موسوعة الفقيه الشيرازي (التدبر في القرآن) المجلد 2

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(2)

التدبر في القرآن

الجزء الأول

تأليف: آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه: الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر: قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری: 21ج.

شابك: دوره: 8-270-204-964-978

ج2: 2-272-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی: فيپا

يادداشت: عربي

مندرجات: ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع: اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره: 1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی: 297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

----------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبوع: 1500 نسخه

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج2: 2-272-204-964-978

----------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}(1).

{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ}(2).

ص: 3


1- النساء: 82.
2- ص: 29.

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد: فهذه محاضرات مبسطة تعبر عن تصورات أولية في التفسير، ألقيت على مجموعة من المؤمنين الكرام، مشفوعة بإضافات وتنقيحات.

وقد أدرجت في مقدمتها كتاب «كيف نفهم القرآن» الذي ألفته في غابر الأزمان.

وأسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا الكتاب ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ومنه أستمد التوفيق، إنه نعم المولى ونعم النصير.

محمّد رضا ابن السيد محمد الحسيني الشيرازي

23/ محرم الحرام/ 1414ه

ص: 5

ص: 6

المدخل

اشارة

ص: 7

ص: 8

المطلوب فهم القرآن بشكل جديد!

اشارة

هل استنفد القرآن أغراضه؟ هكذا يتساءل الكثير من الشباب، ويضيفون: لقد قام القرآن بدور كبير قبل أربعة عشر قرناً من الزمن، فهل يستطيع أن يقوم بدور تغييريّ في هذا العصر أيضاً؟ أم أنه قد تغيّر، وانتهى مفعوله؟

الحقيقة: إنّ القرآن لم يتغيّر، ولم يستنفد أغراضه، فالقرآن لا يزال الكتاب الإلهي الذي هبط لإنقاذ البشرية، وهو يستطيع أن يقوم بدور كبير في البناء الحضاري - في الوقت الراهن. ولكنّ الذي تغيّر هو المسلمون إنّ طريقة تعامل الأُمّة مع القرآن، وكيفية تلقّيها لمفاهيمه ورؤاه، تختلف اليوم بشكل جذري عمّا كانت عليه بالأمس.

لقد كان المسلمون الأوّلون يفهمون القرآن كتاباً للحياة، ومنهجاً للتطبيق والتنفيذ. أمّا المسلمون اليوم فهم يتعاملون مع القرآن بشكل معاكس تماماً(1).

وهل يتحمّل القرآن ذنوب أتباعه؟.

والآن لنلاحظ كيف يفهم المسلمون اليوم: القرآن الكريم؟ وكيف يتعاملون معه؟

ص: 9


1- لا يقصد بهذه الكلمات وأمثالها الاستغراق الحقيقي بل العُرفي.

والجواب: لقد عانت أُمتّنا - منذ أمد بعيد - مشاكل كثيرة في تعاملها مع القرآن الكريم، ولا زالت رواسب تلك المشاكل موجودة حتى الآن، فلننظر ماذا كانت تلك المشاكل؟.

1 - تحجيم التعامل

ويعني ذلك: أنَّ الأُمّة أخذت تحصر الاستفادة من القرآن في مجالات محدودة، فالبعض اتخذ القرآن طريقاً للكسب، وباباً للأرتزاق.

والبعض الآخر اعتبره وسيلة للعلاج فحسب، فإذا ضعف بصره، أو أوجعته أسنانه، أو آلمته أمعاؤه هرول إلى القرآن ليتلو آيات معينّة منه، حتى ترتفع بسببها هذه الأسقام. أمّا في غير هذه الحالة، فلا شأن له بالقرآن.

وهنالك مجموعات أُخرى لا تفتح القرآن إلاّ عند الاستخارة، أو حين السفر أو عندما يموت أحد الأقرباء، وليس أكثر من ذلك؟.

ومن الواضح: أنّنا لا ننتقد هنا الاستفادة من القرآن في هذه المجالات، وإنّما ننتقد تحديد الأستفادة منها ضمن هذه الإطارات.

إنّ القرآن كتاب حياة يقول اللّه سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

ولذلك فإنّه يجب الانتفاع من القرآن في كلّ مجالات الحياة وليس في مجال أو مجالين.

2 - التلاوة السطحية للقرآن

إنّ أُمتّنا تقرأ القرآن وتستمع إلى تلاوته: ولكن كحروف بلا معنى، وكلمات بلا مفهوم. ومن هنا: فإنّها لا تعمل بالقرآن، كما هو المطلوب؛

ص: 10

لأنّها لا تفهم القرآن.. والفهم هو المقدّمة الطبيعية للعمل بالشيء.

بينما كان المسلمون الأوّلون لا يقرأون آية حتّى يتفكروا في أبعادها المختلفة، وحتّى يعوها بشكل كامل.

إنّ على من يقرأ القرآن أن يستثير عقله به، ويفقه ما وراءه من أبعاد كامنة، وإلاّ فسينطبق عليه حديث الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين قال عن بعض الآيات: «ويل لمن لاكها بين لحييه - وهما عظمتا الفم - ثم لم يتدبّرها».

3 - الاهتمامات الثانوية

ولأنّ أُمتّنا أهملت فهم (لباب) القرآن اندفعت في طريق البحث عن القشور.

فأخذوا يصرفون جهودهم على قضايا ثانوية كان الأحرى بهم أن يصرفوها في مجالات أكثر تأثيراً وفائدة.

فهذا أحدهم يقضي آماداً طويلة من عمره لكي يجيب على الأسئلة التالية:

كم هو عدد كلمات القرآن؟

وكم هي حروفه؟

وكم تكرّر حرف الألف فيه؟

وكم تكرّر حرف الباء؟

وكم تكرّر حرف التاء؟

وهكذا.. إلى آخر حروف الهجاء..

واللّه يعلم: كم من الجهود صُرفت في سبيل معرفة هذه القضية خصوصاً:

ص: 11

وأنّها لم تتّم في العصر الحديث، حيث يسرّت العقول الالكترونية الأمر، بل تمّت في عصور ماضية.

ثم نجد أنّ كثيراً من الدراسات التي كتبت حول القرآن - لا تتناول إلاّ القضايا الهامشية.

فمثلاً في (123) كتاباً أُلّف حول القرآن الكريم، تجد أن (37) منها تتحدّث حول قضايا شكلية مثلاً:

- عدد آيات القرآن - الجمع والتثنية - طبقات القرّاء - نقط القرآن!. الرُّومي والمعرَّب في القرآن - الخ.(1).

وهذا يعني: أن حوالي ثلث الجهود والطاقات صرفت في قضايا جانبية

ومثال آخر للأهتمامات الثانوية حين قراءة القرآن: الاهتمام بأشخاص القصص القرآنية، وبقضايا هامشية في حياتهم تنسي الفرد القضايا الهامّة والعبر التي هي الهدف من ذكر تلك القصص.

4 - الفهم التجزيئي للقرآن

ويعني ذلك: فهم القرآن بشكل تفكيكي، ينفصل بعضه عن البعض الآخر. وبعبارة أُخرى: فهم كلّ آية قرآنية وكأنّها عالم مستقل قائم بذاته

ص: 12


1- من الكتب التي تبحث حول هذه المواضيع: (عدد آي القرآن)، (الجمع والتثنية في القرآن)، (المحكم في النقط)، (إملاء ما منّ به الرحمان في وجوه الإعراب والقراءات)، (النشر في القراءات العشر)، (القول المهذّب في بيان ما في القرآن من الرومي والمعرّب)، (اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر)، (نثر المرجان في رسم القرآن) و(رسم الشواذ) و... راجع: التمهيد في علوم القرآن 1: المقدمة.

من دون ربطها بالآيات الأُخرى.

وقد يترتّب على ذلك نتائج خطيرة سوف نشرحها في الفصل الثاني - بإذن اللّه - .

5 - الفهم المصلحي للقرآن

ويعني ذلك:

أ - فهم آيات القرآن بشكل يكرّس مصالح الفرد في الحياة، ويبرّر أهواءه وشهواته.

ب - الاقتصار على جانب معيّن من (قيم القرآن) وإهمال سائر الجوانب التي تتطلب من الإنسان العطاء والتضحية.

مثلاً: يفهم القرآن في جانبه الذي يتحدّث عن العبادة فحسب؛ لأنّ العبادة هي عادة درج عليها، ولا تكلفه كثيراً، ولكنّه لا يفهم القرآن في جوانبه السلوكية، والعملية، والجهادية؛ لأنّ ذلك يكلّفه مصالحه وأنانياته.

6 - الفهم الميّت للقرآن

ويتم ذلك بفصل القرآن عن الواقع المعاش وربطه بقضايا ميتافيزيقية، أو قصص تاريخية لا تؤثّر في الواقع القائم شيئاً.

7 - الفهم بديلاً عن العمل

إنّ القرآن الكريم (صراط) و(طريق)، وذلك يعني: أنّ على الفرد أن يعبر من خلال القرآن إلى العمل بالقرآن

من هنا كانت الطلائع المسلمة في عصور الرسالة الأُولى تفهم القرآن طريقاً للعمل، ومنهاجاً للمسير.

ص: 13

ولكنّ أجيالنا الحاضرة تفهم القرآن هدفاً بذاته وليس وسيلة للعمل به.

وهكذا لم يبق من الإسلام إلاّ اسمه، ومن القرآن إلاّ رسمه - كما تنبأ بذلك الإمام علي (عليه السلام) من ذي قبل - .

هذه هي أهمّ المشاكل التي عانت منها الأُمّة في تعاملها مع القرآن، وهذه المشاكل هي التي سببّت سقوط أُمتّنا في الحضيض.

وعلينا الآن أن ننفض عن أنفسنا غبار الماضي، ونبدأ في تعامل جديد مع القرآن كما أراده اللّه سبحانه منّا؛ حتّى يغير اللّه ما بنا، ويأخذ بأيدينا إلى القمّة.

ونأمل أن يكون هذا الكتاب - الذي يتضمن تصورات أوليّة في كيفية فهم القرآن الكريم - خطوة إلى فهم القرآن بشكل آخر والتعامل معه بشكل جديد.

واللّه الموفّق المستعان

قم المشرفة

2 شوال/1399ه

ص: 14

الفصل الأوّل : أفلا يتدبَّرون القرآن؟

اشارة

ص: 15

ص: 16

القرآن حروف بلا معان!

في طليعة المشاكل التي تعاني منها قطاعات واسعة من أُمتّنا في تعاملها مع القرآن (القراءة السطحية) لهذا الكتاب المجيد.

إنّها تتعامل مع القرآن كحروف وكلمات ميّتة، وليس كمفاهيم تنبض بالحركة والحياة!

إنها تستمع إلى القرآن وتتلو آياته، ولكن: كتمائم سحرية وطلاسم غيبية لا يكاد أحد يفهم منها شيئاً!

وبذلك أصبح القرآن حروفاً بلا معانٍ، وكلمات بلا مفاهيم!

والسؤال الآن هو: كيف أصبحت هذه القطاعات هكذا؟وما هي العوامل الكامنة وراء ذلك؟

والجواب:

1 - تشوش الرؤية.

فقد ترسخت في أذهان الكثيرين فكرة (تعالي القرآن عن الإدراك البشري) إنّه كتاب اللّه وهل تستطيع ذرّة تافهة في الوجود - اسمها الإنسان - أن تصل إلى تلك القمّة الرّفيعة؟!.

ولقد تطرّف البعض في هذا الأتجاه حتّى قال: «إنّ القرآن كلّه متشابه بالنسبة إلينا، ولا يجوز لنا أن نتكلّم في محكمه»!

ص: 17

وعندما سأله بعض الحاضرين: ما تقول في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هل هذه - أيضاً - تعتبرها آية متشابهة؟!

أجاب: بأنّ الأحد ما معناه؟ وما مبدأ اشتقاقه؟ وما الفرق بينه وبين الواحد؟ وأطال الكلام في مثل هذا!(1).

وهذا يعني أنّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}(2) أو قوله: {وَاعْبُدُوا

اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}(3) أو قوله: {وَلاَ

تَقْرَبُوا الزِّنَى}(4) وأمثال هذه الآيات هي آيات متشابهة لا يحقّ لأحد - أيّ أحد - أن يحاول فهمها، أو أن يتكلم فيها؟.

2 - وقد لعب عدم الأستعداد النفسي للتعمّق الفكري دوراً ما في هذا المجال بالنسبة إلى بعض الأجيال المعاصرة.

إنها تبحث عن «سندويشة» طازجة تستطيع أن تتناولها بسهولة. أمّا (القضايا الفكرية المعمّقة) فهي لا توّد كثيراً البحث فيها، إنه عصر السرعة، أليس كذلك؟!

ولكن فات هؤلاء أنّ السطحية في الرؤية والتفكير قد ترضي شهوات الإنسان، ولكنّها كثيراً ما توقعه في أخطاء قاتلة.

ص: 18


1- الأنوار النعمانية 1: 308. ويبدو أنّه نسي في الجواب أن يضيف: وما هو إعرابه؟ وما هي أوجه قراءته؟ وما هو حركاته وسكناته؟ وما هو معنى اللّه؟ وما هو الأصل الذي اشتق منه؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي تبدأ ولا تنتهي!
2- النحل: 90.
3- النساء: 36.
4- الإسراء: 32.

وفاتهم كذلك: أنّ الملاحظة الدقيقة والتفكير العميق هما الخطوة الأُولى التي لا غنى عنها في أيّة مسيرة حضارية.

ولذلك نجد أن عالماً قد يقضي من عمره عشرين عاماً أو أكثر وهو يراقب أمراً قد يبدو لنا تافهاً، ولكنّه يخرج من ذلك بنتائج هامة وكبيرة.

3 - ولا ننسى هنا الأثر الذي تركه ابتعاد الجيل المعاصر عن اللُّغة العربية الأصيلة.

فقد ساهم هذا العامل في عدم فهم هذا الجيل لبعض الآيات القرآنية؛ لأنه لم يعرف المدلول الحقيقي لبعض الكلمات والجمل القرآنية؛ ممّا جعله يجهل معنى الآيات التي تضمّنت تلك الكلمات والجمل.

ص: 19

التدبر؟ أم التحجر؟؟

هل يجوز لنا التدبُّر في القرآن؟

لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد أن نعود إلى مصادر الإسلام النقية، ونستخرج منها الإجابة الحاسمة.

- 1 -

عندما نلقي نظرة سريعة على القرآن الكريم، نجد فيه دعوة صريحة إلى التدبُّر في آياته.

1 - في البداية يؤكُّد القرآن أنَّ الهدف من نزوله هو أن يتدبّر الناس فيه، فيقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}(1).

ذلك لأنّ التدبر هو الطريق الطبيعي للعمل بما جاء في القرآن الكريم، إذن، فمن الطبيعي أن يعتبر (التدبر) الهدف المبدئي لنزول القرآن.

2 - وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية، جعل اللّه القرآن كتاباً ميّسراً للفهم وفي هذا المجال يقول القرآن: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(2)؟.

ولأهمية هذا الأمر يكرر القرآن هذه الآية الكريمة في سورة (القمر)

ص: 20


1- ص: 29.
2- القمر: 17.

أربّع مرات، ويقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).

ويقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}(2).

3 - والقرآن ليس - فقط - يدعو الناس إلى التدبر في آياته، وإنّما يطلب منهم أن يمارسوا التدبّر العميق أيضاً، كما نفهم ذلك من قوله سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}(3).

قال العلامة الطباطبائي في الميزان: «الآية تحضيض في صورة الاستفهام. والتدبّر هو أخذ الشيء بعد الشيء، وهو في مورد الآية التأمّل في الآية عقيب الآية، أو التأمّل بعد التأمّل في الآية [الواحدة]، لكن لمّا كان الغرض بيان أنّ القرآن لا اختلاف فيه، وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأوّل، أعني: التأمّل في الآية عقيب الآية هو العمدة، وإن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضاً.

فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل، أو حكمة مبيّنة، أو قصّة أو عظة أو غير ذلك، في جميع الآيات المرتبطة به ممّا نزلت، مكّيها ومدنيّها، ومحكمها ومتشابهها، ويضمُّوا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها.

فالآيات يصدّق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض، من غير أن

ص: 21


1- الدخان: 58.
2- مريم: 97.
3- النساء: 82.

يكون بينها أيّ اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضاً أو يتدافعا، ولا اختلاف التفاوت بأن تتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان، أو متانة المعاني والمقاصد.

«فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من اللّه، وليس من عند غيره..»(1).

وإذا لاحظنا:

أ - أن هذه الآية نزلت في (المنافقين) و(المتردّدين) - كما يظهر من الآيات السابقة.

ب - أنها تدعو هؤلاء إلى التدبّر في القرآن؛ حتى يطمئنوا بأنه من عند اللّه ويزول بذلك نفاقهم وتردُّدهم.

ج- - أن كشف عدم (الاختلاف) وعدم (التناقض) بين الآيات القرآنية المختلفة يحتاج إلى تدبُّر عميق، وتأمُّل كبير.

لو لاحظنا ذلك لوجدنا أنّ القرآن يفتح للناس أبواب (التدبّر الذاتي) في قضية عميقة من القضايا القرآنية، وليس هذا فقط، بل وأنه يدعوهم إلى ذلك!.

4 - ثم يؤكّد القرآن أنّ هنالك (أقفالاً معينة) تغلق قلوب البشر، وتصرفهم عن التدبّر في آياته، ويقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؟ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(2)؟.

ص: 22


1- الميزان 5: 19.
2- محمد: 24.

ولكن، ما هي هذه الاقفال؟!

إنّها أقفال الجهل، والهوى، والتهرّب من المسؤوليات الثقيلة!(1).

وكما كانت هذه الأقفال قديماً فهي موجودة حديثاً، ولكن بصورة جديدة، وأشخاص جدد، وشعارات جديدة!.

وعلينا أن نحطّم هذه الأقفال ونفتح قلوبنا أمام نور اللّه المضيء، عن طريق التدبّر في الآيات القرآنية الكريمة(2).

- 2 -

وعندما نعود إلى الروايات نجدها تؤكّد المعنى ذاته(3).

أ - فهي تأمر بالتأمل في القرآن الكريم، من أجل استخراج معارفه وكنوزه الدفينة.

ففي الحديث المروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أعربوا القرآن(4) - أي: أحكموا إعراب أواخر الكلمات والجمل - والتمسوا غرائبه - أي: تأمّلوا فيه، وتفهّموا

ص: 23


1- أشار القرآن إلى هذه «الأقفال» في الآيات السابقة فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}. محمد: 16. {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}. محمد: 20.
2- قال الطبرسي في مجمع البيان 9: 303: >.. وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع<.
3- هذه الروايات - وإن لم تكن متواترة لفظاً - إلاّ أنه لا يبعد ادّعاء كونها متواترة معنىً، أمّا التواتر الإجمالي فيها فهو أمر مفروغ عنه.
4- مستدرك الوسائل 4: 372، وفيه: >أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه<.

معانيه الغريبة - .

وفي الكافي عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: «آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها».

ب - ومن أجل ذلك ورد الأمر بترتيل القرآن؛ لأنّه أقرب إلى التركيز والتأمُّل.

فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}: «بيّنه تبييناً ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن، أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة»(1).

فالهذ سرعة القراءة، ونثر الرمل هو التباطي فيها بحيث لا ترتبط كلماتها، والتدبّر في كلمات القراءة هو التأمل في الآيات، والتدبر في كلمات اللّه.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}: «قف عند وعده ووعيده، وتفكّر في أمثاله ومواعظه».

ج- - وتعطينا الروايات نماذج عملية في هذا المجال:

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «كان أصحاب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرأ أحدهم القرآن في شهر واحد أو أقلّ، إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتّل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها واسأل اللّه الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها، وتعوّذ باللّه من النار».

وجاء في حديث آخر أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) كان يقرأ القرآن في فترة غير قصيرة، وعندما سئل عن ذلك أجاب: «ما مررت بسورة إلاّ فكرت في

ص: 24


1- الكافي 2: 614؛ البرهان 5: 517.

مكّيها ومدنّيها، وعامّها وخاصّها، وناسخها ومنسوخها».

د - ونجد في بعض الروايات دعوة ضمنية إلى التدبّر في آيات القرآن واستنباط الأحكام والقيم الإسلامية منها - لمن كان من أهله - .

فعن الكافي والتهذيب والاستبصار - عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة(1) فكيف أصنع بالوضوء؟

قال (عليه السلام) : يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزَّ وجل، قال اللّه عزَّ وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه(2).

والمفهوم من قول الإمام (عليه السلام) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزَّ وجل» هو أنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى السؤال.

علماً بأنّ استخراج هذا الحكم يحتاج إلى التأمّل؛ ذلك لأنّ الآية الكريمة تدل على عدم وجوب مسح الرجل مباشرة؛ لأنه حرج فيدور الأمر - في النظرة الأولية - بين سقوط المسح رأساً، وبين بقائه، لكن مع سقوط شرط مباشرة الماسح للممسوح.

إذن، فالآية بظاهرها لا تدّل على لزوم المسح على المرارة، لكنّ التأمّل الدقيق يقضي بأنّ المسح - بما هو مسح - لا حرج فيه، وإنما الموجب للحرج هو اشتراط (المباشرة) في المسح.

ص: 25


1- المرارة شحمة شبه كيس، لازقة بالكبد، تكون فيها مادة صفراء هي المِرّة. راجع: النهاية في غريب الحديث 4: 316.
2- بحار الأنوار 2: 277.

إذن، فالمنفي في الآية الكريمة هو (المسح المباشر) وليس (أصل المسح). ولذلك فالمفروض في هذه الحالة المسح على الإصبع المغطاة(1).

وهنا يجدرُ بنا أن نشير إلى كلمة (وأشباهه) في قول الإمام (عليه السلام) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزَّ وجلَّ».

فالإمام (عليه السلام) لم يقصر الحكم على هذه الآية الكريمة، وإنّما سحب الحكم إلى كافة الآيات القرآنية المشابهة.

وهكذا نجد الإمام (عليه السلام) يدعو أصحابه إلى التأمّل في الآيات القرآنية واستنباط المفاهيم والأحكام الدقيقة منها.

هذا كله بالإضافة إلى:

1 - أنّ القرآن هو رسالة اللّه إلى الإنسان كما قال سبحانه:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ}(2).

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}(3).

ومن الطبيعي أن تكون الرسالة متناسبة مع فهم المرسل إليه.

2 - القرآن يصدّر خطاباته - عادة - بكلمة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} أو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو ما أشبه. وليس صحيحاً أن يوجّه أحد الخطاب لمن لا يفهم من كلماته شيئاً.

ص: 26


1- هكذا أفاده العلامة المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري - رضوان اللّه عليه - في مبحث (حجية ظواهر الكتاب) من كتابه القيم (فرائد الأصول).
2- البقرة: 185.
3- آل عمران: 138.

3 - القرآن نزل حجّة على الرسالة، وقد تحدّى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) البشر أن يأتوا بسورة من مثله.

ومعنى ذلك: أنّ العرب كانوا يفهمون القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصحّ مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه؛ لأنّهم ما كانوا يستطيعون فهمه.

4 - لقد استوعب المسلمون الأوّلون معاني كثير من الآيات وفهموها بمجرد نزولها عليهم - باستثناء آيات معينّة سألوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها - ولم يتعاملوا يوماً مع آيات القرآن تعاملهم مع الأحاجي والألغاز.

وفي ختام هذا الفصل ينبغي أن نشير إلى نقطة هامّة وهي: إنّ الأستنباط من آيات الأحكام ونحوها يتوقّف على خُبرويّة معيّنة لا تحصل إلا ببلوغ الإنسان مرحلة (الإجتهاد). فالتدبّر في هذه الآيات يكون وقفاً على (المجتهدين) بالطبع. أمّا التدبّر في الآيات الأُخرى فهو أمر مفتوح لغيرهم أيضاً. وسنفصّل الكلام في هذه النقطة في البحوث القادمة بإذن اللّه.

ص: 27

وماذا نصنع بهذه الشُّبُهات؟

اشارة

هنالك بعض الشُّبه والإشكالات التي قد يتمسّك بها البعض للتدليل على عدم جواز التدبَّر في القرآن الكريم، بل ولأعتبار «التدبُّر» في القرآن معصية كبيرة تهوي بصاحبها في نار جهنّم وساءت مصيرا!

فما هي هذه الشبه؟

وما هي الإجابة عنها؟(1).

الشبهة الأُولى: الرِّوايات نهت عن ذلك

يقولون: لقد نهت الروايات الشريفة عن (التفسير بالرأي) وهدّدت من يفعل ذلك بنار جهنم، وقالت: «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهوى أبعد من السماء»(2).

«من فسّر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر»(3).

ولكن، ما هي النتيجة؟ عن ذلك يجيبنا حديث آخر فيقول: «من فسر القرآن برأيه فليتبّوأ مقعده من النار»(4).

ص: 28


1- تفصيل الكلام والنقض والإبرام في هذه الشبهات موكول إلى (علم الأُصول) والمقصود هنا الإشارة العابرة على نحو ينسجم مع وضع هذا الكتاب.
2- مقدمة «البرهان في تفسير القرآن»: 16 (طبعة دار الكتاب العلمية - إيران).
3- البرهان 1: 19.
4- الصافي 1: 21.

وفي مواجهة هذا المنطق نقول: إنّ (التفسير بالرأي) لا يعني (التدبُّر في القرآن)؛ إذ إنّ هذه الرِّوايات لا يمكن أن تنهى عن نفس ما أمر به القرآن الكريم والروايات الأُخرى(1)، بل إنها تعني أحد المحتملات التالية:

1 - أنّ يحمل الفرد آراءه الشخصية على تفسير معاني آيات القرآن بأحد الأشكال التالية:

أ - حمل اللّفظ القرآني على خلاف ظاهره.

ب - حمل اللّفظ القرآني على أحد احتمالَيِه دون أيِّ دليل.

مثلاً: يحمل «القُرء» في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}(2) على الحيض دون الطهر (باعتبار أنّ «القُرء» لفظة مشتركة بين الطهر والحيض) من دون أيِّ دليل.

ج- - التعسُّف في تأويل الآيات القرآنية، وسوف نضرب على ذلك بعض الأمثلة فيما بعد - إن شاء اللّه تعالى - .

أمّا الأسباب الكامنة وراء هذا (التحريف المعنوي) الذي يأتي تلبية لآراء الفرد، فهي:

أوّلاً: الأهواء الشخصية للفرد.

إنّ بعض من لم يدخل نور الإيمان قلوبهم يحاولون أن يخضعوا آيات القرآن لأهوائهم وشهواتهم، ولذلك فهم يحاولون فهم الآيات القرآنية (بآرائهم) أي: حسب أهوائهم وشهواتهم.

ص: 29


1- راجع الفصل السابق: «التدبّر، أو التحجُّر»؟.
2- البقرة: 228.

فهذا (يحيى بن أكثم) القاضي الشهير كان يعاني من (الشذوذ الجنسي) حتّى قال عنه ابن خلّكان: «ألوطُ قاضٍ بالعراق نعرفه»!

وكان محبوب المأمون، فقال له يوماً: لمن هذا الشعر:

قاضٍ يرى الحدَّ في الزِّناءِ ولا***يرى على مَنْ يلوطُ من باسِ

فأجابه: الذي قال:

ما أحسبُ الجورَ ينقضي وعلى***الأُمّةِ والٍ من آلِ عبّاسِ!

يحيى بن أكثم هذا كان «يديّن» عمله الشائن ويتمسّك بآية من القرآن في مشروعية ذلك! والآية هي قوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا}(1).

فكان يستفيد من ذلك: إباحة (الزواج) وإباحة (الشذوذ) كذلك!

إنّ الآية الكريم تقول: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ *أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا}(2).

وهي تعني أنّ الناس تجاه إنجاب الذريّةُّ على أربعة أقسام: فقسم لا يولد له إلاّ الإناث، وقسم لا يولد له إلاّ الذكور، وثالث: يولد له الإثنان معاً، ورابع: لا يولد له أيُّ واحد منهما، بل يظل عقيما!.

ولكنّ يحيى بن أكثم اقتطع هذه الجملة من القرآن وفصلها عن سياقها العام لكي يرضي أهواءه وشهواته(3).

ص: 30


1- الشورى: 50.
2- الشورى: 49-50.
3- للمزيد من التفاصيل حول «السياق القرآني» راجع القسم الثاني من هذا الكتاب (الفهم التجزيئي للقرآن).

والآن لنستمع إلى حوار بين يحيى بن أكثم وبين الإمام الهادي (عليه السلام) في هذا الصدد، فقد سأل الإمام عن قوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا}.

فأجاب الإمام (عليه السلام) : «أي: يولد له الذكور، ويولد له إناث. يقال لكلّ اثنين مقرنين: زوجان. كلّ واحد منهما زوج».

وأضاف الإمام وهو يضرب على الوتر الحساس: «ومعاذ اللّه؛ أن يكون عنى الجليل [أي اللّه تعالى] ما لبّست به على نفسك، تطلب الرخص لارتكاب المآثم. ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا». واستدرك الإمام قائلاً: «إن لم يتب»(1).

إن هذا الشكل من (التحريف المعنوي) هو الذي يصدق عليه - حسب الأحتمال الأوّل - «مَن فسّر القرآن برأيه» أي: حسب أهوائهِ وشهواته.

وهذا الشكل من التحريف - لا تزال قطاعات من الأُمّة تعاني من آثاره السلبية حتّى الآن.

فهم يفسّرون - مثلاً - قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بأنّ على الفرد أن لا يعمل، ولا يجاهد، ولا يتحرّك؛ لأن ذلك يعني «التهلكة» التي قد نهانا اللّه عنها.

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.

بأنّ مسؤولية الفرد محصورة في إطار ذاته ولا شأن له بالآخرين؟ فليذهب

ص: 31


1- سفينة البحار 1: 367-368. وراجع أيضاً (الأذكياء) لابن الجوزي: 132.

العالم كلّه إلى الجحيم! ليس ذلك مهماً! المهم أن يحافظ الفرد على صومه وصلاته وبعض آخر من الواجبات الفردية، وليس أكثر من ذلك.

ويقول شاعرهم في ذلك:

وما أُبالي إذا نفسي تطاوعني *** على النجاة بمن قد ضلّ أو هلكا

ويفسّرون (الصبر) الذي ورد الأمر به كثيراً في القرآن الكريم والسنّة الشريفة بأنه يعني: الخضوع للطواغيت، والاستسلام لهم.

و(التقية) بأنها تعني: الجمود والتوقّف.

و(التوكل) بأنه يعني: إيكال المسؤوليات إلى اللّه والجلوس في زوايا البيوت دون أيّ عمل.

و(الزهد) بأنه يعني: اعتزال الدنيا وترك (الفاسقين) و(الكفار) يمرحون فيها ويلعبون، وانتظار ثواب اللّه في الآخرة بدلاً من ذلك. وهلمّ جرّاً.

وهذا هو أحد مصاديق (التفسير بالرأي) المنهي عنه في الروايات، والذي يعني حمل آيات القرآن الكريم على طبق (الآراء) التي تكوّنت للإنسان من خلال أهوائه وشهواته.

إن القضية تبدأ ب«هوى» يسعى خلفه الإنسان. وعلى مر الزمن يتحول هذا «الهوى» إلى رأي ونظرية.

ثمّ يحاول الإنسان - تطويع (الدين) ليأتي مؤيّداً، بل ومشجعاً على هذا (الرأي)

وهنا.. يأتي الحديث الشريف: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار!.

ص: 32

ثانياً: المسبقات الفكرية المترسّبة في عقلية الفرد:

فهنالك كثيرون يقرأون القرآن وأدمغتهم مشحونة بالأفكار والرؤى والمفاهيم المسبقة. ولذلك فهم لا يرون القرآن إلاّ من خلال أفكارهم، ولا يجدون في القرآن إلاّ ما يؤيّد هذه الأفكار.

تماماً كالذي يضع على عينيه نظارة سوداء، إنه يرى جميع الأشياء بلون نظارته!

وكذلك هؤلاء، فهم يرون آيات القرآن بلون المفاهيم القابعة في عقولهم.

إنهم يحاولون فهم القرآن كما تقتضي اتّجاهاتهم وأفكارهم، بدل أن يكونوا تلامذة متواضعين بين يديه.

إنّهم يحاولون توجيه القرآن على حسب ما تقتضيه أفكارهم، بدل أن يحاولوا تهذيب أفكارهم على حسب ما تقتضيه مفاهيم القرآن الرفيعة.

وهذا هو عين الخطأ. وهذا هو - أيضاً - أحد مصاديق (التفسير بالرأي) المنهي عنه.

ونجد في التاريخ الغابر - كما في التاريخ المعاصر - أمثلة كثيرة على ذلك.

وأوّل ما نجده في هذا المجال هو: تفسير القرآن الكريم على حسب (الأفكار العقائدية المسبقة) كما نلمس ذلك في أصحاب مذاهب من أمثال (الأشاعرة) أو (الباطنية) أو (الكرّاميّة) أو غيرهم.

هذه الطوائف كانت تحمل آراء خاصة في (اللّه) و(صفاته الثبوتية)

ص: 33

و(صفاته السلبية) وغير ذلك. وعندما اصطدمت عقائدها بالقرآن أخذت تفسر الآيات القرآنية على حسب أرائها السابقة(1).

* ونجد كذلك: تفسير آيات القرآن حسب (الفكر الصوفي) و(الذوق العرفاني) - بشكله المنحرف -. والذي جاء من أجل تدعيم أفكار هذين الإتجاهين، وإعطائهما صبغة (شرعية).

فمثلاً: باعتبار أنّ مذهب بعض أهل العرفان هو (وحدة الوجود)، لذلك فهم يفسّرون - قول هارون (عليه السلام) لأخيه موسى (عليه السلام) : {يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتي وَ لا بِرَأْسي}. بأنّ موسى (عليه السلام) : بعد أن عاد من «الطور» ورأى قومه قد عبدوا العجل عاتب أخاه هارون (عليه السلام) قائلاً له:

لماذا لم تدع الناس يعبدون العجل؟ ألا تعلم أنّ اللّه سبحانه يُحبّ أن يعبد - في أيّة صورة كان المعبود!.

وكذلك أيضاً يفسّر بعض العرفاء قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} بأن المقصود من «فرعون» ليس شخصاً معيناً، بل المقصود به (القلب القاسي)، وهذه الآية تشير إلى مجاهدة هذا القلب(2).

وهنالك - أيضاً - تفسير القرآن الكريم حسب (الفكر المادي)، والذي حدث متأثراً بالفترة التي أخذت الحضارة الغربية تخطو فيها خطوات واسعة في المجالات العلمية والتكنولوجية. ممّا أبهر بريقها عيون بعض المسلمين.

هؤلاء أخذوا يفسّرون القرآن بطريقة خاصة، وقد ترك الاتجاه المادي

ص: 34


1- راجع: التمهيد في علوم القرآن الجزء الثالث.
2- الصافي 1: 22.

بصماته واضحة عليها.

فالملائكة، والجن، والشياطين فسّروها ب(القوى الطبيعية) التي تسيّر الإنسان والكون.

ومعاجز الأنبياء أخذت تعطي مدلولات جديدة، وتفسَّر بشكل جديد. وهلّم جرّا.

إنّ كل هذه الأنواع من التلاعب بمعاني القرآن الكريم، وتوجيه الآيات القرآنية على حسب الأفكار العقائدية المسبقة أو الأفكار الصوفية والعرفانية أو الإتجاهات المادية. كل هذه تعتبر من أنواع التفسير بالرأي - المرفوض أساساً من قبل الدين - حسب الاحتمال الأوّل.

أمّا الاحتمال الثاني في معنى (التفسير بالرأي) فهو:

2 - التسرُّع في تفسير الآيات القرآنية على حسب ما يظهر للفرد في بادئ الرأي، ووفق ما توحي إليه ظنونه الأوّلية، من دون الاستيقان، ومن دون الرجوع إلى سائر الآيات والروايات الواردة في ذلك الموضوع.

ذلك لأنّ الرأي في اللّغة يعني: (الظن) و(التخمين) - كما تشير إليه بعض المصادر(1)- فالتفسير بالرأي - وفقاً لهذا الإحتمال - يعني: أن يفسّر القرآن بسبب بعض الظنون النيّئة التي لم تنضج بعد، رغم: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئا} - كما يؤكّده القرآن الكريم - .

ص: 35


1- قال الراغب في مفرداته: الرأي عبارة عن ترجيح أحد طرفي القضية بالظن والتخمين. وقال الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 1: 142: «الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الإستحسان».

ومما يجدر ذكره في هذا المجال، أنّ امرأة على عهد عمر بن الخطاب كانت تمارس الجنس مع مملوكها، - وهذا بالطبع أمر محرم في نظر الإسلام - فذكر ذلك لعمر. فأمر أن يؤتى بها.

ولمّا جاءت سألها: ما حملك على ذلك؟!

فقالت: تأوّلت آية من كتاب اللّه. وهي: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}(1).

وفي بعض الروايات: «كنت أراه يحلّ لي بملك يميني كما يحلّ للرجل المرأة بملك اليمين!» إلى آخر القصّة(2).

ومن هذا القبيل: أن يقرأ الإنسان قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ

عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(3). فيتصور اللّه جسماً قد تربع على عرشه العظيم!

إنّ هذا الشكل من الفهم المتسرّع للآيات القرآنية - على حسب ما يقتضيه الظن والتخمين، وبعض الاستحسانات العقلية - هو ما نهت عنه الروايات السابقة - حسب الإحتمال الثاني - .

3 - فهم آيات القرآن الكريم المرتبطة بالأحكام، والآيات المتشابهة، والآيات المجملة، وما شابه، بعيداً عن روايات أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وبدون توفير قاعدة علمية رصينة تؤهّل الإنسان للاستنباط؛ ذلك لأنّه في عهد الرسالة كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الذي يشرح للمسلمين الآيات

ص: 36


1- المؤمنون: 8.
2- الغدير 6: 118.
3- طه: 5.

الغامضة المبهمة، وفي ذلك يقول اللّه سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(1).

ولكن ماذا بعد رحيل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

لقد خلّف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بعده كتاب اللّه والعترة، وقد قرن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) القرآن بالعترة في أحاديث كثيرة(2). ومن هنا فإنّ آيّة محاولة للفصل بينهما هي محاولة خاطئة.

ويؤيّد ذلك أن كثيراً من الروايات التي ورد فيها النهي عن «التفسير بالرأي» جاءت ردّاً على أُولئك الذين كانوا يحاولون فهم القرآن بعيداً عن أهل البيت (عليهم السلام) ، بل ونقيضاً لهم - في بعض الأحيان - كقتادة وغيره.

كما جاءت مجموعة من الروايات في هذا الصدد:

منها: ما روي عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : «إنّما هلك الناس في المتشابه؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم».

ومنها: ما روي عنه - أيضاً - : «إنّهم [أي المخالفين] ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهم يظنون أنه العام، واحتجوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره؛ إذ لم

ص: 37


1- النحل: 44.
2- رويت هذه الأحاديث في كتب الفريقين.. راجع: «المراجعات» للعلامة شرف الدين 19: 25.

يأخذوه عن أهله. فضلّوا وأضلّوا»(1).

وهكذا نجد أن فهم القرآن - في طوائف من الآيات - بشكل مستقل وبعيداً عن أهل البيت (عليهم السلام) ، أو بدون توفّر القاعدة العلمية الكافية (المتمثلة في الوصول إلى درجة الإجتهاد) يعتبر (تفسيراً بالرأي) - حسب الإحتمال الثالث.

والسؤال الآن هو: لقد برزت أمامنا حتّى الآن ثلاثة احتمالات في معنى «من فسّر القرآن برأيه» وهي:

1 - فسر القرآن بآرائه الشخصية، وذلك بقسميه: فسّر القرآن بهواه، وفسّر القرآن بمسلّماته الفكرية.

2 - فسّر القرآن بظنّه.

3 - فسّر القرآن بفهمه المستقل عن أهل البيت (عليهم السلام) ، أو بدون توفُّر القاعدة العلمية الكافية.

فأيّ واحد من هذه المعاني هو المقصود؟!

والجواب: يمكننا أن نستفيد من إضافة كلمة «رأي» إلى «الهاء» في قول الإمام «برأيه» معنى عامّاً يشمل هذه المعاني، وذلك المعنى هو:

(تفسير القرآن بالرأي الشخصي النابع من الذات، لا من الواقع).

وهذا المعنى العام يشمل:

القسم الأوّل من المعنى الأول؛ لأنّه تفسير للقرآن بالهوى وليس بالواقع.

ص: 38


1- فرائد الأصول (مبحث حجية ظواهر الكتاب). وأيضاً: مقدمة (البرهان): 19 (طبعة دار الكتب العلمية - إيران).

والقسم الثاني من المعنى الأوّل، لأنّه تفسير للقرآن بالتعصّب والأفكار المسبقة، وليس بالواقع.

والمعنى الثاني؛ لأنه تفسير للقرآن بظنّه الشخصي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، وليس بالواقع.

والمعنى الثالث؛ لأنه تفسير للقرآن بالأفكار الشخصية، وليس بالواقع الذي مقياسه هو: أهل البيت عليهم الصلاة والسّلام، والذي تكشف عنه القاعدة العلمية المشار إليها، فتأمّل.

وهكذا نجد أن الروايات التي تنهى عن (التفسير بالرأي) لا تقصد بذلك النهي عن التدبّر في القرآن الكريم، وإنما تنهى عن (تفسير القرآن بالرأي الشخصي النابع من الذات، لا من الواقع، بمختلف صورة وأشكاله).

الشبهة الثانية: كيف نعرف العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والناسخ والمنسوخ؟

إنّ في القرآن عامّاً وخاصّاً، ومطلقاً ومقيداً، وناسخاً ومنسوخاً. وهل يعرف ذلك إلاّ الراسخون في العلم؟!

والجواب: إن هذا العلم الإجمالي ينحلّ بالعثور على القدر المتيقن من موارد النسخ والتقييد والتخصيص، فتحكم في سائر الآيات (أصالة الظهور) التي تقضي بأن ظواهر الكلام حجّة إذا لم تقم قرينة على الخلاف، وحيث تنتفي تلك القرينة - بالفحص - يكون الظهور حجّة بلا أشكال.

وينبغي هنا أن نذكر ملاحظتين.

1 - إنّ الآيات التي طرأ عليها التخصيص أو التقييد أو النسخ هي آيات

ص: 39

محدودة، ولا يمكن أن نسحب الحكم المنطبق على بعض الآيات، على القرآن الكريم ككل(1).

2 - إنّ أغلب - أو كل - الآيات التي طرأ عليها التخصيص، أو التقييد، أو النسخ، هي الآيات التي تتناول (الأحكام الشرعية) - كأحكام القتال والطلاق والزنا والعدة وما أشبه - ومن الطبيعي: أن الاستنباط من (آيات الأحكام) ونحوها يختصّ بالفقهاء والمجتهدين. ولا يحقّ للرجل العادي أن يستنبط منها. وحديثنا هنا في التدبُّر في الآيات الأُخرى، تلك الآيات التي تتناول القضايا الخلُقية، والاجتماعية، والثقافية، وما أشبه، ممّا لا يترتّب عليه حكم شرعي، وليس في آيات الأحكام فتأمل.

الشبهة الثالثة: الذين أخطأوا في فهم القرآن

لقد أخطأ الكثيرون في فهم الآيات القرآنية وانحرفوا - بذلك - عن سواء السبيل. فمن يضمن لنا عدم الوقوع في الخطأ كما وقعوا هم؟!

أليس من الأفضل أن ندفن رؤوسنا في الرمال ولا ندور حول مواضع الزلل؟

الجواب: لقد أوضحنا - بشكل ضمني - فيما سبق: أن خطأ البعض في فهم القرآن يعود إلى أحد العوامل التالية:

ص: 40


1- مجموع الآيات التي ادَّعوا نسخها هي (228) آية تقريباً وقد ذكر في (التمهيد) أنّ (20) آية منها فقط هي المنسوخة، بينما ال(208) الباقية ليست منسوخة، (راجع: التمهيد في علوم القرآن 2: 296، 404. وإذا قارنا هذه الكمية الضئيلة بمجموع آيات القرآن التي تبلغ (6666) آية - على المعروف - لوجدنا أنها لا تشكل سوى قطرة صغيرة في بحر خضم. ويمكن أن نقول مثل ذلك القول - بشكل تقريبي طبعاً - في الآيات المخصصة وفي الآيات المقيدة.

1 - تحكيم «الأهواء الشخصية» في تفسير القرآن.

2 - التعصّب ل«المسبقات الفكرية» المغروسة في أعماق الفرد، وبالتالي: تطويع القرآن لهذه الآراء بدلاً من تطويع هذه الآراء للقرآن.

وممّا يدخل ضمن هذا الإطار (التعصب للأفكار المذهبية) الخاطئة، ومحاولة تفسير الآيات القرآنية بشكل يؤيّد هذه الأفكار.

3 - التسرُّع في اعتناق الأفكار التي تظهر للإنسان في بادئ الرأي. وعدم التدقيق في صحّة هذه الأفكار أو سقمها.

4 - عدم الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) في الآيات المجملة، أو الآيات المتشابهة، وما شابه، وعدم توفّر القاعدة العلمية اللازمة فيما يتوقّف على ذلك.

أمّا عندما يكون الفرد تلميذ القرآن المتواضع، ويكيّف أهواءه وأفكاره وفق قيم القرآن ومبادئه، وليس العكس. ويتأنى في تقبل ما يخطر على باله من أفكار، ويعود إلى أهل البيت (عليهم السلام) فيما تشابه عليه، ويوفّر في ذاته القاعدة العلمية الرصينة فيما يتوقّف فهمه على وجود مثل تلك القاعدة. عندئذٍ تقل نسبة الخطأ في فهم القرآن إلى حدود كبيرة.

ويمكن أن تنعدم بالتالي (1).

الشبهة الرابعة: القرآن كتاب غامض.. فكيف نفهمه؟

يقولون: القرآن كتاب يكتنفه الإبهام والغموض، ففيه غموض في الكلمة، وغموض في المعنى، وغموض في المغزى، فكيف نستطيع - بعد

ص: 41


1- هذا مضافاً إلى أن الملاك في صحة المؤاخذة (قيام الحجة) لا (إصابة الواقع) فتدبّر.

ذلك - أن نفهمه؟!

لقد نزل القرآن قبل ألف وأربعمائة عام وخاطب جيلاً قد مات منذ أمد سحيق فهل تستطيع أجيالنا أن تفهم القرآن الآن؟!

والجواب:

1 - إن أغلب الآيات القرآنية: هي آيات واضحة في الكلمات والمعاني والأهداف، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟

وبإمكان أيّ فرد أن يتصفح القرآن الكريم ليجد هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيه.

2 - ولكن: تظلُّ هنالك مجموعة من الآيات غامضة ومبهمة، وذلك يعود إلى ابتعاد أُمّتنا عن اللّغة العربية الأصيلة، وليس إلى القرآن ذاته(1).

والسؤال الآن هو: كيف نفهم هذه الآيات الغامضة؟

والجواب: هنالك ثلاثة طرق:

أ - الرجوع إلى معاجم اللُّغة.. واستخراج معاني الألفاظ منها.

ب - التدبُّر في السياق العام للآية واستنباط معنى الكلمة، أو الآية من خلال ذلك.

ورغم أنّ السياق ليس عاملاً نهائياً وحاسماً في قهم الآيات القرآنية، إلاّ أنه يعيننا كثيراً في هذا المجال (إذا كان بحيث يشكّل ظهوراً عرفياً للكمة أو الجملة) مثلاً:

ص: 42


1- هذا بغضّ النظر - طبعاً - عن الآيات المتشابهة ونحوها التي يفتقر فهمها إلى التفكير المنطقي السليم، وإلى مراجعة روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، وإلى توفّر القاعدة العلمية الرصينة.

إذا أردنا اكتشاف معنى كلمة «حِوَل» في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً *خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}(1) فما علينا إلاّ أن ننظر إلى سياق الآية الكريمة لكي نكتشف أن معنى «الحول» هو (التحوّل) و(الانتقال).

أو إذا أردنا فهم معنى (الإملاق) في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(2) فما علينا إلاّ أن ننظر إلى الجوّ العام المحيط بالآية لنعرف أنّ معناه هو (الفقر) و(الحاجة).

وهكذا..

ج - التفسير

إنّ لمعرفة الإطار التاريخي الذي هبط فيه الوحي، والمورد الذي نزلت فيه الآية الكريمة، الأثر الكبير في فهم معاني (الآيات القرآنية) والأهداف التي نزلت من أجل تكريسها هذه الآيات.

ذلك لأنّ القرآن نزل بشكل تدريجي، واكب فيه الأحداث التي واجهها المسلمون في عهد الرسالة، ولم ينزل على الناس مرّة واحدة، ولذلك كان من الطبيعي أن تحمل الآيات طابع الظروف التي هبطت فيها.

وكتب التفسير هي التي تسلّط الأضواء على هذه الظروف، وتعطي - بالتالي - الأبعاد الحقيقية للآية الكريمة، (بالإضافة إلى الفوائد الهامّة الأُخرى التي تمنحنا إيّاها كتب التفسير).

ص: 43


1- الكهف: 107-108.
2- الإسراء: 32.

هذه كانت أهّم الشبهات التي يُتمسّك بها للتدليل على عدم جواز وحتى عدم إمكان (التدبُّر) في الآيات القرآنية.

وقد عرفنا من خلال هذا المبحث (إمكان) و(مشروعيّة) التدبُّر في القرآن الكريم.

ويبقى أن نشرح ضرورة التدبُّر في القرآن، وهذا ما يتكفّل به الفصل القادم - بإذن اللّه - .

ص: 44

معطيات التدبُّر في القرآن

لماذا التدبّر في القرآن؟

هكذا يتساءل البعض، ويضيفون: إنّنا نقرأ القرآن، ونستمع إلى تلاوته كلَّ صباح ومساء، أفلا يكفينا هذا؟!

والجواب:

1 - التدبُّر في القرآن هو الطريق للاستفادة من آياته، والتأثُّر بها.

إنَّ القراءة الميّتة للقرآن لا تعني أكثر من كلمات يردّدها اللّسان دون أن تؤثر في واقع الفرد التأثير المطلوب. أمّا (التلاوة الواعية) فهي تتجاوز اللِّسان لكي تنفذ إلى القلب، فتهزّه، وتؤثّر فيه.

لقد كان أولياء اللّه العارفون يتلون القرآن بوعي، فكانت جلودهم تقشعر، وقلوبهم ترتجف حين يقرأون آية، بل ربما كانوا يصعقون لعظم وقع الآية في نفوسهم.

لقد تلا الإمام الصادق (عليه السلام) آية في صلاته وردّدها عدّة مرات فصعق ووقع مغشياً عليه، ولمّا أفاق سئل عن ذلك، فقال: لقد كرّرتها حتى كأنّي سمعتها من المتكلّم بها، فلم يثبت لها جسمي؛ لمعاينة قدرته.

وكانت الآية هي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(1).

ص: 45


1- الفاتحة: 5.

بل إنّ التدبُّر لحظات في القرآن الكريم كان منعطفاً تغييرياً كبيراً في حياة الكثيرين.

فهذا «الفضيل بن عياض» كان في بداية حياته مجرماً خطيراً، وكان ذكر اسمه كافياً لإثارة الرُّعب في القلوب.

لقد كان يقطع الطريق على القوافل، ويسلب المسافرين ما يملكون، وذات يوم وقعت نظراته على فتاة جميلة فصمّم في نفسه أمراً.

وفي نفس تلك الليلة كان يتسلّق جدار ذلك البيت الذي تسكن فيه الفتاة وهو ينوي الاعتداء عليها واغتصابها.

وفي هذه الأثناء تناهى إلى مسامعه صوت يتلو هذه الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}.

فأخذ يفكر في الآية بضع ثوان، وأخذ يردّد مع نفسه قائلاً: (يا ربّ، بلى قد آن)(1).

ثمّ هبط من الجدار، وتولّى بوجهه شطر المسجد فاعتكف فيه إلى أن مات.

إن تدبُّر هذا الرجل في آية واحدةٍ حولّه من مجرم متمرّس بالجريمة، إلى معتكف في محراب العبادة، فكيف إذا تدبّر الإنسان في كلّ القرآن؟.

2 - التدبُّر في القرآن هو الطريق لفهم (قيم القرآن) و(أفكاره) و(مبادئه) كما أنزلها اللّه سبحانه.

إنّ هنالك خيارات صعبة وعديدة تطرح أمام الفرد، وأمام الأُمّة كلَّ يوم،

ص: 46


1- سفينة البحار 2: 369.

ولاختيار الطريق السليم بين هذه الخيارات لا بدّ من الرجوع إلى القرآن والتدبر في آياته.

ومن هنا يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(1).

ومن هنا - أيضاً - أطلق القرآنُ على نفسه اسم (الفرقان).

ذلك لأنّه يفصل ويفرّق بين الحق والباطل، والهدى والضلال.

ولكن يفصل ويفرّق لمن؟!

الجواب: لمن يفهم آياته، ويتدبّر فيها.

3 - هنالك مشاكل كثيرة يصطدم بها الإنسان في حياته، سواء أكانت من المشاكل الفردية التي لا تتعدّى إطار الفرد ذاته؟ أم المشاكل الاجتماعية التي تصيب الجميع.

والقراءة الواعية للقرآن الكريم، والتدبُّر في آياته، يقومان بدور مزدوج في هذا المجال: فهما يقومان - من جانب - بتطهير ما علق في نفس الإنسان من سلبيات، ومن هنا يقول اللّه سبحانه: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}(2).

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(3).

ويقومان - من جانب آخر - بوضع البرامج السليمة للخروج بحلٍّ ناجع لهذه المشاكل.

ص: 47


1- الإسراء: 9.
2- يونس: 57.
3- الإسراء: 82.

4 - وأخيراً: فإنّ التدبُّر في القرآن هو الطريق للعمل بما جاء فيه، وذلك لأنّ العمل بالقرآن يتوقّف على فهمه، وفهم القرآن لا يمكن إلاّ بالتدبُّر في آياته.

ومن هنا، فإنّ الذين لا يتدبّرون في القرآن ربّما يفوتهم تطبيق الكثير من مبادئ الدين في حياتهم العملية وهم لا يشعرون.

ص: 48

منهج التدبُّر في القرآن

اشارة

قبل الحديث عن (منهج التدبر في القرآن) لا بدّ أن نعترف بأنّ استعراضنا لهذا المنهج - هنا - هو استعراض ناقص، ويعود ذلك إلى عاملين:

أحدهما: صعوبة الإحاطة بالمنهج بشكله المتكامل؛ فالقرآن بحر عميق، لا يدرك غوره، ولا تفنى عجائبه - كما يقول الإمام علي (عليه السلام) ، ومن هنا فإنّ الإحاطة به أمر صعب، إن لم يكن أمراً مستحيلاً.

وثانيهما: إنّ بعض هذه المناهج قد تكون عسيرة الهضم على البعض؛ ذلك لأنّ فهمها يرتبط باستيعاب علوم معينة. ومن هنا تركنا التعرُّض إلى تلك المناهج في هذا البحث.

وبعد معرفة هذه الحقيقة يبرز السؤال التالي: ما هو منهج التدبّر في القرآن؟

والجواب: إنّ المنهج يعتمد على طرح مختلف التساؤلات حول (الظواهر القرآنية)، فكلّ آية من القرآن الكريم مجال خصب لطرح تساؤلات عديدة، وعلى الفرد الذي يحاول التدبُّر في القرآن أن يثير في عقله هذه التساؤلات، ومن ثمّ يحاول الإجابة عليها.

وهذه التساؤلات تتناول ما يلي:

1 - معنى الكلمة.

ص: 49

2 - تخيُّر الكلمة.

3 - موقع الكلمة.

4 - الشكل الخارجي.

5 - التسلسل المعنوي، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض.

6 - التصنيف.

وسوف نسلط الضوء على هذه الأُمور مع ذكر بعض النماذج الإيضاحيّة، كتصورات أوليّة تفتقر إلى مزيدٍ من البحث والتمحيص.

أوّلاً: معنى الكلمة

يتكوّن القرآن الكريم من كلمات، تماماً كما يتكوّن البناء من لبنات. ولذلك فمن الطبيعي أن تكون الخطوة الأُولى لفهم القرآن الكريم هي التدبّر في الكلمات القرآنية.

ومع الأسف، فإن بعضاً ممن يقرأون القرآن لا يقومون بهذه المهمة؛ ولذلك فهم:

1 - إمّا أنّهم لا يفهمون معاني الكلمات.

2 - أو يفهمونها بشكل مغلوط.

3 - أو بشكل باهت لا يعكس المدلول الدقيق للكلمة.

وعن هذه الظاهرة الثالثة ننقل فقرات من كتاب (بحوث في القرآن الحكيم):

(بالرغم من أنّ اللغة العربية أشمل وأدقّ وأجمل اللّغات في أنها تعطي لكل حقيقة لفظاً قريباً يتناسب معها تماماً، وبالرغم من أنّ العرب اختاروا

ص: 50

لكل تطوُّر ينشأ في شيء لفظاً يخصّه، ويوحي إلى تلك الحقيقة متلبّسة بذلك التطوّر.

«بالرغم من هذا وذلك فإنّ الكلمات العربية اكتنفها الغموض ممّا أفقد إيحاء اللّفظ وظلاله. فلم نعد - نحن العرب - نملك رهافة الحس لنعرف الفرق الذي كان بين لفظتي «قرُب - اقترب» أو «فكّر - افتكر» حتى لم نعد نعرف الفرق بين كلمتي «سار» و«سارب» و«دلك» و«أولج» وما أشبه.

ويعود ذلك إلى:

أوّلاً: كثرة استعمال الألفاظ في غير معانيها الأدبية. فحينما يستعمل العربي كلمة «قرب» في المجال المحدّد ل(اقترب)، أو حتّى كلمة (سار) في موضع كلمة (سارب) تختلط ظلال الكلمتين مع بعضها وتضيع الإيحاءات الخاصّة.

ثانياً: تعلّقت أذهاننا بمعاني جامدة ومحدّدة كألفاظ عربية، وفقدنا الشعور بمحور شعاع الكلمة. فنحن حينما نستعمل كلمة (جن) يتبادر إلى أذهاننا المخلوق الغريب دون أن نفكّر ولا لحظة حول ارتباط كلمة «ج ن» مع هذا المخلوق، ونستعمل كلمة «جنين» دون أن نعرف أن هناك علاقة تتناسب بين معنى الولد في بطنه أُمّه (جنين) ومعنى المخلوق الغريب (جن) وهي: أنّ كليهما مستور عن أعيُن الناس.

وكذلك نطلق لفظة «الخمر» للدلالة على السائل المسكر، ونطلق لفظة (الخمار) للدلالة على الساتر لوجه المرأة، ونلاحظ أن علاقة اللفظين ببعضهما إنّما هي من ناحية الستر، فهذا يستر الوجه وتلك تستر العقل.

ص: 51

وهكذا تتداخل إيحاءات اللفظ العربي ببعضها، ونفقد بذلك فهم أهمّ سمة من سمات اللّغة العربية التي لو فهمناها لسهل علينا فهم القرآن كثيراً.

من هنا يتوجّب علينا الخروج من الفهم التقليدي للألفاظ العربية نحو أُفق أسمى، يستشم المعنى الإيحائي العام منها.

وهذا الخروج ضروريّ لفهم القرآن الحكيم؛ إذ إنّه في قمّة البلاغة التي تتلخّص في رعاية التناسب الشامل بين الموضوع واللّفظ، وبين الواقع والتعبير، فيكون كشف المنحنيات التفسيرية والإيحاءات اللّفظية ذا أهمّية خاصّة في القرآن أكثر من أيّ كتاب آخر؛ لأنّها معنية فيه بشكل لا يوصف.

يبقى السؤال عن كيفية الخروج؟

والجواب: على الفرد:

1 - أن يتجرّد أوّلاً عن موحيات المناخ الفكري الذي يصوّر له معنى جامداً للّفظ.

2 - ثمّ الرجوع إلى المادّة الأساسية التي تجمع كلّ التصريفات للكلمة، والتفكير في المعنى المناسب لربط هذه المجموعات باللفظ. فمثلاً: نجمع معاني يعرشون، عرشاً، معروشات، ونعود إلى تصريفات اللّفظ الأُخرى: عريش، ما أشبه لنستنبطها جميعاً من البناء الفوقي؛ لأنه يجمع معاني سرير الملك، والبناء المرفوع، وسيباط الكرْم، والخيمة من الخشب، هذه المعاني التي ذكرتها العرب لهذه الألفاظ.

3 - قياس موارد استعمال اللّفظ ببعضها، ليعرف المعنى المشترك الذي

ص: 52

يمكن أن يُتصوّر جامعاً بين هذه الموارد، ومن الطبيعي أن يعتبر في الاستعمال أن يكون على لسان أهل اللُّغة المعتنين بالبلاغة.

«وإذا كان قياس موارد الإستعمال ببعضها أفضل السُّبل لمعرفة المعنى الحقيقي للفظ مّا، فإنّ أفضل قياس من هذا النوع هو قياس موارد استعمال الكلمة في القرآن ذاته؛ إذ إنّه - لا ريب - ذروة البلاغة العربية التي عجز عن تحدّيها أبلغ فصحاء العرب.

«من هنا يجدر بالذي يريد التدبُّر في القرآن ذاته، أن يبحث عن المعنى المحدّد للكلمة في آيات القرآن ذاته. ليجد - بقياس بعض المواضع المستعملة فيهما الكلمة ببعضها - ذلك المعنى الدقيق الذي يقصده القرآن»(1)، فتأمّل.

وفيما يلي نستعرض بعض الأمثلة حول التدبّر في الكلمة القرآنية.

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}(2).

لكي نفهم معنى كلمة «حنيف» التي احتوت عليها الآية الكريمة نعود إلى اللّغة، لنجد المواضع التي استخدمت فيها هذه الكلمة، ثمّ لنستنبط من هذا المجموع المعنى العام.

فنجد في اللغة: «حنف: مال - وحنف رجله: جعلها حنفاء - وحنُف

ص: 53


1- بحوث في علوم القرآن الكريم: 35-38.
2- آل عمران: 67.

اعوجّت رجله إلى داخل فهي حنفاء - وحوانف - الحنفاء: القوس -» وهكذا.

ونستنتج من كلّ ذلك أنّ معنى (حنف) هو (مال).

ونعود إلى التفسير لنجده يؤكّد المعنى ذاته(1).

وعلى هذا، فيكون معنى الآية: إنّ إبراهيم كان مائلاً عن كلّ المبادئ الزائفة، مسلّماً لله تعالى وحده.

ذلك أنّ للإيمان دعامتين:

رفض كلّ القيم، والأصنام، والمبادئ الزائفة.

والتسليم المطلق لله سبحانه - وحده لا شريك له.

فالإيمان يتلخّص في كلمة رفض تشمل كلّ الآلهة الأصنام: {لا إله}.

واستثناء واحد ينبثق من ضمير هذا الرفض المطلق: {لا اللّه}.

وبهذا تنهار كلّ الحلول الوسطى، وكلّ المحاولات التوفيقية بين اللّه

وبين الأصنام - مهما كان اسم هذه الأصنام أو شكلها - .

وبهذا أيضاً نعرف خطأ أولئك الذين يحاولون الجمع بين اللّه وسائر الآلهة.

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *قَالَ الْمَلأَُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}(2).

ص: 54


1- الصافي 1: 270.
2- الأعراف: 59-60.

- قد يبدو للنظرة العابرة أنّ كلمة (الملأ) في هذه الآية تعني (الجماهير) وعلى هذا الأساس فإن اللذين كفروا ب«نوح» وغيره من الأنبياء كانوا عامّة الناس(1).

وهنا قد يثار السؤال التالي: لماذا كفرت الجماهير برسالات الأنبياء؟ ألم تكن رسالات الأنبياء تدعو الناس إلى فطرتهم وضمائرهم؟!.

والحقيقة: إنّنا لو فتّشنا حول مدلول كلمة الملأ لوجدنا أنّها تعني: (أشراف القوم الذين يملأون العيون والصدور هيبة - كما تؤكّده معاجم اللُّغة وكتب التفسير -(2).

ومن هنا نستنتج: أنّ الذين كفروا برسالات الأنبياء لم يكونوا (الجماهير) وإنّما كانوا (الأشراف) و(الوجهاء).

كما نستنتج من ذلك أنّ رفضهم لرسالات الأنبياء لم يكن من أجل عدم اقتناعهم بها، وإنما من أجل الحفاظ على مصالحهم الشخصية.

ص: 55


1- استخدمت كلمة (الملأ) حوالي (30) مرة في القرآن الكريم خلال استعراض قصص الأنبياء، وطبيعة مواجهتهم مع المشركين وغير ذلك.
2- الصافي 1: 588؛ الميزان 8: 174. ومن الجدير أن نشير هنا إلى ما قاله الرازي في تفسيره: والملأ: الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء. والدليل عليه أن يقول: «من قومه» يقضي أن ذلك الملأ بعض قومه، وذلك البعض لا بدّ أن يكونوا موصوفين بصفة استحقوا لأجلها هذا الوصف، ذلك بأن يكونوا هم الذين يملأون صدور المجالس وتمتلئ القلوب من هيبتهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجّه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصل إلاّ في الرؤساء، وذلك يدلّ على أنّ المراد من الملأ (الرؤساء والأكابر) راجع: التفسير الكبير 14: 150.

ثانياً: تخيُّر الكلمة

من نقاط الالتقاء بين (النظام القرآني) و(النظام الكوني)، وضع كل شيء في محلّه الطبيعي المناسب له، بحيث يسبّب أيُّ تلاعب - ولو كان بسيطاً - خللاً في النظام وفساداً.

ففي النظام الكوني نجد أنّ كلّ ذرّة من ذرّات الوجود قد وجدت لحكمة، ووضعت في مكانها الخاص بها لحكمة بحيثُ لو حدث أيُّ تغيير في ذلك لاختل جانب من جوانب الحياة.

وفي النظام القرآني نجد أنّ كل كلمة في القرآن قد وضعت في محلِّها الطبيعي، بحيث لا يمكن أن تسدّ أيّة كلمة أُخرى مكانها، ولا أن تعطي نفس الأبعاد والظلال التي كانت تعطيها تلك الكلمة.

وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن سرّ استخدام القرآن الكريم لهذه الكلمة لا غيرها، وبهذا الشكل لا غيره.

وفيما يلي بعض النماذج الإيضاحية:

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}(1).

«إنّ معنى الآية الكريمة واضح، وهو - على ما يعطيه السياق - شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها، والتسابق في تكثير العدّة والعدد عمّا يهمّكم وهو ذكر اللّه، حتّى لقيتم الموت، فعمّتكم الغفلة مدى حياتكم»(2).

ص: 56


1- التكاثر: 1-2.
2- الميزان 20: 351.

ولكنّ السؤال هو: لماذا يستعمل القرآن الكريم كلمة (زرتم)؟ لماذا لم يقل: حتّى سكنتم المقابر، أو ملأتم المقابر، أو حللتم المقابر؟!.

والجواب: ربما ليُِلفت الأنظار إلى أنّ المقام في القبر مقام مؤقّت، وأنّ الدخول إلى القبر دخول زيارة لا دخول سكن.

خلافاً للأفكار الماديّة الضيّقة التي تعتبر الموت هو النهاية، والقبر هو آخر المطاف.

- 2 -

يقول القرآن الكريم - وهو يتحدّث عن قصة زكريا (عليه السلام) بعد أن بشرّته الملائكة بيحيى (عليه السلام) - : {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(1).

وهنا نجد القرآن يستخدم كلمة (يفعل) {كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاء}.

ويقول القرآن الكريم - وهو يتحّدث عن قصّة مريم (عليها السلام) بعد أن بشرتها الملائكة بعيسى (عليه السلام) - : {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(2).

وهنا نجد القرآن يستخدم كلمة (يخلق) في قوله تعالى: {كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاء}. فما هو الفرق بين الموضوعين؟!

والجواب: في قصّة زكريا (عليه السلام) كانت عوامل الولادة الطبيعية - من وجود

ص: 57


1- آل عمران: 40.
2- آل عمران: 47.

الزوج والزوجة وغيرهما - لكن، كانت هناك موانع في الطريق، واللّه سبحانه رفع هذه الموانع؛ ولذلك كان التعبير ب(الفعل).

تماماً: كما لو أنّ العلم توصّل إلى علاج لرفع العقم، وإعادة الشيخ إلى صباه قوةً وقدرةً، فهذا لا يعتبر خلقاً للجنين، وإنّما (فعلاً) رفعَ العقبة عن الطريق.

أمّا في قصّة مريم (عليها السلام) ، فلم تكن عوامل الولادة الطبيعية متوفرة، وإنّما كان تكويناً إعجازيّاً يرتبط بالغيب. ومن هنا كان التعبير عنه ب(الخلق).

- 3 -

يقول القرآن الكريم: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا}(1).

عند النظرة السطحية العابرة قد يبدو: أنّ الشكل الطبيعي للآية الكريمة كان يجب أن يكون: (وارزقوهم منها)، وليس (وارزقوهم فيها)، أليس كذلك؟!.

ولكنّنا نستطيع أن نفهم من استبدال كلمة (منها) ب(فيها): ضرورة استثمار الولي لمال السفيه - وعدم تجميدها على حالتها الأُولى(2).

ذلك لأنّك قد تقول: (أكلت من الطعام) وهذا يعني أنّ الطعام هو الذي أُكل، وأنّ النقص ورد عليه لا على غيره.

أمّا عندما تقول: (أكلت في الصحن) فهذا - بالطبع - لا يدلّ على أنّك

ص: 58


1- النساء: 5.
2- ليس المقصود ب(الضرورة) هنا الوجوب الشرعي بل الأولويّة أو الاستحباب.

أكلت الصحن، وإنّما يعني أنّك أكلت ما كان في الصحن.

وإذا كان القرآن يستخدم كلمة (منها) قائلاً: (وارزقوهم منها) لكان معناه: الأكل من نفس مال السفيه.

ولكنّ استخدام القرآن لكلمة (فيها) يدل على التنمية الماليّة، فالمال - هنا - يظل محفوظاً، كما يظل الظرف محفوظاً في قولك (أكلت في الصحن) - ولكنّ ما تولّد من هذا المال هو الذي ينفق منه على السفيه.

وهكذا نستنتج من استبدال كلمة بسيطةٍ مكان أُخرى، هذه القاعدة الاقتصادية المهمّة..

ثالثاً: موقع الكلمة

من نقاط الالتقاء بين (النظام الكوني) و(النظام القرآني): (الهدفية) التي تشمل جميع أنحاء كل واحد من النظامين.

ففي النظام الكوني نجد أنّ كلّ المخلوقات التي تسبح في هذا الكون الكبير - ابتداءاً بالذرّة وانتهاءاً إلى المجّرة - كل هذه المخلوقات «مهدوفة».. ولا نجد كائناً واحداً زائداً على الحياة، أو طفيلياً عليها.

وفي النظام القرآني نجد أنّ كلّ جملة، وكلّ كلمة، وكلّ حرف قد جاء من أجل هدف معين، ولا نجد في القرآن الكريم حتّى حرفاً واحداً يمكن الاستغناء عنه.

وحتّى لو بدا للنظرة العابرة وجود شيء زائد - سواء أكان في النظام الكوني أم في النظام القرآني - فإنّ البحث الدقيق يكشف عن ضرورة معيّنة تتطلّب وجود ذلك الشيء.

ص: 59

من هنا كان على من يحاول التدبّر في القرآن الكريم أن يحاول اكتشاف (موقع الكلمة)، أي: الهدف التي جاءت من أجله هذه الكلمة، والمغزى الذي تشير إليه.

وسوف نستعرض فيما يلي بعض الآيات القرآنية. كنماذج لينطلق منها القارئ الكريم إلى سائر الآيات.

- 1 -

يقول القرآن الكريم - وهو يتحدّث عن قصَّة زكريا (عليه السلام) بعد أن بشرّته الملائكة بيحيى (عليه السلام) : {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(1).

-: ما هو موقع كلمة (كذلك) في هذه الآية الكريمة؟ ولماذا لم تكن الآية: (قال: اللّه يفعل ما يشاء) أو (قال: إن اللّه يفعل ما يشاء)؟!.

والجواب: إنّ وجود كلمة (كذلك) في هذه الآية يضيف إليها بعداً جديداً هو: الدلالة على الدأب والاستمرارية.

فعندما تعجّب زكريا (عليه السلام) من أن يهب اللّه له غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر، كان الردّ: أنّ هذه الولادة ليست بدعاً من الأُمور، وإنّما هي أمر مألوف ومكرّر بالنسبة إلى مشيئة اللّه وفعله الذي يتمُّ في أوقات كثيرة على هذا النحو، ولذلك فلا داعي للتعجّب من أمر هذه الولادة.

وهكذا دلّت كلمة (كذلك) في هذه الآية الكريمة على سنَّة قديمة لله سبحانه في هذا الكون لا تدع مجالاً للاستغراب من ظواهرها الجديدة.

ص: 60


1- آل عمران: 40.

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ...}(1).

في هذه الآية: نجد القرآن الكريم يضيف إلى اسم المسيح نسبه (عيسى بن مريم) (عليه السلام) .

بينما في الآية السابقة يذكر القرآن اسم موسى (عليه السلام) بشكل مجرّد فيقول: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمُ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(2).

وقد تكرّر ذلك في آيات القرآن كثيرا،ً(3) وهكذا.

والجواب: لقد تركّز الضغط القرآني على كلمة (ابن مريم) تأكيداً على الجانب البشريّ في المسيح (عليه السلام) ، ونفياً مشدّداً لما ادَّعته النصارى من وجود جانب إلهي فيه.

وهكذا يجمع القرآن الكريم بين استعراض الأفكار والمفاهيم الإلهية، وبين النفي الضمني للخرافات والأباطيل.

- 3 -

{الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}(4).

هذه الآية الكريمة نزلت عندما اندحر الروم في أرض الشامات - وهي

ص: 61


1- الصف: 6.
2- الصف: 5.
3- ورد اسم المسيح في القرآن الكريم مقروناً بذكر اُمّه (ابن مريم) حوالي (20) مرة.
4- الروم: 1-3.

أقرب أرض إلى الجزيرة العربية - . وانتصر الفرس عليهم، وهزموهم هزيمة ساحقة.

ولكن: ما هو مغزى ورود كلمة {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} في هذه الآية؟! مع أنّ موقع المعركة كان معروفاً لدى الجميع؟!.

وحتّى لو افترضنا أنّ موقع المعركة كان مجهولاً - فهل القرآن كتاب جغرافي حتّى يتناول مثل هذه القضية؟ أم أنّ هنالك أمراً آخر؟!.

والجواب: قد يكون قوله سبحانه {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} من أجل توضيح حجم الهزيمة التي حلّت ب«الروم»؛ ذلك لأنّ القضية لم تكن قضية جيشين يلتقيان في الصحراء ويمنى أحدهما بالفشل، فالقضية أكبر من ذلك، إنّها قضيّة جيش غاز - يغزو عدوّه في عقر داره وينتصر عليه، ومن ثُمّ يقيده بالسلاسل ويمتهن شره وكرامته(1).

ص: 62


1- جاء في كتاب «الإسلام يتحدّى»: «وأغار (كسرى ابرويز) على بلاد الروم، زحفت جحافله عابرة نهر الفرات إلى الشام. ولم يتمكن «فوكاس» [ملك الروم] من مقاومة جيوش - الفرس التي استولت على مدينتي (انطاكية والقدس) فاتسعت حدود الأمبراطورية الفارسية إلى وادي النيل، وتقلصت الأمبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسدّت جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس، وعم قحط، وفشت الأمراض الوبائية، ولم يتبق من الإمبراطورية غير جذور شجرها العملاق. وكان الشعب في العاصمة خائفاً يترقّب ضرب الفرس للعاصمة، ودخولهم فيها، وترتّب على ذلك أن أُغلقت جميع الأسواق، وكسدت التجارة وتحوّلت معاهد العلم والثقافة إلى مقابر موحشة مهجورة، وبدأ عبّاد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية، فبدأوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدّسة، ودمّروا الكنائس، وأراقوا دماء ما يقرب من (100.000): مائة ألف إنسان من المسيحيين المسالمين، وأقاموا بيوت عبادة النار في كلّ مكان، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار»... راجع: الإسلام يتحدّى: 183-184.

إذن فحجم الهزيمة كبير، والمصاب فادح، ولكن رغم ذلك: تشاء إرادة اللّه أن تعكس الأمر وتعيد للروم حريّتهم واستقلالهم.

وهكذا دلّ قوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} على تلك الهزيمة العظيمة التي تدخّل القدر الإلهي ليحوّلها إلى نصر عظيم!

رابعاً: الشكل الخارجي

إذا ألقيت نظرة عابرة على جسدك تجد: أنّ كلّ عضو، وكلّ جهاز في هذا الجسد له شكل معيِّن. فاليد، والرجل، والأصابع، والكبد، والأمعاء، و.. لها شكل خاص، يختلف عن شكل الأعضاء، والأجهزة الأُخرى.

وهذه الشكلية المتنوّعة لم تأت عبثاً، وإنّما وفق حكمة إلهية معينة، ولتلّبي حاجات الإنسان ومتطلباته على أفضل وجه.

وكما هو جسد الإنسان كذلك الكون كلّه.

هذه الحقيقة التي نلمسها في كتاب اللّه التكويني (الكون)، نستطيع أن نلمسها - أيضاً - في كتاب اللّه التشريعي (القرآن).

فالشكل الخارجي للآيات القرآنية لم يأت عبثاً، وإنّما وضع لحكمة معينة، وللدلالة على فكرة خاصّة من هنا: كان علينا - حين نتدبّر في القرآن الكريم - أن نكتشف (الفلسفة الشكلية الخارجية) للآيات القرآنية.

والتدبُّر هذا ينبغي أن يشمل المجالات التالية:

أ - التقديم والتأخير.

ب - الإفراد والتثنية والجمع.

ج - المعلوم والمجهول.

ص: 63

د - وسائر الأشكال الأُخرى.

وإليكم بعض النماذج:

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}(1).

بينما يقول في آية أُخرى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(2).

فلماذا في الآية الأُولى قدّم رزق المخاطبين على رزق أولادهم؟.

وفي الآية الثانية: قدم رزق الأولاد؟.

هل جاءت المسألة عفويّة، أو كانت نوعاً من التفُّنن التعبيري؟ أم أنّ وراءها شيئاً آخر، وقد ترمز إلى حقيقة علمية أو واقعيّة؟.

فباختلاف العبارتين يختلف معنى كلّ آية؟

المعنى قد يكون في الجملة واحداً، ولكن في التفصيل ونوع المخاطب به يختلف.

لماذا؟ لأنّك لو نظرت إلى عجز كلّ آيةٍ مع صدرها، لوجدت أنّ العجز مناسب لذلك الصدر تماماً.

لأنّه في الآية الأولى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ}.

ص: 64


1- الأنعام: 151.
2- الإسراء: 31.

فهذه العبارة {مِنْ إِمْلاَقٍ} توحي بأنّ الفقر موجود بالفعل.

وما دام الفقر موجوداً بالفعل فاهتمام الإنسان يكون برزق نفسه قبل أن يهتم برزق ولده، فهو يخاف أن يبقى جائعاً لو أراد أن يطعم أولاده. وهنا يُطمئنه اللّه تعالى على نفسه - أولاً - وعلى رزق أولاده ثانياً، فيقول: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ} - يا أصحاب الإملاق - {وَإِيَّاهُمْ}.

بينما في الآية الثانية يقول اللّه: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ} أي: خوفاً من فقر يقع مستقبلاً، فكأنّ الفقر غيرُ موجود، ولكنَّ الأب يخاف إن جاءه أولاد أن يأتي الفقر معهم، فيقول له اللّه تعالى: لا، أنا سأتكفّل لهم برزقهم {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}.

إذن، فالمعنى ليس واحداً في الآيتين، وإن كان يبدو في ظاهره واحداً.

لأنّ في قضية قتل الأولاد خوفاً من الفقر يكون المخاطب في كل آية مختلفاً عن الآخر.

فمرة يكون فقيراً بالفعل - وهنا يُشغل برزقه قبل أن يُشغل بالُه برزق ولده - فقتل الأولاد يكون نتيجة لوجود الفقر - وهنا تحمل العبارة ضماناً لرزقه أوّلاً، ثمّ رزق ولده ثانياً.

ومرة يكون غنياً، ولكنّه يخاف أن يأتي الفقر إذا جاء الولد، فيكون باله مشغولاً برزق ولده، فيقتله تحسُّباً من الفقر المتوقّع بمجيء الولد، وهنا تعطيه الآية بشارة برزق الولد عند مجيئه {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(1).

ص: 65


1- القرآن كتاب حياة: 149-151.

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1).

هذه الآية الكريمة نزلت في شأن الإمام علي (عليه السلام) حينما تصدّق بخاتمه وهو راكع - كما دلّت عليه روايات الفريقين - .

وهذه الآية تثبت الولاية لكلٍّ من:

- اللّه سبحانه وتعالى.

- الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

- الإمام علي (عليه السلام) .

ولكن: لماذا عبّرت الآية بكلمة «وليّكم» - بصيغة الإفراد -؟ ولماذا لم تأت الآية هكذا: (إنما أولياؤكم اللّه ورسوله والذين أمنوا)؟!

والجواب: إن التعبير بهذه الطريقة يشير إلى مفهوم هامٍّ هو: أنّ الولاية هي لله سبحانه، فاللّه تعالى هو الوليُّ الحقيقي الذي لا ولي سواه.

أمّا ولاية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) فهي مستمدة من ولاية اللّه سبحانه، وهكذا تكون ولاية اللّه سبحانه ولاية بالأصالة، وولاية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) ولاية بالتّبع.

ومن ذلك نستنتج: أنّ النبيّ والإمام ممّثلان لله سبحانه في الأرض؛ ولذلك فلا يحقّ لهما أن يقوما بسنّ الأحكام، وتشريع القوانين وفقاً

ص: 66


1- المائدة: 55.

لرغباتهما الشخصية، وإنّما يجب أن يكون ذلك بقرارٍ يهبط من السماء(1).

- 3 -

يقول القرآن الكريم: {يَهْدِي بِهِ} (القرآن) {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(2).

في هذه الآية نجد أنّ القرآن الكريم يأتي بصيغة الجمع في كلمتي {سُبُلَ السَّلاَمِ} و {يُخْرِجُهُمْ

مِنَ الظُّلُمَاتِ} بينما يأتي بصيغة الإفراد في قوله {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فلماذا؟

والجواب: إنّ الصراط المستقيم هو صراط واحد؛ ذلك لأنّ الحقّ واحد.

ومن هنا: فإنّ الطريق إلى الحقّ هو واحد - أيضاً - ولذلك يقول القرآن الكريم في آية أُخرى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(3).

وعلى العكس من ذلك (الظلمات) والطرق المعوجّة، فهي كثيرة ومتعددة.

أمّا بالنسبة إلى {سُبُلَ السَّلاَمِ}: فإنّ الحياة حقل ألغام، والمشاكل كثيرة:

ص: 67


1- في هذا المجال يقول القرآن الكريم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ *لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47).
2- المائدة: 16.
3- الأنعام: 153.

نفسية، وجسدية، واجتماعية، واقتصادية.. و.. والسلام هو التخلّص من مجموع هذه المشاكل، كما أنّ الصحّة هي التخلّص من مجموع الأمراض.

ولأنّ التخلّص من كلّ واحد من هذه المشاكل يحتاج إلى طريقة وأُسلوب، لذلك جاء التعبير القرآني ب{سُبُلَ السَّلاَمِ} وليس (سبيل السلام).

- 4 -

يقول القرآن الكريم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

وهنا نجد أنّ القرآن الكريم يبني فعل {يُوقَ} للمجهول، فلماذا؟

والجواب: أنّ «الشحَّ» ملتصق بالنفس الإنسانية.

فالإنسان - بطبيعته - يحبّ أن يستأثر بالمال، ويكره أن يعطي للآخرين منه شيئاً.

وهذا الإلتصاق الطبيعي يمكن أن نستفيده من إضافة «الشحّ» ل(النفس) في الآية الكريمة.

من هنا: فإنّ من العسير على الإنسان أن يقاوم شحّه بذاته؛ لأنّه يصعب عليه أن يقاوم طبيعته؛ لذلك فهو يحتاج إلى إمداد غيبي، ووقاية خارجية، كما تعبّر الآية بقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}.

وبالطبع فإنّ هذه الوقاية الإلهية لا تهبط من السماء - بدون مقدّمات - على قلب الإنسان، وإنّما يوفّرها الإيمان الحقيقي باللّه.

- 5 -

يقول القرآن الكريم - بعد أن يتحدّث عن الصبر على المصيبة: {إِنَّ

ص: 68


1- الحشر: 9.

ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(1).

ولكنّ القرآن يضيف حرف (اللام) للتوكيد حينما يتكلَّم عن الصبر على أذى الآخرين، فيقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(2).

والسؤال: لماذا اُضيف حرف «اللاّم» في الآية الثانية؟

والجواب - على ما قيل - : إنّ الصبر على أذى الغريم الذي يستطيع الإنسان أن يردّ عليه بأذى مثله يحتاج من الإنسان إلى عزم أكبر، فالصبر هنا ليس كالصبر على مصيبة لا حيلة للإنسان فيها.

ومن هنا لم تجيئ لام التوكيد في الآية الأُولى، وجاءت في الآية الثانية(3).

خامساً: الارتباط والتسلسل

من الشروط التي يجب توفُّرها في الكلام ليكون بليغاً وأنيقاً: الارتباط والتسلسل.

فالكاتب الذي يدع أفكاره يموج بعضها في بعض، ويحشر المواضيع المختلفة بعضها في البعض الآخر حشراً.

والخطيب الذي يقفز من موضوع إلى موضوع كما يقفز الطائر من غصن إلى غصن.

ص: 69


1- لقمان: 17.
2- الشورى: 43.
3- هذا الاستنباط مبني على إعادة «ذلك» في الآية الأُولى إلى الصبر على المصيبة - كما هو مقتضى أحد التفسيرين - وليس إلى كلّ ما سبق.

والمتحدّث الذي تتزاحم على دماغه الأفكار فيتحدّث حولها جميعاً في وقت واحد. كل هؤلاء ليسوا من البلاغة في شيء.

ولأنّ القرآن الكريم هو قمّة البلاغة والفصاحة لذلك كان لا بدّ - على ما يراه بعض العلماء - من وجود روابط معينّة بين آياته، بل وخيط خفّي يربط بين آيات السورة الواحدة - كما يربط حبّات المسبحة بعضها ببعض، (خيط خفي) فتأمّل.

والعلاقة بين الآيات قد تكون:

- علاقة المسبَّب بالسبب.

- أو علاقة التكامل.

- أو علاقة التعليل.

- أو علاقة التشابه.

- أو علاقة التفريع.

- إلى غير ذلك من أنواع العلاقة.

والسؤال الآن هو:

لماذا نطرح محاولة اكتشاف الروابط بين الآيات القرآنية؟ هل هناك ضرورة تفرض ذلك؟ أم أنّه يمكننا أن نفهم كلّ آية بشكل مستقل ومنفصل عن الآيات الأُخرى؟.

والجواب: إنّ لاكتشاف الروابط بين الآيات القرآنية فائدتين:

إحداهما: فهم المعنى الحقيقي للآية:

إنّ فهم المعنى الحقيقي لكثير من الآيات يتوقّف على اكتشاف

ص: 70

(الارتباط بين الآيات)، ومن هنا نجد: أنّ الذين حاولوا فهم القرآن بشكل تجزيئي أخطأوا في فهم الكثير من الآيات(1).

وثانيتهما: اكتشاف مفاهيم هامة من خلال ذلك.

أمّا مجالات اكتشاف العلاقة فهي:

أوّلاً: العلاقة بين أجزاء الآية الواحدة، وهذا ما نسميه ب«فهم الارتباط».

ثانياً: العلاقة بين الآيات - وهذا ما نسميه ب(فهم التسلسل).

وفيما يلي.. بعض الصور الإيضاحيّة:

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأَُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}(2).

هذه الآية الكريمة تبيّن أنّ الجنة هي من نصيب أفراد ملامحهم كالتالي:

1- إنّهم هاجروا.

2- هذه الهجرة لم تأت عبثاً، أو من أجل الراحة أو السياحة، بل لأنّهم عملوا وجاهدوا حتى اضطرتهم القوى المعادية للخروج. قال تعالى: {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}.

ص: 71


1- راجع - للمزيد من التفاصيل - الفصل الثاني من هذا الكتاب: (الفهم الشمولي للقرآن).
2- آل عمران: 195.

3 - وكانت هذه الهجرة عقيب تلقيّهم الأذى والاضطهاد.

{وَأُوذُوا}.

4 - وهذه المصاعب كلُّها لم تكن من أجل طموحات شخصية، وإنّما من أجل اللّه، وفي سبيله: {فِي سَبِيلِي}.

5 - وبعد أن سُدّت الأبواب كلُّها في وجههم هاجروا إلى المنفى. ولكنّهم لم يستسلموا في المنفى للهدوء والراحة، بل واصلوا مسيرة الجهاد والثورة: {وَقَاتِلُوا}.

6 - ثم لم يكن الهدف من القتال الحصول على مكاسب دنيويّة أو شخصية، فهم حاربوا بروحيّة المصمّم على الموت حتى استشهدوا في هذا الطريق: {وَقُتِلُوا}.

والسؤال الآن: ما هي النتيجة؟

والجواب يفصّله لنا القرآن حين يقول: {...لأَُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} {وَلأَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.

وكل ذلك: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: جزاءاً لم يكن يُعطى لهم إلاّ بذلك العمل.

إلاّ أنّ عطاء اللّه ليس عطاءاً عاديّاً، أو محدوداً؛ لأنّه عطاء من اللّه {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}.

وربّما لاحظ القارئ الكريم أنّ العلاقة بين أجزاء هذه الآية الكريمة هي علاقة (تكاملية).

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {فَنَادَتْهُ} (زكريا) {الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي

ص: 72

الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}(1).

ربما يبيّن الارتباط بين أجزاء هذه الآية على الشكل التالي: لقد بشّرت الملائكة نبيّ اللّه زكريا (عليه السلام) - بابنه يحيى (عليه السلام) ، وذكرت له ثلاث مواصفات:

1 - أن يكون المبادر إلى تصديق عيسى المسيح (عليه السلام) .

2 - ولكن ذلك لا يعني: أنه سيكون فرداً عاديّاً مثل سائر المؤمنين بالمسيح (عليه السلام) ، كلاّ! إن له دوره الهام، وشخصيته المتميزة: (وسيّداً).

3 - الوجهاء والسادة عادة يستغلون مراكزهم لإشباع غرائزهم وإرواء شهواتهم.

ولكنّ يحيى (عليه السلام) ليس فقط يتجنّب ذلك، وإنّما: يحصر نفسه عن اللّهو البريء، والشهوات المحللة - أيضاً - «وحصوراً»(2).

4 - وبعدئذ: يبلغ قمّة الكمال الإنساني فيصبح (نبيّاً من الصالحين).

وهل هنالك أعظم من هذه البشارة؟!.

- 3 -

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ

ص: 73


1- آل عمران: 39.
2- قال في الصافي 1: 260: «مصدّقاً بكلمة من اللّه يعني عيسى. وسيّداً: يسود قومه ويفوقهم. وحصوراً: مبالغاً في حصر النفس عن الشهوات والملاهي، روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للَّعب خلقت، وعن الصادق (عليه السلام) : «هو الذي لا يأتي النساء». وربّما يقال أن تفسير الحصور بعدم الزواج هو من باب المصداق.

عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

في هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان:

1 - علاقة (ذريّة بعضها من بعض) بما سبق.

2 - علاقة {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بما سبق.

أمّا بالنسبة للمبحث الأوّل: فيبدو أن قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} بمنزلة التعليل للاصطفاء العمومي الذي شمل (آل إبراهيم) و(آل عمران) فهي ذريّة متماثلة، وبعضها يشبه البعض في صفات الفضيلة والكمال. ومن هنا كان اختيار هاتين الاُسرتين (اختياراً مجموعيّاً)، بينما كان اختيار (آدم) و(نوح) اختياراً فرديّاً، حيث فقدت ذريّاتهما تلك المواصفات.

أمّا بالنسبة إلى المبحث الثاني: فإنّ قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بمنزلة التحليل لأصل «الاصطفاء». فالاصطفاء الإلهي ليس اصطفاءاً كيفياً، بل هو اصطفاء دقيق، يكفي في دقته: أنّ اللّه (السميع) (العليم) هو الذي يقوم به.

ومن هنا نستنتج: أنّ اختيار اللّه لرسوله وصفوته من خلقه، إنّما يعود إلى مؤهّلات وكفاءات توفّرت فيهم، وليس اختياراً فوضوياً، أو عشوائياً - حاشاه عن ذلك - (2).

ص: 74


1- آل عمران: 33-34.
2- قال في الصافي 1: 257: («واللّه سميع» بأقوال الناس «عليم» بأعمالهم، فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل»).

- 4 -

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى *فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}(1).

ما هي العلاقة بين قوله: {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}؟

والجواب: إنّها علاقة سببية، بمعنى: أنّ اتِّباع الهوى هو السبب وراء الكفر بيوم القيامة.

إنّ أغلب الذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينطلقون في موقفهم هذا من (شبهات عقلية)، بل من (شهوات نفسية).

إنّهم يجدون أنّ الإيمان بالآخرة يعني الحجر على أهوائهم الطائشة؛ ولذلك يريحون أنفسهم برفض الآخرة من الآساس.

وربما كان في إتيان لفظة (اتَّبع) بصيغة الماضي مع أنّ المعطوف عليه وهو {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} قد أتى بصيغة المضارع، ربّما كان في ذلك إشارة إلى تقدُّم مرحلة (أتَّباع الهوى) على (إنكار الآخرة).

- 5 -

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}(2).

هنالك ثلاثة حواجز تقف أمام إنزال العقوبة بالمتمردين، وهي:

ص: 75


1- طه: 15-16.
2- الأعراف: 4-5.

1 - الضعف، فعندما يكون الفرد ضعيفاً، وعندما تكون الدولة ضعيفة، فإنَّهما لن يتمكّنا من - بالطبع - عقاب المتمّردين.

2 - الشفقة المفرطة، فقد يكون الفرد قويّاً، إلاّ أنّ شفقته تكون حاجزاً أمام عقاب من يستحق العقاب.

مثل الآباء الذين تغمرهم العاطفة أكثر من اللازم، فيدعون أبناءهم يفعلون ما يشاؤون من دون أن يقوموا بتأديبهم.

3 - الجهل، وهو قد يكون جهلاً بوقوع الجريمة، أو جهلاً بالذين ارتكبوا الجريمة.

وطبعاً في هذه الحالات لن يستطيع - الفرد أو الدولة - أن يقوما بأيّ إجراء مضاد.

أمّا اللّه سبحانه وتعالى فلا تقف أمامه هذه الحواجز - كما تشرحه لنا هاتان الآيتان - فهو:

1 - العزيز، أي: القويّ الغالب الذي لا يعجزه شيء.

2 - ذو انتقام، فهو ينتقم من المتمرّدين والظالمين، وليس رحمة مطلقة، كما يتصوّره البعض أنّه «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة» ولكنّه - أيضاً - «أشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة» - كما جاء في دعاء الافتتاح - .

3 - وهو مطلّع على كلّ شيء، ولا يمكن أن يفلت شيء من علمه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}.

إذن، فليحذر الكفّار وليستعدّوا لذلك اليوم الرهيب؛ حيث ينتظر الذين

ص: 76

كفروا بآيات اللّه عذاب شديد.

- 6 -

يقول القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}(1).

في النظرة العابرة قد يبدو وجود فجوة بين الآيتين الأُوليين اللّتين تتحدثان عن سلطة اللّه، وبين الآية الأخيرة التي تنهى المؤمنين عن اتّخاذ الكفار أولياء وأنصاراً. ولكنّ الواقع: أنّ الارتباط بين هذه الآيات قويّ جداً، ولتوضيح هذا الارتباط نذكر ما يلي: هنالك بعض المؤمنين - من ضعاف الإيمان - يمدون الجسور بينهم وبين الجهات المضادة، ويقيمون معها علاقات متينة، وذلك يعود إلى أنّ هؤلاء يتصورون أنّ التحالف مع هذه الجهات سوف يمنحهم بعض المكاسب الدينية التي يلهثون وراءها.

ولمواجهة هذا الطراز يؤكّد القرآن الكريم أنّ اللّه سبحانه هو المتصرف في الكون وهو المتصرف في الحياة.

إنّ كل شيء يرتبط بإرادة اللّه: فالمُلك، والعزّة، والرزق، والامتيازات الدنيوية الأُخرى.. كلّها بيد اللّه تعالى، وليست بيد أي واحد من المخلوقين.

ص: 77


1- آل عمران: 26-28.

إذن، فما بال هؤلاء يبحثون عن هذه الأُمور عند غير اللّه؟!.

سادساً: التصنيف

والتصنيف يعني: تقسيم ما ورد في الآيات القرآنية وفقاً للأبعاد الزمنية، أو المواقف الاجتماعية، أو الصفات النفسية، أو غير ذلك.

والمثالان التاليان كفيلان بتوضيح جانب من ذلك:

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1).

في البداية يقرّر القرآن مبدأ (التوحيد) - القاعدة الأساسية التي يقوم على أساسها الإسلام كلّه - .

ثم يبيّن القرآن أن هنالك عدوّين للتوحيد:

أ - الأهواء والشهوات النفسية، والأصنام التي تُتّخذ آلهة مع اللّه.

وفي ذلك يقول: {وَلاَ

نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}.

ب - الأصنام الاجتماعية والطواغيت التي تتخذ شركاء مع اللّه، وفي ذلك يقول: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

وهكذا يجب أن لا يشرك الإنسان مع اللّه (شيئاً) ولا (شخصاً) حتّى يكون موحّداً حقيقياً.

ص: 78


1- آل عمران: 64.

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ}(1).

في هذه الآية يستعرض القرآن الكريم دليلين يعتبران من أهمّ الأدلّة على وجود اللّه:

أ - دليل (الوجود).

إنّ وجود ساعة يدوية صغيرة - يدل على وجود خبراء، ومعامل، وتخطيط، فكيف بالأرض والسماوات العظيمة؟

ب - دليل (الحركة).

إنّ تحرُّك عقارب تلك الساعة اليدوية، ودورانها بشكل منتظم يكشف عن وجود (محرك)؛ وذلك لأنّه من غير المعقول أن تحدث الحركة من تلقاء نفسها.

وإذا كان ذلك أمراً طبيعياً في تحرّك ساعة يدوية، فكيف ب(اختلاف الليل والنهار).

وهكذا ينهض كل من (الوجود) و(الحركة) دليلاً على وجود اللّه تعالى.

هذه كانت بعض عناصر (منهج التدبر القرآني)، وبقيت هناك عناصر أُخرى، مثل (الحكمة) و(التصوير) و(المفارقات) وغير ذلك، تركناها في هذا الكتاب، وسنتحدث عنها في مجال آخر بإذن اللّه.

ص: 79


1- آل عمران: 190.

شروط التدبُّر في القرآن

لكي يكون التدبّر في القرآن مثمراً ومفيداً. ولكي يكون متكاملاً وسليماً، لا بّد أن تتوفر مجموعة من الشروط في من يتدبّر في آيات القرآن الكريم، والشروط هي كالتالي:

1 - الملاحظة العلمية الدقيقة.

إنّ قسطاً كبيراً من التقدّم العلمي الحديث يعود إلى (روح البحث والملاحظة) التي توفّرت في هذا العصر.

فربّما كان الإنسان القديم يمرّ على ظواهر طبيعية كثيرة دون أن يفكّر فيها، ليكتشف القوانين الكامنة وراءها، بل كان يمرّ عليها مرور الكرام.

بينما امتلك الإنسان - في بدايات العصور الحديثة - روح البحث العلمي والملاحظة الدقيقة، فبدأ يحقّق في كل شيء في هذا الكون، وتوصّل من خلال ذلك إلى اكتشافات هائلة(1).

ص: 80


1- لمدة طويلة من الزمن كان الأقدمون يرون الثمار تتساقط على الأرض، وكذلك جميع الأجسام التي ترمى في الفضاء، ولكنّهم كانوا يعتبرون ذلك أمراً بديهياً لا يحتاج إلى سؤال أو بحث. ولكنّ اسحاق نيوتن شاهد تفاحة تسقط من شجرة فاستلفتته هذه الظاهرة وأخذ يفكر مع نفسه: لماذا هبطت هذه التفاحة إلى الأرض ولم تقف في مكانها، أو تصعد إلى السماء؟!، وكانت هذه الملاحظة بداية بحث دقيق انتهى إلى اكتشاف «نيوتن» لقانون «الجاذبية».

و(التدبّر في القرآن) لا بدّ أن تتوفّر فيه (الملاحظة الدقيقة) حتّى يكون مفيداً، ومثمراً، وذلك بأن يطرح الإنسان أسئلة مختلفة على نفسه حول مختلف الظواهر القرآنية: لماذا جاءت الكلمة هنا بشكل، وجاءت في مكان ثان بشكل آخر(1)؟.

لماذا تقدّمت هذه الكلمة على تلك(2)؟ ما هي الحكمة في إنزال العقاب أو الثواب - بأُسلوب معين(3)؟. وهلم جرّا.

إنّ الانتباه إلى أمثال هذه الملاحظات يضع الإنسان على بداية الطريق لفهم قرآني متين.

ولكن ذلك لا يكفي؛ إذ يجب أن يعقب (الملاحظة العلمية) شرط آخر هو:

2 - التروّي والأناة.

فبعد أن تقودنا الملاحظة العلمية إلى طرح مجموعة من التساؤلات حول الآيات القرآنية، علينا أن نبدأ تفكيراً معمّقاً للوصول إلى الإجابة.

إنّ الفكر الإنساني يشبه إلى حدٍّ ما أشعة الشمس التي توجد في كل مكان، ولكنّها لا تستطيع أن تحرق ورقة واحدة. ولكن عندما تركَّز هذه

ص: 81


1- مثلاً يستخدم القرآن كلمة (نزّل) بالنسبة إلى القرآن فيقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ويستخدم كلمة أنزل بالنسبة إلى التوراة والإنجيل فيقول:{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} (آل عمران: 3).
2- مضى في الفصل السابق بعض الأمثلة على ذلك.
3- مثلاً: لماذا عاقب اللّه بني اسرائيل بالتيه في الأرض أربعين سنة؟ (المائدة: 26) ولماذا تكوى جباه وجنوب وظهور الذين يكنزون الذهب والفضة؟ (التوبة: 35) ولماذا جاء بأس اللّه بياتاً أو هم قائلون؟ (الأعراف: 4) وهكذا.

الأشعة من خلال زجاجة مقعّرة فإنّها تستطيع أن تقوم بعملية الإحراق. وهكذا الفكر عندما يتركز على نقطة معينة.

وليس من المهم أن تكون (كمية) أفكار الإنسان كثيرة، المهمّ أن تكون (كيفيتها) ممتازة وجيدة.

وهنا نذكر ملاحظة هامّة هي: في بعض الأحيان لا يصل الإنسان إلى أجوبة للتساؤلات المطروحة حول الظواهر القرآنية، وفي هذه الحالة لا يجوز أن يصاب باليأس، بل عليه أن يواصل التفكير وكثيراً ما يعثر على الإجابة، اليوم أو غداً.

3 - عدم التسرّع في تقبّل الأفكار.

إنّ للفكرة في بدايتها بريقاً خاصاً لا يقاوم.

ومن هنا: نجد الكثيرين يبادرون إلى تقبّل الأفكار بمجرّد أن تلوح لهم من بعيد، من دون أن يحقّقوا في مدى صحّتها أو سقمها.

ولذلك فإنّهم كثيراً ما يجدون أنفسهم وقد سقطوا في الضلال والانحراف، ولكن بعد خراب البصرة. تماماً كما تسقط سيارة مسرعة في الهوى العميقة، ثم لا تستطيع منها خلاصاً.

وهنا نخصّ بالذكر: ضرورة الحذر - الأكثر من التسرع في تقبل نوعين من الأفكار - خلال التدبر في القرآن الكريم -:

أ - الأفكار الجاهزة: ونعني بها تلك الأفكار المصبوبة في قوالب لطيفة، وظريفة.

إنّ على الإنسان أن يهتمّ بمضمون الفكرة ومحتواها، وليس بشكلها

ص: 82

الخارجي. وفي سبيل ذلك لا بدّ من التفكير الدقيق والمعمق.

ب - الأفكار الشخصية:

إنّ الإنسان (يحابي) ذاته، ويتحيّز لها؛ ولذلك فإنّه يتسرّع في قبول ما أبدعه عقله وتفكيره دون أن يفكّر جدّياً في الأمر، ودون أن يرى جوانب القضية المختلفة.

من هنا كان على الإنسان أن (يتّهم) ما خطر على قلبه، بمعنى أن لا يتقبّله بسرعة، بل يفكّر فيه بدقّة، فإن كان حقّاً قبله، وإن كان باطلاً طرحه بعيداً.

4 - التتلمذ على يد القرآن.

فعلى الإنسان أن يكون التلميذ المتواضع أمام القرآن، عليه أن يسيّر نفسه وفق ما يريده القرآن، لا أن يسيّر القرآن وفق ما يريده هو، عليه أن يحكّم القرآن في أفكاره ورؤاه وليس العكس.

ومن دون ذلك سيكون مصير الإنسان الضلال والانحراف(1).

5 - الرجوع إلى المصادر: وهي: اللّغة - والتفاسير - وروايات الأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة والسّلام.

6 - الثقة بالنفس: فعلى الإنسان - خلال تدبّره في القرآن الكريم - أن لا يستصغر ذاته، ولا يحتقر أفكاره، وأن لا يسمح لنفسه بالذوبان في أفكار الآخرين وآرائهم.

إنّ آراء المفسّرين السابقين قد تكون ضوءاً على الطريق، ولكنّها لا يجوز أن تقفل أبواب التفكير أمام الفرد، وتصيب دماغه بالتحجّر والجمود.

ص: 83


1- سبق الحديث حول هذا الموضوع في فصل (وماذا نصنع بهذه الشبهات)؟.

وبعد الثقة بالنفس يأتي دور:

7 - الإبداع:

فعلى الإنسان أن يربّي عقليته على (الإبداع)، ويحاول أن يستنبط أفكاراً جديدة ورؤى مبتكرة، وذلك ضمن حدود الدين، وليس خارجاً عنها؛ لأنّ ذلك يعني (البدعة) المنهي عنها في الشرع.

ولنعلم: أنّ التطور الثقافي، والحضاري، والصناعي إنّما توفّر بفضل أصحاب العقول المبدعة، فلنحاول أن نكون منهم؟!.

وأخيراً: نؤكّد - من جديد - على أن استنباط الأحكام الشرعية - ونحوها - من القرآن الكريم يتوقف على (خبروية) خاصّة، كما في العلوم الأُخرى، فيجب الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة - وهم المجتهدون الجامعون للشرائط - وفي غير هذه الحالة يمكن أن يستنبط الإنسان مفاهيم خاطئة، فيضل ويُضل.

ص: 84

الفصل الثاني : الفهم الشمولي للقرآن

اشارة

ص: 85

ص: 86

الفهم التجزيئيُّ للقرآن

اشارة

النظرة النصفية إلى الشيء - أيّ شيء كان - لا تعكس حقيقة ذلك الشيء - ككُل -. وذلك لأنّ (النصف) سيظل نصفاً، ومن هنا فهو ليس مخوّلاً أن يحكم على الكل.

بل: إنّ النظرة النصفية قد تجني أحياناً على الكلّ، وتحوّل الأمر إلى ضدّه. فاللوحة الزيتية الجميلة التي رسمتها يد فنان ماهر قد تتحوّل إلى منظر بشع عندما نغطي نصفها بالمنديل.

والطبيب الذي لم يستوعب إلا نصف الطب قد يقع في أخطاء قاتلة تلقي بالّذين يراجعونه بين أنياب الموت؛ ولذلك قيل: (أحياناً يكون الجهل المطلق خيراً من الفهم الناقص)!.

وعندما نجزّئ كلمة (لا إله إلا اللّه) ونقتصر على المقطع الأوّل، فإنّ شعار الإيمان هذا يتحوّل إلى كلمة كفر!. وهكذا يكون نصف الشيء ضدّ ذات الشيء في كثير من الأحيان.

ولقد أصاب (القرآن الكريم) ما أصاب غيره من (الفهم النصفي) و(النظرات التجزيئية) فتحوّل إلى أشلاء مبعثرة، ومقاطع متفرّقة لا يرتبط أحدها بالآخر، بل ويتناقض بعضها مع البعض الآخر - أحياناً !.

وماذا يحدث عندما نأخذ الجسم الحيّ ونحوّله تحت ضربات

ص: 87

المبضع.إلى أجزاء متناثرة؟! ألا يعني ذلك تعطيله عن العمل؟!.

هذا هو - بالضبط - ما حدث ل(القرآن الكريم) حينما فرّقناه شيعاً، وفصلنا بين آياته!.

ورغم أنّ الأئمّة الطاهرين - عليهم أفضل الصلاة والسلام - أكّدوا على ضرورة الفهم الشمولي للقرآن، فقالوا: «إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً». وقالوا كذلك: «يشهد بعضه على بعض، وينطق بعضه ببعض».

رغم ذلك فإنّ البعض أخذوا يفهمون الآيات بشكل مجزّأ بعيداً عن الآيات الأُخرى، بل - في بعض الأحيان - أخذوا يجزئون الآية الواحدة لكي يستنبطوا منها مفاهيم ما أنزل اللّه بها من سلطان.

وقد تجلى (الفهم التجزيئي) للقرآن في المظاهر التالية:

1) فصل الجملة القرآنية عن السياق

اشارة

للسياق أثر كبير في الدلالة على مقصود المتكلم، ونقصد ب(السياق) الجوّ العام الذي يحيط بالكلمة، وما يكتنفها من قرائن وعلامات.

إنّ الكلمة الواحدة والجملة الواحدة قد تحمل مدلولين متناقضين تماماً، دون أن تختلف الكلمة في بنائها الداخلي، وإنّما الذي تغير هو (السياق) والقرائن المحيطة.

فقد يقول الأب لابنه: (افعل الأمر الفلاني)، وهو يقصد المعنى الظاهري لهذه الكلمة. وقد يستخدم نفس الكلمة ويقصد بها التهديد الذي نستطيع اكتشافه من خلال القرائن. وهنا: ينقلب معنى (افعل) إلى معنى مناقض تماماً

ص: 88

هو (لا تفعل)!(1).

وهذا هو - بالضبط - ما ينطبق على القرآن الكريم. فقد يستخدم القرآن صيغة الأمر ويقصد بها مدلولها الظاهر، عندما يقول: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}(2).

وقد يقصد بها الإباحة عندما يقول: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}(3) عقيب الحظر في قوله: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}(4).

وقد يقصد التهديد عندما يقول: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}(5).

وقد يقصد التعجيز والتحدّي عندما يقول: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}(6) أو عندما يقول على لسان نبي اللّه هود مخاطباً قومه الكافرين: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ}(7). وهلمّ جرّا.

لقد استخدمت هذه الآيات جميعاً في صيغة الأمر: (أقم - فاصطادوا - فاعبدوا - فأتوا - فكيدوني) فما الذي جعلها تعطي مدلولات مختلفة، بل ومتناقضة أيضاً؟

إنّه السياق القرآني، والقرائن الخارجية.

ص: 89


1- وهذا يفهم من خلال ما يعبَّر عنه ب(لحن الخطاب).
2- الإسراء: 78.
3- المائدة: 2.
4- راجع الكتب الأُصولية في مبحث (الأمر عقيب الخطر).
5- الزمر: 15.
6- البقرة: 23.
7- هود: 55.

ونحن نجد أن المسلمين الأوّلين ربّما كان يستطيعون أن يحدّدوا مدلول كلمة معينّة، أو آية معينّة في القرآن من خلال سياقها العام.

ففي الحديث: أن أحد الصحابة قرأ على المنبر قوله تعالى {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا *وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}(1).

ثم أردف: كلّ هذا عرفنا، فما الأب؟ ثم حرّك عصا كانت في يده، وقال: هذا لعمر اللّه هو التكلّف، فما عليك أن لا تدري ما الأب؟.

وأضاف موجّهاً خطابه إلى الجماهير: اتبّعوا ما بُيِّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه!(2).

وقد نقل أنّ علياً (عليه السلام) جاء بعد ذلك وقال: إن معنى اللفظ موجود في الآية ذاتها، لأن اللّه يقول: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} فالفاكهة لكم، والأب لأنعامكم(3).

وهكذا كشف الإمام علي (عليه السلام) للناس معنى الأب - من خلال السيّاق القرآني.

وفي حديث آخر: أنّ عمر مرّ يوماً بشاب من فتيان الأنصار وهو ظمآن، فاستقاه، فخلط له الفتى الماء بعسل وقدمه إليه - فلم يشربه، وقال: إن اللّه تعالى يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}.

فقال له الفتى: إنّها ليست لك ولا لأحد من أهل القبلة. أترى ما قبلها

ص: 90


1- عبس: 27-31.
2- الغدير 6: 99.
3- بحوث في القرآن الحكيم: 40.

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}(1) فقال عمر: كلُّ الناس أفقه من عمر(2)!.

لقد تصوّر عمر أنّ هذه الآية تنهي المؤمنين عن تناول الطيبات، وتدعوهم لتأجيلها إلى الآخرة، وتؤكّد أنّ الذين يعجّلون بالطيّبات في هذه الحياة ليس لهم منها نصيب في الآخرة. وكان هذا التصوّر نابعاً من تجزيئه للآية الكريمة.

ولكنّ الفتى الأنصاري استطاع أن يفهم أنّ المراد «أنّه يقال للكافرين حين عرضِهم على النار لقد أنفذتم الطيّبات التي [كنتم] تلتذون بها في حياتكم الدنيا [والمراد بالطيبات: المعاصي والذنوب؛ ولذلك عبّر القرآن ب«طيباتكم»] فلم يبق لكم شيء تلتذون به في الآخرة»(3).

ولم يكن الأنصاري ليستطيع أن يدرك هذا المعنى إلاّ من خلال ملاحظته لسياق هذه الآية.

هذا من جانب:

ومن جانب آخر: استطاع بعض المسلمين أن يكتشفوا ترابط بعض الآيات من خلال ملاحظة السياق القرآني.

لقد سمع أحد العرب رجلاً يتلو آيةً هكذا:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ

ص: 91


1- الأحقاف: 20.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 182.
3- الميزان 18: 206.

وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيم}.

فقال له الأعرابي: أخطأت.

قال: وكيف؟

قال: إنّ المغفرة والرحمة لا تناسبان قطع يد السارق.

فتذكّر الرجل الآية وقال: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1).

فقال الأعرابي: نعم، بعزّته أخذها، وبحكمته قطعها(2).

من كلّ ذلك: نستطيع أن نكتشف: أن «السياق القرآني» هو عامل مهمّ في فهم القرآن الكريم عندما يكون مؤشّراً في صناعة الظهور اللفظي للكلمة أو الجملة، وأنّ المسلمين الأوّلين استطاعوا أن يستفيدوا من هذا العامل في فهم أو تفهيم الآية القرآنية.

وجاءت أجيال أخذت تفصل بين الجملة القرآنية وبين السياق؛ لتستنتج من ذلك - عن علم أو جهل - مفاهيم تتنافى مع أبسط مبادئ الدين!.

هذه الأجيال أخذت تفسّر القرآن على طريقة من يستدلّ على عدم وجوب الصلاة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ً لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ}!

وقد ترتّب على ذلك مضاعفات في مجالات مختلفة، نذكر منها ما يلي:

1 - مجال العمل والتحرّك.

2 - مجال العقيدة والإيمان.

ص: 92


1- المائدة: 38.
2- القرآن كتاب حياة: 67-68.

3 - مجال فهم (الكلمة) القرآنية.

ولكن: كيف؟ دعنا نعرف.

أوّلاً: في المجال العَمَلي

يقول القرآن الكريم: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1).

هذه المقطع من الآية أصبح شعاراً للمتقاعسين الذين يريدون التهرُّب من مسؤوليات العمل والتضحية.

ولكن: دعنا نلقِ نظرة على سياق هذه الآية لكي نفهم ما هو المقصود؟!.

يقول القرآن الكريم: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ *الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ *وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(2).

فقد جاءت هذه الآية في سياق آيات تحثُّ المؤمنين على الجهاد في سبيل اللّه؛ ذلك لأنّ الجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال، ورغم أنّ كل مسلم مجاهد كان يجهز نفسه بعدّة القتال، ومركب القتال، وزاد القتال، إلاّ أنّ كثيراً من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد لم يكونوا يجدون ما يزودّون به أنفسهم، ولا ما يتجهّزون به من عدّة الحرب، ومركب الحرب،

ص: 93


1- البقرة: 195.
2- البقرة: 193-195.

وكانوا يجيئون إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يطلبون منه أن يُحملوا إلى ميدان المعركة البعيد الذي لا يبلغ على الأقدام، فإذا لم يجد ما يحملهم عليه {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} كما حكى عنهم القرآن الكريم.

ومن أجل هذا كثرت التوجيهات القرآنية إلى الإنفاق في سبيل اللّه. الإنفاق لتجهيز الغزاة، وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواقع.

وعقيب هذه الدعوة يؤكّد القرآن على أنَّ عدم الإنفاق في سبيل اللّه، يعني (إلقاء النفس في التهلكة)؛ ذلك أنّ البخل يسبّب: تضعضع الجبهة الداخلية للمؤمنين، وبالتالي: انتصار الأعداء عليهم وإبادتهم ماديّاً ومعنويّاً.

ثم يطالب القرآن الأُمّة المؤمنة بالمزيد من البذل والعطاء، حين يقول: {وَأَحْسِنُوا ً إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

إذن، فالسياق - هنا - يؤكّد أن المراد من التهلكة هي (التهلكة التي تنبع من عدم الانفاق) فتأمّل.

ثانياً: في المجال العقائدي

يقول اللّه تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(1).

من خلال هذه المقطوعة من الآية، وآيات أُخرى غيرها، يحاول (التجزيئيون) أن يفهموا أنّ (لله) تعالى وجهاً، وعيناً، ويداً، وساقاً، إلى غير

ص: 94


1- المائدة: 64.

ذلك من الأعضاء والجوارح(1).

ولكن: هل هو صحيح ما يفهمون؟! قبل أن نجيب على هذا السؤال لا بدّ أن نوضّح حقيقة هامّة هي: إنّ لليد استعمالات مختلفة، بعضها حقيقي وبعضها غير حقيقي. والسياق الظهوري هو الذي يستطيع أن يبيّن المعنى المقصود.

مثلاً؛ إذا سمعت شخصاً يسأل زميله قائلاً: ما فعلت الشرطة بفلان؟ فأجاب: غلُّوا يديه وراء ظهره، وأدخلوه السجن. فما الذي تفهم من كلمة (اليد) هنا؟ لا شك أنّك تفهم المعنى الحقيقي لليد، أي: تلك القطعة المكوّنة من لحم وعظم والمتصّلة بالذراع.

ص: 95


1- ويقول شاعرهم في ذلك: للّه وجه لا يُحدّ بصورةٍ***ولِرِّبنا عينان ناظرتان! وله يدان كما يقول الهنا***ويمينه جلّت عن الأيمان واللَّه يضحك لا كضحك عبيده***والكيف ممتنع على الرحمان واللَّه ينزل كلَّ آخرِ ليلةٍ***لسمائه الدنيا بلا كتمان فيقول هل من سائل فأجيبه***فأنا القريب أُجيب من ناداني راجع التمهيد 3: 90. بل لقد تطرف بعضهم حتى حكى الكعبي عنه: أنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوروا اللّه ويزورهم. وحكي عن داود الجواربي أنه قال: «هو (أي اللّه) أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت (أي غير مجوف) ما سوى ذلك، وأن له وفرة (الشعر المتدلّي)». كما أنهم رووا «أن اللّه اشتكى عينيه فعادته الملائكة»! وأنه «بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه» و«أن العرش ليئطّ من تحته (أي يصوت ويهتز) أطيط الرحل الجديد» (تعالى اللّه سبحانه عن ذلك علواً كبيراً). راجع: التمهيد 1: 64-65.

أمّا لو سأل أحدهما من الآخر: عن جود فرد معين، فأجابه بأنّ يده مغلقة، أو مغلولة إلى عنقه. فهل تفهم من ذلك أنّ هنالك مرضاً في يديه لا يدعه يفتحها؟ أو أنّ هنالك حبلاً يربط يديه إلى عنقه؟.

أو عندما يقول القرآن: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}(1) فهل تجمد على ظاهر اللفظ - بعيداً عن الذوق العربي الرقيق - وتجعل المعنى: ولا تشدّ يديك إلى رقبتك كالكسير، ولا تمدّهما إلى طرفيك أُفقياً - كلاعب رياضة؟! أم أنّك تفهم أنّ - غَلَّ اليد إلى العنق و(بسط اليد) تعبيران غير حقيقيّين يقصد منهما البخل والإسراف؟(2)وإذا اتّضحت هذه الحقيقة، نقول: إنّ سياق هذه الآية الكريمة يكشف لنا أن (اليد) هنا لم تستعمل بمعناها الحقيقي، بل هي مجرّد تعبير غير حقيقي يقصد به التعبير عن مدى جود اللّه وكرمه في قبال أُولئك اليهود الذين اتّهموا اللّه بالبخل، والّذين جاءت هذه الآية الكريمة للرّد عليهم.

والآن تعالوا نلقِ نظرة (شمولية) على هذه الآية الكريمة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ

ص: 96


1- الإسراء: 69.
2- قال الزمخشري في الكشاف 1: 627. «... حتى أنه يستعمل (أي مثل هذه التعبيرات غير الحقيقية) في ملك لا يعطي عطاءاً قط ولا يمنعه إلا بإشادته، من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع - أي: مقطوع اليد إلى المنكب - عطاءاً جزيلاً لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأنّ بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود».

يَشَاءُ}(1).

فماذا نفهم؟ هل نفهم المعنى الحقيقي لكلمة (اليد)؟ أم أننا نفهم المعنى غير الحقيقي الذي يعني: الجود والعطاء؟!

الحكم متروك للقرّاء الكرام.

ثالثاً: في مجال فهم (الكملة القرآنية)

يقول اللّه تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ *وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}(2).

ربّما يرجّح كون (النجم) في هذه الآية الكريمة بمعنى ما نجَمَ، أي: طلع من النبات على غير ساق، وهو خلاف الشجر.

لأنّ هذا المعنى هو الذي ينسجم مع السياق القرآني. فعندما نفسّر (النجم) هنا بأنّه ما لا ساق له من النباتات، يكون الارتباط واضحاً بينه وبين (الشجر) باعتبار أنّ (النجم) هو النبات الضئيل و(الشجر هو النبات الكبير الحجم)، بعكس ما لو فسّرنا النجم ب(الكوكب) فتأمّل.

إلى هنا نكون قد انتهينا من البحث الأوّل من بحوث (الفهم التجزيئي للقرآن) وكان يدور حول (فصل الجملة القرآنية عن السياق).

وتبقى - هنا - ملاحظتان.

الأُولى: إنّ (السياق القرآني) - وإن كان عاملاً هامّاً في فهمنا لمعاني القرآن - إلاّ أنه يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع العوامل الأُخرى المساعدة على فهم الآيات الكريمة، من (التفاسير) و(الرويات) و(موارد نزول

ص: 97


1- المائدة: 64.
2- الرحمن: 5-6.

الآيات)، وما أشبه.

الثانية: في حالة تعارض الروايات الصحيحة مع (السياق القرآني المُتصوّر) تقدَّم الروايات بالطبع، وذلك لأنّ السياق لا يشكّل أكثر من (ظهور) للجملة، ومن الواضح أنّ الظهور يمكن التصرّف فيه بالقرائن المنفصلة التي تكشف عن كون الإرادة الجدّية غير مطابقة للإرادة الاستعمالية، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى (علم الأُصول).

2) التجزئة الموضوعية

اشارة

المشكلة الثانية التي يعاني منها بعض أبناء الأُمّة: هي (التجزئة الموضوعية) في فهم القرآن الكريم.

فهذه القطاعات تحاول أن تفهم كلّ آية آية من القرآن بشكل مستقل، بعيداً عن فهم الآيات الأُخرى.. وكأنّ كل آية عالم مستقل وقائم بذاته.

وقد ترتّب على ذلك أمران:

1 - الفهم الخاطئ لبعض الآيات القرآنية فالقرآن (كائن حيّ) يرتبط بعضه ببعضٍ، ويتفاعل بعضه مع بعض. ومن هنا لا يستطيع الفرد أن يفهم القرآن - بشكل سليم - إلاّ بعد أن يجمع بعضه مع بعض، ويلاحظ التفاعل، والارتباط فيما بين أجزائه المتفرّقة. ومن هنا جاء في الأحاديث: «إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً». وجاء - أيضاً - : «يشهد بعضه ببعض، وينطق بعضه ببعض».

لقد وجدت - على امتداد التاريخ الإسلامي - مذاهب كثيرة منحرفة،

ص: 98

مثل: (الصفاتية) و(الحشوية) و(المشبهة) و(الكرامية) و(الجبرية)(1)، وغيرها. وهذه المذاهب كانت تستند إلى بعض الآيات القرآنية في دعم أفكارها الخاطئة، وكان الخطأ الذي ارتكبته هذه المذاهب - أو على الأصح: جزء الخطأ - هي (النظرة التجزيئية) إلى آيات القرآن. كانوا يجدون آية تتحدّث في موضوع معيّن، وكان ظاهرها يعطي معنى معيناً، فكانوا يتمسّكون بذلك المعنى ضاربين بسائر الآيات الواردة في هذا الموضوع عرض الجدار!.

هذا في الجانب العقائدي: أمّا في الجانب العملي فقد أخطأ البعض في فهم بعض الآيات القرآنية التي تصوّروها تدعو إلى الكسل، وإلى الجلوس في زوايا البيوت؛ ذلك لأنّهم نظروا إلى هذه الآيات نظرة (أُحاديّة الجانب) ولم يجمعوها مع سائر الآيات القرآنية التي تدعو إلى العمل، والجهاد، والتحرُّك(2).

إذن، فالنظرة التجزيئيّة إلى آيات القرآن الكريم تعني في كثير من الأحيان: فهم هذه الآيات بشكل خاطئ.

2 - الفهم الناقص ل(الموضوعات القرآنية):

فالقرآن الكريم لم يجمع بشكل موضوعي، أي لم يوضع كلّ موضوع منه في فصل مستقل، بل إنّ الآيات المتعلّقة بموضوع واحد تتقاسمها عشرات السور؛ ولذلك أصبح ضرورياً على كلّ من يريد أن يخرج ب(رؤية قرآنية متكاملة) حول موضوع مّا، أن يمارس (النظرة الشمولية) للآيات

ص: 99


1- للمزيد من التفاصيل راجع: التمهيد 3: 56-72.
2- بالإضافة إلى أنّهم أخطأوا في فهم نفس تلك الآيات.

المرتبطة بذلك الموضوع.

أمّا (التجزئة الموضوعيّة) فهي لا تعطينا إلاّ رؤية ناقصة، بالإضافة إلى أنّنا نخسر بسبب ذلك الكثير من المعطيات التي يمنحنا إياها (الفهم الشمولي) حينئذ، كما سنوضح ذلك فيما بعد.

والسؤال الآن هو: كيف نقوم ب(الفهم الموضوعي) للقرآن الكريم؟!.

والجواب: إن العملية يجب أن تسير في أربعة مراحل:

1 - جمع الآيات القرآنية المرتبطة بالموضوع المقصود من مختلف السُّور القرآنية.

أمّا كيف يتم ذلك؟ فعن أحد طريقين:

أحدهما: الكتاب الذي ألّفه (جول لابوم) والذي نسّق فيه الآيات حسب مواضيعها، تحت عنوان (تفصيل آيات القرآن الحكيم)(1)، مع ملاحظة ملحقة أيضاً.

ثانيهما: المعجم الذي وضعه (محمد فؤاد عبد الباقي) والذي تناول فيه (الألفاظ) القرآنية على أُسلوب المعاجم اللُّغوية، تحت عنوان (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم).

وأُسلوب الرَّجوع إلى هذا المعجم هو تجريد (الموضوع) المراد بحثه

ص: 100


1- هذا الكتاب منقسم إلى (18) باباً، وهي: التاريخ، محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، التبليغ، بنو إسرائيل، التوراة، النصارى، ما بعد الطبيعة، التوحيد، القرآن، الدين، العقائد، العبادات، الشريعة، النظام الإجتماعي، العلوم والفنون، التجارة، علم تهذيب الأخلاق، النجاح، وتندرج تحت كل باب من هذه الأبواب فصول متعدّدة.

عن الزوائد الصرفية، ثمّ البحث عنه في طيّات هذا الكتاب، فمثلاً: تبحث عن الزكاة في مادة «ز.ك.و» وعن الصلاة في مادة (ص.ل.و) وعن الصوم في مادة (ص.و.م) وهلمّ جرّاً.

2 - فرز الآيات وتصنيفها ووضع كل واحدة منها مع الآيات المماثلة لها.

3 - ترتيب هذه المجموعات على حسب ما يقتضيه (الإطلاق والتقييد) و(العموم والخصوص) و(التقدّم والتأخّر) وغير ذلك.

4 - وأخيراً، استنباط (الرؤية المتكاملة - والنهائية) من خلال ذلك.

ولا ننسى أن نؤكّد هنا - مرة أُخرى - ضرورة الرجوع إلى التفاسير وإلى روايات المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام.

وهنا: يبرز سؤال ليقول: ما هي صورة (الجمع) بين الآيات القرآنية؟!.

والجواب: هنالك صور عديدة للجمع نذكر منها:

1 - (الجمع التفسيري).

2 - (الجمع الترتيبي).

3 - (الجمع الاستنباطي).

4 - (الجمع الموضوعي).

ولكن: كيف؟ دعنا نعرف:

أوّلاً: الجمع التفسيري

ويعني ذلك كشف المدلول الحقيقي للآية القرآنية من خلال آية أُخرى تتعرض إلى الموضوع ذاته. وهنا نستعرض بعض النماذج:

أ - يقول القرآن الكريم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ

ص: 101

أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(1).

نحن نعرف منذ البداية أنّ لكلّ آية مفهوماً ومصداقاً. فمفهوم الصراط - مثلاً - واضح، نعرفه من المعنى اللّغوي للكلمة في لسان العرب. فالصراط بمعنى الطريق المعبّد للسير.

والمستقيم بمعنى المعتدل، وأقرب الطرق إلى المقصد. فمفهوم الآية - إذن - واضح لا غبار عليه. ولكنّ مصداق الآية غير واضح. فلا ندري ما هو الصراط المستقيم الذي يجب أن نسير عليه؟. ولا ندري من هم الذين أنعم اللّه عليهم، حتّى نهتدي بطريقهم؟ فغير واضح من الآية واللُّغة ولسان العرب: ما هو الصراط المستقيم؟! فماذا علينا أن نفعل؟!

علينا أن نعرف ذلك من خلال الربط بين هذه الآية، والآيات الاُخرى، ونكتشف مصداق الآية.

فلنقرأ في (يس) آية 60، قوله تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.

فنعرف أنّ الصراط المستقيم هو عبادة اللّه تعالى، والتزام منهجه في الحياة العملية والاجتماعية.

ونقرأ في آية أخرى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}(2).

فنعرف: أنّ المراد من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هم الأنبياء والصديقون

ص: 102


1- الحمد: 6-7.
2- النساء: 68.

والشهداء والصالحون»(1).

والآن.. لنتساءل: من هم (الضالون)؟! مَن هم هؤلاء الذين ندعو اللّه تعالى كل يوم عشر مرّات - على الأقل - لكي يبعدنا عنهم؟!

من خلال مراجعة الآيات الأُخرى نجد أنّ القرآن الكريم يحدّد (الضلال) فيما يلي:

1 - الكفر - بكافة أشكاله وألوانه - وفي ذلك يقول القرآن: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(2). {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(3). {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيْلِ}(4).

2 - التعدي على حقوق الآخرين.. وفي ذلك يقول القرآن: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}(5).

3 - الإنحراف - بكافة ألوانه وأشكاله.. وفي ذلك يقول القرآن: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(6). {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً}(7).

ص: 103


1- القرآن كتاب حياة: 61-62.
2- النساء: 136.
3- النساء: 116.
4- البقرة: 108.
5- لقمان: 11.
6- ص: 26.
7- الأحزاب: 36.

وهكذا استطعنا أن نكتشف - من خلال الآيات الأُخرى - أنّ المراد ب(الضالين) هم كلّ المنحرفين فكريّاً، والمنحرفين سلوكيّاً، والذين يتعدون على حقوق الآخرين. وهذا ما يطلق عليه: (تفسير القرآن بالقرآن).

ثانياً: الجمع الترتيبي

وذلك يعني: فرز مجموعة من الآيات وترتيبها ترتيباً منطقياً، ولهذا النوع من (الجمع) معطيات وفوائد، منها:

1 - حلّ التناقض المتوهّم بين الآيات القرآنية:

ذلك أننا حين ننظر إلى الآيات بشكل غير منظّم، فقد نتصوّر اختلافاً بين مفاهيم هذه الآيات، ولكنّنا بعد تنسيقها وتنظيمها لا نجد أيّ اختلاف، بل نجد الأمر من قبيل (الخصوص والعموم) أو (التقييد والإطلاق) أو ما أشبه ذلك، وهذا ما نرى مثيلاً له حتّى في كلماتنا اليومية.

2 - فهم (مرحلية) هبوط الأحكام الآلهية:

ذلك: أن الأمر أو النهي عندما يتعلّق بقاعدة أساسية من قواعد التصوُّر الإيماني، أي: بمسألة اعتقاديّة، فإن الإسلام يقضي فيها قضاءاً حاسماً منذ اللّحظة الأُولى.

ولكن: عندما يتعلّق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقّد، فإن الإسلام يتريّث فيه، ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرُّج، ويُهيّئ الظروف الواقعية التي تيسرّ التنفيذ والطاعة.

والآن، إليكم المثال التالي - حسب ما يستفاد من بعض التفاسير - : في مسألة تحريم الخمر لم يكن الأمر أمر توحيد أو شرك. وإنما كان أمر عادة

ص: 104

وألفة، والعادة تحتاج إلى علاج، ولذلك تدرّج القرآن من مرحلة إلى مرحلة حتّى وصل إلى التحريم النهائي.

وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ما بعث اللّه نبيّاً قط، إلاّ وفي علم اللّه تعالى أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراماً، وإنّما يُنقلون من خصلة ثمّ خصلة». «ولو حمل ذلك عليهم جملةً لقطع بهم دون الدين».

وعنه: «ليس أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة (أي: مرة واحدة) (1) لهلكوا»(2).

والآن لننظر كيف تدرّج القرآن الكريم في تحريمه للخمر:

1 - في البداية بدأ القرآن بتحريك الوجدان الديني، والمنطق العقلي في نفوس المسلمين، وذلك ببيان أنّ الإثم في الخمر أكبر من النفع، فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(3).

وفي هذا إيحاء بأنّ تركها هو الأولى.

2 - ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(4).

ص: 105


1- ما بين القوسين ليس من الرّواية.
2- الصافي 1: 187.
3- البقرة: 219.
4- النساء: 43.

والصلاة في خمسة أوقات - أو ثلاثة - متقارب لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، ولكسر اعادة الإدمان التي تتعلّق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أنّ المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدّر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت، وتكرّر هذا التجاوز فترت حدّة العادة، وأمكن التغلُّب عليها.

3 - وبعدما تمّت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(1).

وعندئذ.. قال المسلمون: أجل! لقد انتهينا يا رسول اللّه! ثمّ أخذوا يهريقون الخمور في الأزقّة حتّى جرت فيها!

ثالثاً: الجمع الاستنباطي

والجمع الإستنباطي يعني: الجمع بين آيتين من القرآن الكريم أو أكثر لاستنباط حكم تشريعي معيّن، أو فكرة معيّنة.

والتراث الذي خلّفه لنا الأئمّة الطاهرون عليهم الصلاة والسلام غني بهذا النوع من (الجمع)؛ ولذلك فنقتصر في هذا الفصل على نماذج منه.

ص: 106


1- المائدة: 90-91.

أ - .. عن الدؤلي، قال: رفع إلى عمر أمرُ امرأةٍ ولدت لستّة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها(1). فجاءت أُختها إلى عليّ بن أبي طالب، فقالت: إنّ عمر رجم أختي، فأنشدك اللّه إن كنتَ تعلَمُ أنّ لها عذراً لما (أي: إلاّ) أخبرتني به.

فقال علي: إنّ لها عذراً.

فكبّرت تكبيرة سمعها عمر ومَن عنده، ثم انطلقت إلى عمر فقالت: إن علياً زعم أنّ لأُختي عذراً.

فأرسل عمر إلى علي: ما عذرُها؟!

قال: إن اللّه يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}(2).

وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا}(3).

وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}(4) وكان الحمل هنا ستّة أشهر(5).

قال الراوي: ثم إنّها ولدت أخر لستَّة أشهُر(6). وهكذا.

استطاع الإمام علي (عليه السلام) أن يبيّن للناس من خلال هذه الآيات التي قد لا يبدو عند النظرة العابرة وجود أيّ ترابط فيما بينها، استطاع أن يبيّن لهم منها

ص: 107


1- باعتبار أنّها ولدت قبل إكمال تسعة أشهر من زواجها، ممّا أثار ريبة عمر في ارتكابها للفحشاء قبل زواجها.
2- البقرة: 233.
3- الأحقاف: 15.
4- لقمان: 14.
5- فإذا كانت مدّة الرضاع أو الفصال - لا فرق - حولين (أي أربعة وعشرين شهراً) وكانت مدّة الحمل والفصال معاً ثلاثين شهراً، فالنتيجة هي: أنه يمكن أن تكون فترة الحمل ستّة أشهر فقط.
6- الغدير 6: 93.

حكماً عظيماً من أحكام الإسلام، وأن ينقذ امرأة بريئة من حكم الرجم.

ب - إن سارقاً اعترف على نفسه بالسرقة فأحضروه إلى مجلس (المعتصم) الملك العباسي، كي يجري عليه الحدّ، ولكنّ المعتصم لم يعرف حدّه، فأحضر فقهاء بغداد وفيهم (ابن أبي داود) والإمام العظيم (محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ) فسألهم: من أين تقطع يد السارق؟.

فقال (ابن أبي داود) من مفصل الكفّ، واستدلَّ بآية التيمُّم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}(1).

ولكنّ العلماء الآخرين أطبقوا على قطع اليد من المرفق مستدلين بآية الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}(2).

كلُّ ذلك والإمام الجواد (عليه السلام) ساكت لا يتكلَّم بشيء. حتّى التفت إليه المعتصم قائلاً: ما تقول؟!

غير أنّ الإمام (عليه السلام) لم يك يريد الردَّ على هؤلاء.

فقال: قالوا وسمعت!

فتطلّع المعتصم إلى رأي جديد يضمره الإمام (عليه السلام) ، فألحّ عليه قائلاً: لا رأي لي عند هؤلاء، باللّه عليك إلاّ ما حكمت.

فقال الإمام: «إنّ النبي أمر أن توضع المواضع السبعة (التي منها الكفّان) في السجود على الأرض. ويقول اللّه الحكيم: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}(3) فلا

ص: 108


1- النساء: 46.
2- المائدة: 9.
3- الجن: 18.

تقطع الكفّ التي هي من المساجد، بل تقطع الأصابع الأربع فحسب»(1).

وهكذا استطاع الإمام الجواد (عليه السلام) أن يكشف حدود قطع يد السارق بالجمع بين آيتين كريمتين هما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}.

ج- - عن علي بن يقطين: قال: سأل المهديُّ (الملك العباسي) أبا الحسن (عليه السلام) (أي: الإمام الكاظم) عن الخمر، فقال: هل هي محرّمة في كتاب اللّه؟ فإن الناس يعرفون النهي ولا يعرفون التحريم.

فقال له أبو الحسن (عليه السلام) : بل هي محرمة.

قال: في أيِّ موضع هي محرَّمة بكتاب اللّه يا أبا الحسن؟!

قال: قول اللّه تبارك وتعالى:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(2).

فأما قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فيعني الزِّنا المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر في الجاهليّة.

وأمّا قوله: {وَمَا بَطَنَ} يعني: ما نكح من الآباء، فإنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا كان للرجل زوجة، ومات عنها، تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أُمّه، فحرّم اللّه ذلك.

وأمّا {الإِثْمِ} فإنّها الخمر بعينها، وقد قال اللّه في موضع آخر: {يَسْأَلُونَكَ

ص: 109


1- راجع: العقوبات في الإسلام: 25-26.
2- الأعراف: 33.

عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}(1).

فأمّا الإثم في كتاب اللّه فهي الخمر. والميسر فهي النرد، وإثمُهما كبير.

فقال المهديّ: هذه واللّه فتوى هاشمية!(2).

رابعاً: الجمع الموضوعي
اشارة

و(الجمع الموضوعي) يعني: فرز الآيات القرآنية التي تتحدّث حول موضوع معيّن، وتصنيفها إلى مجموعات، وترتيب هذه المجموعات حسب تسلسلها المنطقي، ومن ثم: استخراج الحكم القرآني النهائيّ حول ذلك الموضوع.

ويختلف (الجمع الموضوعي) عن (الجمع الإستنباطي) في نقاط كثيرة، منها:

1 - (الجمع الاستنباطي) يتمّ - عادة - ضمن آيتين أو ثلاث، فهو جمع محدود. بينما (الجمع الموضوعي) يتمّ - عادة - ضمن مجموعة كبيرة من الآيات.

2 - (الجمع الاستنباطي) تكون نتيجته - غالباً - حكماً شرعياً، بالمعنى المتداول لهذه الكلمة، بينما تتّسع آفاق (الجمع الموضوعي) لتشمل كثيراً من القضايا: السياسية. والإجتماعية. والثقافية.. وغيرها.

3 - (الجمع الاستنباطي) يقتصر على فئة محدودة من (الراسخين في

ص: 110


1- البقرة: 219.
2- البرهان 2: 14؛ الصافي 1: 188.

العلم) - باعتبار صعوبة استخراجه - بينما تفتح أبواب (الجمع الموضوعي) أو (الفهم الموضوعي) - لا فرق - لمجموعة أكبر.

والحقيقة أن (الجمع الموضوعي) أو (الفهم الموضوعي) لآيات القرآن الكريم يعتبر من أهمّ أنواع (الجمع القرآني) وذلك لسببين:

الأوّل: (الميزات) التي يتمتّع بها هذا النوع من الجمع، والتي أسلفنا بعضها قبل قليل.

الثاني: (المعطيات) و(النتائج) التي يفرزها هذا النوع من الجمع، والتي من أهمّها: الخروج ب(رؤية قرآنيّة متكاملة) حول موضوع معيّن.

والآن، لنستعرض نموذجاً واحداً من (الجمع الموضوعي) لآيات القرآن، مع مراعاة الاختصار؛ لتكون نافذة متواضعة تفتح أمام عيون القرّاء الكرام الآفاق الواسعة ل(الفهم الموضوعي لآيات القرآن الكريم).

الشفاعة، ماذا تعني
اشارة

عندما نلقي نظرة موضوعيّة على الآيات التي تتحدّث حول الشفاعة، نجدها تنقسم إلى أربع مجموعات:

المجموعة الأُولى: لا للشفاعة

ويندرج ضمن هذه المجموعة كلُّ الآيات التي تنفي الشفاعة، والتي تنقسم إلى أربعة أقسام:

1 - الآيات التي تنفي الشفاعة بشكل مطلق، وينحصر هذا القسم في الآية الكريمة التالية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ

ص: 111

يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(1).

2 - الآيات التي تنفي الشفاعة التي كان يتصوّرها اليهود، والتي سوف نتحدّث عنها - فيما بعد -.. يقول القرآن الكريم: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ}(2).

ويقول: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ}(3).

3 - الآيات التي تؤكّد أنّ (لا شفاعة للكفّار) في يوم القيامة.. مثل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}(4).

{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ *وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}(5) {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ *تاللَّهِ إِنْ

ص: 112


1- البقرة: 254.
2- البقرة: 47-48.
3- البقرة: 122-123.
4- الأعراف: 53.
5- الشعراء: 91-93.

كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ *فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ *وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}(1).

{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}(2).

4 - الآيات التي تنفي أن تملك الأصنامُ المعبودةُ الشفاعةَ، مثل: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}(3).

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(4).

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ}(5).

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ}(6).

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ

ص: 113


1- الشعراء: 96-101.
2- المدثر: 46-48.
3- الأنعام: 94.
4- يونس: 18.
5- الروم: 13.
6- الزمر: 43.

شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ}(1).

المجموعة الثانية: الشفيع هو اللّه

المجموعة الثانية: هي مجموعة الآيات التي تصرِّح بأنَّ الشفاعة مختصَّة باللّه تعالى، وليس هنالك شفيع غيره، وفي هذا المجال يقول القرآن: {وَأَنْذِرْ

بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(2).

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}(3).

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}(4).

{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(5).

المجموعة الثالثة: هنالك شفعاء، ولكن بعد إذن اللّه

ونقرأ في هذه المجموعة: الآيات التالية: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}(6). {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}(7).

ص: 114


1- يس: 23.
2- الأنعام: 51.
3- الأنعام: 70.
4- السجدة: 4.
5- الزمر: 44.
6- البقرة: 255.
7- يونس: 3.
المجموعة الرابعة: شروط خاصة

في هذه المجموعة نقرأ الآيات التالية: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا *لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا}(1).

{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}(2).

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}(3).

{يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}(4).

{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}(5).

والآن.. لنلقِ نظرة تحليليّة - ولكن موجزةً - حول هذه المجموعات القرآنية:

1 - المجموعة الأُولى من الآيات الواردة حول الشفاعة لا تتناقض مع بقيّة المجموعات؛ ذلك لأنّ سائر المجموعات تثبت أقساماً معيّنة من الشفاعة، وهذه المجموعة تنفي أقساماً أُخرى لا ترتبط بالأُولى، لا من قريب ولا من بعيد، فهذه المجموعة تنفي:

أ - الشفاعة الاعتباطية.. التي لا تتقيّد بقيد أو شرط - كما هو مورد القسم

ص: 115


1- مريم: 86-87.
2- الأنبياء: 28.
3- النجم: 260.
4- طه: 109.
5- غافر: 18.

الأوّل من المجموعة الأُولى(1).

ب - الشفاعة التي كان يحلم بها اليهود الذين كانوا يقولون: إنّنا أولاد الأنبياء، ومهما كانت ذنوبنا ثقيلة فإنّ آباءنا سوف يشفعون لنا.

هذا النوع من الشفاعة مرفوض في رؤية القرآن؛ وذلك لأنّ مجرّد الانتساب إلى عائلة (الرسالة) لا يكفي تبريراً للإنحراف عن خط اللّه تعالى، ومن ثمّ انتظار الرحمة والغفران الإلهيين من دون أيّ جهد أو تعب.

ج- - كما أنّ الكفّار الذين قطعوا كلّ علاقاتهم مع اللّه.. واتّخذوا من دونه أوثاناً وشركاء، هؤلاء لا يمكن أن تقبل شفاعة أحد في حقّهم - يوم القيامة.

د - ومن الطبيعي: أن (الأصنام) المعبودة من دون اللّه، لا يمكن أن تقوم بمهمة الشفاعة، خلافاً لكلّ التصورات الجاهليّة التي كانت تقدّس الأصنام ل- (تقرِّبهم إلى اللّه زلفى) ولتقوم بمهمّة الشفاعة لهم عند اللّه - .

2 - وإذا تجاوزنا عن هذه الأقسام الأربعة من (الشفاعات المرفوضة). نصل إلى (الشفاعة المقبولة).

هذه الشفاعة - كما تؤكّد ذلك (المجموعة الثانية) - هي مختصّة باللّه ويعني ذلك: أنّ مَن سوى اللّه لا يستطيع أن يشفع للعصاة باستقلاله.

إذن، فالشفاعة الاستقلاليّة هي مختصّة باللّه بينما (الشفاعة التبعيّة) يمكن

ص: 116


1- والذي يؤيد ذلك أمران. أ - إن ذلك هو مقتضى الجمع بين الآيات المختلفة الواردة في الشفاعة. ب - قوله تعالى في تلك الآية: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254).. فكما أن المنفي في جملة (ولا خُلّة) هو الخلّة الباطلة، بدليل قوله تعالى في آية أُخرى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67) فكذلك المنفي في قوله {وَلاَ شَفَاعَةٌ} هو الشفاعة الباطلة.

أن تكون نصيب الآخرين(1).

3 - إذن، فإن هنالك شفعاء آخرين من دون اللّه، إلاّ أنّهم لا يستطيعون أن يشفعوا إلاّ من بعد إذنه وهو ما تؤكِّده (المجموعة الثالثة) من آيات الشفاعة.

4 - ولكن متى يأذن اللّه؟!.

إنّ المجموعة الرابعة هي التي تجيبنا على هذا السؤال، فهي تحدِّد شروطاً خاصّة في (المشفوع له) ومن دون توفّر هذه الشروط، فإنّ اللّه سبحانه لا يأذنُ بالشفاعة.

وهذه الشروط هي: أن يكون المشفوع له (مرضياً لله) و(متَّخذاً عند الرحمن عهداً). وبعبارة أُخرى: أن يكون (الخط العام) في حياته خطّاً إلهيّاً سليماً، وعندئذ: تتكفّل الشفاعة سائر انحرافاته الجزئيّة(2).

ص: 117


1- كما أن (علم الغيب) مختصٌّ باللّه، لكن بمعنى أنّ أحداً لا يستطيع - باستقلاله - أن يخرق حجب الغيب، ولكنّه يستطيع - بالتبع وعطاء اللّه - أن يطلع على ذلك. يقول القرآن الكريم: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النحل: 65). ويقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [فيطلعهم على الغيب] (آل عمران: 179) وليس بين الآيتين أيُّ تناقض.. فالأُولى تنفي أن يطلّع أحد على الغيب باستقلاله - سوى اللّه - بينما الآية الثانية - تؤكّد أنّ من الممكن أن يمنح اللّه لبعض رسله (علم الغيب) فيكون علمهم بالغيب علماً تبعيّاً لا استقلالياً.
2- هنا لا بد من أن نشير إلى نقطتين: الأُولى؛ إننا اعتمدنا في هذا البحث (بحث الشفاعة) بشكل رئيسي على الدراسة المفصلة التي كتبها الأستاذ الشيخ جعفر سبحاني تحت عنوان: «شفاعت درقلمرو: عقل، قرآن، وحديث» (باللُّغة الفارسية). الثانية: إننا اختصرنا هذا البحث إلى أبعد الحدود. وذلك لكي لا يخرج عن موضوع الكتاب، ومن أراد التفصيل فعليه بالكتاب المذكور.

إلى هنا نختم حديثنا حول (الجمع الموضوعي) لآيات القرآن الكريم، رغم وجود نماذج أُخرى كثيرة في إطار هذا الموضوع.

وعلى القرّاء الكرام: أن يحاولوا القيام ب(الجمع الموضوعي) لآيات القرآن في المواضيع التي تشغل تفكيرهم - لكي يخرجوا برؤية قرآنيّة شاملة حول تلك المواضيع.

ص: 118

الفصل الثالث : الفهم الحيوي للقرآن

اشارة

ص: 119

ص: 120

الذين يفهمون القرآن..

كتابَ موت

اشارة

كيف تفهم أجيالنا المعاصرة القرآن الكريم؟!

قبل أن نجيب على هذا السؤال، لا بدّ أن نطرح سؤالاً آخر هو: كيف فهمت طلائع المسلمين الذين عاشوا في عصور الرسالة الأُولى هذا الكتاب المجيد؟!.

الجواب: لقد فهموا القرآن (كتاباً للحياة) و(برنامجاً للتحرُّك) و(خريطة للسلوك).

كان الواحد منهم يقرأ القرآن وكأنّه هو المخاطب بآياته، وكان يستنبط من آيات القرآن (بصائر واضحة) يستعين بها في مسيرة الحياة الطويلة.

وعندما كانت تعترض الواحد منهم مشكلة، أو يجد نفسه على مفترق طريق لا يدري أين تؤدّي به، كان يلتجئ إلى القرآن، يقلب صفحاته، ويتأمّل في آياته، حتّى يعثر على حلٍّ لمشكلته، ويجد الضوء الذي يزيح من أمامه الظلمات.

وجاءت - من بعدهم - أجيال أساءت الفهم، وضلّت الطريق.

هذه الأجيال تصورت القرآن (كتاب موت) بدل أن يكون (كتاب حياة)، فالقرآن لا يعني بالنسبة إلى حياة هؤلاء شيئاً. إنّه مجموعة من

ص: 121

القضايا الميتافيزيقية، والقصص التاريخية، والطقوس العبادية وأيُّ ربط لهذه الأُمور بالحياة؟!.

إذن، فمن الطبيعي - بعدئذ - أن يبحثوا عن (قيم الحياة) و(مناهج الحياة) و(تعاليم الحياة) في أيّ مكان غير القرآن - بالطبع - .

وقد نتج هذا الفصل، أي الفصل بين القرآن وبين الحياة المعاشة، من عدّة عوامل، منها:

1 - الهوى والشهوات:

ذلك لأنّ الفهم (الحيوي) و(الواقعي) للقرآن يعني:

أ - تحديد شهوات الإنسان وأهوائهِ - كما سيتّضح ذلك فيما بعد - .

ب - التنازل عن كثير من الارتباطات والعلاقات الإجتماعية، بل ومقاومة الكثير من (مراكز القوى) التي ترتبط مصالح الإنسان الماديّة بالخضوع لها والتعاون معها.

ولكنّ أهواء الإنسان لا ترضى بذلك. إذن، لنفهم (القرآن) ككتابٍ ميّت، وعندئذ ننطلق في حياتنا كما نشتهي ونريد.

2 - الفهم الخاطئ للدين:

ذلك لأنّ الدين الذي:

أ - يأمر أتباعه بالعزلة والانزواء عن المجتمع.

ب - ويهتمّ بالآخرة ولا يعير الدنيا أيَّ اهتمام.

ج- - ويرفض التدخُّل في السياسة - حتّى لو كانت نزيهة في أهدافها ووسائلها؛ لأّنها خبث وكذب ونفاق!.

ص: 122

هذا الدين لا يرتبط بالحياة - بالطبع - وقرآن هذا الدين وهو كذلك، إنّه كتاب يدعو الإنسان - حتماً - إلى الزهد في الدنّيا، وصرف كلّ جهوده في الآخرة. فما هي قيمة الدنيا؟! إنّها لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة! بل هي أساساً سميِّت (دنيا) لأنّها دنيئة وهابطة! إذن، ما لنا ولها؟ دع الدُّنيا للآخرين، دعها للكافرين يتمتعوا بها ويتقلّدوا زمامها. أمّا أنت فاعبد اللّه حتّى يأتيك اليقين؛ لتكون دنياك خربة، ومتهاوية ليس ذلك مهمّاً: المهم أن تكون آخرتك معمورة!

إنّ هذا المنطق هو بالضبط منطق (عبد اللّه بن عمر) حينما مات معاوية، وقام على الأمر بالسيف يزيد. لقد رفض عبد اللّه بن عمر أن يتّخذ أيَّ موقف رافض، واكتفى بالقول: (أمّا أنا فعليّ بقراءة القرآن، ولزوم المحراب)!.

عبد اللّه بن عمر كان يقرأ في القرآن قضيّة موسى (عليه السلام) وفرعون، وكيف ثار موسى (عليه السلام) في وجه فرعون الطاغية حتّى قضى عليه، ولكنّه كان يقرأ ذلك ك(قصّة) وليس ك(عبرة) وك(تجسيد حيّ) ولذلك لم يبذل أيَّ جهد في مقاومة فرعون زمانه (يزيد بن معاوية)، بل اكتفى بقراءة القرآن، ولزوم المحراب! وهكذا يجني (الفهم الخاطئ للدين) على الفهم الحيويّ أو الواقعي للقرآن»!

3 - اعتبار القرآن كتاباً متعالياً عن الإدراك البشري:

فالذين يعتبرون القرآن مجموعة من الألغاز، والأحاجي، والرموز الغامضة، هؤلاء بالطبع لا يستطيعون أن يفهموا القرآن. وحتّى لو فهموه

ص: 123

فإنّهم لن يسمحوا لعقولهم أن تقوم ب(الفهم الواقعي - والحيوي) للقرآن، بل إنّ ذلك - في نظر بعضهم - هو الإنحراف الصريح(1).

والسؤال الآن هو: ما هي النتائج التي ترتّبت على هذا الفصل بين القرآن وبين الواقع القائم؟!.

والجواب:

1 - أصبح القرآن - بذلك - كتاباً ميّتاً لا يستطيع الدفع والتحريك، بعد أن كان - وعلى امتداد فترة طويلة من الزمن - المحرّك الأساسي للأُمّة المسلمة على طريق النموّ والتقدُّم.

لقد وعت الأُمّة بفضل القرآن، وتحرّكت بفضل القرآن، وتصاعدت بفضل القرآن، واندفعت تنشر النور في أقطار الأرض، وتحطّم عروش الطغاة في كلّ مكان بفضل القرآن، وأنجزت كلّ شيء بفضل القرآن.

هذا ما كان في السابق، وحين كانت الأُمّة تنظر إلى القرآن كتاباً للحياة، ومنهجاً للتحرُّك، وخريطة للمسير.

أمّا اليوم، وحين انفصل القرآن من الحياة ولم يبق منه إلاّ رسوم - كما يقول الإمام علي (عليه السلام) - فقد انتهت فاعليته وأصبح لا يحرّك فرداً، ولا يبني كياناً، ولا يرهب عدوّاً.

2 - انفصل القرآن - بذلك - عن أجيالنا الصاعدة:

ذلك لأنَّ هذه الأجيال تبحث عن: القضايا المتحرّكة التي ترتبط بواقعها

ص: 124


1- لقد تناولنا مسألة (التفسير بالرأي) في الفصل الأوّل من هذا الكتاب.

القائم، أمّا القضايا الجامدة والقصص الميّتة فهي لا تستثيرها، ولا تستقطب اهتمامها.

ولأنّ هذه الأجيال فهمت القرآن كتاباً عتيقاً ميّتاً لا يرتبط بالواقع القائم؛ لذلك ألقت بالقرآن وراء ظهرها، وانطلقت تبحث عن أيديولوجيّة أُخرى تعالج مشاكلها الحاضرة!.

ولو كان هؤلاء قد فهموا القرآن فهماً (حيويّاً) و(واقعياً) لما كانوا قد انفصلوا عنه. ونحن واثقون: بأنّ هؤلاء سوف يعودون يوماً ما إلى القرآن، وإلى الأيديولوجيّة الإسلامية، بعد أن يفهموهما بشكلها الواقعي الحيّ.

3 - ظلَّت - بالفصل بين القرآن وبين (الفهم الواقعي) له - المفاهيم الخاطئة مكرّسة في نفسية الأُمّة، بينما كان بإمكان (الفهم الحيوي) و(الواقعي) للقرآن الكريم أن يعالج الكثير من هذه المفاهيم. وسنضرب فيما بعد بعض الأمثلة على ذلك.

هذه كانت - بإيجاز - النتائج الخطيرة التي ترتّبت على (الفهم الميّت) لآيات القرآن الكريم.

وينتصب هنا سؤال؛ ليقول: ما هي مظاهر (الفهم غير الواقعي) للقرآن؟!

والجواب: إنّ هنالك ثلاثة مظاهر:

1 - الفهم التجريدي.

2 - الفهم التاريخي.

3 - عدم إعطاء الكلمة مدلولها الحقيقي.

دعنا. نلقِ قليلاً من الضوء على ذلك:

ص: 125

أوّلاً: الفهم التجريدي

يرتكز (الفهم التجريدي) للقرآن الكريم على عنصرين:

الأوّل: ربط (المفاهيم القرآنية) بعالم الغيب.

الثاني: فصل هذه (المفاهيم) عن الواقع القائم.

إذن، فللقضيّة جانبان: جانب إيجابي - يتمثّل في (العنصر الأوّل). وجانب سلبي - يتمثّل في (العنصر الثاني).

ونحن وإن كنّا نرتضي الجانب الإيجابي من القضية؛ لأنّه صحيح ومؤكّد، إلاّ أنّنا نرفض الجانب السلبي؛ لأنه يعتبر (تجزيئاً للدين).

وفيما يلي بعض الأمثلة السريعة على (الفهم التجريدي) للقرآن:

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ}(1).

كيف يفهم (التجريديون) هذه الآية - والتي تكرّرت بصيغ مختلفة في أماكن مختلفة من القرآن الكريم؟!.

الجواب: إنّ لله سبحانه ميزة من أهمّ ميزاته، هذه الميزة تجعل اللّه متفرّداً عن كافّة الكائنات، وهي: أنه واحد، أحد، فرد، صمد.. (لا شبيه له يعادله، ولا شريك له يشاكله).

ويستطرد (التجريديون) قائلين: إنّ النظام الكوني هو خير دليل على وحدانية اللّه؛ ذلك لأنّه لو كان هنالك إلهان لتنازع أحدهما مع الآخر،

ص: 126


1- البقرة: 163.

ولاختلّ نظام الكون وتهاوت الحياة.

إذن، فالقضية لا ترتبط ب(الواقع البشري) من قريب، ولا من بعيد، بل إنّها مجرّد قضية اعتقادية ترتبط بعالم الغيب والميتافيزيقيا.

ولكنّ الحقيقة: أنّ كلمة (لا إله إلا اللّه) هي منهج كامل للحياة، بكلّ ما للحياة من ظلال وأبعاد، فهي تعني:

1 - أنّ العبادة مختصّة باللّه، وكما يقول القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(1).

2 - إنّ الحاكميّة مختصّة باللّه، وفي هذا المجال يقول القرآن:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}(2).

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا *أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا *وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ

ص: 127


1- الأنعام: 162-163.
2- الشورى: 21.

لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1).

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

3 - إنّ الطاعة مختصّة باللّه، وفي هذا المجال يقول القرآن: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}(3). {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}(4)؟. {يَاأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}.

وهكذا نجد: أنّ الذين يخضعون لمن دون اللّه، أو يرجعون في حياتهم إلى حكم غير حكم اللّه - سواء في المجال التشريعي كالأحبار أو في المجال التنفيذي كالطواغيت - أو يسيرون وراء أهوائهم وشهواتهم، كلّ هؤلاء ليسوا بموحّدين حقيقيين لله

وبهذا الفهم المتحرّك يصبح شعار (لا إله إلا اللّه) شعاراً واقعيّاً، بل أهمّ شعار مرتبط بالواقع - على الإطلاق - ومن ثمَّ يكتسب: حيويّة، وفاعليّة، وحرارة!.

ص: 128


1- النساء: 60-65.
2- التوبة: 31، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحّرموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون». راجع: الصافي 1: 696.
3- الجاثية: 23.
4- يس: 60.

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}(1).

ما هو مفهوم هذه الآية الكريمة ومثيلاتها في نظر (التجريديّين)؟

إنّ هذه الآية تتناول مسألة (العدل الإلهي)، ويعتبر العدل من أهمّ صفات اللّه تعالى، وهو يعني: أنّ الجزاء الإلهي للبشر يوم القيامة سيجري بشكل دقيق وعادل؛ حيث تنصب الموازين الإلهيّة الدقيقة التي تزن كلّ شيء، سواء كان كبيراً، أو صغيراً {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

ويضيف هؤلاء: إنّ عدالة اللّه نابعة من غناه المطلق وعلمه التام، فهو ليس محتاجاً، وليس جاهلاً؛ ولذلك فهو لا يظلم الناس.

والحقيقة: إنّ (العدالة الإلهية ليست خاصة ب(الماورائيات)، بل هي تشمل كذلك مختلف جوانب (الحياة الكونية) و(الحياة البشرية)؛ ذلك لأنّ العدالة تنقسم إلى:

1 - العدالة الكونية حيث نجد الكون بكلّ ما فيه - بدءاً من الذرّة وانتهاءاً إلى المجرّة ومروراً بكلّ الكائنات - نجده قائماً على أُسس حكيمة وعادلة.

2 - العدالة التشريعية فلم يأت تشريع من تشريعات السماء من أجل العبث، أو التضييق على الناس.

إنّ كلّ (الأحكام الإلهية) نابعة من علم دقيق، وحكمة تامّة، وعدلٍ تام.

ص: 129


1- غافر: 31.

3 - العدالة الاجتماعية.. فاللّه سبحانه يفسح المجال للجميع لكي يعملوا ويمدّ الجميع كذلك. وإذا ما تقدّمت فئة معيّنة بسبب العمل، فإنّه لن يتدخّل لصالح فئة أُخرى لا تعمل! حتّى لو كانت تلك الفئة تعتنق مبادئه، وتطبّق أحكامه - أو بالأحرى: بعض أحكامه -(1).

فليستيقظ الكسالى الغارقون في الأحلام، النائمون على حرير الأمل الرقيق، وليعلموا: أنّ اللّه لن يصبح (بديلاً) عنهم، ولن يطهّر الأرض من أدناس الجاهليّة إلا بعد أن يعمل المؤمنون ويتحركوا.

4 - العدالة الجزائية: حيث يلاقي - على أُسس من هذه العدالة - المحسن جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته، دون أن يظلموا مثقال ذرّة، وكما يقول القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}(2).

ولكنّ هذه (العدالة) ليس خاصّة بالآخرة، بل إنّها تشمل الدنيا كذلك: فمن أحسن يجد الحسنى في الدنيا - ومن بعدها الآخرة، ومن أساء يجد السوأى في الدّنيا، ثم يردّ إلى عذاب النار وبئس المصير.

وهكذا نجد: أن (الفهم الواقعي) للقرآن الكريم، يجعله ينبض بالحياة وكأنّ آياته قد هبطت للتوّ واللّحظة.

بينما (الفهم التجريدي) يحوّل (المفاهيم القرآنية الحيّة) إلى مفاهيم ميتّة، وباهتة، أو على الأقل: يحصرها ضمن إطارات محدّدة.

ص: 130


1- يقول القرآن في هذا المجال:{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (الإسراء: 20).
2- النساء: 40.
ثانياً: الفهم التاريخي

الفهم التاريخي للقرآن الكريم يعني أحد أمرين:

الأوّل: تلقّي قصص القرآن الكريم كمجرّد قصص تاريخية، الهدف منها ذاتها، من دون النفوذ إلى العبر الكامنة وراءها.

هذا القسم يفهم التاريخ كأحداث مضت، ويفهم قصص القرآن كقصص أفراد غابرين، ويكتفي بهذا القدر من فهم التاريخ، دون أن يمارس مع ذلك فهماً آخر هو (الفهم العبروي).

الثاني: تلقّي (القصص القرآنية) كقصص مرتبطة ب- (ذوات خاصة) و(أفراد معينين) من دون اعتبار هذه القصص (رمزاً) و(نموذجاً حيّاً يتكرر في كل زمان ومكان).

فالقرآن: ذكر قصّة الحاكم الطاغية (فرعون). والوزير المداهن (هامان). والعالم الذي كان في القمّة ثمّ هوى إلى الحضيض (بلعم بن باعوراء). والشجرة الطيّبة (أهل البيت). والشجرة الخبيثة (بني أُميّة).. و..

كلّ ذلك مفهوم لدى هذا القسم، إنّه يعرف التاريخ الذي مضى تماماً، ولكنّه يجهل - أو يتجاهل - التطبيقات الحيّة (الواقعية) لهذه (الرموز).

إنه لا يريد أن يعرف: (فرعون) و(هامان) و(بلعم) الذين يعيشون في عصره؛ لأنّ ذلك يعني ضرب كثير من قيمه، وعلاقاته الاجتماعية، ومصالحه، ولذلك فهو يعوِّض عن جهله بحاضره، بمعرفته بتاريخه الذي مضى، وراح.

والدين يرفض كلا النوعين من (الفهم).

ص: 131

1 - فالقرآن يؤكّد أن ما ورد فيه من قصص هي (للعبرة) فيقول: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَِوَّلِ الْحَشْرِ} إلى أن يقول: {فَاعْتَبِرُوا

يَاأُولِي الأَبْصَارِ}(1).

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُِولِي الأَبْصَارِ}(2).

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ (أي الرسل) عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ}(3).

{فَأَخَذَهُ اللَّهُ} (أي: أخذ فرعون) {نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}(4).

وماذا يعني الاعتبار؟!

إنّه لغويّاً يعني العبور من شيء إلى شيء آخر؛ ولهذا سمّي الدمع ب(العبرة) لأنّه ينتقل من العين إلى الخد. وسمّي الجسر (معبراً) لأنّه به تحصل المجاوزة، وسمِّيت الألفاظ (عبارات) لأنها تنقل المعاني من قلب المتكلِّم إلى عقل المستمع. ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل بعقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه(5).

ص: 132


1- الحشر: 2.
2- آل عمران: 13.
3- يوسف: 111.
4- النازعات: 25-26.
5- التفسير الكبير 29: 282 (بتصرف).

وفي هذه الآيات تعني (العِبرة)، العبور من القصّة إلى مغزاها وتجاوز سطور التاريخ لاستشفاف ما وراء هذه السطور.

2 - وتؤكّد الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) : أنّ لقصص القرآن نماذج حيّة في كل زمان ومكان:

أ - فعن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) (الإمام الصادق) عن هذه الرّواية: «ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»..؟

قال: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله. منه ما مضى، ومنه ما لم يجيء بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر».

وفي خبر آخر: «يكون على الأموات كما يكون على الأحياء».

والإمام (عليه السلام) يعني بالظهر المصداق للآية قبل ألف وأربعمائة سنة.

أمّا البطن: فهو المصداق الباطني للآية، أي: المصاديق المتكرّرة في كلّ زمان ومكان والتي ينطبق عليها مفهوم الآية.

ولذلك جاء في الحديث: «إنّ لكل ظهر بطناً».

والسؤال الآن: لماذا شبّهت الرواية القرآن الكريم بالشمس والقمر؟.

والجواب: إنّ الشمس والقمر يُشرقان كلّ يوم على شيء جديد، وكذلك القرآن: إنّه ينطبق كلًّ يوم على مصداق جديد، فالقرآن ليس خاصّاً لجيل دون آخر، أو لزمان دون زمان، أو لمكان دون مكان، بل هو لكلّ زمان ولكلّ مكان.

وكما أنّ الشمس والقمر يبددان الظلمات، ويضيئان من حولنا الأشياء، كذلك القرآن، إنّه يضيء لنا طرق الحياة، ويكشف ما خفي علينا من الأُمور.

ص: 133

ب - عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال لحمران: «ظهر القرآن الذين نزل فيهم، وبطنه: الذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أُولئك».

ج- - عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) : «ولو كانت إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية، لمات الكتاب. ولكنّه حيٌّ يجري فيمن بقي، كما جرى فيمن مضى».

د - عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : «.. ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أُولئك ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض».

ه- - عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إنّ القرآن حيٌّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا»(1).

إذن، فمن الخطأ (التسمُّر) في فهم القرآن على أفراد معيّنين، أو على حقب معيّنة. من الخطأ أن ندفن آيات القرآن في قبو الماضي السحيق، بل: يجب تطبيق القرآن تطبيقاً حيّاً على الواقع الذي نعيش، وعلى الأفراد الذين نتعامل معهم ضمن هذا الواقع، من الحاكم، والتاجر، والقوى الاجتماعية.. وسائر فئات الشعب.

وفيما يلي نستعرض بعض النماذج عن (الفهم الواقعي) مقابل (الفهم التاريخي) للقرآن الكريم.

ص: 134


1- اقتبسنا هذه الروايات من مقدّمة كتاب البرهان في تفسير القرآن: 5 (طبعة دار الكتب العلمية - إيران).

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ *يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ *قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(1).

كيف يفسّر أصحاب (الفهم التاريخي) هذه المجموعة من الآيات؟!

إنّ هذه المجموعة من الآيات تكشف عن: عناد اليهود وخبث طينتهم.. وتمرُّدهم على قرارات قيادتهم الرشيدة.

لقد دعاهم موسى (عليه السلام) إلى قتال (العمالقة) واستخدم في سبيل ذلك كل عوامل الترغيب والترهيب، إلاّ أنّهم أبَوا وسخروا من موسى (عليه السلام) ومن ربّه - كذلك!

ويستطردون قائلين: قاتل اللّه اليهود كم جرَّعوا نبيَّهم من الغصص، وكم

ص: 135


1- المائدة: 20-26.

أذاقوه من الآلام؟! هذا - إذاً - هو كل ما في الأمر. وينتهي - بعدئذ - كلُّ شيء!

هذه المجموعة من الآيات - وعشرات مثلها - لا تهدف إلا إلى النيل من مجموعة بشريّة معينّة - هم اليهود - وتسجيل اللّعنة عليهم على امتداد التاريخ؟!

ولكن، لنتساءل: هل الأمر - فعلاً - هو كذلك؟!.

إنّ مشكلة هؤلاء، هي أنّهم نظروا إلى هذه (القصة القرآنية) كقصّة مضت وانتهت، ولم يحاولوا أن يعرفوا الواقع القائم، ولم يسعوا من أجل تطبيق ما حدث في الماضي السحيق على الواقع القائم.

بينما نجد الروايات الشريفة تؤكّد على أن الأُمّة الإسلامية سوف تسير على خطى اليهود(1) «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتم معهم» كما جاء في الحديث الشريف، وهذا يدفعنا إلى البحث عن (المصاديق الجديدة) للقصص التي نقلها القرآن عن اليهود.

والآن، لِنُلقِ نظرة (واقعية) على هذه الآيات:

1 - لقد أراد بنو إسرائيل الوصول إلى الأهداف الضخمة المرسومة لهم، دون أن يبذلوا أيّ جهد أو تعب. عندما قالوا: {وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُون}!

لقد أرادوا أن ينزل «النصر» عليهم من السماء على طبق من ذهب وهم

ص: 136


1- عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «والذي نفسي بيده لتركَبُنّ سنن من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة، حتى لا تخطئون طريقهم، ولا تخطئكم سنة بني إسرائيل».

جالسون في أماكنهم، دون أن يتحمّلوا مسؤولية أو يعملوا شيئاً.

لقد أرادوا (المدينة المقدسة) لقمة سهلة باردة!

ولكنّ سنن اللّه في الكون تأبى ذلك(1). ومن هنا: فإنّهم ليس فقط لم يصلوا إلى الهدف، بل - وأيضاً - تلقّوا عقاباً إلهيّاً صارماً نتيجة الكسل والتقاعس. أليس هذا الواقع ذاته يتكرّر - الآن - عند مجموعة من المسلمين؟!.

أليس هؤلاء يقبعون في زوايا البيوت، وينتظرون الوصول إلى أهدافهم المنشودة من دون سعي أو عمل؟! والنتيجة؟!

النتيجة هي بالطبع: خيبة الأمل.. والسقوط - أيضاً - تماماً كما حدث لبني إسرائيل!

2 - لقد استبدل (بنو إسرائيل): التوكّل ب- التواكل.

فعندما طلب الرجلان اللّذان أنعم اللّه عليهما من بني إسرائيل أن يقتحموا أسوار المدينة، ويتوكلّوا على اللّه. أن يجمعوا بين السعي والإعتماد القلبي على اللّه، بين الغيب والشهود.. عندما طلبا منهم ذلك قالوا: {اذْهَبْ أَنْتَ (يا موسى) وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون}!

عندئذ وبدل أن (يتوكلّوا) على اللّه (تواكلوا) بمعنى: أنهم نفضوا أيديهم من المسؤولية، وألقوها على اللّه سبحانه.

والآن، لننتقل بقلوبنا من الماضي السحيق إلى الواقع القائم، ولنتساءل:

ص: 137


1- جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بالأسباب» (بحار الأنوار 2: 90).

كم يتكرّر هذا المشهد في واقعنا كلّ يوم؟!

أليس الكثيرون منّا يستبدلون ب(التوكّل) (التواكل)؟!

بل: أليس الكثيرون يعتبرون (التوكّل) هو (التواكل)؟!(1).

وهكذا سارت أُمتّنا على خطى (بني إسرائيل) حذو النعل بالنعل، والقِذّة بالقذّة - كما تنبّأ بذلك من قبل الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

يقول القرآن الكريم:

- 2 -

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(3).

جاء في التفسير أنّ بعض المسلمين أثقلوا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فنزلت هذه الآية الكريمة..

وفي الحديث: «.. وكان الرجل إذا أراد أن يكلّمه تصدّق بدرهم ثم

ص: 138


1- يعتبر القرآن الكريم التوكل رديفاً للعمل، وليس بديلاً عنه. فيقول: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ}... {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} كما جاء في الآية السابقة، ويقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159).
2- لقد طبق (المقداد) هذه الآية تطبيقاً واقعيّاً وذلك حين شاور الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين في الخروج إلى بدر فقال المقداد: يا رسول اللّه: امض لما أمرك اللّه فنحن معك، واللّه لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني الحبشة - لجالدنا معك من دونك حتى تبلغه. فقال له رسول اللّه خيراً، ودعا له بخير. راجع: تاريخ الطبري 2: 140.
3- المجادلة: 12.

كلمّه (الرسول) بما يريد، فكفّ الناس عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه. فتصدّق علي (عليه السلام) بدينار كان له، فباعه بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره، وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك..»(1). ثم نسخ هذا الحكم بالآية التي تليها.

والسؤال الآن هو: ما هي العبرة (الحية) و(الواقعية) التي نستفيدها من هذه الآية الكريمة بالإضافة إلى كونها (فضيلة) تفرّد بها الإمام علي (عليه السلام) ؟!.

والجواب: إنّ هذه القصة - التي تضمنتها الآية الكريمة - تكشف لنا عن نوعين من (الإيمان): أحدهما: إيمان التضحية. وثانيهما: إيمان المصالح.

في (إيمان التضحية) يكون الفرد المؤمن (جندياً تحت الطلب) أي أنه يستعد لتنفيذ كل القرارات، والتضحية بكل ما يملك من مال، وأهل، ونفس في سبيل اللّه، والقيم، والمبادئ.

أمّا صاحب (الإيمان المصلحي) فهو يسير في ركاب (الدين) ما دام هذا الدين لا يضرُّ بمصالحه ولا يكلّفه شيئاً. أمّا عندما يكلّفه الدين: مصالحه الشخصية، فهو يترك الدين، ويضرب به عرض الحائط(2).

ص: 139


1- البرهان 4: 309.
2- عن هذا الطراز من «المؤمنين» يقول القرآن: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: 11) ويقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّامَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 10).

وقد تجلى - من خلال هذه القصة - (إيمان التضحية) في شخص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

كما تجلى (إيمان المصالح) في أُولئك الأغنياء الذين التفّوا حول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكانوا يكثرون من مناجاته والتحدّث إليه، فما إن وصل الأمر إلى الإنفاق والبذل حتّى انقطعوا عن الرسول، وتركوه وحيداً في داره!(1).

- 3 -

يقول القرآن الكريم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(2).

في البداية ينبغي أن نلقي نظرة على (شأن نزول) هذه الآية الكريم، ففي تفسير القمي: «لقي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (الجد بن قيس) فقال له: يا أبا وهب، ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟ (غزوة تبوك).

فقال: يا رسول اللّه، واللّه إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء، وإني أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر (أي بنات الروم).

فلا تفتنّي وائذن لي أن أُقيم.

وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر، فأنزل اللّه على رسوله في

ص: 140


1- قال في الميزان 19: 190. «... ففي قوله «وتاب اللّه عليكم» (عقيب آية التصدّق) دلالة على كون ذلك منهم ذنباً ومعصية، غير أنه تعالى غفر لهم».
2- التوبة: 49.

ذلك هذه الآية»(1).

إنّ هذا المشهد التاريخي يمثل لنا (التبرير) بأجلى صوره وأشكاله!

إنه ليس مجرّد تبرير عادي (كالتبرير بالحرّ والبرد وما أشبه)، بل إنه تبرير (ديني) بمعنى أنه يتخّذ من (الدين) ستاراً لتبرير الهروب من المسؤولية {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَ لا تَفْتِنِّي}!

وهو - أيضاً - لم يرّد بصيغة عادية، بل صاحبته مختلف عوامل التأكيد (من القسم و(ان) و(اللام) التأكيديتين، وغير ذلك) - كما نلاحظ في الحديث الشريف - .

ولكن هذا (المنطق التبريري) ليس خاصّاً ب- رجل تاريخي اسمه (الجد بن قيس) وكنيته (أبو وهب). وليس خاصاً بحقبة معينّة اندثرت في طيّات الماضي العتيق.

إنه نموذج يتكرّر في كل زمان ومكان، ولكن بأنماط وصور مختلفة.

فالذين يعتذرون عن تحمّل مسؤولياتهم، ويقضون أعمارهم في زوايا البيوت، بحجّة أنهم يخافون على أنفسهم من (الإنزلاق) أو (الكبرياء) أو (الضلال) أو ما أشبه.

والذين يرفضون الانتماء إلى جبهة الحق؛ بحجّة أن هذا الانتماء قد يعرضهم لمطاردة السلطات والقبض عليهم، وربما «انهيارهم» و(انحرافهم).

كل هؤلاء، وآخرون غيرهم، يمكن اعتبارهم نماذج جديدة تكرّر موقفاً مشابهاً لموقف (الجد بن قيس).

ص: 141


1- الصافي 1: 705.

وهم - مثله تماماً - يردّدون (تبريرات) كثيراً ما تلبس ب(غطاء ديني) ولكن ليسمعوا قول اللّه تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواً} {وَإِنَّ

جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(1).

هذه كانت بعض النماذج السريعة حول (الفهم الواقعي) للقصص القرآنية. وهنالك نماذج أُخرى كثيرة (مثلاً: قصة آدم (عليه السلام) ، قصة موسى (عليه السلام) وفرعون، قصة يوسف (عليه السلام) ، قصة مؤمن آل فرعون، قصّة صاحب الجنّتين، قصة أصحاب الكهف..) وبإمكان القراء الكرام أن يقوموا ب(الفهم الواقعي) لها، مستعينين في ذلك بروايات الأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة والسّلام، وبالتفكير المنطقي السليم.

ثالثاً: عدم فهم الأبعاد الحقيقية

ونستعرض فيما يلي نموذجين ل(عدم فهم الأبعاد الحقيقية) للآيات القرآنية.

- 1 -

يقول القرآن الكريم: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى*وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي *اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي *اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ

ص: 142


1- لقد طبقت فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية الكريمة على عصرها الذي كانت تعيش فيه، وذلك في الخطبة التي ألقتها على جميع المهاجرين والأنصار، بعد وفاة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قالت: فوسمتم غير ابلكم وأوردتم غير مشربكم، هذا: والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يقبر. ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، «ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين».

طَغَى *فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى *قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى *إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}(1).

ما الذي تدلّ عليه هذه الآيات الكريمة؟!

1 - إنّ هنالك حاكماً طغى وتجبّر، وتعدّى كلّ الحدود. هذا الحاكم كان يعيش مع فئة معينّة في القمّة، بينما كانت طبقات الشعب - من بني إسرائيل - تعيش في الحضيض.

وليس ذلك فقط، بل إنّ هذا الحاكم صادر - كذلك - حريّة هذا الشعب،وجعله يرزح تحت سياط التعذيب.

2 - وفي مثل هذا الواقع الخانق، أرسل اللّه - من قبله - رسولاً هو موسى (عليه السلام) ، فماذا كانت مهمّة هذا الرسول؟!.

القرآن الكريم يؤكّد: أن (العمل السياسي) من أجل تحرير الجماهيرالمستضعفة، كان في طليعة المهمّات التي أُلقيت على عاتق هذا الرسول.

ومن هنا، فإنّ الخطاب الأوّل من قبل موسى (عليه السلام) لفرعون كان دعوة صريحة إلى إطلاق حريات الشعب الإسرائيلي، ورفع أغلال الكبت والإرهاب عنهم:

ص: 143


1- طه: 40-48.

{فَأَرْسِلْ مَعَنا بَني إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ}!

وهل (العمل السياسي) غير هذا؟.

فما بال البعض يقولون: إنَّ الدين لا شأن له بالسياسة؟! - بصورتها النزيهة بالطبع -.

ما بالهم يردّدون: بأن على رجل الدين أن ينتقل بين البيت والمسجد، وإذا تجاوز هذا النطاق فإنّما ينبغي أن يكون ذلك لعيادة مريض، أو تشييع جنازة!! وليس أكثر من ذلك!.

ما بالهم يقولون: إنّ مهمّة رجل الدين تنحصر في صلاة الجماعة، وبيان بعض مسائل الطهارة والنجاسة ونحو ذلك. أمّا السياسة فهي كفر وشر ونفاق، وأن على رجل الدين أن لا يلوّث نفسه بأعتابها الدنسة.

ألم يكن موسى (عليه السلام) رجل دين؟ ألم تكن أوّل كلمة قالها (دعوة تحرير سياسية)؟!

- 2 -

يقول القرآن الكريم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}(1).

قال في الميزان: «والقبلة في الأصل: بناء نوع من المصدر كجِلسة، أي: الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء وغيره، فهو مصدر بمعنى الفاعل، أي: اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضاً وفي وجهة واحدة»(2).

ص: 144


1- يونس: 87.
2- الميزان 1: 114.

وعلى هذا، فإنّنا نستفيد من هذه الآية الكريمة درساً عظيماً في أُسلوب العمل، وهو: أن على (الفئة الرسالية) أن تزيد من (التلاحم الداخلي) فيما بين أعضائها، حتّى لا تتسرّب إليها سلبّيات المجتمع الجاهلي الكبير، وحتّى تستطيع أن تبني نفسها بشكل قوي ورصين، تماماً كما تنغلق البذرة على ذاتها في التربة، وتمتصّ كلّ الأملاح والعناصر الضرورية للحياة، وبعدئذ تخرج من التربة عالية الرأس، جميلة القوام. وهذا هو ما مارسته الحركات الناجحة على امتداد التاريخ البشري.

وهذا هو أيضاً ما مارسه بنو إسرائيل - بأمر من موسى (عليه السلام) - في خلال مراحل نموِّهم الأُولى(1)، كما يبدو لنا من خلال هذه الآية الكريمة.

ص: 145


1- لقد تعرض القرآن قبل بضع آيات إلى أنّ بنى إسرائيل كانوا في تلك الحالة فئة قليلة في طور التكوين، حين قال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} (يونس: 83).

ص: 146

التدبر في القرآن

اشارة

ص: 147

ص: 148

سورة الحمد مكيّة - مدنيّة آياتها(7)

اشارة

ص: 149

ص: 150

فضل السورة

1 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: «يا جابر ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه؟ فقال له جابر: بلى - بأبي أنت وأُمّي - يا رسول اللّه، علِّمنيها. فعلّمه (الحمد) أُمَّ الكتاب»(1).

2 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إنّ اللّه - عزّ وجلّ - قال لي: يا محمد {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}(2).

فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم. وإنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإنّ اللّه - عزَّ وجلّ - خصَّ محمّداً وشرّفه بها، ولم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه - ما خلا سليمان - فإنّه أعطاه منها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت: {إنّي اُلقي إليَّ كتابٌ كريم * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}(3). ألا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمَّد وآله الطيبّين، منقاداً لأمرها، مؤمناً بظاهرها وباطنها، أعطاه اللّه - عزَّ وجلَّ - بكلّ حرف منها

ص: 151


1- بحار الأنوار 89: 237.
2- الحجر: 87.
3- النمل: 29-30.

حسنةً، كلُّ واحدة منها أفضل له من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض لكم فإنّه غنيمة، لا يذهبَنّ أوانُه فتبقى في قلوبكم الحسرة»(1).

3 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قال اللّه عزَّ وجلّ: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.إذا قال العبد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}، قال اللّه عزَّ وجل: بدأ عبدي باسمي، وحقّ عليّ أن أُتمّم له أُموره، وأُبارك له في أحواله.

فإذا قال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال اللّه جلَّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنّ النِّعِمَ التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطوُّلي، أُشهدكم أنّي أُضيف له إلى نعم الدنيا نِعمَ الآخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

فإذا قال {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} قال اللّه - عزَّ وجلّ - شهد لي بأنّي الرحمن الرحيم، أُشهدكم لأُوفِرَنَّ من رحمتي حظّه، ولأُجزِلَنَّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال اللّه جلّ جلاله: أُشهدكم كما اعترف عبدي أنّي مالك يوم الدين لأُسهِلَنَّ يوم الحساب حسابه، وَلأتقبلنَّ حسناته، وَلأتجاوزَنَّ عن سيّئاته.

فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قال اللّه عزَّ وجلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد،

ص: 152


1- بحار الأنوار 89: 227-228.

أُشهدكم لأثيبنَّه على عبادته ثواباً يغبطه كلُّ من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال اللّه عزَّ وجلّ: بي استعان، وإليَّ التجأ، أُشهدكم لأُعينَنَّهُ على أمره، ولأُغيثَنَّهُ في شدائده، ولآخُذَنَّ بيده يوم نوائبه.

فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} - إلى آخر السّورة - قال اللّه عزَّ وجلَّ: هذا لِعبدي، ولعبدي ما سأل، فقد استجبت لعبدي، وأعطيته ما أمّل، وآمنته عمّا منه وجل»(1).

ص: 153


1- بحار الأنوار 89: 226-227.

الآية (1) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}

المفردات

{بِسْمِ}: أي. نبتدئ بهذا الإسم المبارك.

{الرَّحْمَانِ}: ذو الرحمة الشاملة.

{الرَّحِيمُ}: ذو الرحمة الدائمة.

المدخل

هذه الآية الكريمة هي شعار القرآن، حيث تبتدأ سور القرآن كلُّها بهذه الآية - باستثناء سورة التوبة - حيث إنّها بدأت بإعلان الحرب على الكفّار، فلا يناسب ذلك افتتاحها بالرحمة.

وحيث إنّ القرآن الكريم يحتوي على (114) سورة، وحيث إنّ البسملة تكرّرت في سورة النمل مرّتين، مرَّة في مفتتحها، ومرَّة في قوله تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ حين أُلقي إليها كتاب كريم: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}.

لذا فالبسملة تكرّرت في القرآن الكريم (114) مرّة بعدد سوره تماماً.

ولعلّ هذه التطابق يرمز إلى أنّ النظام التشريعي - الذي احتوى عليه القرآن الكريم - يبدأ من (اللّه) وتلفُّه الرحمة من أوّله إلى آخره، كما أنَّ

ص: 154

النظام التكويني - الذي يستوعب الكون كلّه - كذلك.

كما أنّ هذه الآية الكريمة هي شعار المسلم في كلّ عمل يقوم به، حيث ورد في الحديث الشريف «كلُّ أمرٍ ذي بال لم يُذكر فيه بسم اللّه فهو أبتر»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «سرقوا أكرم آية في كتاب اللّه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} وينبغي الإتيان به عند كلّ أمر عظيم أو صغير؛ ليبارك فيه»(2).

لماذا البدء بالبسملة؟

من الضروري أن يكون هنالك تطابق تامّ بين (الواقع الشعوري) و(الحقيقة الخارجيّة)؛ لكي تكون مسيرة الفرد سليمة في الحياة.

أمّا إذا حدث الانفصام بين الواقع الشعوري والحقيقة الخارجية، فإنّ ذلك يؤدّي إلى اختلال المسيرة وارتباك الأُمور. ويتّضح ذلك إذا لاحظنا الحقيقتين التاليتين:

الحقيقة الأُولى: إنّ المحرّك للإنسان هو الشيء ب(وجوده العلمي) لا ب(وجوده العيني)...

فلكلّ شيء وجودان حقيقيّان: (عيني) يتمثّل في الوجود الخارجي للشيء - كوجود الشمس الخارجيّة في كبد السّماء - و(علميّ) يتمثّل في الوجود الذهني للشيء - كوجود الشمس في لوحة ذهنك حينما تتصوَّرها، وإن كنت في ظلام الليل البهيم - .

ص: 155


1- (1) بحار الأنوار 89: 242.
2- الميزان 1: 23.

هذا مضافاً إلى وجودين آخرين اعتباريين، هما: (الوجود اللفظي) و(الوجود الكتبي). والذي يحرّك الإنسان هو الوجود العلمي للشيء، لا الوجود العيني.

فإذا تصوّر الإنسان وجود خطر داهم يهدّد حياته، كحيوان مفترس يحاول أن يلتهمه، فإنّه سوف يفرّ بنفسه، وإن لم يكن هذا التصوُّر يملك أي رصيد من الواقع.

وبالعكس: إذا كان هنالك خطر حقيقي يهدّد حياته، لكنّه لم يشعر بذلك الخطر، فإنّه سوف يظلّ في مكانه، دون أن يفكّر في النجاة بنفسه.

فالمُحرّك للإنسان - بل لكلّ كائن واعٍ - هو الشيء بوجوده العلمي لا بوجوده العيني - حسبما تبيّن ببرهان الدوران والترديد الذي مرَّ آنفاً - .

الحقيقة الثانية: إنّ للحقائق الخارجية آثاراً وضعيّة، لا تناط بالعلم بها، بل تترتّب عليها قهراً.

فالنظام التكويني نظام صارم، لا يتحمّل أيّة معارضة، فكلُّ خروج على هذا النظام يستتبع عواقب وخيمة دون فرق بين أن يكون الخارج عن النظام عالماً بعواقب خروجه، أو جاهلاً بذلك.

إنّ الجهل بالقانون أو بالآثار المترتّبة قد يشفع لصاحبه في ارتفاع المؤاخذة القانونّية، لكنّه لن يكون شفيعاً له في ارتفاع الآثار التكوينّية.

فمن تحدّى قانون الجاذبيّة وحاول أن يطير إلى السماء من سطح عمارة شاهقة فسوف تطرحه الجاذبيّة أرضاً، وتتركه جُثّة مُهشّمة دون حراك، وإن تصوّر أنه يستطيع أن يقلّد الطيور في طيرانها، وهكذا في سائر الأمثلة.

ص: 156

وعلى ضوء هاتين الحقيقتين نستطيع أن نعرف أنّ أيّ انفصام بين الواقع الشعوري والحقيقة الخارجيّة سوف يجرّ الفرد إلى الجري العملي وفق تصوُّراته الذهنّية المناقضة للواقع، وعندئذٍ يطاله عقاب التمرُّد على النظام الكوني دون هوادة.

عود إلى الآية

وانطلاقاً ممّا تقدّم نقول: إنّ (اللّه) سبحانه وتعالى - في الواقع الخارجي - مبدأ لكل شيء، ومصدر لكل شيء، فهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن. فكلّ (الذوات) تستمد كينونتها من كينونته، وكل (الصفات) تستمد وجودها من وجوده؛ لأنّ كلّ (الذوات) وكلّ (الصفات) أُمور ممكنة الوجود - أي: لا تستمد الوجود من ذاتها - فأنت لم تكن ثمّ كنت، وعلمك لم يكن ثم كان، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أنّ وجوده مستمدّ من ذاته؛ إذ إنّ (فاقد الشيء لا يعطيه)، فلا بدّ أن ينتهي وجودك الإمكاني إلى وجود واجب بالذات - وهو اللّه سبحانه وتعالى - ولا بدّ أن ينتهي علمك الإمكاني إلى علم واجب بالذات - وهو علمُ اللّه سبحانه وتعالى - .

وحسب التعبير الفلسفي: فإنّ كل ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات. فدسومة كلّ شيء من الدهن، أمّا دسومة الدهن فمن ذاته. ونوريّة كل شيء من الضوء أمّا نوريّة الضوء فمن ذاته.

وإذا كان اللّه - سبحانه وتعالى - قبل كلّ شيء في الواقع الخارجي، فيجب أن يكون قبل كلّ شيء في الواقع الشعوري؛ لكي تتطابق الواقعيّتان، ولا يحدث أيُّ انفصام بينهما. فقيل كلّ شيء لا بدّ أن نرى اللّه سبحانه،

ص: 157

ونستشعر بوجوده وقدرته وهيمنته.

ولذا ورد في الحديث الشريف: «ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت اللّه قبله وبعده ومعه).

والالتفات إلى هذه الحقيقة ذو آثار جَمّة في فكر الإمام وسلوكه؛ إذ سوف يتّجه الإنسان بكلِّه إلى ربِّه، ويتوكّل عليه، ويستمدّ كلّ شيء منه، ولا يعود يتّخذ أرباباً - من دون اللّه سبحانه بتوهُّم أنّها تنفعه أو تضرُّه؛ إذ كلُّ شيء في هذا الوجود مرهون بمشيئته سبحانه وتعالى.

أزِمَّة الأُمورِ طُرّاً بِيَدِهْ***والكلُّ مُستمِدَّةٌ من مَدَدِهْ

وقد روي: أنّه لمّا أمر الملك بحبس يوسف (عليه السلام) بالسجن، ألهمه اللّه تعالى تأويل الرُّؤيا، فكان يعبِّر لأهل السجن، فلمّا سأله الفتيان عن الرؤيا وعبّر لهما وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما: اذكرني عند ربّك، ولم يفزع في تلك الحال إلى اللّه فأوحى اللّه إليه: من أراك الرؤيا التي رأيتها؟

قال يوسف: أنت يا ربّ.

قال: فمن حبَّبك إلى أبيك؟

قال: أنت يا ربّ.

قال: فمن وجّه إليك السيّارة التي رأيتها؟

قال: أنت يا رب.

قال: فمن علَّمك الدُّعاء الذي دعوت به حتّى جعلتُ لك من الجُبِّ فرجاً؟

قال: أنت يا رب.

ص: 158

قال: فمن أنطق لسان الصبيّ بعُذرِك؟

قال: أنت يا رب.

قال: فمن ألهمك تأويل الرُّؤيا؟

قال: أنت يا رب.

فقال سبحانه له: فكيف استعنت بغيري ولم تستعن بي، وأمّلت عبداً من عبيدي ليذكرك إلى مخلوق من خلقي وفي قبضتي، ولم تفزع إليّ؟ البث في السجن بضع سنين [عقوبة على تركه الأولى](1).

وعن الصادق (عليه السلام) : أنّها كانت سبع سنين(2).

وقد روي أيضاً أنّ جبرائيل (عليه السلام) أتى يوسف (عليه السلام) ، فضرب برجله حتى كشط له عن الأرض السابعة.

فقال له: يا يوسف انظر ماذا ترى؟

فقال: أرى حجراً صغيراً.

ففلق الحجر فقال: ماذا ترى؟

قال: دودة صغيرة.

قال: فمن رازقها؟

قال: اللّه.

قال: فإن ربّك يقول: لم أنس هذه الدودة في ذلك الحجر في قعر الأرض السابعة، أظننت أنّي أنساك حتّى تقول للفتى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}؟ لتلبَثَنَّ

ص: 159


1- بحار الأنوار 12: 246؛ 68: 113.
2- الأنبياء حياتهم - قصصهم: 193.

في السجن بمقالتك هذه بضعَ سنين.

فبكى يوسف عند ذلك، فتأذى به أهل السجن فصالحهم على أن يبكي يوماً ويسكتُ يوماً، فكان اليوم الذي يسكتُ فيه أسوأ حالاً(1).

طَبعاً: هذا لا يعني عدم التوسُّل بالأسباب الطبيعية، بل يعني أن يعرف الإنسان أن وراء كلّ الأسباب (سبب الأسباب) وهو اللّه سبحانه وتعالى.

وعلى كلٍّ: فتكرار (البسملة) أمامَ كلّ سورة، وقبل كلّ عمل، إلفات إلى هذه الحقيقة ف(بسم اللّه) يعني أنّنا نبدأ عملنا بهذا الإسم المبارك، وتكرار ذلك قبل كلّ شيء يركّز في الذهن هذه الحقيقة.. حقيقة بدء كلّ شيء باللّه في الواقع الخارجي، فينبغي الالتفات إلى هذه المبدئيّة في الواقع الشعوري، وإعلان هذا الالتفات في التلفُّظ بكلمة (بسم اللّه) أمام كلِّ عمل في الحياة.

معنى الرحمة الإلهية

(الرحمة) انفعال خاصُّ يعرض على القلب عند مشاهدة النقص أو الحاجة، فيندفع الإنسان إلى رفع ذلك.

فعندما يشاهد الإنسان يتيماً يرتجف من البرد، أو فقيراً أضناه الجوع، أو مظلوماً يتلوّى تحت سياط الظالمين، تعرضه حالة الرّقة، فيندفع لتغيير هذا الواقع، وهذه هي الرحمة.

ولكنّ اللّه سبحانه ليس محّلاً للحوادث - كما ثبت في علم الكلام - فإذا أُطلقت هذه الكلمة على اللّه سبحانه أُريد بها العطاء والإفاضة لرفع الحاجة.

ومن هنا قيل: (خذ الغايات واترك المبادئ).

ص: 160


1- النور المبين: 213-214.

فالرحمة لها (مبدأ) وهو الوصف الانفعالي الخاص الذي يعرض على القلب و(منتهى) وهي العطاء والإفاضة، فإذا أطلق هذا الوصف على اللّه سبحانه أُريد بها (غايته) لا (مبدؤه). وهكذا بالنسبة إلى الصفات الأُخرى التي هي من هذا القبيل.

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «وأمّا الغضب فهو منّا، إذا غضبنا تغيّرت طبايعنا، وترتعد أحياناً مفاصلنا، وحالت ألواننا، ثم نجيء من بعد ذلك بالعقوبات، فسمِّي غضباً، فهذا كلام الناس المعروف. والغضب شيئان: أحدهما في القلب، وأمّا المعنى الذي هو في القلب فهو منفي عن اللّه جلَّ جلاله، وكذلك رضاه وسخطه ورحمته على هذه الصفة»(1).

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين قال: «رحيم لا يوصف بالرّقة»(2). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنّ الرحمة وما يحدث لنا: منها شفقة، ومنها جود. وإنّ رحمة اللّه ثوابه لخلقه، وللرحمة من العباد شيئان: أحدهما يحدث في القلب: الرأفة والرّقة لِما يرى بالمرحوم من الضرّ والحاجة وضروب البلاء. والآخر ما يحدث منّا بعد الرأفة واللُّطف على المرحوم، والمعرفة منّا بما نزل به.

وقد يقول القائل: انظر إلى رحمة فلان، وإنّما يريد الفعل الذي حدث عن الرّقة التي في قلب فلان، وإنّ ما يضاف إلى اللّه عزَّ وجل من فعل ما حدث عنا، من هذه الأشياء. وأمّا المعنى الذي في القلب، فهو منفي عن اللّه

ص: 161


1- نور الثقلين 1: 24.
2- نهج البلاغة 2: 100.

كما وصف عن نفسه، فهو رحيم لا رحمة رقّة»(1).

{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}:

يذهب بعض المفسّرين إلى أنَّ (الرحمن) هو ذو الرحمة الشاملة، فتعمُّ المؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، وكلّ موجود في هذه الحياة الدنيا. بينما (الرحيم) هو: ذو الرحمة الدائمة. وذلك ما يختصُّ بالمؤمنين وحدهم.

ومن هنا قسّموا الرحمة إلى (رحمة رحمانية) تعمُّ الجميع و(رحمة رحيمية) تختصُّ بالمؤمنين فقط.

ويستدلّون على ذلك:

أوّلاً: إنّ كلمة (رحمن) على وزن (فعلان) وهذه الصيغة تدلُّ على الكثرة والمبالغة(2).

بينما كلمة (رحيم) على وزن (فعيل) وهي صفة مشبهة، فتدلُّ على الثبات والدوام(3).

ثانياً: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، حيث قال: (الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة)(4).

وروي عنه - أيضاً - أنه قال: (الرحمن اسم خاص لصفة عامّة، والرحيم

ص: 162


1- نور الثقلين 1: 14.
2- وذلك نحو (غضبان) الذي يقال لمن امتلأ غضباً.
3- مثل (كريم) ونحوه.
4- بحار الأنوار 89: 229. وروي نظيره في نور الثقلين 1: 12؛ البرهان 1: 45.

اسم عامّ لصفة خاصّة)(1).

وقد فُسّر ذلك بأنّ {الرَّحْمَانِ} اسم مختصٌّ باللّه سبحانه، فلا يطلق على غيره، لكنّه يعبّر عن صفة عامّة وهي الرحمة الشاملة التي وسعت كلّ شيء.

و {الرَّحِيمُ} اسم عامٌّ لأنّه يطلق على غير اللّه تعالى - أيضاً - لكنّه يعبّر عن صفة خاصّة وهي الرحمة الثابتة الخاصّة بالمؤمنين فقط.

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن عيسى بن مريم (عليه السلام) ، قال: «رحمان رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة»(2).

ولعلّنا نجد في بعض الآيات تلميحاً إلى هذه الحقيقة.

فقد قال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(4).

وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا}(5).

وقال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(6).

الرحمة الخاصّة والرحمة العامّة

وسواء تمّ هذا الفرق أو لم يتمّ من الناحيتين: اللُّغوية والاصطلاحية، فالذي يهمُّنا أنّ الرحمة الإلهية على نوعين:

ص: 163


1- مواهب الرحمن 1: 23؛ مجمع البيان 1: 21؛ نور الثقلين 1: 14.
2- التبيان 1: 29.
3- الأحزاب: 43.
4- التوبة: 117.
5- مريم: 75.
6- طه: 5.

النوع الأوّل: رحمة عامّة، تشمل كلَّ الموجودات بلا استثناء، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان، والمؤمن والكافر والمنافق والصالح والطالح.

فلولا هذه الرحمة لم يفض الوجود على هذه الماهيّات (الحقائق)، ولم تنتقل من ظلمات (العدم) إلى نور (الوجود)، ولم يتعهدها اللّه سبحانه بالإمداد المستمر والعناية الدائمة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حيث قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(1).

وقال أيضاً: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً}(2).

وقال: {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}(3).

وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}(4).

ونجد في الأحاديث الشريفة عيّنات تكشف عن جوانب من هذه الرحمة.

فقد روي عن الإمام العسكري (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ إبراهيم (عليه السلام) لمّا رُفع في الملكوت، وذلك قول ربي: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} قوّى اللّه بصره لمّا رفعه

ص: 164


1- الأعراف: 156.
2- غافر: 7.
3- الأنعام: 147.
4- لقمان: 27.

دون السماء، حتّى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين متسترّين، فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فدعا اللّه عليهما بالهلاك فهلكا! ثمّ رأى آخرين فدعا عليهم بالهلاك، فهلكا! ثمّ رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك، فهلكا!

ثمّ رأى آخرين فَهَمَّ بالدعاء عليهما بالهلاك، فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي، فإنّي أنا الغفور الرحيم الجبّار العليم، لا تضرّني دنوب عبادي، كما لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي، فإنّما أنت عبد نذير، لا شريك في المملكة ولا مهيمن عليَّ ولا على عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: إمّا تابوا إليَّ فتبتُ عليهم وغفرتُ ذنوبهم وسترتُ عيوبهم.

وإمّا كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريّات مؤمنون، فأرفق بالآباء الكافرين، وأتأنّى بالأُمهّات الكافرات، وأرفع عنهم عذابي ليخرج أُولئك المؤمنون من أصلابهم، فإذا تزايلوا حقّ بهم عذابي وحاق بهم بلائي. وإن لم يكن هذا ولا هذا فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم ممّا تريدهم به»(1).

ونقل أيضاً - ما مضمونه - أن ضيفاً جاء إلى إبراهيم (عليه السلام) فلمّا مدّت المائدة لم يقل الرجل: (بسم اللّه).

فسأله إبراهيم (عليه السلام) عن ذلك؟

فقال الرجل: إنّني لا أُؤمن أصلاً بوجود اللّه!

ص: 165


1- بحار الأنوار 12: 60؛ النور المبين: 131.

فلم يرضَ إبراهيم (عليه السلام) أن يؤاكل الرجل، فقام الرجل وخرج.

فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم، إنّني لم أقطع رزقي ورحمتي عن هذا الرجل منذ أن خلقته، ولم يمنعني كفره عن ذلك، أفلم تستطع أن تضيفه يوماً واحداً؟

فقام إبراهيم (عليه السلام) ، وذهب خلف الرجل، ليرجعه. فسأله الرجل عن السبب؟

فذكر له إبراهيم (عليه السلام) ما أوحى به اللّه سبحانه إليه.

وكانت لحظات عاد فيها الرجل إلى وجدانه، ليسلم على يدي إبراهيم (عليه السلام) لله ربّ العالمين.

ومن هنا نقرأ في الدعاء: «يا من يعطي من سأله، يا من يُعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنُّناً منه ورحمة»(1).

وأمّا النوع الثاني: فهي الرحمة الخاصّة، وهي - كما سبق - تختصُّ بالمؤمنين فقط.

مقوّمات الرحمة الخاصّة

لكي تتحقّق ظاهرة مّا، لا بدّ من وجود مقوِّمين:

1 - تماميّة فاعلية الفاعل: إذ الفاعل (معطي الوجود، أو معطي الحركة) لو لم يكن تامّ الفاعلية، فلا يستطيع أن يحقّق المطلوب. فالمشلول مثلاً لا يستطيع أن يصنع سريراً، أو ينحت تمثالاً - مثالاً - .

ص: 166


1- مفاتيح الجنان، الدعاء الثامن من الأدعية العامة لشهر رجب.

2 - تمامية قابلية القابل: فربّما يكون الفاعل تامَّ الفاعليّة، إلا أنّ القابل غير مؤهّل لتلقّي الفيض من (الفاعل).

فالرياضي القدير ربّما لا يستطيع أن يُفهِمَ الرجل البدويَّ الجاهل معادلات الجبر والمقابلة لا لقلّة بضاعته العلمية، وإنّما لضعف استعداد البدوي.

ومن هنا قال الشاعر:

والنجم تَسْتَصْغر الأبْصارُ رؤيته***والذَّنْبُ للعينِ لا للنجمِ في الصِغَرِ

واللّه سبحانه تام الفاعليّة؛ إذ لا عجز ولا بخلَ ولا شحّ في ساحة لطفه ورحمته.

ولهذا فإنّ قدر الرحمة المفاضة يرتهن بقابلية القابل، فكّلما زدنا من القابلية في ذواتنا زادت الرحمة الإلهية المفاضة علينا.

وقد قال سبحانه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}(1).

وفي آية أخرى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

وفي آية ثالثة: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(3).

وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ}(4).

ومن هنا نجد: أنّ رحمة اللّه لمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولآله - عليهم أفضل الصلاة

ص: 167


1- الرعد: 17.
2- الأعراف: 56.
3- محمد: 17.
4- النساء: 175.

والسلام - أكثر ممَّن عداهم.

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}..

قال (عليه السلام) : «المختصّ بالرحمة نبيُّ اللّه ووصيُّه صلوات اللّه عليهما وآلهما، إن اللّه خلق مئةَ رحمة، تسعة وتسعون رحمة عنده مذخورة لمحمَّد وعليّ وعترتهما (عليهم السلام) ، ورحمة واحدة مبسوطة على سائر الموجودين»(1).

وقد ذكرت في الأحاديث الشريفة أُمور توجب الرحمة الإلهية الخاصّة، نذكر منها:

1 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «بذكر اللّه تستنزل الرحمة»(2).

2 - وعنه (عليه السلام) : «ببذل الرحمة تستنزل الرحمة»(3).

3 - وعنه (عليه السلام) : «أبلغ ما تستدرُّ به الرحمة، أن تضمر لجميع الناس الرحمة»(4).

4 - وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تعرضوا لرحمة اللّه بما أمركم به من طاعته»(5). إلى غيرها من الأحاديث الكريمة.

ص: 168


1- سفينة البحار 1: 517.
2- غرر الحكم: 188.
3- غرر الحكم: 305.
4- غرر الحكم: 216.
5- تنبيه الخواطر: 360.
لماذا هاتان الصفتان؟

لله سبحانه صفات كثيرة وقد ذكر في دعاء الجوشن الكبير(1)ألف اسم وصفة من أسماء وصفات اللّه سبحانه وتعالى. فلماذا تمّ في هذا الشعار القرآني (البسملة) اختيار هاتين الصفتين بالذات؟.

ثُمَّ إنّ (الرحمة) من (صفات الفعل)(2).

ولا شكّ أن (صفات الذات) أشرف من صفات الفعل.

فلماذا تمّ انتخاب صفة من صفات الفعل دون صفة من صفات الذات - كالعلم مثلاً -؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال:

أوّلاً: إنّ الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان، بل بوجود الكون كلِّه - فلولا الرحمة لم يكن الإنسان موجوداً، ولا كانت كمالاته الوجوديّة متحقّقة، فلم يكن هنالك علم ولا قدرة ولا نحوهما.

وارتهان الإنسان بكلّ وجوده بالرحمة الإلهية لا يقتصر على (الحدوث) فقط، بل يشمل (الحدوث) و(البقاء) معاً. فكلُّ فكرة تختلج في ذهنك، وكلّ نَفَسٍ تتنفّسه، وكلّ نبضة قلب و..، تتوقّف على إمدادٍ مباشر من اللّه سبحانه،

ص: 169


1- راجع: مفاتيح الجنان للمحدث القمي (رحمه اللّه) .
2- صفات الفعل هي تلك الصفات التي تنتزع من مقام الفعل، ولذا يصحّ إثباتها للذات تارة، وسلبها عن الذات تارة أُخرى، كالخالقية والرازقية ونحوهما، حيث نستطيع أن نقول مثلاً: كان اللّه ولم يكن معه شيء ثم (خلق) الأشياء، أمّا صفات الذات فهي تنتزع من مقام الذات ولا يصحُّ سلبها من الذات مطلقاً، كالعلم والقدرة ونحوهما.

ولو انقطع الفيض الإلهي لحظة لتوقّف كلُّ شيء، بل انتهى كل شيء.

وبعبارة أُخرى: ليست العلاقة بين اللّه سبحانه وبين مخلوقاته كالعلاقة بين البناء والبنّاء، حيث إنّ البيت الذي يشيّده البنّاء يتوقّف عليه في الإيجاد فقط. أمّا في البقاء فلا، وقد يموت البنّاء ويتحوّل في رمسه إلى رفات بينما يظلّ البيت الذي شيّده قائماً على أركانه، فالبنّاء (علّة مُحدِثة) فقط - وليس (علّة مبقية) أبداً (هذا مع الغض عن تطرّق احتمال كونه «معدّاً» فحسب).

بل العلاقة بينه - سبحانه - وبين مخلوقاته كالعلاقة بين المولّد الكهربائي وبين الضوء، حيث إنّه بمجرّد أن تنقطع علاقة المصباح بالمولِّد ينتهي الضوء.

أو كالعلاقة بين الإنسان و(صوره الذهنّية) حيث إنّك عندما تصرف النظر عن الصورة التي خلقتها في ذهنك فإنّها تنعدم فوراً، ولا يبقى منها عين ولا أثر، فبقاؤها في ذهنك يتوقّف على توجُّهك بشكل مستمرّ نحوها(1).

ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى هذه الحقيقة.

يقول اللّه سبحانه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(2).

ويقول تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(3).

ويقول جلّ وعلا: {مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}(4).

وقد بُرهن على هذه الحقيقة في (علم الكلام) والفلسفة الإسلاميّة.

ص: 170


1- سقنا هذين المثالين لمجرّد تقريب الذهن.
2- البقرة: 254.
3- الرعد: 33.
4- هود: 56.

ثانياً: لولا الرحمة الإلهية لم تكن السماء تمنّ على الأُمة ببعث الرسل، ولولاها لم يكن هذا القرآن.

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(1).

فكما أنّ الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بكتاب اللّه التكوينّي - أي الكون بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وغيرها - كذلك هي ذات صلة مباشرة بكتاب اللّه التدويني - أي القرآن الكريم - .

فلم يكن إنزال القرآن الكريم وتشريع القوانين، منبعثاً عن حاجة اللّه - سبحانه وتعالى - فهو الغنيُّ المطلق، لا تنفعه عبادة من عبده، ولا تضرّه معصية من عصاه، وإنّما هي الرحمة الإلهية وراء ذلك كلّه.

فكان من الحريّ أن تبدأ كلُّ سورة في هذا الكتاب بصفة (الرحمة).

ثالثاً: اتّسم الحكّام - غالباً على مرِّ التاريخ - بالقسوة والظلم والجبروت والطغيان، ف- {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}(2).

ليس فقط في دائرة (المجتمع الكبير) - أي الدولة - بل حتى في إطار (المجتمع الصغير) - أي العائلة ونحوها - فكلُّ شخص ملك أزِمَّة الأُمور في إطار - ولو صغير - يتعدّى ويظلم ولا يراعي موازين العدل والإنصاف - غالباً -.والتركيز على صفة (الرحمة) في هذا الشعار القرآني إلفات إلى أنّ اللّه سبحانه - رغم كون كلّ شيء بيده - ليس كسائر الملوك والحكَّام، بل هو

ص: 171


1- آل عمران: 164.
2- العلق: 7.

منبع اللُّطف والرحمة، ومعدن الكرم والجود.

وفي ذلك أيضاً ردّ على تلك التصوُّرات البشريّة الخاطئة التي تناولت طبيعة العلاقة بين الربّ والمربوبين.

فاللّه سبحانه من منظار الإسلام: لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تُصوّرُها أساطير الإغريق، ولا يدبّر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزوّرة في (العهد القديم) كالذي جاء في أُسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين: [حيث يقول]: «وكانت الأرض كلُّها لغة واحدة وكلاماً واحداً، وكان أنّهم لمّا رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شعار فأقاموا هناك، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نصنع لبناً وننضجه طَبْخاً، فكان لهم اللّبن بدل الحجارة، والخمر كان لهم بدل الطين، وقالوا: تعالوا نبنِ لنا مدينة وبرجاً رأسه إلى السماء، ونُقِم لنا اسماً كي لا نتبدّد على وجه الأرض كلّها. فنزل الربّ لينظر المدينة والبرج اللَّذين كان بنو آدم يبنونها.

وقال الرب: هُوذا، هم شعب واحد لجميعهم لغة واحدة، وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفّون عمّا همُّوا به حتّى يصنعوه، هلّم نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض! فبدَّدهم الربُّ من هناك على وجه الأرض كلّها، وكفّوا عن بناء المدينة، ولذلك سميّت (بابل) لأن الربّ هناك بلبل لغة الأرض كلِّها، ومن هناك شتتّهم الربُّ على كلّ وجهها»!(1).

ص: 172


1- في ظلال القرآن: 24.
هل البسملة آية قرآنية؟، وهل تُقرأ في الصلاة؟

اختلفت الآراء في ذلك(1).

فذهب مالك والأوزاعي إلى أنها ليست من القرآن، ومنعا من قراءتها في الفرائض مطلقاً، نعم، أجازا قراءتها في النافلة(2).

أمّا أبو حنيفة والثوري وأتباعهم فقروها في افتتاح (الحمد) ولكن أوجبوا إخفاتها.

والشافعي قرأها في الجهريّات جهراً، وفي الإخفاتيّات إخفاتاً، وعدَّها آية من (الفاتحة) وهذا هو قول أحمد بن حنبل أيضاً، واختلف المنقول عن الشافعي في أنها آية من كلّ سورة، أم أنّها ليست بآية في غير (الفاتحة)(3).

أمّا الشيعة الإماميّة فقد اتّفقوا - تبعاً لأئمّة الهدى (عليهم السلام) - على أنّها آية تامّة في جميع سور القرآن الكريم (عدا سورة براءة).

والنصوص في ذلك عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) متواترة، أمّا عن طريق العامة فهنالك روايات كثيرة تدّل على ذلك:

1 - عن ابن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قال: فاتحة الكتاب بسم اللّه الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقرأ السورة.

قال ابن جريح: فقلت لأبي: لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم

ص: 173


1- ما ذكرناه في هذا البحث مقتبس من كتاب (مسائل فقهية) للعلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) .
2- راجع: بداية المجتهد 1: 96؛ التفسير الكبير 1: 100.
3- راجع: التفسير الكبير في تفسير البسملة.

اللّه الرحمن الرحيم آية؟ قال: نعم(1).

2 - ما صحَّ عن ابن عباس - أيضاً - قال: إنَّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا جاءه جبرائيل فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، علم أنّها سورة(2).

3 - ما صحّ عن ابن عباس - أيضاً - قال: كان النبيُّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يعلم ختم السورة حتّى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم(3).

4 - ما صحّ عنه - أيضاً - قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل (بسم اللّه الرحمن الرحيم) فإذا نزلت (بسم اللّه الرحمن الرحيم) علموا أن السورة قد انقضت(4).

5 - ما صحّ عن أُم سلمة، قالت: كان النبيُّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرأ (بسم اللّه الرحمن الرحيم) الحمد لله ربّ العالمين إلى آخرها - يقطعها حرفاً حرفاً(5).

وعن أُمّ سلمة من طريق آخر، قالت: إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قرأ في الصلاة (بسم اللّه الرحمن الرحيم) وعدّها آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيتين {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} ثلاث آيات.. الحديث(6).

ص: 174


1- راجع تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من المستدرك للحاكم، ومن تلخيصه للذهبي 2: 257، وقد صرّح الحاكم والذهبي بصحة إسناد الحديث.
2- أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه 1: 231.
3- مستدرك الحاكم 1: 231 والذهبي في التلخيص، وقد صرّحا بصحة الحديث.
4- مستدرك الحاكم 1: 232. قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وصححّه الذهبي أيضاً في التلخيص.
5- مستدرك الحاكم 1: 231 والذهبي في تلخيصه، وقد صرّحا بصحة الحديث.
6- مستدرك الحاكم 1: 231.

6 - ما صحّ عن نعيم المجمر، قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ (بسم اللّه الرحمن الرحيم) ثمّ قرأ ب(أُمِّ) الكتاب حتى بلغ {وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: آمين، فقال الناس: آمين. فلمّا سلم قال: والذي نفسي بيده إنّي لأشبُهكم صلاةً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).

وعن أبي هريرة أيضاً، قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجهر في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم(2).

7 - ما صحّ عن أنس بن مالك، قال: صلّى معاوية بالمدينة فجهر فيها بالقراءة، فقرأ فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم ل- (أُمّ) القرآن، ولم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم للسورة التي بعدها حتّى قضى تلك القراءة.

فلمّا سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كلّ مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟

فلمّا صلى بعد ذلك قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمّ القرآن. أخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك وصحّحه على شرط مسلم(3). وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد كالشافعي في مسنده(4).

وعلّق على ذلك بقوله: «إن معاوية كان سلطاناً عظيم القوّة، شديد الشوكة، فلولا أنَّ الجهر بالبسملة كان كالأمر المقرّر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك

ص: 175


1- مستدرك الحاكم 1: 232 والذهبي في تخليصه وقد صرّحا بصحّة الحديث.
2- مستدرك الحاكم 1: 232. وأخرجه البيهقي في السنن الكبيرة، كما ذكره الرازي في تفسيره 1: 105.
3- وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك وصححّه على شرط مسلم.
4- مسند الشافعي: 13.

التسمية»(1).

8 - ما صحّ أيضاً عن أنس، قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجهر في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم(2).

9 - ما صحّ عن محمد بن السري العسقلاني، قال: صلّيتُ خلف المعتمر بن سليمان ما لا أُحصي، صلاة الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها للسورة. وسمعت المعتمر يقول: ما آلوا أن اقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلوا أن اقتدي بصلاة أنس بن مالك. وقال أنس: ما آلوا أن أقتدي بصلاة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (3).

وعن قتادة، قال: سئل أنس بن مالك: كيف كانت قراءة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

قال: كانت مّداً ثمّ قرأ (بسم اللّه الرحمن الرحيم) يمد الرحمان ويمدّ الرحيم(4).

وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: صلَّيت خلف النبيّ وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف عليّ، فكلُّهم كانوا يجهرون بقراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم(5).

ص: 176


1- كما نقله الرازي في التفسير الكبير 1: 105.
2- أخرجه الحاكم وأورده الذهبي في باب الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وقالا: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقاة.
3- مستدرك الحاكم وتلخيص الذهبي، وقد نصا أن رواته عن آخرهم ثقاة.
4- مستدرك الحاكم 1: 232
5- مستدرك الحاكم 1: 232

10 - وقد ذكر الرازي أنّ البيهقي روى الجهر بالبسملة في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، ثمّ قال الرازي: وأمّا إنّ عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - كان يجهر بالبسملة فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «اللّهمّ أدر الحقَّ مع علي حيث دار»(1).

وهنالك حجّة أُخرى على أنّ البسملة آية في كلّ سورة، وهي: إنَّ الصحابة كافّة ومَن بعدهم إلى يومنا هذا، أجمعوا إجماعاً عمليّاً على كتابة البسملة في بداية كلّ سورة - عدا سورة براءة - كما كتبوا سائر الآيات بلا ميزة، مع أنهم مطبقون على أن لا يكتبوا شيئاً من غير القرآن إلاّ بميزة تميزه عنه؛ حرصاً منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره، وقلَّ أن تجتمع الأُمَّة على أمر كاجتماعها على ذلك، وهذا دليل على أنّ البسملة آية مستقلّة في بداية كلّ سورة.

دليل آخر:

من المشهور المأثور عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم أقطع(2)أو أبتر أو أجذم»(3).

فهل يمكن أن يكون القرآن وهو أفضل ما أوحاه اللّه إلى أنبيائه أقطع؟ وهل يمكن أن تكون الصلاة - وهي خير العمل - بتراء جذماء؟.

ص: 177


1- التفسير الكبير 1: 105.
2- الجامع الصغير 2: 91؛ كنز العمال 1: 193.
3- التفسير الكبير، في تفسير البسملة.

أمّا المخالفون فقد احتجّوا بحُجج لا تصمد أمام النقد العلمي، وقد فنّدها شرف الدين (قدس سره) في كتابه(1).

تتمة

ذكر السيوطي في «الدر المنثور» روايات تدلُّ على أنَّ البسملة آية من القرآن، نذكر منها:

1 - أخرج بن الضريس عن ابن عباس، قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» آية.

2 - أخرج أبو عبيد وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس، قال: أغفل الناس آية من كتاب اللّه لم تنزل على أحد سوى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إلاّ أن يكون سليمان بن داود (عليه السلام) : بسم اللّه الرحمن الرحيم.

3 - أخرج الواحدي عن ابن عمر، قال: نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم في كلّ سورة.

4 - أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه كان يقرأ في الصلاة (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، فإذا ختم السورة قرأها، ويقول: «ما كُتبتْ في المصحف إلاّ لتقرأ».

5 - أخرج الثعلبي عن علي بن زيد بن جدعان: أنّ العبادلة كانوا يستفتحون القراءة ببسم اللّه الرحمن الرحيم، يجهرون بها: عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن الزبير.

6 - أخرج الثعلبي عن أبي هريرة، قال: كنت مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المسجد،

ص: 178


1- مسائل فقهية: 33-39.

إذ دخل رجل يصلّي فافتتح الصلاة، وتعوّذ ثم قال: {الْحَمْدُ

لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فسمع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة، أما علمت أن بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحمد، فمن تركها فقد ترك آية، ومن ترك آية فقد أفسد عليه صلاته.

وهنالك روايات أُخرى ذكرها السيوطي نتركها خوف الإطالة، فمن أحب فليراجع الكتاب المذكور(1).

روايات في البسملة

عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا تدع {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} وإن كان بعده شعر»(2).

وفي الحديث أنه دخل عبد اللّه بن يحيى على أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين يديه كرسي، فأمره بالجلوس عليه فجلس عليه، فمال به حتّى سقط على رأسه فأوضح عن عظم رأسه وسال الدم، فأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بماء فغسل عنه ذلك الدمُّ. ثم قال: ادنُ مني. فوضع يده على موضحته - وقد كان يجد من ألمها ما لا صبر له معه - ومسح يده عليها، فما هو أن فَعَل ذلك حتّى اندمل، فصار كأنه لم يصبه شيء قطّ.

ثم قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: يا عبد اللّه، الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنهم، لتسلم لهم طاعاتهم، ويستحقوا عليها ثوابها.

ص: 179


1- الدر المنثور 1: 7-8.
2- نور الثقلين 1: 6.

فقال عبد اللّه بن يحيى: وإنّا لا نجازى بذنوبنا إلاّ في الدنيا؟

قال (عليه السلام) : نعم، أما سمعت قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر»؟ إنّ اللّه يطهّر شيعتنا من ذنوبهم في الدنيا بما يبتليهم به من المحن، وبما يغفره لهم فإن اللّه تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(1)، حتى إذا أوردوا القيامة توفّرت عليهم طاعاتهم وعباداتهم.

وإن أعداء آل محمّد يجازيهم عن طاعة تكون منهم في الدنيا - وإن كان لا وزن لها؛ لأنّه لا إخلاص معها - إذا وافوا القيامة حملت عليهم ذنوبهم، وبغضهم لمحمد وآله وخيار أصحابه، فقذفوا في النار.

ولقد سمعت محمّداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنه كان فيما مضى قبلكم رجلان: أحدهما مطيع لله مؤمن، والآخر كافر به مجاهر بعداوة أوليائه وموالاة أعدائه. وكل واحد منهما ملك عظيم في قطر من الأرض، فمرض الكافر واشتهى سمكة في غير أوانها؛ لأنّ ذلك الصنف من السمك كان في ذلك الوقت في اللُّجج بحيث لا يقدر عليه، فآيسته الأطباء من نفسه.

وقالوا له: استخلف على ملكك من يقوم به، فلست بأخلد من أصحاب القبور، فإن شفاءك في هذه السّمك التي اشتهيتها ولا سبيل إليها.

فبعث اللّه ملكاً وأمره أن يزعج تلك السمكة إلى حيث يسهل أخذها فأخذت له تلك السمكة فأكلها وبرئ من مرضه، وبقى في ملكه سنين بعدها.

ص: 180


1- الشوری: 30.

ثمّ إنّ ذلك الملك المؤمن مرض في وقت كان جنس ذلك السمك بعينه لا يفارق الشطوط التي يسهل أخذه منها، مثل علّة الكافر، فاشتهى تلك السّمكة ووصفها له الأطباء وقالوا: طب نفساً فهذا أوانه، تؤخذ لك فتأكل منها وتبرأ.

فبعث اللّه سبحانه وتعالى ذلك الملك وأمره أن يزعج جنس تلك السمكة عن الشطوط إلى اللُّجج لئّلا يُقدَر عليها، فلم يوجد حتى مات المؤمن من شهوته وبُعد دوائه.

فعجب من ذلك ملائكة السماء، وأهل ذلك البلد في الأرض حتى كادوا يفتنون؛ لأنّ اللّه سبحانه سَهَّلَ على الكافر ما لا سبيل إليه، وعَسَّرَ على المؤمن ما كان السبيل إليه سهلاً، فأوحى اللّه تعالى إلى ملائكة السماء وإلى نبيّ ذلك الزمان في الأرض.

إنّي أنا اللّه الكريم المتفضّل القادر، لا يضرّني ما أُعطي، ولا ينقصني ما أمنع، ولا أظلم أحداً مثقال ذرّة، فأمّا الكافر فإنّما سهّلتُ له أخذ السمكة في غير أوانها ليكون جزاءاً على حسنة كان عملها؛ إذ كان حقّاً عليّ ألّا أُبطل لأحدٍ حسنته، حتّى يرد القيامة ولا حسنة في صحيفته، ويدخل النار بكفره، ومنعت العابد تلك السمكة بعينها؛ لخطيئة كانت منه فأردت تصحيفها عنه بمنع تلك الشهوة وإعدام ذلك الدواء، وليأتيني ولا ذنب عليه فيدخل الجنة.

فقال عبد اللّه بن يحيى: يا أمير المؤمنين قد افدتني وعلّمتني، فإن أردت أن تعرّفني ذنبي الذي امتُحنتُ به في هذا المجلس، حتى لا أعود إلى مثله.

قال (عليه السلام) : تركك حين جلست أن تقول «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فعجّل

ص: 181

ذلك لسهوك عما نُدِبْتَ إليه؛ تمحيصاً بما أصابك. أما علمت أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حدّثني عن اللّه عزَّ وجلّ: كلّ أمر ذي بال لم يذكر فيه «بسم اللّه» فهو أبتر؟

فقلت: بلى بأبي أنت وأُمِّي لا أتركها بعدها.

قال (عليه السلام) : إذاً تحظى بذلك وتسعد.

ثم قال عبد اللّه بن يحيى: يا أمير المؤمنين، وما تفسير (بسم اللّه الرحمن الرحيم)؟

قال (عليه السلام) : إنّ العبد إذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملاً فيقول: بسم اللّه الرحمن الرحيم» فإنّه يبارك له فيه(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : ولربِّما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بسم اللّه الرحمن الرحيم فيمتحنه اللّه عزَّ وجلّ بمكروه؛ لينبّهه على شكر اللّه تبارك وتعالى والثناء عليه، ويمحو عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم اللّه الرحمن الرحيم(2).

ص: 182


1- بحار الأنوار 89: 241-242.
2- نور الثقلين 1: 8؛ بحار الأنوار 89: 240-241؛ البرهان 1: 45.

الآية (2) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

المفردات

{الْحَمْدُ}: الشكر، أو الثناء باللِّسان على الجميل الاختياري.

{رَبِّ}: مالك الشي الذي يرعاه ويهتم بتربيته وإصلاح شؤونه.

{الْعَالَمِينَ}: جمع عالم، والعالم مجموعة من الموجودات المختلفة تشترك في صفة من الصفات، سواء كانت الصفة حقيقية أو انتزاعية أو اعتبارية، كعالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات.

الحمد: إلفات إلى الجانب المضيء من الحياة

للحياة جانبان: جانب مظلم وجانب مضيء.

الجانب المظلم يتمثل في الفقر والمرض والكوارث التي تحلُّ بالفرد أو بالمجتمع، وتدخل عليه الحزن والكآبة.

والجانب المضيء يتمثل في الغنى والصحة والانتصارات التي يحقِّقها الفرد في الحياة، ونحو ذلك.

وهذان الجانبان متشابكان في الحياة.. فلا يمكن أن يخلو منهما فرد أو مجتمع أبداً.

فالدنيا - كما يقول الشاعر - :

ص: 183

حلاوتُها ممزوجةٌ بمرارةٍ***وراحتُها مقرونةٌ بعناءِ

وهنالك أفراد يركّزون النظر على الجانب المظلم من الحياة، فهم لا يرون البعد الإيجابي في الحياة، وإنّما يركّزون النظر على الجوانب السلبيّة، وذلك ما يستتبع مضاعفات خطيرة على:

أوّلاً: نفس الإنسان، فلا يستمتع مثل هذا الفرد بما في الحياة من نعم، ولا بما منحه اللّه تعالى من طيّبات، بل يظلّ دائم الكآبة والحزن.

يقول الشاعر:

ليس من ماتَ فاستراحَ بِمَيْتٍ***إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ

إنَّما المَيْتُ من يعيش كئيباً***كاسفاً بالُهُ قليلَ الرجاءِ

ثانياً: وحيث إنّ النفس مؤثّرة في البدن - كما ثبت ذلك في علم النفس وفي علم الطب، حيث إنّ الحالات النفسية للإنسان تنعكس على الأداء الفسيولوجي للأعضاء - لذا فإنّ هذا الفرد يصاب بأمراض جسديّة لا يجد عنها خلاصاً.

ثالثاً: وتنعكس هذه الحالة على سلوك الإنسان الخارجي، فيكون شخصاً سيِّئ الأخلاق، عنيف النزعة، لا يألف ولا يؤلف.

أمّا الذي يركّز النظر على الجانب الإيجابي من الحياة، فإنّه على العكس سيكون مرتاح النفس، صحيح الجسم، حسن العشرة، متحمّلاً لما في الحياة من متاعب وآلام.

ينقل أن كسرى سخط على بوذرجمهر - وكان وزيراً له - فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفّد بالحديد فبقي أيّاماً على تلك الحال.

ص: 184

فأرسل كسرى إليه من يسأله عن حاله؟

فجاء الرسول فوجده منشرح الصدر مطمئن النفس.

فقال له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال!

فقال بوذرجمهر: اصطنعت معجوناً مركّباً من أخلاط معينّة واستعملتها، وهذا المعجون هو الذي أبقاني على ما ترون!

قال الرسول: صف لنا هذه الأخلاط لعلّنا ننتفع بها عند البلوى.

فقال: نعم.

أمّا الخلط الأوّل: فالثقة باللّه عزَّ وجلَّ.

وأمّا الثاني: فكلُّ مقدَّر كائن.

وأمّا الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحَن.

وأمّا الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أُعين على نفسي بالجزع.

وأمّا الخامس: فقد يكون أشدّ ممّا أنا فيه.

وأمّا السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ما قاله كسرى، فأطلقه وأعزّه(1).

هذا مع أنّ كسرى خيّر بوذرجمهر بأن ينتخب في خلال مدّة سجنه طعاماً واحداً، وملبساً واحداً، ومكاناً واحداً، لا يتعّداها إلى غيرها.

فاختار من الطعام: الحليب. ومن الملبس: الفرو. ومن المكان: السرداب.

سأله كسرى عن علّة هذا الاختيار؟

فقال بوذرجمهر: أمّا الحليب فإنّه طعام وشراب. وأمّا الفرو: فلأنه لباس

ص: 185


1- سفينة البحار 2: 7.

الصيف والشتاء، إن لبُس هذا الجانب كان لباس الصيف، وإن لبس من الجانب الآخر كان لباس الشتاء.

وأمّا السرداب: فلأنه حار في الشتاء، وبارد في الصيف.

وفي الحديث: أن موسى (عليه السلام) قال لله تعالى: أرني أحبَّ خلقِك إليك، وأكثرَهم لك عبادة. فأمره اللّه تعالى أن ينتهي إلى قرية على ساحل بحر وأخبره أنه يجده في مكان قد سمّاه له.

فوصل (عليه السلام) إلى ذلك المكان، فوجد رجلاً مجذوماً مقعداً أبرص يسبّح لله تعالى.

فقال موسى (عليه السلام) : يا جبرائيل أين الرجل الذي سألت ربي أن يُرِيني إيّاه.

فقال جبرئيل: هو يا كليم اللّه هذا.

فقال موسى (عليه السلام) : يا جبرائيل إني كنت أحب أن أراه صوّاماً قوّاماً!

فقال جبرئيل: هذا أحب إلى اللّه تعالى وأعبد له من الصوّام القوّام، وقد أُمِرت [أي أمرني اللّه تعالى] بإذهاب عينيه، فاسمع ما يقول.

فأشار جبرئيل إلى عينيه فسالتا على خدّيه.

فقال الرجل مخاطباً اللّه تعالى: متّعتني بهما حيث شئت، وسلبتني إيّاهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارّ يا وصول.

فقال له موسى (عليه السلام) : يا عبد اللّه، إنّي رجل مجاب الدعوة، فإن أحببت أن أدعو لك اللّه تعالى يّرد عليك ما ذهب من جوارحك، ويبريك من العلّة فَعَلْتُ.

فقال الرجل رحمة اللّه عليه: لا أُريد شيئاً من ذلك، اختياره لي أحبّ إلي

ص: 186

من اختياري لنفسي.

فقال له موسى (عليه السلام) : سمعتك تقول: (يا بارّ يا وصول). ما هذا البرُّ والصِّلة الواصلان إليك من ربّك؟

فقال: ما أحد في هذا البلد يعرفه غيري - أو يعبده غيري - فراح موسى (عليه السلام) متعجّباً وقال: هذا أعبد أهل الدنيا(1).

وعلى كلّ حالٍ. فإنّ تكرار المسلم لكلمة (الحمد لله) كلّ يوم عشر مرّات على الأقل - في صلواته الخمسة المفروضة - إلفاتٌ إلى الجانب المضيء من الحياة، ولهذا الإلفات من الآثار النفسّية والجسدّية والإجتماعيّة ما لا يخفى - وقد اتّضح بعضها من خلال هذا البحث - .

هذا مضافاً إلى أنّ تذكّر النعم الإلهية التي تغمرنا في كلّ لحظة «يدفع الإنسان على طريق العبودية؛ لأنّ الإنسان مفطور على أن يبحث عن صاحب النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه. من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأوليّة لهذا العلم إلى (وجوب شكر المنعم) باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة اللّه سبحانه»(2).

وهنالك نقطة جديرة بالالتفات، وهي: أنّ (الجانب المظلم من الحياة) متمثلاً في المرض والفقر والزلازل ونحوها - وإن بدا (مظلماً) في النظرة العابرة، إلاّ أنه (مضيء) في واقعة عند النظرة المتأمّلة، وهذا ما سوف نتطرّق إليه في البحوث القادمة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 187


1- سفينة البحار 1: 524-525.
2- الأمثل 1: 32.
تفسير آخر ل(الحمد)

وثمّة تفسير آخر للحمد، وإن لم يكن مبايناً للتفسير الأوّل(1)وهو أن الحمد يعني (الثناء باللِّسان على الجميل الاختياري). وهذا التفسير ليس مبايناً للتفسير الأوّل، بل هو أعمّ منه؛ إذ يشمل التفسير الأوّل ويشمل غيره أيضاً.

وحسب التعبير المنطقي: (الحمد) أعمّ مطلقاً من (الشكر) - بحسب المورد، وإن كان أخصّ منه بحسب الآلة؛ إذ قد يؤدّي الشكر بالقول تارة وبالعمل تارة أُخرى، بينما الحمد يؤدى بالقول عادة - .

ولتوضيح هذا التفسير نقول: الصفات على نوعين:

1 - صفات متعدِّية، ونعني بها - هنا - تلك الصفات التي توصف بها الذات، بلحاظ خير يُفاض منها على الآخرين، كإطعام الفقير وتعليم الجاهل، والعفو عن المسيء، ونحو ذلك.

2 - صفات لازمة، ونعني بها - هنا - تلك الصفات التي تكون في أُفق

ص: 188


1- التفسير الأول هو أن الحمد مرادف للشكر كما ورد في رواية مروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: «الحمد لله» الشكر لله، بحار الأنوار 89: 229؛ البرهان 1: 46. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في حديث: «.. وأمّا قوله «الحمد لله رب العالمين» فذلك ثناء منا على ربنا تبارك وتعالى بما أنعم علينا» (بحار الأنوار 89: 259) وعن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) نحوه (بحار الأنوار 89: 246). وقد أشار إلى هذا المعنى الطوسي (رحمه اللّه) في التبيان حيث قال: «ومعنى الحمد لله الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد. بما أنعم على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية. وقال بعضهم: الحمد لله ثناء عليه بأسمائه وصفاته، وقوله الشكر لله ثناء على نعمه وأياديه، والأول أصحُّ في اللغة؛ لأن الحمد والشكر يوضع كل واحد منهم موضع صاحبه، ويقال أيضاً «الحمد لله شكراً» فنصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن فبمعناه لمّا نصبه» (التبيان 1: 31).

الذات أو تنتزع منها بدون لحاظ الاعتبار السابق، كالعلم، والقدرة، والحياة، ونحو ذلك.

وعندما نقول: (الحمد لله) فإنّنا نثني بذلك على كلّ صفة جميلة في اللّه سبحانه، نثني على علمه كما نثني على جوده وعلى قدرته، كما نثني على عفوه، وهكذا. ونجد في الأدعية إشارات إلى هذه الحقيقة:

مثلاً نقرأ في دعاء الإفتتاح: «الحمد لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده».

ونقرأ فيه أيضاً: «الحمد لله على حلمه بعد علمه، والحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طولِ أناته في غضبه وهو قادر على ما يريد»(1).

(اختصاص الحمد باللَّه)

وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ الألف واللام في (الحمد لله) للجنس - أي أنّ طبيعة الحمد مختصِّة باللّه سبحانه - كما ذكر بعض آخر أنّها للاستغراق - أي أنّ كلّ حمد فهو مختصٌّ باللّه تعالى - . والمآل على كلا التفسيرين - هنا - واحد.

ويؤيّد معنى (الاختصاص) - ولو في الجملة - الحديث المرويُّ عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد جاء فيه: «فإذا قال العبد: «الحمد لله ربِّ العالمين» قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطولي..»(2).

ص: 189


1- مفاتيح الجنان، دعاء الإفتتاح.
2- بحار الأنوار 89: 226.

والسبب في ذلك: إنّ جميع الكمالات الوجوديّة تنتهي إلى اللّه تعالى - بلا فرق في ذلك بين (الفواضل)، أي: الصفات المتعدِّية، أو (الفضائل)، أي: الصفات اللازمة - .

فإنّ كلّ ما سوى اللّه سبحانه ممكن - بالإمكان الماهوي، والإمكان الوجودي - ولا بدّ للمكن أن ينتهي إلى (الواجب) القائم بذاته والغني بذاته، فبالضرورة ينتهي كل شيء إلى اللّه سبحانه، فالشمس حينما تشرق، والأمطار حينما تهطل، والنبتة حينما تنمو.. و.. و.. فكلُّ ذلك معلول لعلله التكوينية الخاصّة.

وبتقدّم العلم في كل يوم، وتتوسّع (دائرة العلّية) في نظر الإنسان، فالإنسان يكتشف كلّ يوم عللاً خفية وراء الظواهر الطبيعية التي يعايشها، وعللاً وراء تلك العلل، ولكن مهما تصاعدت سلسلة العلل، فإنّها لا بدَّ أن تنتهي إلى سبب أوّل منه صدر كل شيء، وذلك السبب لا بدَّ أن يكون غنياً بالذات، وقائماً بالذات، غير مفتقرٍ إلى غيره، لاستحالة أن تتسلسل العلل إلى غير النهاية في منظار العقل. هذا في الدائرة الجبرية.

وأمّا في الدائرة الاختيارية: فجهود المصلحين، وإنجازات العباقرة، وعطايا الخيرِّين و.. و.. لم يكن لها أن تتمّ إلاّ بفضل المواهب التي أودعها اللّه تعالى فيهم. فكلُّ حمد وثناء في هذا الكون ينتهي إلى اللّه تعالى، وبالحقيقة هو حمد وثناء لله سبحانه.

قال اللّه سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(1).

ص: 190


1- غافر: 62.

وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}(1).

وقد ذكر العلاّمة الطباطبائي: «أنّ مفاد الآية الأُولى: أنّ كل ما هو شيء فهو مخلوق لله سبحانه. ومفاد الآية الثانية: أنّ كل شيء مخلوق فهو حسن - من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه - فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس. فلا خلق إلاّ وهو حسن جميل بإحسانه. ولا حسن إلاّ وهو مخلوق له منسوب إليه»(2).

ومن هنا كان الحمد مختصّاً بذاته المقدّسة.

قال اللّه تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَهُ

الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُوْلَى وَالآخِرَةِ}(5).

ومن المقرّر في (علم البلاغة): أنّ تقديم ما من حقِّه التأخير يفيد الحصر، فتقديم الجار والمجرور في الآيات الكريمة دليل على انحصار الحمد في ذاته المقدّسة.

وقد روي عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، قال: فقد أبي بغلته، فقال: لئن ردّها اللّهُ عليَّ لأحمدَّنه بمحامد يرضاها. فما لبث أن أُتي بها بسرجها ولجامها. فركبها، فلمّا استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال: «(الحمد لله)

ص: 191


1- السجدة: 7.
2- الميزان 1: 19.
3- التغابن: 1.
4- الروم: 18.
5- القصص: 70.

لم يزد عليها!. فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركت شيئاً أو أبقيت شيئاً؟. جعلت الحمد كلّه لله عزَّ وجلَّ»(1).

وفي رواية أُخرى أنه (عليه السلام) ، قال: «ما تركت ولا بقّيت شيئاً، جعلت جميع أنواع المحامد لله عزَّ وجلّ، فما من حمد إلاّ وهو داخل فيما قلت»(2).

العناية المستمرة

واللّه سبحانه لم يخلق الخلق ثمّ يتركهم هملاً؛ لأنّه أرقى من أن يفكّر في موجودات تافهة كخلقه! كما كان يتصوَّر بعض الفلاسفة.

ولا أنّه خلق الكون، لتحكمه القوانين الطبيعية التي سنّها، دون أن يستطيع التدخُّل في سير الأُمور من بعد، كما كان يتصوّر اليهود، حيث قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}(3).

ولا أنّه خلق البشر وتركهم كالبهائم، دون أن يسنَّ لهم أيَّ قانون أو نظام؛ لأنّه وهو في عرش كبريائه فوق أنهم يهتم بالإنسان الظلوم الجهول - كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة الجدد - .

بل هو - سبحانه - ذو عناية مستمرة بالمخلوقات، ورعاية دائمة بالموجودات؛ لأنّ نفس الرحمة التي اقتضت خلق المخلوقات هي بنفسها تقتضي العناية والرعاية المستمرة بهذه المخلوقات.

أجل، إنّه (ربّ العالمين) فلا تقتصر رعايته على الإنسان وحده، بل تعمّ

ص: 192


1- الدر المنثور 1: 120.
2- البرهان 1: 46.
3- المائدة: 63.

كل العوالم، عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وغيرها من العوالم.

وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير (ربّ العالمين) أنه قال: (رب العالمين) هم الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات، فأمّا الحيوانات فهو يقلّبها في قدرته ويغذوها من رزقه ويحيطها بكنفه، ويدير كُلّاً منها بمصلحته. وأمّا الجمادات فهو يمسكها بقدرته، يمسك المتصّل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، ويمسك الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره، إنه بعباده لرؤوف رحيم.

قال: و(رب العالمين) مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم، من حيث هم يعلمون ومن حيث لا يعلمون(1).

وهذه التربية نوعان:

1 - تربية تكوينية، وذلك بالرعاية الشاملة لكلّ ما في الكون في الدائرة القسْرية.

يقول اللّه تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(2).

ويقول سبحانه: {مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}(3). ويقول جلَّ وعلاَّ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}(4).

ويقول جلّ جلاله: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ

ص: 193


1- بحار الأنوار 89: 246؛ نور الثقلين 1: 17؛ البرهان 1: 49.
2- الرعد: 33.
3- هود: 56.
4- الأعلى: 2.

مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(1).

ويقول عزّ من قائل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(2).

لاحظ هذه الصورة الحيّة الناصعة التي يرسمها القرآن الكريم للإحاطة الإلهية، وقارنها بتلك الصورة الباهتة المهتّزة التي رسمها بعض الفلاسفة، حيث قال بعضهم: إنّه - تعالى - لا يعلم بوجود ذاته، وقال بعض آخر: إنّه - سبحانه - لا يعلم بوجود مخلوقاته!

يقول السبزواري:

قد قيلَ لا علِمَ لهُ بذاتِهِ!***وقيلَ لا يَعْلَمُ مَعلولاتِهِ!(3)

وقد نقل: إن سليمان (عليه السلام) كان جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملة تحمل حبّة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان (عليه السلام) ينظر إليها حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها، فدخلت النملة، وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة، وسليمان (عليه السلام) يتفكّر في ذلك متعجّباً.

ثمّ إنّ الضفدعة خرجت من الماء وفتحت فمها، فخرجت النملة ولم

ص: 194


1- هود: 6.
2- الأنعام: 59.
3- منظومة السبزواري: 159 (الطبعة الحجرية). وقد نقل العلاّمة المجلسي أن بعضهم أنكر كون اللّه تعالى عالماً بالجزئيات. بحار الأنوار 57: 198.

يكن معها الحبّة.

فدعاها سليمان (عليه السلام) وسألها عن شأنها وأين كانت؟ فقالت النملة: يا نبي اللّه إنّ في قعر البحر الذي تراه صخرة مجوّفة وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقها اللّه تعالى هنالك، فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها، وقد وكّلني اللّه برزقها، فأنا أحمل رزقها، وسخّر اللّه تعالى هذه الضفدعة لتحملني فلا يضرُّني الماء وأنا في فمها، وتضع فمها على ثقب الصخرة وأدخلها، ثمّ إذا أوصلت رزقها إليها وخرجت من ثقب الصخرة إلى فمها أخرجتني من البحر.

فقال سليمان (عليه السلام) : وهل سمعت للنملة من تسبيحة؟

قالت الضفدعة: نعم، إنّها تقول: (يا من لا تنساني في جوف هذه اللُّجَّة برزقك، لا تنسَ عبادك المؤمنين برحمتك)(1).

2 - تربية تشريعية: - وذلك بسنّ القوانين وبعث الأنبياء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإرشادهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم.

وقد شملت هذه التربية كلّ شيء في حياة الإنسان، حتى أرش الخدش، كما ورد في الأحاديث الكريمة(2).

وسعادة الإنسان تكمن في خضوعه - باختياره - للتربية التشريعية، كخضوعه - قسراً - للتربية التكوينية. وسوف نفصّل الحديث في ذلك في البحوث القادمة بإذن اللّه تعالى.

ص: 195


1- النور المبين: 420 (بتصرّف).
2- بحار الأنوار 2: 170.
لا للربوبيات البديلة

حينما ابتعد الإنسان عن هدى السماء غرق خلال مسيرته الطويلة في متاهات فكرية قاتلة، وابتلي بألوان متعدّدة من الانحرافات العقائدية، خاصّة فيما يرتبط بقضية (التوحيد).

فالثنوية اعتقدوا بوجود (إلهين) يدبّران شؤون هذا العالم، أحدُهما (إله النور) خالق كلّ خير في هذا الكون، والثاني (إله الظلمة) وهو خالق كلّ شر في هذا العالم!.

فالعالم في زعمهم مركّب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وهما أزليّان، ولم يزالا قويّين حسّاسين سميعين بصيرين، وهما متضادان في النفس والصورة والفعل والتدبير.

فجوهر النور: حَسَنٌ فاضل كريم، نقي طيِّب الريح حسن المنظر!

وجوهر الظلمة: قبيح ناقص لئيم، كدر خبيث، منتن الريح قبيح المنظر!

ونفس النور: خيّرة كريمة، حكيمة ناعمة عالمة.

ونفس الظلمة: شرّيرة لئيمة، سفيهة ضارّة جاهلة.

وفعل النور: الخير والصلاح، والنفع والسرور، والترتيب والنظام والاتّفاق.

وفعل الظلمة: الشرُّ والفساد، والضرُّ والغمُّ، والتشويش والتبتير والاختلاف. الخ(1).

واليونانيون كانوا يعبدون اثنتي عشرة إلهة وضعوها على قمّة (أولمب)، وكل واحدة منها تمثّل جانباً من صفات البشر!(2).

ص: 196


1- راجع: دائرة معارف القرن العشرين 2: 770.
2- الأمثل 1: 36، نقلاً عن أعلام قرآن: 202.

والكلدانيون اعتقدوا بإله للماء وإله للقمر وإله للشمس وإله للزهرة، وأطلقوا على كل واحد منها اسماً معيّناً، واتخذوا فوق ذلك (مردوخ) إلهاً أكبر لهم.

والروم تعدّدت آلهتهم أيضاً، وراج سوق الشرك عندهم، فقد قسّموا الآلهة إلى مجموعتين: آلهة الأُسرة وآلهة الحكومة، ولم يكونوا يكنّون ولاءاً لآلهة الحكومة (لتناقضهم مع حكومتهم).

وقد ورد في التاريخ: أنهم اتّخذوا لهم ثلاثين ألف إله، لكلّ مظهر من مظاهر الكون المشهودة إله، مثل إله الزراعة، وإله المطبخ، وإله مستودع الطعام، وإله البيت، وإله النار، وإله الفاكهة، وإله الحصاد وإله الغابة، وإله الحرق، وإله بوابة روما، وإله بيت النار(1).

وكانت للعرب أصنام كثيرة يعبدونها من دون اللّه، وكانوا قد نصبوا أصنافاً متعدّدة في الكعبة كسَّرها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين فتح مكة(2).

وحين يكرّر المسلم كلَّ يوم {الحمد لله ربِّ العالمين} فإنّه يستذكر هذه الحقيقة، حقيقة اختصاص الربوبية باللّه سبحانه، وعدم مشاركة غيره له فيها.

تنبيه

وهنا نقطة هامّة ينبغي الالتفات إليها، وهي: أنّ اختصاص الربوبية باللّه سبحانه لا ينافي أن يمنح اللّه سبحانه تدبير بعض الأُمور إلى غيره.

ص: 197


1- الأمثل 1: 36، عن تاريخ (آلبرماله) 1: الفصل الرابع.
2- سفينة البحار 2: 30.

ولتوضيح هذه النقطة نقول: إنّ تدبير الآخرين لبعض الشؤون الكونية يمكن أن يفرض على نحوين:

النحو الأوّل: (التدبير العَرْضي) بأن تكون هناك آلهة تدير بعض الشؤون بشكل مستقل، وبعيداً عن هيمنة اللّه سبحانه وتعالى.

النحو الثاني: (التدبير الطَولي) بأن يمنح اللّه سبحانه تدبير بعض الشؤون إلى ملك من ملائكته أو وليّ من أوليائه، بحيث تكون قدرته مستندة إلى القدرة الإلهية، وتصرُّفه تابعاً للإرادة الربّانية.

وهذا النحو الثاني لا مانع منه عقلاً، فهو ممكن ب(الإمكان الذاتي) و(الإمكان الوقوعي)(1)، وقد دلّ القرآن الكريم على (وقوعه) في الخارج.

يقول اللّه سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}(2). فهنالك ملائكة تدبّر جوانب من شؤون هذا الكون بإذن اللّه سبحانه وتعالى.

وبهذا نستطيع أن نحلَّ التناقض الموهوم بين بعض الآيات القرآنية، فاللّه سبحانه عندما يقول: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(3). فإن ذلك لا يناقض قوله تعالى:

ص: 198


1- (الإمكان الذاتي) عبارة عن تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم، بحيث لا يقتضي بذاته أحدهما، وهو في قبال (الامتناع الذاتي) الذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث يقتضي بذاته العدم اقتضاءاً حتمياً، ويحكم العقل بمجرّد تصوره أنه ممتنع الوجود، كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما. والإمكان الوقوعي عبارة عن كون الشيء بحيث لا يستلزم وجوده ولا عدمه محذوراً عقلياً. وهو في قبال الإمتناع الوقوعي الذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث يلزم من وقوعه الباطل والمحال، وإن لم يكن بمحال ذاتاً.
2- النازعات: 5.
3- الأنعام: 61.

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}(1)؛ لأنّ الرسل عندما تتوفّى الأنفس فإنّها تتوفّاها تبعاً للإذن والقدرة التي منحها اللّه سبحانه لها؛ ولذا تصحّ نسبة العمل إلى اللّه تعالى، كما تصحُّ نسبته إلى الملائكة، والفارق بين النسبتين أنَّ النسبة الأُولى (ذاتية) بينما النسبة الثانية (تبعية) فهو كما تقول أنت مرّة: (أبصرت الظاهرة الفلانية) وتقول مرّة أُخرى: (أبصرتْ عيني الظاهرة الفلانية) دون أن يكون هنالك تناقض بين النسبتين إطلاقاً. وكذا عندما تقول: (فتح الملك المدينة الفلانية) ونقول في الوقت ذاته (فتحت الجيوش المدينة الفلانية).

وبهذا التقرير يمكن أن نثبت الشفاعة لغير اللّه سبحانه، ولكن، بإذن اللّه سبحانه، فلا تنافي بين قوله سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}(2). وقوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}(3). أو قوله جلّ وعلا: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}(4)؛ إذ شفاعة الآخرين - كالأنبياء والأولياء (عليهم السلام) - بإذن اللّه وبرضاه، فلا يعني ذلك خروج أمر الشفاعة من بين يديه سبحانه.

وقد روي أنّ أبا حنيفة أكل طعاماً مع الإمام الصادق (عليه السلام) فلمّا رفع (عليه السلام) يده من أكله، قال: «الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمَّ إنَّ هذا منك ومن رسولك» فقال أبو حنيفة: (يا أبا عبد اللّه، أجعلت مع اللّه شريكاً؟ فقال له: ويلك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ

ص: 199


1- الزمر: 42.
2- الزمر: 44.
3- يونس: 3.
4- الأنبياء: 28.

مِنْ فَضْلِهِ}(1).

ويقول في موضع آخر: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}(2).

فقال أبو حنيفة: واللّه لكأنّي ما قرأتهما قط من كتاب اللّه، ولا سمعتهما إلاّ في هذا الوقت!

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : بلى، قد قرأتهما وسمعتهما، ولكنّ اللّه تعالى أنزل فيك وفي أشباهك {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3) وقال {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(4)»(5).

الآثار التربوية للإعتقاد بالربوبية الإلهية

ولا يخفى ما للاعتقاد بالربوبية الإلهية من الآثار التربوية في حياة الإنسان، فالذي يعتقد أنّ اللّه سبحانه هو (رب العالمين) وأنّه (لا ربَّ سواه) سوف يتّجه إلى اللّه سبحانه في كلّ شيء، ولا يركن لأيّة جهة أُخرى باعتقاد أنّها تجلب له النفع أو تدفع عنه الضرّ، وحتّى عندما يتوسَّل بالأسباب الطبيعية للوصول إلى مقاصده، فإنّه يعلم أنّ سببّية هذه الأسباب منوطة بإذن اللّه، ولو لم يأذن لها في التأثير فلن تؤثّر الأثر المترقَّب منها إطلاقاً.

ص: 200


1- التوبة: 74.
2- التوبة: 59.
3- محمد: 24.
4- المطففين: 14.
5- بحار الأنوار 47: 240.

وقد روي عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما أُجْلِسَ إبراهيم (عليه السلام) في المنجنيق وأرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: السلام عليك يا إبراهيم ورحمة اللّه وبركاته، ألَكَ حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا.

فلمّا طرحوه [في النار] ودعا اللّه فقال: يا ألله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

فحُسِرَت النار عنه وأنه لمُحتبٍ ومعه جبرئيل، وهما يتحدَّثان في روضةٍ خضراء(1).

وروي عن الحسين بن علوان، قال: كنّا في مجلس يُطلب فيه العلم، وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: مَنْ تؤمّلُ لِما قد نزل بك؟.

فقالَ: فلاناً!

فقال: إذاً واللّه لا تُسعَف بحاجتك، ولا يبلغك أملُك، ولا تنجح طلبتك!.

قلت: وما علّمك رحمك اللّه؟.

قال: إنّ أبا عبد اللّه[الصادق (عليه السلام) ] حدَّثني أنه قرأ في بعض الكتب أنّ اللّه

ص: 201


1- (1) بحار الأنوار 12: 24. ولعله يمكن توجيه هذا الحديث بأن اللّه سبحانه جعل أسباباً للوصول إلى الغايات، بعضها طبيعي، وبعضها غيبي، وأمرنا بأن نسلك هذه الأسباب للوصول إلى تلك الغايات فجعل الدواء سبباً للشفاء وأمر بالتداوي. فقد قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تداووا فإن اللّه عزَّ وجل لم ينزل داءاً إلاّ وأنزل له شفاءاً». بحار الأنوار 59: 66. وجعل التوسل بالأنبياء (عليهم السلام) سبباً للقرب إليه تعالى وأمر بذلك حيث قال سبحانه:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}. ويظهر من هذه الرواية أن التوسل بجبرئيل (عليه السلام) لم يكن الطريق الأمثل لخلاص إبراهيم (عليه السلام) من النار، وإنّما كان الأفضل له (عليه السلام) الالتجاء المباشر إلى الواحد الأحد، فتأمّل.

تبارك وتعالى يقول: وعزّتي وجلالي، ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعنَّ أمل كلِّ مؤِّمل من الناس أمّل غيري بالياس، وَلأَكسُوَنَّه ثوب المذّلة عند الناس، ولأُنجِينَّهُ من قربي، ولأُبعِدَنَّهُ من وصلي.

أيؤمُّل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي؟ ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلَّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟

فمن ذا الذي أملّني لنوائبه فقطعته دونها؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاه منِّي؟ جَعلتُ آمالَ عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سمواتي ممَّن لا يملُّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يُغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي!

ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري - إلاّ من بعد إذني؟ فما لي أراه لاهياً عنّي؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثمّ انتزعته عنه فلم يسألْني ردَّه، وسأل غيري.

أفيراني أبدأ بالعطايا قبل المسألة ثم أُسْألُ فلا أُجيب سائلي؟ أبخيلٌ أنا فيبّخلُني عبدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محلُّ الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤمِّلون أن يؤمِّلوا غيري؟ فلو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً ثمّ أعطيت كلَّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيّمه، فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني(1).

ص: 202


1- بحار الأنوار 68: 130-131.

الآية (3) {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}

المفردات

الرحمن: ذو الرحمة الشاملة.

{الرَّحِيمُ}: ذو الرحمة الدائمة.

كيف نوفّق بين الرحمة الإلهية ووجود الشرور؟

مضى بعض الحديث حول الرحمة الإلهية في الآية الأُولى من هذه السورة المباركة.

ولكنّ السؤال هو: كيف ينسجم وجود الشرور كالزلازل والأمراض ونحوها مع الرحمة الإلهية؟

والجواب على ذلك - على ما يستفاد من كلمات بعض الفلاسفة -: إنَّ الأُمور بلحاظ الخير والشر على خمسة أنواع:

1 - ما هو شرّ محض.

2 - ما شرُّه غالب على خيره.

3 - ما تساوى شرُّه وخيره.

4 - ما هو خيرٌ محض.

5 - ما خيره غالب على شرّه.

ص: 203

والقسم الأوّل؛ لا يصدر من الحكيم، لمنافاته للحكمة، فالتاجر الحكيم لا يقدم على تجارة يعلم أنّه سوف يخسر فيها 100%(1).

وكذا القسم الثاني؛ فالعاقل لا يقدم على تجارة يربح فيها (400) ديناراً، ويخسر فيها (600) ديناراً مثلاً.

وأمّا القسم الثالث؛ فهو لا يصدر أيضاً من الحكيم، وذلك لأنَّ العاقل لا يندفع نحو عمل إلاّ بمحرِّك يدفعه نحوه، ويطلق على هذا المحرِّك (العلّة الغائية)، والعلّة الغائية هي علَّةُ فاعليةِ العلّةِ الفاعليةِ بماهيتها - أي صورتها الذهنية - وإن كانت معلولة لها بإنّيتها - أي بوجودها الخارجي - على ما قُرّر في محلِّه(2).

ومع تساوي نسبة الخير والشرّ في العمل لا يوجد هنالك محرّك يدفع الفاعل نحو العمل، فإذا علم التاجر أنه سوف يربح في هذه التجارة ألف دينار ولكنَّه يخسر فيها ألف دينار أيضاً، فلن يكون له حافز يدفعه للقيام بهذه التجارة.

وبعبارة أُخرى: القسمان الأوّلان من مصاديق (ترجيح المرجوح على الراجح)، والقسم الثالث من مصاديق (الترجيح بلا مرجِّح)، وكلاهما قبيح، بل محال على الحكيم - على ما ثبت في محلِّه - .

والقسم الرابع: لا شكّ في إمكان صدوره من الحكيم، وتحقُّقه في الخارج.

ص: 204


1- الأمثلة المذكورة إنما سيقت لمجرد تقريب الذهن، ولا تقصد بحرفيتها.
2- راجع كتب (علم الكلام) بحث العلة الغائية.

وأمّا القسم الخامس: فهو أيضاً كذلك، وذلك لأنّ ترك (الخير الكثير) لأجل (الشرِّ القليل): شرٌّ كثيرٌ، ولا يمكن صدور (الشرِّ الكثير) عن الحكيم.

وبعبارة أُخرى: إذا كان (فعل الشيء) من قبيل (ما خيره غالب على شرِّه) فيكون (ترك ذلك الشيء) من قبيل (ما شره غالب على خيره) فيستحيل صدور هذا (الترك) على الحكيم، لما سبق من أنَّ القسم الثاني لا يصدر عن الحكيم.

مثلاً: إذا اضطرَّ الأب إلى تطعيم ولده بإبرة مؤلمة ضدّ مرض وبائيّ منتشر، ففي زرق الطفل الإبرة (شرٌ قليل) يتمثّل في الألم الذي يعانيه الطفل، والعوارض المرضية التي قد تستمر مع الطفل لعدّة أيام، ولكن ترك زرق الإبرة يعرض الطفل للإصابة بذلك المرض الخطير، وهو (شرٌ كثير) ولا يمكن صدوره من الحكيم الملتفت إلى أبعاد الأُمور.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نقول: إنّ الشرور التي نلمحها في عالم الطبيعة هي من قبيل القسم الخامس؛ إذ فيها من الخير الشيء الكثير، فلا ينبغي صرف النظر عن ذلك الخير الكثير لأجل الشرِّ القليل الكامن فيها.

ويكفي في ذلك: أنّ هذه الآفات - كالأمراض والزلازل والفياضانات ونحوها، توجّه الإنسان إلى اللّه تعالى، وتنبّهه إلى ضعفه وعجزه، وتجعل روحه أكثر شفافية وإشراقاً، وما أعظمها من فوائد؟!.

وينبغي أن نشير هنا إلى أنّ (عدم العلم بالفائدة) غير (العلم بعدم الفائدة) والإنسان يمكنه أن يقول: إنّني لا أعلم.

وأمّا الموقف الثاني فهو يفتقر إلى الإحاطة التامّة بالمعادلات الحاكمة

ص: 205

على هذا الكون الرحيب؛ واكتناه جميع أبعاد الحاضر والمستقبل، وأنّى للإنسان أن يدّعي ذلك!؟.

ونظرة إلى كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور (الكسيس كاريل) كفيلة بالكشف عن جوانب من هذه الحقيقة.

عيِّنات خارجية

1 - روي أنّ الذباب وقع على المنصور مرّة فذّبه عنه، ثمّ وقع عليه فذّبه عنه، ثم وقع عليه فذَّبه عنه!

فالتفت إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً: يا أبا عبد اللّه، لأيِّ شيء خلق اللّه الذباب؟ فقال (عليه السلام) ليذلّ به الجبّارين(1).

2 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: دُعي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى طعام، فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت، فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه، ولم تسقط ولم تنكسر!. فتعجب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منها.

فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة؟ فوالذي بعثك بالحقِّ ما رزئت شيئاً قطّ.

فنهض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يأكل من طعامه شيئاً، وقال: من لم يُرزأ فما لله فيه من حاجة(2)!.

3 - حكى القزويني: أنّ رجلاً رأى خنفساء فقال معترضاً: ما يريد اللّه من خلق هذه؟ أَحُسْنَ شكلِها أم طيبَ ريحها؟

ص: 206


1- بحار الأنوار 47: 166.
2- بحار الأنوار 64: 214.

فابتلاه اللّه تعالى بقرحة عجز عنها الأطبّاء حتّى ترك علاجها.

فسمع يوماً صوت طبيب من الطريق وهو ينادي في الدرب.

فقال: هاتوه حتّى ينظر في أمري.

فلمّا أحضروه ورأى القرحة طلب أن يأتوا إليه بالخنفساء، فأحرقها وذرَّ رمادها على قرحته.

فبرئ الرجل. فقال: إنّ اللّه تعالى أراد أن يعرفني أن أَخَسَّ المخلوقات أعزّ الأدوية(1).

فلسفة الشرور في النصوص الشرعية

1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفِّرها به ابتلاه اللّه عزَّ وجلَّ بالحزن في الدنيا ليكفِّرها، فإن فعل ذلك به، وإلاّ أسقم بدنه ليكفِّرها به، فإن فعل ذلك به، وإلاّ شدّد عليه عند موته ليكفِّرها به...» الحديث.(2)

2 - عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لولا ثلاث في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء [أي ما تواضع ولا خضع وكان يتكبّر ويتجبّر]: المرض، والفقر والموت، وكلّهم فيه وإنَّه معهم لوثّاب»(3).

3 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال - في حديث -: «ثمَّ خلقهم [أي الخلق] في داره وأراهم طرفاً من اللَّذات ليستدُّلوا به على ما وراءهم من

ص: 207


1- سفينة البحار 1: 431 (بتصرُّف).
2- بحار الأنوار 5: 315.
3- بحار الأنوار 5: 316.

اللّذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنّة، وأراهم طرفاً من الآلام ليستدّلوا به على ما وراءهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذّة، ألا وهي النار، فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها،وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها»(1).

4 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلاّ عرض له أمر يحزنه، يَذَكَّرَ به»(2).

5 - وعنه (عليه السلام) أنه قال: «إذا أراد اللّه عزَّ وجلَّ بعبد خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة، ويذكره الإستغفار»(3).

ص: 208


1- بحار الأنوار 5: 316.
2- بحار الأنوار 64: 211.
3- بحار الأنوار 64: 229.

الآية (4) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

المفردات

{مَالِكَ}: ذو الملكية والهيمنة والسيطرة.

{الدِّينِ}: الجزاء، و{يَوْمِ الدِّينِ} هو يوم القيامة حيث يجازى كلُّ إنسان بما عمل، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.

التفسير

بعد أن تعرض القرآن الكريم في مفتتح هذه السورة إلى مسألة (المبدأ) أشار في هذه الآية إلى مسألة (المنتهى)، ومسألة (المبدأ) و(المنتهى) أهمّ قضية (عقائدية) في الوجود كلِّه، كما أنها أهم قضية (عملية) في حياة الإنسان.

من أين جئنا؟ وإلى أين نسير؟ وما هو المصير؟ ألغاز محيِّرة واجهت الإنسان منذ اليوم الأوّل، وسوف تظلُّ تلحُّ على ذهنه حتى اليوم الأخير. ومهما بحثت فلن تجد الإجابة الصحيحة التي يطمئن إليها العقل ويرتاح إليها الضمير إلاّ في رسالات السماء.

كما أنّ لهاتين القضيتين ارتباطاً عميقاً بالسلوك الإنساني، فمن لا يعتقد باللّه ولا باليوم الآخر لن يجد رادعاً حاسماً يمنعه من ارتكاب الجرائم، والتعدّي على حقوق الآخرين. إّن هذه الحياة هي الفرصة الأخيرة، وبعد

ص: 209

ذلك سيتحوّل الإنسان إلى أشلاء مبعثرة تأكلها الأرض، وسوف ينتهي كلّ شيء. أجل، سوف ينتهي كلُّ شيء. فلماذا لا ينتهز هذه الفرصة في سبيل إشباع نزواته ولو كان ذلك على حساب الآخرين؟

يقول الشاعر:

سأطلب الموت حثيث الورود***وينمحي اسمي من سجلِّ الوجودْ

هات اسقنيها(1) يا مُنى خاطري***فغاية الأيّام طول الهجود!

أما من يعتقد باللّه واليوم الآخر فإن إيمانه هذا سوف يخلق وازعاً في نفسه يمنعه من ارتكاب الموبقات، والتعدّي على الآخرين.

ومن هنا كان التأكيد الكبير - في هذه السورة وفي سائر السور القرآنية على مسألة (المبدأ) و (المعاد).

محاكُم ستٌّ
اشارة

هنالك ستُّ محاكم يمرُّ عبرها الإنسان ليتلقّى (الجزاء) على عمله، وهذه المحاكم هي كالتالي:

1 - محكمة الضمير

حيث إنّ للإنسان وجداناً باطنياً، يؤنّبه على ارتكاب الجريمة، ويبارك له عمل الخير.

فإذا أسدى الإنسان معروفاً لمحتاج، أو أغاث ملهوفاً أو نَفَّسَ عن مكروب فإنّه سوف يشعر بالارتياح بغمره، وبالسعادة تملأ نفسه.

ص: 210


1- يقصد الشراب.

أمّا إذا كذّب في الحديث، أو خان الأمانة، أو أهمل القيام بوظائفه الدينية، فإنّ ضميره سيظلُّ يؤنّبه ويوبِّخه على ما ارتكبه.

قال سبحانه: {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(1).

ويكفي نموذجاً لذلك قصَّة الشاب الضابط الذي دمّر «هيروشيما/ ناغازاكي» بالقنبلة الذِّرية في الحرب العالمية الثانية.

فقد فاز «كلودايترلي» بعد تدميره لمدينتي هيروشيما وناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا، لكنّ كلودايترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيّارين يوماً مّا لمهارته في قيادة الطائرة، ولأعصابه الفولاذية، والذي عهد إليه بإلقاء أوّل قنبلة ذرِّية، قد أُصيب الآن بالجنون.

إنَّ الطيار الذي دمَّر عام 1945م مدينتين، كان يرِّدد هذه الجملة منذ مدَّة: أنا قاتل ال(150) ألفاً من الناس، ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه. إنّه كان يجد نفسه المسؤول الأوّل عن قتل أهالي مدينة (هيروشيما). إنَّ معالجة الأطبّاء كانت عقيمة، وأخيراً اضطُرَّ إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقلية(2).

2 - محكمة الجسد

حيث إنَّ الطهارة والنظافة والإيمان تمنح الإنسان السلامة في جسده، أمّا الفسوق والفجور والإنحراف فإنها تسبب تحطيم جسد الإنسان وانهياره.

ويكفينا نموذجاً لذلك: الأمراض التي خلقتها الانحرافات الجنسية في

ص: 211


1- القيامة: 2.
2- الطفل بين الوراثة والتربية 1: 397 (نقلاً عن الصحف).

بلاد الغرب، ومنها مرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) الذي قضى على حياة الملايين، ولا يزال الطبُّ عاجزاً عن علاجه حتى الآن.

3 - محكمة القضاء

حيث يُمثلُ المجرم أمام المحكمة لينال جزاءه ولو بعد حين.

4 - محكمة المجتمع

حيث يُقدِّر المجتمع الفرد الطيِّب، ويصبُّ جام نقمته على الفرد الشرّير.

قال اللّه سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا}(2).

5 - محكمة التاريخ

حيث يخلِّد التاريخ حياة الطيّبين بأحرُف من نور، بينما يلقي بالشرّيرين في زوايا الإهمال، أو يصبُّ عليهم اللّعنة وسوء العذاب.

يقول الشاعر (محمد مجذوب) حين وقف على قبر معاوية في الشام:

أين القصور أبا يزيد ولهوها***والصافنات وزهوها والسؤددُ

أين الدهاء نحرت عزَّته على***أعتاب دنياً سحرُها لا ينفدُ

هذا ضريحك لو بصرت بِبؤُسهِ***لأسال مدمَعَك المصيرُ الأسودُ

ص: 212


1- (2) التوبة: 105.
2- مريم: 96.

كتل من التُرب المهين بخربةٍ***سكر الذبابُ بها فراحَ يعربدُ

خفيت معالمها على سكَّانِها***فكأنَّها في مَجهل لا يُقصدُ

ومشى بها رَكْبُ البلى فجدارُها***عانٍ يكادُ من الضراعة يسجُدُ

أأبا يزيد وتلك حكمة خالق***ماذا أقول وبابُ سمعِكَ موصَدُ

قم وأرمق النجفَ الأغرَّ بنظرةٍ***يرتدُّ طرفك وهو باكٍ أرمد

تلك العظام أعزَّ ربُّك شأنها***فتكادُ لولا خوفُ ربِّك تعبدُ

أبداً تُبارِكُها الوفود يحثُّها***من كلِّ صوبٍ شوقُها المتوقِّدُ

نازعتها الدنيا ففزتَ بوردِها***ثُمَّ انطوى كالحُلْمِ ذاكَ المورِدُ

ومن الغريب: أنَّ طغاة الأُمويين والعباسيين حكموا البلاد الإسلامية مئات السنين، ولكن لم يبق لأيٍّ منهم قبر يزار، بل لم يعرف للكثير منهم قبر. بينما نجد أنّ آل البيت (عليه السلام) تحوّلت مقابرهم إلى مزارات يتوافد عليها الملايين من كلّ حدب وصوب، حتى تلك الطفلة الصغيرة (رقية) التي قضت نحبها وهي غريبة في خربة من خربات الشام بُني عَلَى مدفنها ضريح كبير، ويزورها عشرات الألوف في كلّ عام، بينما (يزيد) - ذلك الطاغية المتجبِّر - لا يُعرف له قبر في عاصمة ملكه العريض!

أجل.. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(1).

ص: 213


1- الرعد: 17.
6 - محكمة القيامة

وهذه المحكمة هي أهمُّ المحاكم؛ إذ قد يطوّع المُجرم ضميره بطول الإجرام، أو يفلت من محاكم الدنيا، أو لا ينال جزاءه الكامل، أو يقوم بتزوير التاريخ، أمّا في الآخرة: ف- {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}(1).

ومن هنا يقول اللّه سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}(2).

ومن هنا اُطلقت كلمة (يوم الدين) على يوم القيامة؛ لأنّ الجزاء بشكله الكامل سوف يكون في ذلك اليوم.

القانون وحده لا يكفي

وهنا ينبغي أن نؤكّد أنَّ القانون وما يستتبعه من ملاحقة قضائية وسجن وعقوبة و.. - بدون الإيمان باللّه واليوم الآخر - لا يكفي، وسيظل حبراً على ورق، ولن ينزل إلى ميدان التنفيذ إلاّ بمقدار ما يرافقه من قوّة وبمجرد أن تنفصل عنه القوّة فإنه سوف ينهار فوراً ويسحق تحت الأقدام.

وكثيراً ما لا تستطيع القوّة ذاتها أن تضمن تنفيذ القانون.

والتقرير التالي يكشف لنا جوانب من هذه الحقيقة: (أرادت الولايات المتحدة الأمريكية في عام (1930م) أن تخلّص شعبها من مضارّ الخمر، فرتّبت عقوبات صارمة على كلّ من يشتريها أو يصنعها أو يستوردها، وقد

ص: 214


1- آل عمران: 161.
2- النجم: 39-41.

مهّدت لهذا القانون بحملة دعائيّة واسعة عن طريق دور السينما والمسارح والراديوات والتلفزيونات والكتب والجرائد والمجلاّت وغيرها من النشرات اليومية، وكانت هذه الدعايات مزوّدة بالتقارير العلمية والطبية التي تشير إلى مدى ما للخمور من تأثير على صحَّة الإنسان وعقله وضميره، وقد صرفت على هذه الدعايات 65 مليون دولار.

وبسبب بعض المعاكسات التي واجهها قانون تحريم الخمور؛ ولأنّ البعض لم يمتنع عن تعاطي أو المتاجرة بالخمور بعد صدور هذا القرار، فقد قتل مئتا شخص، وحبس نصف مليون إنسان، كما صودرت أربعمائة مليون جنيه استرليني، وكان مجموع ما غرم به البعض الآخر يربو على مليون ونصف مليون جنيه. غير أنّ ذلك لم يظهر له نفع)(1)!

هذه هي النتيجة الطبيعية لافتقاد عنصر الإيمان باللّه واليوم الآخر.

فاستعمال العنف وتحكيم السيف وزرع البوليس على مفاصل الطرق لا تجدي نفعاً ما لم يوجد (رقيب داخلي) يقبع في ضمير الإنسان، ويوجّهه نحو الخير والفضيلة.

وهذا الرقيب هو عبارة عن (الإيمان) ذلك أنّ الفرد المؤمن الذي يدرك أنّ اللّه سبحانه وتعالى يراقبه في كلّ وقت وكلّ زمان، ويعتقد أنه هو المهيمن على كل شيء، وأنّه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(2)

ص: 215


1- التشريع الرباني والقانون الوضعي (بتصرف).
2- غافر: 19.

ويعتقد بأنه سيأتي هناك يوم يجازى فيه على كل شيء.. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(1)، هنا الفرد لا يتعدَّى حدود اللّه، ولا يتجاوز على حقوق الآخرين.

وأيضاً، الإيمان بالمبدأ والمعاد يربط القلب بالقدرة التي تحكم هذا الكون - بدنياه وآخرته - وبهذا الارتباط وبمعرفة مدى عظمة اللّه سبحانه، تصغر أمام المؤمن كلُّ مغريات الحياة، ويحسُّ بالقدرة على الارتفاع فوقها؛ ولذلك فهو لا يجعل إيمانه ثمناً لأيّ شيء - مهما كان مغرياً وفاتناً - ولا يقبل أيَّ مساومة تهدف إلى أن يتنازل عن مبادئه.

وهذا ما يؤكّده الإمام علي (عليه السلام) حين يقول وهو يصف المؤمنين: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم».

ويعكس المؤمنون هذا الإحساس العظيم في شعارهم الخالد الذي يرددونه دائماً: (اللّه أكبر). فكل شيء ينهار أمام عظمة اللّه ويغدو شيئاً صغيراً أمامه.

ويمكن أن نلمس هذه الحقيقة في الأُمّة الإسلامية التي بناها الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. فلم تكن الآيات القرآنية تهبط حتى تفتح طريقها للتنفيذ، فآية تحريم الخمر - مثلاً - لم تنزل إلاّ وقد جرت سكك المدينة خموراً مهراقة.

ولكنّ الذي لا يؤمن باللّه واليوم الآخر قد لا يتردّد في ارتكاب أكبر جريمة من أجل مغنم ماديّ بسيط؛ لأنه لا يعتقد أنّ وراءه حياة أُخرى

ص: 216


1- الزلزلة: 7-8.

يحاسب فيها على كل ما عمل، وهو يتصوّر أنّ اللّذات إنّما تتحقّق في هذه الدنيا، أمّا بعد ذلك فلن يوجد إلاّ الموت والفناء.. ومن أجل ذلك فهو يحاول أن يستمتع بأكبر قدر من اللّذة في هذه الحياة حتى لو جاء ذلك على حساب الآخرين.

نماذج عمليّة

وإذا أردنا أن نستقصي النماذج العملية لتأثير الإيمان ب(يوم الدين) فسوف يطول الحديث.. لكنّنا نكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج..

1 - روي أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتى إلى المسجد في شدَّة مرضه وقال فيما قال: «إنَ ربي عزَّ وجلَّ حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم اللّه، أيُّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فليقتص، والقصاص في دار الدنيا أحبُّ إليَّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء.

فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي وأُمّي يا رسول اللّه، إنّك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضبا، وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأ.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : معاذَ اللّه أن أكونَ تعمَّدتُ.

ثم قال: يا بلال قم إلى منزل فاطمة فأتِني بالقضيب الممشوق.

فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟

إلى أن قال: ثم ناولت فاطمة (عليها السلام) بلالاً القضيب فخرج حتّى ناوله رسول

ص: 217

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أين الشيخ؟

فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي. قال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : تعالَ فاقتصّ حتّى ترضى.

قال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك.

فكشف (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن بطنه.

فقال الشيخ: بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه من النار يوم القيامة.

فقال رسول اللّه: يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتصّ؟

قال: بل أعفو يا رسول اللّه.

فقال رسول اللّه: اللّهمَّ اعفُ عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد(1).

2 - وفي رواية يرويها الشيخ المفيد (رحمه اللّه) عن إبراهيم بن علي عن أبيه، قال: حججت مع علي بن الحسين (عليه السلام) فالتاثت الناقة عليه في مسيرها (أي أبطأت) فأشار إليها بالقضيب ثم قال: «آهِ لولا القصاص» وردّ يده عنها(2).

3 - نقل أنَّ يوسف (عليه السلام) لبث في منزل الملك وزليخا سبع سنين وهو مطرٌق إلى الأرض لا يرفع طرفه إليها مخافةً من ربِّه.

فقالت له يوماً: ما أحسن عينيك؟

ص: 218


1- روضة الواعظين: 84.
2- الصياغة الجديدة: 240.

قال: هما أوّل ساقط على خدّي في قبري.

قالت: ما أطيبَ ريحكَ؟

قال: لو شممت رائحتي بعد ثلاث من موتي لهربت منّي.

قالت: لم لا تقترب؟

قال: أرجو بذلك القرب من ربِّي.

قالت: فرشي الحرير فقم واقضِ حاجتي.

قال: أخشى أن يذهب من الجنّة نصيبي.

قالت: أُسلِّمُكَ إلى المعذّبين.

قال: يكفيني ربِّي(1).

4 - نقل الفاضل النراقي في معراج السعادة أنه كان في البصرة امرأة يقال لها (شعوانة) لا يخلو منها مجلس من مجالس الفسق والفجور.

وفي يوم من الأيام مرَّت مع جمع من إمائها في زقاق من أزّقة البصرة فوصلت إلى بيت يعلو منه الصراخ والضجيج. فقالت: سبحان اللّه، ما أعجب هذا الصراخ والغوغاء. وأرسلت واحدة من إمائها لتعرف حقيقة الحال، فذهبت تلك الأمة ولم ترجع. فأرسلت الثانية بعدها فذهبت ولم ترجع أيضاً. فأرسلت الثالثة وأوصتها أن تعود بسرعة فلمّا ذهبت وعادت، قالت: سيِّدتي ليس هذا مجلساً للبكاء على ميّت، بل هو مأتم للعاصين ذوي الصحائف السود.

فلما ذهبت رأت واعظاً يعظ مجموعة من الناس التفُّوا حوله يخوِّفهم من عذاب اللّه وهم مشغولون بالبكاء والأنين، وحين دخلت شعوانة كان الواعظ

ص: 219


1- النور المبين: 203 (بتصرف).

مشغولاً بتفسير قوله تعالى [في صفة جهنم]: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا *لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}.

فلما سمعت شعوانة هذه الآيات أثّرت فيها، وقالت: يا شيخ، أنا واحدة من ذوي الوجوه السود - أي المذنبين - إذا تبت هل يتوبُ اللّه عليَّ؟.

فقال الواعظ: نعم، إذا تبتِ يتوبُ اللّه عليكِ، حتى إذا كانت ذنوبك مثل ذنوب شعوانة.

فقالت: يا شيخ أنا شعوانة، لا أعود إلى ذنب بعد اليوم.

فقال الواعظ: اللّه أرحم الراحمين، إذا تبت تابَ اللّه عليكِ فتابت شعوانة وأعتقت عبيدها وإماءها، واشتغلت بالعبادة وقضاء ما فات منها(1).

5 - نقل السيد الوالد - حفظه اللّه - إنّه جاء إلى والدي - رحمه اللّه - رجل وأراد أن يسلِّمه مبلغاً من الحقوق - وأظنُّ المبلغ سبعة عشر ألف دينار، وكان هذا المبلغ يعادل ما يقارب من أربعين شهراً من الرواتب التي كانت يدفعها للطلبة والفقراء آنذاك - فلم يقبل الوالد (رحمه اللّه) ذلك؛ لإشكال رآه في أخذ المبلغ، وكلَّما أصرّ صاحب المال على أن يقبله الوالد (رحمه اللّه) أبى وامتنع.

ولما ذهب الرجل قلت للوالد: إنّ هذه حقوق شرعية وإنَّك إذا تسلَّمتها تعطيها للطلاب والفقراء والمؤسسات والمشاريع الخيرية، فما هو المانع من أخذها؟

فنظر (رحمه اللّه) إليَّ وقال: يجب علينا نحن أن نفكّر في آخرتنا لا أن يغرّنا

ص: 220


1- الذنوب الكبيرة 2: 427.

المال الذي نراه كثيراً(1).

6 - حكي: أن رجلاً اختلى بامرأة لا تحلُّ له، فلّما قعد منها مقعد الرجل من زوجته وهمَّ بالفاحشة تذكر الآخرة، فقام وهو يقول: إنَّ من باع جنّة عرضها السماوات والأرض لفترٍ في فترٍ لَقليلُ علمٍ بالمساحة. ثم انصرف.

أنواع من الملكية

بقي أن نشير إلى أنّ الملكية تنقسم إلى نوعين:

1 - الملكية الاعتبارية.. مثل: ملكيتك لدارك التي تسكن فيها، وأموالك المودعة في البنك باسمك، وعقاراتك المتناثرة هنا وهناك.

فلا توجد هنالك أية علقة حقيقية بينك وبين ما تملكه إذ ليس ما تملكه قائماً بك، وليس وجوده تبعاً لوجودك، بل هو مستقلٌ في وجوده عنك، قائم بغيرك، وإنّما (الإعتبار) هو الذي منحك هذا العنوان - عنوان (الملكية)، وهو بذاته يستطيع أن يسلبك هذا العنوان.

فحدوث العنوان الاعتباري منوط بالاعتبار، وبقاؤه منوط ببقاء ذلك الاعتبار، ومتى ما سبَّب المعتبر اعتباره زال العنوان الاعتباري.

وقد يختلف الاعتبار بحسب اختلاف المعتبرين، فقد يجعل قانون ما عنوان (الملكية) لتركة الميّت مرتبطاً بأقربائه، بينما يجعل قانون آخر ذلك مرتبطاً بالدولة الحاكمة.

2 - الملكية الحقيقية: وتتحقَّق هذه الملكية حينما تكون هناك عُلقة

ص: 221


1- الصياغة الجديدة: 245.

تكوينية خاصّة بين الشيء وصاحبه، بعيداً عن اعتبار المعتبر وجعل الجاعل، بحيث يكون وجوده قائماً بوجود صاحبه وبقاؤه منوطاً ببقاء صاحبه، فهذه الملكية حاصلة سواء أكان هنالك معتبر أولا.

والملكية الحقيقية على قسمين:

أ - الملكية الحقيقية الغيرية: ويتحقق ذلك حينما تكون الملكية حاصلة بسبب إعطاء الغير.

ويمكن أن نمثّل لذلك بملكيتنا لقوانا ولصورنا الذهنية، فأنت تملك سمعك وبصرك والصور التي ترتسم على لوحة ذهنك، ولا تزول هذه الملكية بقرار اعتباري يصدره شخص مّا، ولكن مَنْ أعطاك هذه الملكية؟

إنّ هذه الملكية ليست (واجبة الوجود) فهي إذن (ممكنة الوجود) وكلُّ (ممكن) بحاجة إلى (علّة)، ولا بدّ أن تنتهي العلل إلى (واجب الوجود) وهو اللّه سبحانه وتعالى.

يقول اللّه تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ}(1).

ب - الملكية الحقيقية الذاتية: ويتحقّق ذلك حينما تكون الملكية مستمدة من الذات، كملكية اللّه سبحانه لنا ولهذا الكون فإنها ملكية حقيقية ذاتية.. نابعة من إفاضته الوجود على الكون، وقيومّيته المستمرة على كلّ شؤونه.

وهذه الملكية وإن كانت ثابتة لله سبحانه في هذه الدنيا، إلاّ أنّ ظهورها التام سيكون في (يوم الدين)؛ إذ:

ص: 222


1- النحل: 78.

أوّلاً: تلغى في ذلك اليوم جميع الملكيات الاعتبارية، فلا حاكم ولا محكوم، ولا سيد ولا مَسود، ولا مالك ولا مملوك.

ثانياً: وتلغى - أيضاً - مجموعة من الملكيّات الحقيقية الممنوحة للإنسان في هذه الدنيا؛ فيفقد الإنسان سيطرته على يديه ورجله ولسانه، ولا يستطيع أن يتحكّم فيها كما كان يتحكّم فيها في هذه الدنيا.

يقول القرآن الكريم: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}(1). ويقول: {الْيَوْمَ

نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(2). ويقول: {وَقَالُوا

لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}(3).

ثالثاً: في هذه الدنيا قد يملك أصحاب النفوذ التدخُّل في سير المحاكم القضائية، لتخليص المجرم وإنقاذه من قبضة العدالة.

أمّا في ذلك اليوم فلا يملك أحد الشفاعة لأحد إلاّ من بعد أن يأخذ الإذن من اللّه سبحانه ويرضى.

يقول القرآن الكريم: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}(4). ويقول: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}(5). ويقول: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ

ص: 223


1- هود: 105.
2- يس: 65.
3- فصلت: 21.
4- الأنبياء: 28.
5- يونس: 3.

لَهُ الرَّحْمَانُ}(1). ويقول: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ}(2).

وعلى أساس ذلك كلّه يأتي النداء في هذا اليوم الرهيب: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ فيكون الجواب: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}(3).

وهكذا تتجلّى المالكية الإلهية بشكلها التام في ذلك اليوم، فهو سبحانه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ولا مالك سواه في ذلك اليوم.

ص: 224


1- طه: 109.
2- النجم: 26.
3- غافر: 16.

الآية (5) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

المفردات

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: نخصّ العبادة بك، فلا نعبد سواك.

{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: نخصُّ الإستعانة بك، فلا نستعين بغيرك.

التوحيد العملي فرع التوحيد النظريّ

بعد أن توجّه المؤمن في الآيات السابقة بعقله وقلبه إلى اللّه سبحانه وتعالى، واستحضر في ذهنه حقيقتين:

الحقيقة الأُولى: الربوبّية الإلهيّة الشاملة، التي لا تختصُّ بهذه الدنيا، بل تشمل الآخرة أيضاً.

الحقيقة الثانية: الرحمة الإلهية الواسعة والدائمة.

بعد ذلك كلّه: يتوجّه المؤمن إلى الناحية العملية في حياته، فيحصر عبادته باللّه سبحانه، دون أن يعبد سواه، ويخصّ استعانته باللّه تعالى، فلا يستعين بغيره، قائلاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ذلك أنّ (التوحيد العملي) - متمثلاً في حصر العبادة والاستعانة باللّه سبحانه - يأتي بعد الإيمان ب- (الربوبية الإلهية) و(العطاء الإلهي) فما دام لم يؤمن الإنسان بأنّ أزمّة الأمور كلّها بيد اللّه سبحانه في هذه الدنيا (فهو {رَبَّ الْعَالَمِينَ}) وفي الآخرة (فهو

ص: 225

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}) وأن اللّه سبحانه منبع اللُّطف والجود والرحمة (فهو {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}) فسوف يعمد بالطبع إلى اتّخاذ أرباب من دون اللّه يعبدهم، ويستمد منهم العون والمدد.

أمّا عندما يعرف الإنسان أنّ كلّ شيء بيد اللّه، وأنّه معدن الرحمة والعطاء، فسوف يتّجه إلى عبادته وحده والاستعانة به وحده.

ومن هنا تناولت السورة في الآيات السابقة (التوحيد النظري) وعقبَّت ذلك - في هذه الآية الكريمة - ب- (التوحيد العملي).

ولا بأس بالإشارة إلى أنّ في الآية الكريمة التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، لأنّه بعد إقرار العبد بالأُلوهية والاعتراف بالربوبية، وأنّه مالك يوم الجزاء، صار لائقاً بالمخاطبة الحضورية معه تعالى، فارتقى العبد من الغيبة إلى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجّه والحضور(1).

التوحيد والحرية

وينبغي هنا أن نشير إلى أنّ توحيد اللّه سبحانه - في جانبيه النظري والعملي - ذو صلة وثيقة بتحقيق (الحرية الإنسانية).

فالإنسان في هذه الحياة يتعرض لضغوط كثيرة تستهدف إخضاعه واستعباده، وهذه الضغوط تصدر عادة من جبهتين:

1 - الجبهة الداخلية: متمثلة في الأهواء والشهوات والمطامع.

2 - الجبهة الخارجية: متمثّلة في السلطات الحاكمة والقوى المتنفّذة في

ص: 226


1- مواهب الرحمن 1: 33.

المجتمع.

وإذا انخرط الفرد في صراط التوحيد، فإنه سوف يتحرّر من سلطة كلّ الآلهة الأُخرى، ولن تستطيع أيّة قوة أن تستعبده مهما امتلكت من قوة.

وثمّة أمر آخر ينبغي أن نشير إليه، وهو أنّ (التوحيد) - في جانبيه النظري والعملي - طريق إلى تكامل نفس الإنسان.

فاللّه سبحانه هو الغنيُّ المطلق، ولن تنفعه عبادة من عبده، كما لا تضرُّه معصية من عصاه، فالذي ينتفع من عبودية اللّه هو نفس الإنسان، لا في حياته الأبدية في الآخرة فحسب، بل في هذه الدنيا أيضاً.

ومن هنا ورد في الحديث القدسي: (يا بني آدم إنّي لم أخلقكم لأربح عليكم، ولكن لتربحوا علي !).

قصص في العبودية

1 - أرسل عثمان بن عفان مع عبد له كيساً من الدراهم إلى أبي ذر (رحمه اللّه) وقال له: إن قبل هذا فأنت حرّ.

فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذرّ وألحَّ عليه في قبوله فلم يقبل.

فقال له: اقبله فإنّ فيه عتقي.

فقال أبو ذر: نعم، ولكن فيه رقّي!(1).

2 - ذكر العلاّمة الحلي (رحمه اللّه) في منهاج الكرامة: أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) اجتاز مرّة على دار (بشر الحافي) في بغداد وكانت أصوات الملاهي والغناء تخرج من تلك الدار، وفي هذه الأثناء خرجت جارية من الدار وبيدها

ص: 227


1- سفينة البحار 1: 484.

قمامة فرمت بها في الدرب. فقال الإمام الكاظم (عليه السلام) لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حرٌ أم عبد؟

فقالت الجارية: بل حرّ

فقال (عليه السلام) : صدقت، لو كان عبداً خاف من مولاه.

فلمّا دخلت قال لها بشر - وهو على مائدة الخمر ما أبطأكِ؟

فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا.

فخرج حافياً حتّى لقي الإمام الكاظم (عليه السلام) فاعتذر منه، وبكى لديه استحياءاً من عمله، وتاب على يديه(1).

وقيل: إنه لم يزل حافياً حتّى مات(2).

3 - نقل أنَّ مَلِكاً التقى بعابد، فقال له الملك: سل حاجتك.

فقال العابد: إنّي لا أطلب حاجة من عند عبيدي!

فقال الملك: وكيف ذلك؟

فأجاب العابد: لأنّ لي عبدين اثنين، وأنت عبد لهما.

فقال الملك: ومن هما؟

قال العابد: الحرص والأمل(3)!.

لماذا حُصِرت الإستعانة باللّه؟

في هذا الكون الرحيب الذي نعيش فيه يوجد هنالك قانون يعمّ جميع

ص: 228


1- روضات الجنات 2: 130.
2- روضات الجنات 2: 131.
3- راجع كتاب (كشف المحجوب).

الموجودات من أصغر ذرة إلى أكبر مجرّة - وهذا القانون هو قانون (العلل والمعلولات).

فنحن نلاحظ أنّ الظواهر الموجودة في عالم الطبيعة يستند وجود بعضها إلى وجود البعض الآخر.

فالظاهرة المستَنَدُ إليها تسمّى (علّة) (وفي منظور القرآن تُسمَّى (سبباً) حيث يقول اللّه سبحانه: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(1). والظاهرة المستَنِدَةُ تُسمَّى (معلولاً) و(مسببَّاً).

فالموقد (علّة) و(الدفء) الذي يشيع في أرجاء الغرفة بسبب الموقد (معلول) و(الجِدّ) في الدراسة (سبب) و(النجاح) في الامتحان (مسبَّب) وهكذا وهلمَّ جرّا.

ومع حكومة نظام العلّية في عالم الطبيعة، فكلُّ من يريد شيئاً فإنّه يعمد إلى تحصيل (علته) وبذلك يحصل على مقصوده بالضرورة، فلماذا نحصر الإستعانة باللّه سبحانه؟ وما هو أصلاً دور الإستعانة باللّه تعالى - ناهيك عن حصر الإستعانة به سبحانه - .

والجواب:

أوّلاً: هنالك ثلاثة مفاهيم:

1 - (العلّية) - وتعني استناد وجود ظاهرة إلى وجود ظاهرة أُخرى - .

2 - (العلاقة اللُّزومية) - وتتحقّق حينما يتزامن وجود ظاهرتين بشكل قهري، بحيث لا يمكن انفكاك وجود إحداهما عن الأُخرى، كما في

ص: 229


1- الكهف: 85.

الأمرين المتضايفين، كالأُبوّة والبُنّوة، والفوقية والتحتية، ونحوهما. فلا يمكن وجود الأُبوّة بدون وجود البُنّوة، ولا وجود الفوقية بدون وجود التحتية، وهكذا.

3 - (الصحابة الاتفاقية) - وتتحقّق حينما يتزامن وجود ظاهرتين على نحو الاتفّاق، مع (إمكان) أن ينفكَّ وجود إحداهما عن وجود الأُخرى، وإن لم (يحصل) الانفكاك أبداً، كما لو اتّفق مجيء شخصين إلى بيتك مرَّة واحدة أو مرّات كثيرة أو دائماً، دون أن يكون مجيء أحدهما علّة لمجيء الآخر، ودون أن يكون مجيؤهما معاً معلولاً لعلّة ثالثة.

والشيء الذي نستطيع أن نجزم به عند ملاحظة الأسباب والمسبَّبات (تقارن ظاهرتين) من الظواهر الطبيعية، لكن (التقارن) أعمّ من (العلِّية) (عليه السلام) ؛ إذ يُحتمل كونه على نحو (الصحابة الاتفاقية).

والمثال التالي يقرِّب لنا الفكرة: لو فرضنا بأن هناك (زرّاً) مقطوع الاتصال ب(المصباح الكهربائي) المعلَّق في سقف غرفتك. وهنالك (زرّ) آخر متّصل بالمصباح إلا أنّك لا ترى إلاّ الزر الأوّل، وهنالك شخص وراء الجدار يراقب حركاتك، فكلَّما ضغطت على الزر الأوّل أشعل هو المصباح الكهربائي بضغطه على الزر الحقيقي، فعندما تكرّر العمل عدّة مرات يحصل لك اليقين بأنّ (ضغطك) على الزرّ (علّة) و(اشتعال) المصباح الكهربائي (معلول) لتلك العلّة، ولكنّ الحقيقة أنّ هناك علّة أُخرى، ولا توجد بين الزّر الأوّل وبين اشتعال المصباح سوى (الصحابة الإتفاقية)، إلاّ أنه غابت عنك هذه الحقيقة لعدم إحاطتك بالواقع.

ص: 230

وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول: إنّنا نشعل الموقد، ونتلمّس سريان الدفء في الغرفة، فنتصوّر أنّ الظاهرة الأُولى (علّة) لوجود الظاهرة الثانية، بينما لا توجد بينهما سوى (الصحابة الاتفاقية).

وقد يؤيَّد ذلك برواية مروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «قال موسى بن عمران (عليه السلام) : يا ربّ، من أين الداء؟

قال: منّي.

قال: فالشفاء؟

قال: منّي.

قال: فما يصنع عبادك بالمعالج؟

قال: يطيب بأنفسهم» وفي رواية أُخرى: «يطيب بذلك أنفسهم»(1).

وبناءاً على ذلك: فإن أصل وجود (العليّة) و(المعلولية) بين الظواهر الطبيعية المعروفة مورد مناقشة، وإن كانت الظواهر الطبيعية كلُّها معلولة للمشيئة الإلهية؛ إذ لا يعقل وجودها بلا علّة، ولا كونها علَّة لذاتها.

هذا، ولكن قد يقال: بأنّ هذا الجواب مصادم للوجدان، ومخالف لظواهر النصوص كقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(2) وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(3).

وقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل

ص: 231


1- بحار الأنوار 59: 62.
2- الكهف: 84-85.
3- الكهف: 89.

لكلّ شيء سببا»(1) وكالروايات التي ذكرت فيها سببيّة بعض الأُمور لبعض، كقوله (عليه السلام) : «سبب الفقر الإسراف»(2) وقوله (عليه السلام) : «سبب الشحناء كثرة المراء»(3).

وقوله (عليه السلام) : «سبب الفجور الخلوة»(4). وقوله (عليه السلام) : «سبب التدمير سوء التدبير»(5). وغيرها من الروايات، وهي كثيرة، فتأمّل.

ثانياً: لو سلّمنا بوجود العلّية في الظواهر الطبيعية، لكن ينبغي أن نتساءل: هل العلّية صفة (ذاتية) كامنة في أعماق العلّة، أم أنّها صفة (مكتسبة)؟

إذا كانت العلِّية صفة ذاتية للعلّة فيستحيل إذاً انفكاكها عن ذات العلّة، لأنّ (الذاتي لا يختلف ولا يتخلّف) فزوجية الأربعة ذاتية لها، ولذلك فهي لا تنفصل عنهما، لكن، هل علِّية العلل الطبيعية التي نشاهدها ذاتية؟!.

الحقيقة التي نستوحيها من النصوص الشرعية أنّ العلِّية صفة (مكتسبة) لا (ذاتية) فاللّه سبحانه هو الذي منح العلل هذه الصفة، ولذا فيكون بالإمكان سلب هذه الصفة عنها - مع انحفاظ الموضوع - وأمّا سلب الصفة بإعدام موضوعها على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، فهو أمر بديهي وليس محّلاً للنقاش.

ص: 232


1- بحار الأنوار 2: 90.
2- غرر الحكم: 396.
3- غرر الحكم: 396.
4- غرر الحكم: 396.
5- غرر الحكم: 397.

فاللّه سبحانه هو الذي جعل النار تعطي الحرارة، ولكنّ النار فقدت هذه الخاصّية عندما جاء الأمر الإلهي: {قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدًا}(1).

ليس ذلك فقط، بل أصبحت هذه النار تعطي البرودة حتى اصطكّت أسنان إبراهيم (عليه السلام) من البرد، فجاء التعقيب الإلهي {وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(2).

وظاهر الخطاب في الآية انحفاظ الموضوع - فالسالبة هنا بانتفاء المحمول.

واللّه سبحانه هو الذي منح الماء خاصيّة (الإرواء) لكنّ الإرادة الإلهية عندما تتعلّق بسلب الماء هذه الخاصية فلن يقف أمامها شيء.

وقد روي أنَّ رجلاً من الجيش الأُموي خاطب الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء بقوله: (يا حسين انظر إلى هذا الماء يجري كبطون الحيَّات فواللّه لن تذوق منه قطرة حتى ترد الحميم)!.

فدعا عليه الإمام (عليه السلام) بأن لا يرتوي من الماء أبداً.

فكان الرجل يعطش ويشرب الماء ولا يرتوي. وينادي (العطش العطش) حتّى هلك.

يقول العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : «اعلم أنّ الذي يستفاد من الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة هو: أنّ تأثيره سبحانه في الممكنات لا يتوقّف على المواد والاستعدادات، وإنّما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقول له (كن) فيكون.

ص: 233


1- الأنبياء: 69.
2- الأنبياء: 69.

وهو سبحانه جعل للأشياء منافع وتأثيرات وخواصّ أودعها فيها، وتأثيراتها مشروطة بإذن اللّه تعالى وعدم تعلّق إرادته القاهرة بخلافة، كما أنه أجرى عادته بخلق الإنسان من اجتماع الذكر والأنثى، وتولّد النطفة منهما وقرارها في رحم الأُنثى، وتدرّجها علقة ومضغة وهكذا، فإذا أراد غير ذلك فهو قادر على أن يخلق من غير أب كعيسى (عليه السلام) ، ومن غير أُمّ أيضاً كآدم وحوّاء (عليهما السلام) ، وكخفّاش عيسى وطير إبراهيم وغير ذلك من المعجزات المتواترة عن الأنبياء في إحياء الموتى.

وجَعَلَ الإحراقَ في النار، فلمّا أراد غير ذلك، قال للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.

وجعل الثقيل يرسل في الماء، وينحدر من الهواء، فأظهر قدرته بمشي كثير على الماء ورفعهم إلى السماء.

وجعل في طبع الماء الإنحدار، فأجرى حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء حتّى تعبر بنو إسرائيل من البحر. ومع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شيء من المعجزات اليقينية المتواترة عن الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) » إلى آخر كلامه (رحمه اللّه) (1).

ثم إنّنا لو سلّمنا - جدلاً - بأن صفة العلّية (ذاتية) للعلل الطبيعية، فإننا نقول:

وجود المعلول أو (المسبَّب) يتوقّف على (سدّ جميع أبواب العدم) المشرعة عليه، فما لم تسدّ جميع هذه الأبواب لن يوجد المعلول، بينما

ص: 234


1- بحار الأنوار 57: 187-198.

يكفي انفتاح باب واحد من أبواب العدم في عدم وجود المعلول.

فإذا كانت هنالك مئة ثغرة في البلد يمكن أن يَنْفَذْ منها العدو للإحتلال، وكان المقصود (الحفاظ على استقلال البلد) فإذاً تحقيق هذا الهدف (الحفاظ على الإستقلال) يتوقّف على سدّ كلّ الثغرات المئة - التي يُهدّد من ناحيتها وجود الاستقلال - ولو فرض أنّنا سددنا (99) ثغرة وبقيت ثغرة واحدة، فإنّ ذلك لا يضمن بقاء الإستقلال أمام عدو طامع يريد الهيمنة على مقدَّرات البلد؛ إذ إنّه سوف ينفذ من هذه الثغرة الأخيرة.

وهنالك عوامل كثيرة متداخلة تشترك في صناعة الأهداف التي نتوخّاها ونحاول الوصول إليها، وربّما ترتقي هذه العوامل لتبلغ رقماً رهيباً لن يستطيع العقل الإحاطة به(1).

وهذه العوامل - وإن كان بعضها يقع ضمن دائرة اختيارنا - إلا أنّ الكثير منها لا تقع ضمن هذه الدائرة، بل هي منوطة بالعون الإلهي والمدد الإلهي. ولا أقلّ من ضرورة وجود (الحياة) و(القدرة) في من يتوخّى هدفاً مّا، حتى يمكنه الوصول إليه، وليست الحياة ولا القدرة بيده، بل هي مرهونة بالمشيئة الإلهية.

وعلى ضوء هاتين النقطتين نستطيع أن نعرف ضرورة الاستعانة باللّه

ص: 235


1- يقول الحاج السبزواري في منظومته: وليس في الوجود الاتفاقي***إذ كلُّ ما يحدُثُ فهو راقي لَِعلَلٍ بها وجودُهُ وَجَبْ***يقولُ الاتفاقَ جاهلُ السَّببُ شرح المنظومة: 122 (الطبعة الحجرية).

سبحانه - بل حصر الاستعانة به تعالى - في محاولة الوصول إلى أيّ هدف من أهدافنا؛ إذ

أزِمَّة الأُمورِ طُرّاً بِيَدِهْ***والكلُّ مُستمِدَّةٌ من مَدَدِهْ

وعلى ضوء ما سبق: نستطيع أن ندرك ضلالة مبدأ (التفويض).

وقد روي: أنه بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وجّه إليّ محمد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام) [الإمام الباقر (عليه السلام) ]، ولا تمجّه ولا تروِّعه، واقضِ له حوائجه. وقد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية [المفوضة] فحَصِرَ جميع من كان بالشام، فأعياهم جميعاً.

فقال: ما لهذا إلاّ محمد بن علي.

فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي (عليه السلام) إليه فأتاه صاحب المدينة بكتابه.

فقال له أبو جعفر[الباقر (عليه السلام) ]: إنّي شيخ كبير لا أقوى على الخروج، وهذا جعفر ابني يقوم مقامي.

فوجّهه إليه. فلمّا قدم على الأُموي إذ رآه لصغره، وكره أن يجمع بينه وبين القدري مخافة أن يغلبه!

وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدريّة، فلمّا كان الغد اجتمع الناس بحضرتهما فقال الأُموي لأبي عبد اللّه[الصادق (عليه السلام) ]: إنه قد أعيانا أمر هذا القدري، وإنّما كتبت إليك لأجمع بينك وبينه، فإنه لم يدع عندنا أحد إلا خصمه.

فقال: إنّ اللّه يكفيناه.

ص: 236

فلمّا اجتمعوا. قال القدري لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : سل عمّا شئت.

فقال له: اقرأ سورة الحمد.

فقرأها، وقال الأُمويّ - وأنا معه - ما في سورة الحمد علينا، إنّا لله وإنا إليه راجعون!

فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتّى بلغ قول اللّه تبارك وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

فقال له جعفر[الصادق (عليه السلام) ]: قف، من تستعين؟ وما حاجتك إلى المعوّنة؟ إن الأمر إليك! فبهت الذي كفر(1).

حصر الاستعانة باللّه لا ينافي التوسل بالأسباب الطبيعية

ومن الواضح: أن حصر الإستعانة باللّه لا ينافي التوسّل بالأسباب الطبيعية؛ إذ إنّ اللّه أبى أن يجري الأشياء إلاّ بأسبابها(2)، وقد قال سبحانه في ذي القرنين {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(3).

فاللازم على المؤمن أن يستخدم الأسباب الطبيعية في الوصول إلى أهدافه، لكن مع اعتقاده بأنّ اللّه سبحانه هو الذي منح الأسباب سَبَبِيَّتَها، وأنه تعالى يستطيع سلب هذه السببية متى أراد، أو تعطيل مفعولها متى شاء، بعدم سد أبواب العدم الأُخرى على المقصود.

وفي الروايات الكريمة إلماع إلى هذه الحقيقة:

ص: 237


1- البرهان 1: 52، وراجع بعض الحديث في نور الثقلين 1: 20.
2- بحار الأنوار 2: 90.
3- الكهف: 85.

1 - فعن الوليد بن صبيح، قال: كنت عند أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) وعنده حفنة من رطب، فجاء سائل فأعطاه، ثم جاء سائل آخر فأعطاه، ثم جاء آخر فأعطاه، ثم جاء آخر، فقال: وَسَعَّ اللّه عليك.

ثم قال: إنّ رجلاً لو كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألفاً ثم شاء أن لا يبقى منه شيء إلاّ قسمه في حقٍّ فَعَل، فيبقى لا مال له، فيكون من الثلاثة الذين يُردّ دعاؤهم عليهم.

قلت: جعلت فداك من هم؟

قال: رجل رزقه اللّه مالاً فأنفقه في وجوهه ثمّ قال: يا ربّ ارزقني.

ورجل دعا على امرأته فيقال له: ألم أجعل أمرها بيدك؟.

ورجل جلس في بيته وترك الطلب ثمّ قال: يا ربّ ارزقني. فيقول عزَّ وجلَّ: ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب للرزق(1).

وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: أصناف لا يستجاب لهم.

منهم من أدان رجلاً ديناً إلى أجل فلم يكتب عليه كتاباً، ولم يشهد عليه شهوداً. ورجل تؤذيه امرأته بكلّ ما تقدر عليه، وهو في ذلك يدعو اللّه عليها ويقول: اللّهّم أرحني منها، فهذا يقول اللّه له: عبدي أوما قلّدتك أمرها؟ فإن شئت خلّيتها وإن شئت أمسكتها.

ورجل رزقه اللّه تبارك وتعالى مالاً ثمّ أنفقه في البرّ والتقوى فلم يبق له شيء، وهو في ذلك يدعو اللّه أن يرزقه، فهنا يقول الربّ تبارك وتعالى: أولم أرزقك وأغنيتك، أفلا اقتصدت ولم تسرف، إنّي لا أُحبُّ المسرفين.

ص: 238


1- بحار الأنوار 90: 354.

ورجل قاعد في بيته وهو يدعو اللّه أن يرزقه، ولا يخرج ولا يطلب من فضل اللّه كما أمره اللّه، هذا يقول اللّه له: عبدي إنّي لم أحظر عليك الدنيا، ولم أرمك في جوارحك، وأرضي واسعة، فلا تخرج وتطلب الرزق، فإن حرمتك عذرتك، وإن رزقتك فهو الذي تريد(1).

3 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إنّ نبّياً من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتّى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني! فأوحى اللّه تعالى إليه: لا أشفيك حتّى تتداوى؛ فإن الشفاء منّي(2).

4 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء(3).

5 - سئل الإمام الصادق (عليه السلام) : عن الرجل يداويه اليهودي والنصراني؟

قال: لا بأس، إنّما الشفاء بيد اللّه(4).

6 - روي أنه قيل: يا رسول اللّه أرأيت رُقىً نسترقيها ودواء نتداوى به، هل يَردُّ من قضاء اللّه شيئاً؟. فقال: هي من أقدار اللّه تعالى(5).

حصر الاستعانة باللّه لا ينافي التوسُّل بالأسباب الغيبية
اشارة

لقد استدلّ الوهابيون وأمثالهم بهذه الآية ونحوها على أنّ التوسّل بغير اللّه سبحانه والاستعانة به شرك وكفر وضلال وانحراف، وقد اتّضح الجواب الإجمالي من خلال ما ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

ص: 239


1- بحار الأنوار 90: 355.
2- بحار الأنوار 59: 66.
3- بحار الأنوار 59: 68.
4- بحار الأنوار 59: 73.
5- بحار الأنوار 59: 77.

الْعَالَمِينَ} وما ذكرناه في الفصل السابق، ولكن لكي تتضّح الصورة بشكل أشمل نتحدّث في هذا الموضوع ضمن مقامات(1).

المقام الأوّل: في طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء

وقد منعه الوهابيون، واعتبروه كفراً وشركاً، وقالوا: إنّه نظير عمل المشركين الذين اتّخذوا أصنامهم واسطة للتقرّب من اللّه، قائلين: ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى اللّه زلفى(2).

ونقول في الجواب:

1 - إنّ الشفاعة عبارة عن طلب الشفيع - كالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - من المشفوع إليه - وهو اللّه تعالى - أمراً للمشفوع له - وهو المذنب مثلاً - .

فشفاعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبارة عن طلبه من اللّه تعالى غفران ذنب المذنب وقضاء حاجة المحتاج ونحو ذلك. فالشفاعة نوع من الدعاء.

وقد حكى النيسابوري عن مُقاتل أنّه قال: الشفاعة إلى اللّه إنَّما هي الدعوة لمسلم.

فطلب الشفاعة من الغير كطلب الدعاء منه، بل هو نوع من أنواعه وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أيَّ مؤمن كان، واعترف بذلك الوهابيون، وأقرّ به ابن تيمية، بل ذلك من الأُمور البديهيّة في الإسلام.

وعلى أساس ذلك: فيجوز طلب الشفاعة من كلّ مؤمن، فضلاً عن

ص: 240


1- اعتمدنا في هذا الفصل على كتاب «كشف الإرتياب» للسيد الأمين (رحمه اللّه) .
2- راجع كلماتهم في ذلك في رسالة (أربع قواعد) و(كشف الشبهات) و(زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور) وغيرها.

الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) .

وقد يُتساءل: إنّ (الشفيع) لا بدّ أن يكون له قدر وجاه عند المشفوع إليه أي اللّه سبحانه ؟

والجواب: إنّ اللّه تعالى جعل لكلّ مؤمن حرمة يُرجى بها قبول شفاعته، واستجابة دعائه.

وقد ثبتت شفاعة الملائكة بنصّ القرآن الكريم، حيث يقول: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1).

بل روي أنّ الحجر الأسود شافع مشفّع.

ففي الجامع الصغير للسيوطي: الشيرازي في الألقاب وأبو نعيم في مسلسلاته.

وقال: صحيح ثابت عن عليّ: أشهِدوا هذا الحجر خيراً فإنّه يوم القيامة شافع مشفّع، له لسان وشفتان يشهد لمن استلمه(2). فإشهاد الحجر الخير ليشفع في معنى طلب الشفاعة منه، مع أنّه جماد، ولو كان ذلك شركاً لما

ص: 241


1- غافر: 7-9.
2- شرح الجامع الصغير: 225.

أمر به، ولو أمر به - مع كونه كذلك - لم يتغيّر بالأمر عن واقعه، لأن الحكم لا يغيّر الموضوع كما هو مقرّر في محلّه.

فظهر أنّ الشفاعة من قبيل الدعاء، وطلب الدعاء من الأحياء جائز بالاتفاق، وأمّا من الأموات فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

2 - دلّت مجموعة من الأخبار على جواز طلب الشفاعة من النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغيره لأُمور الدنيا والآخرة.

ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] أنه قال: «ما من ميّت يموت يُصلّي عليه أُمّة من الناس يبلغون مئئة كلّهم يشفعون له إلاّ شُفِّعوا فيه».

فإذا أوصى رجل أن يقوم مئة من إخوانه على جنازته ويشفعوا له يكون مشركاً وضّالاً؟.

وعن (الترمذي) عن أنس، قال: سألت النبيَّ صلّى اللّه عليه [وآله] أن يشفع لي يوم القيامة.

فقال: أنا فاعل.

قلت: فأين أطلبك؟

قال: أوّلاً على الصراط.

قلت: فإن لم ألقك؟

قال: عند الميزان.

قلت: فإن لم ألقك؟

قال: عند الحوض فإنّي لا أُخطيء هذه المواضع.

ص: 242

وقد طلب سواد بن قارب من النبيّ صلى اللّه عليه [وآله] أن يشفع له بقوله:

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة***بِمُغنٍ فتيلاً عن سوادِ بن قاربِ

ولم ينكر عليه النبيّ صلى اللّه عليه [وآله] قوله.

وفي السيرة الحلبية أن تُبّعاً الحميري آمن بالنبيّ صلّى اللّه عليه [وآله] قبل مولده، وكتب كتاباً فوصل النبيّ صلى اللّه عليه [وآله] بعد مبعثه وقد جاء في الكتاب (وإن لم أدركك فأشفع لي يوم القيامة ولا تنسني).

فقال النبي صلّى اللّه عليه [وآله]: «مرحباً بتبّع الأخ الصالح» - ثلاث مرّات -(1).

ولو كان ذلك شركاً لأنكره النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يرحب بصاحبه، ولا سمّاه ب(الأخ الصالح).

وذكر ابن تيمية أنه ورد في الحديث: أنّ أعرابيّاً قال للنبيّ صلى اللّه عليه [وآله] جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادعُ اللّه لنا، فإنّا نستشفع باللّه عليك وبك على اللّه، فسبّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] حتى عرف ذلك في وجوه صحابه، وقال: ويحك، إنّ اللّه لا يستشفع به أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك. قال ابن تيمية: فأقره على قوله: (إنا نستشفع بك على اللّه) وأنكر عليه (نستشفع باللّه عليك) لأنّ الشافع يسأل عن المشفوع إليه والعبد يسأل ربّه ويستشفع إليه، والربّ تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به(2).

فإقرار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له على قوله: (إنّا نستشفع بك على اللّه) دليل جواز

ص: 243


1- السيرة الحلبية 2: 88.
2- رسالة زيارة القبور: 155.

طلب الشفاعة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دار الدنيا.

ولو كان طلب الشفاعة من غير اللّه شركاً لم يفرّق فيه بين الحيّ والميّت..فقوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وقوله: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} لو دلَّ على المنع من الطلب من غير اللّه لحرم الطلب من الحيّ والميّت، وإن لم يدلّ على المنع فلا فرق في الجواز بين الحيّ والميّت، فالتفريق بين الحيّ والميّت بهذا اللّحاظ لا مبرّر له.

مع أنه وردت روايات في طلب الشفاعة منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد موته: فقد ورد أن ابن حنيف عَلَّمَ رجلاً أن يقول في دعائه في حكومة عثمان: (يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي) ففعل ذلك فقضيت حاجته - وسوف نذكر نصّ الرواية في المقام الثالث إن شاء اللّه تعالى - .

وفي (خلاصة الكلام) صَحَّ أنه لما توفى النبيّ صلّى اللّه عليه [وآله ] أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ثمّ أكبَّ عليه فقبله وقال: بأبي أنت وأُمّي، طبت حيّاً وميّتاً، اذكرنا يا محمّد عند ربّك ولنكن من بالك.

وفيه أيضاً عن شرح المواهب للزرقاني: أن الداعي إذا قال: اللّهّم إنّي استشفع إليك بنبّيك، يا نبيّ الرحمة اشفع لي عند ربّك، استُجيبَ له.

المقام الثاني: في الاستغاثة بغير اللّه والاستعانة به وطلب الحوائج منه

وقد صرّح الوهابيون - وأمثالهم - بأنهّا موجبة للشرك والكفر(1).

والجواب:

ص: 244


1- راجع: الهداية السنية:40، ورسالة الواسطة، ورسالة زيارة القبور: 157، ورسالة كشف الشبهات: 62-64.

أوّلاً: إنّ الشرك باللّه يتحقّق عندما يعتبر غير اللّه نداً لله وقادراً على التصرف في الأُمور الكونيّة خارج دائرة الإذن الإلهي.. وكلُّ مسلم يعتقد أن من عدا اللّه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فالمسلمون الذين يستعينون بغير اللّه إنّما يستعينون بهم باعتبار أنّ اللّه سبحانه أقدرهم عليها وأذن لهم فيها، كطلبنا من الطبيب أن يعالج المريض، أو من البنّاء أن يبني الدار، ولذلك لو سألت من يستعين بغير اللّه: هل تعتقد أنّ هؤلاء يقدرون على ما تطلبه منهم بأنفسهم، وبدون إذن اللّه سبحانه، وبدون إعطائه تعالى القدرة لهم؟ لأجابك بالنفي القاطع.

ثانياً: إنّنا نجد في القرآن الكريم: إسناد كثير من الأفعال الكونيّة إلى غير اللّه سبحانه.

قال اللّه تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}(1) فأسند الرزق إلى غير اللّه، مع أنّ اللّه هو الرزّاق.

وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}(2). مع أنّ الإغناء بيد اللّه وحده.

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}(3).

وقال سبحانه حكاية عن عيسى (عليه السلام) : {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ

ص: 245


1- النساء: 8.
2- التوبة: 74.
3- التوبة: 59.

الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}.

فنسب الخلق والإبراء والإحياء إلى عيسى (عليه السلام) مع أنّها كلّها بيد اللّه.

وقال سبحانه في صفة الملائكة: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}(1).

وقال تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(2) فأسند تدبير الأمر وقبض الروح إلى الملائكة.

فكيف لم يكن ذلك كلُّه شركاً، وكان طلب الشفاء أو الرزق أو نحوهما من النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الوليّ (عليه السلام) شركاً؟

ثالثاً: هنالك روايات كثيرة تدلّ على جواز الاستعانة بغير اللّه، ففي (خلاصة الكلام): روى ابن السنّي عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله ]: إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد (يا عباد اللّه احبسوا) فإن لله عباداً يجيبونه.

وفي حديث آخر رواه الطبراني أنّه صلّى اللّه عليه [وآله ] قال: إذا أَضَلَّ أحدكم شيئاً، أو أراد عوناً وهو بأرض ليس فيها أنيس، فليقل: يا عباد اللّه أعينوني - وفي رواية أغيثوني - فإن لله عباداً لا ترونهم.

وقد ذكر ذلك فقهاء العامّة في (آداب السفر).

وفي (خلاصة الكلام) أنه صحّ أنّ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه [وآله ] لما قاتلوا مسيلمة الكذّاب كان شعارهم (وامحمداه وامحمداه).

ص: 246


1- النازعات: 5.
2- الأنعام: 61.

وفي الشفا للقاضي عيّاض أنّ عبد اللّه بن عمر خذلت رجله مرّة، فقيل له: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال (وامحمداه) فانطلقت رجله.

المقام الثالث: في التوسل إلى اللّه تعالى بالأنبياء والأولياء

وقد اعتبره الوهابيون - وأمثالهم - شركاً وضلالاً(1).

والجواب:

أ - التوسُّل ثابت بنصّ القرآن الكريم، حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(2).

والآية بإطلاقها شاملة لكلّ توسُّل إليه تعالى بما هو كريم لديه.

ب - والتوسُّل ثابت أيضاً بالروايات المتظافرة.

فعن القسطلاني في شرح صحيح البخاري: أنَّ بني اسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيّهم.

وفي صحيح البخاري: أنّ عمر استسقى بالعباس، فقال: اللّهَّم إنّا كنّا إذا أجدبنا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فَاسْقِنا فَيُسْقَوْن.

وفي سنن ابن ماجه عن النبيّ صلىّ اللّه عليه [وآله] في دعاء الخارج للصلاة: (اللّهّم إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وبحقّ ممشاي هذا).

وروى جماعة منهم الحاكم - وصحّح إسناده - عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لما اقترف آدم الخطيئة، قال: «يا ربّ أسألك بحقّ

ص: 247


1- راجع كتاب (التوحيد) لمحمد بن عبد الوهاب و(تطهير الإعتقاد) للصنعاني و (زيارة القبور) لابن تيمية: 164.
2- المائدة: 35.

محمد لمّا غفرت لي).. إلى آخر الحديث، وفيه أنّ اللّه غفر له بذلك.

وفي (خلاصة الكلام): أنه قد روى هذا الحديث البيهقي بإسناد صحيح.

وفيها أيضاً: قال بعض المفسّرين في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}: إنّ الكلمات هي توسُّله بالنبيِّ صلّى اللّه عليه [وآله ].

وروى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف أنَّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائتِ الميضاة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلِّ ركعتين، ثم قل: «اللّهّم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبّينا محمد نبيِّ الرحمة، يا محمَّد إنّي أتوجّه بك إلى ربِّك أن تقضي حاجتي» وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتّى أخذ بيده فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة.

فقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له.

ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتّى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ خرج الرجل من عنده فلقى ابن حنيف، فقال: جزاك اللّه خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيَّ.

فقال ابن حنيف: واللّهِ ما كلمك ولكن شهدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره....

وروى الطبراني في الكبير والأوسط عن أنس بن مالك، قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] فجلس عند

ص: 248

رأسها، فقال: رحمكِ اللّه يا أُمّي بعد أُمّي، وذكر ثناءه عليها وتكفينها بِبُرده، ثم دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطّاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا الّلحد حفره رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله ] بيده، وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] فاضطجع فيه، ثم قال: (اللّه الذي يُحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت، أغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحقّ نبّيك والأنبياء الّذين من قبلي). وقد صحّح الطبراني هذا الحديث، وكذا ابن حبّان والحاكم.

والحديث في هذا الباب طويل نكتفي منه بهذا القدر(1).

تتمة

في حياة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد موته، وحياة جميع الأنبياء (عليهم السلام) :

وقد وردت بذلك نصوص كثيرة.

منها ما رواه أبو داود بسند صحيح - كما قال السُّبكي - عن النبيّ صلّى اللّه عليه [وآله ] أنّه قال: ما من أحد يُسلّم عليَّ إلاّ ردَّ اللّه روحي حتّى أردَّ عليه السلام.

ومنها: ما رواه ابن عدي في كامله عن ثابت عن أنس عنه صلَّى اللّه عليه [وآله ]: الأنبياءُ أحياءٌ في قبورهم.

ورواه أبو يعلي برجال ثقات، ورواه البيهقي وصحّحه، إلى غيرها من

ص: 249


1- ومن أراد التفصيل فليراجع (كشف الإرتياب): 238-328. وأيضاً كتاب (التوسل بالنبيّ وجهلة الوهابيين) لأبي حامد بن مرزوق.

الروايات وهي كثيرة(1).

ويكفي في ذلك قول اللّه تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.

ولا شكّ أّن الأنبياء أفضل من الشُّهداء.

ص: 250


1- راجع كشف الأرتياب: 109-114.

الآيتان (6-7) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}

المفردات

{اهْدِنَا}: أرشدنا.

{الصِّرَاطِ}: الطريق.

{الْمُسْتَقِيمَ}: المستوى الذي لا اعوجاج له.

كيف يطلب المهتدي الهداية؟
اشارة

بعد أن أعلن المؤمن انخراطه في سلك (الموحّدين) - توحيداً في (العبادة) متمّثلاً في قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وتوحيداً في (الأفعال) متمثّلاً في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} - بعد ذلك يتّجه إلى اللّه سبحانه ليطلب منه أن يهديه (الصراط المستقيم)، فإذا كان المؤمن يستمّد العون الإلهي في كلّ شؤون حياته بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنّ أجدر شيء يتوجّه إلى اللّه فيه هو أن يعينه على السير في {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

والسؤال هو: كيف يطلب المؤمن في هذه المرحلة الهداية مع أنّه مهديّ بالفعل؟ أليس ذلك تحصيلاً للحاصل؟.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بإجابتين:

ص: 251

الإجابة الأُولى
اشارة

إنّ الهداية صفة قابلة للزوال، لذا فإنّ المؤمن يطلب من اللّه سبحانه أن يديم له هذه الصفة، ويثبّته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ولتوضيح ذلك نقول: الصفات تتنّوع إلى نوعين:

النوع الأوّل: الصفات التي يستحيل انفكاكها عن موصوفها، فما دام (الموصوف) ثابتاً ف(الوصف) ثابت أيضاً، نعم يمكن زوال الوصف بزوال موصوفه، ولكنّ ذلك لا ينافي استحالة الإنفكاك؛ إذ إنّما تُفرض الإستحالة في ظرف بقاء الموصوف. ولا يكون ذلك إلاّ في (الأوصاف الذاتية).

وخصيصة الذاتي: عدم افتقاره إلى علّة وراء علّة وجود الذات، فَعِلّة وجود الذات كافية في وجود الوصف الذاتي، بل لا يعقل وجود علّة تفيض الوجود على الذاتي بعد وجود علّة الذات؛ لكون ذلك تحصيلاً للحاصل.

إذ بوجود (الذات) - بالذات - يوجد (الذاتي) - بالتبع - فلا معنى لإفاضة الوجود عليه مرة أُخرى.

ويمكن أن يمثَّل لذلك ب(زوجية الأربعة) فهي وصف ذاتي للأربعة يستحيل انفكاكها عنها ما دامت الأربعة موجودة، كما أنّها لا تفتقر إلى علّة وراء علّة وجود الأربعة.

وهكذا الأمر في «إمكان الممكن» ونحو ذلك من الصفات الذاتيّة.

النوع الثاني: الصفات التي لا يستحيل انفكاكها عن موصوفها، فيمكن زوالها وإن كان الموصوف باقياً.

ص: 252

ولطروّ هذه الصفات علل وراء علل وجود الذات، فهي تحتاج إلى عليّة مستّقلة لكي توجد - وإن اتّحد شخص العلّة المفيضة - كما لا بد من استمرار العلّة لكي تستمر، فإنّ العلّة الموجودة ليست كافية في بقاء المعلول ما لم تكن هنالك علّة مبقيةٌ أيضاً - سواء اتَّحدت مع العلَّة الموجدة أم اختلفت - ومتى قطعت العلّة فيضها عن المعلول فإنّه سوف ينعدم فوراً - كما تنعدم صورنا الذهنّية بمجرّد سلب التوجُّه عنها - .

ويمكن أن نمّثل لذلك ب- (علم) الإنسان و(قدرته) ونحو ذلك من صفاته العَرَضية.

وصفة (الهداية) من النوع الثاني؛ لوجود خواصّه فيها، ولذا فإنّ من الممكن جدّاً أن يكون الإنسان (مهديّاً) في حقبة من حياته، ثمّ تسلب من هذه الصفة ليخرج عن (الصراط المستقيم) إلى طرق الضلال والانحراف.

ومن هنا: كان المؤمن يتوجّه إلى اللّه سبحانه باستمرار في كلّ يوم عشر مرّات - على الأقل - في صلواته الخمس المفروضة، ليقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. أي: ثبّتنا على الصراط المستقيم.

وهذا المعنى هو المرويّ عن الإمام العسكري (عليه السلام) ، حيث قال في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا، حتى نُطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في الآية: يقول: أرشدنا إلى الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلغ دينك، والمانع

ص: 253


1- نور الثقلين 1: 22؛ البرهان 1: 50.

من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك(1).

وقد أشارت الأحاديث الكريمة إلى أنّ الإيمان يمكن أن يُسلب من المؤمن.

فعن أبي الحسن الأوّل [الإمام كاظم] (عليه السلام) : أنه سُئِلَ عن قول اللّه {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}؟

قال: المستقر الإيمان الثابت، والمستودع المعار(2).

وعن أبي عبد اللّه [الإمام الصادق] (عليه السلام) قال: إنّ العبد يصبح مؤمناً ويُمسي كافراً، ويُصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وقوم يُعارون الإيمان ثمَّ يُسلَبونه، ويُسمَّون المُعارين، ثمّ قال (عليه السلام) : فلان منهم(3).

كما أشارت الروايات إلى بعض العوامل التي تسبب ثبات الإيمان، نذكر منها الرواية التالية:

عن أبي عبد اللّه[الصادق] (عليه السلام) ، قال: إنّ اللّه جبل(4)النبيين على نبوَّتهم فلا يرتُّدون أبداً، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتّدون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتّدون أبداً، ومنهم من أعير الإيمان عارية، فإذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان(5).

ص: 254


1- نور الثقلين 1: 22.
2- بحار الأنوار 66: 223.
3- بحار الأنوار 66: 226.
4- أي خلقهم.
5- بحار الأنوار 66: 220-221.

ولعلّ ذلك من أسباب توجُّه المؤمن إلى اللّه سبحانه كلَّ يوم، ليدعوه قائلاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

نماذج

ونجد في التاريخ الكثير من النماذج التي سُلبت منها نعمة الهداية، فضلُّوا عن الصراط المستقيم، نذكر منهم:

1 - الزبير بن العوام(1).

2 - الشلمغاني(2).

3 - أبو الخطّاب(3).

4 - المغيرة بن سعد(4).

5 - علي بن أبي حمزة البطائني.

6 - زياد بن مروان القندي.

7 - عثمان بن عيسى الرواسي(5).

8 - عابد برصيصا(6).

إلى غير ذلك من النماذج وهي كثيرة - أعاذنا اللّه من سوء العاقبة، وجعل عواقب أُمورنا خيراً، بمحمَّد وآله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ص: 255


1- سفينة البحار 1: 543-545؛ بحار الأنوار 66: 222-223.
2- سفينة البحار 1: 713-714.
3- سفينة البحار 1: 401؛ بحار الأنوار 66: 219-220.
4- راجع أحواله في سفينة البحار 1: 410 (مادة خطب).
5- راجع أحوال الثلاثة في بحار الأنوار 48: 250-275.
6- مجمع البيان 9-10: 397.
تنبيه

ولا يخفى أنّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) معصومون، ولا يمكن أن تسلب منهم نعمة (الهداية) - وإن لم يسلبهم ذلك اختيارهم على ما فُصِّل في محلَه - .

فطلبهم من اللّه الهداية ربما يكون بمعنى: طلب ثبات تلك الدرجة من الهداية التي وهبهم اللّه إياها.

وتوضيح ذلك: إنّ الحقائق على نوعين:

1 - حقائق تشكيكية.

2 - وحقائق متواطية.

فالحقائق التشكيكية حقائق ذات مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف، بينما الحقائق المتواطية حقائق ذات مرتبة واحدة.

فمثلاً: (الماء) عبارة عن السائل المركّب من ذرّة أُوكسيجين وذرّتي هيدروجين، وهذه الحقيقة ذات مصاديق متعدّدة، إلاّ أنّ جميع هذه المصاديق في عرض واحد بلحاظ تلك الطبيعة الكليّة.. فماء البحر وماء النهر وماء المطر وكلّها في رتبة واحدة بلحاظ (المائيّة)، فكلّها مكوّنة من ذرّة أوكسجين وذرّتي هيدروجين، وإذا كان ثمّة اختلاف بينها فإنّما هو اختلاف بأُمور أُخر كالحرارة والبرودة والعذوبة والملوحة وما أشبه، ولا يوجد اختلاف بينها بلحاظ (الحقيقة المائية).

بينما (النور) حقيقة ذات مراتب مختلفة، فالنور المتراقص في أطراف عود الكبريت - وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة - نور، ونور الشمس أيضاً نور، وتجمع هذين المصداقين طبيعة النور، وتفرّق بينهما أيضاً طبيعة النور،

ص: 256

ف(نورية) هذا الفرد أكثر من (نورّية) الفرد الآخر، فما به الإجتماع عين ما به الافتراق.

و(الهداية) تقع ضمن دائرة (الحقائق التشكيكية) فلها مراتب مختلفة، ربّما لا تدخل تحت العدّ والإحصاء.

قال اللّه سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}(1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ}(2).

وعندما يطلب الأنبياء (عليهم السلام) الثبات على الهداية فإنّهم يطلبون بقاء تلك المنزلة الرفيعة التي منَّ اللّه بها عليهم، لكي لا تزول تلك المرتبة بسبب ترك الأُولى أو ما أشبه ذلك.

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: >كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بيت أُمّ سلَمة في ليلتها، ففقدته من الفراش، فقامت تطلبه في جوانب البيت، حتّى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي وهو يقول: اللّهّم لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً، اللّهمَّ لا تشمت بي عدوّاً ولا حاسداً أبداً، اللّهّم ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللّهَّم ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً.

قال: فانصرفت أُمّ سلمة تبكي، حتّى انصرف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لبكائها فقال لها: ما يبكيك يا أُمّ سلمة؟

ص: 257


1- البقرة: 253.
2- الإسراء: 55.

فقالت: بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه، ولم لا أبكي، وأنت بالمكان الذي أنت به من اللّه، وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، تسأله أن لا يشمت بك عدوّاً أبداً، وأن لا يرَّدك في سوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً؟

فقال: يا أُمّ سلمة، وما يؤمنني؟ وإنّما وكل اللّه يونس بن متّى إلى نفسه طرفة عين وكان ما كان<(1).

الإجابة الثانية

إنّ (الصراط المستقيم) مفهوم عام(2)يشمل ما لا يُعدّ ولا يحصى من المصاديق الخارجية.

فلكلّ شيء صراط مستقيم، وله أيضاً سبل منحرفة كثيرة تتناثر على جانبيه.

فكلّ عقيدة تؤمن بها. وكلّ فكرة تنبض في ذهنك. وكلّ عمل تقوم به. وكلّ موقف تتخذه.. و.. و.. كلُّها يمكن أن تقع ضمن الصراط المستقيم، كما يمكن أن تقع ضمن (السبل المنحرفة).

إنّ أمام الإنسان - في كلّ لحظة من لحظات حياته - خيارات متعددة، والإنسان يجب أن ينتخب إحدى هذه الخيارات.. وهنالك أسئلة كثيرة تنتصب أمامه في كلّ لحظة، تتناول كلّ جزئيّة من جزئيات حياته.. وفي كلّ لحظة يمكن أن يختار السير في

ص: 258


1- بحار الأنوار 16: 217-218.
2- (مطلق) حسب التعبير المتداول في (علم الأُُصول).

الصراط المستقيم، أو يختار السير في السبل المنحرفة، ومن هنا: فإنّه يسأل من اللّه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم في كلّ فكرة وعقيدة، وعمل وموقف.

وحيث أنه لم يقيّد (الصراط المستقيم) في الآية الكريمة بقيد خاص، فإنّه يفيد الشمول لكلّ شيء، فإنّ حذف المتعلَّق يفيد العموم - كما ذكره علماء البلاغة - .

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} استرشاد لدينه، واعتصام بحبله، واستزادة في المعرفة لرِّبه عزَّ وجل ولعظمته وكبريائه(1).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) : - في حديث - : «فأمّا الطريق المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل»(2).

الصراط المستقيم بين المنهج والنموذج

والقرآن الكريم في الوقت الذي يحدّد في الآيات الأُخَر طبيعة الصراط المستقيم فيقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(3). ويقول: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(4). ويقول - على لسان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - :

ص: 259


1- نور الثقلين 1: 20؛ البرهان 1: 50.
2- نور الثقلين 1: 22.
3- يس: 60-61.
4- آل عمران: 19.

{وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(1).

في الوقت ذاته يربط هذا (الصراط المستقيم) ب(عيّنات خارجيّة) تجسّد السير في هذا الصراط، وتكون نموذجاً يُحتذى به في المسير، فيصف الصراط المستقيم بأنه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.

ويقول في آية أُخرى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(2).

وقد روي عن المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الصراط فقال: «هو الطريق إلى معرفة اللّه عزَّ وجلّ».

وأضاف: «وهما صراطان؛ صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم»(3).

وقد روي في وصف صراط الآخرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه: «أَدَقُّ من الشعر وأَحَدُّ من السيف، فمنهم من يمرُّ عليه مثل البرق، ومنهم من يمرُّ عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ عليه ماشياً، ومنهم من يمرّ عليه حبواً(4)، ومنهم من يمرُّ عليه متعلّقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك منه شيئاً»(5).

ص: 260


1- الزخرف: 61.
2- الأنعام: 161.
3- نور الثقلين 1: 21؛ البرهان 1: 50.
4- حبا حبواً: مشى على يديه وبطنه.
5- نور الثقلين 1: 21؛ البرهان 1: 47.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يعني: محمّداً وذرّيته صلوات اللّه عليهم(1).

ذلك أنّ هنالك حقيقتين:

1 - المنهج.

2 - النموذج.

فالمنهج يتمثّل في الإطار النظري للدين.

أمّا النموذج فيتمثّل في التطبيق الخارجي للدين.

والمنهج لا يستطيع بمفرده أن يحرّك الأجيال.. كما لا يمكن أن يحدّد بوضوح كاملٍ معالم الطريق.

ومن هنا جاء الربط القرآني بين (المنهج) و(النموذج) في هاتين الآيتين الكريمتين.

مَنْ هم الذين أنعم اللّه عليهم؟

لا يوجد هنالك شخص إلاّ وهو مغمور بالنعم الإلهية، ولا أقلّ من نعمة (الوجود)، فكلّ البشر من (الذين أنعم اللّه عليهم)، إلاّ أنّ النعم لها درجات فهنالك نعمة (الهداية الربانية)، وهنالك نَعِم (الجاه والثروة والصحّة و.. و..). وهذه النِّعم وإن كانت نعِماً عندما ينظر إليها في حدّ ذاتها، إلاّ أنّها لا تعتبر شيئاً عندما تقاس بنعمة الهداية الإلهيّة.. لسمّو مقامها، ودوام آثارها، بعكس النِّعم الأُخرى؛ إذ أنّها وإن كانت نعِماً عندما ننظر إليها نظرة (ذاتية) إلاَّ أنها لا تعتبر كذلك عندما ننظر إليها بنظرة (قياسية)، وذلك تنزيلاً لفاقد الوصف

ص: 261


1- نور الثقلين 1: 23.

- أي الكمال - منزلة فاقد الأصل - أي الذات - .

من هنا كان المراد بقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} النعمة الخاصّة التي اختصّ اللّه بها أنبياءه وأولياءه، لا النعمة العامّة التي يشترك فيها الجميع.

وقد ورد في الحديث الشريف عن النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: «صراط الأنبياء وهم الذين أنعم اللّه عليهم»(1).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال في الآية: «ليس هؤلاء المُنعَم عليهم بالمال وصحّة البدن، وإن كان كلّ هذه نعمة من اللّه ظاهرة، ألا ترون أنّ هؤلاء قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً، فما ندبتم إلى أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالإيمان باللّه وتصديق رسوله وبالولاية لمحمّد وآله الطيبين»(2).

الفرق بين {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و{الضَّالِّينَ}
اشارة

والنسبة المنطقية بين (المغضوب عليهم) و(الضالين) هي (العموم المطلق) فكلُّ مغضوب عليه فهو ضالّ وليس كلُّ ضالّ مغضوباً عليه(3).

وذلك لأنّ الإنحراف على نوعين:

1 - الانحراف التقصيري

ويتحقّق ذلك في موردين:

ص: 262


1- نور الثقلين 1: 20.
2- نور الثقلين 1: 20.
3- راجع: تقريب القرآن 1: 35.

أ - حينما يعرف الإنسان الحقّ، ويُعرض عنه لوجود (عوامل) معيّنة تضغط عليه لكي يسلك طريق الضلال - عن سابق عمد وتصميم - كحبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، وحبّ الرئاسة، وما أشبه ذلك.

ويطلق على هذا النوع من الانحراف (الانحراف الواعي).

قال سبحانه وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1).

ب - حينما يجهل الإنسان الحقّ، ولكنّه يكون مقصِّراً في المقدِّمات الموصلة إلى الحقّ، كمن رفض الاستماع إلى كلمة الحقّ، فظلّ سادراً في ضلاله الموروث.

في هذه الحالة يمتنع على مثل هذا الشخص الوصول إلى الهدى، ولكنّ هذا الامتناع (امتناع بالاختيار) و(الامتناع بالإختيار لا ينافي الاختيار) كما أن (الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار) فيحلّ عليه الغضب الإلهي {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}(2).

2 - الانحراف القصوري

ويتحقّق ذلك حينما يكون ضلال الفرد منبعثاً من وجود حواجز تمنعه من الوصول إلى (الحق)، دون أن يكون له أيُّ تقصير في ذلك ففي هذه الحالة يكون الفرد (ضالاً) ولكن بدون أن يكون (مغضوباً عليه) لعدم فعله ما يوجب الغضب الإلهي. فتأمّل.

ص: 263


1- النمل: 14.
2- طه: 81.

وفي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} توكيد في السؤال والرغبة، وذكر لما تقدّم من نعمه على أوليائه، ورغبة في مثل تلك النِّعم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفِّين به وبأمره ونهيه.

{وَلاَ الضَّالِّينَ} اعتصام من أن يكون من الذين ضلُّوا عن سبيله من غير معرفة، وهم يحسبون أنَّهم يُحسنون صنعاً(1).

الخوارج مصداق بارز للضلال

وقد كان كثير من الخوارج من الذين انطبق عليهم قول اللّه سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(2).

وقد تلا رجل الآية بحضرة علي (عليه السلام) فقال علي (عليه السلام) : أهل الحروراء منهم(3).

وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»(4).

قال ابن أبي الحديد: «مراده أنّ الخوارج ضلُّوا بشبهة دخلت عليهم.. وأمّا معاوية فلم يكن يطلب الحقّ، وإنّما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد

ص: 264


1- نور الثقلين 1: 24؛ البرهان 1: 50.
2- الكهف: 103-104.
3- شرح نهج البلاغة 2: 278.
4- شرح نهج البلاغة 5: 78.

بناه على شبهة، وأحواله كانت تدلّ على ذلك.... وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه وتحارب الخوارج عليه وإن كان أهل ضلال»(1).

ولمّا خرج على معاوية بالكوفة بعض الخوارج، قال معاوية للإمام الحسن (عليه السلام) : اخرج إليهم وقاتلهم.

فقال (عليه السلام) : يأبى اللّه لي بذلك.

قال: فلم، أليس هم أعداؤك وأعدائي؟

فقال (عليه السلام) : نعم يا معاوية، ولكن ليس من طلب الحقَّ فأخطأه كمن طلب الباطل فوجده!. فأسكت معاوية(2).

ونذكر في ما يلي نماذج من أعمالهم:

1 - فقد لقيهم عبد اللّه بن خبّاب وهو على حمار وفي عنقه مصحف ومعه امرأته وهي حامل.

فقالوا له: إنّ هذا القرآن الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك.

ثم سألوه: ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟

فقال: إنّ علياً أعلم باللّه، وأشدّ توقيّاً على دينه، وأنفذ بصيرة.

فقالوا: إنّك لست تتّبع الهدى، وإنّما تتبع الرجال على أسمائهم.

ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه(3).

2 - ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة، فوضعها في فيه

ص: 265


1- شرح نهج البلاغة 5: 78.
2- سفينة البحار 1: 384.
3- شرح نهج البلاغة 2: 281-282؛ سفينة البحار 1: 283.

فصاحوا به، فلفظها تورُّعاً!(1).

3 - وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله، وقالوا: هذا فساد في الأرض، وأنكروا قتل الخنزير(2).

4 - وساوموا رجلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له فقال: هي لكم.

فقالوا: ما كنا لنأخذه إلاّ بثمن!

فقال: واعجباه! أتقتلون مثل عبد اللّه بن خبّاب، ولا تقبلون نخلة إلاّ بثمن!(3).

5 - وأصابوا في طريقهم إلى النهروان مُسلماً ونصرانيّاً، فقتلوا المسلم واستوصوا بالنصرانيّ وقالوا احفظوا ذمّة نبيكم!(4).

6 - وروى أبو عبيدة قال: طعن واحد من الخوارج يوم النهروان فمشى في الرمح - وهو شاهر سيفه - إلى أن وصل إلى طاعنه فقتله وهو يقرأ: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى}(5).

7 - ولما حاجّهم أمير المؤمنين (عليه السلام) تقدّم إليه عبد اللّه بن وهب وذو الثدية حرقوص وقالوا: ما نريد بقتالنا إيّاك إلاّ وجه اللّه والدار الآخرة!.

فقال علي (عليه السلام) : قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً - إلى آخر الآية

ص: 266


1- شرح نهج البلاغة 2: 281-282؛ سفينة البحار 1: 383.
2- شرح نهج البلاغة 2: 281-282؛ سفينة البحار 1: 383.
3- شرح نهج البلاغة 2: 282.
4- سفينة البحار 1: 383.
5- سفينة البحار 1: 383.

الكريمة(1).

8 - وروي أنّه خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد (رحمه اللّه) - وكان من خيار شيعته ومحبّيه - فوصلَ في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}. بصوت شجّي حزين. فاستحسن كميل ذلك في باطنه، وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً.

فالتفت صلوات اللّه عليه إليه وقال: يا كميل لا يعجبك طنطنة الرجل، إنّه من أهل النار! سأُنبؤك فيما بعد.

فتحيّر كميل لمكاشفته له على ما في باطنه، ولإخباره عن الرجل بدخول النار مع كونه في تلك الحالة الحسنة.

ومضت مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، ووقعت حرب صفّين، ولمّا انتهت التفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى كميل وهو واقف بين يديه ووضع سيفه على رأس من تلك الرؤوس، فقال: يا كميل، أمّن هو قانت آناء الليل ( أي: هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك اللّيلة فأعجبك حاله) فقبّل كميل قدميه واستغفر اللّه(2).

عدم تغيّر الآثار الوضعية للضلال بالعلم والجهل

ولا يخفىّ أن (المؤاخذة القانونية) ترتفع عن (الضال) غير المقصِّر، فهو

ص: 267


1- سفينة البحار 1: 384.
2- سفينة البحار 2: 496-497.

لا يستحّق العقاب لضلاله، ولكن (الآثار الوضعية) للضلال سوف تترتّب عليه قهراً.

فمن شرب الخمر سوف يصاب بالسكر، وإن تصوّر أنّها ماء قراح.

ومن ابتلع السمّ القاتل سوف يهلك، وإن تصور أنّه دواء ناجع.

ومن سار في طريق الضلال سوف يُبتلى بالآثار الوضعية للضلال، ويُحرم من بركات الهدى، وإن كان معذوراً في انحرافه.

ومن هنا، يستعيذ المؤمن باللّه من الضلال بكلا قسيمه: الضلال المتعمّد، والضلال غير المتعمّد.

تقديم {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} على {الضَّالِّينَ}

وحيث «إنّ التخلُّص من الضلالة اللاّواعية لا يكون إلاّ بعد التخلُّص من الانحراف الواعي؛ إذ إنّ نور اللّه لا يدخل قلباً متكبّراً معانداً مصمّماً على الانحراف - لذلك نجد القرآن يأمرنا بالتخلُّص من غضب اللّه أوّلاً، ثمّ يأمرنا بالتخلُّص من الضلالة»(1). فتأمّل.

ص: 268


1- من هدى القرآن 1: 85.

سورة البقرة مدنية آياتها (287)

اشارة

ص: 269

ص: 270

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين.

وبعد:

فهذا هو الجزء الثاني من «التدبّر في القرآن» وهو يمثّل محاضرات مبسّطة تعبر عن تصورات أولية في تفسير القرآن الكريم، مشفوعة بإضافات وتنقيحات.

وقد ابتدأت فيه من «سورة البقرة»... واسأل اللّه تعالی التوفيق والتسديد إنّه خير موفّق ومعين.

محمّد رضا ابن السيد محمد الحسيني الشيرازي

الكويت 1415/3/9 ه

ص: 271

ص: 272

فضل السورة

اشارة

1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «من قرأ البقرة وآل عمران جاءتا يوم القيامة تظّلانه على رأسه مثل الغمامتين - أو العباءتين»(1).

2 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّ اللّه أوحى إليه: «أعطيت لك ولأُمتّك كنزاً من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة»(2).

{بسم اللّه الرحمن الرحيم * الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(3)

المفردات

{بِسْمِ اللَّهِ}: أي: نبتدأ بهذا الإسم المبارك.

{الرَّحْمَانِ}: ذو الرحمة الشاملة.

{الرَّحِيمُ}: ذو الرحمة الدائمة.

ص: 273


1- (1) البرهان 1: 52.
2- (2) بحار الأنوار 89: 263.
3- البقرة: 1-5.

{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ}: من جنس هذه الأحرف يتكوّن القرآن العظيم (وهنالك احتمالات أُخر في تفسير هذه الجملة).

{لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شكّ فيه.

{هُدَى}: إرشاد، ودلالة على الطريق المستقيم.

{لِلْمُتَّقِينَ}: للذين يتجنّبون السقوط في المهالك، ويتحذّرون الوقوع في المهاوي.

{يُؤْمِنُونَ}: يصدقون ويذعنون.

{يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}: يأتون بها على الوجه المأمور به بشكل متواصل.

{الْمُفْلِحُونَ}: الناجون ممّا يخافون، الفائزون بما يؤمّلون.

البدء بالبسملة.. لماذا؟
اشارة

مضى نمط من الكلام حول هذا الموضوع في بداية سورة (الحمد) ونتحدّث هنا حول الموضوع من زاوية أُخرى.

إنّ التركيز على البدء بالبسملة في مفتتح كلّ سورة منهج ربّاني أدّب اللّه سبحانه وتعالى به عباده لكي يبدأوا أُمورهم كلّها باسم اللّه سبحانه.

ومن شأن هذا (الحضور اللفظي) لله سبحانه أمام كلّ أمر أن ينتهي إلى (الحضور الذهني) و(الحضور العملي) له تعالى في حياة الإنسان.

ولكي نلقي الضوء على هذه الحقيقة نقول: إنّ لكل شيء وجودات أربعة:

1 - الوجود الخارجي

وهو وجود الشيء في متن الأعيان بحيث تترتّب عليه آثاره الخارجيّة

ص: 274

المترقَّبة منه.

2 - الوجود الذهني

وهو وجود الشيء في صفحات الأذهان بحيث لا تترتَّب عليه آثاره الخارجية المترقّبة منه.

فالنار بوجودها الخارجي تعطي الدفء والضوء والحرارة، بينما لا تترتّب عليها هذه الآثار بوجودها الذهني.

3 - الوجود اللفظي

وهو عبارة عن الرموز اللّفظية التي تمّ تواضع العرف عليها للإشارة إلى حقيقة من الحقائق الخارجيّة أو الذهنّية.

4 - الوجود الكتبي

وهو عبارة عن الرموز الكتبية التي وضعت للإشارة إلى حقيقة من تلك الحقائق.

وهذه الوجودات مترابطة، فحالات بعضها تؤثّر في حالات البعض الآخر، ووجود بعضها من شأنه أن يستتبع وجود البعض الآخر - ولو في الجملة - .

والشّق الأوّل - ترابط الحالات - تطرّق إليه علماء المنطق في بحوثهم المنطقية، والذي يهمّنا هنا هو بيان الشقّ الثاني - ترابط الوجودات - .

فالوجود اللفظي لحقيقة من الحقائق يترابط عادة مع الحضور الذهني لتلك الحقيقة، والحضور الذهني لها كثيراً ما ينتهي إلى (الحضور العملي) لتلك الحقيقة في حياة الإنسان.

ص: 275

وهذا ما يؤكّدهُ علماء الأخلاق حين يقولون: إنّ التلقين مؤثّر في توجيه السلوك الإنساني، فالذي يقول لنفسه كلّ صباح: (إنّني شجاع) قد يصبح شجاعاً بالفعل في حياته العملية.

وعلى أساس ذلك نقول: إنّ الحضور الإلهي اللّفظي أمام كلّ عمل يقوم به الإنسان، من طبيعته أن يؤدّي إلى الحضور الإلهي المستمر في ذهن الإنسان. والحضور الذهني لله تعالى - للحقيقة الإلهية - في الذهن كثيراً ما ينتهي إلى الحضور العملي لله تعالى في سلوك الإنسان، فلا يخطو خطوة إلاّ ويرى اللّه قبلها، ويحاول أن يكيّف سلوكه الخارجي وفق ما يريده اللّه سبحانه.

ومن هنا يقول القرآن الكريم: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(1).

ومن هنا - أيضاً - نجد التركيز الكبير على الذكر اللفظي لله سبحانه في مختلف حالات الإنسان.

فهناك ذكر معيّن؛ عند اليقظة من المنام. وآخر عند الوضوء. وثالث: عند الصلاة. ورابع: عند البدء بالطعام. وخامس: عند الإنتهاء من الطعام. والسادس: عند الخروج من الدار. وسابع: عند ركوب الدابة. وثامن: عند إرادة النوم. وهلّم جرّا(2).

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنْ سمعت الأذان وأنت على

ص: 276


1- العنكبوت: 29.
2- راجع «مفاتيح الجنان» للمحدث القمي (رحمه اللّه) و «الدعاء والزيارة» للإمام الشيرازي.

الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذّن، ولا تدع ذكر اللّه عزّ وجلّ في تلك الحال، لأنّ ذكر اللّه حسن على كلِّ حال.

ثم قال (عليه السلام) : لمّا ناجى اللّه عزّ وجلّ موسى بن عمران (عليه السلام) ، قال موسى: يا ربّ أبعيدٌ أنت منّي فأُناديك، أم قريب فأُناجيك؟

فأوحى اللّه عزَّ وجلَّ إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني.

فقال موسى (عليه السلام) : يا ربّ إنني أكون في حال أُجِلُّكَ أن أذكرَك فيها.

قال: يا موسى، اذكرني على كلِّ حال»(1).

الإعجاز القرآني

(الحروف المقطعة) التي نجدها في هذه السورة وفي كثير من السُّور القرآنية الأُخرى ظاهرة أثارت الكثير من الأسئلة والاستفهامات.

وفي تعيين المقصود بهذه الحروف يوجد هنالك اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل: يرى أنّ هذه الحروف من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلاّ اللّه والراسخون في العلم، فهي مجهولة المفاد لنا إطلاقاً، وقد نصّ اللّه سبحانه على وجود المتشابهات في القرآن الكريم بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(2) (إلى أن يقول): {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(3).

ص: 277


1- (1) بحار الأنوار 77: 175-176.
2- آل عمران: 3.
3- آل عمران: 3.

الاتّجاه الثاني: يرى أنّ هذه الحروف من (المحكمات)(1).

فمدلولاتها معلومة والمقصود بها متّضح.

وفي هذا الاتّجاه هنالك عدّة تفسيرات:

ألف - إنّ هذه الحروف إشارة إلى أسماء اللّه سبحانه وصفاته، وقد ورد في الأدعية مناجاة اللّه بها فقد جاء (يا {كهيعص} ويا {حم *عسق}).

كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «{أَلَمْ} هو حرف من حروف اسم اللّه الأعظم المقطّع في القرآن، الذي يؤلِّفه النبيُّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الإمام فإذا دعا به أُجيب»(2).

ب - إنّها إشارة إلى بعض الحوادث والآجال المستقبلية، وذلك طبق حساب الجمل الذي كان متداولاً في العصور القديمة.

ج- - إنّها إشارة إلى أهمّية الحروف الهجائيّة، ومزيد العناية الربّانية بها؛ لأنّها محور الشرائع السماوية والكتب الإلهية، بل بها تقوم الحياة الاجتماعية للبشر، ولأجلّ ذلك جعل اللّه سبحانه (البيان) - المتمثّل في النطق بها - موازياً لخلق الإنسان، فقال تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(3).

وقد استغنى بذكر ما ذُكر منها عن ذكر البواقي، كما يُستغنى بذكر (أ -

ص: 278


1- الملحوظ في «المحكمات» هنا: الوضع الفعلي.. ولو كان بالغير.. فكل ما اتضحت لنا دلالته فهو محكم ولو كان ذلك بسبب التبيين الخارجي.. ومنه يُعْلم المقصود ب«المتشابهات» في هذا البحث فإنه ما لم تتضح لنا دلالته مطلقاً فتأمل.
2- الصافي 1: 90.
3- الرحمن: 3-4.

ب - ج- - د) عن ذكر الباقي، وبذكر (لاُمِّ عَمروٍ باللِّوى) عن ذكر باقي القصيدة.

د - إنّها تبيين لوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم.

ونلقي هنا بعض الضوء على هذا الاحتمال الأخير.

فمن الواضح أن كلّ شيء يستند في قوامه إلى علّتين:

أُولاهما: العلّة المادية.

والثانية: العلَّة الصوريّة.

مضافاً إلى علّتين أُخريين يتوقّف عليهما وجود المعلوم، وهما (العلة الفاعلية) و(الغائية) إلاّ أنّ هاتين العلّتين غير داخلتين في قوام المعلول.

أمّا العلّة الماديّة؛ فهي المادة (الخام) التي يتكوّن منها الشيء. وأمّا العلَّة الصوريّة؛ فهي الصورة التي تفاض على تلك المادة، فتكون شيئاً من الأشياء بحياله.

فالسرير - مثلاً - له علّة ماديّة هي (الخشب) أو (الحديد) أو نحوهما - وله علَّة صورية هي هذا الشكل الخاص الذي يمتاز به السرير عن الباب أو المنضدة ونحو ذلك.

والقرآن الكريم في هذه الآية الكريمة يبيّن أنّ المواد التي تكوّن منها هذا القرآن في متناول أيديكم أيُّها البشر، فهو مكوّن من (ألف - لام - ميم) و(كاف - ها - يا - عين - صاد) ونحوها من الحروب الهجائيّة فعجزكم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، بل بسورة واحدة من مثل سوره، دليل على المصدر الغيبي لهذا الكتاب.

ص: 279

ومن الجدير بالذكر أنّ كلمة (ذلك) يشار بها إلى (البعيد)، بينما كلمة (هذا) يشار بها إلى القريب.. - على ما هو المتبادر من إطلاق هاتين الكلمتين - والبعد تارة يكون ماديّاً وذلك عندما تكون هنالك فاصلة مكانيّة أو زمانيّة كبيرة تفصل بين شيئين. وأُخرى يكون معنويّاً وذلك عندما يكون الشيء عالي المقام رفيع المنزلة، والقرآن الكريم وإن كان قريباً إلى الأذهان من ناحية وضوح دلائله وجلاء براهينه، ولذا استُخدمت كلمة (هذا) مشاراً بها إلى القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(1)، إلاّ أنه بعيد عنها من ناحية عجز البشر عن الإتيان بمثله؛ ولذا استُخدمت في مقام بيان هذا الإعجاز كلمة (ذلك) في قوله تعالى: {أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ} فهو بعيد في إعجازه، رغم أنّ الحروف التي يتألف منها في متناول جميع البشر - حتّى الأطفال والصبيان منهم - .

مؤيّدات

وهنالك مؤيّدات تعضد هذا التفسير:

الأوّل: إنّ أغلبية السور التي وردت فيها هذه الحروف المقطّعة أعقبتها بالإشارة إلى القرآن الكريم.

ونذكر فيما يلي بعض النماذج:

1 - {أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}(2).

ص: 280


1- الإسراء: 17.
2- البقرة: 1-2.

2 - {المص *كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(1).

3 - {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(2).

4 - {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}(3).

5 - {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(4).

6 - {طسم *تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}(5).

7 - {طس ً تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}(6).

8 - {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}(7).

9 - {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(8).

10 - {ق ً وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}(9).

ص: 281


1- الأعراف: 1-2.
2- هود: 1.
3- الرعد: 1.
4- إبراهيم: 1.
5- الشعراء: 1-2.
6- النمل: 1.
7- ص: 1.
8- غافر: 1-2.
9- ق: 1.

إلى غيرها من الآيات الكريمة.

الثاني: بعض الروايات الواردة في الموضوع.

فعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: «سحرٌ مبين تقوّله» فقال اللّه: {أَلَمًْ ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي: يا محمَّد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو بالحروف المقطّعة التي منها «ألف - لام - ميم» وهي بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بساير شهدائكم، ثم بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله{قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(1)»(2).

الثالث: لم يحدثنا التاريخ أنّ العرب اتخذوا من هذه الحروف المقطّعة وسيلة للطعن في القرآن الكريم، والسُّخرية به، مع أنّهم كانوا يحاولون النفوذ من أيّة ثغرة مزعومة للنيل من القرآن، وهذا دليل على أنّهم كانوا يفهمون مغزى هذه الحروف ولو إجمالاً. فتأمّل.

القرآن يتحدى

1 - كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يكفُّ عن انتقاد آلهة المشركين، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمّد، ويقول بعضهم: بل هو كهانة، ويقول بعضهم: بل هو خطب.

ص: 282


1- الإسراء: 91.
2- نور الثقلين 1: 27-28؛ البرهان 1: 54.

وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّام العرب يتحاكمون إليه في الأُمور وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مختاراً لهم.. وكان من المستهزئين برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان عمّ أبي جهل.

فقالوا له: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمّد، أسحر أم كهانة أم خُطَب؟

فقال: دعوني أسمع كلامه.

فدنا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو جالس في الحجر.

فقال: يا محمد، أنشدني من شعرك!

فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما هو بشعر، ولكنّه كلام اللّه الذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال الوليد: اتلُ عليَّ منه.

فقرأ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : سورة حم السجدة [فصلت] فلمّا بلغ إلى قوله {فَإِنْ

أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}(1).

فاقشعّر جلده وقامت كلُّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبا(2)أبو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله؟

فاغتّمت قريش من ذلك غمّاً شديداً، وغدا عليه أبو جهل، فقال: يا عمّ

ص: 283


1- فصلت: 13.
2- أي: مالَ.

نكّست برؤوسنا وفضحتنا.

قال: وما ذاك يا ابن أخ؟

قال: صبوت إلى دين محمّد

فقال الوليد: ما صبوت وإنّي على دين قومي وآبائي، ولكن سمعت كلاماً صعباً تقشعرُّ منه الجلود.

فقال أبو جهل: أشعر هو؟

فقال الوليد: ما هو بشعر.

قال: فخُطَبٌ هي؟

فقال: لا، إنّ الخُطَب كلام متّصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضاً، له طلاوة.

قال: فكهانة هي؟

فقال: لا.

قال: فما هو؟

فقال: دعني أُفكّر فيه

فلمّا كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟

فقال الوليد: قولوا هو سحر، فإنّه أخذ بقلوب الناس!

فأنزل اللّه تعالى فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدْتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآِيَاتِنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا

ص: 284

إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ *سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ *لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ *عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}(1).

وفي حديث آخر: إنّ الوليد لمّا سمع ما تلاه عليه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «واللّه إنّ له لحلاوة، وانّ عليه لطلاوة(2)، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق(3)، وما يقول هذا بشر»(4).

2 - عن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفّع عند بيت اللّه الحرام، يستهزؤون بالحاجّ، ويطعنون بالقرآن.

فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض - كلُّ واحد منّا - ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمّد، وفي إبطال نبوّته إبطالٌ للإسلام وإثبات ما نحن فيه!

فاتفّقوا على ذلك، وافترقوا.

فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت اللّه الحرام.

فقال ابن أبي العوجاء: أمّا أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه الآية: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}(5) فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكير فيما سواها.

ص: 285


1- المدثر: 11-30.
2- الطلاوة: الرونق والحسن.
3- أغدق الشجر أي صارت له غدوق وشعب أو أزهر.
4- بحار الأنوار 17: 211-212 (بتصرف) نقلاً عن اعلام الورى 27-28.
5- يوسف: 80.

وقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(1) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

وقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(2) لم أقدر على الإتيان بمثلها.

وقال ابن المقفّع: يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(3) لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فبينما هم في ذلك، مرّ بهم جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) فقال: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(4).

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصيّة محمّد إلاّ إلى جعفر، واللّه ما رأيناه قط إلاّ هبناه واقشعرّت جلودنا لهيبته. ثم تفرقوا مقرّين بالعجز(5).

ص: 286


1- الحج: 73.
2- الأنبياء: 22.
3- هود: 44.
4- الإسراء: 88.
5- بحار الأنوار 17: 213-214 (الهامش)، نقلاً عن الإحتجاج: 205.

3 - عندما أسلم (حمزة) عم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ورأت قريش أنّ المدّ الإسلامي في نموّ مطرّد - قام عتبة بن ربيعة يوماً في نادي قريش، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في المسجد وحده، وقال: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمّد فأكلمه، وأعرض عليه أُموراً، لعلّه يقبل بعضها، فنعطيه أيّها شاء، ويكفّ عنا؟.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلِّمه.

فقام عتبة وجاء إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجلس عنده وقال: يا ابن أخي، إنّك منّا حيث علمت من السلطة [الشرف] في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقتَ به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبِتَ به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منّي أعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها.

فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قل يا أبا الوليد، أسمع.

فاقترح الوليد عليه أُموراً منها أن يكفّ عن رسالته فتتخذه العرب ملكاً، وغير ذلك.

فلمّا فرغ عتبة من كلامه قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أقد فرغت يا أبا الوليد؟.

قال: نعم.

فقال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فاسمع منّي.

قال: أفعل.

فقال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بسم اللّه الرحمن الرحيم {حم *تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *بَشِيرًا وَنَذِيرًا

ص: 287

فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}(1).

ثم مضى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤها عليه، و(عتبة) منصت لها، ملقياً يديه خلف ظهره، معتمداً عليها، مذهولاً، إلى أن انتهى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى آية السجدة فيها(2)فسجد.

ثمّ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلمّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أنّي سمعت قولاً واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فواللّه ليكونّن لقوله الذي سمعت منه نبأً عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به.

فقالوا: سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.(3)

4 - قدم الطفيل بن عمر الدوسي مكّة ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها، وكان الطفيل

ص: 288


1- فصلت: 1-5.
2- فصلت: 37.
3- السيرة النبوية 1: 293-294.

رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فمشى إليه رجال من قريش.

وقالوا له: يا طفيل، إنّك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا، وإنّما قوله كالسحر، يفرّق بين الرجل وأبيه، وبينه وأخيه وزوجته. وإنّا نخشى عليك وقومك ما دخل علينا، فلا تكلّمنَّه، ولا تسمَعَنَّ منه شيئاً.

يقول الطفيل: فواللّه ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلِّمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمع!.

قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائم يصلّي عند الكعبة فقمت قريباً منه، فأبى اللّه إلاّ أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: «واُثكلَ أُميِّ، واللّه إنّي لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.

فمكثت حتّى انصرف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيته، فاتبّعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمّد، إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فواللّه ما برحوا يخوفونني أمرك حتّى سددتُ أُذني بكرسف، لئّلا أسمع قولك ثمّ أبى اللّه إلاّ أن يسمعني قولك، فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك.

فعرض عليَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا واللّه ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه.

ص: 289

فأسلمت وشهدت شهادة الحق(1).

5 - لما سمع (لبيد بن ربيعة) الشاعر الشهير ببلاغة منطقة وفصاحة لسانه ورصانة شعره أن محمّداً صلّى اللّه عليه وآله يتحدّى الناس بالقرآن قال بعض الأبيات ردّاً على ما سمع، وعلَّقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازاً لم تدركه إلاّ فئة قليلة من كبار شعراء العرب، وحين رأى أحد المسلمين ذلك كتب بعض آيات القرآن الكريم وعلّقها إلى جوار أبيات لبيد، ومرّ لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي فأذهلته الآيات القرآنيّة وصرخ من فوره قائلاً: (واللّه ما هذا بقول بشر، وأنا من المسلمين).

وكان من نتيجة تأثّر هذا الشاعر الكبير ببلاغة القرآن أنّه هجر الشعر، وقد قال له عمر يوماً: أنشدني شيئاً من شعرك، فقال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني اللّه سورة البقرة وآل عمران(2).

ملاحظات حول الحروف المقطعة
اشارة

1 - من الممكن أن يكون المقصود بهذه الحروف المقطّعة: أكثر من معنى (كما يقتضي ذلك الجمع بين الروايات الكريمة).

ويمكن افتراض ذلك على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون أحد المعاني هو المقصود، وتكون سائر المعاني من البطون.

ص: 290


1- السيرة النبوية 1: 382-383.
2- الإسلام يتحدّى: 109.

النحو الثاني: أن يكون معنيان أو أكثر هو المقصود، بأن يستعمل اللَّفظ في أكثر من معنى من هذه المعاني.

وهذا النحو وإن أحاله بعض الأُصوليين، إلاَّ أنّ الحقّ أنّه ليس بمحال عقلاً، وإنّما يفتقر إلى القرينة الدالّة على ذلك، والمفروض وجودها في المقام، وتمام الكلام في محلّه.

2 - السور التي وردت فيها (الحروف المقطعة) تسع وعشرون سورة. وحروف الهيجاء في اللّغة العربية تسعة وعشرون حرفاً - بناء على عدّ الهمزة حرفاً مستقلاً.

3 - فواتح السور جاءت مختلفة الأعداد.

فبعضها جاء على حرف واحد مثل (ص).

وبعضها على حرفين مثل (طه).

وبعضها على ثلاثة أحرف مثل (ألم).

وبعضها على أربعة أحرف مثل (المص).

وبعضها على خمسة أحرف مثل (كهيعص).

ولعلّ السر فيه أن بناء كلمات العرب على الحرف والحرفين والثلاثة والأربعة والخمسة، فجاءت الأحرف المقطّعة مطابقة لما بنيت عليه الكلمات العربية.

4 - الحروف المقطعة أسماء، وهي تقرأ مقطّعة بذكر أسمائها لا مسمّياتها فيقال: (ألف. لام. ميم) ولا يقال (الم).

كما أنّها مبنية على السكون، فلا تعرب، كما يبنى العدد على الوقف

ص: 291

فتقول (واحد. إثنان. ثلاثة).

5 - الحروف المقطّعة تكون - بعد توحيد المكرّرات منها وتركيبها - الجملة التالية: (صراطُ عليٍّ حقٌّ نُمسِكُه). أو: (عليٌّ صراطُ حقٍّ نُمسكه) فتدبّر.

لا ريب فيه

وإذا كان القرآن الكريم بهذه المثابة فهو إذاً {لاَ رَيْبَ فِيهِ}..

و(الريب) لا يعني (الشك) فقط بل هو (الشكّ مصحوباً بنوع من الظن السيّئ).

تقول: (ارتبتُ في أمر فلان).

ولا تقول: (ارتبت في أنّ السماء تمطر أو لا) أو (في تناهي الأبعاد وعدمه) بل تقول: (شككت في ذلك).

وفي الحديث الشريف: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

والجاهليون كان يشكون في هذا الكتاب، شكّا مصحوباً بالظنون السيّئة، حول ماهية هذا الكتاب، والمصدر الذي جاء منه.

ولذا ينفي القرآن - في قبال ذلك - شكّهم المصحوب بذلك الظن السيّئ ب(لا) النافية للجنس والتي تدلّ على نفي جميع أفراد الطبيعة.. فلا يوجد هنالك أيُّ نوع من أنواع الريب في هذا الكتاب الكريم.

وقيل: إنّ (الريب) هو أدنى مراتب الشكّ، فلا يوجد هنالك أدنى شكٍّ في هذا الكتاب العظيم.

وقيل: الريب هو الشكُّ مطلقاً.. فهما لفظان مترادفان.

وحيث حذف متعلَّق الريب أفاد العموم، فلا ريب فيه من جهة نظمه

ص: 292

وأُسلوبه، ولا من جهة علومه ومعارفه، ولا من جهة تنبؤاته وإخباراته، ولا من جهة تشريعاته وأحكامه، ولا من أيّة جهة من الجهات الأُخرى.

وتقول: كيف ينفي الريب عن القول الكريم ب(لا) النافية للجنس، وقد ارتاب فيه الكثيرون؟.

والجواب

أوّلاً: المراد بذلك أنه ليس محّلاً للريب، وكيف يكون محّلاً للريب مع عجزهم عن الإتيان بمثله مع أنّ المواد التي تكوّن منها هذا القران في متناول أيديهم؟ وكيف يكون محّلاً للريب مع وضوح دلائله، واستحكام حججه، وعدم تناقضه، لا مع ذاته، ولا مع قوانين الكون، ولا مع هدى العقل، وذلك لا ينافي أن يرتاب فيه الجاهلون، كما تقول: (لا ريب في أنّ النار محرقة) وإن ارتاب في ذلك السوفسطائيون(1).

ثانياً: ريب الجاهلين: ك- (لا ريب)؛ إذ لا يستند إلى أيّة مبررات موضوعيّة تدعم وجوده، فنزّل وجوده منزلة عدمه.. كما في قوله (عليه السلام) : «يا أشباه الرجال ولا رجال» حيث نزّل فقدان الوصف منزلة فقدان الأصل، ونفيت الحقيقية ادّعاءاً؛ لبعض النكات البلاغية.

ثالثاً: ويحتمل أن يراد بهذه الجملة الخبرية «لا ريب فيه» المعنى الإنشائي، أي أنّه يجب على الناس اليقين به، وعدم الارتياب فيه.

إلاّ أنّ سياق الآية الكريمة يأبى هذا الاحتمال.

ثم إنّه قد يسأل عن تقديم الريب على الجار والمجرور في قوله تعالى:

ص: 293


1- تقريب القرآن 1: 39.

{لاَ رَيْبَ فِيهِ} بينما عكس الأمر في قوله تعالى في وصف خمر الجنّة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ}.

والجواب: إنّ القاعدة البلاغية تقتضي تقديم الأهم على المهم.

وها هنا الأهمّ هو نفي الريب بالكليّة عن الكتاب، ولو قيل: (لا فيه ريب) لأوهم أنّ المقصود هو أنّ هنالك كتاباً آخر حصل فيه الريب ولم يحصل في هذا الكتاب، بينما هذه المقارنة غير مقصودة هنا. بينما المقصود في قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} هو تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا، وبيان أنّها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا(1).

ثلاثة مواقف

هكذا يكون القرآن الكريم حقيقة ثابتة لا ريب فيها، ولكن ما هي المواقف التي اتّخذها الناس تجاه هذا القرآن، وما احتواه من قيم وتشريعات؟

يقسم القرآن الناس إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأُولى: المتّقون، وهؤلاء كانوا يشكّلون شريحة اجتماعية لها كيان واقعي على الأرض، وكانت هذه الشريحة تؤمن باللّه واليوم الآخر. وتسير في خط الرسالة الإلهية.

والقرآن يمثل بالنسبة لهؤلاء هدى ونوراً. {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}(2).

ص: 294


1- التفسير الكبير 2: 21.
2- البقرة: 2.

المجموعة الثانية: الكافرون، ويراد بهم هنا تلك الشريحة الاجتماعية التي ظلّت مصرّة على مواقفها الخاطئة رغم قناعتها بصوابية الدين الجديد.

وهؤلاء أغلقوا نوافذ قلوبهم تجاه الحقّ، فلم يعد بإمكان النور القرآني أن ينفذ إلى قلوبهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(1).

المجموعة الثالثة: المنافقون، وهم أُولئك الذين حملوا شخصيتين اثنتين، شخصية ظاهرية تمثّل الإيمان وشخصية واقعيّة تمثّل الكفر.

هؤلاء: حملوا (اسم) الإيمان، ولكنّهم حرموا أنفسهم من الاستفادة من (واقع) الإيمان.. صحيح أنّهم استفادوا بعض المكاسب الظاهرية التي وفّرها لهم المظهر الإيماني، لكنّ هذه الاستفادة مؤقّتة، فلا يمرّ زمن إلاّ وتنتهي وتذوب. {مَثَلُهُمْ

كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ}(2).

هذه مجموعات ثلاث كانت تتحرّك على الأرض، وتمثّل كيانات حقيقية قائمة في الساحة، وقد تطرّق القرآن الكريم إلى كلّ واحدة منها كما سوف يأتي في الآيات القادمة إن شاء اللّه.

والجدير بالذكر: أنّ هذه المواقف الثلاثة تُتخَّذ أمام كلّ رسالة جديدة عادةً. فالبعض يؤمنون. والبعض يكفرون. والبعض يتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء.

ص: 295


1- البقرة: 6.
2- البقرة: 17.
التقسيم القرآني تقسيم عقائدي

ومن الجدير بالذكر: أنّ التقسيم القرآني للناس والذي تضمّنته هذه الآيات الكريمة تقسيم مبتنٍ على أُسس عقائدية.

فالقرآن لا يقسم الناس حسب التصنيف اللوني. ولا حسب المقاييس الجغرافية. ولا حسب الإنتماءات العرقية. ولا حسب الدرجات الاقتصادية.

فكلُّ هذه الأُمور قشريّة زائلة، وإنّما يقسّمهم على أُسس عقائدية إلى (مؤمن، كافر، منافق).

فمن صحّت عقيدته واستقام عمله وسلمت فطرته لا يمكن أن يساوى بمن زاغت عقيدته، وانحرف عمله، وسقُمت فطرته، وتفصيل ذلك سيأتي في البحوث القادمة بإذن اللّه.

وأوّل مجموعة تتناولها الآيات هم المتقون. وصفات المتّقين هي كالتالي:

1 - الإيمان بالغيب.

2 - إقامة الصلاة.

3 - الإنفاق ممّا رزقهم اللّه.

4 - الإيمان بما أُنزل على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

5 - الإيمان بما أُنزل على الرسل السابقين.

6 - اليقين بالآخرة.

والقرآن يمثّل بالنسبة لهؤلاء هدى ونوراً.

وربّ سائل يسأل: إنّ هؤلاء مهديون، فكيف يكون القرآن هدى لهم؟

ص: 296

والجواب:

ألف - إنّ هذه الآيات تناولت شريحة اجتماعية قائمة بالفعل، وهي عبارة عن أُولئك المؤمنين الذين انضموا إلى الرسالة الجديدة وآمنوا بها، وكيّفوا حياتهم وفقها، هؤلاء وإن كانوا {عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ}(1) وبهذا الهدى انضموا إلى الرسالة إلاّ أنّ (الهداية) حقيقة تشكيكية ذات مراتب.. فيمكن أن يكون الإنسان (مهدياً) لامتلاكه درجة معيّنة من الهداية - لكنّ ذلك لا ينافي إمكان صعوده في مراتب الهداية كما في كلّ الحقائق التشكيكية الأُخرى(2).

وينبغي هنا أن نشير إلى أنّ مراتب الهداية غير متناهية.. على نحو (اللامتناهي اللايقفي)، فكّلما حاز الإنسان مرتبة من مراتب الهداية أمكن أن يرتقي إلى مرتبة أُخرى.. كمراتب الإعداد فإنّك كُلَّما تصورت عدداً أمكن أن يكون هنالك عدد أكبر منه.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الهداية، فكلّما تصوّرت مرتبة من مراتب الهداية فيمكن أن تتصور مرتبة أُخرى فوقها.

ومن هنا كان أولياء اللّه يردّدون في كل يوم عشر مرّات على الأقل - في صلواتهم الخمس المفروضة - .

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(3).

ص: 297


1- البقرة: 5.
2- راجع ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الحمد: 6).
3- الحمد: 6.

ومن هذا المنطلق نجد أنّ المتقين - الذين كانوا يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة - إلى آخره، كانوا يقرأون القرآن كلّ يوم ليزدادوا هدى بالقرآن.

ومن هنا يعلم أن هناك هدايتين خُصّ بها (المتّقون):

1 - هداية أُولى أصبحوا بها (متّقين مؤمنين بالغيب مقيمين للصلاة. إلى آخره). وإلى هذه الهداية أُشير بقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ}.

2 - وهداية ثانية بها ازدادوا في مراتب التقوى.

وإليها أُشيرَ بقوله تعالى: {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}. فالمتقون (محفوفون بهدايتين): هداية أُولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم اللّه سبحانه بها بعد التقوى.

وبذلك صحّت المقابلة بين المتقين وبين الكفّار والمنافقين، فإنّه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين: ضلال أوّل هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثانٍ يتأكّد به ضلالهم الأوّل، ويتّصفون به بعد تحقّق الكفر والنفاق، كما يقول تعالى في حقّ الكفار: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}(1) فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقول في حقّ المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}(2) فنسب المرض الأوّل إليهم، والمرض الثاني إلى نفسه وعلى حدّ ما يستفاد من قوله تعالى: {يُضِلُّ

بِهِ

ص: 298


1- البقرة: 10.
2- البقرة: 26.

كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}(1) وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(2).

وبالجملة: (المتّقون واقعون بين هدايتين، كما أنّ الكفّار والمنافقين واقعون بين ضلالين)(3).

ب - ويحتمل أن يكون استخدام كلمة (المتقين) في الآية الكريمة من باب (الأوّل) كما في {أَعْصِرُ خَمْرًا}(4) - أي: عنباً يؤول إلى الخمر - أي أنّ القرآن الكريم يصنع أفراداً من هذا الطراز.

كما نقول «فلان مربي الأطبّاء» أو «معلّم الأطبّاء» أي صانعهم وموجدهم، فالقرآن يصنع (المتقين) الذين يؤمنون بالغيب و..، بما فيه من الآيات والدلائل والتوجيهات.

وعلى هذا يتّحد مدلول (الهدايتين) في قوله تعالى: {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}(5)

وقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ}(6).

ج- - ذكر السيد الوالد - دام ظلّه - في تفسير الآية: (أي أنّ هذا القرآن هداية لمن اتّقى وخاف من التردّي، فإنّه هو الذي يهتدي بالقرآن، وإن كان

ص: 299


1- البقرة: 26.
2- الصف: 5.
3- الميزان 1: 44.
4- يوسف: 36.
5- البقرة: 1.
6- البقرة: 5.

القرآن صالحاً لأن يهدي الكلّ)(1).

ويؤيّد هذا التفسير ما روي عن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث قال: «هدى للمتقين»: الذين يتّقون الموبقات، ويتّقون تسليط السفه، على أنّهم حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربِّهم»(2).

فكما (أنّ فاعلية الفاعل شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية، كذلك قابلية القابل شرط أيضاً. فالأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرّات، إذ لا بدَّ أن تكون الأرض مستعدَّة لاستثمار ماء المطر المحيي. وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذور الهداية ما لم تنظف من اللَّجاج والتعصُّب والعناد؛ ولذا قال سبحانه في كتابه العزيز أنَّه {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ})(3).

صفات المتقين

والآن لنلقِ نظرة على السِّمات التي رسمتها الآيات الكريمة للمتقين:

1 - الإيمان بالغيب

و(الإيمان) لا يعني (العلم) فقط، بل يعني مضافاً إلى ذلك (الإذعان) لما تعلّق به العلم.

فهنالك أُمور ثلاثة:

ص: 300


1- تقريب القرآن 1: 39-40.
2- نور الثقلين 1: 28.
3- الأمثل 1: 59.

1 - العلم بالشيء، ويحصل ذلك عندما يتحقّق وضع (المواجهة) مع (الشيء) وتنطبع صورته في ذهن الإنسان، تماماً: كالمرآة، فإنّك لا تشاهد صورتك في المرآة ما لم تتخّذ معها وضع المواجهة.

وهذه الصورة هي (المعلومة بالذات) وبها تنكشف الحقيقة الخارجية التي هي (المعلومة بالعرض).

2 - إذعان النفس لما علمت به وتسليمها له عقلياً ونفسياً؛ إذ قد يعلم الإنسان بشيء إلاّ أنه يجحد به، كما قال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1).

وهذا (الإذعان) هو (الإيمان) (مع اقترانه بالإقرار باللِّسان في الجملة).

3 - الجري العملي وفق العلم والإيمان، وهذا ثمرة من ثمرات الإيمان. ولعلّ إدراج الجري العملي في مفهوم الإيمان في جملة من الأحاديث الكريمة - من باب اطلاق الملزوم على لازمه، أو من باب أنّ الإيمان حقيقة تشكيكية ذات مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف.

فالإذعان المصحوب بالجري العملي التام مرتبة علياً من الإيمان، وبالجري العملي الناقص مرتبة متوسّطة، وبلا جري عملي مرتبة دنيا، وبين هذه المراتب ما لا يعدّ من الدرجات بحسب كمال الجري العملي ونقصه، فتأمّل.

هذا بالنسبة إلى معنى الإيمان، وأمّا بالنسبة إلى (وجه التسمية) فقيل فيه وجوه:

1 - إنه سمّي بذلك لكونه موجباً لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة،

ص: 301


1- النمل: 14.

قال سبحانه: {فَمَنْ يُؤمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا}(1).

2 - أو لأمان الناس به في الدنيا.

3 - أو لأنه يؤمّن على اللّه فيجيز أمانه.

4 - أو لأنّ المؤمن يعطي لما آمن به الأمن من الريب والشكّ الذي هو آفة الاعتقاد.

و(الغيب) عبارة عمّا غاب عن الحواس الظاهرة، ف(عالم الغيب) يمثل النقطة المقابلة ل(عالم الشهود) وباعتبار أنّ دائرة (الحقيقة) أوسع من دائرة (عالم الشهود)؛ لذا يؤمن المتقون ب(عالم الغيب) كما يؤمنون ب(عالم الشهود).

وكلمة (الغيب) لفظة مطلقة، فلا تنحصر في الإيمان باللّه سبحانه فقط، بل تعمّ كلّ الحقائق الغيبية المرتبطة بالمبدأ والمعاد ونحوهما.

ولذا ورد في الأحاديث الكريمة تطبيقها على مصاديق أُخرى، لا من باب انحصار مصداق (الغيب) فيها، بل من باب شمولية لفظ الغيب لها، وكونها مصاديق لهذا المفهوم الكلّي.

ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (الذين يؤمنون بالغيب) يُصدِّقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد(2).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزَّ وجلَّ: {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: «من أقرّ بقيام القائم (عليه السلام) أنه حقّ»(3).

ص: 302


1- الجن: 13.
2- نور الثقلين 1: 31.
3- نور الثقلين 1: 31؛ البرهان 1: 53.

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث يذكر فيه الأئمّة الإثني عشر (عليهم السلام) وفيهم القائم (عليه السلام) ، قال: «طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبتهم، أُولئك مَنْ وصفهم اللّه في كتابه فقال: (الذين يؤمنون بالغيب).

ثم قال: (أُولئك حزب اللّه ألا إنّ حزب اللّه هم الغالبون)»(1).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال في وصف هؤلاء المؤمنين - الّذين جاء هذا الكتاب هدى لهم - فقال: «(الذين يؤمنون بالغيب) يعني ما غاب عن حواسهم من الأُمور التي يلزمهم الإيمان بها، كالبعث والحساب والجنّة والنار وتوحيد اللّه وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة، وإنّما يعرف بدلائل قد نصبها اللّه تعالى دلائل عليها كآدم وحوّاء وإدريس ونوح وإبراهيم والأنبياء الذين يلزمهم الإيمان بحجج اللّه تعالى وإن لم يشاهدوهم، ويؤمنون بالغيب وهم من الساعة مشفقون»(2).

وينبغي التنبيه على أنّ الشيء الواحد قد تجتمع فيه جهتان يندرج بإحداهما في (عالم الشهود) وبالأُخرى في (عالم الغيب) كالقرآن الكريم، فإنّه جزء من عالم الشهود بلحاظ ذاته، وجزء من عالم الغيب بلحاظ مصدره، وكالحجر الأسود، فإنّه مشهود باعتباره مستلم الحجيج، وغيب باعتبار كونه يمين اللّه في الأرض يصافح بها عباده إلى غير ذلك(3).

ص: 303


1- البرهان 1: 54.
2- البرهان 1: 56-57.
3- مواهب الرحمن 1: 67.
كيف نؤمن بالغيب؟

والسؤال الآن هو: كيف يؤمن الإنسان بالغيب؟ كيف يؤمن بما لم يره بعينيه، ولم يلمسه بيده، ولم يستشعره بحواسه الأُخرى؟.

وفي الإجابة على هذا السؤال لا بد أن نستعرض النقطتين التاليتين:

النقطة الأُولى: للإيمان بحقيقة من الحقائق طريقان.

أ - طريق التماس المباشر مع تلك الحقيقة..

فتؤمن بوجود الشيء لأنك أبصرته بعينك، أو لمسته بيدك، أو سمعته بأُذنك و...

ب - التماس غير المباشر، ولذلك ثلاثة أشكال:

الشكل الأوّل: أن تؤمن بوجود الحقيقة لأنك رأيت (آثارها الوجودية) فمن خلال وجود تلك الآثار تنتقل إلى وجود تلك الحقيقة، فعندما ترى ساعة يدوية تنتقل إلى وجود المعمل الذي أنتج تلك الساعة، وعندما تشاهد قصراً مشيّداً فإنّك سوف تؤمن بلا شكّ بوجود مهندس وبنّائين وراء ذلك القصر، وهكذا في سائر الأُمور.

وهذا الانتقال أمر فطري وجداني نجده حتّى عند الأطفال، فعندما يأتي الطفل إلى الغرفة ويجد كتبه مبعثرة ودفاتره ممزّقة، فإنّه سوف يتساءل فوراً: من فعل هذا؟ ولن يقبل تفسير ذلك بأن الأمر حدث من تلقاء نفسه.

بل ربّما يُدّعى أنّ هذا الأمر لا يختصُّ بالعقلاء فقط، وإنّما يشمل كل الكائنات الواعية، فالحيوان عندما يسمع صوتاً فإنه يتلفت حواليه باحثاً عن مصدر ذلك الصوت، ولا يستطيع أن يقنع نفسه بأن الصوت قد وجد من

ص: 304

تلقاء نفسه.

وهذا الشكل من الانتقال الذهني يطلق عليه (الدليل الإنيّ) أي الانتقال من وجود المعلول إلى وجود علّته، ومن وجود المسبَّب إلى وجود السبب.

الشكل الثاني: أن تؤمن بوجود الحقيقة لأنك آمنت بوجود علَّتها؛ إذ لا يمكن أن يتخلّف المعلول عن علّته التامّة، فوجود العلّة كاشف عن وجود المعلول، فلو رأيت الموقد مشتعلاً في غرفة فإنّك سوف تؤمن بوجود الدفء في تلك الغرفة؛ لأنّ وجود النار سبب لوجود الدفء، فلا يمكن أن ينفكّ وجود النار عن وجود الدفء في الغرفة.

ويطلق على هذا النوع من الانتقال (الدليل اللّمي) (أي الانتقال من وجود العلّة إلى وجود المعلول).

الشكل الثالث: أن تؤمن بوجود الحقيقة لإيمانك بوجود لازمها أو ملزومها أو ملازمها، فإنّ أحد المتلازمين لا ينفكُّ وجوده عن وجود الآخر - قضاءاً لحقّ الملازمة - فالعلم بوجود أحدهما كافٍ في الانتقال إلى وجود الآخر.

ومثال ذلك: الأربعة والزوجية، فإنّ الزوجية لازمة للأربعة، فالإيمان بوجود الأربعة يستتبع الإيمان بوجود الزوجية - بشكل قهري - إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد يدرج هذا القسم في القسم الأوّل بتعميم الدليل الإنيّ لكل ما لم يكن فيه انتقال من العلّة إلى المعلول فيشمل الانتقال من (المعلول إلى العلّة) ومن (أحد المتلازمين إلى الآخر) ومن (اللازم إلى الملزوم) ومن (الملزوم

ص: 305

إلى اللازم).

وبعبارة أُخرى: (الدليل الإنّي هو ما لا يكون الأوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر، أو انتفاءه في الواقع سواء كان معلولاً أم لا).. فتأمّل.

وعلى كلّ حال، فالتماسُّ المباشر مع الحقيقة ليس هو الشكل الوحيد للإيمان بالحقيقة، بل هنالك أيضاً طريق التماس غير المباشر بأشكاله المختلفة.

والإيمان بالغيب يمكن أن يتمَّ عن طريق التماس غير المباشر، برؤية آثار (ذلك الغيب) والانتقال من وجود تلك الآثار إلى وجود (ذلك الغيب) المختفي عن الحواس.

النقطة الثانية: إذا كان ينبغي أن يقتصر الإيمان على (دائرة الشهادة) والتماس المباشر، ولا يتعدّاها إلى (دائرة الغيب) والتماسّ غير المباشر، فكيف نفسِّر الظواهر التالية:

الظاهرة الأُولى: هناك كثير من الحقائق آمنّا بها، من خلال رؤية آثارها، ولم نرها.

فنحن نؤمن بوجود (الجاذبية) من خلال رؤيتنا لآثارها، ولم نر الجاذبية مطلقاً. ونؤمن أيضاً بوجود (الكهرباء) ولم نشاهدها. وهكذا.

الظاهرة الثانية: هنالك كثير من المفاهيم، ليس لها من يحاذيها في الخارج، ولذا فمن المستحيل التماس المباشر معها، إلا إننا نؤمن بوجودها باعتبار وجود (منشأ انتزاعها).

ص: 306

وهذه المفاهيم على ضربين:

الضرب الأوّل: ما يكون عروضها على معروضاتها في الذهن، واتّصاف تلك المعروضات بها في الذهن أيضاً.

وذلك مثل وصف (الكليّة) الذي يعرض مفهوم (الإنسان) و(النبات) و(الماء) ونحوها من المفاهيم التي لا تأبى افتراض الإنطباق على الكثير من مصاديقها الجزئية في الخارج.

فليس ل(الكلية) ما يحاذيها في (عالم العين) الخارج بالمعنى الأخصّ؛ إذ لا يمكن أن نشير إلى حقيقة معينّة ونقول (هذه هي الكلّية)، كما لا يمكن وصف شيء موجود في الخارج بأنه (كلّي) فلا يصحّ وصف (زيد) أو (هذه الشجرة النابتة في الحقل) أو (هذا الماء الذي يجري في الجدول) ب- (الكلية) لأنّ كل شيء في الخارج (جزئي حقيقي) باعتبار (أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد).

فالكلّية لا موطن لها إلاّ في (وعاء الذهن)؛ إذ لنا أن نشير إلى المفاهيم الكلّية المرتسمة على لوحة الذهن ونصفها بأنها (كلية) باعتبار أنها لا تأبى الانطباق على جزئياتها المتكثّرة المفروضة الوجود في الخارج.

وهذا الوصف حقيقة؛ إذ إنّ الكلّية خاصية ينتزعها العقل من وجود المفاهيم الكلّية في الذهن، كما ينتزع الجزئية من وجود المفاهيم الجزئية الموجودة في الذهن، فهي إذاً موجودة، ولو كان وجودها بوجود منشأ انتزاعها، مع أنه يستحيل التماسّ المباشر معها في الخارج.

الضرب الثاني: ما يكون عروضها على معروضاتها في الذهن، ولكنّ

ص: 307

اتّصاف تلك المعروضات بها يكون في الخارج.

فليس لهذه المفاهيم وجود مستقلٌّ في الخارج؛ إذ ليس لها ما يحاذيها في العين. فوجودها الاستقلالي إنّما هو في الذهن، ولكنّها - مع ذلك - موجودة في الخارج، ويصحّ وصف الموجودات الخارجية بها، وذلك لوجود منشأ انتزاعها في الخارج.

وذلك مثل مفاهيم (العلية) و(المعلولية) و(الوجوب) و(الإمكان) و(الوحدة) و(الكثرة) ونحوها.

فنحن نرى في الخارج (ذات العلّة) و(ذات المعلول) ولا نرى (وجوداً) ثالثاً وراءهما نطلق عليه (العلّية)، ولكننا آمنا ب(العلّية) بسبب تكرُّر تعقب إحدى الظاهرتين للأُخرى، بحيث أيقنّا بأن هذا التعقب لم يأتِ على نحو (التقارن الاتفاقي) بين الظاهرتين، بل لوجود علاقة خاصّة بينهما تتسبّب في وجود الظاهرة الثانية كلّما وجدت الظاهرة الأُولى.

ففي مثال الماء والغليان.. نحن نشاهد (غليان) الماء عندما تصل الحرارة فيه إلى درجة معيّنة، فنحن نلمس (الحرارة) ونشاهد (الغليان) ولكنّنا لم نلمس بحواسنا الظاهرة (علّية) الحرارة ل(الغليان)، ومع ذلك نؤمن بها على نحو القطع واليقين.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى مفاهيم (الوجوب) و(الإمكان) و(الوحدة) و(الكثرة) ونحوها.

الظاهرة الثالثة: إنّ العلوم المتداولة عبارة عادةً عن قواعد كلّية تُطبّق على جزئياتها، وهذه القواعد الكلّية تعتمد على (استقراء ناقص) لبعض

ص: 308

الجزئيات والمصاديق، ومن ثمّ استخراج قاعدة كلّية من خلال ذلك.

فعندما نقول: (الماء يتكوّن من ذرّة أُوكسجين وذرّتي هيدروجين) فنحن لم ندرس كلّ قطرات الماء الموجودة في الكون لنرى أنّها تتركّب من هذين العنصرين بهذه النسبة المعيّنة، بل درسنا بعض فصائل الماء، وعلمنا - عبر الطرق المدوّنة في (علم المنطق) بأنّ سائر الفصائل مماثلة للفصائل المدروسة، وحيث أنّ (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد) عممّنا الحكم لكلّ فصائل الماء، ووضعنا بذلك تلك القاعدة الكلّية.

وهكذا الأمر في القواعد المدوّنة في علم الطبّ والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها من العلوم.

ومن الواضح: أنّ (القواعد الكلية) لا تقع في نطاق (الإحساس المادي) إذ (الحسّ) لا يتعامل مع الحقائق الكلّية، وإنّما يتعامل مع (الجزئيات)، ومع ذلك فنحن نؤمن بهذه (القواعد الكلية) التي لولاها لم تقم كثير من العلوم المتداولة.

وهكذا نتوصّل إلى أن «الحسّ» ليس هو الطريق الوحيد للإيمان بوجود حقيقة من الحقائق الكونية!.

محاورات

1 - روي أنه دخل رجل من الخوارج على الإمام الباقر (عليه السلام) فقال: يا أبا جعفر، أيّ شيء تعبد؟.

قال: اللّه.

قال: رأيته؟

ص: 309

فقال (عليه السلام) : لم تره العيون بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشَّبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلاّ هو.

فخرج الرجل وهو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(1).

2 - روي أنه قام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل يقال له (ذعلب) فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربَّك؟

فقال (عليه السلام) : ويلك يا ذعلب، لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره.

فقال: فكيف رأيته؟ صفه لنا.

فقال (عليه السلام) : ويلك، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان... إلى آخر كلامه (عليه السلام) .

فخر ذعلب مغشيّاً عليه(2).

3 - روي أنه دخل أبو شاكر الديصاني - وهو زنديق - على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: يا جعفر بن محمّد دُلَّني على معبودي!

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : اجلس.

فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها.

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ناولني يا غلام البيضة.

فناوله إيّاها.

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ،

ص: 310


1- بحار الأنوار 4: 16.
2- بحار الأنوار 4: 17.

وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضَّة الذائبة، تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يُدرى للذكر خلقت أم للأنثى؟ تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبّراً؟

فأطرق الديصاني مليّاً، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبدُه ورسوله، وأنّك إمام وحجّة من اللّه على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه(1).

4 - نقل أنه سئلت امرأة عجوز عن الدليل على وجود الصانع؟

فقالت: دولابي هذا [المغزل الذي كانت تغزل به] فإنّي إن حرّكته تحرّك وإن لم أحرّكه سكن!

وإلى هذا [النوع من الإيمان الفطري] أُشير في الحديث الشريف: (عليك بدين العجائز)(2).

5 - يقال: إنّ (بهلول) استمع يوماً إلى (أبي حنيفة) وهو يقول لأصحابه: إن من مقالة جعفر بن محمد ثلاثة أشياء لا أقبلها منه.

- يقول: إنّ الشيطان يعذّب بالنار، وكيف يعذّب بها وقد خلق منها؟ والشيء لا يتعذّب بما هو من سنخه؟

- ويقول: بأن اللّه لا يُرى، مع أنّ كلّ موجود لا بدَّ أن يُرى.

ص: 311


1- بحار الأنوار 3: 31-32.
2- حق اليقين 1: 7.

- ويقول: باستناد أفعال العباد إلى أنفسهم، مع أنّ النصوص تدلّ على خلاف ذلك!

فأخذ بهلول مدرة من الأرض وضرب بها وجه أبي حنيفة، فسال الدم منه، وهرب بهلول.

فتبعه القوم، وألقوا القبض عليه، وأتوا به إلى دار هارون الرشيد ومعهم أبو حنيفة.

فالتفت بهلول إلى أبي حنيفة وقال له: ما جاء بك إلى هنا للشكاية منّي؟

فقال أبو حنيفة: لما قد أصابني من رميتك؟

فقال بهلول: وأين هذا الألم الذي تدّعيه، هل تستطيع أن تُريَني إيّاه؟ ثم كيف تأذّيت من المدرة، وهي من تراب، وأنت من تراب؟ ألم تقل بأن الشيء لا يتألّم بما هو سنخه؟

ثم كيف نسبت الرمية إليّ، وأمرها كما تقول بيد غيري!

فبُهت أبو حنيفة، ولم يجد جواباً، وقام وخرج(1).

تأثير الإيمان بالغيب في سلوك الإنسان

للإيمان بالغيب تأثير عظيم في سلوك الإنسان في الحياة، ونقتصر هنا على استعراض بعض النماذج التي تؤكّد هذه الحقيقة:

1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قصّة مراودة زليخا ليوسف (عليه السلام) عن نفسه - أنه قال: أن زليخا قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه مُلاءة لها.

فقال لها يوسف: ما تعملين؟

ص: 312


1- روضات الجنات 2: 147.

فقالت: اُلقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فإنّي أستحي منه.

فقال يوسف: أنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا استحيي أنا من ربّي؟(1).

2 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: بينما ثلاثة نفر فيمن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم.

فقال بعضهم لبعض: يا هؤلاء، واللّه ما ينجيكم إلاّ الصدق، فليدعُ كلُّ رجل منكم بما يعلم اللّه عزَّ وجلَّ أنه قد صدق فيه.

فقال أحدهم: اللّهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق(2) أرز، فزرعته فصار من أمره إلى أن اشتريت من ذلك الفرق بقراً.

ثم أتاني فطلب أجره فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها.

فقال: إنّما لي عندك فرق من أرز.

فقلت: اعمد إلى تلك البقرة فسقها، فإنّها من ذلك. فساقها.

فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرِّج عنّا فانساحت الصخرة عنهم [قليلاً].

وقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلَّ ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ذات ليلة، فأتيتهما وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون(3)من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتّى يشرب أبواي

ص: 313


1- بحار الأنوار 12: 225؛ النور المبين: 185.
2- الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً.
3- أي يتضورّون من الجوع.

فكرهت أن أوقظهما من رقدتهما، وكرهت أن أرجع فيستيقظا(1)لشربهما فلم أزل أنتظرهما حتّى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا.

فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

وقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم أحبّ الناس إليّ، وإني راودتها عن نفسها، فأبت عليَّ إلاّ أن آتيها بمائة دينار.

فطلبتها حتى قدرت عليها، فجئت بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها فلمّا قعدت بين رجليها قالت: اتّق اللّه ولا تفضَّ الخاتم إلاّ بحقّه، فقمت عنها وتركت لها المائة، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا. ففرَّج اللّه عزَّ وجلّ عنهم فخرجوا(2).

3 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان عابد من بني اسرائيل، فطرقته امرأة بالليل فقالت له: أضفني.

فقال: امرأة مع رجل لا يستقيم.

قالت: إنّي أخاف أن تأكلني السبع.

فتأثّم، فخرج وأدخلها والقنديل بيده، فذهب يصعد به.

فقالت له: أدخلتني من النور إلى الظلمة!

فرّد القنديل، فما لبث أن جاءته الشهوة، فلمّا خشي على نفسه قرّب خنصره إلى النار، فلم يزل كلّما جاءته الشهوة أدخل إصبعه النار حتى

ص: 314


1- أي يستيقظان على أثر الجوع فلا يجدان اللبن.
2- بحار الأنوار 67: 379-380؛ الخصال 1: 87.

أحرق خمس أصابع، فلمّا أصبح قال: اخرجي فبئس الضيفة كنتِ لي(1).

4 - عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: «إنّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكسرت السفينة بهم، فلم ينج ممّن كان في السفينة إلا امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة حتى التجأت إلى جزيرة من جزائر البحر، فكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها.

فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه! فرفع رأسه إليها. فقال: إنسيّة أم جنّيّة؟

فقالت: إنسيّة.

فلم يكلّمها بكلمة حتّى جلس منها مجلس الرجل من أهله!

فلمّا أن همّ بها اضطربت.

فقال لها: ما لك تضطربين؟

فقالت: أخاف من هذا - وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: فصنعت من هذا شيئاً؟

قالت: لا وعزّته.

قال: فأنت تخافين منه هذا الخوف ولم تصنعي شيئاً واستكرهتك استكراهاً فأنا - واللّه - أولى بهذا الخوف، وأحقُّ منك.

فقام ولم يحدث شيئاً ورجع إلى أهله، وليس له همّة إلا التوبة والمراجعة.

فبينما هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما

ص: 315


1- بحار الأنوار 67: 410.

الشمس.

فقال الراهب للشاب: أُدع اللّه يظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس.

فقال الشاب: ما أعلم أن لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً.

فقال: فأدعو أنا وتؤمن أنت؟.

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمِّن، فما كان بأسرع من أن أظلَّتهما غمامة.

فمشيا تحتها مليّاً من النهار، ثمّ انفرقت الجادة جادّتين، فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحاب مع الشاب!

فقال الراهب: أنت خير منّي، لك استُجيب ولم يستجب لي، فخبّرني ما قصّتك؟

فأخبره بخبر المرأة.

فقال الراهب: غفر اللّه لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما يستقبل».(1)

5 - عن علي بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كُتابّ بني أُميّة فقال لي: استأذن على أبي عبد اللّه (الصادق (عليه السلام) )، فاستأذنت له، فاذن له.

فلمّا دخل سلّم وجلس، ثم قال: جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت(2)في مطالبه. .

ص: 316


1- النور المبين: 529-530.
2- أي تساهلت في تحصيله، ولم أجتنب فيه الحرام.

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : لولا أنّ بني أُميّة وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاَّ ما وقع في أيديهم.

فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي مخرج منه؟

قال [الصادق (عليه السلام) ]: إن قلت لك تفعل؟

قال: أفعل.

قال[ (عليه السلام) ]: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على اللّه الجنّة.

فأطرق الفتى طويلاً، ثم قال له: قد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة. فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلاّ خرج منه، حتى ثيابه التي على بدنه، فقسمت له قسمة، واشترينا له ثياباً، وبعثنا إليه بنفقة.

فما أتى عليه إلاّ أشهر قلائل حتى مرض، فكنّا نعوده، فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوق(1)ففتح عينه ثمّ قال: (يا علي، وفى لي واللّهِ صاحبُك) ثم مات فتوليّنا أمره.

فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فلمّا نظر إلي قال: يا علي، وفينا واللّهِ لصاحبك.

فقلت له: صدقت جعلت فداك، هكذا واللّه قال لي عند موته.(2).

ص: 317


1- السَّوق: حالة نزع الروح من الميت.
2- بحار الأنوار 47: 383، نقلاً عن الكافي 5: 106.

6 - عن تويله بنت أسلم قالت: صلَّيت الظهر - أو العصر - في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء (أي بيت المقدس) فصلّينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد استقبل البيت الحرام فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام، فبلغ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك فقال: اُولئك قوم آمنوا بالغيب(1).

2 - إقامة الصلاة

والصفة الثانية للمتقين هي أنهم {يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}.

و(إقامة الصلاة) تواصل مستمّر مع (عالم الغيب) الذي آمن به المتّقون، وهذا التواصل ضروري، إذا ما أُريد للإيمان أن يظلّ ثابتاً وللتقوى أن تثمر آثارها في الحياة العملية.

وذلك لأن نوازع الشهوة تعصف بالإنسان باستمراره، وتبعده عن خطّ التقوى دوماً، ولكي يتحرّر الإنسان من ضغوط الشهوات، وتستمر فيه (التقوى) كان لا بدّ من الارتباط الدائم باللّه تعالى، لكي يستمدّ منه العزيمة والقوّة في مواجهة الأهواء والشهوات.

من هنا جاء في القرآن الكريم: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.

وينبغي هنا أن نشير إلى أنّ إقامة الصلاة لا تعني مجرد الإتيان بصورتها - من قيام وركوع وسجود - بلا توجّه إلى محتواها وروحها، كيف وقد توّعد اللّه سبحانه الساهي عن حقيقة الصلاة بالويل؟ فقال عزَّ وجلَّ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *وَيَمْنَعُونَ

ص: 318


1- الدر المنثور 1: 26.

الْمَاعُونَ}(1) فهو وإن اطلق عليه لفظ (المصلّي) إلاّ أنه منعوت بالسهو عن حقيقتها، والحرمان من بركاتها في حياته العملية، ومن هنا تقول له الصلاة: (ضيّعك اللّه كما ضيعتني)، كما ورد في الحديث الشريف(2).

بل المراد ب(إقامة الصلاة): آداؤها بشروطها وآدابها كاملة غير منقوصة، وحفظها عن وقوع الخلل فيها. يُقال: أقام العود إذا قوَّمه، و(قام بالأمر) إذا أحكمه.

أو المراد بذلك: إدامة أداء فرضها، يقال للشيء الراتب (قائم) ولفاعله (مقيم) ويقال: (فلان يقيم أرزاق الجند) إذا كان يستمرُّ على ذلك.

وفي التقريب: إقامة الصلاة الإتيان بها دائماً على الوجه المأمور بها، ولذا تدلّ على معنى أرفع من معنى (صلّ)(3).

ويحتمل أن يكون المراد ب(إقامة الصلاة) إقرارها في المجتمع وسوقه نحوها، كما يظهر من نظائر هذه الجملة، فإذا قلنا: (فلان أقام الخير أو الشرّ) فإن ذلك يعني تعميم الخير أو الشرّ في المجتمع لا مجرّد الإتيان به وحده، ولكنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الآيات، فتأمّل.

3 - الإنفاق ممّا رزق اللَّه

والصفة الثالثة للمتقين هي أنهم {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

أ - وهذه الصفة تعبر عن الارتباط بين (المتقين) و(الناس) كما كانت

ص: 319


1- الماعون: 4-7.
2- مواهب الرحمن 1: 69.
3- تقريب القرآن 1: 40.

(إقامة الصلاة) تعبر عن الإرتباط بينهم وبين اللّه، وهي في الواقع من آثار (الإيمان بالغيب) فمن يؤمن بالغيب سوف يندفع إلى الإنفاق ممّا عنده؛ إذ إنّ (من أيقن بالخلف جاد بالعطية).

ب - والرزق لا ينحصر في (المال) فقط، بل يشمل كلَّ المواهب التي منحهم اللّه سبحانه كما يستفاد من عموم كلمة (ما) الموصولة، فالمال والجاه، والعلم، والسلطة و.. كلّها من مصاديق الرزق، وإنفاق كلّ واحد منها بحسبه.

ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أنّه قال: «وممّا علّمناهم يبثّون، وممّا علّمناهم من القرآن يتلون»(1).

وروي «وممّا علّمناهم ينبئون»(2).

ج- - والحقيقة الجلية في أذهان المتّقين هي أنّ كلّ هذه المواهب هي ممّا (رزقهم اللّه)، فلم يكونوا ليحصلوا عليها بأنفسهم، بل بسبب العطاء الإلهي.

إنّ منطق غير المتقين يتمثّل في كلام قارون حينما حصل على تلك الكنوز التي كانت مفاتحها لتنوء بالعصبة أولي القوّة: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}.

بينما منطق المتّقين يتمثّل في كلام يوسف (عليه السلام) حينما تولّى عرش مصر العظيم فقال يناجي ربّه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ

ص: 320


1- نور الثقلين 1: 26، 32.
2- البرهان 1: 53.

الأَحَادِيثِ}(1).

وذلك: لأنّ كلّ المواد المودعة في هذا الكون هي من صنع اللّه سبحانه وتعالى، وكلّ هذه الطاقات التي استطاع بها الإنسان الحصول على ما يملك هي من عطاء اللّه والاحتياج إلى هذا العطاء ليس في البدء فقط.. بل في كل لحظة من لحظات الحياة بحيث لو انقطع العطاء الإلهي لحظة واحدة لانتهى كلّ شيء(2).

د - وليس المطلوب أن تنفق (كلّ) ما رزقك اللّه، بل المطلوب أن تنفق (بعضه)، كما يستفاد من كلمة (من) التبعيضية في قوله تعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إذ أصل الكلمة (ومن ما) ثمّ قلبت النون ميماً واُدغمت الميم في الميم فأصبحت (ممّا) وذلك رفق إلهي بالمؤمنين؛ إذ لم يكلّفهم أن ينفقوا (كلّ) ما عندهم وإنما (بعضه)، ولكنّ الإنسان رغم كلّ ذلك: ظلوم كفّار!.

ولا بأس أن نذكر هنا المثال التالي.

(يُنقل أنه كان لإنسان عبد، فسافر هو وعبده إلى بلد بعيد، وترك عائلته في بلده، وبعد فترة كتب إليه بعض عياله يقول: إنّ نفقتنا قد انتهت وإنّنا بأشد الحاجة إلى المال. فأعطى السيد لعبده ألف دينار، وقال له: اذهب وسلّم المال إلى عائلتي، وهذه عشرون ديناراً لأجل سفرك.

فلمّا ابتعد العبّد قليلاً ناداه السيد وقال له: إن مائتين من الألف أيضاً لك وسلّم إلى عائلتي ثمانمئة.

ص: 321


1- يوسف: 101.
2- راجع تفسير سورة الحمد في قوله تعالى «بسم اللّه الرحمن الرحيم».

قال العبد: أيّها السيد، إنّي رهين إحسانك ومنَّتك، وقد أعطيتني نفقة السفر، فلا حاجة لي إلى الزائد.

قال: السيد: اسمع ما أقول لك.

فشكره العبد ومضى.

وما إن مشى خطوات حتّى ناداه السيِّد وقال له: لك أربعمائة وسلِّم ستمائة إلى عائلتي.

فأخذ العبد يكرّر كلامه السابق، لكنّ السيد أصرّ على مقالته، فشكره العبد وذهب غير بعيد، وإذا بالسيِّد يناديه ويقول له: لك ستمائة وسلِّم لعائلتي أربعمائة.

فكرّر العبد كلامه السابق، وكرّر السيد إصراره، فأكثر العبد شكره.

ولم ينتقل العبد خطوات حتّى ناداه السيد قائلاً: لك ثمانمائة والبقيّة لعائلتي.

فذهب العبد ووصل إلى بلد السيد، لكنّه لم يسلم المال إلى عائلة السيد، وكلَّما طالبوه وهم في أشدّ الحاجة لم يعطهم العبد شيئاً)(1).

4 - الإيمان بما أُنزل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

والصفة الرابعة للمتقين هي أنهم {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} - أي بما أُنزل على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - .

وما أُنزل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعمّ القرآن وكلّ ما اُوحي إليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من القوانين والتشريعات والأحكام.

ص: 322


1- أنفقوا لكي تتقدموا: 33 (بتصرف).

والإيمان بكلّ ذلك، إنَّما هو باعتبار أنه (أُنزل) عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فليست للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جنبة (شخصية)، بل هو ممّثل السماء على الأرض، فالإيمان بما جاء به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو في الواقع إيمان ب(الغيب) واتّباعه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتِّباع لله سبحانه.

واستخدام كلمة (الإنزال) هنا هو باعتبار العلوّ المعنوي للمصدر الذي جاء منه الوحي، وهو اللّه سبحانه، لا باعتبار (العلو المادي) إذ لا حيِّز ولا جهة ولا مكان لله سبحانه؛ إذ هو خالق الحيِّز والجهة والمكان، فلا ينحصر في حيِّز أو جهة أو مكان.

والإيمان بما أُنزل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشكّل مفترق الطريق بين (المسلمين) و(أتباع الأديان الأُخرى) إذ قد يؤمن أُولئك ب(الغيب) إلاّ أنّهم لا يؤمنون بما أُنزل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

5 - الإيمان بما أُنزل من قبل

والصفة الخامسة للمتقين هي أنّهم يؤمنون ب(ما أُنزل من قبلك) أي النبوّات والكتب السابقة.

فنفس العامل الذي يدفعهم للإيمان بما أُنزل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدفعهم للإيمان بما أُنزل من قبل - من نبوّات وكتب ووحي ونحو ذلك.

إذ المصدر واحد، وكلّ هذه الرسالات (أُنزلت) من قبل اللّه سبحانه، فلا معنى للتفرقة بين رسل هذا الإله الواحد.

ما هي ضرورة الإيمان بالرسالات السابقة؟

ولكن، ما هي ضرورة الإيمان بالرسالات السابقة؟

في الإجابة على هذا السؤال نذكر النقاط التالية:

ص: 323

1 - الرسالات السابقة مهّدت الطريق لرشد هذه الأُمّة وإيصالها إلى هذا المستوى الرفيع الذي وصلت إليه.

فلا بدّ أن ندين لتلك الرسالات بالفضل، ونشكر لها ذلك الجميل.

إن من يصل - على أكتاف الابتدائية والثانوية - إلى الجامعة لا يصحّ له أن يلعن الابتدائية بعد الوصول إلى الجامعة، بل ينبغي أن يدين لها بالفضل، حيث أنها السلَّم الذي أوصله للجامعة.

وهكذا الأمر في رسالات السماء السابقة فهي كانت درجات في السلَّم الذي وصل الإنسان من خلاله إلى أعلى مراحل النضج الإنساني.

ومن هنا روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق».

2 - الرسالات السابقة منابع للهداية، وومضات نور على الدرب، وقد نقل القرآن الكريم لنا كثيراً من قصصهم، كما نجد في الروايات الشريفة الكثير ممّا يتناول ذلك.

ففي الإيمان بالرسالات السابقة (توسيع لدائرة الأُسوة) و(تكثيف لنقاط النور).

وينفع ذلك أيضاً في (استصحاب الشرائع السابقة) على القول به - كما قُرِّر في (علم الأُصول).

3 - الجذور التاريخية ضرورية لكلّ دين، لكي لا يكون كشجرة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

ومن هنا نجد: أنّ المبادئ الجديدة تحاول أن تلصق نفسها ببعض

ص: 324

العظماء التاريخيين لكي تقول للناس: إنّها ليست طارئة على مسيرة المجتمع الإنساني، بل هي موغلة في أعماق الأرض والزمن!

وبهذا يشعر المنتمي بأنه يسير فوق خطّ معبّد لا فوق طريق جديد لم يسلك من قبل.

ومن هنا نجد أنَّ اليهود كانوا يحاولون أن يلصقوا أنفسهم بإبراهيم الخليل (عليه السلام) . والنصارى هم الآخرون كانوا يدّعون بأن إبراهيم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منهم.

وجاء القرآن الكريم لكي يفند كلّ هذه المزاعم، ويكشف الحقيقة بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(1).

ويقول في آية أُخرى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}(2).

4 - والإيمان بكل الرسالات السابقة يعبر عن واقعية الإنسان تجاه الأحداث، فهو ليس رجلاً معصّباً، بل يقرّ بكل ما له واقعية، وباعتبار أنّ الأديان السابقة هبطت من السماء فهو إذاً يؤمن بها ويعتقد بها.

5 - ولا ننسى ما لهذا الإيمان من أثر في نزع الأحقاد وتأليف القلوب واستقطاب الآخرين إلى دائرة الحق.

وقد ذكر السيد الوالد - دام ظلّه - ما مضمونه: أنّ شخصاً مسيحياً جاءه وحاوره حول الإسلام، فلمّا اقتنع قال: بقيت هنالك عقبة.

فقال السيد: وما هي؟

ص: 325


1- آل عمران: 67.
2- الحج: 78.

قال: إنّ إسلامي يعني التبرّؤ من السيد المسيح والسيدة مريم (عليهما السلام) وهذا ما لا أرضى به.

فقال السيد: الأمر بالعكس تماماً، فإن إيمانك بالإسلام يجعلك أكثر إيماناً بالسيد المسيح (عليه السلام) والسيدة مريم (عليها السلام) ؛ إذ إننا نعتقد أنّ المسيح (عليه السلام) من الأنبياء أُولي العزم وأُمُّه صدّيقة، وإنّهما معصومان عن كلّ خطأ وذنب.. ثم أتى السيد بالمصحف وأخذ يريه (سورة مريم) قائلاً له: إنّ قرآننا يحتوي على سورة كاملة باسم (سورة مريم). فأبدى الرجل استغرابه الشديد، وأسلم لله ربِّ العالمين.

6 - اليقين بالآخرة

والصفة السادسة للمتقين هي أنهم {بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.

و(اليقين) هو (الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه أيُّ نوع من أنواع الشك والتردد.

وقيل: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

وعلى كلّ حال فهذه الحياة ليست في منظار المتقين المحطة الأخيرة في رحلة الحياة الطويلة، بل إنّها محطة في الطريق، وبعد هذه الحياة (الدنيا) توجد هنالك (آخرة) و(الموت) مجرّد بوابة ينفذ عبرها الإنسان إلى تلك الحياة، ليقدم على ما قدّم، ويرى نتائج أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

وهذه الرؤية تمنح الإنسان الاستقامة في عمله، فلا يخون ولا يظلم ولا يتوانى عن القيام بمسئولياته، لأنه يعرف أنّ كل عمل بذره يحصد ثمرته غداً، كما أنها تمنحه رحابة الصدر تجاه الصعاب؛ إذ إنه يعرف أنّ كل عناء

ص: 326

يتحمّله في سبيل اللّه سوف يعوض أضعافاً مضاعفة في تلك الحياة.

ونظرة واحدة إلى حياة (المتقين) وحياة (غير المتقين) كفيلة بالكشف عن هذه الحقيقة.

أُولئك على هدى من ربهم

هذه هي صفات المتّقين، وباتصافهم بهذه الصفات كانوا مهديين سائرين على الطريق المستقيم.

إلاّ أن هذا الهدى لم يأت من قبل أنفسهم، بل جاء من جانب ربّهم.

صحيح أنّ الإنسان يسلك طريق (الهدى) بإرادته واختياره بدون أن يكون هنالك أيُّ قسر مفروض عليه؛ إذ القلب منطقة متحرّرة من تأثير مراكز القوى فلا تستطيع أن تفرض على القلب اتّجاهاً معيّناً، وإن استطاعت أن تفرض على البدن ما تريد.

وصحيح أنّ الإرادة اختياريّة بذاتها، فاختيارية كل شيء بالإرادة، أمّا اختيارية الإرادة فبذاتها، كما أن إنارة كل شيء بالضوء، أمّا إنارة الضوء فبذاته - بمعنى عدم افتقار هذا الوصف إلى حيثية تعليلية وراء علّة وجود الذات، فعلّة وجود الذات كافية في وجود الوصف الذاتي، بدون الاحتياج إلى علّة أُخرى تمنحه وجوده، ومن هنا قيل: (الذاتي لا يُعلَّل).

إلا أنّ حصول هذه الإرادة متوقّفة على مقدّمات، ومن هذه المقدِّمات (التصور) - أي: انطباع صورة الشيء في الذهن، وإذا لم يكن اللّه سبحانه يرسل الرسل، وينّزل الآيات لم يكن لأحد أن يتعرّف على طريق الهدى ليسلكه.

ص: 327

ومن هنا يقول المؤمنون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}(1).

وفي الدعاء: (يا من دلّ على ذاته بذاته)(2).

هذا مضافاً إلى أن نفس وجود الإنسان ووجود إرادته ووجود صفاته الكمالية التي بها أدرك الهدى، ووجود قدراته وطاقاته التي بها سلك طريق الهدى و... و.. كلّها رهينة بالعطاء الإلهي.

ومن هنا كان هدى المتقين آتيا من جانب ربّهم: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}.

نتيجة التقوى

هذه نتيجة من نتائج التقوى الهدى بما يلازمها من استقامة في النفس والعقل والروح، وأمّا النتيجة الأُخرى فيشرحها المقطع الأخير من الآية: {وَأُولَئِكَ

هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

والفلاح لغةً هو الظفر بالهدف المتوخّى بعد الكدّ والتعب، والمتّقون وحدهم هم المفلحون؛ لأنّهم عبروا طريق (ذات الشوكة) حتى نالوا مقصودهم وهو السعادة في الدنيا والآخرة.

ويدلّ على تعميم الفلاح للدنيا والآخرة حذف المتعلَّق بأنه يفيد العموم - كما ذكره علماء البلاغة - .

ص: 328


1- الأعراف: 43.
2- مفاتيح الجنان، دعاء الصباح.

كما يدلّ عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1).

ص: 329


1- الأعراف: 96.
الآيتان: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }
اشارة

الآيتان: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }(1)

المفردات

{سَوَاءٌ}: متساو في حقّهم الإنذار وعدمه.

{ءَأَنْذَرْتَهُمْ}: الإنذار هو التحذير من نتائج العمل في زمان يتّسع للاحتراز عنه، فإن لم يتّسع للاحتراز كان (اشعاراً) ولم يكن (إنذاراً).

{خَتَمَ}: الختم ضرب الخاتم على الشيء، لئلاّ يتوصّل إليه أحد أو يطلّع عليه، ومنه وضع الخاتم على الكتب والأبواب كي لا تفتح، والختم اليوم يستعمل في المنع من الاطلاّع على الشيء أو الدخول إليه، كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية.

{قُلُوبُهُمْ}: عقولهم.

{غِشَاوَةً}: الغطاء الذي يشتمل على الشيء ويحيط به.

القراءة

قال في الكشّاف ما مؤدّاه: يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم

ص: 330


1- البقرة: 6-7.

الختم وفي حكم التغشية، إلاّ أنّ الأُولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}(1) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم(2).

الإعراب

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءََأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} فيه وجهان:

1 - إن (سواء) خبر ل(إنّ) و{ءََأَنْذَرْتَهُمْ} في موضع الرفع به على الفاعلية، والتقدير (إن الذين كفروا متساوٍ عليهم إنذارك وعدمه).

ف- {الَّذِينَ كَفَرُوا} اسم ل(إنّ) و(متساوٍ) خبرُها و(إنذارك) فاعل للخبر و(عدمه) عطف على الفاعل، فهو نظير أن تقول: (إنّ الذين كفروا يتساوى عليهم إنذارك وعدمُه) إلاّ أنَّ (يتساوى) فعلٌ و(متساوٍ) اسمٌ. وكذا (سواء).

2 - أن تكون جملة {ءََأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في موضع مبتدأ مؤخّر، وسواءٌ خبر مقدَّم. ومجموع هذه الجملة المركّبة من المبتدأ والخبر خبر ل(إنّ).

والهمزة في {ءَأَنْذَرْتَهُمْ} مجرّدة عن معنى الاستفهام الحقيقي، ويطلق عليها (همزة التسوية) والضابط لها أنّها الهمزة الداخلة على جملة يصحُّ حلول المصدر محلّها، نحو: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ}(3). أي: سواء عليهم الاستغفار وعدمه(4).

ص: 331


1- الجاثية: 23.
2- الكشاف 1: 163.
3- المنافقون: 6.
4- مغني البيب، الباب الأول، حرف الألف.

فقوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءََأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي: سواء عليهم الإنذار وعدمه.

وقال في التبيان: (ومعناه: أيُّ الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم تُرك الإنذار فإنّهم لا يؤمنون، وهذا لفظه لفظ الإستفهام ومعناه الخبر، وله نظائر في القرآن، كما تقول (ما أُبالي أقمت أم قعدت) وأنت مخبر لا مستفهم؛ لأنّه وقع موقع أيّ، كأنّك قلت: لا أُبالي، أيُّ الأمرين كان منك، وكذلك معنى الآية: سواء عليهم أي هذين منك اليهم حسن في موضعه، سواء فعلتَ أم لم تفعل).(1)

النزول

قيل: إنّ الآية الكريمة نزلت في (أبي جهل) وخمسة من قومه من قادة الأحزاب، قتلوا في معركة (بدر).

وقيل: إنّها نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود الذين يقطنون حوالَي المدينة.

وقيل: إنَّها نزلت في رؤساء اليهود والمعاندين الذين وصفهم اللّه تعالى بأنهم يكتمون الحقّ وهم يعلمون.

وقيل: إنّها نزلت في مشركي العرب الذين جحدوا بعد المعرفة، وأنكروا بعد البيّنة.

والذي يتناسب مع عموم كلمة (الّذين) ومع سياق الآيات المباركة، أنّ

ص: 332


1- التبيان 1: 61.

الآية الكريمة تشمل كلّ الكفّار المعاندين الذين أغلقوا على أنفسهم (منافذ المعرفة) فاستوى في حقّهم الإنذارُ وعدمه، ولم يعد بإمكانهم - بسبب سوء اختيارهم - الوصول إلى طريق الهدى أبداً، وبتقرير آخر: القضية من قبيل (القضايا الحقيقية)(1) التي يكون الموضوع فيها هو العنوان الكلّي الجامع لكلّ ما ينطبق عليه من الأفراد، لا من قبيل (القضايا الخارجية) التي يكون الموضوع فيها الأشخاص الخارجية الجزئية، فتأمّل.

التفسير

بعد أن استعرض القرآن الكريم موقف المجموعة الأُولى من المجموعات الثلاث تجاه القرآن الكريم وما يحتوي عليه من مبادئ وقيم، يتعرّض إلى موقف المجموعة الثانية وهي (الكافرون).

معنى الكفر

والكفر من الناحية اللُّغوية هو (الستر) ويسمَّى (الزارع) كافراً، باعتباره يستر البذور تحت التربة، قال اللّه تعالى {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}(2) ويقال:

(تكفّر فلانٌ بالسلاح) أي: تغطّى به، وكأنّ الكافر سُمِّي بذلك لأنّه يستر الحقيقة ولا يبديها(3)، أو لأنّه يستر عقله تحت ركاب الجهل أو العناد، فلا

ص: 333


1- على أحد المصطلحين في معنى (القضية الحقيقية) و(القضية الخارجية)، راجع: فوائد الأُصول للمحقق النائيني (رحمه اللّه) 1: 276، بحث (مقدّمة الواجب).
2- الحديد: 20.
3- تقريب القرآن 1: 41.

يسمح لعقله أن يكتشف الحقيقة.

أمّا من الناحية الشرعية، فالكفر عبارة عن إنكار الأُلوهية أو الرسالة أو المعاد، أو ضروريٌّ من ضروريات الدين، بحيث يعود إنكاره إلى إنكار الرسالة أو مطلقاً، على اختلاف المبنيين في ذلك(1).

ولكن يبدو أنّ هذه الآية ليست ناظرة إلى هذا المعنى الشرعي، بما له من السعة والشمول، بل هي ناظرة إلى تلك الشريحة الاجتماعية من الكفّار التي ظلَّت مصرّة على مواقفها الخاطئة تجاه الإسلام، وعلم اللّه سبحانه بعلمه الأزلي أنها سوف لن تؤمن بهذا الدين.

ثلاثة مواقف

فالناس الذين بلغتهم الدعوة، ووصل إلى مسامعهم نداء الحقّ على ثلاثة أنواع:

1 - الأفراد ذوو القابلية للفهم والتلقّي: وهؤلاء فتحوا نوافذ قلوبهم لنداء الحق، واحتضنوه وتفاعلوا معه، فهؤلاء كالتربة الخصبة التي ما إن تُلقى فيها البذور حتى تحتضنها وتتفاعل معها ولا تمرّ الأيام إلاّ وتملأ الآفاق بألوانها الزاهية، وأريجها الفّواح، وثمارها اليانعة.

2 - الأفراد الذين انعدمت فيهم القابلية - بسبب سوء اختيارهم - : وهؤلاء أغلقوا نوافذ قلوبهم على الحقّ فلم يعد يستطيع النفاذ إلى أعماقهم أبداً، فهؤلاء كالأرض السبخة التي لا تحتضن بذرة، ولا تنبت ثمراً.

3 - الأفراد المذبذبون بين هؤلاء وأُولئك:

ص: 334


1- الفقه 4: 222.

والقسم الثاني يتساوى في حقّهم الإنذار وعدمه، والتبليغ وعدمه:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءََأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وذلك مثل (أبو جهل) و(أبو لهب) وأمثالهما من الكفّار.

وعلى هذا: يكون المراد من {الَّذِينَ كَفَرُوا} الذين استمروا على كفرهم وضلالهم، رغم وصول كلمة الحقّ إليهم، لا كل من تلبّس بالكفر، وإلاّ فالذين آمنوا بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان أكثرهم كفّاراً، ثمّ أصبحوا بعد ذلك مؤمنين.

لماذا العناد؟

ويبدو أنّ الآية التالية تبيّن السبب في ذلك، فقد {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} و{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فهؤلاء سُدَّت عليهم منافذ المعرفة؛ إذ إنّ منافذ المعرفة هي (العقل) و(السمع) و(البصر).

أمّا عقولهم فقد ختم اللّه عليها - بكفرهم -، وإذا ختم على العقل لم يمكن أن يدخله نور الهدى ابداً.

وأمّا سمعهم فقد طبع اللّه عليه بعنادهم.

وأمّا أبصارهم فقد أسدلت دونها غشاوة سميكة فلم يعد بإمكانها الرؤية أبداً.

وفي تعبيرات الآية الكريمة تنزيل لفاقد الوصف منزلة فاقد الأصل، وقد ينفى الأصل عند انتفاء الوصف بسبب أهمّية الوصف، أو كونه علّة غائيّة لوجود الأصل، ومن الواضح أنّ في السمع والبصر أمرين يترتّب أحدهما على الآخر:

ص: 335

أوّلهما: انكشاف المسموع والمبصَر لدى السامع والرائي.

وثانيهما: الجري العملي وفق هذا الانكشاف.

والانتفاع بالسمع والبصر إنّما يتمّ بالجري العملي، فإذا انتفى ذلك فكأنه لا سمع ولا بصر، فينزّل (عدم السمع النافع) منزلة (عدم السمع) لإفادة أنه بمنزلته في النتيجة، كما ينزل (عدم الإبصار النافع) منزلة (عدم الأبصار) لبيان أنّه مثله في المآل.

وهنالك احتمال آخر في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو أن يكون بمنزلة المعلول للآية الأُولى - فهؤلاء قد طبع اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاءاً وفاقاً على استهتارهم بالإنذار، حتّى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار، فتأمّل.

نتيجة العناد

أمّا النتيجة التي تترتّب على هذا الموقف العنيد المنبعث عن النفس المظلمة فهو ما يبينّه اللّه تعالى بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإنّ الانحراف عن الإيمان أعظم انحراف في حياة البشر، والأثر الوضعي الذي يترتّب على (الانحراف العظيم) هو (العذاب العظيم) بالطبع. وهذا العذاب العظيم لا يقتصر على نشأة الدنيا فحسب، بل يشمل نشأة الدنيا ونشأة الآخرة، كما يدّل عليه قول اللّه تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

قال: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}؟

ص: 336

قال: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}(1).

وقوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ}(2).

ولعلّ في تنكير (عذاب) اشارة إلى أنّ هذا العذاب عذاب مجهول لا يعرف كنهه البشر، أمّا بالنسبة إلى عذاب الآخرة فواضح؛ لاختلاف معادلات نشأة الآخرة عن نشأة الدنيا، فلا يستطيع الإنسان وهو محكوم بمعادلات هذه النشأة أن يدرك أبعاد تلك النشأة، كما لا يستطيع الجنين وهو في بطن أُمّه أن يستوعب معادلات هذه الحياة.

وأمّا بالنسبة إلى عذاب الدنيا؛ فلأن الإنسان محاط بإطار (الحاضر) وبأُطر (الحس) فلا يستطيع - عادةً - أن ينفذ إلى أغوار المستقبل، ولا أن يكتشف (الماورائيات) - كالروح مثلاً -(3).

ولذا فإنّه لا يستطيع أن يُحيط بأبعاد الآثار التي يتركها الانحراف عن خطّ الإيمان على الروح الإنسانية، ولا المضاعفات الخطيرة التي يخلّفها على مستقبل المجتمع البشري.

وما هذه المآسي الكبيرة التي تشهدها البشرية إلاّ (بعض) آثار الانحراف عن خطّ الهدى، ويوم تزاح حجب الغفلة وتكتشف الحقيقة كاملة، فلسوف يدرك الإنسان مدى عمق الفاجعة التي حلّت بالبشرية جرّاء ضلالها عن خطّ الإيمان باللّه.

ص: 337


1- طه: 124-126.
2- الرعد: 34.
3- راجع: كتاب (الإنسان ذلك المجهول).
ما تهدفه الآيتان الكريمتان

لا يخفى أنّ في هاتين الآيتين تسلية للنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات(1).

فقد كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حريصاً على أن يؤمن الناس جميعاً(2)وكان يتألمّ لذلك أشدّ التألُّم حتى قال اللّه سبحانه {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(3).

ففي هاتين الآيتين دلالة على أنّ هذه المجموعة لن تجدي معها المحاولات؛ لأنّها سوف تظلّ سادرة في غيِّها وضلالها، فلا ينبغي له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يهلك نفسه غمّاً وحسرةً عليهم.

ولا يختصُّ الأمر بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل يعمُّ كافة العاملين في سبيل اللّه؛ إذ المهم آداء (الوظيفة) وهي التبليغ - ضمن شروطه المقرّرة - وليس المهم الحصول على النتيجة - وهي شمولية الهداية لكلّ فرد - فإنّ هذه النتيجة سوف تصطدم بركام من التعصُّب واللَّجاجة والعناد في نفوس الكثيرين، ولن تجدي المحاولات معهم أبداً.

وعندهذه النقطة تستقر نفس المؤمن العامل ولن تعود تفّت في عضده قوة الضلال والانحراف؛ إذ المهمّ أن يكون على الحقّ. وأن يدعو إلى الحقّ. أمّا النتيجة، فإنها ليست مسئوليته، وإنّما يكلها إلى اللّه تعالى.

ص: 338


1- تقريب القرآن 1: 41.
2- الدر المنثور 1: 29.
3- الكهف: 6.

كما أنّ في هاتين الآيتين المباركتين تعرية لحقيقة موقف المجموعة الثانية - {الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ إذ إنه لا ينطلق من قاعدة فكرية متينة.. وإنّما ينطلق من الهوى والتعصُّب والعناد.

هل العلم الأزلي يلازم الجبر؟
اشارة

وهنا ينبري سؤال ليقول: إذا كان اللّه سبحانه يعلم أنّ هؤلاء لن يؤمنوا، وقد أخبر عن ذلك بقوله: {إِنَّ

الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فهل يمكن أن يتحقّق خلاف ما علمه اللّه - بأن يؤمن هؤلاء - فهذا يعني آنقلاب علم اللّه جهلاً - وتعالى اللّه عن ذلك علّواً كبيراً - وإذا لم يمكن أن يقع خلاف ما علمه اللّه، إذاً يكون هؤلاء (مجبورين) على الكفر أو العصيان.

يقول الشاعر - ما ترجمته: إنّني أشرب الخمر. وكلّ من كان من أهل المعرفة. فسوف يرى شربي للخمر سهلاً. الحقّ كان يعلم شربي للخمر منذ الأزل. فإذا لم أشرب الخمر انقلب علم اللّه جهلا!

وإلى هذه الشبهة يلجأ الكثير من العصاة لتبرير سيرهم في طريق العصيان والضلال.

وقد روى القاضي في كتاب (طبقات المعتزلة) أنَّ رجلاً قام إلى بعض الصحابة فقال: إنّ أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرّم اللّه إلاّ بالحق، ويقولون: كان ذلك في علم اللّه فلم نجد منه بّدا!(1).

ص: 339


1- التفسير الكبير 2: 52.

ممّا يدلّ على شيوع هذا المنطق المغلوط منذ ذلك الوقت.

كما نقل أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إنّ موسى قال لأدم: أنت الذي اُشقيت الناس وأخرجتهم من الجنّة!

فقال آدم: أنت الذي اصطفاك اللّه لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة، فهل تجد اللّه قدرّه عليَّ؟!

قال موسى: نعم.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فحجّ آدمُ موسى (أي: غلبت حُجَّة آدم على حُجَّة موسى (عليهما السلام) (1).

ويمكن الجواب على هذه الشبهة بأحد تقريرين:

التقرير الأوّل

إنّ العلم على نحوين:

1 - العلم الفعلي.

2 - العلم الانفعالي.

والأوّل: هو العلم الذي (يوّلد) المعلوم في الخارج فالعلم يقع متبوعاً، والمعلوم يقع تابعاً.

وهذا هو الذي يطلق عليه - أيضاً - (العلم العنائي).

ويمكن أن نمثل لذلك بعلم شخص بأنّه (مريض) مع أنّه ليس بمريض بالفعل ف(علمه) ب(المرض) ربَّما يولِّد فيه (المرض) فلم يكن (تحقُّق

ص: 340


1- التفسير الكبير 2: 53.

المرض) أوّلاً و(العلم بالمرض) ثانياً، بل كان (العلم بالمرض) أوّلاً و(تحقّق المرض) ثانياً.

وقد جرّب في علم الطب: إمكان (ايجاد) المرض في شخص سليم ب(الإيحاء) إليه بأنه (مريض).

كما تطرق إلى مثل ذلك علماء الأخلاق في بحوثهم حول دور الإيحاء في خلق الفضائل الخُلُقية.

والثاني: (العلم الانفعالي): هو العلم الذي يتبع المعلوم.

فالمعلوم يقع متبوعاً والعلم يقع تابعاً، كعلمك بوجود النهار الآن، فإنّ وجود النهار يقع في الرتبة الأُولى.. وعلمك بوجود النهار يقع في الرتبة الثانية. أي أنّه كان (النهار) ف(علمت بالنهار) لا إنّك علمت ب(النهار) ف(كان النهار).

والملاحظة الجديرة بالانتباه: أنه قد يكون (المعلوم) في النوع الثاني ماضياً، وقد يكون حاضراً، وقد يكون مستقبلاً.

فالأوّل: كعلمك ب(طوفان نوح (عليه السلام) ) في الأزمنة السحيقة.

والثاني: كعلمك بجريان الماء في النهر الذي أمامك.

والثالث: كعلمك ب(طلوع الشمس غداً).

فهذه الأقسام الثلاثة تشترك في أنّ (المعلوم) يقع في الرتبة الأُولى و(العلم) يقع في الرتبة الثانية.

فلأنّه كان الطوفان؛ لذا علمت بالطوفان. ولأنّه كان جريان الماء؛ لذا علمت بالجريان. ولأنّ الشمس ستطلع غداً؛ لذلك تعلم بأنّ الشمس تطلع غداً.

ص: 341

وإذا تقرّرت هذه الحقيقة نتساءل: هل إنّ علمك بطلوع الشمس غداً علّة لطلوع الشمس غداً، أم أنّ طلوع الشمس معلول لعلله التكوينية الخاصّة وعلمك لا دخل له في العلّية مطلقاً؟

الشقّ الثاني هو الصحيح.

وهكذا - ولو من بعض الجهات - علمُ اللّه، فإنّ اللّه تعالى يعلم أنّ (أبا لهب) سوف لن يؤمن، وقد أخبر بأنه من أهل النار في قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}(1).

ولكنّ (عدم إيمان أبي لهب) معلول ل(إرادته عدم الإيمان) وليس معلولاً لعلم اللّه سبحانه.

ولتقريب الصورة أكثر نضرب المثال التالي: لنفرض أنّ هنالك طالبين في الصف، أحدهما: مهمل وكسول لا ينتبه إلى المدّرس، ولا يطالع الدروس، ويقضي أوقاته في اللّعب واللّهو. والآخر: على العكس تماماً، مجدّ ومجتهد ومواظب على المطالعة والمذاكرة والحفظ. واستمرت هذه الحالة إلى يوم الامتحان.

المدّرس ربّما يعلم بأنّ التلميذ الأوّل سيسقط في الامتحان حتماً، وبأن التلميذ الثاني سينجح في الامتحان قطعاً، فهل (علم) المدِّرس هذا علّة لسقوط الأوّل ونجاح الثاني؟ وهل يستطيع التلميذ الأوّل أن يرفع دعوى ضدّ الاُستاذ بأن علمه هذا هو الذي سبّب فشله في الامتحان؟ وهل نستطيع أن نلغي دور إرادة التلميذ الثاني وجدّه في نجاحه بسبب (علم) الاُستاذ

ص: 342


1- المسد: 3.

المسبق بالنجاح؟

كلاّ إذ العلم هنا (تابع) وليس (متبوعاً) وهكذا الأمر بالنسبة إلى (العلم الأزلي) ولو في الجملة، فتأمّل.

التقرير الثاني
اشارة

إنّ العلم بالشيء يتنوّع - بلحاظ آخر - إلى أنواع ثلاثة:

1 - العلم بالعلّة وحدها

حيث يقتصر العلم في هذا النوع على ذات (العلّة) من دون أن يتعدّاها إلى المعلول.

والمراد بالعلم بالعلّة هنا العلم بها بما هي هي، لا بما هي علّة؛ إذ العلم بها بهذا اللّحاظ لا ينفكُّ عن العلم بالمعلول - ولو إجمالاً - لتضايف العلّية والمعلولية، والمتضايفان متكافئان تحقُّقاً وتعقُّلاً فلا ينفكُّ وجود أحدهما عن وجود الآخر، كما لا ينفكُّ تصوُّر أحدهما عن تصوُّر الآخر).

ومثال ذلك: إنّ الجاهل ربما يرى البعوضة تقع على بدنه وتمتصّ من دمه، ولكنّه لا يعرف المضاعفات الخطيرة التي تولّدها في البدن، فعلمه هذا (علم بالعلّة) فقط دون أن يتعدّاها إلى (العلم بالمعلول).

2 - العلم بالمعلول وحده

ويقتصر العلم في هذا النوع على ذات (المعلول) دون أن يتعدّاه إلى (العلّة).

ومثال ذلك: رؤية كثير من الناس للظواهر الطبيعية - من شروق وغروب وحرٍّ وبرد و...؛ دون أن ينتقلوا إلى (السبب) الذي يكمن وراء ذلك كلّه.

ص: 343

3 - العلم بالعلّة والمعلول معاً

وهذا النوع هو أكمل الأنواع الثلاثة؛ إذ إنّ الرؤية للصورة - في هذا النوع - ستكون كاملة دون أن يعتريها نقص أو قصور.

والنقطة المحورية في البحث هي: أنّ العلم الذي يتعلّق بمجموع (العلّة والمعلول) لا يمكن أن يلغي دور (العلّة) في وجود (المعلول) وإلاّ لانقلب العلم جهلاً ولم يعد متطابقاً مع الواقعية العينية الخارجية.

فعلمك بأن الكون (سيضيء غداً) بسبب (شروق الشمس) لا يمكن أن يلغي دور (شروق الشمس) في (إضاءة الكون) وإلاّ لم يكن علمك بذلك علماً، بل انقلب جهلاً، وهكذا الأمر في العلم الأزلي.

إذ لا شكّ في أنّ علم اللّه سبحانه علم تام لا تعتريه شوائب النقص والقصور.

ولا شكّ في أنّ (كفر أبي لهب) - مثلاً - معلول ل(سوء اختياره)، كما أن مرض المريض معلول لوجود ميكروبات معيّنة في بدنه مثلاً.

وكما أنّ علم اللّه الأزلي ب(مرض) المريض لا يلغي دور الميكروبات في إيجاد (المرض) كذلك علم اللّه الأزلي ب(كفر أبي لهب) لا يلغي دور (سوء اختياره) في إيجاد هذا (الكفر).

بل إنّ علم اللّه سبحانه ب(كفر أبي لهب) بسبب (سوء اختياره) يؤكّد (اختياره)؛ إذ لو كان هذا العلم سبباً لسلب الاختيار لانقلب علم اللّه جهلاً - وتعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

القرآن الكريم يؤكّد

ويؤيّد ما ذكرناه - من أن علم اللّه سبحانه بعدم إيمان الكافر لا يكون مانعاً

ص: 344

عن الإيمان - الآيات الكثيرة الدالّة على أن لا مانع لأحد من الإيمان كقوله تعالى {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}(1)، ومن الواضح أنّ المولى لو سجن عبده في غرفة لا يستطيع الخروج منها ثمّ قال له على وجه الإنكار (ما منعك من الذهاب إلى السوق - مثلاً - لعُدّ ذلك منه قبيحاً.

وقوله تعالى لإبليس {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ}(2).

وقوله تعالى: {فَمَا

لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(3).

وقوله جلَّ وعلا: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}(4).

قال الصاحب بن عباد: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه؟ وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول: أنّى تصرفون؟ ويخلق فيهم الأفك ثم يقول: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(5) وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول: {لِمَ تَكْفُرُونَ}(6) وخلق فيهم لبس الحقّ بالباطل ثم يقول: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}(7)؟ وصدّهم عن السبيل ثم يقول: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(8)؟ وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ

ص: 345


1- الإسراء: 94.
2- الأعراف: 12.
3- الإنشقاق: 20.
4- المدثر: 49.
5- الأنعام: 95.
6- آل عمران: 98.
7- آل عمران: 71.
8- آل عمران: 99.

آمَنُواْ}(1)؟ وذهب بهم عن الرشد ثم قال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}(2)؟ وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}(3)(4).

كما ويؤيّده قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(5) وقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}(6).

فبين سبحانه أن الحجّة قد تمّت عليهم، وأنه ما بقي لهم عذر إلاّ وقد أزاله عنهم، فلو كان علمه تعالى بكفرهم مانعاً لهم من الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عليهم(7).

والحديث في هذا البحث طويل نكتفي منه بهذا القدر، واللّه المستعان.

هل الختم على القلوب ينافي الاختيار؟

هنالك قاعدتان:

القاعدة الأُولى تقول: (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار).

والقاعدة الثانية تقول: (الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار).

ص: 346


1- النساء: 39.
2- التكوير: 26.
3- المدثر: 49.
4- التفسير الكبير 2: 48.
5- النساء: 165.
6- طه: 134.
7- التفسير الكبير 2: 48.

وتجمع القاعدتين عبارة مختصرة هي (ما بالاختيار لا ينافيه).

مفاد القاعدة الأُولى

ومفاد القاعدة الأُولى: أنه لو طرأت الاستحالة على شيء (ولنفرضه محبوباً للمولى) بسبب اختيار الشخص الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تلك الاستحالة - أو بسبب عدم الإتيان بالمقدّمات الوجودّية التي يتوقّف عليها ذلك الشيء - فإنّ هذه الاستحالة لا تعفي الشخص من المؤاخذة القانونية على ذلك الشيء؛ إذ لا تلاحظ استحالته فعلاً، وإنّما يلاحظ إمكان تملُّص المكلّف من تلك الاستحالة بعدم اختيار المقدّمات المؤديّة إليها، ويترتّب على ذلك استحقاق العقوبة، لا على المقدّمات المؤدية إلى الاستحالة، وإنّما على ذات الشيء الذي طرأت عليه الاستحالة، لأنّ (المقدور بالواسطة مقدور).

مثلاً: لو أمر المولى عبده بالتواجد غدا في بلد ناء لأداء مهمة معيّنة، وكان ذلك يتوقّف على حجز مقعد في الطائرة في هذا اليوم، فلم يفعل العبد ذلك، فمن الواضح أنه (يمتنع) عليه التواجد في الوقت المحدّد في المنطقة المعينة، إلاّ أنّ هذا (الامتناع) لا يعفي العبد من استحقاق العقوبة؛ إذ كان بإمكانه التخلّص من هذا الامتناع بشراء التذكرة في اليوم السابق.

مفاد القاعدة الثانية

ومفاد القاعدة الثانية: أنّ حتمية وجود الشيء (ولنفرضه مبغوضاً للمولى) إذا كانت مستندة إلى (اختيار) المكلّف الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تلك الحتمية، لا تعفي المكلّف من استحقاق العقوبة على إيجاده

ص: 347

ذلك الشيء المبغوض للمولى.

مثلاً: لو ألقى شخص بنفسه من عمارة شاهقة إلى الأرض، فإنه سوف يقع تحت هيمنة الجاذبية التي ستجذبه - بشدّة وعنف - نحو الأرض، وفي هذه الحالة يخرج الأمر من يده، ويكون من المحتم عليه - عادة - أن (يصطدم بالأرض) وتتهشّم عظامه.

لكنّ هذه الحتمية ليست حتمية مفروضة من فوق، وإنّما هي حتمية ناشئة من سوء اختيار المكلّف، فلا تعفيه من استحقاق المؤاخذة القانونية.

تأثير العمل في الرؤية

وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ للعمل (آثاراً وضعية) لا تختلف ولا تتخلّف، ومن أهمّ هذه الآثار الآثر الذي يتركه العمل على (الرؤية).

فالإنسان يولد ومعه (فطرة) نقيّة بها يميز الخير عن الشرّ، والهدى عن الضلال.

وقد روي أنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: دُلَّني على الخير والشر.

فأشار (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قلبه وقال: ما قال لك هذا أنه خير فاعمله، وما قال لك هذا إنّه شر فاجتنبه.

إلاّ أنّ هذه الفطرة التي فطر اللّه الإنسان عليها ستتعرض إلى عملية مسخ وتحوير إذا ما استمرّ الإنسان على الذنب والضلال.

فكما أنّ رئة الإنسان خلقت لاستنشاق الهواء النقي ولذا فإنّها تصاب بالأذى حينما تستنشق الهواء الملوّث لأوّل مرّة (كدخان السيجارة مثلاً)، إلاّ أنّ الإنسان إذا استمر فترة طويلة على استنشاق الهواء الملوّث فإنّ الرئة

ص: 348

سوف تتكيّف مع هذا الهواء الفاسد، ويصبح جزءاً من حياة الإنسان وإذا ما انقطع عنه فسوف يشعر بالألم والاضطراب.

فكذلك الفطرة، إنها ترفض بشدٍّة الضلال، إلاّ أنّ الإنسان لو سحق فطرته فترة طويلة فسوف تموت فطرته.. وتصبح رؤيته للأُمور مقلوبة ولا يعود للحقّ إلى قلبه من سبيل.

وهكذا يتمّ (الختم) على القلوب والأسماع.. وتسدل على الأعين غشاوة غليظة، فلا يعود القلب يعي، ولا الأُذن تسمع، ولا العين تبصر.

إلاّ أن ذلك لا يعفي هؤلاء من المسئولية القانونية؛ إذ إن هذه النتيجة كانت بسبب كفرهم وعنادهم وإصرارهم على الضلال والانحراف، فسوء اختيارهم - في البدء - هو الذي أدّى بهم إلى هذه النهاية القاتلة.

ونجد في آيات القرآن الكريم إشارات واضحة إلى هذه العلاقة بين (الضلال الواعي) في البداية و(الختم على القلوب والأسماع) في النهاية.

يقول اللّه تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}(1).

ويقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(2).

ويقول: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}(3).

ويقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ

ص: 349


1- النساء: 155.
2- الصف: 5.
3- المؤمن: 35.

تَذَكَّرُونَ}(1).

ويقول: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(2).

ويقول: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}(3).

وعلى هذا، ف(الختم على القلوب) يعبر عن معادلة طبيعية أودعها اللّه سبحانه في الكون.

وهنالك احتمال آخر وهو أن يعبر ذلك عن معادلة غيبية بأن يتم ذلك بتدخل غيبي من السماء في حالة الإصرار على الكفر والضلال، فالقضية تبدأ من الاختيار الحر للإنسان، ولكنّها تنتهي بالتدخل الغيبي لله سبحانه.

ولا يمكننا أن ننفي التأثيرات الغيبية للأُمور لمجرد أنها لا تقع تحت نطاق (حواسنا)؛ إذ إن دائرة (الحقيقة) أوسع بكثير من دائرة (الشهود).

فعدم الإحساس بالشيء لا يدل على عدم وجوده - كما سبق البحث في ذلك في فصل «كيف نؤمن بالغيب»؟.

وعلى هذا فاللّه سبحانه يزيد المهتدي هدى بالإمداد الغيبي {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}(4) {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}(5).

ويزيد المنافقين مرضاً: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}(6).

ص: 350


1- الجاثية: 23.
2- المطففين: 14.
3- التوبة: 77.
4- البقرة: 2.
5- محمد: 17.
6- البقرة: 10.

ويختم على قلوب الكافرين وسمعهم. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}.

إلاّ أن ذلك - أيضاً - كسابقة لا يعفيهم من استحقاق المؤاخذة؛ لأنّ ذلك كان بسوء اختيارهم وعنادهم وإصرارهم على الضلال والانحراف و(ما بالاختيار لا ينافي الاختيار).

محاولات أُخرى

وفي توجيه عدم المنافاة بين الختم على القلوب والاختيار الحرّ للإنسان هنالك أقوال أُخرى:

1 - إنه يكفي في حسن الإضافة أدنى ملابسة، والشيطان هو الذي ختم على قلوبهم في الحقيقة، أو الكافر نفسه، لكن باعتبار أنّ اللّه تعالى هو الذي أقدر الشيطان أو الكافر على ذلك أسند إليه الختم، ومن المتعارف أن يسند الفعل إلى السبب لا المباشر، فنقول: (فتح الملك المدينة الفلانية) مع أن الذي فتحها هو (الجيش) وعليه جرى قوله سبحانه وتعالى {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا}(1).. وفي علم البلاغة - في موضوع المجاز في الإسناد - بحث طويل متعلّق بالمقام فليراجع(2).

2 - إنهم لمّا اعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر - وكان ذلك عند إيراد اللّه سبحانه وتعالى الدلائل والآيات - أُضيف ما فعلوا إلى اللّه تعالى؛ لأن حدوثه إنّما اتّفق عند إيراده تعالى الدلائل عليهم كقوله تعالى:

ص: 351


1- غافر: 36.
2- راجع المطوّل والمختصر وجواهر البلاغة وغيرها من الكتب البلاغية.

{فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}(1) أي ازدادوا عندها كفراً إلى كفرهم.

3 - إنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى حصول الإيمان لهم إلاّ بالقسر والإلجاء، إلاّ أن اللّه تعالى ما أكرههم على ذلك، لئلاّ يبطل التكليف، فعبر عن ترك القسر والالتجاء ب- {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، كما نقول (أفسد الأب ابنه) إذا تركه وشأنه.

ولا يخفى الفرق بين ما ذكر في المثال وما نحن فيه، إذ لا حقَّ للأب أن يترك ابنه وشأنه، لأنّه مكلّف باصلاح أمره، وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ إذ الدنيا محلّ اختيار، ولا يتمّ الاختبار إلاّ بترك الإنسان وشأنه ليختار - بدون أيّ قسر - طريقه {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(2).

4 - الختم في الآية الكريم بمعنى الشهادة، أي: شهد عليها بأنها لا تقبل الحقّ، تقول (أراك تختم على كلّ ما يقول فلان) أي: تشهد به وتصدّقه، وذلك مسوق على نحو الاستعارة.

5 - معنى الختم في الآية أنّ اللّه تعالى طبع فيها أثراً للذنوب، كالسمة والعلامة، لتعرفها الملائكة، فتبرؤوا منهم، ولا يستغفروا لهم مع استغفارهم للمؤمنين، كما أن اللّه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان، ويعلّم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيدعون له ويستغفرون له. وتؤيد المنحى العام لهذا التفسير رواية طويلة مروية عن الإمام العسكري (عليه السلام) .(3)

ص: 352


1- التوبة: 125.
2- الإنسان: 3.
3- البرهان 1: 29-58.
منافذ المعرفة
اشارة

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} أنّ للإيمان باللّه تعالى - عادة - طرقاً ثلاثة:

1 - الإيمان عن طريق (العقل)

وذلك بأن يستخدم الإنسان عقله، وينتقل من وجود المسبَّب إلى وجود السبب، ومن وجود الممكن إلى وجود الواجب، ويطلق على ذلك (الدليل إلانّّي» - أي الانتقال من وجود المعلول إلى وجود العلّة.

ولا يتوقّف هذا الطريق على استخدام (السمع) و(البصر)؛ إذ لو فرضنا شخصاً فاقداً لكلّ الحواس منقطع الاتّصال بالعالم الخارجي تماماً، فإن بإمكانه أن يصل إلى اللّه تعالى عن طريق التدبُّر والتفكير؛ إذ إنّ وجوده ليس مستمداً من ذاته، فيكون ممكنا. وحيث إنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات، فلا بدّ له أن ينتهي إلى الواجب وهو اللّه تعالى.

هذا مضافاً إلى ما ذكروه من إمكان الاستدلال بالوجود على الوجوب، وهو ما يسمّى ب(برهان الصدّيقين) فلا حاجة إلى لحاظ المسبِّب لإثبات وجود السبب مطلقاً.

ولعلّه إلى ذلك أُشير في دعاء عرفة، حيث ورد فيه: «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك»(1) فتأمّل.

ص: 353


1- مفاتيح الجنان، الدعاء والزيارة.
2 - الإيمان عن طريق (السمع)

وذلك بالاستماع إلى (الحجة الظاهرة) وهم الأنبياء والرسل والأئمّة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - والوصول عبر ذلك إلى اللّه سبحانه.

3 - الإيمان عن طريق (البصر)

وذلك بمشاهدة مخلوقات اللّه سبحانه وما اودعه اللّه فيها من دقيق الصنع ولطيف التأليف، والانتقال منها إلى اللّه سبحانه.

وقد توصّل الكثير من العلماء إلى اللّه تعالى، عن طريق مشاهدة (الآيات الآفاقية) و(الآيات الأنفُسية) كما قال سبحانه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.(1)

هذه هي المنافذ الطبيعية للمعرفة، ولكنّ هذه المجموعة سدَّت كل منافذ المعرفة، فلم يعد بإمكانها الوصول إلى اللّه سبحانه.

أمّا عقولهم فقد ختم اللّه عليهم بكفرهم. وأمّا سمعهم فقد طبع اللّه عليه. وأمّا أبصارهم فقد أُسدلت عليها غشاوة سميكة فلم يعد بإمكانها الرؤية أبداً.

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}.. فكيف يستطيع هؤلاء الوصول إلى طريق الهدى والإيمان؟!

ملاحظة

نلاحظ في الآية الكريمة وحدة (السمع) وجمع (الأبصار) فما هو السبب

ص: 354


1- فصلت: 53.

في ذلك؟

والجواب على ذلك من وجوه:

1 - إنّ السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع؛ لأنها تدّل على القليل والكثير فلا حاجة إلى جمعها، فلوحظ الأصل في ذلك، ولعدم وجود هذه المناسبة جمع (الأُذن) في قوله تعالى {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}.

2 - إنّ السمع اسم جنس، ويستوي في اسم الجنس المفرد والجمع، كما في قوله تعالى: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}(1) أي: أطفالا.

3 - إنّ الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على المسموعات، والفيزياء الحديثة تقول: إنّ الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين(2).

وهذا الوجه (الثالث) يمكن أن يكون جواباً للسؤال عن سبب تقديم (السمع) على (الأبصار) في أكثر من (17) موضعاً من القرآن الكريم، منها هذه الآية الكريمة. هذا مضافاً إلى ما ذكره علماء الفسيولوجيا والتشريح من أنّ جهاز السمع أرقى وأعقد وأدقّ وأرهف من جهاز الإبصار. ويمتاز عليه بإدراك المجرّدات.. وإدراك التداخل(3).

ص: 355


1- الحج: 5.
2- الأمثل 1: 73.
3- القرآن محاولة لفهم عصري: 247.
روايات المقام

1 - عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قا:ل قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب اللّه عزَّ وجل: قال الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر اللّه، وكفر البراءة، وكفر النعِّم. فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، وهو قول من يقول: لا ربَّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية، وهم الذين يقولون (وما يهلكنا إلاّ الدهر) وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق بشيء ممّا يقولون: قال اللّه عزَّ وجلّ: {يَظُنُّونَ} {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} إنّ ذلك كما يقولون: وقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءََأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني بتوحيد اللّه، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود فهو الجحود عن معرفة؛ وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حقّ قد استقرّ عنده وقد قال اللّه عزّ وجلّ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1). وقال اللّه عز وجل: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}(2) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر؛ كفر النِّعم، وذلك قوله تعالى يحكى قول سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا

ص: 356


1- النمل: 14.
2- البقرة: 89.

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(1) وقال {لَئِنْ

شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(2) وقال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}(3).

والوجه الرابع من الكفر؛ ترك ما أمر اللّه عزَّ وجلَّ به، وهو قول اللّه عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزَّ وجل به، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده، فقال: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(4).

والوجه الخامس من الكفر؛ كفر البراءة، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ يحكي قول إبراهيم (عليه السلام) : {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}(5) يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبرؤه

ص: 357


1- النمل: 40.
2- إبراهيم: 7.
3- البقرة: 152.
4- البقرة: 85.
5- الممتحنة: 4.

من أوليائه من الإنس يوم القيامة {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}(1) وقال {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}(2) يعني يبرأ بعضكم من البعض(3).

2 - عن إبراهيم بن أبي محمود، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قول اللّه عزَّ وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبةً على كفرهم، كما قال اللّه عزَّ وجلّ {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}(4).

3 - في كتاب الاحتجاج للطبرسي (رحمه اللّه) بإسناده إلى أبي محمّد العسكري (عليه السلام) أنّه قال في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنّهم لا يؤمنون {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} كذلك سمات {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وذلك أنهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كُلِّفوه، وقصروا فيما أُريد منهم، جهلوا ما لزمهم من الإيمان فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإن اللّه عزَّ وجلَّ يتعالى عن العبث والفساد، وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته،

ص: 358


1- إبراهيم: 22.
2- العنكبوت: 25.
3- البرهان 1: 57-58.
4- البرهان 1: 58.

ولا بالمصير إلى ما قد صدّهم بالقسر عنه، ثمّ قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني في الآخرة العذاب المعدُّ للكافرين وفي الدنيا أيضاً لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح، لينبّهه لطاعته، أومن عذاب الاصطلام ليصيرِّه إلى عدله وحكمته(1).

ص: 359


1- نور الثقلين 1: 33.
الآيات: {وَمِنَ النَّاسِ مََن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}
اشارة

الآيات: {وَمِنَ النَّاسِ مََن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (1)

المفردات

{الْيَوْمَ الآخِرَ}: يوم القيامة، وإنّما سميّ آخراً لأنّه يوم لا يوم بعده؛ إذ ليس بعده ليلة، وإنَّما تتعدّد الأيام بتعدّد الليالي فإذا لم تكن ثمّة ليلة فلا تعدّد في اليوم. أو لأنه متأخّر عن أيّام الدنيا.

{يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: يفعلون معه فعل المخادع الذي يظهر ما لا يريده، ويريد ما لا يظهره، أو يخادعون بزعمهم ويظنون أنهم قادرون على خداعه، وأصل الكلمة بمعنى إخفاء الشيء مع إيهام غيره، ومنه (مخدع البيت) للمكان الذي يحرز فيه الشيء.

{مَرَضٌ} المرض العلّة في البدن، وتطلق الكلمة على اعتلال الروح وخروجها عن حدّ الاعتدال أيضاً.

{أَلِيمٌ}: مؤلم موجع.

ص: 360


1- البقرة: 8-10.

{يُكَذِّبُونَ}: الكذب هو الإخبار عن الشيء بما لا يطابق الواقع، وقد يطلق على العمل الذي لا يطابق ظاهره الواقع أيضاً.

الإعراب

«الباء» في قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يطلق عليها الباء الزائدة وتأتي في خبر (ما) - ونظائرها - لتأكيد النفي، ف{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يفيد تأكيد نفي الإيمان عنهم، بما لا يفيده قولنا (ما هم مؤمنين).

و(ما) في قوله تعالى {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} مصدرية، تُؤوَّل مع ما بعدها بالمصادر، فيكون معنى الآية الكريمة (ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم في ادّعائهم الإيمان باللّه واليوم الآخر).

النزول

قيل: إنّ الآية الكريمة نزلت في منافقي أهل الكتاب، ومنهم عبد اللّه ابن أُبي، ومعتب بن قشير، وجدا بن قيس، وكانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق، ويقولون: إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته (أي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) )، وإذا خلا بعضهم ببعض قالوا: إنّا معكم، إنّما نحن مستهزئون!.

وقيل: إنّها نزلت في مجموعة من أحبار اليهود ومنافقي الأوس والخزرج.

وعن علي بن إبراهيم: أنّها نزلت في قوم منافقين، أظهروا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإسلام، فكانوا إذا رأوا الكفّار قالوا: إنّا معكم، وإذا لقوا المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون، وكانوا يقولون للكفّار {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فرّد اللّه عليهم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ

ص: 361

يَعْمَهُونَ}(1).

والتعميم هو الأنسب بسياق الآيات المباركات.

مدخل

بعد أن استعرض القرآن الكريم موقف المجموعة الأُولى (وهم المتّقون)، والمجموعة الثانية (وهم الكافرون)، يستعرض موقف المجموعة الثالثة وهم (المنافقون).

والمنافقون من الناحية الاصطلاحية عبارة عن الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.

فالمنافقون هم في الواقع ذوو شخصية مزدوجة، ظاهرهم كسائر المسلمين، يتشهّدون الشهادتين بألسنتهم، ويؤدّون الفرائض الدينية بجوارحهم، إلاّ أنّ قلوبهم تحتوي على الكفر والإنكار للمبادئ التي يقوم على أساسها هذا الدين.

ألوان من المنافق

وهذا الكفر - الذي ينطوي عليه قلب المنافق - قد يكون في صورة إنكار، وقد يكون في صورة شكّ، وقد يكون في صورة (عرفان غير مصحوب بالإذعان).. وقد سبق أنّ المعرفة تختلف عن الإذعان في تفسير قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ففي جميع هذه الصور إذا أظهر الإنسان الإيمان يعتبر (منافقاً)، وتجري عليه أحكام المنافقين.

ص: 362


1- (1) البرهان 1: 59.

وهذا ما يمكن أن نستفيده من قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}؛ إذ إنّ الإيمان نور في القلب، ولا يخلو القلب من أن يضمّ بين طياته هذا النور أو لا، ولا توجد هنالك حالة ثالثة؛ إذ ليس هنالك وراء النقيضين شيء، فالقلب الذي لا يحتوي على نور الإيمان مع تظاهر صاحبه بالإيمان يعتبر منافقاً، سواء أكان (انتفاء الإيمان) بسبب الإنكار أم بسبب الشكّ، أم بسبب العرفان غير المصحوب بالإذعان، وفي جميع هذه الصور الثلاث يتحقّق قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.. وينطبق على أصحابه عنوان (المنافقين).

وقد ضمّ المنافقون بالإضافة إلى رذيلة (الكفر) رذيلة (الجبن) ورذيلة (الكذب)؛ إذ لم تكن لديهم الشجاعة الكافية لإظهار عقائدهم كما اتسّموا بصفة (الكذب) حينما ظهروا للناس في صورة زائفة تختلف عن صورتهم الحقيقية، وحين قالوا: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. فالنفاق في الواقع مجمع لمجموعة من الرذائل والسيئّات الكبيرة.

اهتمام القرآن بظاهرة النفاق

وقد كان (المنافقون) يشكّلون شريحة واسعة من المجتمع، وكانوا يخطّطون - من الداخل - لضرب الإسلام كما كان الكفّار يخطّطون - من الخارج - لضرب هذا الدين وقد اهتمّ القرآن الكريم بتسليط الأضواء عليهم اهتماماً كبيراً. وذلك لما يمثّلونه من الخطر الداهم على الأُمّة، حتّى قال اللّه سبحانه فيهم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}(1).

ص: 363


1- المنافقون: 4.

ويمكننا أن نتلمّس مدى اهتمام القرآن الكريم بظاهرة (النفاق) من خلال معرفة عدد الآيات التي نزلت في المنافقين. وهذه الآيات - على ما ذكره بعض الباحثين - هي كالتالي:

سورة البقرة: من 8 - 20، 76 - 77، 204 - 206.

سورة آل عمران: 72 - 90 - 91، من 86 - 89، 118 - 119 - 144 - 154، من 156 - 158، 167 - 168، 175 - 179.

سورة النساء: 38 - 39، 60 - 68، 72 - 76، 78 - 82، 88 - 91، 105 - 115، 137 - 147.

سورة المائدة: 41، 51 - 53، 57 - 62.

سورة الأنفال: 37 - 49 - 60.

سورة التوبة: 41 - 110، 123 - 127.

سورة الحج: 11 - 13.

سورة النور: 23 - 25، 47 - 50، 63 - 64، 11 - 21.

سورة العنكبوت: 10 - 11.

سورة الأحزاب: 12 - 20، 24 - 48 - 57 - 58، 60 - 62، 73.

سورة محمد: 15 - 30.

سورة الفتح: 6 - 11 - 12 - 15 - 16.

سورة الحديد: 13 - 15.

سورة المجادلة: 8 - 10 - 14 - 16 - 17.

ص: 364

سورة الحشر: 11 - 20.

سورة المنافقون: 1 - 11.

سورة المدثر: 31.

سورة الماعون: 4 - 7.

سورة التحريم: 9.

وكما يمكننا أن نتلمّس - في هذه الآيات - مدى اهتمام القرآن الكريم بظاهرة (النفاق).

حيث إنّ اللّه تعالى ابتدأ بذكر المتّقين في أربع آيات، ثمّ ثنَّى بذكر الكفّار في آيتين، ثمّ ثلَّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية.

قال الرازي: «إنّ كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلّ على أنّ الاهتمام بدفع شرّهم أشدّ من الاهتمام بدفع شرّ الكفار، وذلك يدلُّ على أنهم أعظم جرماً من الكفّار»(1).

وقال الزمخشري: «وكانوا (أي المنافقين) أخبث الكفرة وأبغضهم وأمقتهم عنده؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاءاً وخداعاً، ولذلك أنزل اللّه فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(2) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفهّهم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكّم بفعلهم، وسجل بطغيانهم وعمههم، ودعاهم صُمّاً بُكماً عُمياً، وضرب

ص: 365


1- التفسير الكبير 2: 67.
2- النساء: 145.

لهم الأمثال الشنيعة»(1).

التفسير

الآية الأُولى من هذه الآيات تتعرّض إلى ازدواجية الشخصية عند المنافقين فتقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ}.

المؤمنون (يؤمنون) باللّه وباليوم الآخر، ولكنّ المنافقين (يقولون): {ءَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ}..

إنّها ألفاظ تجري على اللِّسان، ولكن دون أن تكون منبعثة عن إيمان قلبي حقيقي.

ولم يكن هؤلاء المنافقون يكتفون بادّعاء الإيمان باللّه وباليوم الآخر، وإنّما كانوا يؤكّدون إيمانهم - أيضاً - كما يقتضيه تكرار الباء في قوله تعالى {وَبِالْيَوْمِ

الآخِرِ}، وهذه هي طبيعة المنافق، حيث إنّ إحساسه بكذب ادّعاءاته يدفعه إلى المزيد من التظاهر والمزيد من التأكيد.

ولكنّ اللّه تعالى يجبههم بالحقيقة المرّة، بحقيقة واقعهم الخاوي من الإيمان فيقول: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.

كذب المنافقين في ادّعاءاتهم
اشارة

وقد تقول: إنّ المنافقين كانوا مؤمنين باللّه وباليوم الآخر، منتهى الأمر أنّهم كانوا ينكرون نبوّة النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلِمَ كذّبهم اللّه سبحانه في ادّعائهم الإيمان باللّه وباليوم الآخر؟.

ص: 366


1- الكشاف 1: 165.

والجواب على ذلك من وجهين:

الوجه الأوّل: إنّ هؤلاء المنافقين كانوا يدّعون (تطابق) إيمانهم مع إيمان المسلمين، أي أنّهم يعتقدون بنفس الإله الذي يعتقد به المسلمون، وبنفس اليوم الآخر الذي يؤمن به المسلمون.

في الوقت الذي كانوا يؤمنون ب(إله آخر) إلهٍ له شركاء، أو إله أتخذ عزيراً إبنا، أو إله اتّخذ المسيح ابنا، أو إله أهمل البشرية فلم يبعث إليهم محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبياً، وهذا الإله ليس هو (الإله) الذي يعتقد به المسلمون، بل هو ليس (إلهاً) أبداً، وليس خالقاً مطلقاً، بل هو مخلوق أدمغتهم المنحرفة، فهو مخلوق المخلوق، فكيف يكون إلهاً؟ وكيف يكون خالقاً؟.

ومثل هذا الكلام يجري في ادّعائهم الإيمان باليوم الآخر؛ إذ الكثير منهم لم يكونوا يؤمنون بالمعاد، والذين كانوا يعتقدون بهم، فهم كانوا يعتقدون بمعاد آخر، معاد {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}(1) ومعاد {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}(2) الى آخره.

وهذا (المعاد) ليس هو المعاد الذي يعتقد به المسلمون.

وهذا الوجه في واقعه ينحلّ إلى وجهين:

الوجه الأوّل

1 - إنّ سلب الإيمان عنهم باعتبار كذبهم في دعوى التطابق بين إيمانهم وإيمان المسلمين.

ص: 367


1- البقرة: 80.
2- البقرة: 111.

2 - إنّ سلب الإيمان عنهم باعتبار دعواهم الإيمان ب(اللّه) بينما الذي كانوا يؤمنون به ليس هو (اللّه) وإنّما هو صورة ذهنية اختلقوها دون أن تتطابق مع الحقيقة الخارجية أبداً.(1) ومن المقرّر في محلِّه أنَّ واقعية الشيء بكونه هو هو بالحمل الشايع الصناعي، لا بكونه هو هو بالحمل الأوّلي الذاتي، ونظير هذا الكلام يجري في دعواهم الإيمان باليوم الآخر أيضاً.

الوجه الثاني

إنّ الايمان الحقيقي هو الإيمان الذي تترتَّب عليه آثاره، وذلك لأنَّ الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي تتوفّر فيه الخصائص التالية:

الخصيصة الأُولى: انكشاف الواقع انكشافاً تاماً، لا تشوبه شائبة ريب أو شك.

الخصيصة الثانية: الإذعان لهذه الحقيقة المنكشفة.

الخصيصة الثالثة: الجري العملي وفق ذلك الإنكشاف.

وإذا لم يكن جري عملي وفق الإنكشاف، فيمكن لنا أن ننفي الانكشاف بالمرّة؛ إذ أثر الإنكشاف الجري العملي، فإذا لم يكن جري فكأنّه لا انكشاف.. فمن رأى الأسد وعلم بوجوده ثمّ لم يهرب منه، فكأنّه لم يعلم بوجود الأسد؛ إذ إنّه والجاهل بذلك سواء من ناحية الموقف العملي.

ومن علم أنّ هذا سمٌّ قاتل ثمَ شربه فكأنه لم يعلم بأنه سم قاتل، وهلّم جرّا.

ص: 368


1- نظير المقام ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب الرجل المسيحي: إننّا نؤمن بعيسى الذي بشّر بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا نؤمن بعيسى الذي لم يبشّر به.

وهؤلاء المنافقون لو كانوا مؤمنين حقّاً باللّه وباليوم الآخر لما كفروا برسالة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع وضوح البراهين الدالّة على نبّوته، ولما أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ولما سعوا وراء أهوائهم وشهواتهم الفانية.

فالقرآن الكريم يريد أن يقول لنا: إنّ هؤلاء ليسوا بمؤمنين - حقيقة - باللّه ولا باليوم الآخر، وإلاّ لجروا وفق هذا الإيمان والأعتقاد.

ويبقى هنا سؤال أشار إليه في الكشّاف بقوله: فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقاً في الثاني وهو مقيّد في الأوّل؟ وأجاب عنه بقوله: «يحتمل أن يراد التقييد، ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء قطّ، لا من الإيمان باللّه وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما»(1).

والوجه الثاني؛ وإن كان أشمل في النفي، كما تقول عمّن أدّعى أنه عالم بالمنطق (أنه لا يعلم شيئاً أبداً)، إلاّ أنّ الأوفق بالسياق هو الأوّل ويمكن ادّعاء استلزام الوجه الثاني للأوّل.. لأن الإيمان باللّه وباليوم الآخر أصل، والإيمان بسائر الأُمور متفرِّع عليهما فإذا نفي الإيمان باللّه وباليوم الآخر فقد نفي ما عداهما بالطبع، فتأمّل.

ما يستهدفه المنافقون

ولكن: ما هي بواعث هذه الإزدواجية؟ وما هي المنطلقات التي ينطلق منها المنافقون في موقعهم هذا؟

ص: 369


1- الكشاف 1: 170.

إنّ الآية التالية تكشف عن أن محاولة (خداع) المؤمنين هي الباعث وراء المنافق، إنّ المنافقين يحاولون أن يخدعوا المؤمنين لكي يحقّقوا أغراضهم، وينالوا بعض المكاسب والامتيازات الظاهرية.

{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.

وحيث إنّ المؤمنين يمثّلون الخط الصحيح الذي أراده اللّه تعالى في الحياة؛ لذا تكون محاولة خداعهم في حكم محاولة خداع اللّه سبحانه.

ومن هنا كانت الآية {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.

وفي ذلك تسلية للمؤمنين لئلاّ يثقل تحمل الأمر عليهم، كما أن في ذلك تشريفاً لهم أيضاً، كما ذكروا نظيره في قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}(1).

حيث إنّ سهم اللّه تعالى يتعلّق بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولكن مع ذلك أدخل اللّه نفسه تشريفاً للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولذي القربى وتكريماً لهم(2).

قال في الظلال: «وفي هذا النصّ وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضُّل من اللّه كريم، تلك الحقيقة هي التي يؤكّدها القرآن دائماً ويقرّرها، وهي حقيقة الصلة بين اللّه والمؤمنين. إنّه يجعل صفّهم صفّه، وأمرهم أمره، وشأنهم شأنه، يضمّهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوّهم عدوَّه، وما يُوجّه إليهم من مكر موجّهاً إليه - سبحانه - وهذا هو التفضّل

ص: 370


1- الأنفال: 41.
2- قال السيد الوالد دام ظله: «قد أدخل نفسه تشريفاً لأصحاب الخُمس، كما أنه تعالى ذكر أنه هو الذي يأخذ الصدقات تحريضاً للمعطين» الفقه 33: 381.

العُلوي الكبير، التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق، والذي يوحي بأنّ حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طُمأنينةً لا حدّ لها، وهو يرى اللّه جلّ شأنه يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوّه هو عدوّه، ويأخذه في صفّه، ويرفعه إلى جواره الكريم، فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟.

«وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للّذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم. تهديد لهم بأنّ معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم، وإنّما هي مع اللّه القويّ الجبار القهّار. وإنّهم إنّما يحاربون اللّه حين يحاربون أولياءه، وإنّما يتصدَّون لنقمة اللّه حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.

وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبّرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشرّيرين، ويتدبّرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا مَن الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدَّون للمؤمنين<(1).

وهنالك احتمالات أُخَر تتضّح من ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

معنى (المخادعة)

وحيث إنّ (الخداع) من جانب واحد - وهو جانب المنافقين - حيث إنّهم هم الذين يحاولون خداع المؤمنين، فقد كان المفروض أن تكون العبارة

ص: 371


1- في ظلال القرآن 1: 43.

{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.. وإنّما عدل عن ذلك إلى «يخادعون» للدلالة على تكرار صدور هذا العمل منهم(1)، أو لما ذكره صاحب الكشاف بقوله: «عنى به فعلتُ، إلاّ أنه أخرج في زنة فاعَلْتُ؛ لأنّ الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة(2)، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار، لزيادة قوّة الداعي إليه، ويعضده قراءة من قرأ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}(3).

وقيل: إنّ المفاعلة قد تقع من جانب واحد، كقولهم: (عافاه اللّه) و(عاقبت اللِّصَّ) و(طابقت النعل)، فكذلك (يخادعون) إنّما هو من جانب واحد، فتأمّل.

وهنالك رأي ثالث يبقي الكلمة على أصلها، فيرى أنّ المخادعة من الطرفين، وذلك بتقريب: أنّ صورة صنعهم مع اللّه - حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون - صورة صنع المخادعين، وصورة صنع اللّه معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل

ص: 372


1- مواهب الرحمن 1: 89، وقد ذكر المؤلف (قدس سرّه) أن كون الأصل في صيغ المفاعلة صدور الفعل من الطرفين غير صحيح، بل صيغة المفاعلة تدلّ على أنه الفعل إلى الغير واقعاً، أو اعتقاداً، وأمّا أنّ الغير يفعل مثل ذلك بالنسبة إلى الفاعل الأوّل فهو غير مأخوذ فيها، فقد يكون وقد لا يكون، ثم قال: وإنّما ذكرت المخادعة لبيان أنّ هذا العمل يتكرّر عنهم.
2- المعارضة هو أن يعمل مثل فعل صاحبه ليغلبه، وحينئذ يقوى الداعي إلى الفعل، ويجيء أبلغ واحكم.
3- الكشاف 1: 173.

الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم، حيث امتثلوا أمر اللّه فيهم فأجروا أحكام المؤمنين عليهم.

ورأي رابع: يرى أنّ ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنّهم أنّ اللّه ممّن يصحّ خداعه، وذلك لأنّ من كان ادّعاؤه باللّه نفاقاً لم يكن عارفاً باللّه ولا بصفاته، ولا أنّ لذاته تعلُّقاً بكل معلوم، ولا أنّه غني عن فعل القبائح، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون اللّه في زعمه مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي، وتجويز أن يدّلس على عباده ويخدعهم - تعالى اللّه عن ذلك عُلواً كبيراً -. وقد يقرّر هذا الوجه بنحو آخر، وهو أنّ المنافقين كانوا يعتقدون - لعمى بصيرتهم - أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خدّاع توسّل بالدين والنبوّة وجمع حوله السذَّج من الناس ليكون له حكم وسلطان، ومن هنا راح المنافقون يتوسّلون بالخدعة لمقابلة خدعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - حاشاه ثمّ حاشاه - فالتعبير القرآني المذكور يوضّح - إذاً - لجوء المنافقين إلى الخدعة، ويبّين كذلك نظرة هؤلاء الخاطئة إلى النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولكن الآية الكريمة تردُّ على هؤلاء وتقول: إنّ الخداع من جانب المنافقين فقط - كما هو ظاهر كلمة (يخدعون) في المقطع التالي من الآية الكريمة(1).

من هو المخدوع

ولكن: من هو المخدوع في البين؟

يجيب القرآن الكريم على ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}.

ص: 373


1- الأمثل 1: 82.

لماذا؟

لأنّهم هم الذين يتضرّرون بهذا العمل في الوقت الذي أرادوا فيه النفع لأنفسهم، ولا يتضرّر اللّه ولا المؤمنون بذلك.

وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال في حديث: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} ما يضرّون بتلك الخدعة إلاّ أنفسهم، فإنّ اللّه غني عنهم وعن نصرتهم(1).

إنّ مثلهم كمثل مريض يتظاهر بشرب الدواء محاولاً خداع الطبيب بذلك، ولكنّه لا يشرب الدواء في الحقيقة، فمن هو المتضرّر في الواقع؟ الطبيب أم نفس المريض؟

أو كظمآن يتظاهر بشرب الماء ولا يشربه. أو كجائع ينظاهر بأكل الطعام ولا يتناوله. وهكذا.

إنّ الإيمان الحقيقي ضمان للسعادة في الدنيا وللسعادة في الآخرة، لكنّ هذه السعادة إنّما تترتّب على (واقع) الإيمان، لا على (لفظ الإيمان) كما أنّ الارتواء يترتّب على (واقع) الماء لا على (لفظ الماء) فإذا رفع الشخص (شعارات) الإيمان ليخدع بذلك الآخرين، ولم يحمل بين جوانحه (واقع) الإيمان، فإنه هو المخدوع، وسوف يخسر سعادته في الدنيا والآخرة.

وهنالك وجه ثان ذكره بعض المفسّرين في {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} وهو: إنّ الخداع إنَّما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأمّا من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنّما يخدع نفسه، ومن هنا قيل: (من

ص: 374


1- البرهان 1: 60.

خدع من لا يخدع فإنّما خدع نفسه).

ولكن لا يشعرون

ولكن هل يشعر هؤلاء المنافقون بأنهم هم المخدوعون؟

يجيب القرآن الكريم على ذلك بقوله: {وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}.

لقد سلبهم اللّه القدرة على التمييز - نتيجة تماديهم في الضلال والانحراف - فلم يعودوا يشعرون بالهاوية التي ينحدرون نحوها.

وإنّما قال القرآن الكريم {لاَ يَشْعُرُونَ} ولم يقل {لاَ يَفْقَهُونَ} أو {لاَ يَعْقِلُونَ} لأنّ هنالك أُموراً غامضة نحتاج في اكتشافها إلى إمعان النظر والتأمّل العميق، ويطلق على هذه القضايا (القضايا النظرية)، كبعض القواعد الفلسفية المعقدة.

ولكن هنالك قضايا واضحة لا نحتاج في اكتشافها إلاّ إلى بصيرة نقيّة، ووجدان متفتّح، ويطلق عليها (القضايا البديهية).

المنافق يفقد - على أثر تماديه في الانحراف - لا فقط تعقله، وإنّما حتّى شعوره، فحتّى القضايا البديهية التي لا تحتاج إلى التأمّل العميق ولا يعود المنافق يفهمها.

قال الرازي - تبعاً للزمخشري - : (الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس، ومشاعر الإنسان حواسه، والمعنى أنّ لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنّهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحسّ)(1) فتأمّل.

ص: 375


1- التفسير الكبير 2: 70 وراجع: الكشاف 1: 175؛ مواهب الرحمن 1: 91.

وقيل: إنّ أصل (الشعور) هو الإحساس بالشيء من جهةٍ تدقّ، ومنه اشتق (الشِّعر) حيث إنّ الشاعر يفطن لما يدّق من المعاني والأوزان، لا يتفطّن لها غيره.

ثم لا يخفى أنّ الآثار الوضعية للضلال لا ترتبط بالعلم والجهل، فإنها تترتّب قهراً، سواء شعر الضال بها أم لم يشعر.

كما أنّ المؤاخذة القانونية لا ترتفع بعدم الإحساس هذا؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما سبق ذلك في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}(1).

السبب الرئيسي للنفاق

ولكن: ما هو السبب الرئيسي للنفاق؟

يجيب القرآن الكريم على ذلك بقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}.

فكما أنّ اختلال عمل الجسد وعدم قيام البدن بوظائفه الطبيعية ينبعث من المرض البدني، كذلك ازدواجية شخصية المنافقين وانحرافهم السلوكي ينبعث من مرض كامن في قلوبهم، ونفسية ملتوية يحملها هؤلاء المنافقون، إنّهم أفراد معقّدون، وهذه العقد النفسية وراء سلوكهم الملتوي هذا.

ازدياد المرض

وهذا المرض في ازدياد مستمر. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}.

فكما أنّ طبيعة الأمراض المادية الزيادة المستمرة إذا تركت وشأنها ولم

ص: 376


1- البقرة: 7.

تعالج - وفق معادلات القانون التكويني الذي قرره اللّه سبحانه في الكون - كذلك طبيعة الأمراض الروحية، إنّها سوف تتعمّق عندما تترك وشأنها وفق المعادلات التكوينية التي وضعها اللّه لشؤون (الروح) فنسبة زيادة المرض إلى اللّه سبحانه إنّما هو باعتبار أنه هو الذي جعل هذا القانون التكويني.

وهنالك احتمال آخر يتعلّق بمسألة (الكمون والبروز) في النفس الإنسانية.

فالإنسان قد يحمل في داخله (أمراضاً معيّنة) تكوّنت لديه على أثر عوامل شتّى، وهذه الأمراض ستبقى مضغوطة في داخله حتى يوجد (المثير) لها فتشتد عندئذ ويستفحل أمرها، وربما يكون (المثير) بذاته عاملاً حسناً، لكنّ النفس المريضة تتفاعل تفاعلاً سلبياً مع ذلك العامل، فتستفحل عنذئد أمراضها الروحية أكثر فأكثر.

إنّ الرجل السليم يهنأ بالطعام السليم، لكنّ هذا الطعام ذاته ربما يكون وبالاً على المريض.

والسكّريات مادة مفيدة للبدن السوي، إلاّ أنها شيء خطير للمصاب بمرض (السكّري).

وهؤلاء المنافقون كانت نفوسهم مريضة من أساسها، لكنّ مجيء الرسالة ونزول الوحي كان (مثيراً) لهذه الأمراض الكامنة، وعاملاً في استفحال أمرها وبروزها على السطح، في الوقت الذي كان رحمة وشفاءاً للنفوس السليمة.

ومن هنا يقول اللّه سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ

ص: 377

لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا}(1).

ويقول سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}(2).

ويقول سبحانه - حكاية عن النبي نوح (عليه السلام) : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا}(3).

ويقول جلَّ وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي}(4).

ويقول تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرًا}(5).

ويقول سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا}(6).

وعلى هذا الاحتمال تكون نسبة زيادة المرض إلى اللّه سبحانه باعتبار حصولها عند إنزاله تعالى الآيات، وبعثه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما تمخّض عن ذلك من تفاعلات، فالسبب القريب لزيادة المرض سوء اختيارهم، والسبب البعيد إرسال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنزال الآيات، والكلّ ينتهي إلى اللّه تعالى في سلسلة الأسباب.

وهنالك وجه ثالث ذكره البعض وهو أنّ المراد من {فَزَادَهُمُ اللَّهُ

ص: 378


1- الإسراء: 82.
2- التوبة: 125.
3- نوح: 6.
4- التوبة: 49.
5- المائدة: 64.
6- فاطر: 42.

مَرَضًا} أنَّ اللّه وكلهم إلى أنفسهم ومنع عنهم لطفه الخاص، وخذلهم، فزادهم بذلك مرضاً إلى مرضهم.

ووجه رابع وهو: أن يُحمل المرض على المرض الجسمي، وذلك أنَّ الإنسان إذا ابتُلي بالحسد والنفاق ومشاهدة ما يكره ودام ذلك به، فربّما سبّب ذلك مرض القلب واختلال عمله الطبيعي، وقد زاد اللّه سبحانه المنافقين مرضاً بما زاد المسلمين من القوّة وما أمدّهم به من النصرة.

قيل: وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فيكون أولى من سائر الوجوه.

لكنّ هذا الوجه خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر تجانس المرضين وتوافقهما في النوع، فالأولى حمل المرض الثاني على ما لا يغاير معنى المرض الأوّل، فتأمّل.

وهنالك وجه خامس ذكره بعض المفسّرين وهو: أن يكون ذلك على سبيل الدعاء عليهم، فهو كقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(1) إلاّ أن هذا الاحتمال خلاف الظاهر، فتأمّل.

نتيجة النفاق

أمّا نتيجة النفاق فيكشفها القرآن الكريم بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.

وهذا العذاب الأليم كما يشمل الآخرة يشمل الدنيا أيضاً؛ فلأنّهم يكذبون في دعواهم الإيمان باللّه وباليوم الآخر، لذا يعيشون في خوف دائم.

ص: 379


1- التوبة: 127.

الخوف من الفضيحة وانكشاف أمرهم أمام الناس.

إنّ الشخص لو كذّب كذبة واحدة يعيش ألماً مستمرّاً خوف انكشاف أمره وافتضاحه أمام المجتمع، فكيف بمن بنى حياته كلَّها على الكذب والدجل والنفّاق؟(1).

هذا مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً من أنّ السعادة في هذه الحياة تترتّب على (واقع) الإيمان، وحيث لم يحمل هؤلاء واقع الإيمان في قلوبهم، خسروا السعادة في هذه الدنيا - قبل الآخرة - .

وقفات: دوافع حركة النفاق
اشارة

ما هي منطلقات المنافقين في نفاقهم؟ ولماذا انضموا إلى صفوف الدعوة الجديدة التي لا يؤمنون بها؟ ولماذا حاولوا خداع المؤمنين؟

في الجواب على هذه الأسئلة نقول: إنّ هذه المنطلقات تتمثّل في (الخوف) و(الطمع) و(الأحقاد الدفينة) و(الظروف الطارئة) وتفصيل ذلك يتّضح ضمن النقاط التالية:

1 - الحفاظ على المكاسب الشخصية

هنالك فئة من الناس ترتبط مصالحهم بوضع اجتماعي معيّن، وعندما يأتي دين جديد ويعمل على تغيير ذلك الوضع الاجتماعي تتعرّض مصالح تلك الفئة للخطر، فتعلن الحرب على الدين الجديد وتحاول سحقه بكل الوسائل والسبل.

ص: 380


1- راجع من هدى القرآن، الجزء الأول.

وعندما تفشل في مساعيها هذه ويثبّت الدين الجديد أقدامه في الأرض، ويصبح قوّة يحسب لها ألف حساب، تغيرِّ هذه الفئة ألوانها وتتظاهر بالانضواء تحت لواء الدين الجديد، للحفاظ على القدر الممكن من مصالحها المهدّدة، في الوقت الذي تتآمر - بشكل سرّي - على الدين الجديد، وتتربص الدوائر لتوجيه الضربة إليه.

ولنقرأ معاً النموذج التالي: يُنقل أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أردف أُسامة على حماره يعود سعد بن عبادة قبل معركة بدر، فمرّ على مجلس فيه عبد اللّه بن أُبي قبل إسلامه، ومعه خليط من المسلمين والمشركين واليهود، فلمّا غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أُبي أنفه بردائه وقال: لا تغبّروا علينا! فسلّم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزل ودعاهم إلى اللّه تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللّه مقالة آذى بها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلمّا دخل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على سعد بن عبادة، قال: يا سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو الحباب (يريد ابن أ ُبي).

فقال: يا رسول اللّه اعف عنه واصفح فواللّه لقد أعطاك اللّه الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة(1) أن يعصّبوه بالعصابة(2) فلمّا ردّ اللّه ذلك بالحقّ الذي أعطاكه شرق(3)بذلك(4).

ويذكر بعض المؤرّخين أنّ عبد اللّه بن أُبيَ ظلّ مشركاً حتى كتب اللّه

ص: 381


1- هذه البحيرة أي: هذه المدينة.
2- العصابة: العمامة، والتعصُّب كناية عن التسويد، وقيل: كانوا إذا ارادوا أن يملّكوا رجلاً توجّوه، فإن لم يجدوا تاجاً عصبوه بعصابة مرصّعة بجواهر.
3- شرق بذلك: لم يقدر على اساغته بل اعترض في حلقه كالماء المعترض في حلق الشارب.
4- راجع المتن والهامش من (الكشاف) 1: 176-177.

النصر للمسلمين في غزوة بدر، فقال: «هذا أمر قد توجّه» أي ظهر أمره وعلا. فأظهر الدخول في الإسلام مجاراة لأهل المدينة، وللحفاظ على ما تبقّى من زعامته المعرّضة للخطر.

2 - الاستفادة من الامتيازات التي يوفّرها الإيمان

وذلك مثل الغنائم الحربية والعطاء من بيت المال، ونحو ذلك.

وهنالك أفراد كانوا قد علموا من اليهود وأمثالهم أنّه سوف يُبعث هنالك نبي في آخر الزمان يصل المؤمنون به إلى مناصب رفيعة، فبادروا إلى الإيمان على أمل الوصول إلى هذا الهدف.

لاحظ الرواية التالية المروية عن سعد بن عبد اللّه القمّي الذي ابتُلي بأشد النواصب منازعة، وأطولهم مخاصمة، وأكثرهم جدلاً، وأشنعهم سؤالاً، وأثبتهم على الباطل قدماً - على حد تعبيره - .

وقد سأل الرجل الناصبي ذات يوم عن رجلين منافقين من الصحابة: أنهما أسلما في مكّة طوعاً أو كرهاً؟ يقول سعد: فاحتلتُ لدفع هذه المسألة عنّي، خوفاً من الالزام، وحذراً من إن أقررت لهما بطواعيتهما للإسلام احتجّ بأنّ بدء النفاق ونشوُّه في القلب لا يكون إلاّ عند هبوب روائح القهر والغلبة، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد له قلبه، نحو قول اللّه عزَّ وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}.

وإن قلتُ: أسلما كرها كان يقصدني بالطعن؛ إذ لم يكن ثَمَّ سيوف منتضاة كانت تريهم البأس.

ص: 382

يقول سعد: فصدرت عنه مزوّراً قد انتفخت أحشائي من الغضب، وتقطّع كبدي من الكرب.

ويسوق سعد الحديث، إلى أن ينتهي إلى طرح هذا السؤال عن الإمام المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه، فأجابه (عليه السلام) : لِمَ لَمْ تقل له: بل أسلما طمعا، لأنّهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمّا كانوا يجدون في التوراة وسائر الكتب المتقدّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصّة محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن عواقب أمره، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُسلَّط على العرب كما كان بخت نصر سُلِّط على بني إسرائيل، ولا بدّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بخت نصر ببني اسرائيل، غير أنه كاذب في دعواه.

فأتيا محمّداً ساعداه على شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وبايعاه طمعاً في أن ينال كلٌّ منهما من جهته ولاية بلد إذا استقامت أُموره، واستتبّت أحواله، فلمّا أيسا من ذلك تلثّما وصعدا العقبة مع أمثالهما من المنافقين، على أن يقتلوه، فدفع اللّه كيدهم، وردّهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، كما أتى طلحة والزبير علياً (عليه السلام) فبايعاه وطمع كلُّ واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلمّا أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع اللّه كلَّ واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين(1).

ومن هذا الحديث - وغيره - يظهر أنّ ظاهرة (النفاق) لم تقتصر على (المرحلة المدنية) بل سبقتها في (المرحلة المكيّة) أيضاً، نعم، اتّسعت دائرة (النفاق) في المرحلة المدنية تبعأُ لقوّة الإسلام وبروز المتغيرّات الجديدة

ص: 383


1- بحار الأنوار 52: 86.

في الساحة.

فما ذكره بعض المفسّرين(1)من أنّ ظاهرة النفاق اقتصرت على (المرحلة المدنية) غير صحيح.

وكأنّ هؤلاء تصوروا أنّ (قوّة الدعوة) هي السبب الوحيد لبروز ظاهرة (النفاق) فانتفاء هذا السبب في (المرحلة المكّية) يستلزم انتفاء ظاهرة (النفاق) غافلين عن أن هنالك أسباباً أُخرى وراء الظاهرة، وقد توفّرت تلك الأسباب في (المرحلة المكّية).

قال في (الميزان): «ما القدرة والقوّة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجّل علّة منحصرة للنفاق حتى يُحكم بانتفاء النفاق لانتفائها، فكثيراً ما نجد في المجتمعات رجالاً يتّبعون كلّ داع، ويتجمّعون إلى كل ناعق، ولا يعبؤون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، ويعيشون على خطر مصرّين على ذلك رجاء أن يوفقّوا يوماً لإجراء مرامهم ويتحكمّوا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع والعلوّ في الأرض، وقد كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتبّعوه كانوا ملوك الأرض.

فمن الجائز عقلاً أن يكون بعض من آمن به يتّبعه في ظاهر دينه طمعاً في البلوغ بذلك إلى أُمنيته وهي التقدُّم والرئاسة والاستعلاء».

وأيضاً من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتدّ ويكتم ارتداده كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الآية.. وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 384


1- في ظلال القرآن 1: 31.

مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ}(1).

3 - الأحقاد الدفينة

لقد كان الكثير من الكفّار يحملون أحقاداً دفينة على هذا الدين ولمّا لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أغراضهم في القضاء على الإسلام بالحرب العسكرية، تظاهروا بالانضواء تحت لواء هذا الدين للقضاء عليه من الداخل عبر إثارة الفتن والقلاقل بين المسلمين وإغراء بعضهم ببعض، والتجسُّس على المؤمنين، ونقل المعلومات إلى الأعداء، وغير ذلك. لقد غيروا المنهج والاُسلوب، ولكنّ الهدف بقي واحداً في الحالتين.. وهو القضاء على هذا الدين.

ويكفي نموذجاً لذلك قصّة مسجد ضرار التي قال اللّه تعالى عنها: {وَالَّذِينَ

اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ...}(2).

ويذكر التاريخ عن المطرف بن المغيرة بن شعبة، قال: «دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدّث معه ثم ينصرف إليَّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه؛ إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّاً، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمرٍ حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟

فقال: يا بُني، جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت: وما ذاك؟ قال:

ص: 385


1- الميزان 19: 287-290، 20: 90-91.
2- التوبة: 107.

قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فواللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.

فقال: هيهات هيهات، أيّ ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخوتيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وشمرّ عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر. وإنّ ابن أبي كبشة [يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله] ليُصاح به كل يوم خمس مرّات: أشهد أن محمّداً رسول اللّه، فأيّ عمل يبقى، وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا واللّه إلاّ دفنا دفنا!(1).

4 - الظروف الطارئة

من الواضح أنّ إيمان الناس ليس بمستوى واحد؛ إذ الإيمان حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فبعض المؤمنين يصل إلى مراتب رفيعة من الإيمان، وبعضهم يظلّ في الدرجات الأُولى منه.

أمّا الراسخون في الإيمان فلا تؤثر فيهم الظروف الطارئة، من خوف وفقر وجوع وحرب و..، بل هم كالمسمار المثبت في الأرض، كلّما ازدادت الطرقات على رأسه ازداد رسوخاً وثباتاً... يقول القرآن الكريم:

ص: 386


1- رواه الزبير بن بكار في (الموفقيات) عن المطرف، والزبير هذا هو قاضي مكّة، وهو مشهور في المحدثين، ومن رواة الصحيح، وهو غير متّهم على معاوية، لعدالته وفضله على ما قالوا (راجع النصائح الكافية: 117-118، وأيضاً شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 357).

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(1).

ويقول عمّار بن ياسر: «واللّه لو هزمونا إلى سعفات هجر لعلمنا أنّنا على الحق وأنهم على الباطل».

ولكن هناك من المؤمنين {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}(2) فعندما تطرأ الظروف الاستثنائية يبدأ هؤلاء في التشكيك في دينهم وعقيدتهم، وقد ينتهي بهم الأمر إلى (الردة) - إذا تظاهروا بالكفر علنا - أو إلى (النفاق) - إذا أسرّوا كفرهم في صدورهم -.

يقول القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا *إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا}(3).

هذه بعض العوامل التي يمكن أن تفرز ظاهرة (النفاق) في المجتمع، وهنالك عوامل أُخرى قد تظهر بالتدُّبر، فتأمّل.

ص: 387


1- آل عمران: 173.
2- الحج: 11.
3- الأحزاب: 9-12.
لماذا قبل النبي المنافقين؟
اشارة

وإذا كان المنافقون يشكّلون هذا الخطر الداهم على الأُمّة، فلماذا قبلهم الإسلام بين صفوفه؟ ألم يكن الأجدر بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يطردهم من صفوف المسلمين لكي يجنب الأُمّة ويلاتهم؟

لعلّه يمكن أن يجاب عن ذلك بالأُمور التالية:

الإجابة الأُولى

1 - حينما يواجه الإنسان شرّين: أحدهما أصغر والآخر أكبر فإنّ مقتضى الحكمة أن يدفع الشرّ الأكبر بالشرّ الأصغر، وذلك لأنّ (طبيعي الشر) سيصيبه على كلّ تقدير، فمقتضى الحكمة أن يقتصر على القدر الذي لا بدّ منه، ويدفع القدر الأكثر بانتخاب الشرّ الأصغر، والابتعاد عن الشرّ الأكبر.

وبعبارة أُخرى: إنّ تحمل الشرّ الأكبر دفعاً للشرّ الأصغر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة.

مثلاً: إذا أُصيب شخص بداء خطير وأوصاه الأطباء بإجراء عملية جراحية صعبة، وحذّروه من أنه إذا لم يُجر هذه العملية فإنه سوف يكون مهدّداً بالموت، فإنّ من الطبيعي أن يختار إجراء العملية ويتحمّل ألمها؛ دفعاً للألم الأكبر.

وهذا ما يسميه العلماء بقانون (الأهمّ والمهم).

وربما يسمّى بقاعدة (دفع الأفسد بالفاسد) أيضاً.

والإسلام عندما بدأ مسيرته الخالدة كان محاطاً بأعداء كثيرين، كلُّ واحد منهم كان كافياً لاقتلاع الإسلام من جذوره.

ص: 388

فهنالك الامبراطورية الفارسية، وهنالك الامبراطورية الرومية، وهنالك اليهود في أطراف المدينة، وهنالك النصارى المتربّصون في الداخل، وهنالك مشركو العرب.

فكان لا بدّ من محاولة تسييج هذا الدين بكلّ القدرات والطاقات حتى وإن أظهرت الإسلام وأبطنت الكفر.

ومن المعلوم: أنّ انتقال المنافقين من مرحلة الحرب المعلنة إلى مرحلة الحرب الخفيّة خطوة في طريق تخفيف الضغط عن المسلمين.

بالإضافة إلى أن كثيراً من هؤلاء كانت تهمّهم مصالحهم الشخصية، فلم يكن يهمُّهم الإطار الذي يتحرّكون ضمنه، بل كان يهمّهم الوصول إلى المكاسب والمغانم التي يطمعون فيها، فكان قبولهم ضمن الإطار الإسلامي سبباً في إخماد معارضتهم ضدّ الإسلام، وعن مثل هؤلاء يقول القرآن الكريم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}(1).

الإجابة الثانية

2 - العلم تارة يكون (طريقياً) وأُخرى يكون (موضوعياً).

أمّا العلم الطريقي فهو (حجّة) من أيّ طريق حصل؛ إذ الحكم فيه معلَّق على (الواقع) فإذا تمّ (انكشاف) هذا (الواقع) - بأيّ نحو كان - تنجّز الحكم، ووجب الجري العملي على طبقه.

مثلاً: لو قال المولى الذي يمتلك (حقّ الطاعة) على العبد: (الدم نجس)

ص: 389


1- التوبة: 58.

فهذا الحكم يتألّف من موضوع هو (الدم) ومحمول هو (نجس) ولم يؤخذ القطع في موضوع الحكم بأيّ نحو من أنحاء الأخذ، بل (كون الشيء دماً) تمام الموضوع لترتّب المحمول عليه، فإذا قطعنا بأن (هذا الشيء دم) ترتّب الحكم قهراً، ووجب على المكلّف الإجتناب عنه بلا انتظار لأيّ شيء آخر.

ويقال عندئذ: إنّ الصغرى وجدانية (حيث إن كون هذا دماً ثابت بالوجدان).

والكبرى برهانية (حيث إنّ نجاسة الدم ثابتة بالبرهان).

فالنتيجة (وهي أن هذا الشيء نجس) قطعية؛ إذ قطعية المقدّمتين المأخوذتين في القياس المنطقي توجب قطعية النتيجة حتماً.

ولكنّ العلم قد لا يؤخذ مجرّد كاشف عن الموضوع، وصرف طريق إليه، بل يؤخذ في موضوع الحكم بحيث يكون القطع جزء الموضوع أو تمامه، وحينئذ لا يترتّب الحكم إلاّ حين القطع بالموضوع على النحو الذي أُخذ فيه.

والشيء الذي قد يظهر من سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أنّ علمهم بموضوعات الأحكام المتعلّقة بواقع الأفراد لم يؤخذ على نحو الطريقيّة البحتة، بل أُخذ (حصول العلم بذلك الواقع من الطرق المتعارفة) جزءاً من الموضوع، بحيث إنّ المعصوم (عليه السلام) لم يكن مكلّفاً بترتيب تلك الأحكام فيما لو حصل له العلم بواقع الأفراد من الطرق غير المتعارفة (كالوحي ونحوه).

وبعبارة أُخرى: إنّهم (عليهم السلام) كانوا مكلّفين بالتعامل مع الأفراد على حسب

ص: 390

ظواهرهم، لا حسب النوايا الكامنة في طوايا قلوبهم.

ولعلّ من حِكَم ذلك: أن يكونوا (عليهم السلام) اُسوة للأجيال المتعاقبة؛ إذ لو كانوا يعملون طبق علمهم إذاً لسقطوا عن كونهم اُسوة وقُدوة، ومن هنا يقول القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}(1).

ونظير ذلك يمكن أن يقال في تناول بعض المعصومين (عليهم السلام) الطعام المسموم مع علمهم بواقع ذلك الطعام، فتأمّل.

الإجابة الثالثة

3 - إنّ فلسفة هذه الحياة مبنية على عنصر (الاختبار) فبالاختبار تظهر حقائق الأفراد، ويصل كلّ كامل إلى كماله المنشود الذي خُلق لأجله، يقول اللّه سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(2).

ومن جملة عناصر هذا الاختبار: وجود المجموعات المنافقة في إطار الأُمّة.

إذ لو فرزت جبهة الكفر عن جبهة الإيمان فرزا كاملاً، ولم يعد في جبهة الإيمان إلاّ (مَنْ مُحِضَ الإيمان محضاً) وفي جبهة الكفر إلاّ (مَنْ مُحِض الكفر محضاً) لم تكمل عناصر الامتحان الإلهي.

ولكن: عندما يكون ضمن المجموعة المؤمنة أفراد منافقون يتقمّصون ثياب الإيمان، ويبطنون الكفر والشكّ والارتياب.

ص: 391


1- الكهف: 110.
2- الملك: 2.

أفراد {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}(1).

أفراد {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(2).

أفراد {يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}(3).

أفراد {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}(4).

أفراد {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}(5).

أفراد هم {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}(6).

أفراد {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ

ص: 392


1- التوبة: 48.
2- التوبة: 67.
3- التوبة: 79.
4- التوبة: 81.
5- التوبة: 87.
6- التوبة: 97.

يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1).

أفراد {يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}(2).

أفراد {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}(3).

أفراد يقولون {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا}(4).

أفراد {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا}(5).

أفراد يقولون لإخوانهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}(6) {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}(7).

إلى آخر مواصفات المنافقين.

عندما يكون ضمن المجموعة المؤمنة هكذا أفراد، عندئذ تتكامل عناصر الإمتحان الإلهي، ويمحِّص اللّه ما في القلوب، ويبتلي ما في الصدور، ويتبين من هو الصادق ومن هو الكاذب؟!.

ص: 393


1- التوبة: 107.
2- المنافقون: 7.
3- المنافقون: 8.
4- الأحزاب: 12.
5- الأحزاب: 13.
6- الأحزاب: 18.
7- الأحزاب: 19.

وما تلك الرؤيا التي رآها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - حين شاهد القردة تنزو على منبره - إلاّ مظهراً من مظاهر الإختبار الإلهي، وقد نجحت فيه القلّة من الصفوة، وسقط فيه الأكثرون.

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}(1).

الإجابة الرابعة

4 - إنّ (سمعة) أيّ دين من الأُمور المهمّة في نجاح ذلك الدين.

إنّ أغلب الناس لا يحكمون على الفكرة من خلال الرصيد الذي تمتلكه من الحق، وإنّما من خلال (الصورة الخارجية) التي يحملها ذلك الدين، ومن هنا نجد في الفقه الإسلامي: أنّ الإسلام يجيز للحاكم الشرعي تعطيل إجراء بعض الحدود، إذا كان في إجرائها تشويه لسمعة الدين.

كما ورد في الحديث عن النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «لولا أن يقال: إنّ محمداً استعان بقوم فلمّا ظفر قتلهم لضربتُ أعناق كثير».

ولو كانت سياسة الإسلام هي التصفية والطرد إذاً: لفقد هذا الدين الكثير، ولما رأيت الناس {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(2).

ولتعرف جيّداً أبعاد القضية تصوّر نظاماً يقوم في منطقة ما على أنقاض نظام آخر فأخذ بطرد (الأغلبية) بحجّة أن هذا منافق وذاك انتهازي.. و.. و..، أَلا تنهار في أنظار الملأ العام سمعة ذلك النظام؟!

ص: 394


1- الإسراء: 60.
2- الفتح: 2.

هذه بعض العوامل التي يمكن أن تكون وراء قبول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمنافقين في صفوف المسلمين، فتأمّل. ولعلّ هناك عوامل أُخرى وراء ذلك، واللّه العالم بحقائق الأُمور.

استعراض لأسماء بعض المنافقين
اشارة

ذكر بعض المؤرّخين: أنه بلغ عدد المنافقين في المدينة (300) رجلاً و(70) امرأة.

ونحن نستعرض فيما يلي أسماء بعض المنافقين من الأوس والخزرج ومن أحبار اليهود ومن قبائل أُخر؛ تتميماً للفائدة.

أوّلاً: من الأوس والخزرج

1 - عبد اللّه بن أُبي بن سلول - وفيه نزلت سورة (المنافقون).

2 - الحارث بن سويد - وفيه نزل قوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ...}(1).

3 - تبتل بن الحارث - وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ...}(2).

4 - ثعلبة بن حاطب - وفيه نزل قوله تعالى: {ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}(3).

5 - خزام بن خالد، وهو الذي أخرج مسجد (ضرار) من داره، ونزل فيه

ص: 395


1- آل عمران: 86.
2- التوبة: 61.
3- التوبة: 75.

وفي أصحابه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1).

6 - أوس بن قيظي، وقد نزل فيه قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا}(2).

7 - بشير بن اُبيرق، وقد نزل فيه قوله تعالى {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ...}(3).

8 - الجدّ بن قيس وقد نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي}(4).

ثانياً: من أحبار اليهود

9 - سعد بن حنيف.

10 - زيد بن الصلت.

11 - نعمان بن أوفى بن عمرو.

12 - عثمان بن أوفى.

13 - رافع بن مريملة.

14 - رفاعة بن زيد بن التابوت.

ص: 396


1- التوبة: 107.
2- الأحزاب: 13.
3- النساء: 107.
4- التوبة: 49.

15 - سلسلة بن برهام.

16 - كنانة بن صويريا.

ثالثاً: منافقون آخرون

17 - أبو عفك (وينتمي إلى بني عمرو).

18 - عصماء بنت مروان (وتنتمي إلى بني أُميّة).

19 - الرحّال بن عنفوة (وينتمي إلى بني حنيفة).

20 - الأخنس بن شريق (وينتمي إلى ثقيف).

كذا ذكره بعضهم، فتأمّل.

ولهؤلاء قضايا كثيرة في الكيد للإسلام والتآمر على المسلمين، وسوف يأتي بعضهم في البحوث القادمة بإذن اللّه تعالى.

روايات في المقام

1 - عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) : سئل ما النجاة غدا؟

فقال: «إنّما النجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنه من يخادع اللّه يخدعه، ويخلع اللّه منه الإيمان، ونفسَهُ يخدع لو يشعر.

فقيل له: كيف يخادع اللّه؟

فقال: يعمل بما أمر اللّه عزَّ وجلّ به ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا اللّه والريا، فإنّه شرك باللّه عزَّ وجلّ.

إنّ المرائي يُدعى يوم القيامة بأربعة أيماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، حبط عملك وبطل أجرك ولا خلاق لك، فالتمس أجرَك ممَّن كنت

ص: 397

تعمل له»(1).

2 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «واعلم أنّك لا تقدر على إخفاء شيء من باطنك عليه (تعالى) وتصيره مخدوعاً بنفسك. قال اللّه تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(2).

ص: 398


1- البرهان 1: 60، وقريب منه في نور الثقلين 1: 35.
2- نور الثقلين 1: 35.

فهرس المحتويات

المدخل

المطلوب فهم القرآن بشكل جديد!... 9

1- تحجيم التعامل... 10

2- التلاوة السطحية للقرآن... 10

3- الاهتمامات الثانوية... 11

4- الفهم التجزيئي للقرآن... 12

5- الفهم المصلحي للقرآن... 13

6- الفهم الميّت للقرآن... 13

7- الفهم بديلاً عن العمل... 13

الفصل الأوّل: أفلا يتدبَّرون القرآن؟

القرآن حروف بلا معان!... 17

التدبر؟ أم التحجر؟؟... 20

وماذا نصنع بهذه الشُّبُهات؟... 28

الشبهة الأُولى: الرِّوايات نهت عن ذلك... 28

الشبهة الثانية: كيف نعرف العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والناسخ والمنسوخ؟ 39

الشبهة الثالثة: الذين أخطأوا في فهم القرآن... 40

ص: 399

الشبهة الرابعة: القرآن كتاب غامض.. فكيف نفهمه؟... 41

معطيات التدبُّر في القرآن... 45

منهج التدبُّر في القرآن... 49

أوّلاً:معنى الكلمة... 50

ثانياً:تخيُّر الكلمة... 56

ثالثاً:موقع الكلمة... 59

رابعاً:الشكل الخارجي... 63

خامساً:الارتباط والتسلسل... 69

سادساً:التصنيف... 78

شروط التدبُّر في القرآن... 80

الفصل الثاني الفهم الشمولي للقرآن

الفهم التجزيئيُّ للقرآن... 87

1)فصل الجملة القرآنية عن السياق... 88

أوّلاً: في المجال العَمَلي... 93

ثانياً: في المجال العقائدي... 94

ثالثاً: في مجال فهم (الكملة القرآنية)... 97

2)التجزئة الموضوعية... 98

أوّلاً: الجمع التفسيري... 101

ثانياً: الجمع الترتيبي... 104

ثالثاً: الجمع الاستنباطي... 106

رابعاً: الجمع الموضوعي... 110

الشفاعة، ماذا تعني... 111

ص: 400

المجموعة الأُولى: لا للشفاعة... 111

المجموعة الثانية: الشفيع هو اللّه... 114

المجموعة الثالثة: هنالك شفعاء، ولكن بعد إذن اللّه... 114

المجموعة الرابعة: شروط خاصة... 115

الفصل الثالث الفهم الحيوي للقرآن

الذين يفهمون القرآن... 121

كتابَ موت... 121

أوّلاً:الفهم التجريدي... 126

ثانياً:الفهم التاريخي... 131

ثالثاً:عدم فهم الأبعاد الحقيقية... 142

التدبر في القرآن

سورة الحمد

مكيّة - مدنيّة

آياتها(7)

فضل السورة... 151

الآية (1)... 154

المفردات... 154

المدخل... 154

لماذا البدء بالبسملة؟... 155

عود إلى الآية... 157

معنى الرحمة الإلهية... 160

الرحمة الخاصّة والرحمة العامّة... 163

ص: 401

مقوّمات الرحمة الخاصّة... 166

لماذا هاتان الصفتان؟... 169

هل البسملة آية قرآنية؟، وهل تُقرأ في الصلاة؟... 173

تتمة... 178

روايات في البسملة... 179

الآية (2)... 183

المفردات... 183

الحمد: إلفات إلى الجانب المضيء من الحياة... 183

تفسير آخر ل(الحمد)... 188

(اختصاص الحمد باللَّه)... 189

العناية المستمرة... 192

لا للربوبيات البديلة... 196

تنبيه... 197

الآثار التربوية للإعتقاد بالربوبية الإلهية... 200

الآية (3)... 203

المفردات... 203

كيف نوفّق بين الرحمة الإلهية ووجود الشرور؟... 203

عيِّنات خارجية... 206

فلسفة الشرور في النصوص الشرعية... 207

الآية (4)... 209

المفردات... 209

التفسير... 209

محاكُم ستٌّ... 210

ص: 402

1 - محكمة الضمير... 210

2 - محكمة الجسد... 211

3 - محكمة القضاء... 212

4 - محكمة المجتمع... 212

5 - محكمة التاريخ... 212

6 - محكمة القيامة... 214

القانون وحده لا يكفي... 214

نماذج عمليّة... 217

أنواع من الملكية... 221

الآية (5)... 225

المفردات... 225

التوحيد العملي فرع التوحيد النظريّ... 225

التوحيد والحرية... 226

قصص في العبودية... 227

لماذا حُصِرت الإستعانة باللّه؟... 228

حصر الاستعانة باللّه لا ينافي التوسل بالأسباب الطبيعية... 237

حصر الاستعانة باللّه لا ينافي التوسُّل بالأسباب الغيبية... 239

المقام الأوّل: في طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء... 240

المقام الثاني: في الاستغاثة بغير اللّه والاستعانة به وطلب الحوائج منه... 244

المقام الثالث: في التوسل إلى اللّه تعالى بالأنبياء والأولياء... 247

تتمة... 249

الآيتان (6-7) ... 251

المفردات... 251

ص: 403

كيف يطلب المهتدي الهداية؟... 251

الإجابة الأُولى... 252

نماذج... 255

تنبيه... 256

الإجابة الثانية... 258

الصراط المستقيم بين المنهج والنموذج... 259

مَنْ هم الذين أنعم اللّه عليهم؟... 261

الفرق بين {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و{الضَّالِّينَ}... 262

1 - الانحراف التقصيري... 262

2 - الانحراف القصوري... 263

الخوارج مصداق بارز للضلال... 264

عدم تغيّر الآثار الوضعية للضلال بالعلم والجهل... 267

تقديم {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} على {الضَّالِّينَ}... 268

سورة البقرة

مدنية

آياتها (287)

فضل السورة... 273

الآيات (1-5)... 273

المفردات... 273

البدء بالبسملة.. لماذا؟... 274

1 - الوجود الخارجي... 274

2 - الوجود الذهني... 275

ص: 404

3 - الوجود اللفظي... 275

4 - الوجود الكتبي... 275

الإعجاز القرآني... 277

مؤيّدات... 280

القرآن يتحدى... 282

ملاحظات حول الحروف المقطعة... 290

ثلاثة مواقف... 294

التقسيم القرآني تقسيم عقائدي... 296

صفات المتقين... 300

1- الإيمان بالغيب... 300

كيف نؤمن بالغيب؟... 304

محاورات... 309

تأثير الإيمان بالغيب في سلوك الإنسان... 312

2- إقامة الصلاة... 318

3- الإنفاق ممّا رزق اللَّه... 319

4- الإيمان بما أُنزل على النبي(ص)... 322

5- الإيمان بما أُنزل من قبل... 323

ما هي ضرورة الإيمان بالرسالات السابقة؟... 323

6- اليقين بالآخرة... 326

أُولئك على هدى من ربهم... 327

نتيجة التقوى... 328

الآيتان (6-7)... 330

المفردات... 330

ص: 405

القراءة... 330

الإعراب... 331

النزول... 332

التفسير... 333

معنى الكفر... 333

ثلاثة مواقف... 334

لماذا العناد؟... 335

نتيجة العناد... 336

ما تهدفه الآيتان الكريمتان... 338

هل العلم الأزلي يلازم الجبر؟... 339

التقرير الأوّل... 340

التقرير الثاني... 343

1 - العلم بالعلّة وحدها... 343

2 - العلم بالمعلول وحده... 343

3 - العلم بالعلّة والمعلول معاً... 344

القرآن الكريم يؤكّد... 344

هل الختم على القلوب ينافي الاختيار؟... 346

مفاد القاعدة الأُولى... 347

مفاد القاعدة الثانية... 347

تأثير العمل في الرؤية... 348

محاولات أُخرى... 351

منافذ المعرفة... 353

1 - الإيمان عن طريق (العقل)... 353

ص: 406

2 - الإيمان عن طريق (السمع)... 354

3 - الإيمان عن طريق (البصر)... 354

ملاحظة... 354

روايات المقام... 356

الآيات (8-10)... 360

المفردات... 360

الإعراب... 361

النزول... 361

مدخل... 362

ألوان من المنافق... 362

اهتمام القرآن بظاهرة النفاق... 363

التفسير... 366

كذب المنافقين في ادّعاءاتهم... 366

الوجه الأوّل... 367

الوجه الثاني... 368

ما يستهدفه المنافقون... 369

معنى (المخادعة)... 371

من هو المخدوع... 373

ولكن لا يشعرون... 375

السبب الرئيسي للنفاق... 376

ازدياد المرض... 376

نتيجة النفاق... 379

وقفات: دوافع حركة النفاق... 380

ص: 407

1 - الحفاظ على المكاسب الشخصية... 380

2 - الاستفادة من الامتيازات التي يوفّرها الإيمان... 382

3 - الأحقاد الدفينة... 385

4 - الظروف الطارئة... 386

لماذا قبل النبي المنافقين؟... 388

الإجابة الأُولى... 388

الإجابة الثانية... 389

الإجابة الثالثة... 391

الإجابة الرابعة... 394

استعراض لأسماء بعض المنافقين... 395

أوّلاً: من الأوس والخزرج... 395

ثانياً: من أحبار اليهود... 396

ثالثاً: منافقون آخرون... 397

روايات في المقام... 397

فهرس المحتويات... 399

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.