موسوعة الفقيه الشيرازي (التدبر في القرآن) المجلد 3

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(3)

التدبر في القرآن

الجزء الثاني

تأليف: آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه: الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر: قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری: 21ج.

شابك: دوره: 8-270-204-964-978

ج2: 2-272-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی: فيپا

يادداشت: عربي

مندرجات: ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع: اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره: 1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی: 297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

----------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبوع: 1500 نسخه

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج2: 2-272-204-964-978

----------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

سورة البقرة مدنية آياتها (287)

الآيتان 11-12

اشارة

الآيتان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}(1)

المفردات

{لاَ تُفْسِدُوا}: الإفساد إخراج الشيء عن حدّ الاعتدال، وتغييره عن سلامة الحال، أو إخراج الشيء عن كونه منتفَعاً به.

{مُصْلِحُونَ}: الإصلاح ضدّ الإفساد.

{لاَ يَشْعُرُونَ}: الشعور الإحساس بالشيء من جهة تدقّ، أو هو العلم بالشيء إذا حصل عن طريق الحس، أو كان المعلوم بمنزلة ما حصل عن هذا الطريق(2).

الإعراب

(إنّما) مركّبة من (إنّ) و(ما).

و(إنّ) حرف يفيد تأكيد مدلول الجملة التي تليه، وهو ينصب الاسم ويرفع الخبر.

و(ما) كافّة له عن العمل، وهذه الكلمة بمجموعها تفيد الحصر - كما هو

ص: 5


1- البقرة: 11-12.
2- مضى الكلام في ذلك في الآية العاشرة من هذه السورة فراجع.

المتبادر منها(1).

و(إلاّ) حرف يدلُّ على التنبيه - قيل: وأصله (لا) دخلت عليه همزة الاستفهام الإنكارية، فأخرجته من معنى النفي إلى معنى التقرير والتحقيق، فإن إنكار النفي تحقيق للإثبات، كقوله تعالى {أَلَمْ

تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}(2) وكقوله تعالى {أَلَيْسَ

ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}(3).

وذهب بعضٌ إلى أنّها كلمة احدة غير مركّبة.

و(هم) فيه وجهان.

1 - أن يكون ضمير فصل بين اسم إنّ (هُمْ) وخبرها (المفسدون) وفائدة ضمير الفصل: التوكيد.

2 - أن يكون مبتدأً خبره (المفسدون) ومجموع الجملة المركَّبة من المبتدأ والخبر خبر ل- (إنّ).

التفسير

هاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى صفات ثلاث يتّسم بها المنافقون عادة:

الصفة الأولى: الإفساد في الأرض

ويتّضح ذلك من خلال النقاط التالية:

ص: 6


1- راجع: فوائد الاصول للمحقّق النائيني (قدس سرّه)، نهاية المقصد الثالث.
2- النساء: 97.
3- القيامة: 40.

النقطة الأُولى: إن طبيعة رسالات السماء هي طبيعة (الإصلاح)، فهي تستهدف إصلاح الفكر، وإصلاح القلب، وإصلاح الروح، وإصلاح العمل، وإصلاح الحياة.

والمنافقون حيث يقفون ضدّ رسالات السماء بفكرهم وموقفهم وعملهم، ويؤلّبون الناس عليها، فهم إذاً يقفون ضد عملية (الإصلاح)، وهذا يعني من الناحية العملية أنّهم يقفون موقف (الإفساد) تجاه العملية الإصلاحية.

مثلاً: إذا فرضنا أنّ شخصاً حاول الإصلاح بين زوجين، فوقف أحد ضدّه وهدم المحاولات الإصلاحية التي يقوم بها، فإنّه يصحّ لنا أن نقول: إنه (مفسد) باعتبار أنه أفسد (المحاولة الإصلاحية) التي قام بها الشخص المصلح وأحبطها.

النقطة الثانية: إنّ ذلك باعتبار (مآل) أعمالهم والنتائج التي تتمخَّض عنها هذه الأعمال، فإنّ هؤلاء كانوا يقومون بالتجسُّس على المسلمين، وينقلون أسرارهم إلى الأعداء، ويدلونهم عن مكامن ضعفهم، ويحرّضون عليهم، ويغرونهم بهم، ومن الواضح أنّ مآل ذلك كلّه هو نشوب الفتن، واشتعال الحروب، وسفك الدماء، وهلاك الحرث والنسل، وتحطيم الاقتصاد، وفساد الأخلاق إلى آخر المفاسد الاجتماعية التي تتركها الفتن الإجتماعية والحروب الطاحنة، وبهذا الاعتبار كانوا (مفسدين في الأرض) وقيل لهم: (لا تفسدوا في الأرض)، فإنّ الشيء كما ينسب إلى (المباشر) ينسب إلى (السبب)، وكما ينسب إلى العلل القريبة ينسب إلى العلل البعيدة، فتأمّل.

ص: 7

النقطة الثالثة: إنّ طبيعة النفس البشرية غير المهذبة هي طبيعة (الافساد)، فإنّ نفس الإنسان تميل إلى الظلم والتعدّي وسلب حقوق الآخرين، وهذه الطبيعة لا تعالج إلاّ بالإيمان باللّه واليوم الآخر، فإنّه يخلق وازعا داخلياً يمنع الإنسان عن الظلم والجور والتعدّي على حقوق الآخرين.

ومن هنا يقول الشاعر أبو الطيّب المتنبّي:

والظلمُ من شيمِ النُّفوسِ فإنْ تجد***ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ

أمّا (القانون) و(السوط) و(العصا) و(السجون)، ... و... فهي لا تكفي في الردع - كما سبق البحث في ذلك.

والمنافق حيث لا يؤمن - حقيقة - باللّه ولا باليوم الآخر لا يملك هذا (الوازع) فلماذا لا يُفسد؟ عندما يجد المنافق أمامه مالاً يمكنه استلابه، فلماذا لا يسلبه؟ وعندما يزاحمه شخص على طموحاته الشخصية فلماذا لا يقوم بتصفيته؟ و... و... وهكذا يتحوّل المنافق إلى (آلة) للإفساد الإجتماعي في كل مكان، يقول اللّه تعالى:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}(1).

وإفساد المنافقين ليس إفساداً خفياً، بل هو إفساد جليّ، بحيث يراه الناس ويشعرون بوجوده؛ إذ الإنسان قد يُبتلى بالإفساد لغفلة عارضة، أو زلّة

ص: 8


1- البقرة: 204-205.

طارئة، ثم يثوب إلى رشده، وفي هذه الحالة قد يخفى ما عمله على الآخرين.

أمّا المنافق فإنّه حيث تلازمه الطبيعة الإفسادية دائماً؛ لذا يكون إفساده إفساداً مستمراً؛ لأنّ علَّة الإفساد عنده علَّة مستمرة، وهكذا يتبيّن للناس أنه شخص مفسد، ويرفعون صوتهم مطالبين إيّاه بالوقوف عن حركة الإفساد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} .

تموجَّات الإفساد

وحيث إنّ الإفساد له (تموّجات) اجتماعية، والإفساد يولِّد الإفساد؛ لذا لا تمضي فترة إلاّ ويستشري الفساد في المجتمع وتمتلئ الأرض بالظلم والجور والتعدّي والفساد.

ولعلّ هذا هو المعنيّ بقوله تعالى {فِي الأَرْضِ...}.

فكأنّ الفساد لم يختصّ ببقعة جغرافية، أو ببلد معيّن، وإنّما شمل (الأرض) كلّها، وإلاّ لأمكن أن يكتفي في الآية بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. فتأمّل.

معنى آخر ل- (الإفساد)

ثم إنّ هنا رأياً آخر يرى أنّ (الإفساد في الأرض) عبارة عن (مخالفة الشرع) وارتكاب المعاصي مطلقاً، ويندرج ضمن ذلك الأخلاق المذمومة، فإن الأفعال على ثلاثة أنواع:

1 - الأفعال الموافقة للشرع.

2 - الأفعال الموافقة للموازين الإجتماعية، وإن كانت مخالفة للشرع.

ص: 9

3 - الأفعال الموافقة لمعتقدات الشخص، وإن كانت مخالفة للشرع أو المجتمع.

فكل ما خرج عن النوع الأوّل يعتبر إفساداً في الأرض(1).

فإن سألت: المأخوذ في الآية (الإفساد) لا (الفساد) ومخالفة الشرع لا تستلزم (الإفساد) دائما وإن استلزمت (الفساد).

كان الجواب: إنّ كل مخالفة للشرع تسبّب إفساداً إمّا في المجتمع، وإمّا في البدن، وإمّا في الروح، فالمخالفة وإن فرض أنه لا يترتّب عليها إفساد في الخارج، إلاّ أنها تسبّب تلوث الروح، وتدرُّن النفس وكفى بذلك إفساداً.

وعلى هذا يكون المراد بقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}: إننّا على طريق الاستقامة والصلاح.

وقد حكي عن بعض المفسِّرين أنه قال في الآية الكريمة: إنهم إذا ركبوا معصية اللّه قيل لهم: لا تفعلوا هذا، قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي إنّما نحن على الهدى(2)، فتأمّل.

الصفة الثانية: التبجُّحات الفارغة

وحيث إنّ المنافق يتّصف بالخواء النفسي، والفراغ الداخلي، ولا يستند إلى (القوّة المطلقة) التي تهيمن على الكون كلّه، وتمدّ الإنسان بالقوّة والطمأنينة، لذا يكون دأبه التبجّح والادّعاء، إنه يريد أن يملأ فراغه النفسي،

ص: 10


1- مواهب الرحمن 1: 93.
2- التبيان 1: 76 .

ويظهر أمام الآخرين بمظهر القويّ، الذي يحبّ الخير، ويضمر الرحمة للجميع، ويسعى في عملية الإصلاح الاجتماعي!

ومن هنا لا يكتفي المنافقون - أمام نصائح الناصحين الذين يقولون لهم: (لا تفسدوا في الأرض) - لا يكتفون بنفي صفة الإفساد عن أنفسهم، بل يتعدّون ذلك ليقولوا بكل صلافة: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} .

وها نحن نرى القوى الكبرى الظالمة على مرّ التاريخ - والتي يمثّل سلوكها نوعاً من أنواع النفاق - تتبجّح - باستمرار - بأنّها هي المصلحة، وأنّها هي المدافعة عن المستضعفين، وأنّها هي الضامنة لحريات الشعوب و.. و.. في الوقت الذي تلعب من وراء الستار لإذلال الشعوب، وسلب خيراتها ومصادرة حرّياتها، وإفساد البلاد والعباد.

وقد يقول فريق من هؤلاء المنافقين: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وهم يعتقدون ذلك حقيقة في قرارة أنفسهم؛ لأنّهم يعتبرون: (أنّ الدعوة إفساد، وأنهم بوقوفهم ضدّها يصلحون في الأرض)(1).

أو أنّهم بموقفهم النفاقي يعملون على التقريب بين جبهة الكفر وجبهة الإيمان والصلاح فيما بينهما، كما حكى اللّه تعالى عنهم ذلك بقوله: {فَكَيْفَ

إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا}(2) وبذلك يضمنون مصالحهم الشخصية، ويستفيدون من جميع الأطراف في سبيل تأمين هذه المصالح.

ص: 11


1- تقريب القرآن 1: 44.
2- النساء: 62.

ثم لا يخفى أن كلمة (إنّما) في المقام لقصر الذات على الحكم لا لقصر الحكم على الذات، فإنّ القصر قد يأتي لحصر الذات في صفة معينّة كما تقول (إنّما زيد تاجر) في جواب من قال: (إنّ زيداً عالم) وقد يأتي لحصر الصفة في ذات معينّة، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي أنّ صفة الولاية منحصرة في هؤلاء، والمقام من قبيل الأوّل، أي حصر الذات في صفة معينّة، فإنّ المنافقين في صدد نفي صفة الإفساد عن أنفسهم وحصر ذواتهم في إطار (الإصلاح) لا في صدد حصر صفة (الإصلاح) في (أنفسهم).

ومن هنا كان التعبير: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . أي: إنّ ذواتنا وتحركاتنا وأعمالنا محصورة في نطاق الإصلاح. ولم يكن التعبير: (إنّما المصلحون نحن)؛ إذ لم يكن هؤلاء في صدد إثبات انحصار صفة الإصلاح بهم بحيث لا تتعداهم إلى غيرهم، فتدبّر.

الصفة الثالثة: اختلاط المقاييس

إنّ المعرفة الموضوعية للأُمور التي تقع ضمن نطاق (الإحساس) إنّما تتم فيما لو كانت (الحواس) سليمة، ففي هذه الحالة يشاهد الإنسان الأُمور كما هي عليه، ويتطابق (المعلوم بالعرض) مع (المعلوم بالذات) ويتوافق الوجود الذهني مع الوجود العيني.

أمّا عندما تمرض الحواس، فربّما يتخيّل الإنسانُ البعيدَ قريباً، والقريبَ بعيداً، والكبير صغيراً، والصغير كبيراً، والحار بارداً، والبارد حاراً.. و..

وهكذا الأمر في الأُمور التي لا تقع ضمن نطاق (الإحساس)، فإنّ التقييم

ص: 12

الموضوعي لهذه الأُمور يتوقّف على سلامة الفكر، واستقامة الروح.

والمنافقون حيث كان (في قلوبهم مرض).

وحيث (زادهم اللّه مرضاً) وحيث أصبحت قلوبهم منكوسة وعقولهم مدخولة؛ لذا انقلبت عندهم المقاييس واختلطت عليهم الأُمور، فلم يعودوا يميّزون الخير من الشرّ، ولا الإصلاح من الفساد فهم يعملون الشرّ ويظنون أنه هو الخير، ويفسدونن في الأرض وهم يظنون أنّهم مصلحون، ويقفون ضدّ الدعوة الإصلاحية وهم يرون أنهم يحسنون صنعاً، ومن هنا يقول اللّه تعالى عنهم.

{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} إنّهم يعيشون ضلالاً مزدوجاً:

ضلالاً سلوكياً يتمثّل في إفسادهم في الأرض، وإهلاكهم للحرث والنسل، وتفريقهم بين المؤمنين.

وضلالاً فكرياً يتمثّل في انقلاب المقاييس عندهم، ورؤية الصالح طالحاً، والطالح صالحاً، والخير شرّاً، والشرّ خيراً.

وهذا الضلال المزدوج أسوأ أنواع الضلال؛ إذ لو كان الإنسان يعيش الضلال وهو (يشعر) أنه يعيش فيه، فلعلّ ضميره يستيقظ يوماً ما. ليردعه عن الاستمرار في ضلاله، وينهي بذلك مأساة التناقض بين الفكر والسلوك.

أمّا عندما يكون الضلال مزدوجاً، ويستوعب السلوك والفكر معاً، ففي هذه الحالة يكون الاهتداء إلى طريق اللّه بعيد المنال؛ إذ الفكر المنكوس سيقوم بإضفاء (الشرعية) على كلّ الأعمال الخاطئة التي يقوم بها الشخص المنافق، ويقوم بتبرير كلّ التصرُّفات الضالَّة التي تصدر منه، فمن أين يأتي

ص: 13

الهدى، ومن أين يشرق النور؟.

نماذج تاريخية

وقد ذكرنا فيما مضى(1)بعض النماذج عن الضلال المزدوج، وعن الدعاوى الكاذبة التي يتشبّث بها الضالون لتبرير انحرافهم عن خط اللّه، وعن طريق الهدى والرشاد.

ونشير هنا إلى بعض النماذج الأُخرى:

1 - يُذكر أن أحد القادة الأمريكيين وُجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذريّة على مدينتي (هيروشيما) و(ناجازاكي) اليابانيتين، ممّا أدى إلى مقتل مئتي ألف إنسان أو إصابتهم بالعاهات؟

فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثرّ، ولذهب ضحيّتها عدد أكبر من القتلى!(2).

2 - عن عمرو بن قيس المشرقي، قال: دخلت على الحسين صلوات اللّه عليه أنا وابن عمّ لي، وهو في قصر (بني مقاتل) فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمي: يا أبا عبد اللّه هذا الذي أرى خضاب أو شعرك؟

فقال: خضاب، والشيب إلينا بني هاشم يعجل.

ثم أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتي؟

فقلت: إني رجل كبير في السن، كثير الدين، كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أُضيِّع أمانتي!

ص: 14


1- في تفسير الآية الآخيرة من سورة الحمد.
2- الأمثل 1: 82-83.

وقال له ابن عمّي مثل ذلك.

فقال لنا: فانطلقا، فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً، فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقّاً على اللّه عزَّ وجل أن يكبّه على منخريه في النار(1).

3 - نقل أنّ عابداً كان في بني إسرائيل وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أُخت وكانت بكراً ليس لهم أُخت غيرها. فخرج البعث على ثلاثتهم فلم يدروا عند من يخلّفون أُختهم، ولا من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. فأجمع رأيهم على أن يخلّفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم. فأتوه فسألوه أن يخلّفوها عنده فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم، فأبى ذلك وتعوّذ باللّه عزَّ وجلَّ منهم ومن أُختهم، فلم يزالوا به حتى أطاعهم، فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثمّ انطلقوا وتركوها تمكث في جوار ذلك العابد زماناً، ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثمّ يغلق بابه ويصعد إلى صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. فتلطّف له الشيطان فلم يزل يرغّبه في الخير ويعظّم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً، ويخوّفه أن يراها أحد فيُعلَّقُها(2) فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم لأجرك! فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها، ووضعه على باب بيتها ولم يكلِّمها، فلبث على هذه

ص: 15


1- بحار الأنوار 45: 84.
2- يُعلَّقُها: أي: يعشقها.

الحالة زماناً.

ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير والأجر وحضّه عليه، وقال: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك! فلم يزل به حتى مشى إليها بالطعام ثمّ وضعه في بيتها فلبث على ذلك زماناً. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه، فقال: لو كنت تكلِّمها وتحدّثها فتأنس بحديثك فإنّها قد استوحشت وحشة شديدة! فلم يزل به حتى حدّثها زماناً يطلّع إليها من فوق صومعته. ثمّ أتاه إبليس بعد ذلك، فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها وتقعد هي على باب بيتها فتحدِّثك كان آنس لها! فلم يزل به حتّى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدِّثها وتحدِّثه وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها، فلبثا زماناً يتحدَّثان. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريباً من باب بيتها فحدّثتها كان آنس لها، فلم يزل به حتّى فعل، فلبثا زماناً. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وفيما له عند اللّه سبحانه وتعالى من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فحدّثتها ولم تخرج من بيتها ففعل، فكان يزل من صومعته فيقف على باب بيتها فيحدِّثها. فلبثا على ذلك حيناً. ثم جاءه إبليس، فقال: لو دخلت البيت معها فحدّثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدِّثها نهارها كلَّه، فإذا مضى النهار صعد إلى صومعته، ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزِّينها له حتّى ضرب العابد على فخذها وقبّلها. فلم يزل به إبليس يحسنّها

ص: 16

في عينه ويسوّل له حتّى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاماً، فجاء إبليس فقال: أرأيت إن جاء إخوة الجارية وقد ولدت منك، كيف تصنع لا آمن أن تفتضح أو يفضحوك فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنّها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلّعوا على ما صنعت بها. ففعل، فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها، فخذها واذبحها وادفنها مع ابنها: فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفرة مع ابنها وأطبق عليهما صخرة عظيمة وسوى عليهما وصعد إلى صومعته يتعبّد، فيّها فمكث بذلك ما شاء اللّه أن يمكث حتى أقبل إخوتها من الغزو، فجاؤوا فسألوه عنها فنعاها لهم وترحّم عليها وبكاها، وقال: كانت خير امرأة وهذا قبرها فانظروا إليها، فأتى إخوتها القبر فبكوا اُختهم وترحّموا عليها، فأقاموا على قبرها أيامّاً ثمّ انصرفوا إلى أهاليهم. فلمّا جنّ عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر فبدأ بأكبرهم فسأله عن أُختهم فأخبره بقول العابد وموتها وترحُّمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها فكذّبه الشيطان، وقال: لم يصدقكم أمر أُختكم إنّه قد أحبل أُختكم وولدت منه غلاماً فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم، وألقاهما في حفيرة احتفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله، فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله، فإنّكم ستجدونهما - كما أخبرتكم - هناك جميعاً. وأتى الأوسط في منامه فقال له مثل ذلك، ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك فلمّا استيقظ القوم أصبحوا متعجّبين ممّا رأى كلُّ واحد منهم، فأقبل بعضهم على بعض، يقول كلّ واحد منهم: لقد رأيت الليلة عجباً،

ص: 17

فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى، فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم، قال أصغرهم: واللّه لا أمضي حتى آتي إلى هذا المكان فأنظر فيه، فانطلقوا جميعاً حتى أتوا البيت الذي كانت فيه اُختهم ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا اُختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم. فسألوا عنها العابد فصدَّق قول ابليس فيما صنع بهما، فاستعدَوا عليه ملكهم فأُنزل من صومعته وقدِّم ليُصلب، فلّما أوثقوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك بالمرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت باللّه الذي خلقك وصورّك خلصت ممّا أنت فيه، فكفر العابد، فلمّا كفر باللّه تعالى خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه، وفيه نزلت هذه الآية: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}(1).

4 - قبل نشوب الحرب بين الخوارج والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد الإمام (عليه السلام) أن يتمّ الحجة عليهم. فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلَّموا بما نقمتم عليَّ. قالوا: نقمنا عليك أوّلاً: إنّا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلمّا أظفرك اللّه بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرِّية، فكيف حلّ لنا ما في العسكر، ولم يحلّ لنا النساء؟

فقال (عليه السلام) : يا هؤلاء، إنّ أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلمّا ظفرتم بهم قسّمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرِّية، فإن النساء لم يقاتلن،

ص: 18


1- تلبيس ابليس: 26-29.

والذرية ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منّ على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين، فلم أسلب نساءهم ولا ذرّيتهم.

قالوا: نقمنا عليك يوم صفّين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميراً لنا!!

قال (عليه السلام) يا هؤلاء: إنّما اقتديت برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين صالح سهيل بن عمرو، وقد تقدّمت عنهم في ذلك الوقت.

قالوا: نقمنا عليك أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب اللّه، فإن كنتُ أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة. فإذا كنت شاكّاً في نفسك، فنحن فيك أشدّ وأعظم شكّاً!

قال (عليه السلام) : إنما أردت بذلك النصفة - الإنصاف - فإنّي لو قلتُ: احكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لنصارى نجران لمّا قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة اللّه عليكم، لم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره اللّه فقال: «فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين» فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا.

قالوا: فإنّا نقمنا عليك أنك حكَّمتَ حَكَماً في حقّ هو لك.

فقال (عليه السلام) : إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شيء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين.

فأعطاه أمير المؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو

ص: 19

أيوب: من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.

فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدّين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة عليّ وأصحابه، وبادروا إلى الجنّة. وصاحوا: الرَّواح إلى الجنة!!.

وتقدّم حرقوص ذو الثديّة، وعبد اللّه بن وهب، وقالا: ما نريد بقتالنا إيّاك إلاّ وجه اللّه والدار الآخرة.

فقال (عليه السلام) : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1)؟؟

5 - عن الإمام العسكري (عليه السلام) عن آبائه، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: قوله عزَّ وجلّ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(2) يقول: أرشدنا الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنّتك من أن نتَّبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك، فإنّ من اتّبع هواه واُعجب برأيه كان كرجل سمعتُ غُثاءَ الناس تعظِّمه وتصفه فأحببتُ لقاءه من حيث لا يعرفني؛ لأنظر مقداره ومحلّه، فرأيته في موضع قد أحدق به خلق من غُثاء العامّة فوقفت منتبذاً عنهم مغشياً بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم وفارقهم، ولم يقرّ، فتفرقت العوام عنه لحوائجهم، وتبعته أقتفي أثره فلم يلبث أن مرّ بخباز فتغّفله، فأخذ من دكّانه رغيفين

ص: 20


1- علي من المهد إلى اللّحد: 504-507.
2- الفاتحة: 6.

مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثم مرّ من بعده بصاحب رمّان فمازال به حتى تغّفله فأخذ من عنده رّمانتين مسارقة، فتعجبتُ منه ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة.

ثم أقول: وما حاجته إذاً إلى المسارقة؟! ثم لم أزل أتّبعه حتى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرّمانتين بين يديه، ومضى وتبعته حتى استقّر في بقعة من صحراء، فقلت له: يا عبد اللّه لقد سمعت بك وأحببت لقاءك، فلقيتك، لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وإنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي.

قال: ما هو؟ قلتُ: رأيتك مررت بخبّاز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمّان فسرقت منه رّمانتين، فقال لي: قبل كلّ شيء: حدّثني من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم من أُمّة محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: حدثني ممَّن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال؛ أين بلدك؟ قلت: المدينة قال: لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؟ قلت: بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شُرفَت به، وتركك علم جدك وأبيك، لأن لا تنكر ما يجب أن يحمد ويمدح فاعله!.

قلت: وما هو؟ قال: القرآن كتاب اللّه: قلت: وما الذي جهلت؟ قال: قول اللّه عزَّ وجلَّ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}(1) وأنّي لمّا سرقت الرغيفين كانت سيئتّين، ولما سرقت الرّمانتين كانت سيئتين فهذه أربع سيّئات، فلمّا تصدقت بكلّ واحد منها

ص: 21


1- الأنعام: 160.

كانت أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيئات بقي لي ست وثلاثون، قلت: ثكلتك أُمُّك أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت اللّه عزَّ وجل يقول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1).

إنّك لمّا سرقتَ الرغيفين كانت سيئتين، ولمّا سرقتَ الرّمانتين كانت سيئتين، ولمّا دفعتهما إلى غير صاحبهما، بغير أمر صاحبهما، كنت إنّما أضفت أربع سيّئات إلى أربع سيّئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات، فجعل يلاحيني فانصرفتُ وتركته(2).

ص: 22


1- المائدة: 27.
2- بحار الأنوار 47: 238.

الآية 13

اشارة

الآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}(1)

المفردات

{السُّفَهَاءَ}: السفه خفّة العقل، وقلّة التمييز بين الخير والشر والنفع والضرر.

الإعراب

(ما) في قوله تعالى {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} مصدرية، تُؤوَّل مع صلتها بالمصدر، أي: (آمنوا كإيمان الناس) بمعنى آمنوا إيماناً مشابهاً لإيمانهم.

و(الهمزة) في قوله تعالى {أَنُؤْمِنُ} للاستفهام الإنكاري.

و(إلاّ) حرف يدلّ على التنبيه(2).

التفسير

للمنافقين سلوك معيّن، يتميّز عن سلوك عامّة المؤمنين، وهذا التميّز ربما كان يلفت انتباه المؤمنين، فكانوا يتوجّهون إلى المنافقين قائلين:

{آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} ودعوا النفاق جانباً وذوبوا في هذا البحر

ص: 23


1- البقرة: 13.
2- مضى البحث فيه في الآية (13) من هذه السورة.

الخضم، ولتكن صبغتكم صبغة اللّه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}.

ولكنّ هذا (السلوك المتميّز) للمنافقين كان ينبعث من (نظرة متميزة)، إنهم يعتبرون المؤمنين الحقيقيين (سفهاء) ويعتبرون عمل المؤمنين الحقيقيين (عملاً سفهياً) بينما يتصوّرون أنفسهم (راشدين) وعملهم (عملاً رشدياً).

لذا ترى المنافقين يقولون مستنكرين في مواجهة منطق المؤمنين - عندما يأمنون عواقب التصريح: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}! ولكن لماذا؟.

رؤية متميّزة

في الجواب نقول: لعلّ هذه النظرة المتعالية إلى المؤمنين الحقيقيين تنبع من نوعية نظرة المنافقين إلى الكون والحياة ككل. وأساساً وقبل كلّ شيء لا بدّ أن نقول:

إنّ (النظرة التجزيئية) للأُمور ربما تجعل تقييم الإنسان للأُمور يختلف بشكل جذري عمّا لو كانت نظرته (نظرة شمولية).

وهذا لا يختصّ بشأنٍ معيّن، بل يعمُّ كلّ الشؤون، سواء ما يتعلّق منها بالدنيا، أو ما يتعلّق منها بالآخرة.

فربما تكون الأتعاب التي يبذلها الطالب في استيعاب الدروس وحفظ المواد عملاً سفهياً لو كانت النظرة نظرة تجزيئية. فلماذا يترك الطالب اللّهو واللعب ويجهد نفسه في الدراسة إذا كانت النظرة متمركزة على اللّحظة الحاضرة؟.

أمّا عندما تتوسّع آفاق نظرة الإنسان ليستشرف الغد، وليرى أنّ هذا

ص: 24

الجهد سوف يؤمِّن له حياة هانئة في المستقبل، فإنّ هذا الجهد سوف يبدو عملاً حكيماً لا بدّ منه، ويكون اللّهو واللّعب هو السفاهة بعينها. وهذا بالضبط ما يصدق في ما يتعلق ب(دائرة الغيب).

فإذا رفض الإنسان الإيمان ب- (المبدأ) و(المعاد) وتصوّر أنّ الإنسان كائن عشوائي نبت من الأرض عن طريق الصدفة، وسيعود إلى الأرض ليبقى فيها ويتلاشى تحت أطباقها، وأنه ليس هنالك حساب ولا كتاب، ولا جنّة ولا نار، فسوف تتغيّر نظرته إلى كل شيء.

عندئذ: سوف يكون من السفاهة: التقيّد بالحدود الدينية. والحيلولة دون الانطلاقة المسعورة للشهوات؛ إذ ما دامت الدنيا هي المحطة الأخيرة في مسيرة الإنسان، فلماذا لا ينتهز هذه الفرصة لِيعُبَّ من الشهوات الماجنة، وليكرس مصالحه الشخصية في الحياة، ولو جاء ذلك على حساب الآخرين، وعلى حساب صدقه ونزاهته واستقامته في الحياة؟

عندئذ: سوف يكون (الإنفاق) تبذيراً. و(الجهاد) تهلكة. و(الشجاعة) تهوُّراً. و(الجبن) حكمة.

عندئذ: تتحول جميع الفضائل الإنسانية إلى نوع من أنواع السفاهة وضعف العقل وقلّة الفهم.

ومن خلال هذا المنظار: سيكون المؤمنون سفهاء، وستكون كلُّ أعمالهم (أعمالاً سفهية). ولكنّ هذا هو ما تمليه النظرة القريبة المدى.

أمّا عندما تكون النظرة بعيدة المدى، وعندما يخرق الإنسان - ببصيرته - حجب المادة لينفذ إلى أعماق هذا الوجود.

ص: 25

عندما يبصر الإنسان - بعين القلب - ربّه، ويراه قبل كل شيء، ومع كلّ شيء، وبعد كل شيء.

عندما يمعن النظر فيرى أنّ هذه الدنيا ليست هي المحّطة الأخيرة، وإنّما هي محّطة في الطريق وأنّ هذه الدنيا هي فرصة للتكامل والإعداد لعالم أسمى وأرفع وأنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنّها سوق ربح فيها قوم وخسر فيها آخرون.

عندئذ: تنجلي الحقيقة، ويتبيّن أنّ (السفهاء) ليسوا إلاّ أُولئك المحدودي النظر الذين خسروا الحياة الأبدية من أجل إرواء شهوات عابرة.

بل وخسروا حياتهم الدنيا - أيضاً - حين فقدوا الملاذ الحصين الذي يلجأ إليه المؤمنون وهو اللّه تعالى..

عندئذ: تنكشف حقيقة المنافقين (الحكماء)! ويتبّين: {إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} .

ولكن أنى لمن في قلبه مرض، وفي آذانه وقر، وعلى عينيه غشاوة، أن يتبّين الحقيقة، ومن هنا يعقّب القرآن الكريم على ذلك بقوله: {وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ} .

قال السبزواري (قدس سره) : وفي قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ} تنبيه على أنهم متوغّلون في الجهالة، وتأكيد على نفي الإدراك عنهم بجميع أنواعه: من (نفي الشعور) و(نفي العلم) و(نفي الفقه)(1)، فتأمّل.

ص: 26


1- مواهب الرحمن 1: 95.

هذا، وقال في (الكشاف): «فإن قلت: فلم فصلت هذه الآية ب(يعلمون) والتي قبلها ب(لا يشعرون)؟

قلت: لأنّ أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال، حتى يكتسب الناظر المعرفة. وأمّا النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض، فأمر دنيوي مبنّي على العادات معلوم عند الناس، خصوصاً عند العرب في جاهليتهم، وما كان قائماً بينهم من التغاور والتناحر، والتجاذب والتحازب، فهو كالمحسوس المشاهد»،(1) فتأمّل.

ثم لا يخفى أن عدم العلم لا يكون عذراً لهؤلاء؛ إذ إنهم وصلوا إلى هذه النهاية الأليمة بسوء اختيارهم، فلا عذر لهم أمام اللّه، بل لله عليهم الحجّة البالغة(2).

كيف ينظرون إلى المؤمنين؟

1 - في تفسير علي بن إبراهيم - في حديث طويل حول حرب بدر - : وكانت فئة من قريش اسلموا بمكّة فاحتبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش إلى (بدر) وهم على الشكّ والارتياب والنِّفاق، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكهة، والحارث بن ربيعة، وعليّ بن أُميّة بن خلف، والعاص بن المنبّه، فلمّا نظروا إلى قلّة أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالوا: مساكين هؤلاء، غرّهم دينهم، فيقتلون الساعة، فأنزل اللّه عزَّ وجلّ على

ص: 27


1- الكشاف 1: 183.
2- راجع ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم}.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمًْ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1)(2).

2 - نُقل أنّ عبيد اللّه بن زياد كان قد بعث عمر بن سعد قائداً لأربعة آلاف جندي إلى (دستبي) - وهي تقارب التسعين قرية بين همدان وقزوين - ، وكانت (الديلم) قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، وكتب ابن زياد له عهده على (الريّ).

فعسكر بالناس في (حمام أعين).

فلمّا كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان، دعا (ابن زياد): (عمر بن سعد) وقال له: سر إلى الحسين، فإذا فرغنا بيننا وبينه، سرت إلى عملك. فاستعفاه.

فقال ابن زياد: نعم، على أن ترّد عهدنا!

فلمّا قال له ذلك، قال ابن سعد: أمهلني اليوم حتّى انظر! فأمهله.

فاستشار ابن سعد نصحاءه فكلُّهم نهاه.

وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة وهو ابن أُخته، فقال: أنشدك اللّه يا خالي أن لا تسير إلى الحسين (عليه السلام) فتأثم وتقطع رحمك، فواللّه لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض - لو كان ذلك لك - خير من أن تلقى اللّه بدم الحسين (عليه السلام) .

فقال: أفعل.

وبات ابن سعد ليلته مفكّراً في أمره، فسُمِعَ وهو يقول وينشد:

ص: 28


1- الأنفال: 49.
2- نور الثقلين 2: 132.

فواللّه ما أدري وإنّي لحائر فواللّه***اُفكّر في أمري على خطرين

أأترك مُلكَ الريّ والريُّ منيتي***أم أرجع مأثوماً بقتل حسين؟

حسين ابن عمي والحوادث جمّة***لعمري ولي في (الريّ) قرَّة عينِ

ألا إنّما الدنيا بخير معجَّل***فما عاقل باع الوجود بدين!

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي***ولو كنت فيها أظلم الثقلين

يقولون إنّ اللّه خالق جنّةٍ***ونارٍ وتعذيبٍ وغَلِّ يدين!

فإنْ صدقوا فيما يقولون إنّني***أتوبُ إلى الرحمن من سنتينِ!

وإنْ كذبوا فزنا بدنيا عظيمة***وملك عقيم دائم الحجلين(1)

وجاء في قضية مطوّلة نقلها الشيخ المفيد (قدس سره) : إنّ أحد الصحابة - وكان ممّن يظهر الإيمان ويبطن الكفر - قال في شعر له:

ذرينا نصطبح يا أُمّ بكرٍ***فإنّ الموتَ نقّب عن هُشامِ

ونقّب عن أبيكِ وكان قَرما***من الأبطال شرّاب المُدام

أيوعِدُنا ابن كبشة(2) أنْ سنحيا***وكيف حياة أشلاء وَهامِ؟

أيعجز أن يكفّ الموتَ عنّي***ويحييني إذا بَلِيتْ عظامي!

خلا أنّ الحكيم(3) رأى حميرا***فألجمها فتاهت في اللِّجام!

ص: 29


1- معالي السبطين 1: 301-302؛ معالم الزلفى: 326 (الطبعة الحجرية).
2- يقصد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
3- يقصد النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاشاه ثمّ حاشاه.

أما يكفيه جمع المال حتّى***بلانا بالصلاة وبالصيام!

فهل من بلّغ الرحمن عنّي***بأنِّي تاركٌ فرضَ الصِّيامِ

فقل لله يمنعني شرابي***وقل لله يمنعني طعامي!(1)

تذنيب

الألف واللاّم في قوله تعالى: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} فيها وجهان:

إحداهما: أن تكون للعهد - أي كما آمن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن معه.

وقد كان المنافقون شكّلوا جبهة في مقابل الجبهة الإيمانية، وكانوا يخطّطون بشكل مستمر للقضاء عليها، فكان لها حضور دائم في أذهانهم، وبهذا الاعتبار صحّ العهد؛ إذ إنه يحتاج إلى الحضور الذهني أو ما يشابهه.

أو هم ناس معهودون كعبد اللّه بن سلاّم وأشياعه، فإنّهم كانوا من أبناء جنسهم، وكانوا أصحابهم، وقد غاظهم إيمانهم، فهم حاضرون في أذهانهم، وبهذا الاعتبار صحّ العهد أيضاً مضافاً إلى الاعتبار السابق.

ثانيهما: أن تكون للجنس:

1 - إمّا بتقرير: أنّ أكثر الأوس والخزرج كانوا مسلمين. وهؤلاء المنافقون كانوا أقليّة بينهم، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر.

2 - أو بتقرير: أنّ المؤمنين هم (الناس) في الحقيقة، لأنّ ميزة الإنسان على غيره من الحيوانات بالرشد العقلي، والقدرة على التمييز بين الحقّ والباطل، وقد أُوتي المؤمنون ذلك بينما فقده المنافقون، فهم إذاً قاصرون

ص: 30


1- معالم الزلفى: 327 (الطبعة الحجرية).

عن مرتبة الإنسانية فلا يستحقونّ إدراجهم في إطار (الناس) فتأمّل(1).

روايات في المقام

1 - عن الإمام الكاظم (عليه السلام) - في حديث - في قوله تعالى {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} ، (قالوا في الجواب لمن يفضون إليه لا هؤلاء المؤمنين؛ لأنّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، ولكنّهم يذكرون لمن يفضون إليه من أهليهم الّذين يثقون بهم، يقولون لهم: أنؤمن كما آمن السفهاء، يعنون سلمان وأصحابه)(2).

2 - وفي الحديث نفسه في تفسير كلمة (السفهاء) قال (عليه السلام) : (قال عزَّ وجلّ {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ}(3) الإخفّاء العقول والآراء الذين لم ينظروا في أمر محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حقّ النظر..).

ص: 31


1- راجع الكشاف 1: 182 وهامشه والتفسير الكبير 2: 74-75.
2- البرهان 1: 62.
3- البقرة: 13.

الآيتان 14-15

اشارة

الآيتان {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ ِبهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(1)

المفردات

{لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا}: التقوا بهم واجتمعوا معهم.

{خَلَوْا}: اختلوا بهم وانفردوا معهم، والأصل في هذه الكلمة أن توصل بالباء بأن يقال: وإذا خلوا بشياطينهم، لكنّها حيث ضُمنِّت معنى (انصرفوا) عدّيت ب(إلى) فالمعنى: وإذا انصرفوا (حال كونهم خالين) إلى شياطينهم. وفائدة التضمين أداء الكلمة الواحدة معنى كلمتين(2).

ص: 32


1- البقرة: 14-15.
2- ونظيره قوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي لا تضمُّوها إليها آكلين. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي الإفضاء اليهن بالرفث بهنّ. وقوله تعالى: {لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإَِ الأَعْلَى} أي لا يصغون إلى الملأ الأعلى. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي يميزه عنه، وقال الفرزدق: كيف تراني قالِباً مِجَنّي***قَدْ قتلَ اللّهُ زياداً عنّي أي صرفه عنّي بالقتل، وفي التضمين بحث طويل مذكور في القاعدة الثالثة من الباب الثامن من مغني اللبيب (مغني اللبيب 2: 193).

وقيل: إنّ (إلى) بمعنى (الباء).

شياطينهم: رؤسائهم، أو أشباههم من المنافقين الذين يماثلون الشياطين في تمرُّدهم وعتوِّهم وبُعدهم عن الخير والصلاح، والشيطان مشتق من (شطن) إذا بَعُدَ، لبعده عن الخير، أو من (شيط) إذا بَطُل، لكونه بعيداً عن الحقّ، فعلى الأوّل يكون وزنه (فيعال) وعلى الثاني (فعلان).

{مُسْتَهْزِئُونَ}: ساخرون، مستخفّون.

{وَيَمُدُّهُمْ}: يزيدهم.

{طُغْيَانِهِمْ}: الطغيان مجاوزة الحدّ في العتوّ والتمرّد.

{يَعْمَهُونَ}: العمه: عمى القلب والتخبُّط على غير هدى. أو هو التحيُّر والتردُّد.

الإعراب

معكم: منصوب على الظرفية متعلِّق بمحذوف هو خبر ل(أنّ)، وتقديره: أنّا كائنون معكم، أو: أنّا استقررنا معكم.

قال ابن مالك:

وأخبروا

بِظَرْفٍ أوْ بِحَرْفِ جَرْ

ناوينَ

معنى (كائنٍ) أو (استَقَرْ)

يعمهون: جملة مركّبة من الفعل والفاعل، في موضع نصب، حال من الضمير المنصوب في قوله تعالى (ويمدهم).

النزول

عن ابن عباس، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو بعضهم قالوا: إنّا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم وهم إخوانهم.

ص: 33

قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} أي على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ساخرون بأصحاب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).

وعنه - أيضاً - أنه قال في الآية: وهم منافقو أهل الكتاب(2).

التفسير

في هاتين الآيتين الكريمتين إشارة إلى أُمور ثلاثة تتعلَّق بالمنافقين:

1 - للمنافقين أكثر من وجه وأكثر من لسان

المؤمن ذو وجه واحد وذو لسان واحد، فهو يبطن الإيمان، ويظهر الإيمان وليس له وجهان، ولا لسانان.

أمّا المافق، فله أكثر من وجه، وأكثر من لسان، يلاقي المؤمنين بوجه، ويلاقي الكفّار بوجه آخر. يتحدّث مع المؤمنين بلغة الإيمان، ويتحدّث مع الكفّار والمنافقين بلغة الكفر، يظهر الخير للمؤمنين ويتآمر في الخفاء لإلحاق الأذى بهم.

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} إذا التقى هؤلاء المنافقون بهم واجتمعوا معهم أخذوا يكذبون وينافقون و(قالوا: آمنّا) أي: أنّنا تركنا معسكر الكفر وانتقلنا إلى معسكر الإيمان، أو إنّنا آمنّا بقلوبنا إيماناً خالصاً لا يشوبه شكٌّ ولا ريب، وصدّقنا بما نزل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما صدّقتم أنتم، ولكن عندما يختلون بشياطينهم ويأمنون انكشاف أمرهم يُظهرون كوامن قلوبهم،

ص: 34


1- الدر المنثور 1: 31.
2- الدر المنثور 1: 31.

ويُطَمئنون أُولئك الشياطين بأنّهم معهم وعلى خطاهم ودينهم.

أجل: (قالوا: إنّا معكم).

أي إنّنا ثابتون على خطّكم، ولم نتحوّل منه إلى خطّ الإيمان، كما تقتضيه (الجملة الإسمية) فإنّها تفيد الثبات والاستمرار.. (وقد ذكروا نظير ذلك في قوله تعالى: {قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ}(1) حيث ذكروا أن عدوله (عليه السلام) إلى الجملة الاسمية في الجواب يفيد الثبات والاستمرار..).

ولعلّ التأكيد ب(إنّ) في هذه الجملة (حيث أنّ كلمة (إنّا) مركبة من (إنّ) المؤكّدة وضمير الجمع (نا)، ثم حذفت النون الثانية، من أجل التخفيف، فصار (إنّا).

نابع من أن المنافقين يخسرون - عادة - ثقة الطرفين، أمّا المؤمنون فلأنّهم يشاهدون آثار النفاق فيهم، وأمّا الشياطين فلأنّهم كثيراً ما يشكّكون في حقيقة موقف المنافقين، فإنّ الإنسان اللامبدئي يشكّ فيه الجميع حتى أمثاله؛ إذ ما دام هذا الإنسان ينافق مع الآخرين، فربما ينافق مع زملائه أيضاً، ولذا ورد في الحديث الشريف (من نمّ لك نم عليك).

فإن الطبيعة الإنسانية طبيعة واحدة، والانسان إذا خان في مورد فمن السهل عليه أن يخون في مورد آخر، بينما الإنسان الأمين الصادق سوف يكسب ثقة الجميع حتى اعدائه.

لأن طبيعته الأمينة سوف تملي عليه أن يلتزم الأمانة حتى مع اعدائه.

وحيث إن المنافقين يشعرون بذلك ويدركون شكّ شياطينهم بهم؛ لذا

ص: 35


1- هود: 69.

يضطرون إلى التأكيد لهم بأنّهم ثابتون على خطّهم ومنهجهم في الحياة.

{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} .

2 - وجود عناصر ماكرة تحرّكهم من وراء السِّتار

وقد كان وراء المنافقين عناصر ماكرة تحرّكهم من وراء السِّتار، وتخطّط لضرب الإسلام والمسلمين بواسطتهم.

وربما أُطلق على هؤلاء كلمة (الشياطين) لأنّ مجموعة من الصفات تمثّلت فيهم، هي من أبرز صفات الشياطين:

1 - فالشيطان يتّصف بصفة (التخطيط الشرير) لتحقيق أهدافه، وهؤلاء كانوا يخطّطون دائماً لضرب الإسلام والمسلمين.

2 - والشيطان يتّصف بصفة (التحريك الشرّير) عبر إلقاءاته المستمرة في صدور الناس.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}(1).

وقال سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(2).

وهؤلاء الشياطين كان دأبهم تحريك المنافقين بشكل مستمر لتحقيق أهدافهم اللامشروعة.

ص: 36


1- الناس: 4-6.
2- الأنفال: 48.

3 - الشيطان: لا يظهر، وإنّما يختفي وراء الكواليس وينفذ مؤامراته الشرّيرة في الظلام.

يقول سبحانه وتعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}(1).

وقد اتّصف هؤلاء الشياطين بذلك أيضاً.

مَنْ هم (الشياطين)؟

أمّا تحديد هوية هؤلاء (الشياطين) ففي ذلك أقوال:

القول الأوّل: إنّ المراد بهم (رؤساء المنافقين) فالصغار من المنافقين كانوا (أدوات) بيد الكبار منهم، فكانوا يختلطون بالمؤمنين ويتظاهرون بأنهم منهم، ويحاولون من خلال ذلك تنفيذ مخطّطات (الأسياد) أمّا (الكبار) فكانوا يرون أنفسهم فوق ذلك، فكانوا يقبعون وراء الكواليس ويحرّكون هذه الأدوات في سبيل مطامعهم الشيطانية.

وحيث إنّ هؤلاء الكبار كانوا يخافون على (صغارهم) من الحقّ، ويشكّون في بقاء ولاءاتهم؛ لذا كانوا يحاولون استكشاف حقيقة مواقفهم، وكان الصغار يؤكّدون لهم دائماً بأنّهم معهم ولم ينضووا - بجدّ - تحت راية الإيمان أبداً.

القول الثاني: إنّ المراد بهم (الكفّار) الذين كانوا قد عقدوا حلفاً مع المنافقين في مواجهة الزحف الإسلامي المتنامي يوماً بعد آخر.

وكان كلا الطرفين يشعر بحاجته إلى الآخر. فالمشركون كانوا بحاجة إلى (طابور خامس) داخل الجسد الإسلامي، ليتجسّس على المسلمين،

ص: 37


1- الأعراف: 27.

وينقل إليهم أخبارهم، ويدلّهم على الثغرات الموجودة فيهم، ويثير في المسلمين الخوف والرعب، وينشر فيهم الإشاعات الكاذبة.

والمنافقون كانوا بحاجة إلى مدد خارجي يسندهم، ويمدّهم بالقوّة الماديّة والمعنوية أمام (نور اللّه) الذي كانوا يحاولون إطفاءه.

وكان هذان الفريقان يلتقيان - سرّاً - بين حين وآخر ليتدارسو الأُمور، ويرسموا الخطط الهدّامة في مواجهة الإسلام، على ضوء المتغيّرات الجديدة.

القول الثالث: أنهم كُهّانهم، وقد روي ذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام) (1).

القول الرابع: إنّ المراد بذلك أشباههم من المنافقين.

القول الخامس: أنهم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب.

وكان اليهود يخوضون صراعاً مريراً ضد الإسلام، بسبب أنهم فقدوا الكثير من امتيازاتهم اللامشروعة عند مجيء الإسلام.

ومن هنا فقد كانوا يتآمرون باستمرار للقضاء على هذه الرسالة الجديدة، وقد وجدوا في (المنافقين) خير وسيلة لذلك.

3 - المنافقون يستهزئون بالمؤمنين

وحيث إن (رؤية) المنافقين للكون والحياة والإنسان رؤية تجزيئية، تتأطّر بإطار المادة المحدودة، ولا تنفذ إلى أعماق هذا الوجود لتدرك الحقيقة الكاملة - كما أوضحنا ذلك في الآية السابقة - لذا فقد كان المنافقون «يستهزئون» بالمؤمنين ويسخرون من مواقفهم وأعمالهم في

ص: 38


1- مجمع البيان 1: 110.

الحياة؛ لأنهم لا يستطيعون فهم حقيقة هذه المواقف، ولا إدراك واقع هذه الأعمال، ورُبَّ عمل حكيم يبدو مثيراً للسخرية إذا جُرد عن ملابساته، وتركزت النظرة عليه بشكل منفرد.

ولا يخفى ما في قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} من الحصر أي أنّ قولنا وعملنا هذا مع المؤمنين محصور في إطار (الاستهزاء) لا يتعدّاه إلى غيره، وقد مضى نظيره في قوله تعالى {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فراجع.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى - حكاية عن المنافقين - {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} تأكيداً لقولهم (إنّا معكم) أي أنّ إيماننا ليس إيماناً جاداً، فإن الإنسان قد يقول بالعمل وهو مؤمن به جادّ فيه، وقد يقوم به وهو غير مؤمن به، ولا جاد فيه، بل هو يظهر الموافقة، ويبطن المخالفة، للوصول إلى بعض المصالح والأغراض.

قال في التبيان: «(الاستهزاء): طلب الهزء بإيهام أمر ليس له حقيقة في من يُظَنّ فيه الغفلة، والهزء: ضد الجدّ»(1).

عقوبتان

أمّا عقوبة هذا الإستهزاء وهذه السخرية فهي التي تتضمنّها الآية التالية: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ}(2).

فهؤلاء كانوا يسخرون من المؤمنين في محاولة لتحطيم كرامتهم والحطّ من قيمتهم، وسوف يعاملهم اللّه سبحانه معاملة المستهزئ كعقوبة تتجانس

ص: 39


1- التبيان 1: 79.
2- البقرة: 67.

مع عملهم: فيحطّم كرامتهم ويحطّ من قيمتهم، وشتّان ما بين استهزاء عبد ضعيف حقير واستهزاء جبّار السماوات والأرض.

ف(استهزاء) اللّه سبحانه ليس على حقيقته، فإنّ الاستهزاء من فعل الجاهلين، قال اللّه تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(1) بل يعني أنه يعاملهم معاملة المستهزئ، فالمراد به (غاية الفعل) لا (مبدؤه) وقد مرّ توضيح ذلك فيما مضى(2).

وهذا الاستهزاء لا يختصُّ بالآخرة فقط، بل يشمل الدنيا أيضاً، فالمنافق - عادة - يعيش ذليلاً مهاناً حقيراً، لا يثق به أحد، ولا يطمئن إليه أحد حتى أقرب المقربين إليه، فيعيش حياة بائسة تعيسة لا فكاك له منها أبداً.

وعلى هذا.. فقوله تعالى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ} لا يعبر عن عقوبة أخروية فقط.. وإنما يعبر أيضاً عن سنة من السنن الإلهية أودعها اللّه سبحانه في الحياة.. {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(3).

وقيل: إنّ المراد بالاستهزاء أنه تعالى يجري عليهم حكم المسلمين في الظاهر، كإرثهم من المسلمين، ودفنهم في مقابرهم، وتزويجهم منهم إذا خطبوا، ونحو ذلك، في حين أعدّ لهم اليم العذاب في الآخرة بما أبطنوا من النفاق، يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ

ص: 40


1- البقرة: 67.
2- راجع تفسير قوله تعالى (بسم اللّه الرحمن الرحيم) في سورة (الحمد).
3- فاطر: 43.

تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}(1).

فهو تعالى كالمستهزئ بهم حيث أجرى عليهم أحكام المؤمنين في الدنيا، وميّزهم عنهم في الآخرة.

وقيل: إنه مسوق على ضرب من المجاز، والمراد بالاستهزاء جزاء الاستهزاء، وأُطلق عليه الاستهزاء لما بين الفعل وجزائه من الملابسة والسببية، أو من باب التجانس اللّفظي، فهو نظير قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(2).

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(3).

وقوله تعالى سبحانه {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}(4).

وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}(5).

وقيل: إنّ ضرر استهزائهم بالمؤمنين لما رجع إليهم، ولا يضرّ عملهم بالمؤمنين، صار كأنّ اللّه تعالى استهزأ بهم، فهو كما لو أخذ شخص يوجّه السهام نحو (زيد) فعملت عملا أعاد كلّ سهم إليه، وأخذ يصيبه في بدنه، فكأنّك قد استهزأت به.

ص: 41


1- النساء: 145.
2- الشورى: 40.
3- البقرة: 194.
4- النساء: 142.
5- آل عمران: 54.

وقيل: إنّ المراد أنه تعالى يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون، وقد روي عن ابن عباس أنّه قال في معنى (الاستدراج): أنهم كلمّا أحدثوا خطيئة جدّد اللّه لهم نعمة، وإنّما سمي ذلك استهزاءاً لأن ذلك في الظاهر نعمة وفي الباطن نقمة، وفي ذلك استدراج لهم إلى الهلاك الذي استحقّوه بما سلف من كفرهم.

قال في الكشاف: فإن قلت: فهلاّ قيل: (اللّه مستهزئ بهم) ليكون طبقاً لقوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}؟

قلت: لأنّ (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات اللّه فيهم وبلاياه النازلة بهم {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}(1).

وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتُّك أستار وتكشُّف أسرار، ونزول في شأنهم، واستشعار حذر من أن ينزل فيهم {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}(2).

هذه هي النتيجة الأولى.

أمّا النتيجة الأُخرى، فهي ما تكشفه الآية الكريمة بقولها: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

و(العمه) هو العمى، فهذا الموقف سيؤدّي بالمنافقين على مرور الأيام

ص: 42


1- التوبة: 126.
2- الكشاف 1: 188.

إلى العمى الكلّي، فلا يعودون يبصرون طريقهم في الحياة ويظلّون يتخبّطون في ظلمات مهولة بعضها فوق بعض، لا فكاك منها أبدا.

وهذه أيضاً سنة من سنن اللّه تعالى في الكون، فإنّ المرض النفسي ينمو بطبيعته إن لم يعالج ولم تُجتثَّ جذوره؛ طبقاً للمعادلات التي أودعها اللّه سبحانه في الكون، فهذا النفاق الدائم والسخرية المستمرة سوف يعمّقان مرض المنافقين الذي في قلوبهم، حتى ينتهي الأمر إلى نهايته الأليمة حيث العمى الكلّي، والضلال الشامل: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(1).

ويدل على هذا المعنى إضافة (الطغيان) إليهم: (ويمدُّهم في طغيانهم).. فالطغيان تحقّق منهم أوّلاً، والإمداد تحقّق من اللّه سبحانه ثانياً.

قال في الكشاف: فإن قلت: أيُّ نكتة في إضافته إليهم؟

قلت: فيها(2) إنّ الطغيان والتمادي في الضلالة ممّا اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وإنّ اللّه بريء منه، ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}(3) ونفياً لوهم من عسى يتوهّم عند إسناد المدّ إلى ذاته - لو لم يضف الطغيان إليهم - أنَّ الطغيان فعله، فلمّا اسند المدّ إليه على الطريق الذي ذكر، أضاف الطغيان إليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته، ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين أطلق

ص: 43


1- راجع لمزيد من التفصيل تفسير قوله تعالى (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم).
2- أي في إضافة الطغيان اليهم، ولولا ذلك لخلت هذه الإضافة عن الفائدة وللزم أن يقتصر على قوله تعالى (ويمدهم في الطغيان).
3- الأنعام: 148.

الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله {وَإِخوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}(1)(2).

وقيل: إنّ المراد بالمد المنع من الألطاف التي يمنحها اللّه تعالى للمؤمنين، فإنّهم لما أصروا على كفرهم منع اللّه تعالى ألطافة وخذلهم، فتزايد الرين والدنس في قلوبهم، ففي كلمة (المدّ) مجاز لغوي؛ إذ أُريد به منع اللُّطف، مع أنّ معناه اللُّغوي غير ذلك، وعلى هذا فلا تجوز في الإسناد، فتدبّر.

وقيل: إنّ المراد بالمدّ في الطغيان ترك القسر وعدم الإلجاء إلى الإيمان.

كما يقال: (أفسد الأمير الرعية) إذا تركهم وشأنهم.

وكما يقال: (إنّ الشرطة تمدّ المهرّبين) إذا غضّت الطرف عنهم. وإنّما يمدُّهم اللّه سبحانه بمقتضى كون الدنيا دار اختبار وامتحان، وذلك ممّا يتنافى مع القسر والإلجاء.

وقيل: إنّ المراد من (الإمداد) معناه الحقيقي، أي: الزيادة الحقيقية، وإلحاق الشيء بما يقوّيه ويكثّره، وهو فعل الشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *وَإِخوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} وإنّما نسب إلى اللّه تعالى، لأنه هو الذي أقدر الشيطان على الاغواء، ومكنّه من ذلك، وخلّى بينه وبين عباده.

وقيل: إنّ المراد ب(المدّ) هو المدّ في عمرهم، وإمهالهم، فهو مأخوذ من (المدّ) دون (المدد)، قال اللّه تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي

ص: 44


1- الأعراف: 202.
2- الكشاف 1: 190.

لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(1)، فتأمّل.

وقد مضى بعض ما يتعلّق بالمقام في قوله تعالى (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم)، فراجع.

سلاح (الاستهزاء)

أحد أفتك الأسلحة التي يشهرها المنافقون والكافرون والضالّون في وجوه المؤمنين هو سلاح السخرية والاستهزاء.

وقد استخدمت جبهة الباطل هذا السلاح تجاه جبهة الحقّ على طول التاريخ.

فالنبي نوح (عليه السلام) عندما بدأ يصنع الفلك بأمر من اللّه تعالى أخذ قومه يسخرون منه، ويقولون له: يا نوح كنت نبيّاً فأصبحت نجّاراً!

يقول اللّه تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌَ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ *فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}(2).

والنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعرّض للسخرية من قبل الكفّار والمنافقين.

يقول اللّه سبحانه {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ}(3).

ص: 45


1- آل عمران: 178.
2- هود: 38-39.
3- الأنبياء: 36.

ويقول سبحانه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}(1).

ولم تقتصر القضية على رسول دون آخر، بل شمل الاستهزاء جميع الرسل (عليهم السلام) .

يقول اللّه تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(2).

بل إن كل الأنبياء (عليهم السلام) تعرضوا للسخرية والاستهزاء.

قال اللّه تعالى {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(3).

وكما لم يسلم الأنبياء (عليهم السلام) لم يسلم المؤمنون من السخرية والاستهزاء.

يقول اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ *وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ *وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ *وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ}(4).

واليوم نجد الباطل يستخدم السخرية بالإسلام والمقدّسات والقيم الدينية كسلاح للتأثير على ذوي النفوس الضعيفة؛ إذ إنّ أهل الباطل لا يرتكزون على قاعدة منطقية رصينة في هجومهم على الدين فيضطرون إلى استخدام السخرية والاستهزاء.

ص: 46


1- التوبة: 65.
2- يس: 30.
3- الزخرف: 7.
4- المطففين: 29-32.

يقول الشهيد الشيرازي (رحمه اللّه) في موضوع استهزاء الأعداء بالشعائر الحسينية: «وأمّا ترك الشعائر الحسينية لضحك الأعداء منها فهذا يكشف عن انهزامية بالغة في نفوس هؤلاء الحزبيين، فهل ضحك الأعداء يبرّر التخلُّف عن ديننا وشعائرنا؟ ولقد كان الجاهلون والمنافقون ألذع سخرية وأكثر ضحكاً من الإسلام، غير أنّ النبيّ العظيم لم يعر سخريتهم من الأهتمام ما كان يعيرها لطنين الذباب، فمضى في سبيله لا يلويه شيء حتّى انتصر، وألقى القرآن ضوءا على واقعهم المتفسخ بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. ولقد سخر اليهود بالأذان وسخر المشركون بالسجود(1)، فلم تثن من عزم المسلمين شيئاً، بل ضربوا على ذلك النهج المستقيم، غير مبالين بعثرات غيرهم، حتى ادّخروا لنا التشيّع عبر الزوابع الهوج.

وحيث إن أعداء التشيّع ما ملكوا منذ اليوم الأوّل سلاحاً من العقل والدين لمحاربة التشيّع، لم يجدوا بّداً من التوسُّل بالاستهزاء - الذي هو سلاح المبطلين - لمطاردة التشيُّع، غير أنّ الحقّ - الذي مثلّه التشيع أكمل تمثيل - أقوى من أن يهزمه الاستهزاء، وكان الشيعة أصلب من أن ينال منهم

ص: 47


1- كما وسخر الملاحدة بمناسك الحج وقال ابن أبي العوجاء للإمام الصادق (عليه السلام) - ساخراً - إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون هرولة البعير إذا نفر؟ من فكّر في هذا وقدّر علم أن هذا فعل أسسّه غير حكيم، ولا ذي نظر (سفينة البحار 1: 211، 2: 283).

الحديد والنار، فكيف بالاستهزاء، وكان أئمتّهم يشجّعونهم على هذا الصمود، وقد دعا لهم الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «.. اللّهم إنّ أعداءنا عابوا علينا خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا». وقد دعا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على من يستهزئ بالشيعة على إقامة شعائرهم في حديثه لأمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: «.. وإنّ حثالة من الناس يعيّرون زوار قبوركم كما تُعيَّر الزانية بزناها، أُولئك شرار اُمتّي، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة».

ولكن، ما ضر الذين يقيمون شعائر دينهم أن يسخر منهم الجاهلون ما داموا يعلمون: أنهم على حقّ وأنّ أعداءهم على باطل ولقد شكوا عند الإمام الصادق (عليه السلام) استهزاء الأعداء بهم فقال - مهدّئاً روعهم: «واللّه لحظهم أخطاؤا، وعن ثواب اللّه زاغوا، وعن جوار محمّد تباعدوا».

وقال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرت فضل زيارة أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، هزأ بي ولدي وأقاربي، فقال (عليه السلام) «يا ذريح، دع الناس يذهبون حيث شاؤوا، وكن معنا».

وما قيمة الاستهزاء، حتى يميل الإنسان عن خطّه الصائب من أجله؟ وما قيمة المستهزئين أنفسهم حتى يعير لهم الإنسان اهتماماً؟ ولو كانت لهم قيمة لعلموا ما ينفعهم وينفع الناس، ولكن حيث لا قيمة ولا هدف، تواضعوا بأنفسهم فرضوا أن يكون مستهزئين، فحسبهم هذا الاعتراف العملي بفشلهم وبطلان اتّجاههم.

بالإضافة إلى أنّ موقفنا من الشعائر الحسينية يتركّز على قاعدة فكرية

ص: 48

وطيدة، ليس لنا الانحراف عنها، وإن تظاهرت قوى العالم ضدَّها، صحيح أن علينا أن نكّف ضحك الأعداء عنّا، ولكن بماذا يجب أن نكّف ضحكهم عنا؟ هل بالتخلّي عن واقعنا أو باستعراض فضائحهم حتى ينكمشوا على مغازيهم ولا يتطاولوا على مقدّساتنا؟ وهل لنا أن نأخذ بما يشاؤه الأعداء، أو بما يمليه علينا واقعنا؟ ثمّ هل الأعداء أقوى تنكيراً أم إبطال الإسلام؟ وإذا كانت الأجوبة على هذه الأسئلة تؤكّد على الأقسام الأخيرة من شِقَّي الترديد في الأسئلة، فلماذا يضطرب موقفنا بمجرّد ضحك الأعداء؟ وإذا كانت ثقتنا بالأعداء أكثر من ثقتنا بأئمتّنا، فعلينا أن ننبذ الإسلام كلَّه، ونعتنق مبادئ الأعداء؟! وإن كنّا نؤمن أكثر من أعدائنا فلماذا نتبّع أفعال أعدائنا؟ ولماذا لا نتمسّك بتعاليم أئمتّنا؟

وبعد هذا وذاك، علينا أن نعلم: أنَّ الأعداء يتربّصون بنا، فيشجّعون التوافه ويضحكون على العظائم، حتى نترك العظائم ونعيش التوافه، والأعداء عندما يضحكوم من شيء فإنّما يضحكون بعقولهم لا يعواطفهم، فلا يضحكون أبداً على نقاط الضعف؛ لأنّهم لا يخافون منها. وإنّما يضحكون دائماً على نقاط القوّة؛ لأنّهم يهابونها، فيحاولون القضاء عليها، فعلينا - متى أردنا السيادة - أن نستلهم واقعنا بنظرة مستقلّة تعي مكاسبها وخسائرها، ولا نلتفت مطلقاً إلى ما يفعله الأعداء».(1)

ص: 49


1- الشعائر الحسينية: 19-22.

روايات في المقام

1 - عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} إنه قال إنهم كهانهم.

{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي: على دينكم.

{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي: نستهزئ بأصحاب محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونسخر بهم في قولهم (آمنّا)(1).

2 - عن الإمام الرضا (عليه السلام) : «إنّ اللّه لا يسخر ولا يستهزئ، ولا يمكر ولا يخادع، ولكنّه تعالى يجازيهم جزاء السخرية، وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً»(2).

ص: 50


1- نور الثقلين 1: 35.
2- نور الثقلين 1: 35.

الآية 16

اشارة

الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا لضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}(1)

المفردات

{اُشْتَرَوُا}: الاشتراء هو الاستبدال، وقيل: هو الاستبدال مع رجاء الانتفاع، وفي الآية الكريمة استعارة؛ فكما أنّ الاشتراء فيه إعطاء شيء وأخذ آخر، كذلك كان استبدال أُولئك المنافقين الضلالة بالهدى.

{الضَّلاَلَةَ}: الانحراف، والخروج عن القصد.

{رَبِحَتْ}: الربح الزيادة على رأس المال.

الإعراب

(اولاء) اسم إشارة، مبني على الكسر في محل رفع، وهو مبتدأ.

و(الكاف) حرف خطاب. ولعل فائدته: تنبيه المخاطب.

و(الذين) خبر.

التفسير

بعد أن بيّن اللّه سبحانه في الآيات السالفة صفات المنافقين، يخلص في

ص: 51


1- البقرة: 16.

هذه الآية الكريمة إلى التقييم الكلّي لمسيرتهم في الحياة.

فيقول سبحانه: {أُولَئِكَ} أي المنافقون.

وإنّما استخدم القرآن الكريم كلمة {أُولَئِكَ} التي يشار بها إلى البعيد - عادةً - للدلالة على بُعدهم عن الحقّ والإيمان.

فأُولئك: {اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} .

استبدلوا الضلالة بالهدى فأعطَوا الهدى وأخذوا مكانه الضلالة وما أتعس معاملة يعطي فيها الإنسان الهدى ويأخذ مكانه الضلالة.

لقد كان الهدى بقربهم، فهم كانوا قرب الرسالة، وكانوا يرون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويشاهدون المعاجز والآيات، لكنّهم لم ينتفعوا بذلك.

لعلّه لم (يملك) غالبية المنافقين الهدى يوماً ما، ولكن كانوا (يملكون أن يملكوا) و(المِلك) و(ملِكُ الملِكَ)بمعنى واحد.

توضيح ذلك: إنّ الإنسان بالنسبة إلى (الملكية) على ثلاثة أنواع:

1 - فتارة: يملك الإنسان الشيء بالفعل.

2 - وتارة يملكه بالقوّة، بحيث يكون في استطاعته أن يملكه بالفعل.

3 - وتارة لا يملكه، ولا يملك أن يملكه، كالذين يعيشون في القفار النائية، ولا طريق لهم إلى الهدى أبداً.

وحيث إنّ المنافقين كان باستطاعتهم أن يملكوا الهدى، فكأنّهم قد ملكوه بالفعل.

إلا أنّ هؤلاء لم يستفيدوا من النور الذي كان بقربهم، وظلُّوا يعيشون في الظلام.

ص: 52

فهم كمن كانت بقربه دار مهيّأة للسكن، فتركها وتوغّل في مجاهيل الصحراء.

أو كانت لديه عين ماء عذبة فهجرها، واتّجه إلى المستنقعات الآسنة. ويحتمل أن يكون في الآية إشارة إلى (الهداية الفطرية) الكامنة في أعماق كلّ إنسان. فكل مولود يولد على (الفطرة).

كما ورد في الحديث الشريف(1) فهو يحمل في داخله قلباً نقيّاً ووجداناً طاهراً، يوجِّهه نحو الخير والإيمان.

إلاّ أن بعض الناس يسحق فطرته، ويدوس على وجدانه، حتى يلّف قلبه الظلام ولا يبقى فيه ولو بصيص من النور.

والمنافقون باعوا هذه الهداية الفطرية - التي أودعها اللّه سبحانه في أعماقهم - ليشتروا بدلها (الضلالة) حيث قتلوا كلّ إشعاعات النور في وجدانهم، ومسخوا فطرتهم، فلم تعد ترى طريق الهدى أبداً.

وقيل: المراد أنّهم أعطوا أنفسهم، وأخذوا مكان ذلك الضلالة، بينما كان الذي ينبغي أن يبيعوا أنفسهم في قبال الهداية، كما قال الشاعر:

أنفاسُ عُمْرِكَ أثمانُ الجِنانِ فلا***تشري بِها لَهَباً في الحَشْرِ تَشْتَعِلُ

وقيل: إنّهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفراً، فهم كانوا يبشرون بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويؤمنون به، فلمّا بعث كفروا به، فكأنّهم استبدلوا الكفر بالإيمان.

ص: 53


1- عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه» سفينة البحار 2: 373.

وقيل: إنّ الآية خاصّة بالمنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم.

ولكن ما هي النتيجة؟

عندما يقدم الإنسان على عمل، فإنّه يستهدف من وراء ذلك مغنماً معينّاً.

وهذا الهدف هو أوّل ما ينقدح في ذهن الإنسان ويحرّكه نحو تهيئة مقدماته الوجودية، وإن كان آخر ما يتحقّق في الخارج.

ومن هنا قيل: (إنّ العلّة الغائيّة علّة فاعلية العلّة الفاعلية).

والمنافقون حين اختاروا (الخط الثالث): (خطّ النفاق). فإنّما كانوا يهدفون القضاء على الإسلام، وتأمين السعادة لأنفسهم، تلك السعادة التي كانوا يجدون في الزحف الإسلامي خطراً عليها.

وقد خسروا هدفهم المنشود فالإسلام قد تقدم رغماً عن آنافهم، كما أصبحت حياتهم مليئة بالقلق والاضطراب والمشاكل بمقتضى قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

وبالإضافة إلى ذلك فقد خسر أُولئك المنافقون نعمة (الهداية) التي هي أعظم نعمة في هذا الوجود.

وهكذا خسر المنافقون دنياهم، وخسروا آخرتهم أيضاً {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} لأنّ أهدافهم الشيطانية قد مُنيت بالفشل الذريع.

{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فخسروا نعمة الهداية أيضاً.

وتبّاً لها من صفقة يخسر فيها الإنسان دنياه وآخرته، في حين كان

ص: 54


1- طه: 124.

بإمكانهم أن يربحوا الدنيا والآخرة معاً!

أقوال أُخَر

وقيل: إنّ المراد بقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أنهم ما كانوا مصيبين في هذه التجارة والاشتراء.

وقيل في معنى الآية: إنّ الذي يطلبه التجّار في تجارتهم شيءٌ: سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء المنافقون قد أضاعوا الأمرين معاً، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلاّ الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية، لأنَّ الضال خاسر هالك، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجّار البصراء بالأُمور، العالمون بموارد الربح والخسارة.

وعلى هذا فعدم ربحهم في تجارتهم المستفاد من قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} متفرّع على استبدالهم الضلالة بالهدى المستفاد من قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} فإنّ خسارة رأس المال في التجارة يترتّب عليها انتفاء الربح، وهؤلاء لمّا خسروا الهدى - حين استبدلوا الضلالة بها - لم يربحوا في تجارتهم شيئاً.

وأمّا قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين حتى يكون تكراراً لما سبق، بل لمّا وُصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير في الآية الكريمة إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة كما يهتدي إليها التُّجار البصراء بالأُمور التي يربح فيها ويخسر، فهؤلاء ما كانوا مهتدين للمنهج الصحيح في التجارة، وما كانوا عارفين بالأُسلوب الأمثل في التعامل

ص: 55

مع الأُمور وكيف يكون مهتدياً من يضيّع الحياة الأبدية لنزوات عابرة؟ بل يضيّع حياته الدنيا أيضاً، بالقلق والاضطرابات والمشاكل الدائمة، كما يقتضيه قول اللّه تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(1).

وهذا القول يأباه ظهور الآية، واختبر الأمر بنظائره فتأمّل.

رواية في المقام

عن العالم (عليه السلام) إنه قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ} باعوا دين اللّه، واعتاضوا منه الكفر باللّه {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة، لأنّهم اشتروا النار وأصناف عذابهم بالجنّة التي كانت مُعدّة لهم لو آمنوا، وما كانوا مهتدين إلى الحقّ والصواب(2)

ص: 56


1- طه: 124-125.
2- البرهان 1: 64.

الآيات 17-20

اشارة

الآيات{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ خْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1)

المفردات

{مَثَلُهُمْ}: حالهم وشأنهم. والمقصود في هذا المثل تشبيه الحال بالحال لا الذات بالذات، فلا يلزم فيه رعاية التطابق بين الأفراد والتثنية والجمع ونحو ذلك، فلا يقال: (لِمَ لمْ يقل مثلهم كمثل الذين استوقدوا ناراً) وقيل: إنّ لفظ (الذي) قد يوضع موضع الجمع كقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(2). وقيل: أراد ب(الذي) الجنس؛ إذ لا يراد به الإشارة إلى شخص بعينه.

{اُسْتَوْقَدَ}: أوقد وأشعل، أو طلب الوقود كالحطب ونحوه.

ص: 57


1- البقرة: 17-20.
2- الزمر: 33.

{أَضَاءَتْ}: الإضاءة كما قيل: كثرة الإنارة، قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}(1).

ولعلّ السبب في ذكر (النُّور) في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} .

مع أنّ السياق يقتضي أن يقول: (بضوئهم) هو أنّ في الضوء دلالة على الزيادة، فلو قيل (بضوئهم) لأوهم الذهاب بالمرتبة العليا من النور، مع بقاء أصل النور، بينما المراد هو إزالة النور عنهم رأساً، وإذهابه عنهم بالمرّة، ألا ترى كيف ذكر عقيبه {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} وكيف جمع الظلمات؟ وكيف نكرّها؟ وكيف أتبعها؟ ما يدلُّ على أنّها ظلمة خالصة، وهو قوله تعالى: {لاَ يُبْصِرُونَ} كذا قيل، فتدبّر.

{وَتَرَكَهُمْ}: صيّرهم.

{صُمٌّ}: جمع (أصم) وهو الذي لا يسمع.

{بِكُمْ}: جمع (أبكم) وهو الذي ولد أخرس لا يستطيع النطق.

وقيل الأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فَهِمَ فهو الأخرس.

{عَمىً}: جمع (أعمى) وهو الذي فقد حاسّة الإبصار، وقد يطلق ذلك على (أعمى البصيرة) أيضاً.

{أَوْ}: بمعنى الواو - وهنالك احتمالات أُخر في هذه الكلمة.

{كَصَيِّبٍ}: الصيّب: المطر، أو المطر الغزير.

{السَّمَاءِ} جهة العلوّ.

ص: 58


1- يونس: 5.

{وَرَعْدٌ}: الرعد: صوت السحاب.

{بَرِقَ}: البرق الضوء اللاّمع في السحاب.

{الصَّوَاعِقِ}: الصاعقة النار النازلة من السحاب.

{حَذَرَ الْمَوْتِ}: الحذر طلب السلامة ممّا يخاف منه.

{مُحِيطٌ}: الإحاطة حصار الشيء من كلّ جهة، بحيث لا يستطيع الإفلات.

{يَكَادُ}: يقارب.

{يَخْطَفُ}: الخطف أخذ الشيء بسرعة.

{قَامُوا}: وقفوا في أماكنهم ولم يتحرّكوا.

الإعراب

{كَمَثَلِ} جار ومجرور متعلِّق بمحذوف خبر للمبتدأ {مَثَلُهُمْ} وتقديره (كائن) ونحوه.

{مَا} اسم موصول، مبني على السكون في محل نصب على أنّه مفعول به لأضاءت.

{حَوْلَهُ} صلة ما، منصوب على الظرفية المكانية.

{فِي ظُلُمَاتٍ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف هو مفعول ثان ل(ترك) وتقديره (ضائعين) أو (تائهين) أو نحو ذلك.

{لاَ يُبْصِرُونَ} حال من الضمير المنصوب في (تركهم) أي تركهم حال كونهم غير مبصرين. ويجوز أن تكون هذه الجملة مفعولاً ثانياً ل(ترك) فيتعلّق الجار حينئذٍ بالفعل (ترك) ولا يكون مفعولاً ثانياً.

ص: 59

{صُمٌّ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم).

{بُكْمٌ} خبر ثان.

{عُمْيٌ} خبر ثالث.

{مِنَ السَّمَاءِ} متعلّق بمحذوف، نعت أوّل ل(صيّب) تقديره كائن أو شبهه.

{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} ظلمات مبتدأ مؤخّر و(فيه) جار ومجرور متعلّق بخبر مقدّم محذوف تقديره (كائنة) أو نحوه، والجملة في محلّ جر نعت ثان ل(صيِّب).

{مِنَ الصَّوَاعِقِ} (من) هنا للسببية، وهو في موضع المفعول لأجله.

{حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول لأجله، أو مفعول مطلق أي: يحذرون حذر الموت، أي مثلَ ذلك الحذر.

{يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} هذه الجملة في محلّ نصب، خبر يكاد.

{كُلَّمَا} ظرف زمان متعلّق ب- {مَشَوْا}.

النزول

قيل: إنّ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا} نزل في اليهود وانتظارهم خروج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به.

وذلك أنّ بني قريظة وبني النظير وبني قنقاع قدموا من الشام إلى (يثرب) (المدينة المنورة) ليكونوا أعواناً للنبي الجديد. وكان يأتيهم رجل من بني اسرائيل يقال له (عبد اللّه بن هيبان) - قبل أن يوحى إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كلّ

ص: 60

سنة، فيحضّهم على طاعة اللّه عزّ وجلّ وإقامة التوراة والإيمان بمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويقول لهم: إذا خرج فلا تتفرّقوا عنه وانصروه، وإن كنت أطمع أن أُدركه. فكانوا يقبلون منه. فلمّا بعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وكان ابن هيبان قد تُوفّي حينئذٍ - كفروا بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فضرب اللّه لهم هذا المثل.

وقيل في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}: إنّ رجلين منافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأصابهما مطر فيه رعد وصواعق وبرق، وكانا يجعلان أصابعهما في آذانهم مخافة الموت، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع وقفا في مكانهما ولم يبصرا شيئاً، فجعلا يقولان: يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمّداً فنضع أيدينا في يديه.

فأصبحا فأتياه فأسلما وحسُن إسلامهما، فضرب اللّه تعالى شأن هذين الرجلين مثلاً لمنافقي المدينة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} فهؤلاء المنافقون إذا حضروا عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جعلوا أصابعهم في آذانهم خوفاً من أن ينزل فيهم شيئاً يفضحهم، كما كان ذانِكَ الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وكلّما أصابوا غنيمة أو فتحاً وكثرت أموالهم وتيسَّرت أُمورهم مشوا فيه، وقالوا: دين محمّد صحيح، وإذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمَّد فارتدوا كما كان يفعل ذانك الرجلان حين يظلم البرق عليها.

قيل في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} إنّه نزل في اليهود، لمّا انتصر المسلمون في غزوة (بدر) قالوا: هذا الذي بشرّ به موسى. فلمّا نُكِبَ المسلمون في غزوة (أُحد) وقفوا وشكّوا.

ص: 61

التفسير

في هذه الآيات الأربع يضرب اللّه سبحانه مثلين للمنافقين، تقريباً لواقع حالهم إلى الأذهان.

المثال الأوّل: العمى بعد المعرفة

المثال الأوّل؛ يتعلّق بعمى المنافقين عن الحقّ بعد معرفتهم له:

وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {مَثَلُهُمْ} مثل هؤلاء المنافقين {كَمَثَلِ الَّذِي} اكتنفته ظلمات الليل البهيم فلم يعد يميّز الخير من الشرّ، ولا النافع من الضار، ولا الخطوة التي فيها نجاته من الخطوة التي فيها هلاكه، ف- {اُسْتَوْقَدَ

نَارًا} أي: أوقدها ليتعرّف على الطريق، ويجد على ضوء النار التي أوقدها: هدى.

وصيغة (الاستفعال) هنا مجرّدة عن معنى الطلب، فهي بمعنى صيغة (الإفعال) ف- {اُسْتَوْقَدَ} بمعنى (أوقد) كما أنّ كلمة (استجاب) بمعنى (أجاب).

وقيل: إنّ {اُسْتَوْقَدَ} بمعنى (طلب الوقود) كالحطب ونحوه.

فلمّا {أَضَاءَتْ} النار {مَا حَوْلَهُ} وغمر الضوء الشديد أطرافه، وتبينّت له معالم الطريق.

هبّت ريح - أو نحوها - واُطفئت النار الموقدة، ولم يبق لها أيّ أثر، فاختفت من أمام ناظريه المعالم، وغرق في بحر من الظلمات.

وهكذا المنافقون، إنّهم تعرَّفوا على (الحق) - المتمثّل في رسالة الإسلام - بنور عقولهم، وكان بإمكان هذا النور أن يستمر ليخلّصهم من ظلمات

ص: 62

الحياة، إلاّ أنّهم استسلموا لضغوط الهوى وضغوط المجتمع وضغوط الطواغيت، وسحقوا ضمائرهم فكان أثر ذلك أن {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}(1) فلم يعودوا يستفيدون من نور (الحجّة الباطنة) (العقل) إذ:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بِطَوع ِهَوىً***وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويراً

وعندما يذهب النور يستولي على الأُفق الظلام، ولا يعود الإنسان يبصر - عندها - شيئاً.

ومن هنا يقول القرآن الكريم: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} أي: صيرّهم فيها، فهم {لاَ يُبْصِرُونَ} ما حولهم ولا يهتدون إلى سواء السبيل.

وعندما يستمرُّ الظلام ولا يتخلّص منه الإنسان يتجذّر ويتحوّل إلى صفة لازمة.

إنّ (الضلال العرضي) - المتمثّل في فقدان النور - يتحوّل إلى (ضلال ذاتي) - متمثّل في الطبع على الاسماع والألسنة والأبصار - فهم (صمّ) لا يسمعون الحقّ.

{بُكْمٌ} لا ينطقون به، ولا يستطيعون أن يستفهموا عنه.

{عُمْيٌ} لا يبصرونه.

وفي قوله تعالى: {صُمٌّ

بُكْمٌ عُمْيٌ} تنزيل لفقدان الوصف منزلة فقدان الأصل، وقد سبق بيانه في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى

ص: 63


1- في مرجع الضمير في قوله تعالى: {بِنُورِهِمْ} وما بعده احتمالان: أن يرجع إلى المنافقين، وأن يرجع إلى الذي استوقد ناراً، راجع ذلك في الكشاف 1: 199-200.

سَمْعِهِمْ}(1).

ويُحتمل أن يكون مجازاً حيث استُعير عمى الأبصار لعمى البصائر. وهكذا في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ}، فتأمّل.

وعندئذٍ ينتهي كلُّ أمل؛ إذ لا سمع لهم ليسمعوا الحقّ ولا بصر لهم ليبصروا، ولا لسان لهم ليتكلّموا أو يستفهموا.

فمن أين يهتدي هؤلاء إلى الطريق؟

{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن ضلالهم، وإنّما سيظلّون فيه حتّى النهاية.

و«الفاء» في قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} للإشارة إلى أنهم حين صموا وبكموا وعموا لم يُرجَ فيهم الخير، فإنّه {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ}(2)(3).

أقوال أُخر

قيل: إنّ المراد تمثيل حال المنافق بمن أشعل ناراً ليستضيء بها ويدفأ، فلمّا أضاءت النار من حوله واستضاء بها واستدفأ ورأى ما حوله فاتّقى ممّا يحذر وأمن ممّا يخاف، وإذا بريح تهبّ، فتطفئ النار، ويظل في الظلمات، وإنّما كان هذا مثلاً للمنافقين، لأنّ المنافق يعبّد بإيمانه الظاهري لنفسه سبيل الحياة.

فيشترك مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغنائمهم ونحو ذلك، ويأمن على أمواله وأولاده ونفسه، فإذا حان حين الموت وقبض اللّه تعالى

ص: 64


1- البقرة: 7.
2- الأنبياء: 45.
3- تقريب القرآن 1: 47.

روحه - وهو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الإيمان - ذهب اللّه بنوره، وأبطل عمله، وتركه كسائر الكفّار في نار وعذاب، وخوف واضطراب، حين يقبض اللّه تعالى أرواح المؤمنين إلى نور أوسع ورحمة أكبر(1).

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(2).

وقال سبحانه: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}(3).

ثم لا يخفى أنّ في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} دلالة على أنّ انتفاع هؤلاء بهذه النار كان يسيراً؛ إذ إنّ المنافع الدنيوية الآنيّة بالإضافة إلى العذاب الدائم ليست إلاّ قليلاً، فَشُبّه هؤلاء بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلاً ثمّ سُلِبَ ذلك، فدامت حسرته وحيرته للظلمة التي جاءته في أعقاب ذلك النور(4).

وقيل: إنّ أناساً دخلوا في الإسلام عند وصول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة ثم أنّهم نافقوا، فبإيمانهم أوّلاً اكتسبوا نوراً، ثمّ بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في بحر الظلمات.

وقيل: إنّهم لمّا وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى في الآية السابقة،

ص: 65


1- تقريب القرآن 1: 46-47؛ الميزان 1: 56؛ مجمع البيان 1: 118.
2- النساء: 145.
3- الحديد: 13.
4- التفسير الكبير 2: 81.

عقّب ذلك بهذا التمثيل، ليمثّل هداهم الذي باعوه، بالنار التي تضيء ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب اللّه بنورهم وتركهم إيّاهم في الظلمات.

وقيل: إنّ الآية الكريمة نزلت في اليهود وانتظارهم لبعثة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به وقد سبق تفصيله في بحث (النزول).

وقيل: إنّ تشبيه المنافقين بالمستوقد ناراً باعتبار أنّهم غِبَّ الإضاءة خبطوا في الظلمة وتورّطوا في الحيرة.

المثال الثاني: الخسارة بدل الربح

أمّا المثال الثاني، فهو يتعلّق بخسارة المنافقين بدل الربح.

وأساساً نقول: إنّ كلّ شيء نافع خلقه اللّه سبحانه يمكن أن يتحوّل إلى عنصر هدم إذا أساء الإنسان العمل.

فالكهرباء وسيلة نافعة في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، كإعطاء الدفء في الشتاء القارس، وإعطاء البرد في الحرّ اللاّهب، وتحريك المعامل الضخمة التي تخدم حياة الإنسان، ولكنّ هذه الوسيلة بذاتها يمكن أن تتحوّل إلى آلة لقتل الحياة والإحياء فيما إذا اُسيء التعامل معها.

والذرّة يمكن أن تكون عامل بناء في الوقت الذي يمكن أن تصبح فيه معول هدم. وهكذا.

ولنعد إلى الآية الكريمة: فهي تتناول ظاهرة (المطر) وظواهر طبيعية أُخرى.

ص: 66

إنّ المطر عامل بناء للحياة فهو يسقي الحقول وينبت الزروع ويحيي الأراضي الميتّة ويروي الظامئين... و...

ولكنّ هذا المطر الذي هو وسيلة خير ورحمة في النظام الكوني... يمكن أن يتحوّل إلى أداة هدم للحياة إذا أُسيء التصرُّف معه.

وهكذا الأمر في الظواهر الطبيعية الأُخرى المصاحبة للمطر.

وإلاّ تحوّل المطر بذاته إلى سيل مدمّر يهدم الحياة وكاد البرق يخطف أبصارنا، والرعد يصمُّ آذاننا، والصواعق تصيبنا بالموت.

وهكذا حال المنافقين تجاه (الحجّة الظاهرة) (الرسالة الجديدة) إنّهم لم يستفيدوا من هذه الرسالة، بل تضرّروا بها - بسبب سوء اختيارهم - أبلغ الضرر.

يقول القرآن الكريم في هذا الأمر: (أو) مثل آخر يصوّر حال المنافقين تجاه (الحجّة الظاهرة) أي: الرسول، بعد أن كان المثال الأوّل يصوّر حال المنافقين تجاه (الحجة الباطنة) أي: العقل.

(كصيّب) مطر يهطل (من السماء) من جهة العلو.

(فيه) في هذا المطر لوازم طبيعية تكتنفه وتحيطه، من: (ظلمات) متكاثفة: ظلمة السحاب الذي يحول بين النور والأرض فيظلم الجوّ، وظلمة المطر، وظلمة تراكم السحب بعضها فوق بعض (و) فيه (رعد) قاصف (و) فيه (برق) خاطف.

ولكن ما هو موقف المنافقين تجاه ذلك؟

إنّه موقف يثير السخرية، فهم يحاولون درء الخطر عن أنفسهم بوضع

ص: 67

أصابعهم في آذانهم بدل أن يلجأوا إلى حصن حصين.

فهم {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ} لا (أناملهم) ولا (بعض أناملهم) ولا يخفى ما في هذا التعبير من الدلالة على أنهم يحاولون إقحام أصابعهم بقوّة في آذانهم من شدّة الرعب(1).

{فِي آذَانِهِمْ مِنَ} خشية {الصَّوَاعِقَ}.

لماذا يفعلون ذلك؟ {حَذَرَ الْمَوْتِ} فإنّ الصوت الشديد ربّما ينتهي بالإنسان إلى الموت.

صحيح أنّ ذلك يخفِّف بعض الصدمة عنهم؛ لأنّهم - عندئذٍ- لا يسمعون بعضاً من صوت الصواعق، لكنّ ذلك لا يكفي لدرء الخطر عنهم؛ إذ إنه محيط بهم قطعاً، فإنّ الأصوات سوف تتناهى إلى سمعهم، وتخلق فيهم الذعر والخوف، بالإضافة إلى أنّ الصاعقة قد تصيبهم وهم في العراء لم يلجأوا إلى ركن وثيق، فتهلكهم وتحوّلهم إلى حطام محترق.

{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} إحاطة قدرة وعلم.

قال اللّه سبحانه {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}(2).

وقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}(3).

فلا يتوهّم هؤلاء أنهم يستطيعون إخفاء نواياهم عن اللّه سبحانه، أو أنّهم

ص: 68


1- وتسمّى هذه العلاقة في علم البلاغة ب- «علاقة الكل والجزء». راجع المطول والمختصر وجواهر البلاغة وغيرها من الكتب البلاغية.
2- الطلاق: 12.
3- البروج: 20.

يستطيعون الفرار من يد القدرة الإلهية.

إذا كان الخطر متوجّهاً إلى الفرد من جهة واحدة يمكنه أن يفرّ من الجهة الأُخرى، ولكن إذا كان الخطر محيطاً بالفرد من كل جهة فأين يفر؟!.

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يستلبها من شدته.

{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} البرق ورأوا طريقهم على ضوئه.

{مَشَوْا فِيهِ} أي في نطاق هدى ضوئه.

{وإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} ولم يبرق.

{قَامُوا} في أماكنهم - أي وقفوا ولم يتحرّكوا - .

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} لزاد في قصف الرعد أو ضوء البرق.

{لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} بصاعقة قوّية تصمهم.

(و) ب- {أَبْصَارِهِمْ} ببرق قوي يعميهم.

{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يمكن الفرار من بأسه بجعل الأصابع في الآذان، أو وضع الأيدي على العيون، أو ما أشبه ذلك.

وجوه أُخَر

2 - وقيل: إنّ الفرق بين المثالين: أنّ المثال الأوّل كان مثالاً للمنافق نفسه، وهذا المثال مثال الحقّ الذي يغمر المنافق، لكنّه لا ينتفع به، وتوضيح المثال بتطبيقه على المورد:

إنَّ (الصيِّب) هو الحقُّ النازل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

و(البرق) هو ما تقدّم المسلمين، وما يسبّب لهم إنارة الطريق.

ص: 69

و(الرعد) و(الصواعق) إيعادات الرسل، والأهوال المكتنفة بالدعوة.

والمنافقون كمن ابتُلي بهذا الصيِّب في الصحراء، فالحقُّ كالمطر فيه الحياة، لكن فيه ظلمات غلبة الكفّار وذهاب الأنفس والأموال والثمرات، وفيه برق ينير طريق الحياة السعيدة، وفيه رعد وصاعقة: متمثّلة في إيعادات الرسول وفضحهِ للمنافقين.

وهؤلاء المنافقون تكاد سرعة تقدّم المسلمين تعميهم، كلمّا أضاء لهم بأن غلبوا في الحرب، وحصلوا على الغنائم، اتّبعوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإذا أظلم عليهم بأن غلب عليهم الكفّار، وقفوا في مكانهم لا يعملون ولا يتقدّمون - كما قال اللّه سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

وهم يخافون الفضيحة إن نزلت آية في شأن المنافقين، فيجعلون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوها، أو يتغافلون عنها، كي لا يرى أثر الانهزام في وجوههم، فإنّ الإنسان المجرم إذا سمع ما يمسّ إجرامه ظهرت الصفرة وآثار الانهزام على وجهه، لكنّ اللّه قادر على إماتتهم، كما هو قادر على فضحهم، والذهاب بسمعهم وبصرهم، فليسوا هم في راحة من نفاقهم - كما زعموا - بل هم في أشد ابتلاء ومحنة(2).

3 - وقيل: إنه تمثيل لحال المنافقين بالذي أخذه صيّب السماء ومعه ظلمة

ص: 70


1- الحج: 11.
2- تقريب القرآن 1: 47-50.

تسلب عنه الإبصار والتمييز، فالصيّب يضطره إلى الفرار والتخلص، والظلمة تمنعه ذلك، والمهولات من الرعد والصاعقة محيطة به، فلا يجد مناصاً من أن يستقيد من البرق وضوئه، وهو غير دائم ولا باق متصل، كلّما أضاء له مشى، وإذا أظلم عليه قام.

وهذه حال المنافق، فهو لا يحب الإيمان، ولا يجد بداً من إظهاره، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه، لا يستضيء له طريقهُ تمام الاستضاءة، فلا يزال يخبط خبطاً بعد خبط، ويعثر عثرة بعد عثرة، فيمشي قليلاً، ويقف قليلاً. ويفضحه اللّه بذلك، ولو شاء اللّه لذهب بسمعه وبصره، فيفتضح من أول يوم(1).

4 - وقيل: إنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء. وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر. وما فيه من البرق بما فيه من البيان.

وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلاً، والدعاء إلى الجهاد عاجلاً.

5 - وقيل: إنه مثل للإسلام، لأن فيه الحياة، كما أن في المطر الحياة.

وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر.

ومافيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل، وبما يخافونه من وعيد الآخرة - لفرض أنهم شاكّون في دينهم - .

وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم

ص: 71


1- الميزان 1: 56.

وموارثتهم. وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل.

6 - وقيل: إنه شبه دين الإسلام ب(الصيّب) لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأرض بالمطر.

وشبه ما يتعلّق به من شبهات الكفّار بالظلمات.

وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد.

وما يصيب الكفرة من الفتن من المسلمين: بالصواعق.

وهم في اضطراب فاحش وخوف وقلق، كما قال سبحانه: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}(1).

فقد فتح اللّه تعالى عليهم أبواب الحكمة فاعترضوا ذلك بالشّبَه والأوهام {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}(2) فحصل بعد ذلك العلم الإلهي ظلمات وحيرة...

7 - وقيل: إنه مثل يصوّر حال المنافقين ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة، وهو مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء.

صيّب من السماء هاطل غزير {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} .. {وإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي: وقفوا حائرين لا يدرون

ص: 72


1- المافقون: 4.
2- الجاثية: 17.

أين يذهبون... وهم فزعون {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} .

والحركة التي تغمر المشهد كلّه: من الصيّب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يخيم الظلام.

إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثير الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والتأرجح التي يعيش فيها أُولئك المنافقون بين لقائهم للمؤمنين وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة، بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيؤون إليه من ضلال وظلام، فهو مشهد حسّي يرمز لحالة نفسية، ويجسّم صورة شعورية. وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس وكأنّها مشهد محسوس.

ونظيره ما قيل: إنّ هذا المثل مسوق لبيان شدّة حيرة المنافقين، فإن من ابتلي بمثل هذا المطر فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافات.

وقد حصل في المنافقين نهاية الحيرة في شؤون الدين، ونهاية الخوف في شؤون الدنيا، لأنهم يخافون انكشاف ما يضمرونه في كلّ حين: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}(1). {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}(2).

ص: 73


1- التوبة: 64.
2- المنافقون: 4.

وعلى هذا يكون المفاد العام لهذا التمثيل والتمثيل المتقدّم واحداً - بناءاً على الوجه الأخير الذي ذكرناه آنفاً -.

قال في الكشاف: «فإن قلت: أيُّ التمثيلين أبلغ؟

قلت: الثاني؛ لأنه دلّ على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أُخّر، وهم يتدرّجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.

فإن قلت: لِمَ عُطف أحدُ التمثيلين على الآخر بحرف الشكّ.

قلت: (أو) في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتّسع فيها فاستُعيرت للتساوي في غير شك، وذلك قولك: «جالس الحسن أو ابن سيرين» تريد أنّهما سيّان في استصواب أن يجالَسا، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}(1).

أي: الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} معناه أنّ كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين، وأنّ القصتين سواء في استقلال كلّ واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيّتهما مثّلتها فأنت مصيب، وان مثلتها بهما جميعاً فكذلك»(2).

فوائد

1 - في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مزية على قولنا: (أذهب اللّه نورهم) وذلك أنّ معنى (أذهبه) أزاله وجعله ذاهباً، بينما معنى (ذهب به) استحصبه ومضى به معه. ويقال: (ذهب السلطان بماله) أخذه وقال اللّه تعالى:

ص: 74


1- الإنسان: 24.
2- الكشاف 1: 213-214.

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ}(1). والمعنى أخذ اللّه نورهم وأمسكه {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} فهو أبلغ من الأذهاب(2).

2 - في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} دلالة على أنّ هذا المطر عام مطبق آخذ بآفاق السماء، ولو اقتصر على قوله {أَوْ كَصَيِّبٍ} لاحتُمل أن يكون ذلك الصيّب نازلاً من بعض جوانب السماء دون بعض(3).

3 - قال في الكشّاف: فإن قلت: كيف قيل مع الإضاءة: {كُلَّمَا} ومع الاظلام: {إِذًا}؟

قلت: لأنّهم حُرّاص على وجود ما همُّهم به معقود، من إمكان المشي وتأتّيه، فكلّما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقّف والتحبّس(4).

الأمثال في القرآن الكريم

لقد أكثر اللّه سبحانه من ضرب الأمثال في القرآن الكريم، قال اللّه سبحانه: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(5).

وهنالك عوامل وراء ذلك نذكر منها - على سبيل الاحتمال - :

1 - هنالك الكثير من الحقائق تقع ضمن دائرة (الغيب) ولا سبيل للحواس

ص: 75


1- يوسف: 15.
2- الكشاف 1: 200.
3- التفسير الكبير 2: 87.
4- الكشاف 1: 220.
5- إبراهيم: 35.

إلى إدراكها إدراكاً ماديّاً حسيّاً، وحيث إنّ غالبية البشر تأنس بالمحسوسات أكثر من اُنسها بالمعقولات؛ لذا يكون (المثل) عاملاً مهمّاً في توضيح المقصود، وتقريب المراد إلى الأذهان.

2 - الأمثال باعتبارها تخاطب عواطف الإنسان يكون لها من التأثير في التحريك نحو المطلوب ما لا يكون في الفكرة المجرّدة عن المثل.

3 - في إفحام الخصم المعاند وتبكيته وكسر سورته ورد عاديته، للمثل دور كبير قد لا يوجد في غيره.

لاحظ الرواية التالية: عن الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا.

فقال أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا رسول اللّه، هذا في مسجدك؟

فقال: دعوهم.

فلمّا فرغوا دنوا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا له: إلى ما تدعونا؟

فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأنّي رسول اللّه وأنّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.

قالوا: فمن أبوه؟

فنزل الوحي على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟

فسألهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: نعم.

قال: فمن أبوه؟

ص: 76

فبهتوا.

فأنزل اللّه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1)(2).

لو أننا قلنا في مقابل مسيحي يسألنا: من والد عيسى (عليه السلام) ؟ ليتّخذ من ذلك ذريعة إلى كونه إلهاً. لو قلنا: إن ذلك أمر يسير على القدرة الإلهية. ربما لم يقتنع، وربما سلك طريق اللّجاج والعناد، ولكن عندما نقوله له: هل تعترف بأن آدم (عليه السلام) ولد من غير أب ولا أُم؟ فإنه سوف يجيب ب- : نعم، فنعود لنسأله: وكيف يكون الذي ولد من غير أب إلهاً، ولا يكون الذي ولد من غير أب ولا أُمّ إلهاً؟ عندها سوف يقتنع - إن كان طالباً للحقيقة - وتنكسر شوكته - إن كان معانداً -.

أركان المثال

1 - الأصل: وهو (الممثّل به) كآدم (عليه السلام) في المثال المذكور.

2 - الفرع: وهو (الممثَّل) كعيسى (عليه السلام) في المثال.

3 - الجامع: وهو العنصر المشترك الذي يجمع بين الأصل والفرع، كالولادة على غير النحو المعتاد في المثال.

4 - الحكم: وهو إيقاع التشبيه بين الأصل والفرع... واستنتاج النتيجة المترتّبة على ذلك.

وفي المثل مباحث مفصّلة ربما نتعرّض لها في المباحث القادمة إن شاء

ص: 77


1- آل عمران: 59.
2- البرهان 1: 285-286.

اللّه تعالى.

تذييل

ذكروا أن الأرض وكلّ ما عليها مشحونة بكهربائية سالبة، والجو مشحون بكهربائية موجبة، وحيث إنّ السحب تتكون من بخار الماء فما يتكون منها في الجو الأعلى يكتسب كهربائية موجبة مثل كهربائية الجو، وما يتكون منها قريباً من الأرض يكتسب كهربائية سالبة، فإن اتّفق مرور سحابة من السحب العلوية ذات السحابة الموجبة فوق سحابة ذات كهربائية سالبة حصل بينهما تجاذب - لأن الجسمين المتكهربين بكهربائيتين مختلفتين يتجاذبان.

ولا يزالان كذلك حتى تقرب إحداهما من الأُخرى قرباً لا يمكن معه أن تبقى كهربائيتاهما مستقلتين، فتتحدان ومتى اتحدت كهربائيتان ببعضهما نتج من ذلك ثلاث ظواهر طبيعية: حرارة، وصوت، وضوء.

أمّا الحرارة فهي شرارة كهربائية تتولد من اتحاد الكهربائيتين وتخترق الجو بسرعة هائلة، فتنزل إلى الأرض، فتحرق الأشجار وتحرق السفن وتهدم السقوف وتذيب الحديد وتقتل من تصيبه من الناس، وهي ما يسمونه (الصاعقة).

وتكون تلك الشرارة كبيرة أو صغيرة على حسب حجم السحابتين.

وأمّا الصوت فينشأ من اتحاد الكهربائيتين فجأة في الجو وسريان صوت الشرارة في الهواء، ويكون شديداً أو ضعيفاً على حسب قربه من الأرض وحجم السحابتين، وهذا ما يسمى ب(الرعد)، فالرعد هو صوت الشرارة الكهربائية التي تخترق طبقات الجو.

ص: 78

وأمّا الضوء فهو وميض ينشأ من سريان الشرارة الكهربائية في الجو بسرعة، وهو ما يسمّى ب(البرق).

وقد توصل بعض العلماء إلى إحداث صاعقة بواسطة (بالون) كهربه بكهربائية مخالفة لكهربائية السحب، وإطاره وهو ماسك له إلى بعد مناسب من الجو، فحصل بينه وبين السحابة التي كانت إزاءه ما يحصل عادة بين (سحابتين) أو (سحابة وجسم مرتفع) من التجاذب، وانتهى الأمر باتحاد كهربائية البالون بكهربائية السحابة، وحدث من ذلك الاتحاد شرارة كهربائية هي (الصاعقة) فنزلت بجواره، وكادت تصيبه، وسمع له صوت شديد هو الرعد(1).

وقد ذكرت بعض الروايات: أنّ حدوث البرق والرعد والصواعق معلول لفعل الملائكة.

قال السيد السبزواري (قدس سره) : «والظاهر أن ذلك لم يكن من الاختلاف في الحقيقة، فإن لكلّ شيء من موجودات هذا العالم أسباباً معدّات، ومقتضيات وشروطاً قد أدرك العقل بعضها ولم يدرك الآخر بعد. وأنبياء اللّه تعالى وأولياؤه - حيث إنّهم يرون أن جميع الحوادث تستند إليه عزَّ وجلّ والملائكة المدبّرين لأمره - ينسبون ذلك إليه تعالى، وهو الحق الذي لا محيص عنه، وأمّا غيرهم فلا يدركون إلاّ ما وصل إليه فكرهم، مع أنه يمكن أن تكون في الواقع أسباب أُخرى غفلوا عنها.

ص: 79


1- راجع دائرة معارف القرن العشرين 4: 261، 2: 126-127، 5: 497، 8: 218.

وتشبه ذلك حالة المريض الذي اختلفت أنظار الناس في مرضه.

فالعالم الروحاني يرى أن مرضه نشأ من ناحية دعاء المظلوم الذي ظلمه هذا الشخص، مثلاً.

والطبيب يقول: إنّ مرضه من التهاب بعض اعضاء جسمه مثلاً.

والنفساني يرى أن كدورة نفسه هي السبب.

وأهل المريض يرون أنه كان محموماً فشرب الخلّ مثلاً.

ولمّا عاده ولي من أولياء اللّه تعالى قال: إنّ ممرضك هو يشفيك، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}(1).

والجميع صادقون في أقوالهم وآرائهم، فإنّ كلّ واحد ذكر مقتضياً من مقتضيات المرض وسبباً من أسبابه، لا أنه يذكر العلّة التامة»(2).

روايات في المقام

1 - عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول اللّه تبارك وتعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} فقال: إنّ اللّه تعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه. ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة منعهم المعاونة واللُّطف، وخلّى بينهم وبين اختيارهم(3).

2 - عن موسى بن جعفر (عليه السلام) : مثل هؤلاء المنافقين كمثل الذي استوقد ناراً أبصر بها ما حوله، فلمّا أبصر ما حوله ذهب اللّه بنورهم بريح أرسلها

ص: 80


1- الشعراء: 80.
2- مواهب الرحمن 1: 103.
3- نور الثقلين 1: 36.

فأطفأها، أو مطر، وكذلك مثل هؤلاء المنافقين لمّا أخذ اللّه عليهم من البيعة لعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) وأعطوا ظاهرها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأن محمّداً عبده ورسوله وأن عليّاً وليّه ووصيّه ووارثه وخليفته في أُمته وقاضي دينه، ومنجز عداته، والقائم بسياسية عباد اللّه مقامه، فورث موارث المسلمين بها، ونكح في المسلمين بها، فوالوه من أجلها، وأحسنوا عنها الدفاع بسببها، واتخذوه أخاً يصونونه ممّا يصونون عنه أنفسهم؛ بسماعهم منه لها، فلمّا جاءه الموت وقع في حكم رب العالمين، العالم بالأسرار الذي لا تخفى عليه خافية، فأخذهم بعذاب باطن كفرهم، فذلك حين ذهب نورهم وصاروا في ظلمات عذاب اللّه، ظلمات أحكام الآخرة، لا يرون منها خروجاً ولا يجدون عنها محيصاً، ثم قال: {صُمٌّ} يعني يُصمّون في الآخرة في عذابهم {بُكْمٌ} يُبكمون هناك بين أطباق نيرانها {عُمْيٌ} يُعمَون هناك، وذلك نظير قوله عزَّ وجلَّ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}(1).

3 - عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أنه قال في حديث: «قولك: إنّ اللّه قدير، خبرت أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز سواه»(2).

4 - عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لم يزل اللّه عزَّ وجلَّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا

ص: 81


1- البرهان 1: 64-65.
2- نور الثقلين 1: 38.

مُبصَر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم، وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المُبصَر، والقدرة على المقدور(1).

5 - إنّ أبا عبد اللّه (عليه السلام) قال: إنّ إبليس قال لعيسى ابن مريم (عليه السلام) : أيقدر ربُّك على أن يُدخِل الأرض بيضة، لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟

فقال عيسى (عليه السلام) : ويلك، إن اللّه تعالى لا يوصف بعجز، ومن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظم البيضة(2).

6 - عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : هل يقدر ربُّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟

قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون»(3).

ص: 82


1- نور الثقلين 1: 38.
2- نور الثقلين 1: 38.
3- نور الثقلين 1: 39.

الآيتان 21-22

اشارة

الآيتان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)

المفردات

{اعْبُدُوا}: العبادة غاية الخضوع.

{رَبَّكُمُ}: الرب: خالق الشيء المتعهد له بالتربية والإصلاح والإنماء.

{خَلَقَكُمْ}: الخلق فعل الشيء وفق ضوابط الحكمة من دون زيادة أو نقصان، وقيل: هو الاختراع والإبداع.

{لَعَلَّ}: كلمة ترجٍّ، وهو لا يكون إلاّ عند الجهل بالعواقب، وهو محال على اللّه تعالى، فورودها - في المقام وأمثاله - مبنيّ - كما قيل - على أنها ترجٍّ للمخاطبين، فمعناها راجع إلى العباد لا إلى اللّه تعالى، ونظيره قول اللّه تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(2).

فكأنه تعالى قال: اذهبا أنتما على رجائكما وأملكما، وإن كان اللّه عالماً بما يؤول إليه الأمر. وفائدة (لعلّ) أن لا يحلّ العبد أبداً محلّ الآمن المُدلّ

ص: 83


1- البقرة: 21-22.
2- طه: 44.

بعمله، بل يزداد حرصاً على إتقان العمل واستدامته.

وقيل: إنّ (لعّل) بمعنى التعرض للشيء، أي: افعلوا ذلك متعرّضين للتقوى.

{تَتَّقُونَ}: التقوى ملكة نفسانية راسخة تبعث الإنسان على فعل الواجبات وترك المحّرمات. أو هي صيانة النفس عن المخالفة.

{جَعَلَ}: صيّر.

{فِرَاشًا}: كالفراش في الراحة والاستقرار والافتراش.

{بِنَاءً}: كالسقف المبني في الحفظ والوقاية من الأخطار.

{السَّمَاءِ}: جهة العلو، وكلّ شيء كان فوقاً لشيء فهو سماء له.

{رِزْقًا}: الرزق هو ما ينتفع به، أو هو الغذاء والقوت.

{أَنْدَادًا}: الندّ: ما يشارك الشيء في حقيقته، وقيل: الندّ هو الضدّ، وقيل: هو المثل المنازع.

الإعراب

يا: حرف نداء، قيل: وقد وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في نداء من سها وغفل - وإن قرب - تنزيلاً له منزلة البعيد، فإذا نودي به القريب الملتفت فذلك لتأكيد طلب الإقبال والمبالغة فيه. وأمّا قول الداعي: (يا ربّ)مع أنّ اللّه أقرب إليه {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(1) فهو استبعاد لنفسه من مظانّ الزلفى، وما يقرّبه إلى منازل المقربين.

أيّ: منادى مبني على الضم، وهو اسم مبهم، يبيّن باسم جنس يقع بعده.

ص: 84


1- ق: 16.

ها: حرف تنبيه، واُقحم بين ما قبله وما بعده إيقاظاً للسامع وتنبيهاً له من الغفلة.

الناسُ: بدل من أيّ، أو عطف بيان، أو صفة.

الذي: اسم موصول في محلّ نصب، صفة ل(ربّ).

الذين: اسم موصول في محلّ نصب على أنه مفعول به، معطوف على الضمير المنصوب في (خَلَقَكُم) أي: خلقكم وخلق الذين من قبلكم.

من قبلكم: حرف الجر يتعلّق بمحذوف هو صلة ل(الذين)، أي: «الذين كانوا من قبلكم» أو نحو ذلك.

الذي: اسم موصول في محلّ نصب نعت ثان ل(ربّ)، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو).

فراشاً: مفعول ثان ل(جعل) بمعنى صيّر، أو حال من (الأرض) أي: خلق لكم الأرض حال كونها فراشاً.

رزقاً: مفعول به ل(أخرج) و(من الثمرات) للتبيين. ويجوز كون (رزقاً) مفعولاً لأجله، و(من) للتبعيض أي: أخرج بعض الثمرات لأجل رزقكم.

وأنتم تعلمون: الجملة حالية، أي: والحال أنّكم تعلمون أن هذه الأنداد ليست بآلهة، أو: والحال أنّكم من أهل العلم والتمييز.

التفسير

بعد أن استعرض القرآن الكريم مواقف المجموعات الثلاث: المتقين. الكافرين، والمنافقين. وبيّن النتائج التي تترتّب على كلّ موقف من هذه المواقف، بعد ذلك يدعو القرآن الكريم الناس إلى انتخاب النموذج الأوّل

ص: 85

- أي: (خط المتقين) - الذي يعتمد أوّلاً - وقبل على كل شيء - على ركائز الإيمان الثلاث: (الإيمان بالأُلوهية) و(بالرسالة) و(بالمعاد)، والتي تمثّل القاعدة الأساسية لكلّ ما عداها من أحكام وآداب وسنن ونحوها. فكلّ ما في هذه السورة من أحكام ونظم وتشريعات، بل كلّ ما في القرآن الكريم، بل كلّ ما في الدين، يستند على هذه الركائز الثلاث. وقد تناولت الآيات المباركات هذه الركائز واحدة تلو الأُخرى. وعلى هذا الأساس يقول القرآن الكريم:

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ}: خطاب إلى (المكلفين) كافة: عربيِّهم وعجميِّهم، أبيضهم وأسودهم، غنيِّهم وفقيرهم، ذكرهم وأُنثاهم، مؤمنهم وكافرهم.

فالقرآن لا يختص بمجموعة معيّنة، ولا بطائفة خاصة، ولا بقوميّة أو عرقٍ أو لونٍ كما هي الحال في (اليهودية المحرفة) التي تقصر (فضل اللّه) على طائفة خاصّة، وكيف تكون هذه الأُمور التي لا اختيار للبشر فيها ملاكاً لحصر الفضل الإلهي؟ ولماذا يُحرم سائر البشر من هذا الفضل في الوقت الذي ليس لهم أيّ تقصير في ذلك؟

أجل، فالقرآن للجميع، والرسالة الإسلامية للكلّ، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ}(1)..

وأمّا شمول الخطاب حتى للكفار فهو محرّر في (علم الأُصول) فراجع.

كما أنّ شمول الخطاب للمعدومين في زمن نزول الآية محرّر في ذلك العلم فلاحظ.

ص: 86


1- سبأ: 28.

{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}: والعبادة هي منتهى الخضوع، ومنتهى الخضوع لا يكون إلاّ لمن كان في منتهى العظمة والتفضّل، وليس هو إلاّ (الرب) تعالى.

وحيث إنّ العبادة خط مستمر، لا يختص بمقطع زمني خاص.. وإنّما يستوعب العمر كلّه بمقتضى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(1) لذا يشمل الأمر بالعبادة المؤمنين أيضاً، فإنهم مطالبون بالعبادة لله سبحانه على امتداد عمود الزمان، بالإضافة إلى أنهم مطالبون بالازدياد منها.

الطريق إلى اللَّه

ولكن: كيف نعبد ربّاً لا نعرفه؟ لا بد من معرفة (الرب) أوّلاً ثم عبادته بعد ذلك.

فكيف نتعرّف على ربّنا؟ وما هو السبيل إلى ذلك؟

هنا يلفتنا القرآن الكريم إلى طريقة فطرية يستطيع كل إنسان أن يلمسها بوجدانه، فلا يتوقّف الأمر على استدلالات فلسفية معقدة؛ لأنّ هذه الاستدلالات تبتني على مقدمات غير متاحة لجميع الناس... بالإضافة إلى أنها تنتهي إلى (الوجدان) أيضاً، فكلّ القواعد الفلسفية ترتكز على قاعدة واحدة وهي (استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما) - على ما ذكروا -(2)وهذه القاعدة لا برهان عليها، وإنّما هي قاعدة وجدانية تستند إلى الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، والتي ترى استحالة جمع السلب والإيجاب في شيء واحد، وارتفاع السلب والإيجاب عن شيء واحد وكلّ برهان يقام

ص: 87


1- الحجر: 99.
2- شرح المنظومة: 9 (الطبعة الحجرية).

على استحالة اجتماع النقيضين يستبطن في ذاته استحالة ارتفاع النقيضين. وإلا لأمكن أن يكون البرهان صادقاً في الوقت الذي يكون نقيضه صادقاً أيضاً، فكيف نطمئن إلى ما يسوقنا إليه البرهان ما لم نكن قد آمنّا من قبل باستحالة اجتماع النقيضين؟ فتأمّل.

ثم إنه لو فرضنا أننا أقمنا ألف برهان وبرهان على استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، أو على أيّة قضيّة أُخرى، فسوف ننتهي إلى (الوجدان) أيضاً، وإلاّ لاضطررنا أن نستمر في البرهنة على كل برهان نقيمه إلى ما لا نهاية له، فلا ننتهي إلى (معرفةٍ) أبداً. أو ندور في الاستدلال إلى النقطة التي بدأنا منها، وهذا هو الدور المحال.

ولنعد إلى حكم الفطرة لنسأل: من الذي أوجدنا؟ هل أوجدنا نحن بأنفسنا أنفسنا؟ كيف يكون ذلك؟ و(فاقد الشيء لا يعطيه) فالذات الفاقدة للوجود كيف تعطي لنفسها الوجود؟!

إنّ كلّ إنسان يدرك بفطرته أنه لم يوجد نفسه، وإنّما أوجده غيره.

مضافاً إلى أننا لو كنّا أوجدنا أنفسنا لكنّا نتخيّر ما نحن عليه، كنا نختار جنسنا ولوننا وزماننا ومكاننا وسائر خصوصياتنا المكتنفة بنا، والحال أنه لا خيار لنا في ذلك كلّه.

وفلسفيّاً: يؤول ذلك إلى اجتماع النقيضين: (الوجود والعدم) في شيء واحد، وارتفاعهما معاً عن ذلك الشيء؛ إذ لا بدّ للذات - لكي تفيض الوجود على ذاتها - من أن تكون موجودة أوّلاً كي تستطيع أن تعطي الوجود لذاتها بمقتضى أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

ص: 88

وأن تكون معدومة كي تتلقّى فيض الوجود من ذاتها، وإلاّ فالموجود لا يتلقى الوجود مرة ثانية؛ لكون ذلك تحصيلاً للحاصل، وهو محال.

فالذات لو أفاضت الوجود على نفسها، يجب أن تكون موجودة ومعدومة في آن واحد، وهذا هو الجمع بين النقيضين.

ولأننا فرضناها موجودة فهي إذاً ليست بمعدومة، ولأننا فرضناها معدومة فهي إذاً ليست بموجودة، وهذا هو ارتفاع النقيضين.

وإذا لم نكن نحن قد خلقنا أنفسنا، فهل خلقنا آباؤنا الذين كانوا من قبلنا؟

إن نفس الملاحظات التي ذكرت آنفاً سوف تأتي هنا أيضاً، فآباؤنا مثلنا، وقد كانوا فاقدين للوجود فكيف أعطوا الوجود لأنفسهم؟

بالإضافة إلى أن أمر الخلق إذا كان بيدهم لكانوا يختارون جنس أولادهم وشكلهم وكيفيتهم، مع أنّ كل واحد يعلم أن الأمر مفروض على الآباء فرضاً!

يبقى أن تكون (الطبيعة) هي الخالقة، والطبيعة فاقدة للعقل والشعور فلا يمكن أن تعطي هذه الدقّة والانسجام الرائع الذي نجده في هذا الكون.

ومن هنا يقول القرآن الكريم:

{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وأوجدكم لا من شيء.

«و» خلق {الَّذِينَ} كانوا {مِنْ قَبْلِكُمْ} وتقدّموكم في امتداد عمود الزمان.

فآباؤكم وأجدادكم هم - الآخرون - مخلوقون لذلك (الرب). ولا يمكن

ص: 89

أن يكونوا هم الخالقين.

ولعلّ في هذه الكلمة {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مضافاً إلى ما سبق، إشارة إلى أن آباءكم مخلوقون مثلكم، فلا تتخذوهم أرباباً من دون اللّه، ولا تجعلوا طريقتهم في الحياة مقياساً للرفض والقبول، بل توجّهوا بعبادتاكم وخضوعكم لله وحده الذي خلقكم، وخلقهم أيضاً كما خلقكم.

أثر العبادة

ولكن ما هو أثر عبادة اللّه سبحانه؟ هل اللّه يحتاج إلى عبادتنا نحن البشر؟ وكيف يحتاج الغني المطلق الذي بيده مقاليد كل شيء؟ والأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه؟

إن عبادة اللّه سبحانه لا تنفع اللّه سبحانه، وإنما تنفعنا نحن البشر... فعبادة اللّه تعالى مدرسة تغرس التقوى في نفس الإنسان، وبالتقوى يرتفع الإنسان إلى ذرى الكمال الإنساني، ويسعد في دنياه وآخرته.

ومن هنا يقول القرآن الكريم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

فبالعبادة لله تعالى يصل الإنسان إلى درجة (التقوى) ويرتفع إلى مستوى (المتقين) الذين منحهم اللّه سبحانه هدايته، وقدّر لهم الفلاح في الدنيا والآخرة، كما سبق ذلك في بداية هذه السورة المباركة.

احتمالات أُخر

وهناك احتمال آخر في الآية، وهو أن تكون جملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} متعلّقة بقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ} .

أي: اعبدو اللّه الذي خلقكم وخلق الأجيال المتقدّمة من أجل العبادة،

ص: 90

فبناءاً على ذلك تتطرق الآية الكريمة إلى هدف الخلقة الذي هو (التقوى).

وإذا كان الإنسان مخلوقاً للتقوى، فعليه أن يعبد اللّه حتى تتحقّق تلك الغاية المنشودة.

وقيل: إنّ معنى الآية الكريمة أنه خلقكم للتقوى والعبادة، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(1). وعلى هذا يتحد مدلول (التقوى) والعبادة في الآية الكريمة.

وقيل: إنّ المراد بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: لعلكم تتقون بعبادتكم لله تعالى النار، وتجتنبون الوقوع في مهاويها السحيقة، قال اللّه سبحانه: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}(2).

وقيل: معناه لعلّكم تتّقون الحرمات بينكم، وتكفون عمّا حرم اللّه تعالى.

وقيل: معناه لعلّكم تحترزون عن المضار، فالعبادة هي فعل المأمور به، وهذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز، بل يوجب الاحتراز، وهو التقوى.

نِعَمٌ أُخر

اشارة

ويواصل القرآن الكريم البرهنة على وجود الخالق، فيستعرض - بعد ذكر نعمة الإيجاد التي هي أعظم جميع النعم المادية - باعتبار أنّ جميع النِّعم المادية الأُخرى متفرّعة على نعمة الإيجاد، ولولا هذه النعمة لم يمكن الاستفادة من أيّة نعمة أُخرى - يستعرض بعض النعم الأُخرى التي امتنّ اللّه بها على عباده، والتي تدّل بشكل واضح على وجود خالق حكيم عالم

ص: 91


1- الذاريات: 56.
2- آل عمران: 131.

قدير، خلق الإنسان وأحاطه بما يكفل له سعادته ودوام حياته، ونظّم شؤون حياته كي يتسق بعضها مع بعض، فيقول:

1 - المسكن المناسب

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} .

أي: مستقراً ملائماً لكم، كما أنّ الفراش محلٌّ لاستقرار الإنسان واستراحته - بعد تحرّك طويل وكدّ مجهد - .

فالأرض جعلت مستقراً لنا، وهذه نعمة عظيمة من نعم اللّه علينا.

إنّ الأرض تسير بسرعة (30) كيلومتراً ونصف الكيلومتر في الثانية الواحدة(1) في هذا الفضاء العظيم، وهذه السرعة كفيلة بأن تقذف البشر وكلّ ما على الأرض بعيداً في الفضاء خلال مدة بسيطة، ولكنّ اللّه سبحانه امتنّ على البشر فجعل في الأرض قوة (الجاذبية) التي تحفظ الإنسان وسائر ما على الأرض من الانفلات في الفضاء، وتضمن له بقاءه على سطح الأرض.

وبالإضافة إلى ذلك فقد جعلت الأرض ملائمة لحياة الإنسان.

لو كانت الأرض صلبةً جدّاً - كالحديد - إذاً لعجز البشر عن بناء البيوت، وزرع النباتات، وشق القنوات، واستحداث الأنهر، وفتح الطرق على سطح الأرض.

ولو كانت حارّة جدّاً لأذابه الحر.

ولو كانت باردة جدّاً لجمّده القرّ. وهكذا وهلمّ جرّا.

ص: 92


1- راجع دائرة معارف القرن العشرين 1: 181.
2 - نعمة الأمن

والنعمة الثانية هي (نعمة الأمن).

يقول القرآن الكريم: {وَالسَّمَاءِ} أي جهة العلو، أو ما تحتوي عليه هذه الجهة. {بِنَاءً} أي كالبناء الواقي والسقف المحفوظ، فكما أنّ البناء يقي الإنسان من الحر والبرد والمطر وما أشبه، كذلك السماء تقي الإنسان من الشّهب والنيازك والإشعاعات القاتلة وما أشبه ذلك، ولولاها لانتهت حياة الإنسان على وجه الأرض منذ أمد بعيد.

فكما أن المقصود بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا}:

إنه جعلها لكم كالفراش، فالمقصود بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ

بِنَاءً} إنه جعلها لكم كالبناء، بمقتضى وحدة السياق في الجملتين.

ويحتمل أن يقال: إن أطلاق لفظ البناء على السماء إطلاق حقيقي؛ إذ لا يشترط في البناء أن يكون من جنس كثيف ك(الحديد) و(اللين) و(الآجر) و(الإسمنت)، بل كلّ شيء وقاك فهو بناء، فإن الألفاظ موضوعة للمعاني العامّة، لا للمعاني الخاصة، ومن هنا فإننا إذا فرضنا أن العلم تطور في المستقبل فصنع بيوتاً للناس من مادة لطيفة توفّرت فيها كل خصائص البناء من الستر والوقاية و... لَصَدَق عليها (البناء) قطعاً، فتأمّل.

3 - الماء

والنعمة الثالثة هي نعمة (المطر)

يقول القرآن الكريم: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي جهة العلو، {مَاءً}. ولولا الماء لم يستطع الكائن البشري أن يعيش، فحياة الإنسان تتوقف على الماء،

ص: 93

قال اللّه سبحانه. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(1).

بالإضافة إلى الفوائد الكثيرة التي تترتب على الماء - مثل التنظيف والتطهير وما أشبه ذلك.

قال اللّه سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(2).

4 - الرزق

أمّا النعمة الرابعة فهي (نعمة الثمرات).

يقول القرآن الكريم: (ف) على أثر نزول المطر {فَاخْرُجْ} اللّه سبحانه {بِهِ} أي: بسبب ذلك الماء النازل من السماء أنواعاً {مِنَ الثَّمَرَاتِ} أو بعضاً منها.

وذلك من أجل أن تكون {رِزْقًا لَكُمْ} أي: قوتاً لكم وطعاماً.

ولعل ظاهر «الباء» في قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ} السببية، فقد أودع اللّه سبحانه في الأسباب خصوصية بها تؤثر الأسباب في مسبباتها، وتتصاعد سلسلة الأسباب حتى تصل إلى اللّه سبحانه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}(3)... ومن هنا تتكون نسبتان: نسبة المسبَّب إلى أسبابه القريبة، ونسبته إلى مسبِّب الأسباب وهو اللّه سبحانه، ولا منافاة بين هاتين النسبتين؛ لكونهما طوليتين لا عرضيتين - وقد مضى بعض الكلام في ذلك في سورة الحمد في تفسير قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فراجع - .

ص: 94


1- الأنبياء: 30.
2- الفرقان: 48.
3- النجم: 42.

ومن هنا نجد أنّ الإخراج في الآية الكريمة ينسب إلى اللّه تعالى وإلى المطر، فتدبّر.

لا للأنداد

وإذا كانت جميع هذه النِّعم من اللّه تعالى، وجميع هذه الدلائل تدل على أنه مصدر كل شيء.

{فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}.

و(الند) عبارة عمّا يشارك الشيء في حقيقته، وقيل: إنه هو المثل المنازع. وقيل: إنه هو (الضد) فإنّ هذا اللفظ يعطي معنى وجود مركَزَي قوةٍ متضادَين، وقد أُطلق على (الأنداد) - من الأصنام والأهواء والآلهة البشرية - ذلك باعتبار أنّ كل واحد منها يدعو لشيء يخالف ما يريده اللّه سبحانه، فتكون (أضداداً) لله تعالى.

فلا تشركوا مع اللّه غيره، لا في الذات، ولا في العبادة، ولا في الطاعة، ولا في غيرها.

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: والحال أنكم تعلمون أنّ كل شيء من اللّه، وأنّ هذه الأصنام ليست آلهة، وأنها لا تملك ضرّاً ولا نفعاً لنفسها، فكيف تملكه لغيرها؟!.

وقيل: إن المراد بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: إنكم تعقلون وتميّزون، ومن كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف، ولزمته الحجّة، وانتفى عذره في التخلف عن النظر وإصابة الحق.

وعلى هذا استخدم الفعل المتعدي لازماً، كما أن اللازم قد يستخدم

ص: 95

متعدياً(1).

كقولنا «زيد يعطي ويمنع» أي: إنه من أهل العطاء والمنع، ولا نريد أنه يعطي شيئاً بعينه أو يمنع شيئاً بعينه.

قال في الميزان: عدم تقييد قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بقيد خاص، وجعله حالاً من قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا} يفيد التأكيد البالغ في النهي، بأن الإنسان وله علم ما، كيفما كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أنداداً، والحال أنه سبحانه هو الذي خلقهم والذين من قبلهم، ثم نظّم النظام الكوني لرزقهم وبقائهم(2).

وقيل: إنّ المراد بذلك أهل التوراة والإنجيل، أي: أنتم تعلمون ذلك في كتابيكم.

فائدتان

1 - قال في التفسير الكبير، في سبب ترتيب الدلائل الخمسة في الآية الكريمة:

«إنّ أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم، فكلّ ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر، فلهذا السبب قدّم ذكر نفس الإنسان، ثم ثنّاه بآبائه وأُمهاته، ثم ثلّث بالأرض؛ لأنّ الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء، وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من

ص: 96


1- الروضة البهيّة 1: 10 (الطبعة الحجرية).
2- الميزان 1: 57.

السماء وحركة الثمرات بسببه؛ لأنّ ذلك كالأمر المتولّد من السماء والأرض، والأثر متأخّر عن المؤثّر، فلهذا السبب أخّر اللّه ذكره عن ذكر الأرض والسماء»(1).

2 - وقال فيه أيضاً: «الثمر المخرج بماء السماء كثير، فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار؟

الجواب: تنبيهاً على قلَّة ثمار الدنيا، واشعاراً بتعظيم أمر الآخرة، واللّه أعلم».(2)

ونظيره يجري في استخدام كلمة (من) في قوله تعالى: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} بناءاً على كونها للتبعيض.

فهنالك ثمرات كثيرة لا توجد إلاّ في العالم الآخر.. حيث لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وأُعدّت للمتقين.

ما هي التقوى؟

التقوى عبارة عن (ملكة نفسانية راسخة، تبعث الإنسان على الانضباط ضمن الأُطر التي حتّمها الدين على المكلفين) وبعبارة أُخرى: (ملكة تبعث الإنسان على فعل الواجبات وترك المحرّمات).

توضيح ذلك

إنّ فعل الواجبات وترك المحرّمات يمكن أن يفرض على أنحاء ثلاثة:

النحو الأوّل: أن يَتِمّ ذلك عن طريق (القسْر) بأن يكون الإنسان مكرهاً

ص: 97


1- التفسير الكبير 2: 111.
2- التفسير الكبير 2: 122.

على فعل الواجب، أو ترك المحرّم. كما لو سجن في مكان فلم يستطع شرب الخمر مثلاً.

يقول الشاعر:

يقول القومُ لي لمّا رأوني***عفيفاً منذُ عامٍ ما شَرِبْتُ

على يد أيِّ شيخ تُبِتَ ياذا؟***فقلت على يد (الإفلاس) تُبْتُ!

النحو الثاني: أن يَتِمّ ذلك بشكل (قضية اتفاقية) أو بسبب (الاجواء الضاغطة) بدون أن ينبعث ذلك عن ملكة راسخة في نفسه، ولذا إذا تبدّلت ظروفه المحيطة به، أو سافر إلى بلد ما لا يخشى فيه الرقيب، تورّط في فعل المحرّمات، وترك الواجبات.

النحو الثالث: أن تتكون لديه (ملكة التقوى) بأن تتكون في وجدانه حالة نفسية راسخة تبعثه على فعل الواجبات وتردعه عن فعل المحرمات.

وهذا النحو هو الذي يسمَّى ب(التقوى).

أمّا النحوان الأوّلان فليسا بتقوى في الحقيقة، ولا يطلق على المتّصف بهما أنه من (المتّقين).

فوزان التقوى وزان سائر الصفات ك(الشجاعة) و(الجود) و(السخاء) ونحو ذلك، التي لا تطلق على مجرّد صدور مقتضياتها عن فاعلها ولو تكرّر منه ذلك، ما لم تنبعث عن (ملكة نفسانية راسخة)، فتأمل.

وسيأتي تفصيل الكلام في (الملكات) وفرقها عن (الحالات) في تفسير قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}(1)إن شاء اللّه.

ص: 98


1- الإسراء: 84.

هذا وقيل: إنّ التقوى: هي الاستقامة الفعلية في جادّة الشرع، بلا اشتراط انبعاثها عن الملكة.

وقد سئل البعض عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟

فقال السائل: نعم.

قال: فما عملت؟

قال السائل: حذرت وتشمّرت.

قال: ذلك التقوى.

ونظمه بعض الشعراء فقال:

خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التُّقى

واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقِرنَّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى(1)

برهانان

في هاتين الآيتين الكريمتين - كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى - برهانان على الأُلوهية.

1 - برهان الوجود.

2 - برهان النظم.

وقد تقدّم الكلام حول (برهان الوجود) ونلقي هنا بعض الضوء على برهان (النظم) فنقول(2): إنّ الأبحاث العلمية كشفت عن الاتصال الوثيق بين

ص: 99


1- مجمع البيان 1: 78.
2- اعتمدنا في هذا الفصل على كتاب «الإلهيات» 1: 41-54 (بتصرّف).

أجزاء العالم، وتأثير بعضها في بعض، وتكامل بعضها ببعض، وهذا الانسجام الوثيق الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضاً، دليل واضح على تدخُّل خالق عليم حكيم في إبداعه وخلقه وصنعه على هذا النحو.

وبعبارة واضحة: إنّ الضبط السائد على الطبيعة دليل جّليٌّ على تدخّل إرادة واعية حكيمة في خلق الكون.

ويمكن تقريب هذه الحقيقة إلى الذهن بالمثال التالي: لنفترض أنّ شخضاً أعمى جالساً وراء آلة طابعة يحاول بالضغط على الأزرار - وعددها مائة، بما فيها الحروف الصغيرة والكبيرة - أن يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها:

ألا كلُّ شيء ما خلا اللّه باطلُ***وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ

فاحتمال أنّ الضربة الأُولى أصابت صدفة الحرف الأوّل من هذه القصيدة (أ)، والضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها (لا)، والضربة الثالثة أصابت صدفة الحرف الثالث منها (ك)، وهلمّ جرا، وهو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضية المقروءة. ومجمل ذلك أنه لو كانت حروف الآلة الطابعة مائة، وعدد حروف البيت الأوّل من القصيدة (38) فسوف يكون عدد الاحتمالات واحداً أمامه (76) من الأصفار.

ولو أضفنا إلى البيت الأوّل بيتاً آخر، فإن احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.

ويستحيل - رياضياً وطبقاً لحساب الاحتمالات - أن يتقبّل العقل هذا

ص: 100

الاحتمال الضئيل الذي هو المناسب لتحقّق المراد من بين تلك الاحتمالات والفرضيات الهائلة، وكلُّ من يرى البيتين وقد حُرِّرا بالآلة الطابعة وبصورة صحيحة، يطمئن بأن هناك شخصاً عليماً هو الذي نظّم الأحرف ونسّق بعضها مع البعض الآخر، ولم يحدث ذلك عن طريق الصدفة العمياء.

هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالنسبة إلى الحياة التي روعي ما لا يُحصى من العوامل فيها حتى اتّسقت وانسجم بعضها مع البعض الآخر.

ولأجل أن تتبيّن ملامح هذه الحقيقة نسوق الأمثلة التالية:

1 - إنَّ حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون، الذي يتجزأ بواسطة أوراق هذا النبات إلى كاربون وأوكسجين، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه ومن غيره من المواد، الفواكه والأثمار والأزهار، ويلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق والزفير الأساسية في حياة الإنسان.

ولو أنَّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أوكسيد الكاربون، أو لم يلفظ النبات الأوكسيجين، لانقلب التوازن في الطبيعة واستنفذت الحياة الحيوانية أو النباتية كلّ الأوكسجين، أو كلّ ثاني أوكسيد الكربون، وذوى النبات ومات الإنسان.

فمن ذا الذي أقام مثل هذه العلاقة بين النبات والحيوان، وأوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين؟ ألا يدلّ ذلك على وجود فاعل مدبّر وراء ظواهر الطبيعة هو الذي أقام مثل هذا التوازن؟

2 - منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبَّار في أوستراليا كسياج وقائي،

ص: 101

ولكنّ هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطّى مساحة واسعة وزاحم أهالي المدن والقرى وأتلف مزارعهم، ولم يجد الأهالي وسيلة لصدّه عن الانتشار، وصارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدّم في سبيله دون عائق!!.

وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أنْ وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبَّار، ولا تتغذى بغيره وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا، وما لبثت هذه الحشرة أنْ تغلّبت على الصبَّار، ثم تراجعت ولم تبق منه سوى بقيّة للوقاية تكفي لصدّ الصبّار عن الانتشار إلى الأبد(1).

3 - الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد، ولهذه الخاصة أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد، بدلاً من أنْ يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأنهار، ويكون تدريجياً كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها وإذابتها. والجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمّد، وبذلك تبقى الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية حيّة، فإذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة وبلا عائق.

فهل يمكن إعزاء كل هذا الضبط والدقة في المقاييس والنسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء، والحال أنَّه يكشف عن تدبير وحساب، ويحكي عن نظام متقن وعظيم، ويدل على أنَّ وراء كل ذلك خالقاً حكيماً

ص: 102


1- العلم يدعوا للإيمان: 159.

هو الذي أوجد هذا التوازن المدهش والضبط الدقيق.

أجل، إنَّ ذلك التوازن وهذا الضبط يشهدان على تدخّل الشعور والحكمة والعقل في إدارة هذا العالم وتدبيره وتسييره، وهي أُمور لا تتوفّر في الصدفة، بل تتوفّر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون واحتياجات الحياة إدراكاً كاملاً وشاملاً، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط والعلاقات.

4 - الأرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلاً، ولأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة، ويتناسب مع متطلباتها، فلو زادت المسافة بين الشمس والأرض على المقدار الحالي إلى الضعف - مثلاً - لنقصت كميّة الحرارة التي تتلقّاها من الشمس، ولو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقّاها الأرض الضعف، وفي كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.

5 - إنَّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتّى، منها النيتروجين 78% والأوكسجين 21%، فلو تغير المقدار وصارت نسبة الأوكسجين في الهواء 50% لتبدّلت جميع المواد القابلة للاشتعال إلى مواد محترقة، ولبلغ الأمر إلى درجة لو أصابت شرارة غابة، لأحرقت جميع ما فيها دون أنْ تترك غصناً يابساً، ولو تضاءلت نسبة الأوكسجين في الهواء 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.

يقول العلامة كريسي موريس: «إنَّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس، ودرجة الحرارة في الشمس، وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض، وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد الكاربون، وحجم النيتروجين،

ص: 103

وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كلّ هذه الأُمور تدّل على خروج النظام من الفوضى (أي إنَّه نظام لا فوضى)، وعلى التصميم والقصد. كما تدل على أنه - طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة - ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة - في وقت واحد على كوكب واحد - مرّة في بليون مرّة»(1).

السماء بناءً

لعلّه يمكن أن يقال: إن في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} إشارة إلى (الغلاف الهوائي) الذي يحيط بالأرض.

والغلاف الهوائي هو المادة أو الغلالة الشفافة التي تحيط بالأرض وتفصل سطحها على الفراغ الكوني.

ومنذ بدء الخليقة ونحن نعيش في قاع هذا (المحيط) الذي يتركَّب من مجموعة من الغازات التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.

وتتكون الطبقات السطحية من الغلاف الهوائي من خليط من غازَي الأوكسجين والأزوت أو (النيتروجين) بنسبة 20.95 في المائة إلى 87.07 في المائة من حيث الحجم على التوالي، بالإضافة إلى عدّة غازات أُخرى نسبها ضئيلة جدّاً تكاد لا تتعدّى في مجموعها (1%) من حيث الحجم.

ومن هذه الغازات ما هو ثابت النسبة عموماً مثل الأرجون والكربتون والايدروجين والزينون والهيليوم، كما أنّ منها ما تتغيرّ كميّاتها حسب الظروف الجوية، مثل الهيليوم وبخار الماء.

ص: 104


1- العلم يدعوا للإيمان لكريسي موريس.

والإنسان عادة لا يحسب حساب الأخطار والأهوال التي لا حد لها من حولنا في أرجاء الفراغ الكوني، والتي يحمينا منها الغلاف الهوائي.

1 - وتأتي أوّل الأخطار التي لا مفرّ من حماية أنفسنا منها عند مبارحة سطح الأرض عن طريق نقص الضغط الجوي، ثم عن طريق اختلاف درجة الحرارة بمقادير لا يمكن أن تستقيم معها الحياة بحال.

فالارتفاع إلى أعلى الجو معناه النقص السريع في الضغط الجوي: فعلى ارتفاع نحو 20 كيلو متراً نكون قد تخلّصنا من نحو 98% من وزن الغلاف الجوي بأكمله، وعلى علوّ (200) من الكيلو مترات يصل الضغط إلى أجزاء معدودات من عشرة ملايين جزء من قيمته عند السطح. وهكذا يستمر التناقص في الضغط مع ازدياد الارتفاع عن سطح الأرض، حتى نصل إلى ما يقرب من الفراغ التام في النهاية.

ولمّا كانت درجة غليان السوائل، ومنها الدم، تتوقّف على الضغط المحيط بها أو الواقع عليها، نجد أنه كلّما انخفض الضغط قلّت درجة الحرارة التي يبدأ عندها الدم في الغليان.

وعلى ارتفاع نحو (20) كيلو متراً فقط من سطح البحر يغلي الدم في درجة حرارة الجسم العادية، ويؤدّي غليان الدم إلى الإغماء السريع. فالموت الذي يتمّ في مدى لا يتجاوز من 15 إلى 30 ثانية.

2 - وقلّما تعلو درجة حرارة الجو على سطح الأرض فوق (50) درجة مئوية، كما أنها قلّما تنخفض تحت (70) درجة مئوية، ولكن على كثب منا في طبقات الجو العليا قد تبلغ درجة الحرارة مئات الدرجات المئوية،

ص: 105

ولمثل هذه الأسباب يعزل رواد الفضاء أجواء الأرض العليا داخل مركبات محكمة الإغلاق يعيشون فيها تحت ضغوط جوّية مناسبة، ودرجات من الحرارة والرطوبة ملائمة.

3 - ومن أكبر الأهوال خارج نطاق جو الأرض: النيازك والشهب التي تهيم في الفضاء الكوني، وتهوي بلا هوادة إلى جوّ الأرض العلوي.

ويتساقط إلى جو الأرض في اليوم الواحد آلاف الملايين من الشهب تجري بسرعة (10) كيلومترات إلى نحو (50) كيلو متراً في الثانية الواحدة!.

وعندما تقترب من الأرض تقع تحت نطاق جذبها، وتبدأ الدوران في مسارات جديدة من حول الأرض تقطع الغلاف الجوي خلال مسافات طويلة، فتحتك بالهواء مولدة كميات من الحرارة تكفي لتبخير الأتربة التي تتكون منها.

وما الشهب التي نراها تهوي أثناء الليل كالنجوم ثم تختفي إلاّمسارات تلك الغازات الملتهبة على أبعاد تتراوح بين (80) إلى (100) كيلو متر من سطح الأرض، ممّا يدّل بكل جلاء على أنّ الهواء المخلخل الذي يعلو تلك الطبقات يكفي لتحطيم الشهب ودرء أخطارها عنّا، أمّا الفضاء فلا سبيل إلى تلك الحماية فيه. وقد تخترق حبّة من رمال الشهب لوحاً من الصُّلب بسبب سرعتها الخارقة.

4 - من أكبر مصادر الأهوال والأخطار في الفضاء - خارج نطاق جوّ الأرض - التعرض للأشعة الكونية التي نجهل كثيراً من خصائصها، ويحمينا الغلاف الجوي من أغلب مكونات هذه الأشعة، ولا يصل سطح الأرض إلاّ

ص: 106

النزر اليسير؛ إذ يُمتص الباقي كلّه في الجو العلوي(1).

أنواع من الشرك

اشارة

سبق وأن أشرنا إلى أنّ اتخاذ (الأنداد) لله سبحانه لا يقتصر على مظهر واحد، وإنّما له مظاهر مختلفة، ونستعرض جملة من هذه المظاهر باختصار:

1 - الشرك في الذات

وذلك بالاعتقاد بتعدّد الآلهة الخالقة لهذا العالم، والمدبّرة لشؤونه.

مثل الثنوية الذين يعتقدون أن للعالم مبدَئين قديمين: أحدهما مبدأ الخيرات وهو (يزدان)، والثاني مبدأ الشرور وهو (اهريمن). وكالنصارى الذّين يعتقدون بالأقانيم الثلاثة (الأب، والابن، وروح القدس).

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2).

2 - الشرك في الصفات

وذلك بالاعتقاد بزيادة الصفات الحقيقية الذاتية لله سبحانه على ذاته، كما هو منسوب إلى الأشاعرة، ممّا يستلزم تعدّد القدماء.

3 - الشرك في الأفعال

وذلك بأن يعتقد الإنسان أن هناك عللاً تدبّر الكون في عرض اللّه سبحانه.

ص: 107


1- اعتمدنا في هذه المعلومات على كتاب «الغلاف الهوائي» للدكتور محمد جمال الدين العنزي: 5-6، 115-121.
2- المائدة: 73.

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية الكريمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .

إنه قال: هو قول الرجل لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لاُصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه.

قال الراوي: قلت: فيقول: لولا أنّ اللّه منّ عليَّ بفلان لهلكت؟

قال: لا بأس(1).

4 - الشرك في المحبة

بأن يحب الإنسان غير اللّه سبحانه في عرض اللّه سبحانه، أمّا حبّ شخص أو شيء لأنه محبوب لله تعالى، أو لأنّ اللّه أمر بحبّه، كالأنبياء والأولياء فمآله إلى حبّ اللّه تعالى(2).

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «القلب حرم اللّه فلا تُسكِن حرم اللّه غير اللّه»(3).

وعن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حبُّ الدنيا وحبُّ اللّه لا يجتمعان في قلبٍ أبداً»(4) .

ص: 108


1- (1) بحار الأنوار 72: 100.
2- قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
3- بحار الأنوار70: 25.
4- تنبيه الخواطر: 362.
5 - الشرك في الطاعة

بأن يطيع الإنسان غير اللّه سبحانه.

أمّا من يمثِّل اللّه سبحانه فإطاعته إطاعة لله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1).

قال اللّه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}(2).

وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(4)إنه قال: «شرك طاعة، ليس شرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة، أطاعوا فيها الشيطان، فأشركوا باللّه في الطاعة لغيره».(5)

6 - الشرك في العبادة

بأن يعبد الإنسان صنماً أو وثناً أو ما أشبه؛ ليقربه إلى اللّه زلفى.

وذلك كالصابئة الذين يعبدون الكواكب باعتبارها مدبِّرة لهذا العالم(6)، وكالمشركين في زمان الجاهلية الذين كانوا يعبدون اللاّت والعُزّى

ص: 109


1- النساء: 80.
2- التوبة: 31.
3- يس: 6.
4- يوسف: 106.
5- سفينة البحار 1: 697.
6- في حقيقة عقيدة الصابئة خلاف، راجع كتاب «الصابئة في عقيدتهم وشريعتهم» للسيد الوالد دام ظلّه.

وغيرهما من الأصنام.

قال اللّه تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .

7 - الشرك الأصغر

بأن يعمل الإنسان العمل ويقصد به غير اللّه سبحانه، قال عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(1).

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في الآية: «الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه اللّه، إنّما يطلب تزكية الناس، يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه»(2).

وعن النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر».

قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللّه؟

قال: «هو الرياء»(3).

لماذا عبدوا الأصنام؟

عبادة الأصنام ظاهرة قديمة تمتد إلى أعماق التاريخ، ولا تزال مستمرة حتّى الآن في كثير من البلاد.

ومع وضوح البراهين الفطرية الدالّة على أنَّ اللّه تعالى هو خالق كل شيء وهو الذي يستحق العبادة، كيف يسمح الإنسان لنفسه أن يسفّ إلى مستوى أن يتخّذ من دون اللّه أنداداً، يعبدها، ويقدِّم لها القرابين، ويعتقد فيها النفع

ص: 110


1- الكهف: 110.
2- بحار الأنوار 72: 282.
3- بحار الأنوار 7: 303.

والضرر؟

هنالك عدَّة عوامل قد تكمن وراء نشوء ظاهرة (عبادة الأصنام):

1 - كان في الأُمم السالفة أفراد يعتقد الناس بقدسهم وصلاحهم، ولمّا مات هؤلاء اتّخذ الناس لهم تماثيل، لتكون مذكّرة بهم، وباعثة على استلهام معاني الخير والصلاح منهم. وكان الناس يفدون إليها ويعظّمونها، لا باعتبارها آلهة، ولكن باعتبار أنها تمثّل نماذج للخير والصلاح، وعلى مرور الأيام تحول (التعظيم) إلى (عبادة) وأصبحت هذه الأصنام آلهة تعبد مع اللّه تعالى.

2 - وكان فيها أيضاً أفراد يأنس إليهم الناس ويودّونهم، ولمّا ماتوا اتخذوا لهم تماثيل لتملأ بعض الفراغ الذي تركوه بموتهم وانجرّ الأمر - على امتداد الأيام - إلى عبادة هذه التماثيل.

ففي تفسير علي بن إبراهيم، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(1) قال: «كان قوم مؤمنون قبل نوح (عليه السلام) فماتوا فحزن عليهم الناس، فجاء إبليس فاتّخذ لهم صورهم ليأنسوا بها فأنسوا بها، فلمّا جاءهم الشتاء ادخلوهم البيوت فمضى ذلك القرن وجاء القرن الآخر، فجاءهم إبليس فقال لهم: إنّ هؤلاء آلهة كان آباؤكم يعبدونها، فعبدوهم وضلّ منهم بشر كثير، فدعا عليهم نوح فأهلكهم اللّه»(2).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في الآية: كانوا يعبدون اللّه عزَّ وجلَّ

ص: 111


1- نوح: 23.
2- بحار الأنوار 3: 248 .

فماتوا فضجّ قومهم وشقّ ذلك عليهم، فجاءهم إبليس لعنه اللّه فقال لهم: أتخذ لكم أصناماً على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون اللّه، فأعدّ لهم أصناماً على مثالهم فكانوا يعبدون اللّه عزَّ وجلَّ، وينظرون إلى تلك الأصنام، فلمّا جاء الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيت، فلم يزالوا يعبدون اللّه عزَّ وجلَّ حتى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم، فقالوا: إنّ آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء، فعبدوهم من دون اللّه عزَّ وجلَّ، فذلك قول اللّه تبارك وتعالى. {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا}(1).

3 - وكانت بعض الطوائف تعتقد بوجود وسائط مزعومة بين اللّه تعالى وبين خلقه هي التي تدبِّر شؤون هذا العالم كالكواكب، فاتّخذوا لها تماثيل، لتكون مذكِّرة بها حال استتارها، وعبدوها لتقربهم إلى اللّه زلفى.

4 - وهناك نزعة تجسيدية في البشر - تعبر عن طفولية في الفكر... حيث أنها لا تستطيع أن تهضم ما هو فوق المادة، وتظنّ أن الوجود يساوي الإحساس، فكلّ موجود فهو محسوس، وكلّ ما ليس بمحسوس فليس بموجود، ولذا تريد إلهاً حسيّاً تعبده، متمثّلاً في الأصنام.

ولذا نجد أنه عندما عبر بنو إسرائيل البحر - ورأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم.

{قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(2).

ورغم أنّ عبادة الأصنام أصبحت عادة مستحكمة يتوارثها الأبناء عن

ص: 112


1- بحار الأنوار 3: 250 .
2- الأعراف: 138.

الآباء في كثير من الأُمم، إلاّ أنه ظل هناك مجموعة من الناس على عبادة الواحد الأحد، كما كانت تطرأ أحياناً أحداث تعيد البعض إلى فطرته، وتغسل ما علق عليها من الرُّكام.

وقد نُقِل: أنّ رجلاً منهم رأى ثعلباً يبول على رأس الصنم فأنشد:

أرّبٌّ يبولُ الثعلبانِ برأسه؟

لقد ذلَّ من بالَت عليهِ الثَّعالبُ(1)

ثم شدّ على الصنم فكسره، ثم جاء إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما اسمك؟

فقال: غاوي بن عبد العُزّى.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بل أنت: راشد بن عبد ربِّه.

روايات في المقام

اشارة

1 - عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: لها وجهان:

أحدهما: وخلق الذين من قبلكم لعلكم كلّكم تتقون، أي: لتتقوا، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} .

والوجه الآخر: اعبدوا الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون، أي: اعبدوه لعلّكم تتقون النار. و(لعلّ) من اللّه واجب؛ لأنه أكرم من أن يُعنِّي عبده إلى منفعة ويطمعه في فضله ثم يخيّبه، ألا ترى كيف قبّح مَن عبدَهُ من عباده إذا قال الرجل أخدمني لعلّك تنتفع بي ولعلي أنفعك، ثمّ يخدمه

ص: 113


1- بحار الأنوار 1: 253.

يخيبه ولا ينفعه، فاللّه عزَّ وجلّ أكرم في أفعاله، وأبعد من القبيح في أعماله من عباده(1).

2 - عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}. قال: جعلها ملائمة لطباعكم موافقة لأجسامكم، ولم يجعلها شديدة الحما والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرد فتجمّدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم(2)، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وابنيتكم وقبور موتاكم، ولكنّه عزّ وجلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} سقفاً من فوقكم محفوظاً يدير منها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني المطر من أعلى ليبلغ قلل جبالكم، وتلالكم، وهضابكم(3) وأوهادكم، ثم فرّقه رذاذاً(4) ووابلاً وهطلاً(5)، لتسقي أرضكم ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعة واحدة فيفسد الأرض لكم {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}(6)

ص: 114


1- البرهان 1: 67.
2- العطب الهلاكة واعطبه أهلكه والمعاطب المهالك.
3- الهضبة - بالفتح فالسكون - الجبل المنبسط على وجه الأرض والجمع هضب وهضاب.
4- الرذاذ المطر الضعيف والوابل المطر الشديد والوهدة - بالفتح فالسكون - المنخفض من الأرض.
5- الهطل تتابع المطر وسيلانه.
6- البقرة: 22.

أي: أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء، وأنتم تعلمون أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة أنعمها عليكم ربُّكم تبارك وتعالى(1).

3 - عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: «فإن قال، فلم يعبدوه؟ قيل: لئّلا يكونوا ناسين لذكره ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه، إذا كان فيه صلاحهم وقوامهم، فلو تُركوا بغير تعبُّد لطال عليهم الأمد فقست قلوبهم»(2).

4 - عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: أفضل العبادة إدمان التفكرُّ في اللّه وفي قدرته(3).

5 - عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنُّما العبادة التفكُّر في أمر اللّه عزَّ وجلّ».(4)

6 - عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «إنّ أشد العبادة الورع»(5).

7 - عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: «لا عبادة إلا بتفقّه»(6).

8 - في توحيد المفضل الذي رواه عن الصادق (عليه السلام) كلام طويل في «التوحيد» ننقل منه هذه المقاطع:

ص: 115


1- البرهان 1: 67.
2- نور الثقلين 1: 39.
3- نور الثقلين 1: 40.
4- نور الثقلين 1: 40.
5- نور الثقلين 1: 40.
6- نور الثقلين 1: 41.
أ - في خلق الإنسان
اشارة

نبدأ يا مفضَّل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم، وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة(1)، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء، ولا دفع أذى. ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرّة، فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه الماء والنبات، فلا يزال ذلك غذاؤه.

كيفية ولادة الجنين وغذاؤه وطلوع أسنانه وبلوغه

حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه(2)على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقاة الضياء، هاج الطلق(3)بأُمّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتى يولد، فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أُمّه إلى ثديها، وانقلب الطعم واللّون إلى ضرب آخر من الغذاء، وهو أشدّ موافقةً للمولود من الدم، فيوافيه فيه وقت حاجته إليه، فحين يولد قد تلمظ(4) وحرّك شفتيه طلباً للرضاع، فهو يجد ثدي أُمّه كالأداوتين(5) المعلقتين لحاجته فلا يزال يتغذّى باللّبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء. حتى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه، طلعت له

ص: 116


1- المشيمة: غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة، جمعه مشيم ومشايم.
2- الأديم: الجلد المدبوغ.
3- الطلق - بسكون الثاني - : وجع الولادة.
4- تلمظ: إذا أخرج لسانه فمسح به شفتيه.
5- الأداوة - بكسر ففتح - : إناء صغير من جلد يتخذ للماء، جمعه أداوي.

الطواحن من الأسنان والأضراس(1) ليمضغ(2) بها الطعام، فيلين عليه. ويسهل له إساغته، فلا يزال كذلك حتى يدرك، فإذا أدرك وكان ذكراً طلع الشعر في وجهه، فكان ذلك علامة الذكر، وعزّ الرجل الذي يخرج به من جدّة الصبا وشبه النساء. وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقياً من الشعر، لتبقى لها البهجة، والنضارة التي تحرك الرجل لما فيه دوام النسل وبقاؤه.

اعتبر يا مفضّل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة، هل ترى مثله يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم، ألم يكن سيذوي ويجفّ كما يجفّ النبات إذا فقد الماء، ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤُدة(3) في الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعاً أو يغتذي بغذاء لا يلائمه، ولا يصلح عليه بدنه، ولو لم تطلع له الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته. أو يقيمه على الرضاع فلا يشتدُّ بدنه ولا يصلح لعمل؟ ثم كان يشغل أُمّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد.

حال من ينبت في وجهه الشعر وعلة ذلك

ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته، ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء، فلا ترى له جلالة ولا وقاراً؟

ص: 117


1- الطواحن: هي الأضراس، وتطلق الأضراس غالباً على المأخير والأسنان على المقاديم،كما هو الظاهر هنا، وإن لم يفرق اللغويون بينهما.
2- مضغ الطعام: لاكه بلسانه.
3- وأد البنت: دفنها في التراب حية، كما كان العرب يفعلون ذلك في العهد الجاهلي.

قال المفضّل: فقلت له: يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ الكبر، فقال (عليه السلام) : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}(1) فمن هذا الذي يرصده(2) حتى يوافيه بكلّ شيء من هذه المآرب إلاّ الذي أنشأه خلقاً بعد أن لم يكن، ثم توكّل له بمصلحته بعد أن كان، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير، فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال، لأنّهما ضدّ الإهمال، وهذا فظيع من القول وجهل من قائله. لأنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضاد لا يأتي بالنظام(3)، تعالى اللّه عما يقول الملحدون علوّاً كبيراً.

ب - زعم الطبيعيين وجوابه

قال المفضل فقلت: يا مولاي، إنّ قوماً يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة، فقال (عليه السلام) : سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال، أم ليست كذلك؟؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من

ص: 118


1- آل عمران: 182.
2- يرصده: أي يرقبه.
3- أي إذا لم تكن الأشياء منوطة بأسبابها، ولم ترتبط الأُمور بعللها، فكما جاز أن يحصل هذا الترتيب والنظام التام بلا سبب، فجاز أن يصير التدبير في الأُمور سبباً لاختلافها، وهذا خلاف ما يحكم به العقلاء لما يرون من سعيهم في تدبير الأُمور وذمّهم من يأتي بها على غير تأمل وروية، ويحتمل أن يكون المراد أن الوجدان يحكم بتضاد آثار الأُمور المتضادة، وربما أمكن إقامة البرهان عليه أيضاً، فإذا أتى الإهمال بالصواب يجب أن يأتي ضده وهو التدبير بالخطأ، وهذا أفظع وأشنع (من تعليقات البحار).

إثبات الخالق، فإن هذه صنعته!!(1)، وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، عُلم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم، فإن الذي سمّوه طبيعة هو سنّته في خلقه، الجارية على ما أجراها عليه(2)(3).

ج- - هيئة الأرض

فكّر يا مفضّل فيما خلق اللّه عزَّ وجلَّ عليه هذه الجواهر الأربعة(4)ليتّسع ما يحتاج إليه منها، فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها، فلولا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيم غناؤها. ولعلّ من ينكر هذه الفلوات(5)الخاوية والقفار الموحشة. فيقول: ما المنفعة فيها؟ فهي مأوى هذه الوحوش ومحالّها ومراعيها، ثم فيها بعد تنفّس ومضطرب للناس إذا

ص: 119


1- لعل المراد أنهم إذا قالوا بذلك فقد أثبتوا الصانع، فلم يسمونه بالطبيعة، وهي ليست بذات علم ولا إرادة ولا قدرة؟.
2- أي ظاهر بطلان هذا الزعم، والذي صار سبباً لذهولهم هو أن اللّه تعالى أجرى عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها، فذهبوا إلى استقلال تلك الأسباب في ذلك. وبعبارة أُخرى: إن سنة اللّه وعادته قد جرت لِحِكَمٍ كثيرة، أن تكون الأشياء بحسب بادي النظر مستندة إلى غيره تعالى، ثم يعلم - بعد الاعتبار والتفكَر - أنّ الكل مستند إلى قدرته أو تأثيره تعالى، وإنما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك، ومن هنا تحيّروا في الصانع تعالى.
3- توحيد المفضل: 18-19 .
4- المراد بالجواهر الأربعة؛ هي التراب، والماء، والهواء، والنار.
5- الفلوات جمع فلاة وهي الصحراء الواسعة.

احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم، فكم بيداء وكم فدفد(1)حالت قصوراً وجناناً، بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيّق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه.

ثم فكّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة، فتكون موطناً مستقراً للأشياء، فيتمكّن الناس من السعي عليها في مآربهم، والجلوس عليها لراحتهم، والنوم لهدوئهم، والاتقان لأعمالهم فإنها لو كانت رجراجة منكفئة، لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والنجارة والصناعة وما أشبه ذلك، بل كانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتجّ من تحتهم، واعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل - على قلّة مكثها - حتى يصيروا إلى ترك منازلهم، والهرب عنها. فإن قال قائل: فلمَ صارت هذه الأرض تزلزل؟ قيل له: إنّ الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب يرهب لها الناس ليرعووا، وينتزعوا عن المعاصي، وكذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم وأموالهم، يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم، ويدّخر لهم إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من أُمور الدنيا، وربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحاً للعامة والخاصة، ثم إنّ الأرض في طبعها الذي طبعها اللّه عليه باردة يابسة، وكذلك الحجارة، وإنّما الفرق بينها وبين الحجارة فضل يبس في الحجارة، أفرأيت لو أنّ اليبس أفرط على الأرض قليلاً، حتى تكون حجراً صلداً،

ص: 120


1- الفدفد: الفلاة، والجمع فدافد.

أكانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان، وكان يمكن بها حرث أو بناء؟؟ أفلا ترى كيف نقصت من يبس الحجارة وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة لتتهيأ للاعتماد(1).

د - الصحو والمطر

فكّر يا مفضّل في الصحو والمطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه، ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده، ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر، واسترخت أبدان الحيوان وحصر الهواء فأحدث ضروباً من الأمراض. وفسدت الطرق والمسالك. وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض، واحترق النبات، وغيض ماء العيون والأودية، فأضرّ ذلك بالناس، وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروباً أُخرى من الأمراض، فإذا تعاقب على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كلّ واحد منهما عادية الآخر، فصلحت الأشياء واستقامت. فإن قال قائل: ولِمَ لا يكون في شيء من ذلك مضرّة البتّة؟ قيل له: لِيُمضِّ ذلك الإنسان ويؤلمه بعض الألم، فيرعوي عن المعاصي، فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرّة البشعة ليقوم طباعه، ويصلح ما فسد منه، كذلك إذا طغى واشتد، احتاج إلى ما يُمِضَّهُ ويؤلمه، ليرعوي ويقصر عن مساويه، ويثبته على ما فيه حظه ورشده، ولو أنّ ملكاً من الملوك قسم في أهل مملكته قناطير(2)من ذهب وفضة، ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت، فأين هذا من

ص: 121


1- توحيد المفضل:90-91.
2- القناطير جمع قنطار وهو المال الكثير أو وزن اختلف مقدار موزونه مع الأيام.

مطرة رواء يعمّ به البلاد ويزيد في الغلاّت أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلّها، أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها، وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهمون، وربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيتذمّر ويسخط؛ إيثاراً للخسيس قدره على العظيم نفعه، جميلاً محموداً لعاقبته وقلّة معرفته(1)لعظيم الغناء والمنفعة فيها(2).

ه- - مصالح نزول المطر

تأمّل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك، فإنه جعل ينحدر عليها من عُلو ليغش ما غلظ وارتفع منها فيرويه، ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها، ويقل ما يزرع في الأرض، ألا ترى أنّ الذي يزرع سيحاً(3)أقل من ذلك، فالأمطار هي التي تطبق الأرض، وربما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها فَتُغِلّ الغلَّة الكثيرة. وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤنة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذو العزّ والقوّة، ويُحرمه الضعفاء، ثم إنه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحداراً جعل ذلك قطراً شبيهاً بالرش، ليغور في قعر الأرض فيرويها، ولو كان يسكبه انسكاباً كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها، ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها، فصار ينزل نزولاً رقيقاً، فينبت الحبّ

ص: 122


1- في الأصل المطبوع: «محمود العاقبة وقلة المعرفة».
2- توحيد المفضل: 94-95.
3- زراعة السيح هي الزراعة التي تحصل عن طريق الأنهر والمياه الجارية.

المزروع. ويحيي الأرض والزرع القائم.

وفي نزوله أيضاً مصالح أُخرى، فإنه يلين الأبدان، ويجلو كدر الهواء، فيرتفع الوباء الحادث من ذلك، ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الدماء المسمى باليرقان، إلى أشباه هذا من المنافع، فإن قال قائل: أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدّة ما يقع منه، أو بَرَدٍ(1)يكون فيه يحطم الغلاّت، وبخورة يحدثها في الهواء، فيولّد كثيراً من الأمراض في الأبدان، والآفات في الغلاّت؟ قيل: بلى قد يكون ذلك الفرط؛ لما فيه من صلاح الإنسان، وكفّه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها. فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه، أرجح ممّا عسى أن يُرزأ في ماله(2)!.

و - النبات
اشارة

فكّر يا مفضّل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب، فالثمار للغذاء، والأتبان(3)للعلف، والحطب للوقود، والخشب لكلّ شيء من أنواع التجارة وغيرها، واللِّحاء(4)والورق والأُصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع. أرأيت لو كنّا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض، ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها، كم كان يدخل

ص: 123


1- البرد - بفتحتين: ماء الغمام يتجمد في الهواء البارد ويسقط على الأرض حبوباً.
2- توحيد المفضل: 95-96.
3- لم نجد في معاجم اللغة العربية لفظ الاتبان على معنى التبن المعروف ولعل اللفظ قد غيره النساخ والصحيح تبن.
4- اللحاء: قشر العود أو الشجر.

علينا من الخلل في معاشنا، وإن كان الغذاء موجوداً فإن المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها، جليل موقعها، هذا مع ما في النبات من التلذُّذ بحسن منظره، ونضارته التي لا يعدلها شيء من مناظر العالم وملاهيه.

الريع في النبات وسببه

فكّر يا مفضّل في هذا الريع الذي جعل في الزرع، فصارت الحبّة الواحدة تخلف مائة حبّة وأكثر وأقل، وكان يجوز للحبّة أن تأتي بمثلها، فلم صارت تريع هذا الريع؛ إلاّ ليكون في الغلّة(1)متَّسع، لما يرد في الأرض من البذر، وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل، ألا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلدة من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم وما يقوّتهم إلى إدراك زرعهم.

فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدّم في تدبير الحكيم، فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة، وكذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير، فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمراً عظيماً، فلِمَ كان كذلك، إلاّ ليكون فيه ما يقطعه الناس ويستعملونه في مآربهم، وما يرّد فيغرس في الأرض، ولو كان الأصل منه يبقى منفرداً لا يفرخ ولا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس، ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله، فلم يكن منه خلف.

ص: 124


1- الغلَّة - بالفتح - : الدخل من كراء دار وفائدة أرض ونحو ذلك، والجمع غَلّات وغِلال.
بعض النباتات وكيف تصان

تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك، فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط(1)لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشتّد وتستحكم، كما قد تكون المشيمة(2)على الجنين لهذا المعنى بعينه، وأمّا البُرّ(3)وما أشبهه فإنه يخرج مُدرّجاً في قشورٍ صلاب على رؤوسها أمثال الأسنّة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفّر على الزّراع، فإن قال قائل: أوليس قد ينال الطير من البُرّ، والحبوب؟ قيل له: بلى، على هذا قُدّر الأمر فيها؛ لأنّ الطير خلق من خلق اللّه تعالى، وقد جعل اللّه تبارك وتعالى له في ما تُخرج الأرض حظاً، ولكن حُصِّنت الحبوب بهذه الحُجُب لئّلا يتمكّن الطير منها كلّ التمكُّن؛ فيعبث بها ويفسد الفساد الفاحش، فإنّ الطير لو صادف الحبَّ بارزاً ليس عليه شيء يحول دونه لأكبَّ عليه حتى ينسفه أصلاً، فكان يعرض من ذلك أن يبشم(4) الطير فيموت ويخرج الزراعُ من زرعه صفراً، فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه، فينال الطائر منه شيئاً يسيراً يتقوّت به، ويبقى أكثره للإنسان فإنّه أولى به؛ إذ كان هو الذي كدح فيه وشقي به، وكان الذي يحتاج إليه أكثر ممّا يحتاج إليه الطير.

ص: 125


1- لم نجد للفظ الخرائط هنا معنى يتسق ومراد الإمام (عليه السلام) ولعله يريد الشكل المخروطي، وهو ما يبتدئ من سطح مستدير ويرتفع مستدقاً حتى ينتهي إلى نقطة.
2- المشيمة: غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة، جمعه: مشيم ومشايم.
3- البُرّ - بضم فتشديد - هو القمح، الواحدة بُرّة.
4- يبشم من الطعام: أي يتخم من الطعام.
الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات

تأمّل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات، فإنها لمّا كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان، ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان، ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء، جُعلِت أُصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان وما عليه من الورق والثمر، فصارت الأرض كالأُمّ المربيّة لها، وصارت أُصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء، كما ترضع أصناف الحيوان أُمهّاتها، ألم تر إلى عُمُدِ الفساطيط(1) والخيم كيف تُمَدّ بالأطناب(2) من كل جانب لتثبت منتصبةً فلا تسقط ولا تميل، فهكذا تجد النبات كلّه له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كلّ جانب لتمسكه وتقيمه، ولولا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف؟

فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصنّاع في ثبات الفساطيط والخيم متقدّمة في خلق الشجر؛ لأنّ خلق الشجر قبل صنعه الفساطيط، ألا ترى عُمُدَها وعيدانها من الشجر، فالصناعة مأخوذة من الخلقة.

خلق الورق ووصفه

تأمّل يا مفضَّل خلق الورق، فإنّك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع، فمنها غلاظ ممتّدة في طولها وعرضها، ومنها دقاق تتخلّل تلك

ص: 126


1- الفساطيط: جمع فسطاط - بالضم أو الكسر - بيت من شعر.
2- الأطناب: جمع طنب - بضمتين - حبل طويل يشد به سرادق البيت.

الغلاظ، منسوجة نسجاً دقيقاً معجماً، لو كان ممّا يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق الشجرة واحدة في عام كامل، ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام، فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلّها بلا حركة ولا كلام، إلاّ بالإرادة النافذة في كل شيء والأمر المطاع، واعرف مع ذلك العلّة في تلك العروق الدقاق، فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها، لتسقيها وتوصل الماء إليها، بمنزلة العروق المبثوثة في البدن، لتوصل الغذاء إلى كلّ جزء منه، وفي الغلاظ منها معنى آخر، فإنها تمسك الورقة بصلابتها ومتانتها، لئلا تنهتك وتتمزق، فترى الورقة شبيها بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها وعرضها لتتماسك فلا تضطرب، فالصناعة تحكي الخلقة وإن كانت لا تدركها على الحقيقة.

العجم والنوى والعلّة في خلقه

فكّر في هذا العجم والنوى والعلّة فيه، فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق، كما يحرز الشيء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع أُخر، فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر، ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقتّها، ولولا ذلك لتشدّخت(1) وتفسخت وأسرع إليها الفساد، وبعضه يؤكل ويستخرج دهنه، فيستعمل منه ضروب من المصالح، وقد تبين لك موضع الأرب في العجم والنوى.

ص: 127


1- تشدّخت: تكسرت.

فكّر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة، وفوق العجم من العنبة، فما العلّة فيه؟ ولماذا يخرج في هذه الهيئة؟ وقد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السدر(1)والدُّلب(2)وما أشبه ذلك. فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة، إلاّ ليستمتع بها الإنسان؟

موت الشجر وتجدّد حياته وما في ذلك من ضروب التدبير

فكّر في ضروب من التدبير في الشجر، فإنّك تراه يموت في كل سنة موتةً، فتحتبس الحرارة الغريزيّة في عوده، ويتولّد فيه مواد الثمار ثم يحيي وينتشر، فيأتيك بهذه الفواكه نوعاً بعد نوع، كما تعد نوع، كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحداً بعد واحد، فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد، وترى الرياحين تتلقاها في أفنانها(3)كأنها تجيؤك بأنفسها، فلمن هذا التقدير إلاّ لِمُقدّر حكيم وما العلَّة فيها إلاّ تفكيه الإنسان بهذه الثمار والأنوار؟.. والعجب من أُناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المُنعِم بها.

خلقُ الرَّمانة وأثر العمد فيه

واعتبر بخلق الرّمانة وما ترى فيه من أثر العمد والتدبير، فإنّك ترى فيها كأمثال التلال، من شحم مركوم في نواحيها، وحبّ مرصوف صفّاً كنحو ما

ص: 128


1- السدر - بالكسر - : شجر النبق، جمعه سدور.
2- الدلب - بالضم - : شجر عظيم عريض الورق لا زهر له ولا ثمر، والواحدة دلبة.
3- الأفنان: جمع فنن وهو الغصن المستقيم.

ينضد بالأيدي، وترى الحبّ مقسوماً أقساماً، وكل قسم منها ملفوفاً بلفائف من حُجُبٍ منسوجةٍ أعجبَ النسج وألطفه، وقشره يضمّ ذلك كلّه.

فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحبّ وحده، وذلك أنّ الحبّ لا يمد بعضه بعضاً، فجعل ذلك الشحم خلال الحبّ ليمدّه بالغذاء. ألا ترى أنّ أُصول الحبّ مركوزة في ذلك الشحم، ثم لُفّ بتلك اللّفائف لتِضمَّهُ وتمسكه فلا يضطرب، وغشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه وتحصّنه من الآفات، فهذا قليل من كثير من وصف الرّمانة، وفيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب(1) والتذرُّع(2) في الكلام، ولكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة والاعتبار.

حمل اليقطين وما فيه من التدبير والحكمة

فكّر يا مفضّل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء والقثّاء(3)والبطيخ وما في ذلك من التدبير والحكمة، فإنه حين قدر أن يحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطاً على الأرض، ولو كان ينتصب قائماً كما ينتصب الزرع والشجر، لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة، ولتقصف قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها، فانظر كيف صار يمتدّ على وجه الأرض ليلقي عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من

ص: 129


1- يقال أطنب في الوصف أو القول، أي بالغ.
2- التذرع في الكلام هو الإكثار منه والافراط فيه.
3- القثاء - بالضم - : نوع من النبات ثمرة يشبه ثمر الخيار، الواحدة قثاءة.

القرع(1)والبطيخ مفترشاً للأرض، وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرّة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها(2)لترضع منها.

موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها

وانظر كيف صارت الأصناف توافي الوقت المشاكل لها، من حمارة الصيف ووقدة الحرّ فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق اليها، ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعراراً(3)منها مع ما يكون فيها من المضرّة للأبدان. ألا ترى أنه ربما أدرك شيءً من الخيار في الشتاء، فيمتنع الناس من أكله، إلاّ الشَّرِه الذي لا يمتنع من أكل ما يضرُّه ويسقم معدته.

في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك

فكّر يا مفضّل في النخل، فإنه لمّا صار فيه أناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة اللّقاح من غير غراس، فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الاناث لتحمل وهو لا يحمل.

تأمّل خلقة الجذع كيف هو؟ فإنك تراه كالمنسوج نسجاً من خيوط ممدودة كالسِّدى، واُخرى معه معترضة كاللحمة(4)كنحو ما ينسح بالأيدي،

ص: 130


1- القرع - بالفتح - : نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.
2- الجراء: جمع جرو - بتثليث الجيم - صغير كل شيء حتى الرمان والبطيخ وغلب على الكلب والأسد والمراد هنا بالجراء أولاد الهرة.
3- اقشعرّ: تغيّر لونه.
4- اللحمة - بالضم - : ما سدي به بين سدي الثوب أي ما نسج عرضاً وهو خلاف سواه، والجمع لحم.

وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات(1)الثقيلة، وهزّ الرياح العواصف إذا صار نخلة، وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك ممّا يتخذ منه إذا صار جذعاً.

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنّك ترى بعضه مداخلاً بعضاً طولاً وعرضاً كتداخل أجزاء اللّحم، وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفاً(2)كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسِرَّة والتوابيت وما أشبه ذلك، ومن جسيم المصالح في الخشب أنه يطفو على الماء، فكل الناس يعرف هذا منه، وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه، فلولا هذه الخلّة كيف كانت هذه السفن والأظراف(3)تحمل أمثال الجبال من الحمولة، وأنّى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المؤنة في حمل التجارات من بلد إلى بلد، وكانت تعظم المؤنة عليهم في حملها، حتى يُلفى كثير ممّا يُحتاج إليه في بعض البلدان مفقوداً أصلاً، أو عسر وجوده.

العقاقير وخواص كل منها

فكّر في هذه العقاقير وما خص بها كلُّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء، فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظ مثل

ص: 131


1- القنوات: جمع قناة وهي العصا الغليظة، وقد أراد بها الإمام (عليه السلام) هنا سعف النخل الغليظة.
2- أراد بالمستحصف: الشديد المحكم كأنه الحجارة.
3- كذا في النسخ.

الشيطرج(1)وهذا ينزف المِرَّة السوداء(2)مثل الأفتيمون(3)، وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج(4) وهذا يحلّل الأورام، وأشباه هذا من أفعالها، فمن جعل هذه القوى فيها إلاّ من خلقها للمنفعة؟ ومن فطَّن الناس لها إلاّ من جعل هذا فيها؟ ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق كما قال القائلون؟ وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف روّيته وتجاربه، فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحه إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ، وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم، وأشباه هذا كثير، ولعلّك تشكّك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا اُنس ولا أنيس، فتظنّ أنه فضل لا حاجة إليه، وليس كذلك، بل هو طعم لهذه الوحوش، وحبّه علف للطير، وعوده وأفنانه حطب، فيستعمله الناس، وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان، واُخرى تدبغ بها الجلود، واُخرى تصبغ الأمتعة، وأشباه هذا من المصالح. ألستَ تعلم أن من أخسّ النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها، ففيها مع هذا من ضروب

ص: 132


1- جاء في تذكرة الانطاكي: شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب، له ورق عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو، وزهره أحمر إلى بياض، يُخلِّف بزراً أسود أصغر من الخردل، ورائحته ثقيلة حادة وطعمه إلى مرارة.
2- المرة السوداء: خلط من أخلاط البدن، والجمع مرار.
3- افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع كالخيوط الليفية تحف باوراق دقاق خضر وزهرة إلى حمرة وغيرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة يلتف بما يليه.
4- سكبينج أو سكنبيج هو شجرة بفارس، ويورد الأطباء الأقدمون أوصافاً طبية كثيرة من السكبينج ويذكرون أنه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.

المنافع، فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة، والحصر التي يستعملها كلّ صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقي بها الأواني، ويجعل حشواً بين الظروف وفي الأسفاط، لكيلا تعيب وتنكسر، وأشباه هذا من المنافع.

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره، وبما له قيمة وما لا قيمة له، وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معاً، وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء، حتى أنّ كلّ شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلاّ بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس، ويكرهون الدنوّ منه(1).

سبحان ربِّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

انتهی في اليوم التاسع من شهر ربيع الأول من عام 1415ه- ، اليوم الذي يحتفل فيه بانتقال الإمامة إلی حجة اللّه، وولي المؤمنين، وبوار الكافرين، ومجلي الظلمة، ومنير الحق، الذي يملأ اللّه به الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملأت ظلماً وجوراً: المهدي المنتظر عجل اللّه تعالی فرجه وسهل مخرجه، وجعلنا من أعوانه وأنصاره، وصلی اللّه علی محمد وآله الطاهرين.

ص: 133


1- توحيد المفضل: 99-107.

ص: 134

سورة آل عمران(1) مدنية آياتها (200)

اشارة

(1) من هنا إلى نهاية الكتاب قرر بقلم السيد

محمد علي الحسيني الشيرازي.

ص: 135

ص: 136

فضل السورة

فضل السورة(1)

روي عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه، قال: كنت جالساً عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «تعلموا سورة البقرة وسورة آل عمران، فإنّهما الزهراوان، تظلاّن صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صوافّ».

وعن أُبيّ بن كعب عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «من قرأ سورة آل عمران أُعطي بكلّ آية منها أماناً على جسر جهنم».

وعن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلّى اللّه عليه وملائكته حتى تغيب الشمس».

المدخل

اشارة

قبل البدء بتفسير آيات هذه السورة المباركة ينبغي تقديم مقدّمة لعلّها تلقي الأضواء على الأجواء التي كانت تكتنف نزول هذه السورة الشريفة، والمقدّمة هي:

التحدّي مفترق طرق الحضارات

اشارة

هناك نظرية في علم الحضارات ذكرها أكبر مؤرخّي القرن الماضي

ص: 137


1- مجمع البيان 2: 232.

- (1) بعد أن درس تاريخ عشرات الحضارات - تقول: إنّ التحدّي هو مفترق طرق الحضارات، فالحضارات ومجتمعاتها تواجه دائماً تحدّياً إمّا أن تنتهي به أو ترتفع، ولم تشذ الحضارة الإسلامية عن هذه القاعدة المطّردة، فقد واجه المجتمع الإسلامي في بداية نشأته، نحوين خطيرين من أنحاء التحديات أشير إليهما في هذه السورة المباركة، هما:

1 - التحدي العسكري

وهو تحدٍّ خطير جداً؛ إذ كان بإمكانه القضاء على الدين، لولا لطف اللّه وعنايته ورحمته، فقد تظاهرت كلُّ القوى العالمية آنذاك - اليهود والنصارى والمشركون والروم والفرس- ضد الدين الجديد الذي كان يمثله ثلّة مؤمنة قليلة في المدينة المنورة.

وقد تمثّل هذا التظاهر بشنّ الحروب المباشرة وغير المباشرة، من خلال التحريض عليها، والسعي الحثيث في وقوعها أو دعمها مادياً ومعنوياً، فلو

ص: 138


1- هو المؤرّخ الإنكليزي أرنولد جوزف توينبي (Arnold J. Toynbee) من أشهر المؤرخين في القرن العشرين، ولد في 14 أبريل 1889 وتوفي في 22 أكتوبر 1975، فسّر نشوء الحضارات الأُولى أو كما يُسمّيها الحضارات المُنقطعة، من خلال نظريّته الشهيرة الخاصَّة ب- «التحدّي والاستجابة»، التي يعترف بأنَّه استلهمها من علم النفس السلوكيّ وعلى وجه الخصوص من كارل يونغ (1875-1961م) الذي يقول فيها: إنّ الفرد الذي يتعرّض لصدمة قد يفقد توازنه لفترة ما، ثمّ قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة: الأولى: النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فيُصبح انطوائيّاً. والثانية: تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثمّ محاولة التغلّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيّاً. فالحالة الأولى تُعتَبر استجابةً سلبيّة، والثانية إيجابيّة بالنسبة لعلم النفس.

أنّ المسلمين كانوا يهزمون في إحدى تلك المعارك -وكادوا أن يهزموا ويسحقوا في معركة أُحد، حيث لم يبق على هزيمتهم إلاّ القليل - لانتهى الإسلام إلى الأبد وقضي عليه، لذا خاطب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللّه عزّ وجلّ في إحدى تلك الحروب -وهي غزوة الخندق التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة- قائلاً عندما برز الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمر بن ود العامري: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه، إلهي إن شئت أن لا تُعبد فلا تعبد»(1) .. فلو كانت تقع الهزيمة لم يكن ليبقى موحّدٌ على وجه هذه الكرة الأرضية.

وكذلك في معركة حُنين، إذ قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}(2) فلو هزمت هذه القلّة لانتهى كل شيء، ولم يبق موحِّد ينشر دين اللّه سبحانه وتعالى.

وفي آيات هذه السورة - آل عمران - هناك إشارة واضحة إلى هذا النحو من التحدّي، كالإشارة الموجودة في الآية المباركة التي تتحدث عن معركة بدر وأُحد؛ إذ يقول اللّه تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}(3)، ويقول: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4).

2 - التحدي الحضاري
اشارة

وهو لا يقل خطورة عن النحو الأوّل إن لم يكن أخطر منه، وهو يشمل

ص: 139


1- مواقف الشيعة 3: 123.
2- التوبة: 25.
3- آل عمران: 123.
4- آل عمران: 121.

التحدّي الثقافي والفكري، علماً بأنّ نجاح الأعداء في هذا التحدّي يعني: سقوط الأُمّة حضارياً وانتهاءها، والأُمّة الساقطةٌ حضارياً ساقطة معنوياً وإن لم ينته وجودها المادي.

وقد قام بهذا التحدّي أحبار اليهود وعلماء النصارى والمشركون، حيث كانوا يحاولون أن يسقطوا المجتمع الإسلامي بإسقاط القاعدة الفكرية التي يبتني عليها، وفي هذه السورة إشارة إلى هذا اللون من التحدي، فيمكن -واللّه أعلم- أن نلخِّصَ السورة في كلمة واحدة وهي: (المجتمع المسلم في مواجهة التحديات).

نصارى نجران نموذجٌ للتحدي الحضاري

ذكر المؤرّخون أنّ وفداً ضخماً ومهّماً ضمّ ستين شخصية كبيرة من نجران(1)، بعضها شخصيات اجتماعية وبعضها علمية، قدم إلى المدينة وعليهم جُبب وأردية يرتدون ثياب الحَبِرات، وفي مقدمتهم اُسقُفٌ من أساقفة النصارى يُكنّى أبا حارثة، وقد كان ملوك الروم قد شرّفوه وموّلوه، وبُنيت تحت إشرافه مجموعة من الكنائس. جاء والتقى النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تحدٍّ حضاري فكرّي وثقافي، حتى أنّ بعض الصحابة، قال: ما رأينا وفداً مثلهم!! وكان سقوط المسلمين في هذا التحدي يعني نهايتهم.

فدخل الوفد مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وكما يبدو فإنّ تحريم دخول الكفّار المساجد شُرِّع فيما بعد - ولمّا حان وقت الصلاة ضربوا بنواقيسهم أمام المسلمين وصلّوا باتجاه المشرق، فقالت الصحابة: يا رسول اللّه هذا مسجدك!! فقال النبي

ص: 140


1- نجران: منطقة جبلية في جنوب الحجاز، ولعل هناك أكثر من منطقة يُطلق عليها نجران.

الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : دعوهم، فصلّوا وبعد أن انتهوا جاؤوا إلى النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد عرض عليهم الإسلام، فقالوا: أسلمنا قبلك. أي: لا حاجة بنا إلى هذا العرض، ثم حاجّوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دينه، وعلى إثر هذه القضية - كما يقول المؤرّخون - نزلت أكثر من ثمانين آية من آيات هذه السورة المباركة(1).

ص: 141


1- نزلت الآيات في وفد نجران: العاقب والسيد ومن معهما. قالوا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ...} الآيات، فقرأها عليهم، عن ابن عباس وقتادة والحسن، فلما دعاهم رسول اللّه إلى المباهلة، استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا إلى رجالهم، قال لهم الأسقف: انظروا محمداً في غد، فإن أتى بولده وأهله، فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنه على غير شيء، فلمّا كان الغد جاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) آخذاً بيده علي بن أبي طالب (عليه السلام) والحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) بين يديه يمشيان، وفاطمة (عليها السلام) تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم، فلمّا رأى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه، وزوج ابنته، وأحب الخلق إليه. وهذان ابنا بنته من علي (عليه السلام) . وهذه الجارية بنته فاطمة، أعزّ الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه. وتقدم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجثا على ركبتيه. قال أبو حارثة الأسقف: جثا واللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة فكعّ - ضعف وجبن- ولم يقدم على المباهلة. فقال السيد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة. فقال: لا إني لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة، وأنا أخاف أن يكون صادقاً، ولئن كان صادقاً لم يحل واللّه علينا الحول، وفي الدنيا نصراني يطعم الماء! فقال الأسقف: ياأبا القاسم! إنا لا نباهلك، ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به. وروي أن الأسقف قال لهم: إني لأرى وجوهاً لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. وقال النبي: والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلهم! قالوا: فلما رجع وفد نجران لم يلبث السيد والعاقب إلا يسيراً حتى رجعا إلى النبي، وأهدى العاقب له حُلّة وعصاً وقدحاً ونعلين، وأسلما. مجمع البيان 2: 310.

الآيات 1-6

اشارة

الآيات {بسم اللّه الرحمن الرحيم * الم * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)

المفردات

[الم]: حروف الهجاء التي يتألف منها الكلام البشري وهي في متناول الجميع(2)، وقد أُنشئت من جنسها القاعدة التي تبتني عليها جميع التحدّيات الفكرية والثقافية، وهي دليل على أنّ الإنزال من اللّه عزّ وجلّ، وليس كما يزعم الكفار أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعلّمه من بعض الأعجميين.

[اللّهُ]: عَلَم للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.

[لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]: متفرد بالوحدانية، متفرد في الأُلوهية.

[الْحَيُّ]: صفة مشبهة تدلّ على استمرار الحياة الذاتية التي لا تستمد من

ص: 142


1- آل عمران: 1-6.
2- التدبر في القرآن 1: 277.

مصدر في وجودها، الحياة التي لا أوّل لها، لأنها لم تنشأ من العدم، والتي لا آخر لها لكونها عين الذات.

[الْقَيُّومُ]: القائم بتدبير النظام التكويني والتشريعي، وهو اسم لله عزّ وجلّ ومنشأ جميع صفات الفعل.

[نُزَّلَ]: التنزيل يدلّ على النزول التدريجي، كما أن الإنزال يدلّ على النزول الدفعي.

[الْكِتَابَ]: القرآن الكريم الذي هو مصدر للدين المنزل منِ قَبل اللّه تعالى.

[الْحَقِّ]: الباء للمصاحبة، أي مصحوباً بالحق، والحق: الشيء الثابت الذي لا طريق للباطل إليه بأي وجه من الوجوه.

[مُصَدِّقاً]: القرآن يصدّق جميع الكتب والأنبياء السابقين.

[لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]: ما تقدّمه (من الكتب السماوية والأنبياء السابقين).

ِ[من قَبْلُ]: قبل نزول القرآن.

[عَزِيزٌ]: العزة تعني القدرة، والعزيز هو الذي له إرادة تَغلِب ولا تُغلب، فاللّه تعالى قادر غالب وإرادته قاهرة.

[ذُو انتِقَام]: منتقم، والانتقام: مجازاة المسيء بإساءته.

[الْفُرْقَانَ]: الآيات المحكمة التي لا ريب ولا شك فيها.

[شَيْءٌ]: نكرة في سياق النفي تدل على الإطلاق، وينضوي تحت إطلاقها جميع الوجودات، والشيء مساوق للوجود، فكل موجود مُحاط بعلم اللّه تعالى

ص: 143

[يُصَوِّرُكُمْ]: التصوير يعني جعل الشيء على صورة وهيئة لم يك عليها.

[الْحَكِيمُ]: من يضع الأشياء في مواضعها.

التفسير

تشير الآيات في السورة المباركة - بعد البسملة - إلى أهمّ تحدٍّ من التحديات الفكرية والثقافية، وهو إثبات مصدر القرآن الكريم؛ إذ إنّ أهمّ قضية في القرآن الكريم هي: مصدرهُ، وهنا يطرح السؤال التالي وهو: ما هو مصدر القرآن الكريم، وهل أنه كلام بشري أو وحي إلهي؟(1).

الوحي مصدر القرآن الكريم

* [الم]: تُثبِت الأحرف الثلاثة - الحروف المقطّعة- أنّ مصدر القرآن الكريم هو الوحي الإلهي، علماً أنّ معظم السور القرآنية التي احتوت على الحروف المقطعة تكون بعدها إشارة إلى القرآن الكريم، وهو مؤيد على أنه وحي إلهي، وقد نقل الحويزي في تفسيره مؤيِّداً آخر، وهي الرواية المروية عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : حدثنا محمد بن القاسم الإستربادي المعروف بأبي الحسن الجرجاني المفسّر رضوان اللّه تعالى عليه، قال: حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد ابن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار عن أبويهما عن الحسن بن علي بن

ص: 144


1- يرى المؤلف (رحمه اللّه) أن أهم قضية في التحدي الحضاري في الوقت الراهن والذي يعد استمراراً لما سبق من نهج المعارضين وعلى ذات الخُطى، هو توجيه الضربة إلى نبوة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باعتبارها القاعدة التي يستند عليها الدين، وبالتحديد إلى الأساس الذي تستند عليه وهو مصدرها، أي القرآن الكريم، فالدين كله مستند على النبوة والنبوة مستندة على القرآن الكريم لاعتباره وثيقة النبوة، بل أهم وثيقة فيها؛ والآيات في بداية هذه السورة تشير إلى هذا التحدي.

محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) أنه قال: كذبّت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: «سحر مبين تقوّله» فقال اللّه: {الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي: يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو بالحروف المقطعة التي منها «ألف، لام، ميم» وهي بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بيَّن أنهم لا يقدرون عليه بقوله: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(1).

العلل الأربع في الماديات

وهنا يطرح سؤال وهو: كيف تكون الإجابة على هذا التحدّي من خلال هذه الحروف؟

وللجواب على هذا السؤال نقدّم مقدّمة وهي: إنّ كلّ شيء مادي - من موجودات عالم الطبيعة- يتكوّن في قوامه من علّتين، ويستند أيضاً إلى علّتين أُخريين لا تدخلان في قوامه:

العلّة الأُولى: التي تدخل في القوام، هي العلّة المادية ، فالمادة الخام التي يتكوّن منها الشيء يقال لها العلّة المادية، كالمنضدة، فإنّ علَّتها المادية الخشب الذي جُلِبَ من الغابة وكُوّنت منه مادة الخام.

العلّة الثانية: هي العلّة الصورية، وهي الصورة التي تُضفى على المادة، فالمنضدة تختلف عن الباب، والاختلاف بينهما ليس في المادة فكلتاهما

ص: 145


1- نور الثقلين 1: 27.

من الخشب، بل في صورتهما المضفاة عليهما.

العلّة الثالثة والرابعة: وهما اللتان لا تدخلان في قوام الشيء وإنما يُستند إليهما في وجوده، فهما: العلّة الفاعلية، ومثالها صانع المنضدة، والعلّة الغائية، ومثالها الهدف من صناعتها.

بعد هذه المقدمة نقول: ربما يظهر من الآية والآيات المماثلة أنّ القرآن الذي بين أيديكم، لا يتكون من مادة بعيدة عنكم، بل هي في متناول الجميع حتى الصبيان.

فإنّ (ألف لام ميم) تتكلمون بها في كلامكم العادي، ولكنّ هذه المادة أُفيضت عليها هذه الصورة المعجزة التي أعجزت البشرية في كل أبعادها.

بالطبع، التحدي غير مقتصر على بُعْدٍ واحد، وإنما هو تحدٍّ في كل الأبعاد، فالقرآن الكريم بعلّته الصورية، وبهيئته التركيبية تحدّى جميع البلغاء في العالم، بل أعاظمهم كالوليد بن المغيرة الذي قيل فيه: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(1).

القرآن يتحدّى

هناك سؤال آخر يُطرح وهو: لماذا خاض أمثال أبي سفيان وجماعته، واليهود والروم والفرس وبقية القوى، الحروب والمعارك وبذلوا أموالهم وخسروا كبارهم من أجل إنهاء القرآن الكريم، ألم يكن الأفضل لهم أن يعقدوا مؤتمراً لشهر أو سنة ليأتوا بسورة كسورة الكوثر أو كسورة التوحيد

ص: 146


1- الزخرف: 31.

أو سطرين أو ثلاثة أسطر؟ ألم يكن ذلك أيسر من خوض المعارك والمؤامرات والمطاحنات؟

والجواب: هو عجزهم وضعفهم، فهذا الدين - الذي يهدّدهم تهديداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً - أخذ يدمّر جميع بناهم وتحدّاهم كتابه بأن يأتوا بمثله فلم يقدروا، تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، لم يتمكنوا، تحدّاهم أن يأتوا بسورة واحدة، بل بسطرين، فعجزوا عن ذلك، بل وكانوا يسقطون أمامه.

فهذا لبيد الشاعر المعروف(1)جاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسمع منه بعض الآيات فآمن على يديه، وعندما طُلب منه قراءة شيءٍ من الشعر قال ما معناه: لم أكن لأقرأ شيئاً من الشعر بعد سورة البقرة وآل عمران(2).

وذاك الوليد بن المغيرة - الذي كان يُحتكم إليه - دنا من النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال له: يامحمد أنشدني من شعرك، فقال - النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما هو بشعر، ثم تلا عليه آيات من سورة فُصّلت، فذهل الوليد

ص: 147


1- هو الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري، قدم مع قومه على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سنة تسع للهجرة الشريفة فأسلم وحسن إسلامه، ترك قول الشعر منذ إسلامه وحتى وفاته، عمّر طويلاً ومات وهو ابن 140 سنة وقيل 157، وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين هجرية على أشهر الأقوال.
2- عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة عامله على الكوفة أن ادع من قبلك من الشعراء فاستنشدهم ما قالوا من الشعر في الجاهلية والإسلام ثم اكتب بذلك إليَّ، فدعاهم المغيرة فقال للبيد: أنشدني ما قلت من الشعر في الجاهلية والإسلام. قال: أبدلني اللّه عزّ وجلّ بذلك سورة البقرة وسورة آل عمران. المنتخب من كتاب ذيل المذيّل لمحمد بن جرير الطبري: 42-43.

وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته(1).

وليس ذاك بعجيب لأن الشاعر والأديب يشعران بعمق القرآن وغوره.

ومنذ ذلك العهد حتى اليوم وقد مضى على هذا التحدي أكثر من 1400 عام لم تتمكّن القوى العالمية التي تبذل الأموال الطائلة لصناعة المؤامرات والتخطيطات الشيطانية والمعارك الطاحنة، من التحدي سابقاً ولاحقاً، وفشلت في تصفية هذا الدين فشلاً ذريعاً؛ حيث لم يتمكنّوا أن يأتوا حتى

ص: 148


1- هو الوليد بن المغيرة، كان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب وكان من المستهزئين برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقعد في الحجر ويقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد؟ شعر أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر، ولكنه كلام اللّه الذي ارتضاه الملائكة وأنبياؤه ورسله، فقال: اتل عليَّ منه شيئاً، فقرأ عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حم السجدة، فلما بلغ قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍوَثَمُودَ} قال: فاقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ومرّ إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمد أما تراه لم يرجع إلينا؟ فعدا أبو جهل إلى الوليد فقال له: يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا، وأشمت بنا عدونا، وصبوت إلى دين محمد، قال: ما صبوت إلى دينه، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود! فقال له أبو جهل: أخطب هي؟ قال: لا، إن الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضاً، قال: فشعر هو؟ قال: لا، أما إني قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر، قالوا: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه، فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله في ذلك: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وإنما سمي وحيداً لأنه قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة...، بحار الأنوار 9: 245.

بسورة واحدة.

نقل أحد العلماء أنّ أديباً مسيحياً يعيش في لبنان يقول لأديب مسلم: كيف تدّعون أنّ القرآن معجزة وتحدٍّ؟ أنا آتي بمثله، فقال الأديب المسلم: حسناً صُغ لنا جملة أدبية في معنى معين وأنت أديب مقتدر، فصاغ جملة وعرضها على الأديب المسلم.

فقال له: صُغ لنا جملة ثانية وثالثة وهكذا إلى عدّة جمل فصاغها، فقال الأديب المسلم: أرأيت هذه الجمل البليغة التي صُغتها ببلاغتك، كلّها مجموعة عندنا في جملة واحدة، ثم تلا عليه آية تتضمن نفس المعنى، وإذا بالأديب المسيحي يذهل ويدهش ويخر بين يديه مُسقَطاً ما في يده!!.

إعجاز القرآن في تشريعاته

مثّل القرآن الكريم في تشريعاته تحدّياً لكلّ البشرية خاصّة العلماء وذوي الاختصاص، كعلماء القانون وفقهائه ممّن وقفوا أمام هذه التشريعات بعد 1400 عام منبهرين؛ إذ لم يتمكنوا من فهم التشريعات القرآنية كل الفهم.

ففي آية الدَّيْن -أطول آية في القرآن الكريم- يقول القمّي في تفسيره إنها تضمّنت خمسة عشر حكماً، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ

ص: 149

فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}(1).

ولم يقتصر عدم الفهم والانبهار على علماء القانون، بل حتى علماء التاريخ وقفوا منبهرين أمام تنبّؤات القرآن الكريم، وكذلك علماء الطبيعة، وليس ذلك بعجيب فالجاهل قد لا يفهم الإشارات الطبيعية في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكنّ عالم الطبيعة، عالم الذرّة،عالم النبات،عالم الفلك عندما يقرأون القرآن الكريم يقفون مذهولين لأنهم يفقهون عظمة ما يقرأون.

وعلى كلٍّ فقد تحدّى القرآن في كل شيء: في البلاغة، الفصاحة، التشريع، المعارف الإلهية، فأنصع المعارف الإلهية موجودة في القرآن إذا ماقارناها بمعارف التوراة والإنجيل المنحرفتين، وبكتب الفلاسفة والعرفاء، فالفرق بينها وبين القرآن الكريم كبير في التشريع والطبيعة والفلك وبقيّة الأبعاد.

إذن، هذه الأحرف الثلاثة: هي القاعدة التي تبتني عليها جميع التحديات

ص: 150


1- البقرة: 282.

الفكرية والثقافية(1).

{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}

القيّوم: قيوم على نظام التكوين، قائم بتدبيره، لم يترك الكون كما قالت اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}(2)، بل هو {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(3) فهذه هي القيمومة التكوينية، وهو قيّوم بالقيمومة التشريعية أيضاً: ولم يترك البشرية بلا دين وبلا تشريع، فكما أنه تعالى قائم على نظام التكوين كذلك قائم على نظام التشريع.

ص: 151


1- إن فشل المعارضين لهذا القرآن على مدى أربعة عشر قرناً أثار في نفوسهم الخوف والرهبة؛ إذ لمسوا سيطرته على العقول والأنفس بشكل لا يُقاوم، فهو كالمصباح الكهربائي بالنسبة للشمعة، والذي في يده المصباح يُرهب الذي في يده الشمعة، لأن قوته تكتسح بلا منازع وهو خلاف مراد الأعداء؛ لذا تجد الحروب ضده قائمة على قدم وساق لإطفائه فيقف الناس عندها في الظلمة لا سبيل لهم إلاّ الالتفاف حول الشمعة، وهو السر في قيام الحروب ضد الدين والحجاب والمسلمين والشعارات الإسلامية، مع أنهم بنوا بلادهم على أساس الحرية كما يزعمون، إلا أن هذه الحرب لازالت تمدّهم بالخيبة وتمدّ المسلمين بالأمل، خصوصاً لمّا يطّلعوا على الاعترافات الخطيرة لعلمائهم بعظمة القرآن الكريم والإذعان له كقول العالم الفلكي «جيمس جينز» مثلاً الذي سمع العالم المسلم «عناية اللّه المشرقي» يتلو الآية الكريمة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)، فصرخ قائلاً: مدهش وغريب إنه الأمر الذي كشفت عنه بعد دراسة استمرت خمسين سنة، من أنبأ محمّداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فأنا أشهد أنّ القرآن كتاب موحى به من عند اللّه. (نص كلام المؤلف (رحمه اللّه) مع تعديل وإضافة).
2- المائدة: 64.
3- الرعد: 33.

صفات القيمومة الإلهية

1- إنها غير قابلة للانفكاك

ربما تكون هناك حياة بلا قيمومة، كأن يحكم ملك بلداً ولكنه ليس قيّماً عليها، فتسترسل الأُمور على رسلها في ذاك البلد، فهو حيٌّ ولكنّه ليس قائماً.

وربما تكون قيمومة بلا حياة كما في قيمومة العلل الطبيعية - على فرض القيمومية لها - ولكنّ قيمومة اللّه تعالى ملازمة للحياة ملازمة غير قابلة للانفكاك.

2 - القيمومية مرجع كل صفات الفعل

القيوم اسم من الأسماء الحسنى لله تعالى، ومنها تتفرع جميع صفات الفعل، فإنّ لله عزّ وجلّ صفات ذات وصفات فعل، وصفات الفعل تنشأ كلها من صفة القيومية، فاللّه تعالى رازق في نظام التكوين، والرازقية صفة فعل، وهي تنشأ من قيمومته تعالى. وهو تعالى هادٍ في نظام التشريع وهذه الهداية تنبع من قيومية اللّه سبحانه وتعالى، وكذلك إنه عزّ وجلّ محيي ومميت، إذن جميع صفات الفعل تنشأ من هذه الصفة، لا كما يدّعي أحد فلاسفة الغرب: إنّ اللّه سبحانه أرفع وأجلّ من أن يشرّع ديناً لهذه البشرية!!

قاعدة اللطف

سُئل المرجع المشهور السيد البروجردي: بأيّ دليل تقولون بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان؟ فقرأ بيتاً باللغة الفارسية معناه باللغة العربية:

(إذا رأيت أعمى يمشي وأمامه بئر يُخشى عليه من أن يسقط فيها - ولا

ص: 152

يوجد مانع من تحذيره - فإذا لم تحذره فهذه جريمة)(1).

ويظهر من كلامه رحمه اللّه أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُبتنى على قاعدة عقلية: وهي قاعدة اللُّطف المذكورة في علم العقائد(2).

مثال توضيحي

لو شاهد الوالد ابنه جالساً على مائدة يتناول طعاماً مسموماً، فهل إنه يرفض التدخُّل في شأنه ويترك تنبيهه؟!! هذا خلاف اللُّطف، اللّه تعالى لطيف بعباده، ولا مجال للقول: إنّه عزّ وجلّ أرفع من أن يشرع ديناً للبشرية، فبمقتضى لطفه وكرمه ورحمته يرشد الذين لا يميّزون خيرهم من شرِّهم، فكما هو قائم عليهم في نظام التكوين كذلك هو قائم عليهم في نظام التشريع، وبذلك يظهر زيف العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة والسياسة والنظام المدني، لأنّ من لا يعرف مصالحه ومفاسده يحتاج إلى دليل ومرشد، وهذا الأمر من البديهيات العقلية.

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}.

موقف القرآن الكريم من الديانات السابقة

بما أنّ سورة آل عمران نزلت في جَوٍ مشحون بالتحديات، لذا ورد فيها هذا التحدي فضلاً عن تثبيتها المؤمنين، وعليه ينبغي أن نشير إلى إحدى النقاط المهمّة في معترك التحدي الحضاري، وهي موقف الدين من الأديان السابقة.

بالطبع نالت هذه القضية أهمية خاصة في السابق وإلى عصرنا الراهن،

ص: 153


1- اگر ديدی كه نابينا وچاه است اگر خاموش بنشينى گناه است
2- بمعنى أن الوجوب العقلي ثابت ومنشؤه لطف اللّه تعالى بعباده.

بل إنّ الجهل بحقيقة الموقف في هذه القضية أحد العوامل المهمة التي تُعيق حركة الإسلام في العالم، لأنّ أغلب الأفراد في العالم يجهلون حقيقة هذا الموقف بِمَنْ فيهم المسلمون، وفي هذه الآية المباركة وفي آيات أُخرى يتجلّى موقف الإسلام من الأديان السابقة، فما هو إذن الموقف من الأديان السابقة؟

الجواب: الموقف هو التصديق، يقول تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، أي: ما تقدمه من الكتب السماوية.

معنى التصديق

التصديق يقع في مقابل التكذيب، وهو بمعنى: القبول والإذعان والتأييد، وعليه، فإنّ الإسلام يصدّق جميع الرسالات السماوية السابقة ويصدّق جميع الأنبياء المتقدمين، ابتداءً من نبي اللّه آدم وانتهاءً بنبي اللّه عيسى عليهم صلوات اللّه أجمعين.

ولا بأس هنا أن نشير إلى نقطة استغلها بعض المبشّرين، حيث ذكروا في كتبهم ومنشوراتهم: أنّ الإسلام يرضى بالمسيحية ويصدّقها فكيف تقولون إنه نسخ الأديان السابقة؟ ولذا يحقُّ للفرد أن يكون مسيحياً أويهودياً، لأن الإسلام يقبل المسيحية واليهودية، قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(1).

ص: 154


1- البقرة: 285.

وهذه شبهة نجيب عليها باختصار ببيان أمرين:

الأوّل: إنّ الإسلام يصدّق المسيحية واليهودية، والتوراة والإنجيل اللذين لم تمتد إليهما يد التحريف والتبديل، أي يصدّق الإنجيل والتوراة الواقعيين، وأمّا الإنجيل الّذي امتدت إليه يد التحريف فهو لا يمثل الإنجيل الواقعي وكذلك التوراة، والقرآن الكريم يشير في موارد متعدّدة إلى أنّ التوراة والإنجيل حُرِّفتا(1).

إذن، التوراة والإنجيل الموجودان بين أيدينا لايصدِّقهما القرآن؛ لوضوح وقوع التبديل والتغيير فيهما(2)، إذ إنّ أيادي التحريف امتدت

ص: 155


1- بعض الآيات التي أشارت للتحريف في التوراة والإنجيل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ} البقرة: 159. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَبِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة: 174. {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء: 46. {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} الأنعام: 91.
2- هناك رأيان في وقوع التحريف في التوراة والإنجيل: الأوّل يقول بوقوع التحريف في التوراة والإنجيل إلاّ بعض الموارد، من قبيل ثبوت الخبر بنبوة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإلاّ لم يصحّ الاحتجاج بالتوراة والإنجيل. والآخر يقول: إنّ التحريف وقع في كلّ من التوراة والإنجيل، وهو أمر يمنع من الاحتجاج به؛ إذ إن الاحتجاج يصحّ مع الكتاب المحرّف الذي تسري شبهة التحريف فيه إلى صحيحه، بل يكون مع الكتاب غير المحرف، لذا قال أصحاب هذا الرأي: إنّ علماء اليهود والنصارى قد أبعدوا الكتاب غير المحرّف عن أيدي عوام الناس لكي لا يطّلعوا على الحقائق فيتبعوا شريعة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقرّبوا المحرف إليهم ليبقوا على دينهم القديم، دين الحاخامات والقساوسة والرهبان.

إليهما بعد نبي اللّه موسى وعيسى (عليهما السلام) ، وهي لاتمثل الوحي.

ففي التوراة إنّ نبي اللّه (عليه السلام) موسى مات ودُفن، وذِكر الأحداث التي جرت بعد موته!! وبالذات الفصل الأخير من سِفر التثنية، إذن، فإنه من الواضح أنّ نزول هذا الفصل لم يكن في عهد نبي اللّه موسى (عليه السلام) .

وكذا بالنسبة إلى الإنجيل الموجود فعلاً.

فعلامات التبديل والتحريف واضحة فيه، ومن ذلك: أنّ رجلاً يقال له ماربولس أتى بعد رفع المسيح إلى السماء وكتب الإنجيل وشَرَّع فيه بعض الأحكام من قبيل ما ذكر في مقطع من المقاطع يقول فيه: «لا أسمح للمرأة أن تتعلّم ولا أن تغتصب السلطة - من الرجل - ولا تتسلّط، وعليها أن تبقى صامتة، لأَنّ آدم كُوِّنَ أَوَّلاً، ثُمَّ حَوَّاءُ، ولَم يكن آدم هو الَّذي انْخدع، بل المرأَة انخدعت، فوقعت في المعصية»(1). فهو يصرّح قائلاً: أنا أقول. وفي مقطع آخر يصرّح: هذا رأيي وليس بكلام المسيح، وفي آخر يقول: أنا أقول لا الربّ!! ويقول أيضاً: إنّ المسيح شَرَّع الختان ولكنه ليس بشيء(2)، وهي مقولة: قال اللّه وأقول!! ثم يفتي بعدم الختان في قبال المسيح

ص: 156


1- الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 2: 12-14.
2- الختان كان عهد اللّه على إبراهيم عهداً أبدياً، جاء في سفر التكوين 17: 13 «يختتن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضّتك فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً» ثم جاء بولس وقال في رسالته إلى غلاطية 5: 2: «هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ خُتِنْتُمْ، لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئاً، لاَ نَفْعَ لِلْخِتَانِ وَلاَ لِعَدَمِ الْخِتَانِ، بَلْ لِلإِيمَانِ الْعَامِلِ بِالْمَحَبَّة» كذلك في 6: 15 «لَيْسَ الْخِتَانُ بِشَيْءٍ، وَلاَ عَدَمُ الْخِتَانِ بِشَيْءٍ».

ابن مريم (عليها السلام) .

وكمؤيد لما سبق جاء في إحدى التقارير أنّ المجمع المفُوّض للكنيسة (وهو المعروف بالمجمع المسكوني حيث يجتمع بين فترة وأُخرى لتبديل الإنجيل) قال(1): إنّ الطبعات الجديدة للأناجيل حدثت فيها مجموعة من التغييرات وإحدى هذه التغييرات أنه في الأناجيل القديمة ذكرت عبارة: المسيح ابن اللّه، ولكن في الطبعة الجديدة للإنجيل بدلت بعبارة: المسيح وَلَدُ اللّه!!، وهناك فرق بين الابن والولد، الابن يعني الذكر، والولد يعني من وُلِدَ وهو: شمل الذكر والأُنثى، وذلك مراعاة لمشاعر النساء في العالم!!

الثاني: إنّ التصديق بالشيء يعني الإذعان به ضمن شروطه الموضوعية، وتبديل تلك الشروط والانتقال من حالة إلى أُخرى لا يعني تكذيب الحالة

ص: 157


1- أساس هذا المجمع في الديانة اليهودية، إذ كان رؤساء كهنة اليهود يعقدون مجامع للسيد المسيح (مت 26: 3) و(مر 15: 1)، كما اعتاد الرب يسوع أن يجتمع مع تلاميذه ويفسر لهم أقواله السماوية عندما يعسر عليهم فهمها، وأخذت المسيحية النظام اليهودي. هذا وعقدت أول مجمع سجل في التاريخ الكنسي المسيحي وكان مكانه في أورشليم عام 50 ميلادية برئاسة القديس يعقوب الرسول أسقف أورشليم (أعمال 15) ثم أخذت الكنيسة الجامعة في العالم عن الرسل الأطهار هذا المبدأ فكانت تعقد المجامع كلما حدث خلاف في البيعة، أو انتشر فكر غريب، أو وجد من الأُمور ما يستدعي ذلك كتقرير حكم جديد مثلاً، أو أيّ تغيير آخر في الإنجيل.

السابقة، ولا بقاء امتدادِ مقتضى المرحلةِ السابقةِ إلى المرحلة القادمة، وعلى سبيل المثال الطالب عندما ينتقل من الابتدائية إلى مرحلة أعلى فإنه يقرّ بمرحلة الابتدائية، وهذا لا يعني أن ندرّس مناهج الابتدائية لطلاب الجامعة، فإنّ الظروف الموضوعية إذا تبدلت مقتضياتها تتبدل هي أيضاً.

إذن، التصديق هو قبول جميع الكتب الإلهية المتقدّمة ولكن ضمن مراحلها وضمن شروطها الموضوعية(1)، وهناك بحث متعلّق بهذه القضية نشير إليه بعد الانتهاء من هذه الآية المباركة.

وعليه، فإنّ معنى قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} يكون كالتالي: {الْكِتَابُ}: هو القرآن الكريم، {مصدّقاً لما بين يديه} يصدّق جميع ما تقدمه من كتب وأنبياء {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}: هذا من باب ذكر الخاص بعد العام، وهذه قاعدة في علم البلاغة، ولعلّ السرّ في هذا التخصيص - بعد التعميم - ما تحمله التوراة ويحمله الإنجيل من ثقل كمّي وكيفي في المعادلات العالمية.

ص: 158


1- الخلاصة: إن الشبهة القائلة: إنّ الإسلام يصدّق الشرائع السماوية السابقة ويحقّ للفرد اختيار أي دين شاء، مردودة بتصديق القرآن الكريم للتوراة والإنجيل غير المحرَّفين، وقد ثبت أنهما حُرِّفا، لذا لا تصديق لهما من قبل القرآن الكريم، وأما بالنسبة لغير المحرفة فمجيء الإسلام وكتابه القرآن الكريم لا يعني إلغاءها، وذلك لوقوعها كلها في طول واحد لا في عرض واحد، لاعتبار أن منشأ صدورها واحد وهدفها واحد وهي كتب تعاليم وقوانين لدين واحد وهو الإسلام، والالتزام بها يكون بما هو موجود في المرحلة الراهنة وهو القرآن الكريم الحاوي على تعاليم التوراة والإنجيل غير المحرّفين وزيادة متناسبة مع عصره الممتد من حين نزوله إلى قيام الساعة.

سؤال آخر:

ربّما يتساءل البعض ويقول: لماذا التصديق بالرسالات المتقدّمة، ولماذا يؤكد القرآن الكريم على هذا الأمر؟

وفي الإجابة عليه نشير إلى عدة نقاط هي:

أوّلاً: المراحل الأُولى للرشد:

مهّدت الرسالات المتقدمة الطريق لرشد هذه الأُمّة وإيصالها لمستواها الرفيع، وعليه فلا بدّ أن ندين لها بالفضل ونشكر لها المعروف، فهي كالابتدائية والمتوسطة والثانوية التي تكون سُلَّماً إلى الجامعة، وعندما يصل الفرد إلى الجامعة يكون من الوفاء أن يدين بالفضل لتلك المراحل التي أوصلته إلى هذه المرحلة وهذا من عرفان الجميل.

ثانياً: تعدُّد القدوات:

تعتبر الرسالات المتقدّمة كمنابع للهداية وومضات نور على الدرب، والإيمان بها هو عملية توسيع لدائرة القدوة، فمثلاً رؤية الناس لعالم متّق في بلد ما كالشيخ الأنصاري أو السيد حسين القمّي، فإنّ رؤيته تؤثّر تأثيراً بالغاً في أهل ذلك البلد منهجياً وسلوكياً وأخلاقياً، والذين رأوا السيد حسين القمّي (رحمة اللّه عليه) في العراق كانوا متأثرين به أشدّ تأثير، وكثير منهم ثبتوا على دينهم لأنهم رأوا ذلك النموذج .. وفي حياة الأنبياء السابقين نقاط اقتداء عظيمة، فالنبي عيسى (عليه السلام) عندما نجعله ضمن دائرة الاقتداء نستلهم منه زهده وتقواه، والنبي إبراهيم (عليه السلام) عندما نجعله ضمن دائرة التصديق يصبح ضمن دائرة القدوة والاقتداء، حيث إنه كان أُسوةً في التوحيد

ص: 159

والصمود وتحطيم الأصنام.

ثالثاً: الواقعيّة ورفض التعصّب:

إنّ الإيمان بالنبوات المتقدّمة يعبّر عن واقعية الإنسان تجاه الأحداث، حيث توجد حالة تعصب لدى بعض أتباع الديانات تجاه الأنبياء الآخرين، فاليهودي يقول: أنا يهودي ولا أقبل نبياً آخر، والمسيحي يقول: أنا مسيحي ولا أقبل نبياً آخر، وقد رفض اليهود النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه لم يكن منهم مع أنهم كانوا ينتظرونه، ممّا يكشف عن حالة الانغلاق والتعصُّب، بينما المسلم منفتح على جميع الديانات الحقّة، ويعترف بها جميعاً، وهذا يعبّر عن واقعيته في الحياة.

رابعاً: الاستقطاب إلى الإسلام:

للإيمان أثر كبير في تأليف القلوب ونزع الأحقاد واستقطاب الآخرين إلى دائرة الحق، وإلى ذلك يشير أحد العلماء الّذين كانوا يعيشون في البلاد الغربية قائلاً: إنّ أكثر المسيحيين يجهلون إيماننا بالمسيح، بل هناك تمويه في المدارس والجامعات وحتى في البيوت بأن الإسلام والنبي محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عدوُّان للمسيح!! هكذا يقولون، وهذه نقطة مهمّة تقف أمام إذعانهم بالإسلام؛ لذا ينبغي لنا أن نوضّح لهم أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس عدوّاً للمسيح، وأنّ الإسلام ليس عدواً للمسيح.

حدث قبل أربعين عاماً - حدود عام 1390ه- - أن سافر ثلاثة من العراقيين ليدرسوا في إحدى جامعات إيطاليا، وتزوّجوا خلال فترة دراستهم بثلاث مسيحيات، وبعد إنهائهم الدراسة وأخذهم الشهادة عادوا إلى العراق

ص: 160

بصحبة زوجاتهم، وبعد مدّة رغبوا في دخول زوجاتهم الدين الإسلامي، فجاء أحد الأفراد إلى الوالد(1)وقال له: إنّ هؤلاء يرغبون أن يقنعوا زوجاتهم بالإسلام ولكنهنّ لا يقتنعن، أتأذن لنا أن نأتي بهنّ إليك لعلّ اللّه يَمُنُّ عليهنّ بنور الإسلام على يديك؟ فقال الوالد: لا بأس، فجاؤوا جميعاً -الأزواج والزوجات وآخرون عند الوالد- ودار بينهم حوارٌ طويل استغرق ما يقارب الثلاث ساعات حول الإسلام والمسيحية ختمه الوالد بذكره حقيقة كانت مؤثّرة جداً فيهنّ، وهي: إنّ نبينا يُكِنُّ لنبيّكم أعظم احترام ويُكنّ لمريم أكبر احترام، وهكذا احترام لا تجدونه حتى في المسيحية، فالقرآن الكريم يعتبر المسيح نبياً معصوماً عظيماً من أنبياء اللّه، وأُمّه كانت صدّيقة، بينما الكتاب المقدّس (الإنجيل) يعتبر المسيح ملعوناً والعياذ باللّه، وقد ذكر ذلك في العهد القديم والجديد في أعمال الرسل، حيث ذكر صراحة أنّ المسيح ملعون لأنه مصلوب(2)، والفارق واضح بين الاعتبارين! فكان كلاماً مذهلاً بالنسبة لهنّ، ثم أراهم الوالد سورة مريم قائلاً لهم: في أعظم كتاب عندنا سورة كاملة باسم مريم، وأضاف إنّ إيمانكم بالإسلام لا يعني رفضكم للمسيح أو لمريم (عليها السلام) ، وهذه الحقيقة هي التي جعلت الفتيات الثلاث يعتنقنن الإسلام ويتشهدن الشهادات الثلاث. إذن، فالتصديق له أثر

ص: 161


1- الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) .
2- العهد القديم، سفر التثنية، الإصحاح 21 من 22-23. العهد الجديد، أعمال الرسل، رسالة بولس إلى أهل غلاطية، الإصحاح 3: 13، نص العبارة: اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ».

كبير في تأليف القلوب واستقطاب الآخرين إلى دائرة الحق.

{مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

{مِنْ قَبْلُ}: من قبل نزول القرآن الكريم.

{هُدىً لِلنَّاسِ}: أي إنّ الهدف من إنزال هذه الكتب السماوية هو هداية الإنسان، الذي يحتاج إلى أن يميّز بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح، وبين ما ينفعه وما يضرّه - وهو أمر يثبته الواقع الخارجي - وهذه الرسالات الإلهية جميعها تهدف إلى هذا الهدف وتحققه.

{الْفُرْقَانَ}: ذهب بعض المفسرين إلى أنّ الفرقان يشمل جميع الكتب الإلهية التي أنزلها اللّه سبحانه لهداية عباده، بينما اختار البعض الآخر أنّ الفرقان هو العقل، بقرينة التقابل بين الهداية الخارجية والداخلية، فكما أنّ هناك هداية خارجية تتمثل في الكتب السماوية والأنبياء، هناك هداية داخلية تتمثل في العقل، والفرقان هو العقل الذي يفرّق بين الحق والباطل، يقول اللّه تعالى في كتابه المجيد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(1) يعني بصيرة تجعلكم تميّزون بين الحق والباطل.

وهناك تفسير ثالث للفرقان أورده العياشي في تفسيره برواية عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: {الم} إلى قوله {وَأَنْزَلَ

ص: 162


1- الأنفال: 29.

الْفُرْقَانَ}، قال الإمام (عليه السلام) : «هو كلّ أمر محكم، والكتاب جملة القرآن»(1).

ولعله يظهر من هذه الرواية أن الكتاب الذي أُشير إليه بقوله عزّ من قائل: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}: إشارة إلى مجموع هذا القرآن، أمّا الفرقان: فهو الآيات الفارقة التي تميّز وتنير الطريق، حيث إنّ بعض آيات القرآن الكريم لا توجد فيها حالة الفرقان لخلوّها من الوضوح، والفرقان يحتاج إلى الوضوح، وهو أمر طبيعي في القرآن الكريم لكون بعض آيات القرآن متشابهة، وبعض آياته محكمة واضحة فارقة بين الحق والباطل.

فالكتاب - إذن - إشارة إلى المجموع الذي يحتوي على المحكم والمتشابه، والفرقان إشارة إلى الآيات الواضحة التي تفرّق بين الحقّ والباطل فقط، وسنشير إلى هذه النقطة بعد آيات قلائل في بحث كيفية احتواء القرآن الكريم على آيات محكمة وأُخرى متشابهة.

جزاء المكذّبين في الدنيا والآخرة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.

إنّ الجزاء على مخالفة القوانين التشريعية على وزان مخالفة القوانين التكوينية، فمن يتحدّى القانون التكويني الإلهي كقانون الجاذبية، ويلقي بنفسه من شاهق، ينطبق عليه القانون التكويني - الجاذبية - وستجذبه الأرض وتتهشم عظامه، كذلك الأمر بالنسبة إلى من يتحدّى القوانين التشريعية فإنّ مصيره إلى العذاب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}: بعد هذا الوضوح

ص: 163


1- تفسير العياشي 1: 162.

التبييني والفرقان، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الْدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، فالكفار باللّه على الرغم من أنهم مرفّهون في حياتهم الدنيا في أغلب الأحيان إلاّ أنهم لايعيشون السعادة الدنيوية، فمن رفض الإسلام لايجد راحة في الدنيا، وتؤيد ذلك التقارير الخبرية والإحصائيات عن معدلات الانتحار وأمراض العصر وأشهرها الاكتئاب، ففي تقرير عالمي جاء: إنّ الّذين ينتحرون في العالم في كل عام هم مليون شخص!! فمن يقدم على الانتحار رجل كان أو امرأة يعلن أنه سئمَ الحياة وضاقت به إلى أبعد الحدود، فلا يرى له أملاً في هذه الدنيا أصلاًً، بينما في بلادنا الإسلامية بالرغم من أنّ كثيراً من القوانين الإسلامية لا تطبق، إلاّ أنّ معدلات الانتحار قليلة جداً، وذكر نفس التقرير أيضاً: أنّ معدلات الانتحار العالية توجد في أكثر بلاد العالم رفاهية، وهذا مظهر من مظاهر العذاب الشديد في الدنيا.

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

{عَزِيزٌ}: العزّة تعني القدرة، والعزيز هو الذي له إرادة تتغلب ولا تُغلَبْ.

{ذُو انْتِقَامٍ}: ذو قدرة على مجازاة المسيء لايتهيأ لأحد ردّها أو منعه منها.

الانتقام الإلهي حكمة وضرورة

هناك سؤال يطرح نفسه وهو: هل الانتقام شيء سيّئ؟

الجواب: إنّ الانتقام سلبي وإيجابي، فالانتقام بقصد التشفّي سيّئ، ولكن الانتقام بقصد مجازاة المسيء بإساءته فهو مقتضى الحكمة، بل هو ضرورة، فلو أنّ دولة مقتدرة لا تنتقم من المتجاوزين على أراضيها وتركت الحبل على غاربه لانتشر الفساد الاجتماعي وغيره فيها، فمن يريد مخالفة قوانين

ص: 164

المرور له ذلك! ومن يريد القتل فليقتل! ومن أراد أن يعتدي فليعتد!، فمع عدم وجود الانتقام - وإن كان بشكل غرامة أو سجن للمعتدي - لا يبقى هناك نظام، ولا يمكن لشخص أن ينام ليلة واحدة بارتياح.

ولو أنّ اللّه تعالى شرّع القوانين إلاّ أنه لم يجعل وراء التشريع عقوبة، لم يستقرّ حجر على حجر، بل بعض البشر مع وجود جهنّم وتلك التهديدات الإلهية الشديدة لا يعتنون ويفعلون ما يشاؤون، فهل كان يستقرّ حجر على حجر إن لم تكن عقوبة ولا جهنم ولا جزاء أُخروي؟

ولا يخفى أنّ انتقام اللّه جلّ جلاله لا ينبع من التشفّي كانتقامنا نحن البشر - أحياناً -، وإنّما ينبع من حكمته، فإن الانتقام من المسيء هو مقتضى الحكمة.

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ *هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

من هو الحاكم والمشرع؟

شهد التاريخ صراعاً طويلاً مستمرّاً حول الحاكمية، فهل إنّها لله عزّ وجلّ أو للبشر(1)؟

فقد حصر القرآن الكريم في آيات متعدّدة الحاكمية في اللّه عزّ وجلّ:

ص: 165


1- ذكر المؤلف (رحمه اللّه) في هذا الموضع كلاماً كان متناسباً مع زمن خاص ومورد معين في زمن إلقائه، ولكون البحث في هذا المقطع بحثاً علمياً محضاً، لم نورده في المتن، ومراعاة للأمانة في النقل نورده في هذا الهامش، قال (رحمه اللّه) : «ونحن نشهد اليوم نموذجاً جزئياً لهذا الصراع في العراق، حيث الآن مرحلة تدوين الدستور، فكيف يجب ان يُدَوَّن هذا الدستور، وما هو المصدر الذي يستند إليه الدستور، هل المصدر قوانين اللّه تعالى أو القوانين البشرية؟».

كقوله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}(1)، كما تناولت الآيات المباركات في بداية هذه السورة قضية القيومية الإلهية: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} القيومية التي تتفرع منها بعثة الأنبياء وتشريع القوانين وسنّ النظم للبشر، هاتان الآيتان المباركتان من سورة آل عمران تتناولان قضية مهمة تتعلّق بمسألة الحاكمية: وهي: قضية العلم النافذ والشامل.

الجاهل لا يحكم

إنّ الحاكمية تحتاج إلى العلم، بل تتقوّم به، والجاهل لايستطيع الحكم، لعدم تمكّنه من الحكم على ماهو مجهول لديه؟

يقول العلماء ومنهم الشيخ الأعظم الأنصاري(رحمه اللّه) في الفرائد(2): إنّ العقل لايمكن أن يحكم على مجهول(3).

توضيح المسألة:

عندما يكون الأمر واضحاً لدى العقل يمكنه الحكم عليه، ولكن إذا كان الأمر مجهولاً لديه فإنه لا يستطيع الحكم عليه: كأن نضع في صندوق أو مَحْرَزٍ شيئاً ونخاطب العقل: بماذا تحكم على هذا المجهول؟ فلا محالة يجيب: لا أحكم على هذا المجهول.

كذا الأمر لو كان (الإنسان) هو الموضوع أمام العقل، حيث إنّه كائن

ص: 166


1- الأنعام: 57.
2- في هذا الموضع من الكلام بدأ المؤلف (رحمه اللّه) بإثبات جهل الإنسان ليثبت النتيجة التي قدّمها بأن الجاهل لايحكم وأن الإنسان جاهل.
3- فرائد الأُصول 1: 496.

مجهول؛ فكيف يحكم عليه؟!

ولذا كتب الدكتور كارل وهو أحد الأطباء المعروفين كتاباً عنوانه: الإنسان ذلك المجهول، أشار فيه إلى طبيعة هذا البدن الخاضع للأبحاث العلمية لعلماء الطبيعة والطب منذ أكثر من عشرة آلاف عام إلى العصر الراهن، حيث لم يكتشفوا كلّ خفاياه إلى الآن، لذلك نجد أنّهم في كلّ يوم قد يصلون إلى اكتشاف جديد ومعلومات جديدة، هذا بالنسبة للبدن، فكيف بالروح التي هي أشد مجهولية للإنسان؟ وكيف بالطبيعة التي يُعَدُّ وجود الإنسان فيها وجوداً طارئاً عليها؟ وكيف بالكون الفسيح؟.

الإنسان المُحاط بالجهل

ظهر ممّا سبق أنّ الإنسان كائن مجهول تحيط به طبيعة وكون مجهولان، وبينه وبين هذه الطبيعة المجهولة توجد علاقات مجهولة، وينتظره مستقبل مجهول، فمن تحيط به ثلاثة أنواع من المجاهيل:

1- كون مجهول.

2- علاقات مجهولة.

3- مستقبل مجهول.

هل يمكنه أن يحكم؟ وكيف يحكم على شيء مجهول، بل إنّ الّذي تكون له الحاكمية والقيومية هو اللّه تعالى وحده؛ لأنه العالم المطلق الّذي لا يخفى عليه شيء، هذا هو الذي ينبغي أن تكون له الحاكمية، ولعلّه لذلك ورد في الآية المباركة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ}، وكما يقول العلماء: كلمة الشيئية مساوقة للوجود؛ وهذا الكلام تتفرع منه أربع قواعد:

ص: 167

الأُولى: كلُّ شيء فهو موجود.

الثانية: كلُّ موجود فهو شيء.

الثالثة: كل ما لا يكون موجوداً فليس بشيء.

الرابعة: كلّ ما لا يكون شيئاً فليس بموجود.

بالطبع ليس هناك مفهوم أعم من مفهوم الشيء، وهذه من المفاهيم العامة التي تنضوي تحت مظلّتها جميع الوجودات.

سعة علم اللّه تعالى

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ}: أينما يكون هذا الشيء سواء فِي الأَرْضِ أوَ فِي السَّمَاء: هذه السماوات التي لم يتوصل العلم إلى أبعادها بعد: كلها بتفاصيلها محاطة بالعلم الإلهي، فالحاكمية والقيومية يجب أن تكون لمثل هذا الإله الذي: {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}، وفي آية أُخرى يقول اللّه تعالى حكاية عن لقمان: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(1) والخردل حبّة متناهية في الصغر، والإنسان عندما يرى هذه الحبّة ينبهر بصغرها، وهذه لا تخفى على اللّه ويأت بها.

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

صانع الشيء أعرف به

إنّ هذه الآية تلامس الوجدان البشري لمسة رقيقة، ففي تلك الظلمات

ص: 168


1- لقمان: 16.

الثلاث، حيث لا يمتد إليها علم البشر ولا علم الأبوين ولا تناله قدرتهما، يمتد علم اللّه سبحانه إلى تلك الظلمات - ذهب أحدهم إلى طبيب متخصّص بالعين فقال: إنّ هذه العين التي نرى بها الأشياء كلّها صنعها اللّه تعالى في ظلمات ثلاث، ظلمة البطن والرحم والمشيمة! وقد أُعجب الطبيب بهذه الكلمة إعجاباً شديداً.

إن العلم الإلهي نافذ، وقد أحاط اللّه عزّ وجلّ إحاطة علمية بهذه الطبيعة، وذلك من الواضحات، حيث إن صانع جهاز معيّن يعرف طبيعة ماصنعه، وعندما يُشترى جهاز معيّن حتى وإن كان صغيراً يعطى معه كتابٌ فيه تعليمات تبيّن طريقة التعامل مع هذا الجهاز، وذلك لأن صانع الجهاز هو الأعرف بجهازه، وهل يمكن أن يأتي أجنبيٌّ ويضع قوانين من نفسه لذلك الجهاز؟

الخالق هو الحاكم لا غيره

اللّه سبحانه هو المصوِّر وهو الخالق وهو الذي أعطانا هذه الهيئة في عالم الرَّحم، لذا فهو الأجدر بأن تكون له الحاكمية والقيوميّة، خلق وصوّر فلا يكون معبوداً إلاّ اللّه عزّ وجلّ، القادر الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، بخلاف البشر الذي لا يتمكنّ - لجهله - أن يضع الأشياء في مواضعها.

كنت يوماً عند أحد الأطباء فأعطاني كتاباً يتناول الداء الخبيث وكيفية تكوّنها والعوامل المؤثرة في استفحالها، فأخذت أطالعه، فقلت للطبيب: هذه القضية المنقولة في الكتاب - بأن العلماء وصلوا حديثاً إلى أن شرب المشروب الحار والأطعمة الحارة يورث الداء الخبيث - ذكرها ديننا قبل

ص: 169

ألف وأربعمائة عام، ففي الكتب الفقهية روايات تنهى عن تناول الطعام الحار أو الحاد، وفي بعض تلك الروايات عُبّر عنه بالنار، كقول أبي عبداللّه الصادق (عليه السلام) لابن مارد: «واللّه يابن مارد ما يطعم اللّه النار»(1).

فلاحظ من خلال هذه القصة كيف أن الذي صوّر هذا البشر وخلقه يعرف طبيعته ويعرف العوامل المؤثّرة على بدنه وعلى روحه، لذا فهو الجدير بأن يُشرِّع ويُقَنِّنُ لهذا البشر لا غيره.

روايات في المقام

1- في الفقيه عن الصادق (عليه السلام) : إنّ اللّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كلّ صورة بينه وبين آدم، ثم خلقه على صورة إحداهن فلا يقولَنَّ أحد لولده: هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي(2).

2 - في الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال: إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق النطفة - التي هي ممّا أخذ عليها الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه - ويجعلها في الرحم، حرّك الرجل للجماع، وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري، فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم فتردّد فيه أربعين يوماً، ثم تصير فيه علقة أربعين يوماً، ثم تصير مضغة أربعين يوماً، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث اللّه ملكين خلاّقين يخلقان في الأرحام ما يشاء، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب

ص: 170


1- تهذيب الأحكام 6: 21.
2- الصافي 1: 316 - 318.

الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقّان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى، ثم يوحي اللّه إلى الملكين اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان، فيقولان: يا ربّ ما نكتب؟ قال: فيوحي اللّه عزّ وجلّ إليهما أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أُمّه، فيرفعان رؤوسهما فإذا اللّوح يقرع جبهة أُمّه، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته، وأجله وميثاقه، شقياً أو سعيداً، وجميع شأنه، قال (عليه السلام) : فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان، جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه، ثم يقيمانه قائماً في بطن أُمّه، قال: فربما عتا فانقلب ولا يكون ذلك إلاّ في كلّ عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تامّاً أو غير تام، أوحى اللّه تعالى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري، فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد، فيبعث اللّه عزّ وجلّ إليه ملكاً يقال له زاجر، فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل اللّه على المرأة وعلى الولد الخروج، قال: فإذا احتبس زجره الملك زجرة أُخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة(1).

3- عن علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن قول اللّه تبارك وتعالى {الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى قوله {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} قال:

ص: 171


1- الصافي 1: 316 - 318.

الفرقان هو كل أمر محكم، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء(1).

4- محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن سنان أو عن غيره عمن ذكره قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن القرآن والفرقان، أهما شيئان أو شيء واحد فقال (عليه السلام) : القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل به(2).

5- العياشي عن ابن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن القرآن والفرقان، قال: «القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون، والفرقان المحكم الذي يعمل به، وكل محكم فهو فرقان»(3).

ص: 172


1- البرهان 3: 269.
2- البرهان 3: 269.
3- البرهان 3: 269.

الآية 7

اشارة

الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(1)

المفردات

{الْكِتَابُ}: القرآن الكريم، وينقسم إلى قسمين محكمات ومتشابهات.

{مُحْكَمَاتٌ}: جمع مُحْكَم، وهُوَ مأخوذ من الإحكام، أي: المنع من تسرّب الريب والشك والشبهة إلى آياته.

{أُمُّ الْكِتَابِ}: الأُمّ تعني الأصل والمأوى والمرجع الذي يُرجع إليه في المشكلة.

{مُتَشَابِهَاتٌ}: يعرض فيها الشكّ والشبهة.

{فِي قُلُوبِهِمْ}: القلب: إمّا يقصد به الفكر، أي: التواء في فكره، أو الروح، أي اعوجاج روحه.

{زَيْغٌ}: التواء وانحراف واعوجاج.

{فَيَتَّبِعُونَ}: الجري والاتّباع العملي.

ص: 173


1- آل عمران: 7.

{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}: إيجاد البلبلة لإضلال الناس.

{تَأْوِيلِهِ}: التأويل: إزاحة الغموض والإبهام وإرجاع الأمر إلى حقيقته.

{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}: الثابتون في العلم، أي: مَن له قدم ثابتة في العلم والمعرفة.

{أُولُو الأَلْبَابِ}: أصحاب العقول الحصيفة الخالية من الشوائب.

الإعراب

اختلف في إعراب قوله تعالى {يَقُولُونَ} حيث ورد فيها قولان:

1 - إنه حال، فعلى هذا فإن الراسخين في العلم يعلمون التأويل.

2 - إنه خبر، ومبتدؤه (الراسخون في العلم) فتكون جملة جديدة تدّل على عدم علم الراسخين بالتأويل، وأنّ التأويل مختص باللّه عزّ وجلّ.

والأقوى هو القول الأوّل لمجموعة من القرائن سنذكرها في آخر بحث المحكم والمتشابه إن شاء اللّه تعالى.

التفسير

تمهيد:

من المباحث المهمة في القرآن الكريم موضوع المحكم والمتشابه، فهو يشكّل تحدّياً خارجياً وداخلياً، كما سوف يتّضح بإذن اللّه تعالى.

وسوف نتطرّق في موضوع المحكم والمتشابه إلى أربعة بحوث:

الأوّل: ما هو المحكم، وما هو المتشابه؟

الثاني: لماذا وجدت ظاهرة التشابه في القرآن الكريم؟

الثالث: كيف نتغلّب على مشكلة التشابه؟

ص: 174

الرابع: موقف الأطراف المختلفة من هذه الظاهرة.

المبحث الأوّل

ما هو المُحْكَم؟

المحكم مأخوذ من مادة الإحكام، والإحكام يعني المنع، وعليه فالآيات المحكمة هي الآيات الواضحة الدلالة التي تمنع تطرّق أوتسرّب الريب والشك والشبهة إليها، وبعبارة مختصرة: المحكم هو ما لاشكّ ولاشبهة فيه، كبعض الآيات المتعلّقة بالعقائد والأخلاق والآداب والقضايا التاريخية، فإن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(1) وقوله: {وَلاَ

تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا}(2) وقوله: {وَاقْصِدْ

فِي مَشْيِكَ}(3) وما أشبه ذلك، كلُّها آيات محكمات.

وما هو المُتَشابَه؟

المتشابه مأخوذ من مادة التشابه، يتحقّق إذا تشابه شيئان في جميع الجهات، كما في التوأمين - المتشابهين من جميع الجهات - فإنه إذا دخل أحدهما الغرفة يشكّ بينه وبين أخيه، هل هو عمرو أو خالد؟

كذلك بعض الآيات القرآنية معانيها تحتمل أكثر من احتمال، وكل تلك الاحتمالات متكافئة بالنسبة إلى الآية، فيشكّ عندئذ في أنّ أيَّهما المراد، وهو معنى التشابه، لذلك يتطرق إليها الشك والغموض والإبهام والترديد

ص: 175


1- الإخلاص: 1.
2- الإسراء: 37.
3- لقمان: 19.

والشبهة

والقرآن الكريم -حسب هذه الآية- يحتوي على القسمين حيث يقول عزّ من قائل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .

المبحث الثاني

اشارة

لماذا وجدت ظاهرة التشابه في القرآن الكريم، أليس القرآن الكريم جاء لهداية الأُمة، فلماذا وجدت فيه آيات غامضة؟

في الإجابة عن هذا السؤال نذكر أربعة عوامل - على نحو الاحتمال - وراء ظاهرة التشابه:

1 - قصور الألفاظ عن حمل المعاني الشامخة

إن ألفاظ اللغة العربية التي نزل بها القرآن - سواء كان واضعها يعرب ابن قحطان أو غيره - إنّما وضعت لرفع الحاجات اليوميّة داخل النطاق المادّي وإطار عالم الطبيعة، ولا يمكن لها بموجب هذه الوظيفة أن تحكي المفاهيم الشامخة لعالم ماوراء الطبيعة، لكونها قاصرة عن ذلك، ومثال قصورها قول الشاعر مخاطباً اللّه عزّ وجلّ:

وإن قميصاً خيط من نسج تسعةٍ***وعشرين حرفاً عن معانيك قاصرُ

والسؤال هنا: هل إنّ ثوباً مكوناً من تسعة وعشرينَ حرفاً يمكن له أن يعكس الحقائق الشامخة والمعاني اللامحدودة والقضايا الغيبيّة؟ وكيف يمكن لهذه الألفاظ ذلك؟ لكي يتضح المطلب نمثّل ببعض الأمثلة:

1 / الطفل ولذة العلم:

ص: 176

إذا كان هناك طفل عمره سبعة أعوام يريد أبوه أن يرسله للتعلّم، يتكلم معه حول فوائد هذا الذهاب فيقول له:

لو ذهبت إلى المدرسة وتعلّمت ستنتفع من علمك في المستقبل، فإن العلم جميل لذيذ، وفي المستقبل ستفهم معنى العلم ولذّته. وقول الأب لولده هذا الكلام سيوقعه في ورطة: فهو إمّا أن لا يشرح له الحقيقة فيضيع الولد في معنى الكلام، وإمّا أن يشرح له الحقيقة ولكنّها فوق إدراكه، لأنه لا محالة سيخاطب أباه قائلاً: ماذا تعني بقولك لذّة العلم؟

وحيث إنّ الأب يريد بيان معنى لذّة العلم لولده، فإنه سيضطر إلى استخدام الألفاظ التي يدركها الطفل، كأن يقول له مثلاً: إنّ لذة العلم تَشبَهُ لذة الحلوى، والحال أن هذا الوصف لا يُعبّر عن الواقع، فإِنّ العلماء هم الذين يفهمون لذّة العلم(1).

2/ الأعمى وإدراك معنى الألوان:

إنّ الأكمه - الأعمى منذ ولادته - لايدرك معنى الألوان، لأنه لم يرها في حياته، فلو شرحوا له معنى الألوان هل ينفعه ذلك؟ كّلاّ؛ لأنّ ذلك فوق إدراكه وتعقّله فلا يفهم المعنى، وإذا أُريد تقريب المراد له بالوصف فسوف يكون التقريب بأشياء - ألفاظ - لا تعكس تمام الحقيقة لقصورها الذاتي.

3/ معرفة حقيقة الآخرة:

ص: 177


1- لاحظ أنّ الألفاظ الوصفية التي استخدمها الأب لبيان معنى لذّة العلم لولده لم تستطع بيان المعنى الشامخ لها، وقصرت عنه قصوراً ذاتياً؛ إذ إنّ لذّة العلم تدرك حقيقتها في مقام العمل لا الوصف الذي يقرب المعنى للواقع ولا يكشف عن كنه حقيقته.

إن الذين يرون الأموات في عالم الرؤيا يطلبون منهم أن يشرحوا لهم الآخرة، فيخاطبهم الأموات قائلين: إنكم لا تفهمون ولا يمكن أن نشرح لكم، هذا غيب لكم.

والقرآن الكريم عندما يريد أن يشرح الجنّة والآخرة يقول فيها: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}(1) فهذا مَثَلٌ، حتّى وإن كان حقيقة، إلاّ أنّ اللّفظ لا يعكس تمام الحقيقة، فالجنّة التي وعد المتّقون لا يمكن أن نفهم معناها حقيقة إلاّ إذا ذهبنا إليها إن شاء اللّه تعالى.

4 / سؤال الطفل عن يد اللّه جلّ وعلا:

نقل لي أحد الإخوة أن ولده البالغ من العمر سبع سنوات سأله مرّة: هل إن لله يداً؟ قال فتحيّرت بماذا أُجيبه، فإن قلت: له يد - قد يتصور المعنى الحقيقي لليد - وهو كذب، وإنْ قلت لا يد له، قد تنطبع في ذهنه صورة إله معوّق!! فالإله الذي لا يد له معوّق - حسب نظرته الطفولية - في هذا الموقف ماذا يصنع الإنسان؟

قال: فخطر ببالي قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(2) فقلت له: اللّه مثل النور، فاقتنع، ولكن يبقى السؤال التالي هل هذا اللّفظ يعبّر عن تمام الحقيقة؟

فاللّه نور السّماوات ولكن نوره ليس كالنور الذي نشاهده، بل هذا صرف تقريب، فكما أنّ النور الذي نشاهده ظاهر بذاته مُظهر لغيره، فاللّه ظاهر بذاته

ص: 178


1- الرعد: 35.
2- النور: 35.

مظهر لغيره.

5/ رؤية اللّه تعالى:

إنّ البصير في مصطلحنا يعني أن للفرد جارحة العين، ولكن في اللّه يعني العالم بالمبصرات المحيط بعباده، فإذا كان كذلك، فهل نقول بأنّ: اللّه بصير؟ إن لم نقل ذلك نكون قد فرّطنا بالحقيقة(1).

يقول أحد المعمّرين: عندما كنت طفلاً، كنت أصوم في جوّ حارّ جداً فيغلب عليَّ العطش فلا أتمكّن من شرب الماء بالعلن حتى لو كنت بمفردي، لأنني قد سمعت من آبائي بأنّ اللّه يرانا، لذا كنت أذهب إلى مكان ما وأجعل شيئاً على رأسي وأشرب الماء حتّى لا يراني ربّي حسب عقليّتي الطفوليّة!!.

فلاحظ قصور اللفظ عن إيصال المعنى الشامخ لمفهوم أن اللّه بصير – أي: عالم بالمبصرات محيط بعباده - كيف أثّر على سلوك الطفل، والسبب يرجع إلى أنّ لفظ البصير في مصطلحنا من له جارحة العين!!

6/ لا جبر ولا تفويض:

إذا أردنا أن نعبّر عن فكرة دقيقة مثل لا جبر ولا تفويض في أفعال العباد - وهي من الأفكار الّتي حارت فيها عقول المفكّرين منذ ألوف الأعوام،

ص: 179


1- أي ما دام كلمة البصير يطلقها الإنسان ويعني بها العين الجارحة، فإطلاقها من دون تخصيص أو قرينة صارفة عن معناها الظاهري، يؤكد ذلك المعنى الظاهر من اللفظ وهو العين الجارحة، الأمر الذي استلزم لدى البعض ثبوت محذور التجسيم على اللّه جلّ وعلا إذا ما أُطلقت الكلمة على الذات المقدّسة، لذا التزم بعدم إطلاقها عليها، وهو أمر يستدعي التفريط بحقيقة ثابتة وهي: أن اللّه تعالى بصير بعباده.

ولم يتوصلوا فيها إلى حل، فقط أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين حلّوا هذه المعضلة الفكريّة بقولهم: الأمر بين الأمرين - كيف نعبر عنها؟

اللّه عزّ وجلّ عبّر عنها في كتابه الكريم بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(1) أي: رميت ولم ترمِ، أنت رميت، واللّه رمى، فيأتي المجبّر ويقول: اللّه هو الذي رمى اعتماداً على هذه الآية، بينما هذه الآية تشرح عمق عقيدة الأمر بين الأمرين، والسؤال هنا: كيف يمكن التعبير عن هذين الأمرين والألفاظ قاصرة؟

فلقصور الألفاظ وعمق معانيها أو غيبيَّتها تتولّد ظاهرة التشابه في بعض الآيات(2).

2 - اللغة العربية والاعتبارات البلاغيّة

البشر في اللغة الدارجة يُكثر من استخدام المجاز والكناية والاستعارة وما أشبه ذلك، والقرآن الكريم الذي هو قمّة في الأدب العربي، يحتوي على كنايات واستعارات ومجازات، ولكن يأتي من لا ذوق له أو مَن هو مغرض وجامد فيأخذ هذه الفنون الأدبية ويحوّلها إلى منحى باطل (3)، وستذكر أمثلةً لذلك.

ص: 180


1- الأنفال: 17.
2- إذن من خلال الأمثلة الآنفة الذكر اتضح أن قصور الألفاظ عن نقل الحقائق الشامخة اللامحدودة والقضايا الغيبية، مما يسبب ظاهرة التشابه في القرآن الكريم.
3- إن مقصود المؤلف (رحمه اللّه) من تحويل الاستعارات والمجازات الى منحى باطل هو: حمل المعنى على ما يستلزم منه الفساد العقائدي وغيره.

أمثلة من القرآن:

1- قال اللّه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}(1) وللساق معنيان:

حقيقي: وهو الكشف عن السّاق المادية، ومجازي: وهو أنّ الأمر جديٌ وشديد.

فعندما يقال: وقامت الحرب على ساق، يفهم من له ذوق أدبي أن المقصود ليس هو المعنى المادي - كما يفيد قولنا: شَمَّرَ عن ذراعيه وساقيه أنّه أظهر ذراعيه وساقيه - بل المقصود أن القضيّة تحوّلت إلى قضيّة جديّة كالحرب، إلاّ أنّه يأتي من ليس له ذوق أدبي أمثال ابن تيميّة ويقول: إنّ اللّه له ساق ويوم القيامة يكشف عن ساقه ويضعها في جهنّم ويقول لها هل امتلأتِ وتقول قطّ قطّ، أي: كاف(2)!! على الرغم من وضوح الأمر في أنّه اعتبار بلاغي.

وليتضح الأمر نذكر هذا المثال: شخص ما يسأل: من هو (هامان)؟ فيقال له: عامل بناء! لأنّ فرعون قال له: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا}(3)!! هذا المجيب لا ذوق أدبي له أصلاً.

2- قال اللّه تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(4)، يقول الزمخشري في الكشّاف: ولو أعطى الأقطع إلى منكبيه عطاءً جزيلاً لقالوا: ما أبسط يده بالنوال(5)مع أنه لا يد له، لأنّ المقصود باليد الكرم، فلو قلت: فلان يده جافّة

ص: 181


1- القلم: 42.
2- صحيح البخاري، باب (وتقول هل من مزيد) الحديث 4848.
3- غافر: 36.
4- المائدة: 64.
5- الكشاف 1: 654.

هل يعني ذلك أنه لا رطوبة عليها؟

3- اللّه تعالى يقول: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}(1) والسؤال هنا هو: هل أن معنى (اليد المغلولة) هو اليد المكسورة، و {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} هو كمن يفتح يديه؟ أم أنّ المراد لا تنفق زائداً بحيث تقعد ملوماً محسوراً، ولا تبخل، بل {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني اللّه كريم، ولكن يأتي أمثال ابن تيميّة ويقول: اللّه يداه مفتوحتان !!.

4- {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(2) فما معنى ناظرة؟

البعض ممن لا ذوق أدبيّ له ولا معرفة يقول: إنّهم يرون اللّه ويظهر لهم كالشمس أو القمر، والحال أنّ المراد: كمن يقول: أنا عيني عليك ونظري عليك، فعندما يأتي فقير إلى باب الدار ويقول: عيني بعد اللّه عليك، ما معناه؟ هل معناه: أنّني أنظر إليك أو معناه: عطفك ولطفك ورحمتك؟ ف- {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} معناها تنتظر رحمة ربّها لعدم وجود أمل آخر، فهذه الاعتبارات البلاغيّة تتدخّل في الكلام، ومن لا ذوق له ولا معرفة له بالأدب يقول: إنّ لله وجهاً.

5- {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}(3)، هل المراد منها أن اللّه ينسى؟

كلا، ولكنّ من لا ذوق له ولا معرفة، يذهب إلى أنّ اللّه ينسى بدليل

ص: 182


1- الإسراء: 29.
2- القيامة: 22 - 23.
3- التوبة: 67.

الآية، والحال أنّ معناها أمراً آخر يظهر ممّا نذكره في المثال اللاحق.

6- {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}(1) هل هذا اعتداء أو رد اعتداء؟

يوجد في كتب اللّغة والبلاغة كالمطوّل والمختصر وجواهر البلاغة بابٌ يسمى (المشاكلة)(2) يُذكَر فيه أنّ {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} بمعنى ردّ الاعتداء، يقول أحد الشعراء:

ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا***فنجهلَ فوقَ جَهلِ الجاهلينا

أي: إنّنا نردّه، كذلك {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} فهو من باب المشاكلة وليس بمعنى أنَّ اللّه ينسى.

7- {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}(3)، هذا القول هو أيضاً من باب المشاكلة البلاغية، لا أنّ اللّه تعالى له نفس!.

إذن، الاعتبارات البلاغيّة قد تكون وراء وجود بعض الآيات المتشابهة.

3 - الاختبار الإلهي في التكوين والتشريع
اشارة

إنّ من مفردات الاختبار الإلهي وجود ظاهرة التشابه في القرآن الكريم، حيث إنّ لله تعالى كتابين:

1- الكتاب التدويني: وهو القرآن الكريم.

2- الكتاب التكويني: وهو عبارة عن هذا الكون الذي خلقه اللّه سبحانه

ص: 183


1- البقرة: 194.
2- المشاكلة تعني المضاهاة والمناسبة والمشابهة، ولكنّ الفرق بين المشابهة والمشاكلة هو أنّ المشاكلة تكون في الهيئة والصورة والندّ، والشبه يكون في الكيفية.
3- المائدة: 116.

وتعالى، وفي كلا الكتابين توجد نقاط غامضة جُعلت للاختبار والامتحان، منها مثلاً في النظام التكويني المرض، فإن الإنسان يمرض ولا يفهم لماذا ابتلي بهذا المرض، فعلى سبيل المثال بعض الآباء يولد لهم أولاد معوّقون يتعذّبون معهم إلى أن يموتوا، فتسأل الأُمّ - التي يقع عليها الجزء الأكبر من العذاب - أو الأب: لماذا جعل اللّه هذا الطفل معوّقاً، ولماذا أعطاني اللّه هكذا طفل؟

نقل لي شخص أنه رأى في إحدى البلاد الأجنبيّة من كَفَرَ بوجود اللّه تعالى، قال قلت له: كيف تكفر باللّه وهذه الشواهد كلّها تدلّ عليه؟ فقال ذلك الشخص: لو كان اللّه موجوداً لما قامت الحرب العالميّة الثانية!! ويبدو أنّ ذلك الشخص أصابته ويلات الحرب العالميّة الثانية.

فهذه نقاط غامضة في النظام التكويني، وهي تشكّل اختباراً إلهيّاً صعباً للبشر، وهو أمر طبيعي؛ إذ لا يخفى أنّ الشخص حينما يذهب إلى قاعة الاختبار فإنه لا يختبر فقط بالأسئلة السهلة، وإنما يختبر بالأسئلة المعقّدة أيضاً؛ ليظهر واقعه ومستواه العلمي الحقيقي؛ إذ لا يكون الاختبار في الأسئلة السهلة التي يستطيع الجميع الإجابة عليها، السؤال المهم هنا هو: من يستطيع حل هذا الغموض؟

إن الغموض والتعقيد في التكوين والتشريع لا يحلّه إلاّ الفرد المؤمن، وذلك بالعلم والإيمان، أمّا الذي لا يؤمن والشخصيّات القلقة فهم يسقطون في هذا الامتحان بالشك والجهل والترديد، والآية الكريمة فيها - كما يبدو - إيماءة لطيفة إلى أنه إنّما يمكن للفرد أن يحلّ المشكلات والنقاط الغامضة بالعلم والإيمان، وفي نهاية الآية الكريمة يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَالرَّاسِخُونَ

ص: 184

فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، فالعلم من جانب والإيمان من جانب آخر، العلم والإيمان كما يحلاّن المشكلات الغامضة في النظام التكويني، كذلك يحلاّن النقاط الغامضة في النظام التدويني.

البشر وَصُنعُ الويلات

لا يخفى أنّ الإشكال الذي ذكره الرجل الكافر باللّه غير وارد؛ لأن الحرب العالميّة الثانية لم يصنعها اللّه سبحانه وتعالى وإنّما صنعها الإنسان بجهله، وكذلك الطفل المعوّق، حيث يؤكّد العلم بأنّ التعويق في كثير من الأحيان ينشأ من خطأ يرتكبه الوالدان، ولو فرض أنّ العلم لم يتمكّن من حل بعض النقاط الغامضة، إلاّ أنّ القاعدة الإيمانيّة الّتي يرتكز عليها المؤمن والأرضيّة الصلبة له كفيلة بحل جميع المشكلات، وسنعود إلى هذه النقطة في بحث التأويل والقاعدة الإيمانية، ونذكر كيف أنّ الإيمان يحلّ المشكلات والمعضلات الفكريّة.

إذن، وجود ظاهرة التشابه تمثّل مفردة من مفردات الاختبار الإلهي.

4 - الارتباط بالقادة الإلهيّين

إنّّ وجود ظاهرة التشابه تعتبر عاملاً من عوامل ربط المجتمع بالقادة الإلهيين.

هل يكفي كتاب اللّه؟

هنالك مقولة يردّدها بعض أشباه المفكّرين بأنّه يكفينا كتاب اللّه، ولا نحتاج بعد القرآن إلى شيء آخر، وهي ليست جديدة، بل قديمة في تاريخنا كما قالها ذلك الرجل في حياة النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخاطباً بها النبي

ص: 185

وجهاً لوجه: حسبنا كتاب اللّه، وروايتها مذكورة في البخاري بنحوين:

الأوّل: ذُكرت فيه على نحو الإهمال، حيث ذكر تعبير: (فقال بعضهم)، وكما يبدو أنّه يريد أن يتخفّى على ماهيّة هذا القائل، ومن أراد أن يراجع هوية القائل فليراجع كتاب البخاري في باب: النبي ووفاته(1).

الثاني: كشف عن هويّة القائل لمقولة: (حسبنا كتاب اللّه) ومن أراد المراجعة فليراجع كتاب البخاري أيضاً في باب قول المريض: قوموا عني(2).

فحاولوا في حياة النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى يومنا هذا إلغاء دور القادة الإلهيين، ولكنّ هذه المحاولة باءت بالفشل، فإن القرآن الذي قالوا: إنه يكفينا، فيه نقاط غامظة وآيات متشابهة، فالمخالفون عندما كانوا يصطدمون بالتشابه في هذه الآيات، فإن تمكنوا أن يلتفوا عليها التفوا -كما هو ديدنهم- وإن لم يتمكنوا من الالتفاف أحياناً ولم يكن لهم مجال للهرب، عندها كانوا يضطرون لأجل الكشف عن تلك الإبهامات والغموض إلى أن يرجعوا إلى القادة الإلهيين وأن يعترفوا بقيادتهم.

ومن ذلك يظهر أن قضية الربط بالقادة الإلهيين قضية مهمّة جداً، ولكي يتضح الأمر نذكر المثال التالي:

عندما تؤلّف الهيئة الإدارية للجامعة كتاباً للتلاميذ، فإنها تتعمّد في جعل نقاط غامضة في المنهج كيلا يعتمد الطلاّب على أنفسهم ويستغنوا عن الدرس والأُستاذ فيخسروا قيادتهم الفكرية والعملية والأخلاقية، فهذه

ص: 186


1- صحيح البخاري 5: 138.
2- صحيح البخاري 7: 9.

النقاط تدفع المجتمع دائماً للبحث عن هؤلاء وحلّ تلك النقاط عبرهم.

الحكام وعدم فهم القرآن

جاء في كتاب الغدير تحت عنوان (نوادر الأثر): مائة قضية تورّط فيها الذين جاؤوا إلى الحكم بعد النبي الأعظم منها:

1- الرجوع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) :

أتى وفد من النصارى وطرح مشكلة فكرية على المسلمين وخليفتهم، ولكن لا جواب!، فاضطروا إلى الرجوع إلى الإمام علي (عليه السلام) (1).

ص: 187


1- نقل الشيخ الأميني في الغدير 7: 179 عن ما أخرجه الحافظ العاصمي عن سلمان الفارسي (رضي اللّه عنه) قال: لمّا قبض النبي اجتمعت النصارى إلى قيصر ملك الروم فقالوا له: أيها الملك إنا وجدنا في الإنجيل رسولاً يخرج من بعد عيسى اسمه أحمد، وقد رمقنا خروجه وجاءنا نعته فأشر علينا فإنا قد رضيناك لديننا ودنيانا، قال: فجمع قيصر من نصارى بلاده مائة رجل وأخذ عليهم المواثيق أن لا يغدروا ولا يُخْفُوا عليه من أُمورهم شيئاً، وقال: وانطلقوا إلى هذا الوصي الذي من بعد نبيهم فسلوه عما سُئل عنه الأنبياء (عليهم السلام) وعما أتاهم به من قبل، والدلائل التي عرفت بها الأنبياء، فإن أخبركم فآمنوا به وبوصيه واكتبوا بذلك إليَّ، وإن لم يخبركم فاعلموا أنه رجل مطاع في قومه يأخذ الكلام بمعانيه ويرده على مواليه، وتعرفوا خروج هذا النبي. قال: فسار القوم حتى دخلوا بيت المقدس واجتمعت اليهود إلى رأس جالوت فقالوا له مثل مقالة النصارى بقيصر، فجمع رأس جالوت من اليهود مائة رجل، قال سلمان: فاغتنمت صحبة القوم فسرنا حتى دخلنا المدينة وذلك يوم عروبة - يعني يوم الجمعة، وكان يسمّى قديماً بيوم عروبة - وأبو بكر قاعد في المسجد يفتي الناس، فدخلت عليه فأخبرته بالذي قدم له النصارى واليهود فأذن لهم بالدخول عليه فدخل عليه رأس جالوت فقال: يا أبا بكر إنا قوم من النصارى واليهود جئناكم لنسألكم عن فضل دينكم فإن كان دينكم أفضل من ديننا قبلناه وإلا فديننا أفضل الأديان؟ قال أبو بكر: سل عمّا تشاء أُجبك إن شاء اللّه. قال: ما أنا وأنت عند اللّه؟ قال أبو بكر: أما أنا فقد كنت عند اللّه مؤمناً وكذلك عند نفسي إلى الساعة، ولا أدري ما يكون من بعد. فقال اليهودي: فصِف ليَّ صِفَة مكانك في الجنة وصفة مكاني في النار لأرغب في مكانك وأزهد عن مكاني؟ قال: فأقبل أبو بكر ينظر إلى معاذ مرّة وإلى ابن مسعود مرّة، وأقبل رأس جالوت يقول لأصحابه بلغة أُمتّه: ما كان هذا نبياً. قال سلمان: فنظرت إلى القوم وقلت لهم: أيها القوم! ابعثوا إلي رجل لو ثنيت له الوسادة لقضى لأهل التوراة بتوراتهم ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ولأهل الزبور بزبورهم ولأهل القرآن بقرآنهم، ويعرف ظاهر الآية من باطنها وباطنها من ظاهرها. قال معاذ: فقمت فدعوت علي بن أبي طالب وأخبرته بالذي قدمت له اليهود والنصارى فأقبل حتى جلس في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال ابن مسعود: وكان علينا ثوب ذلّ: فلمّا جاء علي ابن أبي طالب كشفه اللّه عنا، قال علي: سلني عما تشاء أُخبرك إن شاء اللّه، قال اليهودي: ما أنا وأنت عند اللّه؟ قال: أما أنا فقد كنت عند اللّه وعند نفسي مؤمناً إلى الساعة فلا أدري ما يكون بعد، وأما أنت فقد كنت عند اللّه وعند نفسيإلى الساعة كافراً ولا أدري ما يكون بعد، قال رأس جالوت: فصف لي صفة مكانك في الجنة وصفة مكاني في النار فأرغب في مكانك وأزهد عن مكاني، قال عليٌّ: يا يهودي! لم أرَ ثواب الجنة ولا عذاب النار فأعرف ذلك، ولكن كذلك أعدّ اللّه للمؤمنين الجنّة وللكافرين النار، فإن شككت في شيء من ذلك فقد خالفت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولست في شيء من الإسلام. قال: صدقت - رحمك اللّه - فإن الأنبياء يوقنون على ما جاؤوا به فإن صدقوا آمنوا وإن خولفوا كفروا. قال: فأخبرني أعرفت اللّه بمحمد أم محمداً باللّه؟ فقال عليٌ: يا يهودي! ما عرفت اللّه بمحمد ولكن عرفت محمّداً باللّه لأن محمداً محدود مخلوق وعبد من عباد اللّه اصطفاه اللّه واختاره لخلقه وألهم اللّه نبيه كما ألهم الملائكة الطاعة، وعرَّفهم نفسه بلا كيف ولا شبه. قال صدقت. قال: فأخبرني: الربُّ في الدنيا أم في الآخرة؟ فقال عليٌ: إنّ «في» وعاء فمتى ما كان ب«في» كان محدوداً ولكنّه يعلم ما في الدنيا والآخرة وعرشه في هواء الآخرة وهو محيط بالدنيا والآخرة بمنزلة القنديل في وسطه إن خليت يكسر إن أخرجته لم يستقم مكانه هناك فكذلك الدنيا وسط الآخرة. قال: صدقت. قال فأخبرني الربُّ يَحمِلُ أو يُحملُ؟ قال علي بن أبي طالب: يَحمِل. قال رأس جالوت: فكيف وإنّا نجد في التوراة مكتوباً ويَحمِلُ عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية. قال عليّ: يا يهودي: إن الملائكة تحمل العرش، والثرى يحمل الهواء والثرى موضوع على القدرة وذلك قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}. قال اليهودي: صدقت رحمك اللّه.

ص: 188

2- الأوّل لا يعلم معنى الكلالة:

سُئِل الأوّل عن معنى الكلالة في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}(1)؟ فلم يكن يملك جواباً واضطر أن يقول برأيه، فقال: أقول برأيي في ذلك فإن أصبت فمن اللّه، وإن أخطأت فمن الشيطان ومن نفسي!! وقال شيئاً، ثم جاء الثاني وقال: إني لأستحيي من اللّه تعالى أن أرد على ما قاله أبو بكر(2)فأمضاه!!..

3- الثاني يضرب ويسجن من يسأله:

سُئِل الثاني عن قوله تعالى: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}(3) ما معنى هذه الآية؟ فيغضب ويقوم إليه ويشجّه بدرّة كانت عنده، ثم يسجنه ثم يبعده ويقول: لماذا تتكلّفون في كتاب اللّه!(4).

ص: 189


1- النساء: 76.
2- سنن الدارمي2: 366.
3- الذاريات: 3.
4- روى المتقي الهندي في كنز العمال 2: 510 عن سعيد بن المسيب قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الذاريات ذرواً؟ فقال: هي الرياح، ولولا أنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن الحاملات وقراً؟ قال: هي السحاب، ولولا أنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن الجاريات يسراً؟ قال: هي السفن، ولولا أنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن المقسّمات أمراً؟ قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقوله ما قلته. ثمّ أمر به فضُرب مائة، وجُعل في بيت، فلمّا برئ دعاه فضربه مائة أُخرى وحمله على قتب، وكتب إلى أبى موسى الأشعري: امنع النّاس من مجالسته، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلّظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر ما إخاله إلاّ قد صدق، فحُل بينه وبين مجالسة الناس.

4- انكشاف بعض مقامات الأئمّة (عليهم السلام) :

لو كان كتاب اللّه واضحاً ما كانت تُكشف الحقيقة، وما كان ينكشف- تمام الانكشاف- بعض مقامات أهل البيت (عليهم السلام) ، فكانت هذه الأحداث لكشف بعض مقامهم وعلوّ شأنهم وإظهار قربهم من كتاب اللّه عزّ وجلّ، فإنهم (عليهم السلام) عِدل القرآن كما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «علي مع القرآن والقرآن مع علي»(1) و: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»(2).

5- الحجّاج والفهم الخاطئ للقرآن:

أ- عن شهر بن آشوب، قال: قال لي الحجّاج: يا شهر، آية في كتاب اللّه قد أعيتني لم أجد لها تفسيراً(3)، فقلت: أيها الأمير أيّةُ آية هي؟ فقال: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}(4) ما معناها؟

أي: هل ينطبق على الواقع الخارجي بأنّ جميع أهل الكتاب سيؤمنون بالنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل موتهم؟ مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ أكثرهم لا يؤمنون، فما معنى الآية؟- ثم قال: واللّه إني لآمر باليهودي والنصراني فتضرب عنقه ثم أرمقه(5)بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتى يخمد وتسكن

ص: 190


1- الجامع الصغير 2: 177.
2- تهذيب المقال 3: 131.
3- بحار الأنوار 9: 195.
4- النساء: 159.
5- رمقه، أي أطال النظر إليه (منه (رحمه اللّه) ).

حركته(1)، فكيف تفسّر هذه الآية؟

فقلت: أصلح اللّه الأمير، ليست على ما تأوّلت(2) قال: كيف هو؟ قلت إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملَّة يهودي ولا غيره إلاّ آمن به قبل موته(3)، وعند ذلك يؤمن جميع أهل الكتاب بخاتم الأنبياء: قال: ويحك(4) أنّى لك هذا ومن أين جئت به؟ فقال: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فقال الحجّاج: جئت واللّه بها من عين صافية.

ب - تورّط الحجّاج في مشكلة القدر والجبر الإلهي، المشكلة التي حيّرت عقول المفكّرين وأغلب المسلمين في العالم من عصر الرسالة حتى يومنا هذا، حيث لم يرجع كثير من المسلمين إلى الثقل الثاني الذي عيّنه الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فاعتقدوا بالجبر لوجود بعض الآيات المتشابهة، وهذا حال كل من يريد أن يتعامل تعاملاً مباشراً مع القرآن الكريم، ويستغني عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فكانت نتيجة عملهم أنّهم انتهوا إلى أنّ اللّه أجبر أبا لهب على الكفر، لأنّه لم يكن مختاراً أصلاً، ومع ذلك في يوم القيامة اللّه يلقيه في نار جهنّم!! وكذلك أبو جهل أجبره اللّه على الضلال وسيكبّه على وجهه في النار!! وفي زمننا الحاضر ملايين المسلمين يقولون بذلك وسنتطرق إلى مبحث العدل الإلهي ورؤية المسلمين فيه إن شاء اللّه

ص: 191


1- ويقصد الحجّاج أنّ هذه الآية تصطدم بالواقع الخارجي حيث لا أراه يشهد ويقرّ بالنبوة (منه (رحمه اللّه) ).
2- أي ليس على المعنى الذي خطر بذهنك (منه (رحمه اللّه) ).
3- فالضمير يرجع إلى عيسى ابن مريم حيث إنّه يصلي خلف المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) (منه (رحمه اللّه) ).
4- وهي كلمة تعجب (منه (رحمه اللّه) ).

تعالى، وهي رؤية خارج دائرة أهل البيت (عليهم السلام) .

وقد كتب الحجّاج إلى أربعة أفراد كيف تحلّون مشكلة الجبر؟

فأتاه الجواب من الأوّل حلّ فيه المشكلة بطريقة ما، وكذا جواب الثاني حيث أتاه بنحو آخر، ومن الثالث بنحو ثالث، ومن الرابع بطريقة أخرى، وكلّهم كانوا قد أخذوا الحلّ من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1).

فهذه النقاط الغامضة تفرض حاجة المجتمع والأُمّة للرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) (القادة الإلهيين).

المبحث الثالث

كيف نتغلّب على مشكلة التشابه؟

هناك حلاّن أشار القرآن الكريم إليهما:

الأوّل: الرجوع إلى القادة الإلهيين.

ص: 192


1- روى الشيخ الصدوق في كتاب الهداية: 19 عن الطرائف: أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصري: إن أحسن ما سمعت من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: يا ابن آدم أتظن أن الذي نهاك دهاك، وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، واللّه بريء من ذلك. وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) : لو كان الوزر في الأصل محتوماً كان الموزور في القصاص مظلوماً. وكتب إليه واصل بن عطاء: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إنه قال: أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق؟؟ وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، إنه قال: «كلّ ما استغفرت اللّه تعالى منه فهو منك، وكلّ ما حمدت اللّه تعالى فهو منه» فلمّا وصلت كتبهم إلى الحجّاج ووقف عليها، قال: لقد أخذوها من عين صافية.

الثاني: الرجوع إلى الآيات المحكمة.

ولابد أن نضع هذين الحلّين جنباً إلى جنب:

أمّا الطريق الأوّل: ففي آية أُخرى عندما يخاطب اللّه تعالى النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(1) فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبيّن وأهل بيته (عليهم السلام) مبيّنون.

وأمّا الطريق الثاني: فيشير إليه قوله عزّ من قائل: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} والأُمّ هي الأصل والمرجع الذي يرجع إليه في المشكلة، فمن أراد أن يُحلّ الآيات المتشابهات ويفهمها، عليه أن يرجع إلى القادة الإلهيين أوّلاً، وإلى الآيات المحكمة ثانياً، وهذا ممكن ضمن حدود.

مثلاً: استند تيار القومية في البلاد العربية إلى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ

لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}(2) وقد تكون الآية مجملة أو متشابهة، ولكن عندما نضعها إلى جنب قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}(3) نصل إلى أنَّ القرآن الكريم ليس قومياً، بل يدعوا إلى العولمة ولكن بشكلها الصحيح، فالقرآن والدين عالميان.

مثال آخر: ما المراد من الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(4)؟

ص: 193


1- النحل: 44.
2- الزخرف: 44.
3- الأنعام: 90.
4- طه: 5.

فإن الاستواء له معنيان:

الأوّل: كما يستوي الملك على سريره.

الثاني: الهيمنة والسيطرة.

فأيُّ المعنيين هو المراد؟

يجب أن نرجع إلى آية أُخرى محكمة وهي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(1) عندما نصل إلى نتيجة عدم التشابه بين اللّه وبين مخلوقاته، فلا يمكن أن يكون المعنى الأوّل هو المراد، فالآية المتشابهة نضعها إلى جنب آية محكمة فيرتفع عنها التشابه ولو إلى حّدٍ ما.

وهنا ينبغي الأخذ بملاحظة هي: أنّ إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة إنّما كان بفضل أهل البيت (عليهم السلام) .

والخلاصة: بهذين الطريقين يتحوّل القرآن كلُّه إلى محكم، فلا تبقى آية متشابهة فيها إبهام في القرآن الكريم، بعد أن نرجعها إلى الآيات المحكمة، وبعد الرجوع إلى القادة الإلهيين (عليهم السلام) .

المبحث الرابع

على ضوء هذه الآية الكريمة يظهر لنا موقفان:

الأوّل:موقف الذين في قلوبهم زيغ.

الثاني: موقف الراسخين في العلم.

وقبل أن نخوض في بحث كلِّ واحد من الموقفين لابد أن نطرح سؤالاً وهو: ما هو الموقف وما هو المنطلق الذي ننطلق منه في التعامل مع القرآن

ص: 194


1- الشورى: 11.

الكريم؟

ويمكن أن نطرح السؤال بشكل أعمّ وهو: ما هو الموقف الذي ننطلق منه في التعامل مع حقائق الدين بشكل عام؟.

الانطلاق من القرآن أو من الأفكار والشهوات؟

1 - قد ينطلق الفرد من القرآن والدين ذاتهما.

2- قد ينطلق الفرد من أفكاره المتبناة.

3 - قد ينطلق الفرد من أهوائه وشهواته.

بين يدي القرآن الكريم:

إن الموقف الصحيح هو الانطلاق من الدين والقرآن ذاتهما؛ إذ يجب على الفرد أن يكون تلميذاً تجاه القرآن: يتتلمذ على يديه، ويرى ماذا يقول الدين؟ فيعرف ما هو عنوان ديننا؛ إذ إنّ للعنوان أهميّة فائقة، فعندما تأخذون كتاباً فإنكم تقرؤونه من عنوانه، فإن العنوان يمثّل مرآة تعكس ما في الكتاب بشكل إجمالي أو تعكس أهمّ ما في الكتاب.

وكذلك إذا كتبتم كتاباً كيف تضعون عنوانه؟ من المؤكّد أنكم تحاولون وضع عنوان يكون مرآة لما في الكتاب، أو أن يحتوي على أهمّ موضوع فيه، وهذا بيّن في الواقع الخارجي.

الإسلام عنوان ديننا

سؤال يطرح وهو: ما هو عنوان الدين؟

الجواب: عنوانه هو الإسلام، وهو يعني التسليم، فموقف المؤمن تجاه ما يقوله الدين والقرآن هو التسليم، فيحاول أن يكون مُسَلِّماً تجاهه، هذا هو

ص: 195

الموقف الصحيح.

فمن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) حول الإمام الحجّة - عجّل اللّه تعالى فرجه - قال فيها: «يعطف الهوى على الهدى حيث عطفوا الهدى على الهوى»(1)، وعليه فإن المنطلق هو الهدى، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن والمسلم، هذا هو الموقف الأوّل.

الانطلاق من الأفكار المتبناة أو الأهواء والشهوات

أمّا الموقف الثاني والثالث فهو أن ينطلق الفرد من أفكاره في التعامل مع القرآن الكريم وحقائق الدين، فلو كانت له نظرية معيّنة يريد أن يثبتها، فإنه لا يبحث عن ماذا يقول القرآن والدين! وإنّما يحاول أن يحمل نظريته عليهما، ويجد في الدين نقطة تبرر له هذه الأهواء والشهوات.

السبب: الانحراف الفكري والروحي

لا يخفى أن السبب في هكذا نوع من التعامل هو الانحراف الفكري والروحي، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} فهؤلاء لهم أغراض معيّنة ولهم أفكار خفية، فهل يمكن أن يجدوا في الآيات المحكمة الواضحة ما يبرر لهم هذه الأفكار والشهوات؟ كلا: لأن الآيات المحكمة واضحة فيبحثون عن الآيات المتشابهة ويحاولون أن يُحمِّلوا أفكارهم وشهواتهم على الدين عبر الآيات المتشابهة.

فمن يحمل روح الشيوعية لا يحاول أن يرى ماذا يقول القرآن في

ص: 196


1- نهج البلاغة 2: 21.

المنهج الاقتصادي، بل يبحث في القرآن الكريم حتى يجد آية متشابهة تبرّر فكرته، وقد استدل الشيوعيون على الشيوعية بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}(1) مدّعين أن الآية تعني أنّ الأرض مشاعة لجميع البشر!!

والاشتراكيون بحثوا وبحثوا حتى وجدوا آية متشابهة- فيما يتصورون- استدلوا بها على الاشتراكية وتلك الآية هي: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}(2) وادّعوا أنها تدّل على المذهب الاشتراكي، وهذا حال كلِّ من في قلبه مرض.

بالطبع إنّ المقصود بالقلب إمّا الفكر فيكون المراد: فيه التواء، أو الروح فيها اعوجاج، حيث يحاول أن يجد آية متشابهة تدعم موقفه ويكتفي بها.

النظرة التجزيئية للقرآن

من الواضح أنّ النظرة التجزيئية للقرآن الكريم موقف خاطئ يسبب انقلاب المعنى، فلابدّ أن تكون النظرة إلى القرآن الكريم شاملة، وحتى كلمة التوحيد وهي شعار الإيمان: «لا إله إلا اللّه»، لو نُظر إليها بنظرة تجزيئية تتحوّل إلى كلمة كفر، فالمتدبّر ينظر إلى مجموع القرآن من الآيات المحكمة، ويحاول أن يفسّر الآيات المتشابهة بالآيات المحكمة بخلاف من في قلبهم مرض،{فَيَتَّبِعُونَ

مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، وهم على طائفتين:

الأُولى: هدفهم: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}، حيث يريدون الفتنة لإضلال المجتمع وإغوائه بخلق البلبة.

الثانية: هدفهم إظهار الحق لكنّهم أخطأوا الطريق: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.

ص: 197


1- الرحمن: 10.
2- الأنفال: 1.

ولا بأس أن نتوقف عند موضوع التأويل.

التأويل:

ما هو معنى التأويل؟

إنّ المراد من التأويل هو تفسير الكلمة أو الموقف أو الواقعة المبهمة، وبعبارة أُخرى التأويل عملية إزالة الإبهام عن الكلمة المبهمة، أو الموقف المشكوك، أو الواقعة المريبة، وإرجاعها إلى حقيقتها.

أمثلة من القرآن:

1- رجل يركب سفينة ثم يأخذ معولاً ويخرقها أو ينشر أرضيتها بمنشار، مثل هذا الموقف المريب، يمكن تفسيره بتفسيرين:

الأوّل: ما خطر على ذهن البعض بأن الرجل- وهو الخضر (عليه السلام) - رجل مفسد يريد أن يغرق الذين هم في السفينة!! وظاهر الحال يوحي بأن هذا الرجل يهدف شرّاً.

الثاني: إرجاع الأمر الى الحقيقة، فعندما يسأل: لماذا تقوم بهذا العمل؟

فإنّه يُرجع هذا الموقف المبهم الى حقيقته وواقعه فيقول:

ملك جبار يأخذ كلّ سفينة صالحة غصباً، وهذه السفينة هي لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها حتى لا يأخذها الملك الظالم.

هذا التوجيه والتفسير والإرجاع يقال له التأويل، ولذلك قال الخضر لنبي اللّه موسى (عليه السلام) : {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}(1).

2- ملك ينام ويرى في عالم الرؤيا سبع بقرات سمان تأكلهن سبع بقرات

ص: 198


1- الكهف: 78.

هزيلة، فما معنى هذه الرؤيا؟

الرؤيا عادة تكون لها لغة رمزية لا حقيقية، فإن المنامات عادة لا تظهر بصورة صريحة وإنما تظهر بأُسلوب رمزي، هذه الرؤيا رؤيا مشكوكة ومريبة ومبهمة، تطرح هذه الرؤيا على نبي اللّه يوسف (عليه السلام) فيؤوّلها بإرجاعها إلى حقيقتها وواقعها.

الخبير هو المخوّل بالتأويل

لا يمكن لأيّ أحد أن يقوم بالتأويل وإزاحة الغموض إلاّ إذا كانت له قابليّات وكفاءات معيّنة، ففي كلِّ عِلمٍ وكلِّ فنّ تكون الحاجة فيه إلى من يفسّر المبهم ويرجع الأمر إلى واقعه.

فمثلاً كتاب القانون لا يمكن للشخص العادي أن يتعامل معه مباشرة، لأنه كتاب متخصّص في فرع من فروع العلم، يحتاج إلى خبير يفسّر نصوصه المبهمة للجاهل بها ويرجعها إلى واقعها، وكذلك كتاب النحو، وكتاب المنطق.. الخ.

أمّا القرآن الكريم الذي هو كتاب اللّه سبحانه وتعالى، فهو على قسمين:

1- الآيات المحكمة: ومنها قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1) فإنّ كلّ شخص يتمكّن أن يتعامل معها.

2- الآيات الغامضة والمتشابهة والمجملة: فلا يحق لكلّ أحد أن يدّعي أنه فهم المراد منها، حتى وإن لم تكن الفتنة غرضه من ذلك التفسير كما سيأتي.

والأفراد بالنسبة إلى الآيات المتشابهة على قسمين:

ص: 199


1- البقرة: 20.

1- من يريد الفتنة كأهل الكتاب.

2- من لا يريد الفتنة، لكنّه أخطأ الطريق كبعض الخوارج.

أهل الكتاب وإرادة الفتنة

1- من يريد الفتنة: كأهل الكتاب الذين خطّطوا: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} فجاؤوا النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأرادوا خلق فتنة اجتماعية من كلمة في القرآن الكريم فقالوا: ألا يقول القرآن: إنّ المسيح روح اللّه {وَرُوحٌ مِنْهُ}(1) فقال النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نعم.

قالوا: يكفينا أن المسيح روح اللّه فهو ابنه!!

القرآن الكريم يحذرنا من هؤلاء وأمثالهم لأنهم مغرضون يريدون الفتنة والفساد والتلبّس على المجتمع، ومن المعلوم أن الآية لا تدّل على مدّعاهم، فلو قيل: الكعبة بيت اللّه، فهل المعنى: أنها البيت الذي يسكنه اللّه!!

في اللغة العربيّة تكفي في الإضافة أدنى مناسبة، فالمقصود من روح اللّه أنه (عليه السلام) روح منسوبة إلى اللّه تعالى كبيت اللّه الذي له نوع اختصاص باللّه عزّ وجلّ، ويعبّر عن هذه الإضافة: بأنها إضافة تشريفية.

التأويل الباطل والتكفير

2- أمّا من لا يريد الفتنة ولا يقصدها، فإنّه لا يحق له أيضاً أن يتعامل بشكل مباشر مع القرآن الكريم لعدم كفاءته ولوجود أرضية التكفير فيه، وإلاّ تتكرر قضية الخوارج، فإن بعضهم لم يكن مغرضاً، ولذا قال الإمام

ص: 200


1- النساء: 171.

أمير المؤمنين (عليه السلام) : فليس من طلب الحق فأخطأه- يعني الخوارج- كمن طلب الباطل فأصابه(1).

نعم، كثير من الخوارج وإن لم يكونوا مغرضين إلا أنّهم لم يكونوا مؤهّلين، ولذلك كفّروا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولا زال تكفير المسلمين متداولاً. وقد صارت هناك ظاهرة عامّة بحيث يجتمع كلُّ جماعة ويجعلون لأنفسهم أميراً بدون وجود مؤهّلات علمية وخبرة ورسوخ في العلم، يطالعون كتاب اللّه عزّ وجلّ ثم يكفّرون جميع المسلمين.

والخوارج إنما كفّروا أمير المؤمنين (عليه السلام) اعتماداً على قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}(2) وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(3) وفي منطق الخوارج أن أمير المؤمنين (عليه السلام) حكَّمَ غير اللّه عزّ وجلّ في دينه؛ لذا فهو كافر- والعياذ باللّه، ودليلهم: أن الإمام (عليه السلام) جعل رجلاً حكماً مع أن اللّه يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} فقالوا له: كيف تحكّم في دين اللّه!! وحسب هذه الرؤية القاصرة قادوا حرباً، بل حروباً عبر التاريخ، حيث كان لهم امتداد تاريخي بعد حقبة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ويذكر في التاريخ أنّهم كانوا يمروّن من طريق فرأوا عبد اللّه بن خباب وفي عنقه قرآن فأخذوه وأضجعوه وقالوا: إن قرآنك يأمرنا أن نقتلك ثم ذبحوه(4).

ص: 201


1- نهج البلاغة 1: 108.
2- الأنعام: 57.
3- المائدة: 44.
4- مناقب آل أبي طالب 2: 369.

مع أنّ القرآن الكريم يصرِّح بالتحكيم في قوله عزّ من قائل: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}..(1). وفي آية أُخرى في محرّمات الإحرام يصرّح بالتحكيم أيضاً: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}(2)، ولكن يأتي من هو جاهل ولا كفاءة علمية له يُصرّح بمعنى التحكيم، مع أنه لا أهلية له كي يتصدّى لتأويل القرآن الكريم!!

وكذلك في زماننا جماعة يجلسون ويلاحظون آية من آيات القرآن ويكفّرون المجتمع ويقتلون الأبرياء، فإن لم يمكن إزاحة غموض كتاب في النحو إلاّ بالرجوع إلى أهل الخبرة، فكيف في هذه القضية المهمّة التي تترتّب عليها دماء ونفوس؟

من هو الخبير بالتأويل؟

يقول اللّه عزّ وجلّ في القرآن الكريم بالنسبة إلى العارف بالتأويل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} فالذي له حق التأويل هو اللّه عزّ وجلّ أوّلاً؛ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الذين لهم قدم ثابتة في العلم والمعرفة ثانياً.

يقال للنخل (الراسخات) لأنّها ثابتة في الأرض ومتجذّرة فيها.

التأويل عبر القاعدة العلمية

تشير الآية إلى أن التأويل يحتاج إلى قاعدتين:

الأُولى: القاعدة العلمية الراسخة.

ص: 202


1- (4) النساء: 35.
2- المائدة: 95.

وممّا يؤسف له أن من الأشياء المتداولة والمعروفة في عصرنا الراهن أنّ بعض الأفراد يحاولون تفسير الدين بالثقافة العامّة، فمن له ثقافة دينية عامة وطالع مجموعة من الكتب ويتمكّن أن يلقي محاضرة دينية، يأتي ويتصدّى ويفتي في قضية اجتماعية مثارة - كقضية حقوق المرأة مثلاً - فيجلس ويقول: رأيي كذا!!

فهل يمكن لأحد أن يدلي برأيه في قضيّة طبيّة اعتماداً على ثقافة طبيّة عامّة؟

وهل يذهب من يريد إجراء عملية قلب ويسلّم نفسه لمن له ثقافة طبيّة عامّة؟

بالطبع، إنّ الجواب بالنفي؛ لأنّ الثقافة الطبيّة العامّة لاتكفي، كذلك هو الأمر في الدين فإنّ الثقافة الدينيّة العامّة لاتكفي في الحكم والفتيا.

حوار حول القاعدة العلمية

رأيت شخصاً من الّذين لهم نظريات في عمق الدين، فدار بيني وبينه حوار مطوّل، قلت له فيه: هل درست علم الفقه؟

ثم سألته: هل درست علم الأُصول؟ فإن أقلّ من درس علم الأُصول، لو جرى بينك وبينه حوار في أيّة قضيّة من القضايا الأُصولية، ومن أوّل الأُصول إلى آخره لاتتمكن من الصمود أمامه حتى في مسألة واحدة؟

وهل قرأت علم الرجال؟ وهل تعرف علم الدارية؟

فيلزمك أن تعلم مجموعة من المقدِّمات، بل الأمر أصعب من ذلك بكثير، فإنّ الوصول إلى فهم الدين يحتاج إلى رسوخ في العلم بأن يقصد

ص: 203

الطالب الحوزات العلمية المباركة ويبقى فيها عشرات السنين مشغولاً بالفقه والأُصول، ويسهر الليالي في ملاحظة روايات أهل البيت (عليهم السلام) و.. الخ.

فالراسخون في العلم يقضون عمراً حتى يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد واستخراج الرؤى والأحكام الشرعية من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ولكنّ شخصاً لا يعرف الفقه والأُصول ولا علم الرجال والدارية ولا الكلام، يأتي ويخبط خبط عشواء: ثم يأخذ أيّةَ آية تنفعه باعتقاده، ويتشبث بالروايات الضعيفة لكونها تؤيد فكرته، وهو لا يعرف موازين الضعف والقوّة ولا قواعد علم الرجال.

فأيّة رواية تؤيّد فكرته يأخذها، ولكنّه في مكان آخر يذكر نفس الرواية ويعبّر عنها بأنها ضعيفة، ويترك الآيات والروايات التي تصطدم بشهواته وآرائه وأفكاره.

إذاً، فهم القرآن الكريم والتعامل معه يحتاج القاعدة العلمية الراسخة أوّلاً.

التأويل والقاعدة الإيمانية

إن الراسخين في العلم الذين: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} هم الذين يحق لهم التأويل. فالذي قاعدته الإيمانية ضعيفة لا يحق له التعامل مع القرآن الكريم.

وعلى سبيل المثال عندما يرى ضعيف الإيمان ظاهرة غامضة أو يواجه مشكلة في حياته، يرتّد عن الدين ويكفر، لِمَ ذلك؟ لأن إيمانه ضعيف، وهذا الأمر يُصرّح به القرآن الكريم.

فالراسخ في العلم يحتاج إلى قاعدة إيمانية، بحيث لو واجهه غموض أو

ص: 204

إبهام في أمر ما يتمكّن من حلّه بقاعدة الإيمان.

الطريق اللّمِّي لكشف الغموض

عندما تظهر ظاهرة من الظواهر ويراد تحليلها، إمّا أن تُحلَّل تحليلاً مباشراً وهو غير ممكن إلاّ إذا كانت للفرد إحاطة علميّة، وأحياناً لا يتمكّن الفرد من أن يحلّل ظاهرةً أو حكماً، لأنه ليس محيطاً بها، فعندها يجب عليه ملاحظة أُمور ثلاثة، وهي: الفاعل والحاكم والآمر- كما يقول العلماء- فينتقل انتقالاً لِمِّيّاً من العلّة إلى المعلول.

فلو شاهدنا طفلاً بريئاً لم يرتكب أيّ جرم وقد أخذ شخص بمبضع يقطع رجله! ولم تكن هناك إحاطة علمية بتحلّيل هذه الظاهرة، هنا التحلّيل المباشر يفشل في كشف الحقيقة، ولكن يوجد طريق آخر وهو الطريق اللمِّي، والسؤال هنا: من الذي يقوم بهذا العمل؟

فقد يكون الطرف جلاّداً كأحد البعثيين، ومعه يكون تفسير العمل واضحاً، ولكن عندما يكون الطرف أباً رحيماً شفيقاً حكيماً يُقدم على قطع رجل طفله، يطمئن الإنسان بأنّ هناك سبباً وحكمةً وراء هذا العمل، والحكمة هي حفظ حياة الطفل، لأنه- مثلاً- أُصيب بمرض السكّر وإن لم تقطع رجله، يسري السكر إلى بقية أعضائه ويقضي على حياته(1)، فعندما لا يمكن معرفة

ص: 205


1- يسمى هذا المرض ب- (الغرغرينة) وهو مرض موت الأنسجة وتعفنها وتصيب عادة أَطراف جسم الإنسان إلا أنها قد تصيب أيّ مكان في الجلد أو الأعضاء الداخلية وتنشأ من عدوى موضعية، أو من توقف الدورة الدموية في ذلك الموضع، أو تصلّب الشرايين عند كبار السن أو مرضى السكري الشديدة التي ينتج عنها ضيق الشرايين في الأطراف السفلى.

كنه الحدث يمكن تفسيره بمعرفة الآمر والعامل الفاعل، والحكم على أنه عمل فيه مصلحة وحكمة، كذلك في ظواهر التشريع توجد نقاط إبهام في الدِّين، مثلاً: لماذا قال المولى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}؟(1).

فقد لا يفهم البعض العلّة في ذلك، ولكن عندما نعلم أنّ هذا القانون شرّعه إلهٌ حكيم عليم ودود رحيم، لا يريد إلاّ مصلحتنا في الدنيا والآخرة، نسلم بذلك ونؤمن به.

فالراسخون في العلم إن تمكّنوا من أن يحلّوا مشكلة التشابه بالإحاطة العلمية فبها، وإن لم يتمكّنوا فيحلّونها بقاعدة الإيمان و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}: وهذه الجملة كأنها تعليل لقوله عزّ وجلّ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي: المحكم من اللّه والمتشابه من اللّه أيضاً.

من له الحق في التأويل؟

يبقى أن نبحث في نقطتين:

الأُولى: على ضوء الآية المباركة هل هناك من يحيط بعملية التأويل وكشف المراد الجدّي من الآيات المتشابهة سوى اللّه سبحانه وتعالى؟

في الإجابة على هذا السؤال يوجد اتجاهان:

الأوّل: يرى الواو في الآية الكريمة للعطف.

الثاني: يرى أن الواو في الآية الكريمة للاستئناف.

وحسب المبنى الأوّل يجب أن تُقرأ الآيةُ المباركةُ على هذا النحو: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فالذي يعلم التأويل «اللّه» أوّلاً،

ص: 206


1- النساء: 3.

وبتعليم اللّه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ثانياً، وكلمة يقولون تكون واقعة موقع الحال، وعليه فهكذا تكون الآية: {إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} - يعلمون التأويل- حال كونهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.

يقول ابن مالك في ألفيته:

وذات بدء بمضارع ثبت***حوت ضميراً ومن الواو خلت

كما لو قلنا: جاء فلان يضحك، فإن (يضحك) جملة فعلية واقعة موقع الحال.

وطبقاً للاتجاه الثاني: يجب أن تقرأ الآية الشريفة على النحو التالي: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ونقف، ثم نقول في جملة جديدة: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فيكون الراسخون مبتدأ ويقولون خبر، وعليه فإن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل.

المعصومون (عليهم السلام) والعلم بالتأويل

يبدو للنظر أنّ الاتجاه الأوّل هو الأقرب وذلك لعدة قرائن:

القرينة

الأُولى: التاريخ يشهد بعلمهم بالتأويل:

لم نجد طوال التاريخ أن أحداً أتى إلى النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أحداً من أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أدرى بما نزل في البيت، سائلاً: ما معنى هذه الآية؟ فكان جوابه: لا أعلم؛ لأنّ هذه من الآيات المتشابهات التي اختص اللّه بها!! بل كان العكس.

فقد قال اللّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(1)

ص: 207


1- النحل: 44.

فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) كانوا مبيّنين، فلا يُسألون عن آية متشابهة إلاّ ويكون الجواب حاضراً عندهم.

وكان كبار العلماء يرجعون إلى أهل البيت (عليهم السلام) ، بل أئمّة المذاهب الأربعة كلّهم عيال عليهم (عليهم السلام) ، فقد قال أبو حنيفة تلميذ الإمام الصادق (عليه السلام) : لولا السنتان لهلك النعمان(1) وكذا مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، كلّهم تلاميذ أو تلاميذ تلاميذ الإمام الصادق (عليه السلام) .

وفي كثير من الحالات كبارهم- خلفاؤهم، قضاتهم- عندما كانوا يتورّطون في آية أو حكم أو رواية كانوا يلجأون إلى أهل البيت (عليهم السلام) أو إلى تلاميذهم، فقد روى الكليني رضوان اللّه عليه في كتاب الكافي قصة ركب الجارية عندما جاؤوا إلى ذلك القاضي وسألوه مسألة حول ركب الجارية، فحار في الجواب وقال: إني أجد أذىً في بطني وتهرّب من الجواب، وجاء إلى أحد تلاميذ الإمام الصادق (عليه السلام) وسأله المسألة(2).

ص: 208


1- الخلاف 1: 33.
2- (1) روي عن ابن أبي ليلى أنه قدّم إليه رجلٌ خصماً له فقال: إن هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً وزعمك أنّه لم يكن لها قط، قال: فقال له ابن أبي ليلى: إن الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به فما الذي كرهت؟ قال: أيها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به، قال: حتى أخرج إليك فإني أجد أذىً في بطني، ثم دخل وخرج من باب آخر فأتى محمد بن مسلم الثقفي فقال له: أي شيء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيباً؟ فقال له محمد بن مسلم: أمّا هذا نصّاً فلا أعرفه، ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى: حسبك، ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب. الكافي 5: 215.

القرينة الثانية: روايات تشهد على عملهم بالتأويل:

لقد وردت روايات مأثورة في تفسير الآية المباركة تشهد بعلمهم بالتأويل، وهي كثيرة مذكورة في تفسيري البرهان ونور الثقلين وغيرهما من الكتب التفسيرية، منها:

1- عن بريد بن معاوية عن أحدهما- الباقر أو الصادق (عليهما السلام) - في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمَِ} قال الإمام (عليه السلام) : رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل الراسخين في العلم قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل- ثم الرواية تشير إلى نقطة لطيفة وتقول- وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً ولم يعلّمه، أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه(1).

فمع نزول الكتاب على قلب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيف يكون جاهلاً بتأويله؟

فهو أشبه بأن يكتب مؤلّفٌ كتاباً لا يعلمه إلاّ هو!!

وهذا العلم انتقل إلى أوصياء النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

2- عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: علّمني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم يُفتح لي من كلّ باب ألف باب، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء اللّه(2).

القرينة الثالثة: مناسبة الحكم والموضوع:

إنّ المناسبة في صفة رسوخ الأئمّة (عليهم السلام) في العلم بالتأويل هي ما يصطلح عليه في علم البلاغة:(مناسبة الحكم والموضوع)؛ إذ يجب أن تكون هناك

ص: 209


1- الكافي1: 213.
2- إعلام الورى 1: 267.

مناسبة بين(المسند) (والمسند إليه) كقول الشاعر حول الكعبة:

إنّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا***بيتاً دعائِمهُ أعزُّ وأطولُ

فمن(المسند إليه) وهو اسم إنَّ يمكن كشف طبيعة (المسند) الذي هو خبر إنَّ، فهناك مناسبة بين هذا المبتدأ وهذا الخبر.

فصفة الرسوخ في العلم تناسب العلم بالتأويل ولا تناسب عدم العلم به، فلو كان المراد أنّ الراسخين لا يعلمون التأويل لكان ينبغي أن يُقال: والمؤمنون يقولون آمنا به، لأن الإيمان يمثل حالة تسليم وحالة خضوع، ولكن حيث ذُكرت كلمة {الرَّاسِخُونَ

فِي الْعِلْمِ} فهي تناسب معرفة التأويل لا عدمها، فمن هذه القرائن وقرائن أُخرى نستطيع أن نقول: إنّ الواو في الآية الكريمة هي للعطف.

العلماء وبعض مراتب التأويل

النقطة الثانية: هل معرفة التأويل تختصّ بالمعصومين (عليهم السلام) أو يمكن للآخرين العلم بالتأويل أيضاً؟ ما يمكن أن يُقال على نحو الاحتمال واللّه أعلم بحقيقة الحال: إنّ معرفة التأويل من الحقائق التي لها مراتب مختلفة - ويعبّر عنها في علم المنطق بالحقائق المشكّكة(1) - فالمرتبة العُليا من معرفة التأويل والتي هي عبارة عن المعرفة الكاملة والإحاطة التامّة تختصّ بالنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) ، ولكنّ هذا لا ينافي أن تكون

ص: 210


1- «المشكك هو المتفاوتة أفراده في صدق مفهومه عليها» لذا فهو متفاوت في الشدّة والضعف أو الكثرة أو القلة أو الأولوية والتقدم، والعلم من الحقائق الكلية التي ينطبق عليها هذا المعنى. المنطق 1: 70.

هنالك مراتب من العلم بالتأويل يمكن لبعض العلماء الربانيين أن يعرفوها، وربما يؤيد ما ذكرناه ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، يقول الراوي: «قلت لأبي جعفر- الباقر (عليه السلام) - : في قول اللّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ما معنى هذه الكلمة؟ فقال (عليه السلام) : يعني تأويل القرآن كلّه»(1) فالمعرفة الكلّية والمعرفة الإحاطية تختص بأهل البيت (عليها السلام) (2).

ص: 211


1- الكافي1: 213.
2- ذكر الشريف الرضي (رحمه اللّه) في كتابه حقائق التأويل أن العلماء انقسموا تجاه هذه الآية إلى ثلاثة أقسام: الأول: وقف على الواو وجعلها بداية جملة استئنافية وبذلك أخرج العلماء من أن يعلموا بكنه التأويل وحقائقه. الثاني: وقف على إلا واتخذ الواو على أنها عاطفة، لذلك أعطوا للعلماء ميزة الاشتراك بمعرفة التأويل. الثالث: وقف ما بين الأول والثاني على مسافة واحدة فلم يعطهم ميزة معرفة التأويل كل العطاء ولم يمنعها منهم كل المنع. ونحن إذا ما أردنا تمحيص هذه الآراء على ضوء تفسير هذه الآية المباركة والروايات الشريفة تكون النتيجة: مَعَ ملاحظة أن معرفة التأويل من الحقائق التشكيكية التي لها مراتب مختلفة كما ذكر المؤلف (رحمه اللّه) آنفاً، وكذلك الرأي الذي ذكره الشريف الرضي (رحمه اللّه) في كتابه، والذي يعطي مفهوماً بوجود إمكانية الاشتراك في المعرفة بالتأويل، كذلك توفر المصداق أو المصاديق لعنوان (الراسخون في العلم) الذي صرحت به الروايات الشريفة وذكره علماء التفسير آنفاً، إذا أردنا كنه المعرفة بالتأويل وحقيقته بتمامها فهذا منحصر بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) ، وإذا أردنا بعض مراتب العلم بالتأويل فالأمر مشترك بين النبي وأهل بيته (عليهم السلام) وبين العلماء الذين أيضاً يصدق عليهم أنهم الراسخون في العلم، لكن، كلٌّ بحسب نسبته ودرجته العلمية والمعرفية.

الآيتان 8-9

اشارة

الآيتان {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}(1)

المفردات

{لاَ تُزِغْ}: الزيغ هو الانحراف. وزيغ القلب انحرافه.

{هَبْ}: الهبة: إعطاء الشيء بلا انتظار عوض.

{رَحْمَةً}: جيء ب- «رحمة» مُنكَّرة لأن الإنسان لا يعرف خيره من شرّه فعليه أن يجعل الرحمة موقوفة على الإرادة الإلهية.

{الْوَهَّابُ}: كثير الهبة.

{لِيَوْمٍ}: يوم القيامة ويوم الحشر(2).

{لاَ رَيْبَ فِيهِ}: الريب أخص من الشك، وهو الذي تختلط به حالة من سوء الظن.

ص: 212


1- آل عمران: 8-9.
2- التقدير في هذهِ المفردة هو: (جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه) فلمّا حذف لفظ الجزاء دخلت على ما يليه، فأغنت عن حرف الجر (في) لأنّ حروف الإضافة متوافية؛ لما يجمعها من معنى الإضافة.

{الْمِيعَادَ}: الوعد يكون في الخير والشر، يقال: وعدته بنفع وضرّ وعداً وموعداً وميعاداً، وأمّا الوعيد فهو في الشرّ خاصة.

التفسير

وقتية النعم المادية والمعنوية

هل يتصف ما يملكه البشر من النعم والمواهب الإلهية بصفة الديمومة والثبات؟

الجواب كلاّ، ومع ذلك فإن الإنسان يتعامل مع المواهب الإلهية وكأنّه يمتلكها وأنها باقية إلى النهاية!!

فمثِلُ العين يتصوّر الإنسان أنها نعمة باقية إلى النهاية ولا يخطر في ذهنه أنها قد تسلب منه في يوم ما، ألا يرى البشر أنه يوجد أكثر من مليوني مكفوف في العالم- حسب بعض التقارير - كثير من هؤلاء كانوا في يوم ما مبصرين وفجأة سُلبت منهم هذه النعمة، وهكذا كثير من المعّوقين الراقدين في المستشفيات، في لحظة ما تصدمه سيارة فينقطع نخاعه الشوكي ويبقى مشلولاً إلى آخر حياته.

هذه النعم لا نملكها نحن البشر، وإنّما هي عطاء اللّه تعالى، وتبقى إلى الوقت الذي يريده اللّه عزّ وجلّ، بالطبع هذه الحقيقة الموجودة في النعم المادية توجد أيضاً في النعم المعنوية، الجاهلون يظنّون أنهم في أمان، علماً بأن الأمن من مكر اللّه عزّ وجلّ من المحرّمات المذكورة في الفقه، قال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}(1).

ص: 213


1- الأعراف: 99.

يظن الجاهل أنه يسير في طريق معبّد، وأن موهبة الإيمان والهداية باقية له إلى النهاية!! إلاّ أنّ الراسخين في العلم يشعرون بالخطر العظيم- وهذا من رسوخهم في العلم- فهم كمن يمشي على حافة هوّة سحيقة أو على جبل خطر يحتمل السقوط في أيّة خطوة والهلاك في أيّة لحظة، إنّهم يسيرون في الحياة كمن يسير في منطقة مملوءة بالألغام؛ في كلّ خطوة يمكن أن ينفجر لغم فيحوّل هذا الرجل إلى معوّق حتى آخر حياته، أو تنتهي حياته فوراً(1).

التضرُّع طريق استمرار الهداية

من عادة الراسخين في العلم أنهم يتوجّهون إلى اللّه سبحانه وتعالى في ضراعة مردّدين: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فإنّ القلّب السليم قد ينحرف بعد الهداية التي هي نور من اللّه عزّ وجلّ، وقد يسلب اللّه عزّ وجلّ هذا النور على أثر غفلة- كمن يقع من الجبل على أثر غفلة، قال تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ}(2) وفي آية أُخرى {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}(3).

وهنا يُطرح سؤالٌ هو: ما هي مناسبة الدعاء بالآيات المتقدّمة؟

الجواب: إنّ في القرآن الكريم آيات متشابهات- من المتشابهات في عالم التشريع كما توجد متشابهات في عالم التكوين- يمكن أن تكون نقطة

ص: 214


1- توجد هناك مناطق في الكرة الأرضية ملغمة، وبعضها من آثار الحرب العالمية الثانية (منه (رحمه اللّه) ).
2- البقرة: 17.
3- البقرة: 257.

انحراف؛ لأنّ الفرد قد لا يفهم حكماً من الأحكام الشرعية فيؤدي الجهل به إلى الانحراف، أو قد يقع الفرد في امتحان من الامتحانات الإلهية- تكون مقدمته اختيارية أو غير اختيارية- ففي الكافي الشريف في رواية موثّقة: قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «ومن همَّ بسيّئة فلا يعملها، فإنّه ربّما عمل العبد السيّئة فيراه اللّه سبحانه، فيقول: لا وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً»(1).

متى تُسلَبُ روح الإيمان

وفي مضمون حديث آخر في الكافي الشريف: إنّ الّذي يزني، في حالة الزنى يسلب اللّه منه روح الإيمان، وإذا سُلبت روح الإيمان(2)فقد لا تعود فإنّ النعمة قلّمّا أدبرت عن قوم فأقبلت إليهم كما في حديث آخر(3). ولذلك ورد في الحديث(4) أكثروا من قراءة هذا الدعاء: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ

ص: 215


1- عنه، عن ابن فضال، عن أبي بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من هم بخير فليعجله ولا يؤخره، فإنّ العبد ربما عمل العمل فيقول اللّه تبارك وتعالى: قد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئاً أبداً، ومن همّ بسيئة فلا يعملها، فإنّه ربما عمل العبد السيّئة فيراه اللّه سبحانه فيقول: لا وعزتي وجلالي، لا أغفر لك بعدها أبداً» الكافي2: 142.
2- قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا زنى الرجل فارقته روح الايمان. قال: هو قوله: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (ذاك الذي يفارقه). الأصفى 2: 128.
3- محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن زيد الشحام قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: أحسنوا جوار نعم اللّه، واحذروا أن تنتقل عنكم إلى غيركم، أما إنها لم تنتقل عن أحد قط فكادت أن ترجع إليه، قال: وكان علي يقول: قلّما أدبر شيء فأقبل. الكافي 4: 38.
4- عن سماعة بن مهران قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : أكثروا من أن تقولوا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ولا تأمنوا. بحار الأنوار91: 181.

قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.

يُنقل في أحوال الجَدّ رحمه اللّه(1) أنّه كان ملتزماً بقراءة الدعاء التالي في سجود الركعة الأخيرة من كلّ صلاة: «اللّهم اجعل عواقب أُمورنا خيراً»، فقيل له: لماذا تدعو بهذا الدعاء وأنت رجل معروف بالإيمان والتقوى وقد بلغت السبعين من العمر؟ فمثلك ممّن قضى عمره في خطّ الإيمان والجهاد هل يحسّ بخطر؟ فقال رحمه اللّه: إنّي أخاف أن أكون {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}(2).

رجال سقطوا في التاريخ

1- الزبير: رجل طالما كشف الكرب عن وجه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفجأة ولمّا شبّ ولده عبد اللّه وقع في منعطف اجتماعي(3) وكانت له طموحات في الحكم والقيادة، فسقط في الامتحان وخسر كلّ تاريخه وانتهى، وعندما جيء برأسه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سيفٌ طالما كشف الكرب عن وجه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم قال: بشِّر ابن صفية وقاتله بأنهما في النار(4).

2- الشلمغاني: عالم كبير ومتقدم على أهل زمانه اجتماعياً، ولكنّه فجأة

ص: 216


1- آية اللّه العظمى السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي (1305-1380ه).
2- النحل: 92.
3- روى الصدوق في الخصال: 157 رواية الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك فرخه فنهاه عن رأيه.
4- الفصول المختارة: 144.

وقع في منعطف اجتماعي، فصدر اللعن من الناحية المقدسة بحقه وحق أتباعه فخسر آخرته ودنياه، حيث أخذه السلطان وصلبه(1).

3 - العابد المعروف برصيصا: البداية كانت نظرة واحدة- وهذه هي المقدّمة الاختيارية، نظرة واحدة فقط ولكنّها هي المنعطف في تاريخه- ثم بعدها ارتكب الفاحشة وعبد الشيطان- حيث سجد له- فكفر باللّه تعالى

ص: 217


1- من هامش كتاب فقه الرضا: 45. محمد بن علي الشلمغاني- بالشين المعجمة والغين المعجمة- ويكنى أبا جعفر، ويعرف بابن أبي العزاقر- بالعين المهملة والزاي والقاف والراء أخيراً- وإليه تنسب العزاقرة، وكان متقدماً في أصحابنا مستقيم الطريقة، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديّة، وإحداث شريعة منها أن اللّه يَحلّ في كل إنسان على قدره، وظهرت منه مقالات منكرة، فتبرأت الشيعة منه، وخرجت فيه توقيعات كثيرة من الناحية المقدّسة على يد أبي القاسم بن روح وكيل الناحية. قال الحافظ الذهبي في العبر: في سنة (322): اشتهر محمد بن علي الشلمغاني ببغداد، وشاع أنه يدعي الأُلوهية وأنه يُحيي الموتى وكثر أتباعه، فأحضره الوزير ابن مقلة عند الراضي باللّه - فسمع كلامه- وقال: إنّ لم تنزل العقوبة بعد ثلاثة أيام - وأكثره تسعة أيام - وإلاّ فدمي حلال. ولمّا طُلِب هرب إلى الموصل وغاب سنين ثم عاد ودعا إلى الأُلوهية وتبعه - فيما قيل- الحسين وزير المقتدر ابن الوزير القاسم ابن الوزير عبيد اللّه بن وهب، وابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، فلمّا قبض عليه ابن مقلة كبس بيته فوجد فيه رقاعاً وكتباً ممّا قيل عنه. ويخاطبونه في هذه الرقاع بما لا يخاطب به البشر. فأُحضر وأصرّ على الإنكار، فصفعه ابن عبدوس، وأما ابن أبي عون فقال: إلهي وسيدي ورازقي، فقال الراضي لابن الشلمغاني: أنت زعمت أنك لا تدّعي الربوبية، فما هذا؟ فقال: وما علي من قول ابن أبي عون؟ ثم أُحضروا غير مرة وجرت لهم فصول، وأُحضرت الفقهاء والقضاة ثم أفتى الأئمة بإباحة دمه، فأُحرق في ذي القعدة وضربت رقبة ابن أبي عون، ثمّ أُحرق وهو فاضل مشهور صاحب تصانيف أدبية.

وكان عاقبة أمره أن صُلِبَ فخسر دنياه وآخرته(1).

المطالبة من اللّه تعالى

هذا هو الخطر الذي يشعر به الراسخون في العلم فيتضرعون باللّه قائلين {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ولكنّهم لا يقتصرون على هذا الدعاء بل هناك قاعدة عامّة في التعامل مع اللّه سبحانه وتعالى وهي الأخذ والمطالبة منه، لأنه القادر المطلق، الكريم المطلق، فكان لابد من عدم الاقتصار على طلب عدم الزيغ، بل طلب أمر آخر أيضاً، فيضيفون على ذلك قولهم: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} الثبات أوّلاً، والرحمة ثانياً.

رحمة مبهمة

ما هي الرحمة التي يطلبها الراسخون في العلم؟

ص: 218


1- روى الطبرسي في مجمع البيان 9: 438 عن ابن عباس قال: إنّه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا، عبد اللّه زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرأون على يده، وإنّه أُتي بامرأة في شرف قد جُنَّت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت. فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها. فلمّا فعل ذلك، ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب، وأنّه دفنها في مكان كذا ثم أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً، فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: واللّه لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره! فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس، فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل، فأُمر به فصُلب. فلمّا رُفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصُك ممّا أنت فيه؟ قال: نعم. قال: اسجد لي سجدة واحدة. فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء. فأومى له بالسجود فكفر باللّه، وقتل الرجل.

هذه الرحمة نكرة وليست بمعرفة، قال تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} ولعلّ العامل في تنكيرها أنّ المؤمن لا يعرف ماذا يحتاج إليه، فهو يعرف بعض الأشياء التي يطلبها من اللّه سبحانه وتعالى، ولكنّه يجهل أكثر الأشياء، ولذلك ورد في دعاءٍ أنّ المؤمن عندما يسأل اللّه سبحانه وتعالى عليه أن يقول هكذا: «اللّهم إني أسألك من كلّ خير أحاط به علمك»(1) فما هو ذلك الخير؟ لا نعلم.

بل في بعض الأحيان نطلب من اللّه ما نتصوره خيراً بينما يكون ذلك شرّاً لنا، فقد يطلب المرء أولاداً من اللّه ويتصوّر أنّ خيره في ذلك، وإذا بالطفل يكون كعبد اللّه بن الزبير الذي قاد والده إلى جهنّم.

لذا كانت الرحمة مبهمة، وحتى لو طلبنا من اللّه سبحانه شيئاً معيّناً يجب أن نعلّقه على الإرادة الإلهية، فنطلب ما نتصوّره رحمة، ولكن نجعل الأمر موقوفاً على إرادة اللّه سبحانه وتعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} لم نطلب شيئاً في غير محلّه، بل الذي طلبنا منه هو الكريم وهو الوهّاب، والوهّاب يعني: كثير الهبة أي: من يعطي بلا انتظار عوض.

كيف نتغلّب على الشهوات؟

تذكُّر الآخرة الوقاية والعلاج:

أمّا الدعاء الأخير للراسخين في العلم فهو: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ} حيث يتوجّه الراسخون في العلم في هذا المقطع بقلوبهم إلى

ص: 219


1- مصباح المتهجد: 50.

ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، يوم القيامة ويوم الحشر.

ولكن ما هو موقع هذا الدعاء في هذه الأجواء؟

في الجواب نقول: الالتفات إلى يوم القيامة يشكّل أهمّ ضمانة لاستقامة المؤمن؛ إذ إنّ الفرد ضعيف وأهواءه وشهواته القوية تضغط عليه، فتسلب منه عقله الذي طالما أعطاه حالة الثقل والسيطرة على النفس، ولكن عندما تهيج الشهوة قد يُغلَب العقل فتتخبط رؤية الإنسان ويفقد السيطرة على إرادته.

وبعض الشهوات عنيفة جداً يصعب التغلُّب عليها، منها الشهوة الجنسية وشهوة الرئاسة والمال ..الخ، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «حبّ الرئاسة رأس المحن»(1)، بحيث تُرتكب ملايين المحرّمات لإرضائها، فالعلاقات الاجتماعية تضغط على الإنسان بقوة، ومن الصعب جدّاً عدم الرضوخ لها، فقد يرى الفرد أنه أصبح وحيداً، فهذا أصبح ضدّه، وذلك الصديق متبرّأ منه، فيكون كأبي ذر الغفاري رحمه اللّه الّذي عاش وحده ومات وحده(2)، فقد يريد الإنسان أن يكون مقبولاً في المجتمع، إلاّ أنّ الوظيفة الشرعية أحياناً تفرض عليه أن يجهر بالحق، فإن جهر به خسر جميع علاقاته الاجتماعية وأصبح منبوذاً في المجتمع، وهذه حالة مؤذية جدّاً، وما أصعب أن يشعر الإنسان أنّه منبوذ في عائلته، كامرأة ترى أنّ

ص: 220


1- مستدرك الوسائل 11: 383.
2- قال عبد اللّه بن مسعود: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول لأبي ذر الغفاري: «تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبعث وحدك» الغدير 8: 314.

زوجها لا يعتني بها ولا يحبّها ولا يلتفت إليها، أيُّ حالة تحدث في قلب هذه المرأة؟

إنّ الضغوط الاجتماعية ضغوطٌ هائلة، ولكن ماذا يفعل الفرد حينما تقتضي الوظيفة الشرعية أن يتخذ هذا الموقف أو ذاك؟

هنا يوجد خطر الانحراف، والذي يقف أمام هذا الخطر هو تذكُّر ذلك اليوم الذي لا ريب فيه. فيقول الإنسان لنفسه: إن خسرت هذه العلاقات الاجتماعية فقد خسرت الدنيا، ولكنّي ربحت الآخرة، هذه الشهوة تجاوزتها ولكنّي ربحت الجنّة، هذه المرأة خسرتها ولكن ربحت رضا اللّه تعالى.

فلابد من هذا الدعاء في هذه الأجواء: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}.

والريب أخصّ من الشكّ، فهو الشك الذي تختلط به حالة من سوء الظن، فلا يقال (ريب) إذا حصل الشك في نزول المطر غداً، ويقال (ريب) إذا سيء الظن برجل أنّه ربما يكون قاتلاً.

{لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ}: الكفّار يرتابون في يوم القيامة، إلاّ أنّ ما وعد به الأنبياء صدق وليس بكذب، كما زعم عمر بن سعد لعنه اللّه حيث قال: «يقولون إنّ اللّه خالق جنّة ونار...» إلى أن يقول:

فإن صدقوا فيما يقولون إنَّني***أتوب إلى الرحمن من سنتين!!

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} هذه ربما تكون بمنزلة العلّة أو الدليل، حيث اللّه وعد، واللّه لا يخلف الميعاد: لأنّه ليس بجاهل ولا ناسٍ ولا عاجز، أمّا من يخلف الميعاد: فهو إمّا جاهل أو ناسٍ نسي الوعد فأخلفه، أو عاجز

ص: 221

عن الالتزام بوعده.

القُمّيان والخوف من الآخرة:

لا بأس أن نذكر شواهد من التاريخ الحاضر لنرى كيف أنّ تذكُر الآخرة - اليوم الذي لا ريب فيه - يحفظ المؤمن أمام هذه الضغوط الهائلة:

1- جاء السيد حسين القمّي رحمه اللّه إلى كربلاء المقدسة، ولم يكن له بيت، فأضافه أحد وجهاء كربلاء في بيته، فبقي السيد القمِّي رحمه اللّه فترة طويلة هناك، وكان الرجل يقوم بخدمته، وبعدها انتقل إلى بيت آخر، ثم بعد فترة حدث خلاف على أرضٍ بين رجل وبين ذلك الوجيه الذي كان القمّي رحمه اللّه ضيفاً عنده، فاتّفقا على أن يحكم بينهما السيد القمّي رحمه اللّه والوجيه مسرور لكونه ذا فضل على السيد، وله يد عليه فلابدّ أن يراعي جانبه.

جاء المتنازعان وعرضا الأمر، والسيد القمِّي استمع بإمعان إليهما، ثم التفت إلى الوجيه وقال له: أنا أشكرك على ما تحملت من العناء طوال تلك المدّة وأنا معك في كلّ شيء ولا أفارقك! ولكن: لا أدخل لأجلك في جهنّم، الحق ليس معك وإنما هو مع خصمك!.

كثير من الناس لو تعرّضوا لمثل هذا الموقف يشعرون بالحرج وصعوبة إظهار الحق، وكثير من الأفراد يدخلون جهنّم بسبب علاقاتهم الاجتماعية، ولكن على المؤمن أن يقول: وإن أصبح هذا عدوّاً لي لا بأس بذلك، فإنّي لا أعيش في هذه الدنيا إلاّ فترة قليلة وتنتهي هذه الدنيا، وقد نقل أنّه زادت علاقة الوجيه بالسيد القمّي رحمه اللّه بعد تلك القضية، مع أنّه حكم ضدّه.

2- الروحية التي كانت في السيد القمي رحمه اللّه انتقلت إلى ابنه السيد

ص: 222

تقي القمّي، وهكذا يورّث الآباء أبناءهم:

يُنقلُ أنّ السيد القمي بعيدٌ عن الكذب إلى أبعد الحدود، مع أنّ الإنسان قد يقع في الحرج ولا طريق له للتهرّب من الكذب، فهنا يدور الأمر بين اللّه جلّ جلاّله وبين المجتمع، فهل يخسر رضا اللّه تعالى ليرضي الناس فيكون مصداقاً لقوله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(1)، أو يكون مثل الحر الرياحي الذي قال: إني أُخير نفسي بين الجنّة والنار؟ ولذلك كان يرتجف لهذه رعشة القرار الصعب، القرار الذي لم يتخذه أحد من قواد الجيش المنتصر في التاريخ فيما نعلم، ومن الطبيعي أن يرتعش من يرى أنّه مخيّر بين الموت والخلود في الآخرة، أو الحياة والعيش الهنيء في الدنيا، فأحياناً يرى الإنسان نفسه بين الجنّة والنار، ولابدّ أن يختار بينهما، هنا قضية الإيمان باليوم الآخر تعينه في هذا الموقف.

كذلك كان السيد القمّي لا يفتي مع أنه مجتهد، وقد قضى من عمره سبعين عاماً في الخط العلمي، وعندما طبعت رسالته العملية جمعها وأتلفها، فقيل له: لماذا؟

قال: كلمّا أتذكّر القبر وسؤال اللّه عندما أقف بين يديه: لماذا أفتيت بهذه الفتيا، يرتعش بدني ولا أتمكن أن أتحمل ذلك.

وفي المقابل نرى شخصاً لم يقرأ من العلم شيئاً يجلس ويفتي في العقائد والأحكام والتشريعات وفي كل شيء، فيقول: بنظري هكذا.

ولا يخفى أنّ الفقيه - المطمئن بينه وبين اللّه سبحانه - إنّ توصل إلى قناعة

ص: 223


1- النحل: 105.

في مسألة يحقّ له أن يفتي فيها، فقهاؤنا عندما يتوصّلون إلى قناعة يفتون، ولكن لاحظوا تذكّر الآخرة ماذا يصنع بالمؤمن، خوف أن يكون هنالك نوع من القصور أو التقصير في المقدِّمات.

فيجب أن ننّمي في أنفسنا حالة التوجُّه والالتفات إلى الآخرة التي {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}(1) فإن نمّينا هذه الحالة نتمكّن أن نتغلب على ضغوط الشهوات وضغوط المطامع والضغوط الاجتماعية، وبالتالي نضمن استقامتنا في طريق الإيمان إن شاء اللّه تعالى.

ص: 224


1- الواقعة: 2.

الآيات 10-13

اشارة

الآيات {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ *كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ *قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لِأُولِي الأَبصَارِ}(1)

المفردات

{لَنْ تُغْنِيَ}: لن تجدي ولن تنفع من عذاب اللّه وبأسه ونكاله في الدنيا والآخرة.

{وَقُودُ}: آلة الإيقاد والوسيلة التي توقد بها النار.

{كَدَأْبِ}: الدأب هو المنهج والطريقة الدائمة.

{فَأَخَذَهُمُ}: عاقبهم.

{تُحْشَرُونَ}: الحشر يعني جمع جماعة وسوقهم باتجاه هدف معيّن.

{الْمِهَادُ}: المكان الذي مُهّد حتى يستقر فيه الإنسان كالفراش.

{آيَةٍ}: علامة واضحة.

ص: 225


1- آل عمران: 10-13.

{مِثْلَيْهِمْ}: ضعفهم.

{رَأْيَ الْعَيْنِ}: حقيقة واضحة ولم يكن خيالاً ولا توهُّماً.

{يُؤَيِّدُ}: التأييد هو التقوية.

{لَعِبْرَةً}: العبرة هي الانتقال من شيء إلى شيء آخر، والدمع إنما يقال له عبرة لأنه ينتقل من الأجفان إلى الخد، والكلام يقال له تعبير لأنه ناقل للمعاني، فعندما يرى الفرد ظاهرة عليه أن لا يجمد عليها بل ينتقل إلى مدلولاتها.

{الأَبْصَارِ}: الرؤية بالقلب لا العين الظاهرية.

الإعراب

يرونهم مثليهم: فيه بحث طويل، فمَنْ يرى مَنْ؟ هل الكفّار يرون المسلمين ضعفهم أو المسلمون يرون الكفّار كذلك؟

إحدى الاحتمالات هو أن يعود ضمير الفاعل في يرونهم إلى المسلمين، وضمير المفعول إلى المشركين، أي: إنّ الكفّار هم ضعف المسلمين.

التفسير

المدخل:

أشرنا سابقاً إلى أن هذه السورة المباركة أو على الأقل ثمانين آية منها، نزلت في أجواء تحديات كبرى كانت تعيشها الفئة المؤمنة في المدينة المنّورة، هذه الآيات الأربعة تتناول السناد الّذي تستند إليه الجبهة الكافرة والمصير الذي ينتظر هذه الجبهة؛ إذ إنّ كلّ إنسان في هذه الحياة يحتاج إلى سند ويحتاج إلى سناد يعتمد عليه.

ص: 226

اللّه عزّ وجلّ سند المؤمن

السند الذي يعتمد عليه المؤمنون واضح وهو اللّه سبحانه وتعالى، ففي الحديث عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : إنه لو هلك جميع أهل العالم ولم يبق أحد من البشر في هذه الحياة ما كنت لأستوحش مادام كتاب اللّه معي(1).

ولكنّ الكفّار الّذين قطعوا ارتباطهم باللّه سبحانه وتعالى لا يوجد لهم ذلك الركن الشديد الذي هو اللّه عزّ وجلّ؛ ولذلك يعتمدون على ما يتصورّونه ركناً.

المال والرجال رُكنا الكفّار

سؤال يطرح هنا وهو: الكفّار الّذين قطعوا ارتباطهم بهذا الركن الشديد، ما هو ركنهم الذي يستندون إليه؟

الجواب: إنّ الّذين قطعوا ارتباطهم بما وراء الطبيعة يضطرون إلى الاستناد إلى ركنين في إطار عالم الطبيعة:

الأوّل: القوة الاقتصادية، وهي تمثل الوسيلة للإنسان الكافر، فيشعر أنه قوّي بأمواله، وأنها طريقه لفعل كلّ شيء ولوصوله إلى مبتغاه.

الثاني: القوة البشريّة، أي الأفراد، الرجال والأولاد- فقد ذُكر في أحوال فرعون أنه كان مغسّلاً للأموات متواضعاً بسيطاً، ولكنّه وصل إلى مقام ومرتبة ادعى فيها الربوبية قائلاً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}(2) فيا ترى من الّذي

ص: 227


1- عن الزهري قال: قال علي بن الحسينِ (عليه السلام) : «لو مات ما بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي...» تفسير العياشي 1: 23.
2- النازعات: 24.

أوصله إلى هذا الموقع؟

الجواب: المال الذي كان تحت يديه والرجال الّذين كانوا وراءه هما اللّذان أوصلاه إلى هذا الموقع، فكان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}(1) وكذلك صدّام العصر الّذي ظهر ضعفه وعجزه عندما قبضوا عليه فتعجّب الجميع: لأنّ هذا الطاغية الّذي أرهب العالم وقتل الملايين يظهر بمظهر الضعيف المختبئ في جحر من الجحور؟ فمن الذي صنع من هذا الرجل الضعيف طاغوتاً جبّاراً؟

الجواب:

1- الأموال التي كان يملكها.

2- الرجال أو أشباه الرجال الّذين كانوا وراءه.

فقلب الكفّار قويٌّ بهاتين القدرتين.

هل يصمد ركنا الكفّار أمام القوّة المطلقة؟

والسؤال هنا هو: أنّ هاتين القدرتين- الاقتصادية والبشرية- التي تقف وراء الكفّار، هل تغنيان عنهم شيئاً؟

والجواب: إنّ هناك حالتين:

1- قد يكون في قبال الجبهة الكافرة إنسان ضعيف عندها يمكن مواجهته بالأموال والرجال.

2- قد يكون في قبال الجبهة الكافرة القوّة المطلقة التي بيدها كلّ شيء، عندها لايمكن مواجهتها بالأموال والرجال.

ص: 228


1- الزخرف: 51.

فهل تغني هذه الأموال؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} اعتمدوا على قوتين؛ قوّة المال وقوة الأفراد، كما نرى الآن القوى العظمى الحاكمة في العالم إنما تعتمد على الثروات الضخمة التي ربما لم تشهد دولة لها مثيلاً في التاريخ المدوّن، وعلى الجيوش التي تقف خلفها، وبهما تتقدّم وتبطش وتفرض رأيها وتفعل ما يحلو لها، ولكن: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} هذه القدرة الاقتصادية، {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}: هذه القدرة البشرية: لأن الّذي في مقابلهم هو القدرة الإلهية المطلقة، ولا يمكن للأموال والجيوش والأولاد أن تقف أمامها.

الوثوق بالأبناء

هناك ملاحظتان جديرتان بالتأمّل:

الأُولى: القرآن الكريم لا يعبّر عن القوّة البشرية بالرجال أو الأفراد، وإنّما يعبّر عنها بالأولاد، وذلك لأمرين:

أ - قد يكون لأنّ الأولاد أقوى وأقرب وأكثر من يطمئن إليهم الإنسان؛ إذ الصديق يمكن أن يخون، كذلك الجندي البعيد، ولكنّ العلاقات العاطفية التي توجد بين الأبناء والآباء عادة تمنع الخيانة، ولذلك غالباً ما يعتمد الأفراد على أولادهم أكثر من اعتمادهم على الآخرين.

ب - وقد يكون الاعتماد على الأولاد يمثل ظاهرة عامّة، فليس للأكثر رجال أو جيوش يعتمدون عليها، إلاّ أنّهم يملكون من الأموال بمقدار، ويوجد عندهم أولاد يعتمدون عليهم.

الثانية: هناك احتمالان في معنى عدم الإغناء:

ص: 229

الأوّل: ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ عدم الإغناء المذكور في هذه الآية المباركة بمعنى عدم الفائدة والنفع في الآخرة، فمن الممكن للكفّار أن يحقّقوا بعض مآربهم في الحياة الدنيا، ولكن في الآخرة المعادلات كلّها تتبدل، فالمال يصبح لا قيمة له: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}(1) حيث تخرج الأرض ما في جوفها؛ لأنّ المعادلات تتبّدل، كما تتبّدل العملات السابقة لدى تبّدل الحكومات التي تُسقط في نظامها الجديد القوّة الشرائية للعملات السابقة، فلا تبقى لتلك العملات أيّة قيمة؛ لأن القدرة الشرائية كانت لزمن آخر ومعادلات سابقة، أمّا في الوضع الجديد فلا تنفع ولا تجدي شيئاً.

وكذلك الأمر في الآخرة حيث تتبدّل المعادلات: المال والذهب لا قيمة لهما، حيث لا ينفع شيء من اللّه سبحانه وتعالى وكذلك الجيوش والأولاد: {وَلَقَدْ

جِئْتُمُونَا فُرَادَى}(2) فيأتي أمثال فرعون وصدّام يوم القيامة وحدهم لا جيش معهم ولا ينفعهم الأفراد ولا الأولاد: {يَوْمَ

يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}(3).

الثاني: شمول الآية للدنيا أيضاً، فلن تغني عنهم حتى في هذه الدنيا.

ينقل أنّ حاكما دخل مدينة وأخذ يدمّرها، فجاءته امرأة كبيرة في العمر وقالت له: لماذا تدمّر وتقتل، أنت الفاتح والمدينة بيدك ألا يكفيك هذا؟

قال الحاكم: ألم تسمعي قول اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً

ص: 230


1- الزلزلة: 2.
2- الأنعام: 94.
3- عبس: 34-36.

أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(1).

قالت العجوز: نعم، سمعت الآية ولكن هنالك آية أُخرى أيضاً، وهي: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}(2) ولمّا سمع الملك الآية من العجوز- إمّا ليقظة ضمير أو لعامل آخر- أمر جيشه بالكفّ عن الإفساد.

بل هناك العديد من الحضارات التي سادت ثم بادت، ومنها:

1- أقرب حضارة منّا التي كانت ترهب الدنيا برؤوسها النووية التي تكفي لتحطيم الكرة الأرضية عدّة مرات، حتى أن البعض في يوم من الأيام كانوا يتخوّفون أن تسيطر هذه الحضارة على جميع الكرة الأرضية، وإذا بهذه الحضارة تنتهي ويتحول الاتحاد السوفياتي إلى عدّة دول من دول العالم المتخلّف.

2- الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس تحوّلت إلى دولة من الدول العادية.

إذن، الأموال والجيوش لا تغني أمام اللّه سبحانه وتعالى حتى في هذه الدنيا فلا تغني: {مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لا تغني من عذابه وبأسه ونكاله في الدنيا والآخرة.

الكافر آلة إيقاد النّار

{وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} هناك فرق بين كلمة فَعول- بفتح الفاء- وكلمة فُعُول- بالضم- ففَعُول تعني الآلة، وفُعُول تعني العمل، وهما مثل

ص: 231


1- النمل: 34.
2- النمل: 52.

الفرق بين الوَضوء والوُضوء، فالوُضوء: يعني عملية الوضوء، أي: غسلتان ومسحتان، والوَضوء يعني آلة العملية، أي الماء الذي يُتوضّأ به، كذا الفرق بين الفُطور والفَطور، فإنّ الفُطور هو عملية الإفطار في شهر رمضان على التمر مثلاً، والفَطور يعني الوسيلة التي تتم بها عملية الإفطار، وهو التمر: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} الوَقود آلة الإيقاد كالحطب والنفط والبنزين، والكفّار مضافاً إلى أنّ أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من اللّه شيئاً، مصيرهم في الآخرة أنهم {وَقُودُ النَّارِ}، بالطبع هناك فرق بين أن يحترق شخص بالنار وبين أن يكون الوسيلة التي توقد بها النار، وقد تشير هذه الكلمة- واللّه أعلم- إلى أن نار جهنّم ليس عذاباً من الخارج وإنّما الكفّار بأنفسهم يوقدون هذه النّار، فآلة الإيقاد هم هؤلاء كما في آية أُخرى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(1) وقد احتمل البعض أن يكون المقصود بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون اللّه تعالى، فهي تشعل جهنّم وهم أيضاً وقود جهنّم، فلا يغترّ الكافر بقدراته الاقتصادية والبشرية؛ لأن هذه مصيره.

معرفة التاريخ والنظرة الشاملة

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}(2).

مدخل:

هناك مسألة تتكرّر في القرآن الكريم وتلاحظ دائماً، وهي أنّ القرآن

ص: 232


1- البقرة: 24.
2- آل عمران: 11.

يربط الحاضر بالماضي، وذلك لأن الأفراد على نوعين:

1 - صاحب النظرة الناقصة.

2 - صاحب النظرة الشاملة.

فمن يعيش الحاضر يؤطّر الحاضر فكره من حيث الزمان والمكان، فهما يمثّلان سجنين للفكر، فمن يفتح عينيه على حضارة قائمة بيدها القوة والقدرة وتبطش: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}(1) يغلّف الحاضر تفكيره، كما لو جلس الشخص في غابة ونظر إلى شجرة أو عدّة أشجار وظن أنّ الغابة هي هذه الأشجار.

أمّا لو أراد أن تكون له رؤية كاملة فلابدّ أن يحلّق في طائرة ليرى الغابة بأجمعها، فالنظرتان مختلفتان، حيث إنّ الأُولى ناقصة محدودة، والثانية شاملة.

علم التاريخ يعطي للفرد النظرة الشاملة، ونحن عندما نفتح أعيننا على حضارة بيدها الآن كل شيء، نتصوّر أنها خالدة ولن يأتي يوم تنتهي فيه هذه الحضارة، ولكنّ الذي له نظرة تاريخية يختلف رأيه، الإنسان بدراسة التاريخ يكشف السنن التاريخية.

وليس هذا من قياس ظاهرة على ظاهرة أُخرى، وإنّما من خلال التاريخ نكتشف القانون العام، مثل ما يذكره علماء الطبيعة من أنّ الماء يتركّب من أوكسجين وهيدروجين، فهل إنهم درسوا جميع ذرّات المياه في العالم؟

الجواب: كلاّ، ولعلّه لا يمكن ذلك، إلاّ أنهم لاحظوا مجموعة من

ص: 233


1- الشعراء: 130.

العيّنات وبطرق معيّنة وتوصّلوا من هذه الجزئيات إلى القانون الكلّي.

ونحن عندما ندرس التاريخ لا نقيس ظاهرة بظاهرة، وإنّما نكتشف السنّة الإلهية العامّة التي تسيّر التاريخ، فننتقل من الجزئي إلى الكلّي، ثم نطبق ذلك الكلّي على جزئياته الأُخرى.

وقد دعا القرآن الكريم الكفار إلى عدم الانخداع بقدراتهم، حيث كانت لهم قدرات ضخمة في مقابل المؤمنين وفي مقابل النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ كانت الحضارة الرومية حضارة عالمية وكذلك حضارة الفرس، وكانت بيد اليهود قلاع وثروات وارتباطات هائلة، إلاّ أنّ القرآن يدعو إلى عدم الانخداع بهذه الظواهر من خلال مراجعة التاريخ.

لماذا آل فرعون؟

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} الدأب هو المنهج والطريقة الدائمة، فمنهج هؤلاء الكفّار المعاصرين كمنهج الّذين تقدّموهم ومصيرهم كمصيرهم، وربّما ذكر آل فرعون ولم يذكر فرعون؛ لأن هذا الطاغية رجل ضعيف ليس بيده شيء، وإنّما المهم آله الّذين كانوا خلفه، حيث إنّهم هم الّذين أعطوه هذه القوّة والقدرة.

الحضارة الفرعونية على قمّة الحضارات

يوجد احتمالان في علّة التمثيل بآل فرعون:

1 - ذهب بعض العلماء إلى أنّ الخطاب مع اليهود في هذه الآية: اللّه يذكّرهم بتجربتهم التاريخية لأنّهم عانوا ورأوا مصير الكفّار.

2- يحتمل- واللّه أعلم- أنّ الحضارة الفرعونية إحدى أقوى الحضارات

ص: 234

في التاريخ المدوّن، هذه الأهرامات المبنيّة في مصر لايمكن لأعظم مهندسي العالم مع كلّ التقدم العلمي وكلّ التقنيات الحاضرة أن يصنعوا مثلها- كما قرأت في تقرير، فبأيّ حضارة صنعت هذه الأهرامات؟

البعض يحتمل أنّ الفراعنة كانت لهم حضارة متقدّمة علينا بكثير، ويحتمل أنه كانت لديهم ارتباطات بقوى خارج نطاق الطبيعة، هذه الصخور العملاقة كيف حملوها إلى هذا المكان رغم بُعد المسافة؟ هذه قضية محيّرة في التاريخ، لعلّ اللّه سبحانه يستشهد بهذه الحضارة لأنها تمثّل حضارة قوية: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الحضارات المتقدمة: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} اعتمدوا على قوتّهم وعلى أموالهم، ولكن: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي: عاقبهم، وطبعاً هذا الأخذ كما يبدو لم يكن في الآخرة فقط وإنّما كان في هذه الدنيا أيضاً، حيث دُمّروا تدميراً في هذه الدنيا: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} اللّه تعالى أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة(1)، فلا يظن الكفّار أن العقاب الإلهي عقاب هيّن يمكن للفرد تحمّله.

الغلبة للحق وإن ضعف ناصروه

بعد التعرض إلى هذه السنّة التاريخية، يتوجّه السياق القرآني إلى الكفّار المعاصرين للنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو لجميع الكفّار على امتداد العصور: ب- {قُلْ} يا رسول اللّه {لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} في هذه الدنيا، وهذا يؤيّد أنّ عدم الإغناء يشمل الدنيا أيضاً: {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} هزيمة في الدنيا

ص: 235


1- كما ورد في دعاء الافتتاح.

ونكالاً إلهياً في الآخرة، {وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

ذهب بعض المفسرين إلى أنّ الآية نزلت بعد غزوة أُحد، حينما خالف بعض المسلمين أمر النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومُنِيَ المسلمون بهزيمة فادحة كاد الكفّار أن يقضوا فيها حتى على النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولولا سيف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وثلّة قليلة من الّذين ثبتوا لانتهى الإسلام ولم يُعبد اللّه تعالى في الأرض بعد ذلك.

آنذاك انتعشت آمال الكفّار وأصبح المسلمون في موضع الضعف، فاليهود- مع أنّه كان لهم حلف ومعاهدة مع النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - نقضوا العهد وخرج ستّون شخصاً منهم مع كعب بن الأشرف أحد وجهائهم إلى مكّة وتحالفوا مع المشركين، وفي هذا الموقف الّذي يبدو ضعيفاً، يقول: القرآن الكريم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لا يغرنّكم هذا الضعف الظاهري للمسلمين {سَتُغْلَبُونَ} وفعلاً هذا هو الّذي تحقّق، فاليهود كلُّهم غُلِبُوا: بنو النضير، وبنو قينقاع، ويهود خيبر الّذين تآمروا ضدّ المسلمين كلُّهم غُلِبُوا.. وقلعة الشرك التي كانت مكّة افتتحت بعد فترة قليلة.

ولا يخفى أنّ حرف (السين) تدل على المستقبل القريب و(سوف) تدلّ على المستقبل البعيد، عاصمة الشرك تحطّمت بعد وقت قريب، وهذه من إعجازات القرآن الكريم، وهنا ملاحظة ينبغي الدقّة فيها وهي أنّ الأفراد حتى القائد والحاكم عندما يتكلّمون إنّما يتكلّمون مع ليت ولعل؛ لأنّهم لا يحيطون بالمستقبل، ولكن عند ملاحظة القرآن الكريم نجده يتحدّث بقاطعية كاملة وهذه من دلائل كونه من عند اللّه سبحانه.

ص: 236

معركة بدر والتأييد الإلهي

القرآن الكريم هنا يستشهد بقضية بدر: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} وآية: العلامة الواضحة، {فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المؤمنون، هذه الفئة تعمل من أجل اللّه تعالى {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} المشركون{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} في هذه الضمائر بحث طويل، من يرى من؟ هل الكفّار يرون المسلمين أو المسلمون يرون الكفّار؟ وإحدى الاحتمالات في يرونهم: أنّ ضمير الفاعل يعود إلى المسلمين وضمير المفعول يعود إلى المشركين: {رَأْىَ الْعَيْنِ} حيث لم يكن خيالاً ولا توهُّماً، بل كانت حقيقة واضحة، وربما كلمة {رَأْىَ الْعَيْنِ} تؤيد هذا الاحتمال الذي ذكرناه؛ إذ كان المسلمون في بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، والكفّار ألفاً، هذا من ناحية العدد، وأمّا من ناحية العُدّة فالمسلمون كانوا مجموعة ما يصطلح عليهم بالحفاة- بالمعنى المجازي للحفاة- المؤرخون يذكرون أن المسلمين الّذين جاؤوا في قبال هذه الجبهة الكافرة في بدر كان لهم عدد قليل من الفرسان والبقيّة كلّهم مشاة، والمشركون كان لهم مائة فرس، والمسلمون كانت لهم من الدروع- التي توضع للوقاية وتحمي المقاتل- ستّة فقط والبقيّة جاؤوا بثيابهم، وسيوف المسلمين ثمانية والكفار مدججون بالأسلحة، {فِئَةٌ

تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} اعتمادهم على اللّه وهدفهم رضاه، وإن لم يكن معهم شيء من الناحية الظاهرية {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} فئة كافرة باللّه تعالى{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمِْ} ضعفهم {رَأْىَ الْعَيْنِ} يعني المسلمون كانوا يعلمون أن هؤلاء ضدّهم وهم أكثر عدداً.

ص: 237

فتارة الفرد لا يعلم عدد العدو ولكنّه لو علم قد ينهار انهياراً، إلاّ إذا اعتمد على القوة المطلقة فيرى نفسه المنتصر لا محالة، {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ} والتأييد يعني التقوية، هذه الفئة كانت فئة ضعيفة، ولكن أيّدها اللّه، يعني: قوّاها، ضعف في العدد وضعف في العُدّة ولكنْ، وراءهم التأييد الإلهي {مَنْ يَشَاءُ} ولا تكون المشيئة الإلهية عبثاً وإنما تكون لحكمة وفي المحل القابل.

الاعتبار: النظرة الواقعية لآية ظاهرة

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} في هذا الانتصار، انتصار الفئة المؤمنة الضعيفة على الفئة الكافرة القوية {لَعِبْرَةً} والعبرة معناها عدم جمود الفرد على الظاهرة كظاهرة مادية بلا روح، وإنّما ينتقل إلى الروح الكامنة وراء هذه الظاهرة، ولذلك يقال للدمع: عبرة لأنه ينتقل من الأجفان إلى الخدّ، أو من داخل العين إلى خارجها، وكذلك يقال للكلام تعبير وعبارة: لأنه ناقل للمعاني، فالانتقال من ظاهرة إلى مؤداها هو العبرة كما في مرور أمير المؤمنين عليه السلام على إيوان كسرى في المدائن، فقرأ هذه الآية - ليعتبر أصحابه - {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ *كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ *فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}(1) وهذا الموقف هوموقف المعتبر، وأمّا الموقف الآخر فهو موقف من يذهب إلى إيوان كسرى ويرى الظاهر، ويلاحظ علوّ هذا المكان

ص: 238


1- الدخان: 25-29.

والهندسة البنائية فيه، وهذه النظرة لا عبرة فيها أبداً.

مثال آخر: تارة يرى الفرد جنازة ميّت يأخذونه للقبر: هذه نظرة لا عبرة فيها، وتارة يفكّر: أنا أيضاً في يوم من الأيّام أُحمل في جنازة: هذه نظرة اعتبارية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُِولِي الأَبْصَارِ} الّذين لهم بصر، ولا يراد بالبصر العين الظاهرية والإبصار الظاهري، وإنّما يراد به الإبصار بالقلب.

بين الأسباب الغيبية والمعادلات الدنيوية

وقفة أخيرة على ضوء الآيات المباركات: ففي بعض الأحيان يبني الفرد حياته وعمله على المعادلات المادية الطبيعية، ولكنّ المؤمن الحقيقي يسلك الطرق الطبيعية ولكنّه لا يبني حياته عليها.

أكثر أنبياء اللّه سبحانه كانت المعادلات الظاهرية كلُّها ضدَّهم، فمن كان نبي اللّه عيسى (عليه السلام) ؟

رجل لا يملك بيتاً، والحكام الّذين بيدهم القدرة والقوة ضدّه، ولا مأوى له، حتى أنّه ذات مرة خاطب اللّه تعالى قائلاً: يا اللّه حتى الوحوش لها مأوى تأوي إليه- في الجبل مثلاً- وأنا لا مأوى لي(1).

إلا أنّه أصبح الآن يملك قلوب مئات الملايين من النصارى في العالم من الذين يقدّسونه ويتّبعونه، بل المسلمون أيضاً يُكنّون له أشدّ احترام(2)ويعتقدون أنّه نبي من أنبياء اللّه العظام، وهذا هو الأثر الذي تركه في التاريخ، فالأنبياء لم تكن المعادلات المادية معهم غالباً، ولكنْ {وَاللَّهُ

يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءَُ}.

ص: 239


1- النور المبين: 471.
2- فالنصارى يعبدونه والمسلمون يقدّسونه.

ولنذكر مثالين من الواقع المعاصر

1- يذكر أن رئيس شركة التبغ في إيران سأل البعض: كم يملك هذا السيد من الجيوش- ويقصد به المجدّد الكبير قائد ثورة التبغ الذي أصدر الفتوى الشهيرة ضدّ أقوى إمبراطورية في العالم دخلت إيران تحت ستار التبغ- قالوا له: لا يملك جيشاً، هو رجل جالس في بيته، قال: كم يملك من الثروة، قالوا: لا يملك شيئاً، فقال: إن هذا الرجل لا يمكن مقاومته، لا أموال له ولا جيوش ولكنّه وقف أمام أعظم دولة في العالم وأجبرها على أن تخرج من إيران.

2- الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين لم يكن يملك شيئاً، وكذلك الشعب العراقي لم يكن يملك شيئاً ومورس بحقّه أبشع الجرائم الحربية فقد استخدم السلاح الكيماوي لأوّل مرّة ضد هذا الشعب- كما قال بعض المؤرّخين- ولكنّهم بقوة الإيمان أجبروا الامبراطورية التي سيطرت على الهند حوالي أربعمائة عاماً على الخروج من العراق، والفرق بين البلدين أنه في الهند لم تكن قوة الإيمان بخلاف الأمر في العراق، فالفرد في أُموره العامّة والشخصية والاجتماعية والسياسية والقضائية عليه أن لا يبني حياته على المعادلات المادية، وإنّما يجب عليه أن يعرف أيضاً أن وراءه قوة هي أكبر قوة في هذا الوجود، وهذه القوة هي قوة اللّه التي وعدت بالنصر {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).

ص: 240


1- محمد: 7.

الآيتان 14-15

اشارة

الآيتان {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(1)

المفردات

{الشَّهَوَاتِ}: المشتهيات كما في مجمع البيان(2)لا الغريزة، بقرينة تفسيره ب- (من) البيانية.

{وَالْبَنِينَ}: قيل: يشمل الذكور والإناث، فهما إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا، والمعروف أنّه يعني الأولاد الذكور فحسب.

{وَالْقَنَاطِيرِ}: جمع قنطار، وهو ملء جلد الثور ذهباً(3).

{الْمُقَنْطَرَةِ}: المكدَّسة بعضها فوق البعض الآخر، المنضّدة، المجتمعة.

{وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}: قيل: الخيل المعلّمة، أي: التي عليها علامة، وقيل:

ص: 241


1- آل عمران: 14-15.
2- مجمع البيان 2: 63.
3- التبيان 3: 152.

الخيل المدرّبة للركوب في ميادين القتال.

{ذَلِكَ}: ذا إشارة إلى الشهوات، والكاف كاف الخطاب.

{مَتَاعُ}: الشيء الذي يُتمتَّع به ويُستلذُّ به لمدّة مؤقّتة، والمتعة تعني اللَّذة المؤقّتة.

{الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: الحياة القريبة أو الحياة الهابطة الدنيّة.

{حُسْنُ الْمَآبِ}: المرجع والمستقبل الحَسن المضمون.

{أُنَبِّئُكُمْ}: النبأ هو الخبر المهم.

{التَّقْوَى}: الكف مع وجود انشداد داخلي نحو الشيء، أي الكف الداخلي والكف العملي(1).

{جَنَّاتٍ}: بساتين.

{تَجْرِي}: فعل مضارع يدل على الاستمرارية.

{مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: قيل: الأنهار تجري من تحت الأشجار، إلاّ أنّ الّذي يبدو للنظر أنّ الأنهار تجري تحت الجنّات والبساتين حقيقة كالبيوت الزجاجية التي يُرى باطنها من ظاهرها.

ص: 242


1- التقوى لغة مأخوذة من الوقاية، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه، يقال: وقيت الشيء أقيه وقاية ووقاء، قال تعالی: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}. واصطلاحاً جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، وهي في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روي: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه». لقد ركز القرآن على التقوى في آيات عديدة منها: الحشر/18 ومنها: الحج/1 ومنها: آل عمران/ 102 والسرّ في ذلك هو أن اللّه جعلها هي المقياس في القرب والبعد منه والتشريف لعبده دنيا وآخرة (الحجرات/ 113) كما أن بها ينال السعادة الحقيقية.

{مُطَهَّرَةٌ}: خالية عن أيّة قذارة مادية أو معنوية.

المدخل

الشهوات أهمّ عامل للكفر

تتناول الآية الأُولى موضوع الشهوات، ودورها في الحياة الدنيا، والمكانة الصحيحة التي ينبغي أن توضع فيها، ولكن قبل أن ندخل في صلب البحث لا بأس بأن نتوقّف قليلاً عند الارتباط بين الآية الكريمة والآيات المتقدمة، فقد تمحورت الآيات المتقدّمة حول الكفّار والجبهة الكافرة التي وقفت قِبال الأقليّة المؤمنة، بينما تمحورت هذه الآية الكريمة حول الشهوات، ولعل الرابطة فيما بينهما أن الشهوات هي إحدى القاعدتين التي تستند إليها جبهة الكفر والإلحاد، بل لعلّها الأهمّ من هاتين القاعدتين والأخطر منهما.

الشبهات والشهوات

هنا ينتصب السؤال التالي ليقول: ما هي العوامل التي ينشأ منها الكفر؟

الجواب هناك عاملان رئيسيان:

الأوّل: العامل الفكري ويتمثّل في الشبهات.

الثاني: العامل النفسي ويتمثّل في الشهوات.

فقد يكون للشبهات دور محدود في الكفر باللّه، ولكنّ العامل الأهم هو عامل الشهوات، قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}(1).

ص: 243


1- القيامة: 5-6.

لأنّ الفرد عادة ما يحبُّ أن يكون منطلقاً لا مانع أمامه ولا رادع، بحيث يحقق جميع مشتهياته في الحياة الدنيا.

يفجر أمامه: يفعل ما يحلو له من الفسق والفجور وهو عامل نفسي يدفعه إلى الكفر، بحيث يتساءل قائلاً: أيّان يوم القيامة؟

وبالتالي ينكر المعاد والمبدأ، والحركات الإلحادية التي غزت مجتمعاتنا كالحركة الشيوعية، كانت تعتمد اعتماداً جزئياً على الشبهات، بينما كانت تعتمد اعتماداً كلّياً على الشهوات، والفرد الذي ينتمي إليها تلبىِّ شهواته بأنواعها المختلفة.

وكما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون أنّ أفضل وسيلة للحركة اليهودية العالمية كي تنفذ إلى الآخرين - خاصّة القادة - هي الشهوات، وفي مقدّمتها الشهوة الجنسية!.

ومن هنا تظهر العلقة بين الآية المباركة والآيات المتقدّمة، حيث إنها تشير إلى الجذر الأهمّ الذي تبتني عليه قضية الكفر باللّه وآياته.

اللّه يزين أم الشيطان؟

اشارة

وبعد هذا المدخل نأتي إلى ظِلال هذه الآية الكريمة: {زُيِّنَ

لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} كلمة (زُينِّ) فعل مبني للمجهول يدل على فاعل لم تحدّد هويته في الكلام، فمن الذي يزيِّن الشهوات للناس؟

وعلى سبيل المثال: البيت لو أُريد بيعه: يُزَيّن حتى يبدو بمظهر جميل كي يباع، وفي الزمن السابق قبل أن تزف المرأة إلى بيت زوجها كانت تأتي الماشطة- المزيّنة- لتزيّينها، وما زالت بعض محلاّت الحلاقة يكتب

ص: 244

عليها (محلاّت التزيين).

على كلٍّ هناك جبهة مجهولة تحبّب المشتهيات إلى نفوس الناس، فمن هي هذه الجبهة؟

القول الأوّل: الشيطان يُزين
اشارة

ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الفاعل المجهول هو الشيطان، مستدلّين على ذلك بقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}(1)، وفي آية أُخرى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(2)؛ إذ إنّ التزيين والتجميل كما هو جلي من فعل الشيطان.

مناقشة هذا القول

ويمكن المناقشة فيه: بأن التزيين على نوعين:

1 - التزيين للأعمال الطالحة وهو من الشيطان، ويظهر ذلك في حياة المجرمين وكلماتهم، ففي كثير من الأحيان- كما في رأيهم- يكون إجرامهم حسناً في رأيهم لمسخ الفطرة، والآيتان الكريمتان تتحدثان عن تزيين الأعمال الطالحة، قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أو{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

2 - التزيين للأُمور غير السيّئة بل الحسنة، وهذا لا يكون من عمل الشيطان.

ص: 245


1- النمل: 24.
2- الأنعام: 43.
القول الثاني: اللّه هو المزيّن
اشارة

ويمكن القول أيضاً: إنّ التزيين من قبل اللّه سبحانه وتعالى؛ إذ إنّ محور السورة ذلك، ويدل عليه قوله عزّ وجلّ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا}(1)، فاللّه عزّ وجلّ جعل القلوب تنشّد على طبيعتها إلى المزيّنات من الذهب والنساء، وهو الذي جعل المرأة جميلة في نظر الرجل والرجل جميلاً في نظر المرأة.

فلسفة التزيين

هنا يُطرح سؤال آخر: لماذا كانت عملية التزيين؟

الإجابة الأُولى: الاختبار، فلو لم يكن التزيين لم يتمّ الاختبار الإلهي، وحينذاك كيف كان يُمتحن الخلق؟

الإجابة الثانية: لولا التزيين لما كانت الحياة تبقى وتستمر، فلو لم تكن المرأة جميلة في نظر الرجل ما كان يندفع إلى تحمّل مسؤوليات الزواج، فالإنسان الأعزب - سواء كان رجلاً أم امرأة - لا مسؤولية له، ينام مرتاح البال، ولكنّه بمجرد أن يتزوج تبدأ المسؤوليات.

ولعلّ أغلب الرجال لم يكونوا مستعدين للزواج لولا الانجذاب القوي، وكذلك النسوة ما كُنَّ ليتزوجن، وتشهد لذلك قصة المرأة التي عرَّفها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعض الحقوق الزوجية، فقالت: «لا تزوّجت بعد ذلك أبداً»(2)، فما تعانيه المرأة في تنشئة الأولاد لا حدّ له، حيث تبذل مجهوداً عظيماً يشدّ

ص: 246


1- الكهف: 7.
2- نور الثقلين3: 623.

على أعصابها وروحها وجسدها، وحيث يمتصّ كلّ من الجنين والطفل قواها البدنية والروحية، وبالتالي فإنّ الاندفاع الموجود في المرأة نحو الإنجاب لوجود هذه الشهوة، ولولاها لم تكن الزوجة مستعدة لهذه التضحية الكبيرة.

ما هي الشهوات؟

تطلق الشهوة تارة على الغريزة وأُخرى على المشتهيات، ومنها المرأة والأولاد، ويدلُّ عليه تفسيره ب(من) البيانية التي تبيّن ما قبلها.

أنواع الشهوات

والسؤال هنا هو: ما هي الشهوات والمشتهيات التي زُيّنت للناس؟

أوّلاً: المرأة: أعنف الشهوات.

قال تعالى: {مِنَ النِّسَاءِ}: أي المرأة، ولعلّ الوجه في تقديم شهوة النساء لأنها من أعنف الشهوات في الحياة البشريّة، وقد أكّد علماء النفس هذه الحقيقة، والواقع الخارجي والتاريخي يؤكّدان ذلك أيضاً، بل إنّ ملايين الجرائم التي تُرتكب في كلّ يوم بمختلف أنواعها إنّما هي لهذه الشهوة.

ثانياً: البنون: قيمة اقتصادية، سياسية وعسكرية.

{وَالْبَنِينَ} أي: شهوة الأولاد، ولكن، هل يراد بالبنين خصوص الأولاد الذكور؟

ذهب بعض العلماء إلى: أنّ كلمة البنين تشمل الذكور والإناث، لقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}(1) حيث لم يقتصر قوله: (بني آدم)

ص: 247


1- الأعراف: 27.

على الذكور فقط من أولاد آدم، بل شمل الذكور والإناث.

وكما يصرّح علماء البلاغة: إنّ البنين والبنات إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا- كالظرف والجار والمجرور في مصطلح النحاة- إلاّ أنّ المعروف أنّ كلمة (بنين) تقتصر على الأولاد الذكور.

وإنّما خصّ الأولاد الذكور بالذكر، لما لهم من أهميّة في أنظار الناس، فإنّهم يرون أن للإبن قيمة اقتصادية بخلاف البنت حيث لا قيمة اقتصادية لها في الأنظار، وكذلك قيمة عسكرية للإبن حيث إنّ البنت لا تحارب، ولكنّ الابن يدخل ميدان القتال ويحارب، وهكذا.

إذن، للابن قيمة اقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية متفوقّة في أنظار الناس.. ولا يخفى أنه لا يوجد فرق بلحاظ الكرامة بين الذكر والأنثى لدى اللّه عزّ وجلّ، إلاّ أن الأمر يختلف في أنظار الناس خاصة أن شهوة البنين فيها مسألة الامتداد، ومن طبع الإنسان أنه يحبّ أن يمتد في أبنائه.

ثالثاً: المال.

{وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} يوجد اختلاف في ماهيّة القنطار، إلاّ أن الخبر المروي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) : أنّ القنطار: ملء مسك ثور ذهباً(1)، والمسك هو الجلد الذي يسع عشرات الكيلومترات من الذهب والفضّة.

{الْمُقَنْطَرَةِ}: أي: المكدّسة بعضها فوق البعض الآخر، المنضّدة والمجتمعة.

ص: 248


1- الأصفى 1: 141.

رابعاً: الخيل.

{وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}: ما زالت الخيل حتى عصرنا الراهن- عالم الآلة- لها موقعية مهمّة، ففي تقريرٍ: إنّ في الولايات المتحدة فقط ما يقارب عشرة ملايين فرساً، وهناك هواة للخيل يبذلون أوقاتهم وأعمارهم من أجله.

{الْمُسَوَّمَةِ}: أي: المعلّمة بعلامة. وذهب البعض إلى أنّ المراد منها هو المدّربة لركوب ميادين القتال، وقد تشير كلمة الخيل في الآية الكريمة إلى نحو من أنحاء الارتباط بالقوة، فإنّ الخيل في العهود القديمة تعد مظهراً من مظاهر القوّة والسلطة، فضلاً عن كونها مظهراً من مظاهر الجمال.

خامساً: الأنعام: الإبل والبقر والغنم.

سادساً: {وَالْحَرْثِ}: المزارع.

هذه مجموعة من الشهوات التي زُيّنت للناس.

الإسلام والنظرة الوسطية للشهوات

كيف ننظر إلى هذه الشهوات؟

لم يؤيّد الإسلام ما في النصرانيّة المحرّفة من وجوب إلغاء الشهوات خاصّة الشهوة الجنسية، حيث يعتبرونها خطيئة، وليست نظرة الإسلام إلى الشهوات نظرة إلغاء وتحريم، بل الإسلام يجعلها في إطارها الصحيح.

الشهوات وضرورة الموازنة بين الحاضر والمستقبل

ولكنّ الخطر الذي تمثّله الشهوات إذا خرجت عن مسارها الصحيح- وهو خطر جدّي وقائم- أنّها تحجب عن المستقبل الذي خلقه اللّه للإنسان وخلق الإنسان له، فهناك مرحلتان:

ص: 249

1 - مرحلة قريبة.

2 - مرحلة بعيدة.

والسؤال هنا: كيف يحجب الحاضر القريب، المستقبل البعيد؟

لكي تتضح الإجابة لا بأس ببيان المثال التالي:

موظّف يعيش في بيت مستأجَر يحتاج إلى ضمان لأيّام شيخوخته وضعفه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}(1)، فقد يستلم راتبه الشهري ويفكّر في الحاضر، ويصرفه في ملذاته الحاضرة، كما هو حال الكثير - حيث يصرفون مرتّباتهم قبل نهاية الشهر- فهو ممّن حجبه الحاضر عن المستقبل.

وهناك موظّف آخر يوازن بين الحاضر والمستقبل ويدّخر مقداراً من المال في المصرف -البنك- ليشتري به بيتاً في المستقبل أو ليكون له رصيد يكفي لقوت يومه ويمرّر به حياته في أيّام ضعفه وشيخوخته.

كذا هي الشهوات، فإن الأغلب ينشغلون بالشهوات الحاضرة وينسون المستقبل، وقد قيل لأحد العلماء عندما حدثت قضية اجتماعية: ألا تدخل في هذه المعمعة؟

فتلا قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}(2) أي: أحياناً شهوة الرئاسة تستغرقه فيدخل في معمعة.

وقد قيل: إنّ من يدخل في النزاع الاجتماعي لا يتقي اللّه؛ لأن الحاضر

ص: 250


1- الروم: 54.
2- القصص: 83.

يحجبه عن المستقبل فيدخل في المعمعة حتى النهاية، بلا حدود ولا ضوابط، وهكذا في الشهوات، فإنّ الإسلام لا يؤيّد إلغاء الشهوة الجنسية ولا سائر الشهوات، بل يدعو إلى الموازنة بين الحاضر والمستقبل.

لذا فإن الآية المباركة - كما يظهر منها - لا تذم الشهوات ولا تلغيها من واقع الحياة بنحو مطلق، بل إنها تُصرّح أنّ: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، و(ذا) في الآية: إشارة إلى الشهوات والكاف للخطاب، فإن كان المخاطب شخصاً واحداً يقال: ذلك، وإن كانا اثنين يقال: ذلكما، كما في قوله تعالى: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبَّيِ}(1)، أمّا في الجماعة فيقال: ذلكم كما في الآية الآتية: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}(2).

الحياة الدنيا متعة

{مَتَاعُ}: الشيء الذي يُتمتّع به ويستلذ به لمدة مؤقّتة، والمتعة: اللذة المؤقّتة: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وذلك لأنّ هنالك حياتين:

الأُولى: حياة دنيا قريبة أو هابطة؛ لأنّ هناك مسيرة تكاملية ربما بدأت منذ ألوف الأعوام عندما كنّا في المرحلة الترابية النباتية والنشآت المتقدّمة، فالحياة الدنيا هي الحياة القريبة الهابطة الدنيّة، وهناك سُلّم صعودي يصعد الإنسان فيه.

الثانية: الحياة الأبدية العالية التي تبتدئ بعد الموت والفناء، والآية تدعو

ص: 251


1- يوسف: 37.
2- آل عمران: 15.

إلى أن لا تحجبنا متعة الحياة الدنيا عن ذلك المآل والنشأة الأُخرى، فإنّه: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي: المرجع والمستقبل الحسن المضمون.

اللّذات الماديّة في الآخرة

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} النبأ: هو الخبر.

{بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}: حيث يوجد هناك ما هو أفضل.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}: الآية تشير إلى القيد، بأن لا يسير الإنسان مع الشهوات بلا ضوابط، بل يسير ضمن ضوابط وحدود، فالمتّقون لم يحرموا أنفسهم من شهوات الحياة، ولكن ضمن إطار محدّد.

جنّات بلا نقص

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: تُحرّك الآية الإنسان نحو الآخرة داعية إيّاه إلى المقارنة بين الدنيا والآخرة، فكما في الدنيا يوجد حرث وأراضي مخصبة، هناك لذّات أفضل؛ إذ إنّ لذّات الدنيا موجودة في الآخرة ولكن بنحو أكمل، بعيدة عن النواقص.

{جَنَّاتٍ} بساتين: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: قيل: تجري الأنهار من تحت أشجارها، ولكن يحتمل أن يكون من تحتها حقيقة كما في قوله تعالى: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}(1) كالبيوت الزجاجية التي يُرى باطنها من ظاهرها، وجري الأنهار من تحت البيوت- وما أروعه من منظر- وربما كان المراد أنّ الأنهار تجري من تحت نفس الجنّات، و(تجري): فعل مضارع

ص: 252


1- النمل: 44.

يدّل على استمرارية جريان الماء، بخلاف ماء الدنيا الذي قد يجري أو ينقطع. ولا يخفى أنّ وجود الماء واستمرار تدفّقه مهمٌّ جداً، خاصة أنّ العلماء تنبّؤوا أنّ معركة المستقبل هي معركة الماء، بل في زماننا - أيضاً - الماء يشكّل مشكلة عظيمة لكثير من المناطق في العالم. أمّا في الجنّة: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} دائماً.

أعظم النعم الماديّة لأهل الجنّة

{خَالِدِينَ فِيهَا}: إنّ الآخرة دار الحيوان والبقاء والاستمرار، بخلاف الدنيا فإنّها إمّا لا تبقى، أو لا يبقى الإنسان فيها.

نُقل أنّ أحد الملوك صنع قصراً مشيّداً عظيماً ثم دعا إليه الوجهاء، فقال لهم: اذكروا عيوب القصر، فأدلى كلٌّ بدلوه، وأجمعوا على عدم العيب فيه، سوى رجل من الحاضرين لم يقل شيئاً؛ فقال له الملك: لماذا سكتَّ؟ قال: لأنّ في القصر عيبين، قال: وما هما؟

قال: الأوّل: أنه لا يبقى لك، والثاني: أنّك لا تبقى له وإن بقي هو معك.

أمّا الآخرة ففيها نعمة الخلود، ولا يمكن تصورها أبداً، فكم يبقى الإنسان في الجنّة إن كان من أهل التقوى؟ مليار عام! ألف مليار عام؟ كلّما يفكّر فإنّه لن يصل إلى النهاية، فهو باق ببقاء اللّه عزّ وجلّ، ولعلّ أعظم مصيبة تحلّ بأهل النار- أن يؤتى بالموت على هيئة كبش ويُذبح، عندها يعرف أهل النار أنهم سوف يبقون في النار خالدين؛ وربما كانت هذه أعظم مصيبة على أهل الجحيم، ولعل أعظم نعمة من النعم المادية لأهل الجنّة نعمة الخلود الذي يبحث عنه البشر الذي له غريزة الخلود؛ ولذلك

ص: 253

يحاول أن يفرّ من الموت بأيّة طريقة.

وعلى أيّ حال، فهذه الغريزة لا تُؤَمَّن في الحياة الدنيا وإنّما تُؤَمَّن في الآخرة حيث يصبح الناس {خَالِدِينَ فِيهَا}.

أزواج بلا قذارات

{وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: لأهل الجنّة، بخلاف الدّنيا حيث لا توجد فيها امرأة مطهّرة كاملاً غير بعض الاستثناءات كالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) فإنها مطهّرة تطهيراً كاملاً ولها الطهارة الكاملة كما في آية التطهير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1)، ولكن في الأغلب لا توجد في هذه الدنيا الطهارة الكاملة بنحو كامل..

ففي الدنيا تحيط النواقص الجسديّة والنفسيّة بالإنسان، نعم، كلّما اقترب الرجل أو المرأة إلى الإيمان أكثر كلّما اقتربا إلى الطهارة الكاملة، أمّا في الجنّة: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: لا توجد فيهن أيّة قذارة مادية كانت أو معنوية.

يقول أحد العلماء: بما أن البشر متكبّر بطبعه، فقد أركسه اللّه تعالى في القذارات المادية من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه، فهو مصدر لأكثر من اثنين وعشرين نوعاً من أنواع القذارات، والعبارة وإن كانت بمقدار حادّة وجارحة نوعاً مّا إلاّ أنّها تعبِّر عن واقعية، وقد أشار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك في قوله: «مسكين ابن آدم.. وتنتنه العرقة»(2).

ص: 254


1- الأحزاب: 33.
2- نهج البلاغة 4: 98.

النّعم المعنوية

علاوة على وجود النّعم الماديّة في الجنّة هناك نعم معنويّة عابرة: ففي نِعَم الجنّة هناك نظريتان:

الأُولى:

تذهب إلى أن نّعيم الجنّة ماديّ محض، ولعلّ أغلب النّاس يتصورون ذلك، وقد ردّ أحد العلماء على ذلك فقال:

صوَّروها مرتعاً للشهوات***وحشوها بجميع المُغريات

وادّعوها ليلةً حمراء***فيها تستفيق الشهوات

الثانية: ذهب إليها بعض العرفاء والفلاسفة: إنّ نّعيم الجنّة نّعيم معنوي محض، ولا يوجد نعيم مادي في الجنّة.

ولكنّ كلتا النظريتين تخالفان القرآن الكريم، حيث تؤكد الآيات المباركة والأحاديث الشريفة وجود النوعين(1)، فالنعم المادية: جنات، أنهار، أزواج مطهّرة، والأخيرة من أعظم اللّذائذ المادية كما في رواية في

ص: 255


1- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ *فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ *وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ *وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ *وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ *وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ *فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ *إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} الطور:17-28.

الكافي الشريف(1). وأمّا النّعم المعنويّة: فقمّتها {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}.

يُنقل أنّ الشيخ محمد طه نجف (رحمه اللّه) وهو أحد المراجع، كانت له أسئلة تؤرّق باله لأعوام طويلة، منها: هل أنّ اللّه عزّ وجلّ راض عنه أو لا؟ وهل إنّ النّبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) راض عنه أو لا؟ وهل إنّ الإمام الحجّة المنتظر عجلّ اللّه تعالى فرجّه الشريف راض عنه أو لا؟

وكان لسنوات يتوسّل بأمير المؤمنين (عليه السلام) ليعرف الجواب- حيث إنّ معرفة رضوان اللّه أهمّ الأُمور على الإطلاق، وشعور الإنسان بأنّ اللّه تعالى راض عنه من أعظم اللّذائذ المعنويّة في الجنّة؛ لذا قال اللّه عزّ وجلّ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(2)، وبعد التوسّل الدائم رأى شخصاً- لعلّه كان الإمام الحجّة عجل اللّه تعالى فرجه الشريف حسب بعض القرائن- وقال له: أنت مرضيّ عندنا.

{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}: ربّما كان المراد من الآية التحذير، حيث ورد فيها: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وبما أنّ الخوف من اللّه والتقوى أمر غير ظاهر؛ ذُكِر ضمن الآية أنّ اللّه: بصير وخبير، ناظر وحاضر، لذا ينبغي للإنسان أن لا يتَّبع الشهوات، بل عليه أن يؤطّر نفسه بحدود، فعندما يقع

ص: 256


1- عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، عن الحسن بن أبي قتادة، عن رجل، عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّةأكثر لهم من لذّة النساء وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} - إلى آخر الآية - ثم قال: وإن أهل الجنة ما يتلذّذون بشيء من الجنة أشهى لهم من النكاح، لا طعام ولا شراب. الكافي5: 321.
2- التوبة: 72.

تحت ضغوط الشهوة والمجتمع والأصدقاء، عليه أن يتذكّر اللّه تعالى ليجبر الضعف الموجود فيه؛ لأنّ الالتفات إلى أنّ اللّه تعالى ناظر يجعل الإنسان قوياً في مواقفه ومتّقياً في أعماله.

ص: 257

الآيتان 16-17

اشارة

الآيتان {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}(1)

المفردات

{آمَنَّا}: صدقنا بما أنزلت وما بعثت من رسول.

{فَاغْفِرْ لَنَا}: اصفح عنا.

{الصَّابِرِينَ}: الصبر حبس وتملّك النفس وحفظ الذات.

{الصَّادِقِينَ}: الذين يطابق قولهم الواقع، والكلمة لها عمومية؛ حيث تشمل: الصدق في النيّة والعمل واللّهجة والكلمة.

{الْقَانِتِينَ}: القنوت هو الخضوع والتسليم، أي: القبول النفسي والعملي، وبعبارة واضحة: حالة من الانقياد الباطني لله تعالى والنّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والدِّين.

{وَالْمُنْفِقِينَ}: نفق الشيء مضى ونفد، والمراد: الباذلون لأموالهم في سبيل اللّه غاية البذل.

{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ}: الاستغفار: طلب المغفرة من اللّه تعالى.

{بِالأَسْحَارِ}: مادة «س ح ر» في اللغة: الخفاء والتغطية، ويقال للفترة قبل طلوع الفجر: السَّحَر؛ لأنّ الظلام يعمّ الكون كلّه، ويخفى فيها حال

ص: 258


1- آل عمران: 16-17.

الفرد على الآخرين لأنّ الناس نائمون، والسَّحَر فقهاً: الثلث الأخير من الليل، وفي روايةٍ: >المستغفرون بالأسحار: من يُصلّون صلاة الليل<.

الإعراب

الّذين يقولون: قد تكون هذه الكلمة في محلّ خفض صفة لكلمة {بِالْعِبَادِ}، أو في محلّ خفض صفة لقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} إلاّ أنّ الأقرب لسياق الآية الاحتمالُ الثاني، حيث للمتّقين قاعدة تبتني عليها التقوى وهي الإيمان.

التفسير

المدخل:

منشأ التقوى وقاعدتها:

سؤالان مهمان:

الأوّل: ما هي القاعدة التي تبتني عليها صفة التقوى؟

الثاني: ما هي صفات المتّقين؟

تتكفّل الآية الأوُلى الإجابة على السؤال الأوّل، فإنّ التقوى حالة من الكفّ الداخلي والعملي، ومفهموم الكفّ لا يتحقّق إلاّ مع وجود الانشداد الباطني نحو الشيء، وأمّا مع عدم الانشداد لها، فلا يقال له: كفّ نفسه؛ إذ إنّ الكفّ يكون إذا كانت للشيء جاذبيّة، ومالت النفس إليه واندفعت نحوه، والكفّ لا يأتي من فراغ، بل يحتاج إلى قاعدة ورادع يبتني عليهما، يقول الشاعر:

والظلمُ من شِيَمِ النفوس فإنْ تَجِدْ***ذا عفّة فلِعلِّة لا يَظلِمُ

ص: 259

نعم، إنْ النفوس تميل إلى الظلم، فالحاكم يميل إلى الظلم(1)، وكذا الأب في العائلة، فالطبيعة لديهم طبيعة الظلم، ولكن قد يردعهم رادع من الظلم، والرادع يتنوع إلى نوعين:

الأوّل: الرادع الخارجي.

الثاني: الرادع الباطني.

أمّا الأوّل فهو محدود الأثر، وهو يؤثّر في بعض الأفراد، وفي بعض الظروف، وفي بعض المحظورات، ولا توجد فيه صفة العمومية، أمّا الرادع الباطني المتمثِّل في الإيمان باللّه سبحانه وتعالى، فهو الرادع الوحيد الذي يمكن أن تبتني عليه مَلكة التقوى.

المنع من الخمر بين الرادع الخارجي والرادع الداخلي

التفتت إحدى الحكومات الغربية الكافرة في عهد ماضٍ، إلى أنّ مضار شرب الخمر: الفتك بالفرد والعائلة والمجتمع والروح والبدن، ففكّر عقلاؤهم أن يمنعوه، فدخلت في ميدان محاربة الخمر بكلّ قواها - علماً أنّها كانت تملك إمكانات هائلة، لا تحد - من الأموال والشرطة والجيش والمعتقلات والإعلام، ولكنّ النتيجة كما ينقل المؤرِّخون: «أنّ كلّ ذلك لم يُجْدِ نفعاً، وكأنّ الجهود لم تكن؛ لأنّ الأفراد كانوا يتحدّون القانون ويقفون أمامه، فقد يوفّق القانون في منع الناس عن شرب الخمر في الشارع، ولكن

ص: 260


1- الدليل على القول بأن الظلم أصل في الإنسان هو قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} الأحزاب: 72.

لا يمكن أن يمنع ذلك في البيت(1).

ويظهر الفرق الشاسع بين الرادعين- الداخلي والخارجي- لو قارنا ذلك بما نقله المؤرّخون من أنّ آية تحريم الخمر لمّا نزلت وهي لا تتعدى السطر الواحد: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}(2) جرت سكك المدينة بأنهار من الخمور؛ حيث أخذ المسلمون الخمور وأراقوها كلَّها، والحال أنّ شرب الخمر لدى حديثي الإسلام كان كشرب الماء، وكما أنّ بيوت الغربيين مليئة بالخمور، كذلك بيوت المشركين كانت مليئة بالخمور، حيث كانت الخمور في كلّ بيت تقريباً، فذاك هو الرادع الخارجي وهذا هو الرادع الداخلي الذي يتمثّل في الإيمان.

المنع من التدخين بين الرادعين

هناك نموذج آخر: وهو أنّ دول العالم اليوم تبذل الكثير من الأموال والجهود والطاقات لمحاربة التدخين، ولعلّ جميع إعلانات التدخين تحتوي على تحذير بمختلف اللُّغات، وفي القنوات الفضائية والتلفاز والإذاعات والصحف تحذيرات بأن: (التدخين مضرّ بالصحة)، وقد منعت بعض البلاد التدخين في الأماكن العامّة، إلاّ أنّ ظاهرة التدخين في اتّساع مستمر.

ص: 261


1- مُنِعَ الكحول بسبب أضراره على المجتمع في أميركا وشُرِّع المنع دستورياً عام 1919م ثم أُعيد عام 1934م. وأمّا في روسيا فالمحاولات لمنعه كانت أقدم حيث كان أوّل منع له ومحاربته رسمياً عام 1914م من قبل القيصر نيقولاي الثاني الذي سار على نهجه لنفس السبب الرئيس السوفيتي غوربتشوف عام 1985م، وكلّ المحاولات باءت بالفشل.
2- المائدة: 90.

ويكفي أن نقارن ذلك بما يفعله الإيمان في الأفراد لكفّ النفس عن الشهوات - فقد كتب المجدّد الشيرازي (رحمه اللّه) الذي كان من مراجع التقليد العظام، سطراً واحداً أو سطرين في قضية التنباك- ترجمته: «بسم اللّه الرحمن الرحيم: استعمال التبغ في هذا اليوم بأيّ نحو من الأنحاء في حكم محاربة الإمام المهدي المنتظر(عجل اللّه تعالى فرجه الشريف)»، وإذا بالأُمّة تمتنع عن التدخين حتّى في قصور شاه إيران، حيث خدم الشاه؟ كسروا كلّ آلة (نرجيلة) يُشرب بها التبغ في قصوره.

ويذكر المؤرّخون: أنّ الشاه طلب من زوجته آلة شرب التبغ (النرجيلة)- حيث كان مدخّناً- فقالت له: إن التدخين حرام. فقال: ومن الذي حرّم التدخين؟ قالت: الذي أحلّني لك! أي: اللّه عزّ وجلّ حرّم التدخين.

وعلى أثر هذه المقاطعة الشاملة، اضطرت تلك الامبراطورية العظمى التي لا تغرب عنها الشمس، أن تنسحب من إيران.

إذاً الآية المباركة تبيّن القاعدة التي تبتني عليها صفة التقوى، ولكن هذه التقوى كيف تحصل؟ وعند مَنْ؟ ذلك ما تبيّنه الآية مشيرة إلى أنّ الامتناع يحصل ل{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} هؤلاء هم المتقون، وعليه فإنّ كلمة: {الَّذِينَ يَقُولُونَ} تكون في محلّ خفض صفة لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} لا في محلّ خفض صفة لكلمة {بِالْعِبَادِ}، وبعبارة أُخرى: إنّ سياق الآية يوحي بأنّها صفة {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، ويتّضح الأمر أكثر لو أعدنا قراءة الآية المتقدّمة: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ

ص: 262

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ}، فإنّ جوّ الآية بعيد عن إضافة {بِالْعِبَادِ} بكلمة الّذين، والقريب إلى سياق الآية أن تكون صفة {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} لأن الحديث في الآيات حول المتقين، والّذين يمتنعون عن الاندفاع مع الشهوات الطائشة، وهم المتقون.

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}.

وهنا قد يطرح سؤال وهو: بماذا يؤمن المؤمنون؟ والجواب: آمنا بك، آمنا بكتابك، آمنّا بوعدك ووعيدك، بما أنّ حذف المتعلَق يفيد العموم، فالإيمان شامل لكلّ ما ذكرناه.

هل المتقون يرتكبون المعصيّة؟

وهل إنّ الإيمان باللّه سبحانه وتعالى يساوي العصمة من الذنب؟

الجواب: إنّ الخط العام للمتّقين هو الاستقامّة في جادّة الشرع، وهو لا ينافي أن يقترفوا بعض اللّمم، بشرط أن لا يكون ذلك خطّه العام، فإنّ من يرتكب كلّ يوم عشرين ذنباً لا يُعدّ متّقياً.

وعلى سبيل المثال: من يصمّم أن لا يسمع الغناء في حياته، ولكن قد يميل لغفلة وضعف إلى الغناء لحظات فقط، كما لو جلس في سيارة أُجرة وسمع صوت الغناء. وكأن يصمّم أن لا ينظر إلى امرأة أجنبية، ولكن في لحظة ضعف وفي لحظة عشوة، كما في الآية المباركة: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ}(1) ربّما ينظر ثانية بنظرة متعمّدة إلى امرأة أجنبية- والاستثناء

ص: 263


1- الزخرف: 36.

في المعصومون وأولياء اللّه الكبار الّذين لا يعصون، بل ولا يفكّرون في الذنب البتّة- أمّا المتّقي العادي ربّما يعصي، إلاّ أن الفرق بين واجد ملكة التقوى وفاقدها هو: أنّ المتقي يعود إلى ذاته وإلى ربّه ويستغفر، بخلاف من لا يملك ملكة التقوى وليس له إيمان حقيقي، فإنه يمرّ على الذنوب والمعاصي بلا اكتراث، ف- {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: في حالة يقظة المؤمنين، ولو كان لهم ذنوب يطلبون من اللّه سبحانه أن يغفرها ويعودون إلى أنفسهم.

فقد يخرج الإنسان خلال البحث عن طوره ويحتدّ، أو يحتدّ الرجل في بيته مع زوجته، أو أنّه لمّا يدخل بيته يرى ابنه يؤذي، فيفقد اتّزانه ويحمل عليه ويضربه تشّفياً. قد يتّفق هكذا أمر لمؤمن أو متّقٍ في حياته مرة واحدة، ولكنّه فوراً يعود إلى ذاته ويستغفر اللّه سبحانه وتعالى.

يُنقل أنّ أحد التلامذة تطاول على السيد البروجردي (رحمه اللّه) خلال البحث، فغضب السيد البروجردي واحتدّ معه، ولكنّه بعد لحظات قال له: يا فلان لقد كلّفتني صيام عام كامل، وذلك لأنّه كان ناذراً أن يصوم عاماً كاملاً لو احتّد مع شخص!

بالطبع باستثناء العيدين لكون الصيام فيهما محرّماً، وصوم شهر رمضان لكونه واجباً، وبالفعل صام السيد البروجردي (رحمه اللّه) بعد هذه القضية عاماً كاملاً!!.

{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: تشير الآية إلى حالة المؤمنين، فهم يشعرون بالمسؤولية تجاه أعمالهم، ويحذرون عاقبة الذنوب التي قد تسوقهم إلى نار جهنّم.

ص: 264

{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: اصفح عنّا.

{وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: كأنهم يطلبون من اللّه سبحانه وتعالى المغفرة والوقاية لقاء إيمانهم وتصديقهم.

تجليّات الإيمان في الحياة العملية

أمّا الآية الثانية فهي تجيب على السؤال الثاني من خلال ذكر مجموعة من صفات المتّقين، فقد قال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} هذه خمس صفات للمتّقين، ويمكن القول بأنّها: (تجلّيات الإيمان في الحياة العملية).

صفات المتّقين

1- لا تقوى بدون صبر.

الصفة الأُولى: التقوى تحتاج إلى صبر، لأنّها تمثّل نوعاً من التعهُّد والالتزام أمام اللّه سبحانه وتعالى، والالتزام يحتاج إلى صبر، وهو: حالة حبس النفس، فلو تركت سيارة في منحدر جبلي، فإنّها لا تحتاج إلى وقود، بل تنطلق، ولكن إن لم يكن للسيارة كابح، فإنها تهوي في الوادي، بينما لو كان لها كابح فهو يكبحها ويحول دون سقوطها. كذا هي الشهوات، فالشاب غير المتزوّج لديه حالة من هيجان الشهوة، وعادة ما تمضي عليه أيام وأشهر على ذلك، لذا فهو يعاني من اندفاعات طائشة نحو إرواء الشهوة، ورد في التاريخ: أنّ حاكماً مرّ على بيت فوجد هاتفاً من داخل البيت يقرأ الأبيات التالية، والشاهد في المقام هو البيت الثاني:

تطاوَلَ هذا الليلُ واسودَّ جانِبُهْ***وليس إلى جنبي خليلٌ أُلاعُبِهْ

ص: 265

فواللّه لولا اللّهُ تُخشى عواقِبُهْ***لَزُعزِعَ من هذا السرير جوانِبُهْ

ومثل هذا الشاب كالظمآن المتلّهف إلى الماء لو وجد الماء أمامه - كما في قضية أصحاب طالوت- خاصّة لو عاش الشاب في أجواء المهيّجات كجامعة مختلطة، فإنّه لا يمكنه أن يحفظ صفة التقوى إلاّ بالصبر.

وهناك مثال آخر للصبر، وهو مثال الذين عاشوا المعتقلات كمعتقلات البعثيين- وحيث لا يمكن تصور العناء الّذي عانوه إلاّ بمقدار ما نقرؤه من مذكّراتهم- حيث يعلّق المعتَقل من قدميه بالمروحة السقفية مدّة ثلاثة أيّام.

وقد نُقل أنّ أحد المعتقلين- في سجون صدّام- كان صامداً رغم كلّ أنواع التعذيب، فتعجّب أحدهم من صموده، وتساءل منه قائلاً: من الّذي يُصبّرك؟

إذاً، الصبر هو أن يعزم الإنسان على التحمُّل وحفظ ذاته، وهي أوّل صفة يحتاجها للوصول إلى التقوى.

2- الصدق طريق التّقوى.

الصفة الثانية {وَالصَّادِقِينَ}: هناك تأكيد شديد في القرآن الكريم على صفة الصدق، حيث شدّد الباري تعالى عليه في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(1) فمن يكذب لا إيمان له، ففي بعض المجتمعات يُعدّ الكذب من الصفات البشعة، بحيث إنّ الحاكم إن ارتكب جريمة وكذّب للتخفّي عليها، يقولون: لقد ارتكب جريمة، والأبشع منها محاولته التستُّر

ص: 266


1- النحل: 105.

عليها، وكذبه على شعبه، وربما كانت حالة- التنفُّر من الكذب- جديدة في المجتمعات غير الإسلامية.

والسؤال هنا هو: لماذا ذكرت صفة عدم الكذب في جملة صفات المتّقين؟ وماذا يفعل الفرد لو عاش في مجتمع يهدّد الصدق مصالحه؟

نقل أحد المؤمنين القضية التالية، قال: أردت أن أعمل عند رجل يعمل في السوق- في عاصمة دولة إسلامية- ولمّا دخلت عليه قال: أُريد أن أذكر لك كيفية سير العمل: اللّه، الدّين، الأخلاق، حقٌ، ولكنَّ مكانها المسجد والبيت، أمّا هنا فلا وجود لله أو الدّين أو الأخلاق!!

ولذا ورد في الأحاديث الشريفة أن «التاجر فاجر ما لم يتفقّه في الدين»(1).

فمن يعيش في السوق لا يمكنه حفظ تقواه غالباً، فلمّا يسأل المشتري عن قيمة البضاعة لو أجابه بالقيمة الواقعية يخسر- كما يظن البائع- ولكن، ليس الأمر كذلك؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}(2)، لأنَّ المتّقي يربح على المدى البعيد أضعاف ما قد يخسره لفترة وجيزة.

إذن، لا يكون المتقي متّقياً إلاّ بالصدق الجدير بالذكر أنّ البعض يرى أنّ كلمة {وَالصَّادِقِينَ} لها عمومية بحيث تشمل:

1 - الصدق في النيّة.

ص: 267


1- وسائل الشيعة 17: 384.
2- الطلاق: 2-3.

2 - الصدق في القول.

3 - الصدق في العمل.

أمّا الصدق في النيّة: ففي الحديث أن النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «فاسألوا اللّه بنّيات صادقة»(1).

فقد يذهب الشخص إلى الجامعة بنيّة صادقة، وتارة أُخرى يكون ذهابه نيّته كاذبة، فمن أراد أن يكون طبيباً بنيّة صادقة ينبغي له أن يسلك هذا الخط إلى أن يتخرّج، كذا هو رجل الدّين، عليه أن يمشي في خط الاجتهاد، إلى أن يصبح مجتهداً ولكن بشرط النيّة الثابتة، أمّا المتزلزل فإن نيّته ليس فيها صدق.

أمّا الصدق في القول: فهو أن يكون الفرد صادق اللّهجة لا يكذب أبداً، كما ورد عن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مدح أبي ذرّ، قال: «ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ»(2).

وأمّا الصدق في العمل: فتشير إليه الآية المباركة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}(3).

وعلى أيّة حال سواء كان للصدق في الآية المباركة معنى عامّاً شاملاً أو لم يكن فإنّها تشمل الصدق في اللّهجة والكلمة بما لا يخفى.

بالطبع ليس من الهيّن أن يكون الإنسان صادقاً، فعالم الدّين عندما يسأل

ص: 268


1- وسائل الشيعة 10: 313.
2- الغدير 6: 296.
3- الأحزاب: 23.

وليست لديه إحاطة كاملة، أو طبيب يراجعه المريض وليست له تلك الإحاطة الكاملة- وذلك لأنّ فروع العلم لا تتناهى حقيقة على نحو اللاتناهي الحقيقي- هنا يكمن الامتحان، فعلى رجل الدّين أن يصدق ويقول: لا أعرف، وكذلك على الطبيب أن يصدق ويقول: لا أعرف، ويحوّل المريض إلى طبيب آخر، وهذا شرط أساسي في صفة التقوى.

3- القبول النفسي والعملي.

{وَالْقَانِتِينَ}: ذكرت لهذه الكلمة تفاسير متعدّدة منها:

1 - الطاعة.

2- دوام الطاعة.

3- الخضوع.

4- الخضوع والطاعة.

والظاهر: أنّ المراد من القنوت: (الخضوع والتسليم) أي: القبول النفسي والعملي.

فقد يقصد المريض طبيباً ويذعن بأنّه طبيب فهيم يريد إرشاده إلى ما فيه مصلحته، فإن نهاه عن طعام معيّن أو عن الذهاب إلى طقس خاص، يقبل المريض كلامه نفسياً وعملياً.

وقد يقصدهُ من لا يقرّ بفهمه ولا يعتقد بكونه طبيباً، فيعتبر آنذاك كلّ ما يقوله الطبيب لا أثر له.

كذا الحال في قضايا الدين؛ إذ إنّ بعض الأفراد خاصة بعض الشباب المتجدّد!! لا توجد لديهم حالة الخضوع للدّين، علماً أنّ اللّه تعالى يعبّر عن

ص: 269

ذلك بقوله: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}(1).

بل إنّ البعض لديه حالة العلوّ أمام الدّين؛ فيقول: لِمَ هذا الحُكم؟ لماذا شُرّع هذا التشريع؟ فيكرّر المقولة الموجودة في التاريخ التي كانت ولا تزال شعار مجموعة من الناس: (قال اللّه وأقول أنا)، وقد نقل في التاريخ كثير من الاجتهادات في قبال النصّ، منها:

1- إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صام وأفطر ولكنّ النّاس ومن جملتهم بعض الصحابة صاموا ولم يفطروا، وهي مخالفة صريحة لنبيّهم؛ إذ اجتهدوا في قبال فعل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ونحن هنا نخاطبهم فنقول لهم: من الّذي أوجب الصوم؟ أليس النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - الّذي أوجب الصوم - هو نفسه الّذي حرّمه؟ وهل أنّكم تعترفون بنبوّته أو لا؟

على كلٍّ، هذا منطق القوم: قال النبي ونقول!؛ إذ إنّ كثيراً من أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تكن لديهم حالة الخضوع للدّين وللنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم: «أُولئك العصاة، أُولئك العصاة، أُولئك العصاة، إلى يوم القيامة»(2).

2- النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شرَّع متعة الحج بين عمرة التمتُّع وحج التمتُّع، فجاء ذلك

ص: 270


1- النحل: 31.
2- «إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصامَ حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك! إنَّ بعض الناس قد صام، فقال: أُولئك العصاة، أُولئك العصاة» رواه مسلم في صحيحه 3: 141-142 والنسائي في سننه 1: 268.

الرجل معترضاً عليه، وقال: أنُحرم وكذا يقطر كذا(1)!! وقد ذكر عبارة لا تليق أن تذكر في محضر، عادي فكيف أمام النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّك لن تؤمن بهذا أبداً» وفعلاً هذه القضية بقيت في قلبه إلى أن استولى على الحكم، فقال: «النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلّل متعة النساء ومتعة الحج وأنا أُحرّمهما»(2)!!

(قال النبي وأقول أنا)!! ذلك النصّ وهذا الاجتهاد.

إذاً، التقوى تحتاج إلى حالة الخضوع ليُقبل الإنسان على اللّه مسلّماً خاضعاً، فإن لم تكن للفرد حالة القنوت والخضوع لله وللدّين، لا يمكنه أن يمشي في الإطار الشرعي، ولا ينال ملكة التقوى.

ص: 271


1- نقل الثعالبي عبد الرحمن بن محمد في تفسيره في الصفحة 416 قال: حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا علي بن المنذر الطريقي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن جابر بن عبد اللّه قال: أهللنا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة فأمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن نحلَّها ونجعلها عمرة، فأحللنا الحل كله فطفنا بالبيت وبين الصفا والمروة حتى إذا كان يوم التروية أمرنا فأهللنا الحنفية فقال بعضنا لبعض خرجنا من أرضنا حتى إذا لم يكن بيننا وبين منى إلاّ أربع نخرج ومذاكيرنا تقطر منياً؟ فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقال: أتتهموني وأنا أمين أهل السماء وأهل الأرض، أما إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كان الهدي إلاّ من مكّة، ولم يذكر قصة سراقة. المصادر الأُخرى للرواية: سنن ابن ماجة 2: 992؛ صحيح ابن حبان 9: 233؛ المعجم الكبير 7: 125، 127؛ أضواء على الصحيحين: 295، 298؛ مواقف الشيعة 3: 395؛ مسند أحمد بن حنبل 3: 317.
2- وسائل الشيعة 1: 18؛ سبل السلام 3: 173.

وبذلك تكون الاحتمالات في القنوت هي:

الأوّل: القنوت هو الخضوع.

الثاني: القنوت هو الطاعة: ولعلّه كان من باب وضع المعلول أمام العلّة، يعني حالة الخضوع تنتهي إلى الطاعة ودوامها وفي العلاقة المجازيّة- في علم البلاغة- أحياناً يعبّر بالعلّة عن المعلول، وأحياناً بالمعلول عن العلّة، وأحياناً بأحد المتلازمين عن الآخر.

ولعلّ جميع المعاني تؤدّي إلى المعنى التالي: حالة الانقياد الباطني لله والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والدّين.

4- الصلة الوثيقة بين التقوى والإنفاق.

الصفة الرابعة: الإنفاق، قال اللّه تعالى: {وَالْمُنْفِقِينَ}.

وفي الإنفاق مباحث متعدّدة:

1 - أنوع الإنفاق.

2 - كيفية الإنفاق.

3 - المنفق عليهم.

لا نريد الخوض في هذه المباحث، لكن نشير إلى نقطة واحدة، وهي العلاقة بين صفة الإنفاق والتقوى، حيث وردت هذه الصفة ضمن الحديث عن المتقين، فيبدو من ذلك وجود علاقة وثيقة بين التقوى والإنفاق، ويمكن أن نقرّر العلاقة على النحو التالي:

كثير من الواجبات والوظائف الشرعية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالإنفاق، والّذي لا توجد عنده حالة الإنفاق، بل له حالة البخل والإمساك، لا يمكن

ص: 272

أن يتحلّى بهذه الصفات، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1)، وعلى سبيل المثال:

1- الخمس: من الوظائف الشرعيّة الماليّة، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم، ومعناه أن يدفع الإنسان عشرين بالمائة من أمواله لله سبحانه وتعالى - إن توفرت الشروط الشرعيّة المذكورة في الفقه- وهو أمر صعب، فالفقير الذي يملك مائة دينار يجب أن يدفع منها عشرين ديناراً، والحال أنّ الشيطان يُلقي إليه أنّك تفقد عشرين بالمائة من أموالك دفعة واحدة وأنت بحاجة إليها! وكذا هو التاجر الذي له مائة مليار، فإنّ الوظيفة الشرعية تقتضي أن يدفع عشرين ملياراً دفعة واحدة، فهذه وظيفة شرعية ماليّة.

2- الزكاة المفروضة: وهي تتعلّق بالذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والبقر والغنم والإبل، على التفصيل المذكور في الكتب الفقهية، وكثير من الناس لا يؤدّون هذه الفريضة.

3- الديون: التي يستثقل الكثير أداءها؛ لوجود التسامح فيها عند كثير من الأفراد، كالمهر المؤجّل للزوجة الذي يعيّن عند العقد، فإنّ الزوجة عندما تطالب به الرجل وهو قادر عليه لا يدفعه إليها وهو حقُُّها!، وغالباً ما تكون المرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوّة، وقد نقل لي أنّ في بعض البلاد المرأة تُهَدّد بالضرب أو تُضرَب إن طالبت بمهرها المؤجّل، لذا فهي لا تفكّر أبداً فيه؛ مع أنّه حق من الحقوق المالية.

ص: 273


1- الحشر: 9.

4- الإنفاق على العمودين: - الآباء والأُمهّات- وفي بعض الظروف الفقهية الإنفاق على الأولاد.

5- الأُمور المالية التي تقع في ذمّة المكلّف بالعرض لا بالأصالة: كالكفّارات وغيرها كما هو مدوّن في الفقه، فمن لا يملك حالة الإنفاق لا يمكنه أن يقوم بهذه الحقوق المالية.

6- ما ذكرناه من الوظائف الشرعية المالية قد تكون هينّة بالنسبة إلى من اقتضت وظيفته الشرعيّة أن يُخرِج من كلّ أمواله- في بعض الحالات النادرة- لكون ما اكتسبه أجمعه حرام!! ولكن هل يمكن للفرد أن يتخلّى عن جميع أمواله؟!!

ينقل أنّ رجلاً كان يملك أراضي كبيرة كلّها كانت محرّمة، ولكنّه في لحظة يقظة ضمير قرّر أن يتخلّى عنها جميعاً فتخلّى عنها وذهب إلى فلاّح وعمل لديه كعامل بأُجرة!.

وينقل أنّ والياً من ولاة بني أُميّة في لحظة واحدة تخلّى عن جميع أمواله- لأنها جميعاً أو كثيراً منها كانت محرّمة! والإمام الصادق (عليه السلام) ضمن له الجنّة.

وبالتالي هناك علاقة وثيقة بين كون الفرد متّقياً والإنفاق، ولعلّ ذِكر كلمة: {وَالْمُنْفِقِينَ} في سياق الآية يعود إلى الارتباط الوثيق بين التقوى وصفة الإنفاق.

أهمية السَّحَر ومكانته

الصفة الأخيرة في هذه المجموعة: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}، وفي

ص: 274

هذه الجملة توجد عدة مباحث:

المبحث الأوّل: السَّحَر في اللغة:

الأسحار جمع سَحَر، وفي اللغة السَّحَر يدّل على الخفاء والتغطية، مثل كلمة سِحْرٌ، يقال للساحِر: ساحِر لأنه يقوم بأعمال خفيّة، فتارة يقع الشخص في الفراش مريضاً! وقد يحدث خلاف شديد بين زوج وزوجته بحيث {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}(1) والعامل وراء ذلك عامل خفيّ، ولذلك يقال له: سِحر.

والسَّحَر: إنّما سمي بالسَّحَر لخفائه، فعندما يعمّ الظلام الكونَ، وتنام العيون وتهدأ النفوس، لا ترى ولا تشاهد الأعمال، ويخفى الفرد بحالاته على الآخرين.

المبحث الثاني: وقت السَّحَر:

السَّحَر كما يقول الفقهاء: هو الثلث الأخير من الليل، وأفضل أوقاته السُّدُس الأخير من الليل، أي: النصف الثاني من الثلث الثالث، والأفضل منه كلمّا كان أقرب من الفجر- كما يقوله بعض العلماء - .

المبحث الثالث: مزايا وقت السَّحَر:

الحكمة الكامنة وراء التأكيد على هذا الوقت: هي أنّ لهذا الوقت خصوصيات معيّنة، منها:

أوّلاً: تمحُّض العمل لله سبحانه أكثر، فلا يوجد من يراقب الانطلاق بين

ص: 275


1- البقرة: 102.

العبد وربّه، فما أكثر من يقوم اللّيل لأعوام كثيرة من غير أن يطلّع عليه حتى أهلُه.

ثانياً: توجد حالة من الحدود في ذلك الوقت، فالإنسان يعيش في النهار خضمّ الحياة وينشغل بها- فيكون- فكره مشوّش بالمشاغل المتعدّدة، ولكنّه في وقت السَّحَر: حيث لا يوجد ما يشغله، يكون الإشراق الروحي في السَّحَر أكثر عادة، وقيل: إنّ بعض العلماء كان يخصّص وقت السَّحَر لحل المعادلات والمشكلات العلمية، ففي هذا الوقت يكون التوجُّه العقلي والروحي والفكري أكثر بكثير؛ ولعلّ لهذه الجهات ولجهاتٍ أُخرى أكّدَ في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة على وقت السَّحَر.

المبحث الرابع: وقفة لمراجعة الماضي.

لماذا ذكرت صفة {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} في سياق صفات المتّقين؟

بين فترة وأُخرى يحتاج الفرد إلى جرد أعماله كالتّجار، فإنّهم في كلّ عام أو شهر لهم جرد يرون فيه النتيجة من الأرباح والخسائر، وعلى ضوء مسيرة الماضي يرسمون خريطة للمستقبل، ولكنّ المؤمن عنده جرد كلّ يوم، قال اللّه تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ

بِالأَسْحَارِ} فمن يعيش في خضمّ وتيّار معيّن ربما لا يلتفت إلى أعماله، فقد يجلس الإنسان مع أصدقائه ولا يعلم ماذا قال، وماذا قيل له، ولكن هناك وقت للجرد، وهو السَّحَر، حيث يستيقظ المؤمن في السَّحَر ويفكّر ماذا فعل؟ ويتذكّر أفعاله ويستغفر اللّه سبحانه.

فالسَّحَر وقفة لمراجعة الماضي، وتكون المحاسبة في كلّ يوم، وعلى ضوء ما فعل يعيّن المستقبل، والجرد أمر مهّم جداً في تحصيل صفة

ص: 276

التقوى؛ إذ مع وجود المراجعة والمراقبة تقلّ المعاصي والنواقص والذنوب، وهذه ضمانة قويّة لصفة التقوى في المؤمن.

تفسيرات الاستغفار

1- بعض الروايات فسّرت {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ب- : صلاة الليل(1)وكذلك مطلق الصلاة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه فسّر المستغفرين بالأسحار: «المصلين وقت السَّحَر»(2).

2- بعض الروايات فسّرته بنفس الاستغفار وطلب المغفرة من اللّه عزّ وجلّ، ففي تفسير نور الثقلين عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ مَن استغفر سبعين مرّةً في وقت السَّحَر فهو من أهل هذه الآية»(3).

ولا تنافي بين التفسيرين، فإنّ نفس الصلاة تمثّل نوعاً من الاستغفار وطلب المغفرة، أو أنّها تحتوي على الاستغفار، أو أنّها تلازم الاستغفار.

روايات في نافلة الليل

ونختم الكلام ببعض الروايات حول نافلة الليل، أو قيام الليل:

علامة الشيعي:

1- عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «ليس من شيعتنا من لم يصلّ صلاة الليل»(4).

نوم الليل والفقر في الآخرة:

ص: 277


1- وسائل الشيعة 6: 281.
2- بحار الأنوار 84: 120.
3- نور الثقلين 1: 321.
4- وسائل الشيعة 8: 162.

2- عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضوان اللّه عليه، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قالت أُمّ سليمان بن داود لسليمان (عليه السلام) : يا نبيّ اللّه، إيّاك وكثرة النوم بالليل، فإنّ كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيراً يوم القيامة»(1).

فالتاجر الذي لم يتّجر في وقت التجارة يصبح فقيراً في مستقبل أيامه، والرجل الذي لم يعد لشيخوخته ولم يدّخر شيئاً لوقت حاجته، يظلّ محتاجاً فقيراً في كبره، وكذلك كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيراً يوم القيامة لا يملك شيئاً، حيث إنّه لم يمهّد لآخرته.

من هو المغبون؟:

3- عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّه خاطب أحد أصحابه: «يا سليمان، لا تدع قيام الليل، فإنّ المغبون من حرم قيام الليل»(2).

جيفة الليل:

4- عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ أبغض الخلق إلى اللّه جيفة بالليل بطّال بالنهار»(3).

من يحب اللّه عزّ وجلّ؟:

5- عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ اللّه خاطب نبيّه موسى بن عمران: يا بن عمران كذب من زعم أنّه يحبّني، فإذا جنّه الليل نام، أليس كلُّ محبٍّ يُحِبُّ خلوةَ حبيبه؟ يابن عمران هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك

ص: 278


1- الأمالي: 304.
2- تهذيب الأحكام 2: 122.
3- بحار الأنوار 84: 158.

الخضوع، ومن عينك الدموع في ظُلَم الليل، وادعُني تجدني قريباً مُجيباً».(1)

المستجاب دعوته:

6- عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن العبد إذا تخلّى بسيّده في جوف الليل المظلم وناجاه أثبت اللّه النور في قلبه(2)، فإذا قال: يا ربّ يا ربّ، ناداه الجليل جلّ جلاله: لبّيك عبدي سلني أُعطِك، وتوكّل عليّ أكفك، ثم يقول جلّ جلاله لملائكته: انظروا إلى عبدي فقد تخلّى في جوف الليل المظلم والبطّالون لاهون(3)، والغافلون نيام، اشهدوا أنّي قد غفرت له»(4).

اهتمام السابقين بصلاة الليل

كان السابقون يهتمّون بقيام الليل وصلاة الليل ونافلة الليل: يُنقل أنّ شخصاً لم يَقُم ليلة لنافلة الليل فَرُئي باكياً، ولمّا قيل له: لماذا تبكي؟ قال: لم أقمُ البارحة لنافلة الليل وأُفكّر أنّه أيّ ذنب صدر مني حتى حُرِمت من ذلك؟!

وفي قضية مذكورة عن الشيخ حبيب اللّه الكلبايكاني:

إنّه كان يستيقظ وقت السَّحَر مدة أربعين عاماً، ويتوضّأ ثم يتوجّه إلى حرم الإمام الرضا (عليه السلام) سواء في الحرّ أو البرد القارص والثلوج الكثيرة

ص: 279


1- وسائل الشيعة 4: 1125.
2- أي: قلبه يكون قلباً نورانياً (منه (رحمه اللّه) ).
3- أي: ساهون: قال الشيخ الطريحي في كتابه مجمع البحرين في مادة (ل ه و) في قوله تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي: ساهية بالباطل مشغولة عن الحق.
4- الجواهر السنية: 140.

ويقف خلف باب الحرم يصلّي صلاة الليل إلى أن تفتح الباب، فكان أوّل من يدخل على الإمام - روحي فداه - وكان هذا برنامجه اليومي لمدة 40 عاماً.

وربما يتصوّر البعض أنّ هؤلاء ليس لهم عمل أو برنامج، لكنّ بعضهم كانوا ينامون الليل لساعتين فقط، وكثير من التجّار في البلاد المقدّسة- كما ينقل المعمِّرون- كانوا يستيقظون قبل طلوع الفجر ويسبغون الوضوء في بيوتهم ثم يذهبون إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء المقدّسة ويقفون خلف الباب المغلق، ويصلون صلاة الليل إلى أن يُفتح الباب فيدخلون الحرم المبارك.

إذاً، صلاة الليل ليست للعاطلين عن العمل، بل هي جزء من البرنامج الذي ينبغي الاهتمام به، ونحن أيضاً ينبغي لنا أن نلتحق بهذا الركب، وأن لا يسلب منّا هذا التوفيق العظيم، فعلى الفرد أن ينظّم نومه بشكل ليتمكّن من الاستيقاظ في ذلك الوقت، ويختلي بسيده، ويناجي ربّه، ويمهّد لآخرته.

ص: 280

الآية 18

اشارة

الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1)

المفردات

{شَهِدَ اللَّهُ}: الشهادة لغة تطلق على أحد معنيين:

الأوّل:

تحمّل الشهادة، أي: المعاينة عن حضور.

الثاني: أداء الشهادة، أي: إظهار الشاهد ما تحمّله من العلم.

{قَائِمًا بِالْقِسْطِ}: القسط هو العدل ويشمل العدل في التكوين والتشريع والجزاء.

الإعراب

{قَائِمًا}: هناك رأيان من الناحية الأدبية حول كلمة قائماً:

الأوّل: إنّها حال للفظة (اللّه): فيكون المراد شهد اللّه والملائكة وأُولو العلم بالوحدانية - حالَ كون اللّه قائماً بالقسط - وعلى هذا الرأي يقع العدل الإلهي ضمن المشهود به.

الثاني: إنّها حال من كلمة (هو) فيقع العدل ضمن دائرة المشهود به ودائرة الشهادة، وتكون الآية: {شهد اللّه أنه لا إله إلا هو} حال كونه قائماً

ص: 281


1- آل عمران: 18.

بالقسط- هذا على القول بأنّ المشهود حال من كلمة هو- وشهدت الملائكة بما شهد به اللّه، أي: شهدوا بالوحدانية وبالعدالة، وكذلك شهد أُولو العلم.

التفسير

المدخل:

الآية المباركة إحدى الآيات التي كانت موضع اهتمام النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

قال بعض العلماء: إنّ النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ليلة عرفة كان يُكثر من تلاوة هذه الآية المباركة، وفي الأحاديث المروية أنّها كانت موضع اهتمام أهل البيت (عليهم السلام) وعنايتهم، ففي تفسير (نور الثقلين) بإسناده إلى محمّد بن عثمان العمروي، قال: لمّا ولد الخلف المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) سطع نور من فوق رأسه إلى عنان السماء، ثم سقط لوجهه ساجداً لرِّبه تعالى ذكره، ثم رفع رأسه، ثم تلا هذه الآية المباركة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} إلى آخر الآية(1).

وفي الكافي في خبر طويل يظهر منه أنّ كلّ إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كان يتلو الآية عند ولادته، فإذا قال ذلك أعطاه اللّه العلم الأوّل والعلم الآخر(2).

ص: 282


1- نور الثقلين 1: 321.
2- روى علي بن محمد، عن عبد اللّه بن إسحاق العلوي، عن محمد بن زيد الرزامي، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: حججنا مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (عليه السلام) ، فلمّا نزلنا الأبواء وضع لنا الغداء، وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثر وأطاب، قال: فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة فقال له: إنّ حميدة تقول: قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرت ولادتي، وقد أمرتني أن لا أستبقك بابنك هذا، فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) فانطلق مع الرسول، فلمّا انصرف قال له أصحابه: سرّك اللّه وجعلنا فداك، فما أنت صنعت من حميدة؟ قال: سلّمها اللّه وقد وهب لي غلاماً وهو خير من برأ اللّه في خلقه، ولقد أخبرتني حميدة عنه بأمر ظنت أني لا أعرف، ولقد كنت أعلم به منها، فقلت: جعلت فداك، وما الذي أخبرتك به حميدة عنه؟ قال: ذكرت أنه سقط من بطنها حين سقط واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتها أن ذلك أمارة رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمارّة الوصي من بعده، فقلت: جعلت فداك، وما هذا من أمارة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمارة الوصي من بعده؟ فقال لي: إنه لمّا كانت الليلة التي علق فيها بجدي أتى آت جدّ أبي بكأس فيه شربة أرقُّ من الماء، وألينُ من الزبد وأحلى من الشهد، وأبرد من الثلج، وأبيض من اللّبن، فسقاه إيّاه وأمره بالجماع، فقام فجامع فعلق بجدّي، ولمّا أن كانت الليلة التي علق فيها بأبي أتى آتٍ جدّي فسقاهُ كما سقى جدّ أبي، وأمره بمثل الذي أمره، فقام فجامع فعلق بأبي، ولمّا أنّ كانت الليلة التي علق فيها بي أتى آتٍ أبي فسقاهُ بما سقاهم، وأمره بالذي أمرهم به فقام فجامع فعلق بي، ولمّا أن كانت الليلة التي علق فيها بابني أتاني آتٍ كما أتاهم ففعل بي كما فعلَ بهم، فقمت بعلم اللّه وإني مسرور بما يهب اللّه لي، فجامعت فعلق بابني هذا المولود، فدونكم فهو واللّه صاحبكم من بعدي، إن نطفة الإمام ممّا أخبرتك، وإذا سكنت النطفة في الرحم أربعة أشهر وأُنشئ فيها الروح بعث اللّه تبارك وتعالى ملكاً يقال له: حيوان، فكتب على عضده الأيمن {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وإذا وقع من بطن أُمّه وقع واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فأمّا وضعه يديه على الأرض فإنه يقبض كلّ علم لله أنزله من السماء إلى الأرض. وأمّا رفعه رأسه إلى السماء فإنّ منادياً ينادي به من بطنان العرش من قبل ربّ العزّة من الأُفق الأعلى باسمه واسم أبيه يقول: يا فلان بن فلان اثبت تثبت، فلعظيم ما خلقتك أنت صفوتي من خلقي، وموضع سرّي، وعيبة علمي، وأميني على وحيي وخليفتي في أرضي، لك ولمن تولاّك أوجبت رحمتي، ومنحت جناني، وأحللت جواري، ثمّ وعزّتي وجلالي لأصليّن من عاداك أشدّ عذابي - وإنْ وسّعت عليه في دنياي من سعة رزقي - فإذا انقضى الصوت - صوت المنادي - أجابه هو واضعاً يديه رافعاً رأسه إلى السماء يقول: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال: فإذا قال ذلك، أعطاه اللّه العلم الأوّل والعلم الآخر واستحّق زيارة الروح في ليلة القدر، قلت: جعلت فداك، الروح ليس هو جبرئيل؟ قال: الروح هو أعظم من جبرئيل، إنّ جبرئيل من الملائكة وإنّ الروح هو خلق أعظم من الملائكة، أليس يقول اللّه تبارك وتعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ}. الكافي 1: 385-387.

ص: 283

وعلى ما يبدو أنّ الآية تتناول القاعدة التي يبتني عليها البنيان الفكري والعقائدي والعملي للأُمّة، ألا وهي قاعدة التوحيد والعدل، فالنبوّة تبتني على التوحيد والعدل، وكذا الإمامة، فإنّ قاعدتها التوحيد والعدل، وكذلك المعاد أيضاً مبتنٍ على التوحيد والعدل.

وبعبارة جامعة: البناء العقائدي كلّه، والبناء العملي، والبناء الفكري يبتني على التوحيد والعدل، ولعلّه لذلك كان الاهتمام من قبل النبي وأهل بيته (عليهم السلام) بتلاوة الآية المباركة.

وفي هذه الآية عدة بحوث:

الأوّل: ما هي الشهادة؟

البحث الثاني: أنواع الشهادة.

البحث الثالث: كيف تكون شهادة اللّه تعالى بالوحدانية؟

البحث الرابع: كيف تكون شهادة الملائكة وأُولو العلم بالوحدانية؟

البحث الخامس: ما هي الرابطة بين العلم والشهادة بالأُلوهية والوحدانية؟

ص: 284

البحث السادس: ما هو دور العدل في البناء الفكري والعقائدي والعملي في الأُمّة.

وسنتعرض لهذه المباحث على نحو الإجمال.

الشهادة: التحمّل أو الأداء؟

البحث الأوّل: ما هي الشهادة وما معناها؟:

تطلق الشهادة في اللُّغة العربية- على نحو من الاشتراك اللفظي- على معنيين:

الأوّل: المعاينة عن حضور أو ما يقوم مقامه، كأن يريد شخص أن يقرض آخر فيطلب ممّن حوله أن يشهدوا عليه بأن يعاينوا الواقعة، فيقال: شهدت الواقعة الكذائية.

الثاني: إظهار الشاهد ما تحمّله من العلم: كأن يحدث اختلاف وتُطلبون إلى المحكمة لأنّكم تحمّلتم علماً فتظهرون ذلك العلم الذي تحمّلتموه.

وبعبارة أُخرى: الشهادة تطلق على التحمّل وعلى الأداء أيضاً.

الإظهار اللَّفظي والعملي

البحث الثاني: تنقسم الشهادة بالمعنى الثاني إلى قسمين:

الأوّل: أن يكون الإظهار لفظياً.

الثاني: أن يكون الإظهار عملياً، ولعلّ الشهادة العملية - غالباً أو دائماً - أقوى من الشهادة اللفظية، حيث يكون الواقع حينئذ هو الذي على الحقيقة.

هل الشهادة اللفظية، دوريّة؟

البحث الثالث: كيف تكون شهادة اللّه تعالى بالأُلوهية؟ وكيف تفسّر

ص: 285

الآية المباركة التي تقول: شهد اللّه أنّه لا إله إلاّ هو؟

هناك جوابان على ذلك:

الأوّل: أن تكون الشهادة لفظية ولا مانع منها، إلاّ أنّ البعض يخالف كونها في المقام لفظية لمانع عقلي، وتقريره: أنّ الشهادة اللفظية هل هي لمن لا يعتقد بالأُلوهية أو لمن يعتقد بها؟ ومَن المشهود عنده؟ فإن كان مؤمناً يعتقد باللّه عزّ وجلّ فهو لا يحتاج إلى الشهادة؛ لكونه آمن مسبقاً بالأُلوهية، وإن كان كافراً لا يعتقد بالأُلوهية فإن الشهادة دوريّة - على حسب اصطلاح العلماء- فمن لا يعتقد باللّه ويكتب كتاباً عنوانه (أين اللّه) لا تفيده شهادة كهذه، لأنّه لا يقرّ باللّه عزّ وجلّ، فكيف يقبل شهادته.

ولذا لا معنى لأن تكون الشهادة لفظية، بل هي بمعنى آخر سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير وارد- على ما يبدو في بادئ النظر- حيث لا مانع من أن تكون الشهادة لفظية- لأنّ الشاهد عندما يشهد بقضية، فإنّ شهادته تتضمن مضموناً معيّناً، إمّا أنّها لا تحمل إثباتها في ذاتها، أو تحملها في ذاتها، فلو شهدت بوجود الليل فالشهادة تحمل برهانها في ذاتها ولا مانع منها، وكذا الشهادة بوجود الناس في الخارج، فالشهادة بالحقائق الخارجيّة والنفسية تحمل إثباتاتها في ذاتها، ولا مانع حينئذ أن تكون الشهادة لفظية، والمضمون الذي تحمله الآية المباركة إثباته كامن في ذاته، حيث إنّ كلّ شيء في الوجود يُقرّ وينادي بالأُلوهية، وفي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم

ص: 286

عرفة: «عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً»(1) والذي لا يرى اللّه عزّ وجلّ، أو لا يراه عليه رقيباً هو أعمى القلب، يقول الشاعر:

وفي كلّ شيء له آيةٌ***تدلُّ على أنّه واحدُ

التقيت بشاب في إحدى البلاد العربية معه شخص آخر، فقال: إنّه ينُكر وجود اللّه عزّ وجلّ، فتحدّثت معه من زوايا مختلفة، وممّا قلت له: إن قيل لك: بأنّ نظّارتك [العوينات] وجدت صدفة بصنع الرياح التي هبت وجمعت المعادن والزجاج و... الخ، هل تقبل ذلك؟

قال: لا. قلت: عينك أدقّ أم النظّارة؟ فالنظارة جهاز بسيط مقابل العين التي لم يصل العلماء على طول التاريخ إلى جميع أسرارها، فكيف تعتقد: أنّ النظّارة لا يمكن أن توجد إلاّ إذا كان وراءها علماء وخبراء ومفكّرون ومعامل دقيقة، وبالمقابل تعتقد أنّ عينك وجدت بلا مكوِّن وبلا...!! فاحتار الشاب بالجواب.

العلم والوصول إلى اللّه

عندما يذهب الفرد إلى المختبر ويرى دقائق الخلقة، يوقن بوجود اللّه سبحانه وتعالى، ولذا صرّح ذلك العالم الكبير قائلاً: وجدت اللّه في المختبر(2).

وقد أكدّ القرآن الكريم على العلم، فإنّ العلم يؤثّر تأثيراً بالغاً في الإيمان

ص: 287


1- بحار الأنوار 64: 142.
2- هو العالم ألبرت أنشتاين، صاحب نظرية ازدواجية المادة والجُسَيم، قال هذا الكلام في إحدى المقابلات الصحفية عندما طُرح عليه سؤال: أين اللّه في فكرك؟ فأجاب: عندما أدخل المختبر.

وفي درجاته، وفي دعاء كميل: «وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة»، فالخشوع له منشأ ومنبع، إذا وُجد وُجد الخشوع لله تعالى قهراً، والخشوع حالة باطنية، ويتبعها الخضوع: وهي حالة ظاهرية.

وفي القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1) فالعلم يقود إلى اللّه وإلى الخشوع والخضوع والخشية، ولأهمية العلم ومكانته أكّدت عليه الروايات الشريفة أشدّ تأكيد، منها:

1- (كونوا علماء)(2)، أي: اجعلوا العلم جزء المنهج، إلاّ أنّ في بلادنا الإسلامية العلم ليس ضمن المنهج.

2- قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(3).

3- وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اطلبوا العلم ولو بالصين»(4).

وممّا يؤسف له أنّ الطفل في بعض البلاد غير الإسلامية يولد وينشأ ضمن منهج، ويصرف أربعين بالمائة من الأموال التي تعطى له في الكتاب، فينشأ هذا الطفل وهو محبٌّ للعلم ومدمن على المطالعة.

أمّا الذي لم يعهد الكتاب من طفولته ولم يتعلّم على المطالعة فهو لا يحبُّ الكتاب ويبتعد عنه؛ لذا ينبغي أن يكون التعلُّم ضمن المنهج.

نقل أحد الإخوة المؤمنين، قال: ركبت القطار في بلد غربي فرأيت أنّ

ص: 288


1- فاطر: 28.
2- مجمع البيان 2: 331.
3- تفسير القمي 2: 401.
4- وسائل الشيعة 27: 27.

كلّ شخص أخرج كتاباً وشرع بمطالعته، أمّا أنا فلم يكن لدي كتاب فخجلت من نفسي!

هناك ثلاثة كتب تبيّن كيف أنّ العلم يقود إلى اللّه عزّ وجلّ ولا بأس بقراءتها:

1 - اللّه يتجلّى في عصر العلم(1).

2 - العلم يدعو إلى الإيمان(2).

3 - الطبُّ محراب للإيمان(3).

وبعد بيان أهمية العلم نعود إلى ما أردنا بيانه: من عدم المانع من أن تكون الشهادة لفظية؛ لأنّ المضمون الذي تحتوي عليه هذه الآية المباركة تثبته كلُّ ذرة من ذرّات الكون الفسيح، ووزان هذه الشهادة وزان بقيّة الإخبارات التي ذكرت في القرآن الكريم عن العالم الربوبي عمّا يتعلق بساحة الربوبية مثل قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(4) وقوله:

ص: 289


1- الكتاب للمؤلف جون كلوفر، وهو قسيس أميركي عاش في منتصف القرن العشرين، صدر هذا الكتاب في أميركا عام 1958م وهو عبارة عن جمع لمقالات أربعين عالماً في مختلف علوم الطبيعة، وقد كتبت تلك المقالات في معرض الإجابة على سؤالين طرحهما القسيس كلوفر، الأوّل: هل تؤمن بوجود الربّ؟ والثاني: كيف دلّ العلم الذي تدرسه على ذلك؟.
2- أصل الكتاب للمؤلف كريسي موريسون رئيس الأكاديمية العالمية في نيويورك سابقاً، وعنوانه: (الإنسان لا يقوم وحده) كتبه ردّاً على كتاب: (الإنسان يقوم وحده).
3- أصل هذا الكتاب رسالة أُعدّت لنيل لقب الدكتوراه في الطب، تأليف الطبيب خالص جلبي كنجو.
4- الزمر: 67.

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}(1) و، فلا مجال للقول بدوريّة الشهادة.

الجواب الثاني: إنّ الشهادة تكون شهادة عملية، وقد سبقت الإشارة في المبحث الثاني إلى أنّ الشهادة العملية أقوى أنواع الشهادة.

في معنى «آية» ودلالتها لإثبات صفات اللّه فضلاً عن وجوده:

هناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي: إن القرآن الكريم في آيات متعدّدة يستخدم كلمة (آية)، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً}(2) وقوله: {لآَيَاتٍ}(3)، وقد ذكر بعض العلماء في علم العقائد أنّ الإلفات إلى قضية (الآيوية) لم تكن مطروحة قبل القرآن الكريم عند المفكّرين، فالأشياء كما تدلّ على أصل الوجود تدلّ على صفات اللّه تعالى، فكّل ورقة من أوراق الأشجار كما تثبت أصل الوجود تثبت صفات اللّه تعالى، وعلى سبيل المثال: عندما نرى كتاباً معيّناً فإنّ ذلك يثبت شيئين:

1 - وجود مؤلّف لهذا الكتاب، أي: أصلُ الوجود، وهو مفاد كان التامة- كما يصطلح عليه العلماء- .

2 - مجموعة من صفات المؤلف، فالكتاب يثبت أنّ المؤلّف عالم أو لا؟ قادر أو لا؟ حكيم أو لا؟ فكما أنّ الآيات الآفاقية والآيات الأنفسية(4)،

ص: 290


1- محمد: 19.
2- البقرة: 248.
3- الأنعام: 99.
4- إشارة إلى الآية المباركة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فصلت: 53.

وكلّ ذرّة في الكون تثبت أصل وجود اللّه سبحانه، فإنّها في الوقت نفسه تثبت مجموعة كبيرة من صفات اللّه سبحانه وتعالى، ومنها علمه وحكمته وعدله وقدرته، وتثبت قيوميّته ورحمته: إلى كثير من هذه الصفات.

والحاصل أنّ شهادة اللّه سبحانه وتعالى يمكن أن تكون شهادة لفظية فضلاً عن كونها عملية، فإنّ الخلق والتكوين شهادة عملية من اللّه سبحانه على وجوده وعلمه ووحدانيته وغيرها من الصفات.

الآية المباركة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ}: تشير إلى أنّ شهادة الملائكة شهادة لفظية أوّلاً، وشهادة عملية ثانياً؛ لأنّهم لا يخضعون إلا لله سبحانه وتعالى و: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(1) فهذه شهادة عملية.

{وَأُولُوا الْعِلْمِ}: أي: إنّهم ممّن شهدوا بتلك الشهادة، وجعل الباري تعالى أُولي العلم إلى جانب الملائكة؛ ليظهر موقعهم ومكانتهم المرموقة عنده، حيث إنّ علمهم قادهم إلى الإيمان باللّه وبوحدانيّته، وأُولو العلم كلّهم يشهدون شهادة لفظية وشهادة عملية بوجود اللّه وصفاته، فالأنبياء الذين عددهم 124 ألف نبي، ويعتقد البعض أنّهم 300 ألف نبي- والأوصياء الّذين عددهم بعدد الأنبياء أو أكثر- حيث كان لكثير من الأنبياء أكثر من وصي واحد- يمثّلون قمّة البشرية، والتاريخ لم يشهد مثل موسى وعيسى وإبراهيم وخاتم الأنبياء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، هؤلاء كلُّهم يشهدون بقولهم وبعملهم بوحدانية اللّه، وبتفرد اللّه تعالى بالأُلوهية. وكذا العلماء الكبار.

ص: 291


1- التحريم: 6.

من لا يعتقد بالغيب ليس بعالم:

هناك بعض الشّذاذ بين العلماء، وهؤلاء لا يُسمَّون بالعالم؛ لكون علمهم حجاب، أو لأنّهم أدركوا الحقيقة ناقصة، فمثلهم كمن يسمع طرقاً على الباب ويتسمّر ذهنه على الطرق، ولا ينتقل إلى وجود طارق خلف الباب فهل يطلق على هذا أنّه عالم؟ فحتى الطفل يؤمن بالغيب، فما بالك بالعالم لا يؤمن بالغيب؟

فالطفل لو رأى حقيبتهُ مفتوحة ودفاتره مبعثرة، يتساءل قائلاً: من عمل هذا العمل؟ فإن أُجيب بأنّ الحقيبة هي التي انفتحت والدفاتر بنفسها تبعثرت، هل يرضى بالجواب ويقتنع، أم يعيد السؤال قائلاً مَنْ فعل هذا؟ بل حتى الحيوان بما له من السعة العلمية الضيّقة والضعيفة- حيث له درجة من العلم وإن كانت أقلّ من البشر كما يبدو- يؤمن بالغيب، فلمّا يسمع صوتاً يلتفت ليرى مَن خلف الصوت، فالّذي لا يعتقد بالغيب ولا تقوده جميع هذه الآيات إلى اللّه سبحانه أنزل درجة من الحيوان، كما في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}(1). فالعلم يقود إلى اللّه سبحانه، وقمم البشرية والعلماء الكبار كلُّهم يشهدون شهادة لفظية وشهادة عملية بأُلوهية اللّه سبحانه، وبوحدانية اللّه تعالى.

العدل الإلهي ومكانته

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ

ص: 292


1- الفرقان: 44.

إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1) قد أشرنا مسبقاً إلى أنّ هذه الآية المباركة تتناول القاعدتين الأساسيتين اللّتين يبتني عليهما البنيان العقائدي والفكري والعملي للدّين، وقد تمَّ البحث في القاعدة الأُولى وهي التوحيد.

العامّة والإنكار الخفي للعدل:

أمّا القاعدة الثانية: فهي قاعدة العدل الإلهي، وهو أصل من أُصول المذهب لدى الإمامية، وقد أشارت إليه الآية المباركة، والمعتزلة أيضاً وافقت الإمامية في ذلك، إلاّ أنّ الحقيقة المؤسفة أنّ أغلب المسلمين وللأسف - حتى اليوم - ينكرون العدل الإلهي، إلاّ أنّ إنكارهم العدل الإلهي إنكار خفي وليس بصريح، فقد يُنكَر الشيء بصراحة كأن يُقال: الحاكم الفلاني ليس بعادل، بل هو ظالم، وأُخرى يُنكر الشيء بخفاء، كأن يُقال: ليس للعدل وجود واقعي حقيقي، بل كلّ ما يفعله الحاكم فهو عدل، فقتله عدل، وسجنه عدل، وانتهاكه المحرمات عدل، وبعبارة جامعة: الأمر كلّه بيد الحاكم وكلّ ما يفعله فهو عين العدل، كما يقول الشاعر:

لكَ جسمي تُعلِّهُ***فدمي لا تُطلّهُ

قال إنْ كنتُ مالكاً***فلي الأمر كلُّهُ

وهذا الرأي في واقعه إنكار خفيّ لعدالة الحاكم.

دور العقل في معرفة العدل

والحق هو وجود العدل؛ لأنّه يمثّل حقيقة ذاتيّه يدركها العقل: فهو

ص: 293


1- آل عمران: 18.

يدرك العدل والظلم، نعم، ربّما في بعض الموارد لا يدرك العقل الواقع، إلاّ أنّه في مواقع كثيرة يدرك العدل والظلم.

وأفعال اللّه سبحانه وتعالى كلّها في إطار العدل، والّذين يلغون دور العقل في إدراك العدل والظلم ويذهبون إلى عدم استقلاليّة العقل في الحكم، فإنّهم قد ألغوا دور العقل في إدراك أصل الأُلوهية، وإلاّ كيف يتوصّل العبد إلى معرفة اللّه سبحانه؟ أليس عن طريق العقل؟ فهو الذي يقودنا إلى اللّه سبحانه وتعالى، فلو شككنا في إدراكات العقل ولم نثق بواقعيّتها ومطابقتها للواقع، كما ذهب إلى ذلك الآخرون ممّن خرجوا عن نطاق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) - لزم أن نلتزم ب- :

1- أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو الّذي أجبر أبا جهل على الكفر!! وهو يحاسبه على كفره ويقذفه في نار جهنم!!؛ إذ إنّ الأشاعرة الّذين يمثّلون أكثرية المسلمين غير الشيعة يصرّحون أنّ هذا عين العدل!! وإن قيل لهم: إنّ العقول تقضي بأنّ هذا ظلم، يقولون: لا ثقة بإدراكات العقل: ولا يمكن الاطمئنان بالعقل في إدراك العدل والظلم.

2- ولنذكر مثالاً آخراً فلمّا يسألون: من الّذي جعل صدّام يرتكب هذه الجرائم والجنايات والمجازر التي ارتكبها بحق الملايين ممّن قتلهم وشرّدهم وسجنهم وأيتمهم؟ يقولون: اللّه أجبر صدّاماً على كلّ جرائمه!! وفي يوم القيامة يأتي صدّام إلى محكمة العدل الإلهي فيقول له اللّه عزّ وجلّ: لماذا ظلمت وارتكبت الإبادة الجماعية؟ يجيب قائلاً: يا ألله، أنت الّذي أجبرتني على ذلك، فيقول له اللّه عزّ وجلّ: إجباري إيّاك على الظلم

ص: 294

هو عين العدل! وإلقائي إيّاك في جهنّم عين العدل أيضاً!!» وطبعاً باعتقاد الأشاعرة يمكن أيضاً لله عزّ وجلّ: أن يأخذ صدّاماً ويضعه في قمة الجنّة في مصاف الأنبياء والأولياء!! وإن اعترض أحد المظلومين قائلاً: يا ألله كيف تضع الظالم في عداد الأنبياء والأولياء؟ يقول له اللّه عزّ وجلّ: عقولكم لا تدرك، وما أقوم به هو عين العدل!!.

ولا يخفى أنّ هذا الاعتقاد ليس منطق شخص يقول كلاماً غير مسؤول، بل هو منطق الملايين ممَّن لا يعتقدون بمنهج أهل البيت (عليهم السلام) .

3- يمكن أن يلقي اللّه جميع أوليائه وجميع أنبيائه وجميع الأوصياء في قعر الجحيم خالدين فيها، هؤلاء الّذين ضحَّوا من أجل اللّه وأفنوا حياتهم من أجل مرضاته لو قذف بهم إلى قعر النار التي{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ووضع الجناة والظلمة والكفّار في صدر الجنّة، لكان عين العدل الإلهي!! هذا ما التزمه الأشاعرة بحجّة: أنّ العقل لا يدرك!

الأشاعرة والوقوع في التناقض

لا يخفى أنّ تجريد العقل من قيمته وسلب الثقة عنه في إدراك الظلم والعدل، يستلزم عدم جواز إثبات أصل الأُلوهية عبر العقل! ولو سُئِلَ الأشاعرة: كيف توصّلتم إلى معرفة اللّه سبحانه؟ لأجابوا: بهذا العقل الّذي مَنَّ اللّه به علينا، ولو قيل لهم: بعد أن سلبتم الثقة من العقل في إدراكه للعدل والظلم، كيف تعتمدون على إدراكه في إثبات الأُلوهية؟

هذا هو التناقض بعينه، فإمّا أن نعطي للعقل قيمته في إدراك الأُلوهية والعدل والظلم ونعتقد بكلتا القضيّتين، وإمّا أن نجرِّد الإدراكات العقلية من

ص: 295

قيمتها في كلتا القضيتين. أمّا التفكيك بينهما بأن نؤمن بالإدراك العقلي في قضية الأُلوهية، ونسلب الثقة من إدراكه في قضية العدل والظلم، فهو تناقض فاحش في ذاته.

هل العدل الإلهي ضمن المشهود به؟

{قَائِمًا بِالْقِسْطِ}: القسط هو العدل، وقد أكّدت الآية المباركة وغيرها من آيات القرآن الكريم على العدل الإلهي، أمّا كلمة {قَائِمًا} ففيها- من الناحية الأدبية- رأيان:

الأوّل: أنّها حال مؤكِّدة للفظة اللّه سبحانه وتعالى، ومعه يكون المراد من الآية: شهد اللّه حال كونه قائماً بالقسط أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأُولو العلم، وبناءً على ذلك: لا يقع العدل الإلهي ضمن المشهود به.

وبعبارة أُخرى: المراد من الآية كالتالي: شهد اللّه والملائكة وأُولو العلم بالوحدانية، حال كون اللّه سبحانه وتعالى قائماً بالقسط.

الثاني: أنّ (قائماً) حال من كلمة هو، فيقع ضمن المشهود به، أي: ضمن دائرة الشهادة، ومعه يكون المعنى كالتالي: شهد اللّه أنه لا إله إلاّ هو حال كونه قائماً بالقسط- هذا ضمن المشهود، حال من كلمة هو- وشهدت الملائكة بما شهد به اللّه- أي: شهدوا بالوحدانية وبالعدالة، وأُولو العلم أيضاً شهدوا بما شهد به اللّه والملائكة- يعني شهدوا بالوحدانية والعدل.

فالعدل الإلهي هو الركن الثاني الذي يبتني عليه بناء الدّين كلّه، والعدل يكون في جميع الأبعاد: العدل في التكوين وفي التشريع والجزاء والكتاب.

أمّا قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فهو يثير تساؤلاً جديراً بالتأمُّل،

ص: 296

وهو: لماذا تكرّرت كلمة لا إله إلا اللّه؟

ذهب الوالد رحمه اللّه(1) في تفسيره (تقريب القرآن إلى الأذهان) أنّ التكرار للتأكيد؛ لأنّ العالم قبل مجيء النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان غارقاً في أوحال الشرك والوثنية، وحتى زماننا الراهن الكثير من نقاط العالم غارقة في الوثنية والشرك، في الهند والصين وغيرها ومئات الملايين من المشركين في العالم المسيحي واليهودي، فالتكرار إنّما هو للتأكيد على الوحدانية لله عزّ وجلّ.

عاملان وراء الظلم

سؤال آخر يُطرح وهو: لماذا ذكرت هاتان الصفتان {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في سياق هذه الآية المباركة؟

لعلّ ذلك باعتبار ذكر صفة العدل- التي تقابل صفة الظلم- في الآية الكريمة، حيث يوجد عاملان وراء الظلم:

الأوّل: الضعف، فهو من الأسباب الرئيسية وراء ظلم الظالم ووجود عقدة الضعف فيه، كما نقرأ في الدعاء الشريف: «وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليتَ يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً»(2)فالحاكم يظلم شعبه لأنّه يشعر بالضعف وأنّ كيانه يتهدّم فيشعر بخطر على نفسه فيظلم ويقتل ويهدم، إذن: العدل يحتاج قوّة.

الثاني: الجهل، ففي بعض الأحيان لا يريد الشخص أن يظلم ولكنّه

ص: 297


1- الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) .
2- مصباح المتهجد: 195.

يجهل، يقول الشاعر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى***مضر كوضع السيف في موضع الندى

والكثير من الآباء يحتارون في طريقة التعامل مع أطفالهم، فهل يحتاجون إلى الترغيب أو إلى الترهيب؟

فإنّ الأب لا يعرف، فربما يصفع الطفل لأنّه يظّن أنّ تأديبه بصفعه ولكنّه أخطأ في تشخيص القضية، فالعدل يحتاج إلى معرفة: أين تضع الشيء وكيف؟ ولعلّه من هذا المنطلق قالت الآية الكريمة: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} تأكيداً لقضية الأُلوهية.

{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز، القوي الّذي لا يُغلَب، الحكيم: العالم الّذي يضع الأشياء في موضعها.

خلاصة القول: إنّ ما ذكرناه إشارة مختصرة إلى قضية العدل والظلم، والأمر بحاجة إلى بحوث مستوعبة سنؤجّلها إلى مجال آخر بإذن اللّه جلّ وعلا.

أمّا الآية اللاحقة فإنّها تتناول البنية الفوقية التي تبتني على هاتين القاعدتين، وسوف نتحدّث عنها في حديث قادم بإذن اللّه تعالى. وصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

يقول المقرّر:

وهذا آخر ما تفوّه به الأُستاذ الفقيه المقدّس آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه عليه في تفسيره لسورة آل عمران، فرحمه اللّه من عالم كان اللّسان الناطق لهدي أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم، وحشره اللّه معهم وفي

ص: 298

درجتهم، إنّه كريم سميع مجيب. وقد أهديت هذا الجهد القليل إلى سيدي ومولاي أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) وإلى ابنته المضطهدة التي جادت بنفسها في فراق إمامها.

اللّهم تقبل منّا هذا القليل بفضلك ومنّك، واغفر لنا تقصيرنا وخطايانا بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

وقد تمّت مراجعته في ثالث ليالي القدر في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) ، ليلة 23 من شهر رمضان المبارك من سنة 1429 هجريّة.

ص: 299

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الإطار العام للسورة

اشارة

الإطار العام للسورة(1)

سورة آل عمران

آية: 1-5:

تأملات

الأوّل: هذه السورة ترتكز على محورين


1- التاريخ: 20 - محرم - 1398 ه- . وجدت هذه التأمّلات - بعد وفاة الفقيه المقدّس - بين أوراقه، كتبها ولمّا يبلغ العشرين، ثم أضاف عليها حواشي وبعضها إشارات، إلّا أنّا حذفنا الرموز والإشارات لأنها لم تكن واضحة المراد، ولعلّها كانت خلاصة لمحاضرات ألقاها، ثم أضاف إليها إشارات ورموزاً أُخرى لمحاضرات أُخرى. وقد أرتأينا أن نطبع هذه التأمّلات كملحق لكتاب التدبُّر في القرآن، خاصة وأنّ الجزء الثالث وهو تقرير لمحاضرات أُخرى له كانت في أواخر حياته يتناول سورة آل عمران أيضاً. ومن البيَّن أن هنالك عموماً من وجه بين ما في هذه التأمّلات وبين ما في الجزء الثالث، وخاصة أن هذه التأمّلات تمَّ تأليفها في أوائل الحياة العلمية للمؤلف، والجزء الثالث في أواخرها. نسأل اللّه أن يجعل القرآن شفيع المؤلّف وأن يحشره مع محمد وآله الطاهرين.

* ومهمّة هذه السورة هو (التحصين الايدلوجي) و(إعداد العدة للقتال) كرد على التحدّي.(1) بداية هذه السورة ردّ على النصارى في الأُلوهية والنبوّة.


1- : 1) الوحدة بين رسالات السماء- كما نلاحظ ذلك في بداية السورة ونهايتها - وخلال الآيات القرآنية أيضاً. 2) السلوك الرسالي السليم الذي يجب أن يتمتّع به الفرد المسلم تجاه الظروف والأشياء. الثاني: الحروف المقطعّة فيها أقوال: 1) رمز بين اللّه وأوليائه. 2) إشارة لحوادث معيّنة. 3) من أجل ضمان استماع الكافرين لهذه الكلمات الغريبة، حتى لا يشوشوا على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهكذا إلى(24) قولاً. ولكن الذي يبدو أن ذلك إشارة إلى إعجاز القرآن البلاغي.. حيث يبّين القرآن أنه مكوّن من هذه الحروف العادية المتداولة عندكم، وعدم استطاعتكم الإتيان بمثله دليل على عنصر الإعجاز الكامن فيه(مثل أن يصنع مهندس عمارة من الطابوق والإسمنت يعجز جميع المهندسين عن صنع مثلها). وما يؤكّد ذلك أنّ هناك إشارة إلى القرآن بعد أكثر هذه الحروف {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}. الثالث: يبيّن القرآن في الآية الثانية وحدة الخالق، لكي يبيّن بعد ذلك وحدة الرسالات السماوية التي صدرت عنه، فوحدة المصدر تؤكّد وحدة ما صدر عنها

الفرد؟! كلاّ.

لقد ركّز القرآن على التوحيد، وكان شعار الأنبياء دائما: {لا إله إلا اللّه} وكان ذلك من أجل أنه المنطلق للخضوع والطاعة بدليل:

1) رفض مشركي قريش لقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قولوا إلا إله إلاّ اللّه تفلحوا».

2 ) قول الإمام: بشرطها وشروطها وأنا (القيادة السليمة) من شروطها.

وبتركيز هذه الفكرة يضرب القرآن:

أولاً: عبادة الهوى والشهوات {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}.

ثانياً: الخضوع للطواغيت {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}.

ثالثاً: الأنظمة البشرية، فهو يثبت الحاكمية لله وحده {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}.

الخامس: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

ليس معزولاً ولم يتعاقد. والأثر؟! هو التقويم للسلوك الإنساني؛ لأنه لا يمكن إلاّ بالرقيب «كالبوليس وشرطي المرور» عكس اليهود {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ}(1).

السادس: ارتباط (القيّوم) ب- (نزّل)؟!

القانون أمر أساسيّ في حياة الجماعة لكي لا يعيش كلّ فرداً ثانياً..(2)

ص: 302


1- * الحي: أي: (اللّه الحيّ) وهو يفيد الحصر. * انواع القيّوميّة الإلهية: أ / التكوين. ب/ الإبقاء. ج/ الإنماء. د/ الرقابة {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.
2- نزل يفيد التدريج - بقرينة(أنزل): بالحق، مصاحباً له(وبحمده).

ولكن من الذي يضعه؟ إنه الكبير القائم على شؤونهم؛ ضماناً للطاعة والخضوع..(مشكلة القانون البشري عدم وجود كبير يضع القانون).

فما دام القائم على أُمورهم فلا بد أن يضع القانون.

السابع: تصديق القرآن للكتب السماوية كان من أجل استقطاب المنتمين إلى تلك الرّسالات، كما أسلم كثيرون في الزمن الحاضر- لذلك(1).

الثامن: الآية «4-5»(2).

هناك ثلاث حواجز تمنع إنزال العقوبة أو الدفاع ضدّ الطرف الآخر وهي:

1 - الضعف.

2 - شدة الشفقة المفرطة (كالأب والابن المدلّل).

3 - الجهل - سواءً بالجريمة أو بالمرتكبين - .

وفي خلال هاتين الآيتين ينفي القرآن هذه الصفات الثلاثة عن اللّه، فهو:

1 – العزيز: أي: القوي الذي لا يعجزه شيء.

2 - ذو انتقام- وليس كما يتصور البعض أنّه رحمة مطلقة، فهو «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة».

3 - وهو عالم {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}.

إذن، فليحذر الكافرون، وليدهنوا جلودهم استعداداً لذلك اليوم الرهيب،

ص: 303


1- ثم أن حقيقته (كالابتدائية والجامعة فهل تنساها لو انتقلت إليها).
2- (من قبل) لرفع الاستبعاد (قال كذلك اللّه يفعل)، (نزّل) دلالة على صدق النبوة فقال (بالحق) كدعوى، فعرفتم صدقها بالفرقان (أي بالمعجزة).

حيث ينتظر الذين كفروا بآيات اللّه عذاب شديد (الآية الرابعة).

التاسع: (من قبل) في الآية الرابعة إشارة- ولو من بعيد- إلى محدودية الرّسالات السماوية السابقة، عكس الدين الإسلامي الذي هو خالد إلى يوم القيامة.

آية: 6-9:

تأمّلات

الأوّل: بعد أن تناول القرآن موضوع (وحدة المصدر) ووحدة الرسالات التي انبثقت من هذا المصدر الواحد وبيّن- من ثمّ- المصير الرهيب الذي يتهدّد الذين يكفرون بآيات اللّه.

بعد ذلك يتناول القرآن موضوع الإيمان باللّه، حيث يدعو الناس إلى الإيمان والخضوع لله- باعتباره ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.

الثاني: من هنا يبيّن القرآن أن للإنسان جانبين:

جانب يتسامى على إرادته واختياره، وهو جانب الجسد، وما فيه من أجهزة وآلات.

وجانب آخر يقع تحت نفوذ إرادته واختياره، وهو جانب الروح، تلك المنطقة الحرّة التي يستطيع الإنسان أن يتصرّف فيها كما يريد .

وهنا يبيّن لنا القرآن- وفي الآية السادسة وبالذات كلمة {كَيْفَ يَشَاءُ}: إنه مادامت أجسادنا تخضع لله من حيث نريد أو لا نريد، فعلينا أن نُخضِع الجانب الآخر لله- أيضاً.

من هنا يعقّب القرآن على كلمة {كَيْفَ يَشَاءُ} - حيث يبيّن فيها الجانب

ص: 304

الأول - بقوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي: يجب عليكم أن لا تتخذوا إلهاً سواه، ولا معبوداً غيره وذلك لا يتم إلاّ بالخضوع الكامل لمناهج اللّه في الحياة.

الثالث: كما يبيّن القرآن العلاقة الجدلية التي تربط بين (التكوين) و(التشريع).

فالمكوِّن يجب أن يكون هو المشرّع والمشرّع يجب أن يكون مكوّناً، باعتبار أن الصانع للشيء أعرف به؛ لذلك فهو أقدر على وضع القانون له.

ونستطيع أن نفهم ذلك من الربط بين {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} و {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}. فما دام اللّه قد خلقنا وصوّرنا، فإذن هو الأجدر أن يشرّع لحياتنا- عن طريق كتاب يرسله إلينا.

كما أنّ علينا كمخلوقين، أن نستمع إلى تعاليم هذا الخالق، ونطبق قوانينه.

تماماً كما أنّ الذي يصنع جهازاً معيّناً (الراديو مثلاً) هو الأجدر بوضع الدساتير التي تحدّد كيفية الاستفادة من هذا الجهاز، والتي من دون الاستماع إليها لن تستطيع أن تستفيد من الجهاز بالشكل المطلوب، بل قد يتحوّل ذلك إلى وبالٍ عليك، كالاستعمال الخاطئ لأجهزة الكهرباء بعيداً عن إرشادات المخترع لها.

الرابع: في ختام الآية السادسة يأتي القرآن بصفتي (العزيز والحكيم) لله، فلماذا؟

إنّ القرآن- هنا- يتحدّث عن خلق اللّه للإنسان، وتصويره له؛ لذا جاء بهاتين الصفتين، باعتبار أنّ صنع أيّ شيء يحتاج إلى العلم، والقدرة.

فبناء الدار- مثلاً- يحتاج إلى علم، هو فن الهندسة، وإلى قدرة مالية،

ص: 305

وعضلية، والقدرة على امتلاك أدوات الإنشاء، واستئجار مجموعة من العمّال.

من هنا يذكر القرآن صفتي (العزّة)- وهي القوّة والقدرة- (من جانب) كما يذكر(من جانب آخر) صفة: (الحكمة) وهي: العلم(1)باعتبارهما العنصرين الضرورين في أيّة عملية خلق أو بناء(2).

الخامس: في القرآن محكم ومتشابه.. آيات واضحة.. وآيات غامضة تحتمل وجوهاً متعددة، وعلى الفرد أن يُرجع الآيات المتشابهة إلى المحكمة {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}: (أي: مرجعه).

أ/ ففي المجال العقائدي - مثلاً - نرجع آية {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} إلى {لَنْ تَرَانِي} و {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أو آية «62» من سورة البقرة إلى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً}(3).

ص: 306


1- المنجد، مادة (ح. ك. م).
2- أو هكذا: الصنع بحاجة للقدرة وللعلم. ووضع الشيء موضعه (لا يكون الا بالعلم المسبق) الحكمة تغني عن العلم، لانّها مسبوقة به، ولكنه لايغني عنها.
3- ربط(المتشابه) بما سبق: الثغرة التي ينفذ منها في التحديات الفكرية، فبعد أن سدّ القرآن باب البرهان يحاول سد باب المغالطة. المسيحيون استدلوا بأنّ المسيح (روح اللّه)، إذن: هو اللّه(للنبي). * سر وجود المتشابه: 1- دور أهل البيت (وأنهما لن يفترقا). 2- الفرز والامتحان، هنالك امتحانات فكرية وعملية (محكّ هذه الأُمّة الإمام، قرآن ناطق وصامت) 3- اقتصاد البلاغة {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} و {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا} 4- تقريب المطلب للأذهان {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ}. * الفتنة وابتغاء تأويله: أحدهما اجتماعي (الإضلال)، والآخر شخصي، (التبرير).

ب/ وفي المجال العملي نرجع آيات (العسر والحرج) و(التهلكة) و(لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الآيات الأُخرى (آيات الجهاد والعلم).

السادس: في ختام الآية السابعة يجدّد القرآن الموقف الذي يجب علينا اتّباعه من الذين في قلوبهم زيغ؛ وتجاه تفسيراتهم الخاطئة للقرآن.

حيث يقول {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}.

أوّلا: (أُولو الألباب) اللُّبّ يعني . خالص كل شيء، والعقل يسمّى (لُبّاً) باعتباره خالص وعمق الإنسان.

فإذن، أُولو الألباب يعني: أصحاب البصائر النافذة التي ترى العمق، متجازوة ما يطفو على السطح الظاهري.

ثانيا: وإذا أردنا أن نتذكّر(والتذكّر يعني: (التفطُّن) ويعني (التيسير)- وأن نفصّل بين التفسيرات الخاطئة للقرآن، علينا أن نتجاوز القشرية في التفكير لكي ننفذ ببصائرنا إلى العمق.

علينا أن نفهم (روح) الإنسان و(محتواه) وليس (إطاره) فحسب.

فمثلا: يستدلّ لك شخص ما على أنّ العمل غير واجب بدليل آيات الصبر والتوكُّل والتهلكة والحرج.. الخ، لكنّ معرفتك ب- (واقع الدين) و(روحه) تجعلك ترفض هذه التأويلات الخاطئة (وابتغاء تأويله).

ولكنّ السؤال: كيف لنا أن نفهم روح الدين؟!

ذلك ما تجيب عليه النقطة السابقة- الآية الخامسة - وملخَّصها: إنّ علينا أن نرجع إلى تلك الآيات الواضحة (المحكمة) من القرآن فنفهم منها جوهر الدين، ثم نرجع هذه الآيات التي أُسيء تفسيرها (ابتغاء الفتنة وابتغاء

ص: 307

تأويله) إلى تلك الآيات المحكمة(1).

السابع: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ...} تفسّر على صورتين:

الأُولى: اعتبار (الواو) عاطفة. ويقولون: جملة مستأنفة، وهنا يشترك الراسخون في العلم في فهم واقع الآيات المتشابهة.

الثانية: اعتبار (الواو) استئنافية، و{يَقُولُونَ}: خبراً ل{الرَّاسِخُونَ}.

والتفسير الأوّل أقرب إلى الواقع الخارجي.

والتفسير الثاني أقرب إلى سياق الآيات(2).

الثامن: وإذا سلّمنا بالتفسير الثاني فإنّنا سنحصل على حقيقة، وهي حقيقة التسليم المطلق الذي يجب أن يتمتّع به المؤمن تجاه آيات اللّه وأحكامه.

ص: 308


1- معنى التأويل: المآل وتفسير المشكل.
2- والظاهر إنه عطف لأنه: 1- ما فائدته؟ 2- قبحٌ أنْ نجهلَ، ونرجِعَ للإمام، ثمّ للرسول ثم يقول: لا أعلم! 3- لم نجد طول التاريخ عالماً توقّف. * كلٌّ من عند ربّنا: ثلاث طوائف: العامّة_ يأخذون بالظاهر. المُغرضون_ يؤوّلون. الراسخون_ لا يظهر لهم إلاّ بعد التأمّل، ولكنّهم يستسلمون. الجاهلون_ يرفضونه بسرعة.

وقبل أن نفسر هذه الحقيقة لا بد أن نبيّن (العلاقة بين العقل والدين).

والواقع: إنّ العقل له مرحلتان:

أ/ مرحلة (ما قبل الإيمان) وهنا يكون دور العقل كمرشد للدين، وكطريق إليه.

ب/ مرحلة (ما بعد الإيمان) وهنا ينبغي أن يكون العقل خاضعاً للدين، ومستسلماً إليه، فحتى لو لم يفهم العقل شيئاً من أُمور الدين وفلسفتها فإنّ عليه التسليم(1).

من هنا نجد القرآن يقول عن لسان الراسخين في العلم: {ءَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فحتى لو كانت هذه الآيات غامضة وفوق العقل، فإنّنا نؤمن بها وبصدورها من قبل اللّه.

عكس المنافقين الذين كانوا يقولون عن الآيات المتشابهة: إنّها ليست

ص: 309


1- لا يعني هذا الكلام أن هناك تناقضاً بين الدين والعقل، بل هنالك ثلاثة أُمور: 1- ما يؤيده العقل، وطبعاً يجب على الإنسان أن يؤمن به.. وكثير من قضايا الدين من هذا النوع. 2- ما يناقضه العقل، مثل: (التناقض) أو (اجتماع الضدين). أو ما أشبه، ولا يوجد هذا في الدين إطلاقاً. 3- ما هو فوق العقل، وهو تلك الأُمور التي لا يناقضها العقل، ولكنّه أيضاً لم يتوصّل إلى فهم حقيقتها، أو إلى فهم فلسفتها. وهذا ما يوجد في بعض قضايا الدين. فالأوّل مثل حقيقة اللّه الخالق. والثالث مثل فلسفة بعض التشريعات الدينية التي لم تتوصّل إليها عقولنا حتى الآن .

من قبل اللّه!!(1).

التاسع: العلم يدعو للإيمان، هذه هي الحقيقة، من هنا فإنّ العالم الذي يرفض الإيمان إنّما هو عالم سطحي، أو عالم مزيّف. ومن هنا يقول القرآن: {وَالرَّاسِخُونَ

فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.

العاشر: من خلال الدعاء «ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا» يبيّن القرآن ضرورة الاستمرارية للإنسان، رغم كل المصاعب والعقبات، حيث يدعو الفرد المؤمن أن لا يصبح مثل أُولئك الذين عاشوا الإيمان ثم انحرفوا.

* أمّا كيف يحدث (الزيغ)- الانحراف - ؟!

فإن من أهم أسبابه:

1: الذنوب الصغيرة التي يمارسها الفرد، والتي تقوده بشكل طبيعي إلى الذنوب الكبيرة، وبالتالي: الانحراف.

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}.

{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}.

ص: 310


1- بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث الواردة عن أهل البيت كانت غامضة لفترة طويلة من الزمن، بل كانت تناقض المعارف التي كانت تسود ذلك اليوم، ولكنّ تقدّم العلم كشف عن بعض الحقائق التي استطعنا- نحن- من خلالها أن نتوصّل إلى فهم تلك الروايات، ونجد أنّ العلماء الكبار- من أمثال العلامة المجلسي- الذين عاشوا في عصور غابرة استعصى عليهم فهم بعض الأخبار، بل كانت بعض تلك الأخبار تناقض معارفهم، ومع ذلك لم يرفضوها، بل قالوا «نردُّ علمها إلى أهلها» والآن كشف العلم كثيراً من أسرار تلك الأخبار. ثم: العقل إمّا عاطفة أو عقل حقيقي.

2: والسبب الآخر: عدم البناء الذاتي(1).

الآية: 10- 17:

تأمّلات

الأوّل: (لن تغني) يريد نسف تصوّر خاطئ، وبيان أنّ القيم التي تسيّر الدنيا لا تسيّر الآخرة(2).

ففي الواقع الخارجي:

أ/ المال (حلاّل للمشاكل) (الرشوة) - .

ب/ العلاقات التي تربط الإنسان بأفراد المجتمع. وإنّما عبّر بالأولاد لأنّهم

ص: 311


1- (رحمة) بعد (تزغ) سلب وإيجاب. * ربنا إنّك جامع: ضمانة لاستمرار الإيمان.
2- * الربط بما سبق: للكفر أساسان: مشكلة فكرية، ونفسية، والأهم الثاني عند الأكثر. فبعد ضرب الأساس الفكري- يضرب الأساس النفسي. * كمال العذاب أنه لا ينتفع بما تحت يده- ثم يجتمع عليه العذاب المؤلم. * تقديم المال على الولد عكس بعد آيتين. لأنه الآن في مجال النفع، وهناك في مجال الحث. وقوله: {لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} مؤيّد. في مجال النفع: المال أكثر عملاً. في مجال الحبّ: الإنسان يفدي ماله لأولاده. * وقود النار لماذا أو ماذا فائدة إيراده: 1- العذاب نابع منهم(تجسّم العمل). 2- مرعب ومخيف- كانفجار قنبلة من داخل أو خارج. 3- لا ينتهي لأنّهم خالدون.

الأقرب.

أما يوم القيامة فتنعكس المعادلات {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ}.

فهي لا تفيد - حتى بالقدر البسيط - شيئاً.

الثاني: العلاقة بين الإيمان والاستقامة «الإيمان ملجم» «المؤمن لا يغدر» بينما هم (كذّبوا) فأذنبوا فأخذهم بذنوبهم وإلاّ: فلماذا جاء ب- (كذّبوا) قبل ذلك، بل كان يقول: أخذهم بذنوبهم.

والذنب الذي أُهلكوا به كان (ذنباً اجتماعياً) الذي لا نهتّم نحن به في الوقت الحاضر.

الثالث: للكفار نتيجتان: الدنيا والآخرة. الآية «12»(1).

ص: 312


1- لادنيا ولا آخرة- فلِمَ الكفر.(الآية 13). 1- العبرة بالنهاية والجولة الأخيرة(مثل «اُحد». 2- القضية طبيعية لا حتمية(مثل الثواب المذكور في الروايات) ولذا قال: (بشرطها وشروطها). * استعمل (السين) (ستغلبون): استعمل ولم يستعمل (سوف)؛ للسرعة «قد أُجيبت دعوتكما» وإن بدا لنا طويلاً {يَرَوْنَهُ بَعِيدًا}. * الحشر هو الإخراج بازعاج {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ}. * (مهاد) هو الذي مهدّتموه لأنفسكم- مرّة الجزاء من خارج، ومرّة من داخل(كمن زرع شوكاً). * يرونهم: احتمالان 1- إمّا بيان ضعف المسلمين(بقتلهم) 2- أو بيان كيفية تأييد الإله سبحانه للمسلمين. فعلى الأوّل (يرونهم) أي: يرى الكفّار يرى المسلمين وعلى الثاني، أي: يرى الكفارَ المسلمون. * (يؤيد بنصره) أي: يرفعهم، والباء للسببية. * أبصار: رؤية كما يرى الإنسان الجوانب بعينه. * زيّن (الجانب الإيجابي من القضية (ترهيب وترغيب). أي: حلّ مشكلة الكفر وأسبابها. كقولك للتلميذ: من لا يدرس يفشل- ثم حلّ مشكلته. سر تقديم الترهيب على الترغيب والحل، لأنّه أكثر تأثيراً. * ملاحظات في الشهوات: 1- عامّة(للناس) جميعاً (أُفقياً) ودائماً(عمودياً). 2- طامعة وغير محدودة. 3- عنيفة(بدليل المبالغة (شهوات) لا مشتهيات). 4- قوة خارجية(مثل دُفع الناس واندفعَ الناس) وهذا يدلّ على أنها غير داخلة في ذاتياتهم إمّا شهوة أو شيطان. الشهوات هي: 1- النساء (الجنس) أقوى الشهوات. - 2- البنين (الامتداد). 3- القناطير- يُصوّرُ نَهَمَ الإنسان (الشهوة المالية). 4- الخيل(رمز القوة). - 5- والأنعام والحرث: الاقتناء. فإذن، الشهوات: 1- الجنس 2- الامتداد 3- المال 4- القوة 5- الاقتناء. سر هذا التسلسل: 1- جنس 2- يريد الأولاد 3- يحتاج للمال 4- المال يولّد القدرة. 5-بعد القدرة يريد الإنسان الاقتناء. متاع: يتمتّع به في حياة سافلة- كلعب الأطفال (منحطة المستوى الفكري)، والأولياء ينظرون لنا كنظرنا للأطفال. حسن المآب: والعيش في المستقبل (كالطالب والامتحانات). ميزات الآخرة: 1- الخلود 2- النوعية 3- المعنويات (الرضوان).

ص: 313

الرابع: آخر آية «11» للدلالة على أنّ أخذه ليس عادياً.

الخامس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} يريد نسف (معادلات الضعف والقوة العسكرية) وهذا يعطي الأمل - خصوصاً إذا لاحظنا ميزة الفئة المؤمنة - وهو: أنّها ترتبط باللّه؛ ولذا صمود المؤمنين عادة أكثر.

السادس: موقف الإسلام تجاه الشهوات: لا الكبت، ولا الإطلاق، بل التنظيم تماماً مثل السيل، فهو يقف موقفاً وسطاً بين الرهبنة والصوفية، وبين التحرُّر والانطلاق.

السابع: تصنيف الشهوات:

1 - شهوة الجنس (من النساء).

2 - شهوة الخلود والامتداد والبنين، والذي يعرف ذلك العقيم.

3 - شهوة الاقتناء - سواء كان في شكل سيولة نقدية (والقناطير) - أو على شكل أنعام وزروع.

وهذه هي أقصى أماني كلّ فرد عادي في المجتمع.

الثامن: يريد القرآن منا أن نعيش الحاضر، بل المستقبل.(والنجاح متوقّف عليه) فذات العلاقة التي تحكم الحاضر والمستقبل، تربط الدنيا بالآخرة.

التاسع: ويبيّن أن للآخرة ميزتين: كمّي وكيفي.

العاشر: نفس الصفات التي يحتاجها النجاح في المستقبل لفلاّح في الحقل، نفسها يحتاج إليها الفلاح الأُخروي(الدنيا مزرعة الآخرة) وهي:

أ/ الاستمرارية (الصبر).

ب/ الصدق والعزم الأكيد والإرادة الصادقة (والصادقين).

ص: 314

ج/ الخضوع للقوانين الطبيعية (في زراعة الدنيا) باعتباره شعوراً بالتقصير في الحاضر: تطلُّعاً نحو مستقبل أرحب في المستقبل.

* السياق العام للآيات:

بعد ذكر موقف المؤمنين في يوم القيامة، والذي يتّسم بالرجاء والأمل. يذكر موقف أو المصير الرهيب الذي يتهدّد الكافرين في هذا اليوم.

ثم يبيّن أن ذلك ليس مقتصراً على الآخرة، بل هو قاسم مشترك بينها وبين الدينا. ثم يستعرض الموقف السليم الذي يجب أن يتّخذه المؤمن تجاه يوم القيامة من خلال تعامله مع الشهوات.

الآية: 18- 22:

تأمّلات

الأوّل: {وَأُولُوا الْعِلْمِ}: العلم يقودنا للإيمان (العلم يدعو إلى الإيمان)، من هنا نجد الإسلام يحرّض عليه لأنه حق، والعلم يقود إلى الحق.

والذين لا يؤمنون لا يأتي ذلك لسبب عقلي، بل من مشكلة نفسية.

الثاني: (إن الدين عند اللّه الإسلام): ليس الشهادتان فحسب، بل التسليم المطلق لله!.. ولذلك تفسّر كون الأنبياء السابقين مسلمين، وكذلك اللغة، فسواء وافق فكرك أو خالفه، أو وافق هواك أو خالفه، فيجب عليك التسليم.

الثالث: جزاء الكفر سريع {سَرِيعُ الْحِسَابِ} فمن لا يتّبع الإسلام يصاب بانتكاسة.

الرابع: علينا البلاغ لا استثمار النتيجة {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ}.

الخامس: مصير أعداء الحريّة:

ص: 315

أ- حبط العمل في الآخرة.

ب- وفي الدنيا - سواء الحضارية والدينية - وهذا يجعلنا أو ينبّهنا إلى أنّ أعمالهم يجب أن لا تخدعنا.

ج- ليس لهم ناصر بل الكلُّ ضدَّهم.

السادس: آية «19» تبيّن: الوحدة، وأنّ كلّ رسالات السماء واحدة محتوى وهدفاً، وهنا يقفز سؤال هو: إذن، لماذا الاختلاف؟ الجواب: البغي، أي: التعدّي {فَإِنْ

بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى}. أغلب الخلافات الآن من منطلق شخصي.

السابع: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، لأنّ القرآن في مجال التحدُّث عن العدل أتى بهاتين الصفتين؛ لأنّ الظلم إمّا من الضعف والخوف، أو الجهل: إمّا الجهل بالمجرم، أو بالصالح والضارّ.

الثامن: التسلسل في الآية (21) إنّه يكفر بالرسالة أوّلاً، ثم يقتل حاملها، ثم يقتل أتباعه. أو أنّ هدف الآية بيان عظم قتل المصلحين، أو أنّ القتل هو الرضا بالقتل مثل: {فَعَقَرُوهَا} ومثل: (آيات سورة البقرة الموجهة لليهود).

الآيات: 23- 30:

تأمّلات

الأوّل: أ- يريد ضرب (دين المصالح) فالدين قسمان: أُمور سهلة، وصعبة، (أهل الكتاب وعدم تحكيم كتابهم في الحدود).

ب- ثم يبين القرآن السبب.

ج- ثم يرد بفكرة (العلاقة بين الكسب والجزاء) آية(25).

ص: 316

د- ثم ينتقل للأمل.

ه- ويقول القرآن: إنّ اللّه هو المالك لذلك، ومن الطبيعي أن يكون بيده(سلطة توزيع) هذا الملك على من يشاء(مثل من يملك مالاً).

و- ثم إنّ ذلك ليس عبثاً وفوضى، بل بحكمة ونظام {بِيَدِكَ

الْخَيْرُ}.

ز- ثم يؤكّد سيطرته على مقاليد الحياة (الملك- العزّة) بامتلاكه لمقاليد الكون {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}.

ح- ثم تأتي قضية (العلاقة مع أهل الكتاب)، وموقعها من السياق: إنّكم عندكم هذا الإله القادر، فما بالكم بالاعتماد والموالاة للكفّار!!.

ط- ويستثني القرآن من ذلك التقيّة.

ي- ثمّ يُحذّرنا من نفسه ويبيّن أنه:

أوّلاً: إليه المصير(خلاف ما في إجرام البعض حيث (اللجوء السياسي).

ثانياً: عالم لا تخفى عليه خافية.

ثالثاً: قادر على كل شيء.

الثاني: التقية ماذا تعني؟!

للتقية مجالان:

1- المجال الفكري والآيديولوجي.

2- المجال العملي: ويعني الكتمان؛ وذلك يستلزم وجود عمل: (التقية درع المؤمن).

الثالث: ولكن: ممّن تكون التقية؟

1- سلطان جائر تسعى للقضاء عليه.

ص: 317

2- مجتمع تحاول تغييره.

الرابع: ما هي مواصفات الفرد المُتَّقي؟!

1- العمل المضاعف، باعتباره يعيش حياتين.

وهذا يستلزم التضحية.

2- الإخلاص الكامل، وعدم محاولة استعراض العضلات العملية.

3- الصبر والنفس الطويل .

4- عدم التطرف.

الآيات: 31- 34:

تأمّلات

الأوّل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الذي يحبّ جهة أو شخصاً، فلابدّ أن يخضع لمن يمثّلها، وأنت تحبّ الأئمّة فلابدّ أن تخضع لمن يجسّد مبادئهم، وإلاّ فعدم الطاعة= عدم الحبّ، تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه!!.

الثاني: {وَيَغْفِرْ}.

يعتبر الناس الشفاعة بديلاً عن العمل، ولكنّها في الواقع (تكميل) والدليل:

أ/ من وجهة نظر لغوية(كلمة (شفع) تعني المساعدة).

ب/ من وجهة نظر قرآنية، حيث إنه يعتمد على العمل ؟.

ج/ من وجهة نظر عقلية.

د/ من وجهة نظر خارجية(كابن وأبيه، تارة يخطئ وأُخرى يتمرّد.

وهذه الآية تبيّن أنّ مغفرة الذنوب إنّما لو كان الفرد في الخط العام-

ص: 318

فاتّبعوني.

الثالث: الغفران نتيجة الحبّ، كما أنّك لو أحببت ابنك تغفر له.

الرابع: (الكافرين) إمّا أ/ باعتبار المآل {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ...}.

ب/ أو أنّ عدم الإطاعة نفسها كفر.

الخامس: الآيتان (31- 32) الأُولى تبيّن الجانب الإيجابي ومعطياته. والأُخرى: تبيّن الجانب السلبي ومضاعفاته، فهما وجهان لعملة واحدة. وعادة يجب أن يكون ذلك للمبلّغ.

السادس: علاقة الاصطفاء بما سبقها:

أ/ أمّا إثبات قضية الطاعة، وإذهاب استغرابهم باصطفاء الرسول؟

ب/ أو مثل استعراضه يوم القيامة، ثم خلقَ السموات، ثم يوم القيامة، فيبيّن جدارتهم بالطاعة عندما يبيّن ما جرى لهم.

السابع: (سميع عليم) صحيح أنهم كانوا ذريّة.. ولكنّ اللّه اختارهم بدقّة وعلم، مثل قولك: (اشتريت كذا، وأنا الخبير).

فليس النسب وحده مبرِّراً.

الآيات: 35- 41:

تأمّلات

الأوّل: يجب أن نجعل كلَّ شيء في خدمة اللّه. المحور يجب أن يكون اللّه. المرأة الحامل ماذا تفكّر عادة؟ في الملبس، وتذهب للسوق لتشتري لها الملابس.

عكس امرأة عمران، هذه هي نساؤهم، فكيف برجالهم؟

ص: 319

الثاني: وليس الذكر كالأنثى، يبيّن دورهما، وإن هناك مجالات مقفلة لايمكن للمرأة أن تقتحمها؛ لاختلافهما.

الثالث: على أنّ ذلك لايعني العنصرية، أو الاستهانة بالمرأة {وَاللَّهُ

أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (قول المفسّرين) قالت: إنّها أنثى، أُنثى ولا يمكن أن يكون لها دور، فبيّن أنها يمكن أن تفعل شيئاً فلا يعني أُنوثتها أنها لا تصل لشيء.

الرابع: انعكاس الاسم {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} أي المرتفعة وهنا يصنع الطموح.

الخامس: {فِي الْمِحْرَابِ} طلب عند المحراب الولد، وجاءته البشارة فيه (عنصر التشابه).

السادس: {مُصَدِّقًا} { وَسَيِّدًا}.

أ- مصدّقاً بعيسى.

ب- وليس تابعاً ضعيفاً (تحت الشعاع) بل (سيداً).

ج- عادة يشغل السادة والوجهاء منصبهم لإشباع غرائزهم، لكنّه {وَحَصُورًا}.

د- ثم يبلغ أعلى مراتب الكمال الإنساني {وَنَبِيًّا}.

السابع: آية (40) لها جانبان:

أ/ إن قدرة الإله تتحدّى كلّ القوانين الطبيعية باعتباره هو الخالق لها، فبإمكانه تغييرها.

ب/ إنّ على الإنسان أن لا ييأس مهما كانت الظروف حالكة، وهذا كما يجري في ولادة فرد، يجري كذلك في ولادة أُمّة.

الثامن: موقع كلمة (كذلك) وإشارتها إلى الاستمرارية، وأنه ليس شيئا

ص: 320

جديداً حتى تتعجّب منه، كما يقول شخص قام بعمل غريب: (كذلك أنا).

التاسع: الذكر قلباً والتسبيح انعكاساً ومظاهر.

العاشر: عنصر(التوقيت):

أ/ العشي: ظلام ورهبة وإيحاء.

ب/ الإبكاء: لكي يتذكّر الإنسان اللّه فلا يحيد عن خطّه أبداً.

وهذا يشعر أن البداية يجب أن تكون اللّه، كما النهاية.

الآية: 42- 51:

تأمّلات

الأوّل: ثلاث مراحل:

أ/ الاصطفاء الابتدائي.

ب/ التهيئة.

ج/ الاصطفاء النهائي.

الثاني: الشكر العملي لاصطفاء اللّه «43».

الثالث: البعد الاجتماعي للعمل الديني (مع الراكعين).

الرابع: (عيسى ابن مريم) بيان للجانب البشري، ونسف الجانب الإلهي الآية (45).

الخامس: آية (47) لها جانبان:

أ/ إنّ قدرة اللّه تتحدّى كل القوانين الطبيعية.

ب/ إن على الإنسان أن لا ييأس.

وهذا كما في ولادة فرد، كذلك في ولادة أُمّة.

ص: 321

السادس: الآية (47) قال هنا: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} وقال في الآية (40) {يَفْعَلُ}؛ لأنه هنالك كانت عوامل طبيعية لكن كان مانع(زوج وزوجة وعلاقات طبيعية لكن مع العقم.

أمّا هنا (47)، فليس هناك مقتض كامل للولادة لذلك فهذا (خلق). وكلمة (كذلك) هنا تفيد الدأب والاستمرار والعادة وأنه ليس (بدعاً)!

السابع: انسجام المعجزة مع مستوى الناس (الطب لعيسى (عليه السلام) والبيان لمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) (49).

الثامن: كل دعوة لدين يجب فيه:

أ/ ألا تنسف الطرف المقابل الصحيح {وَمُصَدِّقًا...}.

ب/ أن يتبيّن بعض وجوه المفاضلة.

التاسع: قدّمت في الآية (50) التقوى على الطاعة لأن الثانية فرع الأُولى، فالإيمان أرضية العمل.

العاشر: لأنّ اللّه هو (الربّ) لذلك (فاعبدوه) فالإنسانُ يخضع لمن ربّاه (51).

الحادي عشر: القنوت= الخضوع. السجود= السلوك. الركوع= البعد الاجتماعي (42).

الآية: 52- 57:

تأمّلات

الأوّل: ربط المحتويات الاجتماعية للدين بالقرآن، وهي أهمُّ المحتويات الحضارية في الإسلام.

ص: 322

فالدين جاء:

أ- لإنقاذ المظلومين من الظالمين.

ب- وإنقاذ الظالمين من الظالمين(الرأسماليون الكبار يبتلعون الصغار).

ج- وإنقاذ الظالمين من أنفسهم(الخمر والقمار).

فعدم الاتبِّاع يساوي العذاب. فلو بيّن أهمية القيم الدينية في المجتمع ثم بيّن أن تركها يسبب العذاب، فلا يعود مفهوماً غيبياً، بل أمراً واقعياً يلمسه.

فمادام الجذر خراباً لن تنفع الإصلاحات الفوقية.

الثاني: الحواريون، كان لكل نبي حواريون.. ل- .

أ/ كونهم اليد التي يعتمد عليها في إنجاز المهمات.

ب/ كونهم الامتداد.

الثالث: يبدو أنه بنى الحواريين قبل الدعوة العامّة، وإلاّ فلا يمكن بناؤهم بين ليل ونهار حتى يقبلوا بمجرد رفض المجتمع.

الرابع يبدو أنه قام بعملية فرز وامتحان صعب للأفراد، كان هنالك طريق يريد أن يسلكه (إلى اللّه) لذا استجاب الحواريون دون غيرهم رغم أنه كان هنالك مؤمنون آخرون (غير حواريين) لا أنه صعد فوق الجبل ونادى: (من أنصاري؟)، بل وضعهم أمام أنفسهم، وأمام الاختبار الصعب.

الخامس: هنالك ربٌّ وفكرة، والحواريون:

أ/ آمنوا قلباً.

ب/ واستلموا عملاً- كانعكاس -.

ج/ آمنوا بالفكرة.

ص: 323

د/ واتّبعوا حاملها.

وهذا يشعرنا أنه لا يكفي الإيمان بفكرة، بل يجب وجود قيادة أيضاً.

السادس: طموحهم: أن يكونوا من الشاهدين على عصرهم (بدليل سائر استخدامات هذه الكلمة في القرآن) وهذا يستلزم:

أ/ النزول للمجتمع- أي: عدم الغيبة عن العصر- .

ب/ القيام بدور إيجابي.

السابع: بعد أن ذكر موقف المؤمنين ذكر موقف الكافرين وأنّهم خطّطوا، لكنّ اللّه يمكر أيضاً.

الثامن: معنى (خير الماكرين) إمّا أفضل المخطّطين، أو أخيرهم، اللّه ينصر الإنسان المؤمن كثيراً فليس مختصاً بعيسى.

التاسع: (لا يحب الظالمين) بيان للعلّة.. فإذا كانَ لا يُحِبُّ الظالم فكيف يظلم؟!

الآية: 58- 63:

تأمّلات

الأوّل: موقفنا تجاه التاريخ:

أ/ القراءة (الآيات= الإشارات).

ب/ الاعتبار (الذكر= التذكّر).

ج/ العمل (الحكيم).

الثاني: (59) ذلك يضرب القاعدة التي اعتمد عليها المسيحيون في أُلوهيّة عيسى.

ص: 324

الثالث: بعد انتهاء دور (الحوار الكلامي) جاء دور (الحجّة العملية أو الخارجية) حيث نحتكم فيها إلى الواقع الخارجي.

الرابع: (62) بعد أن لم يقتنع الطرف الآخر، فربما يصاب المؤمن بانتكاسة روحية، فيريد أن يركّز المبادئ والمنطلقات والأفكار.

الخامس: (بالمفسدين) إما المآل، أو أنّ التولّي بذاته إفساد!

الآية: 64- 68:

تأمّلات

الأوّل: موقع الآيات:

بعد أن ولّد جوّاً من الشك والارتباك فيهم(من خلال المباهلة) يدعوهم للدين الجديد، إلاّ أنّ هنا شبهاً فيضربها.

الثاني: التأكيد على التوحيد ثلاث مرّات.

الثالث: عدو التوحيد:

أ/ الجبت.

ب/ الطاغوت.

فهنا يضرب الشيء، ويضرب الشخص!

الرابع: لماذا أقدم (الشيء) على(الشخص)؟ لأن الثاني نتيجة للأوّل.

الخامس: كيف اتّخذوا أرباباً؟ هل حكام؟ كلاّ! بل رجال الدين(ونفهم ذلك من خلال طبيعة مرحلة مواجهتهم للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) بدليل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ...}.

السادس: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} تضع يدنا على مدلولها الحقيقي للإسلام

ص: 325

(بالمفهوم لا المنطوق) الذي هو (التوحيد) فمن لا يوحّد ليس مسلماً.

السابع: ربط {فَإِنْ تَوَلَّوْا} بما بعده؟!: على الأغلب أنهم سيتولون؛ لذا ناقش الجانب السلبي (التولّي) وأخذ ينسف المبرّرات التي يعتمدون عليها في هذا التولّي.

الثامن: آية (65):

أ/ المؤيّدات التاريخية تعطي صفة شرعية للدين، باعتبارهم(الورثة) والامتداد التاريخي.

ب/ سرقة الشخصيات التاريخية.

ج/ فوّت القرآن عليهم الخطة، وسحب البساط من تحت أقدامهم.

التاسع: آية(65- 66): العقل مقدّم على العلم، وإلاّ فلا يمكن النجاح.

العاشر: (67) الحنيف: أي: الرافض.

الحادي عشر: (67) يبيّن الجانب الإيجابي(مُسلِماً) والسلبي(حنيفاً) أي: (لا إله)= حنيفاً، و(إلا اللّه)= مسلماً!

الثاني عشر: (وما كان من المشركين) نغزة على اليهود والنصارى.

الآيات: 69- 74:

تأمّلات

الأوّل: موقع الآيات:

بعد فشل الحوار- جاء دور العمليات التخريبية، فهم قد بدأوا الحوار (وفد النصارى والرسول).

الثاني: (طائفة) وجذورها التاريخية؛ إذ عادة ما يكون المضلّون مجموعة.

ص: 326

الثالث: (طائفة) أي: قسم منهم لا كلّهم، ففيهم سذّج وخبثاء. إذن:

أ/ خطأ (النظرة الكاسحة).

ب/ وهذا يحجّم الصراع.

الرابع: التضليل الذاتي: إنّ استمرار الإنسان في عمل معيّن يؤدّي بالتالي إلى تكوين قناعات حول ذلك الموضوع، حتى لو لم يكن مقتنعاً في بداية العمل.

لماذ؟

للتعوّد، وموت الضمير، ويصبح جزءاً من كيانه. وهذا يحدث من غير شعور (وما يشعرون).

الخامس: الآية (70- 71) تبيّن موقفين لهم: موقف مع أنفسهم (الحجد) وموقف مع الآخرين (التضليل) ثم ينسف كلا الموقفين باعتبار أنهم يرون آيات اللّه فلا داعي للكفر، وأنّهم يعلمون الحقائق فلا مبرّر لتلبيسها.

السادس: قُدّمت (الشهادة) على(العلم) لأنها أولى منه، فالعلم قد يكون خاطئاً، بينما المشاهدة صحيحة(المنهج التجريبي).

السابع: أهل الباطل يقومون بعمليتين:

أوّلاً: لبس الحق بالباطل، فقد يأتي بأدلّة صحيحة لا تدلّ، أو أدلّة باطلة تدلّ.

ثانياً: يكتم الحق ويخفيه.

الثامن: {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} قد تكون عملية (تسلل)، يؤيّده (وجه) أي: وضوح (آخرهَ) أي: ظلام؟

ص: 327

أي: التلبُّس بلباس الفكرة المضادة لضربها، بل كانت مؤامرة شرّيرة هدفها أن تهتز ثقة المسلمين بدينهم حيث يدخلون ويخرجون، كما يستفاد من {...لَعَلَّهُمْ

يَرْجِعُونَ}.

التاسع: يضرب في الآيات الأخيرة: عنصرية أهل الكتاب الذي انعكس في مجالين: العقائدي والسلوكي.

فالعقائدي (أن يؤتى أحد) تصوُّر أنهم أفضل من غيرهم، والسلوكي (ليس علينا في الأميين).

العاشر: ويردّ القرآن، فيذكر هذه الحقائق.

أوّلاً: الاختيار والتزكية بيد اللّه لا بيدكم.

ثانياً: ولأنه بيده، لذلك يؤتيه من يشاء كانعكاس لذلك. فالمالك هو الذي يتعرف.

ثالثاً: إنه واسع- وليس رحمته أو عطاؤه ضيقاً أو محدوداً.

رابعاً: ولكن مع ذلك فهو دقيق، وبموضعه.

الآيات: 75- 78:

تأمُّلات

الأوّل: يبيّن(الأمانة)، وأنها تكون أمانة الإله وأمانة الناس.

الثاني: ثم يبيّن أنّ قسماً منهم خانوا أمانة الناس؟ وخانوا أمانة اللّه بشكلين: المصلحية- والتزييف.

أوّلاً: الاستهانة بمواثيق اللّه قبال ثمن بسيط (المصلحية).

ثانياً: تزييف المبادئ والقيم.

ص: 328

الثالث: قدم التعامل المصلحي مع الدين على التزييفي؛ لأن الثاني نابع من الأوّل، حيث يكون محور الإنسان ذاته.

الرابع: {فِي الآخِرَةِ} لأنه لهم خلاق في الدنيا؛ إذ هو يحصل على مكاسب.

الخامس: التسلسل في العقاب (77) حيث إنّ كلّ واحد مرتَّب على الآخر الذي بعده لماذا لهم العذاب الأليم؟ لأنه لم يزكّهم، وهكذا.

السادس: (78) الأغلب أنّهم رجال الدين المزيّفون.

الآيات: 79- 83:

تأمّلات

الأوّل: عندما يصل الإنسان لموقع حسّاس يغيّر ويكفر، لكنّ الأنبياء رغم وصولهم لهذا المنصب، حيث امتلكوا:

أ/ اللوائح القانونية.

ب/ السلطة الزمنية.

ج/ السلطة الروحية.

رغم كلّ ذلك فلا يمكن أن يدّعوا هذا الادّعاء!

الثاني: ولكن: لماذا؟

أ/ لأنّ هذا المنصب هو من عند اللّه، فلا يمكن أن يتمرّدوا على من أحسن إليهم.

ب/ ولأن الذي أعطاهم إياه هو اللّه، واختياره لا يكون إلاّ للشخص

ص: 329

المتّقي.

3- كلمة (كنتم) باعتبار أنّ المراحل الأُولى لدراسة الإنسان هي أصفى وأخلص مراحله.

الرابع: الآية (80) النبي لا يوجّهكم للأصنام الاجتماعية، والآية (79) النبي لا يوجّهكم لذاته.

الخامس: يوجّه القرآن في آية (83) الناس للإيمان بأُسلوبين:

أ/ إنّ كل ما في الكون أسلم لله تكويناً حتى جسدك، فعليك أن تسلم له تشريعاً.

ب/ إنّ المرجع إلى اللّه، فعليك أن تطيعه.

ص: 330

فهرس المحتويات

الآيتان (11-12)... 5

المفردات... 5

الإعراب... 5

التفسير... 6

الصفة الأولى: الإفساد في الأرض... 6

تموجَّات الإفساد... 9

معنى آخر ل- (الإفساد)... 9

الصفة الثانية: التبجُّحات الفارغة... 10

الصفة الثالثة: اختلاط المقاييس... 12

نماذج تاريخية... 14

الآية (13)... 23

المفردات... 23

الإعراب... 23

التفسير... 23

رؤية متميّزة... 24

كيف ينظرون إلى المؤمنين؟... 27

تذنيب... 30

روايات في المقام... 31

الآيتان (14-15)... 32

المفردات... 32

ص: 331

الإعراب... 33

النزول... 33

التفسير... 34

1 - للمنافقين أكثر من وجه وأكثر من لسان... 34

2 - وجود عناصر ماكرة تحرّكهم من وراء السِّتار... 36

مَنْ هم (الشياطين)؟... 37

3 - المنافقون يستهزئون بالمؤمنين... 38

عقوبتان... 39

سلاح (الاستهزاء)... 45

روايات في المقام... 50

الآية (16)... 51

المفردات... 51

الإعراب... 51

التفسير... 51

ولكن ما هي النتيجة؟... 54

أقوال أُخَر... 55

رواية في المقام... 56

الآيات (17-20)... 57

المفردات... 57

الإعراب... 59

النزول... 60

التفسير... 62

المثال الأوّل: العمى بعد المعرفة... 62

أقوال أُُخر... 64

المثال الثاني: الخسارة بدل الربح... 66

ص: 332

وجوه أُخَر... 69

فوائد... 74

الأمثال في القرآن الكريم... 75

أركان المثال... 77

تذييل... 78

روايات في المقام... 80

الآيتان (21-22)... 83

المفردات... 83

الإعراب... 84

التفسير... 85

الطريق إلى اللَّه... 87

أثر العبادة... 90

احتمالات أُخر... 90

نِعَمٌ أُخر... 91

1 - المسكن المناسب... 92

2 - نعمة الأمن... 93

3 - الماء... 93

4 - الرزق... 94

لا للأنداد... 95

فائدتان... 96

ما هي التقوى؟... 97

توضيح ذلك... 97

برهانان... 99

السماء بناءًّ... 104

أنواع من الشرك... 107

ص: 333

1 - الشرك في الذات... 107

2 - الشرك في الصفات... 107

3 - الشرك في الأفعال... 107

4 - الشرك في المحبة... 108

5 - الشرك في الطاعة... 109

6 - الشرك في العبادة... 109

7 - الشرك الأصغر... 110

لماذا عبدوا الأصنام؟... 110

روايات في المقام... 113

أ - في خلق الإنسان... 116

كيفية ولادة الجنين وغذاؤه وطلوع أسنانه وبلوغه... 116

حال من ينبت في وجهه الشعر وعلة ذلك... 117

ب - زعم الطبيعيين وجوابه... 118

ج- - هيئة الأرض... 119

د - الصحو والمطر... 121

ه- - مصالح نزول المطر... 122

و - النبات... 123

الريع في النبات وسببه... 124

بعض النباتات وكيف تصان... 125

الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات... 126

خلق الورق ووصفه... 126

العجم والنوى والعلّة في خلقه... 127

موت الشجر وتجدّد حياته وما في ذلك من ضروب التدبير... 128

خلقُ الرَّمانة وأثر العمد فيه... 128

حمل اليقطين وما فيه من التدبير والحكمة... 129

ص: 334

موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها... 130

في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك... 130

العقاقير وخواص كل منها... 131

سورة آل عمران

مدنية

آياتها (200)

فضل السورة... 137

المدخل... 137

التحدّي مفترق طرق الحضارات... 137

1 - التحدي العسكري... 138

2 - التحدي الحضاري... 139

نصارى نجران نموذجٌ للتحدي الحضاري... 140

الآيات (1-6)... 142

المفردات... 142

التفسير... 144

الوحي مصدر القرآن الكريم... 144

العلل الأربع في الماديات... 145

القرآن يتحدّى... 146

إعجاز القرآن في تشريعاته... 149

صفات القيمومة الإلهية... 152

1- إنها غير قابلة للانفكاك... 152

2 - القيمومية مرجع كل صفات الفعل... 152

قاعدة اللطف... 152

مثال توضيحي... 153

ص: 335

موقف القرآن الكريم من الديانات السابقة... 153

معنى التصديق... 154

جزاء المكذّبين في الدنيا والآخرة... 163

الانتقام الإلهي حكمة وضرورة... 164

من هو الحاكم والمشرع؟... 165

الجاهل لا يحكم... 166

الإنسان المُحاط بالجهل... 167

سعة علم اللّه تعالى... 168

صانع الشيء أعرف به... 168

الخالق هو الحاكم لا غيره... 169

روايات في المقام... 170

الآية (7)... 173

المفردات... 173

الإعراب... 174

التفسير... 174

المبحث الأوّل... 175

المبحث الثاني... 176

1 - قصور الألفاظ عن حمل المعاني الشامخة... 176

2 - اللغة العربية والاعتبارات البلاغيّة... 180

3 - الاختبار الإلهي في التكوين والتشريع... 183

البشر وَصُنعُ الويلات... 185

4 - الارتباط بالقادة الإلهيّين... 185

الحكام وعدم فهم القرآن... 187

المبحث الثالث... 192

المبحث الرابع... 194

ص: 336

الانطلاق من القرآن أو من الأفكار والشهوات؟... 195

الإسلام عنوان ديننا... 195

الانطلاق من الأفكار المتبناة أو الأهواء والشهوات... 196

السبب: الانحراف الفكري والروحي... 196

النظرة التجزيئية للقرآن... 197

الخبير هو المخوّل بالتأويل... 199

أهل الكتاب وإرادة الفتنة... 200

التأويل الباطل والتكفير... 200

من هو الخبير بالتأويل؟... 202

التأويل عبر القاعدة العلمية... 202

حوار حول القاعدة العلمية... 203

التأويل والقاعدة الإيمانية... 204

الطريق اللّمِّي لكشف الغموض... 205

من له الحق في التأويل؟... 206

المعصومون (عليهم السلام) والعلم بالتأويل... 207

العلماء وبعض مراتب التأويل... 210

الآيتان (8-9)... 212

المفردات... 212

التفسير... 213

وقتية النعم المادية والمعنوية... 213

التضرُّع طريق استمرار الهداية... 214

متى تُسلَبُ روح الإيمان... 215

رجال سقطوا في التاريخ... 216

المطالبة من اللّه تعالى... 218

رحمة مبهمة... 218

ص: 337

كيف نتغلّب على الشهوات؟... 219

الآيات (10-13)... 225

المفردات... 225

الإعراب... 226

التفسير... 226

اللّه عزّ وجلّ سند المؤمن... 227

المال والرجال رُكنا الكفّار... 227

هل يصمد ركنا الكفّار أمام القوّة المطلقة؟... 228

الوثوق بالأبناء... 229

الكافر آلة إيقاد النّار... 231

معرفة التاريخ والنظرة الشاملة... 232

لماذا آل فرعون؟... 234

الحضارة الفرعونية على قمّة الحضارات... 234

الغلبة للحق وإن ضعف ناصروه... 235

معركة بدر والتأييد الإلهي... 237

الاعتبار: النظرة الواقعية لآية ظاهرة... 238

بين الأسباب الغيبية والمعادلات الدنيوية... 239

ولنذكر مثالين من الواقع المعاصر... 240

الآيتان (14-15)... 241

المفردات... 241

المدخل... 243

الشهوات أهمّ عامل للكفر... 243

الشبهات والشهوات... 243

اللّه يزين أم الشيطان؟... 244

القول الأوّل: الشيطان يُزينّ... 245

ص: 338

مناقشة هذا القول... 245

القول الثاني: اللّه هو المزيّن... 246

فلسفة التزيين... 246

ما هي الشهوات؟... 247

أنواع الشهوات... 247

الإسلام والنظرة الوسطية للشهوات... 249

الشهوات وضرورة الموازنة بين الحاضر والمستقبل... 249

الحياة الدنيا متعة... 251

اللّذات الماديّة في الآخرة... 252

جنّات بلا نقص... 252

أعظم النعم الماديّة لأهل الجنّة... 253

أزواج بلا قذارات... 254

النّعم المعنوية... 255

الآيتان (16-17)... 258

المفردات... 258

الإعراب... 259

التفسير... 259

المنع من الخمر بين الرادع الخارجي والرادع الداخلي... 260

المنع من التدخين بين الرادعين... 261

تجليّات الإيمان في الحياة العملية... 265

صفات المتّقين... 265

أهمية السَّحَر ومكانته... 274

تفسيرات الاستغفار... 277

روايات في نافلة الليل... 277

اهتمام السابقين بصلاة الليل... 279

ص: 339

الآية (18)... 281

المفردات... 281

الإعراب... 281

التفسير... 282

الشهادة: التحمّل أو الأداء؟... 285

الإظهار اللَّفظي والعملي... 285

هل الشهادة اللفظية، دوريّة؟... 285

العلم والوصول إلى اللّه... 287

العدل الإلهي ومكانته... 292

دور العقل في معرفة العدل... 293

الأشاعرة والوقوع في التناقض... 295

هل العدل الإلهي ضمن المشهود به؟... 296

عاملان وراء الظلم... 297

الإطار العام للسورة... 300

فهرس المحتويات... 331

ص: 340

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.