار الشريفة، راجع كتاب علل الشرائع 2: 476 (منه (رحمه اللّه) ).
2- كما يظهر ذلك لمن راجع كتاب (علل الشرائع) (منه (رحمه اللّه) ).

التامة، بل بشرط مطابقة هذه الصورة للواقعيّة العينيّة الخارجيّة.

ثمّ إنّ للنهاية كلاما في تتمّة نقد ماذكره المحقّق النائيني، سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

الوجه الرابع

ماذكره الحائري (رحمه اللّه) في درر الفوائد، ومؤدّاه(1):

أن القطع الموضوعي يمكن أن يلاحظ بنحوين:

النحو الأول: أن يلاحظ من حيث انّه كاشف تامّ عن الواقع، وهذه هي جهة امتياز القطع عن غيره من الأمارات والطرق والاُصول العمليّة المحرزة؛ إذ أنها وإن كانت كاشفة عن الواقع؛ إلاّ أنّ كشفها كشف ناقص، بخلاف القطع.

النحو الثاني: أن يلاحظ من حيث انّه مصداق من مصاديق الطريق المعتبر.

وبعبارة اُخرى: أن يلاحظ الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة، وهو «مطلق ثبوت الشيء» الشامل للثبوت الوجداني والتعبدي، وهذه هي جهة اشتراكٍ بين القطع وغيره.

فإن لوحظ القطع الموضوعي بالنحو الأول، كان صفتياً، وإن لوحظ بالنحو الثاني، كان طريقيا (أو كشفيا).

وثمرة ذلك: عدم قيام سائر الامارات مقام القطع بواسطة الأدلة العامة؛

ص: 314


1- درر الفوائد: 330.

لحجيتها إن اخذ على النحو الأول، وقيامها مقامه إن اخذ على النحو الثاني.

وأورد عليه في النهاية: بأن الظاهر تقسيم العلم بنفسه - ولو بلحاظ حيثيّاته الذاتيّة - وهذا تقسيم بلحاظ حكمه، وهو اعتباره عقلاً(1).

وفيه: أولاً: انّه يمكن إرجاعه إلى التقسيم الموضوعي(2)، بأن يقال انّ في القطع جهتين: جهة أصل الكشف - وهي بمثابة الجنس - وجهة تماميّة الكشف - وهي بمثابة الفصل - فإن لوحظت الجهة الأولى كان القطع كشفيّا، وان لوحظت الجهة الثانية كان القطع وصفيا.

وثانيا: ان نحو التقسيم تابع للغرض، فقد يتعلق الغرض بتقسيم الموضوع بلحاظ نفسه، وقد يتعلق بتقسيمه بلحاظ حكمه.

مثال الأول: قولنا (الماء: إما مطلق أو مضاف) و(الماء المطلق: إما قليل، أو كر، أو ماء مطر...الخ).

ومثال الثاني: قولنا (الماء نوعان: ماينفعل بالملاقاة، وما لاينفعل).

وعليه: فلا مانع من كلا النحوين من التقسيم، والاستظهار المذكور لم يظهر له وجه فتأمل.

والحاصل: إنه هل يوجد في الشرعيات مصداق للقطع الموضوعي الوصفي أم لا؟

ومحل الكلام: القطع الوصفي المأخوذ موضوعاً من قبل الشارع ابتداءاً،

ص: 315


1- نهاية الدراية 3: 47.
2- أي بلحاظ الموضوع (منه (رحمه اللّه) ).

واما القطع الوصفي المأخوذ من قبل المكلّف موضوعاً لحكم، مع إمضاء الشارع لذلك، فلاشك في وجوده، وقد سبق التمثيل له بالنذر.

وقد ذكر المحقق النائيني (رحمه اللّه) - على ما في الفوائد- : «اننا لم نعثر في الفقه على مورد اخذ العلم فيه موضوعا على وجه الصفتيّة»(1).

وفي أجود التقريرات: «الظاهر عدم وجوده في الشرعيات»(2).

ثم ذكر (رحمه اللّه) توهمين:

الأول: توهم كون القطع المأخوذ في موضوع جواز الشهادة موضوعيا وصفيا.

الثاني: توهّم كون القطع المأخوذ في موضوع صحة الركعتين الاوليّين كذلك.

وأجاب عن ذلك: بأنّ قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في باب الشهادة «بمثل هذا فاشهد أو دع»(3).

ظاهرفي كون القطع مأخوذاً من جهة كشفه عن الواقع، كانكشاف الشمس في النهار، لابما أنّه صفة.

وبعبارة اُخرى: الوضوح هو المأخوذ، لا الصفتيّة(4).

ص: 316


1- فوائد الاصول 3: 26.
2- أجود التقريرات 2: 14.
3- وسائل الشيعة 27: 342، والموجود في الحديث «على مثلها فاشهد أودع».
4- وقد يقرر ذلك: بأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك؛ إذ الملاك ثبوت المشهود به، وذلك يقتضي اخذ القطع بما هو كاشف لا بما هو صفة في الموضوع، فتأمل (منه (رحمه اللّه) ).

وأمّا أدلّة اعتبار اليقين في الركعتين الأوليين، فبعضها وإن كان مشتملاً على لفظ (اليقين) إلاّ أنّ الموجود في البقيّة هو لفظ (الإثبات) و(الإحراز)، وظاهرهما هو كونه مأخوذاً فيه بما أنّه كاشف لا بما انّه صفة خاصة(1).

أقول: ولو فرض الشكّ في كونه مأخوذاً على نحو (الكاشفيّة) أو (الصفتيّة) كفى؛ إذ يظلّ القطع مردّداً بينهما، فلا يكون لدينا مثال يقيني للقطع الموضوعي الوصفي.

التقسيم الثاني

اشارة

تقسيم القطع الموضوعي إلى تمام الموضوع وجزء الموضوع.

وهو ما ذكره في الكفاية(2)

من أن القطع الموضوعي ينقسم إلى قسمين:

1- ما كان تمام الموضوع.

2- ما كان جزء الموضوع.

وبضرب هذا التقسيم بالتقسيم الثنائي الأول يكون مجموع الأقسام أربعة.

مضافاً إلى: القطع الطريقي المحض(3)

وبيان ذلك:

1- أن العلم قد يكون تمام الموضوع، ا ي يدور الحكم مدار العلم وجوداً وعدما، فالأثر مرتب على القطع - سواء صادف الواقع أو خالفه -

ص: 317


1- أجود التقريرات 2: 14-15.
2- وقد ينسب ذلك إلى الشيخ الأعظم أيضاً (منه (رحمه اللّه) ).
3- كفاية الاصول: 263.

ولا مدخلية للواقع ا لمكشوف بالقطع في الحكم مطلقاً.

مثاله:

أ- لو نذر أن يتصدق بدرهم لو قطع بحياة ولده - سواء كان قطعه مخالفاً للواقع أو مطابقاً -.

ب- حكم العقل بوجوب الإتيان بما قطع انّه متعلق أمر المولى؛ إذ ليس موضوع الحكم العقلي: المتعلق الواقعي؛ إذ ما لم يبلغ المكلف لا يحكم العقل بوجوب امتثاله، ولا المقطوع بكونه متعلقا، مع كونه في الواقع كذلك؛ إذ العقل بمجرد القطع بكون شيء متعلقاً لأمر المولى يحكم بوجوب الإتيان به.

نعم، القاطع يقطع أن قطعه مطابق للواقع، وان الواقع هو الذي يحركه، لكن الأثر اثر القطع - على مامضى في بداية مباحث القطع.

نعم: إذا انكشف الخلاف ينقلب الموضوع (أي ما قطع بكونه متعلقاً) فيرتفع الحكم العقلي بارتفاع موضوعه، فموضوع الوجوب العقلي - اذاً - (مقطوع المتعلقية) لا غير.

2- وقد يكون العلم جزء الموضوع؛ وذلك بأن يكون العلم جزءاً، ويكون للواقع المنكشف بالقطع دخل في ثبوت الحكم ايضا، فيكون الموضوع مركباً من (العلم) و(الواقع) وينتفي - قهراً - بانتفاء احدهّما.

ومثاله:

أ- أن مشروعيّة القضاء مرتّبة على (الواقع المعلوم) فإن انتفى العلم انتفت

ص: 318

المشروعية - ولذا ورد «وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار»(1). وإن انتفى الواقع انتفت المشروعيّة - وإن كان معذوراً في عمله في صورة عدم التقصير في المقدمات؛ إذ الحرمة الواقعيّة لا تنافي معذورية المكلف، كما أن من شرب الخمر جاهلاً بكونها خمراً فقد فعل محرماً وإن كان معذوراً في عمله -.

ب- أن العلم بالركعات مأخوذ في صحة الصلاة الثنائيّة، والثلاثيّة، والأولّيين من الرباعية، فلو شك في الركعات ولم يحصل له القطع(2) وأتم الصلاة شاكاً رجاءاً، ثم انكشف انّه أتى بالواقع، كانت صلاته باطلة؛ لكون العلم بها حال أدائها مأخوذاً في الحكم بصحتها - على ماذكره بعض الفقهاء(3) - .

ولو شك، فتروّى، فحصل له العلم، ثم بان أنّه زاد ركعة أو نقص ركعة، كانت صلاته باطلة ايضاً، فالعلم مأخوذ في الموضوع جزءاً، والواقع مأخوذ فيه كجزء ثانٍ.

الإشكال في القطع الموضوعي الكشفي المأخوذ على نحو تمام الموضوع

وقد أشكل المحقق النائيني (رحمه اللّه) في إمكان قسم واحد من الأقسام الأربعة وهو (القطع الكشفي المأخوذ على نحو تمام الموضوع) وقد يعبرَّ عن ذلك ب- (أخذ القطع تمام الموضوع على نحو الطريقية). بل قال: الظاهر

ص: 319


1- وسائل الشيعة 27: 22.
2- وقد دلّت الأدلة على قيام الظن مقام القطع على ما قرر في الفقه (منه (رحمه اللّه) ).
3- هذا الوجه ذكر في أكثر الكتب الفقهية، راجع مستمسك العروة الوثقى 7: 492.

أنّه لايمكن(1).

وفي أجود التقريرات: أنّه يستحيل ذلك(2).

ولتقرير الاشكال ثلاثة وجوه:

1- اجتماع لحاظ الشيء مع عدم لحاظه.

2- اجتماع مدخلية الشيء في الحكم مع عدم مدخليته.

3- اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي.

وقد ذكر الأول في الفوائد(3) والثاني في أجود التقريرات(4) وتبعه في المصباح(5) والثالث في المنتقى والمحصول.(6)

1- اجتماع لحاظ الشيء مع عدم لحاظه

وبيان ذلك: أن اخذ القطع تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه، وأخذه على وجه الطريقيةيستدعي لحاظ الواقع، وذي الصورة، وذي الطريق، ويكون النظر - حينئذ - في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالقطع - كما هو الشأن في كل طريق - حيث انّ لحاظه يكون لحاظاً لذي الطريق، فأخذ القطع تمام الموضوع لا يمكن إلاّ بأخذه على

ص: 320


1- فوائد الاصول 3: 11.
2- أجود التقريرات 3: 17.
3- فوائد الاصول 3: 11.
4- أجود التقريرات 3: 17.
5- مصباح الاصول 2: 33-34.
6- المحصول 3: 49.

وجه الصفتيّة.

2- اجتماع مدخلية الشيء في الحكم وعدم مدخليته

وبيان ذلك: أن معنى كون القطع تمام الموضوع: أنّه لا دخل للواقع في الحكم أصلاً، بل الحكم مترتب على نفس القطع، ولو كان مخالفاً للواقع، ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقية أن للواقع دخلاً في الحكم، وقد أُخذ القطع طريقاً إليه، فيكون الجمع بين أخذه في الموضوع بنحو الطريقية وكونه تمام الموضع من قبيل الجمع بين المتناقضين(1).

وخلاصة المحذور: استلزام ذلك مدخلية الواقع في الحكم وعدم مدخليته.

3- اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي

وبيان ذلك: أن اخذ القطع تمام الموضوع يدل على كونه ملحوظا استقلالاً، وأخذه طريقا إلى الواقع يدل على كونه ملحوظاً آلياً، فيلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين(2).

وبتعبير آخر الطريقية تستدعي أن يكون القطع ملحوظاً آليا غير استقلالي، بل الملحوظ استقلالياً هو الواقع المقطوع به، وأخذه تمام الموضوع يستدعي لحاظ القطع استقلالياً غير آلي، وهذان اللحاظان لا يجتمعان.

ص: 321


1- مصباح الاصول 2: 33-34.
2- المحصول 3 : 49.

وبتعبير ثالث النظر الاستقلالي في القطع الطريقي يتعلق بمتعلقه، وبالواقع المنكشف به، وبذي الطريق، وأما القطع فهو مغفول عنه وملحوظ مرآة للغير - شأن كل كاشف وطريق - وأخذه في تمام الموضوع يلازم غض النظر عن الواقع، وملاحظته القطع مستقلاً، وهذا خلف(1).

حل الإشكال:

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: ما في المنتقى من «أن التعليل عليل، وهو ناشٍ من الخلط بين مقام الجعل، ومقام تعلّق القطع بشيء، بيان ذلك: إن من ينظر إلى الكتاب بواسطة نظارته يغفل عن نظارته، وإنما نظره المستقل متعلّق بالكتاب الذي جعل النظارة طريقاً إليه، ولكنّ الشخص الذي ينظر إلى هذا النّاظر ويرى كاشفيّة وآلية النظارة، يستطيع أن يتعلّق نظره مستقلاً وغرضه بالنظارة ذاتها من دون أن يكون للكتاب أيّ دخل فيه.

وفي ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن من يتعلق نظره الاستقلالي بالمقطوع، ويغفل عن القطع، هو القاطع نفسه؛ إذ كون القطع طريقاً لديه يلازم لحاظه آلة وبنحو المرآتيّة، أما الجاعل الذي يريد أن يجعل حكما على هذا القطع له أن يقصر نظره على القطع، بمعنى انّه يرتب الحكم على القطع بلحاظ كشفه، لكن من دون أن يكون لوجود المتعلق في الخارج أي اثر لتمكنه من لحاظ القطع بنحو الاستقلال لا الآليّة والمرآتيّة، نظير من

ص: 322


1- منتقى الاصول4: 69-70.

ينظر إلى المرآة، لا ليرى صورته بها، بل ليرى جودتها وجنسها. فظهر لك الخلط بين المقامين.

وعلى هذا، فلا مانع من اخذ القطع بنحو الطريقية تمام الموضوع، بأن لا يكون للمصادفة أي دخل في ثبوت الحكم»(1).

وبتعبير آخر: القطع الطريقي عند المكلف موضوعي عند الشارع.

وبتعبير ثالث: إن الامتناع إنّما يلزم لو جعل الجاعل قطعه الطريقي تمام الموضوع لحكم، وأما لو جعل قطع الغير - الذي هو طريق - تمام الموضوع لحكمه، فلا يلزم ما ذكر.

هذا، ولكن هذا الجواب يدفع الإشكال في بعض بياناته - وهو البيان الثالث - ويبقى الإشكال في بيانية الأولين.

ويمكن دفعه بأن الواقع المكشوف بالقطع ملحوظ ودخيل لكن على نحو الحكمة لا العلّة.

توضيح ذلك: ان المولى لاحظ القطع باعتبار كونه كاشفا عن الواقع، وجعل القطع بهذا اللحاظ موضوعا، إلاّ أن الكاشفيّة لم تلحظ على نحو العلّة حتى يدور الحكم مدارها وجوداً وعدما، بل على نحو الحكمة، والحكمة لا تكون دخيلة في الموضوع، وإن كانت دخيلة في أصل التشريع، فالاسكار ليس دخيلاً في موضوع حرمة الخمر، بل تمام الموضوع ذات الخمر، والتقوى ليست دخيلة في موضوع وجوب الصيام، وان كانت

ص: 323


1- منتقى الاصول 4: 70.

حكمة التشريع الوجوب وفساد الأموال ليس دخيلاً في حرمة الربا، وإن كان علّة للجعل، وتوقّي الاصطدام ليس مأخوذاً في موضوع وجوب التقيّد بالإشارات المروريّة، وإن كان داعيا إلى جعل القانون لدى المشرع الوضعي... وهكذا في سائر الأمثلة.

وعليه: فيكون القطع تمام الموضوع، وإن كان أخذه فيه باعتبار طريقيته إلى الواقع، وقد سبق بعض الكلام في ذلك.

الوجه الثاني: ماذكره في النهاية، وهو: أن الإضافة المقولية إلى ما في الخارج ليست من لوازم العلم؛ لإمكان العلم، ولامعلوم في الخارج، والإضافة الاشراقيّة مقومة لها، وطرفها ماهيّة المعلوم في أفق النفس فقط(1).

وتوضيحه: أن الإضافة نوعان:

1- الإضافة المقوليّة.

2- الإضافة الاشراقيّة.

أما الإضافة المقوليّة: فهي النسبة المتكررة بين شيئين متكافئين، قوة وفعلاً، ذهنا وخارجا.

وبعبارة اُخرى: الإضافة المقولية مهيّة معقولة بالقياس إلى مهيّة اُخرى معقولة بالقياس إلى المهيّة الأولى، كالإضافة الموجودة بين الأبوة والبنوة - في الإضافة الحقيقيّة - أو بين الأب والابن - في الإضافة المشهوريّة - ويقال لها (المقوليّة) لأنها إحدى المقولات العشر (مقولة الجوهر،

ص: 324


1- نهاية الدراية 3: 50.

والمقولات التسع العرضيّة).

وأما الإضافة الاشراقيّة فهي - على مافسّره البعض(1) - النسبة بين شيئين متحدين بالذات، لكن بحسب التحليل العقلي هما شيئان: الأول له فعليّة، والثاني لا فعليّة له، وإنما تصير له فعليّة بفعلية الأول كالإضافة بين الماهية والوجود فإن الماهية - بناءً على أصالة الوجود- لا فعليّة لها، وإنما تكون لها فعليّة بفعليّة الوجود، وبسبب نسبتها إلى الوجود، وبسبب إشراق الوجود عليها؛ ولذا يقال لها (الإضافة الاشراقية).

والإضافة المقوليّة تستدعي طرفين حقيقيين (محققي الوجود، أو مقدّري الوجود)، بينما الإضافة الاشراقيّة لا تحتاج إلا إلى طرفٍ واحد حقيقي.

إذا تقرّر ذلك فنقول: أنّ منشأ إشكال المحقّق النائيني هو تخيّله أنّ العلم له إضافة إلى ما في الخارج، وقد نشأ عن ذلك: نحو تقسيمه للعلم الموضوعي، وحكمه باستحالة القسم الرابع أي العلم الموضوعي الكشفي على نحو تمام الموضوعي.

ففي نحو التقسّيم ذكر أنّه إن لوحظت إضافة القطع إلى ذي الصورة - أي الواقع العينيّ الخارجي - كان القطع قطعاً موضوعيّاً كشفيّاً، وإن لم تلاحظ كان قطعاً موضوعياً وصفياً، وفي الحكم بالاستحالة ذكر بأنّ القسم الرابع يستلزم لحاظ الشيء (أي ذي الصورة) مع عدمه. إلى غير ذلك من المحاذير(2).

ص: 325


1- شرح الأسماء الحسنى 1: 172.
2- فوائد الاصول 3: 10-11.

مع أن العلم: لا إضافة له إلى الخارج مطلقاً، لا إضافة اشراقية، ولا إضافة مقولية، أما انتفاء الإضافة الاشراقيّة فواضح.

وأما انتفاء الإضافة المقولية؛ فلأنها ليست من لوازمه لامكان العلم ولا معلوم في الخارج؛ كما في الحكم ايجاباً على المعدوم - كقولنا (اجتماع النقيضين يغاير اجتماع الضدين)، وكما في انتزاع الشيء ذي العمومكالانسان- وكما في رؤية العقل صرف الحقيقة، بعيداً عن غرائبها ومنضماتها كما في رؤيته (البياض) بعيداً عن منضماته، كبياض القطن والعاج والثلج ونحوها.

وما ذكره لا يخلو من تأمل.

وبيانه: أن الإضافة على ثلاثة انواع:

1- الإضافة الحقيقيّة بدون واسطة في الثبوت.

2- الإضافة الحقيقيّة مع الواسطة في الثبوت.

3- الإضافة المجازيّة.

ومن الواضح: أن وجود الواسطة في الثبوت لا يضر بكون الإضافة حقيقيّة، مثلاً وجود الواسطة في ثبوت الحرارة للماء - وهي النار - لا تضر بكون الرابطة بينهما رابطة حقيقيّة.

والظاهر تحقق هذا النحو من الإضافة - في الجملة - بين (العالم) و(الواقعية العينية الخارجية) والشاهد على ذلك الوجدان، فالعالم يرتبط بما يبصره - كهذا الجدار - ارتباطاً حقيقياً، وله إضافة حقيقية بالنسبة اليه، وهكذا الأمر في المشمومات والمذوقات والمسموعات والملموسات،

ص: 326

وليست الإضافة إضافة مجازية مسامحية، كما في إضافة الجريان إلى الميزاب؛ باعتبار علاقته بالماء المتصف بالجريان حقيقة أو في إضافة الصداقة - من قبل زيد - إلى خالد؛ باعتبار علاقته مع عمرو المتصف بكونه صديقاً له حقيقة.

وعلى هذا تكون هنالك اضافتان حقيقتان طوليتان مترتبتان:

الأولى: إضافة العلم إلى (الصورة الذهنية) - التي تسمى ب- : (المعلوم بالذات)، وهي إضافة اشراقية، مقومة، بل هي عين ذات العلم.

الثانية: إضافة العلم إلى (الواقعية العينية الخارجية) - التي تسمى ب- (المعلوم بالعرض)، وهي إضافة مقولية، غير مقومة، وليست من لوازم العلم.

وكما أن الإضافة الأولى حقيقية كذلك الثانية.

وعليه: فليس الأمر مجرد (تطابق) بين (الصورة الذهنية) و(الواقعية العينية الخارجية)، بل وراء التطابق هنالك (ترابط) بين (العالم) وما يسمى ب- (المعلوم بالعرض).

نعم، هذه الإضافة ليست مما لا يمكن أن ينفك، وليست دائمية، بل هي إضافة اقتضائية.

ولو نوقش في الاقتضاء، فلا اقل من الإضافة الاتفاقية.

ومن الواضح: أن الارتباطات الملحوظة لدى الجاعل لا يلزم أن تكون دائمية، ولا اكثرية، بل يكفي ترتبها ولو احياناً، كما في الارتباط بين الصيام والتقوى، والصلاة والنهي عن الفحشاء والمنكر، إلى غير ذلك.

ص: 327

وحينئذ: يصح التقسيم الثنائي للمحقق النائيني، ويبقى هنالك مجال لايراده على القسم الرابع من اقسام القطع الموضوعي - وإن كان ايراده محل تأمل.

ثم انّه لو نوقش في جميع ماتقدم نقول: ان الإضافة العرضية ثابتة، وهي كافية في المقام، وعلى كلٍ: فما ذكره في النهاية غير واضح.

ص: 328

الجهة الثالثة

الجهة الثالثة : في قيام الأمارات والطرق والأصول العمليّة مقام القطع

اشارة

وهذا المبحث هو ثمرة تقسيم العلم إلى الطريقي والموضوعي، وتقسيم الموضوعي إلى اقسامه.

إلاّ أنّ هذه ليست الثمرة الوحيدة، فهنالك بعض الثمرات الأخرى، في بعض الابواب الأخرى.

ومنها: باب الإجزاء - مثلاً- حيث إنّ المأتي به بالأمر الظاهري لا يجزي عن الواقع في صورة كون القطع طريقيّاً محضاً، كما لو اخبرته البينة بكون هذا المائع ماءً مطلقاً، فتوضّأ به، فبان مضافاً فإنّ وضوءه يكون باطلاً.

أمّا لو كان القطع موضوعياً على نحو تمام الموضوع، كما لو نذر أن يتصدّق بدرهم إذا قطع بحياة ولده، فلا يضره كشف الخلاف؛ لأنه بالنسبة إلى متعلق القطع، ولم يؤخذ المتعلق في الموضوع، لا بالنسبة إلى الحكم الشرعي، لكونه مرتباً على القطع بالحياة، والمفروض أن هذا الموضوع - أي القطع - قد تحقّق في المقام.

وقبل الشروع في البحث ينبغي التنبيه على أمرين:

الأمر الأول

ان المراد من «القيام مقام القطع» هو ترتيب ما للقطع من الآثار والأحكام على الطرق والامارات، والأصول العمليّة، وذلك مثل: المنجزية في صورة

ص: 329

الاصابة، والمعذرية في صورة الخطأ، وغير ذلك من آثار القطع.

هذا، ولكن قد أشكل في القيام: بأن الامارات المتداولة مما استقر العمل عليها عند العقلاء؛ لتوقف حياة المجتمع عليها، والانسان المدني يرى أن البناء على تحصيل العلم - في الوقائع اليومية - يوجب اختلال النظام، فلم ير بداً من العمل بقول الثقة، وبالظواهر، وغيرها، والشارع عمل بالامارات من باب أنّه احد العقلاء، من دون أن يؤسس أصلاً، أو يحدث امارة، أو يجعل طريقية لواحد من الامارات، أو يتمم كشف امارة، أو يزيد شرطاً، فلم يكن عمله إلاّ جرياً على المسلك المستقر عند العقلاء، بلا تأسيس امارة، أو تتميم كشف لها، أو جعل حجية، أو طريقية لواحدة منها.

ومن ذلك يعلم أن قيام الامارات مقام القطع باقسامه لامعنى له.

أمّا القطع الطريقي: فإن عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب أنّها إحدى الطرق الموصلة غالباً إلى الواقع، من دون التفات إلى التنزيل والقيام مقامه.

نعم، القطع طريق عقلي مقدم على سائر الطرق العقلائية؛ وذلك لا يستلزم كون عملهم بها من باب قيامها مقامه وبعناية التنزيل؛ ولذا لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم كانوا عاملين بها من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلاً.

فما ترى في كلمات المشايخ من القول: بأنّ الشارع جعل المؤدى منزلة الواقع تارة، أو تمّم كشفه، أو جعل الظن علماً في مقام الشارعية، أو أعطاه مقام الطريقية، وغيرها، لا تخلو عن مسامحة، فإنها أشبه شيء، بالخطابة،

ص: 330

فتلخص إن العمل بالامارات عند فقد القطع الطريقي، ليس إلاّ لكونها إحدى الافراد التي يتوصل بها إلى إحراز الواقع، من دون أن يكون نائباً أو فرعاً لشيء أو قائماً مقامه.

وأما القطع الموضوعي، فملخص الكلام: إن القطع تارة يؤخذ بما أنّه أحد الكواشف، وأخرى بما أنّه كاشف تام، وثالثة بما انّه من الاوصاف النفسانية، فلو كان مأخوذاً في الموضوع تماماً أو جزء على النحو الأول، فلا شك إنه يعمل بها عند فقد القطع لا لأجل قيامها مقامه، بل لأجل أن الامارات حينئذ احد مصاديق الموضوع مصداقاً حقيقياً، وإذا اخذ بما انّه كاشف تام، أو صفة مخصوصة، فلا شك عدم جواز ترتيب الأثر، لفقدان ماهو الموضوع عند الشارع؛ لأن الظن ليس كشفاً تاماً، وإن عمل العقلاء على الامارات ليس إلاّ لأجل كونها كواشف عن الواقع، من دون أن يلاحظ صفة اُخرى، بلا فرق بين «تمام الموضوع وجزئه».

وفيه: أن (القيام مقام الشيء) يستخدم بمعنيين:

1- القيام بمعنى (التنزيل): وذلك بأن يلاحظ كون أحد الشيئين أصلاً والآخر بدلاً، وكون أحدهما نائباً عن الآخر.

كما في «اللّهم ارحم خلفائي»(1)، وكما في جميع موارد الوكالة، والنيابة.

2- القيام بمعنى (الاشتراك في الأثر)، بأن يترتّب أثر الشيء على شيء آخر، كما لو مات حاكم فقام مكانه حاكم آخر - بلا استخلافه له أو لحاظ أنّه نائب عنه - فترتب عليه أثره، وقام بما كان له من الدور، فإنه يقال (قام

ص: 331


1- وسائل الشيعة 27: 91.

مقامه) ولو فرض أنّه كان يستخدم البديل لو لم يكن الأصيل.

والمراد في المقام هو المعنى الثاني كما يظهر من عبارات القوم، فراجع وتأمل.

هذا مضافاً إلى مؤاخذات اُخرى، سوف تأتي فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

الأمر الثاني

اشارة

أن المراد بالقيام هو قيام الامارات والطرق والأصول العمليّة بنفس أدلة اعتبارها وحجيتها العامّة، بأن يقوم «الخبر الواحد» - مثلاً - بسبب الدليل العام الدال على حجيته - كآية النبأ، أو النفر أو الاذن، أو السيرة العقلائية - مقام القطع، وأما القيام مقامه بدليل خاص فلا اشكال فيه.

مثلاً: لو نذر التصدق بدرهم لو قطع بحياة ولده، وكان القطع قطعاً موضوعياً وصفياً مأخوذاً على نحو تمام الموضوع، ثم قام الدليل على (وجوب تصديق العادل)، واخبره العادل بحياة ولده، ولم يحصل له القطع من ذلك بحياته، لم يجب عليه التصدق؛ لأن وجوب تصديق العادل ليس معناه التصديق الجناني والغاء احتمال الخلاف قلباً، بل معناه التصديق الاركاني والغاء احتمال الخلاف عملاً، وحيث أن الموضوع وهو (القطع بالحياة) لم يتحقق فيمكن أن يقال بعدم وجوب التصدق.

أما لو قام دليل خاص على أن من قام عنده خبر الثقة على حياة ولده وجب عليه التصدق بدرهم، فلا شك في الوجوب حينئذٍ ولو لم يتولد القطع.

وواقع الأمر في المقام: أنّه يوجد حينئذٍ موضوعان:

أحدهما: القطع بحياة الولد، كما أخذ في النذر.

ص: 332

ثانيهما: قيام خبر الثقة على حياة الولد، كما هو مفاد الدليل.

وليس هذا من قيام الأمارة مقام القطع، بل من إيجاد موضوع موازٍ للقطع - بسبب الدليل - كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك فنتحدث - إن شاء تعالى - حول هذا الموضوع ضمن مقامات أربعة:

المقام الأول: في قيام الأمارات، والطرق المعتبرة، مقام القطع الطريقي المحض.

المقام الثاني: في قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتيّة.

المقام الثالث: في قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة.

المقام الرابع: في قيام الأصول العمليّة مقام القطع بمختلف أقسامه.

المقام الأول: في قيام الأمارات والطرق المعتبرة مقام القطع الطريقي المحض

لا اشكال ولا خلاف في قيام الامارات والطرق المعتبرة مقام القطع الطريقي المحض، بنفس أدلة حجيتها العامة؛ إذ معنى اعتبار الطريق والامارة - سواء كان مفاده جعل الحكم التكليفي، أي وجوب العمل على طبق الامارة - كما عن الشيخ (رحمه اللّه) (1) أم جعل الحجية، ام جعل الطريقية، ام تتميم الكشف - هو ترتيب آثار الواقع على مؤدياتها، فدليل اعتبارها يجعلها بمنزلة القطع الطريقي؛ ولولا قيام الامارات والطرق مقام القطع

ص: 333


1- فرائد الاصول 1: 114.

الطريقي لما كان معنى الأدلة الاعتبار، وكان وجودها لغواً، أو شبه لغو.

مثلاً: لو قال المولى (الخمر حرام) وقال (صدق العادل)، واخبرنا العادل بخمرية هذا المائع، فلم تترتب عليه الحرمة باخباره بالخمرية، كان دليل الحجية لغواً- أو شبه لغو - وكذا لو اخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة.

المقام الثاني: في قيام الأمارات والطرق المعتبرة مقام القطع الموضوعي الكشفي
اشارة

وفي هذا المقام بحثان:

البحث الأول: بحث يتعلق بعالم الثبوت، وأنه هل يمكن أن يتكفل دليل حجية الامارة والطريق الدالّ على الغاء احتمال الخلاف، بتنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي - كشفياً كان أو وصفياً - مضافاً إلى تنزيله منزلة القطع الطريقي المحض، أو لا؟

البحث الثاني: يتعلق بعالم الاثبات، وأنه هل وقع هذا التنزيل - على فرض امكانه - أو لا؟

البحث الأول: في إمكان تكفل أدلة حجية الأمارات والطرق بتنزيل الأمارات مقام القطع الموضوعي - مضافاً إلى الطريقي- وعدمه

وقد ذكر صاحب الكفاية: بأنه محال؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي(1).

وبيان ذلك: أنّه لابد في كل تنزيل من لحاظ المُنزَّل والمُنزَّل عليه، ففي تنزيل الشجاع منزلة الاسد لابد من لحاظ الشجاع - وهو المنزَّل - والاسد

ص: 334


1- كفاية الاصول: 303.

وهو المنزل عليه - ثمّ تجري عملية التنزيل.

وعليه: فاذا قال المولى: إذا قطعت بوجوب الجمعة وجب عليك التصدق بدرهم، فاذا بحث الفقيه في أدلة صلاة الجمعة وحصل له القطع بالوجوب ترتب عليه امران:

الأول: وجوب صلاة الجمعة؛ باعتبار حصول القطع بذلك، والقطع - بالاضافة إلى وجوب الجمعة - مجرد كاشف وطريق؛ إذ لامدخلية له في وجوب الجمعة ثبوتاً، وإن كان له المدخلية فيه اثباتاً.

والثاني: وجوب التصدّق بدرهم، والقطع - بالاضافة إلى ذلك - موضوع، وله مدخلية تامّة في ثبوت الوجوب في متن الواقع.

وحينئذ: فاذا فرضنا عدم حصول القطع بوجوب الجمعة، وإنما اخبرنا الثقة - الذي ثبتت حجية اخباره بالادلة العامة كآية النبأ، أو النفر، أو غيرهما - بوجوب الجمعة، فلا شك أن مفاد أدلة الحجية هو تنزيل مؤدى الامارة منزلة الواقع (المقطوع)، وفي هذا التنزيل يكون لحاظ (الامارة) و(القطع) آليا؛ إذ النظر إلى (المؤدى) و(المقطوع)، فاذا كان مفاد أدلة الحجية - مضافا إلى ذلك - تنزيل نفس الامارة منزلة نفس القطع كان معنى ذلك لحاظ (الامارة) و(القطع) استقلاليا.

وبعبارة اُخرى: لو كان مفاد أدلة الحجية - مضافاً إلى ماتقدم - تنزيل القطع بالواقع التعبدي منزلة القطع بالواقع الحقيقي كان لحاظ القطع - في المُنزَّل والمنزل عليه - استقلالياً.

وبعبارة موجزة: انّ تننزيل الامارة منزلة القطع الطريقي، يلازم كون

ص: 335

لحاظ الامارة والقطع آلياً، وتنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي يلازم كون لحاظ الامارة والقطع استقلاليا، ولا يمكن أن يجتمع اللحاظ الآلي والاستقلالي، فمن اصيب بجرح في وجهه واراد أن يرى في المرآة وجود الدم في وجهه أو لا، إذا سألناه: كيف كانت المرآة؟ يقول: لا اعلم؛ لأن لحاظها كان آليا؛ ولذا لم يلتفت اليها، ومن اراد شراء مرآة، وسألناه: هل كان على وجهك شيء أو لا؟ يقول: لم التفت إلى ذلك؛ لأن لحاظ المرآة كان استقلالياً؛ ولذا لم يلتفت إلى وجود شيء على وجهه.

قال صاحب الكفاية: «وحيث انّه ظاهر في أنّه بحسب اللحاظ الآلي لاشك كونه ظاهراً في حجيته»(1).

ويمكن الجواب عن هذا المحذور بعدة أجوبة:

1) دفع محذور اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي بالطولية فيما بين التنزيلين

الجواب الأول: ما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية من الطولية فيما بين التنزيلين(2).

وبيان ذلك: أن أدلة الحجية تتكفل بتنزيل المؤدى منزلة الواقع، وتدل - بالالتزام - على تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع، فيكون لدليل التنزيل دلالتان: دلالة مطابقية، وهي تنزيل المؤدى منزلة الواقع. ودلالة

ص: 336


1- كفاية الاصول: 264، وفيه: «فإنّ ظهوره في أنّه بحسب اللحاظ الآلي مما لاريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه».
2- درر الفوائد: 31-32.

التزامية، وهي تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع.

مثلاً: لو نزل الدليل (زيداً) منزلة (الأسد)، فيدل هذا التنزيل - التزاماً - على تنزيل (القطع بوجود زيد) منزلة (القطع بوجود الأسد).

ويرد عليه أمور:

1- الاشكال في التنزيلين الطوليين باستلزامه للدور

الأول: ماذكره صاحب الكفاية من استلزام التنزيلين الطوليين للدور(1).

بيان ذلك يتوقف على مقدمات:

المقدمات الأولى: أن التنزيل الشرعي - والتعبد الشرعي بشكل عام - لايصح إلاّ في ظرف ترتب الأثر على التنزيل، مثلاً: لو قال الشارع «الطواف بالبيت صلاًة» كان لهذا التنزيل أثر، وهو انشاء مثل ما للصلاة من الاحكام للطواف، أما لو لم يترتب أثر على التعبد فإنه يكون لغواً.

المقدمة الثانية: أن الذي يترتب عليه الأثر هو وجود الموضوع بتمامه، فإذا وجد ترتب عليه الحكم؛ إذ وزان الموضوع بالنسبة إلى المحمول وزان العلّة بالنسبة إلى المعلول.

أمّا لو وجد بعض ماله دخل في الموضوع، لم يترتب عله الحكم؛ لعدم وجود العلّة التامة - أو ماهو بمنزلتها - ومن الواضح أن المعلول لايترتب على صرف وجود العلة الناقصة.

المقدمة الثالثة: أن موضوع الحكم الشرعي: إما بسيط، أو مركب، أو

ص: 337


1- درر الفوائد:30.

مقيد، فإن كان بسيطاً - كحياة زيد التي هي موضوع لحرمة زوجته - فلا بد في ترتيب الأثر الشرعي عليه من احرازه: اما بالوجدان أو بالتعبد.

وأما إن كان مركباً أو مقيداً: فلابد أن يحرز بتمامه بالوجدان، أو بتمامه بالتعبد، أو بعضه بالوجدان وبعضه بالتعبد، ولايكفي إحراز أحد الجزئين، وذلك كما في (الماء الطاهر) الذي هو موضوع لجواز الوضوء - مثلاً - أو (المجتهد بقيد العدالة) الذي هو موضوع لجواز التقليد.

المقدمة الرابعة: إن إحراز تمام ماله دخل في الموضوع المركب، أو المقيّد بالتعبّد، وإن كان ممكناً بلا اشكال، إلاّ أنّه يشترط أن يكون التعبد المحرز لكل واحد مما له الدخل في الموضوع - جزءاً اوقيداً - في عرض التعبد المحرز للآخر، كاحراز المائية والطهارة في عرض واحد بالاستصحاب.

وأما لو لم يكن الاحراز التعبدي لكل ماله دخل في الموضوع عرضياً، بل كان احدهما في طول الآخر، ومترتباً عليه، ومن لوازمه، فإنه محال؛ لاستلزامه الدور.

فإنّ تنزيل المتأخر متوقف على تنزيل المتقدم - لفرض الطولية بين التنزيلين -، وتنزيل المتقدم متوقف على تنزيل المتأخر - الفرض أنّه لا يترتب عليه الأثر إلاّ بانضمام الجزء الثاني - ، وقد ذكرنا أن التنزيل الشرعي لايصح إلاّ في ظرف ترتب الأثر.

وبتقرير آخر:

1- شمول دليل التعبد لأول الجزئين متوقف على أن يكون له أثر.

ص: 338

2- وترتب الأثر، متوقف على شمول دليل التعبد للجزء الآخر.

3- وشمول دليل التعبد للجزء الآخر، متوقف على شموله للجزء الأول.

أمّا الأول: فلما ذكر في المقدمة الأولى، من تقوم التعبد الشرعي بوجود الأثر، وإلاّ كان لغواً.

وأمّا الثاني: فلما ذكر في المقدمة الثانية، من أن وجود بعض ماله دخل في الموضوع لايكفي في ترتب الأثر.

وأمّا الثالث: فلفرض الطولية فيما بين التعبدين.

وبعبارة ثالثة: أنّه في فرض التنزيلين الطوليين، تكون دلالة الدليل على المدلول المطابقي متوقفة على وجود الأثر، ووجود الأثر متوقفٌ على دلالته على المدلول الالتزامي، ودلالته على المدلول الالتزامي متوقفة على دلالته على المدلول المطابقي، هذا كله بلحاظ الكبرى.

وأما الكلام في الصغرى: فالمفروض في المقام أن الأثر الشرعي - وهو وجوب التصدق مثلاً - ليس مترتبا على الواقع بما هو هو - كوجوب الجمعة - بل على موضع مركب أو مقيد - كالقطع بوجوب الجمعة -.

وحينئذ: فتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، يتوقف على وجود أثر لهذا التنزيل؛ وإلاّ كان التنزيل لغواً، ووجود الأثر لهذا التنزيل، يتوقف على تنزيل ا لجزء الثاني - أي تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع - إذ مالم يتم تنزيل الجزء الثاني لا يترتب الأثر؛ لفرض كون الموضوع مركباً أو مقيداً، وتنزيل الجزء الثاني، متوقف على تنزيل الجزء الأول؛ لفرض الطولية فيما بين التنزيلين، وتفرع التنزيل الثاني على التنزيل الأول.

ص: 339

وبعبارة موجزة: التنزيل المطابقي متوقف على وجود الأثر، ووجود الأثر متوقف على التنزيل الالتزامي، والتنزيل الالتزامي متوقف على التنزيل المطابقي.

ويرد على هذا الاشكال (استلزام الدور).

أولاً: بأنه لا دور؛ لأن هنالك صورتين:

1- أن لا يكون للتنزيل الأول أي اثر في حد ذاته، وإنما كان ترتب الأثر متوقفاً على تمامية الجزئين معاً.

2- أن يكون للتنزيل الأول - المدلول عليه بالدلالة المطابقية - أثر في حدّ ذاته، إلاّ أن هنالك أثراً آخراً متوقفاً على مجموع التنزيلين.

والصورة الأُولى وإن استلزمت الدور، إلاّ أن الصورة الثانية لا تستلزمه؛ إذ التنزيل الأول متوقف على وجود الأثر الأول، وهو غير متوقف على التنزيل الثاني؛ لفرض كون التنزيل الأول ذا اثر في حد ذاته، نعم الأثر الثاني متوقف على مجموع التنزيلين وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ تنزيل المؤدى منزلة الواقع ذو أثر عقلي، وهو (وجوب الجري العملي) ويكفي مثل هذا الأثر في تصحيح التنزيل الشرعي.

بل قد يقال: بأنه بنفسه مجعول شرعي، بناءً على كون المجعول في باب الامارات والطرق هو: وجوب العمل شرعاً - كما هو المنسوب إلى الشيخ (رحمه اللّه) - وكذا لو كان المجعول هو (الحكم الوضعي).

ثانياً: النقض بالتنزيلين العرضيين أو التعبدين العرضيين مطلقاً؛ وذلك كاثبات دليل الاستصحاب للمائية والطهارة في زمن الشك - لو فرض أن

ص: 340

الأثر مترتب على كلا الجزئين - إذ شمول الدليل للجزء الأول متوقف على وجود الأثر، ووجود الأثر متوقف على شمول الدليل للجزء الثاني، وشمول الدليل للجزء الثاني متوقف على وجود الأثر، ووجود الأثر متوقف على شمول الدليل للجزء الأول.

وفيه: أنّه لا تقدم رتبي بين الشمولين، فيشمل الدليل الجزئين في عرض واحد، باعتبار كون مجموع الشمولين ذا أثر، وهذا بخلاف التعبدين الطوليين.

ثالثاً: ما ذكره الشيخ الحائري (رحمه اللّه) في الدرر: من أن وجود الأثر التعليقي للتنزيل الأول كافٍ في صحته.

ومعنى الأثر التعليقي: انّه لو انضم إليه الباقي يترتب عليه الأثر الشرعي.

قال: وكم له من نظير، فإن إثبات بعض اجزاء الموضوع بالأصل أو بالامارة، والباقي بالوجدان غير عزيز(1).

ويمكن أن يمثل له أيضاً: بالخبر بالواسطة، حيث يرد عليه نظير الاشكال الوارد في المقام؛ إذ التعبد بحجية الخبر يتوقف على أن يكون المخبر به بنفسه حكماً شرعياً أو ذا اثر شرعي، مع قطع النظر عن دليل الحجية، ليصح التعبد بلحاظه، وعليه فدليل الحجية لا يشمل مثل اخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن ابن الوليد عن الصفار عن الامام (عليه السلام) (باستثناء اخبار الصفار عنه (عليه السلام) )؛ لأن المخبرية - وهو خبر المفيد أو نحوه - ليست حكماً شرعياً، ولا ذا أثر شرعي، مع قطع النظر عن دليل الحجية.

ص: 341


1- درر الفوائد: 332.

وجوابه: أن الأثر التعليقي كافٍ، أي أنّه يترتب عليه الأثر لو انضم إليه أخبار باقي السلسلة.

ولم يرتض هذا الجواب، لا المحقق الاصفهاني، ولا المنتقى.

2- الاشكال في التنزيلين الطوليين بعدم وجود الملازمة

الثاني: إنّ الملازمة المدعاة في المقام - بين التنزيل الأول والتنزيل الثاني - إما عقلية أو عرفية.

أمّا الملازمة العقلية فقد يقال: انّه لاملازمة عقلية بين التنزيلين؛ إذ الملازمة العقلية إنما تتحقق في الامور العقلية، كما في التلازم بين العلّة والمعلول، أو بين المتضايفين.

وأمّا في الامور التعبدية فلا تلازم؛ إذ الامور التعبدية امور اعتبارية، وسعة دائرة المعتبر وضيقها منوطة بسعة دائرة الاعتبار وضيقها، ومن هنا قد يعتبر العلّة دون المعلول، أو المعلول دون العلّة، أو اللازم دون الملزوم، أو الملزوم دون اللازم، أو احد المتلازمين دون الآخر.

وقد تقرّر في بحث (الاصل المثبت): إمكان وقوع التعبد الشرعي بالملزوم دون لازمه العقلي أو العرفي أو العادي، وقد امتلأت الكتب الفقهية بمسائل «التفكيكات».

فالملازمة العقلية بين التنزيلين منتفية.

واما تقرير الملازمة العقلية بنحو دلالة الاقتضاء (وهي ما يتوقف صدق الكلام أو صحته - عقلاً أو شرعاً أو لغة أو عادة - عليها) فمنظور منه لأنها: إنما تكون فيما لو استلزم عدم افتراض الأمر الزائد الغاء أصل الدليل لا

ص: 342

اطلاق الدليل. وأمّا لو استلزم عدم افتراض الأمر الزائد الغاء إطلاق الدليل فلا ينعقد الاطلاق؛ لأنه مقيد بوجود الأثر العملي، أو عدم اللغوية، ففي مورد لا يترتب على شمول الدليل اثر عملي، لا يتحقق اطلاق الدليل في حد نفسه كي تضم إليه دلالة الاقتضاء.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ عدم شمول أدلة الحجية لهذا المورد لا يخل بشمولها لسائر الموارد، فلا يكون وجودها لغواً.

ولا يخفى أن ورود هذا الاشكال متوقف على ثبوت الأثر العملي للتنزيل الأول، وإلاّ فلو افترض عدم ترتب أي اثر عملي على التنزيل الأول، فلا بد من وجود الملازمة العقلية بين التنزيلين، بدلالة الاقتضاء، وإلاّ كانت أدلة الحجية لغواً.

وأما (الملازمة العرفية) فالظاهر أنها غير ثابتة؛ وذلك لعدم الملازمة - عرفاً - بين (تنزيل شيء منزلة شيء آخر) و«تنزيل القطع بالشيء» منزلة «القطع بالشيء الآخر»؛ لعدم انسباق هذا اللزوم إلى اذهان العرف اصلاً.

مثلاً: لو نُزّل زيداً منزلة الأسد، فالظاهر من هذا التنزيل، ترتب جميع الآثار - أو اظهر الآثار - المترتبة على نفس الأسد، على زيد، وأما ترتب آثار (القطع بالأسد) على (القطع بزيد) فلا ينسبق إلى اذهان العرف من الدليل، كما لاينسبق إلى اذهان العرف ترتب الآثار المترتبة على (ابن الأسد) على (ابن زيد).

وعليه: فلا ملازمة بين (تنزيل المؤدى منزلة الواقع) و(تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع).

ص: 343

وبعبارة اُخرى: - كما ذكرها بعض المحققين- إنّ الدلالات الالتزامية العرفية دلالات واضحة قريبة من الفهم العرفي، ملازمة لمدلول اللفظ تصوراً وتصديقاً، وتنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع التنزيلي - الذي يصعب تصوره في نفسه - كيف يعقل أن يكون مدلولاً عرفياً التزامياً عرفياً لدليل الحجية(1)؟

2) دفع محذور اجتماع اللحاظين بالاستناد إلى الأدلة اللبّية

الجواب الثاني: أن محذور الجمع بين اللحاظين - لو تم - إنما يتم لو كان المستند الوحيد في حجية الامارات والطرق هو الأدلة اللفظية.

مع أن هنالك دليلاً آخر على الحجية لايوجد فيه المحذور، وهو: السيرة المتشرعية، أو العقلائية، فيمكن أن تنهض السيرة دليلاً على اقامة الامارات والطرق - ولو في الجملة - مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً.

وقصور الأدلة اللفظية عن التنزيلين - لمحذور اجتماع اللحاظين - لا يستلزم قصور الأدلة اللبّية ايضاً.

3) دفع المحذور بكون الملحوظ القطع بالحمل الأولي

الجواب الثالث: أن المحذور إنما يترتب على (المنزل) و(المنزل عليه) بالحمل الشائع، لا بالحمل الأولي الملحوظ من قبل الشارع في مقام الجعل، فإن الشارع يتصور مفهوم (القطع) - مثلاً - كغيره من المفاهيم الواردة في الخطابات الشرعية، ويجعل هذا المفهوم مرآة لمصاديقه الخارجية، فيكون

ص: 344


1- بحوث في علم الاصول 4: 93.

هذا المفهوم ملحوظاً عنده بالاستقلال، وإن فُرض كونه ملحوظاً باللحاظ الآلي عند المكلف.

فالقطع الطريقي الملحوظ آلياً عند المكلف يلاحظه الشارع استقلالياً، ويجعله منزلاً عليه.

وعلى هذا فالملحوظ في طرفي التنزيل: مفاهيم ملحوظة بالاستقلال، وقد نزل الشارع بعضها منزلة البعض الآخر.

ومما ينبه على إمكان ذلك أننا لانجد مانعاً من قول الشارع: (من قامت عنده الامارة فليرتب على ذلك آثار القطع الطريقي والموضوعي معاً)، وبعبارة اُخرى (ليفرض نفسه قاطعا، ويرتب جميع آثار القطع على قيام الامارة، آلياً كان القطع أو استقلالياً).

وقد تحصل من جميع ماتقدم: أن تنزيل الامارات والطرق مقام القطع الموضوعي (كشفياً كان أو وصفيا) - مضافاً إلى تنزيلها منزلة القطع الطريقي المحض - لا يستلزم المحال.

4) دفع المحذور بكون مفاد الأدلة جعل الامارة علماً

الجواب الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) من أن أدلة الامارات ليس مفادها التنزيل المذكور حتى يرد المحذور، بل جعل الأمارة علماً.

قال: «إنه ليس معنى حجية الطريق - مثلاً - تنزيل مؤداه منزلة الواقع، ولا تنزيله منزلة القطع حتى يكون المؤدى واقعاً تعبداً، أو يكون الأمارة علماً تعبداً، بداهة أن دليل الحجية لا نظر له إلى هذين التنزيلين اصلاً، وإنمّا نظره إلى إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقةً محرزاً تشريعاً.

ص: 345

نعم، لابد وأن يكون المورد قابلاً لذلك بأن يكون له كاشفية عن الواقع في الجملة ولو نوعاً؛ إذ ليس كل موضوع قابلاً لإعطاء صفة الطريقية والمحرزية له، فما يجري على الألسنة - بأن ما قامت البينة على خمريته - مثلاً - خمر تعبداً أو أن نفس البينة علمٌ تعبداً - فمّما لامحصَّل له وليس له معنى معقول؛ إذ الخمرية أو العلم من الأمور التكوينية الواقعية التي لا تنالها يد الجعل تشريعاً، مضافاً إلى أنّه لم يرد في آية ولا رواية أن ماقامت البينة على خمريته خمر، أو ان الامارة علمٌ حتى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمرية، أو كون البينة علما ولو بنحو المسامحة ومن باب ضيق في التعبير.

وبالجملة، مايكون قابلاً لتعلق الجعل التشريعي به كبقية المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفيّة والطريقية لما ليس كذلك بحسب ذاته من دون تنزيلٍ للمؤدّى منزلة الواقع، ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم»(1).

وقال: «ولا يخفى أنّ بناء هذا الإشكال على عدم التفرقة بين الحكومة الظاهرية والواقعية، وتخيل أن دليل الاعتبار إنما يتكفل لإثبات احكام الواقع للمؤدى أو احكام القطع للأمارة، فيكون تعميماً في الموضوعات الواقعية أو في العلم المأخوذ في الموضوع واقعاً، وأما إذا بنينا على عدم تكفل دليل الحجية والاعتبار للتنزيل اصلا، بل غاية شأنه هو إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة، وجعل ماليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعا، فليس هناك تنزيل حتى يترتب عليه الجمع بين اللحاظين المتنافيين.

ص: 346


1- أجود التقريرات 3: 25.

والحاصل: إذا فرضنا أن الشارع حكم بوجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي، وحكم بنجاسته حينما كان محرزاً عند المكلّف، فعند قيام البيّنة على خمرية شيء - والمفروض أن الشارع جعل لها صفة المحرزية والكاشفية - فكما أنّه يترتب عليه وجوب الاجتناب؛ لكون المكلف محرزاً للخمر الواقعي، فكذلك يترتب عليه النجاسة ايضا؛ إذ المفروض أن الموضوع لها هو الخمر المحرز، وما قامت البينة على خمريته بعد حكم الشارع بمحرزيتها وطريقيتها يكون كذلك لامحالة، غاية الأمر أن موضوع الحكم في القطع الطريقي هو نفس الواقع، وهو محرز بحكم الشارع، وفي القطع الموضوعي مركب من جزئين طولييّن بحيث يكون تحقق أحدهما كافياً في تحقق الآخر أيضاً، فإنّ الإحراز - الذي هو جزء الموضوع - محرز بنفسه، والواقع - الذي هو الجزء الآخر - محرز به»(1).

ولا يخفى أنّ في كلامه شقّين:

1- شقّ النفي: وهو في محله، وإن كان استدلاله الأول منظوراً فيه؛ إذ يرد عليه نقضاً: بأنّ الكاشفيّة ايضا من الامور التكوينية التي لا تنالها يد الجعل.

وحلاً: بأن المراد «الخمرية التعبّدية» و«العلمية التعبّدية» وهي امور مجعولة.

2- وشق الاثبات: أي أن مفاد حجية الامارات جعل الامارة علماً وإحرازاً، وسوف يأتي الكلام فيه قريباً إن شاء اللّه تعالى.

ص: 347


1- أجود التقريرات 3: 26-27.
البحث الثاني: في وقوع تنزيل الأمارات والطرق منزلة القطع الموضوعي وعدمه

ولا يخفى أن البحث في الوقوع مترتب على إختيار الامكان في البحث الأول، ومتفرع عليه، إذ لو اخترنا عدم الامكان في المقام الأول - لاستلزامه الجمع بين اللحاظين مثلاً - فلا يبقى مجال للبحث في المقام الثاني؛ إذ مقام الاثبات متفرع على مقام الثبوت، والامكان متقدم على الوجود بمراحل.

وحيث اخترنا سابقاً الامكان، وأن محذور الجمع بين اللحاظين قابل للحل، يبقى هنالك مجال للبحث في الوقوع وعدمه.

وقد تذكر هنا تقريرات لاثبات عدم وقوع التنزيل:

التقرير الأول: أن (القطع الموضوعي) نادر الوجود، ويعبّر عن حالة غير مألوفة في الشرع وفي العرف؛ ولذا لاتجد في الفقه إلاّ أمثلة معدودة للقطع الموضوعي، مثل (توقف جواز الشهادة على القطع بالمشهود به كما يرى الشمس) و(توقف جواز القضاء على القطع بكون المقضيُّ به حقا) و(توقف صحّة الصلاة على إحراز الركعات) ونحو ذلك - على تأمل في بعضها- ، ومن هنا ترى التجائهم إلى النذر للتمثيل للقطع الموضوعي.

والدليل منصرف عن الافراد النادرة.

وفيه: أن (ندرة الوجود) أو (ندرة الاستعمال) - بما هي هي - لا تخل بالاطلاق - على ما تقرّر في محلّه - ؛ ولذا لو قال المولى: (جئني بماء) وكان ماء الفرات - مثلاً - نادراً في بلد، حق للعبد أن يأتي به؛ لشمول الاطلاق له.

بل أن جميع الماهيات أو معظمها لها أفراد نادرة الوجود، ولا يمكن

ص: 348

الالتزام بعدم شمول المطلقات لتلك الأفراد النادرة.

نعم قد تسبب (النُدرة) انقلاب وجهة اللفظ عن فرد، فيكون المطلق منصرفاً عنه لا للندرة، بل للانقلاب.

فتحصل أن الندرة بماهي هي لا تقدح في اطلاق المطلق.

التقرير الثاني: ما في الكفاية، من ان قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار، لا له بما هو صفة وموضوع؛ ضرورة أنّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات(1).

توضيحه: أن القطع فيه حيثيتان:

1- حيثية أنّه كاشف عن متعلقه وطريق إليه (حيثية الطر يقية).

2- وحيثية أنّه موضوع لما يترتب عليه من الاحكام.

ودليل اعتبار الأمارة، أو الطريق، ناظر إلى تنزيل الأمارة منزلة القطع باعتبار الحيثّية الأولى لا الثانية؛ وذلك لأن المفروض أن القطع موضوع لتلك الآثار، وقيام الامارة لا يستلزم تحقق الموضوع.

فكما أنّه لو جعلت صفة نفسانية - كالشجاعة والجود - أو حقيقة خارجية - كالبياض والسواد - موضوعاً لحكم، لا يترتب ذلك الحكم بمجرد قيام الامارة أو الطريق، مالم توجد تلك الصفة النفسية أو الحقيقة الخارجية، كذلك في المقام لا تترتب آثار القطع الموضوعي بمجرد قيام الأمارة أو الطريق، مالم يوجد القطع لدى المكلف.

ص: 349


1- كفاية الاصول: 263.

مثلاً: إذا فرض أن الشارع اخذ العلم في موضوع جواز الشهادة بما هو صفة خاصة، كما ورد عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد سُئل عن الشهادة، أنّه قال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(1).

فكيف يترتب جواز الشهادة على قيام الطريق على سرقة زيد مثلاً - مع عدم حصول القطع لدى المكلف بسبب قيام الطريق؟!.

وهكذا لو فرض أن الشارع اخذ الاحراز موضوعاً للحكم بصحة الصلاة، عند طرو الشك في الركعتين الاوليين، فلا يقوم شيء من الطرق مقام الاحراز بمجرد دليل حجيتها العام، إلاّ مع فرض قيام دليل خاص ينزل الظن - مثلاً - منزلة القطع.

التقرير الثالث: ما في المنتقى - وهو وإن ساقه توضيحا لكلام الكفاية إلاّ أنّه يمكن أن يذكر كتقرير مستقل - حيث قال: «إن القطع ذو أثرين:

1- أثره المتأخر عنه، وهو ما يترتب عليه، وبه يكون موضوعاً للحكم.

2- الأثر السابق عليه، وهو ما تعلّق به، وبه يكون طريقا للحكم وكاشفاً.

ودليل الاعتبار بأي نحو كان، مفاده إنما يتكفل جعل الامارة بلحاظ السابق على القطع لا اللاحق، بل القطع بلحاظ أثره اللاحق كسائر موضوعات الاحكام لاينظر إليه دليل اعتبار الامارة».(2)

أقول: يظهر النظر في هذين التقريرين من بيان المختار في المقام.

ص: 350


1- وسائل الشيعة 27: 342.
2- منتقى الاصول 4: 72.
المختار في المقام

تمهيد: وبيان المختار في المقام يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي:

أن سعة حدود التنزيل - بالمعنى الاسم المصدري للتنزيل - تتوقف على أمرين: احدهما: يرتبط بعالم الثبوت، والثاني: يرتبط بعالم الاثبات.

أما الأول: فهو سعة حدود الاعتبار.

إذ التنزيل قد يكون من كل جهة، وقد يكون من جهة دون جهة، مثلاً: إذا فرض أنّ الشارع قال (الطواف بالبيت صلاة) فقد يريد تنزيل الطواف منزلة الصلاة في جميع الجهات، وقد يريد تنزيله منزلتها في شرطيّة الطهارة فقط.

وأما الثاني: فهو ظهور الدليل في العموم - أي في عموم التنزيل - وهذا الظهور هو الكاشف عن «السعة الثبوتيّة» لما تقرر في محله، من اصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الاثبات.

وعليه تكون هنالك ثلاث حالات:

1- الظهور في العموم.

2- الظهور في الخصوص.

3- الإجمال.

ومن الواضح أنّه في الحالة الأولى والثانية: يُتّبع الظهور، وأما في الحالة الثالثة فيؤخذ بالقدر المتيقن؛ إذ العموم يتوقف على الظهور، وحيث لا ظهور، لا عموم، والأخذ بالقدر المتيقن ليس من باب ظهور الدليل في الخصوص، بل من باب أنّه متيقن على كل حال.

ومن هنا ذكروا في الاصل المثبت: كفاية عدم ظهور أدلة الاستصحاب

ص: 351

في التنزيل المطلق - ولو عبر اللوازم العقلية والعرفية والعادية - في عدم الحجية.

وفي المقام الأمر متوقف على أحد أمرين:

أولهما: ادعاء ظهور أدلة الحجية في الخصوص - أي خصوص التنزيل منزلة القطع الطريقي المحض - وذلك لانصراف أدلة الحجية عن القطع الموضوعي، واختصاص ظهورها العرفي بالتنزيل منزلة القطع في المنجزية والمعذرية فقط.

وثانيهما: ادّعاء إجمال الدليل، وعدم ظهوره في العموم، فجوهر البحث ينبغي أن يكون ذلك.

وأما ما في الكفاية والمنتقى فلا يصلحان دليلاً:

أما ما في الكفاية؛ فلأن الموضوع وإن لم يحرز وجداناً بقيام الأمارة، إلاّ أنّه محرز بالتعبد، ومن الواضح، أنّه لافرق بين إحراز الموضوع بالاحراز الوجداني أو الاحراز التعبدي - مثلاً - إذا كانت الطهارة شرطاً في ماء الوضوء، فتارة: يتم احرازها بالاحراز الوجداني - كما لو قطع بطهارة هذا الماء - وأخرى: بالاحراز التعبدي - كما لو شهدت البينة بطهارته - وفي المقام: (القطع) وإن كان موضوعاً، إلاّ أن دليل التنزيل يُنزّل من قامت عنده الامارة منزلة القاطع، ويقول له: اعتبر نفسك قاطعاً.

وسيأتي مزيد توضيح لذلك في كلام المحقق النائيني (رحمه اللّه) .

وأما ما في المنتقى؛ فلأن كون الأثر متقدمّاً أو متأخراً، لا يقدح مادام للدليل اطلاق.

ص: 352

فالأولى تركيز البحث على ظهور أدلة الحجية في الخصوص، أو عدم ظهورها في العموم، ولعلّ ذلك هو مراد الكفاية والمنتقى.

تفصيل المحقق النائيني (رحمه اللّه)

هذا، وقد اختار المحقق النائيني (رحمه اللّه) قيام الامارات والطرق والاُصول المحرزة مقام القطع الطريقي المحض، والمأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية، دون القطع الموضوعي الوصفي، قال: «وهذا هو الذي اختاره شيخنا العلاّمة الأنصاري، وسيّد اساتيذنا العلامة الشيرازي†، وهو الحقّ عندنا»(1).

وقد ذكر لبيان مختاره مقدمات، من أهمها: كون حكومة الامارات والطرق والاصول المحرزة على الأدلّة الواقعية حكومة ظاهرية لا واقعية، قال: «إن الحكومة عبارة عن دلالة أحد الدليلين على توسعة موضوع الدليل الآخر أو تضييقه، وقد يكون دالاً على تضييق حكمه أيضاً، والتوسعة أو التضيق تارة يكونان في مقام الثبوت والواقع، وأخرى في مقام الاثبات والظاهر، ففي مثل أدلّة «لاضرر» و«لاحرج» المفيدة لاختصاص الأحكام الشرعيّة بغير مواردها تكون الحكومة واقعية، ويستفاد منها أن الاحكام الشرعيّة لم تجعل في موارد الضرر والحرج واقعا، وهذا تضييق، بحسب الأحكام الواقعية، كما أن المستفاد من قوله (عليه السلام) : «لاشك لكثير الشك»(2).

ص: 353


1- أجود التقريرات 3: 19.
2- لم نعثر عليه في المصادر الحديثية، والظاهر أن هذه العبارة هي من كلمات الفقهاء (منه (رحمه اللّه) ).

هو اختصاص الشكّ المأخوذ في أدلة الشكوك بغير شك من يكثر شكه، فيكون موضوع تلك الأدلة ضيّقاً بحسب الواقع، وتكون الحكومة ايضاً واقعيّة، وكذلك قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الطواف بالبيت صلاة»(1) وقوله (عليه السلام) : «الفُقّاع خمرٌ إستصغره الناس»(2). يفيدان تعميماً في أدلّة حرمة الخمر وأدلة اشتراط الصلاة بالطهارة من جهة الموضوع واقعاً، وهذا بخلاف أدلة حجية الامارات والاُصول؛ فإنّها لاتفيد تعميماً أو تضييقا في الواقعيات بأنّ تدّل على أن ما قامت البينة على خمريته أو المستصحب الخمرية - مثلاً - حرام واقعاً، كيف! وحجية الامارات في ظرف الجهل بالواقع، والاصول أخذ في موضوعها الجهل به، فهي في طول الواقع، فكيف يمكن أن تكون مفيدة للتعميم أو التضييق بحسبه!؟.

ومن ذلك ظهر أن المناط في الحكومة الواقعية هو كون الدليل الحاكم في عرض الدليل المحكوم حتى يكون معمّما له أو مضيقاً له في مرتبته، وهذا بخلاف ما إذا كان الدليل الحاكم في طول الواقع وفي مرتبة متأخّرة عنه، فإنّه يستحيل حينئذ كون الحكومة واقعية وتتمحض في كونها ظاهرّية، كما في حكومة الامارات والاُصول على الأدلة الواقعية؛ فإن الحكومة في جميع ذلك ظاهرية، والتعميم أو التضييق إنما هو بحسب مقام الاثبات ليس إلاّ.

وبالجملة، فحكم الشارع على المكلّف بأنه عند قيام الامارة محرز

ص: 354


1- مستدرك الوسائل 9: 40 (منه (رحمه اللّه) ).
2- وسائل الشيعة 25: 365، ونص الحديث هكذا: «هي خمرة إستصغرها الناس».

للواقع، وفي موارد الاصول المحرزة بوجوب البناء على كون مواردها هو الواقع، يستلزم تعميماً أو تضييقاً في الأدلة الواقعية في مقام الاثبات»(1).

إلى أن قال: «والحاصل، أن تحقّق الواقع بعد قيام البينة - مثلاً - إنّما هو من جهة إعطاء الشارع صفة المحرزية والكاشفية للبينة التي هي ليست بمحرزة تامّة للواقع، فصفة المحرزيّة إنما هي المجعولة أوّلاً بالذات، وكون الواقع محرزاً إنّما هو بتبعها، فقيامها - بعد اتصافها بهذه الصفة المجعولة - مقام القطع الوجداني في كونه جزءاً للموضوع أولى من قيام المؤدى منزلة الواقع.

هذا كلّه في القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية والكاشفية، وأما ما أخذ فيه على وجه الصفتيّة فلا يمكن قيام الأمارات أو الاُصول مقامة بالنظر إلى دليل اعتبارها، فإن دليل الاعتبار - كما عرفت - إنّما يتكفل لإعطاء صفة الكاشفيّة والمحرزيّة فقط، والمفروض أن القطع لم يؤخذ بهذه الجهة موضوعاً للحكم، والجهة التي بها أخذ في الموضوع لايكون دليل الاعتبار ناظراً اليها ومثبتاً لها.

وبعبارة أخرى: حال القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتيّة حال بقية الصفات المأخوذ فيه، فكما لامعنى لقيام الأمارة مقامها بدليل اعتبارها، فكذلك لامعنى لقيامها مقامه، وهذا واضح بأدنى التفات وتأمل، ولا يحتاج إلى مزيد توضيح وبيان»(2).

وبكلمة مختصرة: أدلّة حجية الامارات والطرق والاُصول العمليّة

ص: 355


1- أجود التقريرات 3: 21- 22.
2- أجود التقريرات 3: 28-29.

المحرزة مفادها التوسعة في الطريق، فهي تقول للمكلف: كما أن القطع طريق ومحرز وكاشف كذلك خبر الثقة - مثلاً - فيحكم على المكلف عند قيام الأمارة أو الطريق بأنّه محرز للواقع، منتهى الأمر أنّه إحراز تعبدي لا وجداني، ولا فرق بين الاحرازين في الحكم، فكلّما يترتب على الإحراز الوجداني يترتب على الاحراز التعبّدي، والمفروض في المقام أن الاحراز الوجداني له اثر وهو وجوب التصدق - مثلاً - فيترتب هذا الأثر على قيام الخبر لأنّه إحراز تعبّدي.

وأما القطع الموضوعي الوصفي، فالاحراز لا دخل له فيه، فليكن المكلّف محرزاً للواقع - تعبّداً - إلاّ أنّ الاحراز لم يجعل موضوعاً للأثر، بل الصفة الخاصة بما لها من اللوازم، والمفروض عدم حصولها.

مناقشات في تفصيل المحقق النائيني

ويمكن أن يناقش هذا التفصيل بمناقشات:

المناقشة الأولى: أن تحديد مفاد الأدلة اللفظية، وبيان أن لسانها لسان جعل المحرزية والطريقية والكاشفية إنما يجدي لو كان المستند في الحجية الأدلة اللفظية.

اما لو كان مستند الحجية السيرة العقلائية - كما اختاره جمع ومنهم المحقق النائيني (رحمه اللّه) في مواطن متعددة - فلا يجدي ذلك؛ إذ أن السيرة لا لسان لها، وإنما هي موقف عملي تجاه الحجة، فيجب أن نلاحظ حدود السيرة هذه، وأن العقلاء كيف يتعاملون مع الامارات والطرق، وأنّهم هل يقيمونها مقام القطع الموضوعي ايضاً، أو مقام القطع الطريقي فقط؟

ص: 356

والظاهر من ملاحظة طريقتهم الثاني، فإذا قال الثقة للعبد: (جاء الضيف عند مولاك) وجب عليه ترتيب آثار مجيء الضيف - كاعداد الطعام مثلاً - لا ترتيب آثار القطع بمجيء الضيف - لو كان له آثار وفرض أن العبد لم يحصل له القطع من اخبار الثقة بذلك -.

بل لا يخطر القطع الموضوعي على بال العرف عادةً، ولو فرض خطوره على أذهانهم لا يرونه مشمولاً لأدلّة الحجية فتأمّل.

المناقشة الثانية: لو فرض أن المستند في الحجية الأدلّة اللفظيّة، فيجب أن نبحث عن ما هو مؤدى هذه الأدلة؟

فهل مؤدّاها جعل الطريقية والكاشفية والمحرزية والوسطية في الاثبات - كما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) ، أو أن مؤداها وجوب الجري العملي؟

الظاهر- عرفاً - الثاني. مثلاً: مفهوم آية النبأ - عرفاً - وجوب القبول عملاً، ومفاد آية الكتمان - بضميمة دليل اللغويّة - وجوب القبول شرعاً، وكذا آية النفر، ومعنى (عليك بهذا الجالس) اسمع كلامه، ومفاد (لاتنقض اليقين بالشك): الجري العملي وفق الحالة المتيقنة السابقة، وهكذا سائر الأدلة اللفظية، بل يكفينا الشك في ذلك، ولا يحتاج إلى ظهور الأدلة فيه.

المناقشة الثالثة(1): لوفرض أنّ مفاد أدلة الحجية (جعل المحرزية)، أي أنّ الشارع يقول: إنّني اعتبر الأمارة احرازاً، أو اعتبر نفسك محرزاً، فهنالك آثار للمحرز، وآثار لنفس الاحراز.

فالاُولى: كحرمة زوجته المترتبة على حياته المحرزة بالقطع.

ص: 357


1- هذه المناقشة بنائية، كما أنّ المناقشة الثانية كانت مبنائية (منه (رحمه اللّه) ).

والثانية: كوجوب التصدق المترتب على إحراز حياته.

المنصرف - عرفاً - من أدلة الحجية: ترتيب آثار المحرز، لا آثار الإحراز.

واللفظ وإن كان في حدّ ذاته عامّا أو مطلقا، إلاّ أنّ الانصراف قادح في الشمول.

المناقشة الرابعة: إنّ الحكومة في المقام واقعية، لا ظاهرية؛ لأنّ دليل حجية الأمارة الذي يقول: «اعتبر نفسك محرزاً» ناظر إلى دليل «ترتيب الأحكام على القطع أو الإحراز»، أي الدليل الذي يقول: «القطع حجة» أو «الإحراز منجز ومعذر» - وذلك الدليل هوالعقل مثلاً - فدليل حجية الامارة يوسع الموضوع ويقول: «هذا الإحراز أعمّ من الوجداني والتعبدي».

فيكون وزان قوله «الامارة إحراز» وزان «الفقّاع خمر» أو «الطواف بالبيت صلاة»، فتكون الحكومة واقعية لا ظاهرية.

قال في المنتقى: «أن الحكومة كما فسرها هو وغيره، تتقوم بنظر أحد الدليلين إلى الآخر بتضييق في مدلوله أو توسعة، فإذا كان دليل اعتبار الامارة يتكفل جعل الكاشفيّة وتنزيل الامارة منزلة العلم في الوسطية في الاثبات- كما التزم به مع الغض عن مناقشته - كان ناظرا إلى الدليل الواقعي المتكفّل لترتيب الأحكام على القطع، وعليه تكون حكومته عليه حكومة واقعّية ليس فيها كشف خلاف، بل يكون إنكشاف خلاف الأمارة من باب تبدّل الموضوع ولا نظر له إلى الواقع بحال كي يدعى أن حكومته عليه بالحكومة الظاهرية.

وبالجملة، لوكان دليل الاعتبار ناظراً إلى ترتيب آثار الواقع كان لما

ص: 358

ذكره من دعوى الحكومة الظاهرية صورة - وإن كان في نفسه محل إشكال - ولكنّه ليس كذلك، بل هو ناظر إلى ترتيب آثار القطع، فالحكومة على هذا واقعية»(1).

وفيه: أولاً: أنّ المقام ليس مقام الحكومة، لا الظاهرية - كما ذكرها المحقّق النائيني (رحمه اللّه) - ولا الواقعية - كما ذكرها المنتقى - بل المقام مقام الورود.

وثانياً: لو فرض أن المقام مقام الحكومة، فيمكن القول بكون الحكومة ظاهرية، مضافاً إلى كونها واقعية.

بيان الأول(2): أنّه لا فرق في الورود بين إخراج فرد - بسبب الدليل التعبدي - عن موضوع الدليل المحكوم، أو ادخاله فيه بسببه.

مثال الأول: خروج الخمر - بسبب أدلّة حرمتها - عن موضوع «رفع ما لا يعلمون».

ومثال الثاني: دخول الفتوى بمؤدى خبر العادل في موضوع «جواز الافتاء بما قامت عليه الحجة» بسبب دليل حجية خبر العادل.

والمقام من قبيل الثاني؛ وذلك لأن التنجز واستحقاق العقوبة على المخالفة موضوعه - عقلاً وعقلائياً - التكليف المحرز بالأعم من الإحراز التعبدي والوجداني.

وبعبارة أخرى: الموضوع (مطلق الإحراز) لا الإحراز الوجداني فقط،

ص: 359


1- منتقى الاصول 4: 74-75.
2- أي أن المقام مقام الورود (منه (رحمه اللّه) ).

فإذا قال الشارع: (اخبار العدل إحراز) وجد فرد حقيقي للموضوع - أي مطلق الإحراز.

وهذا هو الورود لا الحكومة؛ إذ في الحكومة يكون الدخول أو الخروج توسعيا اعتباريا، كدخول «الطواف» في «الصلاة» أو خروج الربا بين الوالد وولده عن «الربا»، أما في الورود فيكون الدخول أو الخروج حقيقيّاً تكوينيّاً واقعيّاً، وإن كان ذلك معلولاً للتعبّد الشرعي- أي البيان الشرعي -.

بيان الثاني: أن هنالك دليلين:

أحدهما: الدليل المتكفّل لترتيب الحرمة على الخمر - مثلاً -.

وثانيهما: الدليل المتكفّل لترتيب الحجية - مثلاً - على الإحراز.

فإن لوحظت نسبة دليل حجية الامارة - الذي مفاده أنّ الامارة إحراز - إلى الأول كانت الحكومة ظاهرية.

وإن لوحظت نسبته إلى الثاني كانت الحكومة واقعية، ولامنافاة بين اللحاظين، منتهى الأمر أنّ أحدها ملحوظ بالتبع، ولآخر ملحوظ بالذات.

والظاهر أن المنظور إليه اولاً وبالذات هو الأوّل، والمنظور إليه ثانياً وبالتبع هو الثاني؛ إذ الشارع عندما يقول (الأمارة إحراز للواقع) نظره الاصلي إلى دليل الواقع (مثل الخمر حرام) وإن كان نظره التبعي إلى دليل ترتيب الآثار على القطع، فتأمّل.

المقام الثالث: في قيام الأمارات والطرق المعتبرة مقام القطع الموضوعي الوصفي

وفيه بحثان:

الأول: البحث عن المحذور الثبوتي.

ص: 360

الثاني: البحث عن المحذور الاثباتي.

والظاهر أنّه لايوجد هنالك محذور ثبوتي - خلافاً للكفاية - وما ذكره من محذور الجمع بين اللحاظين، قابل للحل على ما تقدّم.

نعم يبقى المحذور الإثباتي، وهو إنصراف الدليل أو إجماله - إن كان دليل الحجّيّة لفظيّاً - وعدم قيام السيرة العقلائية على القيام - إن كان الدليل لبّياً -.

بل المحذور هنا أشدّ من المحذور في المقام الثاني؛ إذ في القطع الموضوعي الكشفي تكون جهة الكاشفيّة ملحوظة في القطع، فيمكن القول بقيام الأمارات والطرق مقامه؛ لكونها كواشف جعلية عن الواقع، فتشترك مع القطع في الجهة المأخوذة في موضعيته، بخلاف القطع الموضوعي الوصفي؛ إذ أن جهة الكاشفيّة غير ملحوظة فيه مطلقاً، وإنّما لوحظ القطع بما له من الآثار المختصّة به، وهي غير موجودة في الأمارات والطرق؛ ولذا لم يقل بالقيام مقام (الوصفي) جمع ممّن قال بالقيام مقام (الكشفي) - كالشيخ الأعظم(1) والمجدّد الشيرازي(2) والمحقّق النائيني رحمهم اللّه(3).

نعم، ذهب بعض إلى القيام؛ لاطلاق دليل الحجية؛ إذ الشارع اعتبر قيام الامارة قطعاً تعبّدياً، فيترتب عليه كل ما يترتب على القطع، سواء كان الأثر سابقاً أو لاحقاً. لكن قد سبقت المناقشة في دعوى الاطلاق هذه، فراجع.

ص: 361


1- فرائد الاصول 1: 34.
2- تقريرات المجدد الشيرازي 3: 255.
3- أجود التقريرات 3: 19.
المقام الرابع: في قيام الاصول العمليّة مقام القطع
اشارة

أمّا القطع الموضوعي: فقد اتّضح فيه الحال لما سبق.

وحاصل الكلام: أنّ في قيام الأصول مقام القطع الموضوعي محذورين:

الأول: المحذور الثبوتي.

الثاني: المحذور الاثباتي.

أمّا المحذور الثبوتي: فقد سبق التأمّل فيه، وإن أصرّ عليه في الكفاية.

وأمّا المحذور الاثباتي: فهو قائم في المقام، بصورة أشدّ ممّا هو قائم في قيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي.

ويظهر الكلام في ذلك ممّا تقدّم.

وأمّا القطع الطريقي: ففي قيام الاُصول العمليّة مقامه بحثان:

1- في قيام الاُصول غير المحرزة مقام القطع الطريقي.

2- في قيام الاُصول المحرزة مقام القطع الطريقي.

1) الاُصول غير المحرزة

وهي ثلاثة: البراءة، والاحتياط، والتخيير.

ونتحدّث - بإذن اللّه تعالى - عن كل واحد منها بشكل مستقل:

أوّلاً: البراءة

وقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه اللّه) أنها - كالاحتياط والتخييّر - لا تقوم مقام القطع مطلقاً، ولو كان طريقياً، فكيف لو كان موضوعياً، حيث قال: «وأمّا الاُصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها؛ - أيضاً - غير الاستصحاب؛ لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ماله من الآثار والأحكام، من تنجّز التكليف

ص: 362

وغيره، وهي ليست إلاّ وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلاً»(1).

وفيه: أنّه لا يشترط في قيام شيء مقام القطع قيامه مقامه من كل جهة، بل يكفي قيامه مقامه من جهة دون جهة. وقد اعترف صاحب الكفاية (رحمه اللّه) بنفسه: أنّ الامارات والطرق لا تقوم مقام القطع من كل جهة، فإن في القطع جهات كالحجية، والموضوعية، والامارات والطرق وإن قامت مقام القطع في الأولى، إلاّ أنها لاتقوم مقامه في الثانية(2).

وبعبارة أخرى: للقطع آثار سابقة ولاحقه، وقد سبق أن الامارات والطرق تقوم مقام القطع من جهة آثاره السابقة لا اللاحقة، ومع ذلك صح القول بأنها قائمة مقامه والبراءة قائمة مقام القطع في بعض جهاته.

فهي قائمة مقامه في المعذّريّة وإن لم تكن قائمة مقامه في سائر الجهات.

وبعبارة اُخرى: الانتفاء القطعي للتكليف ذو آثر - وهو المعذرية - والانتفاء التعبّدي قائم مقام القطع في ذلك الأثر.

وبعبارة ثالثة: القطع قد يكون مثبتاً للتكليف وقد يكون نافياً للتكليف، فالأوّل أثره التنجيز - لو فرضت مطابقته للواقع - ، والثاني أثره التعذير- لو فرضت مخالفته للواقع - ، وحيث ان البراءة نافية للتكليف لا مثبتة - كالقطع بعدم التكليف - فهي تقوم مقام القطع في جهة المعذرية لا

ص: 363


1- كفاية الأصول: 265.
2- كفاية الاُصول: 263.

المنجّزيّة، بل لا معنى لقيامها مقامه في جهة المنجزية؛ لأنها تتفرع على الاثبات لا النفي، والمفروض أنّ أصل البراءة نافٍ للتكليف.

هذا، ويظهر من بعض شرّاح الكفاية (1) أن الملاك هو (الكاشفيّة) في القطع، ولا كاشفية للاُصول العمليّة غير المحرزة مطلقاً، إلاّ أن كون الملاك ذلك خلاف ظاهر الكفاية(2).

مع أنّه لو فرضت ارادته لذلك، يرد عليه: أنّ الطريقية بعض جهات القطع لا كل جهاته، ولامانع من قيام البراءة مقام القطع في بعض جهاته الاُخر.

هذا، وقد يقال: لاشك في نهوض الدليل على البراءة؛ وذلك ملازم للمعذرية، وإلاّ كان الدليل لغواً، فلا ثمرة في البحث عن قيام البراءة مقام القطع، وكذا في بعض البحوث الآتية، فتأمل.

ثانياً: الاحتياط

أمّا في الاحتياط فلا توجد مشكلة «التنجيّز» التي كانت قائمة في «البراءة»؛ ولذا فربما يقال بقيامه مقام القطع في تنجّز التكليف - لو كان هنالك تكليف في الواقع - ؛ إذ كما يتنجز الواقع بالعلم به، كذلك يتنجز بايجاب الاحتياط، فلا بأس بالقول بقيامه مقامه.

وأجاب عن ذلك صاحب الكفاية بما توضيحه:

ص: 364


1- (1) الوصول 3: 323.
2- كفاية الاصول: 265.

أنّ الإحتياط نوعان:

1- الاحتياط العقلي، ومناطه: دفع الضرر المحتمل، كما في اطراف العلم الاجمالي، وكما في الشبهة الحكمية قبل الفحص.

2- الاحتياط النقلي، كايجاب الاحتياط الشرعي في الشبهات الحكمية التحريمية بعد الفحص - عند القائل به -.

أمّا الاحتياط العقلي: فبيان عدم قيامه مقام القطع يتوقف على تقديم مقدّمة، وهي:

أنّه لابدّ في صحة التنزيل - مضافاً إلى المغايرة بين المُنَزل والمُنَزل عليه - من المغايرة بين المنَزل وحكم المنزَل عليه، وإلاّ لم يصح التنزيل.

مثلاً: لو فرض أنّه قال الشارع «الطواف بالبيت صلاة»(1) فإنه توجد هنالك - مضافاً إلى المغايرة بين «المُنزل - أي الطواف» و«المُنَزل عليه - أي الصلاة» - مغايرة بين «المنزل» و«حكم المنزل عليه - وهو اشتراط الطهارة مثلاً»، وبذلك يصحّ التنزيل، وكذلك الحال في تنزيل «الأمارة» مقام «القطع» في «التنجيز» فإن «الامارة» تغاير «التنجيز» الذي يراد اثباته للأمارة بتنزيله منزلة القطع.

أمّا لو كان «المُنزَل» عين «حكم المُنزَل عليه» فلا يصح التنزيل، وهذه المغايرة مفقودة في «الاحتياط العقلي»؛ لأن حقيقة الاحتياط العقلي هي «حسن المؤاخذة عقلاً(2) على المخالفة» وهذه بعينها هي حقيقة

ص: 365


1- مستدرك الوسائل 9: 410.
2- أي تعقل حسن المؤاخذة (منه (رحمه اللّه) ).

«التنجيز»، فإن «تنجيز التكليف» عبارة عن «حسن المؤاخذة - عقلاً - على مخالفته» فلا مغايرة ولا اثنينية بين «الاحتياط العقلي» و«التنجّيز» فلا يصح القول بقيامه مقام القطع في التنجيز.

وأمّا الاحتياط الشرعي: فالزام الشارع بالاحتياط وإن كان موجباً لتنجز التكليف به وصحة العقوبة على مخالفته، وكان هذا الالزام مغايراً للتنجيز، فإن التنجيز اثر ذلك الالزام؛ ولذا صح تنزيله منزلة القطع في التنجيز، إلاّ أن الاحتياط الشرعي القائم مقام القطع في التنجيز لا صغرى له في الخارج؛ إذ لا يجب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص، بل هو مستحب، ولا معنى لكون المستحب منجزاً للتكليف.

وأما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، أو في الشبهات الحكمية قبل الفحص، فالاحتياط فيها وإن كان ثابتاً إلاّ أنّه عقلي لا شرعي، وقد سبق أنّه لا معنى لقيام الاحتياط العقلي مقام القطع في التنجيز، فإن الاحتياط العقلي عين التنجيز.

وبكلمة مختصرة: الاحتياط الشرعي ليس بواجب، والاحتياط الواجب ليس بشرعي.

هكذا ورد في الكفاية، مع توضيح(1).

ويرد عليه: أنّ الاحتياط العقلي يمكن أن يفسّر بتفسيرين:

التفسير الأول: أن الاحتياط العقلي عبارة عن «اذعان العقل باستحقاق

ص: 366


1- كفاية الاصول: 265.

العقاب على مخالفة التكليف المحتمل، أو المعلوم بالعلم الاجمالي».

وبناءً على ذلك لامانع من القول بقيامه مقام القطع في تنجيز التكليف - أي اثباته في ذمة المكلف -.

فكما أنّ «القطع» - أي رؤية الواقع، وإنكشاف الحجاب بين النفس والواقع منجز للتكليف، كذلك «الاحتياط» - أي رؤية العقل استحقاق العقاب على المخالفة - سبب لتنجز التكليف، وكما أن انتفاء الرؤية الأولى سبب لانتفاء التنجز، كذلك انتفاء الرؤية الثانية سبب لانتفاء التنجز.

التفسير الثاني: أن الاحتياط العقلي عبارة عن «حكم العقل بوجوب الاجتناب».

وعليه، لا يكون الاحتياط العقلي سبباً للتنجز؛ إذ يكون في رتبته، أو في رتبة معلوله؛ إذ إدراك العقل حسن المؤاخذة على المخالفة يكون سبباً لتنجز التكليف، ولحكم العقل بوجوب الإجتناب، أو الادراك المزبور يكون سبباً لتنجز التكليف، ويكون تنجز التكليف سبباً لحكم العقل بوجوب الاجتناب.

إلاّ أن المعروف بينهم إنكار وجود الأحكام العقلية، فيكون الاحتياط العقلي عبارة عن المعنى الأول، فلا يظل هنالك مانع من القول بقيامه مقام القطع في التنجّيز.

نعم، ماذكره في الكفاية(1) في «الاحتياط الشرعي» تام على مبنى المشهور.

ص: 367


1- كفاية الاصول: 265.

ثالثاً: التخيير

وصريح إطلاق الكفاية عدم قيامه مقام القطع(1).

إلاّ أنّه يمكن أن يقال: أنّ التخييّر على نحوين:

1- التخييّر الشرعي.

2- التخييّر العقلي.

أمّا التخيير الشرعي كما في الخبرين المتعارضين - فلا أثر له في تنجيز الجامع؛ لأنّ الجامع تنجز بحكم العقل من قبل بالعلم الإجمالي، إلاّ أنّه مؤثر في «التعذير» لو أتى باحدى الحصتين وترك الأخرى استناداً إلى التخيير الشرعي.

فلو قام خبر على وجوب الظهر وخبر على وجوب الجمعة، فاختار المكلّف الظهر، ثمّ بان أنّ الواجب هو الجمعة، كان المكلّف معذوراً، والمعذر له هو التخيير الشرعي الثابت بقوله (عليهم السلام) : «إذاً فتخير»(2) أو بقوله (عليه السلام) :«بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»(3)، بل قد يفرض أنّ للتخيير الشرعي أثراً في التنجيز أيضاً، كما في موارد تعارض الخبرين في الحرمة والحلّية، كما في اتيان الزوجة من المأتي الآخر مثلاً - فإنه لا علم بوجود وجوب في البين، فلا يتنجز الجامع عقلاً، إلاّ أن المجتهد لو اختار التحريم - بناءً على جريان التخيير في المقام، كما اختاره جماعة، ومنهم السيد الخونساري (رحمه اللّه) في جامع المدارك - تنجزت على المكلف الحرمة.

ص: 368


1- كفاية الاصول: 265.
2- مستدرك الوسائل 17: 304.
3- الكافي 1: 66.

وعلى هذا، يكون التخيير الشرعي بضميمة اختيار المكلف سبباً للتنجيز، في امثال هذه الموارد.

وأما التخيير العقلي فلا معنى لقيامه مقام القطع؛ لأنه عبارة عن اللاّبديّة العقلية، والمكلّف ملجأ - تكويناً - إلى اختيار أحد البديلين، كما لو دار الأمر بين وجوب دفن الكافر وحرمته، فإنّ المكلّف مضطر تكويناً إلى اختيار أحد الأمرين، وهذا هو معنى التخيير العقلي، ولا معنى للقول بقيامه مقام القطع في المنجزية أو المعذرية أو غيرهما من آثار القطع.

تنبيه

قال في المنتقى: «البحث في الاُصول من هذه الجهة بحث لفظي صرف؛ إذ أنّه لاموهم لقيامها مقام القطع الموضوعي، فينحصر البحث في قيامها مقام القطع الطريقي.

ومن الواضح: إنّ مرجع البحث في هذه الجهة إلى أنّ الأصل المعلوم مفاده وأثره والمعلوم جريانه في موارده المقررة بلا شبهة ولا اشكال، هل مقتضى أثره الثابت كونه قائماً مقام القطع الطريقي أو لا؟

ولا يخفى، أن ذلك بحث لفظي؛ إذ لايترتب على إثبات ذلك أو نفيه أي اثر واي تغيير في مقام جريان الاصل وترتب آثاره»(1).

2) الاصول المحرزة

كالإستصحاب، وقاعدة الفراغ والتجاوز - بناءً على كونهما اصلين لا أمارتين -، وقاعدة عدم اعتبار شك الامام والمأموم مع حفظ الآخر. والظاهر

ص: 369


1- منتقى الاصول 4: 80.

قيامها مقام القطع الطريقي.

ويمكن أن يستدل لذلك بأدلّة:

الدليل الأول: ما في المصباح من أن الشارع اعتبر موارد جريانها علماً، فترتب عليه آثاره من المنجزية والمعذرية وغيرها.

لا يقال: إنه قد أخذ الشك في موضوع الاصول فكيف يمكن اعتبار الاُصول المحرزة علماً، فإنه جمع بين المتناقضين بالمآل؛ إذ يكون المكلّف حينئذ شاكّاً باعتبار أنّ موضوع الاُصول الشاكّ، وعالماً باعتبار أن الشارع اعتبره عالماً.

فإنه يقال: أولاً: لو كان هذا جمعاً بين المتاقضين لزم التناقض في جميع موارد التنزيل كما في «الطواف بالبيت صلاة»(1).

فيكون الطواف صلاة باعتبار التنزيل، وغير صلاة باعتبار حقيقته.

ثانياً: أن هذا لو كان مانعاً عن قيام الاُصول مقام القطع لمنع أيضاً عن قيام الأمارات مقام القطع؛ إذ لا فرق بين الاُصول والأمارات من هذه الجهة، فأنّ الأمارات قد اُخذ في موضوعها الشك أيضاً، غاية الأمر أنّ الاُصول قد اُخذ الشك في موضوعها في لسان الدليل اللفظيّ، وفي الأمارات قد ثبت ذلك بالدليل اللبي.

بيان ذلك: أنّ في موضوع حجيّة الأمارات فروضاً:

الأوّل: أن يكون موضوعها « العلم بموافقة الامارة للواقع».

ص: 370


1- مستدرك الوسائل 9: 410.

ولا يخفى أنّ جعل الحجيّة للأمارات حين العلم بالواقع لغو؛ إذ هو تحصيل للحاصل ، بل هو أردأ من تحصيل الحاصل؛ لأنّه تحصيل تعبدي لما هو حاصل بالوجدان.

الثاني: أن يكون موضوعها «العلم بمخالفة الأمارة للواقع».

وهذا أردأ من سابقه، ولم يقل به أحد.

الثالث: أن يكون موضوعها مهملاً بلحاظ العلم بالوفاق والعلم بالخلاف.

ولا يخفى أن الاهمال في مقام الثبوت غير معقول.

الرابع: أن يكون الموضوع هو «خصوص الشك».

وهذا هو المتعيّن.

هذا مضافاً إلى أنّه قد أخذ الشك في موضوع بعض الامارات في لسان الدليل اللفظي أيضاً كقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ

أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1).

ثالثاً: الحلّ، بأنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول هو الشك الوجداني والعلم - المفترض جعله - تعبّدي، ولا تنافي بينهما اصلاً، وإنّما التنافي بين الشكّ الوجداني والعلم الوجداني، والشكّ التعبّدي والعلم التعبّدي، لا بين الشكّ الوجداني والعلم التعبّدي.

ومنه يظهر الجواب عن سائر موارد التنزيل.

فإن، الطواف غير صلاة بالوجدان، وصلاة بالتعبد، ولا منافاة بينهما.

ص: 371


1- النحل: 43.

هذا ما اُفيد في المصباح، - مع بعض التصرف(1).

إلاّ انّه لا يخلو من نظر؛ وذلك لأن أدلّة الحجية غير اللفظية، لا لسان لها اصلاً، وأدلّة الحجية اللفظية لم يظهر منها اعتبارها الأمارة علماً، بل الظاهر منها وجوب الجري العملي، بل يكفينا الشك في ذلك، ولايحتاج إلى ظهور الأدلة فيه، وقد سبق نظير ذلك في الامارات، فراجع.

الدليل الثاني: الظهور العرفي لأدلّة الحجية في كون الشارع قد اقامها مقام القطع الطريقي. في آثاره، ولو في الجملة، فتأمّل.

الدليل الثالث: أنها لو لم تقم مقام القطع الطريقي لزم لغويتها.

مثلاً: لو لم يكن مفاد دليل حجية الاستصحاب: المنجزيّة والمعذريّة، فلم ينجز نجاسة الماء المشكوك في بقاء نجاسته، ولم يعذر عن شرب الماء المشكوك في بقاء طهارته، كان جعله لغواً، ولم يترتب على قوله (عليه السلام) «لاتنقض اليقين بالشك»(2) أي اثر عملي، فلا بد من القول بقيامه مقام القطع في المنجزية والمعذرية ونحوهما.

تنبيه

تكرر استخدام كلمة (اليقين) و(الإحراز) و(الإثبات) ونحوها في الروايات الشريفة.

وفي تخريج وجه قيام الامارات والطرق والاصول العمليّة المحرزة مقام

ص: 372


1- مصباح الاصول 2: 38-40.
2- وسائل الشيعة 2: 356.

اليقين والاحراز والإثبات وجوه، قد يتمسّك بها لإثبات قيامها مقامها - ولو في الجملة -:

الوجه الأول: أن يقال: إنّ لفظ اليقين- ونحوه- قد استخدم في معنى «الحالة النفسيّة الخاصة التي لا يوجد فيها احتمال الخلاف».

وقيام الأمارات مقامه: إنما هو من باب الحكومة الظاهريّة - التي ادعاها المحقق النائيني (رحمه اللّه) - أو الواقعية - التي ادّعاها غيره -.

وبعبارة أخرى: أن ذلك من مقتضيات حكومة أدلّة الطرق والامارات والاُصول المحرزة على الأدلّة الواقعية.

فالأمارة تعتبر علماً بحكم لسان دليل حجيتها، فتكون حاكمة بالحكومة الظاهرية على الدليل المتكفل لاثبات الاحكام الواقعية، بالتوسعة في طريق الاحراز.

وهذا الوجه محل تأمّل.

لما سبق من أن لسان الأدلّة اللفظيّة للحجّيّة ليس لسان جعل الامارة علماً، بل لسانها لسان وجوب الجري العملي.

وأما الأدلة اللبّيّة فلا لسان لها.

الوجه الثاني: دعوى أنّ لفظة (العلم) - وأمثاله - وضعت بازاء معنى (المحرز).

أي أنّها وضعت للعنوان الكلّي، لا لخصوص الإحراز الوجداني الذي لا يتطرق إليه احتمال الخلاف.

منتهى الأمر أنّه بجعل الشارع الحجية للطرق والأمارات والاُصول

ص: 373

المحرزة تتحقّق مصاديق جديدة لهذا العنوان الكلي. كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية التي يمكن أن يوجد لها فرد جديد وذلك كما يقال في: «الشمس» أنّها وضعت ل- (الكوكب النهاري المضيء الناسخ ضوءه لوجود الليل)، إلاّ أنّ هذا العنوان الكلي منحصر فعلاً في مصداق واحد. ولو فرض وجود فرد آخر مثل هذا الموجود الفعلي لكان ايضاً من مصاديق ذلك العنوان الكلّي.

وأورد عليه النائيني (رحمه اللّه) : بأنه لا سبيل إلى إثبات أن (العلم) موضوع للعنوان الكلي.

أقول: بل الظاهر - بحكم التبادر وصحة الحمل وعدم صحة السلب - أن (العلم) موضوع لخصوص الحصة الخاصة من الاحراز التي لا تجامع احتمال الخلاف.

الوجه الثالث: أنّ اللفظ مستعمل في مطلق (الحجة) أو مطلق (الكاشف) على نحو عموم المجاز.

ففي نحو (لا تنقض اليقين بالشك) لا يراد باليقين معناه الحقيقي ولا معناه المجازي، بل الجامع بين المعنين، فيكون المقصود به (لا تنقض الحجة باللاحجة).

وفيه: أنّ ظاهر أخذ شيء في شيء كونه دخيلاً فيه بعنوانه، فحمله على دخل عنوان جامع بينه وبين غيره يحتاج إلى قرينة.

وبعبارة أخرى: المجاز خلاف الأصل، واستعمال اللفظ فيه يحتاج إلى قرينة، وهي مفقودة في المقام.

ص: 374

الوجه الرابع: دعوى أن (اليقين) - وأمثاله - إنّما استعمل باعتبار كاشفيّته عن الواقع.

فليس للوجدان دخل في الحكم، بل المناط هو جهة الاحراز الموجود في الظن بعد اعتباره.

ومن الواضح: أن العلّة تعمم وتخصص.

وفيه: أن العلّة على ثلاثة انحاء:

1- العلّة المنصوصة، كما في (لاتشرب الخمر لاسكارها)(1) مثلاً ولا شك في كونها تعمّم الحكم لغير الموضوع المذكور.

2- العلّة المستنبطة القطعية.

وتعميمها للحكم ناشيء من حجية القطع الذاتية، بلا فرق بين مناشيء حصول القطع، على ما تقرّر في محلّه.

3- العلّة المستنبطة غير القطعية.

وهي غير حجة؛ إذ لا تعدو الظنّ، و(الظنّ لا يغني من الحق شيئاً).

وكون الكاشفيّة في المقام هي العلّة من القسم الثالث، فلا ينهض ذلك بإثبات المدّعى.

الوجه الخامس: أنّ اليقين - وأمثاله - إنّما استخدم كمثال لطبيعي الجامع - وهو «الحجة» مثلاً -.

وإنما خصص بالذكر لأنه أظهر الحجج، أو لنحو ذلك.

ص: 375


1- الحدائق الناضرة 23: 403.

وقد تقرر في المنطق: إمكان اعطاء الحكم بالمثال، كقولك لمن سألك ما (سعدانة)؟ فتقول: هذه - مشيراً إلى فرد من افرادها -.

وفيه: أن المثالية خلاف الظاهر، فتأمل.

الوجه السادس: أنّ المراد باليقين هو معناه اللغوي والعرفي المتداول أي الحالة النفسانيّة الخاصة التي لا تجامع احتمال الخلاف، إلاّ أن اليقين يشمل: اليقين بالواقع وبالوظيفة.

فلو تيقّن بنجاسة مائع - يقيناً وجدانياً - وشك في بقاء النجاسة جرى الاستصحاب، لتوفر ركنيه: اليقين السابق، والشك اللاحق.

ولو قامت البينة على نجاسة مائع، ولم يحصل له اليقين الوجداني بالنجاسة - لاحتمال خطأ البيّنة - ثم شكّ في بقاء تلك النجاسة - على فرض وجودها - جرى الاستصحاب، لتوفّر ركنيه أيضاً، منتهى الأمر أنّ اليقين السابق تعلّق بالوظيفة لا بالواقع، ولا فرق بينهما في كون كل منهما فرداً من افراد اليقين.

وفي المقام تفصيل يأتي في مباحث الإستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

(تنبيه آخر)(1).

ص: 376


1- ترك المصنّف (رحمه اللّه) في مخطوطته هنا فراغاً بمقدار صفحتين تحت هذا العنوان، لعلّه لم يجد فرصة لكتابتها وأراد أن يكملها لاحقاً، لكن أمر اللّه وقضائه قد سبقه.

في تقسيمات أُخر للقطع الموضوعي

اشارة

في أنّه هل يمكن أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم، أو مثله، أو ضده، أو خلافه.

قال في الكفاية: «لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين، ولا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين»(1).

وهو وإن ذكر ثلاثة أقسام إلاّ أنها أربعة:

1- أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم الذي تعلق به القطع.

2- أخذه في موضوع حكم مماثل لما تعلّق به القطع.

3- أخذه في موضوع حكم مضادّ لما تعلّق به القطع.

4- أخذه في موضوع حكم مخالف لما تعلّق به القطع.

ونتحدث حول هذه الأقسام فيما يلي إن شاء اللّه تعالى.

1) أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم

اشارة

ومثاله أن يقول: إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجبت عليك اقامتها بنفس ذلك الوجوب. فيكون القطع بحكم مأخوذاً في موضوع شخصه

ص: 377


1- كفاية الأصول: 266.

بحيث يناط به ثبوته.

وبعبارة أخرى: يكون الوجوب المأخوذ متعلقاً للقطع وحكماً له واحداً.

ويمكن أن تترتب على هذا البحث بعض الثمرات.

منها: ما ربما يذكر في مباحث «التصويب» - بمعنى تبعية الأحكام لآراء المجتهدين - من أنّ ذلك مستلزم للمحال؛ لأنّه مِنْ أخذ العلم في موضوع شخصه، وهو محال.

وقد قيل: إنّ أوّل من ذكر ذلك هو العلامة الحلي (رحمه اللّه) في مباحثه الكلامية(1).

ومنها: ما ربما يذكر في جميع موارد اختصاص الأحكام بالعالمين بها، من أن ذلك موجب للمحذور المتقدم.

وقد ذكر جمع من الفقهاء: أن ذلك ثبت في موردين:

أحدهما: الجهر والاخفات.

وثانيهما: القصر والاتمام.

إلاّ أنّ الوالد (رحمه اللّه) ذكر أن ذلك لا يختص بهذين الموردين، بل له موارد متعددة أخر في الفقه، خصوصاً في كتاب الحجّ.

وحينئذ: فلو ثبتت استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم لزم توجيه هذه الموارد.

وعلى كل حال: فقد ذكرت وجوه لإثبات استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.

ص: 378


1- راجع: مناهج اليقين وكشف المراد ونهج المسترشدين.
1- الدور

الوجه الأول: ما ذكره صاحب الكفاية من إستلزامه للدور، وقد قرّب ذلك بأن (القطع بالحكم) يتوقف على (الحكم) - بداهة توقّف العارض على معروضه -.فإذا أخذ (القطع بالحكم) موضوعاً ل- (الحكم) كان (الحكم) متوقّفاً عليه، توقّف الحكم على موضوعه، فيتوقّف - بالنتيجة - الحكم عل نفسه، وهذا دور.

وبعبارة أُخرى: العلم تابع للمعلوم، فلو أخذ العلم موضوعاً للمعلوم كان المعلوم تابعاً للعلم، وهذا دور.

وقد ذكر نظير ذلك في مبحث «أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر»، بل في كل التقسيمات الثانوية للخطاب.

وفيه نظر، توضيحه يتوقف على تمهيد مقدّمة، وهي أن كون شيء مصداقاً للطبيعي منوط بأمرين:

الأول: أخذ الطبيعي في حدّه - بالمعنى الأعمّ للحد -.

الثاني: ترتب الآثار المترقبة من الطبيعي على الشيء، كترتب تفريق نور البصر على بياض الثلج - فرضاً -.

ومجرد تحقّق الأمر الأول لا يجدي في إندراج الفرد تحت الطبيعي ما لم ينضم إليه الأمر الثاني. نعم، يكون هو هو بالحمل الأوّلي الذاتي لا بالحمل الشائع الصناعي إلاّ أن ملاك الفردية: الحمل الشائع لا الأولي.

ومن هنا لم يكن مفهوم الجزئي مصداقاً للجزئي، وإن أخذ تعريفه في حده. إلى غير ذلك من الأمثلة.

ص: 379

وأمّا في المقام: فالحكم المأخوذ متعلقاً للقطع مغاير للحكم المأخوذ حكماً له، إذ الأول هو (الحكم) بالحمل الأولي الذاتي - وهو ليس فرداً من أفراد الحكم حقيقة -.

والثاني هو (الحكم) بالحمل الشائع الصناعي - وهو فرد من أفراد الحكم حقيقة - فيكون الموقوف عليه مغايراً للموقوف عليه.

وبعبارة أُخرى: المتقدّم هو الحكم المقطوع به بماهيته، والمتأخر هو الحكم بإنّيته، فلا دور.

وبعبارة ثالثة: المأخوذ في الموضوع هو الحكم المقطوع به كمفهوم ذهني، والمأخوذ في المحمول هو الحكم كمصداق خارجي، فلم يتقدّم الشيء على ذاته.

وبعبارة رابعة: ما يتوقف عليه القطع هو الصورة الذهنية للحكم المقطوع به، وما يتوقف على القطع هو الوجود الخارجي للحكم.

وبعبارة خامسة: الحكم الأول هو المعلوم بالذات، والحكم الثاني هو المعلوم بالعرض.

ونظير ذلك ما يقال في «العلّة الغائية» حيث إنها «أول الفكر» في عين كونها «آخر العمل»، ولا يلزم من ذلك تقدم الشيء على ذاته، وذلك لأنّ العلّة الغائية :«علّة فاعل بماهيتها، معلولة له بانّيتها».

هذا ولكن الظاهر أن الكلام في الحكم بوجوده الخارجي لا الذهني.

وستأتي تتمة للكلام قريباً إن شاء اللّه تعالى.

ص: 380

2- ملاك إستحالة الدور

الوجه الثاني: ما نقله في النهاية عن بعضهم - والظاهر أنّ مراده المحقّق النائيني - من استلزام ذلك لمحذور «ملاك استحالة الدور».

ولنبين أولاً: الفرق بين «الدور» و «ملاك استحالة الدور».

أما «الدور» فهو: توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه، كتوقّف الأب على الإبن الذي يتوقف على ذلك الأب.

وبعبارة أخرى: أن يقع ما فرض كونه في سلسلة علل وجود الشيء في سلسلة معلولاته.

أو: أن يقع ما فرض كونه في رتبة علّة الشيء في رتبة معلولة.

وإمّا «ملاك استحالة الدور» فهو لزوم تقدّم الشيء على نفسه.

وبعبارة أخرى: كون الشيء متقدماً ومتأخراً في آنٍ.

ومآل ذلك إلى اجتماع النقيضين، أي كون الشيء موجوداً ومعدوماً في آنٍ واحد.

إذا تبين ذلك نقول: إن أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم يوجب (تقدم الشيء على نفسه) - وهو ملاك استحالة الدور - وإن لم يلزم منه الدور بذاته، وبذلك يكون محالاً كالدور.

وقد بيّن المحقق الاصفهاني هذا المحذور بقوله: «إن العلم موضوع الحكم - لا متعلّقه المطلوب به - والموضوع لابد أن يكون مفروض الثبوت، فيلزم فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته، وهو ملاك الدور المحال»(1).

ص: 381


1- نهاية الدراية 2: 76.

بيان ذلك: إنّ الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية – عادة- لا على نحو القضايا الخارجية.

وفي القضية الحقيقية يؤخذ الموضوع مفروض الوجود، ويحمل عليه المحمول عند فرض وجوده.

فإذا قال الشارع: المستطيع يجب عليه الحج فمعناه: أن هذا الموضوع متى ما فرض وجوده فالوجوب ثابت عليه، وإن فرض أنّه لم يكن هنالك حين الوجوب مستطيع في الخارج أصلاً.

وكما يؤخذ نفس الموضوع مفروض الوجود كذلك تؤخذ جميع قيوده وأجزائه.

وبعبارة أخرى: رتبة الموضوع متقدمة على رتبة المحمول - عقلاً - وعليه فإذا فرضنا كون «القطع بالحكم» موضوعاً، فكما يؤخذ «نفس القطع» مفروض الوجود، كذلك يؤخذ متعلّق القطع أي (الحكم) مفروض الوجود، فيكون ثابتاً في مرتبة الموضوع.

وحيث إنّ المحمول هو (نفس الحكم)، وحيث إن رتبة الموضوع متقدّمة على رتبة المحمول يكون الحكم ثابتاً في الرتبة المتقدمة (رتبة الموضوع) وفي المرتبة المتأخرة (رتبة المحمول)، فيكون الحكم ثابتاً قبل ثبوت نفسه، ومتقدماً على نفسه وهذا هو ملاك الدّور المحال.

ولا يخفى أنّ هذا البيان كما يجري في المقام يجري في كل الانقسامات الثانوية للخطاب - لو فرض أخذها في الموضوع - مع فارق أن التأخر قد يكون برتبة وقد يكون برتبتين.

ص: 382

وأجاب عنه - أي عن (الوجه الثاني)- المحقق الاصفهاني بجوابين:

الجواب الأول: «أن مقتضاه فرض ثبوت العلم لا فرض الثبوت المعلوم، وثبوت العلم لا يقتضي ثبوت المعلوم بالعرض»(1).

أقول: يمكن بيان هذا الايراد بأحد وجهين:

الأول: أن العلم متقوّم بوجود «المعلوم بالذات» - أي الصورة الذهنية للشيء - لا بوجود «المعلوم بالعرض» - أي الواقع العيني الخارجي للشيء.

وقد سبق - في بداية مباحث القطع- أنّ الكاشفيّة عن الواقع ليست ذاتية للقطع، فيمكن أن يكون القطع جهلاً مركّباً وعليه فكون الموضوع «العلم بالحكم» لا يقتضي ثبوت «الحكم»- لإمكان كونه جهلاً مركّباً، فلا يلزم من ذلك تقدم «الحكم» على نفسه.

الثاني: أن فعلية العلم (بالمعنى الأخصّ للفعلية: أي كونه واقعاً في زمان الحال) لا تستلزم فعلية المعلوم.

إذ العلم كما يتعلّق بالمعلوم الفعلي، كذلك يتعلّق بالمعلوم الماضوي، وبالمعلوم الاستقبالي، بدون أن يخل ذلك بكون العلم فعلياً.

مثال الأول: العلم بجريان الماء في النهر فعلاً، حيث يكون العلم فعلياً والمعلوم فعلياً.

ومثال الثاني: العلم بطلوع الشمس أمس، أو بحدوث الطوفان في عهد نوح (عليه السلام) حيث يكون العلم فعلياً والمعلوم ماضوياً.

ص: 383


1- نهاية الدراية 2: 76.

ومثال الثالث: العلم بطلوع الشمس غداً، أو بظهور الحجّة المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، حيث يكون العلم فعلياً والمعلوم استقبالياً.

فكون الموضوع «العلم بالحكم» مقتضاه «فعلية العلم» لا «فعلية الحكم» فيلزم منه: تقدم (العلم على الحكم)، لا تقدم (الحكم) على (الحكم) ليكون من ثبوت الشيء قبل ثبوت نفسه.

وهذا الجواب بكلا وجهيه لا يدفع الإشكال بشكل كلّي.

بيان ذلك: أن العلم تارة يكون تمام الموضوع وأخرى جزء الموضوع.

كما أن المعلوم تارة يؤخذ بوجوده الفعلي، وأخرى بوجوده الماضوي، وثالثة بوجوده الإستقبالي، ورابعة يؤخذ مطلق وجوده في الموضوع.

وأيضاً: العلم تارةً يكون مطابقاً للواقع، وأُخرى غير مطابق للواقع.

والمحذور وإن لم يرد في بعض تلك الأنحاء، إلاّ أنّه وارد في البعض الآخر.

مثلا: لو فرض أخذ «العلم بالمعلوم الفعلي المطابق للواقع» موضوعاً ورد المحذور.

إذ يكون الحكم ثابتاً في رتبة الموضوع، فثبوته في رتبة المحمول مستلزم لتقدم الشيء على نفسه.

وهكذا لو أخذ العلم مطلقاً، إذ يكون المحذور ثابتا في بعض الفروض.

اللّهمّ إلاّ أن يريد المحقّق الاصفهاني نفي (الاستلزام الكلّي) لا النفي الكلّي للاستلزام.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقّق الاصفهاني أيضا، بقوله: «مع أنّ ثبوت

ص: 384

الشيء فرضاً غير ثبوته التحقيقي، فلا يلزم من فرض ثبوت الشيء هنا ثبوت الشيء قبل نفسه، فلا مانع من توقّف ثبوته التحقيقي على ثبوته الفرضي»(1).

وفيه نظر، إذ القضية الفرضية يمكن أن يراد بها أحد معنيين:

1- القضية التي يكون الموضوع فيها مجرّد الفرض والتقدير، أي علّق المحمول فيها على نفس الفرض، كقولنا: «فرض المحال ليس بمحال»؛ إذ الموضوع في هذه القضية مجرد الفرض، أي مجرد صورة ذهنية، لا مطابق لها في الخارج، فالفرض ليس محالاً، وإن كان المفروض محالاً.

وهكذا في موارد العلم العنائي كقولنا: «فرض المرض يوجب المرض».

2- القضية التي يكون الموضوع فيها «المفروض» و «المقدّر» أي أنّه لو تحقّق هذا المفروض في الخارج يترتب عليه هذا المحمول، كقولنا: «لو فرضنا أنك أصبحت غنياً فماذا تفعل».

ومراد المحقّق النائيني بأخذ الموضوع مفروض الوجود المعنى الثاني لا الأول، فيكون الإشكال غير وارد.

قال في المنتقى: «وأما الثاني فهو غريب الصدور من مثل المحقق الاصفهاني، إذ المحقق النائيني وإن عبّر بفرض الوجود، لكنه لا يقصد كون موضوع الحكم هو الوجود الفرضي للشيء المأخوذ في لسان الدليل، بل يقصد أن مفاد القضية الشرعية المتكفلة للحكم الشرعي مفاد الفرض والتقدير، فهي تفيد فرض الحكم عند فرض وجود الموضوع، ومرجع ذلك إلى تعليق نفس وجود الحكم على وجود الموضوع حقيقة، ولذا لا يلتزم

ص: 385


1- نهاية الدراية 2: 76.

بترتب الحكم فعلا إلاّ عند وجود الموضوع حقيقة وخارجاً، اذن فالمعلق عليه في الفرض هو الوجود التحقيقي للحكم لا الفرضي، فيلزم المحذور المزبور»(1).

3- الخلف

الوجه الثالث: قال المحقّق الاصفهاني: (إن فرض تعليق الوجوب على العلم به هو فرض عدم الوجوب لطبيعي الصلاة - مثلاً -.

وفرض نفس القيد وهو «العلم بوجوب الصلاة» هو فرض تعلّق الوجوب بطبيعي الصلاة)(2).

بيانه: أننا لو فرضنا أن مجتهداً استفرغ الوسع في الفحص عن الأدلّة الشرعية المتعلقة ب- «حرمة الغراب» - مثلاً- وتوصّل إلى حرمة الغراب فرضاً، فهذه الحرمة متعلقة بطبيعي «الغراب» لا بحصّة خاصّة منه (أي «الغراب المعلوم الحرمة»).

وهذا هو الذي يحصل عادة عند حصول القطع بالحكم الشرعي.

فإذا فرضنا - بعدئذٍ - أنّ الشارع قال له: «إذا قطعت بحرمة الغراب حرم عليك الغراب»، فمقتضى هذا التعليق: تعلّق الحرمة ب- «الغراب المعلوم الحرمة» لا ب- «طبيعي الغراب»، إذ لو تعلقت الحرمة ب- «طبيعي الغراب» كان التعليق لغواً، إذ تكون الحرمة ثابتة للغراب سواء علم بحرمته أو لا، فلا يظل معنى لتعليق الحرمة على «العلم بالحرمة»، ويكون وزان ذلك حينئذ وزان

ص: 386


1- منتقى الأصول 4: 89.
2- منتهى الدراية 2: 76.

قولنا: «إن جاء زيد اليوم طلعت الشمس غداً» مع أن الشمس تطلع غداً سواء جاء زيد اليوم أو لا؟

وعليه: يكون مفاد التعليق في الجملة الشرطية: ثبوت الحرمة لحصّة خاصّة من الغراب وهو «الغراب المعلوم الحرمة» لا ل- «طبيعي الغراب».

وهذا خلاف المفروض من تعلّق الحرمة ب- «طبيعي الغراب».

وبعبارة أخرى: الحرمة المأخوذة في الموضوع متعلّقها «الطبيعي»، والحرمة المأخوذة في المحمول متعلّقها «الحصّة»، فيكون مفاد قوله: «إذا علمت بحرمة الغراب حرم عليك الغراب»: أنّه: «إذا علمت بحرمة طبيعي الغراب حرمت عليك الحصّة».

ولو كانت الحرمة الموضوعية والمحمولية متعدّدة لهان الأمر، غير أن المفروض أنّها متّحدة، فيؤول الأمر إلى أن الحرمة التي فرضت متعلقة بالطبيعي غير متعلّقة بالطبيعي. وهذا خلف.

ومآل ذلك إلى اجتماع النقيضين، كما هو واضح.

والقول بأن المطلق متحد مع المقيد لا يجدي؛ إذ الإتحاد بمعنى الانطباق لا بمعنى العينية، كما هو المدّعى في المقام، فتأمل.

ثم إنّ هذا كله في فرض مطابقة القطع للواقع، وأما في صورة المخالفة فلا معلوم بالعرض كي يدعى إتّحاده مع الحكم المأخوذ في المحمول، فتدبر.

4- اللغوية

الوجه الرابع: قال في النهاية - في تفصيل - :«إنّ جعل الحكم بعثاً وزجراً لجعل الداعي، ومع فرض العلم بالوجوب من المكلف يلغو جعل الباعث

ص: 387

له»(1).

وهذا الوجه يحتوي على صغرى وكبرى.

أمّا الكبرى فهي (إن جعل الحكم لجعل الداعي) وهي محل إشكال:

أمّا أوّلاً: فلاستلزام هذه الدعوى عدم إمكان جعل الحكم في جميع موارد وجود الداعي عند المكلّف، سواء كان الداعي من قبيل الانبعاث والانزجار العقليين، أو من قبل الانبعاث والانزجار الطبعيين؛ وذلك لتحقّق ما يفترض غاية في الجميع، ومع تحقّق الغاية لا تبقى هنالك علّة غائية للجعل الشرعي، فلا يمكن وجوده. ويبعد الالتزام بذلك بنحو مطلق - وإن فرض الالتزام به في الجملة -.

مثلاً: الانزجار الطبعي عن أكل بعض الخبائث موجود عند كثير من المكلّفين، كما أنّ الانبعاث الطبعي إلى الإنفاق على الأولاد موجود عند الكثير من المكلّفين.

فيستحيل - بناءً على تلك الدعوى - جعل الحكم الشرعي في تلك الموارد، إلاّ لمن لا يوجد عنده الباعث الطبعي، بل عليه تكون جميع الأحكام مختصّة بمَنْ لا يوجد عنده الداعي، ومن البعيد التزام أحد بذلك، مع مخالفته للإطلاقات ولقاعدة الاشتراك، فتأمّل.

اللّهمّ إلاّ أنّ يقال: إن مراد المحقق الاصفهاني ب- «الداعي» هو «الداعي الشرعي» لا «مطلق الداعي »، فيكون اللاّم للعهد لا للجنس.

ص: 388


1- نهاية الدراية 2: 77.

وحيث إن «الداعي الشرعي» مفقود يساق الحكم بداعي جعله، وإن فرض أن «الداعي الطبعي أو العقلي» موجود.

إلاّ أن لازم ذلك كون الأوامر الشرعية في مورد وجود البواعث العقلية مولوية، وقد بنى الكثير منهم على كونها إرشادية، وإن كان المبنى محل تأمّل، إلاّ في ما استلزمت المولوية محذوراً عقلياً، كما في أوامر الطاعة.

والخلاصة أنّه إن أُريد «مطلق الداعي» اختصت الأحكام بمَنْ لا داعي له، وإنْ أريد «الداعي الشرعي» كانت في موارد وجود الداعي العقلي أو الطبعي مولوية، والأول خلاف الإطلاق، وقاعدة الاشتراك، والثاني خلاف المبنى، فتأمل.

وأمّا ثانياً: فلاستلزام هذه الدعوى عدم إمكان جعل الحكم فيما لو علم المولى بامتناع وجود الداعي، وإستحالته ولو بالاستحالة الغيرية؛ وذلك لإمتناع تحقّق (الغاية) من (الجعل) حينئذٍ.

ومع العلم بامتناع تحقّق (الغاية) يمتنع وجود (المعلول)، لتقوّم وجوده بعلله الأربع، كما قرّر في محلّه.

ويبعد التزام المحقّق الاصفهاني بهذا الّلازم، ويمكن افتراض امتناع وجود الداعي في موردين:

المورد الأول: صورة توقّف وجود الداعي على مقدّمة غير إختيارية، فيكون وجود الداعي ممتنعاً، إلاّ مع افتراض وجود المقدمة غير الاختيارية بالوجود الاتّفاقي.

فإذا فرضنا أنّ المقدمة غير الاختيارية لم توجد بالوجود الإتفاقي كان

ص: 389

وجود الداعي ممتنعاً بالإمتناع الغيري، لإستحالة وجود الشيء بدون وجود مقدّماته.

مثلاً: وجود «الداعي إلى الامتثال» في «النائم» متوقّف على «الاستيقاظ من النوم» فإذا فرض وجود الاستيقاظ اتفاقاً، أو فرض كونه اختيارياً باختيارية مقدماته، كان وجود «الداعي» ممكناً.

أمّا إذا فرض كون «الاستيقاظ» ولو في مورد «أمراً غير اختياري، وفرض عدم وجود الاستيقاظ اتفاقاً كان وجود (الداعي) ممتنعاً، ولو بالامتناع الغيري، فيكون جعل الحكم ممتنعاً، مع أن التكليف موجود فقد جعل في هذا المورد «الحكم» مع عدم إمكان «جعل الداعي».

فيدلّ على عدم كون «جعل الداعي» علّة ل- «جعل الحكم» وإلاّ لزم - في المقام - وجود «المعلول» بدون وجود «علته».

والدليل على فعلية التكليف: ثبوت القضاء بعد الاستيقاظ، الكاشف - بطريق الإنّ - عن كون التكليف فعليّاً، وإلاّ لم يصدق عنوان (الفوت) المأخوذ في قوله (عليه السلام) : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1) موضوعاً لوجوب القضاء، كما لا يصدق في الصبي والمجنون ونحوهما، فتأمّل.

مثال آخر: الجاهل والناسي غير الملتفتين إلى الجهل والنسيان - وإن فرض كونهما مقصّرين - يمتنع وجود «الداعي» في حقّهما - حال الجهل والنسيان - على نحو ما سبق في النائم، مع ثبوت التكليف في حقّهما.

ص: 390


1- بحار الأنوار 86: 92؛ الحدائق الناضرة 7: 372.

ويدلّ على ثبوت التكليف: إطلاق أدلّة الأحكام - أوّلاً.

والأخبار المدّعى استفاضتها، الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، بل ذكر الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) تواتر تلك الأخبار في مبحث «إمكان التعبّد بالأمارة غير العلمية» - ثانياً -.

والأدلّة العقلية الناهضة على استحالة اختصاص الأحكام بالعالمين بها- ثالثاً -.

المورد الثاني: صورة توقّف وجود الداعي على مقدّمة اختيارية، لا يريد المكلّف تحقيقها، فيكون وجود «الداعي» ممتنعاً، وإن كان الامتناع امتناعاً بالغير - لا بالذات - أي يكون وجوده ممتنعاً لعدم علّته؛ إذ وجود الداعي في النفس متوقّف على معدّات وشرائط، فمع عدم توفّرها يمتنع وجود الداعي في النفس، وما لا يترتب على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه، كسلوك طريق يعلم السالك أنّه لا يوصله إلى مقصده، فإنّ الوصول إلى المقصد لا يعقل أن يكون غرضاً من هذا السير.

وعليه: يكون «جعل الحكم» في حق الكفّار - الذين هم مكلّفون بالأصول، بل بالفروع على المشهور - بل في حقّ العصاة ممتنعاً، لامتناع «جعل الداعي» في حقّهم، ولو كان الامتناع امتناعاً غيرياً، ومن الواضح أنّه مع امتناع وجود العلّة يمتنع وجود المعلول.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إن مراد المحقق الاصفهاني «جعل الداعي بالقوة» لا «بالفعل» أي إمكان الانبعاث، ولاشك أنّ الامتناع الغيري لا ينافي الامكان الذاتي. إلاّ أن ذلك لو تكفّل بحلّ الإشكال في المورد الثاني فهو لا يتكفّل

ص: 391

بحلّه في المورد الأول، فتأمّل.

وعليه: فلا مجال لما ذكره المحقق الاصفهاني.

والمختار في المقام: أن «جعل الداعي» ليس علّة منحصرة ل- «جعل الحكم» بل هو علّة من العلل، ويمكن افتراض وجود علل أُخرى يستند إليها «جعل الحكم».

منها: وجوب القضاء - كما في النائم ونحوه - حيث يكون أثر جعل الحكم في حقّه: إيجاب القضاء عليه عند الإستيقاظ، أو على وليّه بعد موته.

ومنها: اتمام الحجّة على العبد، كما في تكليف الكفّار والعصاة، ونظير ذلك ما ذكروه في «الأوامر الاعتذارية»، ومنها: غير ذلك.

والجامع: أن يكون هناك مصحّح عقلائي للتكليف. هذا كلّه بلحاظ الكبرى.

وأمّا بلحاظ الصغرى: فلم نجد مصحّحاً عقلائياً لأخذ العلم بالحكم موضوعاً لنفس الحكم، ولم يظهر لنا ترتّب أي أثر على ذلك، والتأكيد ينافي العينية المفروضة، وعليه يكون الأخذ المزبور لغواً.

هذا ولكن لا يخفى أن برهان الاستحالة متقدّم رتبة على برهان اللغوية، إلاّ أن يساق البرهان على نحو الترتب، فتأمّل.

5- تحصيل الحاصل
اشارة

الوجه الخامس: وقد تقرّر في محلّه: أنّ الموجود لا يقبل نفس الوجود مرة أخرى، وذلك ما يعبّر عنه ب- «تحصيل الحاصل» وهو آيل إلى اجتماع النقيضين: الوجود والعدم في شيء واحد، الوجود لفرض كونه متّصفاً به،

ص: 392

والعدم كي يفاض عليه الوجود.

مثلاً: العالم بشيء لا يمكن أن يفاض عليه نفس علمه بذلك الشيء، لأنّ ذلك يستلزم كونه عالماً به - لأنّه المفروض - ، وجاهلاً به، كي يفاض عليه العلم به.

وبعبارة أخرى: إنّ ذلك يستلزم كون الشيء واجداً وفاقداً، وهو بديهي البطلان.

وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ المفروض أن الوجوب الجديد المعلّق على العلم بالوجوب ليس مغايراً للوجوب المعلق عليه، بل هو عينه، فيلزم كون المتعلّق واجداً وفاقداً، والوجوب المتعلّق به موجوداً ومعدوماً، وهو باطل.

وفي هذا الوجه تأمّل.

وذلك لأنّ مزاج عالم الاعتبار يختلف عن مزاج عالم التكوين، إذ الأُمور التكوينية عبارة عن حقائق متأصّلة في عالم التكوين غير منوطة باعتبار المعتبر أو فرض الفارض - إلاّ فيما ندر كالعلم بالعناية على ما فصّل في محلّه - بخلاف الاُمور الاعتبارية، فإنّها منوطة بالاعتبار، ولا واقع لها وراء اعتبار المعتبر وجعل الجاعل.

وحيث إنّ الاعتبار خفيف المؤونة، لذا لا مانع من جعل الحكم الاعتباري على شيء، ثُمّ جعل نفس الحكم على العالم بذلك الحكم.

وبعبارة أخرى: لا مانع من تحصيل الحاصل في الأمور الاعتبارية، كما لا مانع من جمع النقيضين أو الضدين في وعاء الاعتبار.

هذا ولكن الظاهر التفصيل، وذلك لأنّ هنالك في الاعتبار أمرين:

ص: 393

1- المنشأ.

2- الإنشاء.

والمنشأ وإن كان أمراً اعتبارياً جعلياً، إلاّ أنّ نفس عملية الانشاء عملية تكوينية لها مبادئ حقيقية، فلابدّ أن تكون وراء عملية الإنشاء: غاية يقصد الوصول بها إليها، كما هو الشأن في جميع الحقائق التكوينية المتقومة في وجودها بعلتها الغائية.

والظاهر عدم وجود غاية تتوخّى من وراء هذا الانشاء الجديد؛ إذ لا غاية في الإنشاء الثاني لما هو منشأ أولاً، فيكون الإنشاء الجديد لغواً، فيكون محالاً، ولو بالإستحالة الوقوعية.

لكن لا يخفى أن ذلك خروج عن محذور تحصيل الحاصل إلى محذور اللغوية وهو محذور آخر، فتأمّل.

هذا وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان آخر لإختلاف مزاج عالم الإعتبار عن مزاج عالم التكوين.

تنبيه

أُشكل بأنّ الإستحالة تختص بصورة كون القطع جزء الموضوع، والمطابقة للواقع جزءاً آخر، أو كون القطع تمام الموضوع مطلقاً - سواء كان القطع مصادفاً للواقع أو مخالفاً.

أمّا لو فرض كون القطع جزء الموضوع، والمخالفة للواقع جزءاً آخر، كما لو قال: (لو قطعت بحرمة العظم وكان قطعك مخالفاً للواقع حرم عليك العظم) فلا إشكال.

ص: 394

ومفاد ذلك إثبات الحرمة الواقعية للشيء الذي اعتقد المكلّف حرمته.

إن قلت: لا أثر لهذا الجعل؛ إذ القاطع لا يحتمل الخلاف، فلا يرى نفسه مقصوداً بهذا الخطاب.

قلت: تظهر الثمرة في موردين:

1- في غير القاطع إذا علم بكون قطع القاطع مخالفاً للواقع، فإنه سوف يعلم بارتكاب القاطع للحرام الواقعي، ويترتّب على ذلك آثار ارتكابه للحرام، بخلاف ما لو لم يجعل المولى ذلك فإنّ المورد يدخل في عنوان (التجرّي) وتجري فيه بحوثه.

2- في القاطع بعد انكشاف الخلاف، فإنّه سوف يقطع بارتكابه للحرام، وتترتّب على ذلك آثار ارتكابه للحرام الواقعي.

وعليه: فلا مانع من مثل هذا الخطاب.

هذا ولكن لا يخفى أنّه أجنبي عمّا نحن فيه؛ إذ المفروض - في مقام بحثنا - أن تكون هنالك حرمة واقعية تنشأ بنفسها للعالم بتلك الحرمة، وفي المثال لم تؤخذ في الموضوع الحرمة الواقعية، بل توهّم الحرمة.

وبعبارة أُخرى: محل الكلام أن يقول المولى: (لو علمت بحرمة الغراب حرم عليك الغراب بنفس تلك الحرمة)، وأما ما ذكر في الإشكال فمؤدّاه أن يقول المولى: (لو علمت بحرمة الغراب - على نحو الجهل المركب - أنشأت عليك حرمة الغراب).

2) أخذ القطع بحكم في موضوع مثل ذلك الحكم

اشارة

ومثاله أن يقول: إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجبت عليك صلاة

ص: 395

الجمعة بوجوب آخر مماثل للوجوب الذي تعلّق به القطع.

فيكون هنالك وجوبان: وجوب متعلّق بالجمعة بما هي هي، دون أن يناط هذا الوجوب بالعلم به، فيشترك فيه العالم به والجاهل.

ووجوب ثانٍ: متعلّق بالجمعة بما هي معلومة الوجوب، فيكون هذا الوجوب مختصّاً بالعالم بالوجوب الأول.

وفي هذا الأخذ أقوال ثلاثة:

القول الأول: الامتناع مطلقاً.

القول الثاني: التفصيل.

القول الثالث: الجواز مطلقاً.

ولعل مقصود القائلين بالقول الأول هو التفصيل، فتكون الأقوال إثنين.

ونستعرض فيما يلي الأقوال الثلاثة بأدلّتها - إن شاء اللّه تعالى -.

القول الأول: الإمتناع مطلقاً
اشارة

وقد ذهب إليه صاحب الكفاية، وعلّل ذلك بلزوم اجتماع المثلين.

والفرق بين تحصيل الحاصل و إجتماع المثلين: أن الوجود الثاني إن كان عين الوجود الأول كان تحصيلاً للحاصل، وإن كان غيره كان إجتماع المثلين، مثلاً: القاعد إن أُقعد بنفس القعود الأول: كان تحصيلاً للحاصل، وإن اقعد بقعود ثانٍ كان اجتماعاً للمثلين.

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بمناقشتين:

المناقشة الأولى

ما في المصباح: من أنّه ليس هنالك اجتماع المثلين، لتعدّد موضوع

ص: 396

الحكمين في مقام الجعل، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بين الموضوعين عموم من وجه، أو عموم مطلق.

قال: «...وذلك لأنّ الحكمين إذا كان بين موضوعيهما عموم من وجه، كان ملاك الحكم في مورد الاجتماع أقوى منه في مورد الافتراق، ويوجب التأكد، ولا يلزم اجتماع المثلين أصلاً، كما إذا قال المولى: أكرم كلّ عالم، ثُمَّ قال: أكرم كل عادل، فلا محالة يكون وجوب الإكرام في عالم عادل آكد منه في عالم غير عادل أو عادل غير عالم، وليس هناك اجتماع المثلين، لتعدد موضوع الحكمين في مقام الجعل، وكذا الحال لو كانت النسبة بين الموضوعين هي العموم المطلق، فيكون الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق، كما إذا تعلّق النذر بواجب مثلاً، فإنه موجب للتأكد لا اجتماع المثلين، والمقام من هذا القبيل بلحاظ الموضوعين، فإنّ النسبة بين الصلاة بما هي، والصلاة بما هي مقطوعة الوجوب هي العموم المطلق، فيكون الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق، ومن قبيل العموم من وجه بلحاظ الوجوب والقطع به، إذ قد لا يتعلّق القطع بوجوب الصلاة مع كونها واجبة في الواقع، والقطع المتعلّق بوجوبها قد يكون مخالفاً للواقع، وقد يجتمع وجوب الصلاة واقعاً مع تعلّق القطع به، ويكون الملاك فيه أقوى فيكون الوجوب بنحو آكد»(1).

وفي هذا البرهان « أي الإستدلال على عدم اجتماع المثلين بتعدد موضوع الحكمين» في مقام (الجعل) نظر من وجوه:

ص: 397


1- مصباح الأصول 2: 45-46.

الأول: أنّ الموضوع ليس محلاً للحكم بما هو هو، بل بما هو مرآة للأفراد الخارجية، فيجتمع فيها المثلان، والمفروض أنّ الاجتماع المزبور محال.

الثاني: لو كان تعدد الموضوع مجدياً في دفع محذور اجتماع المثلين لأجدى في دفع محذور اجتماع الضدين أيضاً، سواء كان بين الموضوعين نسبة العموم من وجه كما في الأمر ب- (الصلاة) والنهي عن (الغصب)، فيقال: بإنّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ لعدم تحقّق الاجتماع في الواقع، وذلك لتعدد موضوع الحكمين. أو نسبة العموم المطلق، كما في مسألة اجتماع الحكم الواقعي والظاهري، حيث يقال: بأنّ الشيء بما هو هو حرام، وبما هو مشكوك مباح، فالتتن يكون بما هو هو حراماً - مثلاً - وبما هو مشكوك الحكم مباحاً ولا منافاة بين الأمرين؛ لتعدد موضوع الحكمين.

اللّهم إلاّ أن يلتزم بذلك، أو يقال بأن المحذور في المقام من جهة أخرى لا من جهة الاجتماع، فتأمّل.

قد ردّ القول (بعدم لزوم اجتماع الضدين من أخذ القطع بالحكم موضوعاً لحكم ضدّه - لأنّ الوجوب قد تعلّق بالصلاة بما هي والحرمة قد تعلّقت بها بما هي مقطوعة الوجوب، فيكون الموضوع للحكمين متعدداً بحسب الجعل...).

بأنّ (الحرمة وإن تعلّقت بالصلاة بما هي مقطوعة الوجوب إلاّ أنّ الوجوب قد تعلّق بها بما هي، واطلاقه يشمل ما لو تعلّق القطع بوجوبها، فلزم

ص: 398

اجتماع الضدين، فإنّ مقتضى إطلاق الوجوب كون الصلاة واجبة ولو حين تعلّق القطع بوجوبها والقطع طريق محض، ومقتضى كون القطع بالوجوب مأخوذاً في موضوع الحرمة كون الصلاة حراماً في هذا الحين، وهذا هو اجتماع الضدين). مع جريان نظير هذا الجواب في اجتماع المثلين، فتأمّل.

الثالث: لعلّ لازم ما ذكره من أن ملاك دفع المحذور تعدد الموضوع عدم جواز التعدد لو كان الموضوع متحداً بأن يقول: (أوجبت عليك صلاة الجمعة) ثُمَّ يقول: (أوجبت عليك صلاة الجمعة بوجوب ثانٍ). وستأتي المناقشة في اللازم إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل: أن إناطة الجواز ( بتعدد العنوان) وجوداً وعدماً غير ظاهر الوجه: لا في جهة دوران الجواز مدار التعدد، ولا في جهة دوران عدم الجواز مدار الاتحاد.

المناقشة الثانية

أنّ محذور «اجتماع المثلين» منتفٍ موضوعاً، أو لا مانع منه في المقام.

بيان ذلك: إنّ للحكم مراحل أربع:

1- مرحلة الملاك.

2- مرحلة الإرادة والكراهة.

3- مرحلة الحكم المنشأ - أو إنشاء الحكم -.

4- مرحلة الجري العملي.

وبعبارة أدقّ: حقيقة الحكم هي المرحلة الثالثة، وما قبلها «مبدأ الحكم» وما بعدها «منتهى الحكم».

ص: 399

أمّا الملاك: فهو عبارة عن المصلحة والمفسدة، والظاهر أنّه لا مانع من وجود مصلحتين ملزمتين أو غير ملزمتين، كما لا مانع من وجود مفسدتين ملزمتين أو غير ملزمتين في شيءٍ واحد.

مثلاً: لا مانع أن يتحقّق في الشيء - كالحجّ مثلاً - مصلحتان ملزمتان تقتضي كل واحدة منهما وجوبه، بحيث لو فرض عدم وجود إحداهما كفت الأُخرى في التأثير، كما هو الحال في توارد العلل المتعدّدة المستقلّة في التأثير - لو لوحظت بذاتها ومن حيث هي هي - على معلول واحد - وهكذا الكلام في سائر الصور، وليس ذلك من «اجتماع المثلين» موضوعاً، بل من «تعدد الحيثيات» المختلفة في شيء واحد، كما تتعدد الحيثيات المختلفة في الأمور التكوينية الأُخرى.

وأمّا الإرادة: فلعلّه يمكن أن يقال: بأنّ وزانها وزان بعض الصفات النفسية الأُخرى، كالحبّ والبغض، التي يمكن أن تتعدّد مناشئها فتتعدّد، وليس ذلك من «اجتماع المثلين» بل من تحقّق صفتين مندرجتين تحت صنف واحد في أُفق النفس، فكما يمكن وجود حبّين متعلقين بشيء واحد ناشئين من منشأين مختلفين كذلك يمكن تحقّق إرادتين ناشئتين من منشأين مختلفين متعلقين بشيء واحد(1).

ولو شكّك في ذلك أمكن أن يقال: بتشكيكيه الإرادة، فهي حقيقة ذات مراتب تختلف من حيث الشدة والضعف، فهنالك إرادة ضعيفة، وإرادة

ص: 400


1- وقد روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أحب عقيلاً حبّين: حباً له وحباً لحب أبي طالب إياه» (منه (رحمه اللّه) ).

قوية، كما في سائر الحقائق التشكيكية الأخرى.

والإرادة الشديدة يمكن أن تكون منشأ لإنشاء حكمين متماثلين على متعلّق واحد، كما يمكن أن تكون منشأ لإنشاء حكم واحد مؤكّد، وكما أنّ المصحّح العقلائي موجود في الثاني، كذلك هو موجود في الأول، بل قد يتعيّن الأول لبعض الجهات.

وأمّا نفس الحكم: فهو أمر اعتباري لاوجود له إلاّ في وعاء الاعتبار، وليس وعاء الاعتبار وعاءً حقيقياً في قبال «وعاء الخارج»، إذ ليس هنالك إلاّ «وعاء الخارج»، بل هو وعاء فرضي، وكل ما فيه موجودات فرضية، منتهى الأمر أنّها فروض ذات مصحّح عقلائي وآثار خارجية، لا من قبيل «أنياب الأغوال» التي هي مجرد فرض لا منشأ له.

ومن هنا أمكن اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين في وعاء الاعتبار لو لوحظ بذاته وبما هو هو.

ومن هنا أمكن الأمر بالضدين غفلة، كأن يأمر المولى العرفي عبده بالسير إلى المشرق، ثُمَّ يأمره بالسير إلى المغرب في نفس الوقت، بينما لا يمكن ذلك في الضدّين التكوينيين الحقيقيين.

كما أننا نجد أنّ المشرّع الوضعي قد يشرّع قانونين كليّين ثُمَّ يكتشف التناقض أو التضادّ فيما بينهما في بعض الموارد الجزئية.

وأما الجري العملي: فليس في البين إلاّ جري عملي واحد، وهو خارج عن حقيقة الحكم.

نعم، تواردت على هذا الجري العملي علل متعدّدة فحصل بينها الكسر

ص: 401

والانكسار في مقام العلّية، كما هو الشأن في توارد العلل المتعددة على معلول واحد.

وبناءً على ذلك كلّه: فما ذكره صاحب الكفاية(1) من لزوم محذور اجتماع المثلين محل نظر.

القول الثاني: التفصيل بين التأكّد والاستقلال
اشارة

وقد ذهب إليه الوالد (رحمه اللّه) في الأصول(2) كما ذهب إليه «المصباح»(3) و«المنتقى» - إما تصريحاً أو تلويحاً.

وتقرير ذلك كما في المنتقى(4) - بتوضيح منّا - إنّ إجتماع الحكمين المتماثلين يمكن أن يكون بمعنيين:

1- الاجتماع بمعنى التأكّد.

2- الاجتماع بمعنى الاستقلال.

والأول ممكن، والثاني يمتنع، فهنا دعويان.

الدعوى الأُولى

أنه لا مانع من ا جتماع حكمين بنحو التأكّد «ووجود واقع الحكمين».

بمعنى أن يكون هنالك حكم واحد مؤكّد.

وقد استدلّ على ذلك: بأنّ اجتماع المصلحتين يوجب تأكد الإرادة، وهو

ص: 402


1- كفاية الأصول: 358.
2- الأصول: 558.
3- مصباح الأصول 2: 46.
4- منتقى الأصول 4: 91-92.

يوجب تأكد البعث، بمعنى أنه يوجب إنشاء البعث المؤكد؛ وذلك لأنّ الحكم عبارة عن التسبيب للبعث الاعتباري العقلائي، وبما أن البعث يتّصف خارجاً بالشدّة والضعف يمكن اعتبار البعث الأكيد، كما يمكن اعتبار البعث الضعيف.

وممّا يشهد لما ذكرناه: صحّة تعلق النذر بواجب، ولازمه تأكد الحكم، ولم يتوهم أحد أن وجوب الوفاء بالنذر في المقام يستلزم اجتماع المثلين المحال.

كما يشهد له شمول الحكمين الاستغراقيين لما ينطبق عليه موضوعاهما نظير العالم الهاشمي الذي ينطبق عليه (أكرم العالم) و (أكرم الهاشمي)، ولم يتوهّم أحد خروج المورد عن كلا الحكمين لاستلزام اجتماع المثلين.

وبالجملة التماثل بمعنى التأكد ووجود واقع الحكمين لا مانع منه.

وأمّا الدعوى الثانية

فهي: أنه لا يمكن اجتماع حكمين متماثلين مستقلّين، أي لا يمكن وجود حكمين متماثلين مستقلين في الداعوية والحدّ.

وقد استدل على ذلك باستلزامه المحذور في المبدأ والمنتهى.

أمّا المحذور في المبدأ فهو: تعلق إرادتين مستقلّتين بفعل واحد، فإنّه غير ممكن، وإن أمكن تحقّق مصلحتين ملزمتين، إلّا أنّ تعدّد المصلحة لا يصير منشأ لتعدد الإرادة، بل يصير منشأً لحصول إرادة واحدة أكيدة.

وأمّا المحذور في المنتهى فهو: تحقّق داعيين مستقلّين نحو فعل واحد في آن واحد، فإنه غير ممكن.

ص: 403

ولعل نظره في عدم الإمكان إلى استحالة توارد علل متعددة على معلول واحد.

وفيما ذكره نظر.

أمّا المحذور في المبدأ ففيه:

أوّلاً: أنّه لا مانع من تعلّق إرادتين مستقلتين بفعلٍ واحد، كما سبقت الإشارة إليه.

ثانياً: لو فرض استحالة ذلك لم يخل بالمطلوب، إذ لا شكَّ في إمكان حصول إرادة واحدة شديدة، كما اعترف به هو (رحمه اللّه) ، وهذه الإرادة الشديدة يمكن أن تكون منشأً لحكمين متعدّدين، وقد سبق بيان ذلك، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا المحذور في المنتهى ففيه:

أوّلاً: أنّه مبني على ما اختاره في النهاية من أنّ جعل الحكم لجعل الداعي(1)، وجعل داعيين غير ممكن لإستلزامه التوارد في العلل، وهذا المبنى محل نظر كما سبق.

ثانياً: مع تسليم المبنى نقول: إنّ المراد ب- (جعل الداعي): جعله بالقوّة لا جعله بالفعل، والمراد بالداعي بالقوّة: الداعي لولا المانع، كما في الكافر والفاسق فإن جعل الداعي فيها بالقوّة لا بالفعل، وذلك لوجود المانع.

والأمر في المقام كذلك، فإنه لولا المانع - أي وجود الداعي الآخر -

ص: 404


1- نهاية الدراية 1: 69.

لكان كل حكم داعياً بالفعل، إلاّ أنّ وجود المانع - وهو الداعي الآخر - سبب لحصول الكسر والإنكسار في الدواعي، فيتحوّل كل من الداعيين إلى جزء العلة، كما هو الشأن في جميع العلل المتواردة على معلول واحد، والمصحّح العقلائي موجود في المقام كما سبق وسيأتي.

ومنه يتّضح النظر فيما ذكره من (تعيّن كون موردي «تعلق النذر بفعل الواجب» و «شمول الحكمين الاستغراقيين لما ينطبق عليه موضوعاهما»(1) من قبيل تأكّد الحكم) إذ يمكن أن يكونا من قبيل توارد الحكمين على متعلق واحد، بل لعلّه هو الظاهر، وأثر التعدد يظهر في تعدد استحقاق العقاب على المخالفة، ونحو ذلك.

القول الثالث: الجواز مطلقاً

أي سواء كان الأخذ المزبور بعنوان التأكيد للحكم الأول، أو بعنوان إنشاء حكم جديد لخصوص القاطع بالحكم الأول، وقد ظهر وجهه من مطاوي ما سبق.

وقد نجد نظيراً لذلك في القوانين الوضعية، مثل حكمهم بالسجن المؤبّد مرتين، أو بالإعدام مرتين على شخص.

وأثر ذلك أنه لو شمله العفو مرّة بقي الحكم الثاني، وغير ذلك.

وتعدّد الحكم في المقام ذو أثر، فإنه إذا علم المكلّف بحرمة الشيء الكذائي مرتين أو مرات متعددة، لاجتماع حيثيات متعددة فيه - بحيث تكون تلك الحيثيات جهات تعليلية لا تقييدية - ربما يرتدع بما لا يرتدع به

ص: 405


1- منتقى الاصول 4: 92.

من الحكم الواحد.

مثلاً: لو قيل له بأن الغيبة محرّمة بأربعة تحريمات: مرة لأنها إهانة، وأخرى لأنها إيذاء، وثالثة لأنها تمزيق لوحدة الأمّة، ورابعة لأنها سبب لجرأة الناس على المعصية، وإنّ فاعلها يستحق أربع عقوبات، فربما يكون ذلك سبباً لارتداعه، بينما لو قيل له: إنها محرمة بتحريم واحد لم يرتدع - ولو فرض أن التحريم مغلظ - وهذا مصحح عقلائي لتعدد الحكم. وللوالد (رحمه اللّه) كلام له نفع في المقام.

قال في أحكام الأموات: ثُمَّ هل التوبة واجب عقلي، وأوامر الشرع إرشاد إليه، أم أنها واجب عقلي وشرعي معاً، قال: جمع بالأوّل، وأنه من قبيل أوامر الطاعة والنهي عن المعصية، ومثل هذه الاوامر يستحيل اعمال المولوية فيها، وإلاّ لزم التسلسل، ولزم أن يكون لكل طاعةٍ ثوابان، ثواب العمل، وثواب الطاعة، ولكلّ معصية عقابان، عقاب العمل، وعقاب العصيان، والظاهر عندي أنّها واجبة عقلاً وشرعاً، وكذلك في أوامر الطاعة مثل قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(1). وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(2) وذلك لظاهر الأمر والنهي، ولا يرد المحذوران المتقدمان، إذ يرد على أوّلهما عدم لزوم التسلسل؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار، وليس من قبيل التسلسل في الموجودات الّذي لا انقطاع له إذا قيل بعدم خالق واجب الوجود.

ص: 406


1- المائدة: 92.
2- الحشر: 7.

وعلى ثانيهما أي مانع من تعدد الثواب، والعقاب، بعد اقتضاء ظاهر الأمر والنهي ذلك، قد ورد بعض الروايات الدالة على التعدد.

إنْ قلتَ: نسلّم عدم لزوم المحذورين فما هو الداعي إلى الأمر والنهي، فإن كان الأمر بالعمل محرِّكاً كفى، وإن لم يكن محركاً، لم يحرك الأمر بالطاعة.

قلت: من الممكن عدم كون الأمر بالعمل محرِّكاً بنفسه، وإنما الأمر بالطاعة بعده محركاً، كما نشاهد في الخارج كثيراً ما لا يكون الأمر محركاً، وإنما يحرّك الأمر الثاني(1).

وربما يؤيّد ذلك: جعل الشارع حكمين متضادّين على طرفي متعلّق واحد، لمزيد الباعثية والتأكيد أو لنحو ذلك، كما أفتى بذلك الفقهاء في موارد متعددة، منها:

1- صلاة الليل. 2- والسواك. 3- والزواج. 4- والرداء للإمام. 5- والتحنّك للمصلّي. 6- وتزيّن المرأة في الصلاة. 7- وأن يكون الهدي ممّا عرف به.

فإنّ كل ذلك مستحب، وتركه مكروه.

ونظيره الحكم على الضدين اللذين لا ثالث لهما ونحوهما، مثل:

1- تعدد الثياب التي ترتديها المرأة للصلاة. 2- وموازاة العنق للظهر في الركوع. 3- وكون الكفن قطعة واحدة غير مخيطة. 4- وكبعض الفضائل الأخلاقية.

ص: 407


1- الفقه 12: 133-134.

3) أخذ القطع بالحكم موضوعاً للحكم ضدّه

اشارة

ومثاله أن يقول: (إذا قطعت بوجوب الجمعة حرمت عليك الجمعة).

وقد ذهب في الكفاية إلى أنّه محال؛ لأنّه يوجب اجتماع الضدين.

أقول: تارةً يفرض المحذور في مرحلة «الحكم المنشأ» وتارة يفرض في سائر المراحل.

أمّا في مرحلة «الحكم المنشأ»: فالظاهر أنّه لا مانع من إجتماع الضدّين في هذه المرحلة لو لوحظت بذاتها وبما هي هي.

وليس ذلك من التخصيص في الحكم العقلي، إذ الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص، والتخصيص - لو تمَّ - كاشف عن بطلانها من الأساس، بل لأنّه ليس من إجتماع الضدين حقيقة.

والسرّ في ذلك أنّ الحكم موجود اعتباري، والموجود الاعتباري مساوق للموجود الفرضي، ولا مانع من اجتماع الضدين في موجودين فرضيين، لأنّه ليس من اجتماع الضدين حقيقة، بل من فرض اجتماع الضدين، ولا مانع من ذلك الفرض، وقد اشتهر بينهم (أنّ فرض المحال ليس بمحال).

نعم، التضاد بالعرض حاصل، أي التضادّ بعرض المبدأ والمنتهى إلاّ أنّ التضادّ بالعرض ليس تضاداً حقيقة، كما أن جريان الميزاب، ليس جرياناً حقيقة؛ إذ الحقيقة أن الجاري هو ماء الميزاب، واطلاق الجريان على نفس الميزاب إنّما هو بسبب العلاقة بين الماء والميزاب، فلا يكون إطلاقاً حقيقياً، بل مجازياً مسامحياً، وهكذا الأمر في حركة السفينة وحركة الجالس فيها. وأما في سائر المراحل فقد يقال: إنّ التضادّ ثابت:

ص: 408

أوّلاً: التضادّ في مرحلة الملاك

إذ الأمر الوجوبي - مثلاً - ناشئ عن المصلحة الملزمة، والنهي التحريمي - مثلاً - ناشئ عن المفسدة الملزمة.

ولا يمكن اجتماع المصلحة الملزمة، والمفسدة الملزمة، وإن أمكن اجتماع مطلق المصلحة ومطلق المفسدة في شيء واحد.

ولو فرض التساوي في المصلحة والمفسدة لم يكن ثمّة الزام.

وهكذا الأمر في سائر المصالح والمفاسد.

ثانيا: التضاد في مرحلة الإرادة والكراهة

إذ الإرادة الوجوبية تنشأ من المصلحة الملزمة، والكراهة التحريمية تنشأ من المفسدة الملزمة، وحيث فرضنا أنّهما متضادتان، تكون الإرادة والكراهة المزبورتان متضادتين أيضاً، إلاّ إن التضاد في المرحلة الأولى بالذات، وفي الثانية بالتبع.

ولو فرض تساوي المصلحة والمفسدة، لم تكن هنالك إرادة ولا كراهة. وهكذا الأمر في سائر أقسام الإرادة.

هذا مضافاً إلى أن التضاد في مرحلة (الجري العملي) - كما سيأتي - يسري إلى التضاد في مرحلة (الإرادة) إذ محالية المراد تسري إلى الإرادة - مع الالتفات إلى المحالية - كما قرر في محلّه.

ثالثاً: التضاد في مرحلة الجري العملي

إذ يمتنع امتثال الحكم الزاجر و الحكم الباعث في عرض واحد، لامتناع تحقّق الانزجار والانبعاث في آن واحد. وهكذا الأمر في سائر الأحكام.

ص: 409

ص: 410

فصل في الموافقة الالتزامية وفيه بحوث

اشارة

المبحث الأول: مفهوم الموافقة الالتزامية

المبحث الثاني: تحرير محل الكلام

المبحث الثالث: وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم الفرعي المعلوم بالتفصيل

المبحث الرابع: وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم الفرعي المعلوم بالإجمال

المبحث الخامس: مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي

ص: 411

ص: 412

إشارة

وقبل الشروع في هذه البحوث لا بأس بالإشارة إلى ما ذكره في المنتقى(1) والبحوث(2) من حصر إرتباط مبحث (الموافقة الالتزامية) ب- (علم الأصول) في جريان (الاصول العملية) في أطراف العلم الإجمالي وعدمه.

وفي هذا الحصر نظر إذ البحث في (وجوب الموافقة الالتزامية) من شؤون القطع ومن آثاره وأحكامه، فهو ملحوظ بلحاظ نفسي ومقصود في حدّ ذاته، لا أنّه مجرد طريق للبحث - إثباتاً ونفياً - في مانعية جريان الأُصول العملية في أطراف العلم الاجمالي.

فكما أن من شؤون التكليف المقطوع به ولو إجمالاً: حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية(3) كذلك من شؤون التكليف المقطوع به: وجوب الموافقة الالتزامية(4).

وأقصى ما يقال في المقام: ان البحث في الوجوب مرتبط باقتضاء نفس

ص: 413


1- منتقى الأصول 4: 105.
2- بحوث في علم الأصول 4: 113.
3- على القول بذلك (منه (رحمه اللّه) ).
4- على القول بذلك وعلى القول بالعدم هو من مباحث القطع (منه (رحمه اللّه) ).

التكليف، أمّا البحث في المانعية فهو أعمّ من اقتضاء نفس التكليف أو اقتضاء دليل خارج لوجوب الموافقة.

وإن كان ذلك لا يخلو من نظر، على ما سيأتي في البحث الثالث إن شاء اللّه تعالى.

ص: 414

المبحث الأول : مفهوم الموافقة الالتزامية

لقد شابَ هذا المفهوم شيء من الغموض، فلا بأس بإلقاء شيء من الضوء عليه.

فنقول: إنّ هنالك مفاهيم ثلاثة:

1- الموافقة العملية.

2- العلم.

3- الموافقة الالتزامية.

أمّا (الموافقة العملية): فهي عبارة عن الجري العملي وفق التكليف، وهي ترتبط - عادةً - بالجوارح، مثل الإتيان بالمناسك المعهودة لامتثال الأمر بالحجّ.

وقد ترتبط بالجوانح - أحياناً - مثل الإجتناب عن سوء الظنّ، الذي هو محرّم في الجملة - على ما ذهب إليه بعض الفقهاء- .

وأمّا (العلم): فهو عبارة عن (حضور المعلوم لدى العالم) - في العلم الحضوري، و(حضور صورته لديه) - في العلم الحصولي.

وأمّا (الموافقة الالتزامية): فهي عبارة عن «الإذعان القلبي» بالشيء؛ أي الخضوع القلبي له، والاعتراف النفسي به، وعقد القلب عليه.

وهل الإذعان القلبي أمر اختياري؟ وهل بينه وبين القطع علقة لزومية؟

ص: 415

قيل: بإنه أمر غير اختياري، وأنّ حصوله رهين حصول القطع، فمع حصوله يجب، ومع عدم حصوله يمتنع، فلا إنفكاك في الوجود بينهما.

بيان ذلك:

أن العوارض النفسانية كالحب والبغض والخضوع والخشوع ليست أموراً ختيارية، بل وجودها في النفس تابع لوجود مبادئها، فإنّ لكلٍ من هذه العوارض مبادئ وعللاً تستدعي وجود تلك العوارض.

مثلاً: العلم بوجود الباري وعظمته وقهّاريته يوجب الخضوع والخشوع لدى حضرته والخوف من مقامه، والعلم برحمته الواسعة وجوده الشامل وقدرته النافذة يوجب الرجاء والوثوق والتطلّب والتذلّل، وكلّما كملت المبادئ كملت النتائج بلا ريب.

فتحصّل أنّ تلك العوارض نتائج قهرية لا تتعلّق بها الإرادة والاختيار، بل تدور مدار وجود مبادئها. هذا بلحاظ الكبرى.

وأما بلحاظ الصغرى: فالتسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمي لا تحصل بالإرادة والاختيار من دون حصول مقدماتها ومبادئها، ولو فرض حصول عللها وأسبابها يمتنع تخلّف الإلتزام والإنقياد القلبي عند حصول مبادئها، ويمتنع الاعتقاد بأضدادها، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع، كما أن حصولها بدونها أيضا ممتنع.

فمن قام عنده البرهان الواضح على وجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكنه عقد القلب - عن صميمه - بعدم وجوده وعدم وحدته، ومن قام عنده البرهان الرياضي على أنّ زوايا المثلث مساوية لقائمتيه يمتنع - مع

ص: 416

وجود هذه المبادئ - عقد القلب على عدم التساوي، فكما لا يمكن الالتزام على ضد أمر تكويني مقطوع به، فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضد أمر تشريعي ثبت بالدليل القطعي.

هذا ولكن الظاهر أنّ (الإذعان القلبي) أمر اختياري، لأنّ الشيء كما يكون اختيارياً باختيارية ذاته يكون اختيارياً باختيارية مقدّماته، وقد تقرّر في محلّه (أن المقدور بالواسطة مقدور) ولعلّ المراد أنّها غير متعلقة للاختيار المباشري، لا أنّها غير اختيارية مطلقاً، وإن كانت العبارة لا تخلو من قصور.

ثمّ إنّ أقصى ما يفيده هذا البرهان كون الإذعان أمراً غير اختياري، وأنّ حصوله متوقف على مبادئ، وأمّا انحصار المبدأ في (العلم) وحده، فليس بيّناً ولا مبيّناً.

والتحقيق أنّه لم يقم برهان واضح على الملازمة القهرية بين (العلم بالشيء) و(عقد القلب عليه)، بل الظاهر: أنّه لا ملازمة بين الأمرين.

ولإثبات الانفكاك تكفينا سالبة جزئية واحدة، فإنها نقيض الموجبة الكلّية، وقد تمثلت في المعاندين من الكفّار.

فقد كان كثير من الكفّار - وخاصة أحبار اليهود وقساوسة النصارى- يعرفون أنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبي مرسل من عند اللّه تعالى، ولكن التكبر وحب العلو وإرادة الاحتفاظ بالمصالح الدنيوية الزائلة كانت تمنعهم عن الإيمان بالرسالة.

قال اللّه تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1).

ص: 417


1- النمل: 14.

وقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}(1).

وقال جلّ شأنه: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}(2).

فلو فرضنا أنّ هؤلاء - والحال هذه - أظهروا الإيمان بلا عقد القلب، فهل يمكن اعتبارهم مؤمنين؟

وبعبارة أُخرى: هل يمكن الالتزام بأنّ الإيمان عبارة عن (العلم) و(الإقرار اللساني) فقط؟ أو أنّ هنالك شيئاً آخر وراء (العلم) نسميه (الإذعان القلبي) و (الخضوع النفسي).

فإنّ البدن له حالة الخضوع واللاخضوع، واللسان له حالة الإعتراف والّلاإعتراف، والقلب له حالة الإذعان واللاإذعان؛ ولذا ورد في الروايات الشريفة: «الإيمان عقد بالقلب...»(3)، بل قد يتفق في حياتنا اليومية نماذج للانفكاك.

مثلاً: قد يموت للإنسان عزيز له، وهو يعلم بموته علم اليقين، بل عين اليقين، إلاّ أنّ ثقل الفادحة يجعله يرفض الإذعان النفسي لذلك، فيلقّن نفسه أنّه لازال حياً.

والوسواسي قد يعلم بحصول الطهارة للشيء إلاّ أنّه لا يذعن لذلك(4).

وقد يتّفق أن يعلم الإنسان أن شخصاً آخر أكفأ منه للإدارة الدينية، أو

ص: 418


1- البقرة: 146.
2- البقرة: 89.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 205.
4- الفقه 4: 397.

الزعامة الدنيوية إلاّ أنّ عوامل نفسية تمنعه عن الإذعان القلبي بذلك.

ولعلّ جزءاً من السر في ذلك أن الإنسان يحاول إقامة السلام داخل نفسه، لأنّ التناقض مع النفس يؤذي الإنسان، بل قد يحطّمه ويدمّره.

وهنالك طريقان لإقامة هذا السلام:

الطريق الأول: أن يخضع جوانحه وجوارحه لعلمه - وهو الطريق السليم.

أمّا الطريق الآخر - وهو الطريق الخاطئ - فهو أن يحاول الالتفاف على علمه، فينكره ويلغيه ويعقد قلبه على خلافه، وبذلك يحاول أن يعيش سلاماً زائفاً مع ذاته.

وعلى هذا فالعلم بالشيء ليس علّة تامة للإذعان القلبي به، وإنما هو جزء العلّة، بل ليس وجوده حتمياً، إذ قد تخلفه علّة أخرى فيتحقّق الإذعان بلا علم.

وأما ما ذكر في البرهان من أنّه كما لا يمكن الالتزام على ضد أمر تكويني مقطوع به فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضد أمر تشريعي ثبت بالدليل القطعي.

ففيه:

أولاً: عدم تسليم الحكم في المقيس عليه، إذ يمكنه عقد القلب على ضد أمر تكويني مقطوع به، إذا توفّرت الدواعي لذلك، كما سبق في مثال موت العزيز.

ثانياً: لو سلم الحكم في المقيس عليه فلا يسلم في المقيس؛ إذ لا تتوفّر

ص: 419

الدواعي لعدم الإذعان في الأُمور التكوينية عادةً، بخلاف الأُمور التشريعية فإنّها كثيراً ما تكون عرضة لتدخّل المصالح والأهواء فيها.

وعلى هذا: تكون النسبة بين (العلم) و (العقد) هي العموم من وجه، فقد يكون (علم) بلا (عقد) كما في مثال الكفار المعاندين، وقد يكون (عقد) بلا (علم) كما في كثير من الذين يقلّدون آبائهم قائلين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(1) مع شكّهم في حقّانية مسلك الآباء، قال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(2)، وقد يجتمعان كما في المؤمنين الملتزمين بالنسبة إلى القضايا الاعتقادية، وقد يرتفعان كما في الجهّال الحائرين، ثم إنّه قد انتشر في الآونة الأخيرة التفكيك بين (الموافقة العملية) و(الموافقة الالتزامية) على أثر الموجة الغربية الطاغية التي أضعفت الأُسس الاعتقادية في بعض النفوس، فترى بعض الشباب - خاصّة الذين يعيشون أجواء الثقافة الغربية - يمارسون بعض الواجبات ولكنّهم لا يعتقدون بوجوبها، ويتركون بعض المحرّمات ولكنّهم لا يعقدون قلوبهم على حرمتها، واللّه المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 420


1- الزخرف: 23.
2- الانعام: 116.

المبحث الثاني

المبحث الثاني : تحرير محلّ الكلام

اشارة

ونتطرّق فيه - بإذن اللّه تعالى - إلى بحوث أربعة:

الأول: في إختصاص محل الكلام بالأحكام الفرعية.

الثاني: في عدم إختصاص محل الكلام بالأُمور التوصلية.

الثالث: في عدم إختصاص محل الكلام بالأحكام الاقتضائية.

الرابع: في عدم إختصاص محل الكلام بالحكم المقطوع به.

الأول: في إختصاص محل الكلام بالأحكام الفرعية

لا يخفى أنّ محل الكلام ومورد النقض والإبرام في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه هو: الأحكام الفرعية، وأمّا أُصول الدين فلا إشكال في وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إليها.

قال السيد الوالد (رضوان اللّه عليه): «تجب الموافقة الالتزامية - بمعنى عقد القلب بما علم - في أصول الدين، بالاضافة إلى الاعتراف، أما الصور السبع الأُخر الحاصلة من ضرب الثلاثة بعضها في بعض - باستثناء ما ذكر - تكون كفراً أو نفاقاً»(1).

توضيحه: أنّ الصور في المقام ثمانية:

ص: 421


1- الأصول 5: 97.

1- العلم فقط.

2- الإذعان فقط.

3- الإعتراف فقط.

4- العلم والإذعان.

5- العلم والإعتراف.

6- الإذعان والإعتراف.

7- العلم والإذعان والإعتراف.

8- إنتفاء الثلاثة.

وذلك لأنّه إمّا أن يعلم أو لا، وعلى كل تقدير إما أن يذعن أو لا، وعلى كل تقدير إما أن يعترف أو لا، كما أشار إليه (رحمه اللّه) في الحاشية.

وحاصل البرهان: إنَّه لولا وجوب (الإذعان)، لزم كون جميع المنافقين العارفين بحقّانية الدين مؤمنين، وقد سبق بعض الكلام في ذلك، وتفصيل الكلام في غير المقام.

وما ذكره (رحمه اللّه) متين، إلاّ أنّ الحكم بكفر أو نفاق المذعن المعترف، بدون حصول العلم لديه، لا يخلو من تأمّل.

إذ منتهى الأمر (وجوب تحصيل العلم) بأُصول الدين، وإمّا كون ذلك ملاكاً للإيمان وعدمه فغير واضح.

ولو كان ذلك ملاكاً لزم الحكم بكفر أو نفاق كثير من المؤمنين المذعنين المعترفين، مع عدم حصول العلم لديهم ببعض الأصول الاعتقادية، وحصول الظن لديهم بذلك، وهو أمر يصعب الالتزام به، مع أنّ

ص: 422

أصل وجوب تحصيل العلم محل كلام.

إذ حكي عن جماعة كفاية الظنّ مطلقاً، منهم المحقّق الطوسي، والمحقّق الأردبيلي، وصاحب المدارك، وعن ظاهر الشيخ البهائي، والعلامة المجلسي، والمحدِّث الكاشاني رحمهم اللّه.

وحكي عن البعض كفاية الظن المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد.

وحكى العلاّمة في النهاية عن الإخباريين كفاية الظن المستفاد من أخبار الآحاد(1).

وتفصيل الكلام في علم الكلام، وقد حرّر بعض الكلام في ذلك في مباحث الانسداد من الأّصول(2)، ومباحث الاجتهاد والتقليد من الفقه(3).

الثاني: في اختصاص محل الكلام بالأمور التوصلية وعدمه

هل محل الكلام ومورد النقض والإبرام يختص بالتوصليات، أو يعمّ الأمور التعبدية أيضاً؟ الذي ينبغي أن يقال: أنّ هنالك لحاظين:

الأول: لحاظ وجود الدليل العام المشترك.

الثاني: لحاظ وجود الخصوصية المعيّنة المميّزة.

أمّا بالنسبة إلى اللحاظ الأول: فالخلاف قائم في وجود دليل عام يتكفل وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الأمور التعبدية - كما هو الحال

ص: 423


1- ذكر هذه الأقوال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الفرائد، راجع الوصائل 5: 45.
2- الأصول: 43، فما بعدها.
3- الفقه 1: 283.

بالنسبة إلى الأمور التوصلية أيضاً -.

وعلى أساس ذلك ينقسم الفقهاء إلى قائل بوجود الدليل العام على الوجوب، وقائل بعدم الدليل.

وأما بالنسبة إلى اللحاظ الثاني: فربما يقال: بأنّه لا خلاف في وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الأُمور التعبّدية.

والسبب في ذلك: أن الأُمور التعبّدية متقوّمة بقصد القربة، ومع عدم وجود الموافقة الالتزامية لا يمكن قصد القربة.

فالموافقة الالتزامية - بهذا اللحاظ - واجبة في الأمور التعبدية بالوجوب الغيري، وليست ذات وجوب نفسي على حد سائر الواجبات الاستقلالية.

ومن هنا يعلم الوجه في إمكان انفكاك المخالفة الالتزامية عن المخالفة العملية، وإنفكاك المخالفة العملية عن المخالفة الالتزامية في الأمور التوصّلية.

وعدم إمكان انفكاك المخالفة الالتزامية عن المخالفة العملية في الأمور التعبدية، وإن أمكن العكس.

وتفصيل ذلك:

1- أنّه يمكن انفكاك المخالفة الالتزامية عن العملية في التوصليات بأن يلتزم - مثلاً - بوجوب الانفاق على الزوجة، دون أن يجري عمليّاً وفق هذا الوجوب.

2- ويمكن انفكاك المخالفة العملية عن الالتزامية فيها، بأن ينفق - مثلاً - على زوجته ولا يلتزم بوجوب الإنفاق.

ص: 424

3- ولا يمكن انفكاك المخالفة الالتزامية عن العملية في الأُمور التعبّدية؛ إذ بوجود المخالفة الالتزامية وعدم الانقياد الجناني وعدم التديّن القلبي بالحكم ينتفي قصد القربة، فيكون العمل فاقداً لشرطه، فلا يكون المأتي به موافقاً للمأمور به، فلا تكون ثمّة موافقة عملية.

4- ويمكن انفكاك المخالفة العملية عن الالتزامية فيها، بأن يلتزم بوجوب الحجّ - مثلاً - ولا يؤدّي الحجّ.

فبناءً على وجوب الالتزام: تتحقّق في الصورة الثالثة معصيتان، وفي الصور البواقي: امتثال واحد ومعصية واحدة.

ثمّ إنّ الوالد (رضوان اللّه عليه) فسّر الموافقة الالتزامية في التعبديات ب«القصد إلى الفعل أو الترك متقرباً» مع أنّه فسرها في عنوان البحث ب- «عقد القلب بما علم»(1)، والظاهر أن (قصد التقرّب) مغاير (للموافقة الالتزامية)، نعم، هي مبدأ له... ولكن المبدئية تغاير الاتحاد... ولعل التفسير باعتبار التلازم بينهما في صورة إتيان العمل، أو باعتبار عدم ارتضائه (رحمه اللّه) لوجوب الموافقة الالتزامية - بمعنى عقد القلب - في الأمور التعبدّية.

هذا وللنظر فيما ذكر - من توقّف الموافقة العملية في الأُمور التعبّدية على الموافقة الالتزامية، وعدم انفكاك المخالفة الالتزامية فيها عن المخالفة العملية - مجال من جهتين:

الجهة الأولى: أنّه لا يتعيّن في العمل العبادي أن يؤتى به بداعي امتثال

ص: 425


1- الاُصول: 27.

أمره؛ كي تكون الموافقة الالتزامية لازمة، بل تكفي إضافة العمل إلى المولى - سبحانه - بنحو من أنحاء الإضافة في تحقيق عبادية العبادة، فيمكن أن يأتي بالعمل بداعي «محبوبيته لدى المولى»، أو يتركه بداعي مبغوضيته لديه.

وبه صرّح الوالد (رضوان اللّه عليه) قال: «لكن الظاهر أنّه لا يشترط في العبادة كون الداعي أمر اللّه سبحانه، بل إذا كان داعيه أنّه محبوب له سبحانه، بحيث أنّه كان يفعله لحبّ اللّه تعالى وإن لم يكن أمر أصلاً كان عبادة»(1).

بل احتمل - أو قيل - أنّه كذلك لو أتى به بداعي حسنه، أو بداعي ملاكه، أو بداعي ذاته تعالى.

وإن كان ذلك لا يخلو عن كلام، وتفصيل الكلام في مباحث (التعبّدي والتوصلي) و (الضدّ) من الاصول، ومبحث (النية) من الفقه.

الجهة الثانية: أنّه لو فرض اشتراط الانبعاث عن الأمر في العمل العبادي فالالتزام بما يضاد وصف العمل لا يقدح في عباديته، فلو انبعث عن الأمر في عمله وكان واجباً فأتى به ملتزماً باستحبابه كفى وصح، وإن كان آثماً بالتشريع.

إن قلت: إنّ التشريع محرّم، والحرمة في العبادة تستلزم البطلان.

قلت: يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:

ص: 426


1- الفقه 9: 99.

الجواب الأول: ما ذكره الوالد (رضوان اللّه عليه) في الفقه قال: «...اللّهم إلاّ إذا لم يكن التشريع في ذات الأمر، بل في وصفه؛ إذ ذات الشيء يكون حينئذ منبعثاً من أمر اللّه سبحانه، والتشريع في الوصف لا يسري إلى التشريع في الذات»(1).

بيانه: أن التشريع على نحوين:

1- التشريع في الذات. كصوم الصمت، وصوم الوصال، وصلاة خمس ركعات.

2- التشريع في الصفات.

والتشريع في الصفات لا يلازم التشريع في الذات - وإن أمكن إستتباعه له في بعض الأحيان -.

ويقرب ذلك - من بعض الوجوه وإن لم يطابق ما نحن فيه بشكل كامل: ما ذكروه من أنّه لو أتى بالعمل العبادي في مكان معيّن بداعٍ غير قربي، مع إتيانه بذات العمل بداع قربي، لم يضرّ ذلك في صحته؛ وذلك لأنّ في العمل جهتين: «جهة الطبيعة» و «جهة الخصوصيات». والمهم الإتيان بالطبيعة بداع قربي، وأمّا الخصوصيات الفردية فلا يضرّ الإتيان بها بداعٍ غير قربي، وذلك لمباينة الخصوصيات مع ذات العمل.

بل لا يمكن الإتيان بالخصوصيات بداعٍ قربي، بعد أخذ ذات الطبيعة في الأمر.

نعم، لو قام دليل على مطلوبية الخصوصية أمكن الإتيان بها بداعي

ص: 427


1- الفقه 1: 115.

القربة، كالصلاة في المسجد، فينوي بكون الصلاة في المسجد: التقرّب إلى اللّه سبحانه، كما ينوي التقرّب إليه تعالى بأصل الصلاة.

وذلك بخلاف الصلاة في البيت، أو السطح، أو السرداب، فإنه لا يمكن التقرّب بها بخصوصيتها، إذا لم يدلّ دليل على استحباب هذه الخصوصيات.

فالمهم اذاً إضافة العمل إلى المولى من حيث ذاته، لا من حيث وصفه، فلا يضر عدم حصول التقرب بالوصف، لعدم حصول الموافقة الالتزامية بالنسبة إليه.

وفي هذا الجواب نظر:

وذلك للإتحاد فيما بين (الذات) و (الخصوصيات) فلا يعقل كون الذات مقرّبة، والخصوصية مبعدة.

نعم: يمكن كون الخصوصية لا بشرط - بلحاظ المقربية والمبعدية؛ لأنّ اللابشرط يجتمع مع ألف شرط.

ومن هنا ذهب الكثيرون إلى بطلان الصلاة في المكان المغصوب، وبطلان الطواف في الثوب المغصوب؛ إذ هذه الحركة الشخصية مبعدة عن المولى - باعتبارها غصباً - فلا يعقل كونها مقربة له، فتأمل.

وتفصيل الكلام في باب (إجتماع الأمر والنهي).

الجواب الثاني: إن ضمّ التشريع غير قادح في صحّة العمل العبادي، وإن كان محرماً، لعدم تركب إتحادي أو إنضمامي بينه وبين العمل العبادي؛ إذ التشريع عبارة عن نسبة ما لم يعلم كونه من الدين إلى الدين، اما نسبة قلبية

ص: 428

أو نسبة لفظية، أو نسبة كتبية، أو نحوها، وهي مغايرة للعمل العبادي، فلا تسري حرمتها إليه.

ويتفرع على ما ذكره أنّه لو نوى بوضوئه الوجوب، وكان مندوباً في الواقع، على نحو التشريع، لا على نحو الخطأ في التطبيق، كان صحيحاً، إن تحصّل منه قصد التقرب في ذات العمل، وإن كان آثماً بالتشريع، خلافاً لصاحب العروة (رحمه اللّه) حيث قال في مباحث الوضوء: «بل لو نوى أحدهما -أي الوجوب والندب- في موضع الآخر كفى إن لم يكن على وجه التشريع أو التقييد»(1)، ونحو ذلك الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، وإن كان الأمر بحاجة إلى مزيد من التتبع والتأمل.

الثالث: في عدم اختصاص محل الكلام بالأحكام الإقتضائية

إنّ محل الكلام لا يختصّ بالأحكام الإقتضائية، بل يشمل غيرها أيضاً - كالإباحة -، فكما يجب - بناءً على وجوب الموافقة الالتزامية - عقد القلب على وجوب الواجبات، كذلك يجب عقده على إباحة المباحات؛ وذلك لإطلاق الدليل أو عمومه.

الرابع: في عدم اختصاص محل الكلام بالحكم المقطوع به

لا يختصّ محل الكلام بالحكم المقطوع به خلافاً للكفاية، حيث خصصّ البحث في المقام ب- «تنجز التكليف بالقطع»؛ وذلك لعموم الملاك.

فكما أن الحكم المقطوع به هو حكم اللّه تعالى - وفي نظر القاطع -

ص: 429


1- العروة الوثقی 1: 166.

كذلك مؤديّات الأمارات - كوجوب الجمعة مثلاً - والأصول العملية - كطهارة ما شك في نجاسته - ، ولعلّ تخصيصه به باعتبار كون الكلام في القطع، أو باعتباره أظهر الحجج كما أشار إليه في المنتهى(1).

ص: 430


1- منتهى الدراية 4: 128.

المبحث الثالث

المبحث الثالث : وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم الفرعي المعلوم بالتفصيل

اشارة

وفي هذا المقام لحاظان:

1- لحاظ نفس أدلّة التكليف.

2- لحاظ الأدلّة الخارجية.

أوّلاً: لحاظ نفس أدلّة التكليف

أمّا بلحاظ نفس أدلّة التكليف فالظاهر أنّها لا تقتضي الوجوب.

ويمكن تقرير عدم الوجوب - بهذا اللحاظ - بأن صيغة الأمر - مثلاً- مركّبة من (مادة) و (هيئة).

أمّا المادة فمفادها (الفعل).

وأمّا الهيئة فمفادها: (الطلب) أو (النسبة الطلبية).

فمفاد (حجّ) - مثلاً - هو: أنّ (الحجّ) (مطلوب).

ولا شك أن (الحج) عمل خارجي، و (الإلتزام) عمل نفساني، وصيغة الأمر لا تدل إلاّ على تعلّق الطلب بذلك العمل الخارجي، فكيف تدل الصيغة المزبورة على وجوب (الإلتزام النفساني)؟

بل لو كان المأمور به فعلاً نفسانياً، فلا يدلّ الأمر به على وجوب الالتزام؛ إذ الأفعال النفسانية مختلفة، ولا يمكن إسراء الوجوب من فعل نفساني إلى فعل نفساني آخر.

ص: 431

مثلاً: لو أمر المولى بالخشوع في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(1).

فالخشوع نوع من أنواع الفعل النفساني، والالتزام باستحباب الخشوع نوع آخر من أنواع الفعل النفساني، فكيف يدل طلب الخشوع على طلب الالتزام باستحباب الخشوع؟

والخلاصة: أنّ مفاد صيغة الأمر: وجوب الإتيان بالمادة التي انصبّ عليها الطلب، لا وجوب الالتزام النفسي بالفعل.

وبعبارة أُخرى: ظاهر الأدلّة البعث نحو العمل خارجاً، لا الالتزام به قلباً.

وبعبارة ثالثة: الأمر لا دلالة فيه إلاّ على بعث واحد.

وبعبارة رابعة: كل تكليف ليس فيه اقتضاء ذاتي لأكثر من إتيان متعلّقه.

ثانياً: لحاظ الأدلّة الخارجية

اشارة

وأمّا بلحاظ الأدلّة الخارجية فقد ذكر أنّها تدل على وجوب الموافقة الالتزامية.

وهذه الأدلّة تتنوع إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: أدلّة وجوب التصديق.

الطائفة الثانية: أدلّة وجوب التسليم.

أ- أدلّة وجوب التصديق

أي تصديق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ونحوها: أدلّة وجوب الإيمان به (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 432


1- المؤمنون: 2.

وبالكتاب.

قال الوالد (رضوان اللّه عليه) بعد أن استدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ}(1).

قال: (ومن المعلوم أن الإيمان بالكتاب عبارة عن الالتزام بأحكامه أصولاً وفروعاً)(2).

هذا ويحتمل أن يقال: إنّ (التصديق) في قبال (التكذيب).

فمعناه: الإيمان بصدق القائل، كما أن التكذيب معناه الإيمان بكذب القائل. فتصديق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعني:

أولاً: الإيمان بصدقه في دعواه النبّوة والرسالة.

ثانياً: الإيمان بصدقه فيما أخبر به عن اللّه تعالى.

بأن يعتقد استناد إخباره إلى إخبار اللّه تعالى، وحكمه إلى حكم اللّه تعالى.

ثالثاً: الإيمان بمطابقة ما أخبر به من الأمور التكوينية - المتعلقة بالسماء والأرض والماضي والحاضر والمستقبل وغيرها – للواقع.

وقد تُجمع الثلاثة في عنوان «مطابقة ما اخبر به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للواقع»، والتصديق بالمعنى المزبور من مقوّمات الإيمان، أو من شؤونه، وهو مغاير لمفهوم

ص: 433


1- النساء: 136.
2- الوصول 3: 341- 342.

«الاذعان» ومتقدم رتبة عليه، وقد يتخلّف الاذعان عن التصديق؛ إذ قد يؤمن الإنسان بصدق المخبر، وبوقوع المخبر عنه في الخارج، إلاّ أنّه لا يستطيع «تطويع» نفسه ل- «الواقع» فلا يؤمن به بقلبه، وإن جزم به بعقله، فإذا أخبر الزوجة - مثلاً - مخبر بموت زوجها، فربما تصدّقه في قوله، وتؤمن بأنه صادق فيما يقول، إلاّ أنّ هول المصيبة تمنعها من عقد القلب على وقوعها، فتظل تكابر عقلها، وتفرض أنّ المصيبة لم تقع.

فالبحث فيما نحن فيه عن أن هذا الحكم الذي جاء به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقطعنا بأنّه جاء به من عند اللّه تعالى هل يجب عقد القلب على وجوبه - كما تجب طاعته عملاً - أو لا؟

ولعلّ الملابسات التاريخية تؤيد أن المقصود بهذه النصوص الكريمة (التصديق) في قبال (التكذيب)، لا (التصديق) بمعنى (الموافقة الالتزامية).

وذلك لأنّ ظاهرة «التكذيب» كانت ظاهرة متداولة، فالبعض كان يكذّب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دعواه للرسالة. والبعض الآخر كانت تثقل عليه بعض الأحكام، فكان ينسب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى «التقوّل»، أو كان يشكك في مصدر إخباره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما كان يتفق في قضية «الولاية» ل- «أمير المؤمنين (عليه السلام) »، فكان الرجل يأتي إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقول: هذا من عند اللّه أو من عندك(1)؟

وقد نزل في ردع هذا الاتجاه قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ

ص: 434


1- كما في سورة المعارج في قوله: (سأل سائل بعذابٍ واقع) وهذا السائل هو: النضر بن الحارث بن كلدة. راجع مجمع البيان 10: 446.

هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(1).

وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} {فَمَا مِنكُم مِّنْ أحد عَنْهُ حَاجِزِينَ}(2).

وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أو بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(3).

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أو ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(4).

وقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} {لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}(5).

وهنالك بعض يشكّكون في الاخبارات التكوينية للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي قضية «تأبير النخل»(6) المختلقة التي رواها بعض العامة شاهد على وجود إتجاه يرفض تصديق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إخباراته المتعلقة بالكون والحياة.

وقد إنتشر هذا الإتجاه في بعض المتأثرين بالموجة الإلحادية الغربية

ص: 435


1- النجم: 3-4.
2- الحاقة: 44-47.
3- يونس: 15.
4- الانفال: 32.
5- المعارج: 1-3.
6- شرح نهج البلاغة 7: 20؛ نيل الأوطار 9: 120.

الطاغية. وانتشار ظاهرة «التكذيب» يؤيد كون المراد بالتصديق المعنى المزبور، لا «الموافقة الالتزامية»، التي يمكن أن يقال بندرة انفكاكها عن «العلم بالواقع».

وعلى كل حال: فأدلة «التصديق» منصرفة عن «الموافقة الالتزامية» فتأمل.

ويؤيد ذلك: عدم فهم أغلب من عثرنا على كلماتهم من الفقهاء لوجوب الموافقة الالتزامية من أدلّة وجوب التصديق.

اللّهم إلاّ أن يقال: باستلزام «التصديق» ل- «الموافقة الالتزامية»، وكون «المخالفة الالتزامية» تكذيباً، وندرة المخالفة الالتزامية لا تقدح في اطلاق الأدلة، لما تقرر في مباحث المطلق والمقيد من أن ندرة الوجود غير ضارّة باطلاق الدليل. إلاّ أن الكلام في دعوى انصراف الأدلّة، فتأمل.

ب - أدلّة وجوب التسليم

وقد استدل بها الوالد (رضوان اللّه عليه) في الأصول(1) والوصول(2).

منها قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(3).

قال الوالد (رحمه اللّه) : «فإنها صريحة في عدم ايمان من يجد في نفسه حرجاً

ص: 436


1- الاصول 6: 598.
2- الوصول 3: 341.
3- النساء: 65.

من قضاء الرسول ولو كان يوافقه عملاً، فكيف بمن لا يلتزم به أصلاً»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه تلا الآية الكريمة فقال: «لو أن قوماً عبدوا اللّه ووحّدوه ثُمَّ قالوا لشيء صنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لِمَ صنع كذا وكذا، أو وجدوا ذلك في أنفسهم كانوا بذلك مشركين، ثُمَّ تلا الآية ثانياً وقال: هو التسليم في الأُمور»(2).

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(3)، قال: «الصلاة عليه والتسليم له في كلِّ شيء جاء به»(4).

قال الوالد (رحمه اللّه) : (ومن المعلوم أن احداً لو قال أنا لا التزم بأحكام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولكن اوافقه عملاً لم يكن مما يسلم له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) )(5).

وقد يقال:

أولاً: إنّ بعض هذه الأدلّة في صدد نفي (كمال الإيمان) عن غير المتصف، ولا دلالة لها على نفي (أصله) عنه.

ويدل على ذلك: المرتكز في أذهان المتشرعة، بل ربما يدعى: التسالم على ذلك، فتأمل.

ص: 437


1- الوصول 3: 342.
2- بحار الأنوار 1: 133.
3- الأحزاب: 56.
4- بحار الأنوار 2: 204.
5- الوصول 3: 342.

وأما التسليم فالمراد به التسليم العملي لا القلبي، فتأمل.

وثانياً: أن هنالك مغايرة بين مفهوم (الاعتراض) و(الحرج) من جهة، و(عدم الالتزام) من جهة أُخرى، فإنّ الأولين أمران وجوديان، والأخير أمر عدمي، والتلازم وإن كان واقعاً غالباً، إلاّ انّه على نحو القضية الاتفاقية لا الملازمة القهرية.

اللّهمّ إلاّ أن يستدل بالأولوية، فتأمل.

ثمّ إن صاحب الكفاية استدلّ بشهادة الوجدان على عدم وجوب الموافقة الالتزامية، قال: «لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيده إلاّ المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وإنحطاط درجته لدى سيّده لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الإعتقاد بأحكام مولاه والإنقياد لها، وهذا غير إستحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً كما لا يخفى»(1).

وقال في النهاية: «إن ملاك استحقاق العقوبة انطباق عنوان هتك الحرمة والظلم على المخالفة للتكليف.

ومن الواضح أن عدم الإلتزام قلباً مع كمال الإلتزام عملاً لا يكون هتكاً ولا ظلماً؛ إذ الغرض من التكليف إنقداح الداعي إلى فعل ما هو موافق

ص: 438


1- كفاية الأصول: 268.

لغرض المولى.

وعدم المبالاة بأمر المولى إنما يكون هتكاً وظلماً إذا انجرَّ إلى ترك ما يوافق غرض المولى أو فعل ما ينافيه»(1).

هذا ولا يخفى: أنّ ذلك وإن تم مع الغضّ عن الأدلّة الخارجية، إلاّ إنّه لا يتم مع لحاظها لو فرض دلالتها على وجوب الالتزام، كما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) .

ص: 439


1- نهاية الدراية 3: 77.

المبحث الرابع : وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم المعلوم بالإجمال

وفيه بحثان:

البحث الأول: في إمكان الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم المعلوم بالاجمال.

ولا ينبغي الإشكال في الإمكان. إلاّ أنّ نحو الموافقة الالتزامية تابع لنحو العلم، فإن كان العلم تفصيليّاً كانت الموافقة تفصيلية، وإن كان إجمالياً كانت إجمالية.

وكيفية الموافقة الإجمالية: أن يلتزم بالحكم الواقعي المعيّن عند اللّه تعالى المجهول عنده، أي أن يلتزم بالحكم على ما هو عليه في صقع الواقع.

قال في الكفاية: «... للتمكّن من الإلتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت، وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة»(1).

وقال في النهاية: «بل يتمكّن من أزيد من ذلك بناءً على ما سيجيء - إن شاء اللّه- من أنّ طرف العلم دائماً مبيّن تفصيلاً، وإنّما الإجمال والتردّد في طرف الطرف ومتعلقه، بداهة أن طرف العلم يتشخّص به العلم في مرحلة النفس، وهو أمر جزئي غير مردّد، وهنا كذلك، لأنّ المعلوم هو الإلزام من

ص: 440


1- كفاية الأصول: 298.

الشارع أمّا أن متعلّقه الفعل أو الترك فهو مجهول، أي غير معلوم. والإلزام المعلوم يستتبع على الفرض الالتزام به باطناً والانقياد له قلباً»(1).

البحث الثاني: في وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم المعلوم بالاجمال.

والظاهر: الوجوب - بناءً على وجوب أصل الموافقة الالتزامية - وذلك لوحدة الملاك وعموم الأدلة.

فقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ}(2) يشمل القضاء الصادر من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعلوم بالتفصيل كما يشمل القضاء الصادر منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعلوم بالاجمال، وهكذا في سائر الأدلة.

ص: 441


1- نهاية الدراية 3: 79.
2- النساء: 65.

المبحث الخامس : مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي

اشارة

وهو بحث مهم، وقد سبق في بداية هذا الفصل حصر بعضهم ارتباط مبحث «الموافقة الالتزامية» ب- «علم الأُصول» في جريان «الأُصول العملية» في أطراف العلم الإجمالي وعدمه، كما سبق التنظر في هذا الحصر.

وتترتّب على هذا البحث ثمرات فقهية كثيرة، نذكر منها - على سبيل المثال:

1- قال في العروة الوثقى: «الماء المشكوك كرّيته مع عدم العلم بحالته السابقة في حكم القليل على الأحوط، وإن كان الأقوى عدم تنجسه بالملاقاة، نعم لا يجري عليه حكم الكرّ، فلا يطهّر ما يحتاج تطهيره إلى إلقاء الكرّ عليه، ولا يحكم بطهارة متنجس غسل فيه»(1).

فإذا فرضنا أن هنالك ماءً جهلت حالته السابقة بلحاظ الكرّية والقلّة، فغمست فيه اليد المتنجسة لتطهيرها، فهنا يحكم ببقاء نجاسة اليد، لاستصحاب النجاسة ويحكم ببقاء طهارة الماء، لاستصحاب الطهارة. مع العلم الإجمالي بكون أحد الاستصحابين مخالفاً للواقع. إذ الماء إن كان كرّاً

ص: 442


1- العروة الوثقى 1: 30.

فالماء باقٍ على طهارته، واليد قد طهرت وإن كان قليلاً فاليد باقية على نجاستها، والماء قد تنجّس.

فالحكم الواقعي إمّا (طهارة الطرفين: الملاقي والملاقَى) وإمّا (نجاسة الطرفين).

وعليه يكون الحكم ب(طهارة أحد الطرفين) و (نجاسة الطرف الآخر) مخالفاً للواقع، فإجراء الأصلين في الطرفين يكون مستلزماً للالتزام القلبي بما هو مخالف للواقع. وذلك منافٍ لوجوب (الموافقة الالتزامية) - لو فرض وجوبها.

ولا يخفى أن جريان الأصلين في المقام لا يوجب المخالفة العملية القطعية للواقع. إذ أثر جريان الأصلين: لزوم تطهير اليد لما تشترط فيه الطهارة - كالصلاة.

فإذا أجرى المكلّف الأصلين، فشرب من الماء المزبور، استناداً إلى استصحاب الطهارة، وغسل يده، استناداً إلى استصحاب النجاسة، ثُمَّ صلّى، لم يحصل عنده علم قطعي بالمخالفة العملية للواقع؛ وذلك لاحتمال كون الماء كرّاً في الواقع، فيكون باقياً على طهارته، وغسل اليد مّرة أُخرى - المفروض طهارتها بالغمس في الماء المشكوك - غير موجب لمخالفة التكليف الواقعي.

نعم، في شرب الماء المزبور مخالفة احتمالية للواقع؛ لاحتمال كون الماء قليلاً، وقد انفعل بالملاقاة، إلاّ إن هذا الشرب مؤمّن عنه باستصحاب الطهارة، فهو طاهر ظاهراً.

وعلى كل حال: فجريان الأصلين في المقام لا يوجب المخالفة الالتزامية

ص: 443

العملية القطعية للواقع، وإن كان قد يقال بكونه موجباً للمخالفة.

2- وقال فيها أيضاً: «إذا كان كر لم يعلم أنّه مطلق أو مضاف فوقعت فيه نجاسة لم يحكم بنجاسته...»(1).

وبناءً عليه: فإذا فرضنا أنّه غمس ثوب متنجس في هذا المائع، استصحبت طهارة الماء، كما استصحبت نجاسة الثوب.

3- لو كان هنالك إناءان متنجسان علمنا بتطهير أحدهما قطعاً، واشتبه الإناء الذي طهر بالذي لم يطهر، فهنا يجري استصحاب نجاسة الانائين، ولايلزم منه مخالفة عملية للواقع؛ لأنّ أثر الجريان الاجتناب عن كلا الانائين، مع كون أحدهما طاهراً في الواقع، وليس في الاجتناب عن الإناء الطاهر مخالفة للواقع - في حدّ ذاته. نعم، قد يقال بلزوم المخالفة الالتزامية من ذلك.

أمّا لو فرضنا وجود إنائين طاهرين علمنا بوقوع متنجس في أحدهما، فاستصحاب طهارة الإناءين والجري على ذلك يوجب المخالفة العملية للواقع، مضافاً إلى المخالفة الالتزامية.

ومن هنا ينبغي الدقّة في أن جريان الأصلين في أطراف العلم الإجمالي هل يوجب المخالفة الالتزامية فقط؟ أو يوجب المخالفة العملية ايضاً.

4- لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول، فيحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث. وقد مثّل به الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الرسائل(2).

ص: 444


1- العروة الوثقى 1: 32.
2- الوصائل 1: 240.

5- لو شك أن هذه المرأة محلوفة الفعل أو الترك يلتزم بإباحة الفعل.

وقد مثّل به الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الرسائل أيضاً(1).

6- لو شك أن دفن الكافر واجب أو حرام، يقال: الأصل عدم الوجوب وعدم التحريم، فيحكم بإباحة الدفن. إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هذه الأمثلة ينقدح عموم محل البحث لغير موارد الدوران بين المحذورين، كعمومه لها. فما في المنتقى من تقييده بها غير واضح.

إذا عرفت ذلك فلنشرع في أصل البحث فنقول:

إنّ في جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي محاذير، إن إرتفعت كلّها أمكن جريان الأصول، وإن لم يرتفع ولو واحد منها لم تجر.

وهذه المحاذير هي:

1- المخالفة العملية للتكليف المعلوم بالاجمال.

2- التناقض بين الصدر والذيل في الروايات.

3- عدم وجود الأثر العملي.

4- لزوم المخالفة الالتزامية.

وكلامنا في المقام وإن كان في خصوص المانعية من الحيثية الأخيرة، إلاّ إنّه لا بأس بالتطرّق الإجمالي إلى جميع المحاذير، لنرى أنّها قابلة للحل أو لا؟

1) محذور المخالفة العملية للتكليف المعلوم بالاجمال

ويمكن حلّ هذا المحذور:

ص: 445


1- فرائد الاصول 1: 84.

أوّلاً: بكون المورد من موارد الدوران بين المحذورين، حيث ينتفي فيها إمكان المخالفة القطعية العملية، كما ينتفي فيها إمكان الموافقة القطعية العملية، فجريان الأصول في هذه الموارد لا يسبّب المخالفة العملية للتكليف الواقعي؛ إذ المكلّف قبل جريانها لا يخلو من الفعل أو الترك، وجريانها لايغير من هذه الحالة شيئاً، فهو بعد ذلك إمّا فاعل وإمّا تارك أيضاً.

مثاله: لو شك في أنّ ردّ تحية الكافر واجب أو محرم.

أو: إنّ إقامة الحدود في زمن غيبة الامام المعصوم(عليه الصلاة والسلام) واجبة أو محرّمة.

وثانياً: بكون الأُصول الجارية تنجيزية، مفادها إثبات التكليف، لا ترخيصية، مفادها نفي التكليف.

مثاله: استصحاب نجاسة الإناءين اللذين علمنا بتطهير أحدهما، لو لوحظ في حدّ ذاته بخلاف استصحاب طهارة الإناءين اللذين علمنا بتنجس أحدهما، فإنّ اجراء الأُصول والجري وفقها يوجب المخالفة العملية للتكليف الواقعي المعلوم بالاجمال.

2) محذور التناقض بين الصدر والذيل

وقد ذكر هذا المحذور الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) وتقريره: أنّ مقتضى اطلاق الصدر في مثل «كل شيء هو لك حلال»(1): الشمول لكل طرف من أطراف

ص: 446


1- الكافي 5: 313.

العلم الاجمالي، إذ كل منها مشكوك في حليته وحرمته، ومقتضى إطلاق الذيل في مثل «حتّى تعلم أنّه حرام» عدم الشمول، لتحقق الغاية التي هي (العلم)، وهو أعمّ من العلم التفصيلي والاجمالي، فلابّد من رفع اليد عن أحد الإطلاقين، وحيث لامرجّح لأحدهما على الآخر تكون الرواية مجملة فلا تجري في أطراف العلم الاجمالي.

وحلّ هذا المحذور:

أولاً: بأنّه لامانع من التمسّك باطلاق الروايات غير المغيّاة كقوله (عليه السلام) : «رفع ما لايعلمون»(1). وقوله (عليه السلام) : «الناس في سعة مالايعلمون»(2).

واجمال دليل مغيّى لايسري إلى غيره ممّا لم تذكر فيه الغاية المذكورة إلاّ أنْ يقال: إنّه ينحلّ إلى جملتين: مغيّى وغاية، فتأمل.

وثانياً: بان ظاهر الروايات الشريفة كون العلم والشك من سنخ واحد.

وذلك غير متحقق في المقام لكون الشك متعلقاً بكل واحد من الأطراف، بينما العلم متعلق بالعنوان الجامع.

وعليه فالغاية - في مثل المقام- لا تشمل العلم الاجمالي، فيكون إطلاق المغيّى محكماً. وتفصيل الكلام، والنقض والإبرام في غير المقام.

3) محذور عدم وجود الأثر العملي

وعدم وجوده مستلزم اللغوية؛ ولذا ذكروا عدم جريان الإستصحاب فيما لا أثر عملي له - كاستصحاب وجود بركان هائج في المريخ مثلاً -.

ص: 447


1- وسائل الشيعة 5: 309.
2- جامع احاديث الشيعة 30: 546.

وكذا عدم جريان أصالة الطهارة فيما هو خارج عن محل الابتلاء - كإناء ملك الهند مثلاً -.

ويمكن حلّ هذا المحذور:

أولاً: بوجود الأثر العملي لجريان الأُصول العملية في غير موارد الدوران بين المحذورين، مثل استصحاب نجاسة الإناءين اللذين علمنا بتطهير أحدهما، فإنّ أثر ذلك وجوب الاجتناب عنهما معاً.

نعم: في موارد الدوران بين المحذورين - كما في مثال دفن الكافر - قد يقال: بأنه لا أثر عملي، إذ المكلّف في هذه الموارد : لا يخلو من الفعل أو الترك، ولا فرق في كونه كذلك بين مرحلة ماقبل جريان الأُصول العملية، ومابعد جريانها؛ إذ بعد جريانها يكون أيضاً إمّا فاعلاً أو تاركاً، فلا يؤثّر جريان الأصل العملي في وضع المكلّف شيئاً.

هذا ولكن قد يقال: بإنّ الاجتناب أثر العلم الإجمالي لا أثر جريان الاستصحابين، فتأمل.

وثانياً: بعدم اشتراط وجود الأثر العملي - بالمعنى المعروف لذلك، أي الجري العملي المتوقف على الخطاب الشرعي - في جريان الأُصول العملية، بل يكفي الأثر الاستنادي، وذلك متحقق في المقام، فإن أثر الجريان استناد فعلية عدم التكليف إلى الأصول الشرعية، لا إلى حكم العقل بعدم الحرج في الفعل والترك.

كما أنّ أثر البراءة الشرعية استناد المكلّف إليها في اقتحامه في الشبهات الموضوعية التحريمية - مثلاً - وإن لم يتوقف الاقتحام عليها، لوجود البراءة

ص: 448

العقلية، لو فرض عدم البيان الشرعي، ولو لزم وجود الأثر العملي - بالمعنى المعروف - لأشكل وجودها بتساوي حالتي المكلّف قبل الوجود وبعده.

وعلى كل حال: فالمهم أن يكون الحكم - إثباتاً ونفياً - ممّا تناله يد التشريع، ولعلّ هذا هو ما عبّر عنه في حاشية الكفاية ب- «قابلية المورد للحكم إثباتاً ونفياً».

4) محذور لزوم المخالفة الالتزامية

حيث إنّ الإلتزام بمؤدّى الأصول العملية الجارية في أطراف العلم الإجمالي مخالف لوجوب «الموافقة الالتزامية» بأحكام اللّه تعالى، و«مخالفة التزامية» لتلك الأحكام.

ويمكن أن يحل هذا المحذور بأحد نحوين:

مبنائي: بعدم وجوب الموافقة الالتزامية، وإلى ذلك ذهب معروف مَن رأينا كلماتهم في المقام.

وبنائي: وله تقريرات ثلاثة:

1- التقرير الأول: وهو مركب من صغرى وكبرى

أما الصغرى: فهي أن الالتزام الإجمالي ممكن، بأن يلتزم بالحكم الواقعي على ماهو عليه أو يلتزم بالالزام المتحقق من قبل الشارع، وقد سبق الكلام في ذلك في البحث الرابع، فراجع.

وأمّا الكبرى: فهي أن أدلّة الالتزام تعم الالتزام الاجمالي، في حالة عدم القدرة على الالتزام التفصيلي؛ إذ مفاد هذه الأدلّة (وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي) فإذا التزم المكلف به - على ماهو عليه - فقد امتثل المأمور،

ص: 449

وارتفع المحذور مثلاً قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ}(1) يشمل من علم بقضاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تفصيلاً، فالتزم به تفصيلاً، ومن علم به إجمالاً فالتزم به اجمالاً؛ فإنّ نحو الالتزام تابع لنحو العلم، وحيث إنّ العلم اجمالي في المقام، فالالتزام يكون اجمالياً أيضاً، بل لو فرض تمكّن المكلّف من تحصيل العلم التفصيلي لم يجب، وكفى الالتزام الإجمالي، لشمول الأدلّة للالتزام الإجمالي على حدّ شمولها للالتزام التفصيلي.

وقد ذكروا في مقامات متعدّدة أنّ أدلّة (وجوب النية) تشمل النيّة التفصيلية والاجمالية، ونذكر فيما يلي بعض الأمثلة لذلك:

1- قال صاحب العروة (رحمه اللّه) : «يجب تعيين العمل إذا كان ماعليه فعلاً متعدداً، ولكن يكفي التعيين الاجمالي، كأن ينوي ماوجب عليه أولاً من الصلاتين مثلاً، أو ينوي ما اشتغلت ذمته به أولاً أو ثانياً»(2).

2- وقال (رحمه اللّه) : «... فلايجزي القصد إلى الصوم مع القربة من دون تعيين النوع من غير فرق بين ما إذا كان ما في ذمته متحداً أو متعدِّداً، ففي صورة الاتّحاد أيضاً يعتبر تعيين النوع، ويكفي التعيين الإجمالي كأن يكون ما في ذمته واحداً، فيقصد ما في ذمته متعدّداً أيضاً يكفي التعيين الإجمالي كأن ينوي ما اشتغلت ذمته به أولاً أو ثانياً أو نحو ذلك...»(3).

ص: 450


1- النساء: 65.
2- العروة الوثقى 1: 437.
3- العروة الوثقى 2: 106.

3- وقال: «الزكاة من العبادات فيعتبر فيها نية القربة والتعيين مع تعدّد ما عليه، بأن يكون عليه خمس وزكاة وهو هاشمي فأعطى هاشمياً، فإنّه يجب عليه أن يعيّن أنّه من أيّهما، وكذا لو كان عليه زكاة وكفارة، فأنّه يجب التعيين، بل وكذا إذا كان عليه زكاة المال والفطرة فإنّه يجب التعيين على الأحوط، بخلاف ما إذا اتّحد الحق الذي عليه فإنّه يكفيه الدفع بقصد ما في الذمة وإن جهل نوعه، بل مع التعدد أيضاً يكفيه التعيين الإجمالي بأن ينوي ما وجب عليه أولاً، أو ما وجب ثانياً مثلاً»(1).

ويبقى في المقام سؤالان:

السؤال الأول: هل المكلّف يلتزم بالحكم الواقعي فقط؟

والجواب: كلاّ، بل يلتزم ايضاً بالحكم الظاهري أو بالحكمين الظاهريين اللذين هما مؤدّيا الأُصول العملية، فيلتزم في مثال المائين المستصحبي النجاسة بأن أحدهما طاهر واقعاً، وبأن كليهما نجس ظاهراً، وقد سبق عدم اختصاص وجوب الموافقة الالتزامية - على القول بها - بالحكم المقطوع به، بل يشمل مؤدّيات الأمارات والأصول العملية أيضاً.

السؤال الثاني: هل هنالك تنافٍ بين الالتزامين؟

والجواب: كلاّ، إمّا بتقرير اختلاف الرتبة، أو بسائر التقريرات التي ذكرت في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

فكما لا تنافي بين الالتزام بطهارة المشكوك ظاهراً، والالتزام بحكمه

ص: 451


1- العروة الوثقى 2: 219.

الواقعي على ما هو عليه (مع احتمال كونه النجاسة) كذلك تنافي في المقام بين الالتزامين.

لا يقال: فرق بين المقامين، فإنّه في الشبهة البدوية التناقض بين الحكمين محتمل، بينما في أطراف العلم الاجمالي: التناقض متيقن.

فإنه يقال: كما لا يجتمع النقيضان قطعاً، لا يجتمعان احتمالاً، فإنّ اجتماع النقيضين منفي قطعاً، والقطع لا يجامع الاحتمال المضاد.

فما به التوفيق هناك، يكون به التوفيق هنا، وعلى كلّ حال: يلتزم المكلف بكلا الحكمين، تحكيماً لمفاد كلا الدليلين، بدون لزوم محذور في البين.

هذا وسيأتي في نهاية البحث التأمل في هذا التقرير، فلاحظ.

2- التقرير الثاني

أنّنا لو قلنا بعدم كفاية الالتزام الإجمالي بأحكام اللّه تعالى، وبنينا على وجوب الالتزام التفصيلي بها، فالواجب على المكلّف في المقام بالنسبة إلى الحكم الواقعي لا يخلو من فروض خمسة:

1- وجوب الالتزام بالحكم الواقعي المعيّن عند اللّه تعالى، المجهول عند المكلّف تفصيلاً.

2- وجوب الالتزام بأحد الطرفين معيّناً.

3- وجوب الالتزام بأحد الطرفين مخيّراً.

4- وجوب الالتزام بكلا الطرفين.

5- سقوط الوجوب رأساً.

ص: 452

ولنبحث في كل واحد من هذه الفروض:

الفرض الأول: وجوب الالتزام بالحكم الواقعي المعيّن عند اللّه تعالى المجهول عند المكلّف تفصيلاً.

وبعبارة أُخرى: وجوب الموافقة القطعية الالتزامية.

وهذا الفرض غير معقول لعدم تبيّن الحكم الواقعي تفصيلاً، فلا يمكن إيجاب الالتزام به بعنوانه.

وبعبارة أُخرى: هذا تكليف بلا بيان، وهو قبيح.

الفرض الثاني: وجوب الالتزام باحد الطرفين معيّناً

أي الالتزام بأحد الطرفين بخصوصه (كالوجوب مثلاً).

وفيه:

1- أنّ أدلّة وجوب الالتزام لا تنهض بإثبات هذا الوجوب.

بيانه: أنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع. وأدلّة وجوب الالتزام إنّما تدل على وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى. ولم يثبت أنّ الوجوب - مثلاً - حكم اللّه تعالى، كي يجب الالتزام به.

وبعبارة ثانية: الحكم لا يتكفل موضوعه، ووجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى لا يدل على كون الوجوب حكم اللّه تعالى؛ كي يتفرع على ذلك وجوب الالتزام به.

وبعبارة ثالثة: نسبة دليل وجوب الالتزام إلى كل واحد من الطرفين متكافئة فكيف يقتضي ترجح أحدهما؟

وكون الترجيح بلا مرجّح ممكناً، وقد مثّل له بطريقي الهارب ورغيفي

ص: 453

الطالب، لا يجدي في المقام - لو سلم في حدّ ذاته، ولم يناقش فيه بأوله إلى الترجّح بلا مرجح - إذ الترجيح تارةً يكون بلحاظ اقتضاء الإرادة، وأخرى بلحاظ اقتضاء الدليل، ومن المعلوم أنّ الكلام في الثاني، لا الأول، ومن الواضح: أنّ نسبة الدليل إلى الطرفين متساوية، فيستحيل أن يكون مقتضياً لأحدهما دون الآخر.

وبتقرير أخصر: الكلام في مرجحية الدليل لأحد الطرفين، لا في مرجحية الإرادة، والأولى منتفية.

فإذاً: لا دليل على هذا الوجوب إثباتاً.

2- مضافاً إلى أنّ الدليل قائم على العدم، باعتبار أنّه (تشريع محرّم) على ما سنبيّن تفصيله بعد قليل إن شاء اللّه تعالى.

الفرض الثالث: وجوب الالتزام بأحد الطرفين مخيراً

أي بأحدهما المخير، ووجهه:

أن مقتضى العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة - مثلاً - هو العلم إجمالاً بلزوم الالتزام بأحدهما، وحيث أن الموافقة القطعية - بالالتزام بهما معاً - غير ممكنة - كما سيأتي - يتنزّل إلى الموافقة الاحتمالية، من باب التوسط في التنجيز فيلتزم باحدهما، مخيراً، كما في مورد إقراره إلى أحد المشتبهين.

ويرد عليه: أن التخيير نوعان:

1- التخيير الشرعي.

2- التخيير العقلي.

ص: 454

1- أمّا التخيير الشرعي: فمرجعه إلى وجوبات مشروطة، أو وجوب متعلّق بالجامع. كما في خصال الكفارة. وليس الالتزام في المقام على نحو الالتزام بالواجب التخييري الشرعي للقطع بأنّ الثابت من الشارع إلزام تعييني لا تخييري فاللازم هو (الالتزام بحكم اللّه تعالى) لا (الالتزام به أو بضده) ومن المعلوم: أن أحد الطرفين (من وجوب دفن الكافر وحرمته) حكم اللّه تعالى، والطرف الآخر ضد حكم اللّه تعالى. فيكون الالتزام بالتخيير الشرعي بين الالتزامين تشريعاً، وهو حرام.

2- وأمّا التخيير العقلي، فله أنواع:

النوع الأول: التخيير في الواجبين المتزاحمين.

النوع الثاني: التخيير في حصص الطبيعة المتعلقة للطلب المولوي.

النوع الثالث: التخيير في محتملات تكليف واحد.

أمّا النوع الأول: وهو التخيير في الواجبين المتزاحمين

كالتخيير بين الغريقين اللذين لا يستطيع المكلف انقاذهما معاً. فهو غير متحقّق في المقام؛ لأنّه متقوم بوجود الملاك في كل واحد من الطرفين، مع قصور قدرة المكلف عن استيفاء كلا الملاكين، وعدم وجود مرجح لأحد الطرفين على الآخر، فيحكم العقل بالتخيير.

وهذا غير منطبق على المقام؛ لأنّه ليس من باب التزاحم بين طرفين واجدين للملاك، بل من باب اشتباه الثابت باللاثابت، والحجّة باللاحجّة، وواجد الملاك بفاقده؛ إذ أنّ أحد الطرفين: هو (حكم اللّه تعالى) فيكون واجداً للملاك، والطرف الثاني: هو (ضد حكم اللّه تعالى) فيكون فاقداً

ص: 455

للملاك. وعلى هذا فالمقام يشبه باب (التعارض) وليس من قبيل باب (التزاحم).

وأمّا النوع الثاني: وهو التخيير في حصص الطبيعة المتعلقة للطلب المولوي

كتخيير المكلف في تطبيق طبيعي (الصلاة) المأمور بها على أفرادها المختلفة سواء كانت أفراداً طولية - كالصلاة في الآن الأول والآن الثاني- أو أفراداً عرضية - كالصلاة في المسجد والبيت والحمّام - فهو أيضاً غير متحقق في المقام؛ إذ كل حصة من حصص الطبيعي مصداق من مصاديق الطبيعي، وهو متحد معها اتحاد الكلّي وأفراده.

وليس الأمر هنا كذلك، إذ أحد الطرفين مصداق (حكم اللّه تعالى) والطرف الآخر ليس مصداقاً له، بل هو مصداق ل- (ضدّ حكم اللّه تعالى).

وأمّا النوع الثالث: وهو التخيير في محتملات تكليف واحد

كتخيير المكلف في الصلاة إلى ما تيسر من الجهات عند اشتباه القبلة - مع الغضّ عن النص الخاصّ الوارد في المقام -.

ووجهه: أنّ الواجب - عقلاً - أولاً وبالذات هو الإتيان بجميع المحتملات، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وهي لا تحصل إلاّ بالإتيان بجميع المحتملات.

ومع تعذّر الموافقة القطعية يتنزل العقل إلى الموافقة الاحتمالية قال المحقق الاصفهاني: «ووجهه أنّ التكليف بعد تنجزه يكون كل من محتملاته محتمل العقاب ومع عدم التمكن من رعاية تمام المحتملات

ص: 456

وعدم المرجّح لبعضها على بعض يحكم العقل بالتخيير»(1).

فهو أيضاً غير متحقق في المقام وذلك من جهتين:

الجهة الأُولى: ما بنى عليه صاحب الكفاية في حاشيته من نفي منجزية العلم الإجمالي مع عدم التمكن من أحد الطرفين والاضطرار إلى أحدهما، وعدم الالتزام بالتوسط في التنجيز(2).

بيانه: أنّ هنالك صورتين - في حالة الاضطرار إلى أحد طرفي العلم الإجمالي - (3).

الصورة الأولى: أن يضطرّ إلى أحد الطرفين بعينه.

الصورة الثانية: أن يضطر إلى أحد الطرفين لا بعينه.

أمّا الصورة الأولى: وهي أن يضطرّ إلى أحد الطرفين بعينه - كما لو كان إناءان: أحدهما ماء والآخر خلّ، فاضطر إلى شرب الماء ثُمَّ علم إجمالاً بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين - فقد ذهب كثير إلى عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر - أي إناء الخلّ - والسبب في ذلك: أن منجّزية العلم الإجمالي متوقفة على أركان منها: أن يعلم المكلف بوجود التكليف على كل تقدير، كي يكون الاشتغال متيقّناً، فيتوقف الامتثال على اجتناب جميع الأطراف(4).

ص: 457


1- نهاية الدراية 2: 85.
2- فوائد الأصول: 27.
3- ونفرض سبق الاضطرار على العلم الإجمالي أو تحققهما معاً كما هو المناسب للمقام (منه (رحمه اللّه) ).
4- في الشبهة التحريمية، أو فعل جميع الأطراف في الشبهة الوجوبية (منه (رحمه اللّه) ).

وهذا الركن مختل في المقام، لأنّ قطرة الدم إن وقعت في إناء الماء فلا تكليف بالاجتناب؛ لأنّ الاضطرار رافع للأحكام الأولية، قال اللّه تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ}(1). وإن وقعت في إناء الخل فالتكليف بالاجتناب ثابت.

وعليه: فالتكليف إمّا ثابت أو غير ثابت، فيكون الشك شكاً في التكليف، وهو مجرى للبراءة.

وبعبارة أخرى: إناء الماء مؤمّن عنه ب- {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ} وإناء الماء مؤمّن عنه ب- «رفع ما لا يعلمون» ولا علم بالجامع على كل تقدير.

ومن هنا: لا يجب الاجتناب عن أي واحد من الإناءين.

وصاحب الكفاية عدّى الحكم إلى الصورة الثانية وهي ما لو اضطر إلى أحد الطرفين لا بعينه، كما لو كان إناءان فيهما ماء فاضطر المكلّف إلى شرب أحد الإناءين لا بعينه ثُمَّ علم إجمالاً بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين، ولعلّه لوجود نفس الملاك القائم في الصورة الأولى في هذه الصورة، فإنّ قطرة الدم إن وقعت في (الإناء المختار) - أي الذي سوف يختاره المكلّف، المعلوم عند اللّه تعالى، وإن فرض كونه مجهولاً عند المكلّف - فلا تكليف بالاجتناب؛ لأنّ الاضطرار إلى الجامع يسوّغ للمكلف تطبيق الجامع على آية حصة من حصصه، فتكون الحصة المختارة محللة، وإن وقعت في (الإناء غير المختار) فالتكليف بالاجتناب عنه ثابت.

وعليه: فلا يكون التكليف ثابتاً على كل تقدير، فتكون الشبهة بدوية،

ص: 458


1- الانعام: 119.

فتكون مجرى للبراءة.

والأمر في المقام كذلك، لأنّ المكلف لا يستطيع الالتزام بكلا الطرفين المحتملين (أي الالتزام مثلاً بوجوب دفن الكافر والالتزام في نفس الوقت بحرمته) فيكون مضطراً إلى ترك أحد الطرفين لا بعينه، فينحلّ العلم الإجمالي، ولا يجب الالتزام بأي واحد من الطرفين.

وهذا الوجه غير مرضيّ عند جملة من الأصوليين، والمناقشة في ذلك موكولة إلى محلّها.

الجهة الثانية: أنّ الموافقة الاحتمالية غير مقدورة في المقام إلاّ بنحو محرّم وذلك لأنّ الالتزام مع الشك تشريع محرم، وهذا ما يصحّ لو لم تكن الأفراد محرّمة، وإلاّ سقط الوجوب على تفصيل يأتي قريباً إن شاء اللّه تعالى.

الفرض الرابع: وجوب الالتزام بكلا الطرفين.

أي الالتزام بهذا الطرف بعينه، وبذاك الطرف بعينه.

ووجهه: كونه مقدّمة علمية لإمتثال (وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى) فيجب.

وفيه: أن المقدمة العلمية إنّما تجب إذا فرض كونها مباحة، أمّا لو فرض كونها محرمة فلا تجب، إلاّ إذا أحرز كونها أهم إلى درجة لا يرضى المولى بتفويتها، فلا يكفي لو كانت اقل أهمية، أو كانت مكافئة لوجوب ذي المقدمة، كما لو توقف العلم بإنقاذ إنسان محقون الدم على قتل إنسان آخر، وما نحن فيه من هذا القبيل (باب التزاحم بين ذي المقدمة الواجب والمقدمة المحرمة)، إذ تحصيل «الالتزام الواجب» متوقف على «تشريعين محرمين» إذ التشريع هو «إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين» ولم

ص: 459

يعلم كون «الوجوب بخصوصه» من الدين، فيكون الالتزام به تشريعاً، كما لم يعلم كون «الحرمة بخصوصها» من الدين، فيكون الالتزام بها تشريعاً ايضاً، والتشريع محرم قطعي، ولم يثبت كون «وجوب الالتزام» أهم بدرجة، يرضى بتفويته، ولو مع ارتكاب هذين المحرّمين، فنتيجة ذلك: أن مثل الالتزام غير واجب.

الفرض الخامس: سقوط الوجوب رأساً

وبعد سقوط الفروض الأربعة المتقدَّمة لا يبقى إلاّ سقوط وجوب الالتزام رأساً، فلا يكون من قبل وجوب الإلتزام مانع عن جريان الأُصول العملية، وأمّا «الالتزام الاجمالي» بحكم اللّه تعالى فهو خروج عن مبنى هذا التقرير، وعود إلى التقرير الأول، فتدبّر. هذا تمام الكلام في التقرير الثاني.

ولكن قد يقال: بأنّ التخيير في المقام شرعي - كخصال الكفارة - لأدلّة التخيير في الخبرين المتعارضين، وجريان ملاكه في غيره ممّا أشبهه، كما لو علم - بالاجماع - إنّ دفن الكافر إمّا واجب أو حرام، فعليه أن يلتزم عملاً بأحد الطرفين، فيكون هو حكم اللّه تعالى في حقّه، فيجب عليه الالتزام به، وقد جرى السيد الخوانساري (رحمه اللّه) في جامع المدارك على المصير إلى التخيير في تعارض الخبرين، في مواطن متعددة، منها ما لو تعارضت الأخبار في حرمة إتيان الزوجة من المأتى الآخر، هذا ولكن هذا التخيير لو ثبت حكم ظاهري والكلام في الالتزام بالحكم الواقعي فتأمل.

3- التقرير الثالث

ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) من حكومة أدلّة الأُصول الموضوعية العملية

ص: 460

على أدلّة (وجوب الالتزام). وهو وإن لم يستخدم لفظ (الحكومة) في المقام إلاّ إنّه أتى بما يؤدّي معناها.

وتوضيح مقصوده يتوقف على بيان مقدّمتين:

1- أنّ معنى الحكومة هو التوسعة التعبّدية للموضوع والتضييق التعبدي للموضوع(1).

مثال التوسعة التعبدية للموضوع قوله (عليه السلام) : «الفقّاع خمر استصغره الناس»(2) الحاكم على (الخمر حرام)، حيث إنّه يوسّع موضوع (الخمر) ويدخل فيه فرداً تعبّدياً هو (الفقّاع). ومثال التضييق التعبّدي للموضوع قوله (عليه السلام) : (لا ربا بين الوالد وولده)(3) على أدلة (الربا حرام)، حيث إنّه يضيّق موضوع (الربا) ويخرج بعض الأفراد تعبّداً منه، وهو (الربا بين الوالد وولده).

2- أنّه لا منافاة بين الدليل الحاكم والمحكوم؛ لأنّ الدليل المحكوم يثبت المحمول على تقدير ثبوت الموضوع، إلاّ إنّه غير ناظر إلى ثبوت الموضوع أو نفيه.

والدليل الحاكم ناظر إلى إثبات الموضوع، أو نفيه. ولا منافاة بين دليل لا نظر له إلى الإثبات أو النفي، ودليل ناظر إلى الإثبات أو النفي. ومنه ينقدح أنّ الأصول الموضوعية النافية لا تنافي الأدلّة الاجتهادية، بل هي حاكمة عليها.

ص: 461


1- وأمّا التوسعة أو التضييق في غير الموضوع فليس محطّ نظرنا فعلاً (منه (رحمه اللّه) ).
2- وسائل الشيعة 25: 365.
3- الانتصار: 441.

مثلاً: لو ورد في الدليل الاجتهادي «أكرم العلماء» وكان مقتضى الاستصحاب عدم كون زيد عالماً. كان الاستصحاب حاكماً على دليل «أكرم العلماء» ومخرجاً ل- «زيد» عن موضوع «العلماء» بدون حصول أيّة منافاة بين الدليلين.

إذا تقرّر ذلك فنقول: إنّ الأصول العملية النافية الجارية في المقام مخرجة لمجاريها عن (موضوع التكليفين المعلوم أحدهما بالإجمال) وبالتالي عن (موضوع أدلّة وجوب الإلتزام) أو مخرجه لمجاريها عن (موضوع أدلة وجوب الإلتزام)بشكل مباشر. وإذا انتفى موضوع أدلّة وجوب الإلتزام انتفى الوجوب، فلا يظل - ثمّة - مانع عن جريان الأصول العملية من هذه الحيثية.

بيان ذلك:

1- أمّا في الشبهة الموضوعية: فإنّ الأُصول الجارية تخرج مجاريها عن موضوع التكليفين المعلوم أحدهما بالإجمال.

مثلاً: لو علم إجمالاً بأنّ هذه المرأة إمّا محلوفة الفعل أو محلوفة الترك ففي المقام دليلان طوليان مترتبان:

الدليل الأول يقول: (من حلف على شيء وجب عليه الوفاء به).

والدليل الثاني يقول: (حكم اللّه يجب الالتزام به). فإذا شكّ في أن هذه المرأة محلوفة الفعل أو الترك - في ساعة معيّنة - يقول: (الأصل عدم كون هذه المرأة محلوفة الفعل) و (الأصل عدم كون هذه المرأة محلوفة الترك). فتخرج هذه المرأة عن موضوع «الدليل الأول». وإذا انتفى الموضوع انتفى

ص: 462

المحمول ( فلا وجوب للوفاء بالفعل أو الترك) وانتفاء المحمول مساوق لانتفاء «حكم اللّه تعالى» بالنسبة إلى هذه المرأة، فينتفي موضوع «الدليل الثاني». وإذا انتفى موضوع الدليل الثاني انتفى محموله أيضاً. وإذا لم يكن الالتزام بالوجوب أو التحريم واجباً، فلا مانع من الالتزام بالإباحة، كما يقتضيها انتفاء الوجوب وانتفاء التحريم.

والخلاصة: أنّه بانتفاء صغرى الدليلين - الطوليين - ينتفي كبراهما، فلا يظل هنالك وجوب للالتزام بحكم اللّه تعالى في المقام، كي يشكل بكونه مانعاً من جريان الأُصول العملية.

وبعبارة أخرى: المخالفة الالتزامية للحكم متوقفة على ثبوت الحكم (وهو في المقام قول الشارع «فِ بحلفك»).

وثبوت الحكم متوقف على ثبوت صغراه (أي الحلف على الفعل أو الترك) والأصول الجارية تنفي الصغرى.

وبعبارة ثالثة: الحكم بالإباحة إنّما هو لأجل الخروج عن موضوعي الوجوب والحرمة بالأصل الموضوعي، لا لأجل طرحها. فلا تترتّب على ذلك المخالفة الالتزامية للحكم. وكذا الأمر في الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول. فإن الحكم بطهارة البدن إنّما هو لإخراج البدن - بالأصل الموضوعي - عن موضوع القاعدة القائلة: (إنّ كل جسم لاقى نجساً فهو نجس). فيقال: (الأصل عدم ملاقاة البدن للبول). والحكم ببقاء الحدث إنما هو لإخراج المتوضئ - بالأصل الموضوعي - عن موضوع القاعدة القائلة: (أنّ كل من توضأ بالماء ارتفع حدثه). فيقال: (الأصل عدم توضّؤ المتوضّئ بالماء).

ص: 463

2- وأمّا في الشبهة الحكمية - كما لو شكّ أنّ دفن الكافر واجب أو حرام مثلاً - فإن الأُصول الجارية تخرج مجراها عن موضوع (أدلّة وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى).

فيقال: (الأصل عدم وجوب دفن الكافر) و(الأصل عدم حرمة دفن الكافر) فلا (حكم) في المقام، كي (يجب الالتزام به).

وبعبارة أُخرى: ثبوت وجوب الإلتزام بالأحكام فرع ثبوت الأحكام. فإذا أجريت الأصول النافية بالنسبة إلى الحكمين المحتملين: لم يبق حكم كي يجب الالتزام به.

وأورد على هذا التقرير صاحب الكفاية باستلزامه للدور.

قال: «كما لا يدفع بها(1) محذور عدم الالتزام به(2) بل الالتزام على خلافه لو قيل بالمحذور فيه(3) حينئذٍ(4) أيضاً(5) إلاّ على وجه دائر؛ لأنّ جريانها(6) موقوف على عدم محذور في عدم الإلتزام اللازم(7) من جريانها وهو(8) موقوف على جريانها - حسب الفرض» (9).

ص: 464


1- أي بالأصول.
2- أي بالتكليف.
3- أي في عدم الالتزام.
4- أي حين كان التكليف مردّداً.
5- أي كما قيل بالمحذور فيما إذا كان التكليف معيناً.
6- أي الأصول.
7- صفة عدم الالتزام.
8- أي عدم المحذور.
9- والتوضيحات المذكورة في الهامش منقولة من الوصول إلى كفاية الأصول 3: 346 (منه (رحمه اللّه) ).

والخلاصة: أنّ جريان الأُصول يتوقف على عدم المحذور في عدم الالتزام وعدم المحذور في عدم الالتزام يتوقف على جريان الأصول وهذا دور مصرّح.

وقد قرّب في النهاية هذا الدور المصرّح، بتبديله إلى الدور المضمر.

قال: «وتقريبه: أن جريان الأصل موقوف على عدم المانع من جريانه (والإذن في المخالفة الالتزامية الذي هو لازم التعبد بعدم الحكم المعلوم بالإجمال حيث إنه قبيح فهو مانع). وعدم لزوم هذا المانع موقوف على نفي الحكم المعلوم بالإجمال لئلاّ يكون له المخالفة الالتزامية. وعدم الحكم المعلوم بالإجمال موقوف على جريان الأصل. فصحّة جريان الأصل يتوقف على نفسها، كما أنّ عدم الحكم كذلك»(1).

ولتوضيح هذا التقريب لا بأس بالإشارة إلى ما أشار إليه في طيّ كلامه من أنّ الإذن في المخالفة الالتزامية قبيح. ومراده من ذلك - كما يظهر من مواضع اُخر من النهاية - أنّ هذا القبح تنجيزي لا تعليقي.

بيانه: أنّ القبح نوعان: قبح تنجيزي، وقبح تعليقي.

والقبح التنجيزي لا يمكن رفعه بأيّة حال من الأحوال عن معروضه، كما في قبح الظلم، فإنّ قبحه ذاتي، والذاتي لا يختلف ولا يتخلف. بينما القبح التعليقي يمكن رفعه عن معروضه لطروّ مانع أو فقدان شرط كما في قبح الكذب، فإن قبحه ليس باعتبار ذاته، بل باعتبار عنوان آخر قد ينتهي إليه وقد لا ينتهي إليه. وقبح «سلب الغير حقّه» - الذي قد يعبّر عنه أيضاً ب

ص: 465


1- نهاية الدراية 3: 83.

«الظلم»- قبح تنجيزي لا تعليقي، فلا يمكن رفعه بأيّة حال من الأحوال.

وحيث أنّ من حق المولى على العبد «طاعته» ف- «معصية المولى» قبيحة بالقبح التنجيزي، فلا يمكن رفع هذا القبح بأية حال من الأحوال.

و«المعصية» نوعان:

1- معصية عملية.

2- ومعصية إلتزامية(1).

وكما لا يمكن الإذن في المخالفة العملية، كذلك لا يمكن الإذن في المخالفة الالتزامية.

نعم: هنا أمر آخر، وهو أنّه يمكن للمولى رفع اليد عن حكمه، فلا تكون مخالفته الالتزامية ولا العملية قبيحة؛ لأنّها لا تكون مخالفة.

وبعبارة أخرى: تكون السالبة حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة ثالثة: ليس هذا من تفكيك اللازم عن ملزومه، بل من باب رفع اللازم برفع الملزوم، وهو خالٍ عن الإشكال. كما في رفع زوجية الأربعة برفع الأربعة ذاتها.

إذا عرفت ذلك فنقول هنالك مقدّمات ثلاث في المقام:

1- جريان الأصل موقوف على عدم المانع من جريانه. وهذه المقدّمة واضحة، فإنّه لو كان مانع من جريان الأصل لم يمكن جريانه - سواء كان المانع عقلياً أو شرعياً.

ص: 466


1- بناءً على وجوب الموافقة الالتزامية عقلاً (منه (رحمه اللّه) ).

والمانع المتصوّر في المقام هو (الإذن في المخالفة الالتزامية). وقد قلنا أنّه قبيح، ولا يمكن رفع قبحه بأيّة حال من الأحوال.

2- ورفع هذا المانع لا يمكن إلاّ برفع موضوعه (وهو الحكم) فارتفاعه موقوف على ارتفاعه. وإلاّ فمع ثبوت الحكم لا يمكن الإذن في مخالفته الالتزامية.

3- ورفع الحكم موقوف على جريان الأصل؛ لأنّ ذلك هو المفروض في كلام الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، حيث رفع الحكم (أي وجوب الالتزام بأحكام اللّه تعالى) بجريان الأصول الرافعة لهذا الحكم برفع موضوعه.

ونتيجة هذه المقدّمات: أنّ جريان الأصل موقوف على جريان الأصل.

ولك: أن تجعل المقدّمة الثالثة: أُولى، والأولى ثانية، والثانية ثالثة، فينتج: أنّ رفع الحكم موقوف على رفع الحكم.

وعلى هذا فما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) - من التقرير الثالث - مستلزم للدور.

هذا ويمكن تبديل هذا الدور المضمر إلى دور مصرّح مكوّن من مقدمتين:

1- أنّ جريان الأصل موقوف على نفي الحكم.

2- أنّ نفي الحكم موقوف على جريان الأصل.

والمقدّمة الأولى هي خلاصة الدمج بين المقدّمة الأولى والثانية في التقرير الأول للدور المضمر. والمقدمة الثانية هي مفروض الشيخ (رحمه اللّه) في برهانه.

هذا: وقد دفع المحقق الأصفهاني هذا الدور بما توضيحه: أنّ هنالك

ص: 467

لحاظين في المقام:

1- لحاظ الحكم الفعلي.

2- لحاظ الحكم الواقعي.

أمّا بالنسبة إلى اللحاظ الأول فقد قال في النهاية: «ويندفع الدور بأنّ مفاد الأصل بنفسه رفع الحكم - من الوجوب أو الحرمة - لا أنّه يتوقف على رفعه. وليس لازم رفع الحكم الإذن في المخالفة الالتزامية المحرّمة فإنها لا تحرم، بل لا تتحقق إلاّ مع ثبوت الحكم ولا مانعية لحرمة المخالفة الالتزامية أو قبح الإذن فيها إلاّ على تقدير ثبوت موضوعها وما لا مانعية له إلاّ على تقدير ثبوت موضوعه كيف يمنع عن رفع موضوعه»(1).

ومحصّل ذلك: منع المقدمة الأولى من «الدور المصرّح» فإنّ مفاد جريان الأصل «نفي الحكم» لا أن جريان الأصل يتوقف على «نفي الحكم» وفرق كبير بين كون (مفاد شيء): (النفي) وبين كونه موقوفاً عليه.

وهذا جارٍ في جميع الأصول العملية. مثلاً: مفاد «أصالة الطهارة»: نفي «النجاسة» وليست موقوفة على نفيها. وإلاّ لزم الدور.

بتقريب: أنّ جريان أصالة الطهارة موقوفة على نفي النجاسة ونفي النجاسة موقوف على جريان أصالة الطهارة.

أو بتقريب أنّ جريان أصالة الطهارة موقوف على عدم المانع وعدم المانع موقوف على نفي الحكم الفعلي. ونفي الحكم الفعلي موقوف على

ص: 468


1- نهاية الدراية 3: 83.

جريان أصالة الطهارة.

والخلاصة: أنّ الأصل بنفسه يرفع الحكم، لا أنّه موقوف على أن يرفع رافع الحكم، لكي يجري بعد ذلك.

إن قلت: أنّ هذا المفاد مستلزم للإذن في المخالفة الالتزامية.

قلت: المخالفة الالتزامية إنّما تحرم، بل إنّما تتحقق لو كان هنالك حكم، وأمّا لو ارتفع الحكم، فلا يتحقق الإذن في المخالفة الالتزامية، إذ لا مخالفة، إذ لا حكم.

والخلاصة: أن مفاد الأصل رفع الحكم، وبارتفاع الحكم ترتفع المخالفة، - لارتفاع موضوعها - فلا يكون الإذن فيها إذناً في المخالفة، فلا يكون قبيحاً.

وأدلّة وجوب الالتزام لا تصلح مانعاً عن جريان الأصل؛ لأنّ مانعيّتها موقوفة على تقدير ثبوت موضوعها، والأصل رافع للموضوع، وقد سبق أنّه لا تمانع بين الدليل المتكفّل لثبوت محمول على تقدير ثبوت موضوعه، والأصل الرافع لذلك الموضوع.

والمحصّل من كل ما ذكر: أنّ الحكم الواقعي لا فعلية له، ومفاد الأصل فعلي، فلا منافاة بلحاظ هذه المرحلة.

وهو نظير جريان أصالة الطهارة فيما هو نجس واقعاً، فإن النجاسة غير فعلية، والطهارة فعلية، ولا منافاة بين حكمين: أحدهما فعلي والآخر غير فعلي.

هذا توضيح ما أفاده في النهاية بالنسبة إلى اللحاظ الأول،

وما ذكره لا يخلو من نظر.

ص: 469

أمّا أولاً:

فبالنقض بالمخالفة العملية القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فإنّ مفاد الأصول العملية الجارية في أطراف العلم الإجمالي: رفع الحكم الفعلي.

وبرفعه لا يظل موضوع للمخالفة العملية للحكم الفعلي فلا تكون محرّمة.

والخلاصة: أنّ المخالفة العملية والمخالفة الالتزامية ترتضعان من ثديٍّ واحد، فإذا جازت الالتزامية جازت العملية.

ومن البعيد التزام النهاية بذلك.

وأمّا ثانياً:

فبالحل: وذلك بتقرير: أنّ الفعلية لها معنيان:

1- الفعلية من قبل المولى.

2- الفعلية بقولٍ مطلق.

وتتحقق الفعلية بالمعنى الأول بجعل المولى الحكم بداعي جعل الداعي.

وبعبارة أخرى: تتحقق بوصول الحكم إلى مرتبة البعث والزجر، وبذلك يصل الحكم إلى درجة حقيقة الحكمية ويكون - في هذه المرحلة - حكماً حقيقياً، وبعثاً وزجراً جدّياً، بالحمل الشائع. وتتحقق الفعلية بالمعنى الثاني بوصول الحكم إلى المكلف وبذلك تكون مرحلة الفعلية بقول مطلق مساوقة لمرحلة تنجز الحكم. وكلتا الفعليتين متحققة في المقام وذلك لجعل الحكم الواقعي بداعي جعل الداعي، ووصوله إلى المكلف منتهى الأمر أنّه وصل إليه بالعلم الإجمالي لا التفصيلي. ولا فرق في نظر العقل في

ص: 470

ترتب أحكام العلم بين النحوين.

وعليه: كيف يقال: بأنّ الحكم الواقعي لا فعلية له، وأنه لا ثبوت لموضوع المخالفة الالتزامية؟ وكيف يرفع الأصل الموضوع، مع وصول الحكم إلى هذه المرحلة؟

وبعبارة أخرى: الترخيص في المخالفة الالتزامية - بجريان الأصول العملية - منافٍ - عقلاً أو عرفاً - للحكم الواقعي البالغ إلى مرتبة الفعلية بالعلم، فيتعذر الأخذ بإطلاق البراءة.

وبعبارة أخرى: الجامع قد تمّ عليه البيان بالعلم الإجمالي، فيدخل في مفهوم الغاية في مثل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1).

وهذا ينافي جريان دليل الأصل في المقام.

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «...ولكن التحقيق أنّه لو ثبت هذا التكليف - أعني وجوب الأخذ بحكم اللّه والالتزام مع قطع النظر عن العمل - لم تر الأصول لكونها موجبة للمخالفة - العملية للخطاب التفصيلي، أعني وجوب الالتزام بحكم اللّه، وهو غير جائز حتّى في الشبهة الموضوعية، كما سيجيء، فيخرج عن المخالفة الغير العملية» وقد ذكر بعض الشرّاح: أنّ المخالفة العملية لكل تكليف بحسب ما يناسبه، فمخالفة وجوب الصلاة يكون بتركها. ومخالفة وجوب الالتزام بترك الالتزام. فتؤول المخالفة الالتزامية في المقام إلى المخالفة العملية»(2).

ص: 471


1- الإسراء: 15.
2- الوصائل 1: 248-249.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى اللحاظ الأول - أي لحاظ اسم الفعلي - وأمّا بالنسبة إلى اللحاظ الثاني - أي لحاظ الحكم الواقعي - فقد قال في النهاية في ذيل كلامه المتقدّم:

«فإن قلت: هذا بالإضافة إلى الحكم الفعلي، فإنه مرفوع بالأصل، وأما الحكم الواقعي فلو وجب الالتزام بالحكم الواقعي ا لمعلوم بالإجمال مع ثبوته حتى مع جريان الأصل يلزم من جريانه الإذن في المخالفة الالتزامية.

قلت: أولاً: لا نسلّم حرمة المخالفة الالتزامية للواقعي بعدمه تنزيلاً.

ثانياً: حيث إنّ مفاد الأصل رفع الوجوب الفعلي أو الحرمة الفعلية فلازمه عدم الالتزام بالوجوب الفعلي أو الحرمة الفعلية لا عدم الالتزام بالوجوب الواقعي أو الحرمة الواقعية حتى يكون بلحاظ هذا اللازم قبيحاً»(1).

ومحصّل الجواب الأول: أنّه لا مانع من المخالفة الالتزامية للحكم الواقعي المنفي، ولو نفياً تنزيلياً، كما لا مانع من مخالفة التكليف بالاجتناب عن النجاسة الواقعية، المنفية تنزيلاً بأصالة الطهارة.

ومحصّل الجواب الثاني: أنّه لا مخالفة إلتزامية للحكم الواقعي؛ لأنّ مفاد الأصل: رفع الوجوب الفعلي - مثلاً - فلازمه عدم الالتزام بالوجوب الفعلي، لا عدم الالتزام بالوجوب الواقعي.

ونتيجة ذلك: الالتزام بكون الحكم الواقعي هو الوجوب أو الحرمة، والالتزام بأنّ الحكم الفعلي هو الإباحة - مثلاً - ولا منافاة بين الالتزامين

ص: 472


1- نهاية الدراية 3: 83- 84.

لاختلاف الرتبتين.

والظاهر: أنّ هذين الجوابين لا بأس بهما، لو فرض عدم وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية. إلاّ أن المبنى غير مرضيّ، كما سبق الكلام فيه.

الخلاصة:

وخلاصة جميع ما تقدّم: أنّه إن قلنا بلزوم الالتزام التفصيلي بحكم اللّه تعالى، فامتثال هذا التكليف متعذّر في المقام، فيسقط الوجوب، ولا يظّل مانع من جريان الأصول العملية، والالتزام بمؤدّاها.

وإن قلنا بكفاية الالتزام الإجمالي، فحيث أنّ الظاهر عرفاً من أدلّة وجوب الالتزام بأحكام اللّه تعالى هو وجوب الالتزام بها بشرط لا - أي بشرط عدم الالتزام بضدّها مضافاً إلى الالتزام بها - لا يجتمع الالتزام الإجمالي بحكم اللّه تعالى الواقعي المعلوم بالعلم الإجمالي، الموصل له إلى مرحلة الفعلية، مع الالتزام بحكم فعلي على خلافه، يكون مؤدّى الأصول العملية، هذا تمام الكلام، واللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 473

ص: 474

فهرس المحتويات

القسم الثاني مباحث الحجج والأصول العمليّة... 5

المقصد الأوّل: في مباحث الحجج

مقدمة... 9

المبحث الأول: في تقسيم حالات المكلّف حين التفاته إلى الحكم الشرعي... 10

1) التقسيم الثلاثي للشيخ الأعظم... 10

إشكالات على تقسيم الشيخ الأعظم... 11

1- التعميم في مورد التخصيص... 11

2- التخصيص في مورد التعميم... 18

مناقشات... 21

3- تداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام... 24

4- عدم صحّة التقابل بين الظنّ والشكّ... 25

5- جعل ما ليس بموضوع موضوعا... 25

المناقشة في الإشكالات الثلاثة الأخيرة... 26

2) التقسيم الثنائي لصاحب الكفاية... 29

إيرادات على التقسيم الثنائي... 31

3) التقسيم الثلاثي لصاحب الكفاية... 34

4) تقسيم المحقق الأصفهاني... 37

5) تقسيم السيّد البروجردي... 38

6) التقسيم الرباعي... 39

7) التقسيم الخماسي... 40

المبحث الثاني: في شمول المقسم لغير المجتهد... 41

المقام الأول: في أنّ مباحث الحجج والأصول العملية هل تشمل غير المجتهد أو لا؟... 41

المقام الثاني: في أنّ أدلة الأحكام الظاهرية هل تشمل غير المجتهد أو لا؟... 49

1- عدم حصول الظن والشك لغير المجتهد... 49

2- عدم التفات العامي لأدلة الأحكام الظاهرية... 52

3- عجز العامي عن تشخيص موارد الأصول والأمارات... 53

4- عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا تنطبق على العامي... 57

المقام الثالث: في تحليل عملية إفتاء المجتهد بناء على عدم شمول أدلّة الأحكام الظاهرية

ص: 475

لغيره... 59

المرحلة الأولى: أن ينكشف للمجتهد الحكم الشرعي بالقطع الوجداني... 60

المرحلة الثانية: انكشاف الحكم بالأمارة المعتبرة... 60

المرحلة الثالثة: انكشاف الوظيفة مع تحقّق الموضوع عند المقلد... 62

المرحلة الرابعة: انكشاف الوظيفة مع عدم تحقّق الموضوع لدى المقلّد... 63

القطع وأحكامه

القطع وأحكامه... 81

تمهيد... 81

أحكام القطع

المبحث الأول: في طريقية القطع... 91

الفصل الأول: في ثبوت الطريقية للقطع وعدمه... 91

الفصل الثاني: في أنّ طريقية القطع قابلة للجعل أو لا؟... 93

1- أما الجعل التكويني... 94

2- وأمّا الجعل التشريعي... 95

المبحث الثاني: في وجوب الحركة على وفق القطع... 96

البحث الأول: في المراد من موضوع العنوان أعني «القطع»... 96

البحث الثاني: في المراد من محمول العنوان... 98

1) الوجوب العقلي... 98

1- ثبوت الوجوب العقلي... 99

نظريتان أخريان... 100

2- منشأ الوجوب العقلي... 104

2) الوجوب العقلائي... 110

المبحث الثالث: هل يمكن للشارع الردع عن العمل بالقطع أو لا؟... 112

ولنقدّم لتنقيح محل البحث ثلاث مقدمات... 112

الأولى: إنّ القطع على ثلاثة أنواع... 112

الثانية: إن القطع قسمان... 113

الثالثة: إن الردع عن العمل بالقطع نوعان... 114

تذنيب: في ردع الوسواسي عن العمل بقطعه... 124

تنبيه... 126

المبحث الرابع: في معذرية القطع... 127

فصل في التجري

المبحث الأول: في حرمة الفعل المتجرّى به... 135

ص: 476

المقام الأول: في حرمة الفعل المتجرّى به بالعنوان الأولي... 135

1- التمسك بالإطلاقات الأولية لحرمة الفعل المتجرى به... 135

الوجه الأول... 135

ويرد عليه... 136

الوجه الثاني... 138

وهذا التقريب يرد عليه أمور... 140

2- التمسّك بالإجماع لحرمة الفعل المتجرّى به... 149

وهذا الإجماع المدّعى مناقش فيه من جهات... 150

3- التمسك بقاعدة الملازمة لإثبات حرمة الفعل المتجرّى به... 157

4- التمسك بالنصوص الشريفة لإثبات حرمة الفعل المتجرى به... 182

أولاً: القرآن الكريم... 182

ثانياً: السنة الشريفة... 185

الطائفة الأولى... 185

الطائفة الثانية... 185

الطائفة الثالثة... 186

الطائفة الرابعة... 188

الطائفة الخامسة... 189

المقام الثاني: في حرمة الفعل المتجرى به بالعنوان الثانوي... 208

المبحث الثاني: في قبح الفعل المتجرى به وعدمه... 214

الأمر الأول... 214

الدليل الأول... 215

الدليل الثاني... 231

الأمر الثاني... 233

النقطة الأولى: في انطباق عنوان الهتك ونحوه على الفعل المتجرى به... 233

النقطة الثانية: في التزاحم بين الجهة الذاتية والجهة العرضية... 237

المبحث الثالث: في استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه... 239

وقد أقيمت عدّة براهين على الاستحقاق... 239

البرهان الأول... 239

البرهان الثاني... 242

البرهان الثالث... 244

البرهان الرابع... 245

البرهان الخامس... 246

البرهان السادس... 248

البرهان السابع... 254

ص: 477

تذييل... 256

برهان على عدم استحقاق المتجري للعقاب... 257

وهذا البرهان يمكن أن يجاب عنه بأجوبة... 259

ختام... 268

تذكر فيه تنبيهات... 268

التنبيه الأول: في عدم اختصاص أحكام التجري بمخالفة القطع المخالف للواقع... 268

تذنيبان... 271

التذنيب الأول: عدم وجود قسم رابع للحجّة... 271

التذنيب الثاني: في سبب تخصيص العنوان ب«القطع»... 272

التنبيه الثاني: في اختصاص أحكام التجري بمخالفة القطع الطريقي وعدمه... 272

التنبيه الثالث... 273

التنبيه الرابع: في أن التجري مخل بالعدالة أو لا؟... 274

أولاً: على مبنى الحرمة الشرعية... 275

ثانياً: على مبنى عدم الحرمة الشرعيّة... 279

التنبيه الخامس: في الحالات الجوانحية للمكلف المخالف للحجة غير العلمية... 280

القسم الأول: الحجّة المثبتة للتكليف... 280

القسم الثاني: الحجّة النافية للتكليف... 284

التنبيه السادس: في صحة العمل العبادي المتجرّى به وعدمها... 290

فصل في القطع الطريقي والموضوعي

وفيه جهات من البحث

الجهة الأولى: في انقسام القطع إلى الطريقي والموضوعي... 297

1-القطع الطريقي... 297

2-القطع الموضوعي... 299

الجهة الثانية: في تقسيمات القطع الموضوعي... 301

التقسيم الأول... 301

الإشكال في القطع الموضوعي الوصفي... 304

إعادة النظر في انقسام القطع الموضوعي إلى الوصفي والكشفي... 306

الوجه الأول... 306

الوجه الثاني... 309

الوجه الثالث... 311

الوجه الرابع... 314

التقسيم الثاني... 317

الإشكال في القطع الموضوعي الكشفي المأخوذ على نحو تمام الموضوع... 319

ص: 478

1- اجتماع لحاظ الشيء مع عدم لحاظه... 320

2- اجتماع مدخلية الشيء في الحكم وعدم مدخليته... 321

3- اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي... 321

الجهة الثالثة: في قيام الأمارات والطرق والأصول العمليّة مقام القطع... 329

الأمر الأول... 329

الأمر الثاني... 332

المقام الأول: في قيام الأمارات والطرق المعتبرة مقام القطع الطريقي المحض... 333

المقام الثاني: في قيام الأمارات والطرق المعتبرة مقام القطع الموضوعي الكشفي... 334

البحث الأول: في إمكان تكفل أدلة حجية الأمارات والطرق بتنزيل الأمارات مقام القطع الموضوعي - مضافاً إلى الطريقي- وعدمه 334

البحث الثاني: في وقوع تنزيل الأمارات والطرق منزلة القطع الموضوعي وعدمه... 348

المختار في المقام... 351

تفصيل المحقق النائيني (رحمه اللّه) ... 353

مناقشات في تفصيل المحقق النائيني... 356

المقام الثالث: في قيام الأمارات والطرق المعتبرة مقام القطع الموضوعي الوصفي... 360

المقام الرابع: في قيام الاصول العمليّة مقام القطع... 362

1) الاُصول غير المحرزة... 362

2) الاصول المحرزة... 369

في تقسيمات أُخر للقطع الموضوعي... 377

1)أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم... 377

1- الدور... 379

2- ملاك إستحالة الدور... 381

3- الخلف... 386

4- اللغوية... 387

5- تحصيل الحاصل... 392

تنبيه... 394

2)أخذ القطع بحكم في موضوع مثل ذلك الحكم... 395

القول الأول: الإمتناع مطلقاً... 396

المناقشة الأولى... 396

المناقشة الثانية... 399

القول الثاني: التفصيل بين التأكّد والاستقلال... 402

الدعوى الأُولى... 402

وأمّا الدعوى الثانية... 403

القول الثالث: الجواز مطلقاً... 405

ص: 479

3) أخذ القطع بالحكم موضوعاً للحكم ضدّه... 408

أوّلاًً: التضادّ في مرحلة الملاك... 409

ثانيا: التضاد في مرحلة الإرادة والكراهة... 409

ثالثاً: التضاد في مرحلة الجري العملي... 409

فصل في الموافقة الالتزامية

وفيه بحوث

إشارة... 413

المبحث الأول: مفهوم الموافقة الالتزامية... 415

المبحث الثاني: تحرير محلّ الكلام... 421

الأول: في إختصاص محل الكلام بالأحكام الفرعية... 421

الثاني: في اختصاص محل الكلام بالأمور التوصلية وعدمه... 423

الثالث: في عدم اختصاص محل الكلام بالأحكام الإقتضائية... 429

الرابع: في عدم اختصاص محل الكلام بالحكم المقطوع به... 429

المبحث الثالث: وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم الفرعي المعلوم بالتفصيل... 431

أوّلاً: لحاظ نفس أدلّة التكليف... 431

ثانياً: لحاظ الأدلّة الخارجية... 432

أ- أدلّة وجوب التصديق... 432

ب - أدلّة وجوب التسليم... 436

المبحث الرابع: وجوب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى الحكم المعلوم بالإجمال... 440

المبحث الخامس: مانعية وجوب الموافقة الالتزاميةعن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي... 442

1)محذور المخالفة العملية للتكليف المعلوم بالاجمال... 445

2)محذور التناقض بين الصدر والذيل... 446

3)محذور عدم وجود الأثر العملي... 447

4)محذور لزوم المخالفة الالتزامية... 449

فهرس المحتويات... 475

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.