موسوعة الفقيه الشيرازي (المدخل) المجلد 1

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(1)

المدخل

آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

مدرسة الفقاهة والأخلاق

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه: الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر: قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری: 21ج.

شابك: دوره: 8-270-204-964-978

ج1: 5-271-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی: فيپا

يادداشت: عربي

مندرجات: ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع: اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره: 1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی: 297/312

شماره كتابشناسی ملی: 4153694

الشجرة الطيبة

موسوعة الفقيه الشيرازي

----------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبوع: 1500 نسخه

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

----------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج1: 5-271-204-964-978

-

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ

الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

مالِكِ يَوْمِ الدِّين

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ

صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضَّالِّينَ

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی اعدائهم اجمعين.

قال اللّه تعالی: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(1).

وقال النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : >اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له<(2)، وخير ما يخلفه الإنسان العلم الذي ينتفع به الناس.

يندرج هذا العمل والاجزاء اللاحقة له ضمن ما يعرف بالاحتفاء والتوثيق، فهو احتفاء بسيرة حياة ونتاج احد اعلام الامة الاسلامية، كما أنه توثيق لهذه السيرة والجهد العلمي الذي ابدعه طيلة سنوات حياته التي عاشها في اكثر من مكان جغرافي، واكثر من محفل علمي.

كل احتفاء هو فعل محبة وتقدير، يقوم به المهتمون بالمحتفى به، انه محبة خالصة وتقدير عظيم، بحكم ماقام به المحتفى به وما علق في حياتهم من حضوره وتأثيره.

وهو أيضاً عملية توثيق لسيرة شخصية وعلمية لأحد علماء الأمّة، يراد

ص: 7


1- الزمر: 9.
2- الكافي 2: 3.

منها ان تكون سجلاً لجميع نشاطاته العلمية ما أمكن ذلك، طالما ان الشهود على الحياة ورفاق الدرب - درب العلم - لازالوا ينشطون في مجالهم وهم يتحسسون الفراغ الذي تركته تلك الشخصية العلمية، علماً وسيرة وسلوكاً.

وعملية التوثيق فعل مباشر للتسجيل، تسجيل ما حدث، رؤية وسماعاً، فالرؤية شهادة، والسماع يقين.

ثم ان التوثيق، ابن حاضره وليس ماضيه، وبه يحفظ التراث من الضياع أو التحريف.

فإنه بسبب عدم الاهتمام بالتوثيق ضاعت الكثير من جهود وإنتاجات علماء الامة، نتيجة لتغلب التاريخ الذي دونه اصحاب السلطة والمصالح، على حساب التوثيق الذي اهمله المهمشون والمعارضون لهذه السلطة او تلك المصالح.

هذا العمل، والاجزاء اللاحقة له، يطمح ان يقبض على هذين المفصلين - الاحتفاء والتوثيق - . من خلال شخصية أحد اعلام الشيعة في العصر الحاضر، والذي رحل وهو في اوج عطائه العلمي والانساني، وكان دأبه مثل غيره من فقهائنا في بيان أسس ومبادئ الدين الحنيف عبر تبيان ما أراده اللّه سبحانه وتعالى عن طريق الغور في أعماق الآيات القرآنية والنصوص الشريفة، واستخراج الأحكام الإلهية كما أرادها اللّه تعالی، سواء كانت في مجال الفقه أم الاجتماع أم في سائر أمور الحياة المتعلقة بالإنسان المسلم.

آية اللّه الفقيه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) واحدٌ من هذه الثلة المباركة، تميّز بنبوغه العلمي من خلال الدروس التي كان يلقيها، سواء في بحث الخارج في الحوزة العلمية، أم في محاضراته التي كان يلقيها في

ص: 8

المحافل العامة، الى جانب امتيازه بالأخلاق الحميدة الذي يضوع شذاها ويترافق مع علمه في كل تلك المحافل.

امتاز الفقيد الراحل (رحمه اللّه) بقوة النظر والفكر، وكان دؤوباً في عمله، يستثمر جلّ وقته في الاستزادة علماً ومعرفة، وحتى في الأوقات المخصّصة لغير الدرس والتدريس، فقد شهده الكثيرون في بعض المحافل العامة، حينما كان يدخل على الحاضرين لايشغل نفسه واياهم في الامور اليومية العامة ، بل يبدأ بطرح سؤال علمي عليهم، وينصت مستمعاً لهم واحداً بعد الاخر، وكأنه في مجلس درس، لما يمتاز به من رحابة صدر واسع، حيث كان يستمع للجميع دون تمييز، وفي بعض الأحيان يرد على ما يستمع اليه من أحدهم، ويوجه كلام غيره، وهكذا كان طبعه وسجيته، سواء في مجلس درسه أم في مجالس أخرى، وهذا ما حببّه لطلاب العلوم الدينية فضلاً عن عموم الناس.

وقد كان سيدنا الفقيه (رحمه اللّه) مسلطاً على الأبواب الفقهية، ويُرجع المسألة إلى أبوابها المشهورة، من فقه وأصول وتفسير وغيرها، وكثيراً ما يشير إلى المصادر أيضاً.

وقد يتساءل من دون أن يبدي رأيه، وذلك لشحذ ذهن الطلاب، لكي يتعلموا المراجعة إلى المباحث الأصولية أو الفقهية.

طريقة العمل في هذه الموسوعة

قد كتب السيد الأستاذ (رحمه اللّه) بعض الكتب بيده الشريفة، بينما قام بعض تلامذته بتقرير دروس بحثه الخارج، ويبدو من خلال ما أطّلعنا عليه أن بعض الكتب في هذه الموسوعة قد كتبها السيد الراحل (رحمه اللّه) لنفسه، وكان

ص: 9

ينوي أن يكمل البحث فيها، ولكن عاجلته المنيّة، فلم يتح له الوقت الكافي ليتوسّع فيها.

كانت طريقة عملنا كالتالي:

1- طباعة ما بأيدينا من خط يد المؤلف الشريفة، مع الحفاظ علی عباراته وعدم تغييرها.

2- ضبط تعليقاته وهوامشه على بعض الكُتُب، مثل كتاب الدلائل والعروة وغيرهما.

3- تخريج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وأقوال العلماء وآرائهم وغير ذلك، وتحديد النصوص التي ينقلها المؤلف عن الأعلام وإرجاعها إلى مصادرها الأصلية.

4- تعيين وإرجاع ما تقدم أو ما سيأتي إلى الصفحات الأصلية، كما لو قال (رحمه اللّه) : (تقدم سابقاً)، (وقد بحثنا ذلك)، (سيأتي) وغير ذلك.

هذه الموسوعة

إن هذه الموسوعة التي بين يديك تشتمل على الأجزاء التالية:

1- المقدمة: وقد ذكر فيها مختصر عن طبيعة هذه الموسوعة والمواضيع التي تحتويها، مع نبذة عن حياة الفقيه الراحل (رحمه اللّه) ، وما أنشد حوله من الأشعار ونصوص الرثاء بعد رحيله.

2-3- التدبر في القرآن: وقد ذكر فيه سماحة السيد (رحمه اللّه) بعض المفاهيم القرآنية، التي تحتاج إلى بيان نظر، ثم تدبّر في بعض الآيات القرآنية، من خلال سبر غورها. والجزء الأوّل والثاني من تأليفه، والجزء الثالث تقرير لمجموعة من محاضراته التفسيرية.

ص: 10

4-6- تبيين الأصول: وهو كتاب أصولي كتبه بيده الشريفة ضمّنه آراءه الأصولية.

7-11- تبيين الأصول: وهو خلاصة أبحاثه الأصولية في بحث الخارج، والتي كان يلقيها في مدينة قم المقدسة، وقد قام بعض تلامذته - جزاه اللّه خيراً - بتقريرها وإخراجها بأسلوب رائع.

12- كتاب الترتب: وهو كتاب أصولي كتبه السيد بيده الشريفة، بحث فيها مسألة من المسائل الأصولية المهمّة، وذلك من خلال طرح هذه المسألة الأصولية، وبيان أدلتها وأقوال العلماء فيها، ثم بيان بعض تطبيقاتها الفقهية.

13-14- تبيين الفقه: وهو كتاب فقهي في شرح كتاب الطهارة من العروة ا لوثقی في جزءين، قرّره سماحة السيد محمد علي الحسيني الشيرازي.

15- بحوث في فقه النظر: وهو كتاب فقهي تطرق فيه المؤلف (رحمه اللّه) إلى مسألة مهمّة، حيث تناول أصل المسألة، ثم تشقيقاتها وفروعها، وذكر أدلتها وآراء العلماء فيها. وكانت هنالك تقريرات مختلفة من جمع من تلاميذه وقد اخترنا إحداها باعتبار أن السيد (رحمه اللّه) اعتمد عليها وصحَّحها ورتّبها وأضاف فيها.

16-17- تعليقة على المسائل المتجددة: وهي مجموعة تعليقات للسيد المؤلف (رحمه اللّه) ، على كتاب المسائل المتجددة لأستاذ الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) ، وقد علق سماحة المؤلف (رحمه اللّه) على هذا الكتاب ببيان بعض أدلة المسائل وما شابه ذلك.

18-19- تعليقة على الدلائل: وهي مجموعة هوامش كتبها المؤلف (رحمه اللّه)

ص: 11

تعليقاً وتوضيحاً لكتاب الدلائل في شرح منتخب المسائل، وقد توسع فيها (رحمه اللّه) من خلال طرح المسألة وتوضيحها وبيان أدلتها وأقوال العلماء فيها.

20- تعليقة على مباني منهاج الصالحين: وهي تعليقة مختصرة امتازت بعمق الفكر والتدبر.

وهذه التعليقات الثلاث كتبها سماحة السيد (رحمه اللّه) لنفسه حتی يراجعها متی شاء، ولكن إرتأت المؤسسة طبعها حفظاً لتراثه ولكي يستفيد منها الطلاب.

21- توضيح العروة الوثقى: مجموعة من دروس سماحة السيد (رحمه اللّه) التي ألقاها في دولة الكويت لعموم الناس فقررته المؤسسة.

شكر وتقدير

كل عمل يحتاج إلى جهد ومثابرة لكي يخرج للوجود، ولايستطيع الإنسان وحده عادة أن ينجز عملاً متكاملاً بمثل هذا الحجم والسعة، لذا اعتمدت المؤسسة على مجموعة من المحققين الذين كان لهم الدور البارز في إنجاز هذه الموسوعة.

ومن باب الاعتراف بجهودهم وشكرهم على مابذلوه، كان علينا أن نخص بالذكر مَن قام بهذا العمل بصورة مباشرة وساعدنا فيه خاصة سماحة آية اللّه السيد جعفر الحسيني الشيرازي حفظه اللّه، الذي كان له الدور البارز في إنجاز هذه الموسوعة، فقد كان يسعفنا ويحل المشاكل في كثير من الموارد، وكان له دور الإشراف العلمي على هذه الموسوعة، فجزاه اللّه خير جزاء المحسنين.

وبعد ذلك، نتقدّم بالشكر الجزيل لفضيلة الحجة السيد محمد حسين الحسيني الشيرازي، وفضيلة الحجة السيد طاهر الشميمي، وفضيلة الحجة

ص: 12

السيد فرحان نور، علی ما قاموا به من دور لكي تری هذه الموسوعة النور.

ثم إن الشكر موصول لجميع مَن ساهم وقدّم وشارك في إكمال هذه الموسوعة، من محققين ومشرفين وفنيين.

ولايفوتنا أن نذكّر بأنّ مؤسسة الشجرة الطيبة استلمت التحقيق في هذه الموسوعة بعد أن أنجز مجموعة من المحققين شطراً من العمل فيها، وقد واصلت المؤسسة وهذّبت ونقّحت العمل تكميلاً لجهودهم، ولم تشأ إعادة التحقيق من البداية، رغم أن لها طريقة أخری في مجال التحقيق في بعض الجوانب، وذلك عرفاناً لتلك الجهود، وتسريعاً في انجاز هذه الموسوعة القيمة لتری النور في أقرب وقت ممكن، ليعمّ نفعها.

هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلی اللّه علی سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

محمد كاظم الحسيني الشيرازي

مؤسسة المقدّس الشيرازي للبحوث العلمية

مؤسسة الشجرة الطيّبة

20 / جمادی الثانية / 1437ق

مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

قم المقدسة

ص: 13

ص: 14

الفصل الأول: الفقاهة والأخلاق

اشارة

ص: 15

ص: 16

كان أملي

كان أملي(1)

إنا لله وإنا إليه راجعون

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ونحن نعيش ذكرى شهادة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات اللّه وسلامه عليها ونستلهم منها ومما نزل عليها من المصائب العظام، الصبرَ والجلد ونسأل من اللّه سبحانه وتعالى أن يوفينا والجميعَ أجورَ الصابرين ولا يقلّل من الأجر الذي أعدّه في المصائب لأهل المصائب بكلمة أو فكر ينافي رضى اللّه سبحانه وتعالى، وفي الحديث الشريف: «فإذا وقع القضاء سلّمنا أمرنا إلى اللّه»(2).

أنا أشكركم جميعاً فرداً فرداً على مواساتكم، على تحملكم السفر، وأشكر كل من جاء من خارج إيران أو من المدن داخل إيران أو من نفس مدينة قم المقدسة أشكركم جميعاً.

هنا لي كلمتان: كلمة من الكثير عن هذا الفقيد السعيد والسعيد حقاً،

ص: 17


1- كلمة سماحة آية اللّه العظمی السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في تأبين آية اللّه الفقيه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) ، وقد أوردناها كما ألقيت من دون إضافة أو حذف.
2- إشارة إلی رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: «إنا أهل البيت إنما نجزع قبل المصيبة، فإذا وقع أمر اللّه رضينا بقضائه وسلمنا لأمره» الكافي 3: 225.

وكلمة لنا نحن الذين نكون على الأثر.

أما الفقيد السعيد، فإنني عشت معه منذ ولادته فلم أرى منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين وصفهم القرآن الكريم، وصفتهم أحاديث النبي الأعظم والعترة الطاهرة صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين. إنّ ممّا يبدو لي أن أذكره في هذا المجال: تمثيله رضوان اللّه عليه للإيمان والعمل الصالح، تمثيله لما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إني مخلّف فيكم كتاب اللّه وعترتي، وهنا قد طُرح سؤال وهو أنّ الكتاب هو كتاب اللّه القرآن هو حكم اللّه، فما الحاجة إلى العترة؟ وهناك أكثر من جواب ومن ذلك: أنّ البشر في مسير الهداية بحاجة إلى أمرين، بحاجة إلى كتاب وبحاجة إلى تمثيل حي، القرآن الكريم يقول: {إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ}(1)، من ناحية المعنی مفهوم، ولكن بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإيمان والعمل الصالح لكي يقع الناس في طريق الهداية بحاجة إلى تمثيل حي، بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التمثيل الحي كان في شخص أمير المؤمنين وفي شخص فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليهما وآلهما، كلٌّ مثّل دوراً مهمّاً لما قاله القرآن الكريم وبعدهما الأئمة الأحد عشر من ولدهما صلوات اللّه عليهم أجمعين، ونحن نعيش اليوم في كنف سيدنا ومولانا بقية اللّه المهدي الموعود صلوات اللّه عليه وعجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، هؤلاء مثلوا تمثيلاً صادقاً، تمثيلاً جامعاً، تمثيلاً يُتمّ الحجّة لمن أخذ وعلى من ترك، أخي في العلم وابن أخي في النسب آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) من سماته البارزه التي لمستها

ص: 18


1- البقرة: 277.

لعلّه أكثر من غيري، ولمسها كلّ من عاشره ولو لنصف ساعة والأكثرُ أكثر، التمثيلُ الشخصي للإنسان المسلم الصحيح، في أقواله، في سيرته، في نظراته، في استماعه، في دعوته، في إجابته، وهذا مما يندر وجوده في كلّ زمان خاصّة في زماننا هذا، وكلّ مَن كان أقرب إليه كان أكثر معرفة بهذا الأمر منه، فكان يمثّل الإيمان وكان يُمثّل العمل الصالح، ونِعم ما أعدّ لمثل هذا اليوم نفسَه طيلة حياته، حتى اللذين عاشوه، عاشوا معه في عالم طفولته وفي الأيام الذي كان يرتاد الصفّ الأول والثاني من مدرسة الحفاظ في كربلاء المقدسة التي أسّسها أخي الأكبر آية اللّه العظمى السيد محمّد الشيرازي أعلى اللّه درجاته، حتّى اللذين كانوا معه في الصفّ الأول والثاني، لا أتصوّر أنه عندهم انطباع غير حسن حتّى لمرّة واحدة، هذا إحساسي أنا، كان أملي لمستقبل الإسلام، كان أملي ليقود المسيرة من بعدي، لا إله إلا اللّه، ولكن اللّه تعالى شاء له ولنا هذا الذي ترون ولا رادَّ لقضاء اللّه ورضاً بقضاء اللّه، ورضاً بقسمة اللّه، هذه القسمة المُرّة ولكنّها إرادة اللّه تعالى، فتكون مرضاته لنا رضا.

وأما بالنسبة إلينا ونحن لا نزال في قيد هذه الحياة الدنيا والدنيا بما في الكلمة من معنى، ومن معاني هذه الدنيا هذا الموقف في هذه الساعة لي ولكم، أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يقول: «ولإن يكون عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً»،(1) هذا الذي ذكرته عن هذا الفقيد السعيد هو المفتخر، قلت لإخوته الكرام - أعزائي وأملي أيضاً - : خلّف لكم الكثير من المفاخر،

ص: 19


1- نهج البلاغة 2: 205.

لا فقط لإخوته بل لأصدقائه لكلّ من عايشه ولو نصف ساعة، أكيد عنده ذكرى فخورة عنه، ولكن الأحقُّ من الافتخار هو الاعتبارُ، أنتم كلّ واحد منكم من الكبار والشباب والأحداث ممن عايشتموه حاوِلوا أن تتّخذوا منه أسوة، تتّخذوا منه قدوة، قدوتكم الأوليّة هم المعصومون الأربعة عشر عليهم الصلاة والسلام بلا شكّ، ولكن من كان يمثّلهم، من يمثّل المعصومين (عليهم السلام) ، كلٌّ حسب انطباعه، هذا كان ممّن يمثّلهم، اتّخذوا منه أسوة واتّخذوا منه قدوة، لأنه كان يمثّلهم بفارق العصمة التي اختصّ اللّه تعالى بها المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، كان في أعلى درجات العدالة بلا شكّ، حاولوا أن تكونوا عادلين، كان في درجة عالية من الخلق الرفيع مع كل شخص، مع الصديق والعدو مع القريب والغريب، مع من كان يتواضع له ومع من كان يتكبّر عليه، حاولوا أن تطبقوا هذه الإنطباعات على أنفسكم، كان مصداقاً ظاهراً للمغتنم الفرصَ الصغار من حياته فكيف بالفرص الكبار، حاولوا أن تغتنموا الفرص، الدنيا فرصة وفي لحظة واحدة تنتهي إلى الأبد، ومن هذه الجهة وهي أن الدنيا فرصة، تكون أحسن مجال للإنسان، الذين وُفّقوا أين وفّقوا؟ ومن أيّ شيء استفادوا؟ إنّهم قد وفّقوا في هذه الدنيا واستفادوا من هذه الحياة، هذا الفقيد السعيد أين صار موفّقاً بهذا التوفيق؟ لقد وُفّقَ هنا في هذه الدنيا.

من هذه الجهة الدنيا مكان جيد جداً جداً، بشرط أن يغتنمها الإنسان فرصة، الإمام الكاظم صلوات اللّه عليه يقول: إنما هي عزمة، إنما يعني لا يوجد غيرها، إنما أداة حصر، إذا عزمت تُوَّفَق، أكيد تُوَّفَق، اعزموا على أن تستلهموا من الذكريات التي عندكم من هذا الفقيد السعيد لتطبيقها على

ص: 20

حياتكم الشخصية، حياةً سعيدةً عاشها، نعم من ضمن ما عاشها (قدس سره) هو هذا الحديث الشريف تطبيقاً وعملاً الذي ندر وندر جداً من يعمل به، «المؤمن نفسه منه في تعب، والناس منه في راحة»،(1) كان مصداقاً جيداً لهذا الحديث الشريف، حاولوا أن تكونوا هكذا من الآن فما بعد، لا تُتعِبوا غيركم لنفسكم بل لا تساووا غيركم مع نفسكم في التعب، بل أتعبوا أنفسكم وأريحوا غيركم في كلّ شيء حتى في صغائر الأمور، ومن هذه الجهة أمس وليلة أمس كنت أتذكر مراراً أنه كان يشبه جده آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي أعلى اللّه درجاته، أنا عشت مع أبي قرابة عشرين سنة وعشت معه السنية الأخيرة من حياته وكان مبتلى بأمراض عديدة، وكان استوعبه وشمله الضعف لكبر السن ومعاناة الأمراض، ومع ذلك لا أتذكر حتى مرة واحدة قال لي أعطني ماءاً، حتى الحاجة بهذا المقدار وأكيد كان يحتاج أحياناً ولا يستطيع أن يقوم ولكن كان يتحمل العناء ويجعل غيره في راحة حتى راحة بهذا المقدار، أتذكر جيداً أن الوالد أعلى اللّه درجاته ولا أقول ذلك افتخاراً به، فله مفاخره ولكن لنتعلم منه، هؤلاء هم الأمثلة الحيّة الذين كانوا بعد المعصومين (عليهم السلام) ، أتذكر جيداً أنه ذات مرة الوالد أعلى اللّه درجاته كان من المفروض عليه أن يصعد درجات، فكان لا يستطيع لانّه كان قد أصيب في رجله، وكان عنده ألمٌ شديد فكان يأخذ بطرفي الحائط ويضغط على رجل ليرفع الأخرى ويضعها في درجة أخرى وقد تقدّمتُهُ وقلت له أعطني يدك أمسكها ليسهل عليكم

ص: 21


1- الخصال: 620.

الصعود، فكان يقول اتركني بالمقدار الذي أقدر أسحب نفسي إذا ما قدرت أعطيك يدي، فكان يصعد درجتين وثلاث ثم يعجز نهائياً فيعطيني يده، فإذا صعد درجة أو درجتين يحس بأن يرفع هذا العناء عنّي ويضعه على نفسه فكان يسحب يده.

{لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1)، نحن لم نر رسول اللّه وإن كان تاريخه بيننا وهو حجة لمن يعمل وحجة على من لا يعمل، ولم نر أمير المؤمنين ولم نر فاطمة الزهراء ولم نر الإمام الحسن والإمام الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين، ولكن أمثال هؤلاء كانوا تجسيداً لاُولئك، الإنسان بحاجة إلى التجسيد، التجسيد يؤثر في الإنسان أحياناً أكثر من الأقوال ومن التاريخ، كان آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) من السماة البارزة فيه هذه السمة، «نفسه منه في تعب والناس منه في راحة»، أسأل اللّه سبحانه وتعالى بفضله أن يتقبّل من الجميع كلّ على حسب نيّته وعمله وتعبه وعنائه وأن يوفّق الجميع لاتخاذ القدوات في كل مجالات الدنيا حتى نكون جميعاً عند مغادرة هذه الحياة من الفائزين.

وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين

ص: 22


1- الأحزاب: 21.

رجالٌ صدقوا

رجالٌ صدقوا(1)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين ثم الصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم الى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

إنا لله وإنا إليه راجعون

{مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(2)

نحن نعيش في عصرٍ ما أندر الرجال الصادقين فيه، وكان آية اللّه الفقيد السعيد الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه هو من أولئك الرجال الصادقين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، كلّكم والملايين من الناس الذين شاهدوا محاضراته وأحاديثه عبر الفضائيات والذين تطلّعوا الى محيّاه النوراني وأحاديثه الربّانية، شهدوا فيه انه كان من رجال اللّه الصادقين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن

ص: 23


1- كلمة سماحة آية اللّه السيد مرتضی الحسيني الشيرازي (دام ظله) في تأبين أخيه الفقيد (رحمه اللّه) .
2- الأحزاب: 23.

قَضَى نَحْبَهُ}(1).

كان السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه، صادقاً مع ربّه في دفاعه عن عترة نبيه المصطفى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كان ذلك المدافع الصلب الذي لا تلين له عزيمة ولا يفتر في الدفاع عن العترة الهادية الطاهرة، كان يعيش مأساة قلة نصرة وقلة ناصري أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام في كل لحظة، كان يعايش هذه المأساة، لذلك كان ذلك الذي يتّقد غضباً وشموخاً عندما يتحدث، وعندما يكتب عن العترة الطاهرة عليهم الصلاة وأزكى السلام.

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ}، يقول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخاطباً أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن ابي طالب عليه صلوات المصلّين: «يا علي، من أحبك ثم مات فقد قضى نحبه» نحبه أي نذره، أي العهد الذي عاهده الإنسان مع ربه سبحانه وتعالى، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ} هنالك عهد في عالم الذر {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} يعني قضى نذره وقضى عهده، التزم بما وعد ربّ الأرباب سبحانه وتعالى في العوالم السابقة وفي هذا العالم حيث شهد وقال أشهد أن لا اله الا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه وأشهد أن علياً ولي اللّه، كلكم سمعتموه رضوان اللّه تعالى عليه كم تكلّم عن البقيع وكم تكلّم عن سامراء، هذين الجرحين النازفين على مدى الزمن، وكم كتب في ومضات وفي غيره من الكتب.

ص: 24


1- الأحزاب: 23.

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، كان ذلك الرجل الذي جنّد حياته وطاقاته كلها في سبيل خدمة أهل البيت الأطهار عليهم الصلاة وأزكى السلام والدفاع عنهم والذود عن حريمهم والذب عن حياضهم، كان صادقا في عهده مع ربه في الدفاع عن العترة الطاهرة وكذلك فلنكن، ما الذي يبقى للإنسان الا ما خلفه لآخرته، يقول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا علي من احبك ثم مات فقد قضى نحبه ونذره والشاهد على ذلك من كتاب اللّه حيث يقول سبحانه وتعالى {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}(1)»، إذن هنالك اجر وهنالك عهد متقابل {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}(2)، كان السيد الفقيد رضوان اللّه تعالى عليه صادقا مع ربه في عمله الصالح ايضاً، في هذا المسجد المبارك، انا كنت ذات مرة فتحدث عن أنّه حبّذا لو قيّض اللّه سبحانه وتعالى جمعاً من المؤمنين يؤسّسون هيئة، هذه الهيئة تحاول أن تؤسّس أربعة عشر مؤسّسة باسم أربعة عشر معصوم، كلمة قالها لكنّها كانت تنبع من القلب، كان صادقاً مع ربّه، وإذا بالهيئة قد إنطلقت وخلال سنة واحدة تأسست أربعة عشر مؤسسة فيما اعلم، والذي لا اعلمه أكثر من ذلك على القاعدة، ما نما على علمي ونمي الى علمي أنه لجنة واحدة تأسست بخطبة واحدة وأسست أربعة عشر مؤسسة في العديد من البلاد عن المعصومين وباسم المعصومين الأربعة عشر رضوان اللّه تعالى عليهم.

ص: 25


1- الشوری: 23.
2- الشوری: 23.

كان صادقاً مع ربه في عمله، ربّى رضوان اللّه تعالى عليه أجيالا من المؤمنين، الكثير منكم والكثير من المؤمنين في أرجاء البسيطة تتلمذوا على يديه، ربّى الألوف المؤلفة من المؤمنين ومن الصالحين ومن الأبرار ومن العاملين، كان صادقاً مع ربه وكان صادقاً مع نفسه أيضاً، ليلة الجمعة يفرغ نفسه للتحضير وصباح الجمعة أيضاً وعلى حسب تعبير احد الأعلام كان يقول بأنه سماحة السيد رضوان اللّه تعالى عليه، ليلة الجمعة كان يصاب بشبه الحمّى من القلق... هل غداً أستطيع أن أؤدي رسالة الجمعة ورسالة المنبر الحسيني؟

كان يحضّر ثمان ساعات أو عشر ساعات أقل أو أكثر، كان ذلك الإنسان الصادق مع ربّه والصادق مع نفسه والصادق مع مجتمعه، كان قمة في التواضع، الكل يعرفه ولم يكن التواضع مظهراً له فقط، في عمقه كنت تلمس التواضع فيه، أحيانا الإنسان يحصل على درجة من العلم أو من السلطة والشهرة والرياسة وغير ذلك وإذا به يشمخ بنفسه إلى عنان السماء وربما يخفي ذلك، ولكنك عندما كنت تجلس والكثير شاهدوه عن قرب، الكثير منكم وربما جميعكم شاهدتموه عن قرب، عندما تجلس اليه كنت تحس بعمق التواضع، لم يكن يتصنع التواضع، كان صادقاً مع ربه، «من تواضع لله رفعه»(1)، كان صادقاً في تعامله مع الناس، كان صادقاً في تواضعه، كان صادقا في تقواه، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، أنا شخصيا سافرت معه أسفار عديدة، في السفر تتجلّى عادةً حقيقة

ص: 26


1- الكافي 2: 122.

الإنسان، لأن الإنسان يجد نفسه في حلٍّ من كثير من القيود لكنّه رضوان اللّه تعالى عليه كان يتحرّج الى أبعد الحدود من أن يحضر في مجلس فيه غيبة لمؤمن، الكثير يعدّون الغيبة فاكهة مجلسهم - والعياذ باللّه - ولا يلتذون بمجلس الاّ لو شفّع بغيبة أو نميمة أو تهمة، لكنه كان شديد التحذر من ذلك الى درجة أنه أحيانا كان يحضر في بعض المجالس الّتي كان يتوقع أنه ربما يكون فيها غيبة، كان مضطرا للحضور وأنا أحيانا كنت مضطرا للحضور، فكنت أسأله ما الذي تصنع عندما تحضر؟

كان يقول لأنه أنا مضطر للحضور ففكرت أنّ أفضل طريقة لكي لا أفتح المجال ولو لغيبة واحدة ولو للبدء باغتياب مؤمن وإن كان بتبرير وتبرير وألف تبرير، هو أنّه بمجرد ما يحضر الى ذلك المجلس وحتى قبل أن يجلس حتى لايكون هناك فرصة ولو مقدار ثواني لكي ينطلق البعض في حديث من هذا القبيل، كان قبل ما يجلس يبدأ بطرح مسألة فقهية أو مسألة عقدية (عقائدية) أو مسألة ولوية (ولائية) أو غير ذلك، ويأخذ الجو كلّه بأحاديث محمدٍ وأهل بيته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ما أقلّ الرجال في كلّ زمن وما أندر الرجال الصادقين، كان السيد الفقيد السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه من الرجال الصادقين النادرين الذين صدقوا في عهدهم مع اللّه سبحانه وتعالى، ربّى الاُلوف وكان حصيلة تربية والده المقدس سيد الفقهاء آية اللّه العظمى السيّد محمد الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه والذي كان بدوره ثمرة تربية المرجع المقدس الميرزا مهدي الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه، حيث يقول عنه المرجع الأعلى في زمانه

ص: 27

آية اللّه العظمى الميرزا عبد الهادي الشيرازي: أني عاشرت الميرزا مهدي الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه أربعين سنة فلم أجده يرتكب مكروهاً قط، هذا المقدس رضوان اللّه تعالى عليه ربّى ثلّة من الأبناء الأفاضل والأولياء والعلماء الأبرار كان منهم السيد الشيرازي الإمام الراحل رضوان اللّه تعالى عليه، وكان منهم آية اللّه الشهيد السعيد المفكّر الإسلامي السيد حسن الشيرازي الراحل رضوان اللّه تعالى عليه الذي هدى بجهده وبسعيه وبجهاده ما يزيد على المليوني إنسان في قضية يعرفها الكثيرون، وأسّس ما أسّس في مشارق الأرض ومغاربها أيضاً، وكان من الثمار لتلك الدوحة المباركة ومدرسة الميرزا مهدي الشيرازي الراحل رضوان اللّه تعالى عليه المرجع الزاهد الورع المقدس آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي الذي الكلّ يعرفه بالورع والزهد والأخلاق الفاضلة وشدّة الانقطاع لله ولأهل البيت الأطهار عليهم الصلاة وأزكى السلام.

آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه الذي اجتمعنا هاهنا لأجله، وفي مأساة لم نكن نتوقعها على الإطلاق، من منكم كان يتوقع أن يجتمع في هذا الوقت في هذا المكان المبارك لكي يحضر فاتحة آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه، لم يكن أحد يتوقع ذلك، إلاّ أنّ الرجل قدم على مقدم، كان صادقاً مع ربّه وكان صادقاً مع نفسه وكان صادقا في ولائه لأهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام، كان صادقاً في علمه، كان صادقاً في عمله الصالح، كان صادقاً في تقواه وكان صادقاً في جهاده مدى عمره، كان شوكة في أعين المستعمرين والظالمين وقد دفع ضريبة لذلك، وأيّة ضريبة، والحديث في ذلك يترك لمجال آخر.

ص: 28

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}، السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه، أنا شخصيا شاهدته ليلَ نهار، الحقيقة ما كان يضيع الثانية الواحدة من عمره، بدون مبالغة، أنا عاشرته فترة طويلة جداً، سنين طويلة، ربما خمس وعشرين سنة تقريباً، ما كان يضيّع الثانية الواحدة، إما يقضيها بذكر اللّه سبحانه وتعالى أو بحديث تربوي أو بتأليف أو تدريس أو تشويق أو تحريض وما أشبه ذلك ، ما الذي يبقى للإنسان سوى العمل الصالح، ما الذي يبقى للإنسان سوى ما يبذره لآخرته، هذا الطريق كلّنا سائرين فيه، سبقنا إليه الأبرار الصالحون، لكن هنالك وفي تلك الدار الآخرة وهي الحيوان «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء.»

أحد المؤمنين ليلة أمس شاهد أمير المؤمنين عليه الصلاة وأزكى السلام يدخل في مجلس وورائه مباشرة فقيدنا السعيد السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه تعالى عليه، وآخر شاهد الصديقة الزهراء عليها الصلاة وأزكى السلام وهي تستقبله بالأحضان وكان يتوقع أن يحدث شيء على ضوء هذه الرؤيا، وآخر شاهده يذهب الى زيارة سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه الصلاة وأزكى السلام في كربلاء، بعضهم في الكويت، بعضهم في سوريا، بعضهم في إيران.

الإنسان يقدم على ما قدّم، وقد كان السيد رضوان اللّه تعالى عليه نعمة الأسوة لنا ونعمة القدوة، في الحقيقة يجب أن نتعلّم من مدرسته الزاخرة والعامرة، نتعلم منه كيف نذبّ عن حياض أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام، كيف نبذل الغالي والنفيس في سبيلهم، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ

ص: 29

صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، ما الذي عاهدنا اللّه عليه في عالم الذر، لقد عاهدنا اللّه على طاعته وعلى محبة رسوله محمد وأهل بيته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، في المناقب يقول سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه الصلاة وأزكى السلام في يوم عاشوراء، وفي تلك الصحراء القاحلة الموحشة المرعبة حيث اجتمع أعداء اللّه من كلّ حدب وصوب لكي ينالوا من خيرة عترة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كان كلّ واحد من الأصحاب يريد أن يبرز للقتال، يأتي ويستأذن ويودّع الإمام الحسين عليه الصلاة وأزكى السلام ويقول له: السلام عليك يا ابا عبد اللّه فيجيبه الإمام الحسين عليه الصلاة وأزكى السلام: وعليك السلام ونحن خلفك، تصوروا هذه الكلمة، هم السبّاقون الى الجنة، رجال اللّه الصادقون، يقول لكلّ واحد منهم الإمام الحسين عليه الصلاة وأزكى السلام: وعليك السلام ونحن خلفك، ثم يتلوا سيد شباب أهل الجنة هذه الآية الشريفة {مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْديلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقينَ بِصِدْقِهِمْ}.

كان السيد رضوان اللّه تعالى عليه آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي يمتلك المحبة في قلوب المؤمنين، المؤمنين الملايين منهم في مشارق الأرض ومغاربها، انتم تعلمون والكثير منهم يسمعني الآن ، أحس حرقة ولوعة كبيرة بفقد هذا الرجل العظيم، إلا أنّ لوعتنا وحزننا على مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) أكثر وأكثر وأكثر، لا تزال سامراء مهدّمة غير مبنيّة، لا يزال البقيع مهدّم، لا تزال ظلامات أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام تطبق الخافقين، لا يزال الملايين بل عشرات الملايين من الناس يجهلون مكانة

ص: 30

وعظمة أهل البيت الأطهار عليهم الصلاة وأزكى السلام، فلننتهز هذه الفرصة المؤلمة لكي تكون عبرة لنا لآخرتنا ولكي نتّخذها جسرا، لكي نتعلّم من هذا الرجل العظيم فقيدنا السعيد كيف نبني سعادة الدارين بولاء وإطاعة والدفاع عن أهل البيت الأطهار عليهم الصلاة وأزكى السلام.

أ ُعزيكم واُعزي الملايين من المؤمنين الذين فقدوا بفقد السيد محمد رضا الشيرازي أباً ومربياً وعالماً وموالياً لأهل البيت الأطهار عليهم الصلاة وأزكى السلام، ونسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يتفضّل علينا وعلى جميع المؤمنين بلطفه وبكرمه، وبأن يقيّض لنا منكم ومن المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها من يرفع راية أهل البيت (عليهم السلام) عالية خفّاقة أكثر من ذي قبل، ونهدي ثواب سورة الفاتحة تسبقها الصلاة على محمد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 31

حصن الإسلام

اشارة

حصن الإسلام(1)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی اعدائهم اجمعين إلی يوم الدين.

هناك أكثر من ضرورة تستدعي دراسة حياة الرموز الدينية وتوثيق سيرتهم سيما الفقهاء والعلماء الربانيين.

الضرورة الأولى: دينية؛ لأنهم أعلام الدين وورثة الأنبياء وخلفاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونواب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، وحصون الإسلام الذين بهم يقوم الدين، وتقوى مناهجه، وتنتشر أحكامه، فإحياء ذكرهم هو احترام للدين، وإحياء لشعائره، وتعظيم للنبي والأئمة (عليهم السلام) ، التي هي من تقوى القلوب؛ لأنهم خير خلق اللّه بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى(2).

والضرورة الثانية: إنسانية؛ لما قدموه من خدمات جليلة لإصلاح الأرض وبناء الإنسان وتعليمه وتقويمه بما يستوجب شكرهم وتثمين جهودهم وتضحياتهم.

والضرورة الثالثة: اجتماعية؛ فإن العلماء قدوة الناس وهداتهم والمثل الأعلى في أفكارهم ومواقفهم المختلفة، وهم كمنزلة الرأس من الجسد في

ص: 32


1- الشيخ فاضل الصفار أستاذ بحث الخارج في كربلاء المقدسة.
2- الاحتجاج 2: 264.

الأمة، ولا يمكن أن تقوم أمة أو تنهض دون قيادة صالحة ومبادئ إنسانية ومناهج قويمة، ومن هنا أوجب الشرع على الناس الارتباط بالفقهاء الربانيين وتقليدهم في الأحكام، وإطاعتهم في العمل، والتأسي بهم في المواقف، ودعا لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرحمة؛ إذ قال: «اللّهم ارحم خلفائي» قيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»، وقد ورد النص في أكثر من مصدر(1).

وفي رواية علي بن رئاب عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) : «لأنّ المؤمنين حصون الإسلام، كحصن سور المدينة لها»،(2) وعنوان رواة الحديث لا يشمل المعصوم (عليه السلام) ؛ لأنه منشأ الحديث لا راويه وهو ذات النبي في قوله وفعله وتقريره؛ لأنهم نور واحد، فيدل على أن منصب الخلافة في الحديث الأول مختص بالفقهاء الذين يمثلون سنة النبي، وهم العلماء الربانيون، ولذا وصفوا في الحديث الثاني بأنهم حصون الإسلام، وقد أمر الخلق بتعظيمهم والإقرار بفضلهم، وفي الحديث القدسي عنه سبحانه في قوله لعيسى (عليه السلام) : «عظم العلماء واعرف فضلهم، فإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين، كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كل شيء»(3) والإطلاق يشمل سائر مصاديق العلماء على اختلاف مراتبهم، وأعلاهم رتبة هو المعصوم ثم

ص: 33


1- الفقيه 4: 302؛ معاني الأخبار: 374؛ عيون أخبار الرضا 2: 37؛ وسائل الشيعة 27: 139.
2- الكافي 2: 254؛ علل الشرائع 2: 462؛ وسائل الشيعة 2: 924.
3- منية المريد: 121؛ الجواهر السنية: 165.

المنصوب من قبله؛ لأن منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل(1)، وهم حكام على الملوك والناس(2).

فدراسة الرموز الدينية والعلمية لاسيما الفقهاء أمر ضروري في حياة الناس؛ لما له من تأثير كبير على عقولهم ونفوسهم وأخلاقهم العامة، وباختصار لما له من تأثير في صناعة شخصية الأمة في حاضرها ومستقبلها.

والدراسة المتوازنة هي التي تعطي لكل ذي حق حقه، وتوازن الأمور ضمن الضوابط العلمية الخالية من التعصب والميول العاطفية، وتقوم بدراسة أفكارهم ومواقفهم ثم النظر في إنتاجهم العلمي والفكري وانجازهم العملي.

بهذه النظرة والميزان ينبغي ان نستقرئ سيرة المرحوم آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) في حياته الشخصية والعلمية، ونستند في ذلك إلى ضابطتين هما:

1- المعايشة والمعاشرة الحسية له كأخ وأستاذ وزميل دراسة.

2- تحليل بعض إنتاجه العلمي الذي جمع في هذه الموسوعة الحافلة من كتبه الشريفة.

أولاً: السمات الشخصية

اشارة

يندر أن يحظى شخص كبير في نفسه وعظيم في مستواه بسمو الشخص وسمو الشخصية، فإن الرجال الأفذاذ هم الأقل في تأريخ البشر، والغالب الملحوظ عند كبار الرجال أنهم يحظون بإحدى السمتين، أو يجمعون شيئاً

ص: 34


1- فقه الرضا: 338.
2- كنز الفوائد 2: 33.

من هذه وشيئاً من تلك، وهذا بحسب الظاهر هو ما تقتضيه القاعدة؛ لأن الجمع بين الفضلين معاً أمر صعب يتطلب مجاهدات كبيرة وتربية خاصة لا يقوى عليها إلا العلماء الربانيون.

ولدى استعراض بعض تفاصيل حياة الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) يجد الباحث الكثير من مظاهر السمو والعظمة في سيرته الذاتية من جهات عديدة، وقد اتفق كل من عاشره وعايشه سنين طويلة على أنه لم يكن شخصاً عادياً، بل كان روحاني الذات ورباني الصفات منذ نعومة أظفاره إلى حين وفاته.

فهو من حيث الولادة والنشأة والمؤهلات العلمية متميز، فقد ولد في كربلاء المقدسة سنة 1379 هجرية في أسرة العلم والتقوى والزهد والمرجعية الدينية، وهو النجل الأكبر للمرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) ، والحفيد الأول للمرجع الديني المقدس السيد الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) ، فتربى في ظل والده وتعلم على يديه وتهذب وتأدب بأدبه، وكان ممن يضرب به المثل في كل ذلك.

وقد بدأ دراسته الأولية في مدرسة حفاظ القرآن الكريم، ثم انضم إلى صفوف الطلبة في الحوزة العلمية في كربلاء، حيث درس المقدمات لدى أساتذتها، ثم هاجر بصحبة والده إلى الكويت بسبب الضغوطات السياسية والتجبّر البعثي على الحوزة، لا سيما رموزها الكبار كوالده وأعمامه الأعلام، وواصل دراسته في الكويت، فقرأ الرسائل والمكاسب على عمه المرجع الديني الكبير السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) .

ثم هاجر إلى ايران سنة 1399 هجرية، فحلّ بقم، واستمر في دراسته

ص: 35

حتى أكمل السطوح العليا، ثم بحث الخارج لدى والده المعظم الإمام الشيرازي (قدس سره) وكبار فقهاء الحوزة وأساتذتها من أمثال المرجع الكبير الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله) وغيره، حيث نال مرتبة عالية من العلم والفقاهة، وإلى جانب دراسته كان أستاذاً في مختلف العلوم في المقدمات والسطوح، وتخرّج على يديه الكثير من الأفاضل، وفي عام 1406 هجرية شرع بتدريس الأبحاث الاجتهادية في الفقه والأصول إلى جانب ذلك كان يقوم بالكثير من المهام العلمية والفكرية والتربوية، واستمر على ذلك حتى وافته المنية وهو في أوج عطائه في ظروف وصفت بأنها غامضة، وذلك في صبيحة يوم الأحد المصادف 26 جمادى الأولى في سنة 1429 هجرية الموافق 1/6/2009 ميلادية.

وقد شيعته الملايين على الأكف في محشر مهيب لم يحظ به الملوك والسلاطين ولا كبار المراجع، وقد استطاع في هذا العمر القصير أن يرتقي إلى الكثير من الكمالات، وينال المقامات المعنوية التي قد لايبلغ شيئاً منها من عاش ضعف عمره، وكان بحق الرجلَ الذي يتفق القاصي والداني والقريب والبعيد والكبير والصغير على أنه عظيم السمات والخصوصيات، وجدير بأن يكون قدوة للعلماء وأهل الفضل، ومثلاً أعلى لعموم الناس.

نكتفي بالإشارة إلى شيء منها كما وردت على ألسنة أهله وأصحابه وتلامذته(1)، فقد قال عنه عمه سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني

ص: 36


1- أكثر الكلمات الواردة في حقه مأخوذة من الكتاب الذي أُعد في ذكراه السنوية (في رحاب فقيد العلم والتقوى).

الشيرازي (دام ظله) : «إنني عشت معه منذ ولادته ولم أر منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات، لقد كانت السمة البارزة التي لعلّي لمستها أكثر من غيري ولمسها كلّ من عاشره ولو نصف ساعة، التمثيل الشخصي للإنسان المسلم الصحيح في أقواله وفي سيرته وفي نظراته وإستماعه وفي دعواته وإجابته، وهذا مما يندر وجوده في كل زمان، ولا سيما في زماننا هذا، وقد كان على درجة عالية من العدالة والخلق الرفيع مع الصديق والعدو والغريب، وكان تجسيداً عملياً لسيرة المعصومين (عليهم السلام) ».

وهذه حقيقة يشهد لها الجميع، فقد كان صادقاً مع ربه، وصادقاً مع نفسه ومع مجتمعه، ولم يكن التواضع مظهراً له فقط، بل كان في عمقه ووجدانه. وقد كتب عنه العَلَم القدوة والعالم الجليل سماحة السيد مرتضى القزويني دامت بركاته قائلاً: «كان w زاهداً في الحياة، قليل الأكل، قليل النوم، قليل الكلام، إلا ما فيه رضا اللّه عز وجل؛ لم يجمع مالاً، ولم يضع حجراً على حجر، وإن الجماهير المليونية التي انطلقت في تشييع جثمانه لخير دليل على عظمة مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين(1)، وكان نموذجاً في الأخلاق والمحبة والإيثار والصدق والعمل الصالح، وكان متواضعاً زاهداً يكتفي بأقل ما يمكن من الدنيا وما فيها، ولم يكن يفكر إلا في مرضاة اللّه، وكان جهده تحصيل العلم ونشر معارف أهل البيت (عليهم السلام) ، كما كان يهتم بالفقراء والمحتاجين (عليهم السلام) ».(2)

ص: 37


1- من مقال كتبه في تأبين المرحوم، انظر (في رحاب فقيد العلم والتقوى: 19).
2- من كلمة للعلامة الأديب الشيخ سلطان علي التستري الحائري في تأبينه، انظر (في رحاب فقيد العلم والتقوى: 28).

ويشهد له كل من عاشره بأنه لم يكن يضيع الثانية الواحدة من عمره، ويقضي وقته إما بذكر اللّه سبحانه أو بحديث تربوي أو توجيهي، أو بتأليف أو تدريس أو تشويق للآخرين للعمل الصالح أو ما أشبه ذلك(1).

وقد حكى عنه الأديب البارع السيد محمد رضا القزويني دام عزه فقال: حضرت عدة مجالس كانت تجمعه بكبار العلماء وكانت تطرح فيها المسائل الفقهية المعقدة ورأيت العلماء ينظرون إلى آرائه بالإكبار والتقدير(2)؛ لأنه يستقي من القرآن والسنة حصراً، ولم يتأثر بالمناهج أو الأفكار الأخرى مع احترامه لها؛ لأن اختلافه معها علمي لا مزاجي أو عاطفي، ومن خصوصياته أنه لم يفرض رأيه على أحد من تلامذته مع أن آراءه العلمية كانت دقيقة، بل كان يطرحها بعنوان الاحتمال أو الاحتمال الأقرب، ولصفاء باطنه ونقاء قلبه وحياده العلمي كان كلامه يخترق القلوب، ويستولي على العقول والأفكار ليس فقط في الأوساط العلمية أو لدى المؤمنين، بل حتى المخالفين، وقد أنار الطريق للكثير من طالبي الحقيقة، وأوصلهم إلى الحق بإسلوب السهل الممتنع حتى تشيعوا على يديه(3).

احترام الناس

ومن سماته أنه كان يحترم الجميع على حد سواء، فيشعر من يكلمه أو

ص: 38


1- من كلمة لأخيه المعظم سماحة آية اللّه السيد مرتضى الحسيني الشيرازي (دام ظله) في تأبينه، انظر (في رحاب فقيد العلم والتقوى: 15-16).
2- في رحاب فقيد العلم والتقوى: 34.
3- في رحاب فقيد العلم والتقوى: 48-50.

يجالسه أو يسأله بأنه أقرب الناس إلى قلبه، فيصارحه بما عنده، ويصغي إلى توجيهه، ولم يكن يقطع على أحد كلامه، بل يدعه حتى ينهي كلامه مع غاية الاستماع والإنصات، فإن كان لديه عمل آخر أو ما شابه يلزمه بالرواح يستأذن، ويجعل موعداً آخر لإتمام الكلام.

وكان ملتزماً بزيارة أصحابه وتلامذته، بل عهد عنه زيارته للكثير من المعارف، ولعل من غير المتعارف أن يزور فقيه أو عالم بمنزلة السيد w شخصاً ليس من شريحته ومستواه العلمي أو الإجتماعي، لكنه كان متواضعاً ودوداً يزور الناس في اللّه، ويسدي لهم معروفه، ويمتثل لتعليمات الأئمة (عليهم السلام) في زيارة الإخوان واستحباب ملاقاتهم والتواضع لهم(1).

تواضعه

ومن سماته أنه كان يبادر بالسلام على الآخرين، ولا يترك فرصة السبق إلى المسارعة في الخير، والعمل بقول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أفشوا السلام»(2) فكان يسلم على القريب والبعيد، ويسبقه إليه، وقد شهد الكثير من إخوانه ومعارفه أسبقيته في ذلك، وقد حاول العديد منهم أن يسبقوه ولكنهم لم يفلحوا؛ إذ سرعان ما كان يبادر في إلقاء التحية قبل أن يسبقه أحد.

وإذا حدّثه أحدهم أصغى إليه بكل حواسّه، وهذه سمة قد يغفل الكثير عنها فتجدهم يتكلمون أكثر مما يستمعون، بينما تؤكد الآيات والروايات على أهمية الإصغاء والاستماع إلى الكلام أكثر من التكلم، وفي بعض

ص: 39


1- وسائل الشيعة 12: 22.
2- روضة الواعظين: 418.

الأخبار: أن من علامات الفقه الحلم والصمت(1)، وأن الصمت يلازم الحكمة، والمؤمن الصموت تتجلى في كلماته وسلوكه الحكمة(2)، لذا كنا نرى الكثير ممن يحضر عند السيد (قدس سره) أو يلتقيه يفرغ ما في جعبته من الكلام والسيد ساكت صامت يستمع إليه بإمعان، ثم إذا اقتضى الأمر أن يبدي بعض الكلمات كتوجيه أو إرشاد أو توضيح غامض أو تقديم مقترح إصلاحي أو تطويري قال شيئاً، ولا يسهب أو ينجر إلى الكلام غير النافع.

الإيجابية

ومن سماته الوفاء والإيجابية، فلم يكن يعرف التشاؤم، ولا ينظر إلى الصور المظلمة في الأشياء ولا الصفات السلبية في الأشخاص، بل يرى الصور الجميلة والمحاسن ويذكرها بعين الرضا، فإذا أهدي له شيء قابل بالمثل والأحسن بعد أداء الشكر والامتنان، وكان لا يشتكي من أحد، ولا يشتكي إلى أحد، ويغض الطرف عن المساوئ، وهي من أشرف السجايا والخصال في رجال اللّه، وفي الحديث العلوي الشريف: «أشرف أخلاق الكريم كثرة تغافله عما يعلم»(3).

ونقل بعض أصحابه بأنه كان ملتزماً مع السيد (قدس سره) في مباحثة علمية، وكانت تحصل لي ظروف فأتغيب عن الحضور، ولما ألتقي به لم يكن يعاتبني أو يشتكي لعدم حضوري، مع أن غيابي كان يخل ببرامجه وربما

ص: 40


1- الكافي 1: 36.
2- مستدرك الوسائل 9: 18.
3- غرر الحكم: 451؛ عيون الحكم والمواعظ: 115.

يضيع شيئاً من وقته الثمين، ونقل آخر فقال: أهدى لي يوماً هدية، ولما قدمها لي لم يكن ينظر إلى عيني حياءً منه وتواضعاً، وكان يقول: هذا شيء متواضع، وكان دائب الذكر واستثمار الوقت، فإذا حضر لموعد أو لقاء مع شخص ولم يتم بسبب غيابه فإنه ينشغل بالذكر وقراءة القرآن، أو البحث العلمي مع الموجودين، أو مطالعة بعض ما يراه مناسباً.

وكان يثمّن جهود الناس ويدخل السرور على قلوبهم ولو بالأشياء اليسيرة، ويعينهم على الخير ونيل الثواب، فقد قال أحد أصحابه: دُعي السيد (قدس سره) إلى الإفطار في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك فكنا معه، ولما ركبنا السيارة أذّن أذان المغرب في الطريق، فقدّم أحد الإخوان تمراً للحاضرين ومنهم السيد، فأخذ السيد حبة منه وجعلها بيده ولم يأكلها، فقال له المقدِّم: سيدنا تفضل تناول التمر. قال: إن شاء اللّه، وهكذا كررها والسيد يجيب بذات الجواب، ولما وصلنا إلى مكان الضيافة وبدأنا بالإفطار أكل التمر المقدَّم له، فقلنا له: سيدنا لِمَ لم تأكل التمر إلا هنا؟ فقال: لأن المضيِّف دعاني وأراد تحصيل ثواب إفطاري فكيف آكل هذا التمر قبل أن أبدأ بطعام صاحب الدعوة.

برّ الوالدين

وإما بره بوالديه فربما يفوق ما يتصور عادة، فكان يومياً يحضر عند والدته ويبدأ يومه بلقائها والسلام عليها ومؤانستها وخدمتها ثم ينطلق لمهامه الأخرى، وكان إذا حضر في مجلس والده الإمام الشيرازي (قدس سره) لم يكن يتكلم، وإذا حدثه أحد الحضور الجالسين بجنبه كان ينظر إلى والده، فإن

ص: 41

رآه ساكتاً تكلم، ولا يتكلم ما دام والده يتكلم مع أنه كان غضيض الصوت ولا يكاد يسمعه إلا القريب منه.

زهده وورعه

وأما زهده وورعه فباديان على شخصه، ولهما من الشواهد ما قد يبهر، فقد كان في كل عام يتشرف بزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) ، وقد نقل بعض أصحابه الذين كانوا في خدمته أيام تواجده فقال: بعد أن أقام مدة في مجاورة الإمام الرضا (عليه السلام) وعزم على العودة إلى قم عبر القطار جئت بسيارة لكي أكون في خدمته إلى المحطة فلم يقبل ذلك، لكنه قبل بعد إصرار مني، وقبل أن يستقل السيارة قال: انتظرني قليلاً، فإن هناك بقالاً يطلبني مالاً وأريد تسديد الدين فاستغربت؛ لأن السيد (قدس سره) ليس من عادته أخذ الدين في مثل هذه الأمور، فتبعته ولما وصل إلى البقال وبعد أن سلم عليه قال السيد (قدس سره) : أنا البارحة جئت واشتريت فاكهة فاختار ابنك الفاكهة الجيدة ووضعها لي وحسبها بنفس السعر، فقلت له الجيد سعره أغلى فلم يقبل أن يأخذ الفارق، واليوم جئت لكي أعطيكم الفارق، فبكى البقال وقال: أنا لا أطلب منكم شيئاً، وابني أعطاكم الفاكهة الجيدة بكامل رضاه، ولكن السيد (قدس سره) كان يصر على أن يأخذ البقال الفارق لكنه يرفض، فشكره وذهب.

وفي موقف آخر في زيارة أخرى لمشهد المقدسة عندما أراد أن يغادرها أستأمنني على شيء، وطلب مني أن أعطيه لأحد السادة الأجلاء لأجل أن يقوم هو بإيصالها إلى أهلها، فقلت سمعاً وطاعة، فأعطاني ثلاث

ص: 42

حصيات فتعجبت منها، فقال: هذه حصيات الخبز (خبز السنكك) الحصوي(1) الذي جاء به إلينا، وبما أن الخباز يستفيد من هذه الحصيات فأرجو إرجاعها إليه فإني لا أعرف عنوان محله.

وكان يجهد لأن يكون كأواسط الناس، فلا يلبس اللباس الناعم، ولا يسكن القصور، ولا يركب السيارة الفارهة، وقد كان في الكويت وهو بلدٌ أهله في الغالب موفورون، فكان يصر على بساطة اللبس، وذات مرة كان على موعد مع بعض أصحابه فجيء له بسيارة مرسيدس آخر موديل، وهي في مجتمع مثل الكويت موفرة، وركوبها أمر متعارف، لكنه رفض ذلك حتى جيء له بسيارة عادية وغير مميزة، ولم يكن هذا التصرف منه تصنعاً وتظاهراً بالزهد، وإنما عن صدق، وكان من جملة أهدافه تربية النفس ومواساة الناس البسطاء.

وكان قليل الطعام والمنام، لم يجمع مالاً، ولم يدخر لنفسه شيئاً، وكان ينفق ما عنده على الفقراء والمحتاجين، ويقوم بضيافة الضيوف بنفسه، ولا يكتفي بما يقوم به الخادم، وكان من آثار هذه المعنوية تجلي الفراسة عليه، فكان يخبر بعض أصحابه ومعارفه ببعض ما يهمهم، وله مواقف وشواهد عديدة في ذلك(2)، وكان آخرها ما نقله بعض إخوته الأجلاء عن آخر موقف له قبل رحيله. قال: كان عندنا مجلس حسيني في البيت للعائلة، وبعد

ص: 43


1- هو نوع من الخبز يخبز على الحصو، وعادة تلتصق به بعض الحصيات، وقد جرت العادة أن الناس يرمونها خارجاً ولا يرجعونها إلى الخباز.
2- في رحاب فقيد العلم والتقوى: 74-76.

المجلس خرج السيد برفقة إحدى أخواته وقال لها: انتظري فهناك أمانة لك، فقالت: غداً سآخذها منك. قال: لا، خذيها الآن فإنه ليس من المعلوم أن تجديني غداً، وقد وقع ما أخبر؛ إذ انتقل إلى رحمة اللّه تعالى في تلك الليلة.

علاقته بالحسين (عليه السلام) ومظلوميته

المتتبع لحياة السيد (قدس سره) يجد من أبرز سماته تفانيه في الولاية وذكر أهل البيت (عليهم السلام) والتذكير بفضائلهم على لسانه، وما كان يخلو مجلس من مجالسه من ذلك، وكان يحث الناس على الارتباط بهم والانضمام إلى صفوف خدمهم ومناصريهم (عليهم السلام) ، وكان يشارك في مجالس العزاء واللطم، ويقاوم آلامه البدنية ومشاكل الظهر التي كانت تلازمه، ويقف طويلاً مع المعزين في بيت المرجعية بقم المقدسة مرتدياً السواد، وكان غزير الدمعة على مصائبهم (عليهم السلام) ، ويحث الناس على إقامة مجالس الحسين (عليه السلام) في بيوتهم؛ لأنها مصدر الخير والنور وقضاء الحوائج.

وفي يوم عاشوراء وليلته كان يخلع عن نفسه لباس العز والكرامة، وينحني إجلالاً لمصيبة الحسين (عليهم السلام) ، فلا يرتدي العباءة، ويمشي حافياً، ويمتنع عن أكل الطعام، ويشارك في المجالس، ويوصي بعض الخطباء في رسالة مخاطبه فيها فرد ولكن المقصود جماعة الخطباء الأجلاء وأهل المنبر الشريف، ولا يخفى ما في الوصية من آثار دينية وتربوية يقول فيها:

1- لا تقرأ إلا على الإمام الحسين (عليه السلام) .

2- لا تستصغر المجلس، واقرأ فيه حتى لو كان فيه شخص واحد فقط،

ص: 44

لأن من أقيم له المجلس حاضر وناظر.

3- استقم على هذا النهج ولا تتأثر بالصعوبات أو المغريات.

4- أوصل رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كل مكان في المعمورة، فإن الناس لو عرفوا الحسين (عليه السلام) آمنوا به، واهتدوا إلى الحق؛ لأنه مصباح هدى وسفينة نجاة.

وحقيقة الأمر أن السيد (قدس سره) وكما ورد في أحاديث وصف الأولياء الصالحين الناس منه في راحة، ونفسه منه في تعب، وإنه مدرسة أخلاقية وإنسانية كبيرة ينبغي أن تحتذى، ولذا قال عنه سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) وهو أكثر من لازمه وعايشه: «إنا لم نر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كان تاريخه بين أيدينا، وكذلك لم نر أمير المؤمنين ولا فاطمة والإمام الحسن والإمام الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين، ولكن أمثال هؤلاء كانوا تجسيداً لأولئك الأطهار (عليهم السلام) ».(1)

هذه بعض الملامح الأولية عن شخصية هذا الفقيه الجليل، وهي تكشف عن سمو كبير في الذات صعب أن يرتقي إليه الإنسان إلا إذا كان من مصاف العلماء الربانين الذين اقتدوا بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ، ومثل هذه المكانة والعظمة لابد وأن تمتاز بسمات أخرى تزيدها عظمة وسمواً، وهي العلم والفقاهة.

ثانياً: السمات العلمية

اشارة

الانتساب إلى العلم والعلماء قد يكون أمراً سهلاً إلا أن الاتصاف بواقع

ص: 45


1- في رحاب فقيد العلم والتقوى: 12.

العلم والتحلي بمزايا العلماء ليس سهلاً، ويكاد يتفق أهل المعرفة على أن الميزان الذي تعرف به الشخصية العلمية يقوم على أساسين:

الأول: الإنتاج العلمي والفكري.

ثانياً: التلامذة الذين تعلموا منها.

فان عمق البحث يكشف عن عمق الباحث، وفضل التلامذة يكشف عن فضل الأستاذ، ولدى دراسة الشخصية العلمية للفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) تمثل أمام الباصرة هاتان السمتان، فهو من حيث التلامذة ربّى الكثير من الأفاضل الذين لهم المكانة في المحافل العلمية والفكرية من علماء وخطباء ومفكرين لا يسع المجال لذكرهم، وسنكتفي في تسليط الضوء على بعض خصوصيات أبحاثه العلمية التي جمعت في هذه الموسوعة الماثلة بين يدي القارئ الكريم الجامعة لعمدة ماكتبه بقلمه الشريف، أو ما قرره له تلامذته في الفقه والأصول وغيرهما من مباحث قرآنية وعقدية.

1- خصوصيات بحثه الفقهي
اشارة

ينقسم الفقهاء إلى قسمين: الفقهاء المختصون بالفقه والفقهاء الموسوعيون، والقسم الأول يقتصر في أبحاثه على ما درجت عليه المباحث الفقهية وجرت عليه سيرة السلف، ونادراً ما نراه يخرج من السياق المألوف أو يتصدى لاستيعاب مشاكل الزمان ومعالجتها فقهياً إلا بمقدار ما تقتضيه الضرورة والحاجة.

والقسم الثاني يسعى جاهداً للإحاطة بثقافة الزمان والتعرف على القضايا

ص: 46

الجديدة فيعالجها بالحلول المناسبة، وكما لا يستغني المجتمع المسلم عن القسم الأول من الفقهاء فإنه يفتقر إلى القسم الثاني كثيراً، خصوصاً في هذا الزمان الذي اتسعت فيه الحياة وتشعبت المسائل وتداخلت فيها العلوم والمعارف، ولايمكن أن يستوعب الفقيه ذلك مالم يكن موسوعياً، أي عارفاً بالزمان وشرائطه وحاجاته، وهذه هي مهمة الفقيه الأولى؛ لأن الفقه نظام الحياة وقانونها الإلهي، وما لم يكن الفقيه عارفاً بمتطلباتها وحاجاتها وماينبغي لها وما لاينبغي في كل زمان ومكان لايمكن ان ينهض بهذه المسؤولية الملقاة على عاتقه.

هذا والذي يستقرئ النتاج العلمي للفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) يجد انه من قبيل الفقهاء الموسوعيين الذين خبروا زمانهم، وعرفوا حاجاته، وتصدوا لمعالجة أزماته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجد أن أبحاثه تأصيلية معمقة تستوعب الموضوع صغروياً وترجعه إلى كبراه الشرعية والعقلية، وتستنتج منه النتيجة المناسبة وتطبقها على الواقع الخارجي، فقد تميزت أبحاثه بمزايا البحث العلمي الكامل من:

1- التأصيل العلمي.

2- التتبع والاستيعاب.

3- المناقشة والتحليل.

4- الاستنتاج الصحيح.

5- المنهجية والترابط الموضوعي.

6- وضوح العبارة وحسن البيان.

ص: 47

والتسلسل السداسي المذكور طولي يؤخذ في كل بحث علمي كامل بشرط الانضمام، فلا يمكن أن يرتقي البحث إلى المستوى العلمي لو اختلت واحدة من المزايا الأربعة الأولى، كما لا يمكن أن يتصف البحث العلمي بالكامل لو اختلت المزية الخامسة والسادسة؛ لأن فقدان المنهجية يخل بالتسلسل، ويبعثر المضامين، وفقدان الوضوح يفقد البحث أثره ويخل بمعانيه وغايته.

فالبحث العلمي لابد وأن يتوافق مع قواعد العلم وأصوله في الشكل والمضمون، وهذه مسألة مهمة قد تفتقدها بعض الأبحاث الفقهية لكبار الفقهاء وأساطينهم، فإن الملحوظ أن بعض أبحاثهم يتمتع بالعمق والأصالة والتتبع لكنه يفتقر إلى المنهجية حتى يكاد يصعب الوصول إلى مطالبها على الكثير، وربما يفتقر إلى المنهجية والوضوح بما يجعلها كالمجملات الغامضة التي يتعذر فهمها إلا على القلائل ممن تمرس في هذا الفن وخبر مضامينه، وهذه مشكلة ربما تخل بغرض الفقه والفقيه، وتجعل الكثير من الأبحاث الفقهية المهمة مرصوفة في المكتبات دون الاستفادة منها كما تستحق.

وبعض الأبحاث قد تتمتع بحسن البيان ووضوح العبارة إلا أنها تفتقر إلى الاستيعاب أو التحليل والمناقشة أو الاستنتاج، وبالنتيجة يقصر عن إيصال الباحث إلى المطلوب، فالأبحاث التي حوت كلا الميزتين أقل بالقياس إلى غيرها، ولعل منها الأبحاث الفقهية التي تناولها الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) ودوّنها بقلمه، أو حررها تلامذته، إذ جمعت خصوصيات البحث الكامل كما يلحظ ذلك جلياً في بحثه (فقه النظر) و(تبيين الفقه في شرح العروة الوثقى) إذ بذل جهداً كبيراً في استيعاب أمهات الأبحاث في

ص: 48

موضوعين يعدان من أهم الموضوعات التي يكثر بهما الابتلاء، وهما النظر إلى الأجنبية بفروعه الكثيرة، والطهارة والنجاسة، فابتدأ فيهما بتوضيح الموضوع في كل مسألة منها ثم تتبع أقوال الفقهاء السابقين والمعاصرين له، واستعرض أدلتها ثم حللها وناقش مواطن الضعف والقوة فيها، واستخلص منها النتيجة التي يراها أوفق بالقواعد والأصول. كل ذلك ضمن منهجية متكاملة وبأسلوب واضح يصل إلى الأذهان دون تشويش أو اضطراب أو إجمال، ولعل المراجع للبحثين يجد ذلك بادياً في الكتابين. فلا نطيل الكلام ببيان الأمثلة.

هذا ولأن فقاهة الفقيه تتجلى أكثر في المسائل الإبتلائية المستحدثة لأنها أبحاث قد تكون بكراً أو تأسيسية إما لعدم تعرض الفقهاء لها من قبل أو تعرضوا لها بإيجاز، وبالنتيجة فإن استنباط الحكم فيها يستدعي بذل الوسع في فهم موضوعها، ثم إرجاعها إلى كبرياتها وحلّ تعارض الأدلة إن وقع فيها، وكل ذلك يتطلب من الفقيه مزيد التتبع والإحاطة والقدرة على الفحص والتشخيص، ثم المهارة في الاستنتاج والتطبيق، كما يعكس قوة ملكته في الاستنباط.

وهنا سنكتفي بالإشارة إلى بعض الشواهد من هذه المسائل لتأكيد هذه الحقيقة.

وهي استقراء لبعض المسائل التي قررها في تعليقته على كتاب (الفقه المسائل المتجددة) لوالده المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) وقد جمع فيه ألف مسألة مستحدثة وقعت أو افترض وقوعها وبيّن فيها حكم الشرع مع الإشارة الموجزة إلى بعض مداركها وأدلتها في

ص: 49

جهد واسع لم يسبقه أحد من الفقهاء.

منها: مسألة تعيين الجنين.

قال والده (قدس سره) : في المسألة (189):

الظاهر جواز تعيين الجنين بأن يجعل الولد بنتاً وبالعكس، وكذلك يجوز جعله توأمين لو أمكن طبياً، ولا يجوز جعله معلولاً أو ناقصاً أو مشوهاً. أما الجواز فلأصالة الحل وعدم وجود الدليل المانع، وقوله تعالى: {وَلْأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}(1) لا يصلح للمنع، وأما عدم الجواز فلدليل لا ضرر، ولأنه تغيير في خلق اللّه سبحانه وهو محرم(2).

وتعليقاً على إطلاق ما أفاده والده (قدس سره) - بتوضيح وإضافة قال: إن التغيير تارة يكون قبل صيرورة الجنين فيكون من التحكم به كاختيار الحيمن الذكري للتخصيب دون الأنثوي أو بالعكس، وتارة يكون بعد الصيرورة والنشأة، ولا كلام في جواز الأول؛ لوجود المقتضي وانعدام المانع، وإنما الكلام في الثاني، واستدل لحرمته بأدلة ثلاثة:

الأول: الآية الكريمة المتقدمة.

الثاني: أنه تصرف في حق الغير بلا إذنه.

الثالث: أنه إضرار بالغير.

ثم أشكل على الأول بالخروج الموضوعي؛ لأن الآية ناظرة إلى تغيير الفطرة والدين، أو بالخروج الحكمي؛ لأن المراد هو التغيير السيء كالتشويه

ص: 50


1- النساء: 119.
2- المسائل المتجددة: 135.

لا الحسن للانصراف.

وأشكل على الثاني بالخروج الموضوعي ايضاً؛ لأن حرمة التصرف متعلقة بوجود الغير والجنين قبل ولوج الروح الإنسانية لا يصدق عليه الغير، لأنه إما يتحلى بالروح النباتية أو الحيوانية، وبالنتيجة فهو إما نوع من النبات أو الحيوان، ولا مانع من التصرف فيهما وعلى فرض صدق (الغير) عليه فإنه لا مانع من تغييره إما لانصراف الدليل عنه، أو لشموله بعمومات وإطلاقات أدلة الولاية ويكفي في صحة تصرف الولي في المولّى عليه عدم وجود المفسدة.

وأما الدليل الثالث فاشكل عليه بعدم ثبوت الضرر موضوعاً؛ لأن المرأة والرجل سواء في مشاق التكاليف والحقوق والواجبات(1).

ونلاحظ كيف ينقح الموضوع والحكم ويستنتج من الأدلة مورد الجواز ومورد العدم بعد الإحاطة بموضوع المسألة وتحليل أدلتها وحل تعارضاتها.

ومنها: مسألة الإتفاقيات الواقعة بين الدول.

فإنها على أقسام فبعضها سياسية، وبعضها ثقافية، و بعضها اقتصادية، وأخرى عسكرية.

قال الماتن في المسألة (345):

الاتفاقيات حول التجارة والصناعة والزراعة سواء كانت بين البلاد الإسلامية أو بينها وبين البلاد غير الإسلامية تقع على ثلاثة أقسام:

1- الاتفاقات الواجبة، وهي التي يتوقف عليها تقدم المسلمين، أو تدرأ

ص: 51


1- التعليقة على المسائل المتجددة، المسألة 189 (بتصرّف).

الخطر عن بلادهم.

2- الاتفاقات المحرمة، وهي التي تضرهم، وتوجب سيطرة الكفار على المسلمين.

3- الاتفاقات الجائزة، وهي التي لا يتوقف عليها تقدم المسلمين، ولا توجب مضرة لهم، فتكون جائزة بشروط.

أحدها: أن تعقد مشروطة بجواز الفسخ متى ما أضرت بالمسلمين.

وثانيها: أن يعقدها الاختصاصيون وأهل الخبرة.

وثالثها: أن تكون الحكومة المتعاقدة عن المسلمين استشارية لا استبدادية، لان الاستبداد ضرر كبير بمصالح الناس(1).

وقد استدل السيد (قدس سره) لذلك بالأدلة العامة كأصالة الحل والسيرة المعصومة كاتفاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع اليهود ومع المشركين في الحديبية، وهدنة الإمام المجتبى (عليه السلام) مع معاوية التي جنب بها المسلمين حرباً دموية طاحنة، وأضاف إلى الشرط الأول تزاحم الأهم والمهم فلو لاحظ الحاكم الضرر في الاتفاقية أو اقتضت المصلحة الأهم فسخها جاز له ذلك، واستدل للشرط الثاني بحكم العقل والنقل؛ لأن الاتفاقات من الموضوعات الخفية أو الدقيقة، والأمور فيها متشابكة تتداخل فيها المصالح والأضرار الحالية والمستقبلية، كما تؤثر في الداخل والخارج والسياسة والاقتصاد والاجتماع فيحكم العقل بوجوب إبرامها بنحو يضمن المصالح، ويدفع الاضرار؛ لأن دفع الضرر الخطير أو الكبير واجب عقلاً.

ص: 52


1- المسائل المتجددة، المسألتين 344-345 (بتصرّف).

كما أن التهاون فيها أو عدم ضبطها والتدقيق فيها يسبب التضييع والتفريط، والمضيّع ملعون، ففي الحديث: «ملعون ملعون من ضيّع من يعول»(1) واللعنة ظاهرة في الحرمة أو ملازمة لها.

واما الشرط الثالث فاستدل له بأن الانظمة المستبدة يكون الحاكم فيها الفرد وهو عرضة لاتباع الهوى، كما أنه لا يرى الأمور من كافة أطرافها، فربما وقع في الهفوات الخطيرة التي تقود البلاد إلى الازمات الكبيرة، بخلاف الأنظمة الاستشارية فإنها تقوم على جمع العقول والآراء وتوزيع القدرة، فإنها تكون أضمن للمصالح ودفع الأضرار(2).

ومنها: مسألة إقامة المؤسسات الخيرية والمبرات لإعانة الفقراء والمحتاجين.

فقد قال السيد الماتن (قدس سره) في المسألة 184:

يستحب فتح دور الولادة والحضانة والرضاعة ودور المشردين، فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى(3)، فان كل مايكون خدمة للإنسان بما هو إنسان محبوب في الشرع؛ وقد قال علي (عليه السلام) : «فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق»(4) وقد تجب بعض هذه الأمور(5)، ومنطوق الأدلة ظاهر في الإطلاق، إلا أن السيد المعلّق (قدس سره) : قيّد الاستحباب

ص: 53


1- الكافي 4: 12.
2- التعليقة على المسائل المتجددة، المسألتين 344-345.
3- إشارة إلى قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة: 2.
4- نهج البلاغة: الكتاب 53.
5- المسائل المتجددة، المسألة 184.

في صورة كون المؤسسات سبباً للبر والتقوى، والمراد أن تتوقف رعاية هؤلاء المحتاجين على ذلك، ولو أمكن رعايتهم بغير ذلك فربما يسقط الاستحباب؛ لأن المسألة تندرج في كبرى أن الحكم الثابت للكلي هل يسري إلى مصاديقه فيقال باستحباب جميع المصاديق أم يختص بالكلي؟ وأما المصاديق فلا؟

والثمرة في ذلك تظهر في إثبات الحكم باستحباب الكثير من المصاديق التي لم يقم دليل خاص على استحبابها استناداً إلى استحباب العنوان الكلي، فيكون المكلف فاعلاً لمستحبين، ومستحقاً لثوابين.

فمثلاً: لو قلنا باستحباب إنارة المسجد فهل يصح أن نقول: إن إشعال الشموع أو النار أو المصابيح كلها مستحبة ايضاً؟ وكذا استحباب التعظيم والاحترام للمؤمن. فإنه يتحقق بمصاديق عديدة منها وضع اليد على الصدر عند السلام عليه فهل يقال باستحباب ذلك استناداً الى كبرى استحباب الاحترام؟ قد يقال بالعدم؛ لأن القول به يستلزم استحداث الألوف من المستحبات الجديدة عبر الزمان، وهو مناف لما ارتكز في الشريعة، ويستلزم تأسيس فقة جديد في المستحبات، ولو لوحظ أن الأمر يشمل المكروهات بل الواجبات والمحرمات لوحدة الملاك والضابطة لتبدلت الشريعة، وربما يعزز ذلك قول بعض الأصوليين بأن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، فما يتعلق بالطبيعة لا يسري إلى الخصوصيات، وقد يقال بالسراية؛ لما قرره مشهور الأصوليين من أن الأحكام تتعلق بالطبائع بما هي مرآة للأفراد؛ بداهة أن الطبيعة بما هي هي ليس لها وجود مستقل في الخارج، بل وجودها بوجود أفرادها، فإذا تعلق الاستحباب بالطبيعة فإنه يسري إلى

ص: 54

أفرادها، وعلى هذا الأساس حكم الفقهاء باستحباب الكثير من مصاديق الشعائر مع أن الحكم أولاً وبالذات متعلق بالطبيعة.

ومنه يعرف بطلان الإشكال المذكور؛ لان اتحاد الطبيعة بالفرد لايوجب تأسيس فقه جديد، ودعوى استلزام استحداث ألوف المستحبات غير سديدة؛ لان المستحب واحد ومصاديقه كثيرة، والإشكال المذكور يلزم لو قيل باستحباب الفرد والمصداق مستقلا عن الطبيعة، والحال أن استحبابه ناشئ من اتحاده بالطبيعة.

هذا من حيث التأصيل والتحليل للمسألة، وأما من حيث الاستثناء فقد استثنى السيد المعلق (قدس سره) من الإطلاق الصدقة للناصبي والكافر الحربي، فإنه لا تستحب الصدقة عليهم، بل قد لا تجوز. نعم إذا ابتلي الأمر بمزاحم أهم كما لو كان من باب المقدمة لهدايتهم أو تأليف قلوبهم لدرء خطرهم أو لبيان إنسانية الدين وإظهار مناقبياته وحبه للناس فإنه قد يستحب، وقد يجب، وهذا ما تشهد له سيرة المعصومين (عليهم السلام) ، فقد سقى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل بدر، وسقى أمير المؤمنين (عليه السلام) جيش معاوية، وسقى الإمام الحسين (عليه السلام) جيش الحر، وتصدق أهل البيت (عليهم السلام) على المخالفين(1)، ولكن ينبغي أن ينسجم العمل الإنساني مع البراءة من الكافرين والمشركين وعدم التعاطي معهم، فلا ينبغي أن يندرج الإحسان إليهم أو الصدقة عليهم تحت عنوان التشجيع لهم على الكفر والعناد؛ إذ تدخل المسألة في باب تزاحم العناوين حينئذ، والحل هو الأخذ بالأهم في كل قضية.

ص: 55


1- التعليقه على المسائل المتجددة: 133-134 (بتصرّف).
ومنها: مسألة حقن الإبر للصائم.

فقد قال السيد الماتن (قدس سره) في المسألة (106): يجوز حقن الإبر المقوية للصائم؛ لانه ليس من الأكل والشرب عرفاً.

ولا يقال: إنه يفيد فائدتهما؛ لأنه منقوض بمثل التنقيع بالماء الموجب لرفع العطش، ولا يقال بحرمته على الصائم، وظاهر بعض الأدلة في تعليل إحساس الصائم بألم الجوع والعطش محمول على الحكمة لا العلة، فلا يصلح لإثبات الحكم(1).

وقد وسّع السيد المعلق (قدس سره) على ما أفاد والده (قدس سره) فقال:

الإبر على ثلاثة أنواع: 1- علاجية. 2- مغذية. 3- مقوية.

والظاهر جوازها كلها؛ لانها ليست من الأكل والشرب، وليست من الاحتقان الممنوع منه، ووسع في النقض بذهاب الصائم إلى منطقة باردة جداً بحيث لا يحس بألم الصوم أبداً، أو النوم من الفجر إلى المغرب، وتناول أطعمة ترفع العطش كعرق السوس مثلاً، وأما حمل ما ظاهره العلة على الحكمة فمستنده فهم المتشرعة، لا قول بعضهم بأن كثرة استخدام العلل في الروايات وإرادة الحكم - كما في علل الشرائع - أفقدها ظهورها في العلية، نظير ما قاله صاحب المعالم (قدس سره) في بحث الأوامر بأنها في نفسها ظاهرة في الوجوب، ولكن بسبب كثرة استعمال صيغة الأمر في الأحاديث الشريفة في المستحبات صيرها من المجازات الراجحة المساوية لاحتمال

ص: 56


1- المسائل المتجددة، المسألة 106 (بتصرّف).

الحقيقة؛ لذا امتنع إثبات الوجوب من مجرد ورود الأمر به منهم (عليه السلام) .(1)

والوجه في إشكاله هو أن القاعدة تقتضي حمل الظاهر على ظهوره، ومادام الكلام ظاهراً في العلية لا الحكمة ينبغي أن يحمل عليه، ولكن فهم المتشرعة الحكمة من التعاليل الواردة يكون قرينة لبية تكشف عن عدم إرادة المعنى الظاهر، فيحمل على خلاف ظاهره(2)، إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي تشهد بجودة الاستنباط الفقهي واتصاف بحثه (قدس سره) بالكامل لتوفره على التأصيل والاستيعاب والمتانة والتحليل، ثم الاستنتاج ببيانٍ حسن خال من الغموض والتعقيد وغيرها من العوامل التي يقتضيها غرض الفقه وغاية الفقيه، ولايفوتنا أن نلفت النظر إلى أن المسائل المستحدثة قد لا تكشف عن فقاهة الفقيه فقط، بل قد تكشف عن أمرين آخرين:

الاول: سعة إحاطته بشرائط الزمان والمكان وقدرته على تنقيح الموضوعات المستنبطة أو الخفية التي باتت متشابكة وتتدخل بها علوم كثيرة، وتتطلب طول باع وملكة قوية.

الثاني: تفاعل الفقيه مع الواقع والتعاطي معه بفهم وتدبير ومسؤولية، وهذا الأمر يضعه في موضع القائد والمرشد للواقع لا التابع له، فالمسائل التي يحررها الفقيه موضوعاً وحكماً تكشف عن نهجه وأفكاره ومواقفه؛ لأن غايتها العمل لا التنظير البعيد عن التطبيق.

ص: 57


1- معالم الدين: 53.
2- التعليقة على المسائل المتجددة: 81 (بتصرّف).
2- خصوصيات بحثه الأصولي
اشارة

لا كلام في أن علم أصول الفقه من أهم الأركان التي يقوم عليها الفقه، ولايمكن بلوغ مرتبة الاجتهاد دون الإحاطة بقواعده نظرياً وتطبيقياً؛ لانها كبريات كلية تقع في قياس الاستنباط، ونتائج القياس تتوقف على تطبيق الكبرى على الصغرى توقف المعلول على العلة.

ومن هنا اكتسب البحث الأصولي في الحوزات العلمية المباركة أهمية بالغة، وعكف العلماء على تأسيس أصوله وقواعده العقلية والنقلية، كما دأب الفضلاء والمحصلون على دراسته واستيعابه استيعاب تخصص أو فهم.

وقد عهد تقسيم الفقهاء إلى قسمين أصولي وفقيه، وأرادوا بالأول الذي ملكته في الأصول تفوق ملكته في الفقه، وأرادوا بالثاني العكس، وحيث إن المبنى عند الكثير هو عدم وجوب الاجتهاد في مقدمات الاجتهاد النظرية والعملية كعلم الرجال والنحو واللغة والمنطق؛ إذ يكفي فيها اتباع الآراء المشهورة أو المتعارفة؛ والأصول علم مقدمي أو طريقي للفقه، فإنه لا يضر عدم التخصص به.

والفقهاء الذين جمعوا بين العلمين واجتهدوا وكانت لهم استقلالية علمية فيهما هم الأقل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الملحوظ أن الأصوليين انقسموا في أبحاثهم الأصولية على ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: اختصر المباحث وقرر القواعد الأصولية بأسلوب مقتضب، واكتفى ببيان مايهمّ منها لغرض توفير الوقت على الطالب، أو لأنه أراد بيان نتائج أبحاثه، لأنها الأهم دون الخوض في التفاصيل، فجاءت هذه الأبحاث مجملة، وربما غامضة يتعذر فهمها أو الوصول إلى مقاصدها إلا

ص: 58

بمزيد من الجهد والتأمل والاستعانة بالأساتذة والشروح، كما عرف ذلك من كتابي معالم الدين وكفاية الأصول.

والاتجاه الثاني: أسهب في البحث واستعرض المسائل بأسلوب مفصل جمع فيه ما يرتبط في صلب الموضوع وما هو بعيد عنه، فاستطرد في الكثير من الأبحاث الفرعية التي لاتهم الأصولي أو أقحم مسائل ترتبط بعلوم أخرى في المسائل الأصولية، فجاءت أبحاثه استطرادية ومتنوعة بما أخرجه عن كونه بحثاً أصولياً، وصيرته خليطاً من الأصول والفقه والكلام واللغة، كما يلحظ ذلك في بعض كتب المتقدمين كعدة الشيخ الطوسي ونهاية العلامة وبعض كتب المتأخرين كبحر الفوائد.

والاتجاه الثالث: اقتصد في النهج فحاول أن يتلافى الخلل في الاتجاهين السابقين، فخصص البحث بما يرتبط بالأصول، واستوفى الكلام في كل مسألة من مسائله دون الاستطراد إلى الأبحاث الجانبية، وهذا في نفسه إنجاز مهم تفوّق به المتأخرون والمعاصرون من الأصوليين كما يلحظ في القوانين والفصول والرسائل، وإن كانت كتبهم هي الأخرى لا تخلو من الاستطراد في بعض المسائل، كبحث الطلب والإرادة في الأوامر، والمعنى الحرفي في المبادئ الأصولية، وبعض القواعد الفقهية كقاعدة لاضرر وأصل الصحة والتسامح ونحوها التي استطردوا فيها في مباحث الأصول العملية، وهي ليست من الأصول.

والملحوظ أن الكثير من المعاصرين مضوا على ذات النهج ولم يمحضوا البحث الأصولي في أصوليته؛ لأنهم دأبوا في أبحاثهم على الشرح أو التعليق على متن الرسائل أو الكفاية فاضطروا إلى مواكبة ما بحثه الشيخ والآخوند

ص: 59

قدس سرهما، فما استطردا فيه استطردوا فيه، وما أهملاه أهملوه، ولذا جاءت الكثير من الأبحاث المعاصرة مطابقة للرسائل والكفاية في المنهج والتطبيق وعناوين الأبحاث إلا ما ندر، ولكنها تميزت عنهما بمزيد من العمق العلمي الناشئ من المناقشات والتعمق والإبرام في الآراء مع حسن البيان ووضوح العبارة، كما يلحظ في تقريرات أبحاث الميرزا النائيني والعراقي والخوئي وغيرها، وهذا هو النهج المعهود.

وأما البحث الأصولي للسيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) فإنه وإن لم يتعد كثيراً عن منهجية الآخوند بما أنه شرح وتعليق لمتن الكفاية كما أنه ليس بحثاً أصولياً كاملاً لاقتصاره على مباحث الحجج إلا أنه تميز بعدة مزايا ربما فاق أبحاث العديد من معاصريه من جهات عديدة.

الجهة الأولى: الترابط المنطقي للأبحاث
اشارة

وهو من أهم خصوصيات البحث العلمي المنظم الذي يوصله إلى غاياته، وهذا ما يشهد له بحثه في القطع، فقد تعرض السيد (قدس سره) إلى أحكام القطع تبعاً للشيخ وصاحب الكفاية، لكنه رتب بحثه ضمن تسلسل منطقي تام يتميز فيه العنوان الكلي عن الفرعي، ويتضح حكم كل واحد منهما.

فقد جعل البحث عن أحكام القطع الذي يعده البعض من أمهات مباحث الأصول وبعضهم جعلها من مقدماته ومبادئه في أربعة مباحث، وأراد من القطع الطريقي باعتبار أنه الأصل؛ لأن وزانه وزان النور الذي يكشف عن الأشياء، فإن الغالب في الأحكام الشرعية المترتبة على الموضوعات الخارجية والتي يجب على العبد العمل بها تتنجّز عليه بالقطع الوجداني أو التعبدي.

ومن هنا قسم البحث إلى أربعة مباحث:

ص: 60

المبحث الأول: في طريقية القطع.

المبحث الثاني: في منجزية القطع، أي وجوب الحركة على وفقه وحرمة مخالفته.

المبحث الثالث: في إمكان المنع منه شرعاً وعدمه.

المبحث الرابع: في معذرية القطع، ويراد بها معذورية العبد العامل بقطعه إذا ظهر خطؤه وتبين أن قطعه كان جهلاً مركباً.

هذه هي أصول الأقسام التي بحثها، ثم فرّع عن المبحث الأول فصلين:

الأول: في ثبوت طريقية القطع وعدمه،

والثاني: في إمكان جعل الطريقية للقطع وعدمه.

وفرّع عن المبحث الثاني مبحثين:

أحدهما: في تحديد المراد من القطع؛ لأن ظاهر كلمات جمع من الأصوليين وإن كان الإطلاق إلا أنهم لا يريدون منه ذلك، بل بعض أنواع القطع؛ لأن العقل لا يحكم بوجوب الحركة على وفق كل قطع، وإنما يحكم في القطع الذي يترتب عليه أثر شرعي أو عقلي واجب الاستيفاء، ولا يوجد مزاحم أهم أو مساو له في نظر القاطع، فمثلاً لو قطع الإنسان بوجود بركان في المريخ فإن العقل لا يحكم بوجوب اجتنابه؛ لعدم ترتب أثر عليه، وكذا لو قطع بوجود ماء في النهر وهو ليس بظمآن، بخلاف القطع بوجود حكم شرعي أو غرض مولوي في الفعل فإن العقل يلزم القاطع بلزوم العمل على وفقه، وحيث إن القطع يشمل ماله أثر وما ليس له أثر وجب أن يميّز المقصود منهما أولاً.

ص: 61

وثانيهما: في تحديد المراد من الوجوب في قولهم بوجوب الحركة على وفق القطع؛ لأن الوجوب يشمل أربعة معان هي:

1- الوجوب العقلي.

2- الوجوب العقلائي.

3- الوجوب الشرعي.

4- الوجوب الفطري.

ولكن مايناسب القطع هو الأول والثاني، وأما الثالث والرابع فيتعلقان بالفقه، وبعد أن فرق بين كل منهما وذكر خصوصياته خلص إلى أن الحاكم بوجوب العمل بالقطع العقل والعقلاء معاً، فهو من مصاديق توارد الأمرين على مورد واحد(1).

وأما المبحث الثالث فقد قسم فيه إمكان المنع إلى قسمين هما التشريعي والتكويني، والمعروف بين الأصولين إطلاق القول بعدم إمكان المنع من العمل بالقطع شرعاً، إلا أنه في النتيجة وافق المشهور في المنع التشريعي؛ إذ لا يمكن للشرع أن يمنع من حجية القطع؛ لاستلزامه التناقض، إلا أنه خالفهم في القطع التكويني؛ إذ فصل فيه بين المنع من القطع في نفسه وقال بامتناعه للاستحالة وبين المنع منه عبر مقدماته وأسبابه وقال بإمكانه.

توضيح ذلك:

أن المشهور المعروف بينهم أن القطع لا يقبل الجعل ولا الرفع؛ لأنه من الحقائق التكوينية الخارجية، والحقائق التكوينية لاتنالها يد الشرع إثباتاً أو

ص: 62


1- تبيين الأصول: 1: 130.

نفياً, فإن القطع عبارة عن انكشاف الواقع، وهذا الانكشاف ذاتي للقطع يلازمه ملازمة المعلول للعلة، إلا أن السيد (قدس سره) كشف عن حقيقة أخرى ربما لم يتعرض لها العديد من الأصوليين، وهي أن القطع يقبل الجعل من خلال الأمر بمقدماته؛ إذ يمكن للشارع أن يوجد القطع في نفس العبد، بل يمكن للعبد نفسه أن يوجد القطع في نفسه أو نفوس الآخرين، أو يزيله عنهم، وذلك إذا أخذ بمقدمات حصوله، وهذا الجعل لا يعد خرقاً للقوانين التكوينية، وليس من باب التفكيك بين العلة والمعلول حتى يقال باستحالته، بل من باب رفع العلة فيرتفع معلولها، فإن ذات القطع ثبوتاً وارتفاعاً وإن كان غير مقدور في نفسه إلا أنه مقدور بالواسطة، فيكون حكمه حكم سائر الأمور التكوينية التي يعجز الإنسان عنها مباشرة، إلا أنه قادر عليها بالواسطة، ولذا تسالموا على القول بأن المقدور بالواسطة مقدور، ونفوا عنها الاستحالة وأخرجوه موضوعاً عن التكليف بغير المقدور.

وقد ضرب لهذا مثلاً في تكليف الشرع العباد بالأصول الاعتقادية كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ}(1) وكذا الأمر بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل مع أن حصول العلم بالتوحيد أو تحلي النفس بالفضائل غير مقدر في نفسه، ولكن حيث إنه مقدور بواسطة أسبابه ومقدماته تعلق الأمر به، فإن من نظر في مبادئ التوحيد وأدلته الإنية والّلميّة فإنه يتوصل إلى العلم به، ومن سلك طريق الفضائل سيتحلى بها، وهكذا الأمر في القطع ثبوتاً وارتفاعاً، وهذه نتيجة هامة تترتب عليها الكثير من الأحكام والآثار.

ص: 63


1- محمد: 19.

وأما في المبحث الرابع أي معذرية القطع فبعد أن وضح المراد منها بناها على دليلين عقلي ونقلي. أما العقلي فواضح، وقد شارك فيه سائر الأصوليين، وأما النقلي فقد استند فيه إلى طائفة من الروايات الدالة على معذورية الجاهل القاصر الذي له مصداقان هما فاقد القابلية والجاهل المركب(1)، ثم لم يفته التنبيه على أمرين:

أحدهما: أن المعذرية تختص بالقصور، وأما الجهل التقصيري في المقدمات فلا معذرية له، وهذه إشارة مهمة في مقابل إطلاق كلمات بعض الأصوليين، ومثل له بما لو علم العبد بأن قراءة الكتب الضالة توجب انحراف عقيدته فقرآها وقطع بمؤداها فإنه لا يكون معذوراً؛ لأن ما بالاختيار، لا ينافي الاختيار ومثله لو ألقى بنفسه من شاهق فإن الارتطام بالأرض وتهشم العظام وزهوق الروح ليست اختيارية بذاتها، إلا أنّ اختيارية مقدماتها كافية في إجراء أحكام الاختيار عليها.

وثانيهما: الآثار الوضعية، فإنها تترتب على الشيء حتى مع جهل الفاعل ومعذوريته في الفعل. قال: ولعل من أجل ذلك ينبغي ان يستعيذ المؤمن كل يوم من ان ينخرط في سلك الضالين كما يستعيذ من ان ينخرط في سلك المغضوب عليهم بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ Q صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين}(2)(3) ومن مجموع هذه الشواهد

ص: 64


1- تبيين الأصول 1: 147.
2- الفاتحة: 6-7.
3- تبيين الأصول 1: 149 (بتصرّف).

تتضح المنهجية والنظم والتسلسل المنطقي في البحث وحسن الاستنتاج والإلمام بالجوانب الهامة منه، وهذه ميزة قلما توجد في الأبحاث المعهودة.

الجهة الثانية: الموضوعية

وهذا ما يلمس من محاولته لتلخيص المطالب المفصلة وإيجازها في عبارة جامعة مانعة تفي بالمطلوب من دون أن تخلّ بالمضمون أو بالغرض، وهذه مهمة صعبة قد لا يقدر عليها الكثير أو البعض، ولذا جاء بحثه (قدس سره) مجرداً عن الاستطرادات الجانبية، ومكتفيا بأصول المطالب وأدلتها وبيان النتائج المترتبة عليها التي ذكرها السابقون عليه أو المعاصرون له، ثم الخوض في تحليلها ومناقشتها، فربما أيد الآخرين وربما خالفهم. رائده في ذلك الصواب والبحث العلمي المحايد الذي يميل مع الدليل حيثما وجده، وهذه سمة هامة من أهم سمات البحث العلمي المنتج.

الجهة الثالثة: التتبع والأمانة العلمية

وهما خصوصيتان ندرجهما في واحدة لشدة الترابط بينهما، فإن الملحوظ أنه قد تتبع الآراء والأقوال في كل مسألة بحثها، ولم يغفل عن آراء المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين التي تستحق أن تذكر، أو تترتب عليها ثمرة مهمة تخدم البحث، ومما يشهد له أيضاً أنه حين يستعرض الرأي فإنه يبينه ويشرح مضمونه بأمانة، وينسبه إلى صاحبه بإجلال وتعظيم يكشف عن تواضعه وعن تثمينه لجهود الآخرين واحترامه للعلم والعلماء، ولو نقل النص يشير إليه، ولو نقل المضمون يشير إليه، ولو حلّل القول وناقشه فإنه يحلّله بكل احترام وتواضع، ولا يجزم بالنتائج، بل في الغالب يبدي رأيه بعنوان الاستظهار أو الاحتمال، ويبقي لاحتمال الخطأ

ص: 65

ولصواب الغير مجالاً، وهذه صفة عالية تنم عن مستوى رفيع من القدسية لا يحظى بها إلا العلماء الربانيون.

والذي يتتبع بعض الأبحاث الأصولية وطريقة استعراض الآراء ومناقشتها يجد الفرق الكبير بين الطريقتين والأسلوبين. انظر مثلاً ما أفاده في وجوه حجية الإجماع المحصل(1).

الجهة الرابعة: التطبيق

وذلك بذكر جملة من الموارد التي تنطبق عليها القاعدة الأصولية ليقرب البحث الأصولي الذي ابتعد في الأزمنة المتأخرة، وصار إلى العلوم النظرية العقلية أقرب منه إلى العلوم الآلية والعملية، فخلو العديد من أبحاثه من التطبيقات الفقهية بما أبعده عن الفقه الذي هو غايته الأصلية، وهي تطبيق قواعده في عملية الاستنباط، وبذلك يكون قد خدم الأصول والفقه كما خدم الطلبة والباحثين بإيصال القاعدة إلى أفهامهم بالتطبيق والممارسة وإظهار أثرها العملي.

فمثلاً: في بحث التجري استعرض السيد (قدس سره) جملة من المطالب المتعلقة به فقهياً تحقيقاً للغرض المذكور، فقد فرع على البحث بكونه حراماً يتضمن القبح الفعلي والفاعلي أم لا يتضمن سوى القبح الفاعلي، والبحث في أنه يخل بالعدالة أم لا؟

ووجهه على الحرمة واضح، وأما على الثاني فباعتبار أن ارتكاب القبيح منافٍ للمروءة، وهناك بحث بينهم في أنها تخل بالعدالة أم لا، ثم فرّع عليه

ص: 66


1- تببين الأصول 3: 294 وما بعدها.

البحث في معنى العدالة والفسق، ثم تعرض إلى محتملات عديدة ينطبق على بعضها عنوان التجري ولا ينطبق على غيرها، كما فرّع عليه بحث صحة العمل العبادي إذا وقع مورداً للتجري، كما لو صام العبد في اليوم المحكوم بأنه الأول من شوال ثم بان أنه اليوم الثاني منه، أو صلى في مكان يعتقد غصبيته فبانت إباحته، وكذا البحث في أن التجري بناء على الحرمة يستحق الحد والتعزير أم لا(1)، ومثل ذلك يقال في بحث حجية قول اللغوي؛ إذ ذكر حوالي ثلاثة عشر مورداً تظهر فيها ثمرة القول بالحجية(2)، وكذا بحث حجية ظواهر الألفاظ، إذ ذكر حوالي سبع وثلاثين ثمرة عملية تطبيقية للقول بها(3)، وهذه جميعاً فروع فقهية تترتب على البحث الأصولي أشار إليها السيد (قدس سره) لتحقيق غايتين:

الأولى: إظهار أهمية المسألة الأصولية المبحوث عنها وأثرها في الفقه، وهي مسألة هامة في دراسة العلوم؛ إذ لو لا الغاية والثمرة العملية قد لا يجد الباحثون ضرورة لدراسة العلم.

الثانية: إرشاد الطالب إلى النماذج العملية التطبيقية ليكون سبباً لتعلمه وضبط القاعدة الأصولية بواسطة التمرس على تطبيقها، فإن الكثير من المسائل النظرية تضبط بالمثال، كما أن التمرس على التطبيق يفيد الملكة أو يقويها، وهي غاية علم الأصول.

ص: 67


1- تبيين الأصول 1: 283-301.
2- تبيين الأصول 3: 252-254.
3- تبيين الأصول 3: 197-202.
الجهة الخامسة: الإضافة والتطوير

فإن الملحوظ في جملة من أبحاثه (قدس سره) أنه أشار إلى مطالب تعد جديدة. إما لم يتعرض لها السابقون أو تعرضوا لها بالإجمال أو الإهمال لكنه بينها وشرح مفادها. بعضها يصلح أن يكون أصلاً يبنى عليه، وبعضها تفريع جديد عن الأصل، فمثلاً وقع الخلاف بين الأصوليين في أن الغرض من التكليف والأوامر الشرعية وتعلقها بذمة العباد ما هو؟ فذهب المشهور إلى أنه إيجاد الداعي في نفوسهم وتحريكهم نحو العمل والإتيان بالمأمور به، فلولا ذلك لم يتحرك العبد، وتلغو الشريعة والأحكام.

إلا أن السيد (قدس سره) لم يرتض ذلك منهم، ونقضه بمثل تكليف النائم والكافر؛ إذ إنهما مكلفان بالاتفاق والخطاب الشرعي يتوجه إليهما حتى في حالة النوم والكفر، مع أن النائم يمتنع تحريكه نحو العمل؛ لعدم التفاته، وكذلك الكافر لعدم إيمانه بالآمر فضلاً عن الأمر، فلازم قول المشهور أن يقال بعدم تكليف النائم والكافر وهو غير سديد.

ومن هنا ذكر السيد (قدس سره) داعياً آخر غير ما ذكره المشهور ليتوافق مع روح الشريعة وغرضها، ويدفع المحذور المذكور، وهو إتمام الحجة على العباد، فإن الأمر يتعلق بذمة النائم أو الكافر مع العلم بعدم تحركهما نحو العمل لأجل إتمام الحجة عليهما(1)، ولازم ذلك إيجاب مقدمات الطاعة عليهما وحثهم لعدم التفويت، وهذا تأسيس مهم يجدي الفقيه نفعاً في الكثير من المباحث.

ص: 68


1- تبيين الأصول 1: 141.

ومن الأمثلة على التطوير في التفريع والاستنتاج ما ذكره في بحث حجية ظواهر الكتاب جواباً عن شبهة أنه يعتبر من التفسير بالرأي وهو منهي عنه فقد وقف على شرح هذا العنوان وقوفاً عميقاً ومفيداً؛ إذ ذكر له ثلاثة احتمالات:

أحدها: تفسير الكلام بظاهره العرفي، وأخرجه موضوعاً عن التفسير بالرأي، وهو ما يريده الأصوليون بقولهم حجية ظواهر الألفاظ.

ثانيها: الأخذ بالظنون الشخصية والاستحسانات الذوقية في فهم المعاني، وعدّ منها حمل اللفظ على خلاف ظاهره، وحمل المشترك على أحد معنييه دون قرينة، وحمل المجمل أو المتشابه على أحد المعاني. كل ذلك استناداً إلى الذوق والظنون الشخصية.

وهذا الاتجاه باطل، لعدم الدليل عليه، بل قام الدليل على بطلانه للنهي عن العمل بالظن، وتشهد القرائن بأنه كان من تأسيس السياسة في مقابل علم الأئمة (عليهم السلام) بالقرآن. قال: وهذا الاتجاه انتشر في عهد الإمام الباقر والإمام الصادقC على يد أبي حنيفة وأمثاله، وقد عبّر عن هذا الاتجاه بمدرسة الرأي، وصدرت الروايات بذمه وإبطاله؛ لأن أصحابه يعتمدون الظنون والأقيسة والاستحسانات والتخمينات في تفسير القرآن.

ثالثها: التفسير استناداً إلى الموقف الفكري المسبق النابع من التقاليد أو الأهواء أو الأنظار الذوقية ونحوها، فيقوم على أساس تطويع الآيات القرآنيّة للموقف الفكري. قال: وهذا من أسوأ ما يبتلى به الإنسان؛ لأنه يساوق الرفض العملي لمرجعية القرآن وجعل الأهواء والآراء الشخصية هي المرجع، وفيه يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «يعطف الهوى على الهدى إذا

ص: 69

عطفوا الهدى على الهوى»(1).

فإن المعروف أن يتخذ المؤمن موقف التسليم المطلق للقرآن الكريم؛ لأن الإسلام هو التسليم، بينما هذا الاتجاه يتناقض تماماً مع التسليم.

ثم أشار إلى نماذج مصداقية لهذا الاتجاه، فقال: وقد وُجد على مر التاريخ أفراد كما وجدت فئات حاولت استغلال القرآن الكريم لتدعيم آرائها ونظرياتها وأهوائها الشخصية، وعدّ منها:

1- بعض القائلين بوحدة الوجود والموجود؛ إذ أوّلوا قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا Q أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}(2) بأن موسى قال لهارون على نبينا وآله الصلاة والسلام: «لِمَ نهيتهم عن عبادة العجل؟! ألا تعلم أن اللّه يحب ان يعبد في أية صورة كان المعبود».

2- بعض القوميين؛ إذ استدلوا على مذهبهم بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}.(3)

3- بعض الرأسماليين، حيث استدلوا على توجههم بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ}(4)

وقوله تعالى: {وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}.(5)

4- بعض الشيوعيين، وقد استدلوا على مذهبهم بقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ

ص: 70


1- نهج البلاغة 2: 21، الخطبة 138.
2- طه: 92-93.
3- الزخرف: 44.
4- البقرة: 279.
5- النحل: 71.

وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(1)

وقوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}.(2)

5- بعض الاشتراكيين؛ إذ استدلوا على مذهبهم بقوله تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ Q لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(3)

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}.(4)

6- بعض الصوفية، وقد استدلوا على سقوط العبادات عنهم بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.(5)

7- بعض الضالين مثل يحيى بن أكثم؛ إذ كان يستدل على حلّية بعض المحرمات كاللواط بقوله تعالى: {أو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً}.(6)

وقد رد زعمه الإمام الهادي (عليه السلام) بقوله: «ومعاذ اللّه أن يكون عنى الجليل ما لبست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا»(7)(8).

ولعل من الغريب أن أمثال هؤلاء يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؛ إذ يأخذون من القرآن ما يخدم غرضهم ويعرضون عن غيره، فجعلوا القرآن تابعاً لآرائهم وليس العكس، وهذا من أجلى مصاديق التفسير

ص: 71


1- الرحمن: 10.
2- الحشر: 7.
3- المعارج: 24-25.
4- الأنفال: 1.
5- الحجر: 99.
6- الشورى: 50.
7- وسائل الشيعة 14: 252.
8- تبيين الأصول 3: 168-171 (بتصرّف).

بالرأي القبيح عقلاً، والمذموم عقلائياً، والمحرم شرعاً.

والأمثلة التي تصلح شاهداً على التجديد والتطوير في فكر السيد كثيرة يجدها المتتبع في مطاوي ابحاثه، وذلك يكشف عن أمرين هامين:

الأول: القدرة العالية على تحليل المطالب العلمية وتطبيقها على المصاديق الخارجية، وهي من أبرز سمات الاجتهاد والمجتهدين.

الثاني: عدم تأثره بآراء أساتذته والتقيّد بمبانيهم وآرائهم، كما يلحظ في نهج العديد من الاساطين تأثرهم بآراء أساتذتهم والتقيّد بمبانيهم. الأمر الذي قد يخلّ بنزعة التطوير العلمي.

ويستخلص مما تقدم: أن شخصية الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) ثروة كبيرة للمجتمع الإسلامي في بُعدَيه المعنوي والعلمي، فهو قدوة ومثال يحتذى في الورع والتقوى وتربية الذات، ويعكس سيرة المعصومين (عليهم السلام) ، وركن ركين في الساحة العلمية والفقهية أثرى المكتبة والحوزة المباركة بعطائه الثرّ، وقدّم لها النموذج العلمي المتكامل، وهذه أبحاثه تشهد على ذلك فقهاً وأصولاً، فضلاً عن علوم القرآن والعقائد من حيث دقة النظم والعمق والتأصيل والاستيعاب والتطوير.

وختاماً أسأل اللّه سبحانه له المغفرة والرحمة وعلو الدرجات، ولنا العفو عن القصور والتقصير بحق محمد وآله الطاهرين.

كربلاء المقدسة

فاضل الصفار

29 شعبان 1436ه-

ص: 72

وريث الأنبياء

اشارة

وريث الأنبياء(1)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد النبي المصطفى الأمين وعلى آله الهداة الغر الميامين.

وبعد

فإنه من الواضح بمكان ما للعلم والعلماء من فضل كبير ودور خطير في تعليم الأمة وهدايتها والأخذ بأيديها إلى النهج القويم والصراط المستقيم. لأنهم ورثة الأنبياء والأوصياء والمعلمين الناس علومهم المبيّنين لهم معالمهم وفضائلهم ولذا ورد الحث الشديد من الشارع المقدس على طلب العلم وتعظيم أهله والدخول في زمرتهم في الكثير من الآيات والروايات والنصوص والآثار بل أن من جملتها ما يدل على كون ذلك من الواجبات الكفائية والمستحبات النفسية.

ولكن وبنفس الوقت فقد حذرت النصوص الشريفة الأخذ من غير المنبع الصافي أو اتباع كل عالم حتى وإن كان ناطقاً عن الشيطان والهوى، بل أكدت بلزوم إتباع الفقهاء الأتقياء والعلماء النجباء ممن حارب الشيطان والهوى وشرى الآخرة وباع الدنيا واتبع خير الورى محمد المصطفى وسار على طريقة سيد الأوصياء علي المرتضى وأهل بيته الأزكياء.

ص: 73


1- السيد فاضل الجابري أستاذ بحث الخارج في النجف الأشرف.

فمعالم الدين وأحكامه لا يأخذها الإنسان إلا من الذي أخذ علمه ممن اتصل علمه بالوصي والنبي الناطق عن اللّه تعالى، لأن غير هذا الطريق ليس بعلم حقيقة وإن كان ظاهراً و وهماً هكذا. فلابد أن يكون العالم ربانياً مخلصاً متبعاً للحق سائراً في طريق الهداية ناطقاً بالصدق داعياً إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلاً بالتي هي أحسن وداعياً للتي هي أقوم ومتبعاً للقرآن والعترة ومستمسكاً بالعروة الوثقى كما قال سيد البشر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أيها الناس إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي وإمامكم ووليكم وهاديكم بعدي وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) أخي وهو فيكم بمنزلتي فقلّدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم فإن عنده جميع ما علّمني اللّه عز وجل، أمرني اللّه عز وجل أن أعلّمه إياه وأن أعلمكم أنه عنده فاسألوه وتعلّموا منه ومن أوصيائه ولا تُعلّموهم ولا تتقدموا عليهم ولا تتخلفوا عنهم فإنهم مع الحق والحق معهم ولا يزايلهم ولا يزايلونه»(1).

ومن بين الفقهاء الأعلام والعلماء الكرام ممن دأب على تعليم الناس معالم دينها بمحاضراته القيمة المربية وأسلوبه الجذاب وساهم في بناء طلاب العلم في الحوزة العلمية بدروسه الرائعة وأفكاره الناضجة وبيانه الواضح هو سماحة الفقيه آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) الذي ينتمي الى بيت العلم والفقاهة والسيادة والنجابة وقد ارتشف علمه الزاخر من أعلام وفقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) سيما والده المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس سره) الذي كان فقيهاً نحريراً ومتكلماً متفوهاً ومجاهداً بطلاً،

ص: 74


1- الغيبة للنعماني: 71-72.

وكذا أعمامه الكرام الفقهاء الأعلام السيد حسن الشيرازي الشهيد والسيد صادق الشيرازي المرجع.

لقد كان السيد محمد رضا (رحمه اللّه) مثالاً للأستاذ القادر على إيصال المطالب بأروع الأساليب وأجمل البيان بحيث لا أعتقد بأن أحداً يحضر مجلس درسه لا يخرج منه وهو لم يفهم المطالب أو لم يتوسع في فهمها وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على سعته المعرفية وقدرته البيانية بل ونفسيته الملكوتية التي تنعكس على درسه وتفهيمه، وهذا أمر ملاحظ لكل من كان قريباً منه او استمع بإصغاء إلى محاضراته.

لقد ألقى السيد محمد رضا الشيرازي الكثير من الدروس الحوزوية في كل المراحل الدراسيّة ومختلف المتون العلمية وقد غطى مساحة كبيرة من العلوم الحوزوية أمثال الفقه والأصول والعقيدة واللغة وغيرها إلاّ أنّ بصماته الابداعية قد تجسدت بالفقه والأصول باعتبارهما العلمين الأساسيّين في الدراسات الحوزويّة فكان له القدم الراسخة فيهما من خلال تسطير التعليقات النافعة والملاحظات المتينة وقد دَوّن ودُوّن له من ذلك الكثير وقد حقّق في كل تلكل السُفر المطالب العميقة ونقّح المسائل الدقيقة فكانت الرصانة حليفة قلمه وكان الصواب رفيق منطقه.

ونحن اليوم إذ نقف في مقام الحديث عن هذا السيد الجليل لا نريد أن نكتب عن كل تراثه أو نعرّف بكل مكتوباته لأنها كثيرة ومتنوعة إلا أننا سوف نكتفي بالتعليق على ما كتبه في علم الأصول كنموذج من إبداعه العلمي وما تميز به من فكر وقاد يقارب الصواب ويباعد الانتقاد لأن من

ص: 75

منهجه التأني الطويل قبل القال والقيل ولا ريب أن ذلك يبعّد صاحبه عن الزلل ويبعد قارئ كتبه عن الملل، وسوف يكون منهجنا في ذلك بيان التمييز فيما كتب سواء في تنقيح المطالب أو منهجيتها أو طرح الأفكار وتحريرها، أو تحرير محال النزاع وبيانها أو الإبداع في الفكرة وعرضها، إلى غير ذلك مما يوفقنا اللّه تعالى. وهذا منا قليل تجاه هذا الأخ الكريم والصديق الوفي الحميم، اسأل اللّه تعالى العلي العظيم أن يرفع درجاته عنده في أعلى عليين ويحشره مع أجداده الغر الميامين محمد وآله الطاهرين.

مباحث الحجج في تقسيم حالات المكلف

من المعروف أن ما أفاده الشيخ الأنصاري في الفرائد في مبحث القطع من تقسيم حالات المكلف حين إلتفاته إلى الحكم الشرعي، وهذا التقسيم لحالات المكلف لم يتفق كل الأعلام مع الشيخ حوله وإنما زادوا أو نقصوا عنه سواء في العدد أو في متعلق التقسيم، فهناك التقسيم الثنائي لصاحب الكفاية وهناك تقسيماً رباعياً وهناك تقسيماً خماسياً، وهناك تقسيمات أخرى لبقية الأعلام.

وبعد أن استعرض السيد محمد رضا (رحمه اللّه) هذه التقسيمات المختلفة وذكر مفادها بشكل جيد بدأ بالوقوف عليها واحداً بعد آخر لكي يناقشها من جميع الجهات بشكل علمي رصين. وكانت بدايته من الأهم في ذلك هو تقسيم الشيخ الأعظم، وبدأ باستعراض أهم الإشكالات التي طرحت على تقسيم الشيخ وتمثلت بخمسة إشكالات.

وكذلك بدأ بطرح ومناقشة هذه الإشكالات بطريقة استعراضية فنية متينة

ص: 76

جداً. وأول هذه الإشكالات ما طرحه الآخوند في الكفاية من إضافة كلمة «فعلي» إلى ما ذكره الشيخ الأعظم لدفع إشكالية التعميم في مورد التخصيص الذي يلزم من كلام الشيخ وبالتالي إضافة كلمة «فعلي» في نظر الآخوند سوف تدفع الإشكال، فكانت هذه الكلمة هي محور البحث والمناقشة الأساسية التي إنصب عليها البحث من قبل السيد (رحمه اللّه) حيث قال: «أقول: ورود هذا الإشكال أو عدم وروده متوقف علی تفسير كلمة (الفعلي)، إذ إنها في حدّ ذاتها وبما هي هي تحتمل تفسيرين وإن كان الثاني منهما أقرب إلى مساق كلام صاحب الكفاية».(1) وهذا الإشكال طرح على أساس التعميم في مورد التخصيص.

ثم أخذ بتفسير هذه الكلمة على أساس الاحتمالين اللذين ذكرهما لها وهل يمكن أن يرد الإشكال على الشيخ الأعظم على أساس كل واحد من المعنيين المتحملين أو لا؟ وبعد المناقشات والمداخلات من خلال أسلوب واضح وصل إلى نتيجة مفادها: أن تقييد صاحب الكفاية الحكم الملتفت إليه بكونه فعلياً لا وجه له إن أريد به المعنى الأول للفعلية، ومستغنى عنه إن أريد به المعنى الثاني للفعلية، بل لا وجه له على هذا التقدير أيضاً ولو في الجملة، وبناء على ذلك فالإشكال الأول على تقسيم الشيخ الأعظم غير وارد.(2)

والإشكال الآخر هو عكس الإشكال الأول وهو التخصيص في مورد

ص: 77


1- تبيين الأصول 1: 28.
2- تبيين الأصول 1: 34.

التعميم حيث ذكر هذا الإشكال صاحب الكفاية حيث قال: وإنما عممنا متعلق القطع لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلقاً بالأحكام الواقعيّة.(1)

ثم أخذ السيد ببيان وافي في توضيح كلام صاحب الكفاية معززاً بالأمثلة التوضيحية المقنعة والمفهمة، متوصلاً إلى نتيجة مفادها - على ضوء كلام الآخوند - : (إنه لا وجه لتقسيم الشيخ المكلف إلى قاطع بالحكم الواقعي وظان به وشاك فيه لكون الكل قاطعاً بالحكم بمعناه الأعم وعدم اختلاف حكم الأقسام فيما يذكر للقطع من الأحكام).

ثم أخذ السيد بمناقشة كلام الآخوند ومدافعاً عن الشيخ الأعظم من خلال عدة نقاط:

الأولى: إن تقسيم الشيخ هو الأوفق من الناحية الفنية من تقسيم صاحب الكفاية، وإن كان لكلام صاحب الكفاية وجه أيضاً.

الثانية: إن كلام الآخوند مبني على ثبوت الأحكام الظاهرية في موارد الأمارات وأن للشارع حكمين حكماً واقعياً وحكماً ظاهرياً وأن مفاد الأمارة الموافقة الحكم الواقعي وأنّ مفاد الأمارة المخالفة الحكم الظاهري، وهذا المنبى محل تأمل، وبالتالي فإن إشكال الآخوند لا يأتي على الشيخ.

الإشكال الثالث الذي طرح على تقسيم الشيخ هو تداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام لأن الشيخ جعل مدار الرجوع إلى الأمارات هو الظن ومدار الرجوع إلى الأصول العملية هو الشك، مع أنه ليس الأمر كذلك.

الإشكال الرابع: عدم صحة التقابل بين الظن والشك لإمكان اجتماع الظن

ص: 78


1- كفاية الأصول: 258.

النوعي مع الشك الشخصي فيما لو شك بمطابقة أمارة معتبرة للواقع.

الإشكال الخامس: جعل ما ليس بموضوع موضوعاً، باعتبار أن الشك ليس موضوعاً للأحكام بعنوانه بل الموضوع إنما هو عدم الحجة وكذا فإن الظن ليس موضوعاً وإنما الموضوع هو الحجة.

وبعد أن استعرض السيد هذه الإشكالات الثلاثة الأخيرة أخذ بمناقشتها ودفعها معتبراً أنها غير واردة على كلام الشيخ، ولكن انطلق في ذلك من بيان مطلب كلي وهو بيان الملاك الذي ينطلق منه أي تقسيم يكون هو الملاحظ في التقسيم، ثم عزز تلك المناقشات بما ذكره المحقق العراقي من رد لها.(1)

سوف نتكلم عن كتاب تبيين الأصول الذي يحوي الآراء الأصولية للسيد الفقيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) بشكل رسمي ومعتمد.

وقد اشتمل هذا الكتاب على عدة مجلدات فقد تناول في المجلد الأول عدة مباحث حيث بدأ فيه بمباحث الحجج والأصول العملية، وتناول فيه مواضيع متعددة على طريقة السلف، أمثال حالات المكلف، ودخول المجتهد في تقسيمات حالات المكلف من عدمه، وتحليل عملية الافتاء بناءً على عدم شمول أدلة الأحكام الظاهرية لغيره.

وبعد البحث في حالات المكلف تناول موضوع القطع والتجري والقطع الطريقي والموضوعي، ثم عرج على بحث الموافقة الالتزامية وفصل فيه بشكل متين.

ص: 79


1- كفاية الأصول: 42.

أما المجلد الثاني فقد أكمل ما بدأه في المجلد الأول حيث تناول المباحث المرتبطة بقطع القطاع، وحجية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية، ثم عرج على مباحث العلم الإجمالي حيث أشبعه بحثاً، وبعدها تعرض إلى البحث في الأمارات من جهة عدم اقتضاء الظن الحجية بذاته، وإمكان التعبد بالأمارات الظنية.

أما المجلد الثالث، فقد أكمل فيه مباحث الأمارات وبدأ فيه بالمبحث الثالث الذي يتناول تأسيس الأصل عند الشك في التبعد بالأمارات، ثم البحث في ما خرج عن أصالة عدم حجية الظن، وقد تكلم في ذلك كثيراً.

وبعد الحديث عن الأمارات وحجيتها أخذ بالبحث حول الإجماع وكان البحث فيه بمقامين الإجماع المحصل، والإجماع المنقول، وبعدها تعرض إلى مبحث الشهرة، ومبحث حجية الخبر الواحد.

هذا هو الفهرس الإجمالي للمباحث الرئيسية التي تناولها في هذه المجلدات الثلاثة وسوف نحاول أن نقف على جملة من الأمور التي كانت إبداعات وامتيازات لهذا الكتاب سطرها السيد الفقيد إن شاء اللّه تعالى.

وسوف يكون الكلام حول ذلك من جهات:

الجهة الأولى: في منهجية الكتاب الفنية والعلمية

من المعلوم عند ذوي الاختصاص أن من بين الأمور الأساسية التي تدخل في تقييم البحث العلمي هي منهجيته الجامعة بحيث تكون موضوعاته ومسائله مرتبة بشكل منطقي ومترابطة بشكل تسلسلي، ومن غير ذلك فسوف يصبح البحث مشتّتاً، يشوبه الخلل ويصاحب مطالعته الملل والكلل لأن القارئ سوف لن يتمكن بسهولة أن يصل إلى الفكرة أو يجمع

ص: 80

الأفكار المتعددة، وهذا بالضبط هو الذي يعبر عنه بالثقافة الحوزويّة بكيفية الدخول والخروج من المسألة حيث يؤكد العلماء على أن أهمية المنهج لا تقل عن أهمية نفس المسائل المبحوث عنها لأن الباحث إذا لم يعرف من أين وإلى أين ويقدم المقدمات ويؤسس الأسُس ويقطف النتائج فسوف يكون بحثه عقيماً غير منتج.

هذا مضافاً إلى الاهتمام بالجوانب الفنية في الطرح حيث تكون المراعاة واضحة في القوالب اللفظية التي تطرح فيها المطالب العلمية وكم رأينا من أساتذة يحضون بمكانة علمية مرموقة قد هجرت كتبهم - ربما من قبل القليل - بسبب الأسلوب الجامد والمعقّد في تناول الموضوعات، ولازال طلاّب العلوم الدينيّة يشتكون من بعض الكتب الدراسية المعقدة في ألفاظها، فالتعمية في استعمال العبارات وشحنها بالألفاظ الغامضة وإيهام ضمائرها سوف يؤدي بالتأكيد إلى ضياع الأفكار بين ركام تحليل الألفاظ وهذا نوع من تضييع الغرض أو النقض للغرض، وإلا فإن سلاسة الألفاظ ودقة التعبير والقدرة على الاقناع ما هي إلا خصائص الأسلوب البلاغي الحكيم، وما أجمل أن يجمع الكاتب بين سلاسة الألفاظ وإيجازها وإصابة المعاني وإعجازها وعذوبة المعاني وجذابيتها أو كما يقال:

السلاسة للألفاظ والعذوبة للمعاني والجزالة للعبارات والرشاقة للمباني.

فإن الكتابة إذا اتّحلت بهذه الصفات الجملية فسوف تتطرز فيها الثلاثي الجميلة فتصبح معانيه تباهي بجمال بدائعها على السحر الحلال وتسطع أسرارها خلال خطوطها كبارقة النور من وراء أصداغ الحور وتلمع ألحاظها من مطاوي ألفاظها كنار موسى في ليلة الديجور.

ص: 81

ونحن إذا عدنا إلى المنهجية العلمية والفنية والأسلوب المميز الذي سار عليه السيد الفقيد الشيرازي فسوف نرى أن يراعه ما خط إلا جميل الألفاظ وأن أنامله ما رسمت إلا خطوطاً واضحة المعاني سلسة العبارات رشيقة الكلمات متينة العبارات رشيقة الجملات قد حوت الكثير من المعاني وأسس المباني ونقحت الأفكار باختصار، كل ذلك من دون الإخلال بالمنهج العلمي ولا الانحراف عن الأسلوب الفني بل كانت مناراً في تنقيح المباني الأصولية وشعاراً في الوصول إلى النتائج المرضية فهي من السهل الممتنع الجامع المانع.

فكتاب تبيين الأصول بالحمل الشايع تبيينٌ حيث جمع أصول هذا الفن وطرائف هذا العلم بتحقيقٍ كشف النقاب عن أسراره وأزاح الستار عن غوامضه، التقط من خلاله نفائس الأفكار المطمورة وأظهر فيه معادن الأسرار المغمورة بتعقيد البيان وعدم إفادة التعبير وإجادة التحرير، فجلاّهما كالوذيلة الصقيلة المرصعة باللؤلؤ الناصعة من الرأي البكر والتحقيق الطريف المتدافع من منابع الوجدان ومنابح البرهان. هذا كله في الجانب الفني أو قل في المنهجية الفنية.

وأما المنهجية العلمية فقد كان الإبداع حليفه ورفيقه في كل مبحث وفصل ومقام فقد اختصر الكثير من المباحث الزائدة التي أطنب فيها الأعلام من دون فائدة فقد أتعبوا أنفسهم الشريفة من دون ثمرة تقطف أو نتيجة تُرجى، بل من باب الكلام يجر الكلام ومناسبات المقام إلا أن السيد الفقيد تجاوز كل ذلك فقد طرح أفكاره العلمية النافعة التي تدخل في صميم الموضوع من دون إضافات لا فائدة فيها ولكنه وفي نفس الوقت لم

ص: 82

يهمل الشمولية ولا التنويه إلى الآراء الأخرى ولكن أعطى كل بحث مساحته المناسبة من التحقيق والتنقيح بحيث أفاد واستفاد.

فمثلاً حينما تناول موضوع حالات المكلف إذا التفت إلى الحكم الشرعي والذي ذكره الشيخ الأنصاري نرى بأن له ثلاث حالات وهو ما عبر عنه بالتقسيم الثلاثي نجده قد ذكر تقسيمات أخرى ذكرها الأعلام لحالات المكلف كالتقسيم الثنائي والتقسيم الرباعي والتقسيم الخماسي، ثم حاول أن يبسط البحث والمناقشة لكل واحد من هذه التقسيمات وهو في كل ذلك لم يُهمل الوجوه المختلفة لكل تقسيم من هذه التقسيمات حتى بيّن أن لكل تقسيم أكثر من شكل ذكره الأعلام، كل ذلك بلُغة الاختصار والتركيز.

مضافاً إلى ذلك فقد ذكر في ثنايا البحث جملة من الأمور المرتبطة بمناسبة حالات المكلف لها درجة من الأهمية العلمية أمثال تفسير الحكم الفعلي الذي ذكر في تعريف الشيخ الأعظم، وكذا التنويه إلى عدم صحة التقابل بين الشك والظن وكذا البحث في شمول المقسم لغير المجتهد كل ذلك من خلال مقامات متعددة أزاحت الغُبار عن إبهام المطلب السابق وكشفت الستار عن وجه الحقيقة الضائعة في مطاوي كلام الأصحاب وجبال عباراتهم المغلقة ووديان تداخل أفكارهم فهل أن مباحث الحجج والأصول العملية تشمل غير المجتهد أو لا؟ وهل إن أدلة الأحكام الظاهرية تشمله كذلك أم لا؟ وكيف تتم عملية إفتاء المجتهد بناء على شمول أدلة الأحكام الظاهرية لغيره؟ كل هذه الأسئلة هي إثارات مترتبة على المبحث الذي طرحه الشيخ الأعظم وتبعه الأعلام عليه وتحتاج إلى تبيين وتوضيح

ص: 83

ورأي حصيف، وأجاد السيد الفقيد في الإجابة واستوعب أطراف الأفكار وأزاح عنها الغبار وكشف عنها الأستار حتى بانت واضحة كضوء النهار.

وكمثال آخر نأتي بمبحث القطع حيث نجد كلمات الأصحاب فيه تتموج كتموج البحر بين عاصف قاذف وبين ساكن داكن إلا أن السيد الفقيد اتخذ في فوضى عبابه مركباً سهلاً يسخر عبابه بأسبابه ويقطع أمياله بشراعه، وقف على الجليل من مطالبه فأجاد ولم يهمل الجميل من نكته فأشاد، فللجليل كانت العبارة وللجميل كانت الإشارة.

فهنا نجد السيد يطرح الأسئلة المرتبطة بالموضوع بأسلوب جذاب وبعد أن يذكر كلمات الأعلام يبدأ بنظم الكلام مزيناً كلامه بالبرهان الساطع والبيان اللامع مستعيناً بالمنطق المقنع والتفصيل الممتع، فعند إثارة سؤال ما تجد الجواب يأتيك بعد بضع كلمات أو أسطر من دون لف أو دوران بل بغاية الوضوح والجلاء والجمال والبهاء منظماً أفكاره على طريقة ألف باء، لايشذ منها شاذ أو يفوت عنها فائت فمثلاً في أول مبحث القطع يطرح سؤالاً عن آثار القطع هل هي له بما هو هو أو للواقع المقطوع به؟

ثم يبدأ بتفصيل الجواب بادياً بتقسيم الكلام في القطع الطريقي والموضوعي، وأن إطلاقه تارة بلحاظ الحمل الأولي الذاتي، وآخر بلحاظ الحمل الشائع الصناعي، قد طرح من خلال هذه اللحاظات والتقسيمات مبيناً في ذلك كل الإحتمالات حتى يصل إلى كون تلك الآثار إنما تكون للقطع لا للمقطوع، ولكن ما هي أحكام القطع وما هي آثاره أمثال طريقية القطع أو وجوب الحركة على وفقه وكونه معذراً؟

ثم يطرح سؤالاً حول إمكان المنع عن العمل بالقطع من قبل الشارع؟

ص: 84

وخلاصة الكلام أن أجمل ما يتميز به الكتاب من الناحية الفنية والعلمية من جهة المنهجية هو:

1- سلاسة العبارة ووضوح الإشارة.

2- التقسيم والتفكيك والتركيب.

3- الأسئلة والأجوبة.

4- شرح الاحتمالات والإجابة عنها واحدة بعد آخر.

5- التفصيل لما يحتاج إلى تفصيل والإجمال لما لا يحتاج إلى تفصيل.

6- عدم الإطناب الممل وعدم الاختصار المخل.

7- التركيز على الفكرة وعدم تضييعها بالأبحاث الجانبية أو الحوم حولها دون الدخول فيها.

8- التعريف بكل الاصطلاحات التي تحتاج إلى تفريق وعدم إهمال بيان المراد منها.

الجهة الثانية: الابداعات العلمية المميزة في الكتاب

هناك جملة من الابداعات العلمية التي رسمها يراع السيد الفقيد (قدس سره) ، تتعلق بجوانب كثيرة طرحت في طيات كلماته كنجوم مضيئة تلمع في سماء أفكاره فتجمل ذلك الليل الحالك المبهم حتى يصبح مأنوساً لا مستوحشاً، ونحن بطبيعة الحال لا يسعنا إيراد كل ما جاد به قلمه من ذلك الإبداع أو ترشح من ذلك اليراع إلا أننا سوف نقطف باقة جميلة من أزهاره، وشمة بسيطة من عطره، ونلوح بنظرة عابرة نطل من خلالها ومن كوة صغيرة على ذلك البناء المشيد وذلك المنهج المعبّد، متوخين بذلك الاختصار مع الاعتذار.

ص: 85

أولاً: في موضوع ثبوت الطريقية للقطع من عدمه، فإن الأعلام قدست أسرارهم أكدوا في هذا المبحث الهام بأنه «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً لأنه بنفسه طريق إلى الواقع».(1)

هنا نرى السيد الفقيد لم يكتف بالتعليق على ما أفاده الشيخ الأنصاري فحسب وإنما أخذ يرى المسألة من عدة جهات ويقلبها بيده من كل الأطراف لأن العلاقة بين الطريقية والذاتية تحتاج إلى بيان فما هي تلك العلاقة التي تحكم بينهما؟ هل هي الذاتية لمطلق القطع أم هي الذاتية في نظر القاطع، أم في صورة الإصابة أم هي عين ذات القطع؟

كل هذه الأسئلة تحتاج إلى جواب شافٍ حتى تبنى عليها المسألة، فقد قام بتحليل هذه الدعاوى وتوجيهها بما يتلائم مع ما يراه صحيحاً كما قال: ويمكن توجيه بعض هذه الدعاوى بأن الملحوظ فيها هو (المعلوم بالذات) لا (المعلوم بالعرض) فإن الانفكاك الواقع كثيراً إنما هو بين (العلم) و(المعلوم بالعرض) وموطنه أفق العين وأما (المعلوم بالذات) وموطنه أفق الذهن فهو لا ينفك عن العلم مطلقاً لمكان الاتحاد الذاتي أو التلازم القهري القائم بينهما.

وبما أن المسألة في جوهرها فلسفية فنراه يطرحها تارة على أساس أصالة الوجود وأخرى على أساس أصالة الماهية، تمشياً مع هذين المسلكين الفلسفيين، ويطرحهما من جهة أخرى تارة على أساس الجعل التكويني وأخرى على أساس الجعل التشريعي.

ص: 86


1- فرائد الأصول 1: 29.

ثانياً: وفي مسألة وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً، نرى السيد الفقيد ينقح في البداية موضوع العنوان أعني (القطع) فهل المراد به في المسألة هو مطلق القطع كما يقتضيه ظاهر عبارات بعض الأعلام أم خصوص بعض أنواعه، ويذهب إلى عدم جدوائية كون المراد به مطلق القطع ويؤكد على كون المراد بعض أنواع القطع.

وأما الوجوب الوارد في العنوان فهل هو وجوب عقلي كما ذهب إلى ذلك صاحب الكفاية أم هو وجوب عقلائي أم شرعي أم فطري؟

نراه هنا قد بحث في كل واحد من الوجوب العقلي والعقلائي بالتفصيل في حين أحال الوجهين الآخرين إلى مبحث الاجتهاد والتقليد.

وبحث في كل واحد من الأوليين تارة بلحاظ الثبوت وأخرى بلحاظ المنشأ.

أما في ثبوت الوجوب العقلي فقد ناقش صاحب الكفاية في ثبوته من خلال الوجدان لكونه مستلزماً للتسلسل ثم طرح نظريتين لصاحب نهاية الدراية وصاحب المنتقى وبدأ بالمناقشة المتينة لهما، حتى يصل بالنهاية إلى أن هذا الوجوب إرشادي لا مولوي إذ لا عقاب على مخالفة الهيئة، والعقاب في صورة مخالفة القطع للواقع إنما هو باعتبار الخروج عن زي الرقية وهتك الحرمة المولوية لا على مخالفة الأمر العقلي باتباع القطع بما هو هو.(1)

وأما منشأ ذلك الوجوب فقد ذكر البعض أن منشأ ذلك الوجوب هو

ص: 87


1- تبيين الأصول 1: 123.

استحقاق العقاب على مخالفة أمر المولى، في حين ذهب آخرون إلى أنه إذعان العقل باستحقاق العقاب على المخالفة.

إلا أن السيد لم يرتض ذلك قال: بأن نفس مولوية المولى مقتضية للوجوب العقلي ولو مع قطع النظر عن مسألة استحقاق العقاب.

ثالثاً: وفي محاولة الإجابة على السؤال المعروف أصولياً وكلامياً بأنه هل يمكن للشارع الردع عن العمل بالقطع أو لا؟

نجد أن السيد (قدس سره) من أجل تنقيح الجواب بشكل جيد يطرح ثلاثة مقدمات الأولی: تحرير محلّ البحث، لأنّ للقطع ثلاث أنواع هي القطع بالحكم الاقتضائي والقطع بالحكم الإنشائي والقطع بالحكم الفعلي، مبيناً بأنه لا كلام في جواز المنع من الأوليين أي الاقتضائي والإنشائي - وإنما الكلام في واقعه إنما هو في القسم الثالث أعني القطع بالحكم الفعلي.

أما المقدمة الثانية: فقد قسم القطع إلى موضوعي وطريقي، وبين إمكان الردع عن الأول دون الثاني، والسبب هو إمكان أن يجعل الشارع قسماً خاصاً من القطع موضوعاً للحكم أو جزءاً من الموضوع فإذا انتفى ذلك القسم من القطع انتفى الموضوع وبانتفائه يكون انتفاء المحمول قهرياً.

أما المقدمة الثالثة: فهي ترتبط بالردع لا بالقطع، حيث إن الردع من العمل بالقطع على نوعين، الأول الردع بغرض إزالة الموضوع، والثانية الردع بغرض آخر مع فرض انحفاظ الموضوع، ومن المؤكد بأن النوع الأول لا إشكال فيه لأنه من باب تغيير الحكم بتغيير موضوعه.

وأما النوع الثاني فهو محل الكلام حيث إن المعروف هو عدم إمكان الشارع المنع عن العمل بالقطع الطريقي المتعلق بالحكم الفعلي مع فرض

ص: 88

انحفاظ الموضوع.

ثم ذكر أدلة ذلك والمناقشات التي ذكرها الأعلام لكلّ واحد من هذه الأدلة والنظر في الدليل والمناقشة معاً. وبعد كلّ ذلك حاول تفصيل البحث من خلال التأكيد على أن الردع التشريعي عن العمل بالقطع الطريقي له صور بعضها ممكن وبعضها غير ممكن، فإذا كان بداعي جعل الداعي فإنه محال مطلقاً سواء كان القاطع مصيباً في قطعه أم مخطئاً وذلك لاستحالة وجود داعيين متضادين أو متناقضين في نفس الوقت.

وأما لو كان بداع آخر، فهنا تفصيل حيث تارة يكون القاطع مصيباً في قطعه ولم يتضح للردع فرض معقول، فهنا لا يمكن للشارع الردع عن هذا القطع وأما إذا فرضنا أن يكون القاطع مخطئاً في قطعه فالظاهر أنه يمكن للشارع الردع عن ذلك القطع.

قطع القطاع

وأما في موضوع قطع القطاع فلقد كانت لسماحته بصمات طيبة في تنقيح هذا الموضوع الأصولي المهم حيث بدأ بتوضيح مفهوم كلمة القطاع لأنها تحتمل عدة معاني منها كثير القطع ومنها سريع القطع، ومنها بمعنى من يحصل له القطع كثيراً من أسباب لا ينبغي حصوله منها، ثم ذكر أن ما يقابل القطاع هو الوسواسي لأنه من لا يحصل له القطع من الأسباب التي ينبغي حصولها منه.

ثم أكد على أن كلاً من القطع بالمعنى الثالث والوسواسي أنهما حالتان مرضيتان تنشآن من شذوذ النفس وإنحرافها عن المنهج السوي، وبالتالي فإن محل البحث في المتعارف من الناس إذا قطع بشيء من دون أن يستند

ص: 89

إلى أسباب ينبغي حصول القطع عادة منها.

ثم قسم القطع على هذا الأساس إلى موضوعي وطريقي حيث ذكر للأول عدة آراء مؤكداً أن أمر القطع الموضوعي في السعة والضيق تابع للجعل المولوي كما أسلفنا سابقاً، ثم أخذ بتحليل قضية نفي ترتب الأثر على تقييد الشارع القطع بكونه حاصلاً من سبب ينبغي حصوله منه، فإنه يحتمل معنيين، الأول نفي ترتب الأثر بالنسبة إلى نفس القطاع، والثاني نفي ترتب الأثر بالنسبة إلى غير القطاع، والأول منهما يحتمل وجهين، الأوّل: نفي ترتب الأثر بالنسبة إلی القطّاع في خصوص الجري العملي الفعلي.

الثاني: نفي ترتب الأثر بالنسبة إلى القطاع مطلقاً، ثم أخذ بمناقشة هذه الوجوه بلا مزيد عليه، ليصل بالنهاية إلى نتيجة مفادها: إمكان تنصيص الشارع على الإطلاق وإمكان تنصيصه على التقييد فإن نص على الإطلاق كان قطع القطاع معتبراً، وإن نصّ على التقييد كان غير معتبر، وأما لو لم ينص في دليل لا على الإطلاق ولا على التقييد فإن المعروف بين الأصوليين هو إلحاق هذه الصورة بما له التنصيص على التقييد.(1)

وأما حجية قطع القطاع في القطع الطريقي، فقد ذكر ثلاثة أقوال فيه، الأول: الحجية مطلقاً وقد ذكر استدلال القوم على ذلك وهو ما عليه المشهور، والثاني: عدم الحجية مطلقاً حيث ذهب إليه جملة من الأعلام وذكر وجه الدليل فيه، والثالث: التفصيل بين المنجزية والمعذرية حيث هو حجة من جهة المنجزية دون المعذرية.

ص: 90


1- تبيين الأصول 2: 15.

ثم قام السيد بإعطاء تفصيل آخر غير التفصيل الذي ذكر وهو التفكيك بين البحث الكبروي والبحث الصغروي، أما كبروياً فالحق مع المشهور من حجية القطع الطريقي مطلقاً وذلك لأن القطاع يرى أنه وصل إلى الواقع ومع وصوله إلى الواقع فسوف يأمره العقل بترتيب الآثار بما يوافق غرضه، ولا يعقل ردعه عن التحرك نحوه.

وأما البحث الصغروي فالحق فيه مع ما ذهب إليه القول الثاني لكون حجية القطع يجب أن تستند إلى أمر عقلائي فما لم يكن كذلك فليس بحجة.

وأما مبحث حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية فقد كان للسيّد الباحث كلام كثير وتفصيل جميل حيث بدأ بتقسيم إدراكات العقل وأنواعه، فبدأ بالنوع الأول الذي هو إدراك العقل ما لا يحتاج في استنباط الحكم الشرعي إلى ضم ضميمة شرعية حيث قسمه من حيثية وجود المصلحة والمفسدة في مدركه أو حيثية إدراك العقل وجود الحسن أو القبح في فعل من الأفعال.

فإذا أدرك العقل وجود مصلحة في أمر من الأمور فهل يستطيع أن ينتقل من ذلك إلى ثبوت الحكم الشرعي؟ وهنا يتعرض إلى اشكالين يواجهان هذه الفكرة وقد بسط الكلام فيها مازجاً بين الأدلة العقلية والأدلة الشرعية مفصلاً الفروع والجهات المختلفة للبحث في هذه الفرضية التي يمتزج فيها البحث الكلام مع البحث الفقهي والأصولي بامتياز ليصل بامتياز إلى نتائج متميزة بعد أن أخضع بعض القواعد المعروفة للتحليل والنقد والمناقشة أو الشرح والتوضيح كما فعل في قاعدة «تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد

ص: 91

الواقعية» حيث أوضح ذلك بقوله إن البرهان قام على أن كل حكم ملازم للملاك ولا برهان على أن كل ملاك ملازم للحكم، وكذا قاعدة «المقتضي والمانع» حيث إنه إذا أدرك العقل المصلحة فإنه يمكن الإدعاء بوجود الحكم حينئذٍ، كما لو علم بوصول الماء - في الوضوء - إلى البشرة وشك في وجود المانع عن تحقق الغسل، وهنا حاول السيد الباحث (رحمه اللّه) استجلاء الأمر من خلال التعمق في تحليل إمكان نسبة ذلك إلى الشارع بعد إدراك المصلحة أو المفسدة.

وأما إدراك العقل الحسن والقبح فقد طرح بحوثاً ثلاثة الأول في أصل وجود الحسن والقبح، والثاني في إدراك العقل للحسن والقبح، والثالث في استلزام إدراك العقل للحسن والقبح للقطع بثبوت الحكم الشرعي في موردهما، حيث صدر الكلام في المبحث الثالث لأنه هو المهم من هذه الثلاثة بعد وضوح المبحثين الأوليين.

في حجية القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية

هناك سؤال معروف في الأبحاث الأصولية وهو هل يمكن للشارع الردع عن القطع بالأحكام الشرعية الحاصل من المقدمات العقلية أو لا؟

ومن الواضح أن المشهور من الأصوليين من زمان الشيخ الأنصاري ومن تأخر عنه يقولون بعدم إمكان ردع الشارع عن ذلك لكون الحجية ذاتية للقطع ولا يمكن سلب الذاتي عن الذات، نعم ذهب الشيخ النائيني إلى إمكان ذلك ولكن بمعنى المنع عن العمل بالقطع من خلال تقييد المقطوع به أي إمكان المنع عنه بمعنى لا يرجع إلى المنع عن العمل بالقطع ليرد بأن الحجية ذاتية ولا يمكن المنع عن العمل به بل بمعنى يرجع إلى تقييد

ص: 92

الحكم بعدم كونه مقطوعاً به من غير الكتاب والسنة فيكون التصرف من الشارع في المقطوع به لا في القطع ليكون منافياً للحجية الذاتية، ثم أخذ لتقريب مراده بذكر مقدمات ثلاث.

وبهذا الصدد قام السيد الباحث (قدس سره) بمناقشة هذه المقدمات التي بنى عليه كلامه ويفندها بشكل رصين جداً، ولكن رغم ذلك فإنه يتفق - تبعاً لوالده (قدس سره) - بنفس النتيجة التي توصل إليها المحقق النائيني ولذا نجده يقول: «وعلى كل حال فبانهدام المقدمة الثانية ينهدم دليل المحقق النائيني لأنه كان مبنياً على أن الأحكام مهملة وقد تبين كونها مطلقة إلا أن ذلك لا يقدح في مدعاه لأن مدعاه إمكان تقييد الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص - أي الكتاب والسنة - ومن الواضح إمكان ذلك وذلك بتحويل العلم من طريقي إلى موضوعى»، إلى أن قال: «قال الوالد (رحمه اللّه) : «وإمكانه - أي التقييد في المقطوع به - واضح وواقع فلا حاجة إلى ما ذكره من المقدمات»(1).

أقول: لقد طرز السيد الباحث في موضع القطع أجمل اللوحات وصاغ أجمل القلائد وأطنب فيما يحتاج إلى إطناب واختصر فيما يحتاج إلى اختصار وطرح الكثير والبديع من الأفكار، ولا يسعنا في هذا المقام الإلمام بكل ما ذكر أو استعراض كل ما أبدع وإنما ذكرنا نماذج قليلة تكون كالملح في الزاد أو لقدح الزناد وشذرات من هنا وهناك ويكفي ذلك للّبيب البصير حتى يقف على علم هذا الوتد العظيم الذي خسرته الحوزات

ص: 93


1- تبيين الأصول 2: 66.

العلمية حتى يأت بحق فقيد العلم والتقى، وعبرة لأولي النهى.

وأنا في الوقت الذي أقف إجلالاً واحتراماً وحباً له اسأل اللّه تعالى أن يحشره في الفردوس الأعلى مع أجداده الكرام والأئمة العظام والعلماء الأعلام وأن يجعله من الشاهدين والشافعين في يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه علی محمد وآله الطاهرين.

السيّد فاضل الجابري

النجف الأشرف 20 رجب 1436ق

ص: 94

مقدمة تبيين الأصول

مقدمة تبيين الأصول(1)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلّى اللّه على سيدنا المصطفى محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

تحظى مباحث آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) بسمات البحث العلمي المتكامل من حيث عمق المحتوى وقوة الاستنتاج، واستقامة الشكل وسهولة التعبير، وهذه ميزة شاخصة في دروسه، ومحاضراته سواء على الصعيد الفقهي والأصولي في الحوزة العلميّة المباركة أم على الصعيد الفكري والثقافي. تؤكد هذه الحقيقة أبحاثه العلميّة في علم أصول الفقه، الذي يُعدّ من أصعب العلوم، وأعمقها مضموناً، وأبلغها أثراً ونتيجة، فإنّها عبارة عن دروسٍ ألقاها السيد الراحل (قدس سره) على مستوى البحث الخارج في الحوزة العلميّة بقم المشرفة، ثم جمعت من قبل طلابه وحضّار درسه لتأخذ هذا الشكل.

الملحوظ في المباحث الأصوليّة المتداولة أنّها تأتي عادة على ثلاث أصناف:

الأوّل: المباحث المختصرة، وتتسم بغموض العبارة والأسلوب في الغالب، فأضافت على البحث معضلة أخرى زائدة على عمق المطلب

ص: 95


1- الشيخ فاضل الصفار أستاذ بحث الخارج في كربلاء المقدسة.

وصعوبة مضمونه.

الأمر الذي كلّف الطالب والأستاذ - معاً - جهداً، ووقتاً كبيرين لأجل معرفة مقاصد الأصول، وفهم نتائجه، كما يلحظ في مثل: كتابيّ معالم الدين، وكفاية الأصول.

الثاني: المباحث التفصيليّة، وتتّسم بالاستطرادات الجانبيّة بما قد يُبّعد البحث عن هدفه الأصلي، ويشغل الطالب بأمور تُعدّ ثانوية بالقياس إلى موضوع البحث وإن كانت في نفسها لها قيمة علمية، كما يلحظ في بعض كتب المتقدمين، كالعدّة، والنهاية، أو المتأخرين، كبحر الفوائد، حيث حوت جملة من المباحث الكلاميّة والأدبيّة.

الثالث: المباحث المتوسطة، وهي وإن جاءت لتلافي مشكلتي الاختصار والتطويل في الصنفين الأولين، كما يلحظ في العديد من كتب المتأخرين، والمعاصرين لا سيما في كتب التقريرات إلاّ أنّ الملحوظ عليها أنّها جاءت مجرّدة عن التطبيقات الفقهية، والشواهد الشرعيّة لمباحثها، فوقع البحث الأصولي في مشكلة الابتعاد عن الفقه بعض الشيء، والاقتراب من علوم المنطق والفلسفة والأدب.

وقلّما نجد بحثاً أصولياً جاء شاملاً من حيث منهجيته وأسلوبه، ومستوعباً لحاجات الفقه وطالب الفقه، وفي عين الحال محيطاً بآراء الفقهاء، مدققاً في آرائهم ومحلّلاً أو مناقشاً لنظرياتهم، ولعل هذا الكتاب الذي ضمّ بين جوانبه المباحث العلميّة الأصوليّة التي دوّنها آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) قد جاء بهذا المستوى، واتّسمت بسمات:

ص: 96

أولاً: بالمنهجيّة العلميّة والتسلسل المنطقي الذي يوصل البحث إلى غاياته، ويعصم الأذهان عن الخطأ على مستوى الإلقاء أو التلقّي، ويمكن أن نفرز هذه الحقيقة بمثال، فقد تطرّق السيد (قدس سره) إلى أحكام القطع، وقد رتب بحثه ضمن منهجيّة منطقيّة صحيحة؛ إذ جعل البحث على أربعة أقسام:

في القسم الأوّل بحث طريقيّة القطع، وقسّمه هو الآخر إلى فصلين، أحدهما تناول فيه ثبوت الطريقية للقطع وعدمه، وثانيهما تناول فيه إمكان جعل الطريقيّة للقطع وعدمه، وهذان الفصلان أحدهما يتفرّع على الآخر.

وفي القسم الثاني بحث حجيّة القطع ووجوب الحركة على وفقه. وفي القسم الثالث بحث فيه إمكان منع الشرع بالعمل بالقطع أو إلغاء حجيّته. وبحث في القسم الرابع معذريّة القطع فيما لو انكشف الخطأ وبانَ أنّ القاطع كان جاهلاً مركباً.

وهذا التقسيم يتوافق مع الموازين المنطقيّة ويطابق المنهج العلمي الصحيح، وقد خالف فيه السيد (قدس سره) العديد من الأصولييّن؛ لأنّهم غالباً ما يتناولون البحث من نتائج القطع، ويقولون: إنّ القطع طريقي، وهو حجة على القاطع في أي طريق حصل حتى لو حصل من طيران الغراب وجريان الميزاب على حدّ تعبير صاحب الكفاية (قدس سره) ، ويتركون المباحث الأُخرى التي تصب في هذه النتيجة إلى ما يستنتجه الطالب من مطاوي كلماتهم، وثنايا العبارات بما يصعب التعاطي مع الكتب المتداولة، ويمنع من الوصول إلى المطالب بيسر وسهولة لا سيّما لغير الخبير، وأمّا السيد (قدس سره) فقد أراح الطالب من هذه الجهة؛ إذ جعل البحث متسعاً في المنهج، فابتدأ من الأصل

ص: 97

وهو ثبوت أصل الطريقيّة، ثم بحث في أنّ هذه الطريقيّة قابلة للجعل أم هي لازم ذاتي للقطع فلا يقبل الجعل إلاّ بالعرض من خلال جعل ذات القطع، كما هو الحال في جعل الأُمور الانتزاعيّة؟

وقد أشار السيد (قدس سره) في هذا البحث إلى نكتةٍ مهمّة قلّما يتعرض لها الأصوليون أيضاً؛ لأنّ المشهور والمعروف بينهم هو أنّ القطع لا يقبل الجعل؛ لأنّه من الحقائق التكوينيّة الخارجيّة، والحقائق التكوينيّة لا تنالها يد التشريع إثباتاً أو نفياً، فإن القطع عبارة عن انكشاف الواقع، وهذا الانكشاف يحصل بأسبابه التكوينيّة لا بالأسباب الاعتباريّة، إلاّ أنّ السيد (قدس سره) هنا كشف عن حقيقة أخرى لم يتعرض لها العديد من الأصولييّن، وهي أنّ القطع قابل للجعل من خلال الأمر بمقدماته؛ إذ يمكن للمولى أن يوجد القطع في نفس عبده، بل يمكن لأي شخص أن يوجد القطع في نفسه، أو في نفوس الآخرين، وذلك إذا أمر بمقدمات حصوله، وهذا الجعل لا يعد خرقاً للقوانين التكوينيّة، بل يكون مسايراً لها؛ لأنّ ذات القطع وإن كان غير مقدور في نفسه إلاّ أنّه يصبح مقدوراً عبر وسائط وجوده، فيكون حكمه حكم سائر الأُمور التكوينيّة التي يتعذر وجودها في نفسها، إلاّ أنّها تصبح مقدورة بالواسطة من باب أنّ المقدور بالواسطة مقدور، وضربَ لهذا المطلب مثلاً في تكليف الشرع العباد بالأصول الاعتقاديّة كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}،(1) أو الأمر بالتحلّي بالفضائل والتخلّي

ص: 98


1- محمد: 19.

عن الرذائل، فإنّ حصول العلم بالتوحيد، أو حصول الفضائل في النفس أمر غير مقدور في نفسه إلاّ أنّه مقدور بواسطة مقدماته، فمن نظر في مبادئ التوحيد وأدلته سيتوصل إلى العلم به، ومَن سلك طريق الفضائل سيتحلّى بها، وهكذا الأمر في القطع، ثم بنى السيد (قدس سره) على هذا المطلب نتيجة هامة وهي:

إنّ القطع حيث يقبل الجعل البسيط، فإنه يقبل الجعل المركّب لا محالة، سوى أن الجعل الأوّل جعل بالذات، وهذا الآخر بالعرض، ولذا أيّد الجعل التكويني للقطع، إلاّ أنّه وافق المشهور في الجعل التشريعي، حيث نفى قابلية الجعل فيه لا من جهة المقتضي، بل من جهة وجود المانع؛ وذلك لأنّ إعطاء الطريقيّة للقطع تشريفاً يستلزم تحصيل الحاصل، فيتنافى مع حكمة الحكيم.

فالحقيقة أنّ المنهجيّة العلميّة بادية على مباحث السيد (قدس سره) ؛ إذ غالباً ما يقسّم بحثه إلى مطالب ومحاور، ويراعي فيها التسلسل المنطقي المبني على التقدم الرتبي في البحث، بحيث ينتقل الطالب من مطلب إلى آخر بحسب سياق منهجي صحيح يصون الأذهان من التشتّت والتشويش، ويخدم غرض الباحث.

ثانياً: التركيز والموضوعيّة، وهذا ما نلمسه في محاولته لاختصار المطالب المفصّلة وإيجازها في عبارةٍ جامعة تفي بالمطلوب، وتكشف عن المقصود بأيسر السبل، ومن شواهد ذلك أنه (قدس سره) تجنب الخوض في الاستطرادات الجانبيّة التي لا تتعلق بالبحث، بل اكتفى بتناول أصل المطلب

ص: 99

ثم الاستدلال عليه، ثم الوقوف عنده واستنتاج نتيجته، ثم الخوض في تحليله ومناقشته، سواء كان الرأي له أم لغيره، مستفيد منه، أو يرد عليه. كلّ ذلك مفعماً بعذوبة البيان، وجمال الأسلوب، وبالمناقشة العلميّة الهادئة التي تنظر إلى الرأي بكل موضوعيّة وحياد، فتأخذ منه الصواب، وترد الخطأ، وهذه ركيزة هامّة من أهم ركائز البحث العلمي المنتج.

ثالثاً: الأمانة العلميّة؛ إذ لم يغفل السيد (قدس سره) من أن ينسب الأقوال والآراء إلى أصحابها مهما كبرت أو صغرت، ووثق ما ذكره أو نقله بذكر المصدر، والملحوظ أنّه لم يبد رأيه بحسم وجزم، بل يكلّله بالتواضع وبالتثمين لجهود الآخرين واحترام آرائهم، فلذا كثيراً ما نجد أنه لا يحسم نتيجة البحث بقولٍ قاطع، بل يذكر رأيه بعنوان الاستظهار أو الاحتمال، وهذا ينم عن درجة عالية من تعظيم العلم والعلماء، ومستوى رفيع من التواضع الذي لا يحظى به إلاّ العلماء الربانيون. والمتتبع لأبحاثه يجد أن هذا اللّون من التعظيم والتجليل باديٌ في كلماته وألفاظه.

رابعاً: التطبيق والممارسة؛ إذ لم يكتفِ السيد (قدس سره) بذكر نتائج البحث كقاعدة كلّيّة يستخدمها الفقيه في مقام الاستنباط على ما قرروه في المسألة الأصوليّة، بل قارب بين الفقه والأصول بتطبيق العديد من الضوابط على بعض مواردها، وهذه مسألة تُعين الطالب على فهم أهمية علم الأصول واستكشاف ثمرات أبحاثه، وبهذا يكون قد خرج السيد (قدس سره) عن الأسلوب المعهود بين الأصولييّن في الاكتفاء بالبحث الأصولي وإيكال أمر التطبيق إلى الفقه، الأمر الذي قد يُشعر بإنفكاك العلاقة بين الفقه والأصول، وزاد

ص: 100

من صعوبة الفقاهة عند الطالب.

فمثلاً: في بحث التجرّي تناول السيد جملة من المطالب المتعلّقة به، منها: البحث في أنّ التجري يخل بالعدالة أم لا؟ وفرّع عليه البحث في معنى العدالة والفسق، ثم تعرض إلى محتملات عديدة ينطبق في بعضها عنوان التجري وفي بعضها لا، وقد ذكرها جميعاً.

وأيضاً بحث في صحة العمل العبادي إذا وقع مورداً للتجري، كما لو صام العبد في اليوم المحكوم بأنه الأوّل من شوال ثم بانَ أنّه اليوم الثاني منه، أو صلّى في مكان يعتقد غصبيته ثم بانت إباحته، وبحث في أن المتجري يستحق الحدّ والتعزير بناءً على الحرمة أم لا؟

وهذه جميعا ًبحوث فقهيّة لا أصوليّة أشار إليها السيد (قدس سره) ووقف عندها، وقد أفاد الطالب بها فائدتين:

الأولى: أنّه أظهر أهميّة البحث الأصولي في مقام العمل، وسلّط الضوء على ثمراته العمليّة، وهذه مسألة هامة لدى دراسة العلوم.

والثانية: أنّه أطلع الطالب على نماذج عملية لممارسة الاجتهاد بتطبيق القواعد الأصوليّة على مواردها التي هي الغاية الأساس من دراسة هذا العلم.

خامساً: التجديد والتطوير؛ إذ أشار السيد (قدس سره) إلى جملة من النتائج التي قد تعدّ جديدة في بابها، فأضاف إلى ما توصّل إليه الآخرون نتائج أخرى أثرت البحث، وفتحت الباب على أسرار جديدة في علم الأصول، ومن باب المثال في مسألة بيان الغرض من التكليف والأمر الشرعي، فإنّ المشهور من الأصولييّن ذهبوا إلى أنّ الغرض من الأمر الشرعي وتعلّقه بذمة العبد هو

ص: 101

إيجاد الداعي في نفس العبد وتحريكه نحو العمل والإتيان بالمأمور به، ولولا ذلك كان صدور الأمر لغواً، إلاّ أنّ السيد (قدس سره) نقض هذا الرأي بتكليف النائم والكافر؛ إذ لا شكّ في أنّ النائم والكافر مكلّفان، ويتوجه إليهما الأمر الشرعي كما يتوجه إلى غيرهما، إلاّ أنّ الداعي الذي ذكره المشهور غير متحقّق فيهما؛ بداهة أن النائم يمتنع إيجاد الداعي في نفسه وتحريكه نحو العمل لكونه غير ملتفت، والكافر كذلك؛ لأنّه غير مؤمن بالأمر.

ومن هنا أضاف السيد (قدس سره) داعياً آخر غير الداعي الأوّل يصلح أن يكون منشأً للأمر، ويدفع الإشكال، وهو إتمام الحجة على العبد، فإنّ تعلّق الأمر بذمة النائم أو الكافر يأتي لغرض إتمام الحجة عليه لا لغرض تحريكه، وهذا مطلب هام يُجدي الفقيه نفعاً في الكثير من الموارد.

والأمثلة التي تصلح شاهداً على التجديد والتطوير للمباحث الأصوليّة عند السيد (قدس سره) كثيرة نترك التعرف عليها إلى تفاصيل البحث.

ولا يفوتني هنا أنْ أذكرَ بأنّ السيّد الراحل (قدس سره) لم يكن قد وضعَ عنواناً لمباحثه؛ لأنّه لم يكن قد أعدّها للطباعة؛ ولأنّه لشدّة تواضعه لم يكن يريد اختيار أسماء لكتبه تدلُّ على تعظيمه لها، بل قدّم بعض كتبه بأنّها بحث متواضع، وكذلك كان والده المرجع الراحل الإمام الشيرازي، فإنّه اختار عنوان (الفقه) لموسوعته، و(الأصول) لدورته الأصولية، كما أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه اللّه) لم يختر اسماً لكتاب الرسائل، وإنّما كانت التسمية من بعض تلامذته بعد وفاته.

وقد اختير لهذا الكتاب عنوان (تبيين الأصول)؛ نظراً لتطابقه مع المعنون

ص: 102

من حيث المحتوى والنتائج.

والخلاصة: قد لا نبالغ إذا قلنا: إنّ السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) قد أضاف على البحث الأصولي ما كان مفقوداً في العديد من الكتب، والدراسات من حيث العمق والمنهج والاستنتاج، ولو أمهلته يد الزمان فرصة لقدّم المزيد في خدمة العلم والعلماء، وأثرى المكتبة العلميّة بالكثير من البحوث القيّمة، ولكن لله سبحانه في خلقه شؤون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فاضل الصفّار

13/ رمضان المبارك/1430

كربلاء المقدسة

ص: 103

سيرة وضاءة

سيرة وضاءة(1)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدلله ربّ العالمين والصلاة والسّلام علی سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدّين.

طلب مني صاحب السماحة العلامة الحجة السيد مهدي الشيرازي دام عزه وطلبه أمر وامتثاله نوع أدب وإلاّ أنا أقل من أن أقدم على كتابة مقدمة لما كتبه المولى المقدس السيد محمد رضا الشيرازي أو كتب عنه من تقريرات، وجعلت كتابتي على نحو نقاط ملخصة على ما يلي:

1- ولادة سيدي الأستاذ الرضا في كربلاء سنة 1379 هجرية من تربة كربلاء وطينتها وماء الفرات وحسب ذلك فخراً ويكفيه أثراً في صنع القابليات العالية والمقتضبات الغالية التي بها حصل الاستعداد للارتقاء إلى أوج الكمال والمعرفة والفقاهة.

2- نشأته كربلاء في أسرة العلم والفضيلة والزهد والتقوى والورع والقداسة، وتعمم وهو صغير وقال في يوم تتوج بالعمامة الحاج محمد على الحلاق شاعر أهل البيت (عليهم السلام) :

غرّدي صفّري طيور تهامه***وانثري المسك يا زهور اليمامه

ص: 104


1- الشيخ عبدالكريم الحائري أستاذ بحث الخارج في كربلاء المقدسة.

واملئي الأفق والصدور عبيراً***نسم ورد وفتّحي أكمامه

واسقني أيها النديم كؤوساً***من رحيق بفرحة وابتسامه

حيث إن الفؤاد طار سروراً***عندما ألبسوه ثواب الكرامه

وضعوا فوق هامة العزّ تاجاً***فتسامى بمجده ووسامه

فتراءى للناظرين شبيها***لأبيه الفقيه والعلّامة

يحتذي حذوه ولا غرو فيه***فهو من خير أسرة فهامة

من بني العُرب من سلالة طه***جدّد الدين جدّه وأقامه

خلف الأورع التقيّ (محمد)***وحفيد (المهدي) زاد مقامه

وأبوه المجاهد الطهر فذّ***ثابت القلب لا يخاف الملامه

لامع النجم قد حوى مكرمات***نال منها أبوه أو أعمامه

(حسن) الخلق (صادق) القول برّ***(مجتبى) العلم دارس أحكامه

إنّهم فتية الصلاح تجلى***فيهم العلم والتُقى والشهامه

كرماء فقل أيا شانئيهم***هل لديكم كمثلهم من علامه

تلك آثارهم دلالة حق***لهم المجد والعُلى والزعامه

إي وربّي إن الألى أبغضوهم***لا يساوون أظفراً أو قلامه

فارجعوا أيها الطغام وموتوا***بهوى غيظكم وذلّوا أمامه

إن عين الإله ترعاه منكم***حيث يرضي نبيّه وإمامه

وبعيد الصيام تُوِّج أرّخ:***(زيّن الدين والرضا بالعمامه)

ثمّ انتقل مع الأسرة الكريمة إلى الكويت وذلك لما حاول النظام البعثي البائد أن يغتال والده الإمام الشيرازي فاضطر إلى الهجرة إلى الكويت وفي

ص: 105

كربلاء القدس والطهارة بدأ سيدنا المترجم له دراسته.

3- تدرج في دراسته فأخذ المقدمات والسطوح على أفاضل الحوزة العلمية في كربلاء ثم الكويت ثم إيران حيث هاجر إليها مع والده بعد الثورة في إيران.

ونُشير إلى بعضهم دون حصر: آية اللّه السيد مرتضى القزويني، والسطوح العليا والخارج: على أمثال والده الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) وآية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي وآية اللّه العظمى الشيخ الوحيد الخراساني وأمثالهم من أكابر فحول الطائفة حتى نال في شبابه درجات الاجتهاد وكان يدرس بحث الخارج وعمره كان يناهز السبع والعشرين ربيعاً.

4- زهده وورعه وتقواه، كان سيدنا في الزهد مثالاً وكذا في التقوى والورع وكان قد حلّق في ذراها وطار إلى أقصاها على صغر عمره، قد جمع بين كلمتين القرآن في {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ}(1)

فلم يفرح سيدنا فرحاً بشيء سوى طاعة اللّه وترك المعاصي أما غير ذلك فكان معرضاً عن ذلك في مأكله ومشربه وقد كتبت له بذلك كتاباً أيام كنا في سوريا وحضرته في الكويت حيث إصافته وعكة ونقل لي بعض الأفاضل قلة أكله فأرسلت إليه رسالة عتب في ذلك وإن لبدنك عليك حقاً وذلك شفقة مني عليه فأجابني بكامل الأدب واللطف والكرامة وأنه يراعي المسألة لكنه حقاً كان زاهداً في مأكله وملبسه وهو أمر ظاهر عليه بل في بقية جوانب حياته وفي تقواه كان يتأمل في كل حكمة يتكلم بها

ص: 106


1- الحديد: 23.

ممتثلاً قوله (عليه السلام) : «لسان العاقل وراء عقله»(1)، فلم نسمع منه في سنوات المعاشرة كلمة فضة أو مشينة أو غيبة أو عيب على أحد بل كان ورعاً في كل ما يحتمل فيه الإشكال ولو من بعيد يتركه فلم أبالغ لو قلت كنت أرى الزهد والتقوى والورع يمشي على الأرض فمن رؤيته كنت تحس بمعنى وجود ما تقرأه عن العلماء بل ما كنت تقرأه عن المعصومين بصورة مصغرة ولعمري كنت أرى معنى الآية فيه {سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ}(2) فكانت الآيات الإلهية تتجلى فيه وتدلنا على الباري تعالى.

5- أخلاقه كان مثالاً عالياً للأخلاق الحسنة مع أسرته الكريمة ومع مجتمعه عموماً ومع طلابه خصوصاً فأخلاقه لا يمكن لي وصفها فما أقول في تواضعه وفي بشير وجهه وطلاقة محياه وفي جلوسه واستقباله لضيوفه وكان في غرفته العلمية يستضيف الكثير ولا يظهر التعب والنصب بل تبقى على محياه تلك البسمة الجميلة وذلك الكلام الطيب وحسن الملقى وكان يطرح على ضيوفه من أهل العلم الأسئلة العلمية حتى يكون محضره محضراً علمياً ينتفع به الحاضرون ثم يسألهم واحداً واحداً ولو كان دون مستوى السؤال لكن يقدره ويحترمه ثم بعد ذلك يسكت هنيئة ثم يطرح سؤال آخر وكنت إذا طلبت منه رأية امتنع ومع الإصرار يذكره بعنوان الاحتمال مع غرقه في الحياء عند ذكر رأيه وربما جلس عند ضيوفه الذين يدعوهم والجلوس معهم على المائدة وكنت إذا نظرت نظرات عابرة غير متعمدة في الظاهر وجدته قد

ص: 107


1- نهج البلاغة: 476.
2- فصّلت: 53.

وضع في صحنه على المائدة شيئاً على مقدار حوصلة الطيور في قلة الأكل وكيف يمكن الإحاطة بذلك الجبل العظيم الذي ينحني تواضعاً وحياءً لكل ضيف يأتيه وربما كان بعض الضيوف يقف إلى جنبه ويؤخره حتى يلتقط معه صورة فلا تظهر على وجناته غير الرضا والاحترام مما لو كان أحدنا مكانه لتبرم وأظهر الانزعاج ولقد كان لله ولياً مخفياً بين الناس فلله دره وعليه أجره من أب شفيق وأخ صديق كان واللّه معلماً للأخلاق بعمله دون لسانه مصداقاً لقوله: «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم»(1) ويعلم التواضع إذا رأيته وجلست في مجلسه لو أردنا مصداقاً لما نقرأه في علم الأخلاق وصفات الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجميع مما يمكن أن يتصف به غيرهم لكانت رؤيته دالة على ذلك فهو مثال العالم المتواضع وصاحب الخلق الرفيع وتتعلم منه كيف تتكلم بل حتى كيفية الإشارة إلى الآخرين بكل أدب واحترام سيّدي أرى نفسي عاجزة والقلم أعجز فاللسان والبنان لا يمكنهما أن يصفاه وكان إذا مشى في الزقاق سلّم على الجميع صغيراً أو كبيراً وكانت مشيته تنمّ عن الأدب التام كيف لا وأبوه ذلك المعلم للأخلاق الذي اعترف الجميع بفضله وأخلاقه حتى أن أخلاقه صارت ضرباً للمثل عند الخاص والعام حتى أن أعداءه اعترفوا بذلك وقالوا أخلاقه أخلاق الأنبياء فقد جمع الفقاهة والأخلاق التي هي سمة النبي التي بها مدحه اللّه تعالى {وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ}(2) وكيف لا يكون سيدنا كذلك وهو ربيب الفضيلة والعلم

ص: 108


1- بحار الأنوار 67: 309.
2- القلم: 4.

والاجتهاد وجدّه علم الفقه والتقوى والزهد والقداسة آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) ، فمن ينحدر من هذه الشجرة والأسرة الشريفة جدير به أن يكون كذلك ولقد رأيت في حياتي خمسين مرجعاً وأولادهم وأحفادهم فما وجدت له مثيل دون مبالغة ولقد رأيت بعض أبناء المراجع من له حظ من العلم والتقى لكنك إذا رأيته وجدته عبوساً قمطريراً لم نجد البسمة والملاحة على وجهه وكأنه يقطر سما وكأنك قتلت أباه فشتان ما بينهما سيدي والجرح عميق ومثاله لا يغيب عن خيالي ولقد كنت واقفاً في حوزة كربلاء مدرسة العلامة ابن فهد الحلي (رحمه اللّه) حينما جاؤوا بالجنازة وفيها جثمانه الطاهر، وكأني سمعت شخصاً قال لي انظر كيف يبتسم فنظرت بسرعة فوجدته كذلك ثم أعدت النظر فلم أجد على الجنازة سوى الصور المنصوبة فلم أدر من قال ولم أدر ما رأيت كل ذلك لعله في ثانية أو ثانيتين ولم تغب عني تلك الصورة وقد رأيته ليلة في المنام في حرم مولانا الإمام الحسين (عليه السلام) وفوق الحرم قبة عالية جداً فخرج من الحرم وقال لي هنا كل يوم يقدمون لنا خمس وجبات فلم أفهم مقصوده رضوان اللّه تعالى عليه وكم من أناس تأثروا به واهتدوا الطريق حتى أنّ المحاضرات التي تبث هي الأخرى تنير الطريق للمؤمنين وحكى أحد المؤمنين أنه كلما قدم على عمل لعل فيه خلاف التقوى يقول أرى صورة السيد أمامي فارتدع وامتنع فكم شخصيته مؤثرة لأنه جسد الأخلاق ومكارمها بأروع الصور وأجمل السير.

وحقاً لو قلت هنا (قلم اينجا رسيد وسر بشكست) وصل القلم إلى هنا وانكسر ولعل إظهار العجز فضيلة في أمثال هؤلاء الذين يمكن القول عنهم

ص: 109

في مرتبة من المراتب «أنّی ولكم القلوب التي تولى اللّه رياضتها».

6- تدريسه: ولقد وقف نفسه لهذا العمل بكل رغبة وكان يمتاز سيدنا الأستاذ بكلماته الناصعة وسبكه البديع وبيانه السحري ولقد كان من فرسان العلم وأبطال الفضيلة أخذها كابراً عن كابر وشهد له مجموعة من أعيان الحوزة وجهابذتها وأكابر مدرسيها وسادة فقهائنا بالعلمية وبلوغ مرتبة الاجتهاد ولقد كان يحسن المعالم ويرتع في الرياض ويصوغ الجواهر ويفسر الرسائل ويرسخ القوانين ويبيّن الكفاية ويدرس الدروس ويقف على كل شاردة وواردة في الموسوعات الفقهية.

وكان دقيقاً في التدريس سهل البيان كانت المطالب الصعبة الأصولية والفقهية يبينها بسلاسة فكان مع دقته العلمية وعمقه الفقهي الأصولي العقائدي يقرب البعيد بسحر بيانه وبتحريك بنانه كما قال ابن مالك - تقرب الأقصى بلفظ موجز - وكان كتاب المعالم في بعض فصوله كالطلاسم وكان يحلها بسهولة وعذوبة وطلاقة، ولما وصلنا الكفاية فلقد حضرت ودرست وسمعت في الكفاية إلى أساتذة كثيرين ولما أردت امتحان الكفاية في الحوزة أخذت الأشرطة (الكاسيت) في ذلك الوقت وكنت قد درست الكفاية قبل سنتين من ذلك الوقت مع ما كتبت من الحواشي وراجعتها لكنّي كنت ألتذ بسماعها منه (رحمه اللّه) حتى تعجبت أن تلك الكفاية التي درستها هي هذه من كثرة وشدة سيطرته على المباني الأصولية ومباني صاحب الكفاية، كان يعدد ضرب الأمثلة والتوضيح حتى خلتها كأنها جريدة يقرئها ولقد درست عنده الحاشية سنة 1402 هجرية والقوانين

ص: 110

والقسم الثاني من شرح الألفية من بحث الإضافة من شرح السيوطي ثم المغني من حرف اللام والباب الرابع وكنت في هذه الدروس أحضر عند أساتذة آخرين لكن لم أجد فيهم مثل ما أجد عنده ما يشفي الغليل فكان بديع بيانه مع قوة سلطانه على المطالب العلمية يوصل الأمانة ويرسخها وما ذلك إلا لأنّه تدرج في المطالب العلمية ودرسها من أول المقدمات والسطوح وحتى السطوح العليا فمن كان هكذا سيره العلمي جدير بأن يكون مجتهداً مبكراً.

7- تربيته للطلاب ولقد ربى المئات من طلاب الحوزة العلمية في مختلف الدروس الحوزوية حتى تخرج من تحت منبر درسه من الطلبة منهم من صار مدرساً ومنهم من صار خطيباً ومنهم من صار كاتباً ومنهم من صار مجتهداً مدرساً للبحث الخارج والدروس العليا فكانت أنفاسه مباركة فكرس حياته في تدريس مختلف العلوم والفنون من العلوم العربية من الصرف والنحو والبلاغة والأصول والفقه والفلسفة والتفسير والعقائد فكان موسوعة في مختلف العلوم حقاً وكان مستحضراً حتى أنه إذا أراد أن يستخرج المسألة أخرجها من الكتاب بسهولة دون بحث وما ذلك إلا للمارسة العلمية فكان درسه مضافاً الى كونه درس فقه وأصول مثلاً كان درس أخلاق عملي تراه يحترم الطالب ويحترم صاحب الكتاب ويحترم كل كلمة وجملة صدرت من العلماء ويثمنها ويربّي الطالب على الفهم والدقة والعمق حتى لو أشكل بعض الطلاب فكان يحاول تعديل الإشكال وإصلاحه وإظهاره بشكل جيد ثم يجيب عنه.

ص: 111

8- وأخيراً فإني لا أريد أن أثمن جهوده أو أقيّم مطالبه فإنه أسنى وأعلى من ذلك ولكن أقول إن جناب سيدنا الأستاذ عليه الرحمة والرضوان في إلقاء أبحاثها العليا يتماز بالتدرج في ذكر الأدلة وتقديم الأهم منها الذي يترتب عليه غيره فالأهم ولقد رأيت بعض ما طبع من آثاره العلمية بقلمه الشريف أو ما كتب من تقريرات درسه مثل تبيين الفقه فهو يكرس الدليل العلمي ويناقشه مناقشة موضوعية ويعطي الدليل المخالف حقه ثم ينقده وكان درسه وبيانه يساعد على الفقاهة والارتقاء العلمي حيث تجد هناك الدقة في فهم الآية الشريفة أو الحديث وتقييم الحديث سنداً ودلالة وذكر أكبر عدد ممكن من الأدلة ومناقشة ما يمكن المناقشة فيها مع استعراض لأدلة الفقهاء الماضين ومناقشتهم وبيان صحة ما أوردوه أو عدم تمامية ذلك ولم أجد في الأدلة الفقهية من شواهد مثل ما ذكره عند غيره مع مطالعتي الكثيرة في الموسوعات الفقهية مثل الحدائق والجواهر والرياض والتنقيح ومرادفاته، وفقه الصادق والمباني والموسوعة الفقهية وغيرها وإن شئت فأنظر إلى دقة المباني في تبيين الفقه للعلاّمة الحجة السيد محمد علي الشيرازي في تقرير أبحاث سيدنا الأستاذ أو تبيين الأصول بقلمه الشريف حيث ذكر في القطع والعلم الإجمالي ما يقارب ثمانمائة صفحة ولقد أجاد وأفاد لعله بما لا مزيد عليه في بحث التجري وأهم ما يقرب المطالب للفهم حتى يعرف الطالب مدى أهمية هذه المطالب هو ذكر التطبيقات الفقهية التي قلما تذكر وقد تهمل بينما هي الغرض الأسنى من ذكر المسائل الأصولية التي هي العلم الآلي للفقه ولكن قد خرج الأصول من كونه علماً آلياً وقواعد لأجل استفادة الفقيه إلى كونه علماً استقلالياً حتى أن المهم

ص: 112

عند البعض هو الأصول وحده غافلاً أن الغرض منه تطبيق قواعدة كما جاء في تعريفه وهذا النحو من التعليم هو الذي يجعل الطريق مختصراً أمام الطالب للوصول إلى الفقاهة وفَهم سرّ المهنة على اصطلاح البعض ولو أنا في الحوزات العلمية نبدي اهتماماً للفقه الذي هو تطبيق للقواعد الأصولية والرجالية والتفسيرية ومنهم الحديث مع علم الأخلاق وأهميته وما يرتبط بذلك أكثر وعدم تسطيح العلوم إلى حد اسقاطه عن مقامه الرفيع وتعليم الفقاهة بنحو تربية الفقيه أكثر فأكثر كما كان السلف الصالح يهتمون بذلك لئلا تخلو الحوزة العلمية من الفقهاء في المستقبل ولقد أعجبتني الكلمة في مقدمة تبيين الأصول من جناب الأخ العلامة الحجة آية اللّه الشيخ فاضل الصفار دام عزه وكذلك كلمة العلامة الحجة السيد محمد علي الشيرازي دام عزه في تقييم بعض مباحث سيدنا الأستاذ ولا يسعني المجال أن أذكر أكثر من ذلك فسيدنا الأستاذ في الجانب العلمي فذ قوي مستحضر للمباني الأصوليّة والفقهية وغيرها مما يحتاجه وسريع الإجابة عن الإشكال وإذا رد كان رده جميلاً مع التنظير والتمثيل حتى يتضح للطالب أو المستشكل وهن إشكاله مع حفظ احترام مقام الطالب.

9- ولقد اقتطفت يد القضاء والقدر سيدنا وهو في أول عمره الخمسين وكانت الآمال انعقدت عليه إلا أن القضاء والقدر والإنقياد والرضا لهما ولما شاء اللّه عز وجل جعل الأمل الأكبر باللّه تعالى من قبل ومن بعد فاسرعت إليه المنية وأنشبت أظفارها ونقلته من عالم الزحمة والشقاء إلى عالم الراحة والسعادة إلى عالم لقاء اللّه تعالى فلقد فاز والتحق بآبائه وأجداده الطاهرين ولقد شيع تشييعاً لم يكن مثله إلا لأكابر المراجع العظام مثل المرجع السيد

ص: 113

أحمد الخونساري والسيد المرعشي النجفي والسيد الكلبايكاني وأمثالهم.

ورفعته الأكف إلى فوق الرؤوس مزدحمة النفوس إلى مثواه الأخير عند جده الحسين (عليه السلام) حيث الداخل في من باب القبلة إلى اليمين في الغرفة المعروفة بالمقبرة الشيرازية حيث هناك جده المقدس الميرزا مهدي الشيرازي فهنيئاً له حيث كان متيقناً بلقاء اللّه تعالى وموقناً بجزائه فرحمة اللّه عليه يوم ولد ويوم مات ويوم رجع إلى ربه عند جده بعد الهجرة، ويوم يخرج حياً.

ومن الملاحظ في الكتب الفقهية أن الاستدلال في كتاب الطهارة على مطهّريّة الماء من الحدث والخبث هو بالروايات وأنهم حينما ذكروا الآيات أشكلوا على دلالتها بإشكالات كثيرة ولكن سيدنا الأستاذ رأی أنّ الآية الثانية والثالثة فيها دلالة على ذلك وقد دفع الإشكالات التي أوردوها ولعمري أن المتتبع لكلمة الطهور والماء في القرآن الكريم والجمع بينهما يرى بوضوح دلالة ذلك لكن الوقوف على بعض الآيات وبعض المفردات منها لا يكون طريقاً كافياً فلذا على الفقيه بذل الوسع في فهم الدليل ومن موارد ذلك جمع الاستعمالات القرآنية والتتبع فيها يدل على المراد دون الوقوف على بعض الاستعمالات وخصوصاً مع شوب الذهن بالإشكالات السابقة قبل الورود في الاستدلال وبحمد اللّه والمنة كانت المناقشات في محلها وكان الاستدلال منه (رحمه اللّه) رائعاً. ومن روائع الأبحاث الرجالية في رده على بعض الأعاظم الذي ذكر في سهل بن زياد الآدمي وقال عنه ضعيف جزماً، وأنه في النتيجة في رد ما استدل على الجزم بتضعيفه غير تام وأنه إمّا أن يتوقف فيه وعدم الجزم بتضعيفه أو الميل إلى وثاقته كما ذهب إلى ذلك

ص: 114

جمع من أعاظم المحدثين والفقهاء وكذا فيما ذكره من وثاقة محمد بن عيسى العبيدي مع وجود قرائن على اعتبار رواياته حتى ما يرويه عن يونس ومن العجيب كيف خفيت تلك القرائن الموجودة على مثل المعجم الذي استثنى ما يرويه عن يونس وأن الدقة عند السيد الأستاذ في فهم مرادات الرجاليين وجمع كلماتهم فائقة جداً على كثير من المتخصصين في هذا الفنّ.

ومن الجدير بالاهتمام استخراج تلك المباحث الرجالية المهمة مع ما له في سائر الكتب من مباني رجالية أو تصحيح لرجال مختلف فيهم وجعل تلك المباحث مستقلة حتى تعم الفائدة بها.

عبدالكريم الحائري

15/ شعبان المعظم/1436

كربلاء المقدسة

ص: 115

ص: 116

الفصل الثاني: شذرات من حياة الفقيه المقدس

اشارة

ص: 117

ص: 118

حياة مكتملة

اشارة

حياة مكتملة(1)

السيرة الذاتية

آية اللّه الفقيه السيد محمد رضا بن محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي النجل الأكبر للإمام المجدّد السيد محمد الحسيني الشيرازي، من أسرة قادت الزعامة والمرجعية في كربلاء والنجف وقم وسامراء طوال أكثر من قرن ونصف، ومن اعلامها آية اللّه العظمی الإمام المجدّد السيد محمد حسن الحسيني الشيرازي (1312ه) وآية اللّه العظمی الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي (1338ه) وآية اللّه العظمی السيد عبد الهادي الحسيني الشيرازي (1382ه) وآية اللّه العظمی السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي (1380ه).

ولد في كربلاء المقدسة سنة 1959م، نشأ وترعرع فيها في ظلّ والده الإمام الشيرازي (قدس سره) فتهذّب بأدبه وتعلّم من أخلاقه وعلمه. بدأ دراسته الأوليّة في مدرسة حفاظ القرآن الكريم ثم التحق بالحوزة العلمية في كربلاء المقدسة حيث درس مقدّمات العلوم الدينية.

هاجر بصحبة والده إلى الكويت وذلك بعد الضغوط الكبيرة التي لاقتها أسرة الإمام الشيرازي من قبل البعثيين في العراق، فواصل دراسته في حوزة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأخذ ينهل من منهل العلم مكباً على الدراسة منتقلاً

ص: 119


1- بقلم الأستاذ حيدر الجراح.

من غرفة إلى غرفة متعلماً عند أساتذة الحوزة، وتحديداً عند عمه المبجّل سماحة آية اللّه العظمى السيّد صادق الشيرازي (دام ظله) وعند آية اللّه السيّد مرتضى القزويني.

وكان مجداً في دراسته، حريصاً على وقته، وهي خصلة رافقته طيلة حياته، حيث كان لا يضيع دقيقة من وقته سدى، بل كان يوظف جميع أوقاته لبناء شخصيته العلمية، فكنتَ تجده إما متعلماً متلقياً أو معلّماً ملقياً أو مشغولاً بأمر مهم كأداء وظيفة اجتماعية كزيارة عالم أو مؤمن أو قضاء حاجة محتاج أو وقوف على خدمة وبرّ والده الجليل (رحمه اللّه) ، وإلى جانب ذلك كان يلقي محاضرات دينية علمية.

وفي فترة الحقبة الكويتية، كان للسيّد الفقيد نشاط واسع مع الشباب وذلك من خلال عشرات الندوات التي كان يقيمها لهم في مختلف مساجد وحسينيات الكويت. وكان يقيم إحدى ندوات الشباب هذه في مسجد القلاّف. وهو بعد لم يتجاوز السابعة عشر من عمره، مما يشير الى نضوجه المبكر ولباقته وحصافته وحسن بيانه.

في سنة 1980 م هاجر بصحبة والده إلى إيران فحلّ بمدينة قم المقدسة حيث استمر في دراسة السطوح حتى أكملها وبدأ دراسته العالية لدى والده الإمام الشيرازي وعمه وكبار فقهاء الحوزة من أمثال الشيخ الوحيد الخراساني وغيرهم فنال مرتبة الفقاهة والاجتهاد.

كان من كبار الأساتذة في الحوزة العلمية في قم المقدسة حيث بدأ بتدريس المقدمات والسطوح العالية ومن سنة 1408 ه- شرع بتدريس بحث خارج الفقه والأصول على فضلاء الحوزة وكان مستمراً في تدريسه وعطائه

ص: 120

العلمي إلى أن انتقل إلى ربّه.

تربّى في مدرسته العلميّة عدد من التلامذة الفضلاء وهم اليوم من المدرّسين في الحوزات العلميّة في مختلف أرجاء العالم.

كان قمة في الأخلاق والتواضع والبسمة على وجهه وحزنه في قلبه كما ورد في صفات المؤمنين.

وفاته

توفي في الساعات الأولى من صباح يوم الأحد 26 جمادى الأولى 1429ه- المصادف 1 يونيو 2008م، وكان لانتشار خبر الوفاة أصداء في العالم الشيعي حيث جرى تشييع كبير في مدينة قم الإيرانية ثم نقلت جنازته إلى مدينة النجف العراقية وأخيراً وصلت الجنازة إلى مدينة كربلاء حيث دفن بجوار جده سيد الشهداء (عليه السلام) عند قبر جده السيد ميرزا مهدي الشيرازي.

مؤلفاته

ترك (رحمه اللّه) مؤلفات عديدة، نذكر منها:

1- كيف نفهم القرآن.

2- التدبر في القرآن في ثلاث أجزاء.

3- الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رائد الحضارة الإنسانية.

4- ومضات - رؤى إسلامية في العقيدة والاخلاق - وهي تقرير لمجموعة من محاضراته.

5- خواطر عن السيد الوالد.

ص: 121

6- الزهراء (عليها السلام) الفيصل والقدوة.

7- الشعائر الحسينية.

8- رسالة في الشهادة الثالثة.

9- الثقة بالنفس طريق الغد المشرق.

10- رسالة حول الزهراء (عليها السلام) .

11- من مواعظ الامام الحسن (عليه السلام) .

12- الإمام الحسين (عليه السلام) عظمة إلهية وعطاء بلا حدود.

13- العراق، وصايا وكلمات.

14- تبيين الأصول في ثمان أجزاء.

15- الترتب.

16- تبيين الفقه (كتاب الطهارة) في جزئين.

17- بحوث في فقه النظر.

18- تعليقة علی المسائل المتجددة في جزئين.

19- تعليقة علی الدلائل في جزئين.

20- تعليقة علی مباني منهاج الصالحين.

21- توضيح العروة الوثقی.

22- التعليقات.

23- وهناك موسوعة من محاضرات السيد (رحمه اللّه) قيد الإنجاز.

كما ترك محاضرات علمية وأخلاقية عديدة تبث عبر شاشة عدد من الفضائيات الدينية.

ص: 122

شهاداته

حصل على شهادات اجتهاد وتقاريض لكتاب الترتّب وإجازات من:

1- أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) .

2- آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) .

3- آية اللّه العظمى الشيخ حسين علي المنتظري (رحمه اللّه) .

4- آية اللّه العظمی السيد محمد الفاطمي الأبهري (رحمه اللّه) .

5- آية اللّه الشيخ مرتضى الأردكاني (رحمه اللّه) .

6- آية اللّه السيد أحمد الشهرستاني (رحمه اللّه) .

7- آية اللّه السيد رضا الصدر (رحمه اللّه) .

8- آية اللّه الشيخ يد اللّه الدوزدوزاني (دام ظله) .

9- آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني (دام ظله) .

10- آية اللّه الشيخ علي الاشتهاردي (رحمه اللّه) .

ص: 123

الصورة

(عليهم السلام) 124.jpg

ص: 124

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلوة والسلام علی محمد وآله الطاهرين.

وبعد فإنّي لاحظت شطراً من كتاب (الترتب) في الأصول لولدنا الأعز الحجة الحاج السيد محمد رضا الشيرازي دامت توفيقاته فوجدته قوي الاستدلال كثير العمق بعيد الغور متعرضا لدقائق المسائل ممّا ينمّ عن ملكة رفيعة في الاستنباط فقد سلك مسلك المجتهدين وأبدی في استظهاراته قوة المحققين مما يرجی له في المستقبل خدمات العلماء الذين يوفقون لادارة الحوزات العلمية والسير بها الی المقصد الأسمی فللّه درّه وعليه أجره وهو الموفق المستعان.

محمد الشيرازي

ص: 125

الصورة

(عليهم السلام) 126.jpg

ص: 126

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلوة والسلام علی محمد وآله الطاهرين.

وبعد فان فضيلة الثقة ولدنا السيد محمدرضا الشيرازي دام توفيقه وكيل عنّي في تصدي الأمور الحسبية وقبض الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات والمظالم المردودة والنذور ومجهول المالك وغيرها خاصة سهم الامام (عليه السلام) فانه يوصلها إلينا لاقامة الحوزات العلمية ومساعدتها وتأسيس المشاريع الاسلامية وتقويتها واللّه المسئول ان يوفقه وايانا وسائر المؤمنين لما يحب ويرضی.

وهو المستعان

محمد الشيرازي

ص: 127

الصورة

(عليهم السلام) 128.jpg

ص: 128

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام علی عباده الذين اصطفی محمد وآله الأطهار ولعنة اللّه علی أعدائهم الی يوم الدين.

وبعد:

فانی قد سرّحت النظر في العديد من فصول بحث (الترتب) الذي ألّفه العلامة المفضال حجة الاسلام والمسلمين الحاج السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي دام افضاله نجل الأخ الأكبر أستاذ العلماء والمحققين آية اللّه العظمی الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) فوجدته عميق الاستدلال قوي الاُسلوب وافياً بالمقصود متضمناً لنكت دقيقة حاوياً لتحقيقات مبتكرة مما يدلّ علی بلوغ مؤلفه مراقي الاجتهاد ووصوله مراتب الاستنباط فللّه درّه وعليه أجره ولا غرو فهو سليل المراجع الكبار والمحققين العظام فأسئل اللّه تعالی أن يزيده توفيقاً في هذا الميدان وينفع به الاُمة أكثر وأكثر ويكثر في العلماء العاملين أمثاله واللّه هو ولی التوفيق.

5 شهر شعبان المعظم / 1410ه-

صادق الحسيني الشيرازي

ص: 129

الصورة

(عليهم السلام) 130.jpg

ص: 130

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلوة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

وبعد فلا يخفى على الأخوة والأخوات أن سماحة العلامة حجة الإسلام والمسلمين آقاي حاج سيد محمد رضا شيرازي دامت بركاته يكون ممّن صرف عمره وطاقاته في تحصيل العلوم الإسلامية حتى بلغ بحمد لله ومنته مرتبة الاجتهاد والاستنباط فيحق أن يغتنم وجوده ويستفاد من إفاداته ومحاضراته العلمية ويكون وكيلاً من قبلي ومجازاً في التصدي للأمور الحسبية المنوطة في عصر غيبة الإمام الثاني عشر عجل اللّه تعالى فرجه الشريف بإذن الفقهاء، وفي أخذ الوجوه الشرعيّة من الزكوات والمظالم ومجهول المالك وصرفها في المصارف المقرّرة الشرعيّة، وفي أخذ الأخماس بسهميها والمصالحة في الموارد المشكوكة بما يراه صلاحاً، وفي صرف سهم السادة في فقراء السادة المؤمنين بقدر الحاجة، وصرف سهم الإمام في تتميم معاشه الاقتصادي، وصرف النصف مما زاد منه في ترويج الشريعة الغرّاء ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) ومصالح الإسلام والمسلمين وطلّاب العلوم الدينية وفقراء المؤمنين عند الضرورة، وإيصال البقية من الوجوه المذكورة إليّ لتصرف في الحوزة العلمية - صانها اللّه تعالى عن الحدثان - وأوصيه وجميع الأخوة والأخوات - كما أوصي نفسي - برعاية الاحتياط والتقوى في جميع المراحل، والتمس منه ومنهم الدعاء في مظانّ الإجابة، والسلام عليه وعليهم ورحمة اللّه وبركاته.

15 محرم الحرام 1426 - 7/12/1383

ص: 131

الصورة

(عليهم السلام) 132.jpg

ص: 132

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

وأما بعد حيث إن علم الأصول بالنسبة إلى الفقه كالرأس من الجسد ولولاه كان كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، كيف هو ركن الفقه وبه يثبت قوائمه ويحكم بنيانه ويثمر أغصانه ولذا اعتنى به العلماء من الزمن الأول من الفريقين تدريساً وتدرساً وبحثاً وتصنيفاً، متناً وشرحاً وحاشيةً وقد حكى بعض مشايخنا في مجلس الدرس (رحمه اللّه) إن أول من صنف فيه محمد بن إدريس الشافعي وسمّاه كتاب الحجة وإن استشكل فيه بعض فصنفوا فيه كتباً ورسائل عديدة وأتعب أنفسهم في تحقيق مسائله وتحكيم مبانيه لا سيما من زمان شيخ المشايخ العلامة الأنصاري تغمده اللّه بغفرانه وما رأيت أحداً من الفريقين إلى زمانه مثله في تحقيق مسائله ودقة النظر فيه وتفكيك مسائله بعضها من بعض ويصدق القول فيه أن كل العلماء في الأصول بعده عيال عليه واقتطفوا من نتائج أفكاره ورشاقة تحقيقاته وقد تكرر القول في مجلس الدرس وغيره مني أنه لو جازت السّجدة لغير اللّه تعالى لسجدتُ له، فبعضهم صنف فيه في كل مسائله من أوله إلى آخره فهم كثيرون من الفريقين فبعض صنف في بعض مسائله مثل مسألة الترتب فأوّل ما عنونه ورتب عليه فرعاً في الفقه وهو صحة الصلاة الرباعية إذا أتى بها المسافر جهلاً بالحكم تقصيراً أو قصوراً المحقق الكركي في جامع المقاصد ثم بعده أستادنا المحقق المتضلع كثير التصانيف الشيخ عبد النبي

ص: 133

الوفي (رحمه اللّه) عمل فيه رسالة واختار فيها إمكان الترتب والشيخ محمود الشريعتمداري الاسترآبادي ومن جملة من ألّف فيه الجناب المحقق المتتبع البالغ مرتبة الإجتهاد والاستنباط آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي المعاصر، ولد آية اللّه العظمى العلامة المحقق المتضلع في فنون كثيرة المصنف في كل منها كتباً عديدة السيد محمد الشيرازي دام ظله العالي ألفه فيه رسالة قد سرّحت النظر فيها فوجدتها كافية وشافية في مسألة الترتب ولقد أجاد وأحسن في التحقيق والتدقيق ونقل كلمات العلماء وبيان الإيرادات عليها وفينبغي على رواد العلم وطلابها مطالعتها والاستقاء من حياضها وأن يشتريها ولو بأغلى الثمن فكثر اللّه أمثاله في الإسلام والمسلمين.

قد حرر في العشرة الثانية من جمادي الأولى سنة 1411ه-

السيد محمد الفاطمي الأبهري

ص: 134

الصورة

(عليهم السلام) 135.jpg

ص: 135

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء والمرسلين.

وعلى: علي ابن عمه، وصهره، والأئمة الأحد عشر من ولده، أولهم: السبط الأكبر: الحسن المجتبى، وآخرهم: الإمام الهادي المهدي:الحجة بن الحسن العسكري جعلنا اللّه من أعوانه، وأنصاره، والمحامين عنه.

وبعد:

فإن من أعظم النعم في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) : وجود الفقهاء، البررة الكرام، إذ بهم يعرف الحلال من الحرام، وهم نواب الإمام (عليه السلام) .

ومنهم العالم الصالح، السيد محمد رضا الشيرازي، نجل العلامة المعاصر: آية اللّه الحاج السيد محمد الشيرازي، صاحب التأليفات الكثيرة النافعة.

وقد نقل بعض أصدقائي: أنه ألف اربعة ومائة مجلداً في الفقه، وبعضها موجود عندي، وألف في أصول الفقه، وغيره من العلوم، كتباً، وقد لاحظت عدة منها. فللّه درّه ودامت بركاته.

وولده المذكور، قد صرف عمره الشريف، في تحصيل مباني الاجتهاد، وتكميلها، وجدّ وكدّ، حتى صار من الفقهاء المجتهدين.

«قد جدّ في نيل المعالي واجتهد - قد صحّ فيه القول: من جدّ وجد».

وله العمل بما يستنبطه على النحو المقرّر بين أصحابنا من فقهاء الإمامية (رض) وعليه بالاحتياط، فانه ساحل بحر الهلكة، وطريق النجاة.

والمرجوّ: أن لا ينساني من صالح الدعاء، كما لا أنساه، والسلام.

مرتضى الاردكاني

5 / شوال المكرّم / 1411ه-

ص: 136

الصورة

(عليهم السلام) 137.jpg

ص: 137

بسمه تعالی شأنه العزيز

حضرة العلامة الجليل الحجة المُثلی جناب السيد محمد رضا الشيرازي زيدت إفاداته ودامت إفاضاته.

الحمد لله وكفی وسلام عباده الذين اصطفی وبعد فحيث ان مسئلة الترتب من امّهات المسائل الغامضه العميقه التّي تترتّب عليها فروع شتّی وقد غرق فيها جمع من المحققّين نفياً او اثباتاً وقد أقمتم بها بحول عزير مقتدر و منّه وطوله وأوضحتم سُبُلها فلله درّكم وعليه سبحانه أجركم وكفاكم فخراً أنه من إملاء وعناية المرجع الديني العظيم الآية العظمی والدكم مدظلّه العالي الغالي، فلتُحمد هذه القريحه الطائرة الرنّانة ولتُشكر تلكم اليَراعة البارعة وأرجو لكم من البارئ الحنّان النّبوغ يوماً فيوم وهو عزّ وجلّ من وراء القصد والتوفيق والسلام عليكم آناء اللّيل واطراف النهار ورحمة اللّه وبركاته.

العبد الضعيف الفاني

احمد الحسيني الشهرستاني

قم المقدسة

رجب الفرد 1411

ص: 138

الصورة

(عليهم السلام) 139.jpg

ص: 139

بسمه تعالی

فاضل دانشمند كاوشگر عاليقدر حضرت آقای آقا سيد محمدرضا آية اللّه زاده شيرازی دامت بركاته كوششی كرده و كاوشی به كار برده مبحث ترتّب را از اصول فقه انتخاب كرده و به رشته تحریر درآورده، بخشی از این رساله كه ملاحظه شد كلمات قوم را در این باب نفياً و اثباتاً جمع آوری كرده و براهین و ادلّه را برای هر دو گروه ذكر كرده، فروع فقهیه مترتبه بر آن را نیز بر آن افزوده است.

الحق كه این رنج علمی از این جوان شریف قابل تقدیر و ارزش می باشد. باش تا صبح دولتش بدمد كه این هنوز از نتایج سحر است.

خداوند توفیقات این جوان را روز به روز بیفزاید تا بتواند بیش از این خدماتی گرانبها به عالم دانش و بینش انجام دهد.

والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته

17 شهر رجب 1411

ص: 140

الصورة

(عليهم السلام) 141.jpg

ص: 141

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الّذي خلق الإنسان وعلّمه البيان، وأوضحنا سبيل استنباط الاحكام، وصلی اللّه علی سيّدنا محمّد وآله المعصومين الكرام.

وبعد فإن علم الأصول من العلوم الّتي يحتاج إليها كلّ فقيه لاستنباط الأحكام الإلهيّة من الآيات والأخبار المأثورة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) .

ومن المسائل الّتي ينبغی أن يبحث عنها في علم الأصول هو «بحث التّرتّب» الّذي تناوله بعض العلماء علی نحو الإختصار في خلال كلماتهم وأطال بعض أخر، ومع هذا لم يستوف البحث فيه حقّ الاستيفاء.

وأخيراً بحث فيه الفاضل الحجّة «السيّد محمّد رضا الشيرازي» وألّف فيه كتاباً سمّاه ب- «التّرتّب»، وقد احتوی علی أكثر الأقوال والإحتمالات الواردة في المسألة.

وقد أعجبني حسن وروده وخروجه وترتيبه وتهذيبه، لله درّ مؤلّفه وشكر اللّه مساعيه.

وجدير بالذّكر: أن المؤلّف ممّن حضر أبحاثنا سنين في عنفوان شبابه سماع تفهّم وتحقيق.

وربّما يعجبني فهمه الذّكي ودقّته الناقد، وقد جهد واجتهد حتّی بلغ من العلم ما بلغ.

ونرجوا من اللّه تعالی أن يجعله ممّن تضيء بنوره الحوزة العلميّة، وأن يجعله ممّن أحيوا أمر أهل البيت (عليهم السلام) .

الأحقر يداللّه دوزدوزاني - 19/12/1369ش

ص: 142

الصورة

(عليهم السلام) 143.jpg

ص: 143

الصورة

(عليهم السلام) 144.jpg

ص: 144

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لوليه، والصلاة والسلام علی صفيِّه وخيرة رسله، وعلی الصفوّة من عترته، سلاماً لانهاية له

ثمرة يانعة

من ثمرات علم الأصول

أما بعد: فقد جرت السيرة في الجامعات العلمية الحاضرة علی قيام الطالب بتناول موضوع معيّن دَرِسَه وتلقّاه، بالدراسة والمعالجة، ثم عرضه علی استاذه ليُعرفَ بذلك مدی منزلته العلمية ومبلغ جهده وسعيه في طريق الدراسة وهذا مايعبَّر عنه بالاطروحة في مصطلح الجامعيين، وهذا المنهج القويم الذي يسلكه اصحاب الجامعات في عصرنا الحاضر ليس بأمر جديد، بل هو ما درج عليه السلف من علمائنا منذ أقدم العصور.

فأماليُ القدماءِ، وتقريراتُ المتأخرين نموذج واضح من هذا الاسلوب البَنّاء، حيث كان الأستاذ يُملي علی تلامذته مسائل في الحديث والشعر والادب، والتلميذ يكتبها في نفس المجلس، او يلقي ابحاثا في الفقه والأصول، والطالب يقرر ما تلقّاه في حلقة الدرس في بيته.

غير ان الأولی تعرف اثراً للاستاذ، والاخری تأليفاً للكاتب.

وهذا هو الفرق بين الامالي والتقريرات التي ورد ذكر طائفة كبيرة منهما في فهارس المصنفات ومعاجم الكتب.

وهناك قسم ثالث وهو ان الأستاذ يطرح لكل واحد من تلامذته مسائل فكرية وتاريخية، تحتاج الی التحقيق والتتبع، وإمعان النظر، حتی يقوم

ص: 145

التلميذ بنفسه بدراستها والتحقيق فيها بما اُوتی من مؤهلات علميّة، فيصوغها في قالب التأليف ويعرضها علی الأستاذ للتقييم والنقد، وبذلك يُخرج الطالبُ طاقاتِه الفكريّه الكامنة الی منصَّة الظهور.

وهناك قسم رابع وهو القليل ونعنی به قيام نفس الطالب بتحقيق مسألة او مسائل في العلوم التی تلقاها طوال سنين، وان لم يكن هناك طلب من الأستاذ ولا يقوم به الا اصحاب الهمم العالية الذين لايهمهم شيء سوی التطلع الی ذُرَی العلم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك ايها القاری الكريم - وهو تأليف الفاضل المحقق السيد محمد رضا الشيرازي، دامت افاضاته - من هذا القسم الرابع، وهو ثمرة ناضجة من علم الاصول اجتناها ذهن وقّاد، وفكر قوي، ودُبِّجب بقلم عذب لاتعكره عجمة، ولا يشوبه تكدير، وضعه المؤلف امامك وامام كل طالب لعلم الاصول.

وقد تصفحت هذه الرسالة المؤلفة حول مسألة من مسائل علم الاصول التي تضاربت فيه الافكار فوجدتها رسالة جامعة للآراء الموافقة والمخالفة بشكل موضوعي رصين، يعرب عن احاطة المؤلف بماديء المسألة، ونتائجها، كما يعرب عن مقدرته العلمية الخلاّقة في مناقشة الاراء. وراقني جداً انه لم يفرغ عن المسألة الا وقدأتی بثمراتها الفقهية، وهذا امر تجب رعايته في دراسة المسائل الأصولية حتی تكون كالتمرينات لها غير ان كتبنا الدراسية وغيرها خالية عن هذا الجانب المهمّ.

فنحن نبارك له هذه الباكورة الطيبة، ونرجوا ان تكون فاتحة لخطوات

ص: 146

علمية اخری كبيرة في هذا الطريق.

ونقترح علی المؤلف المحترم اكمال اطروحته هذه بأمرين:

الأول: استعراض تاريخ هذه المسألة وانه مَنِ المبتكر لهذه الفكرة اعنی تصحيح الامر بالضدين حسب الترتب، ثم استعراض مراحل «تطورها وتكاملها بمرّ العصور الی عصرنا هذا».

الثاني: استعراض نظرية الامام القائد الراحل الأستاذ الاكبر الإمام الخميني قدّس اللّه سره فان له نظرية خاصة في الأمر بالضدين جديرة بالاهتمام، وهو علی اساس غير الترتب علی وجه يعرفه العارفون بمنهجه ومدرسته الأصولية.

فشكر اللّه مساعي علمائنا الماضين، وحفظ الباقين منهم والمخلصين، وندعو للمؤلف بالخير وحسن العاقبة إنه سبحانه بالاجابة قدير.

قم - مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)

6 رجب الاصب 1411ه- ق

جعفر السبحاني

ص: 147

الصورة

(عليهم السلام) 148.jpg

ص: 148

الصورة

(عليهم السلام) 149.jpg

ص: 149

الصورة

(عليهم السلام) 150.jpg

ص: 150

الصورة

(عليهم السلام) 151.jpg

ص: 151

الصورة

(عليهم السلام) 152.jpg

ص: 152

الصورة

(عليهم السلام) 153.jpg

ص: 153

الصورة

(عليهم السلام) 154.jpg

ص: 154

الصورة

(عليهم السلام) 155.jpg

ص: 155

الصورة

(عليهم السلام) 156.jpg

ص: 156

الصورة

(عليهم السلام) 157.jpg

ص: 157

الصورة

(عليهم السلام) 158.jpg

ص: 158

الصورة

(عليهم السلام) 159.jpg

ص: 159

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله والحمد حقه وهو أهله والصلاة والسلام على المبعوث بالرسالة والمنعوت بختم النبوة محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وعلى آله الأئمة الميامين سيّما ابن عمه وصهره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وبعد فقد استجاز مني (بواسطة أخيه المعظم) الأخ العزيز الفاضل المحترم من ذرية النبي الخاتم، سلالة السادات الكرام الذي يرجى أن يصل إلى مقام قد وصل إليه والده المعظم وجدّه الأعظم فضيلة حجة الإسلام السيد محمد رضا الشيرازي دام توفيقه، نجل المرجع الديني آية اللّه الحاج السيد محمد الشيرازي سبط آية اللّه العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي القليل النظير في زمانه من جهة المبارزة مع طواغيت وقته قدس سرهما.

أن أجيز له ما أرويه بطرقي المتصلة إلى أرباب الكتب المعتبرة عند الشيعة الاثنى عشرية لا زالت مؤيَّدة بتأييداتهم (عليهم السلام) وحيث وجدته أهلاً لذلك - وإن كان ينبغي التأمل في كوني أهلا للإجازة -، فأحببت أن أجيب مسئوله ولم أجد مناصاً فأجزت له دامت توفيقاته أن يروى بطرقي إلى أساتدة هذا الفن ما أرويه عنهم.

ثم أعلم أن لي طرقاً ثلاثة اسميها تيمناً وتبركاً.

(أحدها) ما أجاز لي سيّدنا الأستاذ الأكبر سيد الفقهاء المجتهدين الذي لم نَرَ مثله فيمن تشرّفنا بمحضره أعني المرجع الديني الأكبر الأعظم سماحة آية اللّه العظمى والحجة الكبرى الحاج آقا حسين البروجردي المتوفى سنة 1380 ه- ق قدس اللّه نفسه الزكية - صباح يوم الاثنين خامس شهر شوال

ص: 160

سنة 1378 من الهجرة القمرية، بما هذا مفاده ومعناه ومضمونه:

إن جميع كتب أصحابنا في الفقه والحديث والتفسير واللغة وغيرها، أرويها عن الأستاذ ملا محمد كاظم الخراساني، عن السيد مهدي الحلّاوي الساكن بالحلة، القزويني الأصل الذي يعبر عنه بصاحب الكرامات عن عمه السيد محمد باقر الحلاوي الذي كتب في حقه صاحب المستدرك أنه رأى في المنام قبل الطاعون أميرَ المؤمنين (عليه السلام) وأخبره بمجيء الطاعون وأنه يختم به وكان كما قال (عليه السلام) وكان يقال في حقه صاحب الكرامات والآيات عن خاله السيد بحر العلوم صاحب الكرامات والآيات عن أستاده الأكبر آقا محمد باقر، عن أبيه محمد أكمل عن أستاده العلامة المجلسي بطرقه المذكورة في البحار إلى جميع أرباب التصانيف من العامة والخاصة.

فأجزت له أن يروي بهذا الطريق عني وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

لقد أجاز لي الأستاذ الأكبر سيد الفقهاء والمجتهدين آية اللّه البروجردي الطباطبائي شفاهاً بهذه المسطورات صباح يوم الإثنين خامس شهر شوال من شهور سنة 1378 الهجرية القمرية ثم قال أطال اللّه بقائه في اليوم التالي: لنا طرق أخرى (منها) ما أجاز لنا به المرحوم المغفور شيخ الشريعة الاصبهاني عن شيخه صاحب الجواهر والشيخ مرتضى الأنصاري وغيرهما بطرقهم إلى العلامة المجلسي (ومنها) إجازة لنا عن الشيخ محمد حسن الكاظمي (ومنها) إجازة لنا عن السيد أبي القاسم بطريقه المذكور في إجازاتنا (ومنها) إجازة لنا عن المرحوم آقا نجفي الاصبهاني وقد أجاز لنا في أوائل الشباب باصبهان ولكن لا نعلم الآن طريقه إلى المشايخ لبُعد

ص: 161

العهد وفقدان ما كتبه لنا بيده فأجزت لكم أن ترووه عني بجميع هذه الطرق التي ذكرتها لكم في الأول وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

(ثانيها) ما أجازه لنا خرّيت هذا الفن الذي كان قليل النظير، أو عديمَه في هذا الزمان بالنسبة إلى هذا الفن الخاص، شيخنا وأستادنا آية اللّه العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس سره) المتوفى سنة 1410 ه.ق وقد أجاز لي في صبيحة يوم الأربعاء لأربع خلون من شهر شوال سنة 1409 الهجرية القمرية، أن أروي عنه الآثار المعنعنة الموصولة المودَعة في جوامع الحديث من الكتب الأربعة وغيرها من الزبر المؤلفة في هذا الشأن بطرق متعددة كادت تبلغ مأة طريق نذكر للمستجيز المحترم أولها تيمناً بعين ألفاظه التي رقمها ودونها بعد استجازتي من محضره الشريف قال:

(منها) ما أرويه عن شيخي الأستاذ ومن إليه الاستناد وعليه الاعتماد قطب رحى الإجازة ومحور أهل الفضل في الرواية آية اللّه في الزمن الشريف الأجل أبي محمد السيد الحسن صدر الدين الموسوي الكاظميني المتوفى 1354 صاحب كتابي تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام وشرح وسائل الشريعة وغيرهما من الآثار الممتعة النافعة وهو يروي عن جماعة.

ومنهم أستاذه العلامة الفقيه الشيخ محمد حسين الكاظميني صاحب كتاب هداية الأنام في شرح شرايع الإسلام عن جماعة.

(منهم) أستاذه فقيه العصر الأخير الخريت في شعب الفقه وكبش كتيبة ردّ الفروع إلى الأصول مولانا الشيخ محمد حسن صاحب كتاب جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام المتوفى 1246 عن جماعة.

(منهم) أستاذه الفقيه العلامة السيد محمد جواد الحسيني العاملي النجفي

ص: 162

صاحب كتاب مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة عن جماعة.

(منهم) أستاذه الفقيه العلامة فقيه الإمامية مولانا الشيخ جعفر النجفي صاحب كتاب كشف الغطاء في شرح القواعد عن جماعة.

(منهم) شيخه أستاذ الأساتيذ محيي أساس التحقيق في هذه الأعصار الآقا محمد باقر الوحيد البهبهاني الحائري صاحب كتابي الفوائد القديمة والفوائد الجديدة عن جماعة.

(منهم) والده العلامة المولى محمد أكمل عن جماعة.

(منهم) العلامة المدقق المحقق المولى ميرزا محمد بن الحسن الشيرواني صاحب التعليقة على المعالم، عن جماعة.

(منهم) غوّاص قمقام الأخبار مستخرج كنوز الآثار فخر أرباب الحديث، ناطور أصحاب النقل والرواية، مولانا العلامة الآخوند ملا محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1111 صاحب كتاب بحار الأنوار بطرقه التي ذكرها في آخر الكتاب.

حيلولة وعن صاحب الجواهر، عن أستاذه الفقيه السيد محمد جواد الحسيني العاملي صاحب مفتاح الكرامة، عن شيخه العلامة المحقق، السيد مهدي الطباطبائي بحر العلوم، النجفي المتوفى 1212 صاحب الدرة المنظومة في الفقه، عن جماعة.

(منهم) فقيه الشيعة، العلامة الشيخ يوسف بن أحمد البحراني الدرازي الحائري صاحب كتاب الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة عن جماعة.

(منهم) شيخنا العلامة المولى محمد رفيع الجيلاني نزيل مشهد الإمام أبي الحسن علي الرضا (عليه السلام) عن جماعة.

ص: 163

(منهم) مولانا المجلسي ره بطرقه.

أقول: وله حشره اللّه مع أجداده الطارهين طرق أخرى كثيرة جداً كلّ منها مشتمل على المشايخ رضوان اللّه عليهم لا يسع هذا المختصر ذكرها.

(ثالثها) ما أجاز لي سماحة العلامة الفهامة صاحب المؤلفات المتنوعة الثمينة من الكلام والتفسير والفقه وغيرها سماحة آية اللّه الحاج السيد محمد الشيرازي دامت بركاته وإفاداته نجل العلامة آية اللّه العظمى السيد مهدي الشيرازي (قدس سره) فقد أجاز لي بما هذا لفظه:

لقد أجزت له أن يرويها (يعني الأحاديث المأثورة عن أهل البيت (عليه السلام) ) عن المشايخ العظام والحجج والأعلام عن المعصومين الأربعة عشر عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ومشايخي الذين أروي عنهم عدّة

فممن أروي عنه آية اللّه الوالد السيد الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) وهو يروي عن جماعة.

(منهم) آية اللّه الحاج السيد آقا حسين الطباطبائي القمي (قدس سره) وهو يروي عن جماعة.

(منهم) آية اللّه السيد مهدي القزويني قده، وهو يروى عن جماعة.

(منهم) آية اللّه الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (قدس سره) بطرقه المعروفة إلى المحدث الخبير، العلامة المجلسي (قدس سره) - بطرقه التي أوردها في مجلد الإجازات من الكتاب الشريف بحار الأنوار- .

كما أن ممن يروي عنه السيد الوالد قده.. المرحوم الحجة الشيخ عباس القمي وهو يروي عن جماعة (منهم) المحدث الخبير الحاج ميرزا حسين

ص: 164

الطبرسي النوري (قدس سره) بطرقه التي أوردها في خاتمة كتابه مستدرك الوسائل.

وممن أروي عنه الحجة الثبت الشيخ آقا بزرگ الطهراني (قدس سره) وهو يروي عن جماعة.

(منهم) المحدث الخبير الميرزا حسين النوري بطرقه المذكورة في خاتمة المستدرك الخ.

فللمستجيز المحترم أن يروي عني بطرق هذه المشايخ الثلاثة العظام وعليه الاحتياط فإنه سبيل النجاة كما هو دأب سائري السبيل الرشاد والسداد.

وكان ذلك في 3 شوال المكرم 1411 ه.ق

وأنا الأحقر علي پناه الاشتهاردي

ص: 165

كان فقيدنا الراحل مثالاً ونموذجاً للعالم الرباني، كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقسّم الناس إلى ثلاثة في حديثه لكميل بن زياد، إذ يقول (عليه السلام) : «الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق».(1)

والعالم الرباني هو الذي يعرف اللّه تعالى حق معرفته، وهو العامل بما يعرف، وهو الذي يكرّس حياته كلها من أجل اللّه، ومن أجل تطبيق شرع اللّه تعالى.

وهكذا كان السيد الفقيد (رحمه اللّه) نموذجاً حياً للعالم الرباني في مختلف أبعاد حياته، وفي سلوكياته وسيرته ومسيرته.

قدر الإنسان أن يموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(2) ولكن الموت ليس نهاية الإنسان، وإنما هو انتقال من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ ثم عالم الآخرة، حيث الجزاء والمصير الدائم؛ إما الجنة أو النار.

وإذا كان الإنسان العادي، أو العالم غير الرباني ينساه الناس سريعاً بعد موته، ويصبح كمئات الملايين من الناس ممن يأتون إلى الدنيا ثم يذهبون عنها بدون أن يكون لهم ذكر في سجل الخالدين؛ لكن العالم الرباني يبقى حيّاً بسيرته العطرة، وبأخلاقه الفاضلة، وبعلمه المشع إلى كل مكان.

وقد أَكّدَ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على هذه الحقيقة بقوله: «هلك خزان

ص: 166


1- الخصال 1: 186.
2- العنكبوت: 57.

الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة».(1)

وقال (عليه السلام) أيضاً: «العالم حي وإن كان ميتاً، والجاهل ميت وإن كان حياً».(2)

فالعالم الرباني حيّ بروحه، وحيّ بعلمه، وحيّ بسيرته. وعليه، فإنّ آية اللّه الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي لن يموت، وإن غاب عنا بجسده ستبقى روحه بيننا، سيبقى علمه الموسوعي يشعّ في كل أرجاء الدنيا، ستبقى محاضراته المتنوعة تُسْمَعُ في كل مكان، ستبقى سيرته الأخلاقية مدرسة ومنارة لكل الباحثين عن مكارم وفضائل الأخلاق.

وسيبقى العالم الرباني آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي مخلداً في ديوان العلماء الربانيين، ومسجلاً في سجلات المخلدين إلى يوم الدين. قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }.(3)

ص: 167


1- نهج البلاغة 4: 696.
2- غرر الحكم: الحديث 1125.
3- الأحزاب: 23.

السمات الشخصية للفقيد الراحل

اشارة

تشكلت شخصية الفقيد الراحل السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) من عدة أبعاد معنوية وروحية ونفسية، يمكننا تناولها من خلال العناوين التالية:

التقوى
اشارة

التقوى لغةً: مأخوذة من الوقاية وما يحمي به الإنسان نفسه.

والتقوى اصطلاحاً:

1) أن تجعل ما بينك وبين ما حرم اللّه حاجباً وحاجزاً.

2) أن تجعل بينك وبين عذاب اللّه وقاية بفعل الطاعة وترك المعصية.

نسب إلی الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تعريف التقوى أنّه قال: «هي الخوف من الجليل و العمل بالتنزيل و القناعة بالقليل و الاستعداد ليوم الرحيل».

وكلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة - بعد القرآن الكريم - وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتني به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟

يفترض الكثيرون: أن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!

ص: 168

ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، حرصاً على سلامة تقواهم!

ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب، والفعل والترك. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلاّ بعد النفي، وليست كلمة التوحيد (لا إله إلا اللَّه)، إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى اللَّه تعالى، ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان متلازمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، وكل إيمان يشتمل على كفر:

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى}(1).

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «... ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلاث حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات... ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار.. إلا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة»(2).

«... إن تقوى اللَّه حمت أولياء اللَّه محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم»(3).

ص: 169


1- البقرة: 256.
2- نهج البلاغه: الخطبة 16.
3- نهج البلاغه: الخطبة 114.

وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (عليه السلام) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من اللّه من لوازمه وآثاره.

«فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة»(1).

وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة، أثران مهمان:

أحدهما: البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة.

والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد.

امتيازات التقوى

الامتياز الاول: القرب من اللّه تعالى.

قال اللّه تعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً}(2)،

فالمتقون يحشرون الى اللّه على هيئة وفد رفيع المستوى ولا شك أن أولياء اللّه يترأسون ذلك الوفد الذي يحشر الى الرحمان.

الامتياز الثاني: خير الزاد.

قال اللّه تعالى {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ}(3)، إن التقوى هي أفضل أنواع الزاد الذي لابدّ منه لاجتياز عقبات السقر الطويل الذي ينتظرنا.

الامتياز الثالث: قبول الأعمال.

قال اللّه تعالى {وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ

ص: 170


1- نهج البلاغة: الخطبة 189.
2- مريم: 85.
3- البقرة: 197.

أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقينَ}(1)، وكلمة (إنما) هي أداة للحصر في اللغة العربية بمعنى أن قبول الاعمال منحصر بالتقوى فالعمل بلا تقوى لا قيمة له.

الامتياز الرابع: الرزق والمخرج.

قال اللّه تعالى {وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(2)، إن هذه الاية تبعث الامل في النفوس وتمنح القلب صفاءاً خاصّاً اذ تعد كل المتقين بحل مشاكلهم وتسهيل امورهم.

الامتياز الخامس: على مستوى الجماعة.

قال اللّه تعالى {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}(3)،

إن المراد من البركات في الاية الكريمة هو أنواع الخير التي ربما يبتلى الانسان بفقدها,كالأمن والرخاء والصحة والمال والأولاد, فالاية تريد ان تقول إنّ افتتاح أبواب البركات مسبَّب عن إيمان أهل القرى وتقواهم.

الامتياز السادس: نيل الكرامة عند اللّه.

قال اللّه تعالى {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ}(4)، فقد بين اللّه في هذه الاية أن لا تفاضل بين الناس الا بالتقوى.

ص: 171


1- المائدة: 27.
2- الطلاق: 2-3.
3- الأعراف: 96.
4- الحجرات: 13.
مخافة وتقوى
اشارة

في كتابه (العراق، وصايا وكلمات) يرى السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) التقوى بانها مفتاح سعادة المؤمن في الدنيا والاخرة، من خلال قوله: تمثل هذه الكلمة مفتاح سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة، وهي الكلمة الأخيرة في القرآن الكريم، وعلى ما ذكره بعض العلماء، فان آخر آية من القرآن الكريم هي قول اللّه تعالى:

{وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ}(1)، أي خافوا من ذلك اليوم، أو توقّوا من ذلك اليوم الذي نعود فيه جميعاً إلى اللّه سبحانه وتعالى فرادى، لا يوجد معنا مال ولا جاه ولا مقام ولا عشيرة، إذ يأتي الفرد إلى اللّه سبحانه وتعالى وحده، {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(2) نحن جئنا إلى هذه الدنيا فرادى ونقدم على اللّه سبحانه وتعالى فرادى، والشيء الذي ينفع في ذلك اليوم هو التقوى.

من سمات الأولياء الصالحين التي تبدو واضحة جليّة عليهم هي سيماء التُقى والورع التي تعلو محيّاهم، وتنبئ عن سريرتهم النقية. وهكذا كان شأن السيّد الرضا (رحمه اللّه) حيث كانت سيماء التقى والهُدى بادية عليه، ووجهه المشرق يشع بنور الولاية والهداية، ومنظره وسكونه وهدوئه يحكي الكثير عن جوهره ومعدنه، ويكفي لمن لا يعرفه أن ينظر إليه لدقائق ليعشق هذا الكيان الملائكي المبارك ويحبه.

ص: 172


1- البقرة: 281.
2- الأنعام: 94.

كان سيدنا الراحل (قدس سره) مثالاً للعالم الورع التقي الزاهد وقد انعكس هذا على سلوكياته الشخصية، فهو طاقة وقادة من المعنويات وكان يترك تأثيره على كل من يجالسه، فهو دائم الحديث عن الموت وعالم البرزخ ومعالم الآخرة، وهو فعلاً ينطبق عليه الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سُئِل عن قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : النظر في وجوه العلماء عبادة. قال (عليه السلام) : «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكّرك الآخرة، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة»(1).

وقد كان سيدنا الراحل (رحمه اللّه) دائماً ما يذكّرك بالآخرة ويرغّبك في لقاء اللّه تعالى ويحث على الاستعداد للموت وحمل الزاد للسفر إلى عالم الآخرة.

كان حديث السيد (رحمه اللّه) عن ذلك مؤثراً، والسر في ذلك أنه يفعل ما يقول، كان يخرج الكلام من قلبه وما خرج من القلب دخل إلى القلب.

كان السيد الراحل (رحمه اللّه) طاقة كبيرة من المعنويات ومنبعاً للروحيات ومنهلاً لكل من يبحث عن السمو والارتقاء إلى عالم اللا مادة، إنه صورة يجسد معالم العالم الرباني الذي يربطك باللّه عز وجل ويذكّرك بالآخرة ويزهّدك في الدنيا.

انطلق السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) من تساؤل يقول عنه في كتابه من مواعظ الامام الحسن (عليه السلام) : «سؤال شغل بال الإنسان ويشغلنا جميعاً، هو أنه: كيف ينبغي أن تكون علاقتنا مع هذه الدنيا التي نعيش فيها سبعين أو ثمانين أو مائة عام ثم نرحل عنها وينتهي كل شيء في هذه الدنيا، فما هي طبيعة

ص: 173


1- إحقاق الحق 12: 274، 19: 519.

علاقتنا معها؟».

ويجيب السيد محمد رضا (رحمه اللّه) عن هذا التساؤل بقوله: «يوجد تصوران حول هذا الموضوع بل أكثر:

التصور الأول:

إن علاقتنا مع هذه الدنيا كعلاقة الطائر مع القفص، فالقفص يعتبر سجناً لهذا الطائر، إذن نحن سجناء في هذه الدنيا والدنيا هي سجن المؤمن، فهذه الروح العظيمة مسجونة في هذا البدن وفي هذه الدنيا، يقول ذلك الرجل:

أنا عصفور وهذا قفصي *** كان ثوبي وقميصي زمناً

فنحن في الواقع سجناء هذا البدن العنصري وسجناء هذه المعادلات التي تحكم هذه الحياة، ويوم نموت نتحرر من هذا السجن وتلك المشاكل ونتحرر من المعادلات التي تحكمنا جميعاً.

التصور الثاني:

لا أراه مناقضاً للتصور الأول بل لعله مكمّل له، إن علاقة الإنسان مع هذه الحياة كعلاقة الجنين بأمه، فما هي علاقة الجنين بأمّه؟ قد يكون الرحم سجناً لهذا الجنين ولكن هذا لا ينفي وجود علاقة ثانية بين الجنين وبين الرحم وبين الجنين وأُمِّه، فالعلاقة إذن هي علاقة استكمال وتزوّد.

فالجنين مُقْدِم على مرحلة يحتاج فيها إلى مقوّمات ووسائل، وهو يمرّ بالمرحلة الجنينية، في تلك الظلمات الثلاث ظُلمة البطن وظُلمة الرحم وظُلمة المشيمة حيث يتكامل الجنين فيها، فأي اختلال أو نقص يتعرض له الجنين في هذه المرحلة سيؤثر على حياته القادمة كلّها، فإذا راعت الأُمّ حال الطفل الجنين سيعود عليه ذلك بالخير، حيث ترى التعليمات الشرعية

ص: 174

بأن هذه المراعاة قد تؤثر في سلامة الطفل أو حتى في جماله».

وكثيرا ما نسمع من الكثيرين - خصوصاً من أولئك الذين لم يعرفوه معرفةً شخصيةً وإنّما تعرفوا عليه من خلال شاشة التلفزيون ومحاضراته القيمة - إنهم إذا رأوا وجهه لم يتمكنوا إلاّ من محبته والانشداد إليه، وذلك أن جاذبية غريبة كانت تشد الجميع إليه، ورغم أن أسلوب السيّد الرضا (رحمه اللّه) في الحديث أسلوب هادئ ومتأنٍ إلاّ أنه كان يجتذب الملايين من الناس الذين عشقوه وعشقوا محاضراته. وبعد وفاة السيّد الرضا (رحمه اللّه) سمعنا الكثير من الناس أنه حينما كان السيّد الرضا (رحمه اللّه) يظهر على شاشة التلفزيون - بطلّته الهادئة الوديعة - كانوا يلتصقون بشاشات التلفزيون لا يفارقونها أبداً حتّى ينتهي السيّد الرضا (رحمه اللّه) من حديثه الشيّق الأخّاذ.

لقد كان السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) نسيجاً فريداً من نوعه لا يشابهه أحد من نظرائه وأشباهه، ففي أوج مرجعية والده آية اللّه العظمى الإمام السيّد محمّد الشيرازي (قدس سره) كان منصرفاً للعلم وتهذيب النفس والاشتغال بكمالاتها، ولم ينخرط في أي عمل إداري في مكتب والده كما هو شأن كثير من أبناء المراجع العظام، ولم يتسلم أي مسئولية تصرفه عن نهمه لطلب العلم، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «منهومان لا يشبعان: طالب دنيا و طالب علم».(1)

حقاً، كان السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) طالب علم لا يشبع، وليس لنهمه العلمي حدود، وهو لم ينظر يوماً لنفسه على اعتباره مجرد ابنٍ من أبناء

ص: 175


1- الكافي 1: 46.

المراجع، ولكنه عني بتربية نفسه تربية أخلاقية عالية قلّ نظيرها، وعلم يقيناً أن الحسب والنسب فحسب لايرفعان من أحد ولايعليان له شأناً مصغياً بذلك لقوله (عليه السلام) : «من قعد به عمله، لم ينهض به نسبه»(1).

ولم تكن همة السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) العالية وطموحه الجمّة لتأذن له بأن يتّكل في مجده على مجد الآباء والأجداد، كما أبى له دينه وورعه أن يعيش على حساب دين الآباء والأجداد وورعهم وسمعتهم، وهو يذكرني (والكلام للسيد حسن القزويني في كتابه: بين يدي الرضا) بذلك بقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) لطاووس اليماني: «دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق اللّه الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً»(2).

وفيما كانت الأموال والحقوق الشرعية تصل السيّد الفقيد (رحمه اللّه) وتمر من بين يديه ما كان ليمدّ يده إلى شيء منها على الإطلاق، وإنما كان يوصلها كاملة لمستحقيها وأصحابها الشرعيين، ولم تكن مصارف الفقيد الشخصية من الحقوق الشرعية حيث لم يكن يجيز لنفسه التصرف بشيء منها.

فماذا تفعل بالمال؟ يتساءل فقيدنا الرحل (رحمه اللّه) في كتابه (من مواعظ الامام الحسن (عليه السلام) ) ويجيب بقوله: «أنفِقهُ على الفقراء والمحتاجين في سبيل اللّه، لا أحد يدفن أموالك معك في قبرك ولا ترحل من هذه الدنيا إلاّ بكفنٍ واحد، إذن فأنت خازنٌ لغيرك، وعندما تُحمل الجنازة - كما في الروايات

ص: 176


1- شرح نهج البلاغة 18: 252.
2- بحار الأنوار 46: 82.

الواردة - سترفرف روح الميت فوقها وتنادي أهلها وذويها وتنصحهم ولكنهم لايسمعون. قال تعالى: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٌ}(1)... ولكننا الآن لا نرى ولا نبصر ذلك».

التعلق بالدنيا

يقول الامام الصادق (عليه السلام) : «وإذا لم يرد اللّه بعبد خيراً وكله إلى نفسه وكان صدره ضيّقاً حرجاً، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه اللّه العمل به، فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند اللّه من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحق الذى لم يعطه اللّه أن يعقد قلبه عليه ولم يعطه العمل به حجةً عليه يوم القيامة...»(2).

يمكن قراءة هذه الفقرة قراءة أولى مباشرة ليس فيها أي مجال من مجالات التاويل، وتكون منحصرة وقتها بالانسان الفرد في حياته بغضّ النظر عن مكانة هذا الفرد أو موقعه ضمن هذا المجتمع.

وقد تكون منحصرة إذا ذهبنا أبعد من ذلك في مجال التفسير المباشر في بعض رجال الدين الذين يعظون الناس وينصحوهم لكنهم في حياتهم يفارقون ماينصحون ويعظون الاخرين به.

ويمكن لمثل هذه القراءة أن تنسجم مع الكثير من الاحداث السابقة والراهنة والتي قد تقع في المستقبل، ومن ذلك ايضا اذا أوردنا مثل رجل

ص: 177


1- ق: 22.
2- الكافي 8: 408.

الدين الذي يعظ وينصح دون ايمان او اعتقاد بما يعظ به وينصح، وتكون الصورة التي أمامنا هي وعّاظ السلاطين الذين يوجدون دائماً وأبدا في حواشي السلطان وعلى أطراف أبوابه وعلى أعتاب نعمه.

كان الفقيد الراحل (رحمه اللّه) يرى أن جميع المواقف الخارجية للفرد تبتني على موقفه النفسي، فهو القاعدة التي يُبنى عليها الموقف الخارجي.

لذا ينبغي علينا أن نحاول الخروج من قوقعة الذات حيث تصبح المشاكل الصغيرة التي نعانيها كل شيء في حياتنا، أما المشاكل الكبيرة التي تمر بها الأمة ويمر بها المؤمنون فنمر عليها مروراً عابراً، وهذا الأمر يحتاج إلى تربية الذات.

فالعمل الذي لا يرتبط باللّه سبحانه وتعالى يكون محكوماً بالفناء.

زهد علوي...

للزهد - كما يبدو - معنيان:

الأول: أن لا يملكك شيء.

الثاني: أن لا تملك شيئاً إلا بقدر الضرورة.

والزهد مطلوب بمعنييه وخاصة من القادة والرؤساء.

وفي الحديث الشريف: «... كيلا يتبيّغ بالفقير فقره»(1).

وظاهرة الزهد واضحة جلية في حياة الفقيد الراحل (رحمه اللّه) .

لقد اختار الفقيد الكبير السيّد الرضا (رحمه اللّه) حياة البساطة والزهد، رغم أنه كان بإمكانه أن يعيش حياة ملؤها الراحة والرفاه، ولقد كان التمسك بسيرة

ص: 178


1- نهج البلاغة 2: 188.

جدّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في الزهد وإعافة الدنيا أحب إليه من التنعم بلذائذها وزبرجها. وحقاً لقد استجاب السيّد الرضا (رحمه اللّه) نداء أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حين قال: «ألا وإن لكل مأموم إمام يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقُرصيه، ألا وإنكم لاتقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(1).

ولقد رآه الكثيرون وهو يلبس ملابس بالية تكاد تكون مخرّقة حتّى أن بعض أصدقائه ومحبّيه عاتبه بل وبّخه على لبسه لمثل هذه الملابس، إلاّ أنه كان يقابل ذلك بالابتسام وعدم الاكتراث ويمضي لسبيله مصرّاً على أن لا يتأثّر بزينة الدنيا وزهوها وأن لا يأخذ من متاعها أكثر من ثوب بسيط يستر جسده. وما كان السيّد الرضا (رحمه اللّه) لهجاً بشيء من حطام الدنيا الذي يتعارك أو يختلف من أجله الناس أو حتّى بعض أهل العلم أو المحسوبين عليه!

في الكويت وحين اتخذها مستقراً له بعد هجرته القسرية من العراق، كان يسكن في بيت صغير متواضع جداً مع أثاث متواضع، إذ كانت غرفة الاستقبال عنده لا تحوي أكثر من بساط عادي يحيط بجوانبه بطانيات قديمة ذات نوعية رديئة، هذا في وقت كان الكثير من الأسر في الكويت آنذاك تعيش حياة البذخ والرفاه وبيوت الكويت مزينة بالأثاث الفاخر والرياش الناعم.

ومن الشواهد على بعد هذا السيّد الجليل (رحمه اللّه) عن مظاهر الدنيا وزينتها

ص: 179


1- نهج البلاغة 3: 70.

وإصراره على التزام البساطة في نمط الحياة هو حين خطبت كريمته وكان أهل الزوج يريدون إقامة حفل العرس، وكانوا يرغبون حينها بإقامة هذا الحفل في إحدى القاعات المخصّصة لمثل هذه المناسبات في قم المقدسة، وهو أمر طبيعي جداً ومتعارف عليه ولا ضير فيه على الإطلاق، إلاّ أن السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) وبأسلوب نبيل وخلق رفيع أصرّ على عدم إقامة حفل العرس في مثل هذه القاعات وعلى إقامته في إحدى الحسينيات أو في بيت أحد الأشخاص وذلك حرصاً علی مشاعر الفقراء ومواساة للمعوزين وذوي الحاجات.

وأما بالنسبة لمهر كريمته، فحين سأل الفقيد السيّد الرضا (رحمه اللّه) عما يقترحه ليكون مهراً لكريمته، أجاب على الفور: مهر السنّة، مهر السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهو عبارة عن خمسمائة درهم فضة!(1)(2)

أما فيما يرتبط بنظامه الغذائي، فلقد كان الزهد والبساطة واضحين في طعامه، إذ كان قليل الأكل، وكنّا نحضر أحياناً بعض الولائم التي تقام هنا وهناك، فكنت ألاحظ (والكلام للسيد حسن القزويني في كتابه بين يدي الرضا) أنه يكتفي بالنزر اليسير مع أنه كان يجهد جسده الشريف ببرنامج يومي مزدحم ومثقل بالنشاط والعطاء من خلال إلقاء المحاضرات العديدة واللقاءات اليومية المكثفة والكتابة والمطالعة المرهقة والتي تتطلب كلها نظاماً غذائياً مركزاً. وكثيرا ما استغرب المحيطون به دوماً كيف يتمكن هذا

ص: 180


1- ما يعادل كيلو و ربع من الفضة.
2- بين يدي الرضا، السيد حسن القزويني.

السيّد الجليل من إقامة أوده وهو لا يأكل إلاّ القليل من الطعام مع كلّ برنامجه الحافل بالعطاء والنشاط، وعمله الدءوب ومع قلّة نومه؟!

كان السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) يقتفي أثر جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) والذي يقول في كتابه لعامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري: «ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أوَ أن أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أوَ أن أكون كما قائل القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحنّ إلى القدِّ»(1)

تسليم كامل بقضاء اللّه وقدره

يروي أحد تلامذته: أذكر حين توفي والده المقدّس (رحمه اللّه) اتصلتُ به تلفونياً لأعزيه ففاجأني هدوء صوته ورباطة جأشه وعميق إيمانه وتسليمه إلى اللّه ورضاه بحكمه وقضائه، ولما خنقتني العبرة وبكيت أخذ هو يهدّئني ويسلّيني ويخفّف عنّي، وتكرر الأمر مرّة أخرى حين توفي حفيده الصغير - ووحيد ابنته الكبرى - في حادث مأساوي، اتصلت به وكلمته لأعزّيه فوجدته رابط الجأش، مستسلماً لقضاء اللّه وقدره، صابراً على بلاءه.

حول كل تلك الصفات مجتمعة نورد كلمة شقيقه سماحة آية اللّه السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) وهو يؤبّنه:

«كان السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) صادقاً مع ربه في دفاعه عن عترة

ص: 181


1- بحار الأنوار 33: 474.

نبيه المصطفى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان ذلك المدافع الصلب الذي لا تلين له عزيمة ولا يفتر في الدفاع عن العترة الهادية الطاهرة (عليهم السلام) ، كان (رحمه اللّه) يعيش مأساة قلة ناصري أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) في كل لحظة، وكان ذلك الذي يتقد غضباً وشموخاً عندما يتحدث وعندما يكتب عن العترة الطاهرة (عليهم الصلاة وأزكى السلام).

كان (رحمه اللّه) ذلك الرجل الذي جنّد حياته وطاقاته كلها في سبيل خدمة أهل البيت الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام) والدفاع عنهم والذود عن حريمهم والذب عن حياضهم، كان صادقا في عهده مع ربه في الدفاع عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) وكذلك فلنكن.

كان السيد الفقيد (رحمه اللّه) صادقاً مع ربه في عمله الصالح، قال يوماً: حبذا لو قيض اللّه سبحانه وتعالى جمعاً من المؤمنين يؤسسون هيئة، هذه الهيئة تحاول أن تؤسس أربعة عشر مؤسسة باسم أربعة عشر معصوم (عليهم السلام) ، كلمة قالها لكنها كانت تنبع من القلب، كان صادقاً فيها، وإذا انطلقت هيئة وخلال سنة واحدة تأسست أربعة عشر مؤسسة في العديد من البلاد باسم المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) .

كان صادقاً مع ربه في عمله، ربى (رحمه اللّه) أجيالاً من المؤمنين في أرجاء البسيطة، ربى الألوف المؤلفة من المؤمنين ومن الصالحين ومن الأبرار ومن العاملين، كان (رحمه اللّه) صادقاً مع ربه وصادقاً مع نفسه أيضاً، كان يهتم بتحضير خطب الجمعة وعلى حسب تعبير أحد الأعلام: إن سماحة السيد (رحمه اللّه) ليلة الجمعة كان يصاب بنوع من القلق ويقول: هل غداً أستطيع أن أؤدي رسالة الجمعة ورسالة المنبر الحسيني؟ كان يحضّر ثمان ساعات وربما عشر

ص: 182

ساعات.

لقد كان مصداقاً لقوله الذي يردده دائماً على اسماع طلابه: علينا أن نؤدي ما علينا من ديون لله تعالى وللناس.

كان ذلك الإنسان الصادق مع ربه، والصادق مع نفسه، والصادق مع مجتمعه، كان (رحمه اللّه) قمة في التواضع، الكل يعرفه، ولم يكن التواضع مظهراً له فقط بل كان في عمقه، أحيانا الإنسان يحصل على درجة من العلم أو من السلطة والشهرة والرياسة وغير ذلك وإذا به يشمخ بنفسه إلى عنان السماء وربما يخفي ذلك، ولكنك عندما كنت تجلس إليه والكثير شاهدوه عن قرب، ... الكثير منكم وربما جميعكم شاهدتموه عن قرب، عندما تجلس إليه كنت تحس بعمق التواضع فيه، لم يكن يتصنّع التواضع، كان صادقاً في تعامله مع الناس، كان صادقاً في تواضعه، كان صادقاً في تقواه.

أنا شخصيا سافرت معه أسفار عديدة، في السفر تتجلّى عادةً حقيقة الإنسان لأن الإنسان يجد نفسه في حلٍّ من كثير من القيود لكنه (رحمه اللّه) كان يتحرج إلى أبعد الحدود من أن يحضر في مجلس فيه غيبة لمؤمن، الكثير يعدّون الغيبة فاكهة مجلسهم - والعياذ باللّه - ولا يلتذون بمجلس إلا لو شفّع بغيبة أو نميمة أو تهمة، لكنه (رحمه اللّه) كان شديد التحذر من ذلك إلى درجة أنه عندما كان يضطر للحضور في بعض المجالس التي كان من المتوقع أن يغتاب شخص فيها، كان قبل ما يجلس يبدأ بطرح مسألة فقهية أو مسألة عقائدية أو مسألة ولائية أو غير ذلك، ويأخذ الجو كله بأحاديث النبي محمد وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ربّى الألوف على الإيمان والتقوى، وكان هو حصيلة تربية والده سيد

ص: 183

الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) والذي كان بدوره ثمرة تربية المرجع المقدس آية اللّه العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) حيث يقول عنه المرجع الأعلى في زمانه آية اللّه العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي (قدس سره) : إني عاشرت السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) سنين طوالا فلم أجده يرتكب مكروهاً قط، هذا المقدس (رحمه اللّه) ربّى ثلة من الأبناء الأفاضل والأولياء والعلماء الأبرار كان منهم الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) وكان منهم آية اللّه الشهيد السعيد المفكر الإسلامي السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) الذي هدى بجهده وسعيه وجهاده ما يزيد على المليوني إنسان في قضية يعرفها الكثيرون، وأسّس ما أسس في مشارق الأرض ومغاربها أيضاً، ومن ثمار تلك الدوحة المباركة ومدرسة السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) : آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) الذي يعرفه الكل بالعلم والورع والزهد والأخلاق الفاضلة وشدة الانقطاع لله ولأهل البيت الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام).

كان السيد محمد رضا (رحمه اللّه) صادقاً في ولائه لأهل البيت (عليهم السلام) ، كان صادقا في علمه، كان صادقا في عمله الصالح، كان صادقا في تقواه، وكان صادقا في جهاده مدى عمره، كان (رحمه اللّه) شوكة في أعين المستعمرين والظالمين وقد دفع ضريبة ذلك وأية ضريبة، والحديث في ذلك يترك لمجال آخر.

أنا شخصيا شاهدته ليل نهار، لم يكن يضيع الثانية الواحدة من عمره، بدون مبالغة أنا عاشرته فترة طويلة جداً سنين طويلة، ربما خمس وعشرين سنة، ما كان يضيع الثانية الواحدة، إما يقضيها بذكر اللّه سبحانه وتعالى أو بحديث تربوي أو بتأليف أو تدريس أو تشويق أو تحريض وما أشبه

ص: 184

ذلك...».

لقد امتلك السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) الوصفة السحرية لنجاح الانسان وهي العيش في اللحظة الراهنة وعدم الانشغال بالغد الذي لايعلم أحد بمجيئه من عدمه اليه، يقول السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) حول تلك الوصفة والتي طبقها على نفسه: «عليك باليوم ولا يشغلك الغد» وهذا من أسرار نجاح الإنسان.

ومع ذلك يظل الإنسان قلقاً، فلماذا تقلق بسبب الغد؟ ومن قال لك بأن الغد سوف يأتي إليك؟

وقد يقضي الإنسان نصف عمره بالأسف على ما فاته ونصفه الآخر قلقاً على ما يأتي ويخسر الحاضر، وماذا يستفيد من ذلك؟

فعش اللحظة التي أنت فيها... يقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) : «ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه».(1) من كتاب (من مواعظ الامام الحسن (عليه السلام) ).

وقد كان السيد (رحمه اللّه) نعم الأسوة لنا ونعم القدوة، فلنتعلم من مدرسته الزاخرة والعامرة، لنتعلم منه كيف نذُبّ عن حياض أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام، كيف نبذل الغالي والنفيس في سبيلهم.

كان آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) يمتلك المحبة في قلوب المؤمنين، إن الملايين من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها يحسون بحرقة ولوعة كبيرة بفقد هذا الرجل العظيم

ص: 185


1- بحار الأنوار 44: 139.
الاخلاق
المقدمة

منذ أن وطأت قدم الإنسان هذا الكوكب - وهو في سير تصاعدي في كافة مسارات الحياة مما استوجب الشيء الكثير في سبيل الارتقاء بهذا السير من حذف العوالق والشوائب التي ربما تعترض ذلك المسير - تربعت مدرستان على مسيرة السلوك الإنساني المعطر بالأخلاق.

المدرسة الأولى: هي مدرسة التنظير الصرف.

والمدرسة الثانية: هي مدرسة التطبيق الصرف.

وقد حاول أرباب هذه المدرسة وتلك المدرسة أن يجعلوا من حيثيات هذا السير والسلوك حاكماً تارةً وملغياً تارة أخرى لمعطيات المدرسة التي تقف في الطرف المقابل.

مدرسة التطبيق الأخلاقي والمحاكاة للقيم والمثل، وهذه المدرسة الإسلامية ركنت الى التنظير والتطبيق رغم أن البعض من الناس يقول أن الأخلاق أساساً سلوك فمادامت هي سلوك تعني فيما تعنيه التطبيق فلا حاجة إلى التنظير والتقنين، وهذا الكلام غير سليم وغير صحيح، الأخلاق بما تعنيه من قيمة وهذه القيمة لا يوصل إليها ما لم تكن مؤصلة والتأصيل لا يكون إلا بعد القراءة والتنظير، فكل ما تقدم في المشرب الأول هو عبارة عن مقدمة اجتمعت عناصرها، هيأت للانتقال إلى الجانب الثاني من المشهد ألا وهو حركة التطبيق والمحاكاة لما هو المستنتج سواء كان مستنتج ديني أو كان مستنتج مادي، بالنتيجة الفرضية تفرض نفسها على المقام.

الدين الإسلامي - كما قال علماؤنا القدماء - يتكون من ثلاثة أقسام

ص: 186

أساسية:

القسم الأول: وهو ما يتناول المسائل العقلية والفكرية، ويعبر عنه ب(أصول العقائد).

القسم الثاني: وهو ما يتناول الأمور النفسية، ويعبر عنه ب(الأخلاق).

القسم الثالث: وهو ما يتعلق بالبدن والأفعال، ويعبر عنه ب(الأحكام).

فالقسم الأخلاقي يعتبر قسماً مهماً جداً. فقد ورد - في القرآن الكريم - سلسلة أوامر وتوصيات أخلاقية.

ماهو الخلق؟

هو مجموعة من القيم والقواعد الواجب امتثالها من قبل الفرد في سلوكه وعلاقاته مع الآخر، وبين التخلق والتحرر فاصل ومائز دلالي وفعلي لا سبيل إلى إنكارهما.

قد يقال دفاعا عن تلازم الحرية والأخلاق، إن الكائن الإنساني ما كان كائناً أخلاقياً إلا لكونه حرّاً، فالأخلاق فضلاً عن طابعها الإلزامي هي أيضاً التزام نابع عن القدرة على الامتثال للقيمة الخلقية أو خرقها.

ولا يمكن أن نحكم على سلوكٍ ما بكونه امتثالاً للقيمة أو خرقاً لها إلا إذا كان صادراً عن ذات مختارة لا ملزمة. ولهذا فالسلوك الحيواني لا يندرج ضمن السلوك الأخلاقي؛ لأنه صادر عن فعل غريزي.

وفي الحديث: «ليس شيء في الميزان أَثْقلَ من حُسن الخُلُق»(1)؛ الخُلُقُ، بضم اللام وسكونها: وهو الدِّين والطبْع والسجية، وحقيقته أَنه صورة

ص: 187


1- بحار الأنوار 68: 373.

الإِنسان الباطنة، وأَوصافها ومعانيها المختصةُ بِها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأَوصافها ومعانيها، ولهما أَوصاف حسَنة وقبيحة، والثوابُ والعقاب يتعلّقان بأَوصاف الصورة الباطنة أَكثر مما يتعلقان بأَوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأَحاديث في مَدح حُسن الخلق في غير موضع، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أَكثر ما يُدخل الناسَ الجنَّةَ تقوى اللّه و حُسْنُ الخلق»(1)، وقولِه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ أَكملُ المؤْمنين إِيماناً أَحْسنُهم خلُقاً»(2)، وقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إِنَّ العبد ليُدرك بحُسن خُلقه درجةَ الصائم القائم»(3)، وقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّما بُعِثت لأُتَمِّم مَكارِم الأَخلاق»(4)؛ وكذلك جاءت في ذمّ سوء الخلق أَيضاً أَحاديث كثيرة.

الأخلاق جوهر الدين

حقيقة الإسلام وواقع الدين الإسلامي هو حقيقة الأخلاق الإنسانية، وواقع الآداب الاجتماعية الرفيعة، أنهما توأمان لا ينفكان بل هما حقيقة واحدة لمعنى واحد، اذ لم يشذّ شيء ممّا حبّذته الاخلاق عمّا أمر به الاسلام، ولم يفلت أمر حثّت عليه الآداب ممّا حثّ عليه الاسلام وندب اليه، فكل احكام الاسلام وتعاليمه من عبادات ومعاملات وغير ذلك مبنية على أسس أخلاقية رفيعة، وقواعد آدابية رصينة، لذا أمر الاسلام بواجبات، ونهى عن محرمات، وحذر من مساوئ الاخلاق، وندب الى الفضائل

ص: 188


1- بحار الأنوار 68: 373.
2- الكافي 2: 99.
3- بحار الأنوار 68: 373.
4- بحار الأنوار 68: 373؛ مكارم الأخلاق: 9.

والآداب.(1)

التصور الاسلامي للاخلاق لا ينفصل عن واقع الانسان في (المبدأ والغاية والهدف).

والاخلاق الاسلامية هي جميع محامد الأخلاق التي يجب أن تقوم على أُصول وقواعد وفضائل وآداب مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالعقيدة والشريعة الإسلامية، وهي في جوهر الدين وروحه.

ويمكن تقسيم الاخلاق الاسلامية الى:

الأخلاق الاجتماعيّة، الأخلاق الفردية، الاخلاق العبادية.

أو هي حسب تقسيم الفلاسفة الذين اهتموا بدراسة الاخلاق:

الأخلاق النظرية وهي التي ترسم المثل الأعلى للسلوك الإنساني كما يجب أن يكون.

والأخلاق العملية وهي جملة القواعد التي تقوم عليها الإنسانية لتكون صالحة.

والحكمة الأخلاقية وتعني تلافي النظر بالعمل، فلا يوجد عند الحكيم نظر دون عمل أو عمل بدون نظر.

لا يتقوّم الاسلام والدين الا بوجود الاخلاق التي هي لبّه وجوهره، وهذا التقويم لا يتمّ الا عن طريق المعرفة (معرفة اللّه والقيام له ونكران الذات التي هي أساس كل فضيلة)، كما يشير إليه سماحة آية اللّه العظمی السيد صادق الشيرازي في بعض كتبه.

ص: 189


1- من عبق المرجعية: 47.

وتتصف أخلاق الإسلام بالشمول، فهي تشمل كافة جوانب حياة الإنسان، فصاحب الخلق ينسجم في عبادته مع ربه وفي تعامله مع نفسه ومع غيره فلا يظلم نفسه ولا يجور أو يتعدى على غيره بل يعامل الناس جميعاً بالصدق والإنصاف منطلقاً من القيم والمبادئ التي أمره اللّه بها، ولا فرق في ذلك بين تعامله مع من يحب أو مع من يكره، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1)، فمن العدل أن يتحلّى الإنسان بالإنصاف في حكمه على أقوال الناس أو أفعالهم، سواء صدرت هذه الأعمال ممن يحب أو ممن يكره، وينبغي على المسلم كذلك أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فيقبل من تصرفاتهم وأقوالهم ما يقبل من نفسه ولا يبرر لنفسه من المواقف والأفعال مالا يمكنه أن يبرر لغيره. وتتصف أخلاق الإسلام كذلك بالواقعية، فاللّه تعالى لم يكلفنا بأكثر مما نطيق، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها}(2).

وهناك صلة وثيقة بين إيمان الإنسان واعتقاده وبين سلوكه وأخلاقه، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ}(3). فالعبادات ينبغي أن يكون لها آثارها الأخلاقية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والزكاة تطهرهم وتزكيهم والحج لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال. والأخلاق شرط لصحة المعاملات، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا

ص: 190


1- المائدة: 8.
2- البقرة: 286.
3- التوبة: 119.

تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}(1).

الفرق بين الأخلاق والعلوم الأخرى
1- الأخلاق بحاجة إلى مثابرة لبلوغ أعلى المراتب:

لا شك أن مَن يتخصّص في علم واحد ويستفرغ له كل وسعه وجهده يبلغ أعلى الدرجات فيه ويتفوق على مَن كان ذلك العلم أحد اهتماماته، والأخلاق تحتاج إلى التفرّغ والجدّ والمثابرة مِن أجل بلوغ المراتب العالية فيها وذلك لأسباب منها: أنّ المستوى الذي يبلغه الأخلاقي - وطالب العلم الديني خاصة - يؤثر في أداء دوره في المجتمع وتشجيع الناس نحو الفضائل الأخلاقية والاجتناب عن رذائل الأخلاق. فقول طالب العلم وفعله وسيرته وتاريخه يشجع الناس على الفضيلة إذا كان هو مِن أهل الفضيلة، ولكن مجرد عدم كونه كذلك يدفع الآخرين نحو الرذيلة.

يقول الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العاملي (966ه) في كتابه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) وهو كتاب حريّ بطالب العلم الديني أن يطالعه، لأنّه يؤثر كثيراً في تغيير سلوكه في الحياة إلى درجة كبيرة. يقول (رحمه اللّه) : (واعلم أنّ المتلبس بالعلم) أي طالب العلم الديني (منظور إليه) أي ينظر إليه الناس (ومتأسى فعله وقوله وهيأته) أي يُتخذ أسوة وقدوة (فإذا حسن سمعته وصلحت أحواله وتواضعت نفسه وأخلص لله تعالى عمله انتقلت أوصافه إلى غيره مِن الرعية وفشا الخير فيهم وانتظمت أحوالهم. ومتى لم يكن كذلك) أي لم يلتزم بالفضائل بل اكتفى بالواجبات

ص: 191


1- النساء: 29.

والمحرمات (كان الناس دونه في المرتبة التي هو عليها) أي أنّ الناس لا يلتزمون حينئذٍ حتى بالواجبات والمحرمات (فكان مع فساد نفسه منشأً لفساد النوع وخلله) خلافاً لعامة الناس (وناهيك بذلك ذنباً وطرداً عن الحق وبعداً). ثم يقول بعد ذلك: (إنّ عامة الناس أبداً) أي دائماً (دون المتلبس بالعلم بمرتبة) أي أنّهم أدنى منه بدرجة (فإذا كان - طالب العلم - ورعاً تقياً صالحاً) أي ملتزماً بالفضائل فوق التزامه بالواجبات والمحرمات (تلبست العامة بالمباحات) أي لا ترتكب المحرمات ولا تترك الواجبات (وإذا اشتغل بالمباح) أي اكتفى بفعل الواجبات والإنتهاء عن المحرمات (تلبست العامة بالشبهات) فهي كما قلناه دونه بدرجة، وهكذا: (فإن دخل في الشبهات تعلق العامي بالحرام، فإن تناول الحرام كفَر العامي).

أي لا ينبغي لطالب العلم أن يفعل كل مكروه بدعوى أنّ كل مكروه جائز ولا يترك المستحبات بدعوى أنّ كل مستحب جائز الترك؛ لأنّ ذلك سيكون سبباً في تساهل العامي حتى في الواجبات والمحرمات أما إذا عمل طالب العلم بالفضائل أي ترك المكروهات وأتى بالمستحبات ولم يتوقف عند مستوى التقيّد بالواجبات والمحرمات فهذا يعني أن العامة سيكونوا عدولاً أي ملتزمين بالحدود الشرعية بأجمعها.

2- الرقيّ في الأخلاق أصعب منه في العلوم الأخرى:

الفرق الآخر بين الأخلاق والعلوم الأخرى يكمن في صعوبته قياساً لها، فهو أصعب حتى مِن الفقه الذي يُعد أصعب العلوم وأوسعها مسائلاً. وتكمن صعوبة الفقه في أن مسائله أوسع وأكثر عدداً مِن مسائل العلوم الأخرى كالنحو والأصول. ولذلك ترى الفقيه يتفرغ خمسين سنة للفقه ومع ذلك

ص: 192

عندما تسأله عن بعض المسائل يقول لك يلزم أن أراجع. ونادراً ما تجد فقيهاً مجتهداً بالفعل في جميع مسائل الفقه - أي يملك قوة استنباط فعلية - بحيث عندما تُعرض عليه أية مسألة يتمكّن أن يخرجها حالاً.

فما الذي جعل الفقه كذلك؟

إنّ مِن جملة ما جعل بلوغ مرتبة الإجتهاد الفقهي صعب المنال كون النتيجة فيه لا تحصل بسرعة قياساً للفنون الأخرى.

فإنّ الدراسة والتفرغ والتركيز لمدة سنتين قد تكفي لأن يصبح الشخص المستعد خطيباً يرتقي المنبر ويستمع إليه الألوف مِن الناس، بل يمكن أن تحفظ آيات مِن القرآن الكريم وبعض الأحاديث الشريفة وقصيدة وبعض القصص لترتّب مجلساً ثم ترتقي المنبر، المهم أنّ الشخص قد يحصل على ثمرة أتعابه بعد مرور سنتين فقط.

ولكن الارتقاء في مراقي الأخلاق والفضائل أصعب مِن الإجتهاد في الفقه؛ لأنّ ثمرته ونتيجته أبعد منالاً وأعسر حصولاً مِن الفقه فلا يلمس المرء نتيجة سعيه إلاّ عندما يصبح ذا قلب سليم وتصبح الأخلاق والفضائل ملكات لديه، عندها يشعر بلذة الأخلاق والوصول إلى مراتبها العالية، وعندها يعرف قيمة ترويض النفس ومخالفة الشهوات ولا تصبح الأخلاق ملكة إلاّ بحب الخير في كل أبعاده فإذا حصل على الملكة شعر باللذة وبدأ يلمس نتيجة أتعابه في مجال الأخلاق والفضائل. فمن يبلغ الهدف الذي كان يسعى إليه يحصل على لذة.

وهذا الأمر لا يحصل في مجال الأخلاق بنحو سريع بل هو شيء بعيد بطيء؛ لذلك أصبح الارتقاء في مدارج الأخلاق صعباً بل أصعب مِن

ص: 193

الإجتهاد وخير دليل على ذلك الواقع الخارجي فإنّ عدد مَن بلغوا مرتبة الإنسان الكامل أندر مِن عدد المجتهدين، فإنّ عمق المسائل الأخلاقية وعدم الوصول السريع إلى النتيجة يجعل المرء يشعر وكأنه غارق في المجهول ومِن هنا كانت الأخلاق - كالإجتهاد في الفقه - أمراً صعباً وروّاده قليلون، كما أنّ أيّ طالب علم يتمنى أن يصبح فقيهاً ولكن صعوبة الطريق وطوله حتى الوصول إلى النتيجة تصرفهم عن المواصلة لأنّ الإنسان بطبعه يتعجّل النتائج ولا نقصد بصعوبة الأخلاق صعوبة تلقي دروس في الأخلاق كمطالعة كتاب جامع السعادات أو إلقاء المحاضرات الأخلاقية أو الإستماع إليها، فهذه تمثّل علم الأخلاق. إنّما المطلوب مِن الأخلاق هو العمل.

3- غياب التشجيع في مجال الأخلاق:

مِن الفوارق الأخرى بين الأخلاق والعلوم الأخرى أنّ الإنسان جُبل على حبّ التشجيع وبه يتقدم في كل مجال مِن مجالات الحياة، ولكن مَن يسلك طريق الرقيّ في الأخلاق عليه أن لا يترقب التشجيع في هذا المجال بل ليتوقع التثبيط أيضاً.

يروى أنّ أحد مراجع التقليد كان مبتلى بشخص يشتمه ويسيء الأدب والكلام معه حتى في المجالس، ويبدو أنّه كان مِن حاشيته فاتفق أن رأى المرجع في يوم ما وحيداً فانتهز الفرصة وشكا له الحاجة إلى المال، ولم يبخل عليه المرجع بل أغدق عليه ولم يردّه خائباً ولكنّ العجيب أنّ هذا الشخص لم يتراجع عن سبّ ذلك المرجع وانتقاصه وأخذ يقول: إنّ فلاناً أعطاني المال لقطع لساني وكمّ فمي ولم يكن إعطاؤه لله وإنّ فمي لا يغلقه المال! وعندما بلغ الأمر بعض أصحاب ذلك المرجع تأثروا كثيراً وعقدوا

ص: 194

اجتماعاً ثم انتدبوا أجرأهم ليكلّم المرجع وبالفعل توجه الشخص إلى المرجع وسأله إن كان قد أعطى فلاناً مالاً؟!

فقال المرجع: ولِمَ؟ وما الذي حدث؟

عندها قال الشخص: أتعلمون أنّه كان يشتمكم؟

قال: نعم.

قال: وتدرون أنّه لا يزال يشتمكم ويدّعي أنكم لم تعطوه المال مِن أجل اللّه بل ثمناً لسكوته أو رياءً؟

وأضاف المعترض: هب أنّا لا نقول إنّك عالم ديني ومرجع تقليد، ولكنا نقول إنك رجل مؤمن؛ أفيصحّ تشجيع مَن يسبّ مؤمناً؟ ألا يشكل إعطاؤكم المال لذلك الشخص تشجيعاً له؟! أليس في عملك تربية له على إهانة العلماء وتشجيعاً للآخرين فتستمر هذه السنة حتى بعد وفاتكم؟ و... وهنا رفع المرجع رأسه ولم يزد أن قال: أنا أسألك الآن، هلْ هذا الرجل أعزب أمْ متزوج؟

أجاب: متزوج وله أولاد.

قال المرجع: وكيف وضعه المادي؛ فقير أمْ غني؟

قال: بل فقير، لا يملك داراً، بل هو مستأجر لها.

فقال المرجع: لنفرض أنه ارتكب حراماً إذ شتمني ولكن ما ذنب زوجته وأطفاله إذا كان سيعود إليهم في المساء ولا مال عنده يقوتهم به؟؟!

4- لابد لطالب العلم أن يحذر الشبهات:

أما الفرق الآخر بين الأخلاق وغيره - إضافة لما مرّ - فهو مزاحمة الشبهات. فإن الناس المثبطين والهوى والشيطان والشهوات تجعل الفضيلة

ص: 195

مشتبهة بالرذيلة فمثلاً الصبر فضيلة ولكن الذل رذيلة. فإذا عزم المرء على الصبر في موقف ما قال له المحيطون به: إنّ الصبر جميل ولكن هذا ليس موضعه بل هذا ذل منك ويذكرون له الحديث الشريف: «إنّ اللّه عز وجل فوَّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوِّض إليه أن يذل نفسه»(1) وهذا هو الفخ الذي هلك فيه خلق كثير.

قيل إنّ أحد العلماء كان يقول: «أنا أغفر لكل مَن يستغيبني إلاّ الذي يفسّقني ويستغيبني فإني لا أغفر له»، فبعض الناس لو قلت له: لماذا تستغيب؟ يجيبك بالقول: (ماذا نفعل وقد اعتدنا على ذلك) ثم يستغفر اللّه تعالى. ولكن بعضاً آخر يدعي أن هذا مِن مستثنيات الغيبة مبرراً قوله أن الشخص الذي يغتابه إنما هو رجل فاسق متجاهر بالفسق وأنه مِن الذين تجب غيبتهم ليحذر الناس منهم ثم يصوّر لك الرجل الذي يغتابه مبتدعاً ويأتيك بحديث «باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا مِن بدعهم...»(2) ليزين لك غيبته.

الاخلاق الجميلة... أو قارورة عسل مصفّى

كان آية اللّه الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) يتميز بأخلاق عالية جداً بل هو مدرسة أخلاقية متكاملة، فهو حلو المعشر، طيب النفس، يحترم جميع الناس، الابتسامة المشرقة بالإيمان لا تفارقه لحظة، الإحسان إلى الآخرين، التواضع من غير اصطناع، إكرام الضيف أيّما إكرام.

ص: 196


1- الكافي 5: 63-64.
2- الكافي 2: 375.

هذه ليست مجرد كلمات عن أخلاقياته وآدابه وإنما هي سمات التمسها تلامذته من خلال معرفتهم به ومعاشرتهم له وجلوسهم في محضر دروسه وبحوثه بل وعرفها كل من عرفه، لذلك أصبح محبوباً عند كل من عاشره أو جالسه أو سمع عنه.

وقد ذكر بعضهم في هذا البعد الأخلاقي بعض القصص عن أخلاقياته الفاضلة، فعن إكرام الضيف كان يصر على كل شخص أو مجموعة من الزوار أن يتناولوا وجبة من الغذاء على مأدبته وكل الزوار يعرفون ذلك. أتذكر مرة ذهبنا إلى الكويت في عقد التسعينيات عندما كان هناك وأصرَّ علينا أن نتناول وجبة الغذاء عنده، وكنا أربعة أشخاص وطلبنا منه أن يعذرنا من ذلك خوفاً من مزاحمته. لكن كان يقول: هذه رحمة!

وعندما حضرنا لتناول وجبة الغذاء كان أحد الأشخاص يساعده، إلا أنه بنفسه الشريفة كان يقدم لنا الطعام ويناولنا الأكل ويحثنا على الأكل بكل أريحيّة وترابيّة!

ومن صور تقديره للزوار والضيوف أيضاً إصراره على المجيء لزيارتهم والاحتفاء بهم، وكنا عندما نذهب لمدينة قم المقدسة يصرّ على المجيء إلينا فنقول له: سيدنا نحن نأتي إليك.

إلا أنه يصرّ على المجيء إلينا ويقول: لكل قادم كرامة ! أنا أزوركم، ويأتي في الموعد المحدد بالضبط.

أما عن تواضعه فالجميع يتحدث عن ذلك، دعوني أحدثكم عن صورة من تواضعه العلمي، كنت عندما أزوره أهديه آخر إصداراتي من الكتب وأقول له في كل مرة: سيدنا أنتظر أية ملاحظات أو نقد أو توجيه لما

ص: 197

أكتب.

فيقول لي: أنا أستفيد مما تكتب شيخنا !!

إنه التواضع العلمي الرفيع، حيث يشعرك بمكانتك وأهميتك وعلمك، وكأنه التلميذ و أنت الأستاذ مع العلم أنه الأستاذ وأنا التلميذ!

ومن مناقبياته الأخلاقية أيضاً: أنه يرفض الكلام ضد أي شخص أو جهة حتى وإن كان الطرف الآخر ضده. وقد يحاول البعض أحياناً جرّه إلى الحديث عن فلان أو فلان لكنه يرفض ذلك ويغيّر الحديث إلى تهذيب النفس وتعديل السلوك!

وكان حليماً واسع الصدر،كان يقف لفترات طويلة مع الزوار، فهذا يطلب منه أن يكتب له دعاءاً بخط يده وآخر يطلب منه أن يدعو لمريض وثالث يطلب منه نصيحة... وقس على ذلك بقية الأمثلة. ويبقى مستجيباً لرغبات الناس من دون تبرّم أو ضيق، إنه العالم الحليم، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «إن للعالم ثلاث علامات: العلم، والحلم، والصمت. وللمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة»(1).

إنه رفيق في قوله وعمله وسلوكه مع الناس، كل الناس، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «رأس العلم الرفق، وآفته الخرق»(2).

كانت سيرته الأخلاقية هي نفس ما يدعو إليه في محاضراته، كانت

ص: 198


1- الكافي 1: 37.
2- بحار الأنوار 2: 58.

أفعاله وسيرته تتطابق مع أقواله ومحاضراته، كان يفعل ما يقول وكان مصداقاً عملياً لأخلاق أهل البيت (عليهم السلام) وسيرتهم العطرة.

ولا عجب بعد ذلك أنه يأسرك بأخلاقه الفاضلة ومناقبياته الراقية، فيصبح محبوباً لديك وتكون مشتاقاً لرؤيته كلما سنحت لك الفرصة للقائه، فالنفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.

الخلق الرفيع

ويروي أحد تلامذته جانباً آخر من أخلاق السيد الفقيد (رحمه اللّه) الجميلة:

وأما بالنسبة لأساتذة الحوزة، فكنت إذا استشرته عن أحدهم وكان يراه أهلاً أن أتتلمذ على يده كان يخبرني بذلك صراحة، وإن كان لا يرى ذلك فكان يتجنّب إخباري بذلك صراحة لحرصه الشديد على عدم التصريح بكلام قد تشوبه الغيبة أو الانتقاص لأحد المؤمنين.

فكان يعبّر عن رأيه بالقول مثلاً: «البعض لديه بيان قد لا يكون سهلاً» أو «البعض لم يمنّ اللّه عليه بحسن البيان رغم غزارة علمه وفضله» أو «إنّ بعض المدرسين قد يمضي زماناً طويلاً قبل أن تتعوّد على أسلوبه» وغير ذلك من العبارات التي كان يجهد أن لا تحتوي تجريحاً أو انتقاصاً لأحد. وهذه كانت دوماً صفة ملازمة للسيّد الفقيد (رحمه اللّه) حيث كان يحرص أشد الحرص على مراعاة مشاعر الآخرين، وعدم توجيه أي نوع من الكلام الذي يشمّ منه رائحة الانتقاص للآخرين.

لقد عاشرتُ هذا الفقيد الكبير ما يقرب من خمسة وثلاثين سنة وأقسم أني لم أر منه سيئة قط، ولا رأيته يمارس مكروهاً قط، ناهيك عن المعصية، كما أني لم أره عابساً يوماً على الإطلاق حتى في أيام الحزن والساعات

ص: 199

العصيبة.

وأشهد أنني لم أر مجموعة من عناصر الأخلاق الفاضلة وصفات الكمال كالتُقى والزهد والخلُق الرفيع والعلم والحلم والتواضع والخوف من اللّه والاحتياط الشديد كلها مجتمعة في شخص واحد كما اجتمعت في شخص هذا الفقيد الكبير.

تواضع يستحي منه التواضع

أما التواضع فلا أظن أن أحداً كان يجاريه فيه، فلقد كان التواضع سمته التي لم تنفك عنه إطلاقاً، حتى إنك إذا رأيت تواضعه ذكّرك بتواضع جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يمر في السوق ولا يعرفه البعض، ويساعد المرأة الأرملة بأن يحمل عنها كوز الماء الذي كان قد أثقل كاهلها.

لقد كان من دأب السيّد الرضا (رحمه اللّه) أنه إذا دخل مجلساً يجلس عند الباب، وحتّى حين يصرّ عليه الحاضرون بالانتقال والجلوس في صدر المجلس كان يصر هو على الجلوس عند الباب تواضعاً.

وأتذكّر أنّني حين زرت الكويت في العام 1995م وكان الفقيد السيّد الرضا (رحمه اللّه) يؤمّ المصلين في مسجد بنيد القار وكنت أحياناً أذهب للتشرف بالصلاة خلفه، كنت ألاحظ أنه وحين دخوله المسجد وتوجّهه نحو المحراب يتوقف عند أهل العلم ممن وقفوا في الصف الأول للصلاة خلفه، يتوقف عندهم ويطلب منهم واحداً واحداً - وأنا منهم - وبإصرار شديد أن يتقدّم أحدهم لإمامة الصلاة دونه، فكان تواضعه الشديد هذا وأدبه الجمّ يؤثّران في نفسي كثيراً حتّى أنني كنت حين تصل النوبة إليّ ويلتمسني أن أؤمّ الصلاة أتوجّه إليه بالرجاء أن لا يطلب مني ولا من غيري ذلك، لأن

ص: 200

الناس لم يأتوا ليصلّوا خلفي أو خلف أحد غيره وإنّما جاءوا ليصلّوا خلفه فحسب، ثمّ كنت أقول له: سيّدنا كيف يتجرّأ تلميذ مثلي على التقدّم ليؤمّ الصلاة بأستاذه، أليس هذا هو الجحود والوقاحة بعينها؟!

لطيف كالنسمة

لقد كان اللطف والخلُق النبيل جبلّة في السيّد الرضا (رحمه اللّه) وطبيعة متأصلة في شخصيته الملائكية، لا يتكلفها. فحتى في أحلك الظروف والساعات العصيبة كان وجهه المبارك يشع دائماً بابتسامة نبيلة ترتسم على ثغره المبارك، تخفي في طياتها مسحة من الحزن الذي يلازم أولياء اللّه وعباده المخلصين جرّاء شوقهم إلى لقاء المعبود وعزوفهم عن الدنيا وزبرجها المزيف.

وكتب سماحة آية اللّه السيد مرتضى القزويني عن بعض اخلاق الفقيد الراحل:

كان الفقيد مضافاً إلى مقامه العلمي والفقهي حائزاً على مكارم الأخلاق من التواضع والأدب وحسن الخلق والإخلاص لله عزوجل.

كانت له حلقة يُدرّس فيها بحث الخارج مما يدل على أنه بلغ مرتبة الاجتهاد، وتلاميذه الذين حضروا بحثه يشهدون له بقوة الاستدلال والتفوق على الأقران.

كان (رحمه اللّه) زاهداً في الحياة، قليل الأكل، قليل النوم، قليل الكلام إلا في ما فيه رضا اللّه عزوجل، لم يجمع مالاً ولم يضع حجراً على حجر.

كان من المتهجدين في الليل والمستغفرين بالأسحار، البكّائين من خوف اللّه وفي مصائب آل الرسول الاطهار (عليهم السلام) وإن فضائله أكثر من أن

ص: 201

يحصيها هذا المختصر ولقد خسر العالم الإسلامي بموته خسارة كبرى لا تعوض، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا باللّه.

وينقل أحد تلامذته:

ورغم أن السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) كان شديد التمسك بأهداب التقوى ومخافة اللّه إلاّ أنه كان يأنس للفكاهة البريئة غير المبتذلة ويضحك لها ضحكاً وقوراً حيياً من غير قهقهة عالية. وكنت حين أراه ضاحكاً ينشرح لذلك صدري ويثلج له فؤادي لما أرى فيه من وقار مشفوعاً بإنسانية بريئة وخلق دمث بعيدة كل البعد عن جمود المتنطعين الذين لا يعرفون للالتزام الديني معنى سوى العبوس والجفاف وتجهّم الوجه والخشونة في التعامل ظناً منهم أن الخشونة في اللّه تعني الخشونة مع الناس.

لقد كان السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) بحق تجسيداً حياً للخلق القرآني والمناقب الإسلامية إذ كان يترجم أخلاقيات الإسلام إلى واقع عاشه طوال حياته ومارس الإسلام ممارسة عمقت من أثره في النفوس وعظّمت صورته لدى القلوب.

كان (رحمه اللّه) يجهد أن لا يكلف أحداً بحاجاته، التي كان يقوم بأدائها بنفسه، فكنت أشهده - وقد جمعتنا مائدة واحدة - أن يقوم منها لأخذ شيء أو جلب غرض إليها، وكان بوسعه أن يكلف أياً من الحاضرين بذلك، إلاّ أنه كان يصرّ أن يكفي الآخرين مؤونة نفسه.

وكان (رحمه اللّه) شديد الإحساس تجاه الآخرين، إذ أذكر أنّي إذا اتصلت به سواء للاطمئنان عليه والسؤال عنه أو لسؤاله مسألة شرعية تكون قد استعصت عليّ يحاول جاهداً الاختصار وعدم الإطالة - ولم تكن الإطالة

ص: 202

أصلاً من شأنه - رعاية لوضعي وخشية أن يكلفني المزيد من التكاليف رغم إصراري عليه بالاسترسال.

وبالمناسبة، فإني حين كنت أتصل به لاستفسر عن حكم شرعي ما، كنت أسأله عن رأيه في المسألة لقطعي باجتهاده وفضيلته لكنه كان دوماً يجيبني بنقله لرأي والده المقدس (قدس سره) في المسألة، فكنت أعود لأسأله عن رأيه هو بالذات، فأجابني ذات مرة وبكل تواضع: ومن أكون أنا لأعطي رأيي في المسألة؟!

اما عن بر السيّد الفقيد الرضا (رحمه اللّه) بوالديه وخصوصاً بوالدته الكريمة، فبعد أن توفى والده آية اللّه العظمى السيّد محمّد الشيرازي (قدس سره) في نهاية العام 2001م، غيّر السيّد جدوله اليومي بحيث كان يأتي إلى بيت السيّد والده (قدس سره) من بعد صلاة الصبح حيث ينشغل بنشاطه العلمي والفقهي من خلال التواجد في غرفة صغيرة استحدثها لنفسه وحتى الظهيرة حيث يذهب إلى منزله لتناول الغداء ليعود بعدها إلى منزل والده (قدس سره) مرة أخرى إلى المساء ثمّ يذهب بعدها إلى منزله للنوم.

كان يفعل كلّ ذلك لكي لايشعر أهله خصوصاً والدته الكريمة وأشقاؤه وشقيقاته بالفراغ الكبير الذي أحدثه رحيل السيّد والده (قدس سره) .

ونختم هذه السطور بكلمة المرجع الديني الكبير سماحة آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في مجلس تأبين الفقيد الراحل (رحمه اللّه) :

«أمّا الفقيد السعيد فإنني عشت معه منذ ولادته ولم أر منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين وصفهم القرآن الكريم بهذا الوصف ووصفتهم أحاديث النبيّ الأعظم والعترة الطاهرة (صلوات اللّه عليه وعليهم

ص: 203

أجمعين).

إنّ ممّا يبدو لي أن أذكره في هذا المجال تمثيله (رحمه اللّه) للإيمان وللعمل الصالح.

لقد كانت السمة البارزة لأخي في العلم وابن أخي في النسب آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) السمة التي لعلّي لمستها أكثر من غيري، ولمسها كلّ من عاشره ولو لنصف ساعة، والأكثر أكثر، التمثيل الشخصي للإنسان المسلم الصحيح في أقواله وفي سيرته وفي نظراته واستماعه وفي دعوته وإجابته. وهذا مما يندر وجوده في كل زمان ولاسيما في زماننا هذا.

وكلّ من كان أقرب إليه كان أكثر معرفة بهذا الأمر منه. فلقد كان (قدس سره) يمثّل الإيمان والعمل الصالح. ونِعمَ ما أعدّ نفسه طيلة حياته لمثل هذا اليوم.

حتى الذين عاشوا معه في عالم الطفولة والأيام التي كان يرتاد فيها الصف الأوّل والثاني من مدرسة حفّاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدسة التي أسّسها أخي الأكبر آية اللّه العظمى السيد محمد الشيرازي أعلى اللّه درجاته، حتى أولئك لا أتصوّر أنّ عندهم انطباعاً غير حسن عنه حتى لمرة واحدة، هذا إحساسي أنا.

إن قدوتكم الأولى هم المعصومون الأربعة عشر (عليهم السلام) بلا شكّ، ولكن من يمثّل المعصومين (عليهم السلام) ؟

لقد كان الفقيد السعيد (رحمه اللّه) ممّن يمثّلهم، فاتخذوا منه أسوة واتخذوا منه قدوة؛ لأنه كان يمثّلهم مع فارق العصمة التي اختصّ اللّه تعالى بها المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

لقد كان (رحمه اللّه) في درجات عالية من العدالة بلا شكّ، فحاولوا أن تكونوا

ص: 204

عادلين، وكان (رحمه اللّه) على درجة عالية من الخلق الرفيع مع الصديق والعدوّ، مع القريب والغريب، مع من كان يتواضع له أو يتكبّر عليه، فحاولوا أن تطبقوا على أنفسكم هذه الانطباعات التي لكم عنه. كان مصداقاً ظاهراً للمغتنم الفرص الصغار في حياته فكيف بالكبار، فحاولوا اغتنام فرص الدنيا. إن الدنيا فرصة قد تنتهي في لحظة وإلى الأبد فانتهزوها ولاتضيّعوها.

لقد عاش حياة سعيدة. نعم، كان من ضمن ما عاشه (قدس سره) هذا الحديث الشريف: «المؤمن نفسه منه في تعب والناس منه في راحة»(1) فقد عاشه تطبيقاً وعملاً، في وقت نادر جداً من يعمل به.

أجل لقد كان فقيدنا (رحمه اللّه) مصداقاً جيداً لهذا الحديث الشريف، فحاولوا أنتم أيضاً أن تكونوا مصداقاً جيداً له. ولا تتعبوا غيركم من أجل أنفسكم بل لاتساووا غيركم مع أنفسكم في التعب بل أتبعوا أنفسكم وأريحوا غيركم في كل شيء، حتى في صغائر الأمور.

كنت أتذكر أمس واليوم مراراً أنه (قدس سره) كان من هذه الجهة يشبه جدّه آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي (أعلى اللّه درجاته).

لقد عشتُ مع أبي قرابة عشرين سنة وهي السنين الأخيرة من حياته الشريفة، وكان والدي (قدس سره) مبتلى بأمراض عديدة وشمله الضعف لكبر السنّ ومعاناة الأمراض، ومع ذلك لا أتذكر أنه حتى مرة واحدة قال لي: أعطني ماءً! حتى الحاجة بهذا المقدار كان لا يُتعب غيره بها. وأكيد أنه كان يحتاج أحياناً الماء ولا يستطيع القيام، ولكنه كان يتحمل العناء ويجعل غيره في

ص: 205


1- بحار الأنوار 10: 99.

راحة حتى بهذا المقدار.

لا أقول ذلك افتخاراً بالوالد فلقد كانت له مفاخره ولكن لنتعلم من هؤلاء فهم الأمثلة الحية بعد المعصومين (عليهم السلام) .

إن الإنسان بحاجة إلى التجسيد فهو أحياناً يؤثر أكثر من الأقوال ومن التاريخ، وكان آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) من السمات البارزة فيه هذه السمة (نفسه منه في تعب والناس منه في راحة)».

التاثير... أو حضور يلامس شغاف القلب

امتلك الفقيد الراحل (رحمه اللّه) قدرة على التاثير على المحيطين به والمتلقين منه، سواء من خلال سلوكه المباشر مع هؤلاء، أو خطابه الموجه الى اولئك. وهذا التاثير لايمكن ان ينفصل عن جملة من العوامل التي ساعدت عليه وامتلكها الفقيد الراحل (رحمه اللّه) وكانت مكوناً رئيسياً في بنية شخصيته.

لا بديل عن الثقة

معظم مشاكلنا تعود الى فقدان الثقة بالنفس أوّلاً وبالآخرين ثانياً، لا تبدأ الثقة بالآخرين الا من خلال مرورها بالثقة بالنفس، وهي الاعتماد عليها في معناها اللغوي، وهي أيضاً تعني اليقين والتحرر من الشك والقلق والخوف، وضدها عدم الثِّقة وانعدامها بما تعنيه من ارتياب وشك وسوء ظَنٍّ لا تقتصر على الإنسان وداخل نفسه وحدها بل تعمم الى الدائرة الاوسع وهي دائرة الاخرين في المجتمع.

أوّل شرط من شروط الثقة - وهي كما قلنا علاقة تبادلية - هو عدم الشك وظن السوء في النوايا أو الاخلاق لدى المقابل، لأنها - أي الثقة - لا تكتسب تسميتها الا من خلال التجربة والممارسة، وأيّ انطباع بالسوء مسبق عليها

ص: 206

يعد ناسفا لها ويؤسس لارتياب متبادل بين الاخرين وما يستتبع ذلك من خوف هو أكبر نتائج عدم الثقة.

التوازن

جميع الأشياء والبيئات في هذا الكون محكومة بالتوازن، وهو توازن دقيق في داخل البيئة الواحدة وبين اخريات غيرها وفي علاقات الاشياء مع بعضها.

البيئة الإنسانية واحدة من تلك البيئات في هذا الكون والتي يحكمها التوازن الدقيق، توازن الانسان مع نفسه أوّلاً وتوازنه المعكوس في علاقاته مع الذوات الإنسانية الأخرى وهو توازن متعدد الاتجاهات والموضوعات، فهناك توازن نفسي وتوازن أخلاقي وتوازن اجتماعي وتوازن اقتصادي الى آخر المفردات التي لها علاقة بمحيط الانسان وبيئته التي يحيا بها.

متى يحدث هذا التوازن الدقيق؟

حين يتصالح الانسان مع نفسه او حين يتعرف عليها من خلال اكتشاف عيوبها ومزاياها، سلبياتها وايجابياتها.

متى يختل هذا التوازن؟

حين يجهل الانسان تلك النفس ويصرّ في كثير من الأحيان على هذا الجهل بمعرفتها.

يقوم التوازن النفسي أساساً على القدرة على الحركة الدائمة وعلى العمل المتعدد الاتجاهات وبخاصة على المقدرة على تقبُّل معنى جديد ووظيفة عملية أو إدراكية جديدة.

التوازن النفسي يمكن ان يعبر عنه في الدراسات النفسية الحديثة بتعبير

ص: 207

(الذكاء الوجداني) والذي يعني (مجموعة من الصفات الشخصية والمهارات الاجتماعية والوجدانية التي تمكن الشخص من تفهم مشاعر و انفعالات الآخرين، ومن ثم يكون أكثر قدرة على ترشيد حياته النفسية والاجتماعية انطلاقاً من هذه المهارات)، هذا الذكاء الوجداني والذي هو ثمرة للتوازن النفسي يمكن الانسان من امتلاك قدرات، منها: التعاطف مع الاخرين، تكوين الصداقات والمحافظة عليها والارتقاء بها، قدرة التحكم في انفعالاته وتقلباته الوجدانية، قدرته على التعبير عن مشاعره واحاسيسه تجاه الاخرين، القدرة على تفهم المشكلات التي تعترضه او تعترض القريبين منه ووضع الحلول لها، احترام الاخرين وتقديرهم، القدرة على اظهار مودته في تعامله مع الاخرين، القدرة على جلب الحب والتقدير من الاخرين، القدرة على تفهم مشاعر الاخرين ودوافعهم التي تحركهم الى اخر ذلك من قدرات وطاقات لاتتوقف عن النمو في تعامله وعطائه.

كيف يمكن تحقيق هذا التوازن؟

يتم ذلك من خلال (السعي والتمرين حيث يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة «فهم والجنّة كمن قد رآها»(1)، لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والمواظبة من أجل الصعود درجة درجة؛ فإنّ اللّه تعالى جعل عالم الدنيا عالم الأسباب، فلا يمكن أن ينام الشخص ليلاً ثمّ يستيقظ صباحاً وقد تحوّل تحوّلاً كاملاً دفعة واحدة من الصفر حتّى بلوغ تلك المرتبة)، كما يعبر عن ذلك آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) :

ص: 208


1- نهج البلاغة: 303؛ بحار الأنوار 64: 315.

«فصقل الذات قضية صعبة للغاية، غير أنّه لا بدّ للمؤمن من ذلك، ولا بديل له عن إنجاز هذه المهمّة الضرورية؛ لأنّ كلّ إنسان تواجهه في الحياة عقبات وصعوبات قد يشيب الطفل من بعضها ولكن لا بدّ له من تجاوزها لئلاّ يتحسّر على عدم التحمل في يوم لا ينفع فيه حسرة ولا ندم».

للتوازن عند الانسان تجليات عديدة في تعامله مع الاخرين وهي ماتعرف بالاخلاق او يمكن تسميتها باخلاقيات التعامل، وتكون على نوعين:

الأوّل: السجيّة، أي طبيعة متأصّلة في ذات الإنسان بفعل عامل التربية والأجواء التي يعيش فيها، كأن يكون الجوّ المنزلي أو العام جوّاً أخلاقياً طيّباً فينمو الإنسان في ظلّه فيتطبّع بالأخلاق الطيّبة. وهذا يكون من السهل عليه الالتزام بالأخلاق الفاضلة بل قد يصعب عليه خلافها.

الثاني: النيّة، أي الإرادة والقصد إلى الفعل الحسن والخلق الحسن؛ بمعنى أنّ الشخص بحاجة إلى إرادة وتصميم ليشقّ طريقه في الحياة. فالذي ترعرع في أجواء غير حميدة أخلاقاً تراه يعاني كثيراً لكي يلتزم بالأخلاق الفاضلة والسلوك الطيّب. وهذه المعاناة إنّما تقف وراء تحمّلها نيّة صادقة وإرادة قاهرة لتجاوز الحالة أو الطبيعة السيّئة التي يعيشها المرء مع نفسه أو مع غيره.

ولذلك فإنّ صاحب الطبيعة أو السجيّة الحميدة لا يستطيع التخلّي عنها بسهولة أي من الصعب عليه أن يستبدل بها غيرها، فلا يتكبّر مثلاً لأنّه مجبول على التواضع، ولا يسرق لأنّ الأمانة تسري في عروقه.

لذلك نرى أن حياة السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) كانت قمة في

ص: 209

التوازن عبر صقل الذات المستمر والمتواصل، ولم يكتفي بجميع محاضراته في الحديث عن القيم الانسانية مجرد الحديث عنها بل جعلها واقعاً ملموساً وقيماً متحركة عبر سلوكه وافعاله التي تطابقت مع ماكان يدعو اليه.

يقول في كتابه (الحسين (عليه السلام) ):

«إن القيم الإنسانية النبيلة يمكن أن تُطرح في المجتمع على أحد نحوين:

النحو الأول: أن تُطرح في صورة أفكار مجردة.

النحو الثاني: أن تُطرح في صورة واقعيات متجسدة.

وإذا أردنا لهذه القيم النبيلة أن تكون فاعلةً ومؤثرةً في واقع الحياة لابدّ أن ننقلها من مرحلة التجريد إلى مرحلة التجسيد، لأن الأفكار المجرّدة قليلة الفاعلية والتأثير بينما النماذج المجسدّة ذات فاعلية وتأثير كبيرين.

فالمجتمع لا يمكنه العيش من دون قيم كما أن الفرد أيضاً لا يمكنه العيش من دون قيم، ومن هذه القيم نذكر:

قيمة الوفاء - قيمة التوبة - قيمة العبادة - قيمة الدعاء - قيمة الرضا - قيمة الحرية - قيمة المساواة - قيمة الأخلاق».

المسؤوليات الاجتماعية
اشارة

تتحدد المسؤولية الاجتماعية من منطلق نظرية اخلاقية تقول: «إن أي كيان - سواء كان منظمة أو فرد - يقع على عاتقه العمل لمصلحة المجتمع ككلّ».

يرى علماء النفس والاجتماع أن الإنسان بطبيعته يحب الأفضل لنفسه، ما لم تصقل لديه هذه الغريزة لتحويلها إلى مفهوم أشمل يقرن حب الخير للنفس بحب الخير للغير وإهمال هذه الغريزة يؤدي إلى الممارسات

ص: 210

السلبية، التي يشكو منها المجتمع وتشوّه مرافقه، مثل الاستهتار بنظافة الأماكن العامة وترك المخلّفات بعد مغادرتها.

تُعرَّف كلمة المسؤولية في معجم اللغة والأعلام بأنها ما يكون به الإنسان مسؤولاً ومطالباً عن أمورٍ وأفعال أتاها. وفي «المعجم الوسيط»: المسؤولية بوجه عام هي حال أو صفة من يُسأل عن أمر تقع عليه تبعته. يُقال: أنا بريء من مسؤولية هذا العمل. ويُقدّم «جاريسون ورود» تعريفاً للمسئولية على أنها نزوعُ الفرد إلى التّفكير المسبق في النتائج المحتملة لأيّ خطوة مقترَحة وقبولُ هذه النتائج عن قصد.

وانطلاقا من كون المسؤولية الاجتماعية في جانب كبير من نشأتها ونموّها إنتاجا اجتماعياً وتربوياً ونفسياً، تؤكد الابحاث النفسية والاجتماعية على ضرورة التركيز على عدد من المؤثرات التربوية التي تسهم في تنمية حس المسؤولية الاجتماعية لدى الأفراد، ومنها الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد والمؤسسة الإعلامية نظراً لما تؤدّيه من دور تثقيفي في إعداد وتنشئة الأبناء.

الشعور بالمسؤولية وتحمل تبعاتها يجعل الإنسان يقترب أكثر من تحقيق التكيّف النفسي وتحقيق التوافق النفسي الاجتماعي وتخطّي العقبات والصعاب التي تعترض الإنسان بطرق تكيّفية مباشرة.

تتكوّن المسؤولية الإجتماعية من عناصر مترابطة ينمّي كل منها الآخر ويدعمه ويقوّيه ويتكامل معه وهذه العناصر هي:

الإهتمام والفهم، ويتضمن الإرتباط العاطفي بالجماعة وحرص الفرد على سلامتها وتماسكها واستمرارها وتحقيق أهدافها. ويتضمن فهم الفرد

ص: 211

للجماعة والقوى النفسية المؤثرة في أعضائها، وفهمه لدوافع السلوك الذي تنتهجه خدمة لأهدافها، وأيضاً استيعابه للأسباب التي جعلته يتبنّى مواقفها.

المشاركة: المشاركة مسؤولية وهي الأرضية الأساسية لحياة إجتماعية مشرقة مستقرة.

الإنتماء: ويتضمن الإرتباط العاطفي بالجماعة وحرص الفرد على سلامتها وتماسكها واستمرارها وتحقيق أهدافها.

ماهي مظاهر المسؤولية الإجتماعية؟

انها كثيرة، منها: المسؤولية الشخصية والإجتماعية عن الوالدين والأبناء وذوي القربى واليتامى والمسنّين الذين يعيشون معاناة سن الشيخوخة واحتياجاته الصحية والنفسية وكذلك المسؤولية المهنيّة، وتتضمن الإخلاص في العمل وإنجازه والتفاني فيه وبذل أقصى جهد لتحقيق إنتاج جيد، والمسؤولية القانونية: إحترام القوانين والإنضباط والمحافظة على النظام الإجتماعي والأمانة.

ومن أخطر مظاهر نقص المسؤولية الإجتماعية

الإغتراب، وهو غربة عن النفس وعن الواقع وعن المجتمع، ومن أهم أعراضه: العزلة واللاّإنتماء واللاّهدف والضياع والإنسحاب ورفض التعاون واحتقار الذات واحتقار الجماعة.

كان من ضمن اهتمامات آية اللّه الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) أيضاً التركيز على القضايا الاجتماعية كقضايا الأسرة ومسائل الزواج وتربية الأولاد والاهتمام بالشباب وتقديم معالجات للمشاكل الاجتماعية.

والمتتبع لمحاضرات سماحة السيد (رحمه اللّه) يجد أنه متابع دقيق لقضايا

ص: 212

المجتمع ومشاكله وهمومه وتطلّعاته وآماله.

النهج والطريقة والاسلوب
اشارة

ماهو المنهج؟

في أصل وضعه الاغريقي هو «الطريقة التي يتخذها الفرد أو النهج الذي يجريه ليسرع به إلى تحقيق هدف معين».

والمنهجية كطريقة بحث وتفكير، هي منظومة تضع المبادئ التوجيهية لحلّ مشكلة ما ذات مكونات منها الأطوار والمهام والطرق والأساليب والأدوات.

ماهي الطريقة؟

انها (الطَّرِيق - السِّيرَةُ - المذهب - الطبقَةُ - المسلك).

ماهو الاسلوب؟

هو (الطَّرِيق - الفنُّ - السطر من النخيل وكل طريق ممتد - الوجه - المذهب). ولايفترق الاسلوب عن شخصية صاحبه. وله صفات عديدة، (الوضوح - القوة - الجمال).

المنهج والطريقة والاسلوب، هي الاُسُس الراكزة التي قامت عليها الرسالة الخاتمة عبر جمعها في كلمة واحدة هي التبليغ، تبليغ الرسالة الى الاخرين وحثّهم على الايمان بها من خلال مصاديقها المتحققة على ارض الواقع.

ماهو التبليغ؟

هو (الإيصال - البلوغ - الإبلاغ)، وهو (الانتهاء - الوصول - التوصيل إلى غاية مقصودة أو حدٍّ مراد، سواء كان هذا الحدّ أو تلك الغاية مكاناً أو زماناً

ص: 213

أو أمراً من الأمور المقدّرة معنويّاً).

استخدم القرآن الكريم مصطلحات مختلفة إلّا أنّها جميعاً تصبّ في معنى واحد من قبيل:

الدعوة، مثل قوله تعالى في سورة نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}(1).

الإرشاد، مثل قوله تعالى في سورة الجن: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}(2).

التبليغ، مثل قوله تعالى في سورة الأحزاب: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}(3).

التبشير، مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(4).

يقوم التبليغ المناط وظيفته بالانبياء على دعائم ثلاث:

(النظرة الشمولية للإنسان - عدم انتظار الأجر من الناس بل من اللّه - ترك النتائج لله).

المنهج والطريقة والاسلوب، هي التي قادت مئات الالوف من الناس الى اعتناق الاسلام في تلك الفترة القياسية، وهي مدة التسع سنوات.

ص: 214


1- نوح: 5.
2- الجن: 2.
3- الأحزاب: 39.
4- الفرقان: 56.

كان السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) بحراً متلاطم الأطراف، عميق القاع، واسع الاطلاع، ومكتبة معرفية زاخرة، ملمّاً بالكثير من العلوم والفنون، بليغاً أديباً، يتميز أسلوبه بالسلاسة وعذوبة البيان من نوع «السهل الممتنع»، وكان في مجلس درسه يبسّط لتلاميذه المفاهيم التي هي في غاية التعقيد، العسيرة على الفهم، يبسّطها إلى درجة تبدو قابلة للهضم والاستيعاب.

كان حثيثاً في طلب العلم، دؤوباً على الاستزادة من منهله العذب، ولم أجده يضيع دقيقة من وقته الثمين في ما لا طائل من وراءه.

بلغ رتبة الاجتهاد في الفقه والأصول في سن مبكرة، وشهد بفضله أساتذته الكبار.

يتمتّع الفقيد الراحل (رحمه اللّه) بطاقة علمية كبيرة، فقد كان عبقرياً في علوم الشريعة، وكان متابعاً للعلوم الحديثة ومطلعاً على الثقافة المعاصرة، و كانت دروسه في بحث الخارج في علمي الفقه والأصول تُرشد إلى تضلعه الكبير في هذين العلمين، و كان يتميز بشمولية و إحاطة لمختلف جوانب المطالب العلمية التي يبحثها في بحوثه العلمية، وكان مدرّساً لبحث الخارج في حوزة قم المقدسة من عام 1408ه- حتى وفاته، ولم يقتصر اهتمامه العلمي بذلك بل اهتم بجوانب علمية أخرى إذ كان يركز أيضاً على الأمور التالية:

أ) علم العقيدة:

العقيدة جوهر الدين وبدونها يفقد الدين جوهره وأساسه، ولأهمية بيان مسائل العقيدة للناس كان (رحمه اللّه) يركز كثيراً على المسائل العقدية وبيان أهم المرتكزات العقدية ورد الشبهات التي تثار حول مسائل العقيدة.

ص: 215

وكان أسلوبه في طرح المسائل العقائدية يجمع بين الوضوح في الأسلوب والدقة العلمية في المضمون، وهو الأمر الذي جعله من أهم المتحدّثين في هذا البعد المهم من الدين.

ب) سيرة أهل البيت (عليهم السلام) :

لعلَّ من أهم اهتماماته (رحمه اللّه) هو تسليط الأضواء على سيرة ومسيرة أهل بيت النبوة، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).

والمتابع لمحاضرات سماحة السيد (قدس سره) يلحظ أن كثيراً منها تتحدث عن الجوانب المشرقة للسيرة العطرة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، و ربط الأجيال الشابة بأهل البيت (عليهم السلام) الذين هم معادن العلم وينابيع الحكمة ومنبع الطهارة وينبوع السمو الروحي والمعنوي.

وكان من سمات الفقيد الجليل (رحمه اللّه) أنه كان يحوّل كلّ جلسة يحضرها إلى مناسبة خصبة للنقاش والبحث العلمي البنّاء وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر، فمن جهة كان يثري عقول جلسائه ومستمعيه بمادة علمية ونقاش فقهي مفيد ويشغلهم بما يعود عليهم بالنفع وزيادة في المعرفة، ومن جهة كان بأسلوبه هذا يصرف وبذكاء أولئك الذين يحولون الجلسات الاخوانية أحياناً إلى الخوض في الأمور التافهة التي لا طائل من وراءها.

وهو الذي يقول في كتابه (من مواعظ الامام الحسن (عليه السلام) ): «في كل

ص: 216


1- الأحزاب: 33.

مجلس يُغتاب فيه المؤمنون هنالك حساب وعقاب، وهل الغيبة تبقى بلا حساب وليس فيها كتاب؟ يقول تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(1).

لذلك عندما تسمع غيبةً اردع صاحبها بلطف وقل له: لا تغتبْ مؤمناً، فهذا عمل حرام، وإذا لم تستطع من الردع فلا تلبث في ذلك المجلس، قم وغادر أو حوّل مجرى الحديث، وإن لم تستطع فاشغل فكرك بأمر آخر على الأقل.

إن في كل إنسان نواقص، فعليه أن يمتنع عن تتبّع نواقص الآخرين، لأننا غارقون في النواقص والعيوب».

وكان السيّد الرضا (رحمه اللّه) يحدّث بعض طلابه الاقرب اليه عن مدى رغبته بالابتعاد عن جميع الأضواء والمظاهر حيث أنه كان يقول: «لولا الوظيفة الشرعية وحرصي الشديد على مراعاة حقوق السيّد الوالد لكنت ابتعدت عن هذه الأجواء ولجأت إلى زاوية بعيدة من قم، انصرف فيها إلى دراستي ومطالعتي وقراءتي وتركت الدنيا وما فيها...» مستذكراً قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية حيث يقول: «وما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقاروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».(2)

ص: 217


1- ق: 18.
2- شرح نهج البلاغة 1: 202.

لقد كان (رحمه اللّه) من أولئك الذين نذروا أنفسهم لطلب العلم والعمل به فكان لا يضيع ولا دقيقة بل ثانية من وقته في غير ما يصبّ في خدمة العلم والدين.

ولعلّ هذا الانهمام بالعلم - طلباً وتحصيلاً وبذلاً - له علاقة بما سماه الفقيد الراحل (نظام القناعات) الذي كان مدار حديثه في آخر محاضرة له، ضمّها كتاب (استثمار العطلة الصيفية) حيث يقول:

«فوضع البرنامج بنحو عامّ هو أحد العوامل المهمّة في صناعة وتطوير نظام القناعات.

أنّ نظام القناعات هو أحد الأنظمة المهمّة في الحياة البشرية، بل يمكن القول: إنّ نظام القناعات هو القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها الحياة البشرية. فالذي جعل العالِم عالماً والجاهل جاهلاً هو نظام القناعات؛ لأنّ العالِم اقتنع بأنه يمكن أن يكون عالماً.

وهنالك قاعدة معروفة تقول: «أوّل الفكر آخر العمل» أي ليس المهمّ آخر العمل وإنّما المهمّ أوّل الفكر لأنه هو الذي يصنع آخر العمل، فالعالم اقتنع منذ اليوم الأول بأنّه يمكن أن يكون عالماً، وهذه الصورة هي التي كانت في ذهنه.

الفرق بين الأفراد إنما هو في هذا النظام الذهني المهمّ، ولذلك فإنّ هذا النظام في الحقيقة له دور عجيب في الحياة وفي تفاصيلها.

إن البرامج تحرّك الطاقات وتعطي القوة.

الخريطة التي وضعتها لنفسك هي التي تحدّد عملك ونشاطك بل تحدّد ضعفك وقوتّك أيضاً. وعلى أعتاب الهدف يشعر الإنسان بالضعف؛ فلو كان

ص: 218

الهدف قريباً كان شعور صاحبه بالضعف أسرع، وكلما كان الهدف أبعد فإن خريطته تكون أكبر وعمله يكون أكبر وفترة عدم شعوره بالضعف أطول؛ وهذا معنى «على قدر نيّته».

لنحدّد ما هي أهدافنا؟ - مئة هدف مثلاً - ونحاول أن نسير باتجاه تحقيق هذه الأهداف؛ فصاحب الأهداف الكبيرة لا يشعر بالتعب ولا يشغل نفسه بالجانب المظلم من الحياة؛ لأنّ أهدافه تشدّه إليها.

والإنسان العاطل يدمّر نفسه ويدمّر الآخرين».

وقد نقل أحد الموظفين في مكتب والده: كنت أرى السيد في حياة والده الإمام الشيرازي (قدس سره) وبعد وفاته، يأتي لمكتبة والده ولا يخرج منها إلا آخر الليل، وكان في حياة والده يدرس عنده ويتعلم منه، وبعد حياة والده كان حسب ما اعتقد يُدرّس إخوته وأخواته وأحفاد والده المقدس، ومن كان معهم في البيت.

وربما كان يأتي إلى المكتبة في دار والده قبل أذان الفجر أو بعد الأذان بفترة غير طويلة للاشتغال بطلب العلم. وهكذا كان كثير التردد على عمه المرجع آية اللّه العظمی السيد صادق الشيرازي (دام ظله) وكثير التعلم من محضره الشريف.

ونقل سماحة آية اللّه السيد جعفر الشيرازي: إن السيد الفقيد (رحمه اللّه) جاء مرة إلى سوريا لزيارة مولاتنا السيدة زينب (عليها السلام) فلم يضيع وقته بالاستراحة وما شابه كما هو شأن الكثيرين، بل استعار مني كتاب الشرائع للمحقق الحلي وبدأ بالبحث العلمي حول موضوع الإرث والتدقيق فيه.

وكان (رحمه اللّه) ينصح الطلبة بالمواظبة على طلب العلم في كل وقت وفي

ص: 219

كل مكان ويقول: ينبغي لطالب العلم أن لا يضيع حتى دقيقة واحدة من عمره، وقد كان السيد (رحمه اللّه) ملتزما بنصائحه قبل بيانها كما هو المعروف عنه.

نقل أحد المقربين إليه: ذات مرة في العطلة الصيفية وفي إحدى زياراتي لآية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) سألني السيد إلى متى تبقى في إيران، فأجبته بأنه يحتمل أن يستغرق بقاؤنا شهراً أو شهرين، فنصحني السيد بأن استغل حتى أيام العطلة لمواصلة العلم والدرس وأن لا أترك طلب العلم حتى في أيام العطل.

نقل سماحة العلاّمة الشيخ فاضل الصفار: أنه (رحمه اللّه) كان عميق النظرة، فكثيراً ما كان يطرح مسألة ويستمع للمناقشات ولكن لا يبدي رأيه، وهذا يدل على أنه كان يدع لرأيه مجالاً لكي تنضج الفكرة أكثر وأكثر، وفي نفس الوقت كان يدل على أنه في غاية الاحتياط في التصدي والفتوى وبيان الرأي بالرغم من أنه كان مجتهدا وعالماً، فكان يستمع أكثر من أن يتكلم حتى كنّا نصرّ على إبداء رأيه فيذكر الرأي على نحو الاحتمال، وهذا درس لكل الشرائح العلمية وغيرها في أن لا يتعجلوا في طرح الرأي.

وكان يقول (رحمه اللّه) : «كلما ازداد علم الرجل زاد شعوره بما حوله من المخاطر والمخاوف، فتزداد عنايته بنفسه ويهتمّ أكثر ويبذل في رياضتها وصلاحها جهده».

كان (رحمه اللّه) يربّي تلامذته على أن يكونوا أساتذة، فكان يعلّمهم بحيث يقدرون على تدريس المادة مباشرةً ومن دون تقصير في أداء حقها.

لم أره يوماً غضب من إشكال أو مناقشة، مع أن البعض كان يستشكل في غير محلّه أو بما لم يكن بالمستوى.

ص: 220

لم يكن يعلو صوته (رحمه اللّه) صوت تلامذته في الدرس، بل كان هادئاً دقيقاً متواضعاً حتى في أسلوب الطرح العلمي للمادة.

إن من يقرأ كتب السيد وخاصة كتابه (الترتب) في علم الأصول وكتابه (كيف نفهم القرآن الكريم) وكتابه (التدبر في القرآن الكريم)، ومن يستمع لمحاضراته المتنوعة في مختلف العلوم والمعارف، يجد نفسه أمام علاّمة في أكثر من علم وفقيه متمكّن في مسائل الفقه وأصوله ومطّلع ناقد على التحولات الفكرية والثقافية، إنه باختصار عقلية علمية متميّزة وعبقرية فذّة وطاقة فكرية خلاقة.

السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) والتاثير عن طريق الاعلام

من أشهر التعريفات للاعلام هو:

«التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها فى نفس الوقت».

وهناك عدة وظائف مختلفة للإعلام هي:

تمثيل الرأي العام وتمثيل مؤسسات، ومنها الإعلان التجاري والتسويق والدعاية والتواصل مع الجمهور والتواصل السياسي، الترفيه مثل التمثيليات والموسيقى والرياضة والقراءة العامة ثم ظهر خلال أواخر القرن الماضي الفيديو وألعاب الحاسوب، تقديم خدمات للجمهور وإعلانات، التعليم الإرشاد.

أما تأثير وسائل الإعلام فيمكن تحديده كالتالي:

1- وسائل الإعلام تؤثر في الأفراد والمجتمعات بل إنها تؤثر في مجرى تطور البشر، وأن هناك علاقة سببية بين التعرض لوسائل الإعلام والسلوك البشري.

ص: 221

2- يختلف تأثير وسائل الإعلام حسب وظائفها وطريقة استخدامها والظروف الاجتماعية والثقافية واختلاف الأفراد أنفسهم، وقد تكون سبباً لإحداث التأثير أو عاملاً مكمّلاً ضمن عوامل أخرى.

3- آثار وسائل الإعلام عديدة ومختلفة ومتنوعة الشدة، قد تكون قصيرة الأمد أو طويلة الأمد، ظاهرة أو مستترة، قوية أو ضعيفة، نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.

4- تأثير وسائل الإعلام قد يكون سلبياً وقد يكون إيجابياً.

ما هي مجالات تأثير وسائل الإعلام؟

هناك مجالات عديدة ركّزت عليها البحوث الإعلامية لتأثير وسائل الإعلام، وهي على النحو الآتي:

1- تغيير الموقف أو الاتجاه.

2- التغيير المعرفي.

3- تغيير القيم عبر التنشئة الاجتماعية.

4- تغيير السلوك سواءاً أكان السلوك مفيداً أم ضاراً.

وهناك عوامل متعدّدة تؤثر على فعالية وسائل الإعلام وقدرتها على التأثير والتغيير وقيادة المجتمعات، وهذه العوامل يمكن التعبير عنها بالمتغيّرات التالية:

1- متغيّرات البيئة: وهي كافة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي قد تكون مساعدة لوسائل الإعلام على إحداث التأثير والتغيير أو تكون عوامل تضعّف فعالية وسائل الإعلام.

2- متغيّرات الوسيلة: وهي العوامل المتعلّقة بوسائل الإعلام ومصداقيتها

ص: 222

وتنوعها وشمولها وتجانسها وهل هي متشابهة ومتسقة أم لديها تنوع وتعدّدية إعلامية.

3- متغيّرات المحتوى: يلعب المحتوى وقدرته على الاستمالة والإقناع والتنوع والتكرار والجاذبية وإشباع حاجات المتلقي دوراً مهماً في فعالية تأثير وسائل الإعلام.

4- متغيّرات الجمهور: متغيرات الجمهور لها دلالة كبيرة في فعالية تأثير وسائل الإعلام حيث يختلف الأفراد في خبراتهم وثقافتهم وتعرضهم الانتقائي لوسائل الإعلام وقابليتهم للتأثر، بل إنه أحياناً يستجيب الشخص الواحد بشكل مختلف لنفس المحتوى وفقاً لظروفه الصحية أو النفسية أو الاجتماعية.

5- متغيّرات التفاعل: إن آلية التفاعل وطريقته وهل هو جماعي أم فردي، كل ذلك يحدد مدى فعالية تأثير وسائل الإعلام.

يشكل التلفزيون في الوقت الحالي الوسيط المتفوّق للاعلام بعد انحسار المذياع وتراجعه وكذلك الصحافة الورقية وتقدم الصحافة الالكترونية عليها، وبحكم هذا التواجد الطاغي للتلفزيون في حياة المليارات من الناس تغيّرت تبعاً لذلك الكثير من المفاهيم المرتبطة بها.

شكّل ظهور الفضائيات في الوسط الاجتماعي الشيعي متغيّراً شديد التأثير بعد ان كانوا يعتمدون على المنبر أو وسائل التبليغ الاخرى اعتماداً كاملاً يقتضي وجوداً شخصياً مباشراً كما في المثال الاوّل وغير مباشر عن طريق الوكلاء أو الفاعليات الدينية الأخرى في المثال الثاني.

ورغم عدم غياب أو تراجع الدور الذي يقوم به المنبر وبقية الوسائل في

ص: 223

المناسبات الشيعية المتعددة الا أنها أيضاً استفادت من هذا المتغيّر وأصبح المنبر يدخل الى كل البيوت الشيعية مثله مثل بقية وسائل التبليغ الاخرى.

فرض هذا التغيير في الاتصال مع الجمهور تحديات جديدة على الفاعليات الدينية من مراجع أو فقهاء أو خطباء ولعل أبرز تحدي منها هو اتساع نطاق الجمهور المستهدف واختلاف درجات ومستويات تلقيه للمواد التبليغية والثقافية والمعرفية.

آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) وهو الذي نشأ في أسرة علمية همّها الاوّل نشر ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) في أكبر دائرة ممكنة من المجتمعات الشيعية على اختلاف تلويناتها القومية واللغوية وبعد ان كان الكتاب أو المنشور هو الذي يتسيّد ساحة نشر تلك الثقافة والمعرفة، و قد تنبّهوا مبكراً لأهميّة التلفزيون كوسيط سريع التوصيل والتبليغ والتأثير، واستطاعوا أن يؤسسوا أو يشجعوا على تأسيس العديد من القنوات الفضائية لتكون منبراً واسع الانتشار ويمكن التفاعل معه عبر الظهور لعدد من رموز تلك العائلة الكريمة.

استقطب ظهور السيد الراحل (رحمه اللّه) على شاشة التلفزيون حيث يقدم محاضراته اهتمام العديد من المجتمعات الشيعية وغيرها، وعلى اختلاف تموجاتها الثقافية والمرجعية.

ولعل أبرز عامل من عوامل الاستقطاب التي جذبت تلك المجموعات المتنوعة هو طريقته في الحديث الذي يتوجه به الى الاخرين ويعرض من خلاله مايريد توصيله، وهي طريقة اتّسمت بالهدوء، هدوء النبرات والحركة اضافة الى اعتنائه باللغة التي يعرض من خلالها رسالته التي يريد توصيلها.

ص: 224

عوامل الاستقطاب تلك، استطاع الفقيه الراحل (رحمه اللّه) من خلالها وعبرها أن يعقد علاقة تواصلية مع الجمهور المتابع له، واستطاع التأثير في هذا الجمهور تأثيراً كبيراً امتدّ حتى الى جمهور آخر من خارج المجموعات الشيعية.

مقتطفات من سيرة عطرة
التضحية:

كان (رحمه اللّه) يرى أنّ الوصول إلى الهدف لا يتحقق إلا بالتضحية، وكان مستعداً لها بمختلف ألوانها وأشكالها.

التفكير العالمي:

كان (رحمه اللّه) ذا تفكير عالمي، ولم يكن يفكر في إطار توصية معينة أو بلد معين.

الموعظة:

للموعظة أثر بالغ في حياة الإنسان فإنها توقظ الوجدان وتقشع عن القلب سحب الجهل والغفلة، وكم من الأفراد تحولوا إلى أولياء لله تعالى على أثر الموعظة.

والموعظة قد تكون قولية وقد تكون عملية وتأثير الأخيرة أبلغ في النفوس.

حسن التعامل:

وقد كان آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) من البعد الاجتماعي وحسن المعاشرة، القدوة والأسوة في تعامله وإحسانه وحسن خلقه مع كل من لاقاه وتعرف عليه، سواء كان صحيباً له منذ سنين طويلة أو كانت المعرفة

ص: 225

لدقائق معدودة أو لمن لم يعرفه أصلاً، بل حتى لمن نصب له العداء.

وقد عُرف عن سماحة السيد (رحمه اللّه) أنه لم يكن يأكل طعامه إلاّ وضيف يأكل معه.

نقل أحدهم: دعاني السيد الراحل (رحمه اللّه) على مائدة الغذاء في بيته عند قدومي إلى الكويت وكان غذاؤه ما هو الموجود في المنزل وبدون تكلّف، وكرّر الدعوة ثانياً بعد أن صليت خلفه في المسجد حيث أصر عليّ على أن أكون معه لتناول الطعام، وكرّر الدعوة في مرات أخرى، وعرفت أنه غالباً هنالك ضيف يشاركه في الطعام مما يدل على كرمه وأدبه واحترامه للآخرين، وكان كلما يراني يدعوني إلى أن أحلّ ضيفاً عنده وأشاركه في الطعام.

وكذلك نقل سماحة الحجّة الشيخ ناصر الأسدي قال:

عندما كنت أزور مدينة قم المقدسة وأتشرف برؤية السيد (رحمه اللّه) فإنه كان يضيّفني في البيت ويُصر على الحضور ومشاركته الطعام، وفي اليوم الثاني كان يكرّر الدعوة أيضاً، وهكذا بحيث أكون ضيفاً عنده قرابة ثلاث مرات في مدة بقائي في قم المقدسة التي لا تتجاوز الخمسة أيام أحياناً.

حسن استقباله لمن يزوره والعناية به:

يقول أحد المقرّبين:

عندما كنت أزوره للسلام أو السؤال عن صحته يتلقاني بابتسامته وسلامه الحار الذي تحسّه يخرج من أعماق قلبه، فتجد أنك أمام شخصية حنونة صادقة لا تكلّف في تعامله أبداً، كان يسأل عن الأصدقاء واحداً واحداً ثم لا يبخل عليّ بنصيحة أو فكرة أو توجيه فلا أغادره إلا وأنا محمل

ص: 226

بالنصيحة والموعظة وممتلئ بالمعنويات.

ونقل أحد المشايخ: عندما كنا نذهب إلى سماحته (رحمه اللّه) كان يستقبلنا بكل حرارة وشوق وترحيب بحيث كنا نستغرب من شدة تواضعه وخلقه العظيم، وكان يتعامل مع الأشخاص الذين يزورونه ولو لأول مرة كأنّما هم أصدقائه من أربعين سنة.

كان زوّاراً للإخوة:

وكان سماحة السيد (رحمه اللّه) في الكويت وكذا في قم المقدسة ملتزماً بزيارة كل من كانت له معرفة به وإن كانت بعيدة فضلاً ممن كانت بينهما الصلة والمعرفة القوية وإن لم يكن في مستوى السيد (رحمه اللّه) من الناحية العلمية والمكانة الاجتماعية.

يزور حتى من نصب له العداء:

نقل سماحة العلاّمة الشيخ فاضل الصفار، وكذلك سماحة الحجة الشيخ حسين الأميري:

إن أحد الأشخاص المعروفين كان يعادي والده سماحة آية اللّه العظمى الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه اللّه) ولكن مع هذا لم يفت السيد الراحل (رحمه اللّه) زيارته كلما جاء إلى الكويت، وكان السيد (رحمه اللّه) يكلّمه وكأنه لا شيء بين ذلك الشخص وبين والده، وكان يستفسر عن أحواله وأوضاع المسلمين في العالم وأحياناً يكون النقاش في بعض المواضيع العلمية ولم يحاول مطلقاً من تغيير وجهة نظره بخصوص والده مما حدى بذلك الشخص أن يغيّر توجهه حول الإمام الراحل (رحمه اللّه) ، لانّ من يرى السيد (رحمه اللّه) بأخلاقه العظيمة

ص: 227

فإنه لابد وأن يترحم على والده.

وذكر أحد الخطباء:

في إحدى المرات طلب مني سماحة آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) أن نزور إحدى الشخصيات المعادية لأسرته الكريمة، فحين استقر بنا المجلس في بيته، صرّح ذلك الشخص: إن خلقك الكريم يا سيد محمد رضا لا نجده عند الآخرين إلا نادراً.

حسن الإصغاء للآخرين:

حسن الإصغاء يدل على قوة شخصية صاحبه، وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) : «إن من علامات الفقه الحلم والصمت».(1) وهذا ما كان يتحلّى به سماحة آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) فكان فقيهاً حليماً صامتاً.

نقل سماحة العلاّمة الشيخ فاضل الصفار قائلاً:

ومن خصوصيات الفقيد السعيد (رحمه اللّه) التي تعتبر من مظاهر العظمة حسب تصوري هو أنه كان يجيد فن الإصغاء، لأن الناس يتكلمون أكثر من أن يصغوا، والصحيح العكس تبعاً للروايات ولحياة العظماء، وقد أعطى اللّه الإنسان أذنين ولساناً واحداً.

ومن هنا كنتَ ترى الشخص يتكلم مع السيد (رحمه اللّه) لفترة طويلة والسيد يستمع ثم لا يتكلم إلا بدقائق معدودة وبإيجاز وتركيز مما يقنع الطرف، وفي الرواية: «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فانه يلقي الحكمة».(2) وفن

ص: 228


1- الكافي 1: 36.
2- تحف العقول: 397.

الإصغاء من القواعد المطروحة في البحوث الحديثة وخصوصاً في علم المناظرة وعلم الإدارة.

احترام الزمن:

ولقد كان السيّد الفقيد (رحمه اللّه) حريصاً على الدرس ووقته، فتجده يحضر إلى الدرس دون تأخير إطلاقاً إلى درجة أننا كنا نوقّت ساعتنا وفق حضوره لشدة التزامه بموعد الدرس بحيث لا يتأخر عنه حتّى دقيقة واحدة.

وكان (رحمه اللّه) حريصاً على أن لا يضيّع تلاميذه أوقاتهم وأن يستثمروا كلّ أوقاتهم في البحث والدراسة. فكان من عادة الحوزة العلمية أن تعطل دروسها في شهر رمضان لكي تمنح الفرصة لطلاب الحوزة بالقيام بمهمة التبليغ الشرعي في المدن والقرى والأرياف.

وبما أن بعض تلاميذه كانوا لا يغادرون مدينة قم المقدسة فكان يقترح مواصلة الدرس أثناء الشهر الفضيل، فكان يحضر إلى قاعة التدريس وهو صائم ويقوم بتدريس طلابه رغم المشقة التي كان يتسبّبها التدريس بسبب صيامه، خصوصاً وأن السيّد الفقيد (رحمه اللّه) كان ضعيف البنية، نحيلاً، قليل الأكل، ينهكه المرض وتثقله نزلات البرد والزكام.

أصيب بألم في الظهر كانت إذا اشتدت تقعده عن التدريس وتتسبب له بآلام شديدة أثناء التدريس، إلاّ أنه كان يتحمل عناء الألم ومشقة الوجع ويتحامل على نفسه الشريفة ويحضر إلى الدرس وفاءً منه لحق العلم وحرصاً منه على تربية التلاميذ وعدم إضاعة وقتهم إذا تغيّب عن الدرس.

رفقة حوار:

وكان السيّد الفقيد (رحمه اللّه) رفيقاً بتلامذته الذين أصبح اليوم بعضهم مجتهداً

ص: 229

يشار إليه بالبنان وفيهم اليوم العالم والخطيب والمؤلف والمحقق والمفكر، وتخرّج على يديه جيل من العلماء ملؤوا الساحة الإسلامية بنشاطهم ونتاجهم، وإني لأعتز غاية الاعتزاز أن أكون واحداً من تلامذته.

كان السيّد الفقيد (رحمه اللّه) يسمح لتلامذته بمناقشته في الدرس، وكان النقاش يتحول أحياناً إلى نقاش حام ٍ ولكنه كان يتسع صدره لكل إشكال حتّى وإن بدى سخيفاً وتذمّر منه سائر الطلبة الآخرون إلاّ أن ذلك لم يمنعه من إعطائه الفرصة لتلاميذه أن يطرحوا جميع إشكالاتهم ثمّ الإجابة عنها بكل أناة وسعة صدر.

واذا كان أحد تلاميذه يكثر من النقاش معه في الدرس وطرح الإشكالات عليه، لايجعله يشعر على الإطلاق ولو لمرة واحدة بأنه يضيق بهذه الإشكالات.

كان (رحمه اللّه) يحترم رأيك ويستمع إليك كاملاً، وإذا كانت لديه ملاحظة أو مناقشة بدأ بها بعد أن تنهي كلامك تماماً وبكل احترام وأدب.

لم يره أحد يوماً قد فرض رأيه العلمي على أحد من تلامذته مع أن آراءه العلمية كانت دقيقة وصائبة، بل كان يطرحها بعنوان الاحتمال أو الاحتمال الأقرب، وإذا طرح يوماً بعض المحتملات العلمية وفسح المجال للمناقشة ورأى أن النقاش من أحد الفضلاء كان في محلّه تنازل عما ذكره.

ص: 230

الفصل الثالث: الفقيه المقدس في منظار الشعراء

اشارة

ص: 231

ص: 232

في رثاء الفقيه الحبيب آية اللّه السيد محمدرضا الشيرازي

في رثاء الفقيه الحبيب آية اللّه السيد محمدرضا الشيرازي(1)

حقاً لقد خانت بنا الآمال***واستُعذبت من بعدك الآجال

يا برعماً لم يستتم اريجه***حتی ذوی فرياضه أطلال

يا بلبلاً سحر القلوب بشدوه***فترقبت فإذا به رحال

أسفاً علينا لاعليك فأنت في***الجنات حيث الرسلُ والأبدال

وملائك الرحمن حولك تحتفي***ألاّ تمسَّك لحظةً أهوال

فلقد رأتك مدی الحياة ودوّنت***في كل آونةٍ فاشرق حال

فالعلم ينضح من جوانبه التي***قد زانها رغم الهزال جمال

والحلم والتقوی وكل خليقه***أوصی بها للمتقين الآل

حتی إذا اكتملت به عهد الصبی***وزهت به شخصت إليه رجال

فإذا بساحات الفقاهة ينبري***بطلاً تهاب نزاله الأبطال

وإذا المنابر يعتليها برهة***قد صدّقت أقواله الأفعال

فتعشقته الناس في طبقاتها***ودموعهم في فقده تنهال

ودعی الحسين به ليدفن جنبه***كيما تخلّد ذكره الأجيال

ومشت حشود حول نعشك لا تُری***إلاّ بيوم الأربعين تنال

ص: 233


1- الأستاذ السيد محمدرضا القزويني.

وكأنها فقدت إماماً قائداً***قضَّ المضاجع ذلك الترحال

أو أنها كجحافل في فتحها***قد غاب عنها الفارس القتال

فقلوبها احترقت ولا يطفي بها***إلاّ دموع فوقها تنسال

جائت وآيات الوفاء تقودها***لمن اصطفی في الدين منه مقال

كلماته دررٌ وفي قسماته***نورٌ وفيه إلی القلوب مئال

في أسرة لبست بروداً للتُقی***فإذا بهم للمصلحين مثال

ما كان يغريهم كما يغري الوری***مرَّ العصور مناصبٌ أو مال

لا غرو إن أباه كان محمدٌ***والجدّ مهديٌ فنعم الآل

غرسوا لنا في كربلاء منابتاً***للشرع فاتسقت بها الأشبال

وتقدموا الشهداء في (الحسن) الذي***غدرت بلبنانٍ به الأنذال

وقفوا بوجه الظالمين ونتفوا***(للبعث) ما طالت به الأسبال

فغدوا هناك مشردين كأنهم***هملٌ وهم في سوحنا أبطال

وتجرعوا غصصاً تجرع قبلهم***آل النبيّ فكانت الأهوال

لم يضرعوا للحاكمين جباههم***فاللّه يأبی ذُلَّهم والآل

رفعوا رؤوسهم لتبقی عالياً***أما الطغاة فشأنها الأذلال

كرؤوس أصحاب الحسين علی القنا***شمخت لتلقف نورها الأجيال

رأس الحسين علی القناة و رأس قاتله***بكوفة تلعب الأطفال

هذا جزاء اللّه في الدنيا لمن***تخذ العِظات فطاب منه مقال

رحل الرضا لله ارخ (انه***جار الحسين أظله الأبطال)

ص: 234

في الذكرى الثانية لرحيل الفقيه الفقيد السيد محمد رضا الشيرازي

في الذكرى الثانية لرحيل الفقيه الفقيد السيد محمد رضا الشيرازي(1)

رسمت حياتُك للهُداة معاني***شغلت رؤاها عن ذُرى الأحزان

فإذا هي افتجعت بفقدك برهةً***سُرَّتْ بما خلّفتَ كلَّ أوان

وتطلّعت لتراك كلَّ صبيحةٍ***شعت بك الأنوار حلوَ بيان

فتطامنت أن المرابع لم تزل***تروى بنبعك ذلك الريّان

وبأن هاتيك الحقول غرستها***بربيع عمرك ثُرَّةُ الأغصان

حتى إذا هوَتْ الطيورُ وسائلت***من كل زهر ٍ يافع ٍ جذلان

عن ذلك الصرح الذي سحَر الورى***ببيانه وجماله الفتان

عن بلبلٍ لم يلقَ وكراً ههنا***أو ههناك مطمئنَ الأفنان

فسرى إلى كلِّ الحقول يَبُثُّها***لحن العذاب مشرَّدَ الأوطان

فبكت هنالك واستقر بقلبها***أن الحياة وذُلَّها سيان

وبأن فلسفةَ الحياة مبيرةٌ***آمالنا إلا من الرحمن

ومودَّةٍ في آل بيت محمد (ص)***نسلو بها في محكم القرآن

***

يُهنيك يا بطل البيات وذورةَ***الإيمان ما قارعت في الحدثان

فالدهرُ يشهد منك ليلاً ناسكاً***لم تسترح بدجاه غيرَ ثوان

إما بعلمٍ تستقيه بمنهلٍ***ثرٍّ وإما قائم الأركان

تَرِدُ الصلاة كأنما في خلوةٍ***تختارها شوقاً إلى المنّان

ص: 235


1- الأستاذ السيد محمّد رضا القزويني.

فإذا الصباحُ أطلَّ في أنواره***بهرتهُ منك مباهج الإيمان

فالزهد والتقوى وكلُّ معالمٍ***للأولياء تجمعت بكيان

وورثتها فغدوت أجمل وارثٍ***ما خلّفَ الآباء للولدان

***

فأبٌ تسنَّم للفضيلة عرشها***وغدا حديث الناس كلَّ مكان

ومجدّداً شرع النبيّ محمد***بفقاهةٍ وصلابةِ الشجعان

لم يلوِ رأساً للطغاة فأعلنت***حرباً عليه كريهةَ الألوان

فأبوه ذاك محمد وبمدحه***فخراً تسير قوافل الركبان

وكذاك جدٌّ كان في وجناته***كالأنبياء مواهب الرحمن

نورٌ تميَّز بين أنوار الهدى***يَرِدُ القلوب هوىً بلا استئذان

قد هدَّ والعَلَمُ الحكيم بعصره***صَرحَ الشيوعيين والصبيان

فتوى تسرَّت في العراق بأسره***يوماً وقضَّت مضجع الأوثان

***

حتى إذا ما البعث عمَّ بلاؤُه***أرض العراق وعاث بالأوطان

أهوى على العلماء يطلب ثأره***وانصاع منتقماً بكل كيان

وتخيَّر (الحسن الشهيد) لحقده***و(الصدر) ما أغلاهما عَلمان

بَطلان في فكرٍ وبعث عزيمةٍ***وصلابةٍ هزئت من الذِئبان

قضيا كما الشهداء جلَّ حياتهم***رهن الجهاد وسارعوا لجنان

***

هذي الملاحم سطرتها أحرفٌ***للنور لا تبلى مع الأزمان

ص: 236

فَيَدٌ لنشر الوعي ما بين الورى***حتى تعود كرامة الإنسان

ويدٌ تدافع عن تراث المصطفى***عن أهل بيتٍ سادة الأكوان

لم يقوَ حكمُ الظالمين بِلَيِّها***حتى تهاوى الحكم بين ثواني

وهوى كما الأصنام تهوي ذِلةً***ولقد شهدنا ذلةَ الأوثان

لكنَّ أيتامَ النظام وعُصبةً***لبسوا رداء الدين للعدوان

خرجوا كما فصل الخوارج قبلهم***سودَ الوجوه طويلة الأذقان

قد قصروا بثيابهم وعقولُهم***تاللّه أقصرُ من رؤى الصبيان

ليشوهوا كلَّ الحقائق والنهى***باسم الشريعة رثةَ البرهان

ويحاربوا آل النبيّ محمد***بذرائع لم تخفَ في الأذهان

في كل عصرٍ كان كلبٌ حولهم***يعوي وفي أيامنا كلبان

لكنَّ نور الآل يسطع في الورى***رُغم العُداة وخطة الصلبان

وطلائع (المهدي) شارف نورها***بربوعنا والوعد في القرآن

***

ما ينقمون من النبيّ المصطفى***في أهل بيتٍ قادة الأزمان؟

ألأنَّ رب العرش في تكوينهم***قد كان طهرهم من الأدران

أو سنَّ عند المؤمنين مودّةً***لهمُ فثارت عقدة الأطغان

اوَ تطلبونهم بثأر شيوخكم***في يوم بدرٍ أو بيوم ثان

أم أن يوم النهروان أعاد في***أذهانكم ما كان من شنئآن

تاللّه إن جباهكم مسودةٌ***في الحشر ساعيةٌ إلى النيران

ص: 237

السّيّد رضا الشيرازي

السّيّد رضا الشيرازي(1)

شَيّعَت نعشَه ألوفُ المئاتِ***وَالِهَاتٍ بِفَقدِهِ نَادِبَاتِ

تَتدَافَع إليهِ أمواجُ حُبٍّ***وَوَلاءٍ وَعَبرَةٍ وَصَلاةِ

لاَ تَرَی فِي الجُموع ِ إلاّ أَكُفّاً***تَتَعالی وَضَجَّة الآهَآتِ

سَارَ فِيهم نَعشُ الرِّضَا كَسَفِين ٍ***سَارَ فِي عَاصِف ٍ مِنَ اللُّجَاتِ

مِن قُم ِ المَجدِ لِلغَرِيّ لِأَرضِ ال***طَّفِّ في كَربَلاَ بِشَطِّ الفُراتِ

قَد رَثَتهُ العُيُونُ بِالعَبَرَاتِ***وَبَكَتهُ القُلُوبُ بِالحَسَرَاتِ

وَالسَّمَاوَاتُ بِالغُيُوم ِ تَبُلُّ النَّعشَ***فِي وَابِل ٍ مِنَ الزَّخَّاتِ

عَالِياً كُنتَ فِي الحَيَاةِ وَأَنتَ الآنَ***أَعلَی فِي مَهرَجَان ِ المَماتِ

***

عَالِيَ النَّفسِ وَاثِق الخُطُوَاتِ***طَيِّب القَلبِ خَاشِع النَّظَرَاتِ

مُطمَئِناً يَمشِي عَلَی الأَرض ِ هَوناً***مِثلَ مَشي المُطَهَّر ِينَ التُّقاةِ

لاَ عَلَی الأَرضِ بَل عَلَی القَلبِ يَمشِي***فِي ثَنَايَا عُرُوقِهِ دَقَّاتِ

مَن رَأَی كَوكَبَ الثَُّرَيَّا عَلَی الأرض ِ***يَدُّلُ العُطَاشَ لِلوَاحَاتِ

مَن أَحَسَّ النَّسِيمَ وَجهَ صَبَاح ٍ***يَتَنَفَّس بِالعِطرِ فِي الرَّوضَاتِ

عَجِزَ الشِّعرُ أَن يُصَوِّرَ رُوحاً***كَانَ مِثلَ المَلائِك ِ الطَّاهِرَاتِ

وَجَنَاتٌ تُذَكِّرُ القَلبَ بِاللّهِ***وَنُورٌ يَضِجُّ بِالقَسَمَاتِ

ص: 238


1- السيد أبو جواد المدرسي.

وَفَمٌ يَكنِزُ الشُّمُوسَ مِن الخَير ِ***وَثَغرٌ يَتِيهُ بِالبَسَمَاتِ

يَا قَر ِيباً مَضَی بَعِيداً إِلَی أَي***نَ وَقَد كُنتَ مَالِئَ النَّظَرَاتِ

دُرَرٌ نُظِّمَت بِفِيكَ كَعِقدِ***اللُّؤلُؤِ الرَّطبِ فَوقَ جِيدِ فَتَاةِ

أَو كَعُنقُودِ عَسجَدٍ يَتَلالا***رُصِّفَت فَوقَ بَعضِهَا حَبَّاتِ

كَلِمَاتٌ تَنَوَّرَت بِرُؤَی الحَقِّ***وَشَعَّت بِصِدقِهَا مَاسَاتِ

كَم نُفُوس ٍ تَهَذَّبَت بِهُدَاهَا***وَعُقُولٍ تَنَوَّرَت مُشر ِقَاتِ

وَشَبَابٍ بِكَ استَقَامَت عَلَی الحَقِّ***وَخَطَّت مَسَالِكَ الصَّالِحَاتِ

عَشِقتكَ القُلُوبُ مِن كَلِمَاتٍ***كَيفَ لَو عَاشَرُوكَ فِي سَنَوَاتِ

***

صَاغَكَ اللّهُ مِن مَوَاهِبَ شَتَّی***لَوحَةً مِن رَوَائِع ِ اللَّوحَاتِ

فَمِنَ العِلم ِ لِلتُّقَی، لِجَمِيل ِ***النُّطقِ، فِي رَوعَةٍ مِنَ المَلَكَاتِ

جُمِعَت فِيكَ لِلمَعَانِي خِصَالٌ***بَلَغَت مِنكَ غَايَةَ الدَّرَجَاتِ

كُنتَ مِرآةَ كُلِّ خُلق ٍ جَمِيل ٍ***يَا جَلاَلَ الكَمَالِ فِي المَرآةِ

مَن يُوَافِيكَ يَكسِبُ الطِّيبَ***وَالنُّبلَ، وَحُسنَ الأَخلاَق ِ وَالبَرَكَاتِ

مِثلَ مَرِّ النَّسِيم ِ عِندَ طُلُوعِ الفَجر ِ***فِي رَوضَةٍ مِنَ الوَردَاتِ

فَإِذَا حَلَّ فِي رُبَاكَ زَمَاناً***صَارَ يَاساً يَعِجُّ بِالنَّفَحَاتِ

***

غَرَّدَ البُلبَلُ الظَّريفُ فَلَمَّا***طَربَ القَلبُ طَارَ لِلوَاحَاتِ

عُد إِلَی الحَقل ِ فَالخَمَائِلُ ظَمئَ***جَفَّ عَينُ الحَيَاةِ فِي الوَاحَاتِ

ص: 239

عد إلَيهَا لَتَرتَو ِي إِنَّ قَلبَ***الوَردِ ظام ٍ إِلَی صَدَی النّغَمَاتِ

***

أَيَدُ الدَّهر ِ أَم أَكُفُّ الجُنَاةِ***أَطفَئَت فِي الرِّضَا ضِيَاءَ الحَيَاةِ

لَستُ أَدرِي وَاللّهُ أَعلَمُ كَم***لِلظُّلمِ فِي قَلبِهِ مِن البَصَمَاتِ

لَستُ أَدرِي فَالحَقُّ لاَبُدَّ يَوماً***يَنجَلِي عِندَ مِفرَقِ الظُّلُمَاتِ

فَلَكَم حَاصَرُوهُ حَيّاً وَمَيتاً***وَأَذَا قُوهُ مِنهُمُ وَيلاتِ

خَطَفُوهُ لَو انّهُم عَرَفُوهُ***لَحَمَوهُ بِالرُّوح ِ وَالحَدَقَاتِ

هَجَّرُوهُ لَو انّهُم فَهِمُوهُ***لأتَوهُ زَحفاً عَلَی الرُّكُبَاتِ

هَكَذَا الدَّهرُ يَترُك الآسَ ظَمئَ***وَيُرَوِّي الأَشوَاكَ وَالحصيَاتِ

***

أَسَفِي يَا أَبَا المُحَمَّدَين ِ طَو ِيلٌ***مِثلَ يَوم ٍمِن بَعدِ فَقدِكَ آتِ

ويَتاماكَ. لَستُ أَنسَاكَ يَوماً***كَيفَ أَنسَی مَن عَاشَ فِي نَبَضَاتِي

كَيفَ أَنسَی الأَخَ الوَدُودَ المُحَامِي***بَعدَ أَن كَانَ مَالِئاً آنَاتِي

لَم أُفَكِّر أَن سَوفَ يَأتِي زَمَانٌ***لاَ أَجِد فِيهِ مِغفَر ِي وَقَنَاتِي

لَم أُفَكِّر فَالخُبزُ مُرٌّ وَطَعمُ ال***مَاءِ مُرٌّ والريحُ في القَصَبَاتِ

بَينَ كَفَّي هَشِيم ِ عُمر ٍ وَبِيل ٍ***وَرَبِيعٍ مَضَی مِنَ الذّكرَياتِ

***

ص: 240

مخزن

مخزن(1)

يا جميل الرؤی جميل الصّفات

وجميل اللّحاظ واللّمحاتِ

حين ألقاك لا أفكّر إلاّ

في محيّاك نيّر القسماتِ

نظرة تلهب القلوب

كنار حل في واحة من القصباتِ

يترك القلب شعره حين يلقی

الصبح في دوحة من الورداتِ

فتسيح العيون في الدوحة الخضراء

والصدر في ندی النّسماتِ

عشقتك القلوب من كلمات

نيّرات القيتها في قناةِ

كلمات تنوّرت مشرقات

وحروف تألّقت ماساة

نبرة منك تدخل القلب عفواً

كمسير الهواء في القصباتِ

ص: 241


1- السيد أبو جواد المدرسي.

كم نفوساً علّمتها فاضلاتِ

وعقولاً نوّرتها مشرقاتِ

وشباباً تهجّدت بك ليلاً

ونساء تبتّلت خفراتِ

وشيوخاً قد أكبرتك كبيراً

ليّن القول هادئ الحركاتِ

هرب الطائر الجميل من الحبس وطارت وراءه آهاتي

أتراه يعود للعيش يوماً؟

لن تعود الطيور للشبكاتِ

إنّه البحر قد مضی منه موج

وسنمضي وراه في موجاتِ

ص: 242

الطبيعة الإنسان

الطبيعة الإنسان(1)

كالفجر تسكب بردها نسماتُه***سَكبَت بكأسي خمرَها كلماتُهُ

قد كنت أسمعها فأرسم صورة ال***وجهِ الذي سجدَت له مراَته

فلوجهه القمريِّ وردٌ أحمرٌ***تسقيه بالبَرَدِ / الندی دمعاتُه

وعليه من أثر السكينةِ سندسٌ***رسمت عليه نقوشَها بسماته

أنی أراه أخالني في جنة***قد غازلت فلاحها نخلاته

مازلت أشرب صوته وأرومه***كالنهر حين ترومه جناته

فيظل يسقيها إلی أن ينتهي ال***ماءُ الذي في صدره وحياتُه

وكأنه لما تيقَّنَ ريَّها***للنبعِ عاد تشده خطواتهُ

لكنه عطف المسير لتربة ال***طف التي مُلأت بها جنباته

فأظن "واشتقت الرجوع لكربلا"***هبة من الأب لابنه وزكاته

ها قد أتاك الطفل يا نهر (الرضا)***من صمته ولدت له أبياته

ص: 243


1- الأستاذ هاني الدار.

ملك مقرَّب أم نبيّ مرسل... أم انت عبد صالح قديسُ

ملك مقرَّب أم نبيّ مرسل... أم انت عبد صالح قديسُ(1)

نم في ضريحك ايها القدِّيسُ***واهنأ بنومك فالفراقُ بئيسُ

يا أيها القديس مالك مسرعا***تطوي الخطی يا ايها القديسُ

يستعجلُ الدربَ البعيد بخطوه***فاشتاقَ لقيا العابرين العيسُ

مَلَكٌ مَلاكٌ ما رأيتُ نضيرَه***صنوا ولا يعلو عليه نفيسُ

وأُخالني إن زُرته في بيته***حَبراً فيهنأ للنبي جليسُ

تستعذب الارواحُ سمع حديثه***اذ إنه حلوا الحديث انيسُ

حَبرُ كبير لايشوب حديثه***المحبوب لا غشٌ ولا تدليسُ

يا دوحة الروح التي إن زرتُها***تجتاحني اقمارها وشموسُ

ملك مقرَّبُ أم نبيٌّ مرسلٌ***أم انت عبدٌ صالحٌ قديسُ

عجبا يموت الوردُ في اغصانه***فالعين تدمعُ والفؤاد حبيسُ

الورد يخجل إذ رآك بحقله***فيذوب عطراً تستقيه كؤوسُ

يا أحرفا ماتت بثغر ربيعها***رُحماكِ تاقت للحديث نفوسُ

اوما تعود الی المسيرة ثانيا***جبلا نراك علی الطغاة تدوسُ

أنعم بنومك فالبغيض معذَّب***والقاتلون سلاحهم منكوسُ

فالعن عدوك الف مرة ثم لا***يأخذك لوماً فالعدو خسيسُ

واسحق بموتك رأس كل منافق***والعن بغيضك إنه ابليسُ

ص: 244


1- الأستاذ زهير المخزومي.

تلاوة عند مقصلة الأنبياء مهداة الى الراحل الكبير سماحة آية اللّه السيد محمدرضا الشيرازي

تلاوة عند مقصلة الأنبياء مهداة الى الراحل الكبير سماحة آية اللّه السيد محمدرضا الشيرازي(1)

قالوا أفلتَ وكلٌ منك قد بزغوا***من سوف يُشرقُ وجه اللّه إن أفلا

مشيتُ عندك أسرابا تؤلفني***نخلا من الحب في الأرواح مرتجلا

كم كنتَ طولا تغطي قصر قامتنا***وكم جهلناك جهلا أخجل الجُهلا

تلون الطين من ألوان كذبتنا***وأنت عندك كان الصدقُ متصلا

وكنتَ تعلمُ هم أطيان في زمن***بيوتنا الطين ماتت ترتجي بدلا

يا لستَ وحدك كل الحب في جسدي***بِسُمِّ معزوفة الأستار قد قتلا

هذا أنا شعبك المصنوع من ورقٍ***تسطرُ النارُ في أحشائنا قبلا

تأرق الكون من ضوضاء رغبتنا***سترسل الضيم حتی صمتنا جدلا

يا أيها الدينُ تمشي كُنتَ في دمنا***بلا تراخيص لا إقرارهم وبلا

بل أمّة كنتَ إبراهيم في زمنٍ***عاش التشخص في الأشخاص فاعتُقِلا

مذ كنت أنت كأن الحب كان هنا***منذُ ارتحلت كأن الحب قد رحلا

مالي وقفت طلول اليتم رددها***علی القبور وأرخی آيها وتلا

وراء بابٍ هویً عشنا ليدفعنا***ربُ الخنوع فيكسر ضلعُنا الأملا

رمحُ الخلافات يمشي في شوارعنا***كم من شموس رؤوسي رأسه حملا

وكيفَ رُحت أفيك اللّه عاقبنا***أم نحنُ ليلٌ بمنآی شمسه احتفلا

فتحتَ روحي بجر اليُتم يرفعني***موجُ التصحُر شعب يأكل الخجلا

تبنا الی الليل من ظلماء أوجُهنا***فَنُبدِلُ الجرح بالأوجاع يا بدلا

ص: 245


1- الأستاذ علي حميد الشويلي.

وها نقلِّبُ فيك الكف خاوية***علی العروش وأنّا ما بنا نزلا

لا ادعي الصمتَ كان النطق منشغلا***حتی طلعتَ فظل الصمتُ منشغلا

بنيتَ وجهك جدرانا تؤلفنا***وكم بصوتك صوت الفقر قد هزُلا

وصغت للقصب المحتار مملكة***من الحقيقة آياتٍ رؤی رُسلا

هذا العراقُ وان قد باع جنَّته***بجزء تفاحة ثكلی قد امتثلا

وما اتم كلام الحب يا وطنا***للحب جاؤوه ان الحب قد رحلا

ص: 246

خطب الأسى

خطب الأسى(1)

ألا يا أيها الموعود

إليك نعظم الأجرا

***

(1)

بقلبٍ موجع ٍ أسف ِ نرتل فيض أشجان ِ

ونرفعُها إلی فيحاءِ روحك يا ابن عدنان ِ

فيا من ينثرُ التِّصبارَ قوتاً للجوی العاني

فُجعنا اليومَ في بدر تواری خلف كثبان ِ

فقدنا منبع العلم

وتلك مصيبة كبری

***

(2)

تثلَّمت البسيطةُ سيدي والكون قد أعول

وعن أحزان آي اللّه والتسبيح لا تسأل

لقد غاب التهجد والتراتيل غدت رُحَّل

وللأسحار إرنان يغادي للتُّقی منهل

وللمحراب تهتانٌ

غزير شجّب الصخرا

ص: 247


1- الأستاذة تسنيم الحبيب.

***

(3)

ألا يا أيها المأمول ذا خطب الأسی فاسمع

تركنا (المرتضی) الموتورَ صبرا يسكب المدمع

وقلب (الصادق الصديق) في وادي الأسی يرتع

بيوت العلم خاليةً تنادي فيضه خُشّع

يراع العلم وا أسفي

تجرّع فقده مُرّا

***

(4)

تحدّبت الضلوعُ أسیً لمن في فقده حِرنا

وداعا لابن فاطمةِ التي في حبها ذُبنا

وروضُ السبط في أرض الطفوف له غدا حُضنا

له العبراتُ والزفراتُ مهما الطيرُ قد حنّا

وللفردوس إذ يمضي

يوافي أمه الزهرا

***

ص: 248

رضا الإله

رضا الإله(1)

مالي اری المهدي في عجل ٍ***خلف الجنازةِ دمعهُ مطرُ

عجبي أشق حجاب غيبته***ام بالشريعةِ أحدق الخطرُ

أمضی المقدس حاملاً معهُ***كل القداسةِ أم لها أثرُ

لو كان يملكُ أمر موعدهِ***في الراحلين فما له عذرُ

هذا التُقی يبكی عليه دماً

والعلمُ بعد مُنَاهُ يحتضرُ

وأشدُ خطبٍ في الظَلام لنا***عمر السراجِ ينالهُ قِصَرُ

هجرَ العباد (رضا الإله) فما***عيشٌ بدونِ رضاهُ يُصطبرُ

الناسُ في توديع رحمتهِ***وكأنهم لقيامةِ حُشروا

ياداعياً بجوی الحسين الی

أن لا يكُف بنعيه البشرُ

ندبوا ولو كُشف الغطاءُ لهم***لرأوكَ تحملُ نعشك السُورُ

يا ناصراً آلَ النبي ِ علی***زمنٍ تضاءلَ فيه من نصروا

أجريت يابنَ الأوحدين لنا***سيلاَ من الآماق يستعرُ

رزءٌ تقاذفنا بحُرقتهِ

قدر يسيخُ لهمِّهِ القدرُ

من يعرفُ الأبدال يسأ ُلهم***فلعلَهم نقصُوا وما جُبِروا

ص: 249


1- الأستاذ علي جعفر.

ناشدتُ آلَ العارفين أيا***بيتَ الهدی ياسادةٌ صبروا

من صادق ٍ أدّی أمانته***أو (صادق ٍ) يُشفی به البصرُ

آلُ المجدّد إن مضی قمرٌ

منهم تراءی للوری قمرُ

رفقاً بنا لاترحلوا تبعاً***في غيبة والشمسُ تُنتظرُ

ص: 250

رحلة قديس

رحلة قديس(1)

الصمتُ ينزفُ في إباء***والقلب في لهب التنائي

والحزنُ من برديك لَفّ***وجودَنا فدنی الترائي

يا نجلَ ألفِ معظم ٍ***بيراعه كَشفُ الخفاء

ماضٍ بمرقاة العلا***في جنتين من الضياء

والروح من مشكاته***تستافُ إرث الأنبياء

ودنی تواضعَ للثری***فإذا الثريا في ازدراء

يا سيدي جُر ِح الفؤاد***فهل لجرحك من دواء

الدمع يسقي بعضه***فإليك خذها من دمائي

***

إني لأخشی إن ذكرتك***سيدي في الأولياء

أنّي أعاتبُ... فالملائك***تبتغي شرفَ الوَلاء

ورسمتَ أحرفك العظامَ***علی خطی للأصفياء

لا تقتفي أثرَ الذين***تولعوا بهوی الأناء

وبريق أفعال السياسة***والمصالح والرياء

وتشبّثوا بخيوطها***ركض الهباء إلی الهباء

وتوسلوا برضا الدنی***خطأً، لعلّ، وألف لاءِ

ص: 251


1- الأستاذ محمد أمين أبو المكارم.

إنّا هنا بخطی العقيدة***في الولاء وفي البراء

***

يا منتهی أفق ِ الحقيقة***والفضيلة والصفاء

يا سيداً ملك النفوس***بغير خوفٍ أو رجاء

من راحتيك تزودوا***شأنَ التزودِ بالبهاء

يا نبعةَ الأخلاقِ يا***أملاً تأذّن بالجلاء

يا حرقة الأم التي***انتظرتك بعد أبيك جائي

يا فجعة العم الذي***سيراك معقود اللواء

يا لَلرِّجال مصيبةٌ***أودت بحلم ذوي الحجاء

لكنها حِكَمٌ قَضت***بالموت نُقهر والفناءِ

***

يا راحلاً نحو الخلود***وأنت في أبد البقاء

ووردت كوثر أحمدٍ***فنهلت حدَّ الارتواء

إني لأحسبُ أصغريك***يُناجَيان من السماء

من وحي عينيك الحياءُ***فهل ستوصف بالحياء؟

جسّدت أعلام الهدی***ورويت نهج الأوصياء

من نورهم خُلِق الرضا***حاشاه عن طين وماء

إن الرضا وأبا الرضا***مَثَلٌ لحُلم الأنبياء

ونُهاهُما سَحَرت فؤادَ***ذوي النهی... والأدعياء!!

ص: 252

الصبرَ آلَ محمدٍ***والصبرُ زاد الأتقياء

يا صادقَ الرأي الذي***منح الحقيقةَ ألف باء

لا زلت كهفَ اللائذين***وكعبةً لذوي الوفاء

وأبيك قل لي ما الذي***ينبيك من ذا الابتلاء

إن قلت إنك ملهم***ما في المقالة من مراءِ

أو قلت وارثَ علمِهم***وصفاتِهم، فعلی السواء

إن الحسين أخو الرضا***والمرتضی عَمَدُ البناء

يا سيدي لك نظرة***وبجدكم شرف الدعاء

هي نفثة عثرت، أقلها***سيدي، بر ِدَا رثائي

وكن الشفيعَ إذا ادلهمَّ***الخطب في يوم الجزاء

ص: 253

ومن قال أن الرضا راحلُ

ومن قال أن الرضا راحلُ(1)

أأكتمُ ما ليس يُستكتمُ***فما للجوی بعدهُ يُوجِمُ

ومن قال إنَّ (الرضا) راحلٌ***ومن قال إنَّ المدی مُظلمُ

طوی الحزن من أضلعي مايشا***ءُ والآه يؤلمها المبسمُ

ترفَّق أيا دهرُ إنَّا هنا***نذوق الأمرين، نسترحِمُ

وجرحكَ وسط الحشا غائرٌ***ونارك وقَّادةٌ تُضرَمُ

تساقطَ دمعي علی وجنتي***وآهٍ أيا دهر لو تعلمُ

بأنَّك مزقتَ منَّا القلوب***فشريانُنَا نائحٌ يلطمُ

إلی اللّه نشكو رحيل التقی***ونبراسه السيدُ الأكرمُ

غفت أعينُ الخلق عند المساء***كإغفَاءةٍ فجرُها مؤلمُ

فأشرقتِ الشّمسُ في كسفها***وحمرتُها حين لاحت دمُ

بقلبي أقمت عزاءً له***وحق لقلبي به المأتمُ

أليسَ هو الساكنُ المرتجی***أليس هو العشقُ والمغنمُ

أليس هو الفجرُ فجرُ الندی***تقاطر كالعذبِ منه الفمُ

وفيه ارتمی العشقُ في جنةٍ***تغنی به فَهُوَ المغرمُ

أخال به نجم عشق بدا***ومن نوره تزدهِي الأنجمُ

ومن شفتيه انبری ناطقاً***كمنبر عدل به يُوسَمُ

ص: 254


1- الأستاذ علي حسن الناصر.

إلی اللّه يدعو ونهج التقی***وحق علي به يُلز ِمُ

وفي بارق العينِ إشراقةٌ***ولغز يحار به المُلهَمُ

فإن صمتت شفتاه فذا***حديثُ الجفونِ بنا زمزمُ

أخال الأحاديث مِلءَ الحشا***يطوف بها فيضُه المفعمُ

وفي الفكر من فلك الأتقياء***يدور بنا فكره المُحكَمُ

وفي سَكَنَاتِ الجوی عالمٌ***يتوه به العقلُ بل يُوهَمُ

أهل سكنَ الكونُ ثغرَ (الرضا)***أم الثغرُ كونٌ به يَزخَمُ

تری سُئِلت كفه يومَها***أيُعرَف واضحُهُ المبهمُ

فمن حرَّك القلب من أضلعِي***وشيَّد ما خِلتُه يُهدَمُ

لأنت العظيمُ ومن يُنجِب ال***عظيمَ بحقٍّ سوی الأعظمُ

بميقاتِ حزنِِكِ يا سيدي***لبستُ الهموم بها أُحر ِمُ

وطفتُ بقلبكِ مُستلهِماً***أحاديثَ عشقِي التي أنظمُ

فإن كان للفقهِ من مَعلَمٍ***فأنتَ له سيدي المَعلَمُ

وأنت الذي ينبري فِكرهُ***بنور الهداة فهل يُهزَمُ

وأنت الذي أنطقَ الصامتين***وأسلمَ طوعاً له المِرقَمُ

وعينك نضَّاخةٌ دمعُها***بليل الدجی والوری نُوّمُ

وهمسكَ يناسبُ في لحنهِ***تغاريدَ فجرٍ لمن يحلمُ

رسمتَ طريق الهدی منهجاً***فبورك نهج له تَرسِمُ

وخلتك والضلعَ في كسره***فأنت وضلع الهدی توأمُ

ص: 255

إليك أتت فاطمٌ ها هنا***ودمع محاجرها العَندَمُ

تقلِّب طرفًا وتحني أسیً***وتدنيكَ منها وتستقدمُ

دهانا القضاءُ بحكم ٍ مضی***وليس يُرَدُّ القضا المُبرَمُ

رحلت كفجرٍ تُلاطفننا***نسائِمُه حيث لا نسأمُ

ففي فجرك الدمعة استسكبت***تودِّعك الآن، تسترحمُ

وطيفك مرَّ بنا ومضةً***يودِّعنا نطقه الأبكمُ

فعدنا حياری لأحزاننا***يقلِّبنا جمرُنا الأقدَمُ

ليوقدنا آهةً تلتظي***علی الفقد نحيا فنستسلمُ

ويقذفنا موج أشجاننا***علی التِّيهِ حيث هنا المأتمُ

لننعی بقلب شجاه النوی***نصيحُ وحزن الجوی مُضرَمُ

فمن قال إن (الرضا) راحل***ومن قال إن المدی مُظلمُ

ص: 256

أزهار شيراز

أزهار شيراز(1)

شاءَ الإلهُ بأن تَشُدَّ رِكابا***مُتعجِلاً نحوَ السماءِ ذهابا

لولا القضاءُ ففي النفوسِ تساؤلٌ***يُدمي الفؤادَ، ويستحيلُ جوابا

فَلِمَ هَرَعتَ إلی الغيابِ مُبَكِّراً***ولمَ رحلتَ مُيَتِماً أحبابا

ما ملَّتِ الأبصارُ محرابَ السنا***بل خافَ أعداءُ السنا المحرابا

ما ملَّتِ الأكوابُ من صفو ِ الندی***بل خافَ مَن كَر ِهَ الندی الأكوابا

ما العذرُ أن تمضي وقلبُكَ يافعٌ***ويحَ اعتراضي إن شكا أو لابا

أجهدتَ عينَكَ بالسناءِ فلم تجد***برءاً سوی أن تُطبقَ الأهدابا

أم ضاقَ قلبُكَ بالعلوم ِ لوفرةٍ***فتفجَرَ القلبُ الكبيرُ شهابا

تشتاقُ أعتابَ الحسين ِ فترتقي***ركبَ النعوش ِ، مُيَمِماً أعتابا

منعتكَ أسبابُ الحياةِ زيارةً***فاختَرتَ أسبابَ الردی أسبابا

شيرازُ أزهارُ السهولِ تألَقَت***هيّا نَعُبُّ منَ الشذا الأنخابا

ما بالُها في أوجِها هيَ تختفي***وتصدُّ في وجهِ الهوی الأبوابا

عُذرُ الزهور ِ حياتُها معدودةٌ***كي ما تظلَّ مدی الزمان ِ شبابا

ما كانَ يُحسب بالسنين ِ جمالُها***هَزِأَ الجمالُ من السنين ِحسابا

فعبيرُها ينسابُ في أُفُق ِ المدی***نَضِراَ، وإن شابَ المدی ما شابا

وحسابُها أنَّ الحياةَ مواقفٌ***لو عدَّدُوها جاوزَت أحقابا

حمَلُوهُ من أرضِ الرضا، أوَ هل دَرَوا***قلبَ الرضا لفراقِهِ قد ذابا

أنّی حَلَلتَ فدوحةُ عَلَويّةٌ***الأصلُ طابَ وفرعُها قد طابا

من كربلا أشرَقتَ كوكَبها الذي***لم يرضَ إلا في الطفوف ِ غيابا

ص: 257


1- الأستاذ صفوان لبيب بيضون.

كيف الذي عشقَ الحسينَ وتُربَهُ***يرضی سوی تُربِ الحسين ِ ترابا

فاهنأ إذا جاورتَ سبطَ محمدٍ***قد كنتَ من غيثِ الحسين ِ سحابا

يا ابنَ البتولِ وللبتولِ لواعجٌ***أشجانُها قد حيَّرَت ألبابا

واعدتَ جدَّتَكَ البتولَ علی اللِقا***في شهر ِها، فسألتَهُ، فأَجَابا

إني جمادی الحزن ِ جرَّعتُ الأسی***ثقلي محمدَ: عترةً وكتابا

اللّه يا شهرَ البتولِ وكلَّما***أقبلتَ نذكرُ ضلعَها والبابا

أوَ ما اكتفيتَ منَ البتولِ مُصيبةً***فأتيتَ تُكمِلُ بالحفيدِ مُصابا

تسقيهِ من كأسِ المنون ِ ليشتفي***قلبُ المُضلِّ، وتُفر ِحَ المُرتابا

وعزاءُ من عشقَ البتولَ بأنَّها***تسقيهِ في يوم الجزاءِ شرابا

غابَ النصيرُ أيا بتولُ وشجوُنا***واللّهِ يا بنتَ الهدی ما غابا

أفٍّ لشهر ٍ غالَ آسادَ الوغی***غدراً وعافَ ثعالباً وذئابا

يا قبةً هدَّ الردی أركانها***وقبابُ سامرا تئنُ خرابا

تُبنی قبابُ التبر ِ بعدَ خرابها***من ذا يُعيدُكَ للحياةِ قبابا

قالوا مضيتَ وهل سيمضي تاركٌ***علماً وهدياً، حكمةً وصوابا

يا صادقاً للوعد لن نخشی الردی***من كانَ يصدقُ وعدَهُ ما خابا

هيَ ثلمةٌ في الدينِ لا لَن تنمحي***تبقی تُجرِّعُ عاشقيكَ عَذابا

شيرازُ ما نضبَ المعينُ فجدولٌ***يجري ليرفدَ جدولاً مُنسابا

ومنَ النبيِّ ترقرَقَت آلاؤهُ***ومنَ الغدير ِ يُسلسِلُ التَسكابا

فترشَّفي شيرازُ من ماءِ التقی****وتعَطَّري عطرَ الهدی الخلابا

شيرازُ أزهارُ الولايةِ تزدهي***هيَ ترتقي رغمَ الصعابِ صعابا

ما زلتِ للعشاقِ أعذبَ جنةٍ***وزهور أرضك ِ ما تزالُ عِذابا

ص: 258

عقاباً لأهل الأرض

عقاباً لأهل الأرض(1)

أيرثيك مَن يدري بنهلِك يا مروی***وأنك معنیً من تلاميذِهِ التقوی

رحيلُك يرثينا، فمن بات فاقداً***«رضا اللّهِ» أحری أن يغيّبَهُ مهوی

غفونا وأصبحنا ولا صُبحَ بينَنا***سوی حَسَراتٍ من مدامعِنا تُروی

أمحفلَ إيمانٍ به الأرضُ أشرقَت***لمحنا وقد فازت به جنّةُ المأوی

سقيتَ عقولَ الناس ِ عذباً معارفاً***إذا بك تُسقی سلسبيلَ بها أروی

لعلّكَ موعودٌ تعجّلتَ موعداً***فناجيتَ منّاناً يثيبُ علی النجوی

أشدُّ عقابِ اللّهِ أن يُرفع «الرضا»***عن الخلق ِ من فرطِ الذنوبِ فلا تقوی

تشكّلَ دمعي أحرفا ترسمُ الجوی***مروّعةً ساقت إلی ربّها الشكوی

ومقطوعةً للحزن ِجاءت قصيرةً***كعُمرِك لافخراً تريدُ ولا زهوا

ص: 259


1- الأستاذ علي جعفر آل إبراهيم.

ثجّاجُ ماء

ثجّاجُ ماء(1)

ماجت بنا الأرضُ، وانحازت لنا السحبُ***وساعدتنا علی أرزائنا القببُ

وظلَّ يرجف في أحشائنا قلقٌ***وأُرتجَ القولُ، واستولی بنا العجبُ

وبارحَ الحرُّ عن ميعادِ نجمتِهِ***وصارَ يفحصُ حتی خانه الطلبُ

وعاد كلُّ مُحبًّ وهو مختنقُ***بعبرة حَرَّة والجفنُ مضطربُ

ينعی النجومَ... هوت عن صبح ِ غاربها***كما هوت زهرة في القبر تحتجبُ

«هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ»***يهوي إلی القبر كي تعلو به الرُتبُ

وخلَّفَ الأهلَ ما شكت بصائرُها***تجيدُ رسمَ خُطاها وهيَ تنتحبُ

هذا ابنُ فارسِ أرض ِ الطفِّ نعرفُهُ***يومَ الطلائع إذ طارت لهم شهبُ

العاقدونَ علی عزم بِنيَّتهم***أن ينفقوا العمرَ في عين ٍ بها شربوا

والسابقونَ إلی بحر تلاعبُه***هوجُ الرياح فما أغری بهم لعبُ

والماسكونَ حبالا قلَّ ماسكُها***إلا الذينَ علی جمرٍ وإن تعبوا

والسائحونَ بلا زادٍ لأمرهُم***إلا كثير من الرحمن مكتسبُ

والراكعونَ علی علم ٍ ومعرفةٍ***والساجدون وعين الحب تقتربُ

والقائمونَ وحبُّ الناسِ في يدهِم***كأنّهُ حلّة يدري بها الأَرِبُ

إنَّا فقدنَا «الرَّضَا»... من بعد ما علقت***به الأماني... وهذا الحلم يَرتقبُ

ثجاجُ ماءٍ له رقت جوانحُنا***ومألفُ الخير إذ للخير ننتسبُ

غابت له بسمة المعشوقِ وانقطعت***تلك الليالي التي دانت لها الكتبُ

ص: 260


1- الأستاذ سمير علي المسلم.

كم بالقناديل طافت كفُّ رائدنا***ونمنماتُ حديثِ الليل تنسكبُ

يرخي مع الهمس قلباً نابضاً يقظاً***أنعم بيانَ «عليِّ» إنكَ الرَّطِبُ

وأنتَ تُخرجُ من بينِ اللحودِ يداً***تشيرُ أنَّ رعاة الظلم قد وثبوا

جرحُ «البقيع» و «سامراءَ» متصلٌ***وصولة الحق تدعو من لها غضبوا

وأنت تُخرجُ من بئر ٍ معطلةٍ***صديق قوم عن الأهداف قد هربوا

وأنتَ سدٌّ علی تيهٍ وإن سقطت***فيه الأنوفُ... فلن يعلو لها القصبُ

ياغصنَ «سيناءَ» نارُ اللّه مؤنسة***ونارُ فقدك في الأحشاء تلتهبُ

تركتنا نلهثُ الأحلامَ في خلدٍ***وفورة الدمع لم يهدأ لها سَرَبُ

وفوقَ نعشكَ أيدينا مُعَلقة***يخاف من يمِّ حزن قعرُهُ نَصَبُ

كلُّ السلاماتِ خذهَا من حناجرنا***أبلغ بها سادة... إياكَ قد رغبوا

يا حاملَ الورد نحوَ القبر مبتسماً***لك الجنان ُ... وكم تهفو لك القببُ

ص: 261

فتى القداسة والهدى

فتى القداسة والهدى(1)

فَتی المَكارم والأَخلاقِ والشَمَم ِ***فَتی الهُدی والتُقی والفَضلِ والكَرَم ِ

فَتَی القَداسَةِ قَد طابَت اُرومته***مِن شامخ ِ الصُلبِ أو مِن طاهر ِ الرحمِ

فَتَی يَمّدُ جذور العِزّ في نَسَب***إلی النّبي وَيرقی ذُروَةَ القممِ

فَتی ابوهُ عليٌ قد سَما شرفاً***مَن مثله بعُلوّ الشأن في الأُممِ

وأمّهُ بضعةُ المُختارِ فاطمة***أنعِم بِأمّ أبيها روعةِ النعمِ

لهُ المفاخرُ في أنسابِه وَله***أن يمتطي قممَ الجوزاءِ بالقدمِ

***

أبُوه كانَ مناراً للهدی وله***جدٌّ يُعطّرُ عِندَ الذكرِ كُلّ فم ِ

مِن أُسرة هو قَد طابت مناقبُها***في العلم والزُهد والتقوی من القِدمِ

فتیً ولكنّه يبدو بسيرتهِ***شبيه شيخ ٍكبير السّن ِ أو هرم

فتیً ينير بصبح الوجه مجلسه***وعند منطقه يرقی إلی الحِكم

كانَت ولادته في كربلاء وقد***رأی الحياةَ بها من أروع النعمِ

بالخيرِ والخصبِ قد جاءت ولادتهُ***يأتي اخضرار الرُبی بالمزنِ والديم

***

كالشمسِ قد كان يبدو في مطالعهِ***في فجرها يَتهاوی حالِكُ الظلم ِ

وعاشَ في كربلا في رفعة وتُقی***في ظلّ والدهِ ذي العلمِ والهمم

وكان والدهُ يرعاه تَربيَةً***وكانَ في فَنّها ناراً علی علم

ص: 262


1- الأستاذ جعفر الشيخ عباس الحائري.

وقد تربّی ببيتٍ بالدلالِ وقَد***غَذتهُ ثدي لبانَ المجد والشيم

قرّت لوالِدِه عين بمولده***وقد رأی فيهِ آثاراً مِن العِظمِ

يمشي الهوينا وقاراً شأن والدِهِ***في طيب سيرتهِ في سيرهِ الرسم

***

وجاور السبط في مأواه معتبرا***قد نال فضلاً من الرحمن ذي العظم

ووقعة الطف قد ادمَت محاجرَهُ***في قتل سبط رسول اللّه وهو ظمي

مصارعاً لذويه قد رَأی ورَأی***طفلاً لهُ خضبت أوداجه بدمِ

وبعد مقتله هدّوا مضاربهُ***وأشعلو النار في الأبيات والخيم

وروعّوا نسوةً في غارةٍ ذعرت***منها الصبايا ولاذت في ذُری الأكَم

أبی الهوان أبو الاحرارِ حيث قضی***علی الصمود ولم يمدُد يد السَلَم

***

كان الفقيد نراهُ في محافِلنا***وفجأةً دون نذر مات أو سَقمِ

صوت ناعيهِ إذ يَنعاهُ لَوعنا***ياليت آذاننا باتت علی الصمّمِ

والقلب ينزفُ من هولِ المصابِ دَماً***وصارَ في وَطأةِ الأنباء في ضَرمِ

ولستُ انساهُ يوماً مابقيت وما***وصال روحي عن جسمي بمنجذم

هذي القصيدة قد انشدتها ألماً***وهل يُخفّف انشادي من الألم

كلا ولكن رفعتُ اليومَ تعزيةً***إلی ذويه وعمٍّ عالم ٍعَلَم ِ

***

السيد الصادق المحمود في شرفٍ***والمرجع البحر ِفي الافضال والهمم ِ

وعمّهِ مجتبی في عزّةٍ وعُلاً***في العلم ِوالحلم ِ والأخلاقِ والكرم

إلی أشقائِهِ الأعلامِ اذ فقدوا***أخاً عزيزاً غزير العلمِ ذي شيم ِ

ص: 263

وقد رفعتُ إلی الأخوال تعزيةً***في فَقدِ ذي رفعةٍ في العلمِ محترم ِ

معزّياً أمة الأسلام ِإذ فقدت***من كانَ يعملُ للإسلامِ في همم

وبالضّراعةِ وجَّهتُ الأكفَّ وفي***دعواي أسأل ربي باريء النسمِ

***

أن يمنح الصبرَ والسلوانَ في كرمٍ***إلی ذويه ومن في الضر والبرمِ

إلی التي حملته ثم قد حضنت***ترعاهُ ليلاً بودٍّ وهي لم تنم

وهي التّي فقدت بالرعي صحتها***حتی غدت في سنّي العجز والهرمِ

بالأمس قد فقدت بعلاً وقد فُجعت***بموته حيث عاشتَ عيشَ مهتضم

واليوم تفقدُ ابناً عالماً عَلَماً***قد كان ذُخراً وفيَّ العهد والذممِ

محمدٌ الرضا قد كانَ فارقَها***وفارقت روحُه الدنيا ولم يدُمِ

***

قبلَ الأوان قضی في عِزّ روعته***والمسلمون غدوا في الحزنِ والألم

غابَ الفقيد ولازِلنا بغيبتهِ***نَحيی الأذی والأسی باللوح والقلم

وراحَ ضيفاً علی الرّحمن منزلهُ***في مقعد الصدق في الجنّات والنعم

يا ربِّ ضيفٌ اتاكَ اليوم معتصماً***وأنت أفضلُ مرجوّ ومعتصم

وكانَ قد فارقَ الاحبابَ مكتئباً***من بُعدهم وفراق الوُلد والحُرم

فاجعلهُ في زُمرةِ الأبرار مُبتهجاً***واطفيء ظماه بماءِ الكوثرِ الشبمِ

ص: 264

ألَق الصلاة

ألَق الصلاة(1)

أمامك ينحني ألقُ الصلاةِ***وفيك تذوب أحلامُ التقاةِ

وبين يديك مسبحةُ التجلّي***تفرّ إليك من غسق السبات

أراك فيرتوي ظمأي كؤوساً***وتنحسر المجرةُ في صلاتي

وتغتسل القوافي في طهور***من الآيات عن زيف الشتات

وتهتزّ الحروف إذا تناهی***لصوتك رنّةٌ في كل ِ ذات

أری فيك التقی إن ضلّ عني***طريقي والصراطَ إلی الهداة

أری فيك الصلاة وكلَ حرفٍ***من التسبيح يسجد في أناة

أری البيت الحرامَ ومن عليه***تجلّی في حياتك والممات

فأنت الزهدُ يمشي في خشوع ٍ***وصدقُ القولِ يفتتن الجهات

أبا الأخلاق ِ لن أُهديك دمعي***ولن أُرثي الفضائل من دواتي

رثاء الوجد للأموات حقٌ***وأما الخالدون عُری الحياة

مدادك سيدي خفقات قلبي***يُترجم نبضه قلقُ الرواة

إذا همّ اليراغُ أمام طودٍ***فليس له سوی قوت الفُتات

يصوغ الحمدَ والتسبيحَ دنياً***تطوف علی حجيج المكرمات

تماهی الشبلُ في أكناف ليثٍ***يحيّر من أتی بالمعجزات

فلا تلد الصِلالُ سوی صِلالٍ***ولا يلد الكُماتُ سوی الكُمات

ص: 265


1- الأستاذ عادل علي اللبّاد.

تطلّ بوجهك الآياتُ شمساً***علی زمن تكدّس بالجفاة

يغرّب تائهاً ويلجّ شرقاً***وبين يديه منطلق الفرات

أمامك سيدي أوقفت شعري***وليس غرامه في الثاكلات

أحرّض دمعةً تُشفي غليلي***لتكتبَ عِشقها في النادبات

أفتّش عن دموعي بين جفني***لعلّي أمتطي ركبَ النعاةِ

فليس إلی مماتك من سبيل***يؤجج زورقي بين الرثاة

فطِب يا ابن الكرام فإنّ درباً***يَفيءُ ظلالَه صدقُ الأباة

ونافح في طهارته كميٌ***وصادقُ منهج ٍ...كالراسيات

سيبقی واحةً للطير مهما***تقلّب أفقه تيه السُراة

يحوم وإن تناسی جانحاه***بأن الغصن يرجع للنواة

هنالك كربلاء تضجّ شوقاً***فحقق للإمام الأمنيات

ألا فابعث إليه ترابَ طهرٍ***يضمّد شوقه عند الصلاة

فأرضك يا حسين طريق ربي***وأُحجيةُ الخلود إلی الحياة

ص: 266

النهرُ... متجهاً إلى الأعلى

النهرُ... متجهاً إلى الأعلى(1)

هادئا كالفجر أسرجتَ البُراقا***فمضت عيناكَ للهِ اشتياقا

وفقدناكَ علی درب ِ المُنی***وكأنَّ الكون َ من بعدِكَ ضاقا

لم يَدُر في خاطر الآفاق ِ أن***يستحيلَ البدرُ في رمش ٍ مُحَاقا

وحُبسنا نحنُ في أدمعِنَا***بينما أنتَ تحرَّرتَ انعتاقا

فلقد ناداكَ طيفٌ آخرُ***من جهات الموت يهواك اعتناقا

ماورائياً تشهيتَ الرؤی***وتصوَّفتَ مع السِّر ِ اعتلاقا

ولكي تدخلَ في الجنَّة لا***بدَّ من أن تَقبل الموتَ صَدَاقا

أيها النهرُ المُسَمَّی ب (الرِّضا)***طِبتَ مجری وتباركتَ انطلاقا

كنتَ تجري لا لشيءٍ غيرَ أن***تكملَ الشوطَ الرساليَّ سباقا

فجأة... غيَّرتَ مجری رحلةٍ***فتموَّجتَ إلی الأعلی اندلاقا

يا لعُمر ٍفي مداهُ ازدهرت***نجمة الذات ِالتي تضوي ائتلاقا

لكَ عُمرٌ آخرٌ فصَّلَهُ***حائكُ الغيب ِ وأثراهُ نِطاقا

توأمَ الأخلاق لحماً ودماً***لم تُطِق أخلاقُك الغرُّ فراقا

عاشقوك احتشدوا في موكبٍ***خُطَّ بالدمع ِ الحميميِّ مَساقا

ورأينا سورة (الحَمدِ) اتت***وهي تحدو سُوَرَ اللّهِ اتساقا

رفعت نعشكَ حتَّی التصقت***راحةُ الآياتِ بالنعش ِ التصاقا

ص: 267


1- الأستاذ ياسر آل غريب.

جئتُ أرثيكَ ولكن آهةٌ***عَرَضَت لي حيثُ أذكتني احتراقا

فاستحمَّت كلماتي في اللظی***وارتمی الوزنُ الرماديُّ مُعَاقا

ربَّة الشِّعر التي تسكنني***لم تلد زيفاً ولم تولد نفاقا

لم يزل قلبي صديقاً للأسی***مُذ علی العهدِ الولائيَّ أفاقا

كلما أقبلَ موت ضمَّهُ***قلبيَ الحاني كما ضمَّ الرفاقا

أنتَ من عائلةِ الشَّمس ِ التي***سكبت أنوارَها كأساً دِهاقا

قد توزعتم علی كلِّ المَدَی***ورؤاكم في المنافي تتلاقی

سرقَ الحرمان ُ أفياءً لكم***فخذِ الآنَ عراقاً فِعراقا

ولتعش يا كربلائيَّ الهوی***إنَّ عندَ السبطِ للخُلدِ مَذاقا

ص: 268

يانبعة من رياض الحسين

يانبعة من رياض الحسين(1)

من الأبِ للإِبن سيلُ العزاء***يُبكّي وتبكي له كربلاء

ومن أرض قمّ لأرض الطفوف***مواكبُ ناكسةٌ للّواء

وكُلُّ المنائر من فوقها***مآذنُ بُحَّت بصوت البكاء

وهذي الملايين تذري الدموع***شموعاً تذوبُ من الكبرياء

وفَيتَ لشعبك إذ جئته***فقيداً فجازی الوفا بالوفاء

فها أنت نبضٌ لكلّ ضمير***وفي حلكة الليل بدرُ الضياء

ويخسا الردی أن يغال الفقيه***وفي برده خُلُقُ الأنبياء

خَلُدتَ وأنت ببطن التراب***وبعض علی الأرض كالمومياء

مددت يديك تناجي السماء***فمدّت يديها إليكَ السماء

وحين سجدت عَرَجتَ إلی الط***باقِ فكان النزول ارتقاء

فيا نبعة من رياض الحسين***ويا دوحة العلم والعلماء

ويا قلم الحقّ حين يسيل***علوماً يفوقُ دمَ الشهداء

ويا من تُجَدِّد ذكری المُجَدِّ***دِ من آل شيرازَ لولا القضاء

طويت المساف بعمر قصير***طويل إذا عدّ عُمرُ العطاء

ليهنك ترب لديه الشفاء***وقبر به يُستجاب الدُّعاء

رقدتَ به بعدَ بُعدِ الطريقِ***وألقيت رحلك غِبَّ العناء

وصوتك مازال بالظالمين***يصيح وكِبرُكَ مِلء الرداء

ص: 269


1- ابن العراق.

نُشَرَّدُ ننفی وحين نموت***يكون لنا في العراق الثواء

فنحن كنخل الفرات الطويل***وقامته ترفض الانحناء

فقُدِّست من غائب حاضر***وبوركتَ في البدءِ والانتهاء

فقيد الفقاهة صبري عليك***قليل وحزني طويل البقاء

ولا غَروَ فالقلبُ بين الضلوع***كجمر الغضا أو كنار سواء

وشكویً إليك لأنّ الغريب***عليم بما يشتكي الغرباء

كفانا التفرق قد ملّت الش***عوبُ وملّ الطريق الحداء

علامَ تدقّ لنا منشِمٌ***أسافينَ مذبحة الأبرياء

فنغمس بالعطرِ طهرَ الأكف***ونخرجها ناضحات الدِّماء

ونحن بنو وَطَن ٍ حسبه***فخاراً عليٌّ أبو الأوصياء

حذار حذار أسود العراق***وأنتم ليوث بكل لقاء

فمن حولكم كاشرات الذئاب***تكنّ لكم في الصدور العداء

إذا ما تجارحتُمُ هاجها***علی الأضعفينَ نزيف الدماء

أو انخفضت بعض أصواتكم***علا كُلُّ صوت لهم بالعواء

ألا وحّدوا شملكم وانهضوا***يقم مارد من صميم العبياء

أيبلع خيراتنا غيرُنا***ونحن جياع نقاسي العراء

ويبني بنا غيرنا مجدهم***ويسحق تاريخنا الأدعياء

دعونا ننل حظنا كُلّه***ومن ثمّ نقتسم الأنصباء

وإنّي كفيلٌ بأنّ العراق***له سوف تركع عليا ذُكاء

ص: 270

الراحل الكبير

الراحل الكبير(1)

أيّ خطبٍ قد ناح فيه الوجود***فاجأَتنا به المنايا السّود

أيّ خطبٍ أجری العيون دموعاً***يوم قالوا نور الهدی مفقود

أيّ خطبٍ أدمی القلوبَ شجاه***وبه اغبرَّ ساحُنا والصّعيد

أفحقاً قد اُسكت البلبل الصدا***حُ أين اختفی له التغريد

ودروسُ العلوم أين صداها***أين منها استاذها والعميد

أين ذاك الرضا محمّد لم يأ***لُ اجتهاداً طريفُه والتليد

أتری يرجع الحبيب ولكن***غائبُ الموت غائب لايعودُ

***

أيها الخطب هل علمتَ من استهدفت***أم مَن أصبتَ فهو العمود

هو عين به القلادةُ تزهو***وهو فينا المحلّق المشهود

أفهل كان عندك اليوم وِترٌ***مع خير العباد إذ تستفيد

عجباً كم تری تعيش علی الأرض***أناس ما فيهم ما يفيد

وسهام المنون منك ترامی***صَائبات بها الهدی مقصود

يالها من خسارة يُفقَدُ العلمُ***ويُمسي وبابه مسدود

حسبنا اللّه و المصير إليه***وهو فينا العليمُ فيما يريد

ص: 271


1- الأستاذ الشيخ جعفر الهلالي.

***

أيّها الراحل الكبير فقدناك***وأنت المهذّب المحمود

وخسرناك عالِماً تربوّياً***ببيان منه الوری تستفيد

وعهدناك واحداً بعلاه***قلّ في مثله الزمان يجود

وجُماعاً للمكرمات نمتها***لك آباؤك الكرام الصّيد

لست أدري ماذا أقول بشعري***أو هل يرتقي إليك القصيد

أنت في عالم الفضيلة فرد***أنت حقاً في عزمك الصّنديد

خُلق رائعٌ وعفَّة نفس ٍ***وكمالٌ ما شابه تنكيدُ

وكذاك الرجال يسمُو علاها***حين يسمو بها الخلاق المجيد

وبذا تكسبُ الحياة حديثاً***بلسان الزمان وهو الشهيد

***

أيّها الظاعن الذي ترك الدنّ***يا تلقاه بعد ذاك الخلود

قد ترحّلت عن أليم حياةٍ***لحياةٍ فيها المنی و السُّعود

ولَحقتَ الركبَ الجميل لأهليك***فألفيت عندَهم ما تُريدُ

فهناك الجنان ظلّ ظليلٌ***وهناكَ النّعمُ ليسَ يبيدُ

وهناك الشراب كوثر عَذبٍ***من يد المرتضی وطاب الورودُ

فسلام عليك عشت سعيداً***وبأخراك أنت ذاك السعيد

ورضا اللّه و هو أكبر شيءٍ***لك منه وهو العطاء الأكيد

***

يا فقيداً قد شيّعته نفوسٌ***كلّ نفسٍ بها الأسی معقود

ص: 272

ولسان الرثاء يقصر نظماً***لمصاب فيه العلی مكمود

أفهل تبلغ الحروف بياناً***وقصاری تلك الحروف القصيد

وأری العين لو تسيل دماءً***ما وفت من به الرشاد فقيد

ولو أنّ البكاء يُرجعَ ميتاً***لرأيت البكاء منّا يزيد

وستبقی وذكرك العاطر الفوّاحُ***ما اخضرَّ في المهامه عود

***

يا نجوماً شعّت باُفقِ سمانا***كيف غبتم وضمّكم ملحود

كيفَ غادرتم الأحبّة للتُر***بِ وأنتم منارها والوجودُ

ولكم قد أنرتمُ الدرب فينا***فهُدانا بنوركم موجود

وإذا ما تقاذفتنا صروف***فإلی ظلّكم هناك نعود

وإذا عمّت المشاكلُ يوماً***فلديكم في حَلّها تأكيد

أمسِ قد غادر الأب الرا***حل الفذُّ فأضحی ينوحه الموجود

وبذا اليوم جُدّد الخطب فينا***حينما غادر الصحاب الوليد

قد تعجّلتُما المسير فأضحی***بيننا الحزن والمصاب يزيد

يا سماء اهتفي بكلّ نعاءٍ***فلقد غاب بدرك المنشود

***

وختاماً لِحوزة العلم منّي***نظمُ هذا القريض وهو فريدُ

فاقبلوا منّي العزاء فإني***أنا في الخطب مثلكم مفؤود

ولآل الفقيد خير عزاءٍ***فهو باقٍ لم يُحصه التعديد

ص: 273

وإلی (الصادق) الحزين اُعزّي***واُواسي وخاطري مشدود

إن فقدنا شمساً يُضيء سناها***فلدينا بك السنّا موجود

ص: 274

على ابواب قدِّيسٍ

على ابواب قدِّيسٍ(1)

سلاماً ايها الراحل***وشوقاً في الحشا قاتل

سعيرُ النارِ في صدري***وجرحي لم يزل ماثل

سراج انت في فكري***وزيت ضوءه شاعل

سماء امطرت روحي***وقطر غيثه هاطل

حديث الليل في بيتي***وشغل الخاطر الشاغل

ويادمعا علی خدي***من الجفن أسيً هامل

بذاك الفقد آمالي لقد***خابت علی العاجل

الا ياجُّل أحلامي***سدی ضاعت مع العاذل

تعلَّمتُ الأسی كُرهاً***ورحتُ ألعنُ الفاعل

سدلتُ ثوب آهاتي***وجرحي نزفه سادل

مددتُ للمُنی كفّي***وقلبي للهوی حامل

عقدتُ حبل آمالي***وحبلي بالولا نازل

علی ابواب قدِّيس***أری نفسي انا السائل

فياقديس دنيانا***أفض من برِّك الفاضل

وجد ياخير من اعطی***وماشحَّ علی نائل

حقيق بحرُك الزاخر***سخي جرفك الساحل

ص: 275


1- الأستاذ زهير المخزومي.

فلستُ عن هوی حبي***نسيّاً كنتُ او جاهل

ولستُ طالبا دنيا***وعمري للفنی زائل

فهب لي من عطا ربي***دعاءاً لطفه واصل

فإن متَّ فقد عشتَ***تقيا عالما عامل

وان عاشوا فقد ماتوا***ومازالوا علی الباطل

فانت الصدق للحق***وانت حدُّه الفاصل

يخاف الموتُ أشباحاً***فيبدوا شاحبا ناحل

فكيف لايری فيك***شجاعا عالما كامل

فيبصر نفسه حقا***حقودا جاهلا عاطل

ويُكسي جسم جلادٍ***بثوب لونه ماحل

ويُرزي بيتَ قديس ٍ***بآيات الهدی حافل

فكيف الموتُ لايدمي***تقيا صابرا باسل

وكيف الحقدُ لايفني***كريماً أكلَهُ باذل

وكيف الجهلُ لايَبني***تُراثا سيئا فاشل

فأنت الطهر ياطهرُ***وانت السيد العاقل

وانت الوعظ والرشد***المربي الناصح القائل

وانت من فنی عمرا***جوادا ماقضی باخل

جليس في حشا قلبي***وفي تأريخه داخل

ص: 276

فقد الرضا

فقد الرضا(1)

هيا لنبك فقيد العلم والكرم***رجلا بكته دماء مقلة الحرم

لا تعجبن فقد أجری مدامعه***حزنا عليه إمام العرب والعجم

قد هدّ من شرعة الهادي دعائمها***فقد الرضا ذي الندی والحلم والشيم

من ساد في أدب من ساد في حسب***من ساد في نسب للطاهرين نُمي

اليوم مات أبوك الخير مرجعنا***واستشهد الحسن المهدي ذو الشمم

اليوم مال عمود الدين منحنيا***يبكي عليك بلا كلٍّ ولا برم

اليوم قد نامت الأعداء هانئة***فالعين منها طويلا منك لم تنم

الجهل صفّق والشيطان في جذلٍ***والدمع من محكم التنزيل كالديم

يا سيدا قد حباه اللّه مكرمة***حتی بدا مَلَكا يمشي علی قدم

يا نسل فاطمة يا شبل حيدرة***يا خير من لأبي الطهر الجواد سمي

ذكّرتنا سيدي بالمجتبی خُلُقا***وفي السماحة والإقدام والكرم

وأنت من كانت الدنيا طليقَتَه***فلم تمل نحوها يوما ولم ترُم

وأنت من كنت للمحراب فارسه***وللخطابة والقرطاس والقلم

وأنت كنت لنا يا سيدي أملا***عند الخطوب ملاذا خير معتصم

ما زلت يا سيدي رغم الردی علما***ما زلت رائدنا يا عالي الهمم

ما زلت تدفع عن أبناء فاطمة***شر الطغاة دعاة الجبت والصنم

إن أنس لا أنس في يوم صداقتنا***إذ كنت ترشدنا للخير من قدم

ذا كيف ننسی محيّا نوره ألق***والثغر فيه كمثل الدر منتظم

ص: 277


1- الأستاذ إبراهيم غلوم.

والقلب من بعد ما غادرتنا سحرا***أضحی لبُعدكم كالجمر مضطرم

فكيف يسلو فؤاد أنت تملكه***منذ الطفولة حتی حل بي هرمي

ذكرت فيك وفاء لانظير له***للأصدقاء وللأَهلين والرَحِم

ذكرت فيك حياء قل في زمن***وهو الدعام لدين المؤمن الفهم

ذكرت زهدك في الدنيا وزبرجها***زهد المسيح بما في الأرض من نعم

ذكرت حلمك عمن جاء من حنق***يبدي الصفاقة في شتم وفي تهم

ذكرت فيك تقی والناس في شغل***عنه بمعترك الدنيا وبالنهم

كم كنت ترشدنا نحو الهداة وهم***آل النبي ولاة الخلق كلهم

طوبی لوالدة قد أولدتك كذا***طوبی لوالدك الهادي من الظلم

يا فخر أمتنا يا حصن شرعتنا***ويا حميّاً لما لله من حُرم

كم قد نثرت علوم الفقه والسنن***وكم نشرت لآل البيت من علم

تهوي إليك قلوب الناس من شغف***إذ كنت تأسرها بالفعل والكلم

حتی صعدت إلی الفردوس مبتهجا***والأهل في حَزَن والصحب في ألم

قد شيعتك ألوفٌ وهي باكية***تود لو أنها تبكي بفيض دم

مع النبيين والآل الكرام فطب***قرير عينين في جنب الحسين نَمِ

سقيا لقبرك مولانا أبا حسن***يا آية اللّه يا أنشودة بفمي

صلی عليك مدی الأيام خالقنا***عد الكواكب والأفلاك والسُدُم

ص: 278

رايت السماء على شفتيك

رايت السماء على شفتيك(1)

وأفتحُ صوتك في مسمعي***أيا ساهراً فوق جفني معي

لأدخل والحزنُ... نمشي علی***صداكَ المكسَّر في أضلعي

وأفتح صوتك ذاك الوقور***أيا باب جنَّتي المشرع ِ

لتدخل خلفي كل القلوب***تجرُّ الأنينَ علی مطلعي

فهلا رفعتَ لحاف الردی***وأبصرتَ من جاء في مضجعي

هي الأرض خرّت علي جيرتي***فكيف لِموتِكَ حرفاً تعي؟!!

وكيف تصدق ثغر الردی***وها هي تَصغي لما يدّعي!!

هناك علی ضفة الناعيات***رأيتكَ لا بل أری مصرعي

رأيتكَ صمتاً يلفُّ الوجود***وقد أخرسَ الحبر في إصبعي

رأيت السماءَ علی شفتيك***تمدُّ بآهاتِها أذرعي

وقد خيَّمَ الليل في مقلتيك***ولم يبقَ للنور مِن موضع ِ

علی منبر العين قم وارتق ِ***فها هي جالسةٌ أدمعي

فصوتك في غرفة الذكريات***يطلّ علی قلبي الموجع ِ

أيا وارثاً عمة الأتقياء***فمن مرجع ٍ لحت في مرجع ِ

أيا ابن السلام الذي ما انحنی***بوجهِ القنابل ِ والمدفع ِ

ويابن الهداية تلك التي***ربيت بجدرانها الأربع ِ

ص: 279


1- الأستاذ عبد اللّه علي الغاوي.

رضعتَ المعالي في حجرها***فبوركتَ بوركت من مرضع ِ

وأشرقتَ وجهاً يزيحُ الظلام***بديجور أمّتنا المُترع ِ

هنا أذَّن الكونُ في أحرفي***(فداءً لمثواك من مضجع ِ)

يرتّلُ فوق لسانِ الجنان***أيا نفس راضيةً فارجعي

ص: 280

نذير الارتحال

نذير الارتحال(1)

بينَ سرمدية البقاء ومُدن الفناء

يقبعُ الجُب

وبخاصرة الفقد يستحيلُ حروفاً تنعی مملكة الأحياء

وهذا هو نذيرُ الارتحالِ قد دق أجراس المُسافرينَ للعلياء

واستجابَ لهُ السيد الفقيد

محمد رضا الشيرازي

ولهُ أتيتُ بترتيلةَ الهمس التي تناثرت علی صفحة قلبي

فليأخذها بينَ يديه

***

وكأنّكَ كُنتَ تمدُّ اضالِعكَ

كي تعبُرَ مِنها أسرابُ الأملاكِ إليك

وتمدُّ يديكَ بخارطة الأحياءِ رحيقاً

ينبتُ مِن جفنيك

فاقبلني حرفاً تاقَ ركوعاً في حرفيك

واقبلني نبضاً تاقَ سجوداً فوقَ جبينك ذات صباح

سامحني حينَ أُشاهِدُ قلبكَ يمشي

فأنا طمّاعٌ جئتُ فهبني مِن كفّيك

ص: 281


1- الأستاذ صالح آل دعيبل.

وابني لي عندكَ بيتاً في نعليك

أمطرني ظلَ اصابعكَ المسكونةِ نهراً

دعني أتنفّسُ مِن رئتيك

فرحيلُكَ سوّرَ مملكة لله أُقيمت في رمشيك

فتعالَ لِتغرِفَ حُزناً

داعبَ قلبَ الشمس ِ فذابَ دموعاً مثل الليل عليك

ما أعمقَ سر اللّه الساكنِ في روحكَ حتی

يشتاقَ بهذا الوقتِ إليك

فلترحل أنتَ لِدارِ سعادة روحِكَ حتی

يستلقي ظلُ العرشِ علی خدّيك

وسنبقی نحنُ نُراقِبُكَ

ونقولُ لِمن يسألُ عنكَ بأنّكَ سافرتَ ولم تُخبرنا

وبأنّكَ سوفَ تعودُ إلی نهريك

فهُنا دجلةُ فاضَ حنيناً فيكَ وتاقَ لقاكَ ليحكي بينَ يديك

وفراتُ الشوقِ يُنادي قلبكَ يالبّيك

يا لبّيك

يا لبّيك

ص: 282

شمس بلا افول

شمس بلا افول(1)

مصابك سيدي يابن البتول***أسال الودق من عين الرسول

بكاك الحرف مثل بكاء طه***لحمزة عمّه البطل القتيل

بكاك الفقه والعلم الجلي***بكاك الحق في نهج السبيل

ولي اللّه كنت لنا غياثاً***وفيك الصدق بالفعل النبيل

وفيك تواضع وبك اشتياق***للقيا اللّه بالفضل الفضيل

وربك سيدي قد شاء تأتي***لقرب الآل بالظل الظليل

بلا إلا التجلي في زهادٍ***ومعرفةٍ لخالقك الجليل

فمن نور الحسين علاك نور***كنور المصطفی دون الأفول

مناجاة بك اسّامت تعالت***لفوق السبع في سر النزول

بك الآيات صيغت منك فقهاً***وعرفاناً سما دون الرحيل

وقافية الشعور بنبض قلب***كتدفاق الحياة بلا مقيل

تهاطل غيثها يسقي عقولاً***بحرف قد غدا غوث العقول

تقوس وارتقی يعلو جبيناً***كبدر النصف من دون الذبول

رضاً لله تذر النفس حباً***مناجاة كتدفاق السيول

كبحرٍ شعّ إيماناً تجلت***به الآفاق من جيل لجيل

هو العلامة المجبول حباً***يقيناً يقتفي إثر الرسول

ص: 283


1- المهندسة كوثر شاهين.

«محمد الرضا» من آل طه***لنا شمس تضيء بلا افول

وكالسجاد في وصف تداعت***له الأقلام سبراً بالنهول

لرب خالق قد مد كفاً***بها استجداه كالعبد الذليل

كفا بي خالقي عزاً بأني***لك العبد استجارك في ذهول

وفخراً أنت لي رب إلهي***ومعبود لجيل إثر جيل

وأوزعني لشكرك يا إلهي***بخير الشكر أدعو والمقيل

فلا إلاك قد اسكنت قلبّي***وجاوزت السماك إلی المثول

ولا إلاك ربٌ لي إلهٌ***بك استهديت من وعثاء ليل

وسابقت الغروب إلی شروق***لنور النور من نور الرسول

هو العلامة الساقي كؤوساً***من العرفان من آي النزول

وقدوة كل من للعلم يسعی***لحب المصطفی حب البتول

دعاه اللّه للقربی فلبی***وميضاً عاشقاً لا للطول

تقدس سره الموصوف آياً***بمنتجب المسيرة للقبول

وقدست المناهل حيث يأتي***بتدفاق البحوث كما الهطول

سقاه اللّه وجهاً مثل بدر***منير والدجی صمتُ الذهول

فذاك النور من جد لجد***لآباءٍ بهم وهج الخليل

تغمده الإله إذ اجتباه***برحمته التي كالسلسبيل

وشاء له النجاة كما احتباه***بفيض منه بالذكر الجميل

سجدت لربك الرحمن تقوی***أشيرازي أنعم بالوصول

ص: 284

لقرب المصطفی طه وجد***ودوح المرتضی صنو الرسول

وفي الإسلام يا مولاي ثلم***كثلم القلب في عمق الثكول

فلا واللّه ما أبكيت آلا***لقد أبكيت كوناً بالرحيل

سلام اللّه ما نطقت شفاه***عليك سلام ربي بالقبول

وصبراً يا طلاب العلم صبراً***يمن اللّه بالصبر الجميل

ص: 285

ص: 286

فهرس المحتويات

مقدمة المؤسسة... 7

الفصل الأول: الفقاهة والأخلاق

كان أملي (السيد صادق الحسيني الشيرازي)... 17

رجالٌ صدقوا (السيد مرتضی الحسيني الشيرازي)... 23

حصن الإسلام (الشيخ فاضل الصفار)... 32

أولاً: السمات الشخصية... 34

احترام الناس... 38

تواضعه... 39

الإيجابية... 40

برّ الوالدين... 41

زهده وورعه... 42

علاقته بالحسين (عليه السلام) ومظلوميته... 44

ثانياً: السمات العلمية... 45

1- خصوصيات بحثه الفقهي... 46

2- خصوصيات بحثه الأصولي... 58

وريث الأنبياء (السيد فاضل الجابري)... 73

مقدمة تبيين الأصول (الشيخ فاضل الصفار)... 95

ص: 287

سيرة وضاءة (الشيخ عبدالكريم الحائري)... 104

الفصل الثاني: شذرات من حياة الفقيه المقدس

حياة مكتملة (الأستاذ حيدر الجراح)... 119

السيرة الذاتية... 119

وفاته... 121

مؤلفاته... 121

شهاداته... 123

السمات الشخصية للفقيد الراحل... 168

التقوى... 168

امتيازات التقوى... 170

مخافة وتقوى... 172

التعلق بالدنيا... 177

زهد علوي... 178

تسليم كامل بقضاء اللّه وقدره... 181

الاخلاق... 186

المقدمة... 186

ماهو الخلق؟... 187

الأخلاق جوهر الدين... 188

الفرق بين الأخلاق والعلوم الأخرى... 191

الاخلاق الجميلة... أو قارورة عسل مصفّى... 196

الخلق الرفيع... 199

تواضع يستحي منه التواضع... 200

لطيف كالنسمة... 201

ص: 288

التاثير... أو حضور يلامس شغاف القلب... 206

لا بديل عن الثقة... 206

التوازن... 207

كيف يمكن تحقيق هذا التوازن؟... 208

المسؤوليات الاجتماعية... 210

ماهي مظاهر المسؤولية الإجتماعية؟... 212

ومن أخطر مظاهر نقص المسؤولية الإجتماعية... 212

النهج والطريقة والاسلوب... 213

السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) والتاثير عن طريق الاعلام... 221

مقتطفات من سيرة عطرة... 225

الفصل الثالث: الفقيه المقدس في منظار الشعراء

في رثاء الفقيه الحبيب آية اللّه السيد محمدرضا الشيرازي (الأستاذ السيد محمدرضا القزويني) 233

في الذكرى الثانية لرحيل الفقيه الفقيد السيد محمد رضا الشيرازي (الأستاذ السيد محمدرضا القزويني) 235

السّيّد رضا الشيرازي (السيد أبو جواد المدرسي)... 238

مخزن (السيد أبو جواد المدرسي)... 241

الطبيعة الإنسان (الأستاذ هاني الدار)... 243

ملك مقرَّب أم نبيّ مرسل... أم انت عبد صالح قديسُ (الأستاذ زهير المخزومي)... 244

تلاوة عند مقصلة الأنبياء مهداة الى الراحل الكبير سماحة آية اللّه السيد محمدرضا الشيرازي (الأستاذ علي حميد الشويلي) 245

خطب الأسى (الأستاذة تسنيم الحبيب)... 247

رضا الإله (الأستاذ علي جعفر)... 249

ص: 289

رحلة قديس (الأستاذ محمد أمين أبو المكارم)... 251

ومن قال أن الرضا راحلُ (الأستاذ علي حسن الناصر)... 254

أزهار شيراز (الأستاذ صفوان لبيب بيضون)... 257

عقاباً لأهل الأرض (الأستاذ علي جعفر آل إبراهيم)... 259

ثجّاجُ ماء (الأستاذ سمير علي المسلم)... 260

فتى القداسة والهدى (الأستاذ جعفر الشيخ عباس الحائري)... 262

ألَق الصلاة (الأستاذ عادل علي اللبّاد)... 265

النهرُ... متجهاً إلى الأعلى (الأستاذ ياسر آل غريب)... 267

يانبعة من رياض الحسين (ابن العراق)... 269

الراحل الكبير (الأستاذ الشيخ جعفر الهلالي)... 271

على ابواب قدِّيسٍ (الأستاذ زهير المخزومي)... 275

فقد الرضا (الأستاذ إبراهيم غلوم)... 277

رايت السماء على شفتيك (الأستاذ عبد اللّه علي الغاوي)... 279

نذير الارتحال (الأستاذ صالح آل دعيبل)... 281

شمس بلا افول (المهندسة كوثر شاهين)... 283

فهرس المحتويات... 287

ص: 290

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.