نحنُ و الغرب المجلد 2

هوية الكتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

2

نحن والغرب

مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي

إعداد وتحرير

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني

الناشر:

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية /العتبة العباسية المقدسة

الطعه:الأولی2017م-1438ه-

2017 م

ص: 1

اشارة

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 2

ص: 3

هويّة الكتاب

الکتاب:

نحن والغرب(ج2).. مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي

إعداد وتحرير:

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني

الناشر:

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية /العتبة العباسية المقدسة

الطعه:الأولی2017م-1438ه-

ص: 4

الفَهْرسِ

نقد الغرب في دول الشرق الأوسط

جمال الدين الأفغاني قارئاً .. الغرب نقض قيم الاستعلاء الحضاري

هاشم الميلاني...10

نقد الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي قراءة تعريفية في كتاب أصول الفلسفة

مازن المطوري...37

مُحَمَّد حُسَين الطباطبائي الفيلسوف الناقد والحكيم العارف

نبيل علي صالح...89

معمارية الهوية الفكرية الإسلامية عند الفيلسوف محمد باقر الصدر

ودورها في تفكيك التغريب

الدكتور رحيم محمد الساعدي...115

مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر

مازن المطوري ...143

العلواني والنظر إلى "الآخر"

.د. محمد شهید ...170

نقد الفكر الغربي عند مُرْتَضَى مُطَهَّرَي

نبيل علي صالح...189

ص: 5

الثقافة الغربية الحديثة على ضوء آراء الشهيد مرتضى مطهري ( رحمه الله )

تدوين ناد علي علي نيا ...216

الفلسفة التطبيقية بين الشرق والغرب عند الشيخ مهدي الحائري اليزدي

إعداد : هاشم الميلاني...259

قراءة نقدية للفكر الغربي الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي انموذجا

بقلم : محمد عبد المهدي سلمان الحلو...302

نقد الفلسفة الغربية عند الشيخ مصباح اليزدي...324

إعداد : هاشم الميلاني..344

معالجات تأصيلية في نقد الغرب عند الشيخ جوادي الأملي

إعداد: هاشم الميلاني...344

العلامة الشيخ الجعفري والابتعاد عن الفلسفة التقليدية

بقلم: عبد الله نصري...364

دراسة نقود السيد أحمد فرديد على الليبرالية الغربية

بقلم: عبد الرحمن حسني فر - وعماد أفروغ...417

آراء رضا داوري حول الغرب والاستغراب

«على ضوء تبني مجتمعاتنا المبادئ الغربية الحديثة »

تدوين: رضا دهقاني...449

ص: 6

الاستغراب في المنظومة الفكرية لرموز التنظير والتثقيف

في إيران بعد عصر النهضة والحداثة

«دراسة تحليليةً على ضوء آراء الدكتور كريم مجتهدي »

:تدوین: عبد الرحمن حسني فر...476

ماهية الغرب عند السيد حسين نصر

بقلم: عباس حيدري بور...523

المنهج النقدي عند إدوارد سعيد بنحو زحزحته فلسفة" الاستشراق"

الباحث معروفي العيد...593

ص: 7

ص: 8

نقد الغرب في دول الشرق الأوسط

اشارة

ص: 9

جمال الدين الأفغاني قارئاً.. الغرب نقض قيم الاستعلاء الحضاري

هاشم الميلاني

(1)

لا نقصد بهذا البحث الدخول في إجراء تعريفي بشخصية السيد جمال الدين الأفغاني (1838-1897) م، كأن يجيئنا بالعرض التوثيقي لسيرته الشخصية والعلمية، وتقديم بيانات سردية بأعماله ومؤلفاته. فمثل هذا الجهد التوثيقي درج عليه الكثيرون على امتداد أجيال متعاقبة. إنّ ما يسعى إليه الباحث في دراسته هذه، هي الإضاءة على جانب مهم من حياة الأفغاني، وخصوصاً لجهة مقاربة مواقفه النقدية من الغرب. ومع أن الأفغاني لم يأتنا بمنظومة معرفية متكاملة حيال المنظومة الغربية، إلا أن تلك المواقف انطوت على أهمية معرفية استثنائية، ذلك بأنها جاءت في سياق مناظراته الحداثة المتدفقة على العالم الإسلامي، وضمن دعوته النهضوية والإصلاحية؛ ولذا سنرى كيف أنّ السمة الغالبة على أبحاثه كانت النقد اللاذع لسياسات الغرب في البلاد والمجتمعات الإسلامية.

نشير إلى أنا قد اعتمدنا في عملنا هذا على الأعمال الكاملة للسيد جمال الدين المنشورة في سبعة أجزاء من تحقيق هادي خسرو شاهي، 1421 ه-، وفي إطار منشورات المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية. (2)

ص: 10


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية العراق، النجف الأشرف.
2- السيد هادي خسرو شاهي، الاثار الكاملة، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، ط2، طهران، 1412ه-.

اذ كان الأفغاني وجلاً من تغريب العالم الإسلامي، ولا سيما لجهة ما سيؤول إليه من تخبّط في هويته .. كان يقول : علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأنّ المقلّدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم شؤماًعلى أبناء أمتهم، يذلونهم ويحتقرون أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم..» (1: 81).

ويقول: «المتسربلون بسرابيل الإفرنج، الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط لا يميزون بين حق وباطل (1:101)

ومن هذا المنطلق، كان يعارض بشدة النظرة القائلة بأنّ العلاج الوحيد للأمةالإسلامية هو إنشاء مدارس عمومية على الطراز الجديد المعروف في أوروبا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى عمّت المعارف؛ كملت الأخلاق، واتحدت الكلمة واجتمعت القوة (1: 78) ، وذلك لرؤيته أنّ هذه العلوم لم تكن ينابيعها من صدور الأمة الإسلامية، بل جاءت عبر مثقفين هم مجرد نَقَلَة وحَمَلَة لهذه العلوم من دون أن يعرفوا تلك العلوم، وكيف بذرت بذرها، وكيف نبتت واستوت على سوقها، وأينعت وأثمرت، وبأي ماء سقيت، وبأي تربة غذيت، ولا وقوفٌ لها على الغاية التي قصدت منها في مناشئها..»، حينئذ سيكونون كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلاّ فساداً (1 :79) ولذا كان يقول: «لا ريب أنّ الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال التي لا تنال إلا بهمة عالية تأبى العبودية» (4: 182).

وفي الوقت نفسه كان يندد بالحكام الذين اعتمدوا على الأجانب، وسلّموا لهم مقاليد الأمور، حيث أنّ الأجانب في الممالك الإسلامية لا يجدون في أنفسهم حاملاً على الصدق والأمانة، ولكن يجدون منها الباعث على الغش والخيانة.. وإنّ الدول ما انخفض مكانها ولا سقطت في هوّة الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف السامية في أعمالها، فإنّ ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار (1 :156). كان يهيب بالحكام والأمراء الذين سلّموا جميع الأمور

ص: 11

إلى الأجانب حتى الخدمة الخاصة في بطون البيوت ويقول: «ألا أيها الأمراء العظام ما لكم وللأجانب عنكم (ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم) قد علمتم شأنهم ولم تبق ريبة في أمرهم (إن تمسسْكُم حسنةً تسؤهُم وإنْ تُصِبْكُم سيئة يفرحوا بها) (1: 157).

كان السيد جمال الدين يرى أن للغرب وجهين الوجه الثقافي والعلمي، حيث يتبلور في العلم والتقدم والحرية والقانون، والوجه الآخر هو الوجه السياسي الذي يتبلور في الاستعمار والسيطرة على الشعوب والدول الضعيفة، فكان يمتدح الأول ويذم الثاني.

مصادر معلوماته عن الغرب:

بين أن النظرة الصائبة للواقع والتي يتبعها استشراف المستقبل، تبتني على نوعية

المصادر والمعلومات التي يعتمد عليها الإنسان، فكل ما كانت مصادره وأوعيته العلمية والمعرفية متعددة ومتنوعة كانت آراؤه أقرب إلى الصواب. وفيما يخص الأفغاني نرى أنّ نفاذ بصيرته وقرءاته للواقع -عدا ما منحه الله تعالى من فراسة - تعتمد على تنوع مصادر معلوماته، نشير إلى أهمها:

1. المعايشة المباشرة

إن السيد جمال الدين قد عاش لفترة في الدول الأوروبية، فقد ذهب إلى بريطانيا وفرنسا وتعلّم اللغة بحيث تمكن من مد جسور التبادل المعرفي بينه وبين الجالية العربية مما أكسبته معرفة جيدة عن أحوال الغرب ونقاط قوته وضعفه، ناهيك عن تواجده في مستعمرات الدول الأجنبية في العالم الإسلامي، فقد مكث لفترات مختلفة في الهند، وأفغانستان، ومصر، ولمس عن قرب تداعيات السياسات الاستعمارية على الشعوب وما آلت إليها من تدهور في جميع مفارق الحياة الاجتماعية والسياسية.

2. النخبة الغربية

كان الأفغاني ذائع الصيت ويتواصل مع النخبة الغربية: السياسية والثقافية، بهذا

ص: 12

تمكن من استكمال صورة الغرب في ذاكرته من تلك الاجتماعات التي أشار إليها السيد ما ذكره في العروة الوثقى حيث أرسل تلميذه ومدير تحرير مجلته إلى بريطانيا «إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية

مصالح المسلمين من رجال السياسة الانجليزية»

(1:430) ، كما أشار إلى حفاوة الأدباء والشعراء الفرنسيين به (4:137).

3. المكاتبات والمراسلات

استخدم السيد أسلوب المكاتبة والمراسلة لإيصال صوته، فكانت تأتيه برقيات ورسائل متعددة تخبره عن آخر التطورات، وقد يعبر عنها السيد بقوله: بلغنا من مصدر يوثق به (1: 307).

4. الصحف والجرائد

كانت الصحف والجرائد من أهم روافد المعرفية، إذ كان يؤمن بأنّ الطريق الوحيد للوصول إلى المطلوب هو الصحف والجرائد. وفي هذا الصدد كتب مقالاً في فوائد الجرائد وذكر لها تسع عشرة فائدة (5 :197) ، ولذا تنوعت الصحف التي تزود منها وقد أشار في طيات كتاباته إلى بعض منها وهي الفرنسية والبريطانية والروسية والألمانية وسواها وكذلك الصحف الإسلامية التي كانت تطبع في البلدان الإسلامية.

5. الكتب

كان جمال الدين كثير المطالعة لمختلف الكتب وبمختلف التخصصات، على سبيل المثال، قد درّس الهيئة الجديدة عن كتاب باللغة الانجليزية لبعض من التمس منه ذلك (7:22) ، واستفاد مما كتبه فرنسيس لنورمان حول تاريخ أفغانستان (7:113) وكذلك ما كتبه المؤرخون الأجانب في تاريخ إيران (7:39) ، أمثال ملكام سرجم الانجليزي في تاريخ فارس (1: 9).

ص: 13

ثلاث محطات

رغم شحة ما وصل إلينا من تراث السيد جمال الدين، لكن بمراجعة ما تبقى من آثاره ومراسلاته نرى أنّه تناول الغرب من ثلاث محطات رئيسة : الدين، الثقافة والسياسة.

وفيما يلي نشير إلى أبرز ما تناوله في هذه المحطات، علماً بأنّ البعد السياسي كان الغالب على بيانه وبنانه للظرف الذي كان يعيشه السيد آنذاك؛ حيث أن معظم الدول الإسلامية كانت تحت نير الاستعمار تشهد ويلات ذلك، ناهيك عن التخلف والجمود السائدين في جميع أقطار المعمورة الإسلامية.

1. الدين:

فيما يخص الفضاء الديني فقد انصب جهد السيد على بيان أمور:أولاً :الدين في الغرب ، ثانياً : الرد على الدهريين ،والماديين ثالثاً: ردّ شبهات الغرب على الإسلام.

ففي النقطة الأولى، يشير الأفغاني إلى التناقض الموجود بين المبادئ الدينيةالمسيحية وبين السلوك العملي الديني، حيث يقول : إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها (1 :87) ثم يتعجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي والمنتسبين إليه في عقائدهم حيث أنهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حدّ في استيفاء لذاتها، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة، ويخترعون كل يوم فناً جديداً من فنون الحرب ...» (1: 87 - 88 ) .

وسبب هذا التناقض أنّ الدين المسيحي انتشر في الممالك الأوروبية من أبناء الرومانيين-الذين كانوا على عقائد وآداب مختلفة ؛ لكونه جاء إليهم مسالماً لعقائدهم و دخلهم من طرق الإقناع ولم يسلبهم ما ورثوه من آبائهم، ولكن بما أنّ صحف السلم والسلامة لم تكن بمتناول كافة الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين،

ص: 14

فعندما أقام أحبار الرومانيين أنفسهم مقام التشريع وسنّوا محاربة الصليب، افترقوا وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطانه، فعاد وميض ما أودعه أجدادهم في وجودهم ضراماً وتوسّعوا في فنون كثيرة منها فن الحرب واختراع آلات الحرب.

يصف الأفغاني المتدين الغربي وغير المتدين منهم بالتعصب الديني الشديد ويستغرب من ذلك ويقول: «الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم، وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذاهبهم في ناحية من نواحي الشرق سمعت صياحاً، وعويلاً، وهيعات ونيآءات تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية... وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء، يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض، أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر البسيطة . دماء المخالفين لهم في الدين والمذهب، فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس، بل يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مدة الغاية من حدّه... وليس هذا خاصاً بالمتدينين منهم ، بل الدهريين ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم الديني... أما إنّ شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب، يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية کجلادستون، ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا ترى روحه إلا نسخة من روحه» (1: 109 -110).

مع هذا التعصب الديني، كان يرى السيد أنّ الدين المسيحي في مرحلة العزوف بسبب شبهات الفلاسفة، حيث يقول : وإن قيل لك إنّ النصارى لكثرة غواية الفلاسفة لهم وزحزحتهم عن دينهم شيئاً فشيئاً في مدة ثلاثمائة سنة؛ يتركون دينهم ولا يبقى له وجود فصدّقه (6 :50)

ص: 15

أما النقطة الثانية، فقد ألّف السيّد رسالة في الرد على الماديين في جواب من سأله عن معنى نيتشر، فأسهب الكلام في ذلك، وتطرق إلى تاريخ الدهريين منذ فلاسفةاليونان حيث قسمهم إلى قسمين: الإلهيين والماديين، فذكر معتقدات الماديين وناقشها من أبرز تلك المعتقدات: تساوي منزلة الإنسان مع الحيوان، لا حياة للإنسان بعد هذه الحياة محاربة القيم والأخلاق الإباحة والاشتراك المطلقان في جميع الأشياء، إنكار الصانع، جحد العقاب والثواب.

ثم يقول :« متى ظهر الماديون في أمة نفذت وساوسهم في صدور الأشرار من تلك الأمة، واستهوت عقول الخبثاء الذين لا يهمهم إلا تحصيل شهواتهم ونيل لذاتهم من أي وجه كان؛ لموافقة هذه الآراء الفاسدة لأهوائهم الخبيثة، فيميلون معهم إلى ترويج المشرب المادي وإذاعته بين العامة غير ناظرين إلى ما يكون من أثره، ومن الناس من لايساهم في آرائهم ولا يضرب في طرقهم، إلا أنّه لا يسلم من مضارهاومفاسدها ، فإنّ الوهن يلم بأركان عقائده ، والفساد يسري لأخلاقه من حيث لايشعر»(2:165).

كما أنّه يهاجم داروين ونظريته الشهيرة في تبدّل الأنواع وتطوّرها ويسهب في رده حيث يقول: «وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلاً بمرور القرون وكرّ الدهور ، وأن ينقلب الفيل برغوثاً كذلك. فإنّ سئل (داروين) عن الأشجار القائمة على غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحدّدها التاريخ إلا ظناً، وأصولها تضرب في بقعة واحدة وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كلٌّ منها عن الآخر في بنيته وشكل أوراقه، وطوله وقصره وضخامته ورقته، وزهره وثمره، وطعمه ورائحته، وعمره ؟ فأي فاعل خارجي أثر فيها، حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظنّ (أن) لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.. وإن قيل له: هذه أسماك بحيرة (أورال) وبحر (كسين) مع تشاركها في المأكل والمشرب وتسابقها في ميدان ،واحد، نرى فيها اختلافاً نوعياً، وتبايناً بعيداً في الألوان والأشكال والأعمال، فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ لا أراه يلجأ فى الجواب إلاّ إلى الحَصَر..

ص: 16

وهكذا لو عرضت عليه الحيوانات المختلفة البنى والصور والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق، أو الحشرات المتباينة في الخلقة المتباعدة ،التركيب المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة لتجلو إلى (تربة) تخالف تربتها، فماذا تكون حجته في علة اختلافها، كأنها تكون كسفاً لا كشفاً؟

بل إذا قيل له: أي هاد هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها؟ وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة ووضعها على مقتضى الحكمة، وأبدع لكلِّ منها قوة على حسبه، و (أناط) بكل قوة في عضو أداء وظيفة، وإيفاء عمل حيوي، مما عجز الحكماء عن إدراك ،سره، ووقف علماء السيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء، معلّماً لتلك الجراثيم، وهادياً خبيراً لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ لا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج الحيرة يدفعه ريب، ويتلقاه شك، وإلى أبد الآبدين.

وكأني بهذا المسكين ما رماه في مجاهل الأوهام ومهامه الخرافات إلا قرب المشابهة بين القرد والإنسان، وكأن ما أخذ به من الشبه الواهية الهية يشغل بها نفسه عن آلام الحيرة، وحسرات العماية، وإنا نورد شيئاً مما تمسك به:

فمن ذلك أن الخيل في سيبريا والبلاد الروسية أطول وأغزر شعراً من الخيل المتولدة في البلاد العربية وإنما علة ذلك الضرورة وعدمها.

ونقول: إنّ السبب فيما ذكره هو عين السبب لكثرة النبات وقلته في بقعة واحدة،

لوقتين مختلفين حسب كثرة الأمطار ،وقلّتها، ووفور المياه ونزورها، أو هو علّة النحافة ودقة العود، في سكان البلاد الحارة، والضخامة والسمن في أهل البلاد الباردة بما يعتري البدن من كثرة التحلل في الحرارة، وقلته في البرودة.

ومن واهياته ما كان يرويه (داروين) من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قروناً، صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول: حيث

ص: 17

لم تعد تعد للذنب حاجة كفّت الطبيعة عن هبته...

وهل صُمّت أذن هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب، ومما يجرونه من الختان ألوفاً من السنين، ولا يولد مولود حتى يختن، وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختوناً إلا لإعجاز ؟!

ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم، نبذوا آراءهم وأخذوا طريقاً جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية من الشعور، مصدراً لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة والأشكال المعجبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علوية وسفلية، والموجب لاختلاف الصور والمقدّر لأشكالها وأطوارها، وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: أي مادة ،وقوّة وإدراك. وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلابسها من الإدراك، تجلّت وتتجلى بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية - نباتية كانت أو حيوانية - تراعي بما لابسها من الشعور، ما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة، والفصول السنوية (141:2-143).

هاجم أيضاً فولتير وروسو وعدّهما ممن أحيى ما بلي من عظام الدهريين ونبذ كل تكليف ديني وغرس بذور الإباحة والاشتراك( 2 :177) ، يقول: «والأضاليل التي بثها هذان الدهريان فولتير ،وروسو هي التي أضرمت نار الثورة الفرنسية المشهورة، ثم فرقت بعد ذلك أهواء الأمة وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها ...» (3:178).

وأخيراً يشير إلى طائفة من الدهرية كرّست جهودها في نفي العقيدة الألوهية، فانبرى للدفاع عن تلك العقيدة مثبتاً إياها سبيلاً للوصول إلى السعادة الدنيوية والأخروية (183:2- 192).

أما النقطة الثالثة، وهي الدفاع عن الإسلام أمام شبهات الغربيين، فقد أشار في طيات كلامه إلى بعض تلكم الشبهات وأجاب عنها، ومنها مسألة القضاء والقدر

ص: 18

وزعم الغرب بأنّها السبب في تأخر المسلمين، وأنّها تساوي مذهب الجبرية، فردّ عليهم السيد بأنّ الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع وترشد إليه الفطرة (1: 115)، بل إنّ الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرّد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجرأة والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة، ويطبع الأنفس على الثبات واحتمال المكاره ويحليها بحلي الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها بل يحملها على بذل الأرواح (1: 116).

2. الثقافة والعلم

أما الثقافة والعلم وما تتبعه من تقدم وازدهار في الغرب، فكان ممدوحاً عند الأفغاني ويرى أنّها من إيجابيات الغرب ومحاسنه، وإن كان يرى أنهم اتخذوا جميع محاسن الدين الإسلامي (5: 249).

ومن أبرز ما أشار إليه السيد وامتدحه في هذا الصدد:

أ: العلوم والمعارف قال رحمه الله: ليعلم أن جميع هذا التقدم الموجود في أوروبا كان نتيجة العلم والاطلاع» (4:99) ، لذا كان يهيب ببني جلدته قائلاً: «يا أبناء الشرق أفلا تعلمون أن سلطة الغربيين وسيادتهم عليكم إنما كانت بارتفاع درجتهم في العلوم والمعارف وانحطاطكم فيها، فلم لا تتقد أحشاؤكم بنيران الشوق لهذا المؤلف البديع وأمثاله... هل رضيتم بعد ما كان لكم ذروة الشرف بواسطة العلوم والمعارف أن تدوم لكم تلك الحالة الوخيمة التي أوصلتكم إليها الجهالات والضلالات... فهلموا لاقتناء المؤلفات واقتناص صيد المعارف ».(6 :91)

ب: الحرف والصنائع (4: 99).

ج : نبذ البدع والخرافات التي كان يبثها رجال الكهنوت (5: 250).

د: حرية الصحافة، حيث قال: «وبالجملة فإنّ من أسباب تقدم الملل الأوروبية حرية الصحافة حيث أتاحوا للناس من خلالها نشر المحاسن والمعايب ،كي تدعو

ص: 19

صاحب الفضيلة إلى التمسك بخصاله الجميلة وحسن الأخلاق، وصاحب الرذيلة والأفعال المذمومة بشوائب الهوى والنفس إلى تركها

(4: 101)

ه-: القانون قال رحمه الله:« إن الإنسان الحقيقي هو الذي لا يحكم عليه إلاّ القانون الحق المؤسس على دعائم العدل الذي رضيه لنفسه يحدّد به حركاته وسكناته ومعاملاته مع غيره على وجه يصعد إلى أوج السعادة الحقيقية» (6: 56).

و: الهمة العالية، قال: «إن أبناء الأمم الغربية إذا عمدوا إلى قصد لا يفترون في طلبه، وعلو الهمة فيهم تجعل لديهم كل صعب سهلاً، وكل بعيد قريباً، يقتحمون المخاطر لاكتساب الشرف ويتجشمون المصاعب للوصول إليه... لهذا ترى الرجل منهم يجوب فيافي أفريقيا، ويتسنّم جبال سيبريا، ويخالط قبائل وشعوباً لا يعرف لهم لغة، ولا يألف لهم عادة ولا أخلاقاً، ويتكبد مشاق الحر والبرد والجوع والعطش، وينازل الموت مع من يخالطه من تلك القبائل البعيدة عنه في جميع أوصافهم... كل هذا ما يحتمله طلباً لشرف يكسب لذاته، أو ابتغاء مجد يحصله لأمته» (1: 286).

ولذا كان يمدح الأمة الفرنسية قائلاً: «والحق أن الأمة الفرنسية قد كسبت قلوب الشرقيين باعتدالها في صفة الأنانية، وحبها العام للخير والبر، وبذلك يحق للشرقيين أن يحبوها في المقابل، والحق أن تلك الأمة لم تنفك تظهر عواطفها الكريمة في جميع أنحاء الشرق... فتحية إلى الأمة التي تنطق أعمالها بمدحها، والتي يشهد العالم كله على فضائلها وطهارة ثوبها الذي لم يدنسه تلوث الطمع (7: 202).

3. السياسة

فيما يخص الفضاء السياسي الغربي، فإنّ السمة الغالبة كانت آنذاك التسابق على استعمار الدول الإسلامية والشرقية، وكأنّ الشرق كعكة تم تقاسمها بينهم بالسوية. إنّ الاستعمار الجديد تلبس بلباس الخدعة والحيلة ولم يكن على طرازه القديم منزوع القناع: «إن العدوان في هذه الأزمان لا يأتيه المعتدون كما كان في الأحقاب الخالية مشوّه الوجه منكر الصورة يعرفه الذكي والغبي بل من أراد عدواناً فلا بد أن يحفّه

ص: 20

بمواكب من الأدلة وحفال من البراهين، وهو ما يعبرون عنه بالحقوق والمصالح، وما أصعب الوقوف على كنه العدوان وهو في هذه الحيلة وتلك الهيئة الجميلة»

(82:4،331:1).

انقسم الاستعمار آنذاك بين دولتين فرنسا وبريطانيا، ولكن انصب غضب الأفغاني ونقده اللاذع على بريطانيا لكونها تشكل القوة الأولى في العالم آنذاك، والتي تطمع بالسيطرة على العالم أجمع، حيث يشبهها بالمبتلى بجوع البقر والاستسقاء الذي لم يشبعه ابتلاع مائتي مليون من الناس ولم تروه مياه التمس والقنج، بل غرفاه ليبتلع بقية العالم ويجرع مياه النيل ونهر جيحون (7: 107).

كان الأفغاني سيئ الظن ببريطانيا لا يرى خيراً في سياستها، كان ينادي الشعب المصري بكل صراحة ووضوح ويقول لهم أنّ بريطانيا لو ثبتت أقدامها لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم وخطرات قلوبهم ولأخذوا الأبناء بذنوب الآباء والأحفاد بجرائم الأجداد (1 :292)

ونظرته هذه كانت مبتنية على مشاهداته المباشرة لنتائج الاستعمار في الدول المستعمرة، وعلى قراءته الفاحصة لتاريخ بريطانيا، حيث عقد فصلاً خاصاً بهذا الشأن بين فيه تاريخ بريطانيا وما كانت عليه من سوء وكيف تمكنت من تطوير نفسها اعتماداً على الحيل والخدع (7: 196).

لقد وصف بريطانيا بخصال تكون بمثابة الدعامة للسياسة البريطانية: الأنانية، الخدعة والمكر، الأثرة.

أما بالنسبة إلى الخصلة الأولى، فيقول: «إنّ من يرجع إلى تاريخ الماضي يقتنع لا محالة بأنّ الانجليز لم يكفّوا قيد شعرة عن اتباع ذات السياسة الثابتة في تحقيق غاياتهم في الشرق والغرب وفي العالم القديم والحديث... فهم يتحركون من خطأ مستهجن كان في طبيعتهم، ألا وهو الأنانية (7:199). إن السياسة الضعيفة تنشأ من العقل المضطرب، وتنبت الشره والطمع اللذين ينبعان بدورهما من تلك الصفة

ص: 21

المستهجنة، ألا وهي الإفراط الإفراط في الأنانية، وقد أثارت هذه الصفة أعداءالانجليز عليهم، وجعلت أصدقاءهم يشعرون نحوهم بالاشمئزاز (7 :203).

أما الخصلة البارزة الثانية السائدة في سياسات بريطانيا فهي المكر والحيلة، فيقول السيد عنهما:« إن الانجليز لهم في كل مصلحة مفسدة، وفي كل حسنة سيئات، وفي كل صفاء دخل، فهم الخادعون الخائنون، بل هم الكاذبون المنافقون هذه صفاتهم لم يبق فيها ريبة عند مسلم»(1:417) . إن حكومة بريطانيا ما عاهدت عهداً إلا ونقضته بعد ما جنت ثمرته، فربحها في العهود خاص بها لا يشركها فيه غيرها» .(1: 442)

«إن الانجليز ملكوا نحو ثلث العالم بلا سفك دماء غزيرة، ولا صرف أموال وافرة، وإنما ملكوا ما ملكوا بسلاح الحيلة، يدخلون في كل بلد أسود ضاربة في جلود ضأن ثاغية، يعرضون أنفسهم في صورة خدمة صادقين، وأمنة ناصحين، طالبين للراحة، مقومين للنظام (1:343) الحكومة الانجليزية كالصياد الماهر لا يطلب السمك إلا عند تعكير الماء (1:464) ، اتخذوا سياسة قوامها التغرير والتلبيس، ونصب فخ المواربة وشرك المخاتلة، وبهذه السياسة حققوا أهدافهم وتفوّقوا على سائر الأمم الأخرى (7: 197) ، فهذه دولة الانجليز كمرض الآكلة يظهر أثره ضعيفاً لايحس به عند بدئه ثم يذهب في البدن فيفسده ويبليه بدون أن يشعر المصاب بالألم، هكذا شأن الانجليز في لينهم وتلطفهم، وحلاوة وعودهم وتملّقهم وخضوعهم» (1: 398).

هذه أهم السمات التي رسمها الأفغاني في ذهنه عن بريطانيا، والتي يصدقها الواقع الذي عاشه والتاريخ الذي أثبت صحة تلك النظرة الثاقبة، ومن هذا المنطلق بدأ بقراءة سياسات بريطانيا تجاه العالم عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً، «ليس في التعلات أعجب مما يتعلل به الانجليز، ولا في المحاورات أغرب مما يستدلون به لا مقدمات بينة ولا حجج قيمة، وأقوى ما يكون من أدلتهم أولى به أن يكون في معرض الهزل من أن يكون في جانب الجد» (1: 405).

ص: 22

بريطانيا والعالم

كان الأفغاني يرى سياسة بريطانيا تجاه العالم أوقعتها بين محاذير ثلاثة لا يتيسر واحدها إلا بما ينفي الآخر، لكنهم يريدونها مجتمعة ولن يقدروا عليها، وهذه المحاذير الثلاثة مسألة محمد أحمد المهدي السوداني، الوفاء بعهودهم لأوروبا، ما يضمرونه لأنفسهم في مصر. ثم إنهم يتشبثون لكل منها بوسيلة تضارب ما يتمسكون به في الأخرى.

هذه أهم المعالم التي أوقعت بريطانيا نفسها فيها بسبب سوء صنيعها وازدواجية فعالها، وسنحاول رسم بعض تلك المعالم تجاه مختلف الدول الإسلامية وغير الإسلامية.

1. بريطانيا والغرب

إنّ بريطانيا جرّاء سياساتها الغاشمة أثارت حفيظة حلفائها الغربيين حيث بدأوا بالعداء لها والتربص من سياساتها، وقد رصد السيد جمال الدين هذا العداء نتيجة تواصله مع وسائل الإعلام وتواجده في الغرب، فأفصح بذلك قائلاً: «نرى دوائر السوء تدور بالحكومة الانجليزية، وقد تهيأت ضاربات الشر للوثبة عليها، وليس لها حليف في أوروبا، وإنّ استئثارها بمنافع الأمم وطمعها في الاختصاص بمصالح العالم أبعد عنها الأصدقاء ونفّر منها الأولياء» (1:189)،« قامت الدول على معارضتهم لعلمها أنّ الانجليز صاروا للأمم كدودة الوحيدة على ضعفها تفسد الصحة وتدمر البنية» (1: 208)، «إنّ الأحقاد قد أخذت بقلوب الأمم الأوروبية، وامتلأت الأفئدة غيظاً حتى طفحت، ولهذا لا ترى جريدة ألمانية أو نمساوية أو فرنسية أو روسية إلا وهي مشحونة بالطعن والتنديد والوعد والوعيد والإنذار بسوء عاقبة حكومة الانجليز»

(441:1).

هذا على نحو العموم، أما على النحو الخاص فيشير السيد إلى الخلافات البارزة بين بريطانيا وبعض دول الغرب، منها :

ص: 23

إيرلندا حيث يشير السيد إلى العداء الواضح بينهما، أدى إلى استعمال العنف ونفور الطباع بين الشعبين مع اشتراكهما في الدين واللغة، هذا وبريطانيا تدعي أنّها ما استعمرت دول الشرق إلاّ لبسط العدل وإقرار الراحة بين أهلها، فأين هذا من تلك الدولة، التي لا ترحم شعبها كيف ترحم غيره؟! (1: 254، 382).

أميركا: إنهم ثاروا على الانجليز، فمع أنهم يشتركون معهم في اللغة والدين؛ نراهم يظهرون لهم عداوة صريحة، ولا يرجون شيئاً أفضل من أن يروا مملكتهم في حكم الزوال (7: 200) .

كما أنهم أثاروا اشمئزاز اليونانيين بعجزهم عن حفظ وعودهم لهم (7: 204) ، وأشعلوا غضب الإيطاليين أحفاد الرومان بسبب احتلالهم قبرص التي كانت من قبل إحدى ممتلكات الرومان (7: 205)

فرنسا: هي التي انحسرت رقعة نفوذها في العالم بسبب تمدد بريطانيا، فكان لهاحديث آخر، إذ كانت فرنسا تحس بأنّها خسرت الصفقة أمام بريطانيا، وأن بريطانيا تنوي التفرد بكعكة العالم التي تلتهمها أجمع وهذا ما لا يروق لفرنسا «إن فرنسا لا تزال تطلب من إنجلترا أن تعيد إليها ما فقدته من حظ السلطة في شواطئ النيل»(1:311)، فضلاً عن ذلك فإنّ لفرنسا مستعمرات كثيرة ما وراء البحر الأحمر ولا يمكن صونها وبريطانيا تسيطر على الطرق والمواصلات والمراكز الاستراتيجية. وهناك ثلاثة أمور أزالت الصداقة بين الدولتين نهائياً، وهي: تحريض فرنسا لشن الحرب ضد روسيا والتغرير بها ترك فرنسا تتكبد خسائر فادحة هناك مع إمكان التوسط من قبلهم احتلال قبرص حيث كانت تُعد بوابة سوريا وآسيا الصغرى ومصر (7: 204).

جراء هذه المصاديق العينية التي أغضبت الغرب حصلت تحالفات دولية جديدة أدت إلى تقليص نفوذ بريطانيا وظهر ضعفها أمام القاصي والداني.

2. بريطانيا والعالم الإسلامي

يرى السيد جمال الدين أن بريطانيا لا تريد خير المسلمين بل تكنّ لهم العداء

ص: 24

والضغينة:« الحكومة الانجليزية عدوة المسلمين عداءً شديداً لالتهامها الممالك الإسلامية... وكمال بهجتها في أن تراهم أذلاء عبيداً لا يملكون من أمرهم شيئاً» (1: 395) فبدأت تحاسبهم على خطرات قلوبهم وما يمكن أن يهجس في حديث

نفوسهم :(1) (348) . ومن مصاديق هذا العداء:

1. ازدراؤهم في التوظيف الرسمي كما هو الحال في الهند حيث تقدم المجوس ثم الوثني على المسلم فإذا لم تجد أحداً عيّنت مسلماً

(1 :362)

2. منع التبليغ الديني كما هو الحال في مصر حيث قاموا بغلق أبواب الأزهر على عامة الناس، ونفوا بعض العلماء إلى السودان، ومنعوا الوعظ والإرشاد وصلاة الجمعة (4: 134).

3. فسح المجال للمبشرين بالعمل لضرب الإسلام وبث الشبهات وإهانة القرآن والنبي صلى الله عليه وآله: «إنّ قسس الابروتستانت المغرورين يقومون في شوارع البلاد الهندية على سوقهم ويطعنون في الديانة الإسلامية طعناً تقشعر منه الأبدان ويفتعلون من الأراجيف ما تصطك منه الآذان، ويختلقون أقوالاً يستبشعها الأوباش، وينسبون إلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسائلهم من الشنائع والفظائع ما تنبو عنه الطباع ... و ميزان (الحق) و (المسيح الدجال) وغيرهما من الرسائل المحشوة بالسب والشتم والقذف في شارع الديانة الإسلامية تنبئك عن كيفية معاملة الانكليز مع مسلمي الهند و نهج مراعاتهم» (6: 214 ، وأيضاً 1: 445) .

4. المحاربة المالية للمسلمين وتضييق سبل العيش عليهم : ومن جهة أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين، وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم من كل وجه، فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس»

(445:1).

هذه بعض المعالم السياسات بريطانيا في العالم الإسلامي عموماً، أما سياساتها في كل دولة على حدة، فقد أشار السيد جمال الدين في طيات كلامه إلى بعض الدول

ص: 25

الإسلامية وأسهب القول في مصر لأهميتها ودورها المحوري آنذاك بين سائر الدول الإسلامية، وفيما يلي إطلالة سريعة وموجزة على أهم ما استقرأه السيد من سياسات بريطانيا تجاه كل بلد إسلامي.

1. إيران

كانت بريطانيا تبغض إيران لعدة أسباب قديمةوحديثة. أما عن القديمة فيقول الأفغاني : «إنّ في قلوب الإنجليز حقداً وضغينة على كل إيراني سواء كان من الأفراد أو الوجوه، ويسيؤون معاملتهم حيثما وجدوا من بلاد الهند ويمقتونهم مقتاً شديداً، لأنّ نادر شاه من ملوك العجم جاء إلى الهند فاتحاً على عهد السلطة التيمورية، واستولى على خزائن الأموال في دلهي، وأخذها إلى بلاده قبل استيلاء الانجليز على تلك المملكة بما ينيف عن قرن ، ويعضون الأنامل من الغيظ، ويحرقون الإرم من الأسف على ما أخذه نادر من أموال دلهي وحرمانهم من تلك الأموال، ويحملون هذا الوزر على عاتق كل إيراني (292:1).

أما السبب الحديث، فهو ما حصل لبريطانيا جراء إلغاء معاهدة التنباك، حيث فوّت عليهم العلماء مغانم كثيرة عندما أجبروا شاه إيران على إلغاء تلك المعاهدة التي تفوّض لبريطانيا حق التصرف المطلق بالتنباك الإيراني.

2. الدولة العثمانية

رغم العداء الذي تكنه بريطانيا للدولة العثمانية التي تشكل الخلافة الإسلامية آنذاك، تحاول جهد إمكانها السيطرة عليها بشتى السبل والوسائل وتضعيفها لتبتلعها لاحقاً «باختصار : إنكلترا هي بصدد تفكيك الإمبراطورية العثمانية من أجل ابتلاع الأجزاء المرغوبة منها الواحد تلو الآخر، تماماً بالطريقة نفسها التي ابتلعت فيها الهند ببطء ولكن بلا مخاطر» (6: 69).

ولكن مع هذا كانت بريطانيا تتوجس من الدولة العثمانية خيفة إذ كانت تحس أن كل إنجليزي قلبه بين أصابع الدولة العثمانية وأحشاؤه مستقرة على أناملها» (1: 98)

ص: 26

ولكن مع هذا كانوا أضعف من أن يجاهروها بالعدوان أو أن يعلنوا عليها حرباً خشية

أن تنقلب عليهم الدول الإسلامية

(1: 274 ،361 )،أو أن يتم تحالفهم مع روسيا أو سائر خصوم بريطانيا فتكون البلية عليهم أعظم . فلذا اكتفوا بالتهديد والترهيب والوعيد (1: 266، 333).

3. أفغانستان

كان هناك تنافر متبادل بين بريطانيا والأفغان، وكانت بلدة الأفغان عصية على بريطانيا لم تستسلم لها، رغم أنّها كانت منطقة استراتيجية بالنسبة لبريطانيا وتعد مفتاح الهند فمن سيطر عليها أمكنه السيطرة على الهند أيضاً وزعزعة سلطة بريطانيا، لذا شهدت الساحة الأفغانية سائر ما شهدته البلدان الإسلامية من غزو ومكر وحيلة؛ غير أنّ هذه الحيل لم تنجع وباءت بالفشل جرّاء بسالة أبناء الأفغان وشجاعتهم وثباتهم في الدفاع عن الأرض والوطن، رغم أن بريطانيا استخدمت كل ما بوسعها حتى أرادت أن تلقي الفتنة بين الأفغان وإيران حيث كانت تعطي الأموال لبعض أمراء وعلماء كابل لينادوا بالحرب الدينية، ولكن سرعان ما فشلت تلك الخطط كأنّ الأفغانيين علموا أنّ لوث حيل المحتال ودرن مكره وأوساخ خداعه؛ لا يطهرها إلاّ دمه المهراق، وإنّ عين الطامعين لا يملؤها إلاّ تراب القبور، فأراقوا دماء الانكليز، وجعلوا شعاب جبالهم قبوراً لقتلاهم، وأذاقوهم مرارة نقض العهود» (7: 160).

4. السودان والحركة المهدية

كان لبريطانيا مطامع في السودان، ولكن فشلت تلك المطامع جراء انكسار بريطانيا أمام حركة محمد أحمد المهدي السوداني، وإليك بيانه:

إن بريطانيا بعد ما رأت أنّ الدول الغربية لم تتوافق مع سياساتها لاسيما في مصر، طمعت أن تحتل السودان لتكون عوضاً عن مصر مستقبلاً :« تريد حكومة إنجلترا إذا عارضتها الدول في السيادة على مصر أن تنشئ لها سلطة في خرطوم يمتد حكمها إلى جميع أراضي السودان، وعساكرها الآن حالة في سواكن، وما أسرع أن تصل بين

ص: 27

المدينتين بالسكة الحديدية، فتكون القوة الانجليزية بعد هذا محيطة بمصر من جميع الجوانب »(1: 367)

ولكن فوجئت بريطانيا بشيء لم تكن تتوقعه وهو حركة (محمد أحمد) مدعي المهدوية السوداني حيث قام بوجه بريطانيا وألقى الهزيمة النكراء بجيوشها، وانعكست هذه الهزيمة على بريطانيا سلباً من عدة جهات:

1. انكسار الهيبة البريطانية وإظهار ضعف قواها العسكرية.

2. دفع مشاعر المسلمين عموماً نحو مقاومة المحتل وإعادة الأمل في قلوبهم حتى كتب بعض أصدقاء السيد إليه كتاباً يقول فيه :« إن محمد أحمد لو كان دجالاً لأوجبت علينا الضرورة أن نعتقده مهدياً وأن لا نفرط في شيء مما يؤيده (1: 274) ، ولّد هذا الحدث لدى المصريين الأمل بالتخلص من السيطرة الانكليزية بمساعدة المهدي ومن جهتهم فإنّ مشايخ جامعة الأزهر بدأوا يطلبون المغفرة في أعقاب الفتوى التي تناولت محمد أحمد كدجال» (6 :33) كما إنها أيقظت المشاعر الدينية لدى كل شيوخ الطرق مثل القادرية والنقشية والجلالية والسنوسية والشاذلية وغيرها . (6: 33).

3. إحراج الحكومة أمام شعبها وسائر الأحزاب المنافسة لها.

4. وقوع الخوف والهلع في قلوب العساكر البريطانية.

لذا استخدمت بريطانيا ماكنتها الإعلامية والسياسية، واستنفذت كل خططها وحيلها للتخلص من هذا المأزق، حيث عملت وفق الخريطة التالية:

1. أول ما قامت بريطانيا به إرسال الجيوش والعساكر لكن غيرت سياستها بعد إخفاق عساكرها وانهزامهم أمام المهدي السوداني (1: 222).

2. التقليل من صدمة الانكسار في الإعلام وأنهم تراجعوا لمصالح أخرى.

3 .الاستعانة بالعثمانيين لأخذ مرسوم منهم بتبديع محمد أحمد والتنديد به (1: 410).

ص: 28

4 .الاستعانة بالجيش العثماني (1 :312) .

5. اختراع مهدي آخر في السودان لتفريق الكلمة وإيقاع الخلاف بين السودانيين

(371:1).

6. الإيقاع بين المسلمين وغير المسلمين في أفريقيا، واستحداث حرب دينية جديدة، حيث بدأوا بالتنسيق مع ملك الحبشة وإغرائه ليدخل في حرب مع المهدي السوداني، «ولم تبال في التماس هذه المساعدة أن تصرّح للحكومة الحبشية أن الغرض منها كبح المسلمين في السودان وإضعاف قوتهم، لتثير بذلك حرباً دينية تذكّر العالم بالحروب الصليبية» (1: 280).

7. وأخيراً أطلقت آخر كنانة من سهام حيلها، فبدأت بمدح الإسلام وجلب مودّة المسلمين حتى إنّ بعض البريطانيين الموجودين في الهند دخل في الإسلام وكان الغرض من ذلك «أن يخدعوا المسلمين بمشاكلتهم إليهم ويحسنوا الظن بهم، فيبيحوا لهم بما تكنّه صدورهم من خواطر الميل إلى دعوة محمد أحمد السوداني» (1: 416).

5. الهند

«لقد انتزعت إنكلترا المملكة التيمورية الواسعة من أيدي الإسلام، كما استولت عنوة على حكم الميريت الذين يشكلون العدد الأكبر والأفتى بين الهندوس، لقد فتنت إنكلترا أشراف السند وراجوات السيخ في البنجاب، كما قضت على علماء البنغال، ولم توفر ممالك ميسور وأود التي أفرغتها من السكان بواسطة المجازر وأخيراً قامت إنكلترا بتقطيع الأقاليم التابعة لراجوات جيبور ودجوبتور وبرودا حيث استولت على القسم الأكبر منها» (6 : 39).

هذه السياسة الملتوية دامت عدّة عقود وأعقبت الويل والثبور والفقر والحرمان، ولم يكن الرابح الوحيد من هذه الصفقة سوى دولة بريطانيا الفخيمة، وفيما يلي نشير إلى

أهم سياسات بريطانيا في الهند بحسب ما أفادها يراع السيد جمال الدین رحمه الله :

ص: 29

1. الظهور بمظهر الصلاح والخدمة، قال السيد: «أول ما استمالوا به القلوب السالمة قولهم إننا نريد تخليصكم من هذه الدول الظالمة( فرنسا وهولندا والبرتغال)، فإنّها تريد التسلط على ممالككم، أما نحن الإنجليز فلا نريد إلا تحريركم واستقلالكم (1: 204)، وقال: «دخلت دولة الإنجليز بلاد الهنديين ومدت عينها إلى ما متعهم الله به من أراضيهم، وطمعت إلى اختطافها من أيدي المسلمين، إلا أنّها ذهبت مذهب اللين واللطف وخفض جناح الذل والظهور في ألبسة الخضوع والخشية» (288:1).

2. محاربة السلطة الحاكمة وإضعافها:«كانت تتدرج في نقض أساس السلطنةالتيمورية حجراً حجراً، وتمتلك أراضيها قطعة بعد قطعة، لكن بدون تعرّض للسلطنة الظاهرية ولا مس لنفوذها، كانت تغري الولاة من النوابين والرجوات بالخروج على السلطان التيموري، ثم تنوب عنه بالعساكر الإنجليزية والصينية للتغلب على الخارجين تحت اسم الملك، ولا تمس رسومه الملوكية بل تلقب نفسها خادمة مأمورة» (1 :289)

3. إغراء الأمراء وتحريضهم على الاستقلال:«دمّر الانجليز على الهنديين في أراضيهم وانبثوا بينهم فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء وإغراء كل نواب أو راجا بالاستقلال والانفصال عن السلطنة التيمورية فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه فصارت الأراضي الهندية الواسعة ميادين للقتال واضطر كل نواب أو راجا إلى المال والجنود ليدافع بها عن حقه أو يتغلب بها على عدوّه، فعند ذلك تقدم الإنجليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببدر الذهب وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب. بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك الصغار من عساكرهم الأهلية ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاختلال ثم أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الانجليزية وقوادها وما هم عليه من القوة والبسالة والنظام حتى اقتنع كل نواب أو راجا بأنّ لا ناصر له على مغالبه إلا بالجنود الانجليزية،

ص: 30

فأقبل الانجليز على أولئك السلّج يضمون لكلِّ صيانة ملكه وفوزه بالتغلب على غیره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الانجليز ويكون بعض الجنود من الهنديين وبعضها من البريطانيين وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها، ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم حتى أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر لتدفع شر بعضهم عن بعض، وصار الإنجليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها، ففرقة سموها (عمرية) وأخرى سموها (جعفرية) وغيرها سموها (كشتية) إرضاءً لأهل السنة والشيعة والوثنيين» (1 :329)

4. الاستحواذ على الأراضي وأملاك الناس

«لما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية فتح الإنجليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض وأظهروا غاية السماحة، فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة وبعضهم بدون فائدة وينتظرون به الميسرة حتى ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء، وبعد مضي زمان كانوا يومئون إلى طلب ديونهم بغاية الرفق ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات الجنود يصعب عليكم ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من الأرض نستغلها ونستوفي منها ديوننا من غلاتها على الجيوش التي أقمناها لكم ثم الأرض أرضكم نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء وإنما نحن خادمون لكم فيضعون أيديهم على غضروات الأراضي وفيحائها، وفي أثناء استغلالها يؤسسون بها قلاعاً حصينة وحصوناً منيعة كما يفعلون ذلك في ثكن عساكرهم على أبواب العواصم الهندية، وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبواباً من الإسراف والتبذير ويقرضونهم ويقتضون قرضهم بالقيام على أراض أخرى يضمونها إلى الأولى ثم يحضون نار العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتداخلون في أمر الصلح فيجبرون أحد المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة من أراضيه وهم في جميع أعمالهم

ص: 31

موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين لكل من المتغالبين.

وبعد هذا فلهم شؤون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي لتضعف قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت ،بعض حتى إذا بلغ السير نهايته واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم وغلبت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكاً، ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية له واقية لبلاده. وكانت تشحذ لجز عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله ثم خلفوه على ملكه وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب الملك فيخلعون المالك ويولون الطالب على شريطة أن يقطعهم أرضاً أو يمنحهم امتيازاً فيحولون الملك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه ومن العم لابن أخيه وفي الكل هم «الرابحون (1: 329 - 330) .

وهناك حيلة أخرى استخدموها للاستحواذ على الأراضي يشرحها السيد بقوله:

«أراد الإنجليز أن لا يكون لغيرهم يد على ملك واسع فيما تحت سلطتهم، فضربوا على أرباب الاقطاعات رسوماً زائدة يؤدونها عن أراضيهم في أوقات محدودة، ثم وضعوا في قانون الزراعة أنّه لا يجوز للمالك أن يقيم الدعوى على مزارعيه إذا تأخروا عن تأدية ما شرط عليهم إلا بعد مضي ثلاث سنوات من وقوع موضوع الدعوى، وإذا خان المزارعون أو أهملوا في أعمالهم أو استأثروا بمحصولات الزراعة فلا يمكن لصاحب الملك أن يخاصمهم في مجالس القضاء إلا بعد مضي تلك المدة، إلا أنه يؤدي ما عليه للحكومة في أوقاته رغم أنفه وإن لم يؤد إليه العاملون شيئاً. وفي قانون المرافعات عندهم أنه إذا مضى على موضوع الدعوى ثلاث سنوات لم تحصل في أثنائها إقامة الدعوى فلا تسمع. فهذا يحمل العاملين في الزراعة على الإضرار بأرباب الأملاك ولا سبيل لهؤلاء إلى استخلاص حقوقهم من أولئك، والحكومة لا تترك من فريضتها شيئاً ولا تتساهل في طلب أدائها بوجه فيضطر الملاك للتنازل عن أراضيهم للحكومة الإنجليزية (العادلة)» (1: 352).

ص: 32

5. اتخاذ سياسة( فرق تسد): حيث قاموا بإلقاء الخلاف الديني والمذهبي والطائفي بين كل من المسلمين والهنود وكذلك بين المسلمين أنفسهم والهنود أنفسهم (6: 158).

6. استصغار الهنود واحتقارهم حيث كانوا يتعاظمون عليهم في المجالس، كانوا عندما يريدون أن يأخذوا الضرائب هيئوا مكاناً مرتفعاً عن الأرض فيضعون الكراسي هناك للسادة ،الإنجليز، ويجلس الهنود في منخفض من الارض (1: 454).

7. وأخيراً دعم الدهريين والملحدين والطبيعيين من المسلمين لتضعيف الناس عن مبادئ دينهم وإبعادهم عنه (1:108)، كما دعموا السيد أحمد خان الهندي المستغرب تماماً لفتح جامعة ونشر الكتب والصحف التي تروّج للعلمانية والدهرية آنذاك (1: 445 446).

وقد أحلّت هذه السياسات بالبلاد الهندية الدمار والفقر وتشتت الكلمة، وبهذا تمكنت من بسط سيطرتها لعدة عقود.

6. مصر

قد أولى السيد جمال الدين لمصر اهتماماً كبيراً إذ كانت بوابة الإسلام آنذاك ولبريطانيا فيها مطامع كثيرة، ونحن لانريد هنا الخوض في تاريخ مصر إبان الاحتلال البريطاني، بل ما يهمنا هو تسليط الضوء على قراءة السيد لمجمل سياسة بريطانيا تجاه مصر وكشف أهدافها ومخططاتها.

يرى السيد أنّ السبب الرئيس لاحتلال مصر إنما هو إحكام السيطرة على الهند، حيث حاولوا السيطرة على جميع الطرق الاستراتيجية المؤدية إلى الهند، لبعد المسافات بينهم وبين الهند، فبدأوا بتطبيق مخططهم خطوة خطوة، وبما أنّ مصر تعد بوابة الشرق آنذاك -لاسيما بالنسبة إلى الدول الإسلامية - أصبحت محط أطماعهم.

طبعاً يشير السيد إلى الخلاف الموجود بين ساسة بريطانيا لكيفية العمل في مصر،

ص: 33

فكان رأي شريحة منهم الاستيلاء التام وإعلان السيادة على مصر، لكن ذهب البعض الآخر إلى إرسال العساكر ثم إخراجهم بعد تحقق مآربهم، وهذه الثنائية في الرأي بقيت مستمرة طوال فترة الاحتلال البريطاني، وكانت تشتد عند الإخفاقات السياسية والعسكرية (1: 99، 303).

يصوّر السيد هذا المشهد المحتدم بقوله:« اشتدت خطوب المسائل المصرية، واشتبهت مناهجها، وعظمت ،أخطارها والتبست وجوهها على ذوي الشؤون وأرباب المصالح فيها حتى على السياسيين من رجال حكومة إنجلترا، كل يتصور غاية ويطلب حظاً يناله وقد شد رحاله للوصول إليه ولكن ضل أعلام الجادة، وتاه في مجاهيل وليل المشكلات ،مظلم وديجورها ،مدلهم وتعاكست مذاهب السالكين هذا يشرّق والآخر يغرّب، وكل في وحشة يطلب المعين ويخاف العادي، وكلما فرح لنبأ رمي بسهمه من الجزع لا يدري أصاب خصماً أو قتل منجداً) (1: 257 - 258) .

لكن مع هذا التذبذب، تبقى السياسات الكبرى هي ذاتها سارية في جميع الأقطار، فليست سياسة بريطانيا في مصر ببدع من سياستها في الهند، والأحزاب رغم اختلافها تتحد في تحقيق مصالح الدولة الفخيمة راعية العدالة يقول السيد بهذا الصدد: «انظر إلى الحزب الحر في الحكومة الإنكليزية كيف كانوا يحامون عن حرية الأمم،ويحثون الدول على إطلاق رق العبودية عن الشعوب... ولما آل الأمر إليهم وأخذوا زمام الحكم بأيديهم ما حرّروا بلاداً، ولا أعتقوا عباداً ولا أطلقوا رقاباً، بل صاروا على الأمم أشد من الحزب المحافظ» (6: 120).

وفيما يلي يشير السيد إلى أهم معالم سياسة بريطانيا في مصر للسيطرة التامة عليها :

1.إظهار المحبة والود والخدمة، حيث أن بريطانيا : لا تسلك في فتوحاتها إلاّ مسلك الوداد حتى إنها قلّ ما تملكت بلداً بالقوة القاهرة، وإنّ الشر لا يأتي إلا من معاهداتها. أليست هي التي أزالت السلطنة التيمورية التي كانت منبثة في جميع أرجاء الهند بمداخلاتها الودادية ومواعيدها المؤكدة ؟ ... فاحذروا يا أهل الديار

ص: 34

النيلية من أن يحلّ ببلادكم ما حلّ بغيرها» (6: 108).

«هي تدخل البلد الذي تطمع به تحت كل الأشكال الأكثر مجاملة، وكل المظاهر الأكثر مودة، هناك تنحاز أحياناً إلى جانب الأمير ضد الشعب، وأحياناً إلى جانب الشعب ضد الأمير ...» (6 :68) .

2. طرد العساكر المصرية الوطنية ومحاولة استبدالهم بغيرهم على أن تكون القيادة بيد الإنكليز ، ثم محاولة طرد هؤلاء الجدد واستبدالهم بجنود بريطانيين تعللاً بفساد أخلاق المصريين وعدم أهليتهم للخدمة النظامية، وعجزهم عن القيام بوظائف الضبط وصيانة الراحة (1: 327 ،483)

3. غلّ أيدي الحكومة والتضييق عليها: «أما في مصر فقد أظهرت مقاصدها لأول خطوة، باكورة أعمالها بعد دخول تلك البلاد غلّ أيدي الحكومة ومعارضتها في جميع

أعمالها وصدّها عن تعاطي شؤونها (1: 289).

4. تحريض الشعب ضد الحكومة لإفساد الأمر وعدم توحيد كلمة المصريين(121 :6)

5. إخضاع العلماء والتصرف في الأوقاف، حيث حاكت بريطانيا مسرحية لتحقيق هدفها هذا، أنّها قصفت بعض المدن المصرية عام 1882م بلا جرم أو أي سبب آخر، فوقع تعويض المتضررين على عاتق الحكومة المصرية، لكن بما أن الخزينة فارغة، اقترح الإنكليز أن يدفعوا قرضاً للخزينة المصرية لإعطاء التعويض على شرط أن تكون الاوقاف العمومية كافلة للقرض وفوائده، وتكون إدارة الأوقاف في تصرف رجال من الإنجليز (1:465)

6. التسلط على الموارد المالية للبلاد من خلال الضغط على الحكومة المصريةلإعلان الإفلاس وإشهار العجز عن القيام بنفقات الحكومة، ليجدوا في ذلك وسيلة لتقرير حمايتهم على القطر المصري وتخفيض فائدة الدين والاستبداد بشؤون المملكة (1:442).

ص: 35

7. إحداث الفتن الداخلية والصراع بين القوميات المختلفة، ليجدوا مبرراً لطول بقائهم هناك (1: 314).

8. تغرير الأهالي ليطلبوا الحماية الرسمية الإنجليزية لضمان طول بقائهم هناك بحجة حماية حلفائهم (1: 337).

9. الدعوة إلى إقامة مؤتمر دولي بشأن مصر وحصر المناقشة فيه بما يخص الشأن المالي لتحكم بريطانيا سيطرتها بشكل أكبر ، لكن باقي الدول عارضتها وطلبت أن يكون المؤتمر عاماً بما يخص مصر سياسياً، وإدارياً، ومالياً، وعسكرياً، هذا الخلاف بين الدول صاحبة المصالح المتضاربة أدى إلى إفشال المؤتمر وإحباط مخطط

بريطانيا.

هذه وغيرها كانت أهم معالم سياسة بريطانيا في مصر لإحكام السيطرة عليها، ولم تنتج سوى الويل والدمار لأهل مصر إذ أصبحت« ببركة العدل الإنجليزي وحسن الإدارة البريطانية أرض الفتن ومجالات الحروب ومضارب الخلل والفساد... کسدت أسواق التجارة وغلت أيدي الزارعين عن العمل في الفلاحة بفقد الأمن وعموم الاضطراب، وامتنعت الأرض عن الإنبات بإهمال الأعمال العامة واستولى الفقر... ومع كل هذا ترى الإنجليز لا تأخذهم ريبة في أنهم عادلون قوامون بالقسط، وإنّ حلولهم في أي قطر وسلطتهم على أي شعب مقرونة بالسعادة والرفاهة والأمن والراحة» (1: 384)

ص: 36

نقد الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي قراءة تعريفيّة في كتاب أصول الفلسفة

مازن المطوري

(1)

في ظلّ نَزَق المعرفة أليس من المفارقة، وواقع الشرق مثقل بالمفارقات، أن نتناول كتاب أصول الفلسفة بالدراسة والبحث بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدوره؟ وما هي مبررات الاهتمام بعد عُقود عجاف ؟ أم ثمة ضرورة في العودة إلى النصوص الجادّة في ظلّ فوضى الأفكار؟

أجدني أمام هذه الإشكالية لائذاً بالفلسفة، فقد قرّر بحث الميتافيزيقيا أن الوجود الناقص خير من العدم، فالكتابة الناقصة خير من عدمها، لأنها تؤثر وتتأثر بخلاف

العدم فهو بطلان محض لا حظ له من التأثر والتأثير. ولكن ما جدوى ذلك؟

ما يبرّر لنا دراسة هذا الأثر القيّم بعد نصف قرن من الزمان أن الفيلسوف الطباطبائي (1981-1892م) كتب في الفلسفة المقارنة بعمق، فلم يَجْر على طريقة التقاط فقرة من هنا وفقرة من هناك مما قاله أرباب الفلسفتين الشرقية والغربية، ليؤلّف كتاباً غثّاً يضيع معه وقت القارئ وجهده فضلاً عن رأس ماله ! وإنما صدر الطباطبائي بالتحليل

والتشريح والمقارنة والنقد بمبضع الفيلسوف الحاذق.

لستُ - وأنا في عُجالة المدخل بموضع الكشف عن مزايا وخبايا هذا الأثر

ص: 37


1- أستاذ الفلسفة الإسلامية في حوزة النجف الأشرف العراق.

وأهميته، فذاك أمر تتكفّله هذه الدراسة، وإنما أريد الإشارة إلى قلة الأعمال الفكرية التي تلفت المهتمين بمعنى أن كثيراً من الإصدارات التي تستنفد المخزون القومي لشرقنا من المداد والقرطاس واليد العاملة، لا تمثل شيئاً يذكر من الأهمية والجدية لتعويض خسائر إخراجها لحيز الوجود. لستُ متشائماً، ولكن قليلة هي الأعمال التي ترفدالمفكر الجاد والعالم البصير. عسى ألا تكون دراستنا مصداقاً لتلك الإصدارات!

وبعد: حاولنا في هذه الدراسة الموجزة التعريف بدور العلامة الفيلسوف محمد حسين الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية في اتجاهاتها البارزة، عبر سفره القيم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي). وقفنا فيها عند محطات لقاء الفلسفتين الشرقية والغربية، مشخّصين ما رافق ذلك من تداعيات وإخفاقات ومعوقات، مركزين على مشاعل العتمة ومصادر النور.

تمحور الحديث حول التعريف بكتاب أصول الفلسفة ومنهجه ودوره وأهميته ومباحثه، آملين أن تكون هذه الدراسة خطوةً محفّزة لتثوير الأقلام للبحث في تراثنا الفكري لاستخراج النصوص الجادة التي تعاطت مع حكمة الغربيين باتزان ومنهج، وعرضها بين يدي البحث العلمي والدرس النقدي.

محطات لقاء فلسفتي الشرق والغرب

يحسنُ بنا ونحن نُقدِم على التعريف بمساهمة العلامة الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية عبر كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي)، أن نتعرف أوّلاً على محطات لقاء المسلمين مع حكمة الغرب في التاريخ المعاصر ، وما رافق ذلك من معوقات وأخطاء.

لابد من الإقرار سلفاً أن تعاطي الغربيين مع ثقافة المسلمين وفكرهم كان أسبق بمديات من تعاطي المسلمين مع فكر الغرب وثقافته وفلسفته، أيّاً كانت الأسباب في هذا التعاطي سياسيّة استعمارية، أو تبشيرية، أو معرفية خالصة. لقد تهيأت رؤية فكرية في القرن الثاني عشر ثم توسعت في القرنين الثالث والرابع عشر، ثم امتدت حتى العصر الاستعماري انطلقت من العداء لنبي المسلمين صلى الله عليه وآله،

ص: 38

فشكل هذا الموقف تحوّلاً في التعامل مع الإسلام نفسه. وقد اعترف بطرس الجليل (-11561092م)رئيس دير كلوني - الذي كان يقوم بجولة على الحدود الفرنسية مع الأندلس فتعرّف إلى الإسلام عن كثب - بما يعزّز هذه الرؤية، فقال: ((يجب أن نقاوم الإسلام لا في ساحة الحرب بل في الساحة الثقافية)). فكان لهذا الغرض أن شكل لجنة من مجموعة مترجمين تمثلت مهمتها في ترجمة القرآن الكريم. فقد أدرك بطرس أنّه لإبطال العقيدة الإسلامية يجب التعرف عليها أولاً(1) .

أضف إلى ذلك، فقد توفّر الغربيين على أفكار ومؤلفات أكابر فلاسفة الإسلام أمثال الكندي ،(801-873م) ، والفارابي ،(872-950م) ، وابن سينا (980-1037م)، وابن رشد (1126-1198م). وأوجدوا لهذا الغرض مراكز ترجمة تعهدت انجاز المهمة. ومن أشهر تلك المراكز طليطلة، صقلية، القسطنطينية، جامعة أكسفورد، البلاط البابوي. وقد عكست الترجمة إعجاب الكثير من الأوروبيين بالحضارة العربية الإسلامية، ولأجل ذلك سعوا جاهدين للتعرف على أوجه كثيرة منها، وكان في مقدمتهم رجالُ الدين الذين شجّعوا ترجمة الكتب من العربية إلى اللغات الأوربية(2).

يومَ كنّا نغطّ في سبات عميق أصدرت شركة بريل الهولندية بين عامي (1913/ 1938 )دائرة المعارف الإسلامية التي تعتبر أهم موسوعة دونها الغربيون عن الشرق واهتمت بكلّ ما يتصل بالحضارة الإسلامية من النواحي المختلفة الدينية والثقافية والعلمية والسياسية، وعمل عليها اثنان وعشرون مستشرقاً من أكابر المستشرقين من أمثال لويس ماسينيون (1883-1962)، جوزيف شخت (-197-1902م)، هنري لامنس اليسوعي (1937-1862م)، رينولد ألين نيكلسون (1945-1868م) دافيد صموئيل مرجليوث (1858- 1940م)، کارل بروکلمان (1956-1868م)، وغيرهم. ومن دلائل همّة الغربيين أن دائرة المعارف هذه

ص: 39


1- المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد د. محمد عابد الجابري 27 مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت 2000م. وقد طبعت الترجمة الأولى هذه سنة 1143م بفضل اللاهوتي السويسري تيودور ببلياندر (1564-1509م) ضمن حملة واسعة لدحض الإسلام
2- أثر الفلسفة العربية في الفكر الأوروبي خلال القرون الوسطى، يوئيل يوسف عزیز ،65، سلسلة آفاق عربية، العدد الثاني، بغداد 1985م.

ظهرت في أول إصدار لها باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية.

ويوم كان سلفنا ينقب ويبحث ويترجم ويتوفّر على تراث اليونانيين والهنودوالفهلويين والاسكندرانيين وجدت نهضة ثقافية وعلمية كبيرة، تجلت آثارها في أبعاد مختلفة، أما يومَ انقطعنا عن مواصلة طريقتهم ومساعيهم، وبتنا يلفّنا السُّباتُ والخمول واللاأُباليه، فقد صرنا مادة لتجارب الآخرين ونهباً لمساعيهم ودراساتهم، ونلعن بعد ذلك كلّه تيارات التغريب وهجوم الأفكار والثقافات الوافدة!

لو تركنا حديث الغربيين جانباً، وانتقلنا إلى الحال في العالم الإسلامي وبالأخص في الحواضر العلمية الدينية، فسنجد الوضع مختلفاً؛ إذ على الرغم من محاولة بعض أهل الفكر المسلمين الانفتاح على ثقافة العصر منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي - كجمال الدين الأفغاني (1838-1897م) وغيره - إلا أن المفكرين المسلمين لم يحاولوا التواصل مع الفلسفة والفكر الغربي المعاصر إلا في محاولات خجولةومحدودة. فلم يحاول أصحاب الفكر في الشرق اتخاذ موقف علمي وموضوعي شامل ومبادر من فلسفة كلّ من : فرانسيس بيكون (1626-1561م)، رينيه ديكارت (1650-1596م) ، عمانوئيل كانط (1724-1804م) ، فردريك هيجل (1770-1831م)، کارل مارکس ،(1818-1883م)، فردريك نيتشه (1844-1900م)، وغيرهم من رواد الفكر الغربي المعاصر، الذين أسهموا في تشكل صورة الغرب الثقافية والفكرية والفلسفية، والتي وجدت طريقها إلى الشرق عبر المتعلّمين الشرقيين في أوربا. بل لم تعرف الفلسفةُ الإسلامية المعاصرة شيئاً من فلسفة الغرب، ولم تلتق معها على بساط الحوار والنقد والتفاعل تأثراً وتأثيراً. وإنما رأت حكمة المسلمين في نفسها لاسيما بعد إنجازات الفيلسوف صدر الدين الشيرازي (1572-1640م) - أنها الفلسفة الحق التي لا يشوبها رين أو شك، ولا يستطيع أحدٌ مخاصمتها، وأخذت تنسج على هذا المنوال، منعزلة في دهاليز طلاسمها، وأنفاق التعقيد محاطة بنزاعات المشارب والمذاهب، حتى بدت بواكير الغزو الثقافي وتطلعات الماديين للنيل من وجود الإسلام، فَغُزينا في عُقر دارنا ، فكان التعاطي الانفعالي فشوّهت كثير من الأفكار.

ص: 40

لعلَّ أسباباً متعدّدةً اجتمعت فأفضت لتلك النتيجة المؤسفة، منها ما يرجع إلى اضمحلال الهَمِّ المعرفي ونزعة البحث والتنقيب في معارف الآخرين إلا في نفر محدود ومنها ما يتعلق بتصور شايع يحسب الفلسفة الأوربية بسائر مدارسهاواتجاهاتها ،تتقاطع تقاطعاً تاماً مع الفلسفة الإسلامية، ومع الألوهية والعقل، باعتبار أن كلاً منهما تحركت في مسارها الخاص، واحتضنتها بيئة مغايرة للأخرى. فضلاً عن هاجس الهوية، وعقدة التعالي.

لقد تركز حديثنا على هذه الحواضر لأكثر من سبب؛ فقد كانت تمثل الجامعات الرسمية لحفظ العلوم وتعليم الأجيال قبل أن تنتشر جامعات التعليم الحديثة في البلدان الإسلامية، كما وأنها بحسب المفكر اليساري الإيراني جلال آل أحمد(1923- 1969م) تمثل : آخر حصون المقاومة إزاء التغريب(1). أما غيرها من الحواضر فيكفي أن نعلم أنّه في عصر التقهقر العلمي والعقل السياسي في الشرق العربي اعتبرت الفلسفة عدواً للدين، وأدّى ذلك إلى تحريم دراستها في المعاهد الدينية ومراكز الثقافة حتى فيما يتعلّق منها بعلم الكلام سوى معاهد الثقافة في طهران عاصمة إيران، ومعاهد النجف الأشرف - وأخذت مصر بقسط وافر من ذلك التحريم(2). فهل بعد ذلك يمكن التواصل مع فلسفات الآخرين؟!

أياً ما كان الأمر، ففي القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، حيث تكثف الاتصال بين أوروبا والعالم الإسلامي في ظلّ اشتداد سطوة الاستعمار الأوربي المباشر، كانت هناك محطات لقاء بين فلسفتي الشرق والغرب، مثلت شعلة في العتمة ومصادر النور:

1- المدرس الطهراني وبدائع الحكم:

لعلَّ أقدم أثر تعاطى مع فلسفة الغرب - وإن بشكل مقتضب- يتمثل في كتاب

ص: 41


1- - نزعة التغريب جلال آل :أحمد 59 ترجمة حيدر ،نجف مراجعة عبد الجبار الرفاعي، كتاب قضايا إسلامية معاصرة الكتاب ،21 مؤسسة الأعراف للنشر 2000م.
2- صفحة من رحلة الإمام الزنجاني، محمد هادي الدفتر 1 357 مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، بيروت 1996م.

بدايع الحِكَم) باللغة الفارسية، تأليف الفيلسوف علي المدرس الزنوزي الطهراني (1893-1818م)(1) . الذي أتمه سنة (1890م) وطبع في إيران سنة (1897م).

يشتمل الكتاب على مجموعة من الأسئلة طرحها عماد الدولة على المدرس الطهراني (2) . وقد أشار عماد الدولة في السؤال السابع إلى أفكار كل من ديكارت وكانط وليبنتز (1646-1716م) وغيرهم، فأجاب الطهراني عن أفكار هؤلاء الفلاسفة، وبين صلتها بالمعقول الإسلامي. واستطاع إلى حدّ ما أن يقارن مقارنة علمية بين أفكار فلاسفة ما بعد عصر النهضة وفلسفة صدر الدين الشيرازي.

تجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف علي المدرّس كان يرتبط بعلاقات علمية مع المستشرق الفرنسي جوزيف كومت دو جوبينو (1816-1882م)(3)، فذكره الأخير في مواضع متعددة من كتابه الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى) الذي ألفه بالفرنسية، مشيراً إلى أنه يكن له تقديراً كبيراً(4).

2- الزنجاني ودروس الفلسفة:

ومن أبرز محطات لقاء الفلسفتين الشرقية والغربية محاولة الفيلسوف عبد الكريم الزنجاني (1887-1968م) في كتاب دروس الفلسفة، الذي أتمه سنة (1930م) وطبع أول أجزائه في النجف الأشرف عام (1940م ) .

اهتم الزنجاني بالفلسفة الغربية أيما اهتمام ورأى أنّها تشكل مع الفلسفة الإسلاميّة : ((قوّة عقليّة جاهزة، وعدّة فكرية ناهضة يجب استغلالهما ولا يجوز

ص: 42


1- علي عبد الله الزنوزي ، من مشاهير الفلاسفة الإسلاميين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين جمع بين المعقول والمنقول، واضطلع بمهمة التدريس بمدرسة عالي سپهسالار في طهران لقب بأستاذ الأساتذة، توفي بطهران، ويعتبر من المؤسسين بعد صدر الدين الشيرازي. من مؤلفاته: بدائع الحكم، حاشية على الأسفار، سبيل الرشاد في أحوال المعاد النفس كل القوى.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهراني ،3 ،64 دار الأضواء، بيروت،الطبعة الثالثة
3- أحد مشاهيرالكتاب الفرنسيين ومؤسّس طريقة عنصرية في فلسفة التاريخ عرفت ب- (الجوبينية)، كان لها أتباع كثيرون خصوصاً في ألمانيا. أقام في طهران السنوات (1855-1858م) بوصفه النائب الأول لسفارة فرنسا، كما مكث فيها (1862-1864م) بمنصب الوزير المفوّض.
4- .Paris 1866 97-Les Religions Philosophies Dans L'asie Centrale. M. Le Comte De Gobineau:93

الاستغناء عن كلّ منهما، بل يجب أن نضمّ نفائس الفلسفة الحديثة الغربية إلى حقائق الفلسفة القديمة الشرقيّة، على ضوء العقل والرويّة، لنستخلص منهما مزيجاً إصلاحيّاً خالصاً، وفلسفةً قويمةً صالحة للحياة والبقاء، وكذلك أراد الله أن تكون الحياة مزيجاً من صالح القديم والحديث))(1).

استعرض الزنجاني بعض مقولات ديكارت مقارنةً بفلسفة الرئيس ابن سينا، كما استعرض مقولات فيلسوف النقدية الألماني عمانوئيل كانط وآراءه في الزمان والمكان ، ودلّل على أسبقية الفيلسوف صدر الدين الشيرازي بتقرير حقائق هذه المسائل قبل كانط بقرنين من الزمان(2). كذلك استعرض النظرية النسبية للدكتور ألبرت اينشتاين (1955-1879م)، مشيراً إلى أن ما جاء في هذه النظرية من المفاخرة بإثبات البعد الرابع للموجودات الماديّة، كان قد أثبته صدر الدين الشيرازي قبل اينشتاين بقرون، ودلّل على ذلك بنقل كلمات الشيرازي(3).

فضلاًعن ذلك، فقد وقف الزنجاني عند الأفكار الاشتراكية والشيوعية مبيناً تهافتها وحفلت دراسات ومقالات ومحاضرات الزنجاني المختلفة بذكر آراء وأفكار كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين من أمثال توماس مور (1478-1535م)، کامپانیلا (1568-1639م)، جون لوك (1704-1632م) ، نيوتن (1642-1727م)، دارون (1882-1809م)، هيجل، أنجلز (1820-1895م)، دريبر (1837-1882م)، غوستاف لوبون (1841-1931م)، وليم جيمس (1842-1910م) ، فرنسيس بيكون، کارل مارکس، أدوارد هاتمان ،فيلبون كرادي فو (1867-1953م)، وغيرهم.

وقد دلّلت كتابات الزنجاني لاسيما كتاب دروس الفلسفة)، على عظيم اطلاعه على الفلسفة الغربية وإحاطته بها. ويمكن أن يعدّ الزنجاني من أوائل الذين تعاطوا مع الفلسفة الغربية مقارنة بفلسفة المسلمين بعد الفيلسوف الزنوزي وتوقف

ص: 43


1- دروس الفلسفة، الشيخ عبد الكريم الزنجاني 1 16-17 ، مطبعة الغري الحديثة - النجف، الطبعة الثانية 1962م.
2- دروس الفلسفة 1: 31، 36.
3- دروس الفلسفة 1: 40-45

الزنجاني كذلك عند تخرّصات المستشرقين وما حملته أقوالهم من خبط وخلط

بشأن الفلسفة الإسلامية.

ومع ذلك كله لم يكن الزنجاني فيلسوفاً من صنف الذين يقضون حياتهم متأملين في عزلة باردة في قمّة الأبراج العاجيّة، وإنما كان فيلسوفاً يحمل موقفاً اجتماعياً ورسالياً عظيماً، حاملاً لواء الإصلاح يجوب أقطار المسلمين، وظل يدافع عن موقفه ويضحي لأجله طوال حياته الغناء.

-3 الطباطبائي وأصول الفلسفة:

أمّا المحطّة الأهم في دراسة فلسفة الغرب، وتقويم اتجاهاتها الحديثة، ومقارنتها بالموروث الفلسفي الإسلامي، فقد تجلت في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

(محور الدراسة) تأليف الفيلسوف العلامة محمد حسين الطباطبائي (1892-1981). فقد افتتح الطباطبائي حواراً عقلياً معمّقاً مع اتجاهات الفلسفة الأوربية الحديثة لاسيما المادية الديالكتيكية، منطلقاً من ضرورة تحليل أصولها ومرتكزاتها ونقدها بعد اتساع ظاهرة التغريب، ودخول التيار الماركسي خط الصراع، وعمل قطاع واسع من المثقفين الدارسين في أوربا على الترويج لمقولات الفلسفة المادية المناهضة للميتافيزيقيا والإيمان بالله تعالى.

جاءت خطوة الطباطبائي بعد سبات طويل عمّ هذا الحقل المعرفي المهم، وكسرت حاجز الصمت لتدخل ميدان البحث الفلسفي المقارن بعمق وشمول. إذ برغم من طمرور زمان على إحساس هواة المعرفة بضرورة طرح الفكر الفلسفي الحديث، ومقارنة النظريات المحدثة بنظريات الفلاسفة المسلمين، لكنَّ المؤسف أن هذا الأمر لم يتجسّد عملياً حتى لحظة كتابة هذه المقدمة(1). نعم ما تم انجازه عبر هذه الفترة لا يتعدّى رسائل فلسفية على المنهج التقليدي، قد تتناول أحياناً قضايا الطبيعة والفلك وتتناقض تماماً مع النظريات العلمية الحديثة، أو جاء ترجمة بحتة

ص: 44


1- أي سنة 1953م

للنظريات الفلسفية الحديثة. إذن لا يتعدّى النشاط الفلسفي الراهن هذين اللونين: إمّا تقليداً تاماً للنهج الفلسفي المأثور، وإما ترجمة صرفة للنظريات الحديثة، وحيث اختلاف مراكز اهتمام هذين اللونين من التحقيق فما اهتم به السلف لم تعره الدراسات الحديثة اهتماماً، أو اهتمت به اهتماماً يسيراً، وطرحت قضايا ومواضيع أخرى أمام الدرس، مما أدى إلى أن القارئ لهذين اللونين لا يخرج بمحصلة من خلال قراءتهما معاً. ومن هنا جاء الكتاب الذي بين أيدينا لوناً ثالثاً من الدرس، لا هو بالنهج التقليدي، ولا هو بالترجمة للنظريات الحديثة»(1).

-4- الصدر والأنا الفكري:

ولا ننسى الإشارة والإشادة بجهود السيّد محمد باقر الصدر (1935-1980م) في مجال دراسة اتجاهات الفلسفة الغربية ونقدها في (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقيّة للاستقراء)، سالكاً في ذلك منهجاً فريداً، سبق وتحدثنا عنه(2).

وما سوى هذه المحطات السبّاقة والجادّة، كانت هناك محاولات أخرى مختلفة كماً وكيفاً ،ومنهجاً، تنوعت في دارسيها ومنهجياتهم، ظهرت في العراق وإيران والهند وبلدان أخرى، ولكنها تبقى ثانوية وفيها مشاكل كثيرة، ولا ترقى إلى النماذج المتقدّمة لاسيّما النموذجين الفريدين الطباطبائي والصدر.

وفي سبيل رصد المشكلات التي واكبت تعاطي المسلمين إجمالاً مع فلسفة الغرب، فإنّا نراها تتجلى بشكل أساس في أمرين:

الأوّل: قلّة الترجمات الأمينة للكتابات والأفكار الفلسفية الغربية التي تضطلع بها مراكز ترجمة مختصة، والقليل المترجم منها جاء رديئاً مشوّهاً بسبب من كونها تمثل محاولات فردية لأناس غير متمرسين في الفكر. وحتى نعضد كلامنا بشهادة عدل، نُذكر بأن الدكتور موسى وهبة أستاذ الفلسفة الحديثة في الجامعة اللبنانية، قام بإعادة

ص: 45


1- أصول الفلسفة :1: 42-43، مقدّمة الشارح.
2- مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر، الاستغراب 1: 118، خريف 2015م.

ترجمة كتاب( نقد العقل المحض) لعمانوئيل كانط بالرغم من سبق الدكتور أحمد الشيباني (1923-1995م) لذلك بأكثر من ثلاثين عاماً(1)، معللاً بأن تلك الترجمة: ((لم تقرأ ولو جزئياً بسبب من افتقاد المترجم للصبر يوم لم يكن لأحد الصبر على القراءة والتروّي))(2) . فيما يرى باحث آخر أن كلا الترجمتين لكتاب كانط (الشيباني/ وهبة)، أعجميتان، ومن المتعذر قراءتهما، وتتسمان بالغموض والاستغلاق، رغم ما بذل فيهما من جهد كبير ، ولا يزال الكتاب بحاجة إلى جهد أكبر حتى يمكن أن ينقل إلى العربية بلغة مفهومة(3). وغير هاتين الترجمتين قام الدكتور غانم هنا بترجمة الكتاب ثالثة عن النصّ الألماني(4).

على أن الترجمة لا تتحقق بتوفّر الفرد على معرفة اللغة المترجم عنها، مطلعاً على مفرداتها واستعمالاتها وتراكيبها الخاصة، وإنما يجب أن تتوفّر فيه مضافاً لذلك وخصوصاً في الأفكار الدقيقة كالفلسفة أن يكون المترجم من أهل الاختصاص، ومستوعباً للأفكار التي يريد ترجمتها، حتى ينقلها بأمانة.

إن الذي يؤسف له حقاً هو أن مفكرينا لم تتسنّ لهم فرصة قراءة الأصول الفكرية والفلسفية الغربية بلغتها الأم، لعدم معرفتهم بتلك اللغات، مما أبقاهم أسرى النصوص المترجمة، مع ما يعتور تلك الترجمات من فقدان الدقة وعدم الأمانة في النقل أحياناً كثيرة، ومن الوقوع في أسر ما ينتخبه المترجم من نصوص الفلسفة الغربية، مع العلم أن بعض الترجمات كانت تتم عبر واسطتين عن اللغة الأم.

الثاني: إنّ الكثير من مظاهر التعاطي واللقاء جاءت في أجواء ردّات الفعل، حيث الدفاع عن الوجود الإسلامي بوجه الأفكار الوافدة، فاتّسم بطابع إلزام الخصوم حسب الطريقة المتبعة في علم الكلام، فأفضى إلى أخطاء كبيرة .

ص: 46


1- صدرت عن النص الإنجليزي بعنوان : نقد العقل المجرد في بمجلّد ضخم عام 1965م عن دار اليقظة البيروتية.
2- نقد العقل المحض عمانوئيل كانط، ترجمة وتقديم موسى وهبة -الهامش مركز الإنماء القومي لبنان.
3- العقل وما بعد الطبيعية، تأويل جديد لفلسفتي هيوم وكانط، محمد إبراهيم الخشت: 227، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2005م.
4- صدرت عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت 2013م.

لقد كان من نتائج القراءة السطحية والمستعجلة لما ورد لنا من ثقافة الغرب أنها أدت إلى فضائح ثقافية، حيث ترسّخ في أذهان الوسط العام لقرائنا ومثقفينا(إن جازالإطلاق) أن الوجودية تعادل الإلحاد، وأن الوجودية تعني اللاإيمان والحال أن الوجودية في تكوينها تمثل نقلة ثقافية ترتبط بتفاعلات الفكر الأوروبي المعاصر، ولا يشكل الإلحاد محوراً لهذا الفكر ، بل هناك كبار بين الفلاسفة الوجوديين ممّن يتعصب بحماس للإيمان بالله»(1) حتى دعت هذه الظاهرة جون ماكوري أستاذ اللاهوت في الجامعات والمعاهد الأمريكية، إلى تأليف كتابه المعنون ب-(الوجودية) لغرض دفع هذه الأفكار المشوّهة عنها(2). ومن جملة الفضائح تلك المعادلة التي تساوي بين المنهج الاستقرائي والمذهب التجريبي. والحال أنه بالمراجعة لتاريخ حضارة الغرب نلاحظ أن التجريبية كاتجاه معرفي لم يكن أساساً لأي من التطورات الخطيرة التي لعبت دوراً رئيساً في تقرير مصير النهضة العلمية والحضارية المعاصرة. وإنما كلَّ هذه التطورات هي وليدة المنهج الاستقرائي(3).

الطباطبائي والغرب

من المهم ونحن بصدد التعريف بدور الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية كما تجلى في كتاب أصول الفلسفة، أن نتوقف عند أمر قد يكون غيباً أو غريباً عند كثيرين، يتعلّق بتواصل الفيلسوف الطباطبائي مع الغرب بصورة عامة. ذلك أن تعاطي الطباطبائي مع الغرب لم يقتصر على فلسفته في مقالات كتاب أصول الفلسفة، وإنما سبقته ورافقته حلقات ومحطات التقى فيها الطباطبائي مع الفكر الغربي ورجاله وسلوكه وأنظمة حضارته محاوراً وناقداً، يمكننا الإشارة إليها إيجازاً في عدة نقاط :

1- في ستينيات القرن الماضي تبنّى الطباطبائي مشروع تقديم الفكر الشيعي في مختلف أبعاده ميسراً باللغات الأوربية، حتى يكون بمقدور الباحثين والشباب الغربي التوفر على اطلالة سهلة وأمينة لهذا الفكر. كان منطلق الطباطبائي في هذا المشروع

ص: 47


1- منطق الاستقراء، السيد عمار أبو رغيف: 52 بتصرف، دار الفقه للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427ه-.
2- انظر: الوجودية جون ماكوري ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام سلسلة عالم المعرفة 1982م.
3- منطق الاستقراء: 53 بتصرف

يتمثل في أن جلّ الدارسين الغربيين لم ينفتحوا على دين الإسلام إلا بواسطة مصادر أهل السنة، سواء في ذلك الحديث والتفسير والكلام والتاريخ والفقه، ومن ثم بقي الوجه الآخر الشيعي محجوباً مع ما ينطوي عليه من فكر ومعارف.

حدث بعد ذلك وتحديداً في العام (1964م) أن تباحث الطباطبائي بهذا الشأن تلميذه الدكتور حسين نصر لإنجاز المشروع، بحيث يتكفّل الدكتور نصر ترجمة ما يكتبه الطباطبائي إلى الإنجليزية وهذا ما تمّ بالفعل وفي غضون ثلاث سنوات انشغل الطباطبائي بإعداد حلقات هذا المشروع، الذي صدرت أولى حلقاته بعنوان( الشيعة في الإسلام) الذي ترجم للإنجليزية(1)، ثم نقله الدكتور جعفر دلشاد إلى العربية (2). بعد ذلك أعقبه بثاني الحلقات( القرآن في الإسلام) الذي ترجم كذلك (3) .

2- حلقة أخرى من حلقات تواصل الطباطبائي مع الفكر الغربي حواراً ونقداً تمثلت في سلسلة حواراته ولقاءاته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903- 1978م)، التي أثمرت كتاباً بعنوان (الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان). ففي هذا الكتاب التقى الشرق مع الغرب لقاءً فكرياً حوارياً(4).

ومن الإشارات المهمة التي انطوى عليها حديث الطباطبائي في هذا الكتاب، وفي معرض جوابه لسؤال كوربان عن سبب توقف الاهتمام الغربي بشأن البحث الفلسفي الإسلامي مع ابن رشد تحليل الطباطبائي لنظام الاستشراق الفكري، مستغلاً الفرصة للإشارة (مبكّراً)، للعوامل والدوافع المتحكمة في بنيته كالسلطة والتفوق والنزوع إلى الغاء العوالم والثقافات الأخرى تحت ذريعة العالمية(5).

والطباطبائي في هذا التحليل سبق الباحثين المعاصرين كإدوارد سعيد (1935-

ص: 48


1- ترجمه الدكتور نصر إلى الإنجليزية تحت عنوان Shiite in Islam بمساعدة وليام شيتيك.
2- الشيعة في الإسلام السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام، قم، الطبعة الثانية 2004م.
3- رسالة التشيع في العالم المعاصر، الطباطبائي : 12-14، مقدمة المترجم
4- انظر: الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان محمد حسين الطباطبائي، نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416ه-.
5- الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان: 123

2003م) وغيره، الذين توفروا على تحليل بنية الاستشراق وتجلية دوافعه التي يغطّيها بستار البحث المعرفي(1).

وفي سياق حديثنا عن الطباطبائي والغرب لا بأس من الإشارة إلى أن رسالة مكتوبة وصلت الطباطبائي سجّل صاحبها اعتراضاً على تواصل الأخير مع (الأجانب)، و(أهل الدنيا) حتى اضطر لكتابة جواب لها ونشره في الكتاب الذي تضمن حواراته مع كوربان(2)!

استطاع الطباطبائي في هذا الحوار أن يفرض حضوره الفكري والمعرفي المستقل، منطلقاً من هويته الفكرية الأصيلة، حتى أن الدكتور علي شريعتي (1933- 1977م) سجّل لنا واصفاً الطباطبائي في معرض نقده لعقدة الاستلاب ومرض التغريب التي بلي بها تيار من المثقفين قائلاً: ((كانت تعقد في طهران جلسات أسبوعية، وكان يحضرها البروفسور هنري كوربن أستاذ السوربون وعالم الإسلاميات المعروف والمتخصص الفريد في الثقافة الشيعية، كما كان يشترك فيها السيد محمد حسين الطباطبائي مدرّس الحكمة وتفسير القرآن في قم، وعدد آخر من الفضلاء والعلماء في العلوم القديمة والجديدة. وكان الطباطبائي وكأنه سقراط قد جلس وحوله تلاميذه، وكان كوربن العظيم حسن الأدب، يجاهد في اغتراف جرعات من هذا المحيط العظيم للأفكار والعواطف العميقة والمتنوعة الني كونتها الثقافة الإسلامية الشيعية. أية روح وقوة وهبته هذا الثبات في الشخصية والاستقلال الفكري ؟ ليس هذا تعصباً قومياً أو غروراً ناشئاً عن جهل، إنه يعرف نفسه كممثل لتاريخ عظيم وحضارة عظيمة، وكنز فيّاض من الأفكار الفلسفية والمواهب الإنسانية والمعنويات الأخلاقية والعواطف والجماليات المدهشة العرفانية والفنية والأدبية، إنه مرتكن على جبل من الثقافة البشرية))(3) .

ص: 49


1- انظر: الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق إدوارد سعيد، ترجمة: د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006م
2- الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان: 223
3- الأعمال الكاملة، العودة إلى الذات، علي شريعتي 10 1396-140، ترجمة: د. إبراهيم دسوقي شتا، مراجعة حسين علي ،شعیب دار ابن طاووس، الطبعة الثالثة 2010م.

3- في محطة ثالثة من تواصل الطباطبائي مع الغرب الفكري والاهتمام برجالاته

وفكره ،وفتح جسور التواصل الحواري، تمثلت في لقاء الطباطبائي مع المستشرق الأمريكي كينيث مورغان (معاصر، تولد1934م) الذي قضى شطراً من حياته في الشرق، وكانت له لقاءات وتواصل مع رجال الفكر وعلماء الدين في الأديان المختلفة.

زار مورغان إيران صيف (1964م) فاستقدمه الدكتور حسين نصر إلى العلامة الطباطبائي الذي كان يصطاف في قرية (دركه) شمال غربي طهران. وقد وصف الدكتور نصر صورة من ذلك اللقاء في مقدمة الطبعة الفارسية لكتاب (الشيعة في الإسلام)، بقوله: ((منذ اللحظة الأولى هيمن العلامة الطباطبائي على البروفيسور موركان [كذا] بحضوره المعنوي والروحي، فأحس الأستاذ الأمريكي بالألفة والأنس وأدرك للفور أنه بمحضر إنسان تجاوز في العلم والحكمة مرحلة الفكر إلى العمل، وأنه قد تذوّق ما يقوله وطواه عملياً وسلوكياً ))(1) .

4- وفي مقالات الكتاب الذي حمل عنوان( مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي)، تعرّض الطباطبائي ناقداً الكثير من مقولات وسلوكيات ومظاهر الفكر الغربي ومدنيته المعاصرة، كاشفاً عن هناتها ومآلاها وعن خطر التحديث على النمط الأوربي، مبيناً في ذات الوقت أصالة الفكر الإسلامي وفلسفته القويمة في معالجاته لمشاكل الإنسان في أبعاد وجوده المختلفة(2).

5- لقد حفلت الأجزاء المختلفة من موسوعة الطباطبائي التفسيرية القيمة الميزان في تفسير القرآن، بفصول توقف فيها الطباطبائي ناقداً للفكر الغربي وفلسفته ومدنيته،

بنحو لو أتيح لم شتاتها في دراسة خاصة لكانت كتاباً كبيراً، وبأدنى مراجعة للفهرس التفصيلي لمواضيع هذه الموسوعة توقف القارئ على ذلك.

فعلى سبيل الإشارة نجد الطباطبائي قد تناول في الأجزاء الأولى من موسوعته

ص: 50


1- رسالة التشيّع في العالم المعاصر : 13، مقدمة المترجم.
2- مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، محمد حسين الطباطبائي، تعريب خالد توفيق مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1415ه-.

التفسيرية (2/1 /4) مواضيع من قبيل: الفساد الأخلاقي ورذائل المجتمع المتمدّن الحاضر ونتيجة ظهور المدنية الغربية، وعلى أي شيء أقبل الناس بعد ظهور مدنيّة ،الغرب، وكتابات المستشرقين الغربيين حول مدنيّة الإسلام، وغيرها من المسائل والمواضيع والمقولات المبثوثة في الأجزاء المشار إليها، وكذا سائر أجزاء تفسير الميزان.

قصة كتاب (أصول الفلسفة)

مذ سقطت البلدان الإسلامية صريعة بأيدي الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، رافق ذلك السقوط ورود سيل من الأفكار والثقافات والفلسفات التي تتقاطع مع الهوية الأصيلة للمجتمعات الإسلامية، بشر بها كتاب ومثقفون تلقوا تعليمهم في المراكز البحثية والعلمية الأوربية، فضلاً عن رجال الاستشراق. وقد شكل سيلُ الأفكار هذا إلى جانب الاستعمار العسكري والسياسي استعماراً ثقافياً وغزواً فكرياً أمد المستعمر بمؤونة الهيمنة. وفي سنوات لاحقة وفد سيل آخر من تيارات الفكر الغربي حاملاً لواء الماركسية، ومتخذاً من الثورة البلشفية ركناً يلوذ به.

وعلى حين غرة، وفي لحظة ((غفلة رضا حكمة الشرق بإنجازاتها، دقت الماركسية نواقيس الخطر، وكان خطراً موحشاً، أربك المؤسسة الدينية بزحف داهم البيوت، فاستيقظت هذه المؤسسة بما لها من عمق بشري، مدافعة عن إيمانها الذي هدّده الإلحاد الماركسي، وعن قيمها التي ناجزتها قيم الفكر المادي الزاحف بشكل منظم، وكان دفاعها دفاعاً سلبياً بوجه عام. وإلى حقول هذه المؤسسة هرع الفلاح العلامة هاجراً مسقط رأسه ومزرعته، ليبدأ زرعاً من لون آخر))(1) .

تعاضدت عدة أسباب دفعت بالطباطبائي إلى اتخاذ هذه الخطوة، من أهمها:ازدياد حجم المطبوعات الفلسفية في إيران بفعل الترجمة من دون ضوابط من جهة،واهتمام الشباب الإيراني بفكر فلاسفة أوروبا الذي راح ينتشر بفعل تلك الترجمة من

ص: 51


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 15-16، مقدمة الأستاذ المترجم.

جهة ثانية، إضافة إلى انتشار المطبوعات المروجة للمادية الديالكتيكية، والتي يقف خلفها خط سياسي وجهاز حزبي ممثلاً بالحزب الشيوعي الإيراني. وقد كان لصدور کتاب نگهبان سحر أفسون (الحارس السحري) عام (1950م) دافعاً مؤثراً، إذ تعرض الكتاب للأديان والمذاهب بالاستهزاء والسخرية بخسة متناهية، وتهكم بالمتدينين

ورجال الدين بشراسة(1) .

استقر الطباطبائي في مدينة قم المقدّسة، وعمل على إحياء درس المعقول فيها إلى جانب الأبحاث التفسيرية والقرآنية، التي كانت تخلو منهما المعاهد الدينية العلمية أو تكاد. كما بادر إلى تأسيس جمعية فلسفية، ضمّت في عضويتها كفاءات فلسفية، اهتمت بإثارة البحث والنقد في قضايا الفلسفة، حتى أضحى العلامة المدرس الوتر لهذه العلوم في حوزة قم العلميّة.

بعد انتهاء الطباطبائي من تدريس دورة من كتاب (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة)، عزم على القيام بالبحث المقارن بين الفلسفتين الشرقية والغربية. وقد كان يعتقد أن البحث فيما لو أقيم على أساس البرهان والطرق الصحيحة، فمن المستحيل أن نخرج بنتيجتين مختلفتين وفي أية مدرسة كنّا، ولهذا يجب أن نتتبع سرَّالاختلاف بين الفلسفتين وبيان نقاط الضعف فيهما(2). وبحسب شهادة تلميذه المطهري (1919-1979م) فإن الطباطبائي كان من سنوات يهم على تأليف دورة فلسفية تتشابك فيها معطيات الفلسفة الإسلامية التي نمت شجرتها خلال ألف سنة من الزمان، مع نظريات فلاسفة أوربا المحدثين، وتهدف إلى ردم الهوة بين هذين اللونين من التفكير حتى تكون منسجمة مع مزاج ،العصر، وتظلّ في الوقت ذاته محافظة على قيمة الفلسفة الإلهية وتتصدّى لفكرة انتهاء عصر الميتافيزيقيا والإلهيات(3).

ص: 52


1- محمد حسين الطباطبائي مفسراً وفيلسوفاً، دراسات في فكره ومنهجه مجموعة من الباحثين: 61، تعريب عباس صافي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2012م
2- الشمس الساطعة، محمد حسين الطهراني: 56 تعريب عباس نور الدين وعبد الرحيم مبارك، دار الأولياء، الطبعة الثانية 2008م.
3- أصول الفلسفة 1: 45

ولهذا المقصد قام بانتقاء ثلة من تلامذته لتشكيل حلقته الفلسفية، والتأمت منذ سنة (1951م) بعقد ندوة علميّة فلسفية في ليالي تعطيل الدراسة من كلّ أسبوع (ليالي الخميس والجمعة واستمرت حتى سنة (1957م). وضمّت يوم تأسيسها كلاً من: مرتضى المطهري، محمد حسين بهشتي (1981-1928م)، إبراهيم الأميني (1925) معاصر)، عبد الحميد الشربياني (1889-2015م)، موسى الصدر (1928 -1978م)، حسين علي المنتظري (2009-1922م)، محمد مفتح(1928 -1979م)، علي قدوسي (1927- 1981م)، جعفر السبحاني (1929 معاصر ) (1)، وانضم لها آخرون فيما بعد.

كانت طريقة الندوة تتمثل في أن يقوم الطباطبائي بإعداد بحوث تلقى في الجلسة، وبعد ذلك يبدأ الحاضرون بمناقشة ما طرحه الأستاذ فكان حصيلة هذه الدروس والحوارات، أن ولدت النواة الأولى لكتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي (اصول فلسفه وروش رئاليسم)، الذي يعد من أبرز مؤلفات الفيلسوف العلامة إلى جانب موسوعته التفسيرية القيّمة (الميزان).

جرى العلامة في هذه الأبحاث، على عرض المطالب بنحو موجز مكتف، يبتعد ما أمكن عن الإبهام والتعقيد وعدم الوضوح، وذلك كي تكون في متناول أكبر عدد ممكن من القراء من ذوي الذوق الفلسفي مع التوفّر على الحد الأدنى من المعلومات الفلسفية. وكذلك اقتصر على بيان أمهات المسائل الفلسفية، وأعرض عن بيان الأدلة والبراهين العديدة لكلّ مسألة ، واكتفى بما هو أسهل البراهين وأوضحها لإثبات المدعى.

وبعد تحرير المباحث التي كانت تلقى في تلك الجلسات الفلسفية على شكل مقالات، أخذ عشاق الفلسفة وطلاب المعرفة والشرائح المثقفة داخل مدينة قم وخارجها باستنساخها، فكانت تنتقل من يد إلى أخرى، إلى أن زاد الإلحاح على طبعها على شكل كتاب حتى يستفيد منها عموم القرّاء.

كانت تعتري فكرة طباعتها على شكل كتاب بعض الصعوبات والمعوقات، إذ

ص: 53


1- محمد حسين الطباطبائي مفسراً وفيلسوفاً: 61

برغم أن العلامة الطباطبائي قد تحرّى التبسيط فيها وتجنّب التعقيد والانغلاق الذي هو السمة الغالبة لكتب الفلسفة، إلا أنها مع ذلك كانت عسيرة على الفهم العام، وبسبب انشغالات الطباطبائي المتعددة العلمية والدراسية طلب من تلميذه العلامة مطهري، والذي كان وقتها انتقل للاستقرار في طهران بسبب ظروف معينة، أن يقوم

بمهمة إيضاح وبسط مطالبها أكثر حتى تكون في متناول جميع القراء(1).

كان اختيار الطباطبائي للمطهري في غاية التوفيق، فقد اضطلع الأخير بالمهمة على أحسن ما يكون، إذ بذل المطهري الوسع والجهد في كتابة تعليقاته لتكون لائقة بما طرحه أستاذه ، حتى أن العلامة الطباطبائي يحدثنا بما ينبئ عن جهود المطهري قائلاً: «لكي يصل المرحوم مطهري إلى عمق مسألة (القوة والفعل) التي طرحت للبحث في أصول الفلسفة، أخذني معه إلى طهران وأبقاني في بيته أسبوعاً كاملاً، حيث تباحث معي في المسألة لكي يستوعبها بعمق ويستطيع أن يكتب حواشيه عليها، ولم يقنع إلا بعد أسبوع كامل من البحث»(2) .

وبعد أن التأم شتات المتن ،والشرح صدر الكتاب في خمسة أجزاء بالفارسية تباعاً ضم الجزء الأول الصادر سنة (1953م) أربعة مقالات ما الفلسفة، الفلسفة والسفسطة والواقعية والمثالية العلم والإدراك قيمة المعرفة. فيما ضم الجزء الثاني الصادر سنة (1954م) مقالتين: نمو المعرفة وحصول الكثرة في الإدراكات والإدراكات الاعتبارية.

تأخر صدور الجزء الثالث سنتين عن صدور الثاني (1956م)، وضم المقالات: الوجود وواقع الأشياء الضرورة ،والإمكان العلة والعلول. أما رابع الأجزاء الذي لم

يتم المطهري تعليقاته عليه وصدر بعد استشهاده(3)، فقد ضمّ المقالات : القوة والفعل الإمكان ،والفعلية القدم والحدوث الوحدة والكثرة الماهية الجوهر والعرض.

ص: 54


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1: 46، مقدمة الشارح.
2- ذكرياتي مع الشهيد مطهري، الشيخ علي الدوّاني ،22 ترجمة خالد توفيق مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر-قم، الطبعة الأولى 1417ه- ش .
3- اصول فلسفه و روش رئالیسم :4 ،5 بنیاد علمی و فرهنگي أستاذ شهيد مرتضى مطهري.

وجاء خامس الأجزاء الصادر سنة (1971م) في مقالة واحدة هي الرابعة عشر تحت عنوان : إله العالم والعالم، وقد تأخر صدوره عن بقية الأجزاء أكثر من عشرة سنوات.

شكّل صدور الجزء الأوّل من الكتاب أعمق تحد فلسفي واجهته الاتجاهات المادية الديالكتيكية الناطقة بالفارسية، ولذلك عكف المعنيون بالشأن الفلسفي الماركسي على مراجعته، فأدهشتهم البراهين التي ساقها الطباطبائي في نقض الأسس الفلسفية للمادية الديالكتيكية، وبهرتهم الأمانة والدقة العلمية التي تحلى بها.

لقد مثل جهد الطباطبائي وجدته في مقالات الكتاب، خطوة أساسية أدخلت الفلسفة في إيران مرحلةً جديدةً غير منظورة، إذ لم تتجاوز معلومات دارسي الفلسفة قبل ذلك معطيات الكتب المدرسية المقررة، أما بعد مدة وجيزة من خطوة الطباطبائي وكتابه فقد توفّر كثير من طلاب العلوم الدينية في حوزة قم على معلومات فلسفية شاملة نسبياً، خصوصاً فيما يرتبط منها بنظريات الفلسفة المادية، واكتشاف مواطن المغالطة في أساليب استدلالها(1).

مصادر الكتاب

فيما يخص المصادر التي اعتمد عليها كتاب أصول الفلسفة لتقرير وعرض الفلسفات المختلفة، فقد استند بشكل أساس لاستعراض الفلسفة الغربية على كتاب سيرة الحكمة في أوربا (سير حکمت در أورپا) بالفارسية، تأليف محمد علي فروغي (1942م-1877).

ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، استعرض الجزء الأوّل الفلسفة الأوربية حتّى القرن السابع عشر الميلادي، وألحق به ترجمته لكتاب (مقال عن المنهج) لديكارت بعنوان گفتار در روش راه بردن عقل) ، بينما استعرض الجزء الثاني الفلسفة الأوربية من القرن السابع عشر حتى الثامن عشر، أما ثالث الأجزاء فقد استعرضها من القرن التاسع عشر حتى زمان مؤلّفه( القرن العشرين).

ص: 55


1- أصول الفلسفة 1: 46، مقدمة الشارح.

وكذلك اعتمد في تقرير اتجاهات الماديين ،والماركسيين، على كتابات الدكتور تقي آراني التبريزي (1903-1940م ) الشخصية اليسارية الإيرانية المعروفة، خصوصا

(العرفان والأسس الماديّة)، وعلم النفس الفسلجي)، و(المادية الديالكتيكية)(1) . وبحسب ما ينقله جعفر سبحاني فإن بعض الماركسيين في إيران عقدوا اجتماعاً بعد صدور الجزء الأول من كتاب أصول الفلسفة وأقروا بأن مؤلفه قد راعى الأمانة كاملة

في نقل آرائهم وأفكارهم (2).

ومن ضمن المصادر التي اعتمدها كذلك مجموعة الدكتور شبلي شميل (1860-

1917م) المادي اللبناني المشهور. مضافاً لمؤلّفات فلاسفة الإسلام المشهورين كأبي نصر الفارابي وأبي علي سينا وصدر الدين الشيرازي وغيرهم.

ترجمات الكتاب

حظي كتاب (اصول فلسفه و روش رئالیسم) بثلاث ترجمات، نأتي على ذكرها مع

خصائص كلّ واحدة منها حسب تسلسلها الزمني:

الترجمة الأولى:

قام بها العلامة جعفر السبحاني وجاءت بعنوان (أصول الفلسفة). اضطلع بها بناءً على طلب الطباطبائي نفسه كما ذكر في تقريظه للترجمة(3).

تمّت الترجمة سنة (1959م)، وهي ناقصة لم تستوعب إلا أربع مقالات من أصل أربع عشرة مقالة (ما الفلسفة الفلسفة والسفسطة العلم حقيقته وتجرده، كشف العلم عن معلومه وقيمته، أي أنّها ترجمة لخصوص الجزء الأول الفارسي.

كذلك هي ترجمة ناقصةٌ من حيث تعاليق وشروح العلامة المطهري، إذ اقتصر

ص: 56


1- أصول الفلسفة 1: 59-60
2- سيرة العلامة الطباطبائي، مجموعة من الأعلام ،312 ، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى·2000 م
3- أصول الفلسفة، نقله إلى العربية الشيخ جعفر السبحاني ،3 ، مؤسسة الإمام الصادق - قم، الطبعة الثالثة 1426ه-.

المترجم على خصوص ما كان يرجع إلى مقاصد الكتاب من التوضيحات والتعليقات التي سجلها المطهري، أما غيرها من الشروحات فقد أعرض عنها، معللاً ذلك ب (( لئلا يزيد الفرع على الأصل ))(1) . على أنها لم تحتو على العنوان كاملاً إذ سقطت منه عبارة والمنهج الواقعي (وروش رئاليسم).

طبعت الترجمة في مدينة النجف الأشرف بمطبعة الآداب سنة (1965م)(2)، مصدّرة بتقريظ للشيخ مرتضى آل ياسين(1978-1894م). وأعيد طباعتها ثانيةً سنة(1994م)، وثالثةً سنة (2004م). على ألا تفوتنا الإشارة إلى تضمّن الترجمة بعض الهوامش التوضيحيّة التي كتبها المعرب والإشارة كذلك إلى امتياز هذا الجزء عما سواه من الترجمات وقوع ترجمته تحت أنظار الطباطبائي وتقريظه لها.

الترجمة الثانية:

قام بها الشيخ محمّد عبد المنعم الخاقاني وجاءت بعنوان (أسس الفلسفة والمنهج الواقعي). وهي ترجمة ناقصة لم تستوعب سوى جزئين من الأصل الفارسي، حيث ضمت ست مقالات فقط. لكنّها لم تستثن شيئاً من تعاليق مطهري على الجزئين المترجمين.

تمّت مقدمة الترجمة يوم ارتحال العلامة الطباطبائي إلى الرفيق الأعلى، بعد عمر أنفقه في خدمة العلم والعقيدة، فجاءت الطبعة الأولى سنة (1981م) في بيروت من قبل دار التعارف للمطبوعات، ثم أعيدت طباعتها ثانية عام (1988م) من قبل الدار نفسها.

الترجمة الثالثة:

اضطلع بها الأستاذ العلامة السيد عمار أبو رغيف وجاءت بعنوان (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي). وهي الترجمة الوحيدة الكاملة التي استوعبت الأصل الفارسي بتمامه متناً وحاشية.

ص: 57


1- أصول الفلسفة: 8 ، ترجمة الشيخ جعفر السبحاني.
2- معجم المطبوعات النجفية د. محمد هادي الأميني : 122، مطبعة الآداب - النجف، الطبعة الأولى 1966م.

امتازت الترجمة بالدقة والشمول، فضلاً عن احتوائها على مقدّمة مسهبة اضطلع بها الأستاذ، سلّط فيها الضوء على مجموعة أمور ترتبط بالحكمتين الشرقية والغربية ومواضيع الكتاب والواقع إن الأستاذ قدم بترجمته خدمة جليلة وذلك بنقل الكتاب كاملاً للقرّاء الناطقين بلغة الضاد، مضافاً إلى أنه قد أعطاه مسحة جذابة من خلال أسلوبه العصري السلس.

طبعت الترجمة للمرّة الأولى سنة (2001م) باعتناء مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، وأُعيدت طباعتها مؤخراً من قبل المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع. وهي الترجمة المعتمدة في هذه الدراسة.

موقع وأهمية الكتاب

تكمن أهمية كتاب أصول الفلسفة في كونه يمثل المحاولة الأولى الشاملة التي اتسمت بالعمق والاستيعاب لمدارس الفكر الغربي والتي ولدت في حاضرة علمية محافظة. فلقد كان العلامة الطباطبائي فريداً في السبق إلى تشكيل ظاهرة للتواصل والحوار والنقد مع الحكمة الغربية على قاعدة حكمة الشرق. أي السلسلة التي انتهت بالحكمة المتعالية ومدرسة صدر الدين الشيرازي وهو بهذا فتح نافذةً في جدار العزل السميك بين حكمتي الشرق والغرب، بعد أن اتخذت كلُّ واحدة منهما مسارها الخاص(1).

ويمكن القول بضرس قاطع: إنّ كتاب( أصول الفلسفة) يظلَّ انجازاً متميّزاً لم يرق إليه عمل مما سبقه، وكذلك لم يتوفّر أثر فلسفي مما تلاه على جميع خصائصه ومميزاته التي توافر عليها مجتمعةً، ولكن ليس بسبب أخذه بمحاكمة الفلسفة المادية وتجلّياتها المختلفة، وليس بسبب صيرورته مرجعاً لما جاء بعده من أعمال فلسفية وفكرية، وإنما ظلّ انجازاً متميزاً بسبب كونه مثل المرة الأولى التي صاغ فيها فيلسوف مسلم بعد صدر الدين الشيرازي، نظاماً فلسفياً متيناً محكماً، استوعب

ص: 58


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي ،1 ،8 ،13 ، مقدمة الأستاذ المترجم

أمهات مسائل الفلسفة الإسلامية، من خلال الاتكاء على العناصر الحية الفاعلة التي ابتدعها الفلاسفة المسلمون عبر ألف عام من الزمان، وكذا بكسر جدار الفصل السميك والإفادة من العناصر الصحيحة في الفلسفة الحديثة. وهكذا يرجع الفضل إلى الطباطبائي في طرح مشكلة العلاقة مع الفلسفة الغربية، طرحاً علمياً وفلسفياًبعيداً عن العاطفة والعفوية والانفعال أو التبعية التي هي السمة الغالبة في الشرق المسلم، وبعيداً عن عقدة الهوية والشعور بالانبهار، وإنما نجد العلامة حلّل أفكار الفلاسفة الغربيين تحليلاً نقدياً في الإطار والمضمون.

أضف إلى ذلك فإن جهد الطباطبائي في مقالات أصول الفلسفة مثل دفعة جريئة في مسار الفلسفة الإسلامية، إذ ساهم في تطوير ونقد وإيضاح الكثير من مقولات التراث الفلسفي الإسلامي، وفكّ مغاليق رموزه، فأضفى على الفلسفة الإسلامية النشاط والحيوية.

وفي هذا الإطار سجّل الشارحُ مطهري قائلاً: «والهدف الأساسي لهذا الكتاب هو إيجاد نظام فلسفي رفيع يقوم على أساس الاستفادة من الجهود القيمة للفلاسفة المسلمين التي امتدت ألف عام من الزمن، ومن ثمار التحقيقات الواسعة الرائعة لعلماء الغرب زمن استخدام ملكة الإبداع والابتكار. ولهذا نشاهد في هذه المجموعة من المقالات، تلك المسائل التي كان لها دور أساسي في الفلسفة القديمة، ونلاحظ فيها المسائل التي تهتم بها الفلسفة الحديثة، ونجد أيضاً ضمنها أموراً لم تتناولها الفلسفة الإسلامية ولا الفلسفة الأوربية بالدرس والتحقيق. ولم يختص العلم ولا المعرفة بزمان معين، ولم ينحصر في أمة بعينها، ولا في شعب وحده، ولو كان العلم منحصراً في أشخاص معينين، لما حقق هذا التقدم الباعث على الحيرة الذي نشاهده اليوم في عصرنا الراهن. فالوضع المتميّز للحضارة البشرية المعاصرة، وذوبان المسافات بين الأمم والشعوب والانفتاح الحاضر بين الشرق والغرب فيما يتعلّق بالمعارف والمعلومات - كل -هذه توفّر أفضل الفرص للمحقق لكي يستفيد من نتائج قرون من التحقيق والدراسة والعذاب جاءته من طرق مختلفة، وهو يستطيع أن يستغل طاقات

ص: 59

الإبداع الكامنة في نفسه، ويفتح بها سُبلاً جديدةً ويقتحم آفاقاً رفيعةً، وبفضل هذه

الفرص والجهود المبذولة في هذا السبيل استطاع العلم وتمكنت الفلسفةمن قطع مراحل جديدة وتحقيق تقدّم ملموس»(1)

ولكنَّ الذي يؤسف له حقاً أن هذا الأثر ظلَّ منسياً مدة نصف قرن تقريباً منذ تأليفه إلى اليوم، ولم يسمع به سوى القلة خارج الحوزات العلمية، بينما تكتسب بعض الآثار الثانوية التي ربما لا تنطوي على أي إبداع شهرةً واسعةً، بفعل ما تقوم به أجهزة الدعاية. وهذا هو قدر الأمّة إذا تخلّفت فإنها تصاب بتبلد رؤيتها وانشطار وعيها، فلا تقدر على تشخيص المبدعين من أبنائها، وتدع منجزاتها مهملة على رفوف المكتبات))(2) .

إنَّ المتابع يرى غياباً ملحوظاً لهذا الكتاب عن حلقات تدريس الفلسفة في معاهدنا العلميّة، في الوقت الذي يهتمون فيه بكتابات مؤلّفة بلغة طلاسميّة مرموزة، تكدّ الذهن وتستنفد المجهود، فضلاً عن المجافاة التي يلقاها من الدراسات المهتمة بالأبحاث الفلسفيّة أو فلسفة العلم ونظرية المعرفة على أن نسجل : أنه بغياب هؤلاء الأعلام، انكفأت تجربتهم أو كادت فلم نلتق بأحد من أساتذة الفلسفة في معاهدنا العلمية (الدينية) حاول (أو يحاول أن يواصل تجربتهم، ويتواصل في دراسة ونقد الفلسفة الأوروبية المعاصرة، واتجاهاتها الحاضرة إلا في محاولات محدودة!

ومما يدلّل على أهمية الكتاب أنه كان مصدراً معتمداً في الكتابين القيمين (فلسفتنا) و (الأسس المنطقية للاستقراء) الذين كتبهما الشهيد الصدر ناقداً الفكر الغربي في تجلّياته المختلفة وميادينه المتنوعة.

ص: 60


1- أسس الفلسفة والمنهج الواقعي 2 19-10 تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية 1988م.
2- تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، د. عبد الجبار الرفاعي ،227، المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى 2010م

في المنهج الفلسفي للكتاب

نحاول في هذه الفقرة ومن خلال مجموعة نقاط توضيح معالم المنهج الفلسفي الذي سار عليه الطباطبائي في مقالات كتاب أصول الفلسفة مؤصلاً وناقداً:

1- من المعالم البارزة في مقالات كتاب أصول الفلسفة وضوح المنهج العقلي. فلقد كان تناول الطباطبائي للمواضيع الفلسفية والمقولات التي قاربها ولمختلف المشارب، وفق منهج نقدي واضح ، معتمداً في ذلك كله على ميراث المذهب العقلي في المعرفة الذي يستند للمقولات التصورية والتصديقية الضرورية.

وبرغم إيمان الطباطبائي بتعدد مصادر المعرفة وتوزعها بين العقل والقلب والوحي، ولكنه لم يتبع في مقالات كتابه سوى العقل ومقولاته في التصور والتصديق، ولم يركن لدليل نقلي أو لحجة مستندة لمكاشفة متصوّف وتجربة عارف وإشراق متعبّد، وإنما التزم بالعقل كحجة نهائية عرضاً واستدلالاً لاسيما وأن غالب مدارس الفكر التي تعرّض لها ونقدها في مقالات أصول الفلسفة لا تؤمن بالمصدرين: الكشف والنقل، وبالتالي فإن الضرورة النقدية تلزم أن يكون الأسلوب المتبع هو الأسلوب العقلي، وذلك لسعة دائرة المؤمنين به إجمالاً وإن اختلفوا في التفاصيل.

لقد ارتكز الطباطبائي في مقالات هذا الكتاب على اعتماد المقولات العقلية البديهية واتخاذها منطلقاً في نقده وتقويمه لسائر الاتجاهات والمذاهب الفكرية المختلفة والطباطبائي في مذهبه المعرفي فيلسوف عقلي يؤمن بأنّ كل ألوان النشاط الفكري البشري التصديقي ترجع لمقولات بديهية واضحة في نفسها وغنية عن كل ،برهنة، وإنما النفس تضطر للتصديق والإذعان ،بها وعلاوة على ذلك فإن صدق وصحة كل برهان تتوقف عليها. وعلى رأس تلك الأصول قانون استحالة التناقض. وقد تكفلت مقالات القسم الأول من الكتاب نظرية المعرفة ببيان وايضاح هذا الموقف بشكل كبير .

ومن اللافت في هذا الإطار أن الطباطبائي وخلافاً لأنصار مدرسة الحكمة

ص: 61

المتعالية قد ابتعد ببحثه عن الاعتماد على معطيات ومصطلحات التصوف والإشراق والعرفان، التي توجب فيما لو ولجت البحث الفلسفي الاضطراب والتشويش كما يرى ذلك في كتاب غرر الفرائد المعروف بشرح المنظومة.

وبتعبير آخر: إن الطباطبائي وإن كان مدرسياً ينتمي لسلسلة الحكمة المتعالية التي شيّد أركانها الفيلسوف صدر الدين الشيرازي، إلا أنه في كتاباته الفلسفية لاسيما أصول الفلسفة جرى وفق الأسلوب المشائي، وذلك بالاعتماد على البرهان العقلي دون الاعتناء بالذوق ،والتصوف وإدخال اصطلاحات علم العرفان. ولذا قيل بحق الطباطبائي: صدرائي المبنى سينوي المشرب(1).

2- أما طريقة بحث المسائل، فقد كان يعمد في المرحلة الأولى إلى توضيح المفاهيم الأساسية في كل مسألة يراد بحثها، ثم ينتقل لبيان المدعى، فالاستدلال عليه بأوضح البراهين العقلية وأخصرها بعد ذلك ينتقل لاستعراض ما قد يرد على نتائجه من إشكالات فيعمد إلى إيضاحها، ثم يقارب الأجوبة لها.

لقد سار الطباطبائي في هذه المقالات على منهج تحليلي قائم على أساس الدراسة المستوعبة للموضوع المراد بحثه، فما لم يعط تصوراً صحيحاً للموضوع لا يلج في بحثه مطلقاً، ولا يخوض في مرحلة التدليل عليه والإثبات والنفي بمعنى أن التصور النظري للمسائل الفلسفية في هذه المقالات يسبق مرحلة التصديق النظري، وفق الطريقةالمنطقية.

وفي نقده لمختلف الأفكار والمقولات، فإنا نجد الطباطبائي يساير تلك الاتجاهات بشكل يوضح تهافتها الداخلي وتناقضها، فضلاً عن تسجيله النقد الفلسفي لها وفق القواعد الأساسية العقلية والفلسفية.

المتابع لمقالات الكتاب يجد الطباطبائي متمكناً من ملكة التحليل والتنظير الفلسفي

ص: 62


1- إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة علي الرباني الكلبايكاني :1 ،16 ترجمة الشيخ محمد شقير دار زین العابدين 2011م

بشكل يدهش القاري، فضلاً عن سحر البيان، وتجلى ذلك بوضوح في مقالتي: نمو المعرفة والإدراكات الاعتبارية. وفي خصوص هاتين المقالتين فقد طرح الطباطبائي

أفكاراً لم يسبق لها قديماً وحديثاً، كما سنأتي إلى ذكر ذلك في القادم من أبحاث.

3- تماشى الطباطبائي مع الفلسفة الغربية في إعطاء الأولوية في البحث لمسائل نظرية المعرفة قبل الولوج في بحث نظرية الوجود، وخلافاً للفلسفة الإسلامية الموروثة التي لم تفرد مسائل المعرفة ببحث خاص. ولعلّ من أسباب ذلك أن الحقبة المعاصرة شهدت بروز تيارات وفلسفات تشكك بصحة المنهج العقلي في المعرفة بشكل واسع وكذا التشكيك في قيمة المدركات العقلية وحدودها ومدياتها، ولذا خص الطباطبائي مسائل نظرية المعرفة بمقالات القسم الأول من الكتاب.

كما وأن تحليل المعضلات الفلسفية ومقاربة مشاكلها، يقتضي في المرتبة الأولى دراسة أفكار الإنسان وإدراكاته ونشاطه الذهني، ولذا فإن البحث في نظرية المعرفة (فلسفة الإدراك) يسبق الولوج في المسائل الفلسفية المتعارفة.

إن أهمية البحث في نظرية المعرفة تتأتى من جهة أن تقييم جميع المدارس الفلسفية، والمناهج العلمية، يتوقف على المنحى والاتجاه المتخذ في المعرفة فما لم يتخذ الباحث رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في نظرية المعرفة (مصدر المعرفة قيمة المعرفة، حدود المعرفة، لا يصح منه الإذعان بأي قانون فلسفي أو مسألة علمية، بمعنى أن أبحاث نظرية المعرفة توفر خيارات الباحث المعرفية.

لقد شكل تناول العلامة الطباطبائي لنظرية المعرفة ومسائلها بشكل مفرد ومستقل ظاهرة غير مسبوقة في الفلسفة الإسلامية، ذلك أن الفلاسفة الإسلاميين لم يفردوا مسائل نظرية المعرفة بالبحث المستقل قديماً وحديثاً، وإنما غاية ما تطرقوا إليه بعض مسائل نظرية المعرفة والتي بحثوها بشكل مشتت في مختلف فصول علمي المنطق والفلسفة،كما يلاحظ ذلك في بحث الوجود الذهني وبحث العلم والعالم والمعلوم. أما الطباطبائي فقد كان فريداً وسابقاً في بحث مسائل نظرية المعرفة بشكل

ص: 63

مستقل في المقالات الأولى من الكتاب.

4- انتظمت المسائل الفلسفية في الكتاب وفق طريقة شبيهة بتنظيم أبحاث الرياضيات، وذلك بأن تأخذ كل مسألة موقعها المناسب لها، فتكون مكملة للمسائل المتقدمة عليها، وفي الوقت ذاته توفّر الأرضية للمسائل الآتية. وعلى هذا الأساس وبمتابعة استدلالات الطباطبائي، نجده حريصاً على أن تكون براهين مسألة متقدمة مُعينَةً في البرهنة على المسائل اللاحقة، كما يتجلى ذلك في استدلاله على مسألة وحدة الخالق والتي استند فيها لبرهان تقدم في مسألة إثبات وجود الخالق.

5- لقد أفضت تطورات العلم الحديث - وما صاحب ذلك من تغيرات في الرؤى والأفكار المتعلقة بالوجود والمعرفة - بالمذهب التجريبي وأئمته إلى تقديس العلم التجريبي وجعله المرجعية الوحيدة في تفسير كل قضايا الوجود والمعرفة والحياة. فقد قررت تيارات هذا المذهب على تنوعها جعل التجربة المحك الأخير في قبول ورفض مختلف الأفكار والمقولات أيا كانت دائرتها وموضوعها. فخرجت من رحم هذه الفكرة الفلسفة العلمية التي رفعت رايتها الماركسية والمدرسة الوضعية المنطقية.

اتفقت تيارات هذا المذهب المختلفة في مسائل كثيرة على مجافاة فلسفة الوجود (الفلسفة الأولى)، والهجوم على الميتافيزيقيا والإلهيات واعتبارها أوهاماً ولغواً وتخلّفاً معرفياً، وكانت حجتهم في ذلك القاعدة الأساسية في المذهب التجريبي التي ترى أن قضايا الميتافيزيقيا والإلهيات تتحدث عن أمور لا يمكن التحقق من صدقها، ومن ثم فهي خارجة عن دائرة العلم والمعرفة والحكمة.

في مقابل ذلك قدم الطباطبائي في مقالات أصول الفلسفة لاسيما في مقالات القسم الأول منه، معالجات لهذا التصور وللمذهب التجريبي في قواعده الأساسية. ولأن تطبيقات قاعدة المذهب التجريبي متعدّدة، ويحتج بها أنصار المذهب المادي في كل مسألة، فقد عكف الطباطبائي على تقديم مقاربات ومعالجات لزوايا متعددة ترتبط بمنهج العلم التجريبي، في أكثر من مقالة في أصول الفلسفة. نجد ذلك في

ص: 64

المقالة الأولى والخامسة والسادسة ومواضع متفرقة من المقالات الأخرى.

6 -وحتى يستكمل الطباطبائي إيضاح معالم المنهج الفلسفي، ويستكمل من جانب آخر نقده للفكر المادي ولما يعرف بالفلسفة العلمية، فقد أكدت مقالات أصول الفلسفة على ضرورة الفصل والتمييز بين الفلسفة وباقي العلوم، ذلك أن الفلسفة تختلف عن العلوم منهجاً وموضوعاً وغاية، فهي تتخذ من الوجود بما هو موجود موضوعاً لها، أي الوجود بما له من صفة الإطلاق دون لحاظ خصوصية يتصف بها، بينما تتخذ العلوم دائرة أضيق في بحث الوجود وتتمحور مسائلها حول مواضيع محددة، متحيّثة بحيثيات خاصة.

ومن ناحية المنهج فإن الفلسفة العقلية الميتافيزيقية تتخذ من البرهان العقلي بمعناه المنطقي الأرسطي وسيلة وأداة في المعرفة، بينما تتخذ العلوم من التجربة والملاحظة الحسية وسيلة لإثبات مسائلها وحلّ مشكلاتها. ويفرّع الطباطبائي على ذلك عدم إمكان استنتاج قضية فلسفية من مقدمات علمية ولا العكس، لأسباب تتعلق بطبيعة الحكم الفلسفي المرتبط بشروط البرهان.

نعم، قرر الطباطبائي إمكان الاستفادة من نتائج العلوم في انتزاع قضية فلسفية، ولكن هذا شيء والاستنتاج شيء آخر، إذ الاستنتاج يعني استخراج نتيجة فلسفية من مُقَدمَتَي قياس (صغرى وكبرى )علميتين، وهو أمر غير ممكن وفق شروط البرهان المنطقي، أما الانتزاع بواسطة مقدمة علمية تمثل صغرى القياس إلى جانب الكبرى الفلسفية، لتعطينا نتيجة ،فلسفية، فأمر ممكن.

وعلى وفق هذا، يرى الطباطبائي في مقام تأصيله للمنهج النقدي الفلسفي عدم وجود قطيعة تامة بين الفلسفة والعلوم، كما لا توجد موافقة تامة، إذ لكل منهما أدواته وميدانه وفضاؤه النموذجي ناعياً على الاتجاهات المادية الغربية عدم حفظها حريم هذه العلاقة، عندما تجاوزت حدود العلم فوقعت في خلط واشتباه(1).

ص: 65


1- انظر المقالة الأولى من أصول الفلسفة.

رتب الطباطبائي على ذلك أن ما نشاهده في الفلسفة الغربية في اتجاهاتها المادية من نتائج خطيرة، كإنكار عالم ما وراء المادة ،والميتافيزيقيا، وتفسير ظاهرة الإدراك البشري تفسيراً فسلجياً مادياً، ناشئ من الخلط والاشتباه وعدم وضع الشيء في موضعه المناسب، وتجاوز التجربة لجلدها لتمسك بالمسائل الخارجة عن حريم اختصاصها، متصورين أن المسائل الفلسفية يمكن استنتاجها من مقدمات علمية تثبت بالتجربة.

ولا بد من الإشارة في هذه النقطة إلى أن الطباطبائي لم يبتعد عن الأخذ بمُسَلّمات العلم الحديث، واتخاذها أصولاً موضوعة في كثير من المسائل التي قاربها. وكذا تعاطى مع الكثير من نتائج العلوم المختلفة المعاصرة في مقاربة كثير من المسائل سواء كانت علوماً إنسانية أم غيرها.

ومن معالم المنهج الفلسفي في كتاب أصول الفلسفة فصل الطباطبائي وتمييزه بين المدركات الحقيقية والاعتبارية، ذلك أن حصول الخلط في البحث الفلسفي بين المدركات الحقيقية والاعتبارية يوجب الاضطراب في تصور المسائل الفلسفية فضلاً عن التصديق بها، وقد أدى هذا الخلط في علوم مختلفة إلى التباس وتشويش كما يلاحظ في بعض مسائل علم أصول الفقه. ولذا اضطلع الطباطبائي بمهمة كشف النقاب عن هذه المسألة وتوصل إلى تفسير محدّد للفرق بين هذين النوعين من الادراكات، وأكد على أن البرهان لا يجري في الإدراكات الاعتبارية، وعلى هذا فهي خارجة عن البحث الفلسفي، كما سنأتي على إيضاح ذلك عند الحديث عن المقالة السادسة من الكتاب.

عرض موجز لمقالات الكتاب

تنقسم أبحاث الكتاب بصورة أساسيّة إلى قسمين؛ مثل القسم الأوّل ما خلا المقالتين الأولى والثانية أبحاث نظرية المعرفة، وقد استوعبت أربع مقالات من مجموع أربع عشرة مقالة . أما القسم الآخر فقد مثل أبحاث نظرية الوجود وقد جاءت في ثماني مقالات.

ص: 66

تمثلت مقالات القسم الأوّل البحث في: ما الفلسفة الواقعية والمثالية، العلم ،والإدراك قيمة المعرفة نمو المعرفة الادراكات الاعتبارية. وقد انطوت هذه المقالات في الجزء الأول من الترجمة العربية المعتمدة في هذه الدراسة.

أما مقالات القسم الثاني فقد مثلت مباحث نظرية الوجود:مباحث الوجود، الإمكان والوجوب الجبر والاختيار العلة والمعلول الإمكان والفعلية/ الحركة/ الزمان الحدوث والقدم/ التقدّم/ التأخر/ المعيّة الوحدة والكثرة، الماهية/ الجوهر والعرض، العالم وإله العالم .

السمة العامة لمقالات الكتاب التعرض بالتحليل والنقد لكثير من آراء الحكماء والمفكرين القدامى والمحدثين سواء أكانوا إلهيين أم ماديين. كما بذلت اهتماماً أكبر في إيضاح مواطن ضعف المذهب الديالكتيكي، وإماطة اللثام عن مجموع هنات المادية الديالكتيكية.

سنستعرض في الحديث القادم أبحاث مقالات كلا القسمين، محاولين التعريف بكل مقالة وأبحاثها والمقولات التي تناولتها عرضاً ونقداً.

القسم الأول (نظرية المعرفة)

المقالة الأولى (ما الفلسفة ):

انصبّت المقالة الأولى لتعريف الفلسفة وتحديد هويتها والفلسفة ظاهرة طبيعية في الإنسان وملازمة للطينة البشرية، أي أنها قديمة قدم الإنسان ذاته. والفلسفة کممارسة عقلية من الطبيعي أن تختلف الأنظار في شأنها وتحديد ماهيتها، لأن جوهر الفلسفة يقوم على حرية التفكير وإطلالة سريعة على ما قيل في تعريف الفلسفة یكشف عما قلنا(1) .

ص: 67


1- انظر: مدخل جديد إلى الفلسفة، دراسة لآخر الآراء حول حدود الفلسفة وغايتها ومنهجها وعرض لأهم مشاكلها، الوجود، المعرفة، الإلهيات د. عبد الرحمن بدوي: 357 وانظر الاتجاه المعاصر في تعريف الفلسفة والتعاطي معها برؤية جديدة ما هي الفلسفة جيل دولوز وفليكس غتاري ترجمة وتقديم : مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي اليونسكو، الطبعة الأولى العربية، بيروت 1997م.

أيّاً ما كان الأمر ، فقد عنى الماتن وشارحه من الفلسفة هي الفلسفة الموروثة عن مدرسة أرسطو (الفلسفة بالمعنى الأخص) ، التي ذكر بشأنها أنها البحث عن الوجود بما هو موجود، أو مطلق الوجود.

ميزت المقالة الفلسفة بین والعلم، ورأت أن الفلسفة تبحث عن الموجودات بما هي موجودة ، بمعنى أن البحث الفلسفي يتناول الموجودات من حيثية موجوديتها فقط أي الحيثية المشتركة أما العلم فإنه يبحث عن الجهات المختصة المختلفة المتكثرة (الماهيات)، بمعنى أن العلم لا يتناول الماء والتراب والإنسان بما هي موجودات، وإنما العلم يتناول مائيّة الماء وترابيّة التراب وإنسانية الإنسان. ولذا انشعبت العلوم فكانت متعدّدة بحسب تعدّد وتكثر الماهيات والجهات المختصة.

ولكن على الرغم من اختلاف حيثيتي البحث في الفلسفة والعلوم، إلا أن هناك صلات كثيرة بينهما. إذ أن الفلسفة تتكفل إثبات موضوعات العلوم، فإنه في كلّ علم لا يبحث عن إثبات موضوع نفسه وإنما يؤخذ موضوع العلم مفروغ الوجود،أما الذي يتكفل إثباته فهو الفلسفة.

وكذلك تتكفّل الفلسفة إثبات المبادئ التصديقية العامة للعلوم كأصل العليّة. أمّا العلم فإنه يساهم في تقديم إثاراته وأبحاثه للفلسفة كي تنتزع منه أحكاماً عامة. وقد حدّدت هذه المقالة سمات الفلسفة، مبينة أنها تقف في النقطة المقابلة للسفسطة، كما أنها تتكفّل التمييز بين أشكال مدركات الإنسان من اعتبارية ووهمية وحقيقية.

المقالة الثانية (الواقعية والمثالية):

جاءت المقالة الثانية لمناقشة الاتجاهات المثالية وقد انطلقت هذه المقالة في اختيار الاتجاه الواقعي من الفطرة والمذهب المثالي عميق الجذور في تاريخ الفكر الإنساني ومتعدد الأساليب، ولفظ المثالية هو أيضاً من الألفاظ التي لعبت أدواراً مهمة عبر التاريخ الفلسفي، وتبلور في عدة مفاهيم فلسفية تبادلت عليه، وأكسبته بسبب ذلك لونا من الغموض والالتباس.

ص: 68

أما تعريف المثالية في هذه المقالة، فهو : من ينكر مطلق الواقع، أي ينكر الواقع إنكاراً مطلقاً. وقد أعطت المقالة صفة التعميم للسفسطة بما يشمل المثالية، واستعرضت أفكار كلٌّ من باركلي وشوبنهاور (1788-1860م) عادة إياهم من المثاليين.

وقفت المقالة بعد ذلك عند مجموعة من شبهات المثالية ككاشفية العلم وخطأ الحواس فاستعرضتها وأجابت عنها. ثم انتقل الحديث لملاحظات توقف فيها عند بعض مقولات الديالكتيكيين.

المقالة الثالثة (العلم والإدراك):

تناولت المقالة الثالثة موضوعاً يعتبر من أهم موضوعات نظرية المعرفة، وهو تحديد هوية الإدراك البشري وطبيعته. فهل أن الفكر البشري موجود مادي وظاهرة مادية يقوم به الجهاز الفسلجي والعصبي عند الإنسان؟ أم أنّه ظاهرة غير مادية ويقوم به محور غير المادة؟

و(( البحث في الإدراك البشري وتحديد هويته وآليته ترفده اليوم مجموعة من العلوم. ففسلجة الجهاز العصبي وعلوم النفس والتربية والدراسات الاجتماعية تهتم بشكل أساس بهذا الموضوع، وتتناوله كلّ من زاويتها والدرس العقلي الجاد يتطلب متابعة هذه الأبحاث والاستضاءة بمعطياتها، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من هذه الأبحاث تتعدّر متابعتها بحكم الفواصل اللغوية))(1) .

انطلقت هذه المقالة من دراسة صفات الظواهر المادية، وعدم انطباقها على الفكر والصور العلمية، إلى القول بوجود (الروح) المجرد ، المحور لهذا الفكر والذي لا يتصف بصفات المادة. فهو لا يقبل التجزئة والانقسام، ولا يخضع للتغيير والتحوير، خلافاً للظواهر المادية.

ساق الطباطبائي براهين إثبات النفس وأنها مركز الإدراك، ثم تعرّض لمجموعة من إشكاليات يطرحها أنصار مادية الفكر ، وقاربها مقاربات عقلية وفلسفية.

ص: 69


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 :21، مقدمة الأستاذ المترجم.

المقالة الرابعة (قيمة المعرفة):

أما المقالة الرابعة في هذا الجزء من الكتاب فقد تناولت بالبحث والدرس موضوع قيمة المعرفة. والقارئ المحترم يعرف أن هذا البحث من أهم مسائل نظرية المعرفة ، بل هو الواجهة الرئيسة للبحث في نظرية المعرفة.

ينصب البحث في قيمة المعرفة على حقانية الإدراك البشري، فهل يكشف الإدراك البشري عن واقع موضوعي ؟ وهل تتطابق مدركات الإنسان مع موضوعها؟ أصلاً هل بإمكان الإنسان إدراك الواقع فيما لو كانت هناك واقعية خلف الذهن الإنساني؟

تابعت المقالة المذهب العقلي الأرسطي التي تبنّاه حكماء الإسلام، وقد رأى هذا المذهب أن المعقولات المكتسبة على أسس منطقية عين الحقيقة، والحواس أداة للارتباط بالخارج عملياً وليست وسيلة لكشف الحقيقة. وإجمال ذلك:

1 )إنّ الإدراك البشري على نحوين تصوّر وتصديق والتصوّر هو حضور صورة الشيء في الذهن، وليس له قيمة موضوعية، لأن هذا الحضور إذا جرّد عن كل إضافة، فإنّه لا يبرهن أو يدل على وجود موضوعي للشيء خارج نطاق الإدراك. بخلاف التصديق فإنه يتمتع بخاصية الكشف الذاتي عن الواقع الخارجي.

2) ثمَّ إِن جميع المعارف التصديقية التي يتمتّع بها الإنسان، ترجع إلى معارف ضرورية أساسية، تدركها النفس الإنسانية من دون مطالبة بدليل أو برهان، بل لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل وإنما تشعر النفس بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحتها كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية. وقيمة المعرفة إنما تنبع من ارتكازها على هذه المبادئ والدقة في تطبيقها .

3 )أما التطابق بين الصورة الذهنية، والواقع الموضوعي الخارج عن إطار الذهن فيرجع إلى التحليل الآتي: إن أي صورة نكوّنها عن شيء معين لها جانبان أو حيثيتان: فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا، ولأجل ذلك لا بد أن يكون الشيء متمثلاً فيها، وإلا لم تصح إضافتها إليه ولم تكن صورة له.

ص: 70

ومن ناحية أخرى فإن الصورة الذهنية تختلف اختلافاً أساسياً عن الواقع الموضوعي، وذلك أنها لا تتمتع بالخصائص التي يتمتع بها الواقع الخارجي من ألوان النشاط والفعالية.فالصورة الذهنية عن (الشمس) مهما كانت مفصلة ودقيقة لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعّالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي (للشمس). ولكن هذا لا يعني أن الموجود في الخارج غير الموجود في الذهن عن هذا الخارج، بل هما واحد من حيث الماهية وإن اختلفا بالآثار والفعالية والنشاط.

4) إنّنا لما نصف قضية بأنها حقيقة أو صادقة، فمعنى ذلك أنها متطابقة مع الخارج، فالحقيقة صفة للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع ونفس الأمر. وهذا المعنى للحقيقة هو الذي يحتفظ للمعارف البشرية بقيمتها. وبالتالي فقد أكدت هذه المقالة على أن موضوعية الإدراك بعامة ومطابقته للعالم الخارجي، أمر بديهي لا يتطلب برهاناً ودليلاً، بل لا يمكن الاستدلال عليه.

المقالة الخامسة (نمو المعرفة):

خصصت المقالة الخامسة للبحث في نمو المعرفة، وحصول الكثرة في الإدراكات فماذا يعني البحث في نمو المعرفة؟

إنّ البحث في نمو المعرفة يعني : أن المعارف القبلية الأولية التي يمتلكها الإنسان كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكن استنتاج قضايا جديدة من القضايا التي تشكل البنية التحتية للمعرفة الإنسانية وهكذا حتى يتكامل البناء المعرفي عند الإنسان؟

ولا يخفى فإن هذا البحث يرتبط بالعلم والإدراك البشري، وإن كان البحث فيه هنا متحيّث بحيثية خاصة هي كيفية حصول الكثرة في الإدراكات. وقد توفرت هذا المقالة على عرض وجهات نظر الحكماء الإسلاميين في نمو المعرفة وحدودها. وكذا توفّرت المقالة على عرض مواضيع لم يهتم بها القدماء اهتماماً كاملاً، ولم تشق فيها الفلسفة ولا المنطق ولا علم النفس الحديث طريقاً، أي أن التحقيقات الواردة

ص: 71

في هذه المقالة تعتبر خطوة جديدة في عالم الفلسفة (1).

قرّرت المقالة أن المعرفة التصورية تأتي من الحس وهو مبدأ المعرفة، أما التصديق فيقوم على أساس البديهيات الأولية التي تضطر النفس للإذعان بها من دون دليل، وعلى أساس من هذه البديهيات ينهض البناء المعرفي للإنسان من خلال منطق البرهان أو الارتباط الموضوعي بين موضوع الفكرة الأم وموضوع الفكرة ،البنت، وهو ما عبر عنه الشهيد الصدر بطريقة التوالد الموضوعي في قبال ما أسماه ب-(التوالد الذاتي)(2).

و«لقد جاءت إشارات المتن لبعض الأفكار المخالفة فرصة سانحة أمام الأستاذ مطهري، اغتنمها في استعراض أهم نظريات المعرفة الإنسانية. والملاحظ أن العنصر النقدي في ملاحظات الأستاذ ساهمت مساهمة أكثر جدية في الدفاع عن النظرية العقلية التي تبناها أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، أكثر جدية من العناصر التأسيسية التي أقام عليها الماتن والشارح صرح نظريتهما » (3).

المقالة السادسة( الإدراكات الاعتبارية):

انصبّت المقالة السادسة لبحث موضوع مهم وحيوي، وله آثار ومدخلية في أبحاث متعدّدة، ألا وهو بحث الاعتبار والإدراكات الاعتبارية. وقد طرح العلامة الطباطبائي في هذا البحث رؤية تأسيسية جديدة في المعرفة من خلال إبداعه لنظرية الاعتبار. وهو أوّل من بحث الإدراكات الاعتبارية تحت عنوان مستقل وبشكل مفصل كما أشار لذلك المحققون.

كتب الشارح المطهري قائلاً:

«أمّا المقالة السادسة فهي تتناول موضوعاً فلسفياً جديداً لم يسبق إليه وحسب ما وصل إليه علمنا، فإنَّ هذا الموضوع يطرح للدراسة لأول مرة في هذه السلسلة

ص: 72


1- أسس الفلسفة والمنهج الواقعي ،2 : 6 تعريب الشيخ محمد عبد المنعم الخاقاني
2- الأسس المنطقية للاستقراء، السيّد محمّد باقر الصدر: 160 فما بعدها، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قم الطبعة الثانية 1426ه- .
3- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 ،25، مقدّمة الأستاذ المترجم.

من المقالات، وهو الموضوع المتعلّق بالتمييز والتفكيك بين الإدراكات الحقيقيةوالإدراكات الاعتبارية، وسيتضح هذا الأمر من مراجعة المقالة ذاتها»(1) .

وأضاف: «لقد عكف في المقالة السادسة بشكل لم يسبق له نظير على نقد جهاز الإدراك، وتمييز وفرز الإدراكات الحقيقية عن الإدراكات الاعتبارية، وبهذا تتجنّب الفلسفة خطر الاختلاط بهذه الإدراكات، هذا الاختلاط المربك الذي زلزل كثيراً من الحكماء»(2). وكتب العلامة مصباح اليزدي: «تعدُّ المقالة السادسة (الاعتبارات) في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، بحثاً جديداً مبتكراً في الفلسفة الإسلامية»(3).

هذا، فضلا عن أن العلامة قد أشار إلى ذلك في رسالته الخاصة الموسومة بالاعتبارات، فقال: «وإنا لن ننسى مساعي السلف من عظماء معلمينا وقدمائنا الأقدمين وجهدهم في جنب الحقائق، فقد بلغوا ما بلغوا واهتدوا وهدوا السبيل شكر الله مساعيهم الجميلة، ولكننا لم نرث منهم كلاماً خاصاً بهذا الباب، فرأينا وضع ما يهم وضعه من الكلام الخاص ...» (4)

وغير خفيّ فإنّ البحث في الاعتبار والإدراكات الاعتبارية، مرتبط بعالم الذهن. والمراد من الإدراكات الاعتبارية هي تلك الأمور التي لو أغمض الإنسان النظر عنها لم يكن لها حقيقة في الخارج، وذلك نحو الملك والرئاسة وغيرها. وهذه المعاني تختلف وتتبدّل وتتغير بحسب اختلاف الأنظار.

الإدراكات الاعتبارية موجودات ذهنيّة، ولكن ليس بمعنى اختراع الذهن لها من دون استعانة بالخارج، وإلا لكانت غير صادقة على الخارج أو أن تقع على جميع ما في الخارج لاستواء نسبة الجميع إليها وإنما الذهن يوقعها على الخارج بتوهم

ص: 73


1- أسس الفلسفة والمنهج الواقعي ،2 6 تعريب الشيخ محمد عبد المنعم الخاقاني.
2- أصول الفلسفة :1 44، مقدّمة الشهيد المطهري.
3- رسالة التشيع في العالم المعاصر ، العلامة محمد حسين الطباطبائي : 400 ، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر - قم 1418ه- .
4- مجموعة رسائل العلامة الطباطبائي (رسالة الاعتبارات ): 340 ، تحقيق الشيخ صباح الربيعي، مكتبة فدك لإحياء التراث قم، الطبعة الأولى 1428ه-.

أنها في الخارج لوجود المنشأ لها هناك. فبما أن الذهن ينتزعها من خلال الاستعانة بالخارج، وحيث أن هذا الارتباط ليس بحقيقي لعدم تحققها في الخارج، فهو وهمي بتوهم الذهن أنها من المعاني الحقيقية.

وتأسيساً على ذلك، يعرّف العلامة الطباطبائي الاعتبار بأنه: ((عبارة عن إعطاء حد شيء إلى شيء آخر بحكم عوامل انفعالية، لأجل ترتیب آثار ذات ارتباط بعوامله الانفعالية))(1). وسار من جاء من بعد العلامة على منواله وأخذ بأقواله (2) .

ثم ذكر العلامة أن هذه الإدراكات لا يمكن التماسها بالبرهان، ذلك لأنه يجري في الحقائق فقط، وبالتالي فلا تحكم الاعتباريات علاقة استنتاجية، لأنَّ من شروط العلاقة الاستنتاجية أن يكون الربط بين المحمول والموضوع ربطاً حقيقياً، لكي يمكن إثبات الحد الأكبر للأصغر بواسطة الأوسط، أما في الاعتباريات فلا يوجد ربط حقيقي بين محمولها ،وموضوعها، ومن هنا تكون القضايا الاعتبارية ليست برهانية، بمعنى أنه لا يمكن إثبات صحة وسقم نتائجها منطقياً.

نعم، في إطار الاعتبار والمقاييس والقواعد السارية في الاعتباريات، يمكن استنتاج قضايا أخرى منها ، ولكنّها ليست برهانية ولا تتوفّر على شروط القضية البرهانية، ولذا يقول صدر الدين الشيرازي وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه، فكما لا يمكن قياس الزمان بالأمتار، كذلك لا يمكن قياس الاعتبار بالبرهان(3).

أن الإدراكات الاعتبارية قسّمت في هذه المقالة إلى قسمين اعتبارات قبل الاجتماع واعتبارات بعد الاجتماع. والأولى هي التي لا تفتقر في تحققها إلى الاجتماع وإنما تقوم في كل فرد على حدة. أما الثانية فهي التي لا تتحقق من دون افتراض

ص: 74


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 :524
2- انظر: الرافد في علم الأصول، محاضرات السيد السيستاني بقلم: السيد منير القطيفي: 47، دار المؤرخ العربي بيروت، الطبعة الأولى 1994م ؛ المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي 1: 203 مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة السادسة 1425ه- ؛ الفلسفة العليا، السيد رضا الصدر 101-97، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الثانية 1420ه-، ومعظم روّاد مدرسة العلامة.
3- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين الشيرازي 9: 262 ،دار إحياء التراث العربي، بيروت، - الطبعة الأولى

الاجتماع كالأفكار المرتبطة بالحياة الزوجية وتربية الأطفال. ومن مصاديق القسم الأوّل: الوجوب، والحسن والقبح، وانتخاب الأخف والأسهل، واصل الاستخدام والاجتماع، وأصل متابعة العلم.

أمّا مصاديق القسم الثاني فمنها : أصل الملك واللغة، والرئاسة والمرؤسية ولوازمهما، والاعتبارات التي ليس فيها رئاسة ومرؤسية بل متساوية الأطراف-كالتبادل والارتباط والحقوق الاجتماعية المتساوية والأمر والنهي والثواب والعقاب.

ويلزم التنبيه إلى أنه توجد تطبيقات متعددة لنظرية الاعتبار، منها الحسن والقبح، وأصل متابعة العلم أو حجية القطع، وأفعال الإنسان الاختيارية. كما يلزم التنبيه إلى أن العلامة قد ألف رسالة مستقلة في الاعتبار سنة(1930م)وقد طبعت ضمن مجموعة رسائله(1).

ومن المهم الإشارة ونحن بصدد الحديث عن هذه المقالة إلى أن الطباطبائي في تحليله للمدركات الاعتبارية، قد التقى في مواطن كثيرة مع تحليل الفيلسوف الأسترالي جون ماكي (1917-1981م) في تفسير الأحكام العملية الأخلاقية، وإن اختلفت منطلقاتهما وموقفهما المنتمي للأبستمولوجيا (2) .

القسم الثاني (نظرية الوجود )

تمحورت مقالات القسم الثاني والتي ضمها ثاني جزئي الطبعة العربية حول نظرية الوجود كما أشرنا من قبل، وقد خص الطباطبائي نظرية الوجود بثماني مقالات: السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة وفيما يأتي من حديث نعرّف بكل مقالة والمواضيع والأفكار التي تناولتها.

ص: 75


1- مجموعة رسائل العلامة الطباطبائي، رسالة الاعتبارات: 339
2- انظر: الحكمة العملية، دراسات في النظرية وآثارها التطبيقية السيد عمار أبو رغيف 161 فما بعدها، دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1426ه-.

المقالة السابعة (الوجود وواقع الأشياء):

انصبت المقالة السابعة لدرس مسألة الوجود، وقد افتتحها الطباطبائي بالإشارة إلى السفسطة متخذاً من رفضها نقطة انطلاق في درس الفلسفة والواقع والطباطبائي في موقفه من السفسطة لم يتجاوز ما كان قد سجله في المقالة الثانية من القسم الأول من اتخاذ الإيمان بالواقعية أمراً بديهياً يدركه الإنسان من دون شائبة شك أو ريبة.

بعد ذلك انتقل لدراسة المسألة المحرّرة في الفلسفة الإسلامية بعنوان أصالة الوجود والواقع في مقابل القول بأصالة الماهية بعد أن فرّق بينهما في حديثه السابق عند تناول السفسطة ، مقرراً أن الأصالة للوجود دون الماهية. فالأصيل في كل شيء هو وجوده والماهية أمر ،ذهني بل إن جميع الماهيات تكون واقعية بالوجود، فهي في ذاتها أمر ذهني اعتباري لاحظ له من الواقع والوجود، فالواقع هو الذي يوجد الماهيات.

ثم فرّع على ذلك مجموعة من النتائج كالقول بوحدة الوجود (الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة)، منوهاً إلى أن الكثرة ليست عددية وإنما في المراتب والتجليات المختلفة، ذلك أن العدد والرقم بدوره من تجليات الوجود(1) .

ثم شرح ببحث أحكام الماهية والوجود، وفي أثناء حديثه عن أن الواقع لا يقبل العدم بالذات أي لا يتصف بنقيضه، تعرّض لنظرية الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازيه (1794-1743م) التي تنص على أن الموجود لا يعدم والمعدوم لا يوجد، منوهاً إلى اختلاف هذه الفرضية عن النظرية التي تنص على أن الوجود بذاته لا يتصف بنقيضه، شارحاً المراد من مقولة لافوازيه وفرقها عما يراد بحثه. بعد ذلك خرج باثنتي عشرة نتيجة من درسه في هذه المقالة(2)

ص: 76


1- أصول الفلسفة 2: 63.
2- أصول الفلسفة 2 : 88-89

المقالة الثامنة (الضرورة والإمكان ):

خص الطباطبائي المقالة الثامنة لبحث المسألة الفلسفية المعروفة الضرورة والإمكان والتي تشكل حكماً من أحكام الوجود العامة، وبحسب شهادة الشارح المطهري فإن الطباطبائي في هذه المقالة تناول البحث في الضرورة والإمكان بطريقة خاصة ونهج غير مألوف(1).

افتتح الطباطبائي حديثه بإيضاح مفهومي الضرورة الإمكان، متخذاً مسلكين مختلفين في إيضاحها، اعتمد في المسلك الأول على أساس دراسة سمات الوجود الخارجي، فيما سلك في الثاني عن طريق قانون العليّة. ثم توقف عند مجموعة من الإشكالات التي يثيرها البحث الميكانيكي، والبحث الفيزيائي لنيوتن (1643-1727م).

بعد ذلك خرج بملاحظتين وفرّع عليهما التعرّض لبعض معطيات التجارب العلمية فيما يرتبط بمسألة الحتمية (الضرورة)، ثم أثبت لائحة بالقضايا التي بحثها واستنتجها في المقالة.

المقالة التاسعة (العلة والمعلول ):

البحث في قانون العلية بحث فلسفي وعلمي ،مهم بسبب ما يمثله قانون العلية من ارتباط عام في سلسلة الوجود واتكاء البحث الطبيعي والتجريبي عليه، وقد رتب الطباطبائي البحث في هذه المقالة على دراسته في المقالة الثامنة ترتيباً منطقياً. ثم سلك طريقين لإثبات قانون العلية، عبر عن الأول منهما بالطريق الذي يسلكه الإنسان الاعتيادي بنظرة ساذجة، فيما قال عن الآخر إنه مقتضى النظرة الفلسفية الدقيقة(2).

بعد إثبات أصل العلية انتقل مستعرضاً مجموعة من الإشكاليات مقارباً لها أجوبة فلسفية. وفور انتهائه من تلك المقاربات تعرّض لتقسيمات العلة الفاعلية والغائية والمادية والصورية، وأشبع البحث في كل قسم منها بشكل مستقل، مستعرضاً في

ص: 77


1- أصول الفلسفة 2: 94
2- أصول الفلسفة 2 : 229.

طيات ذلك إشكاليات يفرضها البحث التجريبي المعاصر(1).

ولأن البحث في العلية يستدعي التوقف عند تفسير الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776م) لفكرة الضرورة في هذا القانون(2)، لذا تعرّض الطباطبائي لفكرة تداعي المعاني التي يأخذ بها هيوم تفسيراً لقانون العلية(3). بعدها عرّج على مسألة الصدفة متعرّضاً لمقالة بعض الماديين، وبعد مقاربة مستوعبة للإشكالية خرج بمجموعة عة أمور أثبتها في خاتمة المقالة.(4).

المقالة العاشرة (القوة والفعل/ الإمكان والفعلية ):

استوعبت المقالة العاشرة التي خصها الطباطبائي ببحث مسألة الإمكان والفعلية ما يقارب ربع الجزء الثاني من الكتاب المكوّن من 768 صفحة من القطع الوزيري في طبعته العربية.

انصب البحث لدراسة ظاهرة التغير والتحول التي تعتبر من مسلّمات حقائق هذا الكون، إذ لا وجود للسكون والجمود فيه، وقد أخضع الطباطبائي المسألة للبحث ولكن بمنظار الفلسفة وليس بمنظار آخر.

افتتح الطباطبائي مقالته بمدخل توضيحي للفكرة مستعيناً بمجموعة من الأمثلة الحياتية في ذلك، ثم توصل إلى إيضاح مفهومي القوة والفعل الصفتين الوجوديتين، منوهاً إلى استبدالهما أحياناً بتعبيري: الإمكان والفعلية، ثم خرج بمجموعة من النتائج.

انتقل بعد ذلك لمقاربة إشكالية يثيرها البحث العلمي المعاصر، تترتب على القول بعدم وجود فاصلة بين الإمكان والفعلية. ذلك أن العلم الحديث يرى أن بنية الأجسام

ص: 78


1- أصول الفلسفة 2 : 284
2- انظر: مبحث في الفاهمة البشرية ديفيد هيوم: 45، ترجمة: د. موسى وهبة دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2008م
3- أصول الفلسفة 2: 305
4- أصول الفلسفة 2: 320

ليست وحدة متصلة، وإنما يتألف كل جسم من مجموع أجزاء صغيرة تقبل التحول إلى طاقة، وكل جزء مادي يوجد في الواقع من تكاثف ركام من الطاقة، والطاقة ذاتها أيضاً بنية حبيبية وكل حبة منها تسمى كوانتوم (quantum) ، ومن ثم فلا يوجد لدينا في العالم سوى المادة والطاقة. وبتعبير أصح: لا يوجد لدينا سوى الطاقة،ومن هنا فالاتصال بين الإمكان والفعلية كما يفترضه هذا البحث ليس إلا مفهوماً خالياً.

بعد الانتهاء من مقاربة جواب لهذه الإشكالية انتقل الطباطبائي لبحث مفهوم الحركة، وبعد بسط لمفهومها انتقل لمقاربة موضوع الحركة والتكامل، خالصاً لنتيجة أن التحول والتكامل هو القانون العام لعالم الطبيعة(1). وختم مع موضوع التجربة وتكامل العالم مشيراً إلى مقبولية النتيجة التي خرج بها البحث لدى العلماء المحدثين.

ولأن البحث في الحركة والتكامل يقود الأذهان للفكرة الديالكتيكية الماركسية، عقد الطباطبائي البحث لفكرة قانون الحركة الديالكتيكية في الطبيعة، فتحدث عن تفسير المادية الديالكتيكية لقانون التكامل والتحول مستعرضاً مقالة أنصار هذا المذهب، وبعد استعراض فرضية المادية الديالكتيكية التي تعزو كل الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لهذا القانون، توقف ناقداً لها، وقد أسهب في نقده، مقارباً لما يقوله الماركسيون بمعطيات البحث العلمي الطبيعي (2).

انتقل الطباطبائي بعد ذلك للبحث في مسائل الامتداد في الحركة، والزمان والحركة والحركة الجوهرية والطفرة بنظرة فلسفية، ثم أثبت في خاتمة المقالة القضايا التي تمت دراستها واستنتاجها(3)

المقالة الحادية عشرة (القدم والحدوث ):

ترتب البحث في هذه المقالة على بحث القوة والفعل، فبعد أن بحث الطباطبائي

ص: 79


1- أصول الفلسفة 2 : 392
2- أصول الفلسفة 2 : 431.
3- أصول الفلسفة 2: 482.

في خاتمة مقالته السابقة عن الحركة والزمان انتقل للبحث عن القدم والحدوث. ابتدأ بتوضيح مفاهيم البحث من القدم والحدوث والمعية ، مورداً بعض الأمثلة التوضيحية، متخذاً منها منطلقاً في بحثه التحليلي. وقد ركز البحث في عالم الطبيعة وأحكامه.

وقد جاءت المقالة الحادية عشرة خلافاً لأخواتها مقتضبة موجزة.

المقالة الثانية عشرة (الوحدة والكثرة ):

على غرار المقالة الحادية عشرة جاءت مقالة الوحدة والكثرة مقتضبة موجزة، وقد خصها الطباطبائي لبحث هذه المسألة التي تعدّ من المسائل الفلسفية المهمة والتي تتشابك فيها الرؤى وتتقاطع فيها المشارب والمذاهب الفلسفية والصوفية.

بعد إيضاح مفهوم الوحدة والكثرة انتقل الطباطبائي لبحث أقسام كل من الوحدة والكثرة، ثم عرّج على بحث أحكامها، وخرج بعد ذلك بمجموعة قضايا.

المقالة الثالثة عشرة (الماهية /الجوهر والعرض)

كأختيها جاءت المقالة الثالثة عشرة موجزة، وقد خصت لبحث الماهية والجوهر والعرض وهما قسمان للماهية. أكد الطباطبائي أنه سبق وأن بحث الماهية في المقالتين الخامسة والسابعة، منوهاً على أن الغرض من التكرار مزيد من الايضاح، ولذا ابتدأ بإيضاح مفهوم الماهية وفرقه عن مفهوم الوجود. انتقل بعد ذلك للحديث عن أقسام الماهية والجنس والنوع والفصل ، ثم عنون البحث في الجوهر والعرض، وكذا عن وجود الجوهر في الواقع الموضوعي الخارجي.

وفي خصوص حديثه عن وجود الجوهر توقف الطباطبائي عند نتائج الاختبار العلمي التي تبناها أوجست كونت (1798-1857م) ووليم جيمس (1842-1910م)، وأورد مقالتهما القاضية بعدم وجود الجوهر بناءً على مذهبهما المعرفي الذي يرى التجربة المصدر الوحيد للمعارف البشرية، وبالتالي فإن العلوم لا تتكئ إلا على

ص: 80

الحواس والتجربة، وبالحواس إنما نعثر على الخواص والأعراض فحسب(1).

وبعد إيضاح مقالتهما توقف ناقداً لها مبيناً خلطهم بين الزاويتين العلمية ،والفلسفية، واقفاً على وجه الاشتباه الذي أدى بهم إلى إنكار وجود الجوهر. ومن ثم انتقل للحديث عن أقسام الجوهر والعرض.

المقالة الرابعة عشرة( إله العالم والعالم):

تمثل المقالة الرابعة عشرة آخر مقالة اختتم بها الطباطبائي كتاب أصول الفلسفة، وقد خصها لدرس الإلهيات بالمعنى الأخص في ضوء الأدلة العقلية والبراهين الفلسفية. توجهت المقالة كغالب مقالات الكتاب لمخاطبة الماديين المنكرين للميتافيزيقيا وعالم الغيب وانصبت لدفع إشكالاتهم وشبهاتهم.

افتتح الطباطبائي البحث بإثارة مجموعة من أسئلة عن ضرورة وأهمية وغاية وفائدة البحث في الإلهيات واثبات ،الخالق، وبعد مقاربة أجوبة لها انتقل لتقرير إشكالات (خصومنا الماديون) بحسب تعبيره (2) .

استعرض إشكالية كون التجربة المصدر الوحيد للمعرفة، وعرّج على مسألة تداعي المعاني في قانون ،العلية وإشكالية تبدل الفرضيات العلمية وما يقوله الماركسيون الذين يقيمون كل شيء على دعامة الاقتصاد والاستغلال وإشكالية أن الغيب ليس له أثر في ميدان الاختبار العلمي، وإشكالية ارتداد العلل إلى غير نهاية ولزوم العلية للخالق، وإشكالية الشرور والظواهر غير النافعة في العالم . ثم أخذ بمقاربتها مقاربة عقلية وفلسفية، منوهاً إلى أن الكثير منها قد تم التعرض له في طيات المقالات السابقة. ولم تخل مقاربات الطباطبائي من الاستعانة بمعطيات العلوم المختلفة الإنسانية والطبيعية.

وبعد اسهاب في نقد هذه المقولات التي تشكل مطبات وموانع أمام البحث في

ص: 81


1- أصول الفلسفة 2: 510.
2- أصول الفلسفة 2 : 562.

الإلهيات، انتقل الطباطبائي لصلب فكرة أن لعالم الخَلق خالقاً، مركزاً الحديث على الفهم الساذج والمغلوط لها من قبل الماديين (1). فأسهب في إيضاح الهوة الفاصلة في فهم هذه الفكرة بين المثبتين والنافين، مشيراً لأدلة الإلهيين في جواب الإشكالية التي تقرر : هل واقعية هذا العالم المتحول وواقعية كل جزء من أجزائه ناشئة منه أم أن واقعية الجميع ناشئة من واقعية ثابتة ومستقلة، وتنبع منها جميع الواقعيات؟

فاستعرض بيانين في جواب ذلك، ثم خرج بنتيجة أن هناك علةً وجودية لعالم الوجود، خارج ذاته، ثم توقف عند مجموعة إيضاحات(2).

وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن البرهان الوجودي المعروف في الفلسفة الإسلامية ببرهان الصديقين قد طوى مراحل مختلفة في المدرستين المشائية ومدرسة صدر الدين الشيرازي ولكنه مع بيان العلامة الطباطبائي له قد وصل إلى أوج دقته. فالطباطبائي يعتقد أن هذا البرهان لا يتوقف على أية مسألة فلسفية أخرى، وإنما يمكن طرحه لإثبات وجود خالق للعالم مباشرة بعد الإيمان بأصل الواقعية.

تحت عنوان تذكير وتنبيه توقف الطباطبائي عند بعض إشكاليات الماديين التي من الممكن أن ترد على معطيات البحث السابق فاستعرضها وقاربها فلسفياً.

كيف نتصور الله؟ تحت هذا العنوان شرع العلامة الطباطبائي ببحث الصفات الإلهية، ذلك أن أول إشكالية تنقدح في ذهن الإنسان في مجال بحث الإلهيات هي أساساً عن قدرة الإنسان على تصور الله لكي يؤمن به؟ باعتبار أن الاعتقاد والإيمان تصديق، والتصديق فرع التصور، وإذا كان تصور الله غير ممكن فسوف يكون التصديق به والاعتقاد غیر ممکن بداهة. ولذا عقد الطباطبائي البحث لهذه الإشكالية، وعرّج على الصفات الإلهية. ثم انتقل لإثبات وحدة الخالق مستعيناً بالبراهين السابقة.

ص: 82


1- أصول الفلسفة 2: 633.
2- أصول الفلسفة 2: 668-670.

عقيب البحث في الصفات الإلهية توقف الطباطبائي عند نظرية مؤسس علم الاجتماع الحديث أوجست كونت التي يقسم فيها الفكر البشري إلى حقب ثلاثة( قانون الحالات الثلاث )دينية وفلسفية وعلمية والتي تنطلق من نظرية اجتماعية تاريخية، وشرع بنقدها نقداً تاريخياً وفلسفياً، مستعيناً ببعض نتائج دراسات المستشرق الألماني ماكس مولر (1823-1900م)(1).

ثم رجع للبحث اللاهوتي الرتيب فوقف عند مسألة أن إله العالم جامع لكل كمالات الوجود، متعرضاً في طيات كلامه لبعض الإشكاليات.

وإذا كان للعالم خالق فإن العالم يمثل فعل ذلك الخالق، فشرع ببحث الفعل وتقسيماته ومراتب العالم المادي والمثالي والعقلي، مستعرضاً في طيات ذلك بعض إشكاليات الماديين.

وختم المقالة ببحث مسائل : القضاء والقدر والخير والشر والسعادة والشقاء، ونهاية العالم ، ثم أثبت لائحة بالقضايا التي بحثها واستنتجها(2) .

وبذلك يتم الحديث حول مقالات كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي.

ملاحظات ختامية

أريد فى هذه الفقرة الختامية التوقف عند مجموعة من الملاحظات التي تسلّط الضوء على زوايا ترتبط بكتاب أصول الفلسفة وأبحاثه وجهات أخرى تتعلّق به :

الملاحظة الأولى:

تضمنت مقالات الطباطبائي استعراض ونقد الكثير من الأفكار المرتبطة بالفضاء المعرفي الغربي، سواء ما يرتبط منها بالميتافيزيقيا والإلهيات أم الفسلجة والنفس والاجتماع والتاريخ. ولذا استحق الكتاب صفة الموسوعية. إذ هو في واقعه يمثل

ص: 83


1- أصول الفلسفة 2: 685-702
2- أصول الفلسفة 2 : 757 .

موسوعة في تحليل ونقد الأفكار والفلسفات المختلفة، وبتعبير الطباطبائي نفسه فإن الكتاب عبارة عن :((مقالات فلسفية تسير بقارئها حتى توقفه على أفق عال من النظر، ويشرف منه على خلاصة النظريات التي حصلتها الأبحاث الموروثة من قدماء الفلاسفة من كلدة ومصر وإيران واليونان وغيرهم، ثم تحمّلها فلاسفة الإسلام ويطلع على الأبحاث والآراء التي أضافتها إليها الفلسفة الغربية الحديثة، ثم يقف على القضاء الحرّ والرأي الحق الذي لا مناص عنه للنظر (المصيب))(1).

مقالات الكتاب من حيث الجدة بحيث يصعب العثور على ما يماثله في تاريخها الفكري المعاصر وحركة النقد الفلسفي، فضلاً عن الموضوعية العالية والنفس الطويل التي تحلى به الفيلسوف الطباطبائي، تجد التواضع الفكري والتعاطي الأخلاقي، فالكتاب درس في الحكمتين النظرية والعملية!

وحتى لا نترك هذه النقطة من دون مثال، فإن الطباطبائي بعد أن نقد مقولات المثالية، أكد على ضرورة عدم الزج بأصناف من الناس في زمرة المثالية بسبب تبنيهم لمقولات معينة؛ كالعرفاء الذين أنكروا منهج الاستدلال وطرحوا الكشف الذوقي طريقاً للوصول إلى الحقائق. أو أتباع الديانات الذين قصروا المعلومات الحقيقية على طريق الوحي، أو الفلاسفة الهرامسة الداعين إلى الانجذاب صوب العالم العقلي الباقي والتنزّه عن العالم الفاني؛ كهرمس، وبليناس (15 - 100م)، وفيثاغورس (497-572 ق.م)، وأفلاطون (347-427 ق.م)، وأفلوطين (205 -270م)، فكل هؤلاء لم يكونوا بصدد نفي الواقع وإدراكه، ولم يكن لهم آمال سوى إكمال مسيرة العلم والعمل وخدمة الإنسانية. وبعد ذلك سجّل نصاً تتمثل فيه حكمة الطباطبائي وتواضعه وإنصافه، فقال: ((فمن العدوان والتجاوز أن يبدأ الإنسان بالنطق بالألفباء فيوجه السباب والاتهام لصلب أبيه ورحم أمه بفم ولسان تم صنعهما بدم أبويه. على أن الاتهام والسباب من قبل الباحث الناقد يعني دعوى العلم ودليل الجهل ))(2) .

ص: 84


1- أصول الفلسفة، ترجمة السبحاني .3
2- أصول الفلسفة 1: 118.

الملاحظة الثانية:

من أغرب ما اطلعت عليه وأنا أعد لهذه الدراسة نص للعلامة محمد تقي الجعفري(1927-1999م) يتعلّق بمضمون كتاب أصول الفلسفة، أثبته حرفياً: ((لم أشاهد في مطالعتي لمؤلفات المرحوم الطباطبائي بحثاً وتحقيقاً خاصاً في فلسفة الغرب ومقارنتها مع فلسفة الشرق. وما يلاحظ في أسلوبه الفكري خاصة في كتاب قواعد الفلسفة وأسلوب الواقعية أصول الفلسفة والمنهج الواقعي هو اطلاع لازم بشأن المسائل الفلسفية التي تحدد قواعد ومبادئ العقيدة في الشرق والغرب)) (1).

إن غرابة هذا النص تنبع من مخالفته لواقع مقالات كتاب أصول الفلسفة والنظريات والأفكار التي تضمنها والتي يمكن لكل قارئ ومتابع ملاحظتها.

ومن جهة ثانية فإن هذه الشهادة مخالفة لشهادات مجموعة من تلاميذ الطباطبائي تتعلق بواقع وغرض الكتاب(2) ، فضلاً عن كلام الطباطبائي نفسه الذي نقلنا طرفاً منه. ولذا لا أجد مبرراً لهذا النصّ، أو للإسهاب في نقده.

الملاحظة الثالثة:

في إطار الاهتمام بالكتاب والعرفان بأهميته، وجدت بحسب تتبعي المحدود أن الدرس الجاد الوحيد من جملة محاولات والذي تناول الكتاب بشكل نقدي وعلمي هو الدرس الذي عقده أستاذنا العلامة عمار أبو رغيف، فقد تناول درس مقالات الجزء الأول تناولاً نقدياً وبأفق رحب. ثم أن تلك الجلسات حررت بقلم بعض تلاميذه ونشرت في العدد الثاني من مجلة البرهان التي يصدرها معهد الدراسات العقلية في النجف الأشرف، ثم أعيد نشرها في كتاب الأستاذ (مقالات عراقية) بعنوان: إطلالة نقدية على أصول الفلسفة والمنهج الواقعي. ومما جاء في ديباجة تلك الدروس: ((بين يديك دروس ألقيتها منذ سبعة أعوام لتكون حقلاً يخصب من خلاله النقاش

ص: 85


1- سيرة العلامة الطباطبائي : 276.
2- انظر : مقدمة مطهري في أصول الفلسفة 1: 43، 45 ؛ مقدمة سبحاني في ترجمته للكتاب : - 5؛ وكلام التلميذ الآخر الطهراني فى الشمس الساطعة : 56-57 ، وغيرها من شهادات تلاميذه والمتابعين والمهتمين بفكره وآثاره

والسؤال حول المعرفة البشرية، ولكي تنمو طاقات تملأ الفراغ الذي نلمسه في مقاربة النقاش العقلي. انصبت دروسنا على معالجات نقدية لنظرية المعرفة حسب ما جاءت في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، حيث حرر متنه الفيلسوف العلامة الطباطبائي، وزينه بحواشيه الفيلسوف مطهري تلميذ العلامة، وأهم المحققين في فلسفة صدر الدين الشيرازي والحكمة الإسلامية العتيدة بشكل عام. وأود التنبيه هنا إلى أهمية نقد النصوص الجادة، ذلك يتضمن إعادة الحيوية لما طرحته من المهم المصيري من أفكار ويتضمن إعادة تظهيرها، وهذا يعني بالضرورة احترامها وتكريم رجالها. المعرفة الإنسانية ليست ضواري مفترسة، بل هي إنتاج أنسي يتطلب معاشرة وإيضاحاً وتعديلاً ونقداً))(1).

هذا المعنى يؤكد ما أشرنا إليه في مطلع الدراسة من حزونة البحث العقلي النقدي، وقلة الاهتمام بالنصوص الجادة والمهمة، لا سيما هذا الكتاب، في ظل فوضى المعرفة والأفكار التي تحوطنا من كل صوب !

الملاحظة الرابعة:

هناك تصور مغلوط، سمعته من بعضهم، وتُحشى به أدمغة آخرين، يرتبط بكتاب أصول الفلسفة وكذا بكتابي (فلسفتنا) و (اقتصادنا) للشهيد الصدر، ومفاد هذا التصور أن هذه الكتابات مقتصرة على نقد الماركسية ، وبما أن الماركسية سياسياً واقتصادياً أضحت في متاحف تاريخ الأفكار، فإن مبرّر الاهتمام بهذه الكتب ينتفي !

وفي الواقع إن هذا التصور يدلل على عدم اطلاع صاحبه على هذه الكتابات، ولم يجسّم نفسه عناء النظر فيها، ذلك أن الطباطبائي والصدر لم يدرسا الماركسية إلا بوصفها تجلّياً من تجليات الفكر الغربي القائم على أسسهم الحضارية ورؤيتهم عن الكون والحياة والإنسان، والماركسية في كثير من منطلقاتها الفكرية لم تختلف منطلقات تيارات الغرب الفكرية وإن اختلفت في تفسيرها وعوامل صيرورتها

ص: 86


1- مقالات عراقية، مقالات وبحوث في الفكر والدين والفلسفة السيد عمار أبو رغيف 567-568، دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1435ه-.

التاريخية. بل إن الماركسية حاولت توظيف مجمل الدراسات النفسية والاجتماعية والفسلجية والعلمية لفلاسفة وعلماء ومفكري الغرب في سبيل إقامة فكرتها في تفسير التاريخ وتطوراته الكبرى وأمثولتها الشيوعية.

إن مراجعة بسيطة لكتاب أصول الفلسفة، وكذا كتابا الشهيد الصدر، توقف القارئ المحترم على أن نسبة استعراض الماركسية فيها قياساً بمجمل تيارات وأفكار ومقولات الفكر الغربي، نسبة ضئيلة جداً. فالبحث في نظرية المعرفة وتجليات المذهب التجريبي وتفسيره لمجمل النشاط الفكري البشري تصوراً وتصديقاً، قيمة ونمواً وتكثراً، حدوده ومدياته، ليس حكراً على الماركسية، وليس بحثاً في الماركسية، وإن كانت الماركسية تياراً في ذلك المذهب.

وكذا فيما يرتبط ببحث الوجود وتفسيره وقوانينه فالمذهب المادي في الوجود واسع تنتظم في طياته تيارات متعددة، تشكل فيه الماركسية تياراً من جملة تلك التيارات.

وباختصار إن هذه الكتابات تناولت المذهب المادي وفلسفته في أصولها الأساسية، وعبره تجلياتها المختلفة، منذ عصر اليونان وحتى العصر الحديث.

الملاحظة الخامسة :

أحسب أن الكتاب (متنا) بحاجة للترجمة عن أصله الفارسي لإحدى اللغات العالمية الحيّة كالإنجليزية ،مثلاً كي يتسنى للناطقين بها من المهتمين بالفكر والفلسفة الاطلاع على هذا النشاط الفكري والفلسفي المميز الذي اضطلع به الفيلسوف الطباطبائي . وتكمن أهمية هذه الخطوة في إطار تلاقح الأفكار والدراسات المقارنة.

كما أجد أن الضرورة الفكرية والعقيديّة تقضي بأن يكون متن العلامة في هذا الكتاب منهجاً دراسياً في معاهدنا الدينية والفلسفية، عسى أن نعيد بعض الهيبة

ص: 87

والوقار لذواتنا ووجودنا أمام نزق الأفكار.

الملاحظة السادسة:

لم أشأ تضمين الدراسة ملاحظات نقدية ترتبط بالكتاب أو طريقته أو بعض أفكاره ومقولاته، لأنني أردت للدراسة أن تكون تعريفية تُسهم في تعريف القارئ المحترم على المحاولات الجادّة في التواصل مع الفلسفة الغربية في حواضرنا العلمية. وإذا كان لا بد لنا من كلمة نختم بها دراستنا عن أصول الفلسفة، فإنها تؤكد على ضرورة قراءة الأفكار قراءة جادة ونقدية والأخذ بالحسبان أن ما حَرّره الأكابرُ من فلاسفتنا رغم جلالة قدره يبقى جهداً بشرياً وسعياً آدمياً لاكتشاف المجهول بقدر الطاقة البشرية، ومن ثم فهو يتأثر بظروفه ومحيطه، وتعتوره الهفوات والنواقص، وبالتالي يظل بحاجة للتقويم والتتميم ومواصلة المسيرة النقدية والمعرفية على أساس قراءة النصوص، وجذور الأفكار، وظروفها التاريخية والاجتماعية.

ص: 88

مُحَمَّد حُسَين الطباطبائي الفيلسوف الناقد والحكيم العارف

نبيل علي صالح

(1)

ذاع صيتُ العلامة والفيلسوف الإيراني الراحل السيد« محمد حسين الطباطبائي» بعيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، التي أسهمت في تعريف العالم العربي والإسلامي بنتاجات هذا المفكر البارز ، مع أنه قدّم - قبل هذا التاريخ - الكثير من الكتابات والمؤلفات القيمة التي ترك من خلالها بصمات مميزة وخلاقة على الساحة العلمية الفلسفية والفكرية في كل من إيران والعالم الإسلامي في العصر الراهن، بل وتخطت حدود إبداعاته وإشعاعات أفكاره عالمنا الإسلامي لتصل إلى العالم الغربي في كبريات جامعاته وأكاديمياته.

ولم يختص هذا العالم الكبير بعلم أو بصنف أو مجال محدد من علوم الفكر والمعرفة الإسلامية، بل برزت كتاباته وتصانيفه الفكرية في علوم عديدة كالفقه والفلسفة

والقرآنيات والعلوم الكلامية والأصولية والعرفانية والتفسيرية وغيرها، جامعاً بين الموسوعية والتخصص، ليكون كاتباً نوعياً في كل العلوم التي خطّ قلمه فيها، فمن« بداية الحكمة» إلى« نهاية الحكمة» وأصول الفلسفة إلى «الميزان في تفسير القرآن»، إلى غيرها من الكتب النوعية المهمة، ومناقشاته الرائدة والفريدة مع الفيلسوف الفرنسي«هنري كوربان» حول العرفان والتصوف عند الشيعة، والتي أسهمت في إيصال الفكر الإسلامي الشيعي إلى الجمهور الغربي والفرنسي منه بالذات..

ص: 89


1- باحث وكاتب سوري

ولعل ما ميّز فكر الطباطبائي عن غيره أمران اثنان أولهما تفلسفه العميق، وصلابة معياريته الفلسفية الإسلامية، وإقدامه الفكري، وقدرته الفائقة على النفاذ العقلي إلى بنية الأفكار والمعارف المطروحة.. وثانيها :ربطه ومزجه العملي( لا النظري فقط) بین الذات والموضوع بين النظري والعملي بين التعليم والتربية، بين عالم الأفكار وعالم العرفان، حيث كان معلماً فكرياً وفلسفياً، وفي الوقت نفسه عارفاً وأخلاقياً ورياضياً،حرص دائماً على تزكية النفس بالأخلاق والقيم والفضائل الإسلامية الأصيلة، لاسيما أخلاق الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل البيت(علیه السلام)، حيث خط مدرسة جديدة في التربية والحكمة والعرفان تقوم على التنشئة والتربية القيمية الأخلاقية وتزكية النفس والذات بالمكارم والأخلاق العملية، باعتبارها أساس أي عمل نهضوي ديني إسلامي على مستوى الذات أو الموضوع. فحتى تكون مسلماً فاعلاً ومنتجاً، لا بد أن تكون على درجة عالية ومتقدمة من الالتزام القيمي بالأخلاق والمبادئ الإسلامية، لأن قيم الإسلام من عدل وكرامة ومساواة ومحبة وإيثار وغيرها، هي الغاية والمنتهى من وجود أي مشروع فكري( دعوي قيمي) يراد ترشيد الناس إليه للالتزام والفاعلية والحضور الغني المعطاء.

وفي هذا الاتجاه، كان العلامة الراحل الطباطبائي نجماً عرفانياً يشار إليه بالبنان وتستضيء بنور أفكاره دروب السالكين (نحو المعرفة الجوهرية) والمنفتحين على عالم النظريات والمعارف الفلسفية.

تواريخ بارزة في حياة الفيلسوف الطباطبائي:

وُلدَ العلامةُ السّيّد «محمد حسين الطباطبائي» في العام 1906م في منطقة «شاد آباد» إحدى توابع محافظة«تبريز»الإيرانية، ضمن أسرة عُرفت بالعلم والرياسة والفضل والأخلاق ، وكانت سلسلة أجداده الأربعة عشر الماضين من العلماء المعروفين فيها، وهي تنتهي (أي سلسلة نسبه من جهة الأب إلى الإمام الحسين (علیه السلام).

بدأ السيد الطباطبائي بالدراسة الأولى عن طريق ما كان يعرف ب-»الكتاتيب»، من

ص: 90

العام 1911 إلى العام 1917م ، وهذه الطريقة كانت معروفة قديماً، وهي تطلق على من كان يدرس اللغة والخط والأدب، ويتعلم بعض الدواوين الشعرية عند رجالات الدين ومشايخه المعروفين في القرى والبلدات حيث لم تكن المدارس الرسمية الحديثة قد عُرفت بعد.

التحق السيد الطباطبائي لاحقاً بالمدرسة «الطالبية» في مدينة «تبريز» حيث درس فيها قواعد الأدب العربي، وبعض الحديث والفقه والأصول، فيما شرع بدراسات العلوم الإسلامية الأخرى ما بين عامي 1918م - 1925م.

وبعد أن فرغ من الدراسة في المدرسة الطالبية شدّ العلامة الطباطبائي الرحال مع أخيه السيد« محمد حسن» متوجهاً صوبَ حاضرة العلم الإسلامي الشيعي (النجف الأشرف)، حيث مكث فيها طالباً للعلم ما بين سنة 1925م إلى سنة 1935م، متتلمذاً على يد كبار العلماء والآيات في تحصيل العلوم الدينية، ومنشغلاً بالدراسات الفقهية والأصولية والفلسفية والعرفانية والرياضية.

وبسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وقلة العيش وضيق ذات اليد، قفَلَ« الطباطبائي» راجعاً إلى مسقط رأسه في« تبريز»، حيث اشتغل بالزراعة لأكثر من عشر سنوات في قرية «شادباد». وقام خلال هذه الفترة بتأليف مجموعة رسائل عرفانية وفلسفية وبسبب الاضطرابات التي حدثت في محافظة أذربيجان، توجه العلامة« الطباطبائي» إلى مدينة قم، ليبقى فيها ما يقرب من (35) سنة قضاها بالعلم والتحقيق والبحث والتعمق الفلسفي، والتوسع في مدارك الحكمة الإلهية، وتربية جيل من الأعلام والمفكرين حتى وافاه الأجل هناك في العام 1981م عن عمر ناهز الثمانين قضاها بالعلم والتربية، والاشتغال الفلسفي، ومحاولة بناء أسس متينة لهذا الدين العظيم وتربية أجيال من المفكرين الإسلاميين.

مؤلفاته ونتاجاته الفكرية:

نذر الراحل الطباطبائي حياته كلها للعلم والبحث والتقصي النقدي الفكري

ص: 91

والفلسفي، فكان أن أثمر هذا الانهماك المعرفي كثيراً من عيون المؤلفات التي خطها يراعه، وأغنى من خلالها المكتبة الإسلامية في أكثر من حقل معرفي، منها:

- «الميزان في تفسير القرآن». وهو تفسير قرآني متنوع وغني، يقع في عشرين مجلداً، كتبه السيد الطباطبائي باللغة العربية، وترجم إلى الفارسية والإنكليزية.

-«أصول الفلسفة والمنهج الواقعي». مع شروح وهوامش للعلامة الفيلسوف الشهيد مرتضى مطهري.

«شرح الأسفار الأربعة» لصدر الدين الشيرازي. ويقع في ستة مجلدات.

- «حوار مع الأستاذ هنري كوربن». ويقع في مجلدين.

-« رسالة في الحكومة الإسلامية». طبعت بالعربية والفارسية والألمانية (1).

- حاشية الكفاية. ورسالة في القوة والفعل . و رسالة في إثبات الذات. ورسالة في الصفات.

كما كان ينشر كثيراً من البحوث والمقالات المتعددة في كثير من المجلات الفكرية العلمية آنذاك.

نقد الطباطبائي للفلسفة الغربية ( مقاربة في الرؤية والمنهج) :

هيمنت الكلمة النقدية والموقف الفلسفي ذو الصرامة النقدية التأصيلية، على مجمل النتاج الإبداعي للمرحوم العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ولا نكاد نعثر على نص فكري له يخلو من ملمح نقدي فكري أو إشارة فلسفية نقدية حول أي موضوع دراسي (تاريخي أو عقدي أو كلامي) تناوله حتى في نصوص شروحات

ص: 92


1- مجموعة رسائل فلسفية وكلامية رسالة في الأفعال. ورسالة في الوسائط الإنسان قبل الدنيا والإنسان في الدنيا. و الإنسان بعد الدنيا. رسالة في النبوة . رسالة في الولاية رسالة في المشتقات رسالة في البرهان. رسالة في المغالطة. رسالة في التحليل. رسالة في التركيب. رسالة في الاعتباريات. رسالة في النبوة والمنامات علي والفلسفة الإلهية. القرآن في الإسلام

سفره التفسيري الضخم والشيق الميزان في تفسير القرآن»..

لقد انطلق العلامة الراحل -كمفكر تأصيلي نشأ في مناخ اجتماعي وسياسي يغلب عليه شعور الإحباط الإسلامي من طغيان مشاريع فكرية وتيارات وأحزاب سياسية تأخذ بالفكر المادي والشيوعي -انطلق في وعيه للمسألة الفلسفية- كقاعدة فكرية عميقة للدفاع والمواجهة وإثبات الذات الفلسفية الحضارية الإسلامية من خلال اطلاعه المعمّق على الفلسفة عموماً ومختلف تيارات الفكر الفلسفي الغربي مفنّداً لها، خاصة على مستوى شرحه الدقيق لفلسفة« صدر الدين الشيرازي» الذي يشكل فكره ومقولاته الفلسفية خلاصة التجربة الفلسفية الإسلامية الأصيلة بأبعادها وأشكالها المتعددة.

لقد أعجب الطباطبائي بالفلسفة الصدرائية (فلسفة الفيلسوف الشيرازي)(1)، ولكن إعجابه وشرحه للإبداع الفلسفي الصدرائي لم يمنعه من أن يبتعد عنه في بعض القضايا الفلسفية كقضية «أصالة الوجود واعتبارية الماهية» أي أنه اختار طريقاً مختلفاً و«أعلن» بياناً مغايراً لما اعتقد به «الفيلسوف الشيرازي».. بمعنى أنّه كان یری أنّ «اعتبارية الماهية »تعني مجرد ذهنية الماهية.

لقد كان الطباطبائي فيلسوفاً إسلامياً تأصيلياً بامتياز، انطلق في معظم أعماله النقدية للفكر الغربي- في تصديه للرؤى والمفاهيم الفلسفية الغربية- من منطلق الحرص على تعميق فهم معالم الإسلام المحمدي الأصيل، وإبراز خصائصه الفريدة، وتحصين أسس الفكر الإسلامي ومرتكزات العقيدة الإسلامية مما كان يتربص بها

ص: 93


1- يتحدث العلامة الطباطبائي عن هذا الفيض العارم من الإعجاب بفكر الشيرازي قائلاً: «ظهر هذا التطوّر في العصور الأخيرة الإسلامية أي بعد القرن العاشر الإسلامي، فهو بلا شك أدهش العقول وحيّر أصحاب الفكر. أحدثه رجل العلم والفضيلة، البطل المقدام في ميادين العلم والمعرفة سيّد نوابغ العالم، أسوة الحكماء والمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي المشتهر بصدر الدين، وصدر المتألهين (1050971) أسس أساساً حديثاً، ورسم قواعد ودوائر لم يسبق إليها أحد، وأتى بأفكار أبكار ، وآراء ناضجة، لم يقف على مغزاها إلا ثلة قليلة من بغاة العلم والفلسفة ولو تتبعت موارد أنظاره وكتبه ورسائله، لعلمت أنه المؤسس في المسائل الفلسفية، وأنّه المبتكر الوحيد في إبداع أصول لم تعهد، وتفريع فروع لم تسمع، وإحداث طريق للبحث والتحليل لم يشاهد . راجع) كتابه: أصول الفلسفة، الرابط : (http://dlia.ir/paygah.e.a/imamsadeq/book/sub3/asool-falsafa/asool-falsafa24.html

(فكرياً وفلسفياً)، في ضوء تحديات متغيرات الحياة وحركية الإنسان، بعد أن أيقن في وقتها بوجود مخاطر حقيقية وجدية تحيط بالإسلام، متمثلةً -على وجه الخصوص- بخطر السيادة الغربية على الشرق الإسلامي فكرياً وروحياً ومادياً، في خضم انتشار فلسفات غربية وضعية ترفض الأديان وتحاربها وتحاول الارتكاز على العلم الوضعي لتقوية مواقفها النقدية تجاه تلك الأديان..

على هذا الصعيد انشغل الراحل الطباطبائي (مثل كثيرين غيره من العلماء والمفكرين التأصيليين العرب والمسلمين) بمواجهة أفكار الفلسفة الغربية (ومختلف طروحاتها ومقولاتها وتصوّراتها المفاهيمية) التي صاحبت حملات الاحتلال الغربي لكثير من بلداننا الإسلامية، ساعيةً عبرها إلى تصدير فكرة محددة إلى المسلمين تقوم على تعميق الحس المادي أو الرؤية المادية للحياة والإنسان، من خلال مقولات مفاهيمية عديدة (تخفي السم في العسل كما يقال) أبرزها أنّ«العلم التجريبي»بفلسفته الأوروبية هو نسق فكري معصوم ومطلق الصحة (لا يعتريه أي خطأ)..وهذا يقتضي - بطبيعة الحال - الخضوع لمن يظن أنها «يقينياته» المطلقة، والتسليم بكل افتراضاته المبدئية المحسومة، لا سيما ما يتعلق منها بأصول المنهج العلمي القائم على المادة والحس وتجارب المختبرات فحسب، أي تكريس النظرة المادية للإنسان والحياة والوجود على أساس أنها -كما يزعم-

«بديهيات» و«مسلّمات» و«حقائق» راسخة.. بما يعني ويفضي إلى جعل الأخلاق والقيم الدينية - في نظرهم- أموراً اعتبارية لا حقيقة لها.

هذا هو - إذاً- المناخ الفكري الذي انطلق فيه العلامة الراحل الطباطبائي مواجهاً أفكار الفلسفة الغربية، ومقولاتها ومفرداتها التي شكلت القاعدة والأساس للاتجاهات المادية والوضعية التي كانت تهدد- كما ذكرنا- أسس البنيان الديني والقيمي والحقوقي الديني الإسلامي، بما يعني أنه كان لا بد من تمكين فعل المواجهة على خطين، أولهما نقد الذات لرأب الصدع ومعالجة الخلل، وترميم ما يمكن ترميمه، وثانيهما وجود تفكير بنّاء، وأسلوب منظم لنقد الآخر، في فكره

ص: 94

ومنهجيته.. وكان العلامة الطباطبائي من تلك الثّلة التأصيلية الفلسفية الأخيرة، فكان ميالاً بفطرته إلى التفكير في المسائل الكلية العائدة إلى الكون وقوانينه، ولأجل هذا الميل الفطري طاف على المناهج الفلسفية المختلفة المسائية والإشراقية، ولم يقتصر على ذلك بل قرأ شيئاً كثيراً مما يرجع إلى الفلسفة الموروثة من حكماء اليونان وإيران والهند فخرج بحصيلة علميّة ضَخْمة .

وتجلّت دراسة فلسفة الغرب ونقدها عند العلامة الطباطبائي في كثير من مقالاته وبحوثه وشروحاته التفسيرية، وكتابه« أصول الفلسفة والمنهج الواقعي» الذي قدّم له وشرحه الشهيد مطهري، حيث افتتح سماحته حواراً عقلياً معمّقاً اتجاهات الفلسفة الأوربية الحديثة لاسيما المادية الديالكتيكية، منطلقاً من ضرورة تحليل أصولها ومرتكزاتها وأسسها ونقدها بعد اتساع ظاهرة التغريب، ودخول التيار الماركسي خط الصراع، وعمل قطاع واسع من المثقفين الدارسين في أوربا على الترويج لمقولات الفلسفة المادية المناهضة للميتافيزيقيا والإيمان بالله تعالى.. وجاءت خطوة الطباطبائي بعد سبات طويل عَمّ هذا الحقل المعرفي المهم، وكسرت حاجز الصمت لتدخل ميدان البحث الفلسفي المقارن بعمق وشمول(1) . إذ برغم من مرور زمان على إحساس هواة المعرفة بضرورة طرح الفكر الفلسفي الحديث ومقارنة النظريات المحدثة بنظريات الفلاسفة المسلمين، لكنَّ المؤسف أن هذا الأمر لم يتجسّد عملياً حتى لحظة كتابة هذه المقدمة. نعم ما تم انجازه عبر هذه الفترة لا يتعدّى رسائل فلسفية على المنهج التقليدي، قد تتناول أحياناً قضايا الطبيعة والفلك وتتناقض تماماً مع النظريات العلمية الحديثة، أو جاء ترجمة بحتة للنظريات الفلسفية الحديثة. إذن لا يتعدّى النشاط الفلسفي الراهن هذين اللونين: إما تقليداً تاماً للنهج الفلسفي المأثور، وإما ترجمة صرف للنظريات الحديثة، وحيث اختلاف مراكز اهتمام هذين اللونين من التحقيق فما اهتم به السّلف لم تعره الدراسات الحديثة اهتماماً، أو اهتمت به اهتماماً يسيراً، وطرحت قضايا ومواضيع أخرى أمام الدرس،

ص: 95


1- المطوري، مازن. منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي : نقد المنهج والأصول». مجلة الاستغراب، العدد: ،2 كانون أول لعام 2015م. الرابط : http://istighrab.iicss.iq/?id=21sid=37

مما أدى إلى أن القارئ لهذين اللونين لا يخرج بمحصلة من خلال قراءتهما معاً. ومن هنا جاء كتاب «أصول الفلسفة» لوناً ثالثاً من الدرس، لا هو بالنهج التقليدي، ولا هو بالترجمة للنظريات الحديثة (1)

لقد كان العلامة والفيلسوف الطباطبائي أول مفكر فلسفي مسلم تمكن من إدخال نظرية المعرفة الجديدة في صلب مضامين الفلسفة الإسلامية، ومقولاتها، ومختلف مباحثها وموضوعاتها عبر استخدام أسلوب جديد طرحه في بعض مؤلفاته ك» بداية الحكمة، و«نهاية الحكمة»، وبشكل أوسع في كتابه «مبادئ الفلسفة ومنهج الواقعية».. وهذا ما أشار إليه «علي أميني نجاد» (عضو الهيئة العلمية للمجمع العالي للحكمة الإسلامية في إيران)(2) ، موضحاً أن العلامة الطباطبائي كان ينظر إلى مباحث «الإدراك» نظرة جادة للغاية حيث قد كتب سماحته عدة مقالات في هذا المجال. إضافة إلى أنه أبدع في مسألة : «تنظيم سياق المباحث الفلسفية»؛ على سبيل المثال أن المنهج الذي قدّمه سماحته في كتابي «بداية الحكمة» و«نهاية الحكمة» يملك إطاراً مبدعاً، فتطرق في بداية هذين الكتابين إلى مباحث «علم الوجود» ثم إلى مباحث «تقسيم الوجود» كتقسيم الوجود إلى الذهني والخارجي، ومباحث بالفعل وبالقوة، والعلة والمعلول، والمباحث الأخرى.. وهذا المنهج كان يعتبر سياقاً مبدعاً في منهجية الإبداع الفلسفي الإسلامي كما طرح العلامة الراحل في «برهان الصديقين» دليلاً جديداً حول إثبات واجب الوجود»؛ تم طرحه بشكل كان يعتبر أول قضية فلسفية.. كما قام سماحته بالنقد الواسع والمعمق لمفاهيم ومبادئ المادية» في كتابه «مبادئ الفلسفة ومنهج الواقعية، كما أنه قد تطرق إلى نقد المدارس الغربية؛ بمنجية ورؤية جديدة لم يقم به أي فيلسوف مسلم قبله..

لقد اعتبر الفيلسوف الطباطبائي أن مجمل المسائل الفلسفية التي أقام دعائمها كبار فلاسفة الغرب: ديكارت، كانت، هيجل، وغيرهم من عباقرة الفكر الفلسفي

ص: 96


1- الطباطبائي، محمد حسين.«أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» جزء: 1، ص: 42-43، مقدمة الشارح دار التعارف للمطبوعات بيروت طبعة ثانية لعام 1988م.
2- تصريح للعلامة علي أميني نجاد، لوكالة الأنباء القرآنية الدولية. الرابط : 2229338/http://iqna.ir/ar/news

الغربي(1)، عبارة عن مسائل ومقولات عامة لا تختص بعلم دون علم، بل تعد نتائج كلية لجميع ..العلوم وأمّا الفلسفة الإسلامية فهي تعتمد على البراهين العقلية المستمدة من الأمور البديهية، أي لم تربط ذاتها الفكرية بحقائق العلوم المادية، ولا تعتمد في إثبات قواعدها على نتائج العلوم أبداً. وهي بغالبيتها- قواعد نسبية متغيرة مرتبطة باختبار وقانون تجريبي يحتاج هو ذاته لعدة بديهية عقلية لتحقق صلاحيته ونفاذ واقعيته العملية..

لقد تجلى الإبداع الفلسفي عند العلامة الطباطبائي في طرح واكتشاف نظريات وقواعد فلسفية لم تكن تعرف قبله ومنها :

-1 قوله بأصالة الوجود واعتبارية الماهية:

وهي الأساس الفلسفي الذي بنى عليه العلامة الراحل هيكليته الفلسفية، لأنّ القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، له دور مهم وحيوي في حل كثير من المسائل والإشكاليات الفلسفية والكلامية المعقدة.

وقد قال بأصالة الوجود حيث الوجود يؤثر في تحقق الإنسانية وجعلها أمراً واقعياً، كما أنّ الإنسانية تكون حداً للوجود ، وتحديداً له من حيث درجات الوجود ومراتبه.. فكما أنّ الوجود متحقق في الخارج، فهكذا الإنسانية متحققة، لكن بفضل الوجود وظله.

-2 إسهاماته في نظرية المعرفة:

أكّد العلامة الراحل هنا على أن البحث الابستمولوجي (=نظرية المعرفة (2))

ص: 97


1- كان الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» (1596-1650) (صاحب مقولة : أنا أفكر إذاً أنا موجود) يعتقد «بأصالة العقل»، وانطلق ليبرر إيمانه الذاتي والعملي من خلال العقل، مؤكداً على ضرورة إدراك مفاهيم وجودية مثل مفهوم «الله» و «النفس، باعتبار أنهما من الأمور المعنوية غير المادية، ومثل مفهوم «الامتداد» و« الشكل »الماديين، وذلك في مقابل أمور وصفية تدرك من خلال حركة الحواس الخارجية تدعى ب- «الكيفيات الثانوية» كاللون والطعم والرائحة.. أما الفيلسوف الألماني « كانت » (1724-1804) فقد نَسَب إلى الذهن البشري مجموعة من المفاهيم الإدراكية كمفهومي «الزمان» و«المكان». وكان يسميها بالأمور المتقدمة على التجربة ما (قبل التجربة). وكان يعدّ فهم الإنسان ووعيه لمثل هذه القضايا خاصية ذاتية وفطرية للذهن الإنساني.
2- قد يفرق البعض بين مفهومي : «الايبستومولوجيا» و «نظرية المعرفة».. وللوقوف على سياق هذا الترادف والفرق ،وتبيان أسبابه، يراجع كتاب المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية، للدكتور جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، 1982م: ج 1، ص 33.

لا يمكن أن يكون دون البحث الأنطولوجي (= نظرية الوجود)، وجراء هذا التأكيد عرض لأبحاث العلم في إطار هيكلية منطقية؛ حيث بدأ البحث أولاً بالوجود الذهني وحقيقته وثانياً بالعلم[ والذي هو وجود خارجي]، وثالثاً: بالتفريق بين العلم والوجود الذهني، وخلص رابعاً إلى طرح محاولة لتحصيل معيار لاقتناص الواقع وكشفه(1).. فبعد أن حلّل معنى العلم (=الكشف والإراءة) وأثبت وجوده، وأنَّ العلم فعلية محضة منزهة عن أي قوة واستعداد، أثبت أنَّ العلم من سنخ الوجود لا الماهية ، وأثبت أيضاً أنَّ العلم مجرد لا مادي ولا مجال لأي نوع من أنواع التغير أو التحوّل فيه [الأعم من الدفعي أو التدريجي، بالطبع أو بالقسر، بصورة تكاملية أو تنازلية أو بمستوى واحد]، وهذا لا يعني عدم إمكانية تكامل العالم، بل العالم في تكامل ،دائم، إلا أن الصورة العلمية لا مجال لزيادتها أو نقصانها.

3- تقديمه لبرهان الصديقين بثوب جديد:

كانَ لاحتكاك الإسلام بالحضارات الأخرى، وتلاقحه ( وتفاعله) الخلاق معها فكرياً وثقافياً، أن نشأت حركات وتيّارات فكرية جديدة على واقع وعالم الإسلام والمسلمين، وكانت تلك التيارات تطرح إشكالات فكرية مستجدة ومستحدثة مناقضة لعقائد المسلمين خاصة على مستوى وجود الخالق ومعنى الحياة وهدف الوجود، الأمر الذي دفع علماء المسلمين للبحث الكلامي والفلسفي، ومحاولة الإجابة على تلك الإثارات( والاستشكالات) الفكرية، فأبدعوا كثيراً من المفاهيم والأفكار الحكيمة والبراهين الفلسفية على هذا الصعيد، فكان -على سبيل المثال- برهان الصديقين، وهو بالمناسبة من أهم البراهين التي اكتشفها هؤلاء الحكماء المسلمون لإثبات واجب الوجود جلّ وعلا.. وقد مرّ هذا البرهان بتطورات عديدة، حيث طرح في الفلسفة المشائية من أيام ابن سينا ببيان خاص، كما طرح أيضاً هذا البرهان في كلمات تلاميذه والمأنوسين بفلسفته ومنهم بهمنيار ونصير الدين الطوسي، وبقية طلاب هذا الحقل

ص: 98


1- العسر ميثاق . إسهامات السيد الطباطبائي الفلسفية . موقع مركز إجابات للبحوث والدراسات الدينية. الرابط : http://ajabaat.com

التخصصي ببيان آخر(1).. وهكذا توالت البيانات بالنضج حتى وصلت النوبة إلى الحكيم صدر المتألهين الشيرازي، الذي قام بطرحه وفقاً لمبانيه الخاصة. وعن طريق فلسفة هذا الحكيم حُلّت الإشكاليات التي كان يعاني منها في إطار البيانات السالفة.. وبعد مرور هذا البرهان بتطورات تكاملية طيلة القرون الأربعة الماضية، انتهى المطاف به أخيراً إلى حقبة الفيلسوف الطباطبائي، فقد جاء تقرير هذا البرهان في مجموع آثاره المختلفة، بإبداع مميّز لم يعتمد على أي مقدمة من المقدمات الفلسفية، بمعنى أن مسألة إثبات واجب الوجود أضحت - عن طريق هذا البرهان- أول مسألة فلسفية، ولم تعد هناك حاجة لافتراض مجموعة من المقدمات نظير أصالة الوجود، والتشكيك في الوجود، وبساطة الوجود، والمساوقة بين الوجود والشيئية.

وفي سياق التعريف بالدور النوعي الحيوي الكبير للطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية (كما تجلى في كتاب أصول الفلسفة الذي ألمحنا إلى أهميته سابقاً)، يشير الباحث الفلسفي

«مازن المطوري» إلى أنّ العلامة الطباطبائي تواصل مع الفلسفة الغربية في أكثر من موقع، وسبيل فكري، حيث لم يقتصر على فلسفته النقدية للغرب في مقالات كتابه أصول الفلسفة»، وإنما سبقته ورافقته حلقات ومحطات التقى فيها الطباطبائي مع الفكر الغربي ورجاله وسلوكه وأنظمة حضارته محاوراً وناقداً، خاصة في سلسلة حواراته ولقاءاته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903-1978)م، والتي أثمرت كتاباً بعنوان (الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان)(2). ففي هذا الكتاب التقى الشرق مع الغرب لقاءً فكرياً حوارياً(3).. ويوثق المطوري هنا أهم الإشارات التي انطوى عليها حديث الطباطبائي في هذا الكتاب حيث أنه وفي معرض جوابه لسؤال كوربان عن« سبب توقف الاهتمام الغربي بشأن البحث الفلسفي الإسلامي مع ابن رشد» حلل الطباطبائي نظام الاستشراق الفكري، مستغلاً الفرصة للإشارة (مبكرا)، إلى جملة العوامل والدوافع المتحكمة في بنيته كالسلطة والتفوق والنزوع إلى إلغاء

ص: 99


1- المصدر السابق نفسه.
2- منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي.. نقد المنهج والأصول. مصدر سابق.
3- انظر: الشيعة نص الحوار مع المستشرق كوربان محمد حسين الطباطبائي، نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416ه-.

العوالم والثقافات الأخرى تحت ذريعة العالمية والطباطبائي في هذا التحليل سبق الباحثين المعاصرين كإدوارد سعيد(1935-2003م)وغيره، الذين توفروا على تحليل بنية الاستشراق وتجلية دوافعه التي يغطّيها بستار البحث المعرفي(1).

كما تطرق السيد الطباطبائي للبحث الفلسفي النقدي في سفره التفسيري الإبداعي الكبير «الميزان في تفسير القرآن» حيث تحدّث عن عن كثير من المطالب والمباحث الفلسفية المعمقة يمكن أن تشكل بمجموعها« بنية» أو «هيكلية» فلسفية إسلامية متكاملة محكمة جاءت في سياق نقد الفلسفة والفكر الفلسفي الغربي.

ولكن أبرز ما حققه هنا هو تناوله المسألة مهمة وحيوية هي«الإدراكات الاعتبارية (كجزء من نظرية المعرفة المختلف عليها وفيها مع الفلسفة الغربية)، حيث نرى وجود تماسك وصلابة معرفية وواقعية عقلية فى معالجته .لها. فجوهر مشكلة المعرفة الإنسانية يبدأ من هنا، من تشخيص هذه المشكلة أولاً، مروراً بحقيقة العلم، وكيفية تشكله أو ما يسمى بظهور الكثرة في الإدراك، وانتهاءً بالألوان المختلفة للإدراك والتي منه الإدراكات الاعتبارية التي لاحظها الطباطبائي، وحلّل ضوابطها وخصائصها. ويشير السيد الطباطبائي (قدس سره)في كتابه الميزان(2)، إلى أن خاصية العلم الأولى هي الكشف والحكاية عن الواقع بمقدار ما يتعلق به، فإذاً: «حدود المعرفة هي حدود التعلق». لكن العلم بالواقع بحقيقة الكلمة لا يتحقق إلا بالإحاطة بجميع أجزائه من الأسباب والزمان والمكان وما يرتبط به وهذا يعني الإحاطة بجميع أجزاء الوجود وبالصانع، وهو أمر يفوق قدرة الإنسان. فالإنسان يقف مبهوتاً أمام عظمة الوجود ولا يملك من العلم به إلا مقدار ما يتعلق به إدراكه من أطرافه بل وأطراف أطرافه، ليفيد به مسيرة حياته إنها المحدودية أمام المطلق(3).. هكذا يرى السيد الطباطبائي (قدس سره)

ص: 100


1- سعيد، إدوارد. «الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق». ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة:.2002 م
2- الطباطبائي، محمد حسين. «الميزان في تفسير القرآن» الجزء 6، الصفحة : 200. الطبعة الأولى المحققة، مؤسسة الأعلمي، بيروت عام 1997م.
3- جابر آل صفا .« نظرية المعرفة، والإدراكات الإعتبارية عند العلامة الطباطبائي». طبعة دار الهادي، بيروت لعام 2001،ص:103

مشكلة المعرفة( التي يفترق في تقييمها بنيوياً مع كثير من اتجاهات الفلسفة الغربية وتياراتها، فيقيمها على العقل وبديهياته من دون الإحجام عن المذهب التجريب ومكتشفاته )في الجوهر من خلال ثنائية (الإنسان، الوجود) .. ومن هنا تتحول المعرفة إلى سعي دؤوب لا ينتهي للإحاطة بالوجود المتعالي الذي لا يحيط به شيء،« وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (البقرة: 216).

إن القضية الأبرز هنا - إذاً - هي إثبات أصل العلم كنقطة بدء لا غنى عنها، بل حيوية في نظرية المعرفة وهي تعني- كما يراها الطباطبائي في افتراق بائن، واختلاف جذري معياري لا لبس فيه عن معايير وأصول الفلسفة الغربية - أن هناك وجوداً وواقعاً خارج الذات نتلمسه من خلال الفعل والانفعال به.. وأن العلم في حقيقته مجرد من المادة، وهو من حيث كونه صور علمية فعلية لا قوة فيها (1).. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه لا إثنينية في العلم من خلال ثنائية العاقل والمعقول بل أحدهما عين الآخر. وذلك لأن العلم بالشيء يرجع إلى حصول المعلوم بصورته العلمية ووجوده بنفسه عند العالم. وبالتالي فالعلم هو عين المعلوم بالذات.

ويؤكد الطباطبائي(2) على أن المعرفة الحسية-على أهميتها-غير كافية لإثبات قضيةالإدراك الحقيقي وحقيقة العلم بالأشياء، لأن المعيار لتمييز الخطأ من الصواب ليس التجربة والحس مهما تكررت بل القياس

(والمعيار)العقلي، وإلا لزم التسلسل ما أن الكلية والعموم الضروريتين لتقنين العلوم لايمكن استفادتها من التجربة نفسها، بل بواسطة العقل الذي هو مبدأ هذه التصنيفات والأحكام، وعلى هذا فالتحويل هو على الحس والعقل معاً، وبالأخص منه العقل وبديهياته الأولى.. فكل تصديقاتنا - سواء أكانت بديهية أو نظرية - تحتاج في اكتمالها إلى القضية البديهية الأولى وأولى الأوائل«عدم اجتماع وارتفاع لنقيضين» أو الإيجاب والسلب، فإن الشك فيها لو فرض فإنه لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض». وبعبارة أخرى فإن الشك هو سلب اليقين، وهو معنى البطلان المفروض ، فلو أخذنا به في البديهية الأولى لجامع

ص: 101


1- تفسير الميزان، ج 1، ص : 115-120. مصدر سابق.
2- تفسير الميزان، ج 1 ، ص : 47-48 مصدر سابق.

اليقين لإمكان اجتماع السلب والإيجاب، فلا يجتمع الشك المفروض مع بطلان نفسه. وهذه البديهية الأولى هي الأساس المتين الذي ينظر السيد الطباطبائي لكل التصديقات العلمية النظرية والعملية،« فما من موقف علمي ولا واقعة علمية إلا ومعوّل الإنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، وكذا ظنه أو وهمه وجهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل »(1).

كما بحث الطباطبائي في تفسيره الميزان» في القضية البديهية الأساسية الأولى،وهي

«العلّة»، وكان يرى أن البراهين العقليّة ناهضة على أنّ استقلال المعلول وكلّ شأن من شؤونه - إنما هو بالعلّة، وأنّ كلّ ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنّه العلة التي تنتهي إليها جميع العلل ،والثناء والحمد هو إظهار موجود ما بوجوده کمال موجود آخر وهو لا محالة علّته، وإذا كان كلّ كمال لا محالة علّته، وإذا كان كلّ كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كلّ ثناء وحمد تعود وتنتهي إليه تعالى، فالحمد لله ربّ العالمين(2).

ويؤكد الطباطبائي على أن هذه النسبة الوجوبية إنما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علته التامة البسيطة أو المركبة من أمور كثيرة كالعلل الأربع والشرائط والمعدات. وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلّة أو إلى شيء آخر لو فرض، كانت النسبة نسبة الإمكان بالضرورة، بداهة أنّه لو كانت بالضرورة كانت العلّة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علّة تامة.. ففي عالمنا الطبيعي نظامان نظام الضرورة ونظام الإمكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها، ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة، لا ذات ولا فعل ذات، ونظام الإمكان منبسط على المادّة والصور التي في قوّة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الإنسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علّتها، وهي الإنسان والعلم والإرادة ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وارتفاع الموانع وبالجملة كلّ ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجباً ضرورياً،

ص: 102


1- تفسير الميزان، ج 1، ص : 49. مصدر سابق.
2- تفسير الميزان. ج: 1، ص: 24. مصدر سابق.

وإذا نسب إلى الإنسان فقط، ومن المعلوم أنّه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة

بالإمكان(1).

.. وفي هذا السياق ينتقد السيد الطباطبائي الماديين من فلاسفة العصر الحاضر، ممن يعتقدون بشمول الجبر لنظام الطبيعة، وينكرون الاختيار، مؤكداً على بطلان دعواهم وتفكيرهم قائلاً« بل الحق أنّ الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادّها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الإنسان وأفعاله، فبناؤه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر »(2) .

وعندما تختلف الرؤى الكونية ،ما بين رؤية كونية توحيدية تتقوم بجوهر وعلة وجودية أولى ،مبدأ الوجود واجب الوجود، وبين نظرية ورؤية كونية تقوم على معيار وضعي بشري ينظر للعلم كمقدس من الطبيعي أن تختلف المفردات الاعتبارية والتحولات الجارية والقيم والمعايير المبتغاة القائمة ..فمثلاً قضية الحرية، التي هي من أهم القضايا في الوعي المعرفي الغربي،يشير الطباطبائي في تفسيره«الميزان» إليها،(طبعاً على خلفية التطبيقات الاجتماعية لنظريته في الادراكات الاعتبارية للمجتمع )على أساس أن معناها جلي وواضح في أذهان البشر، وهي أمنيتهم منذ قديم التاريخ، إلا أن تداول هذا المصطلح والشعار حديث الولادة منذ قرون معدودة إبان النهضة الأوربية. فالإنسان كائن حي ذو شعور وإرادة تبعثه على العمل والفعل، وقد جعل تكويناً مختاراً فلا يملك إلا أن يكون كذلك، أي أنه مضطر للاختيار، لكنه أمام كل حدث يواجهه مطلق بحسب هذه الفطرة والطبيعة في أن يفعل أو أن يترك.وهذه هي الحركة التكوينية عند الإنسان التي لا مجال لإبطالها، لأن انتفاءها يعني

ص: 103


1- الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص : 108. م. س.
2- الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن الجزء 1 ، ص: 105-110 الطبعة الأولى المحققة، مؤسسة الأعلمي بيروت عام 1997م.

انتفاء إنسانيته(1). وهذه الحرية التكوينية تطرح أمام الإنسان نوعاً آخر من الحرية على صلة وثيقة بحياته الاجتماعية هي الحرية التشريعية أو الاجتماعية. وهنا لا بد من التمييز بين موقفين أمام الإنسان:

الموقف الأول : تجاه العلل والأسباب التكوينية الكامنة في الطبيعة الإنسانية فلا يملك الإنسان أمامها أية حرية ، بل هي-كما يؤكد السّيّد الطباطبائي- تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلبه ظهراً لبطن وهي التي بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما يحبه ويرد ما يكرهه، بل كما أريد لا كما أراد. إن أعمال الإنسان الإرادية والاجتماعية تخضع في حدود إمكاناتها لهذه الأسباب والعلل، فليس كلّ ما يريده الإنسان أو يأباه يتمكن من تحقيقه أو منع وقوعه. فهذه الأسباب التكوينية تثير فيه الحاجة إلى الغذاء والمواد والماء وسائر حاجاته المادية الأخرى. غير أنها تؤثر أيضاً في حياته القانونية والتشريعية حينما توجب التشريعات التي تكفل له هذه الحاجات والمصالح التي لا يمكن إهمالها.

الموقف الثاني : هو تجاه أفراد نوعه، حيث القاعدة الأساسية التي نطق بها القرآن الكريم «وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » (آل عمران: 64). فالإنسان حرّ أمام الآخرين، فيملك نفسه وأفعاله، حيث الحرية هنا موهبة الطبيعة التي خلقها الله تعالى. لكن الحاجة إلى الاجتماع الإنساني تقيّد هذه الحرية من ناحيتين، أولاهما، احترام حرية الآخرين لأن لهم بدورهم ،حقوقاً، ف-»كل حق يقابله واجب»، وثانيتهما، ما تتطلبه الحياة الاجتماعية من أنظمة وقوانين عامة تهدف إلى الحفاظ على مصالح المجموع، وتدفع بالأوضاع نحو التقدم الاجتماعي.

والدين -كما يؤكد الطباطبائي- يرى مملوكية الإنسان المطلقة لله تعالى، فهو لا يملك ابتداءً أية حرية في قباله بل هذه العبودية هي التي تعطيه الحرية أمام ما سواه من الناس كما في قوله تعالى:«أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » (آل عمران (64). أي أنّ مالكيته المطلقة تسلب أي

ص: 104


1- الميزان في تفسير القرآن مصدر سابق، ج 1، ص: 116.

حرية متوهمة للإنسان بالنسبة إلى ربه، كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بني نوعه.. فالإنسان إنما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، وأما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة، وخاصة المصالح الاجتماعية العامة-على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب - فلا حرية له البتة(1).

وبالانتقال إلى موضوع آخر مهم تناوله السيد الطباطبائي في تفسيره القيم «الميزان، نجد استدلاله (وبحثه) الفلسفي حول طبيعة وأصل النظرية الأخلاقية التي أخذت نقاشاً مهماً في فلسفة الغرب، إذ يعتبرها ذات علاقة بنائية بنيوية مع إدراك العقل الإنساني لمفردات الحسن والقبح ، فالعدل حسن والظلم قبح، والجود والكرم حسن والقبح والبخل «ومسك اليد »قبح .... وهكذا. ومعنى الحسن فيها أنه ينبغي فعلها والالتزام بها، ومعنى القبح أنه ينبغي أن لا تفعل فالمنظور في هذه المفردات هو مقام العمل عند الإنسان وحركته في الأشياء والأفعال. ولأن العقل يدرك هذا الحسن والقبح في مقام الحركة والعمل سمي ب-

(العقل العملي) لتمييز هذا النوع من الإدراك ومتعلقاته من النوع الآخر الذي ينظر فيه إلى نفس الإدراك والمعرفة أي( ما ينبغي أن يعلم)، ويسمى ب- (العقل النظري). وغاية هذا الإدراك عند السيد الطباطبائي هو اقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة(2) . فكلما حصل الإنسان على المحاسن وتنزه عن القبائح، ترقى في سلم الكمال أكثر ، وتمكن من تملك أسباب القوة والقدرة والإحساس بالعناصر الحية في هذا الوجود وخصائصها وأدوارها والاستفادة منها. ولذا لا قيمة لهذه الإدراكات إلا بالعمل.

بما يعني حسب الطباطبائي، وعلى نقيض في المبدأ من الفلسفة الأخلاقية الغربية التي تنتهج الأخلاقية الوضعية النسبية الفردية كمبدأ ومنتهى، أنّ المعيار الأخلاقي يؤول إلى معيار فطري ثابت ومُطلق بطبيعته، ويرفض النسبية التي نادت بها كما قلنا- مختلف النظريات الأخلاقية الحديثة التي نشأت في الغرب(3). وأما اعتبارية

ص: 105


1- تفسير الميزان، مصدر سابق، ج 10، ص: 370-372
2- الميزان في تفسير القرآن مصدر سابق، ج:2 ، ص: 115.
3- تفسير الميزان م. س، ج: 2، ص: 115

الأخلاق فإنما هي لجهة «إعتبارية الإدراك فيها»، حيث يتعلق بالنسبة الوجوبية أو التحريمية أو الأمر والنهي.. والتي هي من الاعتبارات العامة(1). وهذا الثبات في الأخلاق وآدابها وفضائلها، يقتضي ثباتاً أو ينتج ثباتاً في القيم لا يبطله أي اختلاف حوله في المجتمعات.. فالمعيار الأخلاقي يحاكي أفراض وغايات المجتمع بحسب خصوصياته الاجتماعية والثقافية والطبيعية، وهو ما يترك تأثيره على الباطن والشعر لينقلها من حال إلى حال، محاولاً تبديل الصورة الشعورية ليتبدل معها عنوان الحسن والقبح، وبالتالي نوع الإدراك .. لكن الحسن والقبح يبقى المعيار الأخلاقي على كل حال، ويكتسب صوابيته في مدى موافقته- وهنا نقطة الافتراق عن النظرية الأخلاقية الغربية- للإلهامات الفطرية التي تعطي معنى الثبات(2).. وشرط حصول هذه الأخلاق (بما هي ملکات نفسانية راسخة) هو العمل المتكرر والتدرب والتمرن عليها، وذلك بتكرر النسبة الاعتبارية في انطباقها على العمل الإرادي(3).

وأما فلسفة الطباطبائي فيما أورده في تفسيره «الميزان» حول المرأة، فيبدأ بطرح رؤية وواقع المرأة لدى الشعوب والحضارات والأمم الأخرى، ويقارن بينها وبين واقعها في الإسلام..

ويسجل الطباطبائي وقائع وجملاً من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره.. ويستنتج من جميع ذلك :

أولاً - أنهم كانوا يرونها إنساناً في أفق الحيوان العجم، أو إنساناً ضعيف الإنسانية منحطاً لا يؤمن شرّه وفساده لو أطلق من قيد التبعية، واكتسب الحرية في حياته، والنظر الأول أنسب لسيرة الأمم الوحشيّة والثاني لغيرهم.

وثانياً - أنّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، وإنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء

ص: 106


1- الميزان المصدر نفسه.
2- تفسير الميزان م. س، ج: 1، ص: 257.
3- المصدر السابق، ج 1، ص: 258

عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترق الذي هو من توابع المجتمع الغالب ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين.

وثالثاً- أنهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها.

ورابعاً- أنّ أساس معاملتهم معها - فيما عاملوا - هو غلبة القوي على الضعيف.. وبعبارة أخرى قريحة الاستخدام..

هذا في الأمم غير المتمدنة ، وأما الأمم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرّها، وربما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الأمم والأجيال.

وينطلق الطباطبائي في معالجة هذا الموضوع من قاعدة فكرية «أخلاقية-اجتماعية» رصينة، وهي أنّ مجمل تشريعات الإسلام حول المرأة - وعموم الاجتماع وما يتصل به من وظائف وتكاليف اعتبارية متفرعة - تقوم على خصوصية البنية الإنسانية لديها، كجوهر ذاتي، وهي التي هدَتِ الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد، كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة.. ويؤكد الطباطبائي على أنّ التعاليم والأحكام ومنظومة الحقوق المتعلقة بالمرأة هي تعاليم وحقوق فطرية، كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ﴾(طه:50).. ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ (الأعلى: 3). ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْواها ﴾ (الشمس: 8)، إلى غير ذلك من آيات القدر.. والاجتماع بجميع شؤونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أم اجتماعاً فاسداً ينتهي بالآخرة إلى الطبيعة، وإن اختلف القسمان من حيث إنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره، بخلاف الاجتماع الفاضل.. فهذه

ص: 107

حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث، وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبيّنه بأبدع البيان(1).. فالأشياء-ومن جملتها الإنسان-إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خُلقتْ له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقا تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم : 30).

وبالنظر للاختلاف الطبيعي في الخلق، فرق الإسلام بينهما(ين الرجل والمرأة) في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بجوهر الخلق والطبيعة الذاتية..وهذا الاختلاف هو كمال التساوي، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كلّ ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حقٌّ حقَّا، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى:﴿ ...وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ .. ﴾ (البقرة: 228).. فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.

وينتقد الطباطبائي وضع المرأة في الفكر (والمجتمع) الغربي، مشيراً إلى أن الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الاجتماعية، وهي متوسطة متخلّلة، سطة متخلّلة، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.. وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.. والرأي العام عندهم تقريبًا : أنّ تأخر المرأة في الكمال والفضيلة

ص: 108


1- المرأة بين الإسلام وسائر الأمم من وجهة نظر العلامة الطباطبائي».. الرابط : http://motaghin.com/Ar_default.asp?RP=M_Content.aspP1N=ContentIdP1V=5901R=23331 63L=ArFT=False ص: 108

مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل ... ويتوجه عليه : أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطبعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.. ويؤيّد ذلك أنّ المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة، ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدّم الرجال وتؤخر النساء(1).

فلسفة الطباطبائي النقدية من خلال كتابه أصول الفلسفة:

يمكن القول بأنّ المحطة الأهم والمعلم الأبرز على طريق نقد الفلسفة الغربية الذي

انتهجه السيد الطباطبائي بصورة معيارية رصينة على خلفية شيوع المذهب المادي والاتجاهات التغريبية في إيران والمنطقة في وقتها، جاء بعد تأليفه لكتاب «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» الذي وجّه من خلاله نقداً فلسفياً صارماً للطروحات الفلسفية والمذاهب الوضعية الغربية، مبيناً مغالطاتها المفاهيمية والعقلية، في منهجيتها وأساليب استدلالها معتمداً في ذلك كله على ميراث المذهب العقلي في المعرفة الذي يستند للمقولات التصورية والتصديقية الضرورية، ومبتعداً -خلافاً لقناعات ومعطيات أنصار مدرسة الحكمة المتعالية التي درسها بعمق عن أساليب وطرق الكشف الذوقي والشهودي ومصطلحات التصوف والعرفان والإشراق.. أي أن الطباطبائي وإن كان مدرسياً ينتمي السلسلة الحكمة المتعالية - التي شيّد أركانها الفيلسوف صدر الدين -الشيرازي - إلا أنه في كتاباته الفلسفية (لاسيما أصول الفلسفة )جرى وفق الأسلوب المشائي، وذلك بالاعتماد على البرهان العقلي دون الاعتناء بالذوق والتصوف، وإدخال مصطلحات عالم العرفان ولذا قيل بحق الطباطبائي: «صدرائي المبنى سينوي المشرب»(2) .

ص: 109


1- تفسير الميزان، مصدر سابق ج: 2، ص: 261-277.
2- الكلبايكاني، علي الرباني. إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة». ترجمة الشيخ محمد شقير، الجزء: 1، ص: ،61 دار زين العابدين 2011م

لقد كان لالتزام العلامة الطباطبائي بمعايير المذهب العقلي القائم على بديهيات وتصورات تصديقية أولى دوره الهام في نقد بنى الفلسفة الغربية التي حاولت مختلف تياراتهاوأجناسها الفكرية استثمار تطورات العلم التجريبي (المرتكز على المذهب الحسي التجريبي لتوجيه ضربة قاضية للميتافيزيقيا والتفكير الديني وعموم التفكير اللاهوتي الذي- كان في نظر تلك الفلسفات - مجرد خرافات وأساطير وأضغاث أحلام..

لقد انقسم الفلاسفة الغربيون( في هذا المجال) إلى صنفين أو فئتين، الأولى كانت تعتقد بأصالة العقل في المستوى الروحي، وامتلاكه القدرة على إدراك مفاهيم الكون وحقائق الوجود ذاتياً وجوهرياً دون الحاجة إلى اعتماد قضايا الحس وقوانين المادة.

ويأتي كل من الفيلسوفين («ديكارت» و «كانت»)(1) على رأس المنتمين لهذه الفئة. أما الفئة الثانية(2) فكانت تقول بأن الإنسان خُلق وليسَ في ذهنه شيء يذكر، بل إنّ صفحة ذهنه بيضاء لم تُخط فيها كلمة واحدة أي أن الإدراك العقلي مادي بالذات. وقد قال بذلك الفيلسوف الانكليزي المعروف «جون لوك» (1632-1704) الذي قسم المعرفة إلى قسمين معرفة وجدانية وتأملية (روحية)، ومعرفة حسية ناشئة من وقوع الحس على المعنى المعلوم(3). وكان يعتقد بأن الذهن البشرى لا يستقبل إلا الإحساسات والإدراكات الحسية، أما مفاهيم «العلة» و«السببية» و«الجوهر»

ص: 110


1- كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت» (1596-1650) (صاحب مقولة: أنا أفكر إذاً أنا موجود) يعتقد ب- أصالة العقل»، وانطلق ليبرر إيمانه الذاتي والعملي من خلال العقل، مؤكداً على ضرورة إدراك مفاهيم وجودية مثل مفهوم «الله» و«النفس»، باعتبار أنهما من الأمور المعنوية غير المادية، ومثل مفهوم« الامتداد» و «الشكل» الماديين، وذلك في مقابل أمور وصفية تدرك من خلال حركة الحواس الخارجية تدعى ب-« الكيفيات الثانوية» كاللون والطعم والرائحة.. أما الفيلسوف الألماني« كانت» (1724-1804) فقد نَسَب إلى الذهن البشري مجموعة من المفاهيم الإدراكية كمفهومي«الزمان» و«المكان». وكان يسميها بالأمور المتقدمة على التجربة (ما قبل التجربة). وكان يعد فهم الإنسان ووعيه لمثل هذه القضايا خاصية ذاتية وفطرية للذهن الإنساني.
2- لم نتعمق زمنياً في متابعة توثيق أقوال الفلاسفة من ذوي الاتجاه الحسي أو النظرة المادية للعقل والإدراكات الحسية، فمثلاً كان الفيلسوف «أبيقور» يقول :« لا يوجد شيء في العقل إلا كان قبل ذلك متحققاً في الحس». وهذه الجملة نفسها ردّدها من بعده، بقرون طويلة، الفيلسوف التجريبي «جون لوك».
3- كرم يوسف.« تاريخ الفلسفة الحديثة». ص : 147 ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة مصر / القاهرة، طبعة عام 2012م. راجع أيضاً: درويش، صبحي . الفيلسوف والمفكر السياسي« جون لوك». رابطة أدباء الشام.. الرابط : http://www.odabasham.net/show.php?sid=16724

و« الأعراض» و «الأحوال» فلا يستقبلها الذهن من الخبرة، بل يتوصل إليها عن طريق

التركيب والدمج بين ما تلقاه من مدركات(1). واشتهر «جون لوك» (زعيم الحسيين) بعبارته المشهورة :« إذا سألك سائل : متى بدأت تفكر؟ فيجب أن تكون الإجابة: عندما بدأت أحس».

وقد عالج، بعد ذلك -بعض المفكرين المتخصصين- هذه المسألة من خلال البحوث والدراسات العلمية التجريبية التي أريد لها أن تصبغ الإدراك العقلي بالصبغة المادية البحتة من حيث المستويات الخاصة في الأحداث والمعادلات الفيزيائية الكيميائية والفيزيولوجية.

لقد عمد الطباطبائي إلى تقديم مقاربات ورؤى جدية عالجت زوايا متعددة (لم يسلط الضوء عليها سابقا) ترتبط بمنهج العلم التجريبي، في أكثر من مقالة في أصول الفلسفة(2)، مشدداً على ضرورة الفصل والتمييز بين الفلسفة وباقي العلوم، ذلك أن الفلسفة تختلف عن العلوم منهجاً وموضوعاً وغاية، فهي تتخذ من الوجود بما هو موجود موضوعاً لها، أي الوجود بما له من صفة الإطلاق دون لحاظ خصوصية يتصف بها، بينما تتخذ العلوم دائرة أضيق في بحث الوجود، وتتمحور مسائلها في مواضيع محددة، متحيّثة بحيثيات خاصة.

إن الفلسفة فى الإسلام قائمة على العقل، لا على التجربة (وإن كانت تستفيد من قضايا العلم المادي لانتزاع قضايا فلسفية)، لأن طبيعة الحكم الفلسفي مرتبطة بشروط البرهان العقلي وإدراكاته وتصوراته الأولى، بالدرجة الأولى.

وهذا لا يعني مطلقاً عدم الأخذ بأسباب العلم المادي، وبمسلّماته الحديثة، ولا يعني التنافر والتنابذ بين الفلسفة والعلم، أو وجود قطيعة ( معرفية) بين الحكمة النظرية والعلوم المادية، كما لا يعني أيضاً التطابق بينهما . لأنّ المجالين مختلفان،

ص: 111


1- بيومي، أشرف الاتجاه النقدي في الفكر الفلسفي المعاصر». ص: 148 ، دار المعرفة الجامعية مصر / القاهرة طبعة : 2009م.
2- منازل الفلسفة الغربية ... مصدر سابق.

ولكل سياقاته ومعاييره وأدواته ومناخه النظري والعملي النموذجي الخاص به. مع العلم أن الاتجاهات المادية الغربية(التي استثمرت فيها فلسفة الغرب الوضعية)تجاوزت- كما يشير الطباطبائي ناعياً وناقداً -حدود العلم وضوابطه، فوقعت في خلط واشتباه، بمعنى أن لم تكن وفية للعلاقة بين العلم والفلسفة ولم تراع حرمتها(1).

من هنا، معالجة مسألة الإدراك العقلي-في جوهره الفلسفي- ليست من شأن أواختصاص تلك العلوم المادية فقط. لأنّ العلم المادي ينحصر نشاطه الفكري وأداؤه العملي في نقطة مركزية واحدة معينة، وهي أنه يبحث- من خلال قوانينه الخاصة به، و مخابره وأساليبه التجريبية ووسائله العلمية المعيارية الحسية- في ماهية الأشياء كما هي في الواقع أي كما تظهر وتبدو في الواقع العياني التجريبي، وتظهر للإدراكات الخارجية مع دراسة آثارها ونتائجها الظاهرة والمضبوطة بواسطة الحواس المادية، وتجارب المختبرات لذلك لا يمكن أن نثبت أحداث الأجهزة المتعلقة بماهية التفكير والإدراك (وظواهرها المتنوعة )بالاستناد إلى ما تقدمه تلك العلوم من وسائل وأدوات وقوانين، على أساس أنها هي نفسها الإدراكات التي نحسها من تجاربنا في الواقع العام وإنما الحقيقة التي لا يرقى إليها شك ولا جدال هي أن هذه الأحداث والعمليات الفيزيائية والكيميائية والفيزيولوجية، ذات صلة بالإدراك وبالحياة السيكولوجية للإنسان، وهي تلعب دوراً فعالاً في هذا المضمار .. بمعنى أن العلم (بما هو معادلات وقوانين ومعايرات وقياسات ونظريات وتجارب ومختبرات تبحث في الجانب الحسي التجريبي) لا يثبت مادية الإدراكات العقلية، على أساس أنّ هناك فرقاً واضحاً بين كون الإدراك شيئاً تسبقه أو تقارنه عمليات تمهيدية في مستويات مادية، وبين كون الإدراك بالذات ظاهرة مادية ونتاجاً للمادة في درجة خاصة من النمو والتطور والحركة بحسب ما جاء في شروحات الشهيد الصدر(2)، والتي استند فيها إلى طروحات العلامة الطباطبائي.

ص: 112


1- ينظر إلى المقالة الأولى من كتاب أصول الفلسفة. مصدر سابق.
2- الصدر، محمد باقر «فلسفتنا». ص : 323 ، مؤسسة دار التعارف للمطبوعات والنشر، لبنان بيروت، طبعة عام 1992م.

إضافة إلى أن النظرية الحسية التي استندت إليها الفلسفة الغربية في تقريراتها ومعاييرها، تخفق إخفاقاً ذريعاً في إرجاع جميع قضايا الإدراك الذهني البشري ومفاهيمه وبديهياته إلى المادة، لأن تلك المفاهيم هي مفاهيم« انتزاعية» أولية وثانوية، ينتزعها العقل البشري من خلال تأمله وملاحظته لحركة الواقع الكوني والإنساني، وعلى ضوء المعاني المحسوسة أيضاً.

في ضوء ذلك، كان تمييز الطباطبائي للمدركات الحقيقية الاعتبارية، لأن الخلط بينهما في البحث الفلسفي يوجب الاضطراب في تصور المسائل الفلسفية فضلاً عن التصديق بها، وقد أدى هذا الخلط في علوم مختلفة إلى التباس وتباين.. ولذا اضطلع العلامة الراحل الطباطبائي بمهمة كشف النقاب عن جذور هذه المسألة، وتوصل (كما رأينا) إلى تفسير محدد للفرق بين هذين النوعين من الإدراكات، وأكد على أن البرهان لا يجري في الإدراكات الاعتبارية، وعلى هذا فهي خارجة عن البحث الفلسفي(1).

مراجع البحث:

بيومي، أشرف«الاتجاه النقدي في الفكر الفلسفي المعاصر». دار المعرفة الجامعية. مصر / القاهرة، طبعة: 2009م.

جابر آل صفا.« نظرية المعرفة ، والإدراكات الإعتبارية عند العلامة الطباطبائي». طبعة دار الهادي، بيروت لعام 2001.

سعيد، إدوارد« الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق». ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة: 2002م.

الصدر، محمد باقر. «فلسفتنا». مؤسسة دار التعارف للمطبوعات والنشر، لبنان/ بيروت، طبعة عام 1992م.

ص: 113


1- منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي.. مصدر سابق

صليبا، جميل.« المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية ».دار الكتاب اللبناني، 1982م.

الطباطبائي، محمد حسين. «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي». دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت لعام 1988م.

الطباطبائي، محمد حسين« الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان». نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416ه-.

الطباطبائي، محمد حسين «الميزان في تفسير القرآن». الطبعة الأولى المحققة، مؤسسة الأعلمي، بيروت عام 1997م.

الكلبايكاني، علي الرباني.« إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة». ترجمة: الشيخ محمد شقير، دار زين العابدين 2011م.

كرم، يوسف.« تاريخ الفلسفة الحديثة». مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة مصر / القاهرة، طبعة عام 2012م.

المطوري، مازن «منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي: نقد المنهج والأصول». مجلة الاستغراب العدد: 2، كانون أول لعام 2015م.

ص: 114

معمارية الهوية الفكرية الإسلامية عند الفيلسوف محمد باقر الصدر و دورها في تفكيك التغريب

الدكتور رحيم محمد الساعدي

(1)

ضوء على مفهوم الهوية والتغريب

في المعجم الفلسفي تعرف الهوية بأنها حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وصراع الهوية يعكس دائرة الشعور بالانتماء ومعارضة الثقافة الغربية(2)

وقد تعني الغربة النزوح عن الوطن اما الاغتراب فله مداليل عديدة منها مثلا لدى اليونان حرمان الإنسان من حقه القانوني أو الطبيعي وتعني عند أفلاطون ابتعاد الإنسان عن عالمه الأصلي وهو عالم المثل فصار في عالم طارئ بدون إرادته بانتقاله الى الأرض (3).

و یراد ب- التغريب، في اللغة العربية، النفي والإبعاد عن البلد والتغريب: النَّفْي عن البلد... ومنه الحديثُ : أنَّه أَمَرَ بتَغْريب الزاني، والتغريب: النفي عن البلد الذي وَقعَت الجنايةُ فيه. يُقال: أغربته وغَرَّبته إذا نَحَيْته وأبعدته... وغَرَّبَه وغَرَّبَ عليه: تركه بعدًا ويستعمل علماء اللغة (الإغْراب) و(التغريب) بمعنى واحد، وهو التنحية والإقصاء من الوطن، وإذا ما اقتصرنا على الدلالة المعجمية للتغريب، فلابد من ربط هذا المعنى بالدلالة السياسية والإيديولوجية والحضارية للكلمة فالتغريب انتقال

ص: 115


1- قسم الفلسفة، كلية الآداب، الجامعة المستنصرية
2- متولي موسى الهوية الإسلامية في الغرب ( المشكلة والحل ( مجلة الرائد العدد: 201، 1419 1998-ه
3- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، دار الهادي، ط1، 1422ه- 2001، ص 25.

إجباري وابتعاد اضطراري، لا يملك الإنسانُ السلطة لرَدّه أو دَفْعه، بل يُفرَض عليه فرْضًا، ويسمي بعض الدارسين هذا النمط من الارتحال ب- غربة القهر والواقع أن دلالة التغريب تتغير بانتقالنا من الإطار اللغوي إلى الأطر الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتتشعب معانيه مع توالي الأيام، فالتغريب، كما ندركه في الوقت الحاضر، ليس هو التغريب الذي كان يعرفه الجوهري أو ابن منظور(1).

وفي المجال الفلسفي في العصور الحديثة المصطلح يدل على التنصل من الدين فالاغتراب الديني عند هيجل هو اغتراب الإنسان عن ذاته وواقعه بشكل وهمي وهو الدين أو الإله وهكذا عند فيورباخ(2) .

ويتخذ التغريب أشكالا مختلفة، لعل أخطرها (التغريب الثقافي)، لأنه إبدال ثقافي يبغي إخلال ثقافة أجنبية محلَّ الثقافة المحلية الأصلية، مع ما يرافق ذلك من مظاهر التبدَّل والتغيير، وعندما يتحدث الباحثون والمفكرون المسلمون عن التغريب، فإنهم يشيرون إلى واقع يومي مشاهد في الحياة المادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية، واقع صنعته ظروف تاريخية عصيبة، وتضافرت على نسج خيوطه عوامل كثيرة، وبالنظر إلى عُمق ظاهرة التغريب في حياتنا الثقافية المعاصرة، فإننا نرى هؤلاء الباحثين يستعملون عددًا من المصطلحات للدلالة عليه نحو الاغتراب الثقافي و (الإلحاق الثقافي) و(الاستلاب الثقافي) ، و(المَسْخ)، ... ومن المؤكد أن مصطلح (التغريب) بدلالته المعاصرة المعروفة، من نتاج الفكر الغربي، ويرتبط بالحركة الإمبريالية الأوروبية التي انطلقت في القرن التاسع عشر. يقول محمد مصطفى هدارة إن (اصطلاح التغريب )ليس من ابتكارنا في الشرق، ولكنه ظهر في المعجم السياسي الغربي باسم (Westernyation) وكانوا يعنون به نشر الحضارة الغربية في البلاد الآسيوية والإفريقية الواقعة تحت سيطرتهم عن طريق إزالة القُوى المضادة التي تحفظ لهذه البلاد كيانها وشخصيتها وعاداتها وتقاليدها،وأهمها الدين واللغة، وفي زوال هذه القوى ضمان

ص: 116


1- د. فريد محمد أمعضشو، التغريب.. مفهومًا وواقعا ، مجلة الوعي الإسلامي العدد 553 السنة 2011م، الكويت http://www.alwaei.com/site/index.php?cID=487
2- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، ص 26

لاستمرار السيطرة الغربية السياسية والاقتصادية حتى بعد إعلان استقلال هذه البلاد

وتحررها من نير الاستعمار الغربي ظاهريًا (1) ، وهنا نلمس دور السياسة في استخدام الفكر وخطر ذلك على مصالح الشعوب.

ولا انفصام بين التغريب والاغتراب فهناك اتحاد في الجذر وتباعد في الدلالة كلمااتسعت مجالات الفكر ومن معاني الاغتراب أيضا هو التحول الى الآخر سواء أكان من الذات لتغترب عنها كآخر أم انفصام الذات عن العالم أو المجتمع الذي تعيش فيه. والتغريب مصدر تغرب وهو مطاوعة الفعل غربة فتغرب ويكون بفعل فاعل وباستدراج مستدرج (2).

وربما قاد الاغتراب الى التغريب فعندما لا تكون الذات منسجمة مع واقعها النفسي أو الفلسفي أو الديني فهي مهيأة للاغتراب والتغريب يطلق على حالات الانبهار والتعلق والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية والأخذ بالقيم والنظم الغربية (3).

التغريب بوصفه تحديا للهويات :

لا شك في أن الظروف السياسية والوقائع الاجتماعية التاريخية هي التي تقرّر مسيرة الحضارة ، والفعل الثقافي فيها على الخصوص، إن كان في نهوضها، أو في جمودها، وحتى في اضمحلالها وزوالها، والعوامل التاريخية، والتاريخ يدلّنا على أن ظروف نشوء الحضارة وازدهارها أو اضمحلالها متعلقة بعلاقتها مع بيئتها وموقعها ونشأتها، وطرق تعاملها مع ماضيها وحاضرها، وكيفية نظرتها إلى مستقبلها، مستمدة من روحيتها وإيمانها بعناصر الوعي لموقعها في العالم، ولبناء علاقاتها مع الآخرين وترسم مستقبلها مع الآخرين لتأمين مصالحها، باعتبارها مصالح مجتمعاتها، أو مصالح كل فرد فيها أو باعتبار مصالح المجتمع هي محصلة مصالح الأفراد، أو

ص: 117


1- د. فريد محمد أمعضشو، التغريب.. مفهومًا وواقعا ، مجلة الوعي الإسلامي ، المصدر السابق.
2- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، ص 390
3- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل،، ص 31

باعتبار مصلحة المجتمع تتجاوز مصالح الأفراد(1).

ويعلل بعض الباحثين من أنَّ الأسلوب المنظم الإيجابي الذي ينطوي عليه سلوك إنسان واحد يمكن أن يكون مؤثراً على آلاف البشر الآخرين سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، فكيف إذا ارتبطت الحالة بمجتمع إسلامي كبير، من هنا نتفهم عدم غفلة الاتجاهات الأخرى المعادية وسعيها الدائب (كما تعترف بنفسها) في الكيد لإطفاء شعلة النور التي يأبى الله لها الانطفاء (2)

وعندما شعر الغرب بخطورة المد الإسلامي في القرن الراهن توجس خيفة، فاخذ يخطط بجد لتحجيمه والقضاء عليه من موقع القوة والغرور والتعالي، فصدرت 1989م نظرية نهاية التاريخ في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة(3)

وكانت تيارات الفكر العربي الإسلامي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى هي بشكل عان تتمثل بتيار التجديد الديني والتيار الثقافي الذي يمزج بين الشرق والغرب كما عند الطهطاوي وخير الدين التونسي والتيار الثقافي الغربي لليسوعيين وتيار الجامعة الإسلامية للأفغاني والكواكبي وتيار الجامعة العربية (4).

والتيار المازج بين الشرق والغرب أراد الاقتباس من الغرب بالترجمة والتعريب وخلق الرأي العام وتنبيهه بالصحافة ورفع مستوى الشعب بالتربية والتعليم وتبسيط اللغة العربية وتحريرها من السجع والزخرف والدعوة الى تعليم المرأة وتصحيح المناهج(5) .

إن الغرب نفسه يطرح مفهوم تحدي الهوية الذي يتداخل وحضارته فقد وجد(ريتشاركوك) و(كريس سميث) في كتابهما (انتحار الغرب) أن الغرب مهدّد بالتلاشي والاندثار، ليس بموجب قوى خارجية تهدّده ، بل بموجب تقاعس الغربيين

ص: 118


1- مجلة الاستغراب المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ، العدد ،2، السنة 1437، 2ه-2016-م، بيروت، ص 75.
2- محمد حسين الطباطبائي، الإسلام والأديان الأخرى، مجلة الاستغراب - العدد 3 - 2016م - بيروت ص 307.
3- ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، دار الهادي، ط 1،1421ه- 2001م، ص48.
4- أنور الجندي، تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين 1920-1940م، دار الاعتصام، ص 27.
5- أنور الجندي تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين، ص 31.

عن نصرة حضارتهم الملهمة والرسولة في نشر عقيدتها الليبرالية على صعيد العالم كله، ولا بد من تدارك الموقف، والعودة بالحضارة الغربية إلى مجدها التليد، ويحدد المؤلفان المرتكزات الأساسية للحضارة الغربية ومنها أهمية وعي الغرب لذاته، ،ولهويته فبالإضافة إلى الفردانية والليبرالية القائمة على الفرد والإحساس بهوية الجماعة، وهي صيغة الغرب، المركبة بسحر ساحر من أوروبا كهوية قومية إقليمية وأميركا كهوية حليفة ، ولا بأس من جمع أستراليا ونيوزيلندا مع هذا الغرب الذي تقع عليه وحده، وبهذا الخليط ، تقع مسؤولية تحضير العالم ورفعه، بالتبعية اللازمة، إلى المصاف الذي يقترب فيها من الغرب والحضارة الغربية، وان أي بديل، باعتبارهما، «اللهوية الغربية هو إما شكل من أشكال الهوية التي تقسم الغرب وتقود إلى عالم كريه وخطر، أو هي هوية ليست هوية جماعية مشتركة (1) .

وربما ترد إشكالية. ان هناك من تفزعهم عملية التجديد ويعدونها حركة تمرد وشقاق على الأمة وهدفها الإطاحة بتراث الأمة وهويتها، لكنهم برأيهم هذا إنما يصدرون عن فهم يقرن التجديد بالاغتراب الفكري والإيديولوجي وهو فهم ينطلق من تشبع بعض النخب بالقيم والمفاهيم الغربية وانبهارها بكل شيء وافد من أوربا ودعوتها للتخلي عن الموروث وقطيعة الماضي وسلخ القيم والأفكار والتاريخ لاستبدالها بالقيم الوافدة من خارج الوطن (2) .

إلا ان الانغلاق على الذات هي إشكالية تعم كلا الحضارتين فالتعالي والفوقية الذين ابتليت بهما الحضارة الغربية لا تسمح لها بالانفتاح على الحضارات المناوئة،

وعلينا نحن أيضا ان لا ننغلق على الذات الى حد رفض كل ما لدى الغرب (3) .

ص: 119


1- مجلة الاستغراب المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العدد 2 السنة 1437، 2 ه-2016-م، بيروت، ص 81. يصف بعضهم ملامح الثقافة الأوربية بالمركزية أو التمحور حول الذات والعدوانية أو الدموية ثم المكر والخداع والحقد واللادينية وأيضا الجنبة اللاخلاقية انظر شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل ، ص 50 - ص 73.
2- ماجد الغرباوي إشكالية التجديد ، ص6
3- ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، ص 51.

ومع وجود هذا التخوف فان البعض يحاول ان يؤطره بعدد من القواعد أو الأفكار الراهنية التي تفسر النزوع الغربي ومحاولته إثبات هويته بانتزاع أو جذب هويات الحضارات الأخرى.

ولقد عرضت قيادة العالم والمسيرة الحضارية الإنسانية، الاحتمالات الممكنة النوعية العلاقة بين( الغرب والبقية) في ستة نماذج عقلية، يمكن أن تتلخص بما يلي(1):

الشمولية الغربية، وهو الرأي الذي يقول بأن الغرب يمثل الحداثة، وأن العالم سيصير “غربيا“ لا محالة.

الاستعمار الإمبراطوري الليبرالي الذي عليه أن يصنع من العالم صورة عن الغرب ولو بالقوة.

العالم المبني على الطريقة الأميركية، بسلامه واقتصاده، وبمنطقه المعولم.

الغرب (القلعة) الذي عليه أن يحمي نفسه ويتخلى عن رسالته تجاه العالم.

العالم الكوزموبوليتاني الذي لا بد أن يحلّ في حضارته الواحدة الغالبة.

العمل على دفع إستراتيجية التعايش إلى الأمام بتشعباتها الأربعة: الاحترام المتبادل للحضارة ،والقناعة التامة بالعيش المشترك، وتجديد المثل العليا الغربية، وجذب العالم إليها بدون قسر أو شعور بالتبعية.

في هذا النموذج الأخير، يمكن أن ينبني العالم على التفاهم والتعاون وترسيخ الاستقرار، بتبادل المصالح دون استعلاء أو تبعية.

ومن مجالات التغريب المنهج وهو اخطر مجالات التغريب لاسيما في مناهج الدراسات الإنسانية ومحاولة فرض مناهج العلوم المرتبطة بدراسة الإنسان والعلوم المرتبطةبالطبيعة

، والتعليم وهو ما أدركته القوى التغريبية فاستثمرته ونظمت له المناهج

ص: 120


1- مجلة الاستغراب المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العدد ،2 السنة 1437 ، 2 ه- 2016 - م ، ص 92

والأموال لصياغة عقلية الأمة وروحها صياغة تتخلى فيها عن مقوماتها الشخصية الأساسية في الدين والقومية والعادات واللغة وتتعلق بمقومات حضارية طارئة (1).

وبكلمة أخرى يقول المفكر الصدر ، علينا فهم الإسلام في نفسه لأجل أن يكون هذا قوّة بأيدينا في مقام ترويج الإسلام وإعلاء كلمته وتبليغ أحكامه والوقوف في وجه التيارات الكافرة التي تكتنف حياة المسلمين وتغزو عالم الإسلام من كلّ جهة وصوب (2) .

ولابد من القول ان ثنائية التغريب والهوية تبادلا الشد والجذب في اغلب الحضارات والمجتمعات، وربما تداخلا أو دخلا بصورة النسبية لأنهما يعتمدان أحيانا على فهم جغرافي أو اجتماعي أو سياسي فالشرق باتجاهه للغرب ربما مكننا من تحديد التغريب إلا ان القضية ستختلف عند الحديث عن نسبة الجنوب والشمال.

على كل حال فالمعنى يتضح هنا في وجود كيان قوي يحاول السيطرة على آخر فيه نوع من الضعف إذا فمسالة التغريب هي سياسية اما مسالة الهوية فهي إيديولوجية بشكل واضح.

منظومة الصدر الفكرية وتأسيس الهوية الفكرية الإسلامية:

أراد المفكر الصدر التحرك باتجاهين وهو النظر مرة الى الخارج ومرة الى الداخل ففي الأول نقد المذاهب الاجتماعية القائمة والمؤثرة في عالم اليوم وتحديدا الرأسمالية والاشتراكية والماركسية مع التشديد على نقد الماركسية، والأمر الآخر صد المد الشيوعي الذي شهد صعودا في العراق في الخمسينيات من القرن الماضي وشكل تحديا فكريا مستفزا داخل البيئة الإسلامية فهو يقول (3):

إني أنا الآن أشعر بألم شديد لأن العراق مهدد شيوعياً، لكن هل أني سوف

ص: 121


1- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، ص-8883.
2- محمّد باقر الصدر ، السيرة والمسيرة، دار العارف للمطبوعات، بيروت، ج 1 ص 295.
3- محمد باقر الصدر، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، ص 41-43.

اشعر بنفس هذا الألم... بنفس هذه الدرجة لو ان هذا الخطر وجه الى إيران بدلاً عن العراق... لو وجه الى باكستان بدلاً عن العراق وإيران... لو وجه الى بلد آخر لو من بلاد المسلمين الكبرى. بدلاً عن هذه البلاد هل سوف اشعر بنفس الألم أو لا أشعر بنفس الألم ؟ أوجه السؤال الى نفسي حتى امتحن نفسي لأرى ان هذا الألم الذي أعيشه لأجل تغلغل الشيوعية في العراق هل هو الم لخبز سوف ينقطع عني ؟ لمقام شخصي سوف يتهدم ؟ لكيان سوف يضيع ؟ لان مصالحي الشخصية مرتبطة بالإسلام الى حد ما، فهل ان ألمي لأجل ان هذه المصالح الشخصية أصبحت في خطر؟ إذا كان هكذا... إذن فسوف يكون ألمي للشيوعية في العراق اشد من ألمي للشيوعية في إيران... أو اشد من ألمي للشيوعية في باكستان، وأما إذا كان ألمي لله تعالى، إذا كان ألمي لأني أريد ان يعبد الله في الأرض... وأريد ان لا يخرج الناس من دين الله أفواجا. فحينئذ سوف ارتفع عن حدود العراق وإيران وباكستان. سوف أعيش لمصالح الإسلام. سوف أتفاعل مع الأخطار التي تهدد الإسلام بدرجة واحدة دون فرق بين العراق وإيران وباكستان وبين أرجاء العالم الإسلامي الأخرى.

وقد وضح الصدر مشروعه الفكري في كتابه اقتصادنا حيث تحدث بان ما يريده من الدراسات الإسلامية هو ان تكتمل في نهاية المطاف كما يقول ( صورة ذهنية كاملة عن الإسلام بوصفه عقيدة حية في الأعماق ونظاما كاملا للحياة ومنهجا خاصا في التربية والتفكير(1) .

وعند الحديث عن خصائص فكر المفكر محمد باقر الصدر ينبغي بيان بنية مفاهيمية تتصل بالمفكر الصدر وتفسير المفهوم والمصطلح ثم المباشرة بتثبيت الأفكار التي تشكل أهم آراء الشهيد الأول وهي الأفكار اللاتقليدية والتي تعد دوائر خصبة يمكن للمفكرين تناولها أو تشكيلها وإعادة تكريرها أو تحليلها بطريقة مغايرة أو مركبة(2) . كما انها تمثل الفرادة التي يتمتع بها مفكر ما لتفسر قوة حضوره في ساحته

ص: 122


1- محمد باقر الصدر ، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، ص 40
2- وهي أفكار بثت في كتبه ونتاجه الفكري والفلسفي ومنها: غاية الفكر في علم الأصول وفدك في التاريخ. فلسفتنا، وهو كتاب يناقش المذاهب الفلسفية وخاصة الفلسفة الماركسية. -اقتصادنا،وهو كتاب يتحدث فيه عن الاقتصاد الإسلامي ويناقش فيه النظريات الاقتصادية مثل الرأسمالية -البنك اللاربوي في الإسلام. -المدرسة الإسلامية. -المعالم الجديدة للأصول. - الأسس المنطقية للاستقراء. -بحوث في شرح العروة الوثقى (أربعة أجزاء). -موجز أحكام الحج. -الفتاوى الواضحة. -دروس في علم الأصول (جزءان)، وهو كتاب يدرس كمنهج في علم الأصول في مرحلة السطوح. -بحث حول الولاية. -بحث حول المهدي، وهو مقدمة لموسوعة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر عن الإمام المهدي. - تعليق على رسالة بلغة الراغبين. -تعليق على منهاج الصالحين. -الإسلام يقود الحياة، وهو عبارة عن بعض المواضيع الإسلامية. -المدرسة القرآنية وهو عبارة عن محاضرات عن التفسير الموضوعي . -أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف.

الثقافية (الهوية ) بالقياس الى ساحة أخرى (التغريب ) والتي يعمد كل فيلسوف أو باحث أو حتى السياسي والعقائدي والأديب... الخ الى تصنيع نوع من التوازن الذي یحافظ به على وجوده وهويته التي لا يريدها ان تثلم، وهو ما يفعله مفكرو البيئات المختلفة، أو أصحاب منظومة حماية الأمم أو ما يفعله القادة والمنظرون على تحمل المسؤولية.

وفي الأسس المنطقية للاستقراء ذكر الصدر ان مرحلة الاستيراد في العالم الإسلامي من الغرب يجب ان تنتهي وان علينا ان نصدر إبداعنا الى الغرب (1).

بناء هوية المصطلح والمفهوم

وهو إجراء علمي فكري يستند الى إبراز الماهيات الثابتة في النسيج الإسلامي ،وتلك الماهيات هي البنية المصطلحية والمفاهيمية التي تثبت النظريات والأفكار والمشاريع المختلفة التي تستند على الفكر الإسلامي.

إن العروج إلى المصطلح عند الشهيد الصدر الأول يشير إلى مجموعة من العلوم تناولها المصطلح أو تشكل المصطلح وفق تناوله لهذه العلوم ومن المصطلحات

ص: 123


1- محمد باقر الصدر المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد ، دار الكتاب المصري، القاهرة - بيروت، 2011م، ص 31.

المستخدمة في منظومة المفكر الصدر والتي شكلت احد أركان هويته المعرفية وهوية مشروعه الفكري(1) نجد:

المصطلح والمفهوم السياسي

المصطلح والمفهوم الأصولي والفقهي

المصطلح والمفهوم الفلسفي والفكري

المصطلح والمفهوم الاجتماعي

مصطلح التاريخ وفلسفة التاريخ والسنن التاريخية

مصطلحات ومفاهيم علم النفس

المصطلحات والمفاهيم الاقتصادية

مصطلحات فلسفة الدين

مصطلحات ومفاهيم علم الكلام الإسلامي

المصطلحات والمفاهيم العلمية

مصطلحات ومفاهيم الفكر المستقبلي

المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية والتربوية والأخلاق التطبيقية.

المصطلحات والمفاهيم المنطقية.

الهوية التأسيسية للمفاهيم لدى الصدر:

في الوقت الذي توصف بأنها مفاهيم وأفكار ومصطلحات وفرضيات ونظريات

ص: 124


1- حول حياة الفيلسوف محمد باقر الصدر ينظر مقدمات كتبه الفكرية وأيضا .د. حسن عيسى الحكيم، السيد محمد باقر الصدر بين فلسفة الفكر وأصالة المعرفة التاريخية،المركز الإسلامي الثقافي، 2016م، ص4515.

مهمة، إلا انها من زاوية أخرى مثلت الجهد الكبير الذي قام به الشهيد الصدر والذي يعد أيضا البناء الفكري له والبنى الأساسية التي شكلت شخصيته الفلسفية والفكرية والفقهية الأصولية، وبشكل موجز يمكن وصف خصائص هذه الأفكار التي تمثل بنية المفكر الصدر العامة والتي شكلت نتاجا مهما للإنسانية وللإسلام بالقول:

ان ابتكار مصطلح أو مفهوم معين إنما هو صفة تأتي بعد مرحلة تراكم العلوم، والتمكين المعرفي والانتقال من مساحة القراءة إلى ساحات التنظير والابتكار، فالنشاطات الفكرية للصدر المنتج قادته إلى تقديم أفكار جديدة لقدرته وسرعته باستيعاب العلوم المختلفة وإضافة الجديد إلى تلك العلوم.

المفهوم والمصطلح عند الصدر يمثل صورة ملخصة لمشروع أو فكرة معينة، أو توصف أهميتها بأنها جزء من فرضية أو نظرية أو مشروع، او مفهوم.

يتسم مصطلح ومفهوم المفكر الصدر بالتنوع والموسوعية والامتداد فهو لا يكتفي بعلوم إنسانية أو فلسفية أو دينية أو اجتماعية واقتصادية وغير ذلك من العلوم بل يشملها كلها بطريقة موسوعية.

التشاركية أيضا صفة ملازمة لفكر الصدر ومفهوم ومصطلحه فالتبادل والتداخل بين مصطلحات العلوم كافة انما تشير الى ان منظومة الصدر المعرفية ثابتة القوة والابتكار ومتداخلة وموضوعية.

فمثلا في مجال الأصول تمّ توظيف نفس المصطلحات الفلسفية والمنطقية كالوجوب والإمكان والضرورة والعلة والمعلول والوحدة والكثرة والمقتضي والشرط والمانع واعتبارات الماهية والجامعية والمانعية والعرض الذاتي والغريب والعدم الأزلي والسنخية والقوة والفعل والذاتي والعرضي والكلي والجزئي (1)

على يد المفكر الصدر كان التحول من الثقافة الفقهية إلى الثقافة الفلسفية

ص: 125


1- حيدر حب الله معالم الإبداع الأصولي - عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، موقع الشيخ حيدر حب الله، /http://hobbollah.com/articles

والتطبيقية في مجال المفاهيم وغيرها.

المشروع الصدري المفاهيمي كان عراقيا من زوايا الفكر والمعالجة وإسلاميا من زاوية الفلسفة والاقتصاد والفقه والأصول وعالميا من زاوية النقد وابتكار المصطلح وطرح المشاريع الفكرية.

المفهوم لديه يوصف بالمفهوم الشمولي الموضوعي لا الذاتي، فعندما نتحدث مثلا عن مفهوم للفلاسفة بشكل مفردة ابستيمية تعد بمثابة جزء من منظومة معرفية إلا انها في نهاية المطاف تعبر عن خيال ومعرفة خاصة كما في الآراء والمفاهيم التي وظفها فوكو ونيتشة وشوبنهاور وغيرهم الكثير .

عبقريته تكمن في قدرته الخلاقة على توليد الأفكار الجديدة واطلاعه المعارف الغريبة وفي انجازه الفكري المبكر(1)

من خصائص مفهوم إسلامية المعرفة عنده هو مشروعه الذي لم ينطلق من دراسة

بل من ذات عقدية ومعرفة صالحة لقيادة البشرية، فهو لا يعتقد بالاستقلال الصوري ولا سبيل إلا بإيصال الأمة إلى الاستقلال والذاتية، ولم يكن يفكر برد فعل مرحلي مقابل ثقافة الآخر بل أسس لاستجابة واعية تأسيسية تتكامل عبر مشروع معرفي انطلاقا من الإسلامية فهو وان لم يستخدم مصطلح إسلامية المعرفة أو أسلمتها إلا انه مارس هذين النشاطين المعرفيين من خلال حلقات مشروعه المعرفي وهوما يتبن بالضمير (نا) في فلسفتنا واقتصادنا(2).

ابتكر على مستوى التجديد الفكري في علم الأصول مفاهيم حجية القطع وانتهى بان حجية القطع ليست ذاتية للقطع كما هو معروف عند الأصوليين واعتبرها تدور مدار مولوية المولى. وأنكر صحة ما يعرف بالبراءة العقلية، ومن ابتكاراته بحث حجية السيرة وحجية الإجماع وبحثه في ما يعرف بموافقة الكتاب ومخالفته في باب التعارض وبحثه في تفسير

ص: 126


1- محمد الحسيني ، محمد باقر الصدر ، حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البيضاء، 2005م ، ص 64
2- - حسن العمري، إسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر، ط1، دار الهادي ، 1424ه- 2003- م، ص 79-82.

نشوء اللغة في نظرية القرن الأكيد وأيضا إسهامه في مباحث الألفاظ عند الأصوليين(1) .

المنهج:

وقد عالج الشهيد الصدر إشكالية المنهج في كتابات متعدّدة لاسيّما كتابيه اقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء وبخصوص الأخر فقد قدم منهجاً في الابستمولوجيا ألقى بظلاله على مختلف صنوف المعرفة، الدينية واللاهوتية والفلسفية وقضايا العلوم، وحق له أن يتربع على عرش المعرفة إلى جانب المناهج والنظريات الأخرى(2). والمنهج هو الآلية المنضبطة التي قدم بها مشروعه الفكري بجعله نسيجا واحدا يستند الى جملة من الثوابت التي شكلت هويته العامة.

بناء الخطوط الفكرية العامة ( مشروع الهوية الإسلامية )

ان محمد باقر الصدر عمل ضمن مشروعه على الصعيد الفكري، الحركي، المرجعي، فعمل على استيعاب تراث الأمة ونقده وتقويمه واستخلاص عناصره الحية وتوظيفها في بناء أسس نظرية تلبي حاجات المجتمع الإسلامي ودراسة النظريات التي تنتمي الى بيئات فكرية أخرى لاكتشاف نقاط ضعفها ليقوم بتقوية الفكر الإسلامي كما قدم جذور نظريات إسلامية برؤية قرآنية (3)

والتي نضجت في سياق مسيره الشاق إلى العلم والفكر والإصلاح والتغيير والتحرير والشهادة، برزت أفكار عديدة (تعد أيضا من المفاهيم لأنها تمثل أفكارا جوهرية) تشعبت أيضا إلى صور فكرية متنوعة تشكل النظام العام لفكر الصدر وفلسفته التي يثبتها بعدها منظومة الأصالة الإسلامية الفكرية ومنها على سبيل المثال:

إدارة المستقبل بين التنظير والتخطيط والتطبيق والاستيعاب والتنظير إلى المستقبل.

ص: 127


1- محمد الحسيني، محمد باقر الصدر ، حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البيضاء، 2005م، ص 366.
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر ، ص 124
3- ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، ص128-129.

تكوين منظومة فكرية لمعالجة العلم والاقتصاد والفلسفة والدين والسياسة وتقديمه الى الشارع الإسلامي.

فهم التاريخ وفلسفته والسنن التاريخية وتطبيقاتها للسيطرة على المستقبل.

المشروع الإسلامي العام واعتماد مشروع الهوية الخاصة( الموعود المستقبلي).

فهو يقول بهذا الصدد ... هذا الشخص المتوغل في التاريخ، له هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعم بأنَّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ، تهيأت له الأسباب ،فوجد ، وستتهيّاً الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء، كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وإنَّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلا أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل، إنّ عمليّة التغيير المدَّخرة للقائد المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف تقوم على أساس رسالة معيَّنة هي: رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العمليّة في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيَّته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤشّرات الحضارة التي يُقدَّر لليوم الموعود أن يحاربها(1) .

وهذا النص الاستراتيجي يحمل ( مصدا) للفهم التغريبي ، وتقريبا وتواصلا مع الهوية الإسلامية.

محاولة إعادة إنتاج النظرية السياسية الإسلامية، وفرضها على الواقع.

محاولة تجديد الفكر القرآني، الفكري، الاجتماعي، النظم الإدارية، الفقهي، القانوني، الديني والسياسي .

ص: 128


1- السيد محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي (عجل الله) ، تحقيق د. عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات، الطبعة الأولى 1996م، ص: 8886

ج- الإصلاح

ومنها إصلاح النظام الإداري للحوزة العلمية وإصلاح النظام التعليمي وإصلاح ثقافة الحوزة العلمية (1) .

وإيجاد تغييرات بناءة في برامج وأساليب التعليم والتربية في كل من الحوزات العلمية ومراكز التحقيق الإسلامية، وطرح الإسلام بشكله الصحيح والذي يمثل رؤية للكون والحياة ونظاما للفرد والمجتمع ومنهجا في المعرفة والتغيير ومواجهة الأفكار المضادة للإسلام وأيضا تربية أجيال فعالة وحركية ومتفكرة وتربية جيل من العلماء في الحوزات العلمية والجامعات والأكاديميات يملكون روح التجديد في الأفكار والعلوم (2).

د -النقد والبدائل

إذا رصدنا السيد الصدر سنجده اشتغل على ملفّي نقد الآخر ونقد الذات، والقسم الثاني يحتاج إلى محاربة للأنا؛ لأنَّك تقوم في نقد الذات بمحاربة ذاتك للوهلة الأولى، فحين يقوم السيد الصدر بنقد الأمة الإسلامية فهو ينتقد ذاته الجماعية، وحين ينتقد المؤسسة الدينية فهو ينتقد ذاته أيضاً، وحين ينتقد الحركة الإسلامية فهو ينتقد نفسه أيضاً، وحين ينتقد الحوزات العلمية فهو ينتقد نفسه أيضاً، وكذا البرامج التعليمية(3).

إنّ الرجوع النقدي إلى التراث وتفسير القرآن الكريم في أفق اجتماعي وتأريخي، كما يتجلى في كتابات الصدر ، فتح مجالا فلسفياً جديداً وواسعاً أمام الفكر الإسلامي

ص: 129


1- إسماعيل اسماعيلي، الشهيد الصدر وإصلاح الحوزة العلمية مطالعة في الرؤى والأعمال، ترجمة صالح البدراوي ، نصوص معاصرة ، العدد 27 السنة 7 ، 2012م - 14333ه- ، ص 44
2- محسن الاراكي، الشهيد الصدر والمنجز الفكري والحضاري مجلة نصوص معاصرة، فصليّة تعنى بالفكر الديني المعاصر، العددان الأربعون والواحد والأربعون السنتان العاشرة والحادية عشرة، بيروت، خريف 2015م، 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م، 1437 ه-، ص 40.
3- حيدر حب الله التفكير النقدي محمد باقر الصدر أنموذجا، هناك مستويات للنقد منها السطحي والموضوعي والبنيوي، مجلة نصوص معاصرة، فصليّة تعنى بالفكر الديني المعاصر، العددان الأربعون والواحد والأربعون السنتان العاشرة والحادية عشرة، بيروت، خريف ،2015م، 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م، 1437 ه-، ص 8-9 .

المعاصر، ويتجلى ذلك فيما يلي (1):

1 - محاولة الصدر إعادة صياغة الفكر الإسلامي ورفعه إلى مستوى التحديات، أي مستوى مجابهة الفكر الغربي بكل تياراته وطرح البديل الإسلامي في المجال المعرفي والمنهجي والاجتماعي والحضاري.

2 - تأثر الصدر في تنظيره للرؤية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الإسلامية بالشريعة لا بالفلسفة، فالمفاهيم التي تمّ من خلالها التنظير في المجالات السابقة هي مفاهيم متضمنة في الأحكام الشرعية، لذلك يمكن القول بأنّ الصدر تجاوز القطيعة بين الفقه والفلسفة، كما تجلّت في الفكر الإسلامي قديماً، وأحدث العملية التركيبية بين الفقه والفلسفة.

3 - انطلق الصدر في كلّ ذلك من مبدأ تعبدي وعقائدي وإبستمولوجي في نفس الوقت: الإسلام ليس مجرد موضوع للفلسفة، فالصدر أعتمد على منهج في معالجته العلاقة العقل بالدين، في حين أن الفلاسفة المسلمين انطلقوا من مسلمة الدين حق والفلسفة حقّ، والحق لا يتناقض مع الحق ، أو «الفلسفة والشريعة أختان رضيعتان» كما يقول ابن رشد.

إن التفكير النقدي يرفع المشكلة ويضع البديل معاً، ولا يعيش رغبة النقد فقط لأجل النقد، فالنقد ليس للنقد، وإنما للتغيير والإصلاح وتحسين الأمور والتصويب، وقد يحتاج النقد إلى الخطوة اللاحقة، وهي وضع البدائل، وهذا ما فعله السيد الصدر حينما كان ينتقد المدارس الأخرى؛ حيث كان يضع بديلاً، ففي الفصل الأول والثاني من اقتصادنا حينما انتقد المدارس الأخرى تجده قد وضع في الفصل الأخير البديل، وفي الأسس المنطقية للاستقراء حينما انتقد المدارس التجريبية والعقلية والوضعيّة فقد وضع بديله المتمثل بالمذهب الذاتي للمعرفة، وهذا البديل جد ضروري في بعض الأحيان(2) .

ص: 130


1- حسين جويد الكندي البعد الفلسفي في صناعة التاريخ عند محمد باقر الصدر (قد)، موقع كتابات في الميزان http://www.kitabat.info/subject.php?id=63299
2- حيدر حب الله، التفكير النقدي محمد باقر الصدر انموذجا، هناك مستويات للنقد منها السطحي والموضوعي والبنيوي، مجلة نصوص معاصرة ، ص 212

ومن البدائل الأصيلة التي جاء بها الصدر الأول هو المفهوم الابستيمي المبتكر (منطقة الفراغ) والتي تصلح بوصفها قاعدة زئبقية يمكن للقوانين والأفكار التحرك من خلالها بشكل مرن ومنتج.

وقد توهّم البعض أنّ فكرة (منطقة الفراغ )تعبر عن وجود نقص وقصور في التشريع

الإسلامي، إلا أنّ هذه الفكرة تعبر عن كمال الإسلام وثرائه الفكري والتشريعي بحيث استطاع أن يعالج العناصر الثابتة والمتطوّرة من متطلبات النظام الاجتماعي الكامل الصالح للتطبيق في مدى العصور والأجيال، ولولا وضع الحلّ المناسب من قبل الإسلام للعناصر المتطوّرة من خلال فكرة (منطقة الفراغ )لما كان النظام الإسلامي صالحاً للتطبيق على مدى العصور والأجيال(1) .

من جانب آخر لم يستسلم باقر الصدر للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكرون الإسلاميون وقطع مع هذا التراث الطويلبأطروحته المتميزة (الأسس المنطقية للاستقراء ) والذي قال عنها باقر الصدر نفسه.. أنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة (2)

وبالإضافة الى البناء العقلي وتكوين العقل الفلسفي والمنطقي وكشف قصور المنطق الأرسطي ، فقد قدم في المعرفة مشروع المذهب الذاتي وتفسير نشاط الذهن البشري بمرحلتي التوالد الموضوعي والذي يسير فيه الفكر من المفردات الجزئية ويتصاعد في القوة الاحتمالية ومن ثم التوالد الذاتي ومحاولة صنع اليقين العلمي بالأمور وأعطى للاستقراء دور المعرفة في مقابل التيارات الشكية والترجيحية وفيها يأخذ الذهن نشاطا مستقلا عن القواعد الرياضية الصارمة لكنه وفق بنيته الذاتية يقفز من مرحلة الى أخرى(3).

ص: 131


1- علي الأكبر الحائري منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، مجمع الفكر الإسلامي، النجف، 1434 ه-، ص 20
2- محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4، ص140.
3- حيدر حب الله مكونات المشروع الإسلامي، مجلة نصوص معاصرة ، العدد 26 ، السنة 7، بيروت، 2012م 1433ه- ، ص 5.

وعندما يطرح المفكر الصدر مفهوم الاقتصاد الإسلامي مثلا فانه يقدمه بوصفه فكرا محليا مهما يمكن التواصل معه من دون الاتكاء على الفكر الغربي فهو يقول. هناك من يسال هل هناك اقتصاد في الإسلام وبحوث كما لآدم سمث وريكاردو وغيرهما، لان عناصر تكامل الاقتصاد اكتملت فيما بعد، ولهذا علينا التمييز بوضوح بین طبيعة الاقتصاد الإسلامي وكونه مذهبا اقتصاديا لا علما للاقتصاد هنا يمكننا دحض اكبر العقبات التي تحول دون الاعتقاد بوجود اقتصاد في الإسلام (1)

نقد الفيلسوف الصدر لايقونة التغريب (الغرب)

يشير المفكر الصدر إنّ من يدرس النهضة الأوروبية الحديثة - كما يسميها التاريخ الأوروبي - بفهم يستطيع أن يدرك أن اتجاهها العام في ميادين المادة كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة. فهي في ميادين المادة

كانت علميّة، إذ أقامت أفكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة(2).

أما في الميدان الاجتماعي، فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية، لا الأفكار العلمية، فهو ينادي مثلاً: بحقوق الإنسان العامة، التي أعلنها في ثورته الاجتماعية، ومن الواضح أنّ فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية، لأنّ حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي، وإنما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تُدرس علميّاً (3)

و يقول الصدر ، نرفض إسلاميّاً المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخل المطلق (أصالة الفرد) والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع ، ونؤمن بأن وظيفتها تطبيق شريعةالسمحاء التي وازنت بين الفرد والمجتمع وحملت المجتمع لا بوصفه وجوداً هيغلياً مقابلاً للفرد بل بقدر ما يعبر عن أفراد وما يضمّ من جماهير تتطلب الحماية والرعاية (4).

ص: 132


1- محمد باقر الصدر المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، ص175.
2- المدرسة الإسلامية ص: 34.
3- المدرسة الإسلامية ص: 34.
4- محمد باقر الصدر (السيرة والمسيرة)، دار العارف للمطبوعات جزء 1 ص 272.

وفي واحدة من حالات تماس المفكر الصدر مع حاملي القدرة على الغرابة وبالتالي التغريب يقول ... وبدت هذه الفكرة غريبة على تلك الذهنيات الممتلئة بروح التبعية والملتصقة بالواقع الفاسد والمشبعة بتصورات الإنسان الغربي عن الحياة ومؤسستها الاجتماعية، وقد عبر إنسان مسلم جعلت منه مسيرة الانحراف في عالمنا الإسلامي وزيراً في بلده بلده عن هذه الغرابة، إذ قال لي شخصياً بكل طفولة وسذاجة: إني اندهشت حينما سمعت باسم البنك اللاربوي، تماماً كما أدهش حينما أسمع أنساناً يتحدث عن الدائرة المربعة(1)

ولعلّ المطالعة الاستقرائية للكتابات التي تعاطت مع فكر الغرب توقفنا على اتجاهات ثلاثة انطلقت في تعاطيها مع المنجز الغربي بأبعاده المختلفة بأبعاده المختلفة من إشكالية

مزمنة، هى أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص(2) :

1- ينظر أصحاب الاتجاه الأول إلى الغرب ككل بأنه غير قابل للتفكيك والتجزئة؛ فهو هوية واحدة موحدة، تمثل عنوان الغازي المستعمر، الذي تجب مجافاته والقطيعة معه، والتعامل مع عطائه بحذر الشعوب المقهورة.

2 بينا ينظر أصحاب الاتجاه الثاني رؤية معاكسة للاتجاه الأول حيث يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى ضرورة التعامل مع هوية الغرب الواحدة الموحدة بوصفها

ص: 133


1- محمد باقر الصدر البنك اللاربوي في الإسلام، إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي الإمام الشهيد الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم ، 1245 ق - 1383ه-، ص12.
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص-122121. ويضيف الباحث، وقد تمثل هذا الاتجاه في كتابات قطاع كبير في العالم الإسلامي من الذين دعوا إلى اللحوق بركب حضارة الغرب على كافة الأصعدة، حتى عرفوا بدعاة التغريب، وفي تصور هؤلاء الباحثين أن المرجع الوحيد لخروج البلاد العربية والإسلامية من واقعها المرير والمتخلّف في شتى المجالات هو اللحوق بالغرب، واعتبار مفاهيمه الملاذ الآمن في ذلك النهوض المنشود فالحداثة والتحديث والتنمية والنهضة فى فكر هذا النمط من الناس يجب أن تكون امتداداً للغرب، وهو مرجعية كل ذلك، وقد أثبتت الوقائع والأحداث أن هذا النمط من التفكر طوباوي وبعيد عن واقع الشعوب الإسلامية سيوسيولوجياً وتاريخياً، ذلك أن جزءاً كبراً من حداثة الغرب تحقق عن طريق استعمار الشعوب وقهرها ونهب ثرواتها وامتصاص دمائها، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث في العالم الإسلامي، وفضاً عن ذلك فإن أفكار الغربيين وتجاربهم تشكلت في أرض ثقافية مناسبة لها وبالتالي فا يمكن تعميمها على كل الشعوب والبلدان وما يشهد على ذلك أن الشعوب والدول الغربية نفسها مختلفة بينها فيرتبط بالممارسة والتجارب السياسية والاقتصادية ومنظومات القيم والأفكار وإن جمعتها أطر عامة

كلاً غير قابل للتجزئة والتفكيك، ولكنه المنقذ المستنير الذي يجب إتباعه حذو القذة بالقدّة، فحتى نواكب حياة هؤلاء (كما يقولون) لا بد لنا من الأخذ بكل إنجازاته ومنتجه مأخذ الواله لفضى الحياة.

-3 انطلق الاتجاه الثالث من أزمة الهوية نفسها التي صدر منها الاتجاهان الآخران ، ولكنه - وهو اتجاه احتل مساحة واسعة في العالم الإسلامي دعا إلى تجزئة عطاء الغرب ومنجزه، فلم ينظر للغرب ككل لا يقبل التجزئة، وإنما دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية والتكنولوجية والحياتية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية والقيميّة.

يمكن القول ان الفلسفة الاجتهادية التي صاغها الإمام الصدر هي فلسفة متحررة إلى درجة كبيرة من العوامل الذاتية ومن ثقل الواقع، هذا في إطارها العام على الأقل وهو إطار مستمد من الدين ومن العقل معاً أو من العوامل الاجتماعية والتاريخية، إن قوة فلسفة الإمام الصدر تكمن في استيعابها لأزمة الحضارة المعاصرة من حيث هي أزمة قيم وفي تجاوزها لكل المذاهب الفلسفية عن طريق طرحها لنموذج حضاري بديل، ويرى أنّ سقوط الايديولوجيات الوضعية أمر لا مفر منه في الحضارة الغربية. فمصدر الأزمة يكمن في الحداثة نفسها لا الحداثة في ذاتها، أي من حيث هي عملية تغيير كل ميادين الحياة الاجتماعية ، بل الحداثة في صورتها الغربية وهي صورة تتميز بنفي الجانب الروحي في الإنسان وما ينتج عن هذا النفي من فصل السياسة عن الدين، واعتبار القضاياالميتافيزيقية مجرد رواسب لمرحلة تاريخية قد انقضت، وقد أدى نفي أو إبعاد الروحانية عن الحياة الاجتماعية إلى نفي أي أساس للقيم الأخلاقية، فأصبحت هذه الأخيرة مجرد انعكاس للواقع بدلاً من تغيير الواقع وتوجيهه(1).

وفي نقده المزدوج لكل من مناهج التغريب الواردة الى العالم الإسلامي ونقد الحضارة الغربية يقول ... لقد فشل الكثير من النماذج التقدمية ذات المنشأ والأصول الغربية في العالم الإسلامي، ويرجع حسب تحليل الصدر في مقدمة كتاب اقتصادنا

ص: 134


1- د.عامر عبد الأمير حاتم، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر،مجلة الأستاذ،ص43

إلى التناقض بين نماذج التقدم المقترحة وواقع الشعوب الإسلامية، بمعنى أن هناك تناقضاً بین الأدوات الفكرية للتحليل وعلاج الأزمات والحلول المقترحة وبين الواقع النفي والفكري والسوسيولوجي للشعب المسلم كان هو السبب في فشل النماذج التقدمية والتحديثية، ذلك أن من أهم عوامل نجاح القوانين والتشريعات والنماذج المقترحة التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وتجاوبهم العاطفي مع أهدافها، وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق، وهذا ما لا يتوفر في مثل هذه النماذج، ولذا حصلت قطيعة وتناقض بين الواقع والمشاريع، أما نموذج الحل المقترح بحسب الصدر ، فهو اكتشاف الذات والعودة إليها، فهوية الشعب الحقيقية هي المنطلق في النهوض (1).

وهنا نلاحظ استخدام الذات بعدها منظومة الوعي وبالتالي القاعدة التي يستند عليها مفهوم الهويات.

ولتأكيد الصدر على هويته الإسلامية فانه انتقد النظامين الاشتراكي والرأسمالي فأشار الى ان سقوط النظامين الاشتراكي والرأسمالي والذي توقعه المفكر الصدر هو تعبير عن حالة مرضية تنبئ عن دخول البشرية في مرحلة تاريخية جديدة تقتضي إعادة النظر بصورة جذرية في الفكر الغربي من الأساس، وفي كل جوانبه المعرفية والاجتماعية والأخلاقية، إن هذه المرحلة التاريخية الجديدة ستتحقق عندما يتم ربط الحياة الاجتماعية بالروحانية كما تتجلى في الإسلام، أي ربط التاريخ بالمثل الأعلى المطلق (الحقيقي)(2) .

ونفهم انه في هذا النقد يحاول توجيه منظومة الخلل الغربي وتقوية ضعف الموقف الفكري الإسلامي.

فقد وقع العالم الإسلامي بمرحلة النظر الى تجارب الأنظمة، فالتجارب وجدت نفسها أمام خيارين لا ثالث لها إما الأخذ بالاقتصاد الحر أو الاقتصاد الاشتراكي

ص: 135


1- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص 136
2- د. عامر عبد الأمير حاتم ، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر، مجلة الأستاذ، ص 45

فاخذ بعضهم بالحر والآخر بالاشتراكي لأنها وجدت فيه النقيض للاقتصاد الأوربي، وهو ما يدعمها في كفاحها في سبيل التخلص من السلطة السياسية التي تحكم البلدان الرأسمالية، أن أصحاب هذه التجارب، وبسبب الشعور النفي الذي عاشته الشعوب الإسلامية تجاه الاستعمار وما استتبعه من شك وريبة واتهام وخوف وتوجس من كل شيء يمت للغرب بصلة ناتج عن تاريخ مرير ولكفاحهم الطويل ضد الاستعمار، أصابهم الانكماش من كل شيء يرتبط بدول الاستعمار حتى فيما يتعلق بالجانب التنظيمي الحياتي في البلاد الأوربية مها كان صالحاً وجيداً في نفسه ومنفصلاً عن الاستعمار سياسيّاً، وقد أفرز هذا الانكماش عدم تفاعل أصحاب تلك الحركات التحرّرية مع كل النظام الحياتي والتنظيمي في الغرب، ووجدوا أن يقيموا نهضتهم التحرّرية وكيانها على نظام لا يمت لبلاد أوربا والاستعمار بصلة، فاتخذوا من القومية فلسفةً وقاعدةً في البناء الاجتماعي والتنظيم السياسي، ولكنهم وجدوا أن القومية ليست سوى رابطة دم ولغة (1).

ويشير الصدر الى إنّ القومية ليست إلا رابطة تاريخية ولغوية وليست فلسفة ذات مبادئ ولا عقيدة ذات أسس بل هي حيادية بطبيعتها تجاه الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائديّة والدّينيّة، ولذلك فهي بحاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معيّنة تجاه الكون والحياة

وفلسفة خاصة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي (2).

وفي اغلب تنظيراته الفكرية، نلاحظ تحذير المفكر الصدر من الاغتراب الخاص المتعلق بتضييع الهوية داخل الكيان الإسلامي، هذا مع انتقاده للجانب القومي أيضا سواء أكان الغربي أم العربي الإسلامي، فالبدائل التي لديه تتيح له التحرك بحرية.

وهناك نقطتان أساسيتان في تعاطي الصدر مع فكر الغرب ومنجزه الحضاري وصرحه الفكري، تتمثلان في تجاوز أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص والانبهار، والاستقلال في المنهج، ليتجاوز بذلك إشكالية التبعية المنهجية، وعلى وفق ذلك

ص: 136


1- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر،ص 125
2- منابع القدرة في الدولة الإسلامية ص: 16

فعندما نتحدث عن نقد الصدر للغرب، فإننا نتحدث عن العقلانية التي يشرك فيها الصدر مع الحداثة، بمعنى إعطاء قيمة للعقل ولمدركاته والوثوق بها، وكذلك عن العودة للذات وإبراز الأنا بكل ما يعنيه ذلك الإبراز من استخدام العقل وتفعيل قيمته وحركيته، فضلاً عن نقد الآخر نقداً حراً يتجاوز أزمة الهوية والانبهار(1) .

إن نقد الصدر لنظم الحضارة الغربية وإبرازه في مقابل ذلك لنظم النهوض الإسلامي، قد كرر تلك الثنائية التي صارت معبودة في كتابات من يعرفون بالمتنورين في العالم الإسلامي، ثنائية القديم والجديد، والتراث والمعاصرة، والتي استلت من الرؤية الغربية للتاريخ والتراث ، وهي ثنائية قضت بأن تكون الحضارة الغربية بعاداتها وقيمها وخصوصياتها مرجعية كونية يجب على كل الشعوب الاندماج في مساراتها وسياقاتها وتتبع كل خطواتها وآثارها، وهذا يعني وفق المنطق الذي يطرحه الصدر أن مفاهيم القديم والجديد والتقدّم مفاهيم نسبية وليست كونية عابرة للحدود والقارات وكل الأوضاع الثقافية والقيم المختلفة حول العالم (2).

فالإنسان وفق فهم الصدر للفكر الغربي أصبح لعبة في يد حركة التاريخ التي تتمحور حول البعد المادي المتمثل في الإنتاج والاستهلاك، فالإنسان بدلاًمن توجيه حركة التاريخ نحو أهداف أخلاقية وإنسانية، أصبح فريسة لهذه الحركة، فهي التي توجهه حسب منطقها الذي أنتج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بالإضافة الى استغلال الغرب للشعوب المستضعفة والعلاج ان يكون الإنسان هو الموجه للتاريخ ، ويجب التمييز في نظر الفيلسوف الصدر بين الحداثة كتقدم وبين ،التغريب أي تقليد الحضارة الغربية بصورة آلية دون إعادة النظر في أسس وقيم هذه الحضارة ؛ فالعقلانية والحرية والعدالة واحترام إنسانية الإنسان، ليست قيماً غربية، بل هي قيم كونية تستمد وجودها من تطلع الإنسان عبر التاريخ إلى الكمال، وهكذا فالغرب قد أعطى للحداثة صورة خاصة انتهت إلى أزمة حضارية شاملة، ويمكن لحضارة أخرى أن تعطي صورة أخرى واتجاهاً آخر للحداثة وللتقدم، وظهرت النفعية

ص: 137


1- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر ، ص 128
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص 136

والماركسية والبرجماتية والوجودية، كل هذه المذاهب قد فقدت عنصري الموقف النقدي وقوة التجاوز تجاوز الواقع لتغييره، فالفلسفة تتميز بالموقف النقدي الذي يمنحها قوة تجاوز الواقع الفاسد لتصور واقع أحسن منه إن فصل السياسة عن الدين وحصر الفلسفة في مجال فلسفة العلوم دون طرح للمشكلة الميتافيزيقية، جعل الفكر الغربي على غرار المجتمع الغربي لا يهتم بمشكلة المصير، فما هو مصير الحياة البشرية ؟ وما هو مصير الثقافة ؟ وما هو الهدف الذي تسعى نحوه (1)؟

إن مرجع هذا التناقض إلى أن الحضارة الغربية نابعة من واقع الإنسان الغربي نفسه، وبالتالي فهي محدّدة بحدود التجربة التي عاشتها شعوب الغرب، في حدود الزمان والمكان والروابط الموضوعية والاقتصادية والسياسية، التي تمخضت عنها تلك الحضارة، ومن ثمّ فمهما امتلكت حضارة الغرب من تفوّق مرحلي على بقية الشعوب إلا أن ذلك لا يبرّر لها منطقياً أن تنتزع إرادة الإنسان وأن تسيطر عليه بالقوة في سبيل تطويره، ولا أن تمارس الضغوط السياسية والاقتصادية على شتى البلدان لأجل إجبارها على الأخذ بنظمها ورؤاها في إدارة الحياة (2)

ان الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم بالفشل والانهيار المحقق في نظر الإسلام ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته والعوامل

التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها ، بل الى مفاهيمها المادية الخالصة(3) .

والنظام الرأسمالي مادي بكلّ ما للفظ من معنى، فهو إمّا من معنى، فهو إما أن يكون قد استبطن الماديّة، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها، وإما أن يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية، وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة، التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها، وهو - بكلمة - نظام مادّيّ، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة ماديّة واضحة الخطوط (4) .

ص: 138


1- د. عامر عبد الأمير حاتم، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر ، مجلة الأستاذ، ص 44
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر ، ص 128
3- محمد باقر الصدر ، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلادص 87 .
4- المدرسة الإسلامية ص: 49

لقد حلل الصدر الحداثة في الفكر الغربي تحليلاً علمياً، وتبين بأن جوانب خاصة بالتاريخ الغربي وظهرت الحداثة في الغرب كتمرد ضد الماضي وضد القيم المرتبطة بالكنيسة، يقول آلان تورين (لقد نظر الغرب إلى الحداثة وعاشها كثورة، أصبح العقل لا يعترف بأي شيء بصورة مسبقة سواء في ميدان العقيدة أم في ميدان التنظيم الاجتماعي والسياسي ما لم يكن قائماً على أدلة علمية، فمن العناصر الجوهرية لإيديولوجية الحداثة أنّ المجتمع هو مصدر القيم وأن الخير هو ما ينفع المجتمع، والشر هو ما يضر بوحدة المجتمع، لقد انتقد الصدر البعد المادي للحداثة وما ينتج من سعي للمنفعة واستغلال للشعوب... وكانت الحداثة في بداية ظهورها ثورة محررة للإنسان إلا أنها - في نظر الصدر - وبدلاً من أن ترتبط بالجانب الروحي الذي تصبح بفضله مفتوحة على المطلق وقد ألهت الحداثة الإنسان والواقع، فلا مرجعية خارج الإنسان وخارج الواقع ، فالقيم كلها تستمد وجودها من الإنسان ومن الواقع، ولذلك أصبحت المنفعة هي الغاية القصوى، كما أصبح الإنتاج والاستهلاك غاية تطلب لذاتها، وأصبح (1)

كان توجه الصدر في تعاطيه مع فكر الغرب قائما على مسلمة أن الإنتاج الداخلي( إبراز الأنا) هو المنهج الأسلم والطريقة الفضلى في التعاطي مع فکر ،الغرب، وأن هذا الإبراز هو الذي يتجاوز أزمة الهوية، أما عقدة الشعور بالدونية أمام الآخرين فتجاوزها يكون من خلال التعاطي النقدي والحوار الفكري مع الآخر، وعلى أساس نقدي (2)

وقد تشمل تلك الصورة ذات الواقع الغربي الذي تعرض الى تحدي الهوية، ولكن بصورة مختلفة، فالإنسان الأوربي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلاً أعلى وهي الحرية لأنه يرى أن الإنسان الغربي كان محطماً ومقيداً... سواء كان مقيداً في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنتها... أم أراد الإنسان الأوربي الرائد لعصر النهضة أن يحرر هذا الإنسان من هذه القيود... وهذا شيء صحيح، إلا هي

ص: 139


1- د. عامر عبد الأمير حاتم ، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر، مجلة الأستاذ، ص43.
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص 129

أنّ الشيء الخاطئ في ذلك هو التعميم الأفقي، فإن هذه الحرية بمعنى كسر القيود قيمة من القيم وإطار القيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الإنسان، ليس هذا هو المثل الأعلى... هذا الإطار بحاجة إلى محتوى وإلى مضمون، وإذا جرد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم (1)

إن الصدر بين إنّ النظام الاجتماعي الذي آمنت به أوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفيّة مجرّدة أكثر منها آراء علميّة مجرّبة، ونتيجة لفهم عقلي وإيمان بقيم عقليّة محدودة أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجيّة والفسيولوجيّة والطبيعية (2)

المصادر

متولي موسى، الهوية الإسلامية في الغرب( المشكلة والحل ) ، مجلة الرائد، العدد 1998 1419 201 .

شلتاغ عبود، الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، دار الهادي، ط1، 1422ه- 2001.

د. فريد محمد أمعضشو، التغريب.. مفهومًا وواقعًا ، مجلة الوعي الإسلامي العدد 553 السنة 2011م، الكويت .http://www.alwaei.com/site/index

php?cID=487

مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العدد 2، السنة 1437، 2ه- 2016 - م، بيروت.

محمد باقر الصدر ، البنك اللاربوي في الإسلام، إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي الإمام الشهيد الصدر ، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم، 1245 ق – 1383ه-.

ص: 140


1- د.عامر عبد الأمير حاتم ، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر ، مجلة الأستاذ العدد 203 السنة 1433ه- 2012م، ص 37 - 40 .
2- المدرسة الإسلامية ص: 33

محمّد باقر الصدر ، السيرة والمسيرة، دار العارف للمطبوعات، بيروت.

السيد محمد باقر الصدر بحث حول المهدي (عجل الله) ، تحقيق د.عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات، الطبعة الأولى، 1996م.

الكلمات القصار للشهيد السيد محمد باقر الصدر، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مركز نون للتأليف والترجمة www.almaaref.org الطبعة الأولى، 2010م- 1431ه- .

محمد باقر الصد، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، دار الكتاب المصري، القاهرة – بيروت، 2011م.

هاشم الميلاني جمال الدين الافغاني ،قارئا الغرب، نقض قيم الاستعلاء الحضاري، مجلة الاستغراب، العدد4، بيروت، 2016م.

محمد حسين الطباطبائي، الإسلام والأديان الأخرى، مجلة الاستغراب- العدد 3 -2016م - بيروت.

ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، دار الهادي، ط1،1421ه- - 2001م.

أنور الجندي، تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين 1920-1940م ، دار الاعتصام.

د. حسن عيسى الحكيم، السيد محمد باقر الصدر بين فلسفة الفكر وأصالة المعرفة التاريخية، المركز الإسلامي الثقافي، 2016م.

حيدر حب الله، معالم الإبداع الأصولي - عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، موقع الشيخ حيدر حب ،الله http://hobbollah.com/articles/

محمد الحسيني ، محمد باقر الصدر حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البيضاء، 2005م.

حسن العمري، إسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر، ط1، دار الهادي ، 1424ه- 2003-م

ص: 141

مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر، مجلة الاستغراب السنة الأولى، 2015م - 1436ه-.

إسماعيل اسماعيلي الشهيد الصدر وإصلاح الحوزة العلمية مطالعة في الرؤى والأعمال، ترجمة صالح البدراوي، نصوص معاصرة ، العدد 27 السنة7، 2012م 14333ه-

د.عامر عبد الأمير حاتم،آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر،مجلة الأستاذ، العدد 203 السنة 1433ه- - 2012م.

محسن الاراكي، الشهيد الصدر والمنجز الفكري والحضاري، مجلة نصوص معاصرة، فصليّة تعنى بالفكر الديني المعاصر ، العددان الأربعون والواحد والأربعون السنتان العاشرة والحادية عشرة ، بيروت، خريف ،2015م 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م،1437 ه- .

حيدر حب الله التفكير النقدي محمد باقر الصدر أنموذجا، هناك مستويات للنقد منها السطحي والموضوعي والبنيوي مجلة نصوص معاصرة، فصلية تعنى بالفكر الديني المعاصر ، العددان الأربعون والواحد والأربعون، السنتان العاشرة والحادية عشرة، بيروت، خريف 2015م، 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م 1437 ه- .

حيدر حب الله، مكونات المشروع الإسلامي، مجلة نصوص معاصرة، العدد 26، السنة 7، بيروت، 2012م - 1433ه-.

حسین جويد الكندي، البعد الفلسفي في صناعة التاريخ عند محمد باقر الصدر (قد )، موقع كتابات في الميزان http://www.kitabat.info/subject.php?id علي الأكبر الحائري منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، مجمع الفكر الإسلامي النجف، 1434ه- .

محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4.

ص: 142

مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر

مازن المطوري

(1)

يُقارب هذا البحث إشكاليات نقد الغرب في الفكر العربي الإسلامي الحديث. وقد استند في مسعاه إلى أحد أبرز المشروعات النقدية المعاصرة، حيث اتخذ الكاتب من الدراسات والأعمال النقدية للعلامة السيد محمد باقر الصدر حقلاً معرفياً لبلورة مدخل منهجي لنقد مكونات العقل الغربي.

سنقرأ فيما يلي مقاربة للمنهج النقدي الذي ظهر من خلاله الشهيد الصدر رؤيته للغرب فكراً وسلوكاً وأنظمة قيم. ولهذا سنجد أن الكاتب الشيخ مازن المطوري لم يشأ الوقوف على التظهيرات النقدية للموضوعات التي تناولتها أعمال الشهيد الصدر ، بقدر ما مضى إلى تظهير المنهج الذي تأسست عليه تلك الأعمال في سياق متاخماتها المعرفية النقدية لبنية الفكر الغربي.

«المحرر»

يومَ رُعْبَ الى أن أكتب مقالاً يتناول نقد السيد محمد باقر الصدر للفكر الغربي أحسستُ بكبير الأزمة التي تحكمنا في تعاطينا مع الغرب، ذلك أن تعاطينا مع الغرب تغلب عليه نظرةٌ ضيّقةٌ، فضلاً عن حاكمية الخيار السياسي، ومن نتائج ذلك الأحكامُ التعسّفيّة التي نَسمُ بها الأفكار والتجارب والرؤى التي قدمتها شعوب غرب المعمورة. ولعلّ المنشأ في ذلك كله هو ما سوف أُشير إليه في مطلع هذه المقال، أعني مشكلة

ص: 143


1- استاذ الفلسفة الاسلامية في حوزة النجف الاشرف / العراق

غياب المنهج وعدم الوضوح في الرؤية، فضلاً عن الشعور بالخوف والريبة إزاء كلّ فكرة يُصَدّرها لنا الغرب، وهذا بدوره ناشئ عن عوامل لسنا بصددها.

بناءً على ذلك وجدت أنّنا لسنا بحاجة لتظهير نقد السيد الصدر لفكر الغرب بقدر ما نحتاج إلى تظهير المنهج الذي انطلق منه الصدر في نقده، وإلى طريقة التعامل التي مارسها في أعماله الفكرية وهو يتناول مقولات مفكري الغرب، والغاية التي كان يسعى لأجلها. فبدلاً من الوقوف مليّاً عند نقد الصدر لاقتصاد الغرب أو لفلسفته أو مقولات الأخلاق والسياسة وحركة التاريخ الحري بنا الوقوف عند المنهج في ذلك النقد، وهكذا كان.

وعلى وفق ذلك جاءت هذه الأوراق التي أعترف بنقصها وحاجتها للمراجعة والتتميم، فلا يدعي الكمال سوى مغرور أو صاحب (أنا) منتفخة. وأعني ب-(الأنا) هنا مدلولها الأخلاقي لا المدلول الذي يتحدث عنه الصدر، عندما جعلها عنواناً في بعض حلقات مشروعه الفكري (فلسفتنا) ،(اقتصادنا)، حيث كان يشير بها إلى الهوية والعودة إلى الذات.

فإذن هذه الأوراق مدخل لنقد الصدر للغرب ولا تدخل في تفاصيل نقده، فلذلك قصة أخرى تحتاج جهوداً كبيرةً ممن لهم رسوخ في الفهم.

ما المنهج الأسلم في قراءة الغرب ونقده؟

من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا التساؤل والانسياق خلف الأجوبة الجاهزة والعفوية يوقعنا كما فعل بالكثيرين - في منزلقات ووديان تخلف آثاراً مدمّرة، لا تقتصر تداعياتها على الفكر وإنما تمس الواقع بالصميم.

إن التعاطي مع فكر الغرب ونقده يمثل إشكالية كبيرة في عالمنا الإسلامي، ولا تقف هذه الإشكالية عند بعد من أبعاد مُنتَج الغرب، بل تمتد لتشمل كل الأبعاد: السياسية والاقتصادية والفلسفية والاجتماعية، ولا تنحصر كذلك في فئة من الناس

ص: 144

دون أخرى، بل تشمل الاتجاه الديني كما تشمل غيره.

لعلّ المطالعة الاستقرائية للكتابات التي تعاطت مع فكر الغرب توقفنا على اتجاهات ثلاثة انطلقت في تعاطيها مع المنجز الغربي بأبعاده المختلفة من إشكالية مزمنة، هي أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص :

1 -ينظر أصحاب الاتجاه الأول إلى الغرب ككل غير قابل للتفكيك والتجزئة؛ فهو هوية واحدة موحدة تمثل عنوان الغازي المستعمر الذي تجب مجافاتُه والقطيعةُ معه، والتعامل مع عطائه بحذر الشعوب المقهورة.

2 -بينما ينظر أصحاب الاتجاه الثاني رؤية معاكسة للاتجاه الأول وإن اتفقوا في الانطلاق من أزمة الهوية، حيث يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى ضرورة التعامل مع هوية الغرب الواحدة الموحدة بوصفها كلاً غير قابل للتجزئة والتفكيك، ولكنه المنقذ المستنير الذي يجب اتباعه حذو القذة بالقذة. فحتى نواكب حياة (البشر) - كما يقول هؤلاء - لا بد لنا من الأخذ بكل إنجازاته ومنتجه مأخذ الواله لفضلي الحياة.

وقد تمثل هذا الاتجاه في كتابات قطاع كبير في العالم الإسلامي من الذين دعوا إلى اللحوق بركب حضارة الغرب على كافة الأصعدة حتى عرفوا بدعاة التغريب. والأسماء في ذلك كثيرة ومعروفة فلسنا بحاجة لاستعراضها أو لنقل نصوصهم. ففي تصور هؤلاء الباحثين أن المرجع الوحيد لخروج البلاد العربية والإسلامية من واقعها المرير والمتخلّف في شتى المجالات هو اللحوق بالغرب، واعتبار مفاهيمه الملاذ الآمن في ذلك النهوض المنشود فالحداثة والتحديث والتنمية والنهضة في فكر هذا النمط من الناس يجب أن تكون امتداداً للغرب، وهو مرجعية كل ذلك.

وقد أثبتت الوقائع والأحداث أن هذا النمط من التفكير طوباوي وبعيد عن واقع الشعوب الإسلامية سيوسيولوجيّاً وتاريخيّاً. ذلك أن جزءاً كبيراً من حداثة الغرب تحقق عن طريق استعمار الشعوب وقهرها ونهب ثرواتها وامتصاص دمائها ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث في العالم الإسلامي. وفضلاً عن ذلك فإن أفكار

ص: 145

وتجاربهم الغربيين تشكلت في أرض ثقافية مناسبة لها وبالتالي فلا يمكن تعميمها على كل الشعوب والبلدان، ومما يشهد على ذلك أن الشعوب والدول الغربية نفسها مختلفة بينها فيما يرتبط بالممارسة والتجارب السياسية والاقتصادية ومنظومات القيم والأفكار وإن جمعتها أطر عامة.

3 - انطلق الاتجاه الثالث من أزمة الهوية نفسها التي صدر منها الاتجاهان الآخران، ولكنه - وهو اتجاه احتل مساحة واسعة في العالم الإسلامي- دعا إلى تجزئة عطاء الغرب ومنجزه ، فلم ينظر للغرب ككل لا يقبل التجزئة، وإنما دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية والتكنولوجية والحياتية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية والقيمية.

وبتعبير آخر: إن أنصار هذا الاتجاه التفكيكي دعوا إلى نبذ كل ما يرتبط بمقولة العقل العملي وما ينبغي وما لا ينبغي فعله من مُنتَج الغرب. في إطار هذا الاتجاه كتب سيد قطب قائلاً :

«إن اتجاهات الفلسفة بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها - عدا الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة له - ومباحث الأخلاق بجملتها، واتجاهات

التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها - فيما عدا المشاهدات والمعلومات المباشرة، لا النتائج العامة المستخلصة منها، ولا التوجهات الكلية الناشئة منها - إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي قديماً وحديثاً، متأثرة تأثيراً مباشراً بتصورات اعتقادات الجاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها - إن لم يكن كلها - يتضمن في أصوله المنهجية عداءً ظاهراً وخفيّاً للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي على وجه خاص...

إن حكاية أن الثقافة تراث إنساني لا وطن له ولا جنس ولا دين هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية دون أن تتجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية الميتافيزيقية لنتائج هذه العلوم، ولا التفسيرات الفلسفية للإنسان نفسه ونشأته وتاريخه ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعرية جميعاً،

ص: 146

ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهودية العالمية .. » .

وهكذا نجد أتباع هذا الاتجاه يقرّرون أن الإنسان فيما يرتبط بمقولات العقل العملي لا بد أن ينبذ فكر الغرب وهويته ومنتجه، أما فيما سوى ذلك من علوم ومنجزات وتقنيات فلا ضير من الأخذ بها وإقامة الحياة عليها .

ومن الواضح لنا ونحن نستعرض هذا الاتجاه المفكك بين مُنتَج ومُنتَج لواعية واحدة أنه لا يصدر عن تأسيس واضح ومنهج مؤسس ، وإنما هاجس الهوية والعاطفة، فضلاً عن الغيرة الدينية والأخلاقية - وهي محمودة على كل حال تلعب دوراً كبيراً في هذا التعاطي التفكيكي مع منجز الغرب.

المنهج الأسلم

لم يرتض الشهيد الصدر كلّ المناهج المتقدمة في التعاطي مع فكر الغرب، ذلك أن الأخذ بتلك المناهج يجر المشاكل الكثيرة، فضلاً عن افتقارها لأساس منهجي ثابت وهوية تنطلق منها، وإنما رأى أن المنهج الأسلم في التعاطي مع فكر الغرب لا بد أن يكون المنطلق فيه الإنتاج الداخلي وإبراز الأنا الفكري، وكما سار على ذلك في مختلف مؤلفاته. فالقاعدة التي ينطلق منها الصدر في تعاطيه مع نتاج الغرب لا تتضمن أزمة هوية، وإنما ينطلق من مسلّمة أن الإنتاج المعرفي الداخلي هو السبيل الوحيد والصراط السوي لتحقيق هويتنا، وأن التعاطي النقدي والحواري مع فكر الآخرين هو الذي يجتاز عقدة الشعور بالدونية أمامهم. ففي تشخيص الصدر أن أزمة المعرفة في العالم الإسلامي تكمن في غياب الإنتاج الداخلي الذي يحقق الذات فضلاً عن استيراد مناهج الآخرين ورؤاهم المنتجة ضمن الإطار المناسب لمناخاتهم.

وعلى وفق هذه المسلّمة سار الشهيد الصدر في مشروعه الفكري في مختلف كتاباته التي تناول فيها بالنقد والتحليل والتمحيص رؤى الغرب وأفكاره ك-: فلسفتنا واقتصادناوالأسس المنطقية للاستقراء ، والسنن التاريخية في القرآن الكريم، وغيرها.

ص: 147

إشكالية التبعية المنهجية

فضلاً عن تشخيصه لأزمة الهوية التي عانت منها اتجاهات التعاطي مع فكرالغرب،وضمور الذات، رأى الصدر في توجهات أخرى حاولت الخروج عن منتج الغرب أنها لم تستطع أن تنفذ بجلدها من مشكلة الوقوع في شراك الغرب مجدداً بسبب التبعية في المنهج، فاستيراد المنهج، حتى مع اختلاف المادة والتجربة التي تصاغ به، والواقع الذي يكون مسرحاً لتطبيقه، لا يغير من واقع المشكلة وجوهرها شيئاً، وإنما يعني الوقوع في مركب الأزمة نفسها: الهوية/ الدونية/ التبعية.

وقد عالج الشهيد الصدر إشكالية المنهج في كتابات متعدّدة لاسيّما في کتابیه القيّمين

(اقتصادنا) و(الأسس المنطقية للاستقراء). وفي خصوص الأخير فقد قدم منهجاً في الابستمولوجيا ألقى بظلاله على مختلف صنوف المعرفة، الدينية واللاهوتية، والفلسفية وقضايا العلوم، وحق له أن يتربع على عرش المعرفة إلى جانب المناهج والنظريات الأخرى، كما سنأتي على ايضاحه مجملاً.

وعلى مستوى المنهج الاقتصادي رأى الصدر أن تجارب سياسية عديدةً في داخل العالم الإسلامي حاولت الاستقلال عن التبعية السياسية الغربية، وعن سيطرة الاقتصاد الأوربي الذي يمتص خيراتها، وذلك من خلال الاعتماد على القدرات الذاتية في التطوّر الاقتصادي ، والتغلب على مظاهر التخلّف المتعددة، والسير في طريق التنمية الشاملة، ولكنها من الناحية العملية فضلاً عن النظرية، لم تستطع أن تخرج عن الفهم الغربي للمشكلة في أبعادها المختلفة السياسية والاقتصادية، فسلكت المنهج الأوربي نفسه لاسيما في الاقتصاد.

وبسبب من هذا السلوك والتبعية المنهجية وجدت هذه التجارب نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما : إما الأخذ بالاقتصاد الحر القائم على الأساس الرأسمالي، وإما الأخذ بالاقتصاد الاشتراكي فذهبت تجارب صوب الأخذ بالاقتصاد الحر بسبب نفوذه في عالم الحياة، ورأت في شيوعه في دنيا الغرب مبرر نجاح، فيما جنحت تجارب أخرى للأخذ بالاقتصاد الاشتراكي لأنها وجدت فيه النقيض للاقتصاد

ص: 148

الأوربي، وهو ما يدعمها في كفاحها في سبيل التخلص من السلطة السياسية التي تحكم البلدان الرأسمالية.

أما نتيجة هذه التجارب فكانت أن وجدت نفسها في أحضان الهيمنة الغربية التي فرّت منها، والسبب في ذلك يرجع بحسب تشخيص الصدر إلى التبعية في المنهج، فضلاً عن الفشل في مجال التطبيق لكلا المنهجين الاقتصاديين في هذه التجارب السياسية.

وعلى مستوى التبعية في المناهج السياسية والتي أعادت حركات التحرر السياسي والنهضة في البلاد الإسلامية لأحضان الغرب، في الوقت الذي حاولت فيه التخلّص من تلك التبعية، فقد تمثلت في تلك التجارب التي اتخذت من القومية العربية شعاراً .لها. ذلك أن أصحاب هذه التجارب، وبسبب الشعور النفسي الذي عاشته الشعوب الإسلامية تجاه الاستعمار وما استتبعه من شك وريبة واتهام وخوف وتوجس من كل شيء يمت للغرب بصلة، ناتج عن تاريخ مرير وطويل في الكفاح ضد الاستعمار والاستغلال أصابهم الانكماش من كل شيء يرتبط بدول الاستعمار حتى فيما يتعلق بالجانب التنظيمي الحياتي في البلاد الأوربية مهما كان صالحاً وجيداً في نفسه ومنفصلاً عن الاستعمار سياسياً.

وقد أفرز هذا الانكماش عدم تفاعل أصحاب تلك الحركات التحررية مع كل النظام الحياتي والتنظيمي في الغرب، ووجدوا أن يقيموا نهضتهم التحررية وكيانها على نظام لا يمت لبلاد أوربا والاستعمار بصلة، فاتخذوا من القومية فلسفةً وقاعدةً في البناء الاجتماعي والتنظيم السياسي ولكنّهم لما وجدوا أن القومية ليست سوى رابطة دم ولغة وتاريخ ولا تتضمن أي فلسفة أو دلالات عقيدية، وإنما هي بطبيعتها حيادية تجاه مختلف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والرؤى المذهبية والدينية، عمدوا إلى صياغة تلك القومية بوجهة نظر عن الكون والحياة تفلسف لهم القومية وتجعلها صالحة للتنظيم الاجتماعي والسياسي ، ولذا نادوا بالاشتراكية العربية.

ص: 149

وهنا عادت هذه التجارب إلى النقطة نفسها التي هربت منها، ذلك أن وسم التجربة بالاشتراكية العربية لا يعبر إلا عن زيف ظاهري وشكلي، أما المضمون والجوهر فهو التبعية للغرب في رؤيته السياسية، إذ أن توصيف الاشتراكية بالعربية لا يغير من واقع الاشتراكية شيئاً، الاشتراكية التي هي واجهة الأجنبي، ومجرّد إضافة كلمة العربية للاشتراكية لا يميزها عن الاشتراكية السوفياتية أو الصينية أو الكوبية أو غيرها من الاشتراكيات، لأن المضمون واحد.

وهكذا نجد أن هذا التخبط في التجارب الاقتصادية والسياسية ناجم عن إشكالية في المنهج المتبع ، وهذه الإشكالية تتمثل في التبعية للغرب واقعاً وتطبيقاً على الرغم من أن المنطلق والمبتغى هو الخروج من إطار التبعية السياسية والاقتصادية للغرب.

أما على مستوى العلوم الطبيعية والتجريبيات واللاهوت، فقد ابتكر الشهيد الصدر نظرية ومنهجاً جديداً جعل التعاطي مع العلوم التجريبية في صف واحد مع اللاهوت والميتافيزيقيا، بحيث يكون الأساس المنطقي للإيمان بالطبيعيات نفسه مبرراً للإيمان بالله تعالى والغيب والميتافيزيقيا، ورفض أحدهما يستلزم رفض الآخر، كما شرح ذلك مفصلاً في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.

عقلانية الصدر / قيمة العقل

وحتى نستكمل هذه النقطة المتعلقة بالمنهج ودوره في النتائج، لا بد من الإشارة ونحن بصدد الحديث عن الأسس المنطقية للاستقراء إلى أن السيد الصدر في كتاب (فلسفتنا) أشار إلى أنّ المنهج الذي يبرز (الأنا) الفكري ويحقق الهوية هو المنهج العقلي والطريقة العقلية في التفكير ، وهذا هو المراد بعقلانية الصدر، بمعنى إعطائه قيمة للعقل ومدركاته، سواء في مجال البحث الميتافيزيقي واللاهوتي، أم في مجال البحث الابستمولوجي(نظرية المعرفة)، وكذلك فيما يرتبط بالتحليل الاجتماعي والتاريخي. ذلك أن بعض المفكرين المسلمين الذين تعاطوا مع فكر الغرب قد وقعوا في إشكالية منهجية عندما تصوروا أن منهج التفكير العام في الإسلام هو

ص: 150

المنهج الطبيعي التجريبي، وقد نسبوا ذلك للقرآن الكريم بوعي وبغير وعي، ودون أن يلتفتوا إلى أنهم يسايرون المناهج المادية التي ترفض الميتافيزيقيا والألوهية.

أما السيد الصدر في تعاطيه مع فكر الغرب فلم يجد حرجاً في إعلان أن منهج الإسلام العام وطريقته في التفكير هي الطريقة العقلية، على الرغم من أن المعرفة الغربية في العصور المتأخرة شهدت كساداً في المنهج العقلي فيما صار التمركز باتجاه المنهج التجريبي، كما ولم يجد حرجاً في إعلان أن مفهوم حضارتنا عن العالم والوجود مفهوم إلهي ، بالرغم من أن توجهاً كبيراً في الغرب انتهى من تأليه الإنسان إلى مسألة موت

(الإله).

فهذه التداعيات في دنيا فكر الغرب لم توجد هزةً في نفس الصدر كما أوجدتها في نفوس آخرين من آخرين من الكتاب العرب والمسلمين، عندما صرّحوا أن البحث في الإلهيات والميتافيزيقيا ينحصر باستخدام المنهج الحسي التجريبي الذي يستخدم في مجال اكتشاف الطبيعة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ادعوا أن المنهج القرآني في الإلهيات ينحصر بقراءة الطبيعة وعالم الخلق.

فالسيد الصدر وعلى الرغم من أنه قد أسس منطقياً لمنهج البحث الطبيعي والتجريبي، وجعل هذا البحث مع مسألة الألوهية يمتلكان أساساً منطقياً واحداً، بنحو يقف الباحث فيهما على مفترق طرق ؛ فإما الإيمان بهما معاً، وإما رفضهما معاً، ولا يمكن التفكيك في الإيمان، إلا أنه ومع ذلك كله بقي مصرّاً على المنهج العقلي في التفكير والمفهوم الإلهي للعالم والوجود.

وعلاوة على ذلك، فالسيد الصدر وفي إطار بحثه اللاهوتي عن مسألة إثبات الصانع، قد أشار عند حديثه عن الدليل الفلسفي على إثبات الصانع، إلى أن القرآن الكريم - وخلافاً لأولئك النفر من المفكرين المسلمين- تناول هذا الدليل الفلسفي وقضاياه في عدد من آياته.

فعقلانية الصدر تكمن في إعطاء قيمة للعقل ولمدركاته وتأكيده أنّ المعرفة العقلية

ص: 151

تحظى بالثقة. ولم يتزعزع هذا الايمان بالعقلانية عند الصدر بالرغم من ولوجه صلب البحث في التأسيس لمنطق التجريب والاستقراء.

وبتعبير آخر إن الصدر لا يرى ذلك الانفصام الذي أوجدته العدمية بين الايمان والمعرفة، وذلك بإعطاء قيمة للعقل ومدركاته البديهية من جهة، وبالتأسيس لمنطق الاستقراء العلمي من جهة ثانية.

ومن كل ما تقدم يمكننا أن نقول : إن هناك نقطتين أساسيتين ومرتكزين اثنين في تعاطي الصدر مع فكر الغرب ومنجزه الحضاري وصرحه الفكري، تتمثلان في تجاوز أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص والانبهار ، والاستقلال في المنهج، ليتجاوز بذلك إشكالية التبعية المنهجية.

وعلى وفق ذلك فعندما نتحدث عن نقد الصدر للغرب، فإننا نتحدث عن العقلانية التي يشترك فيها الصدر مع الحداثة، بمعنى إعطاء قيمة للعقل ولمدركاته والوثوق بها، وكذلك عن العودة للذات وإبراز الأنا، بكل ما يعنيه ذلك الإبراز من استخدام العقل وتفعيل قيمته وحركيته، فضلاً عن نقد الآخر نقداً حراً يتجاوز أزمة الهوية والانبهار.

بين الأصالة النقدية والنزعة التلفيقية

في إطار تفاعل المفكرين العرب والمسلمين مع فكر الغرب ظهرت تيارات فكرية متعددة، قامت في جوهرها على أساس التوفيق والتلفيق بين الموروث العربي الإسلامي من جهة والمنتج الغربي من جهة ثانية، اعتماداً على المناهج الوضعية في صياغة وبلورة المفاهيم، فضلاً عن المنهج، فبرزت في ظل هذا التدافع والتفاعل تيارات اليسار الإسلامي التي تقاسمتها توجهات مختلفة كتوجهات الدكتور على شريعتي وتوجهات الدكتور حسن حنفي والدكتور محمد عمارة في حقبة زمنية معينة، وغيرهم.

وإلى جانب ذلك برزت تيارات حاولت التوفيق بين الماركسية والإسلام، فيما ظهرت توجهات حاولت صياغة فلسفة وجودية عربية كما تجلى ذلك في مساعي الدكتور عبد الرحمن بدوي.

ص: 152

وواضح أن التلفيق بين الأفكار والمنتجات المختلفة البيئة الثقافية والفضاء المعرفي الذي ولدت فيه، لا يقوم على منهج واضح، بقدر ما يقوم على تهجين للفكر ينتج تضخماً في الكلمات وخواء في المعنى، فضلاً عن المجازفات الفكرية والتشوهات المعرفية والعقيدية التي تحصل بسبب النزعة التلفيقية.

في قبال ذلك كله، كان منهج السيد الصدر أبعد ما يكون عن النزعة التوفيقية والتلفيقية، وإنما اعتمد النقد كأساس. فالصدر كان قد حدد في الأصل اطاراً معرفياً للطرح الإسلامي عقيدة وفكراً، منطلقاً في ذلك كله من مفاهيم الإسلام ذاته كالتوحيد وخلافة الإنسان وعقيدة المعاد، وطرح في ضوء هذه المفاهيم علاقة الفكر بالتاريخ والمجتمع، مؤصلاً للواعية في علاقتها مع حركة التاريخ، ونقد العقل، ومناهج العلوم الإنسانية واللاهوتية .

فالسيد الصدر وخلافاً لآخرين من تيار المحدثين كأمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الرحمن بدوي ومحمد أركون وفؤاد زكريا وطيب تيزيني، ،وغيرهم، ولج أفقاً جديداً في ميدان البحث الفلسفي والفكري بشكل عام، فلم يستخدم مفاهيم الحداثة والفلسفة الغربية في دراسته للتاريخ والتراث الإسلامي والعقيدة الدينية الإسلامية فابتعد بذلك بالتاريخ والدين عن مذاهب الوجودية والماركسية والبنيوية وغيرها من تمظهرات الفلسفة الغربية، لإيمانه باختلاف الفضاء النموذجي لكل ميدان.

إن منهج الصدر في دراساته المتنوعة قد اتسم بالأصالة والأمانة للميدان الذي مارس النشاط الفكري والثقافي فيه، ولم يخرج لنا مزيجاً تلفيقياً لا ينتمي للتراث ولا للمعاصرة، كما نرى في أعمال الكثيرين والإصدارات المتتابعة الظهور كل يوم فالصدر لم يصدر في طرحه لعلاقة الفكر الإسلامي بالفكر الغربي من موقع العاطفة، ولا الانفعال أو الانبهار والتبعية والتقليد مفاهيم ومنهجاً، وإنما كان يصدر في كل ذلك عن تأسيس وتأصيل علمي ونقدي.

ص: 153

إبراز الأنا ونقد الآخر

أسلفنا أن توجه السيد الصدر في تعاطيه مع فكر الغرب قائم على مسلّمة أن الإنتاج الداخلي (إبراز الأنا) هو المنهج الأسلم والطريقة الفضلى في التعاطي مع فكر الغرب، وأن هذا الإبراز هو الذي يتجاوز أزمة الهوية، أما عقدة الشعور بالدونية أمام الآخرين فتجاوزها يكون من خلال التعاطي النقدي والحوار الفكري مع الآخر.

وعلى أساس هاتين الركيزتين سار الشهيد الصدر في مشروعه الفكري وفي مختلف مؤلفاته، التي تناول فيها المشروع الحضاري بأبعاده المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والخلقية وغيرها .

ومن الواضح أن إبراز (الأنا) الحضاري في الإسلام ونحن أمام نصوص متناثرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، إبرازاً في مختلف المجالات، يتطلب احاطة وشمولية وجهداً نظرياً تنوء به العصبة أولو القوة، وقد عمل الشهيد الصدر في هذا الميدان وهو الفارس الوتر ، وأخرج لنا أعمالاً سارت في هذين الخطين المتوازيين: إبراز الأنا، ونقد الآخر، كما نلاحظ ذلك في كل من : فلسفتنا، اقتصادنا، الأسس المنطقية للاستقراء، الإسلام يقود الحياة، والسنن التاريخية في القرآن الكريم. ففي هذه الأعمال قدم لنا الصدر التصورات الإسلامية المتكاملة الأسس في شتى المواضع التي تناولها بحثاً وتعميقاً وتأصيلاً، وأعطانا نظريات متكاملة في مقومات النهوض الحضاري، حتى أضحى المُنظّر الرائد للنهضة الإسلامية.

لقد انتقل الصدر في كتاباته من التعامل مع الإسلام كنصوص إلى عرضه كنظريةمتكاملة

، ذلك أن المجتمع المسلم في عصر نزول الوحي: التشريع والنص قد عرف الإسلام من خلال تطبيق تشريعاته وتعاليمه على أرض الواقع، حتى فيما يرتبط بالجوانب الاجتماعية، والجوانب الأخرى ذات الدلالات العامة. فالرسول صلى الله عليه وآله لم يطرح الإسلام كنظريات عامة وإنما طرحه من خلال تطبيق خارجي وتشريعات حسب الحاجة ومتطلبات الحياة الجديدة التي عاشها المجتمع المسلم والتي كان يقودها بنفسه ، ولذا لم يكن المجتمع أو آحاد المسلمين بحاجة إلى تصور

ص: 154

النظرية والإحاطة بأبعادها المختلفة. ولكن في مثل زماننا وبعد انحسار الإسلام عن مسرح الحياة والتطبيق، ومواجهة الإنسان المسلم لمختلف النظريات المذهبية والعقائدية والأيديولوجيات المختلفة، صارت ضرورة ملحة إلى عرض الإسلام كنظرية متكاملة، وكذا لأجل مواجهة النظريات المختلفة وهذا ما عمل عليه السيد الصدر في كتاباته المختلفة، فقد أراد أن يطرح التصورات الإسلامية المتكاملة في المجالات المختلفة التي تناولها، فإبراز الأنا يتطلب القيام بكل هذا المجهود النظري والفكري الدقيق وقد جمع السيد الصدر وهو يعمل على هذا المجهود بين الريادة العلمية وسحر البيان وعمق الطرح.

أما نقد الآخر، فهو مجهود يحتاج لاستيعاب فكر الآخر استيعاباً شاملاً ودقيقاً، وكذا عرضاً أميناً واعياً وبالاستناد لمصادره، ومن ثم نقده وتسجيل الملاحظات عليه في إطار ذلك الفكر ومنهجه، وليس في إطار منهج الخصم الفكري (الأنا).

وبعبارة أخرى : إن نقد الآخر يتطلب نقده في مرتكزاته الأساسية وبناه التحتية، وكذا من خلال إبراز تهافته الداخلي وبيان اللوازم الباطلة له، بحيث لو اطلع عليها أصحاب ذلك الفكر لما وسعهم الالتزام بتلك النتائج واللوازم الباطلة.

وهذا يعني أن نقد الآخر يقتضي المرور بمرحلتين : مرحلة النقد المبنائي من خلال نقض أصل الرؤية والأساس الفكري، ومرحلة النقد البنائي من خلال بيان التداعيات والآثار السلبية واللوازم الباطلة لفكر الآخرين ورؤاهم.

وبتتبع الاعمال الفكرية للصدر نجده قد سار في سعيه لإبراز الأنا ونقد الآخر، وفق هذه الخطة بأمانة ودقة عاليتين، فعلى مستوى ارجاع الأفكار لأصحابها والاستناد لمصادرهم، نجده قد أولى عناية فائقة في مؤلّفاته بالرجوع لمصادر الآخر الأساسية، أو لمصادر المؤمنين بذلك الفكر حتى لو لم يكونوا من مؤسسيه ورواده، ولم ينقل فكرة عن خصومه الفكريين بالمعنى والمضمون، بل كان يعمد إلى إثبات نصوص الأفكار ، كما ولم يعمد في مقام استعراض أفكار الآخرين إلى الاستعانة بمصادر

ص: 155

خصومهم كما يفعله كثيرون، فهذا ليس من الأمانة العلمية في شيء ومخالف للقواعد الأخلاقية.

كما ابتعد الصدر وهو يمارس نقد الآخر عن الاسقاطات النفسية ومناقشة النوايا وخبايا النفوس، إذ معرفة النوايا أمر لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، وإنما اعتمد على الواضح والصريح من أفكارهم المبثوثة في كتاباتهم ومصادرهم.

أما استيعاب فكر الآخرين وعرضه، فقد كان السيد الصدر أُعجوبة في ذلك، حتى أنّه يخيّل للقارئ وهو يطالع عرض الصدر للماركسية واستيعابه لها أنه ماركسي من الطراز الأول ومن كبار مفكريها ، وهكذا فيما يرتبط ببقية المذاهب الفكرية والفلسفية.

وفيما يرتبط بالنقد المبنائي والبنائي، نجد السيد الصدر وهو يستعرض المذاهب الفكرية المتعددة يعمد أولاً إلى نقد أركان تلك المذاهب وأسسها، ثم ينتقل إلى النقد البنائي الداخلي من خلال بيان التداعيات والآثار واللوازم الباطلة لتلك الأفكار، وقد سار على هذه الطريقة في نقده لكل الأفكار التي تناولها في اعماله الفكرية.

الحفر في نظم الحضارة

إن عمليتي نقد الآخر وإبراز الأنا (العودة إلى الذات) بكل ما تتضمنانه من تأصيل منهجي ونظري، تتلخصان في كونهما المعبر التفصيلي عن نُظم الحضارة وأسسها . إذ من الواضح أن الحضارة - أي حضارة - تتقوّم بأربعة نُظم أساسية: النظام العقلي والفكري، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي، والنظام الخُلُقي، وفي كل نظام من هذه النظم توجد شبكة مترابطةً من العلاقات.

وجوهر عمليتي نقد الآخر وإبراز الأنا التي اضطلع بها الصدر تتمثل فی أنه أراد إبراز نُظم الحضارة الإسلامية وأسس قيامها، فيما نقد الآخر الغربي في أساس حضارته من خلال دراسة نظمه السياسية والاقتصادية والخلقية والعقلية.

من هنا يتضح لنا أن الصدر كان بصدد مشروع نهضوي كبير سعى له في أعماله

ص: 156

الفكرية المختلفة، فقد رام من وراء مجهوده الضخم تقديم بديل حضاري من حيث النظم والمرتكزات عن حضارة الغرب، فضلاً عن نقده لنظم تلك الحضارة كما سنتعرف على ذلك بشكل مجمل في القادم من حديث:

-1 النظام الاقتصادي:

على مستوى النظام الاقتصادي سعى الصدر لنقد النظام الاقتصادي الغربي (نقد الآخر) ومن ثم الى تقديم نظام اقتصادي إسلامي كفيل بمعالجة المشاكل التي يعانيها ذلك النظام (إبراز الأنا). وقد خص لهذا المشروع كتابه الكبير والقيم (اقتصادنا)، فكتاب اقتصادنا كما عرفه الصدر: دراسة موضوعية تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام في أسسها الفكرية وتفاصيلها.

وقد جعل الكتاب في قسمين: خص القسم الأول منه لنقد الآخر الغربي في أسس نظاميه الاقتصاديين المعروفين الاشتراكي والرأسمالي، من خلال دراسة نقدية لكل من المذهبين في أسسهما ونظريتيهما دراسة علمية مستوعبة. فقد درس الماركسية في نظريتها المادية التاريخية والأسس التي تقوم عليها، ودرسها بما هي مذهب اقتصادي يقوم على أساس الاشتراكية ثم الشيوعية.

وكذا فعل مع الرأسمالية، فقد درسها في خطوطها المذهبية العامة، مركّزاً نقده على النظام الاقتصادي الرأسمالي.

وبعد انتهائه من دراسة هذين النظامين والمذهبين عقد البحث للحديث عن معالم

النظام الاقتصادي البديل (إبراز الأنا)، أعني المعالم العامة للنظام الاقتصادي الإسلامي، فتحدث عن الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي وعن علاقات التوزيع وانفصالها عن شكل الإنتاج، وفضلاً عن حلول المشكلة الاقتصادية من وجهة نظر الإسلام.

أما ثاني القسمين، فقد خصّه الصدر بعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي، في ضوء تشريعات الإسلام ومفاهيمه وأحكامه التي ترتبط بالحقل الاقتصادي والثروة، وقد أبدع الشهيد الصدر في هذا الجزء ابداعاً قل نظيره.

ص: 157

وقد أقام الصدر جهده النظري في اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام على أساس عمليتين مترابطتين: الأولى تجميع عدد من التشريعات والمفاهيم الإسلامية التي يمكنها أن تلقي الضوء على عملية اكتشاف المذهب الإسلامي في الاقتصاد. والثانية تفسير تلك المجموعة من التشريعات والمفاهيم تشريعاً نظرياً موحداً يبرز المحتوى والمضمون المذهبي للاقتصاد الإسلامي.

من كل هذا يتضح لنا أن الصدر على مستوى النظام الاقتصادي الذي هو نظام أساس من نظم الحضارة، سار في خطين متوازنين: نقد الآخر وإبراز الذات.

2- النظام السياسي:

فيما يخص النظام السياسي، فقد أولاه السيد الصدر كذلك عناية وهو ينظر لمشروعه أعني العودة إلى الذات مع نقد الآخر. ولا يخفى ان النظام السياسي في الحضارة يقوم على مجموعة من العناصر تتمثل في القانون ومؤسسات الدولة والأسرة وما أشبه بكل ما فيها من تفاصيل.

وقد تناول الشهيد الصدر النظام السياسي في كثير من عناصره في كتابات متعددة، أبرزها السلسلة التي صدرت في ست حلقات بعنوان : الإسلام يقود الحياة، والتي تناول فيها اللبنات الأولى لنظام الحكم والإدارة والدستور ودور الإنسان والأمة في الحياة السياسية، ومنابع القدرة في الدولة الإسلامية، مجلياً آفاق التحرك في البناء والتنمية.

وكذلك تحدث عن بعض عناصر النظام السياسي في سلسلة مقالاته التي كان يكتبها بعنوان (رسالتنا)، فضلاً عن بحثه لعقيدة الإمامة في الفكر الإسلامي الإمامي وترابطها الوثيق مع النظام السياسي، وكذا تناول جوانب وعناصر أخرى في مختلف كتاباته دالمتنوعة كمقدمة فلسفتنا وبعض مواضع اقتصادنا.

والسيد الصدر كما لا يخفى على القارئ الكريم صاحب تحرك سياسي رسالي ختمه بالشهادة على أيدي زمرة الحكم البعثي في العراق عام 1980م.

ص: 158

وفي النظام السياسي سار الشهيد الصدر على خطته المرسومة بوضوح: العودة إلى الذات وإبراز الأنا مع نقد الآخر، ذلك أن نقد الغرب في فكر السيد الصدر يسير جنباً إلى جنب مع إبراز الأنا والعودة إلى الذات.

3- النظام العقلي:

النظام العقلي واسع العناصر، وتتشابك فيه أنماط مختلفة من السلوك الفكري، فيندرج فيه السلوك العقلي بمعناه الخاص، وكذا العلوم والآداب والفنون.

وفي خصوص هذا النظام فالسيد الصدر ثري جداً، فقد تحدث عن كثير من عناصر النظام العقلي على مستوى نقد الآخر وإبراز الذات في كتابيه القيمين فلسفتنا والأسس المنطقية للاستقراء، فضلاً عن دراساته في علم أصول الفقه ومحاضراته الفلسفية التي كان يلقيها على تلاميذه.

ففي كتاب فلسفتنا سار الصدر في خطي إبراز الأنا ونقد الآخر في حقلين مهمين هما نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) ونظرية الوجود( الأنطولوجيا) والذي عبر عنه بالمفهوم الفلسفي للعالم. وفي القسم الثاني تحديداً ركز على نقد الماركسية ونظريتها المادية بشأن المفهوم الفلسفي للعالم، وإن كان تعرّض كذلك للمفهوم المادي الأوسع للعالم والوجود.

أما الأسس المنطقية للاستقراء، فقد أجملنا الحديث عنه سابقاً، وقلنا إن السيد الصدر قد انطلق من معالجة إشكالية الاستقراء الناقص إلى ابتكار منهج جديد ونظرية بديعة في دراسة الطبيعيات والتجريبيات وألقى بظلاله على اللاهوت. فقد جعل التعاطي مع العلم التجريبي في صف واحد مع اللاهوت والغيب من خلال إبراز أساس منطقي مشترك في الاثبات بنحو يكون الأساس المنطقي للإيمان بالعلوم الطبيعية والتجريبيات نفسه مبرراً منطقياً للإيمان بالغيب والميتافيزيقيا، وأن رفض أحدهما يستلزم رفض الآخر،على تفصيل يطلب من كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.

والصدر في كل ذلك ما حاد عن طريقته في العودة إلى الذات وإبراز الأنا ونقد الآخر، فضلاً عن التأسيس المنهجي السليم.

ص: 159

-4 النظام الخُلُقي:

النظام الخلقي لا يقل سعة في عناصره عن النظام العقلي، فهو يشمل الدين والأخلاق بكل ما يعنيه هذان المفهومان من تشعب ومظاهر. وقد أولى الصدر هذا النظام اهتماماً في كتاباته المتعددة، منها محاضراته في التفسير الموضوعي التي تحدث فيها عن السنن التاريخية في القرآن الكريم، فقد تناول في هذه المحاضرات الحديث عن جوانب مختلفة من النظام الخلقي، فتحدث عن عناصر المجتمع وعلاقاتها، ودور الإنسان في حركة التاريخ والمثل الأعلى وما يمثله من منطلق لبناء الإنسان، وعن انهيار الأمم والحضارات وأسبابها، ودور العلاقات الاجتماعية في حركة التاريخ.

كما تحدث في مقالات طبعت مع تلك المحاضرات عن الحرية وأبعادها ورؤيةالاتجاهات المختلفة فيها، وهو موضوع يتداخل في النظامين السياسي والخلقي، وكذا عن العمل الصالح من منظور الإسلام والرأسمالية والماركسية.

وكذلك تحدث عن عناصر أخرى عناصر أخرى من النظام الخلقي في كتابات أخرى من قبيل: نظرة عامة في العبادات البحث الذي ألحقه بكتابه الفقهي الفتاوى الواضحة، ففي هذا البحث تطرق إلى كون العبادة بما تمثله من التزام خُلُقي حاجة إنسانية ثابتة، وعوامل ذلك الثبوت، والملامح العامة للعبادات في الإسلام. هذا فضلاً عن دراساته الفقهية المتنوعة والتي تناول فيها الكثير من عناصر النظام الخلقي والسلوكي.

إن دراسة كل نظام من نظم الحضارة هذه تحتاج لدراسة مفصلة ومسهبة، وهي خارجة عن غرضنا، وما نريد التأكيد عليه هنا أن السيد الصدر في نقده للغرب الفكري سار في خطين متوازيين: نقد الغرب في أسس حضارته، إضافة لإبراز الأنا والعودة إلى الذات فيما يرتبط بأسس الحضارة الإسلامية ونهضتها، فالصدر كان يضطلع بمشروع حضاري كبير، برّز في أعماله المختلفة أسس ذلك المشروع بشكل موضوعي وحواري نقدي.

ص: 160

إن نقد الصدر لنظم الحضارة الغربية وإبرازه في مقابل ذلك لنظم النهوض الإسلامي، قد كسر تلك الثنائية التي صارت معبودة في كتابات من يعرفون بالمتنورين في العالم الإسلامي، عنيتُ بذلك ثنائية القديم والجديد، والتراث والمعاصرة، والتي استلت من الرؤية الغربية للتاريخ والتراث، وهي ثنائية قضت بأن تكون الحضارة الغربية بعاداتها وقيمها وخصوصياتها مرجعية كونية يجب على كل الشعوب الاندماج في مساراتها وسياقاتها وتتبع كل خطواتها وآثارها وهذا يعني وفق المنطق الذي يطرحه الصدر أن مفاهيم القديم والجديد والتقدّم مفاهيم نسبية وليست كونية عابرة للحدود والقارات وكل الأوضاع الثقافية والقيم المختلفة حول العالم.

لقد أراد السيد الصدر من كل ذلك التأكيد على أن التنمية والتقدم والنهوض يرتبط بالوجود وإبراز الأنا والذات وهذا الإبراز والرجوع إلى الذات سبيله الإنتاج الداخلي لاسيّما المعرفي، فهو السبيل الوحيد لتحقيق هويتنا ووجودنا والقاعدة التي تنطلق منها نهضتنا الشاملة، وليس القطيعة مع الآخر، أو الاندماج فيه كليّاً، أو التلفيق والتفكيك بين منتج ومنتج.

إن فشل الكثير من النماذج (التقدمية) ذات المنشا والأصول الغربية في العالم الإسلامي، يرجع حسب تحليل الصدر في مقدمة كتاب (اقتصادنا) إلى التناقض بين نماذج التقدم المقترحة وواقع الشعوب الإسلامية، بمعنى أن هناك تناقضاً بین الأدوات الفكرية للتحليل وعلاج الأزمات والحلول المقترحة وبين الواقع النفسي والفكري والسيسيولوجي للشعب المسلم كان هو السبب في فشل النماذج التقدمية والتحديثية، ذلك أن من أهم عوامل نجاح القوانين والتشريعات والنماذج المقترحة التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وتجاوبهم العاطفي والنفسي مع أهدافها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق، وهذا ما لا يتوفر في مثل هذه النماذج، ولذا حصلت قطيعة وتناقض بين الواقع والمشاريع. أما نموذج الحل المقترح بحسب الصدر، فهو اكتشاف الذات والعودة إليها، فهوية الشعب الحقيقية هي المنطلق في النهوض.

ص: 161

تواصل نقدي

لعلّ من أبرز التداعيات المترتبة على رؤية الاتجاهين الأول والثالث المشار إليهما في بداية الحديث في هذا المقال هو القطيعة، وصيرورة العالم الإسلامي في عزلة تامة عن أفكار ومشايع وأنظمة وتجارب الشعوب الأخرى بخيرها وشرّها. ومثل هذه القطيعة تعني فيما تعنيه أن نعيش في نفق مظلم ونعود للعصر الحجري، على أن الظروف الموضوعية وتداعيات الواقع، وإفرازات العولمة لا تسمح بمثل هذه القطيعة وأي عاقل يرضى أن نرفض كل خبرات ومشاريع الآخرين ومشاريعهم وتجاربهم الغنيّة في الحياة والفكر والممارسة ؟

إن رؤية السيد الصدر المبنية على إبراز الذات ونقد الآخر في أنظمته ومفاهيمه ورؤيته، لا تتضمن مثل تلك القطيعة، وإنما تعني التواصل النقدي والحواري بين ذاتين ، فنقد الصدر لحضارة الغرب بكل أنظمتها ومفاهيمها لا يعني السكون ورفض الحركة والتغيير والتنمية والتقدم، وإنما يعني رفض رؤية معينة في التغيير والتقدم الرؤية القائمة على أساس النظر للتغير بنفسه كغاية نهائية وقيمة عليا، ولم تؤسس حركتها ونظامها في صيرورة الحضارة على القيم الروحية والأخلاقية التي تحفظ التغيير من الانحراف.

العَماءُ في حداثة الغرب هو المرفوض من جانب الصدر، وهذا العماء ناشئ من فصل الفكر في الغرب وفي نظم حضارته عن الميتافيزيقيا وعن الأخلاق. ومثل هذا الفصل جاء نتيجة طبيعية لإخفاقات متكررة بلي بها الغرب في إقامة أساس تبنى عليه عالمية الأخلاق وكونيتها، إذ أن مطالعة سريعة لتاريخ تيارات الفكر في عالم الغرب توقفنا على تلك الإخفاقات، فيوم كان فيه الفكر الأرسطي سائداً في الغرب أخفق في بناء أخلاق كونية على أساس مفهوم الطبيعة البشرية أو على ماهية الإنسان، وكذلك الحال في التيارات اللاحقة التي أرادت جعل الواقع أو التاريخ مصدراً للقيم الأخلاقية، وحتى التيارات الغربية التي جعلت من الدين أساساً في البناء الأخلاقي فشلت في ذلك، ومرجع ذلك بنظر الصدر إلى أن الدين في دنيا الغرب وبالأخص

ص: 162

الدين المسيحي ليس صالحاً لكل زمان ومكان حتى ينتج قيماً أخلاقية كونية.

فالصدر في نقده للغرب منهجاً ونُظُماً لا ينطلق من موقف القطيعة مع كل نتاج الغرب كما هو الحال في كثير من التوجهات السلفية، وإنما ينطلق من منهج إبراز الذات والهوية مع نقد الآخر وتقديم الحل، ومثل هذا النقد وذلك الابراز وإن أوجد قطيعة إبستمولوجية، بمعنى وجود اختلاف في الطرح والمنهج والهوية، إلا أنه لا يعني رفض منتج الآخر من موقع القطيعة، وإنما يرى الصدر أننا مع إبراز ذاتنا عن طريق الإنتاج الداخلي فإننا لا نهاب الحوار النقدي مع الآخر والتواصل العقلاني مع منتَجه، لأننا في مثل هذه الحال لا نصدر عن أزمة هوية أو عقدة الشعور بالدونية إزاء الآخرين، وعند ذلك سنأخذ ونرفض من منتج الآخر من دون أية عقدة أو أزمة.

إن الصراع الفكري والنقد الفلسفي الذي خاضه الصدر تجاه الفكر الغربي ليس صراعاً تدميريّاً أو لنفي عطاءات الآخرين، وإنما هو حوار نقدي لاستيعابه في إطار مبدأ (التعارف) القرآني، يستهدف قيادة البشرية نحو القيم الإلهية والأخلاقية.

القيمومة الغربية

ربط السيد الصدر في كتاباته وأعماله الفكرية بين نقد الأساس الفكري والحضاري للغرب وبين قيمومته العملية على شعوب العالم، فبعد أن توقف مليّاً ناقداً نُظم الحضارة في الغرب رتب على ذلك أن الفكر الغربي لا يمتلك قيمومة على بني الإنسان حتى يعمل على اخضاعهم لنظامه الفكري وقيمه وتجاربه وطريقته في الحياة، مركزاً على التناقض بين حضارة الغرب وقاعدتها الفكرية.

ومرجع هذا التناقض إلى أن الحضارة الغربية نابعة من واقع الإنسان الغربي نفسه، وبالتالي فهي محدّدة بحدود التجربة التي عاشتها شعوب الغرب، في حدود الزمان والمكان والشروط الموضوعية والاقتصادية والسياسية التي تمخضت عنها تلك الحضارة، ومن ثمّ فمهما امتلكت حضارة الغرب من تفوّق مرحلي على بقية الشعوب إلا أن ذلك لا يبرر لها منطقياً أن تنتزع إرادة الإنسان وأن تسيطر عليه بالقوة في

ص: 163

سبيل تطويره، ولا أن تمارس الضغوط السياسية والاقتصادية على شتى البلدان لأجل اجبارها على الأخذ بنظمها ورؤاها في إدارة الحياة.

إن الشعوب الأخرى من وجهة نظر الصدر فيما لو توفرت لها شروط موضوعية للنهوض، وبدأت تتحرك ذاتيّاً ومارست تجاربها ، فمن الممكن ان تكتشف حقيقة حضارية أكبر من الحقيقة التي وصلتها شعوب الغرب، فاكتشاف الشعوب الغربية ضمن ملابسات معينة ومن خلال شوطها الاجتماعي لحقيقة حضارية قامت عليها نهضتها لا يعني اكتشاف الحقيقة المطلقة، فمثل ذلك أمر لا تدعيه حضارات البشر.

وهنا يركز الصدر في نقده للغرب على هذا التناقض بين واقع الغرب وقاعدته الفكرية، فالغرب في واقعه يمارس سياسية فرض قيمه وطريقته في الحياة وكانه يفترض سلفاً حقانيتها المطلقة وكونيتها، بينما نظريّاً لا يمكنه اثبات ذلك الشمول أو الكونية ولا التدليل عليها، ولكن برغم ذلك تجد الغرب في واقعه يمارس القوة في سبيل أن تنتهج الشعوب المختلفة طريقته في الحياة، بينما لو فسح المجال لكل شعب أن يمارس تجربته الذاتية وتفاعل في تلك التجارب الذاتية ضمن شروط مختلفة وملابسات اقتصادية وسياسية وفكرية وروحية، لكان بالإمكان أن يصل لحقيقة أكبر وأفضل مما وصلها الغرب.

والصدر في هذا النقد للقيمومة والممارسة الغربية لا ينطلق من موقف سياسي، وإنما ينطلق من موقف إبستمولوجي ويمارس تحليلاً سيسيولوجياً، ذلك أن الإيمان بنسبية المعرفة ومحدودية التجارب، وبالتالي نسبية قيم الحضارة مع سلوك نشرها في الشعوب المختلفة بمختلف الوسائل، يعبر عن إمبريالية ثقافية واستعمار بواجهات مختلفة، تصطبغ بالعولمة.

«فمن غير المنطقي أن حضارة تقول بأنني اكتشفت الحقيقة من زاويتي وضمن شروط وملابسات لكن هذه الحقيقة التي اكتشفتها من زاويتي وشروطي وملابساتي، أريد أن أفرضها على شعوب العالم، بينما هذه الشعوب بالإمكان أن تكتشف حقيقة

ص: 164

من جوانب وزوايا أخرى، وقد تكون هذه الكشوف الأخرى في التجربة التاريخية للبشر، قد تكون نافعة في سبيل تصعيد الحياة الإنسانية ككل فيبقى هنا نوع من التناقض التناقض العقلي في موقفهم صحيح أن هناك احتمالاً آخر، وهو أنه بالإمكان أن هذا الشعب الآخر لو ترك فسوف يضيع وسوف يستمر في الضياع، ولكن هذا مجرد احتمال طبعاً الاحتمال موجود ، ولكن هذا الاحتمال الآخر هو الأقوى؛ لأنه هو الذي يساعد عليه التاريخ والذي ينظر إلى تاريخ شعوب العالم، وإلى حركة التاريخ يرى بأن الحقيقة لن تنكشف من قبل شعب واحد، ولم تكن الحقيقة في وقت من الأوقات محتكرة لشعب واحد، أو مكتشفة من قبل شعب واحد جميع شعوب العالم تقريباً ساهمت في الحقيقة التاريخية ككل، كل شعب خلال حضارته وخلال وجوده ودخوله على مسرح التاريخ أعطى جانباً من الحقيقة، وكوّن جزءاً من التاريخ الذي هو الأساس لحياة الإنسان اليوم. فالشيء الأقرب احتمالاً سوف يكون مانعاً عن فرض القيمومة لشعب على شعب بالقوة.

ولو جمّدنا المواهب والعطايا والطاقات الخام الموجودة في هذه الشعوب وفرضنا عليهم بالقوة أن يعملوا عملنا، ويعيشوا اقتصادياً وسياسياً كما نعيش سياسيّاً واقتصادياً، فإننا سوف نجمد حركة هذه الشعوب وكذلك يمكن ان تكتشف هذه الشعوب أخطاءنا، وبالتالي نصبح متخلفين عنها حضارياً، فهل نقبل قيمومة هذه الشعوب بالقوة؟».

ويسوق السيد الصدر مثالاً على أن القاعدة الفكرية الغربية محدودة وبالتالي لا يمكن اعطاؤها صفة الكونية برغم أن الغربيين يمارسون الاطلاقية عملياً في سياساتهم. يقول : أنجلز كتب في ضدّ (دوهرنك)يعتذر - كأنَّ كاتباً انتقده على قوله: إن الديالكتيك ينطبق على كلّ شيء حتى على الرياضيات، وكونه طبق الديالكتيك على الرياضيات حيث قال: إن الاعداد السالبة والموجبة تمثل نفياً وإثباتاً. حينئذ ذاك الكاتب قال بأن أنجلز يجهل معنى الموجبة والسالبة وإلا ما معنى أن الاعداد الموجبة تمثل إثباتاً والأعداد السالبة تمثل نفياً - وهو يعتذر في هذا الكتاب ويقول ما معناه:

ص: 165

إني قد تسرّعت في دعوى أن الديالكتيك ينطبق على كلّ شيء وعلى الرياضيات، ومطالعاتي في الرياضيات قليلة، ولذا لا أستطيع أن أجعله في هذا الميدان. ولكنّي حينما حاولت هذا كنت متأكداً من ان الديالكتيك ولا أزال متأكداً بشكل من الأشكال بأنه ينطبق على كلّ شيء.

طبعاً إن قصده أن الديالكتيك ينطبق على كل أنواع التطبيقات، وذلك لأنه عاش ومارس الفترة التاريخية التي عاشها في أوربا في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. هذه ثلاثة قرون أصبح واضحاً لكل ذي عينين إلا أن يكون أعمى، أنها عاشت التناقض الفلاحون يتعاركون مع الإقطاعيين العمال يتعاركون مع أصحاب المعامل، إن الحياة تناقض وصراع، إذن فيجب أن يكون الكون كله صراعاً؛ لأن الحياة مظهر من مظاهر الكون؛ يعني: إن أنجلز اكتشف جانباً من الحقيقة ضمن شروط خاصة جدّاً، ضمن فترة معينة من تاريخ كائن حي في منطقة معينة على الكرة الأرضية، وفي زمان معين في هذه الحدود الزمانية والمكانية التي لا تزيد عن ثلاثمئة سنة، وفي أوربا كان التناقض هو الذي حرّك المجتمع، تناقض في الطبقة الحاكمة.

حينئذ جرد من هذا نظرية ملأت كل أبعاد الزمان والمكان، وكل الأرض والكون إلى أن جاءت إلى الرياضيات وإلى الأعداد الموجبة والسالبة. هذا طبعاً يعتبر خطأ علمياً، لأن الحضارة التي تحترم نفسها لا تدعو إلى نوع من التعميم المطلق قط، وإنما تقول: أنا اكتشفت الحقيقة من خلال زاوية معلومة معينة ليست أكثر من هذا المقدار. إذاً أنا حينما اكتشفُ هذه الحقيقة من خلال هذه الزاوية، فإذا إن آلافاً من الطاقات التي أجمدها والتي أفرض رأيي عليها والتي احجرها لأمنعها من النمو الطبيعي، ومن منافع الصعود بشكل آخر غير هذا الشكل الذي أنا صعدت به، إذاً ماذا يدريني أني بهذا لم أقصر معالم تصور بشرية كبيرة جداً؛ ولو نظرنا إلى هذا ككلّ يصبح شيئاً معقولاً وتصبح مؤاخذة لهذا التفكير لا جواب عليها من وجهة النظر الغربية.

ص: 166

مع الحداثة الغربية

برغم أن الصدر في أعماله الفكرية التأسيسية قد أوجد قطيعة معرفية (إبستمولوجية) مع فكر الغرب بالمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه، ونقد القيمومة الغربية، إلا أنه تواصل مع الحداثة الغربية في مقولاتها الأساسية كالعقلانية والحرية وغيرهما، ولكن ليس بمدلولاتها الفكرية عندهم، لأنه كان قد انتقد نُظم الغرب الفكري، وإنما تواصل معها كمقولات تعبر عن أبعاد خلافة الإنسان على الأرض، وعلاقة هذه الخلافة بحركة المجتمع والتاريخ، وما يتطلبه ذلك من فاعلية عقليّة وفضاء حر في الممارسة.

فالفكر الإسلامي كما رآه الصدر لا يقبل هذه المقولات بالمطلق ولا يرفضها بالمطلق، وإنما يتحفظ على طابعها المادي المنقطع الصلة عن الغيب والإيمان بالله تعالى والمحدّدات الدينية والأخلاقية، إذ إنّ مقولات الحداثة في الرؤية الصدرية إن جاز التعبير ترتقي على المفهوم الضّيق لها في رؤية الغرب والمحدود بحدود الزمان والمكان، لترتفع للارتباط بصفات الله وأسمائه تعالى.

فالتقدم في رؤية الغرب على سبيل المثال شأن مادي صرف، فيما هو في المفهوم الإسلامي عن التقدم علاوة على ميدانه المادي، يرتفع ليضم التقدم في المجالات الروحية والقيمية والأخلاقية للإنسان، والتقدم بهذا المفهوم أمر لا يمكن للرؤية الضيقة أن تتحمله.

إن تعاطي الصدر مع مقولات الحداثة يختلف اختلافاً جذرياً عن تعاطي دعاة التحديث في العالم الإسلامي، فالصدر لا يتعامل مع ثنائية إما رفض الحداثة كما جرى عليه جماعة وإما تحديث الإسلام كما عليه آخرون، وإنما المسألة تكمن ردّ قيم الحداثة إلى حجمها الطبيعي، بمعنى ردّها إلى ظروفها التاريخية ومناخاتها الثقافية التي ولدت فيها، وعند ذلك سنجدها قيماً نسبية لا يمكن توصيفها بالكونية والعالمية، ذلك أن اعتبارها قيماً كونية يعبر عن خلل منهجي وقع فيه دعاة التحديث في العالم الإسلامي، فهذه الكوننة لقيم الحداثة يعني تجاوز الظروف والسياقات والتاريخ والملابسات، ومن ثم الوقوع في أسر التلفيق والتوفيق، فضلاً عن خطئهم

ص: 167

في تحجيم قيم الإسلام والشريعة بعد رؤيتهم الاطلاقية لمقولات الحداثة. وهذا المعنى بالتحديد يعود بنا إلى حديث الصدر عن الحالات التي رامت التوفيق بين الاشتراكية والقومية، أو بين الاشتراكية والعربية والإسلام.

نقد الفكر الإسلامي

لا ينبغي أن نختم هذا المدخل دون أن نشير إلى أن نقد الصدر للغرب الفكري يسير جنباً إلى جنب مع نقد الفكر الإسلامي، ذلك أن إبراز الأنا والعودة إلى الذات أمر غير متيسر بل ومتعدّر دون الدخول في عملية نقدية للفكر الإسلامي. ونقد الصدر للفكر الإسلامي يتمثل في نقد الممارسات وتاريخ المسلمين، فضلاً عن نقد الأفكار والرؤى والاجتهادات ومناهج التفكير الإسلامي.

فعلى مستوى نقد تاريخ الممارسات الإسلامي أكد الصدر في أكثر من دراسة تاريخية له على انحراف السياسيات والممارسات التي تولتها الحكومات الإسلامية غير المعصومة، وأكد في مواقع مختلفة من تلك النتاجات على أن تلك الممارسات والحكومات مفتقدة للوعي الإسلامي الأصيل وتمثيله، فضلاً عن افتقادها للشرعية الدينية. ويرى الصدر أن النظرية الإسلامية لم تطبق بأيدي أصحابها الحقيقيين، وإنما طبّقت بيد أعدائها الداخليين ، ولذا كان مثل هذا التطبيق بالنسبة للنظرية الإسلامية يمثل انحرافاً كبيراً ، كانت له تداعيات متعددة انعكست على الفكر الإسلامي وعلى صورة الإسلام.

وقد أكد الصدر هذا المعنى كثيراً في محاضراته عن أهل البيت عليهم السلام، والتي طبعت في جزء مستقل من سلسلة آثاره بعنوان: أئمة أهل البيت عليهم السلام ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية، وكذلك أكده في مقالات أخرى ضمها الجزء المعنون ب-

( ومضات) من سلسلة تراثه الفكري القيمة.

هذا على مستوى نقد التأريخ الإسلامي وسلوك المسلمين، وأما فيما يتعلق بنقد الأفكار والمناهج، فالصدر صاحب عقل اجتهادي متحرك، قدّم لمناهج التفكير

ص: 168

الإسلامي والاستنباط الفقهي والديني إضافات نوعية مهمة، سواء في ما يتعلق بنقده لرؤية التيار الأخباري وتأكيده على قيمة العقل في مقام الاستنباط، أم في نقده وتقويمه للكثير من الرؤى الفقهية وتعاطيه مع أدوات الاجتهاد والواقع، وخروجه عن أسر بعض المقولات التي تكبّل حركة الاجتهاد وتخضع الباحث لنتائج المحيط الفكري والاجتماعي الذي يعيش فيه.

لا أريد الاسهاب في تناول هذا الموضوع، فقد كتبت عنه دراسات متعددة مختلفة سعة وضيقاً وعمقاً، وإنما أُريد الإشارة في هذه الأفكار المفتاحية إلى أن نقد الصدر للغرب الفكري يسير بوتيرة ثابتة مع نقد الفكر الإسلامي وتحديث التفكير الديني فهو الطريق الموصل لإبراز الأنا الفكري وتظهير الذات. بمعنى أن الجهل بالإسلام من جهة وعدم معرفة الغرب بصورة صحيحة ونقدية واعية من جهة ثانية يقودنا إلى جهالة مضاعفة، وأبسط تداعيات تلك الجهالة فقداننا لأصالة هويتنا وابتعادنا عن جمال تلك الهوية واستسلامنا لفوضى عارمة، ولعلّ ما نعيشه هذه الأيام بعض صورها ومظاهرها. ولسنا ندري إلى ما ستؤول إليه فاجعتنا !

ص: 169

العلواني والنظر إلى "الآخر"

د. محمد شهید

(1)

مقدمة :

هناك نظريتان، أو بالأحرى قولان يحددان التوجه العام في التعامل مع الثقافة الشرعية والتراث العلمي الذي ورثناه من العلماء السابقين الذين أبدعوا وابتكروا ما يعينهم على التعامل مع واقعهم وفق الظروف والبيئة العامة التي عاشوا فيها.

النظر الأول يرى انه لابد من الإعراض عن غير الغوص في العلوم الشرعية والتأصيل لها وتطويرها من الداخل، باعتبارها المكون الأساس للثقافة الإسلامية، وكذلك السبيل الوحيد لاستنباط الأحكام الشرعية وما يحتاجه الناس من إجابة على أسئلتهم في الواقع. وبهذا تنغلق هذه العلوم على نفسها وتتفرغ للإغراق في التخصص الدقيق فتصير نخبوية تنفرد بها طبقة الانتلجنسيا“ حتى لا نقول رجال الدين وهو- من هذه الوجهة ما يمكن الثقافة الشرعية من التساؤل والإجابة عن أسئلة العصر من الداخل وليس توسلا بثقافة غير شرعية أو من خارج الذات والنفسية والمرجعية الإسلامية.

في حين يرى النظر الثاني أن العلوم الشرعية قد قتلت بحثا، وان هذه العلوم قد استنفذت أغراضها من حيث البحث والدراسة من جانب التأصيل خاصة والقراءة الداخلية لها عامة . مما يستلزم تخليص هذه العلوم من الضغط التاصيلي والإغراق في مصطلحات مستغلقة ومفردات غريبة يستحيل معها توسيع دائرة الاهتمام بها والعمل

ص: 170


1- جامعة محمد الأول / وجدة، المغرب، دكتوراه في مقاصد الشريعة.

على" شعبيتها". وعليه فلابد من التعامل مع هذا التراث بواقعية والنزول إلى الواقع والبحث عن كل ما يكمل هذه العلوم ويتكامل معها باعتبار العوم إنسانية وان الثقافة الإسلامية أيضا لها نفس إنساني كبير.

والدكتور طه جابر العلواني ينحو منحى أخر وهو منحى مركب من السابقين. فهو عالم من علماء الشريعة درس وتخرج من الأزهر. ويؤكد عبقريته سفره العظيم المتمثل في تحقيقه لكتاب "المحصول في علم الأصول" لفخر الدين الرازي (604ه)، حيث تقدم ونال به درجة الدكتوراه وهو كذلك مثقف منفتح على التخصصات التي تبدو عند البعض بعيدة عن العلوم الشرعية خاصة العلوم الإنسانية. ويؤكد هذا انشغاله لمدة طويلة بمشروع إسلامية المعرفة بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي في فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو المشروع الذي اخذ على عاتقه إعادة قراءة العلوم الإنسانية وفق التصور الإسلامي. وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع المشروع، فان حضور العلوم الإنسانية - ومختلف التخصصات التي لا تدخل في العلوم الشرعية واضح وجلي بشكل كبير فيه.

وبذلك فان الشيخ العلواني من علماء العصر الذين تشد إليهم الرحال خاصة أن اجتهاداته وانتاجاته تصب في اهتمام العصر انطلاقا من العلوم الإسلامية والمنطلقات والمبادئ الأساس في الثقافة الشرعية. فهو صاحب "الاجتهاد والتقليد في الإسلام"، وأدب الاختلاف في الإسلام"، "والجمع بين القراءتين :" قراءة الوحي وقراءة الكون" والأزمة الفكرية ومناهج التغيير "ولا" إكراه في الدين... ،،

إن الثقافة الشرعية الإسلامية، والتكوين المعرفي الشامل، والنشوء في بيئة (العراق/بغداد) متعددة الثقافة والمذهب والعقيدة، بالإضافة إلى الحضور في الغرب والاطلاع على ثقافته، هي عوامل متعددة ومتنوعة عملت على صقل شخصية العلواني و اختمار تجربته لتعطي لنا في نهاية المطاف عالما معاصرا، مثقفا "تراثيا"، مفتيا ”مقصدیا“ جعلت من مواقفه وآرائه اجتهادا وثورة مهمة في الواقع الإسلامي المعاصر في مواجهة ثقافة التكفير والتقتيل والبغض والكراهية .. التي عششت في عقول بعض

ص: 171

"أنصاف العلماء" وبعض الشباب المغرر بهم مع كامل الأسف.

لذلك فموقفه من الغرب والثقافة الغربية، موقف يتسم بالتوازن والاعتدال بعيدا عن ردود الفعل والابتزاز .. فهو ينتقد ثقافة مسيطرة على عقول غالبية المسلمين حاليا خصوصا في الغرب، كما ينتصر للمسلمين وقضاياهم بالدفاع عنهم. وفي نفس الوقت ينظر إلى الغرب كمكون من أهم مكونات العصر فينصفه ويدعوه إلى التنازل عن غطرسته والقبول بالآخر . وهذا موقف عظيم اكتسبه وحقق مناطه بعيدا عن ابتزاز السلطان وإغراءات الغرب.

ويزيد من دقة هذه المواقف والفتاوى إتقانه لتخصص مهم في العلوم الشرعية إنه مقاصد الشريعة الإسلامية وهو تخصص يحيل على الذوق الرفيع والجمال والفن بالإضافة إلى الدقة في تنزيل الأحكام الشرعية حتى لا تعود على المكلفين بالانتكاس وجلب المفاسد عليهم. ويفتح هذا الفن الباب على مصراعيه للعلماء خاصة والمسلمين عامة على الانفتاح على العالم والإنسان والاهتمام به في كل مكان بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه وثقافته ..

ولعل هذا هو السر في الاتزان في مواقفه وأفكاره، التي تجنب متتبعيه وتلامذته من الوقوع في شرك العنف والإرهاب والوحشية والكره والاقتتال.

في تحرير المصطلح:

يتعرض طه العلواني لمصطلح "الآخر" ليحدده ويضبطه. وهذا العمل قد يكون من أهم دوافعه ثقافة العلواني وتكوينه الأول المتمثل أساسا في البناء المعرفي ذي المرجعية الأصولية، ذلك أن من طبيعة هذا التخصص ضبط المفاهيم والمصطلحات وتحديدها لرفع اللبس عنها ويستوعب المتلقي أبعادها وسياقاتها.

یرد هذا المصطلح إلى جذوره الحضارية والتربة المعرفية التي نشا فيها والسياق العام الذي أنتجه فيبين بأن :"الآخر “ مصطلح ولد وشاع في البيئة الغربية أولاً، ولا جذور له في البيئات العربية الإسلامية قبل مرحلة التداخل الفكري والثقافي مع

ص: 172

الغرب، وأغلب الظَّنِّ أنَّ المفهوم قد بدأ استعماله في أوروبا مع “الثورة الفرنسية” وبدأ تداوله في أمريكا مع “الثورة الأمريكية" فالثوار الفرنسيون أطلقوا على أنفسهم والمتبنين لمبادئ" الثورة الفرنسيَّة“: "نحن" ، وأطلقوا على مناوئيهم من الذين وصفوهم بالاستبداد وعناصر الإقطاع والرجعيّة وأعداء الحرية والمساواة والعدالة : الآخر" أو "الآخرين".. "(1)

وفي هذا المصطلح تتلخص قيمة معرفية وصمت الحضارة الغربية ولا تزال تلتصق بها وهي المركزية العربية التي تحدد الغرب وحده المقياس الحضاري الوحيد ولا غيره للتقدم والتخلف للتقدمية ،والرجعية للنماء وللخراب.. فيربط بین هذه القيمة وهذا المصطلح حين يرى أن هذا المصطلح مع مقابله ( نحن ) أصبحا".. شائعين على مستوى عالمي خاصة في مجالات الخطاب النضالي و التحريضي؛ ولذلك فإنَّ من المتعذّر أن تولد الاتجاهات العالمية الحقيقية في بيئة غربيَّة؛ لأنَّ الأفكار المرتبطة ب-"نحن والآخر"، جعلت الاتجاهات العقلية والنفسيَّة للفكر الغرب تقود دائماً إلى نظر الغربي إلى نفسه وذاته على أنَّه "مركز الكون"، وإلى غيره على أنَّه هامش وآخر، ولا تجتمع المشاعر والاتجاهات العالميّة مع الاتجاهات المركزية ".(2)

وفي المقابل فان الإسلام الذي بعثه الله دينا للبشرية لتستهدي به "فإنَّه -منذ البداية - قد نظر إلى البشرية - كلّها - على أنَّها داخلة في مفهوم "نحن"، واستبعد - من ساحته الفكرية - مفهوم "الآخر" إلا بالمعنى اللُّغوي المجرَّد من أيَّة تحيزات أو ظلال فكريَّة تؤدي إلى مواقف تتّسم بالتمييز بأي نوع من أنواعه.دو بي

فالأسرة البشرية الممتدة - في نظر الإسلام- كلُّها تندرج في "نحن": ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجر: 13]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ

ص: 173


1- طه العلواني : " الآخر بين الإسلام والغرب "في الموقع الالكتروني: http://alwani.org/
2- طه العلواني: (م، ن)

الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]

ويُحدّد القرآن المجيد الآخر" في مخلوق واحد، هو «الشيطان»، قال تعالى:﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [يس: 160] ، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الشعير﴾ [فاطر: 6] . (1)

هكذا إذن يعلن العلواني عن خلفيات هذا المصطلح ليؤكد غرابته عن الإسلامية وعن الأمة ثقافتها، وليكون لونا من ألوان الوافد الغريب مع الغزو الثقافي الذي عانت منه الأمة والأمم المستضعفة غيرها في بقاع العالم . ثم يكشف النقاب عن الأبعاد والتبعات الحقيقية له، فيؤكد : ".. خلاصة الأمر: إن مبدأ "نحن والآخر“ مبدأ قد ورد إلى الساحة الإسلاميَّة، خاصة بعد أن أصبح المسلمون متهمين، يحملون مسئولية كل ما يجري في العالم من مشكلات لأسباب لا تخفى على كثيرين، فإذا اختل اقتصاد بلد قيل له: لأن العرب رفعوا أسعار البترول، وإذا جاع بلد أو افتقر أو أوذي أو تضرّر، قيل: إن المال العربي والتجارة العربية والبترول العربي والإسلامي هي السبب،وذلك يعني أنَّ من مقاصد خصوم هذه الأمة أن يجعلوها على الدوام آخر" مكروها بالنسبة للعالم -كله- وفي حالة دفاع عن النفس وإحساس بالهزيمة، وشعور بالذنب وبالاتهام، فلا ينبغي لعاقل أن يُستدرج إلى مثل هذه المواقف ويتقبل على نفسه كل هذه الاتهامات؛ ليجعل من نفسه ميدانًا لأمور هو بريء منها، وأنَّه لا يليق بأحد أن يوجه ذلك إليه، وألا يتقبل أن يكون آخر لأي أحد، ولا يستخدم من المصطلحات إلا ما يعرف أصله وفصله (2).

القرآن يؤسس للاختلاف:

التعايش والاختلاف والتعدد والتعارف مترادفات تحقق تنوعا يقصده القرآن الكريم. ولقد ساعدت هذه المرجعية العظيمة رغم بعض الفترات الحالكة- في تأسيس

ص: 174


1- طه العلواني: (م، ن )
2- طه العلواني: (م- ن )

مجتمع متعايش متنوع في امن وأمان.. وهكذا فإن ".. القرآن المجيد يحمل خطابًا كونيا يحمل كل مواصفات الخطاب الكوني وخصائصه؛ الذي يسع الكون وأزماته، ومشكلاته جميعها، إذ هو وحده المعادل للوجود الكوني وحركته القادر على استيعاب مشكلاته وتجاوزها وإخراج البشرية كلّها من الظلمات إلى النور :﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور بإذن رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزيز الحميد ﴾ [إبراهيم: 1]. وحملة القرآن مطالبون أن يحملوا هذا القرآن إلى البشرية، ويستوعبوا به سقفها المعرفي، ونسقها الثقافي، ويعالجوا به أزماتها؛ ولذلك أُمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم أن يجاهدهم به جهادًا كبيرًا: ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبيرًا ﴾ [الفرقان : 152] (1) . وقد انعكس هذا بشكل واضح على الثقافة الإسلامية في كل مجالاتها. فمن النادر جدا أن تجد جزئية في التراث الإسلامي إلا والاختلاف والتعدد سمتها. وقد يمتد الاختلاف والتنوع والتعدد في الفقه الإسلامي مثلا ليس بين المذاهب الإسلامية ، بل داخل المذهب الواحد الذي يبدو انه اقرب إلى الاجماعات حول فروعه وجزئياته لكن تتنوع الآراء والأحكام حول جل قضاياه. وهذا مصدر ثراء وتنوع وتعايش قل نظيره في الثقافات والمرجعيات الأخرى عند الإنسان.

والإيمان بالاختلاف لا يكفي بل لابد من مراعاة كليات -تبدو في صورة جزئيات- على غاية من الأهمية يغفل عنها الكثير من قبيل الاهتمام بالآخر ودراسة فكره وثقافته. وهنا يرى العلواني "ان التعدُّد ضروري وأنَّ الاختلاف طبيعي، وأنَّ قبول ذلك لا يكفي ،وحده، بل لابد من رعاية المخالف، والاهتمام بفكره وإبراز ما لديه؛ ليكون في ذلك ثراء وغنى للحالة الفكريَّة لدى الأمة، فما الذي يجعل هؤلاء القوم تضيق صدورهم بالمخالف وتنتفخ أوداجهم لسماع ما يخالف ما ألفوه، وقد يندفع بعض نابتتهم إلى نفي المخالف ومحاصرته والتضييق عليه ظنًا منهم «وبعض الظن إثم»أنَّ الحق معهم وحدهم، وأن كل ما يخالف مذاهبهم وآراءهم ومقالاتهم باطل وغير صحيح وخطأ أن يُحال بين الناس وبين سماعه !

(2)

ص: 175


1- طه العلواني : "الإسلاميون بين المصحف والسيف، الموقع الالكتروني.
2- طه العلواني: "ثقافة الاختلاف" ، الموقع الالكتروني.

وسرعان ما يتنبه رحمه الله إلى قضية جوهرية تتعلق بتضخم سياسي للمرجعية والقيم الإسلامية فتخرج عن مضمونها ومقصدها "فالمرجعية الإسلامية" - في نظر البعض يمكن اختزالها في برنامج سياسي أو اجتماعي محدود، لإقليم محدود، في إطار جغرافي بشري، فذلك يجعل أصحاب ذلك المشروع ينوؤون بثقل ذلك المشروع الأوسع والأكبر من قدراتهم، وسوف يجدون أنفسهم أمام أنواع هائلة من ضغوط الفهم والتأويل والصيغ التطبيقية المختلفة، في واقع تاريخي متغير متنوع"(1). وهنا ينزلق الإنسان إلى الاصطدام والتصارع والاقتتال.

والاهم تنزيل القيم وتفعيلها في ارض الواقع لإنتاج مفاهيم وأحكام تحقق مراد الناس وتدفع عنه الضيق والمفسدة، ف”.. المطلوب هو تجريد القيم القرآنية والإسلامية الكبرى والعمل على تبنيها، والاجتهاد في الآليات والوسائل المتطورة لتحقيق تلك القيم؛ فهناك قيم : "التوحيد، والتزكية والعمران والعدالة في التوزيع ودرء المفاسد، وتحقيق المصالح... إلخ "؛ فهذه القيم هي التي ينبغي التي ينبغي أن تكون المرجعيّة، وهي التي ينبغى أن تجري توعية الناس بها، وقياس أداء الجميع إليها، حكامًا ومحكومين، إسلاميين وغيرهم “(2)

الوجود الإسلامي في الغرب :

لقد تنوعت الدوافع والأسباب التي كانت وراء هجرة المسلمين والعرب إلى عالم الغرب. وقد احدث هذا التواجد مع مرور الزمن نقاشا مستفيضا بين مؤيد له داعيا إلى استثماره في صالح الغرب، وبين معرض له داعيا إلى تهجير المسلمين وإعادتهم إلى .بلدانهم. وتطور النقاش أكثر حتى على المستوى السياسي فظهرت حركات متشددة يمينية متعصبة في بعض الأحيان تتبنى العنف والقوة والترهيب ضدهم.

والعلواني يترك هذا جانبا لينكب على دراسة وتشريح الجسم الإسلامي في الغرب ليلاحظ أنه ".. بالرغم من المستوى العالي للتعليم والثقافة لدى المسلمين

ص: 176


1- طه العلواني : "الإسلاميون بين المصحف والسيف"، الموقع الالكتروني.
2- طه العلواني: (م ،ن)

في الغرب فإنَّهم متخلفون جدا.. فلقد رأيت مساجد وجوامع كثيرة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة يختص بها عرق واحد أو مذهب واحد أو إقليم واحد فجوامع اختص بها الإخوة الباكستانيون فهم مؤسسوها وهم الإداريون فيها وإذا وجد سكان آخرون من عرب أو غيرهم فقد لا يجدون لأنفسهم مكانا بين هؤلاء الإخوة يجعلهم يشاركون بخبراتهم وقدراتهم في تحقيق رسالة المسجد؛ بحيث يسمح لهم أن يكونوا جزءً من إدارة المسجد أو مجلس إدارته ووجدت مساجد خاصة بالعرب لا فرصة لغيرهم بالدخول إلى مجالس إدارتها ووجدت مساجد للأتراك ولأبناء جنوب شرق آسيا وغيرها ..(1) فأصبح التواجد الإسلامي في الغرب نقمة عوض أن يكون نعمة بالنسبة لهم، فصار مشكلة جديدة استنزفت الطاقات والوقت والجهود "ولقد حاولت جاهدا خاصة من خلال موقعي في المجلس الفقهيّ الأمريكي مقاومة هذه الظواهر السلبية وتغييرها بقدر الإمكان؛ لكن ثقافة التخلف تعايش كثيرا من الإخوة والأخوات المهاجرين حالت دون ذلك. لقد كانت تلك الثقافة من أخطر العقبات وأشدها في وجه أي تغيير، ولا أرى أن المجتمع المسلم في الولايات المتحدة خاصة بل وفي الغرب -كله - سوف يأخذ مواقعه الملائمة إذا لم يتخلص من تلك الفيروسات الثقافية المستصحبة، ويعود إلى مبدأ أمة مسلمة واحدة ينضم إليها كل من يقول لا إله إلا الله* محمد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ويتجاهلون تلك الخلفيات التي لم تأت لهم بأي خير في بلدانهم الأصلية من تفرق مذهبي وإثني وعرقي وطرقي ولغوي وما شاكل ذلك.“

وإذا كانت ثلة من الناقمين في الغرب على الوجود الإسلامي، فإنه حري بالمسلمين هناك أن يلمعوا صورتهم وان يكون تواجدهم إضافة نوعية للمجتمع الذي يعيشون فيهم. وهذا الأمر يستدعي التأمل بعمق وتدقيق لذلك يدعو العلواني بخبرته الكبيرة في الغرب وبعمق تكوينه الشرعي إلى تأسيس فقه خاص بهذا التواجد. ففي الولايات المتحدة الأمريكية أو في أوروبا فالوجود الإسلامي مهدد ومستهدف ليس من جهة أو حزب واحد بل من جهات متعددة، كما أن فى أرشيف الذاكرة الغربية تاريخيا صورة سيئة عن علاقة الغرب بالمسلمين، لذلك".. فإن المسلمين في حاجة إلى أن يبنوا

ص: 177


1- طه العلواني : الوجود الإسلامي في أمريكا، الموقع الالكتروني

وعيًا كبيرا بين الأقليّات يساعدها على أن تحتفظ بهويَّتها الإسلامية وألا تفرط فيها. وفي الوقت نفسه يحبّبها إلى بيئتها ويجعلها مقبولة ومحبوبة في تلك البيئات، بل نريد أن نقنع تلك البيئات بأنّ الوجود الإسلامي فيها هو لصالحها ويشكل إضافة لها. وهذا يعني أن نبني فقها خاصًا بهذه البيئات ونوجد لها ثقافتها الخاصة، وأن نحدّد دور كلّ فصيل من فصائل الأقليات في تعزيز ذلك الوجود ،،

ينبغي أن يكون التواجد الإسلامي في الغرب عاملا من عوامل توحيد هذه المجتمعات والعمل على تجميع المجتمع وتوحيده حول أصوله وأساساته التي لا تقبل الاختلاف عليها، كما ينبغي أن يعمل أيضا على التعلم والتدريب على أفضل سبل التعاون مع الجيران والواقع “وكلا الأمرين لا يمكن أن يأتيا بشكل عفوي، بل لابد من وجود فهم مشترك بين قيادات كل مجتمع إسلامي من هذه المجتمعات سواء الفكرية والتربوية الاجتماعية والسياسية إذا كان للأقلية نشاط سياسي. كما لابد من إعادة النظر في الثقافات والمعارف الذهنية التي يحملها المنتمون لأي مجتمع مسلم يعيش بين أكثرية غير مسلمة، بحيث يصبح كل منتم إلى ذلك المجتمع على وعي کامل بطبيعة البيئة وطبيعة وجود مجتمع من أقلية مسلمة فيه، وما يعزز هذا الجهود وما قد يضعفه في كل مجال“

دو

ولكيلا يكون هذا التواجد الإسلامي في الغرب سلبيا، وحتى يسهل التعارف والتعايش مع المجتمع الغربي، يوظف العلواني الرصيد المعرفي الشرعي عنده والثقافة التعارفية والتعايشية التي اكتسبها لصالح المسلمين في أمريكا الشمالية مثلا، فيتوجه إليهم بالنصح “ومن وسائل بناء الأمة من جديد في أمريكا الشمالية، إتقان لغتين أساسيتين. اللغة العربية التي هي لسان القرآن، وذلك من أجل دينهم وانتمائهم الديني، والإنجليزية لنشاطهم الدنيوي وللتفاهم مع جيرانهم. كما يجب أن تكون للمسلمين مدارس لتخريج الأئمة والمرشدين الدينيين من أبناء المجتمع الأمريكي يتعلمون في هذه المدارس الإسلام بصيغته السليمة من مصدره المنشئ كتاب الله ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- يتعلمون ذلك على

ص: 178

أيدي علماء قادرين ممن يعيشون في الغرب على تعليمهم ذلك بعمق وفقه وفهم ربانيين بعيدًا عن الثقافة المذهبية والفرقية والطرقية التي حطمت مفهوم الأمة، وفرقت المسلمين في بلدانهم“.

وأخطر ما يؤثر فى علاقة المسلمين فى الغرب فيما بينهم من جهة وفي علاقتهم بالغرب هو نقل معاركهم في بلادهم واستيرادها منه إلى واقعهم فتتعقد المشاكل وتزداد وضعيتهم سوءاً في مجتمع حساس وغير مستعد لضياع جهده ووقته في غير صالح وطنه. وهو ما ينبه له الدكتور طه إذ يقول : “ويفترض أن تختفي أيضًا الصراعات الحزبية القائمة في بعض الأماكن في أمريكا وأوروبا بين حركات وفئات إسلامية من إخوان مسلمين وحزب تحرير وجماعة إسلاميّة وجماعة التبليغ والصوفية والسلفية وما إلى ذلك. فإذا كان هناك أي مبرّر أو مسوّغ لوجود مثل هذه الجماعات في المشرق، أو في العالم الإسلامي، فلابد من البحث عن صيغ تجمعات أخرى تناسب البيئة واحتياجات المجتمع. أمّا الصيغة الحاليّة فهي تساعد على تفريق كلمة الأمة وإضعاف تأثير الوجود الإسلامي في الغرب. فلابد للأقليات من أجندة إسلامية خاصة تربطهم ببيئتهم وجيرانهم ومجتمعهم وأن تكون أولويتهم لقضايا بلدانهم تلك التي هاجروا إليها، فيهتمون بمجتمعاتهم الجديدة وبجيرانهم ويكونون في مقدمة الصفوف عند معالجة المشكلات المشتركة بحيث يقتنع جيرانهم ومواطنوهم والحاكمون في تلك البلدان بأنَّ المسلمين يشكلون إضافة نوعيّة وهم بفضل الله كذلك“.

" في فقه التعارف“:

فطر الله عز وجل الكون على التنوع والاختلاف والتعدد.. وقد نبه القرآن الكريم البشرية، وفسر لها قبل كل شيء اختلافها، في الألوان، وفي اللغات، وفي المواقف، والآراء، وبالتالي في الأديان، والثقافات ونبه إلى أن ذلك كله جزء من متطلبات الاجتماع البشري ومتطلبات العمران فلابد من ذلك التفاعل، لابد من وجود الجدل، ولذلك خلق الله سبحانه وتعالى كل شيء في هذا الكون من زوجين فهناك الذكر، وهناك الأنثى، وهناك الفاعل، وهناك المنفعل، وذلك شامل للشجر،

ص: 179

والمدر، والحجر وتكوين العناصر المختلفة من ماء، وهواء، وسواهما، وكذلك الناس ...“(1)غير أن الكارثة تحل حين لا نحسن تدبير هذا الخلاف ونخطئ في توجيهه نحو الأحسن، ويحدث هذا حين يفضل عرق على آخر أو طائفة على أخرى أو لون على آخر .. مما يستدعي تحديد ضوابط ومعايير واضحة تساعد الإنسانية على التعارف والتعايش في جو سليم بعيد عن الأحقاد والضغائن.

وهنا يمكن النظر إلى الاختلاف باعتباره ثراء وتنوعا، دافعا إلى التعاون والتآلف لا باعتباره مثبطا دافعا إلى التشتت والتفرق، فالخلاف أمر طبيعي في حياة البشر، وقد جعل الله سبحانه وتعالى- الخلافات الطبيعية في الألسن والألوان وما إليها دليلاً وشاهدًا على وجوده وألوهيته وربوبيته فقال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ (الروم: 22). وأما الاختلافات في الرأي والفكر فهي اختلافات يمكن للناس أن يعالجوا أجزاء منها بالحوار والجدال بالتي هي أحسن؛ لتقليل مساحتها أو لوضعها في إطارها الطبيعي وتحديد مستواها، فإذا بقيت واستمرت فينبغي أن تُحاط بما عرف بأدب الاختلاف»، بحيث لا ينكر أحد من المختلفين مزايا الآخر ولا أهمية تفكيره، ولا ما هو صحيح من آرائه وأفكاره، فالأصل عدم تشخيص الأفكار بل تجريدها عن الشخصنة(2)

وطه العلواني يفضل مصطلح “ثقافة التعايش“ على غيره من المصطلحات مثل ثقافة التعدد الأكثر تداولا في المرحلة الراهنة. وهذا المصطلح ( ثقافة التعدد ) مصطلح مؤدلج ، لا يحمل قيمة تحليلية، بل هو من تلك المصطلحات التي تعمل على تكوين وإيجاد وهم بوجود موضوع ثقافي مطلق اسمه ثقافة التعدد، وذلك لإحكام الحصار على جوانب ثقافية أخرى، ويمكن أن تسمى بثقافة التوحد، أو التفرد، أو الواحدية.

وبذلك يستطيع الناحتون لهذه المصطلحات من مفكري المركزية الغربية أن

ص: 180


1- -طه جابر العلواني : "الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش“ (حوار)، مجلة "قضايا إسلامية معاصرة“، س : 7 ، ع : 22 شتاء 2003، ص: 23-24
2- طه العلواني: "ثقافة الاختلاف" من الموقع الالكتروني

يكرسوا شرعية ثقافتهم، ويهمشوا ثقافة الآخرين، أو يحاصروها، وقد يدفعون أصحابها

أنفسهم للتنصل منها ، أو البراءة من الانتماء إليها، فضلا عن تبنيها. (1)والفرق جوهري بین التعدد والتعايش كما يرى العلواني، فالتعدد أقصى ما يمكن أن يقدمه هو أن للآخر حقوقاً وعليه واجبات كما له خصوصيات وعدم فرض ثقافة أخرى عليه أو الاعتراض على هذه الخصوصيات.. وهذا في الحقيقة يعارض في الصميم المركزية الغربية التي تدعو هي بذاتها لثقافة التعدد. فالغرب لايحترم خصوصيات غيره ولا ثقافته سواء في مرحلة الحداثة ولا في مرحلة ما بعد الحداثة وإن كانت تعترف بحق الاختلاف نظريا لكن عمليا لا تحقق ذلك خاصة خارج مجالها الجغرافي(2) .

في الأصول منهجية ل"فقه التعارف"

كعادة العلواني انه حين يطرق مشروع فكرة ما فهو يحاول التأصيل له والتأسيس من الناحية المنهجية.وهذا صنيع العلماء والفقهاء المتمرسين على النص واقتضاءاته المنفتحين على الواقع ومتطلباته. وقد كانت له وقفة مع مصطلح مهم يتداوله العديدون لكنه أعاد النظر فيه حين يقف عند مصطلح "فقه الأولويات“، بل تجاوزه ليطرح مصطلحا جديدا لم يلتفت إليه فيما نظن سواه من القلائل الذين انشغلوا بهذا الأمر. إنه ”علم الأولويات“، ذلك أن ”..إدراك الأولويات لم يعد ممكنا من خلال مدخل معرفي واحد، أو تخصص واحد، بل لابد من مقاربته من مداخل عديدة وتخصصات مختلفة، بل والنظر إليه على أنه علم له أصوله وقواعده وجوانبه العديدة، ومن الغبن لهذا العلم أن يحصر في دائرة علم ما أو يحشر في ثنايا مباحث حتى لو كان ذلك العلم هو الفقه"(3) . ويشبه هذا المقترح إلى حد بعيد ما طرح الطاهر بن عاشور رحمه اله حين انتفض على الأصوليين وهو يقترح علم مقاصد الشريعة، إذ يؤكد ".. فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار

ص: 181


1- طه العلواني:” الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش”، ص: 24-25.
2- طه العلواني (م، ن)
3- طه جابر العلواني: ”مقاصد الشريعة، دار الهادي بيروت - ط : 1، 2001، ص: 76.

النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها ، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر ، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله .."(1)

يمضي قدما طه جابر في تحديد أسس منهجية تؤسس لفقه التعارف من القرآن الكريم في الأصول الآتية:

"1.الإيمان بوحدة الأصل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ . فالإيمان بوحدة الأصل يعتبر دعامة أساسية من دعامات أصول منهجية التعارف.

2.الإيمان بوحدة الغاية: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾

3.الإيمان بان كل ما يظن انه عنصر من عناصر اختلاف، أو أصول تنوع، إنما هي أصول تعارف، أو دوافع للتعارف، أو وسائل مساعدة.

4. الإيمان بوحدة البشرية في عهدها مع الله جل شانه: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾

5. الإيمان بأننا جميعا مستخلفون في هذه الأرض، مسؤولون عن تعزيز قافلة التسبيح لله سبحانه وتعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ ﴾والقيام بمهام العمران، وأداء أمانة الاستخلاف وأننا جميعا مؤتمنون، وإنّ هذه الأمانة إنما انيطت بنا كجنس بشري، تحمل الأمانة،وعليه أن يقوم بها، وإلا كان ظلوما جهولا.

6. أننا جميعا مشتركون في قضية الابتلاء، مطالبون بان نحسن العمل، والعمل هنا

ص: 182


1- محمد الطاهر بن عاشور : ”مقاصد الشريعة”، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس - عمان - ط :2 2001 ، ص : 172

إذا لوحظت فيه جوانبه العامة، عمران الأرض، والقيام بمهمة الأمانة، والاستخلاف والوفاء بالعهد الإلهي ، فان ذلك لا يتم إلا من خلال التعاون والتعاون إنما يتوقف على التعارف والتالف.“(1)

لقد كسب العلواني خبرة كبيرة خاصة إذا علمنا أن الرجل نشا في العراق وهي بلاد التنوع العقدي، وتخرج من الأزهر إحدى اكبر المعاهد الدينية في العالم، وعاش مدة غير يسيرة في الغرب بالضبط بالولايات المتحدة الأمريكية بلد التنوعات العرقية والفكرية .. فاختمرت لديه جيدا فكرة التعارف حتى صارت - بالنسبة إليه -فقها، يتمناه قائما بذاته.

ونلمس هذا منه حين يقول مثلا عن تنوع العراق وتعدده وكيف تعامل المجتمع العراقي مع هذه النازلة: "ولقد عشت في بغداد سنوات من عمري كنت أرى اليهود العراقيين والنصارى والصابئة واليزيديين وغيرهم لا يختلفون في ثقافتهم رجالا ونساءً عن المسلمين. وحينما تقدم بي العمر بدأت أطلق على جيراننا من النصارى والصابئة واليهود (المسلمون ثقافيا) وأما معتنقو الإسلام فهم مسلمون دينا وثقافة. ذلك لا يعني أن الإسلام كان يعمل عن عمد وقصد على إذابة خصوصيات تلك الأقليات ودمجهم رغما عن أنوفهم في ثقافة إسلامية، بل كانت الثقافة الإسلامية تستهوي هؤلاء وتكسبهم إلى صفها وتجعلهم قادرين على تبنيها دون شعور بأنهم بذلك يتنازلون عن خصوصياتهم الثقافية أو يتنازلون عن هويتهم(2).

في الموقف من الغرب :

الفكر الإسلامي المعاصر بتياراته المتعددة، وهو يحتك أو يصدم بالغرب، يقف مواقف متباينة في التعامل مع الغرب كما يرى العلواني. وقد لخصها- بعد الرصد والمتابعة -في ثلاثة مواقف كبرى. فالتيار الأول يعرف بالسلفي، والتيار الثاني هو الذي يعرف بنخب الحداثة متدينا كان أو رافضا للدين، والتيار الثالث هو التيار التوفيقي.

ص: 183


1- طه العلواني : "الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش"، ص: 26.
2- طه جابر العلواني: "الوجود الإسلامي في أمريكا"الموقع الالكتروني

"والتيار الأول، ذو حساسية عالية من مقاربة أي فكر لم ينبثق عن الأصول الإسلامية، بل قد تبلغ درجة حساسيته حتى رفض المصطلح غير الإسلامي، فهو يتخذ على الدوام من النص النقلي وما ارتبط به واتصل به اتصالا وثيقا الدرع الذي يتدرع به في مواجهة أية مؤثرات أخرى."(1)

"أما التيار الثاني.. يعتبر القيم الإسلامية قيما نهائية وصالحة..لكنه حينما يواجه بحضارات أخرى، وبمؤثرات فكرية، أو بتيارات فكرية أخرى من خارج الدائرة الإسلامية، لا يجد مانعا من الانتقاء منها، والتفاعل معها، والعمل على استيعابها .."(2)

وإذا كان العلواني لم يفصل القول في التيار الثالث فلأنه ظاهر من السياق من جهة ومن جهة أخرى ربما لأنه يعتبره من خارج الفكر الإسلامي ومن ثم فموقفه من الغرب لايحتاج إلى بيان باعتباره أحد المرتمين في أحضانه فكريا وثقافيا وحضاريا..

لقد أصبح الغرب بفعل القبضة الحديدية التي أرخى بظلالها على العالم - والمسلمون جزء من هذا العالم هو المركز ، هو الميزان الذي توزن به الحضارات والشعوب والأفكار والثقافات.. وهذه المركزية هي التي تخول له إنتاج ترسانة من المصطلحات ينعتنا بها دون مراجعة أو اعتراض . فمرة يكون العربي المسلم ( إنسان ما وراء البحار) وثانية(إنسان العالم الثالث) أو ( إنسان التخلف ) مرورا ( بالأصولية والإرهاب ) وسواها.. لقد حولتنا ثقافات بعض النخب المستوردة إلى أصفار على هامش حضارة المركز الغربي لا يملك فرصة للحياة إلا من خلال الاندماج في ( السوق العالمية ) ، من موقع يجعله مجرد مكمل ومتمم لحاجات المركز الغربي.(3)

وبالعودة إلى موقف العلواني من الغرب وكيفية التعامل معه، فإننا نفضل ان نقارب هذا الموضوع عمليا أكثر منه نظريا. ذلك ان الوقوف على المشروع الكبير

ص: 184


1- طه جابر العلواني ( حوار ) : أبعاد غائبة عن الفكر الإسلامي المعاصر، مجلة قضايا إسلامية معاصرة-بغداد-ع: 5، 1999، ص : 35.
2- طه جابر العلواني: (م، ن)
3- طه جابر العلواني: "فقه الأولويات، مجلة قضايا إسلامية معاصرة - بغداد - ع: 7 ، 1999، ص : 152

الذي وقف حياته عليه يمكننا من معرفة موقفه من هذا العالم المخالف للفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، إنه مشروع“ إسلامية المعرفة“.

يرى العلواني - كغيره من النخب الأصيلة - أنه منذ أوائل القرن العشرين قد صارت السيطرة المطلقة في العالم لمنظومة الفكر والثقافة والمعرفة المنتمية للغرب مما جعل جميع المنظومات الأخرى تتراجع وتتخلى عن إمكانية المزاحمة أو حتى الريادة، وبالطبع منها منظومة المعرفة الإسلامية. (1)وهكذا فكل محاولة لزحزحة هذه السيطرة هي بمثابة إعلان عن عدم القبول به رمزا ثقافيا وفكريا وحيدا في هذا العالم. فكيف يكون الأمر بالتخطيط وتدبير الوقوف في هذه الموجة القوية وطرح بدائل عنها في معترك الثقافة والمعرفة والمنهج والحضارة؟

وهذا هو ما يطمح إليه مشروع العلواني حين يؤكد أن“ إسلامية المعرفة“ أو“ التأصيل الإسلامي للعلوم والمعارف“ أو توجيه العلوم وجهة إسلامية» أو إسلام العلوم“ أو“ النظام المعرفي الإسلامي“ أو “علم العلوم والمعارف“، هذه وبعض مصطلحات أخرى تمثل تعبيرا عن قضية أساسية واحدة هي قضية “البديل الفكري والثقافي ثم الحضاري“ الذي يمكن للإسلام أن يقدمه لعالم اليوم، بما في ذلك عالم المسلمين(2) .

إن الإسلامية في نهاية الأمر هي الوقوف أمام الغرب والاعتراض على طريقته في قيادة البشرية واختطافها إلى حيث يريد هو. فالنظام المعرفي الغربي هو الذي يصوغ للناس جميع تصوراتهم عن الكون والحياة والإنسان، بل يصوغ لهم معتقدات إذا لزم الأمر، ويجيب عن الأسئلة النهائية ..(3). وهذا الموقف من الغرب يعكس عمق وأصالة النظرة النقدية التي تميز هذا الرجل. ففي الوقت الذي كان يعتقد قطاع كبير من الناس في العالم الإسلامي - نخبة وعامة - أن الغرب مادام لم يمس المساجد والعقائد والأخلاق

ص: 185


1- طه جابر العلواني: كلمة التحرير مجلة إسلامية المعرفة -ماليزيا س: 1 ، ع : 2 سبتمبر 1995، ص: 5.
2- طه جابر العلواني: م، ن، ص: 5.
3- طه جابر العلوانی (م، ن) ص: 7.

فيمكن القبول بنظامه الثقافي والمعرفي والتعايش معه والتعايش هنا بمعنى القبول به واتخاذه منهجا وتصورا في الحياة، وليس بمعنى قبول الاختلاف معه.

والغرب نفسه يدرك خطورة هذا الموقف، وذلك لأنه أقوى من حمل السلاح. فحامل السلاح يمكن هزمه وحصره في الميدان واتخاذ الإجراءات القتالية في مهما كان الثمن في الأرواح والعتاد والخسائر المالية، في حين بناء الفكر والمعرفة البديلة وصياغة البدائل والاستقلال في القرار الفكري يمثل قوة، إذا تمكن منها صاحبها، خاصة وانه يملك رصيدا حضاريا قويا من مثل الإسلام، تجعل منه احد المزاحمين - في نظر الغرب أو المتعاونين - في نظر الإسلام- لمواجهة التحديات المتنوعة والمخاطر الرهيبة التي تهدد الإنسانية في هذا العالم المستضعف الذي تغول فيه الغرب.

الخاتمة:

أصبح التواجد الإسلامي في الغرب حقيقة قائمة بذاتها، كما أصبح التعامل والاحتكاك الغربي ببلاد المسلمين واقعا ملموسا أكثر من أي وقت مضى، مما يستلزم التوقف طويلا لإعادة النظر في المسير العام للإنسانية واستشراف المستقبل الذي أصبح يزداد قتامة مع توالي السنين.

لقد أصبح لزاما على الغرب أن يتنازل عن أنانيته وعجرفته وتكبره من خلال استضعافه واحتقاره للمستضعفين حيث لا يرى فيهم إلا أسواقا استهلاكية يغرقهم بالسلع وبالثقافة الاستهلاكية واقتصاد السوق ليثقل كاهلهم بالديون والربا فيسترقهم ويبتزهم.

كما أصبح لزاما على المسلمين التخلي عن خلافاتهم الضيقة، وطائفيتهم المقيتة، ومذهبيتهم البغيضة، ليلتفتوا إلى ما أكرمهم الله به من كنوز غنية، وثراء متنوع، في الوحي الرباني فيسخروه في خدمة الإنسانية ويسعوا في مصالحها من اجل تحقيق مقاصد هذه الرسالة الربانية في مصدرها الإنسانية في أهدافها ومعانيها.

ص: 186

وتحقيق هذه المهمة من قبل المسلمين رهين بالبحث عن الشرفاء والفضلاء في العالم من خارج المسلمين واستنصاتهم ليعرفوا عمق هذه الرسالة عن قرب وبدون واسطة .وهذه مهمة المسلمين ونخبتهم من المثقفين والعلماء في مختلف التخصصات، كلفتهم بها الرسالة السماوية التي بعثها الله عز وجل رحمة للعالمين.

وأول خطوة وأهمها هي مهمة البحث عن هؤلاء الشرفاء في الغرب، أو بالمصطلح القرآني "حنفاء الغرب"، والتعارف معهم.

هذا التعارف ينبغي أن يكون مخططا له بتحديد أولوياته وخطواته ومراميه وكل أسباب نجاحه. وهذا بالتحديد الذي حاول العلواني رحمه الله تعالى لفت النظر إليه والتأسيس له وذلك وعيا منه بأهمية الخطوة وخطورتها.

لقد فتح العلواني الباب على مصراعيه للفقه الإسلامي وأصوله لتنزيل أحكام التعارف وإنجاحه في الواقع الإنساني والعالمي. والأمة الإسلامية بمختلف أطيافها تملك من الرصيد ومن الزاد المعرفي والعلمي والأخلاقي من اجل تحقيق الشهود الحضاري. وذلك باعتباره مكونا من مكونات هذه الإنسانية وباعتبار الظروف القاسية والعيش الضنك الذي يهدد الإنسان، وباعتبار رصيدها الثري والغني.

لقد كان من أهم القضايا التي تؤرقه ويلح في معالجتها هي ضرورة "ممارسة الاجتهاد لبناء فقه للأكثريات في بلاد المسلمين وللأقليات في سائر أنحاء الأرض، فقه لا يؤدي إلى تغيير أي شيء من ثوابت العقيدة والشريعة، بل يؤدي إلى إعادة فقه التدين، ليجعل منه فقها معاصرا سليما، بحيث يستطيع الإنسان أن يكون متدينا، دون أن ينفصل عن عصره وواقعه، ومعاصرا دون أن ينفصل عن عقيدته، أو يتجاوز ثوابت شريعته (1)وهذا هاجس المجددين من الأمة الباحثين عن الأفاق الواسعة التي يتمتع به النظر الفقهي والشرعي الأصيل.

ص: 187


1- طه جابر العلواني وآخرون: "مقاصد الشريعة" حوارات أجراها عبد الجبار الرفاعي، دار الفكر-دمشق- ط:1، 2001 ، ص : 122.

- المصادر والمراجع:

طه جابر العلواني : ”مقاصد الشريعة، دار الهادي بيروت - ط :1، 2001.

طه جابر العلواني وآخرون: ”مقاصد الشريعة حوارات أجراها عبد الجبار الرفاعي، دار الفكر-دمشق- ط:1، 2001.

طه جابر العلواني(حوار) : أبعاد غائبة عن الفكر الإسلامي المعاصر، مجلة قضايا إسلامية معاصرة-بغداد-ع: 5، 1999.

طه جابر العلواني: الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش (حوار)، مجلة "قضايا إسلامية معاصرة ، س : 7 ، ع: 22، شتاء 2003.

طه جابر العلواني : "فقه الأولويات، مجلة قضايا إسلامية معاصرة -بغداد- ع: 7 ، .1999 .

طه جابر العلواني: "كلمة التحرير" مجلة إسلامية المعرفة-ماليزيا-س: 1، ع: 2، سبتمبر 1995.

طه جابر العلواني : " الآخر بين الإسلام والغرب في الموقع الالكتروني: //:http

/alwani.org

طه جابر العلواني: "الإسلاميون بين المصحف والسيف"، الموقع الالكتروني.

طه جابر العلواني: الوجود الإسلامي في أمريكا الموقع الالكتروني.

طه جابر العلواني: "ثقافة الاختلاف"، الموقع الالكتروني.

محمد الطاهر بن عاشور : ”مقاصد الشريعة، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس - عمان - ط 2 ، 2001.

ص: 188

نقد الفكر الغربي عند مُرْتَضَى مُطَهَّرَي

نبيل علي صالح

نبیل علی صالح

نبذة عن حياة الشيخ مطهري:

الكتابة الذاتية عن أصحاب مشاريع النهوض، ليست سهلة على الإطلاق، فدونها جهد فكري حثيث ، ومتابعة نشطة دؤوبة، ومنهجية تحليلية رصينة يفترض أن يلتزم بها للوصول إلى المطالب المدروسة.

الشهيد العلامة الشيخ «مرتضى مطهري»، أحد أهم الشخصيات العلمائية الإسلامية، كانَ هذا العقلاني والحكيم نموذجاً للمفكر الإسلامي الأصيل والمنفتح على الحياة والإنسان، اذ عُرف الشهيد مطهري بنشاطاته العقلية الفلسفية والكلامية القديمة والحديثة، وحتى عندما دخل المجال التاريخي (السيرة) والحقوقي (القانون والعدالة)، غالباً ما حكمته نزعة فلسفية بارعة ورصينة أي أنه كان يقرأ دائماً البعد الفلسفي سواء على صعيد فلسفة التاريخ أم فلسفة وتحليل الوقائع التاريخية، كما في قراءته للسيرة الحسينية، أو للمجتمع والتاريخ، أم على صعيد فلسفة الأحكام كما في دراسته المشهورة حول نظام حقوق المرأة في الإسلام وهكذا(1).

في هذه الدراسة حول سيرته وحياته ومنهجه البحثي، سنحاول تقديم صورة إجمالية عامة عن إبداعه العلمي العقلاني، ورؤيته للغرب والعلاقة معه.

ص: 189


1- حب الله حيدر« الاجتهاد وجدل الأصالة والمعاصرة ..قراءة في التجربة الفقهية للشهيد مرتضى مطهري». الموقع الرسمي للشيخ حيدر حب الله تاريخ النشر: 52014/12م. الرابط : http://hobbollah.com/articles

ولد الشيخ«مرتضى مطهري»في 12 جمادى الثانية من عام 1338 ه-.ق(1919 ميلادية) في مدينة «فريمان» بمحافظة «خراسان»، من عائلة متدينة عرفت بالعلم والتقوى، ولها جذور علمائية حوزوية عميقة.. وجاء والده( الشيخ محمد حسين مظهري) على رأس هذه العائلة، فدرس العلوم الدينية في مدينة العلم الديني (النجف الأشرف)، وبعد فترة من الإقامة في العراق والحجاز ومصر عاد إلى «فريمان»، وتوطن هناك، وقضى عمره في نشر المذهب وترويج الدين، وإرشاد الناس ووعظهم، والدعوة للإسلام ولمذهب أهل البيت(علیه السلام) بالذات.

تلقى الشهيد الشيخ« مرتضى مطهري» تعليمه الأوّلي في مدينته فريمان».. ثم انتسب طالباً دارساً للحوزة العلمية في قم بين عامي 1944 و1952م.. فحضر أولى الدروس عند «الإمام الخميني»والسيد« البروجردي». ثم سافر إلى أصفهان وتعرف هناك على«الميرزا أغا علي الشيرازي»، فتعلّم عنده التحقيق في نهج البلاغة ثم عاد إلى قم والتحق بدرس الفيلسوف العلامة «محمد حسين الطباطبائي»، ثم غادر إلى طهران سنة 1953م ، وانضم إلى جامعة طهران ليبقى هناك دارساً (ومدرساً) للفلسفة في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية التابعة لجامعة طهران لمدة 22 عاماً. وقد كان له - خلال هذه الفترة- علاقة بمنظمة ما يسمى ب-« فدائيي الإسلام»، حيث عمل معهم كمستشار فقط.

وبين عامي 1965- 197م ، قدّم الشهيد مطهري محاضرات فكرية منتظمة في حسينية الإرشاد الواقعة في شمال طهران..

وبعد هجرة الإمام الخميني (قائد الثورة الإسلامية) من العراق إلى باريس، كان الشهيد مطهري على ارتباط دائم ووثيق معه، بحسب ما أكده هاشمي رفسنجاني في مقابلة تلفزيونية : «كان منزل الأستاذ مطهري مركز هداية الثورة في داخل البلد، والتنسيق مع قيادة الإمام».

ص: 190

نتاجاته الفكرية (تعريف موجز بأهم مؤلفاته)(1)

عاش الشيخ مطهري ما يقارب ستة عقود زمنية .. وما بين ولادته واستشهاده مرّ تاريخ شخصي له حافل بالعطاء الفكري والنتاج الثقافي الإبداعي، وبنشر واسع للمعرفة الإسلامية الأصيلة، وممارسة النقد العقلاني للذات والآخر...

وجاءتْ مؤلفات مطهّري وتصانيفه الكثيرة، في شتى حقول وفروع العلوم الإسلامية المتعددة (في التفسير والفقه وأصول الفقه وأصول الدين والفلسفة الشرقية والحكمة الإسلامية وغيرها).. وقد ترجمت تلك الكتب إلى لغات مختلفة ومنها اللغة العربية. وتزيد مؤلفات مطهري على المائة كتاب فكري .. نقرأ فيها التوسع في العرض، والسلاسة في الطرح والعمق في التحليل والتفكيك، والشمولية في الأداء الفكري، والوعي الموضوعي بالأفكار المطروحة، مما أكسبه درجة رفيعة بين المفكرين النهضويين الملتزمين، وصانعي الفكر الأصيل، ومنتجي المعرفة الحقيقية.. وهذه المرتبة والدرجة العلمية الرفيعة والسامقة التي وصل إليها مطهري لها أكثر من دلالة، فهي (من جهة أولى) لم تأت حقيقةً - من فراغ، بل جاءت من خلال ما التزمه وسار عليه وتدرّج فيه، من دراسات حوزوية وأكاديمية متقدمة ومكثفة خلال سنوات طويلة من حياته التي كان العلم والمعرفة هاجسها الأساسي..كما أنها (من جهة ثانية) مؤشر من جهة أخرى على عقلانيته وانفتاحه، وعمق ،نظرته وسعة معرفته، وتجدر مقدرته الفكرية التي يقل نظيرها لدى كثير من الكتاب والمفكرين الكبار .. كذلك هي حصيلة للجهود الفكرية والاجتهادية لهذا الرجل الكبير التي جاءت استجابةً لتلبية حاجة العصر وإنسان العصر بظروفه المتحولة وتعقيدات وجوده المتنوعة والهائلة الحجم الكيفي والكمي. وهذا ما أوصله وأهله ليتبوأ طليعة المفكرين والمصلحين الدينيين.

منهج الشيخ مرتضى مطهري ورؤيته النقدية للغرب

كان الشيخ مرتضى مطهري - في كل طروحاته ونتاجاته النقدية - وفيّاً ( ومخلصاً)

ص: 191


1- يمكن تحميل معظم تلك المؤلفات كلها من الرابط التالي: http://alfeker.net/authors.php?id=155

لقيم الإسلام ومبادئه الإنسانية الأولى التي نشأ عليها. وكان سعيه الدائم وقلقه المعرفي، منطلقاً من فكرة إدخال هذا الدين في العصر، وأنّ هذا الدين يمتلك كافة المؤهلات والقابليات والقدرات اللازمة لدخوله (ومواكبته التطورات) العصر ومختلف مستجداته ومتغيراته، فهو الدين الخاتم، بجوهره القرآني الخالد ونصوصه المفتوحة على قراءات متعددة وتمثلات وتأويلات هائلة للنظر، وتدفق إمكانات المعرفة العملية.

وتجلى هذا الوفاء من خلال جَمْعه - بلا تكلّف بین أصالة الفكرة والمعتقد الإسلامي، وحداثة التفكير والمنهج العلمي الموضوعي الذي حصله من خلال دراساته وبحوثه الأكاديمية الطويلة .. ولا شك أن هذا التكييف الفكري والمزاوجة المعرفية - إذا صح التعبير - بين فكر ينتمي لفضاء زمني عتيق، وبيئة حديثة يعيش فيها، بتحولاتها الكبيرة ومتغيراتها الهائلة لا شك أنه عملية صعبة ومعقدة خصوصاً بالنسبة لمن نشأ(وتربى) بين أحضان الفكر الديني وأيديولوجيته «الخلاصية التمامية».. وبطبيعة الحال، هي قضية قد لا تتوفر إلا للقلّة قضية قد لا تتوفر إلا للقلة من المفكرين الموهوبين والناضجين

والمجرّبين الذين كان مطهري واحداً منهم.

استفاد المطهري من سعة اطلاعاته ومراجعاته النقدية لكثير من النظريات الفكرية والثقافات والفلسفات الإنسانية الحديثة التي درسها بعمق وروح مجردة ومسؤولة، وكأنه يريد الالتزام بها، فزاده هذا الاطلاع النوعي والانهماك الفكري التفكيكي معرفةً عميقة بالآخر، وبأفكاره وانفتاحاً على نظرياته وحكمةً وخبرة ونضجاً واقعياً في نقده لكثير من الأفكار والمفاهيم والطروحات والنظرات الدينية الإسلامية.

وللوهلة الأولى، قد يخال القارئ والمتابع (لبعض أفكار مطهري النقدية) أنه ليس إسلامياً أو أنه لا انتماء دينياً له، من شدة واقعيته الفكرية، وحسه النقدي العميق، وبراعته في القبض على مناهج المعرفة الحديثة بكل اتجاهاتها ومدارسها الوضعية المعروفة.. والسبب أنه كان مخلصاً لمعنى النقد بعنوانه الأولي، ولبنية الحوار الفكري، وأسس المساءلة النقدية ومعاييرها الموضوعية التي تقتضي الحيادية

ص: 192

والعقلانية وإنكار الذات والاقتدار النفسي الذاتي.

كان مطهري يكتب من موقع الخبرة والتجربة والانشغال العملي في ذاتية الفكرةوالنظرية المراد وعيها ودراستها وتفكيك معانيها، ونسج معان جديدة.. بمعنى أنه كان ينفذ إلى العمق والنواة المؤسسة والمولّدة، دونما تغافل عن تحولاتها ومظاهرها الخارجية المؤثرة.. وهذا الدخول أو الاستغراق الموضوعي-إذا صح التعبير- في بنية الفكرة أو النص المؤسس كان له هدف محوري هو الوقوف المتأمل أمام ذاتية الأشياء وبديهياتها الأولى بعد تعريتها من كل القشور والحجب، ونزع الأقنعة الخارجية عنها للنفاذ إلى العمق الأولي بقصد تحقق فاعلية النقد، والاشتغال النقدي الصحيح المتوازن والموضوعي.

انشغل مطهري في منهجه الفكري القائم على التحليل العقلي والتفكيك الموضوعي للأفكار المطروحة، بموضوع أساسي يلاحظ في معظم كتاباته وهو« تأصيل الفكرة والمعرفة الإسلامية» القائمة ( كرسالة دعوتية دينية) على الحق والعدل والحرية والدفاع عنها ، واعتبار أن التجديد الديني لا يعني تغيير الدين أو التجديد فيه (كقيم قارّة)، لأنّ أحكام الإسلام حية، لا يعتريها موت أو نسخ.. والله سبحانه تعهد صيانة هذا الدين إذ قال:«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »(الحجر: 9)، بل يعني التجديد في الفكرالديني المشروح في مناهجه وأدواته ووسائل تفكيكه وتأويلاته العقلية.. فخاصية الخلود هذه التي تميز الدين الخاتم عن النظريات العلمية التي قد تموت إلى الأبد مثل نظرية بطليموس في الهيئة ونظرية العناصر الأربعة للطبيعة.

هذا الإخلاص للفكرة القيمية الإسلامية لم يمنع الشيخ مرتضى مطهري من التواصل المنهجي والانفتاح العقلي على الثقافات المتنوعة ومدارس الآخرين الفكرية والمعرفية (حتى تلك المضادة لاعتقاداته وقناعاته الإسلامية)، وكان نقده هنا للآخر (الغربي بالتحديد كونه مرجعية متفوقة تقنياً وعلمياً، وحاضرة بقوة في مفاصل العالم كله إلى درجة الهيمنة والاستحكام السياسي والاقتصادي والغزو

ص: 193

الثقافي والإعلامي)كان نقده متركزاً ومنطلقاً من نقطة جوهرية وهي البعد النظري

«المفهومي» ، والاختلاف بين الرؤية الإسلامية والرؤية والغربية حول هذا الموضوع التأسيسي للفكر بكليته.. وقد جاءت رؤية مطهري النقدية للغرب في سياق مواجهة الخطر الوافد على البلدان الإسلامية المتمثل بالغزو الفكري المناهض للنظرية الإسلامية،ولاسيما التيارات الماركسية، ففي غفلة رضا حكمة الشرق بإنجازاتها، دقت الماركسية نواقيس الخطر، وكان خطراً موحشاً، أربك المؤسسة الدينية بزحف داهم البيوت، فاستيقظت هذه المؤسسة بمالها من عمق بشري، مدافعة عن (إيمانها) الذي هدّده الإلحاد الماركسي، وعن (قيمها) التي ناجزتها قيم الفكر المادي الزاحف بشكل منظم(1).. لكن بالإطار العام لم تقتصر المساءلة النقدية هنا على محور أو بعد واحد، بل امتدت كما أشرنا - لتطال منظومة التفكير البنيوي الغربية حيال قضايا عديدة ك--« نظرية المعرفة»(2) والتصور الفلسفي للعالم والحياة ككل.. وكان تقييم تلك المنظومات التفكيرية والمدارس الفلسفية، يتوقف بحسب مطهري على المنحى والاتجاه المتخذ في أصل طبيعة المعرفة، فما لم يتخذ الباحث رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في نظرية المعرفة، لا يصح منه الإذعان بأي قانون فلسفي أو مسألة علمية.(3). وبخصوص أهم المسائل التي تتناولها نظرية المعرفة بالبحث والدرس، فتتمثل في مباحث ثلاثة هي:( البحث في مصدر المعرفة-البحث في قيمة المعرفة- البحث في حدود المعرفة). والمسألة الأساسية في نظرية المعرفة هي البحث في قيمة المعرفة.. وهو بحث ينصب أساساً للإجابة عن التساؤلات التي تطرح حول «حقانية» الإدراك البشري، ذلك أنّ العقل الإنساني ينشط من أجل المعرفة وإدراك الواقع من حوله، بيد أنّ الإنسان يخطئ، وإقراره بالخطأ يوقظ فيه الريبة والشك،

ص: 194


1- مطهري، مرتضى. أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. ترجمة: محمد عبد المنعم الخاقاني، جزء: 12، ص: 15 دار التعارف، بيروت لبنان، طبعة ثانية لعام 1988م
2- نظرية المعرفة علم يبحث فيه عن مبادئ المعرفة الإنسانية، وطبيعتها، ومصدرها، وقيمتها، وحدودها، وفي الصلة بین الذات المدركة [بالكسر] والموضوع المدرك [بالفتح]. وكذا تبحث في الأفكار المتعلقة بأشكال ومناهج المعرفة والحقيقة، ووسائل بلوغها (راجع : المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية : 203 ، القاهرة 1979م ؛ المعجم الفلسفي . جميل صليبا :2 : 478 ؛ الموسوعة الفلسفية المختصرة : ص 476475).
3- المطوري، مازن. قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهري والصدر الحلقة 1 موقع كتابات في الميزان الرابط : http://www.kitabat.info/subject.php?id=36771

ويوقعه في الحيرة ما يكتنف آراء الناس من غموض وتناقض.. ثم إن العقل الإنساني بعد أن ينصب على الأشياء، يستدير لدراسة ذاته وطبيعة فكره، وهذا التأمل في الذهن والتساؤل عن قيمة ما يحمله من معرفة، أوّل لحظات الشك لا يلبث أن يجتازها بسلام أو ينحرف في تيارها، إلا أن إثارة الشك تفضي إلى إثارة أهم المسائل المعرفية، وهي المسألة المتمثلة بالتساؤل الذي يقول : هل يصل الإنسان والعقل البشري إلى اليقين ومعرفة الواقع فيما لو كانت هناك واقعية خارج ذهن الإنسان؟ وهل معرفة الإنسان متطابقة مع الخارج؟ هذا التساؤل الذي يمثل في جوهره البحث في قيمة المعرفة تعتبر كلّ الفلسفات شرقيها وغربيها، يقينيتها ولا أدريتها وما بينها، بمثابة جواب عنه.. أسئلة حيوية لا يمكن الإجابة عنها إلا بالعقل والبديهيات العقلية والإدراكات العقلية الحقيقية التي تسندها التجربة بمقاييسها واختباراتها وقوانينها العملية..

لقد أكد مطهري - في موضوع الإدراك العقلي- على أن موضوعية الإدراك بعامة ومطابقته للعالم الخارجي، أمر بديهي لا يتطلب برهاناً ودليلاً، بل لا يمكن الاستدلال عليه.. وجميع المعارف التصديقية التي يتمتع بها الإنسان، ترجع إلى معارف ضرورية أساسية، تدركها النفس الإنسانية من دون مطالبة بدليل أو برهان، بل لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل، وإنما تشعر النفس بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحتها كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية وقيمة المعرفة إنما تنبع من ارتكازها على هذه المبادئ والدقة في تطبيقها.

قوم مطهري - في ضوء إثبات القضايا العقلية وتفسير قيمة المعرفة الإنسانية عموم المذهب التجريبي (1)، ونَقَدَه نقداً مركزاً وشديداً خاصة لجهة النقص الذي بلي به المنطق الأرسطي، وكذا التأسيس العقلي والفلسفي للمنطق التجريبي.. وبين

ص: 195


1- وأما عن العوامل التي وَلَّدَت المذهب التجريبي والفكرة المادية في أوروبا، ومَهَّدَتْ لتتحول الفكرة المادية إلى نظرية وخط ومدرسة معرفية وحالة فكرية يتبعها الكثيرون، فقد حددها مطهري ضمن عدد من العوامل التاريخية والاجتماعية، هي: .1 قصور المفاهيم الدينية الكنسية. .2 قصور المفاهيم الفلسفية. 3. عدم نضج المفاهيم الاجتماعية والسياسية. (راجع مطهري، مرتضى. «الدوافع نحو المادية». ص: 27، دار التعارف للمطبوعات لبنان بيروت، طبعة أولى لعام 1994م.

علاقة الفلسفة بالمنطق، ونقد من خلال ذلك، عموم النظريات غير العقلية، وحدّدالمقياس في التمييز بين الحق والباطل مقارناً بين النظريات المتنوعة والمتعددة المختلفة الحديثة والقديمة في المعرفة. كما أثبت أن الفلسفة الحديثة لا تستطيع تفسير المعرفة والإدراك من غير أن ترجع إلى المعقولات الثانية الفلسفية، وفصل ذلك ضمن ردّه على هيجل» و «هيوم» و«كانت» وبقية الفلاسفة الماديين (1).

.. الواضح أن نقد الشيخ مرتضى المطهري للغرب يتركز على بعد فلسفي معياري لا سياسي آني لحظي( رغم الخلاف الفكري البنيوي الواضح بين منطلقات الليبرالية السياسية الغربية ومنطلقات التفكير السياسي الإسلامي الذي التزمه مطهري كرمز من رموز الثورة الإسلامية في إيران).

انطلق نقده للغرب، وتغدّى من قناتين، الأولى وعيه العميق لأسس الفلسفة الإسلامية ومبانيها النظرية القارّة التي تأخذ بالمذهب العقلي القائم على بديهيات العقل الأولى، ولا ترفض التجريبية ولا المذهب التجريبي. والقناة الثانية، تعمقه في فهم( ووعي) أسس الفلسفة الغربية ومرتكزاتها بكافة تياراتها، وبناها الفكرية النظرية والعملية. وقد لاحظنا أنه لا يوجد أي منهج فلسفي غربي، ولا رؤية فلسفية غربية معروفة، إلا وللشيخ المطهري رأي ما فيها وحولها، شارحاً وموضحاً وناقداً أو مؤيداً لفكرة أو نظرية ما منها هنا أو هناك.

يعتقد مطهري أن هناك مجموعة من المواضيع - من بين كل المجهولات التي يأمل الإنسان في إيجاد الحلول لها -يعيرها الإنسان الدرجة القصوى من الأهمية، وهي تلك المسائل المرتبطة بالنظام الكلي للعالم والحركة العامة للحوادث، والتي تؤخذ على أنها رمز الوجود وسر الكون.. والإنسان -سواء نجح أم خاب- لا يستطيع أن يكف نفسه عن المحاولات الفكرية والنشاطات العقلية التي تدور حول بدء العالم وغاية الوجود ومبدئه وحول الحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والمتناهي

ص: 196


1- النوري، حسن . العلامة مطهري في آرائه الفلسفية والعقائدية». مجلة ثقافتنا، العدد 6 الرابط : http://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticleArticleID=618

واللامتناهي، والعلة والمعلول، والواجب والممكن، وغيرها من الأمور التي هي من هذا القبيل.. وهذه الحاجة الفطرية هي التي أوجدت الفلسفة(1). من حيث أنها (أي الفلسفة )هي التي تجعل الوجود بأجمعه ميداناً ليجول فيه الفكر البشري، وهي تحمل العقل الإنساني على جناحها وتحلق به إلى عوالم هي منتهى آماله وغاية طموحه.

وقد مرّت الفلسفة الغربية- التي صال وجال مطهري في مختلف أرجائها الفكرية- بتحولات كبرى منذ الزمن« الاثيني» وقواعد أرسطو الفلسفية المعروفة، حيث الأسئلة والإشكاليات الكبرى (أسئلة الوجود والخلق والإنسان والحياة) تبحث عن إجابات معرفية عقلية نظرية .. فتعددت أنماط التفكير وتنوعت الصور والتراكيب والعناوين والمعاني والكل من رموز تلك الأيام الفكريين -كان يدلو بدلوه في ساحة التفكير والعقل والخيال محاولاً تقديم صورة أو إجابة ما( تصورية أو تصديقية) على تلك الأسئلة التي كانت تتراكم وتتعاظم مع تطورات الحياة، وتقدم الزمان والعيش البشري.. هذا التراكم في الفكر والرؤى والنظريات الفلسفية منذ زمن أرسطو، جعل للفلسفة تاريخاً، يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام هي الفلسفة القديمة، والفلسفة الوسطى، والفلسفة الحديثة. وتمتد مرحلة الفلسفة القديمة من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي.. وتمتد مرحلة الفلسفة الوسطى من القرن الخامس إلى القرن السابع عشر الميلاديين، أما مرحلة الفلسفة الحديثة فتمتد من القرن السابع عشر الميلادي حتى العصر الحديث.. وأما الفلسفة الإسلامية، فقد ابتدأت من القرن الثاني الهجري مع ظهور اهتمام عدد من المفكرين المسلمين العرب وغير العرب بالفلسفات الشرقية واليونانية. وكان مبحث (الوجود) هو المحور المركزي للبحث والتفكير في الفلسفة الإسلامية، لأن الحكمة الإلهية كما وسموها، هي ( علم يبحث فيه عن أحوال الموجود بما هو موجود) غير أن الفلاسفة المسلمين عالجوا حقيقة العلم والمعرفة وأنواعها ، ومراتبها، ومصادرها، وحكايتها عن الواقع وقيمتها، وغير ذلك في مباحث( النفس، والعقل والعاقل والمعقول،

ص: 197


1- الطباطبائي، محمد حسين . أسس الفلسفة والمذهب الواقعي. تعليق الشيخ مرتضى مطهري، ترجمة: محمد عبد المنعم الخاقاني دار التعارف للمطبوعات لبنان بيروت، طبعة ثانية لعام 1988م. ص: 10.

والمقولات والكلي، والوجود الذهني، وان لم يفردوا باباً خاصاً بمباحث المعرفة في مؤلفاتهم (1).. وهكذا اهتم بقضية المعرفة علماء الكلام والمتصوفة والعرفاء، فبينما اعتبر المتصوفة المعرفة حالة ذوقية وجدانية مصدرها القلب والحدس والشهود، وان العلم يتحقق بلا واسطة ترسَّمَ المتكلمون أسلوب الجدل، وتوسلوا للتدليل على مدعياتهم بالمظنونات والمشهورات ،والمسلمات واعتمدوا المنهج العقلي تارة، والمنهج النقلي تارة أخرى.

وكانت قضية «المعرفة»، سواء معرفة الذات أم المحيط أم العالم هي القضية الأساسية التي طغت (وهيمنت) -كما ذكرنا - على مجمل التفكير الفلسفي الغربي منذ بدايات عصر النهضة وصولاً إلى عصر التنوير .. حيث واصل الفلاسفة الغربيون (جون لوك، وعمانوئيل كانت وغيرهما) تركيزهم واهتمامهم بنظرية المعرفة، إلى أن انتهت مفاعيلها إلى المنطق الوضعي( الوضعية المنطقية) والتصور العلمي الفيزيائي للعالم وما تزال تلك المقولات التي برزت خلال النصف الأول من القرن العشرين سائدة ومستمرة إلى اليوم بل شكلت مصدر إلهام لمناهج العلوم المادية المعاصرة وفلسفتها.

طبعاً، برزت علی الساحة في أوروبا -كما قلنا- رؤى ومذاهب فلسفية متعددة ومتباينة منذ عصر ديكارت وحتى العصر الحاضر، وكان لكل من هذه المذاهب أتباع ومؤيدون. فبعض انصرف إلى الفلسفة العقلية، وبعضُ نظر إلى الفلسفة من نافذة العلوم التجريبية العقلية، وبعض اعتقد بأنه يمكن البحث والتحقيق في مسائل الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية وأبدى آراء في هذا المجال، وبعض ادعى أنّ الإنسانَ عاجز عن إدراك هذه المواضيع، وكل ما قيل في هذا المضمار - نفياً أو إثباتاً- قد كان قولاً بغير دليل. كانوا إلهيين في عقائدهم وبعض كانوا ماديين.. وعلى الإجمال لم يحصل أي تقدم مهم في هذا الفن المسمى ب- «الفلسفة الحقيقية» أو «العلم الأعلى» وهو الفن الذي يأخذ على عاتقه التحقيق في النظام الكلي للعالم، وتوضيح الوجود

ص: 198


1- الرفاعي عبد الجبار. إسلامية المعرفة .. هل هي قضية فلسفية من دون مضمون فلسفي». موقع مدارك. الرابط : htm.4/10-http://www.madarik.net/mag9

بأسره، سواء في أوربا القرون الوسطى أم في أوربا الحديثة، ولم يظهر نظام قوي مقنع يحفظ الفلسفة من التشتت والتفرق وأدى هذا إلى ظهور مشارب متناقضة في أوربا.. وأما ما هو موجود في أوروبا باسم الفلسفة وهو يستحق الإعجاب والاستحسان فهو لا يربط بالفلسفة، وإنما هو متعلق بالرياضيات أو الفيزياء أو بعلم النفس.. ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفلاسفة المسلمين الذين وجهوا معظم جهودهم للتحقيق الفلسفي قد أنجزوا الشيء الكثير ودفعوا الفلسفة- التي أوصلها اليونانيون إلى منتصف الطريق- نحو الأمام، ومع أن مسائل الفلسفة اليونانية عند ورودها إلى الحوزات الإسلامية لم تكن تتجاوز مائتي مسألة فإنها قد بلغت في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة، وتغيرت فيها أصول الاستدلال وطرقه حتى في المسائل الأساسية لليونانيين واكتسبت الفلسفة خاصية رياضية. وتظهر هذه الخاصية بجلاء في فلسفة صدر المتألهين. ومن الإنصاف أن ننسب هذا التقدم إلى العلماء المسلمين(1).

ولعل هذا الانكماش أو التراجع الفلسفي وعدم اقتحام مناطق مجهولة فلسفياً، كان من أسباب ودوافع صعود نجم الفكرة المادية في أوروبا على النحو الذي تفجرت من خلاله أفكار ومعطيات وانبثقت مذاهب متنوعة (تحت العنوان المادي)ظهرت في أوروبا بالتحديد

..وهذا التراجع كان له علة أساسية، هي افتقار تلك البلاد .كما يقول مطهري - لمذهب فلسفي عقلي محكم وقوي ومتلائم مع العلوم الحديثة. ووجود سلسلة من العقائدالسخيفة(2) التي يطلق عليها اسم «الحكمة الإلهية »بما هيأ الجو وفتح الباب على مصراعيه أمام انتشار وتفشي ما يسمى بالفلسفة المادية. ومن يرجع إلى الكتب المادية يجد ما هي نوعية العقائد التي بها هاجمها هؤلاء بشدة. وحتى إن مجموعة العلماء المحدثين الأوربيين المعتقدين بالنظرية الإلهية يعانون كثيراً من محتويات هذه الحكمة الإلهية. ومن المؤكد أنّ هذا التبعثر الفلسفي إذا-

ص: 199


1- المصدر نفسه، ص: 14
2- يضرب الشهيد مطهري مثلاً بسيطاً على تفاهة تلك النظرات الفلسفية المسماة حكمة أو فلسفة إلهية وهو تخصيص القديس توما الاكويني» (الذي يعتبر أكبر الحكماء في القرون الوسطى وتتجلى فيه الحكمة «الاسكولاستية» (المدرسية) وبقيت كتبه لمدة أربعمائة سنة هي الكتب الرسمية للحوزات العلمية والدينية في أوربا تخصيصه لفصل من كتاب «المجموعة اللاهوتية» يدور حول هذا السؤال: ما عدد الملائكة التي يمكن أن تحلّ في رأس إبرة ؟!...».

صح التعبير - لم يكن ليوجد لو أنّ «الحكمة الإلهية» في أوروبا قد أحرزت التقدم الذي ظفرت به بين المسلمين، وعند ذاك لم يكن الميدان ليسمح «للسوفسطائيين» أن يشيعوا خيالاتهم، ولا للماديين أن ينشروا غرورهم، وبالتالي فلا المثالية تستشري، ولا المادية تستحكم.

والتقدم الذي عناه مطهري هنا هو في نهاية المطاف والفصل الأخير إضفاء طابع روحي (غائي معنوي) على مفاهيم وتصورات الفلسفة الغربية التي انتهجت المنهج المادي البحت في نظريتها المعرفية وتصورها الفلسفي عن العالم، أي في قراءتها للذات والعالم.. وهذا الطابع الروحي (الوسطي) للفلسفة الإسلامية يرى أن العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية علوم مادية متحيزة اصطبغت بلون المحيط الذي نشأت (وتطورت )فيه، وما يحفل به ذلك المحيط، من ملابسات، وقيم ثقافية ومعايير منهجية، تستند إلى قراءة أحادية هي (قراءة الكون) فقط، وهذه القراءة تجسد حالة فصام حاد، لأنها تستبعد قراءة الوحي، التي تتكامل بها قراءة الكون، عبر منهج (الجمع بين القراءتين). كذلك تعتقد جماعة( إسلامية المعرفة) بأن فلسفة (العلوم الطبيعية) و(العلوم البحتة )هي فلسفة وضعية قاصرة، أفضت إلى منهج وضعي مادي، يفسّر ما يجري في العالم على أساس الجدل بين الإنسان والطبيعة، من دون وعي لدور الله في العالم وباختزال دور الباري تعالى يختزل الإنسان والعالم إلى مجموعة موجودات وأشياء مادية لا غير .. وتتلخص المرتكزات المنهجية لإسلامية المعرفة، حسب رأي دعاتها، بما يلي(1)

1 .صياغة النظام المعرفي الإسلامي.

2 .اكتشاف المنهجية القرآنية.

3 .بناء منهج للتعامل مع القرآن والسيرة والتراث الإسلامي.

4. بناء منهج للتعامل مع التراث الغربي والإنساني عموماً.

ص: 200


1- الرفاعي، عبد الجبار .« إسلامية المعرفة .. هل هي قضية فلسفية من دون مضمون فلسفي». مصدر سابق.

وهذا ما سار عليه مطهري من زاوية التأصيل المعرفي الإسلامي الذي انبنى أيضاً -وفي جانب آخر منه- على نقد الفلسفة ونظرية المعرفة الغربية، حيث يمكن عد كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) الذي ألفه السيد محمد حسين الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان)، وكتب تعليقةً موسعةً عليه تلميذه الشيخ مرتضى المطهري (موضوعنا في هذا البحث المقتضب حوله، يمكن عده كأول كتاب في الفلسفة الإسلامية الحديثة يخصص مساحة واسعة لبحث (المعرفة) ونقد الرؤية الغربية للمعرفة الذاتية والكونية.. فبعد أن فرغ الطباطبائي في المقالتين الأولى والثانية من بیان( معنى الفلسفة وحدودها، والعلاقة بينها وبين العلوم الطبيعية والرياضية) دشّن بحثه بنظرية المعرفة وأولاها أهمية متميزة، حيث جعلها تتصدر مسائل الفلسفة الأخرى، وعمل على ترتيب البحث فيها على ثلاثة محاور متسلسلة منطقيا، تبدأ ب- (قيمة المعرفة) يليها (مصدر المعرفة) وتنتهي ب-(حدود المعرفة).

لكن ورغم تأصيلية مطهري (ورؤيته) المعرفية الإسلامية، وقناعته العميقة بالمنهج والمشروع الإلهي الفكري والعملي، لم تمنعه (قناعته وإيمانه) من التمييز - في تعاطيه النقدي مع المعرفة والفلسفة الغربية الحديثة - بين الغرب الحضاري والثقافي والتقني والعلمي والغرب السياسي الاستعماري بتاريخه البربري والعنصري والوحشي ،ولعل ما زاد الصورة الغربية بشاعة هو هذا البروز الكبير السافر لكثير من الاتجاهات الفكرية والفلسفية الغربية ذات المنحى العبثي والمادي،وبالعكس فقد لاحظنا أنه وخلال المرحلة الاستعمارية كان الاستشراق الفكري مقدمة لإرهاصات الاحتلال الاستعماري بداعي تطوير الشعوب وتحديثها (1)..

-3 نماذج من نقد مطهري للفلسفة الغربية

نحن في هذه الدراسة الفكرية المقتضبة والمختصرة والمكثفة عن الشيخ مرتضى المطهري ، لن نتمكن من الإحاطة برؤية الشيخ النقدية لكل التراث المفاهيمي والرؤى الفلسفية الغربية منذ بدء تشكلها الأولي في العهد الاثيني، حيث كانت نشأة

ص: 201


1- المصدر السابق

أفكار فيثاغورث والسفوسطايين والشكوكيين، ثم فلسفة سقراط وأفلاطون وغيرهم، قبل نحو 2500 عام، مروراً بالفلاسفة بيكون، ديكارت، بيركلي، هيوم، روسو، كانت، شوبنهاور ،داروین ،جیمس ،نیتشه ،فروید ،دورکایم، برجسون،برتراند راسل ،وغيرهم، وصولاً إلى جان بول سارتر والفلسفة الوجودية.

كل تلك المحطات الفلسفية في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، خاض معها الشيخ مرتضى مطهري معارك فكرية وسجالات نقدية بنيوية صميمية في محاولة منه لإثبات قوة( وعلو كعب) الفلسفة الإسلامية (المرتكزة على العقل والبديهيات العقلية)، وعمق بنيتها الذاتية واتساع مقولاتها العملية، التي شملت الذات والموضوع.

من هنا سنحاول تحليل معايير هذه الرؤية النقدية على نحو من الإجمال العام، مع ذكر أمثلة مهمة في هذا الاتجاه.

..لدى مراجعة ما كتبه مطهري حول الفلسفة الغربية وتحليله، يمكن القول بأنّ الجهد النقدي له (المطهري) كان يتركز حول نقد الاتجاه المادي البحت المهيمن على عموم الفلسفة الغربية بكل تنوعاتها وأشكالها واتجاهاتها الفكرية والسياسية.. هذا هو الانطباع الفكري الذي يمكن أن نخرج به عن رؤية مطهري النقدية للفلسفة الغربية التي قيّدت الحقيقة بالرؤية المحسوسة فقط، دون وعي الأمور المعنوية والروحية، ورفضت بشكل كلي وشامل كل ما له علاقة بالأمور الغيبية الما ورائية، مع أن هذا الرفض ليس من مختصات العلم بما هو حس وتجربة وقوانين مادية، ورؤية عيانية مادية.

.. فعلى سبيل المثال، انتهج بعض فلاسفة الغرب منهجاً وجودياً يقوم على فكرة «أصالة الإنسان»، محاولين إثباتها وترسيخها في أذهان الناس على ضوء النزعة الحسية المادية.. حيث لرغبات الإنسان ونزعاته الأولى أولوية على ما عداها، ولا منهج يقودها كغاية ومعنى سوى الفردية والنفعية الذرائعية.. وأن الخير كله في مصلحة الفرد ولا شيء سواه، وهو مقياس الخير والمصلحة لذاته..

ص: 202

طبعاً هذه الفكرة كانت- كما يقول مطهّري - مطروحةً قبل ذلك،وهي تختلف عمّا تبنّاه الحكيم ابن سينا وأمثاله من فلاسفة المشرق من مبادئ وأصول فلسفية، كالقول بوجود نمطين من الخير، إذ هناك خير محسوس وخير معقول ؛ وهو بصورتيه يعني تلك الأشياء المادية والمعنوية التي يرغب الإنسان في تحقيقها.. وحينما يتطرق الوجوديون إلى المنفعة ( واللذة) فهم يقصدون منها الجانب المادي أحياناً، وربما يرومون منها الجانب المعنوي أحياناً أخرى، حيث يقولون إنّ العلم خير معقول لكنّ الطعام خير محسوس ، والإنسان بدوره مجبر على السير نحو ما يراه خيراً بشعوره الباطني، أي إنّه يروم تحقيق الخير من منطلق دواعيه الفطرية. لو سألناهم عن المعيار الذي يحدّد الخير، لأجابوا بأنّ الكمال هو المعيار في ذلك؛ وهذا يعني أنّ الخير يجب أن يضمن للإنسان بلوغ مراتب الكمال.

والإنسان بطبيعته المادية يبحث عن الخير المادي، وبطبيعته المعنوية يبحث عن الخير المعنوي؛ وهو في كلا الحالتين باحث عن الخير بما هو خير، فإن بادر إلى البحث عن العلم، فهو في هذه الحالة يروم بلوغ حقيقة تتمثل في خير معقول، وإذا بدأ يبحث عن المال فهو حينئذ يبحث عن حقيقة تتجسّد في خير محسوس..فالنمط الفكري الذي تبنّاه الفلاسفة الغربيون تمحور في أساسه حول كون الحقائق مادّيةً محسوسةً فحسب، ومن هذا المنطلق قالوا إنّ الإنسان إمّا أن يكون باحثاً عن الخير (المنفعة المادية)، وإما أن يبحث عن شيء لا وجود له، ولا يعدو كونه مجرد مبدأ معنوي؛ وحينما سادت البحوث الفلسفية حول المنافع المادية والمعنوية في أوروبا واجهت الفلسفة البشرية بأسرها انحرافاً كبيراً، بعد أن عدوا الحياة الإنسانية مجرد مضمار يجول فيه البشر لتحقيق منافع مادّية، وقالوا إنّ العقل يحفّز الإنسان على طلب الخير، ويأمره بالتخلي عمّا لا خير فيه، لكنّ الإنسان أحياناً يتنصل عن حكم العقل، ويلهث وراء تلك الأمور التي لا خير فيها، وهذا التضادّ هو حقيقةٌ موجودة لدى بعض إنْ لم يكن كثير من بني آدم فالإنسان برأيهم لا يحقق من وراء عناده أية نتيجة إيجابية، أي إنّ هذا العناد لا خير فيه؛ ولكن هل يمكن لأحد ادّعاء أنّ جميع أفعال الإنسان تتطابق مع حكم العقل ؟!... عد الفلاسفة الغربيون تلك الأعمال

ص: 203

المعنوية مجرد مبادئ وقيم، ولم يعدوها خيراً، لذلك أصبحوا في حيرة من أمرهم حول وضع تفسير لها، لأن الإنسان يسعى وراءها باختياره رغم خروجها عن نطاق الخير بزعمهم، فهو برأيهم يجب أن يكون مادياً محسوساً. رأيهم هذا باطل بكل تأكيد، فهل هناك من يدعي أن الجمال ليس خيراً؟!... وفي إجابته يقول مطهري بأن الجمال أمر معنوي، وليس مادياً، فهو لا حجم له، أي إنّه لا يملأ العين بحجمه المادي. وهل يمكن القول إنّ الفضيلة أمرٌ مادّيُّ ؟ ! والأمثلة في هذا الصدد كثيرة على مستوى القيم والأفكار الجمالية كقيمة الحرية والعدالة والكرامة وغيرها ... وبعد أن طرحوا هذه المسائل بصفتها أموراً غير معقولة وجدوا أنفسهم في مأزق من حيث إقناع المجتمع برأيهم حولها، إذ كيف يمكنهم تلقين الناس بأنّ القيم المعنوية مجرد أوهام لا حقيقة لها ؟! وهذا التشكيك يماثل ما ذهب إليه كبار فلاسفتهم من أمثال نيتشه(1) ، إذ عدّوا الحقيقة فحسب، وأنكروا كلّ أمر لا نفع مادي فيه، وزعموا أنّ العقل يرفض تلك الأمور التي لا يحقق الإنسان منها منافع مادّية (حسية)؛ ومن الطبيعي أن الفلاسفة الغربيين فسّروا هذه المسألة بأساليب مختلفة، فالجريء منهم صرّح بها من دون وجل، والذي لم يكن يمتلك الجرأة اللازمة التفّ على الموضوع وراح يلقنه للناس بأسلوب آخر ، ومنهم من قال إنّ القيم بلغت درجة التكامل، والوجوديون بدورهم تصوّروا أنّهم وجدوا الحلّ فعدّوا القيم تختلف عن الحقائق من حيث كونها مخلوقة - مصنوعة - وليست من سنخ الأمور التي يتمكّن الإنسان من اكتشافها. الأمور التي يمكن اكتشافها يراد منها تلك القضايا الحقيقية التي يتمكن الإنسان من التعرف عليها عن طريق العقل والعلم والاستدلال؛ في حين القيم تعني تلك القضايا التي يخلقها الإنسان بنفسه بحيث لم يكن لها وجود مسبق(2)

المنفعة

ص: 204


1- فيلسوف ألماني عُرف بفيلسوف القوة. آمن بالإنسان السوبرمان.. وهو ملهم للمدارس الوجودية، وما بعد الحداثة في مجال الفلسفة والأدب في أغلب الأحيان. روج «نيتشة» لأفكار توهم كثيرون أنها مع التيارات اللاعقلانية والعدمية. استخدمت بعض آرائه وأفكاره فيما بعد، من قبل أيديولوجيي ،الفاشية، وتبنّت النازية أفكاره. رفض نيتشه الأفلاطونية والمسيحية وكل ما يمت للأديان بصلة (الميتافيزيقيا) بشكل عام، ودعا إلى تبني قيم جديدة بعيداً عن «الكانتية» و«الهيغيلية» والفكر الديني.. كتب «نيتشة» نصوصاً وكتباً نقدية حول الدين والأخلاقية والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية منها والمثالية الألمانية. وكتب أيضاً عن الرومانسية الألمانية والحداثة.
2- دجاكام علي الفلسفة الغربية برؤية الشيخ مرتضى مطهري. ترجمة: أسعد مندي الكعبي، صادر عن :« المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية - العتب العباسية المقدّسة. طبعة أولى لعام 2016. ص: 425 - 426.

وأما الوجه السياسي لثقافة الغرب «المادية»، والتي تمظهرت من خلال الفكرة الوجودية

(أصالة الإنسان)، فقد اعتبر الشيخ مرتضى مطهري أنّ هذه الفكرة (بتطبيقاتها السياسية الليبرالية) هي من أهمّ أوجه المدنية الغربية، وهي تعني حرية الإنسان في تربية نفسه، وحريته في الفكر والعمل.. ويظهر الإنسان في هذا التعريف في صورة الكائن الغرائزي

(المتحرّر من قيود الأخلاق وضوابط التكليف ومعايير الردع والضبط الذاتي) والذي يقوم سلوكه على قاعدة المنفعة والمصلحة الخاصة فحسب. إذ ليس للتعبّد بالدين أو احترام القيم الإنسانية الخالدة أية معان تذكر في هذا الاتجاه.. بل الخوف من التزاحم مع مصالح الآخرين، بالأخص الخوف من ردود فعل الأكثرية المنافسة، وهذا الذي أدى إلى الامتناع عن الاعتداء على حقوق الآخرين الواضح أنه إذا فقد الخوف من الله من داخل الإنسان، وإذا لم يتمكن الإنسان من تقديم تعريف واضح للحق والباطل، وإذا أنكر الاحترام الذاتي والإنساني للآخرين، هذا الإنسانُ - المتمثل لتلك السلوكيات- سيعتدي على حقوق الآخرين، إذا ما توفّرت له السلطة والحاكمية..

هذه هي خلاصة رأي الوجوديين بالنسبة إلى القيم والمبادئ الأصيلة والمعنويات الدينية، لذا غالباً ما يراود أذهان الناس السؤال الآتي: ما المقصود من أن الإنسان هو الذي يخلق القيم ؟ للإجابة عن هذا السؤال قيل: المراد من القول بأنّ الإنسان هو الذي يخلق القيم هو أنه بطبعه يعد بعض المسائل من سنخ ،واحد، كالإيثار والأثرة حسب تعبير العرب، ومثل العدل والظلم ؛ فهما متساويان بحدّ ذاتيهما، لكنّ الإنسان يضفي القيمة الساميةعلى العدل، ومن ثم يمسي مختلفاً عن الظلم من حيث كونه ذا قيمة. كما نلاحظ فالإنسان هو الذي جعل العدل واحداً من القيم السامية، مثلما جعل الإيثار أرجح من الأثرة، وما إلى ذلك من أمثلة أخرى لا حصر لها جميع المفاهيم المتضادّة برأي الوجوديين كانت متساويةً في أساسها، إلا أنّ الإنسان هو الذي رجّح بعضها على بعض، فقد عدّ العدل أفضل من الظلم والصدق أفضل من الكذب والأمانة أفضل من الخيانة. وفي نقده العميق لهذه الأطروحة الوجودية الغربية

ص: 205

يسأل مطهري: ما المقصود من كون الإنسان هو الذي يخلق القيم؟..

يمكن القول أحياناً إنّ الإنسان يخلق القيم من خلال إضفائه حقيقةً على أمر ما، بحيث تكون موجودةً فيه سابقاً، أي إنّ الأمر نفسه موجود لكن هيئته (يعني: شكله وعنوانه) يتغير وهو فى هذه الحالة بطبيعة الحال لا يخلقه فالإنسان قادر على صناعة أشياء مادّية عبر تحويرها أو تركيبها بمختلف الفنون والمهارات التي يمتلكها فيضفي عليها صورةً أخرى؛ والوجوديون بدورهم متفقون معنا هنا (مع أتباع المنهج الإلهي) على أن تغيير الشكل والصورة والمادة لا يمكن عده خلقةً. إذن، القول بأنّ الإنسانَ صنع القيم (بمعنى أنه خلقها وأضفى عليها حقيقةً وجودية) هو كلام باطل جملةً وتفصيلاً كما يؤكد شيخنا المطهري؛ وحتى لو افترضنا أنّه أراد إضفاء حقيقة على الأمور المعنوية، فالسؤال الآتي يطرح نفسه: هل أنّ المعنوية بحدّ ذاتها موجودةً أو غير موجودة ؟ هؤلاء يقولون إنّ المعنوية لا حقيقة لها - أي إنّها غير موجودة- ونحن نردّ عليهم بالقول: كيف يمكن للإنسان إضفاء حقيقة على أمر لا وجود له وليس من شأنه أن ينزل في حيّز الحقيقة؟!..

القول بأنّ الإنسان خالق هو في الحقيقة اعتبار، والاعتبار هو أمر توافقي، فالكادر التعليمي في إحدى المدارس على سبيل المثال لا يمكنه مزاولة عمله الجماعي بشكل منسجم ما لم تكن هناك إدارة مشرفة عليه تسير شؤونه وتنظم أموره؛ ولأجل تحقيق هذا الهدف لا بدّ من قيام هذا الكادر باختيار أحد أعضائه كمدير له؛ وبطبيعة الحال فإنّ هذا المنصب الذي تولاه السيّد المدير لم يكن موجوداً سابقاً، بل إنّ الكادر التعليمي هو الذي ابتدعه - خلقه - ومن المؤكد أنّ هذا الخلق يعد أمراً اعتبارياً توافقياً مما يعني أنه ليس واقعياً لكون السيد المدير يتصف بهذه الميزة في عالم الذهن والاعتبار، إذ تحوّل خلال لحظة من معلّم كسائر أعضاء الكادر التعليمي إلى مدير مشرف على زملائه ؛ لذا فهو في عالم الواقع الأمر نفسه- ليس سوى ذلك الإنسان السابق الذي كان معلّماً، فتولي منصب الإدارة هو مجرد عقد جماعي واعتبار بحت لا غير ، والهدف منه يكمن في تحقيق المصلحة الجماعية، فهو أمر مسوّغ من

ص: 206

داعي المنفعة. إذن هذه هي حدود قدرة البشر على الخلقة(1).. وبناءً على ما ذكر فغاية ما يدلّ عليه الرأي القائل بأنّ الإنسان يخلق القيمة المعنوية للأشياء، هي عدم حقيقة تلك الأمور التي نعدّها قيماً ، لأنّ الإنسان هو الذي أضفى عليها هذا الاعتبار، وإلا فهي بحدّ ذاتها لا قيمة لها.

.. يؤكد مطهري بذل الفلاسفة الغربيين جلّ جهودهم بغية نفي الأصالة وعدوا القيم مجرّد أمورٍ تصوّرية متفق عليها، ولكنّهم غفلوا عن أنّ ما يتم الاتفاق عليه يتعلّق بالوسائل فقط في حين الهدف ليس من شأنه أن يدخل في ضمن ذلك. مثلاً يقال إنّ العملة النقدية ذات قيمة اعتبارية خلافاً للذهب الذي هو ذو قيمة حقيقية لأنه يدخل في كثير من الشؤون الحياتية ولأنّه شحيح وثمين بحدّ ذاته لا باعتباره؛ فقيمة العملة النقدية محدودة بالرقم المدوّن عليها وقد أجيز استبدالها بالذهب بغية تحقيق هدف معي، إذ أضفينا هذا الاعتبار المالي لها لأجل تيسير عملية التبادل التجاري. إذن، العملة النقدية لا قيمة لها بحدّ ذاتها ولا تختلف عن أية ورقة أخرى إن كانت ورقيةً، كما أنّها لا تختلف عن أية قطعة معدنية أخرى إن كانت معدنية؛ لكنّها من حيث الاعتبار ذات قيمة محدّدة مدوّنة عليها، فهي مجرد وسيلة لتحقيق هدف معي.

إذا عدَدْنا المبادئ الإنسانية الأصيلة مخلوقةً من قبل البشر على نحو الخلقة الحقيقية، فهذا الكلام باطل؛ لأنّ ما يوجده الإنسان من مبادئ وقيم يكون على نحو إضفاء اعتبار على بعض القضايا بصفتها وسائل يرام منها تحقيق أهداف معينة، إذ ليس من شأنها أن تكون أموراً اعتباريةً وهدفاً في آن واحد، فالإنسان لا يمكنه إضفاء اعتبار على أحد الأمور ثمّ يدّعي أنه هدفٌ، لأن فعله هذا يشابه عبدة الأوثان من العرب الذين كانوا يصنعون آلهتهم بأيديهم، وقد وبّخهم القرآن الكريم في قوله :تعالى: «قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحتُونَ»(الصافات: 95).

الهدف في الحقيقة أعلى مرتبةً من الاعتبارات التي يمنحها الإنسان لبعض القضايا مهما كان سنخها، لأنه يسعى إلى تحقيقه ومن البديهي أنّ الأمر الذي يضفي عليه

ص: 207


1- المصدر السابق نفسه، ص: 425

اعتباراً بالتوافق مع الآخرين هو أدنى مرتبةً من تلك الأهداف السامية.

والإشكال السابق لا يمكن حله بحسب مطهري إلا من خلال عد المبادئ الإنسانية أموراً فطريةً أي إنّها حقائق معقولة يتحرك الإنسان نحوها نظير حركته نحو الخيرالمادّي ؛ وهذه هي الفرضية الوحيدة التي يمكن على أساسها تصوّر تكامل الإنسان، فلو جردناه من هذه المبادئ السامية سوف تنتفي إنسانيته. القيم على هذا الأساس هي الخير الحقيقي ، ومن ثمّ لا صواب لأن نقسم أهداف الإنسان في الحياة إلى منافع وقيم ثم نقوم بتجريد القيم من فائدتها بداعي أنّها أمور عبثية لا تنسجم مع حكم العقل وعد السعي وراءها ضرباً من الجنون ولكن حتى وإن قيل إنّه جنون، فهو ممدوح وضروري(1) .

ويعتقد أتباع هذه المدرسة (أصالة الفرد) بالحرية المطلقة، والواضح أن الحرية المطلقة توصل الإنسان إلى الانحراف والفساد والاعتداء على حقوق الآخرين. ومن هنا، فالوجودية توصل إلى الفساد كما يقول مطهري، بل هي تمهد وتهيئ الأرضية له(2). إنّ حرية الإنسان هي من حقوقه الأساسيّة، وهي من القيم الإلهية المتعالية ومن جملة فلسفات بعثة الأنبياء تخليص الإنسان وإيصاله إلى الكمال والجمال. أما الإنسان الفكر الإسلامي وخلافاً لفلسفة سارتر - فهو كائن مقيّد .. أي ليس حرّاً وبعيداً عن كلّ قيد وشرط. صحيح أنّ الإنسان أفضل الموجودات ولكنه جزء من الخلق، وليس شيئاً مختلفاً وغير متجانس مع الخلق. الإنسان مصنوع الله، ويجب عليه أن يدفع عنه كلّ ما يمنعه من الوصول إلى الله، وقد جاء الأنبياء لتحريره على المستوى الاجتماعي عدا الداخل، وبالتالي نقله من «محورية الأنا» إلى «محورية الله والحقيقة المطلقة»(3) . إنّ هذه الحريّة تلقي على الإنسان المسؤولية والالتزام، وتفتح فيه بذور

ص: 208


1- مطهري مرتضى« مجموعة آثار (باللغة الفارسية)». ج 3، ص: -541 546.
2- شريعتي علي «الإنسان التائه». مجموعة الآثار الكاملة، الجزء: 25، ص: 31.
3- اعتبر مطهري أنّ الفلسفات والمذاهب الأخلاقية الغربية لا توصل الإنسان إلى الكمال، ليس هذا فحسب، بل تأخذ به إلى الحضيض. فالأوروبي الذي يتحدّث عن الإنسان وحريته، وقف ولقرون متمادية وبوساطة القوة حائلاً أمام تقدّم الآخرين، ولم تتضمن شعاراته المرفوعة سوى الزيف والخداع.. يقول الشهيد مطهري:« .. إن مثالية أوروبا لم تظهر على صورة عامل حي في حياتها على الإطلاق، وكانت النتيجة وجود الأنا الضائعة التي بدأت تبحث عن ذاتها في الديمقراطيات المتعارضة مع بعضها البعض، التي كانت تستثمر الدراوشة لمصلحة الأقوياء. اقتنعوا بما نقول من أنّ أوروبا اليوم هي أكبر مانع في طريق تقدّم الأخلاق». (راجع الثورات الإسلامية في المائة سنة الأخيرة. ص: 51)

الإيثار والتضحية فيما يتعلّق بالنوع الإنساني. إنّ هذه الحرية والشخصية الداخلية لايمكن الوصول إليهما عن طريق العلم والسلطة، نعم ، لو لم يكن هناك شخصية داخلية،لتمكنت الوسائل والأدوات من إغراقه في الأنانية.. والأنبياء كما يقول مطهري - جاؤوا ليقدّموا للإنسان الحرية الاجتماعية بالإضافة إلى الحرية المعنوية، والحرية المعنوية هي صاحبة القيمة قبل أي شيء آخر. ليست الحرية الاجتماعية هي المقدّسة فقط، بل الحرية المعنوية مقدّسة أيضاً، ولا يمكن الوصول إلى الحرية الاجتماعية من دون الحرية المعنوية ... لا يمكن تأمين الحرية المعنوية سوى عن طريق النبوّة والأنبياء والدين والإيمان والكتب السماوية(1) . كما يقول مطهري.

إذا الإنسان (من وجهة نظر فلاسفة الغرب) عبارة عن موجود ذي ميول وطلبات عديدة، وهو يعيش على هذا النحو بلا قيود ولا ضوابط سوى مصلحته وغريزته وحريته هذه الميول هي سبب الحرية في العمل. أما الذي يحدّ الحرية فهو حرية الميول عند الآخرين. ولا يوجد أي ضابطة أو إطار آخر يمكنه الحدّ من حرية الإنسان وميوله(2).. وأما نتائج ما سمّي بالنزعة الإنسانية والمدرسة الوجودية التي روّج لها فلاسفة كبار أمثال ،سارتر، فليست سوى هذه الأمور .. وهذه المدرسة الوضعية (النزعة الإنسانية) (التي تقول بأصالة الإنسان في مقابل أصالة الطبيعة وأصالة الله تعتقد بضرورة الابتعاد عن القيم الخارجية المفروضة على الإنسان أمثال الله والدين والعقل والطبيعة.. ويعتقد هؤلاء أنّ معيار الحق والباطل السيّئ والحسن، والخير والشرّ، هو ما يقتضيه سلوك الإنسان واحتياجاته وتأمين متطلباته ومصالحه وغرائزه.. وإذا كانت النزعة الوجودية تعتقد بعدم الاستعانة بالمصادر المقدّسة، حيث إنّ ذلك لا معنى له في نظرياتها، وإذا كانت تعتقد أنّ الحرية المطلقة هي محور كافّة الأشياء، فلماذا كان بناء هذه المدرسة يقوم على أساس أصالة المادة والحس؟!

ص: 209


1- مطهري مرتضى الحرية عند الشهيد مطهري . ص : 15 دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان بيروت طبعة أولى لعام 2001م
2- مطهري، مرتضى. حول الثورة الإسلامية». ص: 100.

الواضح أنه عندما لا يعتقد الإنسان بأي أمر مقدّس سوى ما يصنعه، تصبح القيم عنده غير ذات معنى فلا يمكنه فعل الخير وتحقيق فعل الإيثار»، بل يؤذي الآخرين من أجل راحته، ونيل سعادته وتأمين مزاجه الدنيوي.نقد

من هنا، يعود سبب النقد الفكري الذي وجهه مطهري لفكرة الأصالة (أصالة الإنسان) إلى النتائج السلبية الكارثية التي سيترتب عليها الإذعان للفكرة السابقة المفضية لاعتبار القيم مجرد قيم مخلوقة بشرياً لا أصالة لها البتة.. والتي يأتي على رأسها هجر الدين وإنكار الخالق، وضياع الأجيال، وتبديد طاقاتها، وانهيار منظومتها المعيارية المعنوية الدينية وإلزاماتها ومحدداتها القانونية الأخلاقية.. إذاً، هو معرفي رصين وصريح لا علاقة للسياسة وشؤون السياسة المبتذلة به لا من قريب ولا من بعيد.. والغاية منه، تكمن في الحفاظ على أصالة المشروع الديني، ونقاوة طرحه القيمي المعنوي، والدفاع عنه في مواجهة أفكار فلسفية اعتبارية تتقوم بالمنهج المادّي فكراً وسلوكاً، وتربط وجود الفرد الإنساني بغاية ومثل أدنى منخفض، بينما تريد المدرسة القرآنية ربطه بمثل أعلى مرتفع، لا بد من الكدح الارتقائي نحوه قيماً ومبادئ وسلوكيات معنوية غائية واعية ومسؤولة(1).

-4 الحداثة الغربية وانعكاسها في السياق الحضاري الإسلامي لم يتحدث الشيخ مطهري كثيراً عن موضوعة الحداثة الغربية بصورة مباشرة، كانعكاس لرؤية الغرب الفلسفية والفكرية ولجهود وتجارب وأفكار كثير من فلاسفة الغرب، بل ناقشها وحللها في لبها وجوهرها الفلسفي المعرفي كما ذكرنا، ناقداً مرتكزاتها الفلسفية المادية، القائمة على التجربة والحس والشك والنسبية.. داعياً إلى

ص: 210


1- وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة «يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنّكَ كادح إلى ربِّكَ كَدَّحاً فَمُلاقِيهِ » (الانشقاق 6) التي تضعُ الله تعالى غايةً وهدفاً أعلى للإنسان والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككل في حركتها التاريخية منذ فجر الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها ومن عليها.. فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى.. والكدح هنا، يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة، لأنّ هذا السير ليس سيراً اعتيادياً، بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلّق، فهؤلاء الذين يتسلّقون الجبال ليصلوا إلى القمم يكدحون نحو هذه القمم، يسيرون سیر معاناة وجهد كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو الله فإنما هي تتسلق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الأفضل باستمرار. (راجع المدرسة القرآنية للشهيد محمد باقر الصدر، ص: 149 ، دار التعارف لبنان بيروت، طبعة ثانية لعام 1993م).

ثورة ثقافية إسلامية الطابع والهوية والانتماء، تستفيد من الغرب دونما الانصهار به..

وبالاستطراد قليلاً في هذه النقطة، يمكن القول بأنه قد ظهرت في تاريخ الثقافةالإسلامية ثلاثة اتجاهات أو مسارات فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب المتقدم والمتفوق على بقية حضارات العالم ومنها حضارتنا الإسلامية، وهي:

الاتجاه الأول: من كان منبهراً بالغرب إلى حدّ التخلي عن كل ما يمت إلى الأمة الإسلامية بصلة، حيث دعا هذا الصنف إلى نبذ التراث، وأقام حاجزاً وقطيعة معرفية(نظرية وعملية) معه، ليحل النموذج الغربي محل النموذج السائد في حضارتنا.

والاتجاه الثاني: ارتد سلفياً رافضاً لمعطيات الحضارة الحديثة منكبّاً على التراث لا يرى غيره، بل ويُصر على تكرار النموذج الحضاري الإسلامي المعروف تاريخياً رغم مضي قرون طويلة عليه.

والاتجاه الثالث : عاد إلى التراث يستنطقه ويبحث فيه عن مصدر قوته ليؤسس - من عناصره القادرة على البقاء قاعدة تستوعب معطيات الحضارة الحديثة في إطار الإسلام وقيمه ومبادئه.. بمعنى أنه لم ينبهر ولم يعش «عقدة الخواجة» من تقدم الغرب المذهل، بل كان ينقده ويقومه ليستلهم منه الرقي الحضاري، فلا يرتمي في أحضان الغرب، ولا يرفضُ معطياته الحضارية(1). والاتجاه الأخير هو ما كان يدعو له الإسلام، وهو ما انتهجه وأصله مفاهيمياً كثير من العلماء والفلاسفة الكبار في تاريخ الثقافة الإسلامية وعلى رأسهم الشيخ مرتضى المطهّري الذي كان يقول في هذا الصدد: «إن الجمود والركود الفكريين اللذين حكما العالم الإسلامي خلال القرون الأخيرة، وخاصة توقف الفقه الإسلامي عن التحرك، وظهور روح الميل إلى الماضي، والنظر إليه والامتناع عن مواجهة روح العصر تعد من أسباب هذه الهزيمة. واليوم يحتاج العالم الإسلامي أكثر من أي وقت مضى إلى نهضة تشريعية تنبع من رؤية جديدة شاملة وواسعة وعميقة إلى التعاليم الإسلامية» (2).

ص: 211


1- الغرباوي، ماجد« إشكاليات التجديد» . ص: 26 . دار الهادي للطباعة والنشر، لبنان بيروت، طبعة أولى لعام 2001.
2- ،مطهري مرتضى «ختم النبوة». ص : 49. دار المحجة البيضاء دار الرسول الأكرم لبنان بيروت.. بلا تاريخ

كان مطهري إذاً، يعتبر النظر إلى الماضي تفاقماً لأزمة الفكر الإسلامي، وليس حلاً لمشكلاته، وأزمات الاجتماع الإسلامي المعاصر المتلاحقة.. وهي أزمات توحي بأن هذا الدين يعيش الهزيمة المادية النهائية.. وبرأي مطهري هي ليست هزيمة عضوية مادية (إذ هو أمر يمكن تعويضه)، بل هي أساساً هزيمة نفسية وانكسار معنوي رمزي وهذا ما قام به الغرب السياسي، من خلال إعاقته لتطوير واقع المسلمين، والوقوف في وجه تحديثهم وحداثتهم العلمية بناءً على مقتضياتهم المعرفية وسياقاتهم الحضارية.. واعتبر مطهري أنه ما لم تشعر الأمة بالغربة من ذاتها، وما لم تُخدع بثقافة وصناعة الغربيين وما لم تشعر بالحقارة بالنسبة إلى الدين والمذهب، فلا يمكن للعدوّ أن يطمع بها وأن يهزمها بتحطيم إرادة الوعي والتغيير والإبداع عندها.. يقول: «.. مما لا شك فيه أنّ الاستعمار الثقافي هو أخطر أنواع الاستعمار العديدة، فهل يمكن استعمار شعب من الناحية السياسية والاقتصادية قبل استعماره فكريّاً. وإذا كان المطلوب الاستفادة من الشخص يجب بداية سلبه شخصيته. يجب جعله يسيء الظنّ بما يملك، ويجب ترغيبه وتشجيعه على ما يقدمه الاستعمار»(1).

لقد سعی الشهيد مرتضى مطهري في كل كتاباته ونظراته الفكرية التجديدية الإبداعية إلى بناء نوع من الحداثة الإسلامية بناءً على نظرية المعرفة الإسلامية (خاصة في ظل نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وقيام دولتها بناء على مفردات الأصالة ورفض التبعية للغرب).. أي محاولة إنتاج ثورة فكرية معرفية حقيقية في عالمنا الإسلامي، تنطلق من قاعدة نقد خطاب الأصالة.. دون الانبهار بخطاب الغرب وثقافته الحديثة القائمة على الأصالة المادية والتمركز الثقافي والحضاري.

وغني عن القول هنا إن الثقافة الإسلامية هي بطبيعتها ثقافة «تأصيلية»، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلا أن حاجتها للتجدد في عالم التحول والتغير والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة لتتمكن من أداء دورها الريادي بغية تنوير المجتمعات وترشيدها بما يكفل لها

ص: 212


1- حول الجمهورية الإسلامية، مصدر سابق، ص: 160.

الارتقاء في سلم الرقي والتقدم كباقي الشعوب والأمم .. أي أنه لا يكفي أن نؤمن نظرياً بقدرة ثقافتنا على البناء والنمو والتصاعد بل لا بد من الاعتقاد أن شرط النمو هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوار ونقد مع مسببات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أولاً قبل الآخر ..

قد كان تركيز الشهيد الشيخ مرتضى مطهري على الناحية الثقافية والفكرية، نظراً لأنّ الغرب وجه سهامه إلى هذا الجانب، لإضعاف الروح المعنوية للأمة، ونجح إلى حد كبير على أمدية زمنية طويلة في إضعاف ثقة الناس بثقافتهم الأصيلة، فكان مطهري (وغيره من الإحيائيين) من أهم هؤلاء الذين صبوا جل اهتمامهم ومجهوداتهم على قضيةأساسية وهي استئناف الحركة الحضارية لهذه الأمة( انطلاقاً من هويتها المنفتحة)، وتصدوا لتلك الحالة الانهزامية التي أصابت الأمة في مقتل، من خلال مرض فقدان الإرادة على الفعل والتغيير والحضور في العصر، وكان اهتمامه الأول في عملية الإحياء السّاحة الفكرية، لأنّ هذه الساحة كانت مستهدفة أكثر من غيرها في إيران وفي العالم الإسلامي.

وهذه الهوية «القيمية» التي دافع عنها الشيخ مطهري، لا يمكن استعادتها اليوم من براثن التغريب المهيمن كلياً على المستوى العملي في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي، إلا بإعادة الثقة النفسية بهذه الهوية وإبراز عناصر الهيمنة الغربية التي فرضت علوم الغرب الإنسانية.. إذ كيف نريد العودة على سبيل المثال إلى علوم إنسانية إسلامية أو غير غربية، في الوقت الذي نتبع فيه النموذج الغربي سياسياً واقتصادياً وتربوياً وتنموياً ؟! كانت أفريقيا على سبيل المثال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تعتمد على غذائها نفسه.. أما اليوم فلم تعد كذلك، وباتت بحاجة إلى المساعدات والمعونة الغربية للحصول على هذا الغذاء ... كيف يمكن استعادة« علومنا الإنسانية» إذا لم نستعد الثقة بأنفسنا؟! أو إذا لم نتجاوز «عقدة» النموذج الغربي المرجعي ؟ .. عندما كتب المسلمون في عصور الازدهار والتقدم عن علوم النفس والأخلاق والفلك والطب والكيمياء والجبر والرياضيات وغيرها لم ينسبوا

ص: 213

إليها صفة الإسلامية، أو أي صفة أخرى. بل فعلوا ذلك وهم يعتقدون أنهم هم مرجعية هذه العلوم وعندما ترجم المسلمون أو قرؤوا العلوم الأخرى كانوا هم مرجعية المقارنة أو الاستيعاب. وعندما تبدل واقع المسلمين وتراجعت «دولتهم» وتقدمت «دولة» الغرب أصبحت العلوم الإنسانية علوما» غربية، بعدما أصبح الغرب مهيمناً ومسيطرا

حول المرأة: نظام حقوق المرأة في الإسلام.(مترجم). و قضية الحجاب.و الأخلاق الجنسية. (مترجم).

حول الثورة الإسلامية: الحركات الإسلامية في القرن الأخير. (مترجم). وحول الثورة الإسلامية (مترجم) . و حول الجمهورية الإسلامية (مترجم).

في القرآن معرفة القرآن (4 أجزاء) (ترجم منه 3 أجزاء).

في الثقافة والحضارة الإسلامية الإسلام وإيران.(3 أجزاء). (مترجم) . و الإسلام ومتطلبات العصر. (جزءان). (مترجم) . و التعرف على العلوم الإسلامية، ويشمل:( المنطق والفلسفة - علم الكلام والحكمة العملية الفقه وأصول الفقه-العرفان).و مشهد السر. (عرفان حافظ) . و الجهاد في الإسلام (مترجم) . وفي رحاب نهج البلاغة. (مترجم) . و الإمداد الغيبي في حياة البشرية . (مترجم). و شمس الدين لن تغيب. (مترجم) . و الإدارة والقيادة في الإسلام.

في الثقافة والحضارة الإسلامية: الرشد الإسلامي.(مترجم). وحول المحلل.و الحق والباطل. و إحياء الفكر الديني. (مترجم) . و التكامل الاجتماعي للإنسان.(مترجم). الشهيد.( مترجم).

في الاقتصاد: النظام الاقتصادي في الإسلام. و الربا والمصرف والضمان (التأمين).

ص: 215

الثقافة الغربية الحديثة على ضوء آراء الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله)

تدوین: ناد علي علي نيا

تدوین: ناد علي علي نيا (1)

مقدمة

احتدمت النقاشات في العصر الحديث وطرحت كثير من النظريات والآراء حول الثقافة الغربية لبيان مختلف جوانبها السلبية والإيجابية وكيفية التعامل معها، ومن المؤكد أنّ هذا الموضوع ذو أهمية بالغة للغاية ولا بدّ من تناول أطراف الحديث عنه بتفصيل وإسهاب بغية استكشاف حقائقه سيما وأننا في عصر الاتصالات الذي تحتدم فيه المواجهات في شتّى الصّعد ولاسيما العلمية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية.

المسألة التي لها الأولوية على صعيد معرفة حقيقة الثقافة الغربية هي اختلافها بشكل جذري مع النزعات الفكرية السائدة في المجتمعات الإسلامية ولا سيّما المجتمع الإيراني المسلم، إذ لا بد من وجود حدود معيّنة لا يمكن تجاوزها على هذا الصعيد، وبطبيعة الحال ليس من اليسير بمكان وضع أطر واضحة المعالم للتمييز بین الثقافة والأخلاق في المجتمعات الغربية والإسلامية، إذ إنّ البلدان الشرقية قد اقتبست من تلك الديار مباني فكرية متنوعة تحت طائلة الاستعمار والمد الثقافي المتواصل؛ ومن هذا المنطلق سلّط الباحث الضوء في هذه المقالة على أطروحات الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله )بغية بيان جوانب الموضوع ووضع أسس معتبرة للتمييز بين الثقافتين الغربية والإسلامية.

ص: 216


1- ترجمة: أسعد مندي الكعبي.

جميع العلماء والباحثين متفقون على أنّ الشهيد مطهري امتاز عن أقرانه ببراعته وحنكته في التعامل مع مقتضيات العصر ناهيك عن مقتضيات العصر ناهيك عن أنّه كان مصلحاً واعياً أدرك واقع المجتمع الإيراني بحذافيره، لذلك تطرّق إلى بيان واقع المجتمع الغربي في عدد من آثاره ووضح كيف تمكن أبناء تلك الديار من تحقيق إنجازات علمية وتقنية كبيرة إلى جانب نزعتهم السلطوية الاستعمارية، وقد اعتمد بشكل أساسي على المبادئ والأصول الفلسفية لمناقشة الموضوع وتحليله في حين أنّه قلّما احتج بالمصادر الدينية.

استناداً إلى ما ذكر سوف نتطرق في هذه المقالة إلى بيان أهم معالم الثقافة الغربية على ضوء التراث الفكري للشهيد مرتضى مطهري باعتباره أحد المفكرين الذين اطلعوا بدقة ودراية على أهم الأصول والمبادئ الفلسفية والعقلية لهذه الثقافة.

أهمية تدوين البحث

لا يختلف اثنان في ضرورة دراسة ماهية الثقافة الغربية وتحليلها وأهمية التعرف على مجمل القضايا المرتبطة بها من نظريات وأصول فكرية وإجراءات عملية ونتائج إيجابية وسلبية.

الثقافة الغربية تمحورت بشكل أساسي حول عالم المادة، وقد تأثر بها كثير من المفكرين الشرقيين الذين طرحوا آراءهم ونظرياتهم تحت مظلة ظاهرة الاستغراب التي تحوّلت إلى تيار عام اجتاح إيران وسائر البلدان في العالم ومن ثمّ همش ثقافاتها الأصيلة، وبطبيعة الحال فالنتيجة الحتمية لهذه الموجة العاتية هي رواج التوجهات المادية المتقوّمة على العلوم التجريبية والنزعة الإنسانية والعقل العملي المدبّر، حيث حلّت هذه التوجهات محلّ القيم الدينية ومن ثمّ همّشت نمط الحياة المعنوي وأزاحت الإيمان من الحياة الاجتماعية في بلاد المسلمين لتجردهم عن هويتهم الأصيلة وتجعلهم يدورون في حلقة مفرغة من دون أي هدف يُذكر.

وتجدر الإشارة هنا إلى ما جاء في وصية الإمام الخميني (رحمه الله )على هذا

ص: 217

الصعيد، إذ قال: «من المؤسف أن أحد المخططات التي كان لها تأثير كبير على مختلف البلدان في العالم وبما فيها بلدنا العزيز إيران هو قيام القوى الاستعمارية بتغريب المجتمعات التي تستعمرها عن ذاتها بحيث تجعلها خاضعةً إما للمعسكر الشرقي أو الغربي ومن ثمّ تضطرّ للتخلي عن ثقافتها باعتبار أنّ القوى الشرقية والغربية هي الأرجح وأهلها هم القوم الأفضل وثقافتها هي الأسمى لدرجة أنها تصبح قبلةً للشعوب المغلوبة على أمرها ...» (1)

لقد اتبع بعض المفكرين الغربيين أسلوباً استعمارياً ذكياً بغية تأصيل الثقافة الغربية في المجتمعات الإسلامية، وغالباً ما طرحوا آراءهم في ظل دعوات استعمارية استبدادية صريحة، واستهانوا أحياناً بالشعوب الضعيفة عبر التفاخر بإنجازاتهم المادية وعلومهم التجريبية لكي يرغموها على الإذعان للمد الاستعماري الغربي تحت ذريعة التطوّر العلمي والتقني؛ وهذا يدلّ بكل وضوح على أنّهم سخّروا التقنية والعلم الحديث كوسيلة لاستعمار البلدان غير المتطوّرة والاستحواذ على خيراتها بحجج شتّى كالتنمية والرقي والعمران والتثقيف والرفاهية، وما إلى ذلك من شعارات برّاقة تستبطن أهدافاً شيطانيةً خبيثة.

إذن، إن أردنا معرفة الأسلوب الأمثل في التعامل مع الثقافة الغربية والتصدّي للأهداف الاستعمارية التي استبطنتها الدعوات إلى الاستغراب والهادفة إلى تهميش تعاليمنا الإسلامية والإنسانية الأصيلة، فلا بدّ لنا من تسليط الضوء على شتى الأساليب التي اتبعها أرباب المد الاستعماري بكل شرائحهم الفكرية والسياسية من غربيين ومستغربين، ولا سيما تلك الجهود الحثيثة التي بذلت في هذه المضمار تحت مظلة العلم الحديث والتقنية المتطوّرة.

بإمكاننا دراسة ماهية الثقافة الغربية وتحليلها بصفتها تياراً فكرياً أساسياً تتفرّع عليه تيارات عدّة ثانوية مستقلة عن بعضها في ظاهر الحال رغم ارتباطها الوثيق من حيث الفكرة والمضمون ؛ وذلك في إطار المباحث الآتية:

ص: 218


1- وصية الإمام الخميني (رحمه الله) ، ص 36

1) العلوم والتقنيات التي شهدتها المجتمعات البشرية بعد عصر النهضة والحداثة ولا سيّما التطوّر المذهل والمتسارع على صعيد العلوم التجريبية.

2) النزعات الاستعمارية ونهب خيرات الشعوب وتهديدها والتدخل في شؤونها الخاصة.

من المؤكد أنّ البشرية في القرنين الماضيين كانت بحاجة ماسة وملحة إلى العلم والتقنية، إلا أنّ المجتمعات الضعيفة المغلوبة على أمرها عانت الأمرين من التخلّف ونير الاستعمار، فبقيت منزويةً في قوقعتها بعد أن نهب المستعمرون ثرواتها الطبيعية. إذن، الحداثة تطاولت على أديان الشعوب الضعيفة وتجاهلت قابلياته المحلية، والاستعمار بدوره استهدف خيراتها ومصالحها المادية.

وتتجلى أهمية دراسة آراء المفكّر الشهيد مرتضى مطهري وتحليلها لكونه امتلك معرفةً عميقةً بدقائق العلوم الفلسفية وتفاصيل التعاليم الدينية، ناهيك عن سعة معلوماته العامة وإلمامه بأهم مباني الفكر المادّي وخوضه في شتى مباحثه منذ أيام شبابه وبراعته هذه قد تجسّدت بأروع الأطروحات ضمن كتاباته الرصينة وعباراته البينة الواضحة، فطرح شخصيته كمفكر متديّن ومصلح متزن فاق أقرانه في العصر الحديث إثر إبداعه وحذاقته في تحليل مختلف جوانب الثقافة الغربية وتصوريها للقرّاء على حقيقتها؛ لذا بادرنا إلى تخصيص مباحث هذه المقالة بما ذكر من نظريات وآراء قيمة.

المقصود من الغرب

قبل أن نتطرق إلى شرح تفاصيل الموضوع وتحليله، لا نرى بأساً في تعريف القارئ الكريم ولو بشكل مقتضب بالمقصود من مصطلح«غرب» في المباحث الفكرية المطروحة حول الحداثة والتقنية والاستعمار.

عندما يدور النقاش حول الغرب وأهم النزعات الفكرية المطروحة في رحابه من قبل أتباع المعسكرين الشرقي - الاشتراكي - والغربي - الرأسمالي - فلا يراد منه تلك

ص: 219

البقعة الجغرافية الواقعة غربي الكرة الأرضية، وإنما يقصد منه منظومة ثقافية اجتماعية تأريخية مما يعني أنّه اصطلاح شامل يطلق على المعالم الحضارية التي لا تتناغم مع المشارب الفكرية في المجتمعات الشرقية. وعلى هذا الأساس فالتعريف يشمل أيضاً ثقافات شتى المناطق والبقاع الجغرافية النائية عن بلداننا الإسلامية، لذا فإنّ بلداً من بلدان قارة أمريكا الجنوبية يمكن أن يدرج ضمن قائمة البلدان الشرقية من حيث ظاهرة الاستغراب، وفي الحين ذاته من الممكن أنّ بلداً من بلدان شرق آسيا ينضوي تحت مظلة المعسكر الفكري الغربي؛ إذ إنّ المعيار الأساسي في الاستغراب أو عدمه هو مدى تأثر المجتمع بالثقافات الشرقية أو الغربية بغض النظر عن الرقعة الجغرافية التي يشغلها . الشهيد مطهري بدوره التفت إلى هذا التقسيم في مختلف بحوثه العلمية ومن جملة ما قاله بالنسبة إلى الإنجازات التي تحققت إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران ما يلي:

«أحد الإنجازات الهامة التي تحققت بعد انتصار ثورتنا الإسلامية يكمن في إعادة الثقة إلى شعبنا وانتشاله من حالة الانهيار والشعور بضياع الهوية مقابل العالم الغربي بمعناه الأعمّ المتمثل بالمعسكرين الشرقي والغربي»(1). كما نلاحظ من هذا الكلام فالشهيد مرتضى مطهري يعد الغرب مفهوماً في مقابل مفهوم الشرق، اذ أكد على وجود مواجهة تأريخية ثقافية محتدمة بين المجتمعات البشرية كافة، وتوصل في بحوثه الفكرية إلى أنّ المد الثقافي الغربي يروم استئصال جميع الثقافات الشرقية لذا فالسبيل الوحيد لانتشال مجتمعاتنا من هذا الخطر المحدق بها هو الحفاظ على تأريخنا العريق وأصولنا الثقافية، ومن هذا المنطلق شدّد على خطر الفكر الاشتراكي معتبراً أنه جرد المجتمع الإيراني من هويته الشرقية وساقه نحو مشارب فكرية غربية لا تمتّ إليه بأدنى صلة؛ ومن جملة ما قاله في هذا الصدد: «لو اعتبرنا العرق الآري كمعيار لتحديد معالم القومية الإيرانية فحصيلة ذلك التقارب المحتوم مع العالم الغربي الذي ينحدر من هذا العرق أيضاً، وهذه القرابة العرقية بطبيعة الحال تستتبعها آثار ونتائج على صعيد القرارات الوطنية والسياسية التي تتخذ في بلدنا فتضطرنا للنأي بأنفسنا عن البلدان التي تجاورنا وسائر الشعوب المسلمة غير الآرية والسير في ركب

ص: 220


1- مرتضی مطهری پیرامون انقلاب اسلامي (باللغة الفارسية)، الطبعة التاسعة، منشورات صدرا، ص 45

البلدان الأوروبية والغربية؛ وفي هذه الحالة يتحوّل أعداؤنا المستعمرون إلى أصدقاءمقربين ويمسي العرب المسلمون غرباء بعيدين عنا.

ولو كان الأمر على العكس من ذلك بحيث اعتبرنا القرون الأربعة عشرة الأخيرة من حياة مجتمعنا بأنّها الهوية الحقيقية لنا ولقوميتنا، فسوف تتغير وجهتنا ونسلك سبيلاً آخر بحيث نعتبر العربي والتركي والهندي والأندونيسي والصيني المسلم مقرّباً لنا ونتعامل مع الغربي غير المسلم كغريب عنا حتى وإن كان ينحدر من نفس جذورنا القومية»(1). نستشفّ من هذا الكلام أنّ الشهيد مطهري أناط المعيار في تحديد ما إن كانت النزعات الفكرية للمجتمعات شرقيةً أو غربيةً إلى مدى تبعيتها للثقافتين الشرقية والغربية؛ ومن هذا المنطلق سوف نتطرق في هذه المقالة إلى بيان وجهات نظره حول الهوية المزدوجة للثقافة الغربية(2) والسبل المناسبة التي ينبغي الاعتماد عليها في التعامل معها، وذلك ضمن المباحث الآتية :(3)

(1) الخلفية العلمية للشهيد مرتضى مطهري ومدى إلمامه بشتى جوانب الثقافة الغربية.

(2) آراء الشهيد مطهري بالنسبة إلى التوجهات العلمية والصناعية في العالم الغربي.

(3) وجهات نظر الشهيد مطهري حول النزعات الاستعمارية الغربية.

4 ) أسباب تدهور أوضاع المسلمين وتخلّفهم، والمقترحات التي طرحها الشهيد مطهري للتصدّي إلى الثقافة الغربية.

ص: 221


1- للاطلاع أكثر راجع مرتضى مطهري، خدمات متقابل إسلام وإيران (باللغة الفارسية)، الطبعة الثانية عشرة، منشورات صدرا، ص 18
2- الشهيد مرتضى مطهري لم يدعُ إلى نبذ الثقافة الغربية من أساسها كما فعل ،آخرون بل عدها سلاحاً ذا حدّين - مزدوجةً - ففيها الغثّ والسمين أيضاً؛ لذلك وصفها كاتب المقالة بأنها مزدوجة الهوية.
3- فضلا عن هذه المواضيع هناك مباحث فرعية أخرى سوف نتطرق إلى بيان بعض جوانبها في تفاصيل المقالة.

المبحث الأوّل: الخلفية العلمية للشهيد مرتضى مطهري(رحمه الله) ومدى إلمامه بماهية الثقافة الغربية

الشهيد مرتضى مطهري أكد في كتاباته على أنه بدأ بمطالعة الثقافة الغربية بشكل تخصصي في عام 1946م، حيث دوّن في مقدمة كتابه (أسباب النزعة إلى المادية)(1) ضمن حديثه عن النزعة المادية ما يأتي: بدأت دراستي للعلوم العقلية بشكل تخصصي في عام 1944م، وكنت أشعر في قرارة نفسي بضرورة الاطلاع عن كثب على الأصول المنطقية التي يتبناها أصحاب الفكر المادّي عبر قراءة مختلف مؤلّفاتهم التي تضمّنت أهم آرائهم ومعتقداتهم.

لا أتذكر بالتحديد، ولكن ربما في عام 1946م ،قرأت بعض الكتب التي كان أعضاء الحزب الشيوعي يوزّعونها في إيران باللغة الفارسية، كما قرأت بعض الكتب العربية التي طبعت في مصر بنفس هذا المضمون كذلك كنت أتابع مؤلفات الدكتور تقي آراني بدقة ولكن نظراً لعدم إلمامي آنذاك بمعاني بعض المصطلحات الفلسفية الجديدة فقد واجهت صعوبةً إلى حد ما في فهمها، لذلك كنت أراجعها مراراً وتكراراً وأدوّن ما كان غامضاً عليّ منها ومن ثمّ أبحث عن دلالته في مختلف المصادر العلمية والفلسفية؛ وبعض كتبه نقشت مضامينها في ذهني لكثرة قراءتي لها.

في عام 1950م أو 1951م حصلت على كتاب أستاذ كلية الأعمال في باريس المفكر الفرنسي جورج بوليتزر ، وقد أردت حينها حفظ الآراء التي طرحها فيه بالكامل، لذلك قمت بتلخيصه في كرّاسة خاصة ما زالت عندي حتى اليوم وفيها أيضاً تلخيص لكتاب الدكتور تقي آراني (المادية والديالكتيك)(2)

الهاجس الأساسي الذي كان يراود الشهيد مطهري في بحوثه حول الفكر الغربي

ص: 222


1- عنوان الكتاب باللغة الفارسية: (علل گرایش به مادي گري)
2- مرتضى مطهري علل گرایش به مادي گري (باللغة الفارسية)، الطبعة الثالثة عشرة، منشورات صدرا، طهران، 1372 ه- ش (1993م)، ص 10 - 11.

نشهده جلياً في كتابه (الإنسان والمصير )(1) ، حيث قال فيه: «قبل عشرين عاماً تقريباً عرفت لأوّل مرّة أنّ الغربيين يعتبرون القضاء والقدر سبباً أساسياً لتخلّف المسلمين،وحينها لم أكن قد التحقت بدروس الحوزة العلمية بعد... (2) إذن، هناك دلالة واضحة في هذا الكلام وما شاكله من أقوال الشهيد مطهري على اهتمامه البالغ بالفكر الغربي، فهو كالطبيب الذي يسخر مساعيه لصيانة مجتمعه من الأوبئة والأمراض الخطيرة المحدقة به، حيث يبادر إلى تحصينه بلقاح مضاد كإجراء وقائي؛ لذلك تصدّى بحكمة وذكاء لكلّ مدّ فكري يهدّد ثقافة المسلمين أو نزعة منحرفة تقدح بمعتقداتهم وتؤثر على تدينهم، وإلمامه الشامل بالعلوم الفلسفية مكنه من تشخيص ماهية الأصول الفلسفية الدينية وتمييزها عن المتبنّيات الفكرية الإلحادية، إذ أدرك بكلّ وجوده حقيقة الفلسفة الإسلامية وعلاقة الخالق بالمخلوق في هذه الحياة المادية التي طغت عليها الفلسفة الإلحادية.

لقد تعامل هذا المفكر البارع مع سائر المدارس الفكرية - ولا سيما المدرسة الفلسفية المادية - في إطار رؤية فلسفية متقوّمة على مبادئ وأصول دينية، حيث تمكن من استنتاج قواعد جديدة ذات صبغة تراثية وفي الحين ذاته نقية من كل شائبة ولا يكتنفها أي نقص وخليل ليتحف بها قراء آثاره والباحثين عن الحق والحقيقة أثرى المفاهيم العلمية والنظريات النافعة؛ وقد وصف أسلوبه الفريد هذا بالقول: «في بادئ الأمر حينما بادرت إلى قراءة الأصول الفلسفية المادية والدينية على حد سواء، حاولت أن أفهم أوجه الاختلاف الأساسية بين المدرستين الفكريتين الغربية والإسلامية بدقة متناهية، حيث بذلت قصارى جهودي لأعرف نقطة الخلاف الأساسية التي تميزهما عن بعضهما » .(3)

لم يتعامل الشهيد مطهري مع الفلسفة بصفتها علماً عقلياً بحتاً، بل عدّ قواعدها

ص: 223


1- عنوان الكتاب في اللغة الفارسية( انسان و سرنوشت).
2- مرتضی مطهري انسان و سرنوشت (باللغة الفارسية)، الطبعة الثانية عشرة، منشورات صدرا، طهران 1372ه- ،ش ص 21
3- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري باللغة الفارسية ص 12

العقلية أصولاً ناجعة لدراسة المفاهيم الدينية وتحليلها بأمثل وجه وكذلك اعتمد عليها بوصفها قواعد معتمدة لتقييم السلوكيات البشرية، ناهيك عن أنه تمكن بواسطتها من التعرّف بدقة على مكامن الخلل التي تكون منفذاً لتغلغل التعاليم المنحرفة في الفكر الإنساني ومن ثمّ طرحها على طاولة البحث والتحليل بصواب والأهم من كلّ ذلك أنّه سخّرها ببراعة بهدف التصدّي للمد الفكري الغربي، وهذه الحالة تتجلى بكلّ وضوح فيما لو أمعنا النظر وتأملنا بما دوّنه في كتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي )ولا سيّما في المباحث المتعلقة بالإمكان والوجوب، والعلة والمعلول.

المبحث الثاني: الثقافة المادية الغربية

نتطرق فيما يأتي إلى بيان المتبنّيات الفلسفية الأساسية للأستاذ الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله) حول ماهية الثقافة الغربية ضمن المباحث الآتية:

أوّلاً: الفكر التخريبي

تناول الشهيد مرتضى مطهري مختلف نظريات المفكرين الغربيين وآراءهم بالبحث والتحليل بدقة متناهية وبراعة منقطعة النظير لأجل توعية المسلمين بالخطرالمحدق بهم والوافد إليهم تحت مظلة العلوم المادية والأفكار العلمانية التي لا تمت بأدنى صلة لدينهم سيما وأنّ هناك من يحاول تفسير جميع الظواهر الموجودة تفسيراً مادياً، لذلك امتدح السيد جمال الدين الأسد آبادي - الأفغاني - لكونه امتلك فهماً عميقاً وإدراكاً شاملاً بجميع جوانب الثقافة الغربية، حيث نقل آراءه في عدد من مؤلّفاته ووصفه بالقول: «أحد الأهداف التي طمح السيد جمال الدين إلى تحقيقها هو أن يتمكن المسلمون من اكتساب العلوم الغربية وامتلاك تقنياتهم الصناعية، ولكنّه مع ذلك كان يؤكّد على كون الإيديولوجية الإسلامية تختلف بالكامل عن النزعات والأفكار الغربية، لذلك كانت رؤيته للحياة تختلف عما تبنّاه المستغربون من أقرانه آنذاك، حيث دعا المسلمين إلى حثّ الخطى لأجل الانتهال من العلوم الغربية وفي الحين ذاته حدّرهم من الوقوع في فخ المدارس الفكرية الغربية المنحرفة والانخراط في ركبها، فهو إلى جانب مقارعته الاستعمار العسكري والسياسي الذي

ص: 224

اجتاح البلدان الإسلامية، شمّر عن ساعديه لمواجهة الاستعمار الثقافي القادم من تلك الديار، ناهيك عن أنّه تصدّى بحزم لأولئك الذين حاولوا تفسير الكون والإسلام والقرآن على وفق نمط غربي، كما أنه لم يتبنَّ نزعةً متطرفة ومبالغاً فيها ولم يبادر إلى تطبيق المفاهيم القرآنية الماورائية على القضايا المادية والظواهر المحسوسة»(1). كما تطرق إلى الحديث عن لقاء حدث بين السيّد جمال الدين والسيد أحمد خان الهندي، وقال: «كتب أحد الباحثين المعاصرين واصفاً رحلة السيد جمال الدين إلى الهند وموقفه المناهض للسيد أحمد خان، كما يأتي:

-السيد أحمد خان طرح نقاشه على أساس مبدأ إصلاح التعاليم الدينية، في حين أنّ السيد جمال الدين حذر المسلمين في كلامه من مكر وخداع بعض المصلحين المبالغين في نزعاتهم الإصلاحية.

-السيد أحمد خان أكد على ضرورة سعي المسلمين للتعرف على النظريات الفكرية الحديثة ، بينما دعا السيد جمال الدين إلى فهم المعتقدات الدينية حق فهمها لكونها أهمّ عامل في هداية الإنسان نحو الصراط القويم.

- السيد أحمد خان شجّع المسلمين على ضرورة اتباع الأساليب التربوية الحديثة، إلا

أنّ السيد جمال الدين عدّ هذه الأساليب غير ناجعة للشعب الهندي لا دينياً ولا قومياً.

إذن، السيد جمال الدين دافع عن الأفكار والعلوم الحديثة، لكنه حينما شد رحاله إلى الهند أثبت أنّه متمسّك بمعتقداته وتراث مجتمعه الأصيل لدى مواجهة مفكّر محدث مثل السيد أحمد خان الهندي، وفي الحين ذاته لم يتنصل عن دعوته إلى ضرورة السعي لإحياء الفكر الديني(2) .

الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري برع في أصول الفلسفة الإسلامية وتعرف على جوانبها كافة لدرجة أنها ترسخت في نفسه ومكنته من امتلاك رؤية ثاقبة ساعدته

ص: 225


1- مرتضى مطهري بررسي اجمالي نهضت هاي صد ساله اخير (باللغة الفارسية)، الطبعة الخامسة والعشرون، منشورات صدرا، ص 18
2- المصدر السابق، ص 19.

على طرح نظريات أثبت فيها أسباب انحراف الثقافة والفلسفة الغربيتين، حيث أكد على أنّ نقطة الافتراق بين الفلسفة الإسلامية والغربية تكمن في أن الثانية متقومةٌ على أفكار مادّية وتسعى إلى تصوير الحقائق والظواهر الكونية في معزل عن عالم ما وراء الطبيعة وبعيداً عن عقيدة الإيمان بوجود الله عزّ وجلّ ؛ فالمفكرون الغربيون سخّروا كلّ ما لديهم من طاقات علمية بغية إثبات أنّ شؤون الحياة كافةً متقوّمةٌ في أساسها على عوامل دنيوية وأسباب مادية.

من المؤكد أنّ الناس في كل مجتمع يحذون حذو فلاسفتهم ومفكريهم،لذلك نجد الآراء الإلحادية التي طرحها بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين من أمثال برتراند راسل وتوماس هوبز وأوجست كونت قد تغلغلت بشكل تدريجي في المجتمعات الأوروبية والغربية جيلاً بعد جيل ومن ثمّ أسفرت عن تهميش المعتقدات الدينية لتحلّ محلّها أفكار علمانية وإلحادية ولا يختلف اثنان في أنّ النظريات التي ورثتها الشعوب الغربية من إيمانوئيل كانط وباروخ سبينوزا وأوجست كونت والكثير من العلماء الماديين الآخرين، قد أسفرت عن رواج النزعات المادية بشتى صيغها وأنماطها الإلحادية كالطاوية على سبيل المثال.

لقد أدرك هذا المفكّر المسلم مكامن الخلل في الفكر الغربي الفكر الغربي منذ باكورة حياته العلمية، أي في عنفوان شبابه لما شرع في دراسة المبادئ الفلسفية، لذلك كان حذراً من الوقوع في فخ الشعارات الغربية البراقة حتى آخر حياته، وهذا ما نلمسه جلياً في تراثه الفكري القيّم الذي خلّفه لنا، ولا سيّما في كتابه (شرح على المذهب الواقعي)، (1)وقال في مقدمة كتابه (أسباب النزعة إلى المادية): «خلال الأيام الأولى التي انهمكت فيها بدراسة وتحليل التعاليم الفلسفية للمدرستين الإسلامية والغربية، بذلت قصارى جهودي لكي أُدرك أوجه الاختلاف والتمايز بينهما، إذ ركزت اهتمامي لأجل معرفة نقطة الافتراق التي تجعل كلّ واحدة منهما تنصب في بوتقة معيّنة.

النتيجة التي توصلت إليها في هذا الصدد أنّ نقطة الاختلاف تكمن في مفهومي

ص: 226


1- اسم الكتاب باللغة الفارسية : ( شرحی بر روش رئالیسم).

(الوجود) و(الحقيقة)، فأصحاب النزعة المادّية يعتبرون هذين المبدئين حكراً على المادة فحسب، أي إنّ الوجود الحقيقي لا يمكن أن يتجلى إلا في رحاب الحقائق النسبية المحسوسة المتصفة بالأبعاد الزمانية والمكانية والتي هي عرضة للتغيير والتحوّل باستمرار، لذا ليست هناك أية حقيقة فيما وراء هذه القضايا العينية. بينما أصحاب النزعة الدينية يؤمنون بتأثير القدرة الغيبية - الإلهية - في الوجود والحقيقة، لذا نجدهم لا يقيّدون الوجود والحقيقة في تلك القضايا المادية المشار إليها، حيث اعتبروا المادّيات مجرد بعد من أبعادهما.

من المؤكد أنّ المفكر المتديّن يختلف في توجهاته الفكرية عن نظيره المادي، إذ لا يعتقد بأنّ الوجود والحقيقة مقتصران على الأمور المادية، بل يؤمن بالقضايا الماورائية المجرّدة عن الزمان والمكان والحركة باعتبارها حقائق وجودية ثابتة وخالدة إذن، نستنتج مما ذكر أنّ المدرسة المادّية ضيّقة النطاق في حين أنّ المدرسة الدينية واسعة الأفق »(1) هذه العبارات فلسفية بالكامل ونستشف منها أنّ الشيخ الشهيد تناول آراء المنظرين الغربيين بالنقد والتحليل اعتماداً على الأصول والقواعد الفلسفية الرصينة، ومن جملة الأمور التي أكّد عليها مراراً في كتاباته واستدلالاته أنّ الثقافة الغربية متقوّمةٌ على الفكر المادّي، لذا فهي تعد المعايير المادية هي البنية الأساسية لجميع القيم الإنسانية التي تطرح في رحابها؛ وعلى هذا الأساس ترفع شعارات برّاقةً في ظاهرها لخداع الرأي العام وتدعو إلى قيم سامية تحت مظلة مادية بحتة، لكن هذه الشعارات ليس من شأنها الأخذ بيد البشرية نحو الرقي والتطوّر المزعوم فيها.

لا ريب في أنّ البذرة الأولى للفكر العلماني في العالم الغربي وما ترتب عليه من نزعات مادية دنيوية بحتة، قد غرست إثر رواج النظريات الفلسفية التي طرحها المفكر الفرنسي إيمانوئيل كانط وبعد أن عجز العلماء الغربيون عن تسخير العقل لإثبات الحقائق الماورائية بشكل عام وإثبات وجود الله تعالى بالأخص، وقبل ذلك فقد مهد لها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم الذي نفى وجود أي ارتباط عليّ بين

ص: 227


1- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري (باللغة الفارسية)، ص 10.

عالمي المادة والغيب وفنّد الجانب الروحي المجرد للنفس الإنسانية بزعم أنه ضرب من الخيال، وذلك بعد أن قيّد جميع الحقائق بالقضايا المادية المحسوسة فقط. أمثال هؤلاء الفلاسفة المحدثين تبنّوا نزعةً ماديةً دنيويةً صرفةً لدرجة أنهم اعتبروا الحياة الدنيا الفانية هي المبدأ والنهاية وأنكروا جميع الحقائق الماورائية السابقة والتالية لها، وقد تمخض عن نظرياتهم العلمانية ظهور فلسفة وضعية جرّدت جميع القضايا الماورائية عن حقيقتها بزعم عدم توفّر أي دليل يثبت وجود القضايا الماورائية، ومن هذا المنطلق أنكروا وجود الله تعالى والملائكة والروح وكلّ ما يعجز الحس البشري عن إدراكه؛ وثمرة هذه النزعة المادّية المنحرفة أنّها ساقت جميع العلوم والتوجهات الفكرية نحو مسلك مادّي بحت؛ لذا تطرّق الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري إلى نقد هذه النزعة الباطلة التي تتنافى مع الحقائق الوجودية وبادر إلى تفنيدها بحنكة ودراية، ومن جملة ما قاله على هذا الصعيد قوله : «الثقافة الغربية متقوّمة في أساسها على أفكار مادّية، فهي في واقعها ليست ثقافةً مسيحيةً وإنما ماديةٌ تتصف في بعض جوانبها بالكفر والإلحاد.

نقصد من كونها ماديةً أنّ القيم الإنسانية فيها منبثقة من جذور مادية ولا تمت بأدنى صلة للروح المجردة والإيمان بالله سبحانه وتعالى»(1). لقد أدرك هذا الفيلسوف المسلم النتائج المخرّبة التي تتمخض عن الفكر المادي المنحرف خير إدراك، فشمّر عن ساعديه لمواجهته وتفنيد مزاعمه بحنكة ودراية عن طريق بيان مكامن الخلل فيه وتحديد نقاط ضعفه ومكامن انحرافه على ضوء دراسة وتحليل الآراء الفلسفية الغربية الباطلة من أساسها لأبرز المنظرين له من فلاسفة ومفكرين؛ ومن جملة ما قاله في هذا الصدد قوله : «في تأريخنا المعاصر هناك علماء معروفون مثل برتراند راسل يعتبرون أنفسهم ذوي نزعات مادية، فهذا الفيلسوف الغربي قال : الإنسان لم يخلق بتدبير مدبّر كما أنّه لم يخلق لأجل غاية معيّنة، فهو بدن ينمو، وأما مشاعره وأحاسيسه كالرجاء والخوف والمحبة والعقيدة فهي قد نشأت في نفسه إثر تركيب الذرّات مع بعضها عن طريق الصدفة.

ص: 228


1- المصدر السابق، ص 61.

،إذن، نستشف من هذا الكلام أنّ برتراند راسل لا يعتقد بوجود قدرة مدركة ومدبّرة

ماورائية رغم أنّه في بعض أقواله اعتبر نفسه شكوكياً».

هناك إشارة واضحةً في هذه العبارة وكثير من العبارات الأخرى الواردة في مؤلّفات الشهيد مطهري، تدلّ على أنّه تطرّق إلى نقد وتحليل مختلف آراء المفكرين الغربيين التي كانت لهم كلمة الفصل في ميدان الفكر الغربي لأجل بيان جميع جوانبه ومكامن الضعف والخلل فيه، فهو كالطبيب البارع الذي يمتلك قابلية فريدةً على تشخيص الداء وتعيين الدواء الناجع له لاستئصال جذوره بالكامل؛ حيث نلمس مهارته العجيبة هذه في أهم مؤلّفاته الفلسفية التخصصية مثل شرحه لكتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي)، فقد ذكر مباحث موسعة ودقيقة لتفنيد تلك الأباطيل المادية التي اجتاحت الأوساط المثقفة في العصر الحديث، ناهيك عن أنّه سلّط الضوء عليها بأساليب رائعة ضمن مختلف مدوّناته غير الفلسفية التي تمكن من خلالها بيان حقيقة التوجهات الغربية ووضع الأسس الكفيلة بمكافحتها على الصعيد النظري.

ثانياً: الله في رحاب الفكر الغربي

لا شكّ في أنّ عقيدة الإيمان بالله عزّ وجلّ تعدّ واحدةً من القضايا الهامة والأساسية التي لها تأثير بالغ في حياة الإنسان، إذ لها وقع كبير على متبنياته الفكرية وتعيين سبيله في تلاطم أمواج الفتن والأفكار الضالة المنحرفة، والتعاليم الإسلامية بدورها تؤكّد على أن عقيدة التوحيد هي البنية الأساسية لسائر المعتقدات الدينية.

أصول الدين في الشريعة الإسلامية متقوّمة على خمسة مبادئ أساسية أهمها التوحيد الذي يعد الركن الركين لها، فالله سبحانه وتعالى وحده المصدر الفياض للوجود في الكون وهو علة العلل التي تفتقر إليها الكائنات قاطبةً، لذا فإنّ أي خلل في عقيدة التوحيد لا نتيجة له سوى الخسران المبين والضرر العظيم.

الشهيد مرتضى مطهري الذي اتصف بدقته الفلسفية وحنكته العلمية، أدرك أنّ عقيدة التوحيد لم تطرح في المجتمعات الغربية كما ينبغي، حيث تم الترويج لها في

ص: 229

إطار متزعزع وفي الحين ذاته منحرف عن الحقيقة واعتبر أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الضلال الديني يرجع إلى استياء الناس من الكنيسة وتصرفات أربابها قبل عصر النهضة والحداثة، أي في القرون الوسطى بالتحديد ؛ كما أكّد على أنّ هذا الطرح الغربي الجديد ليست له جذور في المبادئ الفلسفية الإغريقية وإنما نشأ وشاع في العصر الحديث الذي شهد تحولات كبرى على مختلف الأصعدة التقنية والثقافية والدينية، ومن جملة أقواله في هذا المضمار ما يأتي:« إبّان الفترة المظلمة من تأريخ أوروبا وفي القرون الوسطى بالتحديد، كان بيان عقيدة الإيمان بالله عزّ وجلّ منوطاً بالقساوسة فحسب، ومن المؤسف أنّهم طرحوها في إطار مفاهيم ساذجة لا تفي بالغرض ولا تعكس الحقيقة بحذافيرها مطلقاً، لذلك لم تقنع المفكرين والباحثين عن الحقائق الاستدلالية الرصينة، بل جعلتهم ينأون عن الإيمان بالخالق البارئ ويسخرون جلّ طاقاتهم الفكرية لتفنيد التعاليم الدينية»(1). وقال في هذا السياق أيضاً: «الكنيسة صوّرت الله سبحانه وتعالى على هيئة بشرية، لذا نجد أبناء المجتمعات التي كانت تحت سلطتها يتبنون هذه الصورة المادية الباطلة منذ نعومة أظافرهم، ولكنّهم حينما يبلغون سن الرشد والإدراك العلمي يكتشفون بطلانها لكونها تتعارض مع القواعد والأصول العلمية والعقلية الثابتة وعلى أقل تقدير فهي لا تتناغم معها بالكامل. أضف إلى ذلك أنّ عامة الناس في تلك الآونة لم يمتلكوا القدرة الكافية للنهوض بواقع عقيدتهم عبر نقد تعاليم أرباب الكنائس وطرحها ضمن مفاهيم استدلالية معقولة بعد تفنيد العقيدة التي روّجها القساوسة؛ لذلك لم يجدوا بداً فيما بعد من إنكار الأفكار الكنسية والتخلي عنها من الأساس بادعاء أنها لا تنسجم مع المعايير العلمية الثابتة»(2). وبعد هذا الاستدلال التأريخي، واصل كلامه حول طبيعة الرؤية الغربية لله عزّ وجلّ والإيمان به وبدوره في عالم الوجود، فقال: «الغربيون اعتبروا عصر التطوّر العلمي صفحةً جديدةً طوت صفحة التدين واللاهوت، حيث تأثروا بنظريات مؤسس المذهب الوضعي الفيلسوف أوجست كونت الذي طرح متبنّياته الفكرية في أجواء طغت عليها سلطة الكنيسة. هذا المفكر الغربي جعل الله

ص: 230


1- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري (باللغة الفارسية)، ص 56.
2- المصدر السابق

تعالى كسائر الكائنات المخلوقة وكأنه قد قسم المهام والوظائف والكون بين الربّ وعباده! وغاية ما في الأمر أنه اعتبر الإله غامضاً لذلك نسب إليه كلّ ظاهرة لا يمكن تفسيرها وفق القواعد والأصول المادية.

نقل المفكر الفرنسي نيكولا كميل فلاماريون كلاماً لأوجست كونت حول العلم، وقد جاء في جانب منه :العلم هو والد الطبيعة، وهو الذي عزل الإله عن عمله وهمشه، ومن ثمّ قدّم له الشكر والثناء على خدماته المؤقتة، وهو السبب في عظمته.

المراد من هذه العبارة أنّ الناس قديماً كانوا ينسبون جميع الظواهر والحوادث التي تطرأ في الكون إلى الله عزّ وجلّ، فعلى سبيل المثال حينما يصاب أحد الناس بالحمّى آنذاك، يتساءل الآخرون عن السبب في ذلك ويبحثون عن منشأ هذا المرض، ومن ثم لا يتوصلون إلا إلى نتيجة أنّ الله سبحانه هو الذي خلق الحمّى فيتوقف استنتاجهم العلمي عند هذا الحد.

إذن، أوجست كونت لا يقصد من كلامه الذي نقله فلاماريون بأنّ الله عزّ وجلّ هو مدبّر شؤون الكائنات بحيث له القابلية على خلق الحمّى وابتلاء الإنسان بها - أي إنّه لا يعتقد بكون الله هو الخالق البارئ للكون والكائنات - وإنما أراد وصف عقيدة الأمم السالفة بأنّها تصوّر الربّ بكونه كائناً غامضاً أو ساحراً بإمكانه أن يقرّر فجأةً إيجاد حمّى لدى الإنسان، لذلك أكد على أنّ العلم جاء ووضع حلاً لهذا اللغز الذي بقي عصياً على البشرية طوال تأريخها ليثبت أنّ الحمّى ليست مخلوقةً من قبل الله تعالى، بل هناك ميكروبات معيّنة تتسبب بحدوثها. هذه الأطروحة أسفرت عن تراجع العقيدة بوجود الخالق خطوةً إلى الوراء، لذلك اضطرّ عالم اللاهوت لأن يتخلى عن معتقداته الماورائية وينسب الحمّى إلى الميكروبات. الخطوة القهقرائية التالية تجسّدت في معرفة خالق هذه الميكروبات، وهنا أيضاً تمكن العلم المادّي من تخطّي علم اللاهوت بعد أن اكتشف منشأ تكاثر الميكروبات وأسباب نشأتها، ومن ثمّ تهمّشت العقيدة اللاهوتية أكثر من السابق وتراجعت إلى الوراء خطوةً أخرى. وهكذا توالت المباحث العلّية وفي كلّ مرحلة يتفوّق العلم المادي بالتزامن مع تراجع

ص: 231

علم اللاهوت خطوات أكثر فأكثر إلى الوراء حتى تطوّرت العلوم الحديثة واتسع نطاقها لتستكشف حقائق مادّية جديدة لم تكن البشرية على علم بها سابقاً، وأمّا كثير من القضايا التي بقيت عللها طي الكتمان فقد تيقنت البشرية بكونها معلولةً لعلل مادّية أيضاً تناظر تلك العلل التي تم استكشافها قبل ذلك؛ وإثر ذلك أعرضت المجتمعات عن عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى إلى الأبد إذ لم يبق له مكان ولا واجبٌ يؤدّيه في حياتها العملية، فهو في هذه الحالة كالموظف القديم الذي يُحال على التقاعد إلى الأبد لتوكل مهامه إلى من هو أكثر جدارةً وكفاءةً منه، لذا لا يبقى له مكان في نطاق وظائفه ولا تأثير في الدائرة التي ينتسب إليها»(1).

أوجست كونت قسم تأريخ الفكر البشري في ثلاث مراحل أساسية، وعد المرحلة الراهنة بأنّها عهد العلم الحقيقي وقد أنهت عهد النزعات الدينية والفلسفية، حيث أكّد على أنّ هذه المراحل منفصلة عن بعضها وليس من الممكن الجمع بينها.

بعد أن ذكر الشهيد مرتضى مطهري آراء أوجست كونت، تطرّق إلى نقدها وتحليلها وبيان مكامن النقص والخلل فيها، ولا سيما الخطأ الفادح الذي وقع فيه هذا الفيلسوف الغربي وسائر أقرانه على صعيد العلاقة بين البارئ جلّ شأنه وعالم المادة والطبيعة؛ حيث قال في هذا الصدد: «عهد الفكر الإسلامي هو أحد المراحل الفكرية في تأريخ البشرية، وحسب تعاليمنا السمحاء فالمراحل الثلاثة التي ذكرها أوجست كونت يمكن أن تجتمع في مرحلة واحدة بنحو ما، وذلك بمعنى أنّ الإنسان قادر على أن يمتلك فكراً دينياً وفلسفياً وعلمياً في آن واحد.

كل مفكّر مطلع على مبادئ الفكر الإسلامي يدرك أنّ التعاليم الإسلامية لا تعتد بتقسيم مراحل الفكر البشري ضمن المراحل الثلاثة المذكورة، ولو كان الأمر كذلك فنحن نحيط السيّد أوجست كونت علماً بوجود مرحلة رابعة - مرحلة الفكر الإسلامي - حيث غفل عنه في تقسيمه هذا» .(2)

ص: 232


1- المصدر السابق، ص 60 - 59 .
2- المصدر السابق، ص 66.

هذا المفكر المسلم الحريص على تعاليم دينه اعتمد على سعة علمه وإلمامه بالأصول الفلسفية والتعاليم الإسلامية لأجل تحديد مكامن الخلل والانحراف في اللاهوت الغربي، وبالفعل فقد تمكن من ذلك وحذرنا من الانجراف وراء الدعوات الكنسية الغربية؛ حيث أكد على أن أوجست كونت وأمثاله قد وقعوا في خطأ فادح إثر مقارنتهم الله عزّ وجلّ مع سائر الكائنات التي هي برمتها مخلوقة - معلولةٌ - كما عدوه مؤثراً في الكون كتأثير سائر العلل الطبيعية في حين أنه تبارك شأنه حقيقةً لا يضاهؤها أيّ شيءٍ آخر مطلقاً، بل إنّه مفيض الوجود على جميع الحقائق في الكون من دون استثناء، لذا فكلّ شيءٍ مفتقر إليه افتقاراً تاماً كاملاً، ولا شكّ في أنّ عليته ليست مثل أيّة علّية أخرى ومن الخطأ بمكان مقارنته مع العلل الطبيعية.

العلل التي اعتدنا عليها واستأنست بها أنفسنا في عالم الطبيعة، هي في الواقع علل صورية لا قدرة لها على خلق أي شيء كان، في حين أنّ الله سبحانه وتعالى هو علة العلل التي خلقت جميع الكائنات والعلل الصورية؛ لذا فهو كالينبوع المتدفّق الذي لا ينقطع فيضه عن التدفّق وكلّ أمرٍ يكون أهلاً لأن يتصف بالوجود فهو متعلّق به وتابع له ومعلول له، لأنّه هو الوجود التام الأزلي والفيض الجاري الذي لا ينقطع ولا يتوقف مطلقاً.

الشهيد مرتضى مطهري قال في هذا الصدد: «البنية الأساسية لعلم اللاهوت هي الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو ربُّ الكون بأسره ولا يعزب عن ذكره شيء، فكلّ شيء في الكون يدلّ على قدرته وعلمه وحكمته وإرادته ومشيئته وآياته، وجزئيات الوجود بكلّ أنواعها مظهر لكماله وجماله وجلاله».(1)

ثالثاً: النزعة المادية والفساد الأخلاقي

الأستاذ مرتضى مطهري في مدوّناته ولا سيّما في كتاب (الأخلاق الجنسية)(2) وجه نقداً لاذعاً للنظام الأخلاقي الحاكم في العالم الغربي معتبراً الفساد الأخلاقي

ص: 233


1- المصدر السابق ص 62.
2- اسم الكتاب باللغة الفارسية (أخلاق جنسي).

المتمثل بالانحراف الجنسي ثمرةً طبيعيةً للنزعة المادّية التي اجتاحت المجتمعات الغربية في القرون المنصرمة التي تلت عصر النهضة والحداثة؛ حيث هجر الإنسان الغربي تعاليم الشرائع السماوية وأقبل بكلّ وجوده على العلم والتقنية الحديثة ومن ثم تبنّى أفكاراً ماديةً مخرّبةً للفكر السليم والعقيدة الماورائية. ومن جملة أقواله في هذا الصدد ما يأتي «المادية الأخلاقية تعني تجريد الإنسان من جميع المبادئ الخلقية السامية وإبعاده عن الروح المعنوية»(1) .

وقد عد السبب الأساسي في إقبال المجتمعات الغربية على المفاسد الأخلاقية يكمن في شيوع الفكر المادّي والاعتماد عليه لبيان ماهية الإنسان والكون، فهذا النمط الفكري المحدود يضيّق نطاق العقل ويفتح الباب على مصراعيه للتخلي عن المتبنّيات العقلية السليمة ومن ثَمَّ يسفر عن السقوط في وحل الفساد والانحراف؛ لذلك قال : «عندما تتبلور لدى الإنسان فكرة أنّ الكون لم يخلق لهدف، وأنه عار من كلّ أنماط الوعي والإدراك باعتبار أنّ الكائنات خلقت فيه عن طريق الصدفة ولأغراض عبثية بحيث ينعدم كلّ شيءٍ بعد مفارقة الحياة من الطبيعي أن يبادر إلى استغلال كلّ فرصة تتاح له لأجل تحقيق مآربه الخاصة ونزواته الحيوانية، حيث يتوصل إلى نتيجة فحواها أن لا فائدة من التحلي بالخلق الرفيع وإتلاف العمر بالمحاسن

لا شكّ في أنّ اعتبار الحياة والخلقة والوجود أموراً عبثية يسفر عن شيوع المادية الأخلاقية ولاسيّما أنّ هذا التوجه الفكري يجعل الإنسان في صراع باطني دائم ويستنزف جميع طاقاته الذهنية، لذلك نجد من يتبنّاه عادةً ما يتهرب من واقعه المرير الذي يؤرق كيانه من دون انقطاع ليبحث عن وسيلة تجعله في مأمن مما هو فيه؛ ومن ثم يسعى إلى تحصيل ما يجعله قادراً على نسيان واقعه فيلجأ إلى تعاطي المخدرات وشرب الخمر، وهذا الشذوذ النفسي بطبيعة الحال ينتعش بأجلى صوره في مجالس الفسق والمجون التي تجعل الإنسان غارقا في المادّية الأخلاقية من رأسه إلى أخمص قدميه»(2).لذا من الضروري بمكان تضافر الجهود لتنقية الأجواء الاجتماعية من جميع

ص: 234


1- المصدر السابق ص 172
2- المصدر السابق، ص 173.

الشوائب التي تكتنفها لكي ينعم الناس بحياة آمنة ملؤها الطمأنينة والخلوص، وفي هذا السياق لا بد من التصدّي للاستثمار الجنسي بشتى أشكاله وعدم إطلاق العنان للحرّيات المبالغ فيها؛ ومن المؤكد أننا ما لم نكبح جموح الغرائز الجنسية الحيوانية فسوف يقع مجتمعنا في هاوية الضلال والانحراف ومن ثم يسلك طريق اللاعودة المشؤوم، لذا من الحري بنا وضع برامج مناسبة للإشراف على النشاطات الفردية والاجتماعية على حد سواء بغية تشذيبها ووضعها في المسار الصحيح واستثمارها بأمثل شكل ممكن وذلك كي لا يشدّ الفكر عن الأصول القويمة وحتى لا يغور في وحل الفساد الخلقي؛ وهذا الأمر أكد عليه الشيخ الشهيد قائلاً: «البلدان الغربية التي نقلّدها بشكل أعمى قد اختارت السبيل الآخر - المادّي - حيث أخرجت الممارسات الجنسية من حيّز الأسرة لتشيعها على نطاق عام في رحاب المجتمع، ولكنّها اليوم تدفع ثمن هذا التصرّف الشاذ، لذلك بدأت الأصوات المعارضة تتعالى من قبل المفكرين الذين أدركوا سقم وقبح ما فعله أسلافهم» (1)

المفكّران المحدثان سيجموند فروید و برتراند راسل يعتبران من أبرز دعاة الحرّية الجنسية في العالم الغربي، حيث طالبا بضرورة اجتثاث الأخلاق الجنسية القديمة وإقرار أخلاق جديدة تحلّ محلّها، لذلك وصفهما الشهيد مطهري بالقول: «سيجموند فرويد وجميع الذين حذوا حذوه يتبنّون معقتدات خاصة، إذ يزعمون بأنّ الأخلاق الجنسية القديمة متقوّمة على المنع والتقييد، واعتبروا أنّ البلايا التي عانت منها البشرية في العهود السالفة ناجمة عن المنع والحرمان والخشية على صعيد الممارسات الجنسية، فهذه الأخلاق برأيهم قد حلت محل النزعات الإنسانية المستبطنة في نفوس البشر » .(2)كما أنّ برتراند راسل الذي اقترح صياغة منظومة أخلاقية جديدة، تبنّى نفس هذه الفكرة وجعلها منطلقاً لاستنباط آرائه، وقد بالغ في تهميش الطباع والأعراف الاجتماعية الموروثة لدرجة أنه استهان بالأسرة التي هي قوام المجتمع واعتبرها عديمة القيمة والفائدة، ناهيك عن أنّه فنّد أبرز المشاعر

ص: 235


1- مرتضى مطهري، أخلاق جنسي (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، منشورات صدرا، قم، ص 46
2- المصدر السابق، ص 22 - 23

الإنسانية النبيلة كالحياء والعفّة والتقوى والغيرة - التي اعتبرها حسداً مقيتاً - لذلك لا نجد لهذه القيم السامية أي مكان في منظومته الأخلاقية، بل دعا إلى التخلي عنها وضربها عرض الجدار عبر الاعتماد على العقل والفكر فحسب؛ وقد وصف الشيخ الشهيد رؤيته هذه بالقول: «برتراند راسل لم يعر أية أهمية لبعض الأمور التي يحترمها المجتمع، مثل القبح والسوء والفضيحة، وإنما ارتكز في منظومته الفكرية على العقل والفكر فحسب، كما طالب بنبذ جميع القيود الجنسية إلا ما كان فيها ضرر على سلامة بدن الإنسان، وحسب رأيه هذا فليس من الجائز الامتناع عن ممارسة الجنس إلا إذا كان كالطعام الضارّ الذي يتسبب في إلحاق ضرر بجسم من يفعله! وفي كتابه (معرفتنا عن العالم الخارجي كحقل للمنهج العلمي في الفلسفة) وضمن الفصل الذي دونه حول الأخلاق المحظورة أشار إلى سؤال طرح عليه ثمّ أجاب عنه، وهو كما يأتي: هل لديك نصيحة لأولئك الذين يرغبون باتباع سبيل عقلاني صائب في مجال الأمور الجنسية؟... ومن ثم لا بد لنا من تحليل الأخلاق الجنسية كما نحلل سائر القضايا، لذا لو أنّ عملاً لا يتسبب بإلحاق الضرر بالإنسان، فليس هناك ما يدعو إلى ردعه وشجبه ...(1) «كما نلاحظ مما ذكر فإنّ أبرز المفكرين الغربيين يتبنون نزعات ماديةً وجنسيةً منحرفةً، لذلك روّجوها في مجتمعاتهم وجعلوها أصولاً وقواعد تتقوّم عليها الأخلاق الجنسية.

بعد أن نقل الأستاذ مطهري هذه الآراء وما شاكلها، بادر إلى نقدها وتحليلها ومن ثم تفنيدها ببراعة لا نظير لها، حيث أكد فيها على أنّ التعاليم الإسلامية لا تعارض الرغبات البشرية مطلقاً ولا تردع الإنسان عن إشباع غرائزه، بل احترمتها ووضعت له قواعد خاصة لتلبية متطلباته الجنسية ؛ ومن أقواله في هذا المجال: «نعقب على ما ذكر هؤلاء بأنّ التعاليم الإسلامية السامية قد تعاملت مع الأمر بأمثل شكل ممكن فهي لم تشر إلى النتائج التي تتمخض عن العلاقات الجنسية المنحرفة، وإنما صاغت أصولاً وقواعد متكاملة لتشذيب هذه العلاقات، حيث قيّدتها حسب مصالح المجتمع الراهنة ومصالح الأجيال اللاحقة، ومن هذا المنطلق اتخذت التدابير اللازمة التي

ص: 236


1- المصدر السابق

تصون الإنسان من الانحراف وتنجيه من الحرمان والشعور بالكبت الجنسي» (1).

وبعد ذلك حدر الشباب من الانجراف وراء هذه الأفكار الرذيلة التي تزعزع أركان الأسرة والمجتمع على حد سواء، وكلامه لا يعد مجرّد وعظ وإرشاد فحسب، بل نستشف منه التأكيد على أنّ مستقبل الثقافة الغربية المعاصرة سيكون مظلماً وذا عواقب وخيمة، فهذا هو المصير المحتوم للإباحية والتفسّخ الخلقي؛ ولا شكّ في أنّ هكذا رؤية دقيقة للمستقبل تنمّ عن حنكة الشهيد مطهري ومعرفته بواقع التوجهات الغربية، وقد قال في هذا الصدد أيضاً: «... من الواجب علينا أن نضع القرّاء الكرام في الصورة الحقيقية لتحذيرهم مما يجري حولهم وتوعيتهم بما تتضمنه تلك الأفكار التي تستوردها مجتمعاتنا من العالم الغربي والتي تبهر شبابنا حينما يطلعون عليها ومن ثم تستدرجهم بشعاراتها البراقة التي تطرح تحت عناوين مقدّسة كالحرية والمساواة؛ فيا ترى كيف سيكون مصيرهم فيما لو أنّهم ساروا في ركبها وانخدعوا بها؟! فما هی نهاية هذا الطريق الشائك؟! وهل ستتمكن المجتمعات البشرية من السير قدماً فی هذا المضمار من دون أن تتوقف في نفق مظلم؟! أو أنّ كلّ هذا مجرد خدعة كبرى استهدفت كيان البشرية بأسرها ! لا ريب في أنّ الانخراط في ركب هذه القافلة السقيمة لا ثمرة له سوى الهلكة والخسران»(2)

رابعاً: سقوط شخصية الإنسان في ظلّ الثقافة الغربية

من المؤكّد أنّ المفهوم الذي يلي مفهوم الربّ في الأهمية يتمثل في الإنسانية التي تدلّ على معنى في غاية الدقة والقداسة مما جعلها بؤرة للجدل والنقاش وطرح شتّى النظريات المتوائمة والمتضاربة على حد سواء، ناهيك عن أنّها البنية الأساسية لعدد من الفروع العلمية، لذلك أعارت التعاليم الإسلامية لها اهتماماً بالغاً وأكدت على أنّ جميع القضايا والقرارات المرتبطة بالحياة البشرية يجب أن تكون ذات منشأ ديني في حين أنّ سائر المدارس الفكرية تبنّت نظريات متباينةً وغير منسجمة حول الموضوع

ص: 237


1- المصدر السابق، ص 14 - 15
2- المصدر السابق، ص 28

وإثر ذلك تنوّعت أطروحاتها وتشرذمت في توجهات ومذاهب فكرية شتّى.

نظراً لأهمية هذا الموضوع فقد تناوله الشهيد مطهري بإسهاب وتطرق إلى بيان الأسس الفكرية الغربية في التعامل مع الشخصية الإنسانية، فهو خبير حاذق في مبادئ وأصول علم النفس الفلسفي وأصوله وله اليد الطولى في تطبيق هذه الأصول عملياً في رحاب التعاليم الدينية؛ لذا فنحن لا نبالغ لو قلنا إن آراءه على هذا الصعيد تعدّ القول الفصل، حيث أكد على أنّ المجتمعات التي تسخّر كلّ ما لديها خدمةً للحياة الدنيوية الفانية ولا تكترث بروح الإنسان وبنيته الفطرية ولا تعبأ بمصيره بعد الموت وحياته الأخروية الخالدة باعتبار أنه مجرد آلة معقدة التركيب، فهي بطبيعة الحال تتجاهل جميع القيم الإنسانية النبيلة وتستهين بكلّ مبدأ أصيل كالإنصاف والعدل والمودة وحبّ النوع.

وعلى هذا الأساس عد الأصول الفلسفية السائدة في العالم الغربي سقيمةً لكونها لا تولي أدنى أهمية للقيم الإنسانية، حيث قال: «لقد تدنّست شخصية الإنسان طوال سنوات في رحاب الفلسفة الغربية الحديثة، فهي اليوم هدفُ للسخرية والإهانة في معظم المنظومات ال فلسفية السائدة بين المجتمعات الغربية؛ إذ إنّ الإنسان في تلك الديار قد سقط إلى الحضيض ليصبح مجرد آلة ميكانيكية بعد أن تم تهميش بعده الروحي الأصيل.

الفلاسفة الغربيون يعدّون الإيمان بوجود غاية لخلقة الطبيعة والإنسان عقيدةً رجعيةً تنمّ عن تخلّف وشذوذ، لذا لا يمكن لأحد اعتبار بني آدم بأنهم أشرف الكائنات وأنّ كلّ ما في المكوّن مسخّر لخدمتهم، فهذه العقيدة برأيهم ناشئة من فكرة بطليموسية قديمة طُرحت في العهود السالفة حول هيئة الأرض والسماء باعتقاد أنّ الأرض هي المحور الأساسي الذي تدور حوله جميع الكواكب السيارة؛ لذلك بعد أن أُثبت بطلان هذه النظرية الجغرافية سوف لا يبقى مجال لقول إنّ الإنسان هو أشرف المخلوقات، حيث زعموا أنّ هذه العقيدة تنم عن أنانية اجتاحت المجتمعات البشرية في فترة من الزمن بينما الإنسان أمسى اليوم متواضعاً ويعتبر نفسه كسائر الكائنات

ص: 238

لكونه خلق من التراب وسيكون مصيره إلى التراب أيضاً وهذه هي نهايته المحتومة»(1).

وفي السياق ذاته تطرّق الشيخ مرتضى مطهري إلى الحديث عن الطبيعة الإنسانية في رحاب مبادئ حقوق الإنسان السائدة في العالم الغربي فاستدلّ على وجود تناقض صريح فيها ومن ثمّ بادر إلى بيانه ونقده، إذ أكد على أنّ المفكرين الغربيين تعاملوا مع الإنسان كآلة ميكانيكية من دون أن يعيروا أهميةً لروحه وضميره ونفسه وكرامته وأصالته، ولكنّهم مع ذلك اضطروا لأن يقرّوا أصولاً وقوانين حول مكانته الرفيعة ومقامه العالي في المجتمع ؛ وعلى هذا الأساس قال: «الغربيون أهانوا شخصية الإنسان وقللوا من شأنه في جميع مراحل وجوده، فقد حطوا من قيمته ابتداءً من خلقته والعلل التي أوجدته وصولاً إلى الهدف الحقيقي لهذه الخلقة، فضلاً عن أنّهم لم يعيروا أهميةً لبنيته البدنية وضميره ووجوده الروحي وما اكترثوا بالدوافع التي تحفّزه على أداء أعماله؛ ومع ذلك فقد أصدروا إعلاناً عالمياً حول قيمته ومقامه وكرامته وشرفه الذاتي وحقوقه المقدّسة التي لا يحق لأحد مصادرتها منه بتاتاً، ومن ثم طالبوا جميع المجتمعات البشرية بوجوب الالتزام بما تضمنه هذا الإعلان الطويل العريض»(2). بعد هذا النقد الصريح للنزعة الإنسانية الغربية، تطرّق الأستاذ الشهيد إلى بيان الازدواجية في الدفاع عن حقوق الإنسان معتبراً أنّ هذه الحقيقة دليل جلي على كون الهوية الغربية الحديثة متزعزعةً ولا طائل منها ، وضمن هذا المبحث أثبت أنّ علاقة الوجود بالواجبات والمحرّمات ثابتة ولا يمكن لأحد تجاهلها مطلقاً، كما أكّد على أنّ من يتبنى فكرةً خاطئة حول الله عزّ وجلّ فهو لا يمتلك القابلية التي تؤهله لتدوين برنامج شامل للحياة البشرية، إذ لو أننا أعفينا الإنسان من أهم مسؤولية في حياته، ألا وهي تكليفه إزاء ربّه العظيم، بحيث جعلنا الأصالة للقيم الإنسانية؛ فكيف يمكن له حينئذ مراعاة تكاليفه تجاه أقرانه البشر وسائر الكائنات التي هي أدنى رتبةً من الله سبحانه وتعالى؟! ومن المؤكد أنّه في هذه الحالة لا يتورع عن القيام بأفعال تتنافى مع الأخلاق الرفيعة والقيم الإنسانية الحقة.

ص: 239


1- مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة والثلاثون، ص 135.
2- المصدر السابق، ص 137.

الإنسان الذي يجعل الحياة الدنيا غايته النهائية وهويته الأساسية بحيث يتغاضى عن كل أمر ماورائي وينكر جميع الحقائق غير المادية فهو بطبيعة الحال لا يجد وازعاً يحفّزه على ضرورة مراعاة الأصول الخلقية الرفيعة واحترام شؤون الآخرين؛ لذا هل يمكن ادّعاء أنّ إنساناً كهذا له قيمة في عالم الوجود؟! فما هو الفرق إذن بينه وبين سائر البهائم التي لا تفقه شيئاً من الحياة الحقيقية؟ ومن هذا المنطلق وصف سماحة الشيخ النزعة الإنسانية الغربية قائلاً:« حينما نقرأ المقدّمة التي دونت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجدها مثيرةً للسخرية حقاً، حيث أكد مدوّنوها على قيمة الإنسان وزعموا أنّهم اكتشفوا الأسباب الحقيقية التي أدت إلى سلب حرّيات المجتمعات البشرية والتجاوز على حقوقها وإراقة دماء أبنائها، حيث عزوا ذلك إلى عدم احترام البعض لمكانة النفس الإنسانية وتغاضيهم عن حقوقها المشروعة؛ ولكننا نسألهم : ما هي القيمة الحقيقية للإنسان برأيكم؟ فهل لهذه الآلة الميكانيكية - بزعمكم - أية قيمة تُذكر ؟! فإذا اعتبرنا الإنسان مجرّد آلة ميكانيكية لا ضير حينئذ من القضاء عليه لكونه ماكنةً يمكن أن تستبدل بغيرها»(1) . ثم واصل بحثه الاستدلالي ليستكشف جذور هذه المشكلة ويشخّص النواقص التي تعاني منها الثقافة الغربية الحديثة ولا سيّما الازدواجية في طرح الآراء.

من جملة الأمور التي أكّد عليها هذا العالم الفدّ أنّ الإنسان لا قيمة له ولا كرامة، بل وليس من شأنه أن يمتلك شخصية محترمة مستقلة إلا في ظلّ الإيمان بوجود إله عظيم خلقه وكرّمه ذاتياً بعد أن جعله خليفةً له في الأرض؛ لذلك قال:«إنّ الذي له الحق في الحديث عن الإنسانية وكرامة الإنسان وشرفه، هو من قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(2). نعم، من هو أهل للحديث عن قيمة الإنسان وحرمته، هو من له القدرة على غرس الإيمان والتقوى في نفسه، وهو من قال:(إِني جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ)(3)» (4)

ص: 240


1- مرتضی ،مطهري پانزده گفتار باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، ص 115.
2- سورة الإسراء، الآية 70.
3- سورة البقرة، الآية 30.
4- المصدر السابق، ص 137 – 138.

المبحث الثالث: وجهة نظر الشهيد مرتضى مطهري حول التوجهات العلمية والتقنية الغربية

الرؤية التي تبنّاها الشيخ الشهيد مرتضى مطهري بالنسبة إلى الوجهة العلمية والصناعية في الثقافة الغربية لا تختلف عن آرائه التي طرحها حول مختلف القضايا الأخرى، حيث تستند بالأساس على تعاليم الشريعة الإسلامية المستوحاة من القرآن الكريم والأحاديث المباركة، فقد أكّدت هذه التعاليم السمحاء على ضرورة طلب العلم معتبرةً ذلك فريضةً على كلّ مسلم ومسلمة، وكما نعلم فالآيات الأولى التي نزلت على نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حفزته على ذلك(1)، وهو بدوره دعا المسلمين في مواطن عدّة إلى عدم التخلّف عن ركب قافلة العلم والمعرفة.

من المؤكد نحن لا نبالغ حينما نقول بأنّ الإسلام فاق جميع الأديان قاطبةً في الدعوة إلى طلب العلم وكسب المعارف وأن ليس هناك نبي كالنبي الخاتم شجّع أتباع دينه على هذه الفريضة الهامة، لذلك عدّ الشهيد مطهري هذه الميزة الفريدة واحدةً من أسباب الرقي المتنامي والسريع للحضارة الإسلامية وأنّها العامل الأساسي لتطوّر المسلمين ،ثقافياً، إذ قال: «أحد الأسباب التي أدّت إلى رقي المسلمين في شتّى العلوم والفنون والصناعات يكمن في عدم تعصبهم في اكتسابها وبحثهم عنها للانتهال منها في أي مكان كان في العالم من دون أ يتوانوا في ذلك بتاتاً».(2)

الأحاديث النبوية المباركة أعارت أهميةً كبيرةً لطلب العلم وكسب الحكمة في كلّ آن ومكان، ومنها ما عده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فريضةً على جميع المسلمين، لذلك قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا وإنّ الله يحبّ بُغاة العلم»(3)، وعقب الشهيد مطهري على هذا الحديث قائلاً: «... إذن كلّ علم فيه فائدة

ص: 241


1- المقصود من ذلك الآيات الخمسة الأولى من سورة العلق، وهي: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) )» .
2- مرتضى مطهري خدمات متقابل إسلام وإيران (باللغة الفارسية)، ص 392
3- محمّد بن يعقوب الرازي الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 31. وفي حديث آخر وردت كلمة (سنة) بدلاً عن« فريضة».

وضرورة للإسلام والمسلمين، ينبغي اعتباره علماً دينياً، وكلّ من خلصت نيته وسعى إلى طلب هذا العلم بهدف خدمة ديننا الحنيف سوف يكرمه الله تعالى بالثواب الذي وعد به طلاب العلم، وسيحظى بهذه الكرامة التي أكد عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):(من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة؛ وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)؛ ولكن إن لم يتحلّ طالب العلم بخلوص النية فسوف لا ينال أي ثواب حتى إذا سخّر وقته لدراسة العلوم القرآنية»(1).

وفيما يأتي نسلّط الضوء على الموضوع في إطار المباحث الآتية:

أوّلاً: العلاقة بين العلم والدين

الشهيد مرتضى مطهري لا يتفق مع الذين صنفوا العلوم إلى دينية وغير دينية، اذ عدّ هذا التصنيف ليس صائباً من الأساس، وذكر تصنيفاً آخر على ضوء التعاليم الإسلامية، وهو تقسيمها إلى علوم مفيدة وغير مفيدة؛ وهذه التعاليم القيمة قد عدّت المفيد منها مطلوباً ومناسباً من دون أن تميّز بين ما كان دينياً أو غير ديني، فالعلوم التفسيرية ذات فائدة كبيرة وكذا هو الحال بالنسبة إلى العلوم الأساسية كالكيمياء والفيزياء والرياضيات، إذ من الواجب بمكان تعلّمها.

ونستشف من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أُطلبوا العلم ولو في الصّين أنه دعا المسلمين إلى كسب العلوم غير الشرعية أيضاً، فالعلم بحدّ ذاته ضروري ومفيدٌ إلا أنّ التعاليم الإسلامية حظرت تسخيره لأغراض غير مشروعة؛ وهو يروم في الأساس استكشاف العلاقات بين مختلف الحقائق في الكون، إذ كلّما اتضحت هذه العلاقات للإنسان سوف يتمكن من استثمارها بأمثل شكل. وقد أشار هذا العالم الفذ إلى عظمة العلم ومكانة طالب العلم قائلاً: «... هذا التصنيف باطل من الأساس، أي ليس بمقدورنا تصنيف العلوم إلى دينية وغير دينية، فهذا الأمر قد يوقع بعضهم في توهّم فيتصوّروا بأنّ العلوم غير الدينية غريبة عن بنية الشريعة

ص: 242


1- مرتضى مطهري ده گفتار (باللغة الفارسية)، ص 172 - 173

الإسلامية؛وبطبيعة الحال نستلهم من شمولية هذه الشريعة السمحاء وخاتميتها بأنّ كلّ علم مفيد ونافع للمجتمع الإسلامي ينبغي اعتباره علماً إسلامياً»(1). ثم واصل كلامه موضحاً الموضوع بتفصيل أكثر ، فقال : كلّ علم مفيد ومؤثر وينسجم مع تعاليم الشريعة الإسلامية بحيث ينال تأييدها، فهو علم حسن ومطلوب ولا بد من السعي لتحصيله بلا شكّ، ولكن ما هو المعيار الإسلامي في تعيين الفائدة أو الضرر لمختلف القضايا ؟

حسب تعاليمنا الإسلامية السمحاء فإنّ كلّ علم يخدم المصالح الفردية أو العامة وفي الحين ذاته يكون الجهل به سبباً للتخلّف والضلال، فهو علم مفيد وضروري بينما كلّ علم لا يؤثر في مجال تحقيق الأهداف الإسلامية فتعاليمنا لم تعين ما إن كان ضرورياً أو غير ضرويّ؛ ومن ثمّ فكل علم ينعكس بشكل سلبي على الفرد والمجتمع فهومرفوض ولا ضرورة له« .(2) وأضاف سماحته في هذا السياق قائلاً: «نحن بصفتنا مسلمين نعير أهميةً كبيرةً للعلم، فهو يكشف لنا الأسرار التي استودعها الله سبحانه وتعالى في الوجود ولا فرق فيما إن كان العالم الذي يكشف هذه الأسرار شرقياً أو غربياً، مسلماً أو كافراً؛ فالعلم بحد ذاته محترم.

فيا ترى هل هناك إنسان لايحترم المخترعين والمكتشفين؟!نحن نؤيد تلك الاختراعات والاكتشافات الغربية المفيدة للبشرية ناهيك عن أننا نعتقد بكون الإيمان يتحقق عن طريق العلم والمعرفة، ونرى بأنّ العلم لا يوجد شيئاً معدوماً، بل يتطرّق العالم من خلاله إلى دراسة الكائنات وتحليلها واستكشاف العلاقات الجديدة فيما بينها.

العلم إذن أدنى مقاماً من الإيمان إلا أنه لا يتعارض معه بتاتاً، ومن ثم يمكن اعتباره سنداً يدعم حقانية الدين وصدق تعاليمه السمحاء». كما نلاحظ من هذا الكلام البليغ فقد عدّ سماحته التطوّر العلمي في العصر الحديث أمراً إيجابياً ودعا إلى ضرورة السير في ركبه، لذلك أكّد على أنّ المجتمع المعاصر الذي تراعى فيه

ص: 243


1- المصدر السابق.
2- مرتضى مطهري، بیست گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة السادسة طهران، 1369 ه- ش (1990 م)، ص 267.

حقوق الإنسان ويحظى أعضاؤه بالقدرة ،والاستقلال لا بدّ له من الانضواء تحت مظلة التطوّر العلمي النافع المتناغم مع تعاليم الشريعة؛ فالإسلام برأيه يهدف إلى صيانة كرامة المسلمين من كلّ دنس، لذلك لا يرضى بتقوقعهم وتخلّفهم عن الاكتشافات الحديثة والتطور العلمي في شتّى جوانب الحياة كالطبّ وسائر العلوم الهامة؛ ومن هذا المنطلق أضاف قائلاً: «... من البديهي أنّ ديننا الإسلامي يدعو إلى استقلال المجتمع ويدافع عن حرّيته وعزّته وكرامته ويؤكد على ضرورة عدم تبعيته للأجانب، وهناك أمر آخر أيضاً لا ينبغي لنا تجاهله وغض الطرف عنه، ألا وهو العلم عبارة عن ركيزة أساسية يتقوّم عليها العالم المعاصر، فهو سرّ النجاح في قضاء جميع الحوائج ومن دونه لا يمكن للمجتمع أن يعتمد على قابلياته الذاتية أو أن يستقلّ عن غيره ويحيا أبناؤه بعزّة واقتدار. لا ريب في أننا اليوم ندرك أكثر من أيّ وقت مضى بكون طلب العلم فريضةً وواجباً على جميع المسلمين، لذا من الحري بنا السعي لاكتساب جميع العلوم التي تعيننا على تحقيق أهدافنا الإسلامية ولا مجال هنا للتماهل في هذا الأمر المصيري »(1).

بعد أن ذكر تفاصيل مسهبة حول أهمية طلب العلوم النافعة، تطرق إلى الحديث عن العلوم الغربية والتطوّر الذي تحقق في رحابها، حيث سلّط الضوء على الموضوع من زاوية إيجابية باعتبار أنّ العلم ليس حكراً على فئة معينة من البشرية، فهو لا شرقي ولا غربي برأيه، وإنما يجسّد معرفةً توحيديةً ويأخذ بيد الإنسان لمعرفة دينه وربّه؛ لذا قال إنّ العلم بحدّ ذاته ذو شأن عظيم وقيمة كبرى ولا يمكن التغاضي عنه بتاتاً، بل لا بد من احترامه والتفاعل معه قدر المستطاع، وعلى هذا الأساس أولى احتراماً لبعض العلوم والاكتشافات الغربية التي من شأنها تطوير المجتمعات البشرية نحو الأفضل، ومن جملة أقواله في هذا الصدد ما يأتي:

-« ... استناداً إلى ما ذكر ، يمكننا استثمار كثير من الإنجازات العلمية التي تحققت في العالم الغربي ».(2)

ص: 244


1- المصدر السابق
2- مرتضی مطهري، شناخت (باللغة الفارسية)، ص 65

-«... ولكنّ هذا الأمر لا يعني عدم وجود مشتركات بين الفكرين الغربي والإسلامي في بعض القضايا الإنسانية، فالاختلاف في البنية الفكرية لا يعني التعارض في جميع القضايا وبشكل مطلق»(1) .

- «... وهذا يعني أننا لو لم نستورد من الأوروبيين سوى الجوانب التقنية والعلمية الناجعة، فسوف لا يهدّدنا أي خطر حينما نواكب تطوّرهم العلمي، لأنّ العلم علم ولا ضير فيه، ناهيك عن أنّ العلوم الأوروبية تعد امتداداً للعلوم الإسلامية، أي إنّ الثقافة في تلك الديار ثمرة للعلوم التي هي في الواقع حصيلة للثقافة الإسلامية الأصيلة». (2)

نستشفّ من هذه العبارات القيّمة وما شاكلها أنّ الشهيد مطهري ينظر إلى العلم والتقنية الأوروبية من زاوية إيجابية ولا يرى محذوراً من استثمارها بشكل صائب، فالعلوم المتطوّرة في البلدان الأوروبية بحدّ ذاتها لا تشكل خطراً على مجتمعاتنا الإسلامية فيما لو راعينا الأصول القويمة في الاستفادة منها؛ ومن ثم نستنتج أنه لا يعد الثقافة الغربية بعبعاً يؤرّق كياننا ما دامت تنصب في خدمة البشرية لكونها في الأساس مستوحاة من نفس العلوم التي دعا رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين إلى اكتسابها والانتهال من نتائجها الإيجابية. وعلى هذا الأساس أولى احتراماً كبيراً للسيد جمال الدين الأسد آبادي - الأفغاني - باعتبار أنه أدرك في زمانه تخلّف المجتمعات الإسلامية عن ركب الحضارة البشرية وابتعادهم عن مظاهر العلم والتقنية الحديثة فتصدى لهذه الحالة المزرية بكل ما أوتي من قوة؛ لذلك أكّد على أنّ هذا العالم المسلم أدرك المعاناة الحقيقية للمسلمين في عصره والتي تكمن بشكل أساسي في تخلّفهم عن قافلة العلم والحضارة ومن ثم دعا إلى وجوب كسب العلوم والتقنيات الحديثة كعلاج لهذه المعانة الأليمة، حيث قال: «أهم المشاكل التي عانى منها المسلمون آنذاك برأي السيد جمال الدين عبارةً عمّا يأتي؛

ص: 245


1- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري( باللغة الفارسية)، ص 90
2- مرتضى مطهري، حق وباطل (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، قم، ص 72

1 ) استبداد الحكام.

2) جهل معظم المسلمين بالعلم والثقافة وتخلّفهم عن ركب التطور الحضاري.

3) رواج المعتقدات الخرافية في المجتمعات الإسلامية، وابتعاد المسلمين عن إسلامهم الحقيقي.

ومن ثمّ شخّص العلاج لهذه المشاكل واقترح ما يأتي:

1) مكافحة استبداد المستبدين والظلمة.

2) التسلّح بالعلوم والتقنيات الحديثة.

3 ) العودة إلى التعاليم الإسلامية الأصيلة ونبذ الخرافات وجميع المظاهر المنحرفة التي أُلصقت بالإسلام على مر العصور.

4) التحلي بالتقوى والثقة بما لدينا من تعاليم إسلامية سمحاء.

ومن هذا المنطلق نجد الآثار العلمية لهذا العالم الجليل تزخر بالكتابات التي تمجدالإسلام الحقيقي الأصيل وتعكس صورته الحقة للمجتمع على صعيد تثمين مكانة العقل واحترام البرهنة والاستدلال، وأكد على أنّ التعاليم الإسلامية متقوّمةٌ في أساسها على كرامة الإنسان والثقة بقدرته على الرقي والتطور وبلوغ أرفع الدرجات المعنوية باستثناء النبوة، كما عدّ ديننا بأنه دين العلم والمعرفة».(1)

فضلاً عن السيد جمال الدين، فقد عد سماحته إقبال اللاهوري أيضاً بأنّه شخصيةٌ إسلامية محترمة وأطرى عليه لكونه شجّع المسلمين على طلب العلم الحديث ودعاهم إلى عدم التخلّف عن ركبه.

ص: 246


1- مرتضى مطهري، بررسي اجمالي نهضتهاي اسلامي در صد ساله اخير( باللغة الفارسية) ، منشورات صدرا، الطبعة الحادية والثلاثون، ص 23.

ثانياً: مخاطر العلموية

ذكرنا في المباحث الآنفة جانباً من آراء الشهيد مرتضى مطهري حول العلم والثقافة في العالم الغربي، حيث استنتجنا أنّه يعد العلم واحداً، وإذا كان نافعاً للبشرية فهو ضروري بحيث لا يجوز التماهل في طلبه سواء طرح في البلدان الشرقية أو الغربية، فالتعاليم الإسلامية السمحاء في القرآن والحديث أكدت على وجوب طلبه واكتساب معارفه النبيلة. لكنّه في الحين ذاته نبه على ضرورة عدم الانجراف وراء تلك العلوم الغربية التي تقطع الطريق على عالم الغيب الماورائي وتجعل المعرفة مادية بحتة، لذلك قال:« يجب أن يتواكب العلم والإيمان مع بعضهما البعض... إذ ليس من الممكن الاكتفاء بأحدهما وغضّ النظر عن الآخر، فلا الإيمان يحلّ محلّ العلم وكذلك لايمكن للعلم ملء الفراغ الحاصل من عدم الإيمان ؛والتجربة بدورها أثبتت أنّ الفصل بينهما له عواقب وخيمة وخسائر فادحة لا يمكن تعويض الضرر الناجم منها(1) .

ونلمس جلياً في متخلف نتاجاته الفكرية أنّه حدّر المسلمين من الانبهار بالتطوّر العلمي والتقني الذي حصل في أوروبا معتبراً أنّ العلم وحده ليس كافياً لتحقيق الرقي الحقيقي، ومن هذا المنطلق تصدّى للنزعة العلموية واستدلّ على عدم نجاعتها بأنّ كثيراً من البلدان التي أصبحت تابعةً للغرب باتت تعاني من مشاكل جمة لأن مفكريها تصوّروا أنّ العلم وحده هو الحل لجميع مشاكل البشرية؛ حيث قال: «لا شك في أنّ العلم علاج ناجع للجهل والفقر في إطار القوانين الطبيعية، ولكنه ليس حلاً لجميع صور معاناة البشرية كتلك التي تنشأ من الظلم والاستبداد والإرهاصات النفسية التي تؤرّق روح الإنسان وتكدر صفوه، فهو ليس سبيلاً ناجعاً لانتشال الإنسان من شعوره بالوحدة أو إنقاذه من كآبته واضطرابه؛ لذا لا صواب للنظرية التي تقوم عليها الفكر الغربي والتي عدّت العلم علاجاً لجميع مآسي البشرية ومشاكلها، ومن المؤسف هناك مفكرون في بعض المجتمعات المتأثرة بالثقافة الغربية يتصوّرون أنّ العلم هو مفتاح الحلّ لكلّ مشكلة»(2). وفي السياق ذاته انتقد النزعة العلموية في المجتمعات

ص: 247


1- مرتضی مطهري انسان و ایمان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة العشرون، ص 27 - 28
2- مرتضى مطهري تكامل اجتماعي انسان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثامنة، طهران، 1374 ه- ش (1995م)، ص 41 - 42.

الشرقية ووضّح هذه المعضلة قائلاً: «... هذا الأمر أسفر عن الفصل بين العلم والإيمان بزعم أنّ الإنجازات التي حققها الإيمان في العهود السالفة سوف تتحقق في هذا العصر تحت مظلة العلم الحديث، وثمرة هذه الرؤية الشاذة حدوث أزمة في المجتمعات الغربية، وهي في الحقيقة ليست ناشئةً من ذاته العلم، وإنما مجرد نتيجة طبيعية للنظريات الخاطئة التي طرحها الفيلسوف فرنسيس بيكون وأمثاله»(1) .

لقد أكّد سماحته على أنّ العلم بحدّ ذاته ليس وازعاً للمشقة ولا يثمر عن خلق أزمات للمجتمع كما أنّه لا يؤدّي إلى الانحراف الثقافي ولا يدعو إلى إطلاق العنان للقيم الإنسانية لتجاوز العرف والحدّ المعقول، فهذه المعضلات الاجتماعية وما شاكلها ناشئة من الأفكار التي روّج لها بعض الفلاسفة الغربيين من أمثال فرنسيس بيكون بزعم أنّ العلم قادر على اكتشاف جميع حقائق الكون سواء في الكرة الأرضية وفي المجرات السماوية أيضاً مما يعني قدرة الإنسان على الاستغناء عن سائر المعارف والعلوم الماورائية؛ بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وفنّدوا وجود جميع الأمور غير المادية بتقييد الحقائق بتلك الأمور المادية البحتة التي ندركها بحواسنا الظاهرية فقط لدرجة أنّهم استهانوا بالمفاهيم والقيم المعنوية النبيلة المرتبطة بعالم الغيب والحقيقة لأنها لا تخضع لمعايير الحسابات المادية.

لا شكّ في أنّ جدلية العلمنة قد تسببت في تأزيم أوضاع العلوم الغربية بعد أن أضفت عليها صبغةً ماديةً دنيويةً صرفةً، والشهيد مطهري حتى وإن لم يذكر اصطلاح (جدلية العلمنة) بهذا اللفظ، إلا أنّه ساق كلامه بشكل ينطبق مع دلالته بالتمام والكمال؛ حيث أكد على أنّ أعتى أزمة تعصف بالمجتمعات الغربية في العصر الحاضر تتمثل في الأزمة الروحية الناجمة من النزعة العلموية.

الاستعمار الغربي اجتاح مجتمعاتنا الشرقية تحت مظلة العلم والحضارة، وقد وصف الشيخ الشهيد هذه الظاهرة السلبية قائلاً: [الاستعمار الغربي] روّج لظاهرة

ص: 248


1- مرتضى مطهري ، فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، ص 250

الاغتراب الثقافي وجعل الشعوب المستعمرة في غربة عن ذاتها وأرغمها على التخلي عن معتقداتها بزعم أنّ الثقافة الغربية هي الحلّ الأنجع والسبيل الأمثل لتحقيق سعادة البشرية، وقد نجح في مساعيه هذه لدرجة أنّه أثر على بعض المفكرين المسلمين وجعلهم ينخرطون في ركب الحضارة الوافدة إليهم من الغرب بحيث زعموا أن المجتمعات الشرقية إن رامت التحضر والتطوّر فلا مناص لها من الغور في تعاليم الثقافة الغربية من رأسها حتى أخمص قدميها، ومن ثم ينبغي لها أن تجعل جميع قابلياتها الثقافية غربيةً من حيث الكتابة واللغة ونمط الثياب والتقاليد والطقوس والآداب والمعتقدات والفلسفة والفن والأخلاق»(1).

من المؤكد أنّ العلم حتى وإن كان واحداً في بلاد المشرق والمغرب، فهذا لا يعني أنّ النتائج التي يتم تحصيلها منه واحدةٌ ولا يدلّ على أنه يمكن أن يسخر لتحقيق مصالح مشتركة؛ وهو حسب أصول الثقافة الدينية يعدّ واحداً من السبل التي يجب الاعتماد عليها لتحقيق أهداف إنسانية، ولكنّه في الحين ذاته أدنى رتبةً من الإيمان الذي يُعد السبيل الوحيد لبلوغ السعادة الأبدية المنشودة.

إذن، العلم ليس سوى وسيلة يمكن الاعتماد عليها للنهوض بواقع المجتمعات البشرية وتحقيق السعادة والرفاهية لها على ضوء انخراطها في المبادئ الإنسانية المقدّسة لذا ليس من الحري يمكان تسخيره لمآرب مادية صرفة، في حين أن المجتمعات الغربية جعلت المادة هدفاً أساسياً لها وسخّرت العلوم كوسائل لتحقيق هذا الهدف في رحاب النزعة الإنسانية التي لا غاية لها سوى الإنسان بحدّ ذاته، فهي تؤكد على أنّ الحياة برمتها يجب أن تكون تحت إرادته وإشرافة ولا بد لها من تحقيق جميع ملذاته فحسب.

الأستاذ الشهيد في عين دعوته إلى ضرورة استثمار العلوم الحديثة بأمثل شكل وتأكيده على وجوب أخذ ما كان مفيداً منها، حذر من التبعات السيئة التي تترتب على بعض أنماط هذه العلوم وخصوصاً ما كان ذا تأثير سلبي على رؤية الإنسان بالنسبة إلى الدين ، والإنسانية ، فالعلوم الغربية برأيه تسوق وجهة البشرية نحو

ص: 249


1- مرتضى مطهري، بررسي اجمالي نهضتهاي اسلامي در صد ساله اخیر (باللغة الفارسية)، ص 31

الشؤون والملذات الدنيوية وتسفر في النهاية عن حدوث جموح مبالغ فيه؛ لذلك قال: «ينبغي لنا التعامل مع نمط الحياة الغربية بحذر، إذ لا بدَّ من تمييز الغثّ عن السمين فيها، أي إنّنا نقتبس من علوم الغربيين وتقنياتهم الصناعية ومظاهرهم الاجتماعية ما كان مثمراً وفيه نفعاً لنا مع اجتناب آدابهم وقوانينهم التي جرت عليهم الويلات وأزّمت أوضاعهم» (1)

إنّ هذا المفكر المسلم الفذ نظير طبيب بارع له القدرة على تشخيص الداء ومعرفة أسبابه بدقة فائقة ومن ثم تحديد العلاج الناجع له في كلّ آن ومكان، وذلك من منطلق اهتمامه البالغ بالتعاليم الإسلامية وإلمامه الكامل بالأصول الفلسفية وإدراكه الفريد المعتقدات الشريعة المحمدية الأصيلة؛ فقد عرف مكامن الخلل في الحياة الاجتماعية الغربية وتمكن من تتبع جذور الانحراف الفكري الذي يؤرّق الروح الإنسانية ويؤزّم أوضاعها، لذلك تصدّى بحزم لكلّ من انبهر بالثقافة الغربية وتصوّر أنّ التقنية الوافدة من تلك الديار هي

الحلّ الناجع لمشاكل المجتمعات الشرقية؛ ومما قاله في هذا المضمار : «يقول بعضهم إنّ عصر العلم والذرّة والأقمار الصناعية والسفن الفضائية هو عصر مثالي، ويعربون عن بهجتهم بأنّهم خلقوا فيه، لذلك يدعون إلى استثمار جميع علومه وتقنياته قدر المستطاع؛ ولكن هل حقاً أنّ جميع الينابيع المعرفية قد جنّت في هذا العصر باستثناء ينبوع العلم الحديث ؟! ويا ترى هل أنّ كلّ ما تحقق في هذا القرن يمكن عده حصيلة للتطوّر العلمي؟ أيمكن القول إنّ العلم قد توصل إلى أنّ الطبيعة قد سخّرت العلماء لصالحها بالتمام والكمال؟! بالتأكيد كلا، فالعلم لا يدّعي ذلك، إذ هناك كثير من العلماء المتدينين المخلصين يحققون إنجازات علميةً ويستكشفون كثيراً من الحقائق، إلا أنّ عبيد الدنيا وضعاف النفوس والمتصيدين في الماء العكر يصادرون هذه الجهود العظيمة ويسخرونها خدمةً لمآربهم الدنيئة.

نعم العلم على مر العصور يعاني من النزعة الاستغلالية الجامحة الموجودة لدى بعض الناس، وهذا البلاء العظيم نراه جلياً في عصرنا الراهن» . (2)

ص: 250


1- مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، ص 39.
2- المصدر السابق، ص 122

وأكد سماحته على أن استغلال العلم لمآرب دنيئة قد نجمت عنه كثير من الويلات و تسبّب في إعراض بعضهم عنه وعن إنجازاته العظيمة في حين أنّه مجرد وسيلة يمكن أن تقع بيد كلّ كائن كان مهما كانت توجهاته الفكرية وأهدافه، فإذا ما خضع لإمرة أشخاص يعدّون الإنسان هو الهدف والأساس للكون بأسره، فلا عجب حينها من أن يسخّر كوسيلة لإشباع النزوات الحيوانية والاستبدادية ومن ثمّ يصبح ذريعةً لإشاعة الفحشاء وتقوية شوكة الاستعمار وطغيان الظلمة والجائرين؛ في حين أنه إذا كان في متناول المتقين والمصلحين حقاً فسوف يمسي مصدراً للشرف والعزة والطمأنينة الحقيقية في الحياة؛ لذا قال في هذا السياق: استغلال العلم بشكل سلبي قد أدّى إلى نبذه من قبل بعضهم وتحرزهم منه، ولكن الحقيقة أنه سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن يستثمر للخير والشرّ على حد سواء؛ فهو إن كان بين يدي الأتقياء والمصلحين الحقيقيين سوف يكون وسيلةً لرقي المجتمع وسموه وصلاحه، لكنّه إذا ما وقع في براثن النفعيين وأتباع النزوات الحيوانية والمستعمرين، سيصبح وسيلةً للظلم والفحشاء والقتل ونهب خيرات الشعوب المستضعفة» (1).

وانتقد أولئك الذين انبهروا بالثقافة الغربية وقلّدوها تقليداً أعمى عاداً فعلتهم هذه ذريعة لتدنيس كرامة الإنسانية الحقة والدين والأخلاق، ووصفها بكونها تجاوزاً على قدسية المعتقدات الإسلامية؛ وعلى هذا الأساس شمّر عن ساعديه لمناقشتهم ودحض أباطيلهم بعد أن أثبت باستدلالات متقنة أنّ البشرية لا يمكنها مطلقاً الاستغناء عن الدين والإيمان بالله العزيز الجليل، فقد أكّد على أنّ شمس الدين لم ولن تغيب ولا يمكن أن تحجبها سحب ،الضلال والعلم وحده ليس من شأنه تلبية جميع متطلبات حياة البشرية في منأى عن التعاليم والمعتقدات الدينية.

الثقافة الغربية متقوّمةٌ في أساسها على النزعة الإنسانية، لذلك أكدت على أنّ العلم بجميع فروعه يجب أن ينصب في خدمة المصالح المادية للإنسان وحسب، حيث يعتقد الغربيون بأنّ البشرية لا سبيل لها سوى تحقيق جميع متطلباتها في

ص: 251


1- المصدر السابق، ص 39.

الحياة الدنيا على نطاق أوسع وإشباع رغباتها الشهوانية بشتى السبل ولا يحق لها أن تخالف دعوات النفس الحيوانية الجامحة أو أن تضع عقبات في طريقها؛ ولكنّ هذه الرؤية الشاذة سرعان ما انكشف زيفها، فالمجتمعات الغربية بنفسها لم تعد تعبأ بها بعد أن أدركت عدم نجاعها في تلبية متطلبات الحياة بأمثل شكل، وهذه هي الحقيقة بحذافيرها، فطبيعة الإنسان لا تشبع رغباتها بهذه الأطروحة المنحرفة ولا تشعر بالسكينة في رحابها ، وهو ما أكد عليه الشيخ الشهيد حينما قال: «لقد تصوّر [المفكرون الغربيون] أنّ الدين لا مكان له في عجلة التطوّر الحضاري التي لا تتوقف ولكنّ البشرية أدركت اليوم أنّ هذا التطوّر الذي شهدته المجتمعات الغربية على صعيد العلم والحضارة لا يمكنه أن يشبع رغباتها الدينية المشروعة؛ إذ من المؤكّد أنّ الدين حاجة ماسة لا يمكن الاستغناء عنها بوجه، وبالطبع فالفرد والمجتمع في هذه الحاجة سواء » .

المبحث الرابع: التوجهات الاستعمارية الغربية

بعد أن سلطنا الضوء على ماهية العلم والحضارة في المجتمعات الغربية وذكرنا ما ترتب عليهما من نزعات علموية متطرفة، لا نرى بأساً في الحديث عن النهج الاستعماري الذي اتبعه الغربيون في رحاب علومهم الحديثة وحضارتهم الجديدة.

طوال قرون عدة والبلدان الضعيفة تعاني أشدّ المعاناة من نير الاستعمار الغربي الذي يتعامل معها بأسلوب الترغيب والترهيب وينتهك حقوقها بشكل سافر، ونجد أنّ أرباب الحضارة البرجوازية الغربية يدافعون عن الحملات الاستعمارية ويمجدون إنجازاتها لكنّهم في الوقت ذاته يكتمون الدوافع الحقيقية لهذه الظاهرة الأليمة ولا يطرحون الفكر الاستعماري على طاولة البحث والنقاش، بل يتكتمون عليه بغية أن يبسطوا نفوذهم على نطاق أوسع بيسر وسهولة بالاعتماد على القابليات العلمية والإنجازات التقنية.

الشهيد مرتضى مطهري حذا حذو السيد جمال الدين الأسد آبادي - الأفغاني -

ص: 252

حيث عدّ السرّ في نجاح الغربيين بترويج ثقافتهم في بلدان المشرق الإسلامي يكمن في حملاتهم الاستعمارية التي تزامنت مع التطوّر العلمي والرقي الحضاري، لذلك صالوا وجالوا في البلدان التي استعمروها تحت شعار العلم والثقافة؛ وهذا الأمر لم يكن وليد الساعة، وإنما بادروا إلى دراسة أوضاع جميع الشعوب والمجتمعات النائية عنهم طوال أعوام متمادية لكي يتمكنوا من بسط نفوذهم بشكل رصين، ومن المؤسف أنّ البلدان التي خضعت لاستعمارهم لم تدرك هذا المخطط الدقيق والشامل. وفي هذا السياق نقل الشيخ مطهري كلاماً للمفكر المصلح مالك بن نبي، وفحواه: «المستعمرون تمكنوا من تسخيرنا بعلومهم ونحن غافلون عمّا يجري، والحق أنهم تعرفوا على جميع أوضاعنا بدراسات علمية في حين أننا لم نطلع على أوضاعهم بهذا الأسلوب؛ لذلك استغلوا مواقفنا الوطنية وحتى الدينية سواء علمنا بذلك أو لم نعلم به»(1).

إذن، لا مناص لنا من السعي لمعرفة حقيقة التوجهات الاستعمارية المتخفّية في نقاب العلم والتقنية حتى نعرف كيفية التعامل معها ونحصّن مجتمعاتنا من مساوئها وشرورها، ومن هذا المنطلق قال الشهيد مطهري : «الغرب في عصرنا الراهن يشحذ هممه ويسخّر جلّ طاقاته الثقافية والاقتصادية ضدّ بلدان العالم الثالث»(2)، وأضاف في هذا الصدد أيضاً: «الأمة الإسلامية تتعرّض منذ قرون إلى هجوم شرس من قبل الأعداء الغربيين الذين نهبوا خيراتها، ففي بادئ الأمر استهدفوا ثقافة المسلمين وأصولهم الأخلاقية والدينية، ثمّ بادروا إلى استنزاف مصادرهم المادية والاقتصادية ونهب خيراتهم ومن المؤسف هناك أمور قد مهدت الطريق لهذه الهجمة الشعواء وعلى رأسها سبات المسلمين العميق، لذا تزايدت الحملات الاستعمارية يوماً بعد يوم ومن ثم تحمّل المسلمون خسائر فادحة لا حصر لها » . (3)

ص: 253


1- أسعد السحمراني، مالك بن نبي انديشمند مصلح (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور صادق آيينه وند، الطبعة الأولى، طهران 1369 ه- ش (1990م)، ص 168.
2- مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ایران (باللغة الفارسية)، ص 40.
3- المصدر السابق، ص 41

لا شكّ في أنّ التعاليم الإسلامية التي تدعو إلى وحدة الصف واجتناب التفرقة، تقتضي بحد ذاتها طلب العلم، ومكافحة الفقر والحرمان، وعدم الخضوع للظلم والجور، ومراعاة حقوق النساء، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين، وما إلى ذلك من مبادئ سامية تنصب في خدمة الدين والمجتمع ؛ وهذه المبادئ هي التي أيقظت ضمائر المسلمين في الآونة الأخيرة، حيث أدركوا أنّ الاستعمار الغربي يناهض تعاليمهم الدينية ويسعى إلى اجتثاثها من الأساس؛ وفي هذا المضمار قال الشهيد مطهري: «... ومن جهة أخرى نلاحظ انبثاق نهضة شعبية في البلدان الإسلامية المستعمرة، إذ إنّ الشعارات التي ترفع في هذا الصدد والدعوات المخلصة للقيام ضد الظلم وضرورة التمسّك بعقيدة التوحيد المقدّسة، كلها دوافع لم تحرك ضمائر المسلمين فحسب، وإنما أحيت ضمائر جميع الشعوب المضطهدة وغرست في أنفس أبنائها النشاط والحيوية للانتفاض وتنفّس الصعداء»(1). وأضاف قائلاً: «يبدو أنّ الغربيين اليوم يلملمون قواهم ويجمعون حلفاءهم لأجل ضرب الإسلام من الصميم ومقارعة المسلمين بشكل غير عادل ومن هذا المنطلق بادروا إلى حياكة الدسائس والمؤامرات في كلّ آن ومكان بغية تجريد التعاليم الإسلامية عن مضامينها الحقة؛ ولكنّ هذه الحالة كان لها انعكاس إيجابي على أوضاع المسلمين، إذ أوجدت لديهم مشاعر مشتركة بالنسبة إلى الآلام التي يكابدونها، ناهيك عن أنها رسخت لديهم النزعة الوطنية إلى حد كبير؛ ومن ثم تمخض عن كل هذه النتائج تطوّر في شتّى الأصعدة وأدّت إلى إحياء الهوية الإسلامية من جديد»(2). وفي الحين ذاته حذر سماحته المسلمين من الانبهار بالإنجازات العلمية والتقنية التي حققها الغربيون كي لا نضطرّ إلى تقليدهم بشكل أعمى ، ومن المؤسف أنّهم استغلوا هذه الظاهرة غاية الاستغلال لتحقيق مآربهم الاستعمارية، حيث خدعوا بعض ضعاف النفوس الذين ساروا في ركبهم وحرّضوا الناس على التخلي عن أصولهم القيّمة ومعاييرهم الثابتة؛ لذا أكد قائلاً:« ينبغي لنا التعامل مع الحياة الغربية بحذر ، فلا ضير من الاعتماد على علوم الغربيين والاستفادة من صناعاتهم وتقنياتهم واستثمار بعض أصولهم الاجتماعية؛

ص: 254


1- المصدر السابق، ص 42.
2- المصدر السابق.

ولكن ليس من الحري بنا مطلقاً تقليد طباعهم أو اقتباس قوانينهم التي جرت الويلات

عليهم طوال قرون من الزمن»(1)

خلاصة البحث:

الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري( رحمه الله) يعدّ واحداً من الفلاسفة المسلمين الذين لم ينظروا إلى الأصول الفلسفية الإسلامية من زاوية واحدة وبرؤية إيجابية بحتة، بل سلّط الضوء عليها في إطار نقدي أيضاً، وعدّ العلوم غير الفلسفية التي تطرح مواضيعها تحت مسمّيات فلسفية بأنّها عديمة الفائدة، إذ إنّها بدل أن تقدّم خدمةً للبشرية فهي تعقم متبنياتها الفكرية.

ولقد اعتمد على أصول العلوم الفلسفية لدراسة وتحليل ماهية العالم الغربي وتحليله بدقة فائقة، حيث سلط الضوء بشكل أساسي على متبنياتهم العقائدية وتوجهاتهم الفكرية بغض النظر عن سائر القضايا بهدف بيان واقع نظرياتهم الفلسفية، لذا تمكن من تشخيص تلك الآراء المخرّبة والأفكار الهدّامة على وفق أسلوب هو الغاية في الدقة والإنصاف، ومن ثمّ وضّح لمخاطبيه كيفية إقامة ارتباط بين الفكر والعمل من جهة، والعقيدة والتكليف من جهة أخرى.

أكد هذا المفكر المسلم الفنّ على أنّ الفكر المادّي الذي طغى على نظريات العلماء الغربيين بشتى مشاربهم وتوجهاتهم ، أدى إلى تجريد المجتمعات الغربية من هويتها الإنسانية الحقة، لذلك لم يترعرع الإنسان الغربي وهو يتبنّى أهم القيم الإنسانية الحقة، لذا لا معنى في حياته للعفّة والغيرة والعزة والإيثار، وما إلى ذلك من مفاهيم أصيلة لا يمكن التخلي عنها بوجه.

ومن خلال اعتماده على التعاليم الدينية الحقة دافع عن العلم من حيث كونه علماً مطلقاً، وعلى هذا الأساس عدّ كلّ نمط من أنماطه مطلوباً في الشريعة الإسلامية سواء كان دينياً أو تجريبياً شريطة أن يكون نافعاً للبشرية؛ لذا فلا ضير من اقتباس

ص: 255


1- مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در الإسلام (باللغة الفارسية)، ص 39.

بعض العلوم من العالم الغربي فيما لو تحقق هذا الشرط فيها. ولكنه مع ذلك حدر من ماهية العلم الغربي الحديث الذي يحرم الإنسان من فيض الغيب والعلوم الماورائية ويشوّه القيم الدينية في مخيلته، حيث عدّ هذه الحالة بأنّها مرض عضال ولا بد من العمل على صيانة المجتمع من عواقبه الوخمية؛ ومن هذا المنطلق انتقد التبعية التامة للثقافة الغربية وتقليدها بشكل أعمى ، ودعا أبناء المجتمعات الشرقية إلى عدم الغفلة عن مساوئها والنوايا الشيطانية التي يضمرها المروجون لها لكونها تجرد الإنسان عن إنسيانته وتحرمه من دينه فمن هنا تستفحل معضلة المادية الأخلاقية وينشأ الانحراف العقائدي ومن ثَمَّ تتزعزع العلاقات العاطفية بين البشر ويصبح الإنسان مجرد ماكنة متحركة بشكل آلي، ويسود الفساد الأخلاقي في المجتمعات وتنهب خيرات الشعوب المستضعفه، والأعتى من كلّ ذلك هو التغاضي عن الله عزّ وجلّ وتهميشه من الحياة العملية بالكامل.

المسألة الهامة التي أكد عليها الشهيد مرتضى مطهري مراراً وتكراراً في مؤلفاته تكمن في ضرورة معرفة حقيقة المدّ الثقافي الغربي في المجتمعات الشرقية، حيث عادةً ما يسعى المروجون له بالتخفي وراء شعارات العلم والحضارة والرقي المادّي، ومن ثمّ ينهبون خيرات هذه المجتمعات تحت ذريعة التنمية والعمران.

مصادر البحث:

1) أسعد السحمراني، مالك بن نبي انديشمند مصلح (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور صادق آيينه وند، الطبعة الأولى، طهران، 1369 ه- ش (1990 م).

2) محمّد بن يعقوب الرازي الكليني أصول الكافي، الجزء الأول، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الخامسة ، طهران، 1362ه- ش (1993م).

3 )مرتضى مطهري، شناخت (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الخامسة عشرة، قم 1380ه- ش (2001م).

4 )مرتضى مطهري، مجموعه آثار استاد شهید مطهري (باللغة الفارسية)، الجزء

ص: 256

14 ،منشورات صدرا، الطبعة الثالثة طهران ،1377ه- ش (1998م).

5 ) مرتضی مطهري، انسان و ایمان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة العشرون طهران، 1381 ه- ش (2002 م).

6) مرتضی مطهري پيرامون انقلاب اسلامی (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة العاشرة ، قم ، 1373 ه- ش (1994م).

7) مرتضى مطهري تکامل اجتماعى انسان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثامنة طهران، 1374 ه- ش (1995م).

8 ) مرتضى مطهري علل گرایش به مادي گري باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة عشرة ، طهران، 1372 ه- ش (1993م).

9) مرتضى مطهري فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة والعشرون ، قم، 1381ه- ش (2002م).

10) مرتضی مطهري، انسان و سرنوشت (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا ،الطبعة الثانية عشرة ، طهران، 1372 ه- ش (1993م).

11) مرتضی مطهري، بررسی اجمالي نهضتهاي صد ساله اخير (باللغة الفارسية)،منشورات صدرا، الطبعة الخامسة والعشرون ، قم ، 1378 ه- ش (1999م).

12) مرتضی مطهري، نبرد حق وباطل (باللغة الفارسية، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، قم، بلا تأريخ طباعة.

13) مرتضی مطهري، ده گفتار (باللغة الفارسية، منشورات صدرا، الطبعة الثامنة عشرة، قم، 1381 ه- ش (2002م).

14) مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة والثلاثون طهران 1381ه- ش (2002م).

ص: 257

15 ) مرتضى مطهري بیست گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة السادسة، طهران 1369 ه- ش (1990م).

16 ) مرتضى مطهري، اخلاق جنسي (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، قم، بلا تأريخ طباعة.

17) مرتضی مطهري پانزده گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثانية، قم، 1381ه- ش (2002 م).

18) وصية الإمام الخميني (باللغة الفارسية).

ص: 258

الفلسفة التطبيقية بين الشرق والغرب عند الشيخ مهدي الحائري اليزدي

اعداد : هاشم الميلاني

اعداد : هاشم الميلاني(1)

نبذة عن المؤلف:

ولد الشيخ الدكتور مهدي الحائري اليزدي عام 1302 ه- ش بمدينة قم، وهو نجل المرجع الديني الكبير الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية بمدينة قم.

درس الدروس الحوزوية على كبار الاستاذة والمراجع، فحضر في الفقه والاصول عند السيد البروجردي ، والسيد محمد حجت کوه كمري، والسيد محمد تقي الخونساري، كما درس الفلسفة الاسلامية عند السيد الخميني، والسيد احمد الخونساري، والشيخ مهدي الآشتياني الى أن نال درجة الاجتهاد على يد السيد البروجردي رحمه الله.

ارسله السيد البروجردي عام 1339 ش مندوباً عنه الى اميركا، وكانت هذه الرحلة بداية اطلاعه على الغرب والفلسفة الغربية حيث تمكن في رحلته الثانية من اخذ الماجستير من جامعة مشيغان ثم انتقل الى كندا ودرس الفلسفة التحليلية وأخذ الدكتوراه من جامعة تورنتو .

ألّف مجموعة من الكتب تدور اكثرها حول المسائل الفلسفية برؤية تطبيقية بين الفلسفة الشرقية والغربية من أهم كتبه مباحث العقل النظري، مباحث العقل العملي،

ص: 259


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العراق، النجف الأشرف.

هرم الوجود العلم الحضوري، تقارير بحوثه حول الفلسفة التحليلية، وبعض الكتب والدراسات الاصولية (علم الاصول)، توفي عن عمر ناهز (76) سنة، عام 1377 ه-.ش.

اهمية الفلسفة:

تحتل الفلسفة عند الشيخ الحائري مكانة مرموقة حيث يجعلها ام جميع العلوم: ((الفلسفة أساس وعماد جميع الظواهر الانسانية انها عماد الاقتصاد، السياسة والعدل الاجتماعي انها اساس جميع الأمور اذا لم تكن لكم فلسفة لم يكن لكم مجتمع ...إذا لم يتم ابتناء أي فكر سواء اكان اقتصاديا ام سياسيا ام تجاريا ام أي شيء آخر حتى الرياضيات على الفلسفة فمن المستحيل أن يدوم ذلك الفكر ... فأيّ نظام لم يتكئ على فلسفة سيحكم عليه بالفناء))(1).

لذا ينطلق من هذا المنطلق ويبدأ بالبحث والتنقيب، وبما أن الفلسفة تنقسم الى نظرية وعملية، قسّم المؤلف بحوثه وكتبه ايضا بهذا التقسيم حيث تطرق في بعضها الى مسائل العقل النظري وفي بعضها الآخر الى مسائل العقل العملي.

الفلسفة الاسلامية:

عندما يؤكد المؤلف على الفلسفة فإنه ينظر من منظار الفلسفة الاسلامية حيث يعتقد بأنّها مع اسلوبها وانتظامها الخاص يلزم أن تعرف على العالم المعرفي المعاصر كي تنال مكانتها الممتازة، وتستعيد موقعها المتقدم حتى أمام أرقى وأحدث المدارس الفلسفية المعاصرة، مضافاً الى أن آراء حكماء الاسلام بالقياس الى أفكار متفلسفة الغرب أقرب الى اسلوب النظم العقلاني البشري (كاوش هاي عقل نظري: - 21) ناهيك عن أن بعض المسائل الفلسفية العويصة تم حلها على ضوء الفلسفة الاسلامية تماما، كما هو الحال في مسائل نظرية المعرفة او فلسفة العلم(2). وأن طرق التعليم في الفلسفة الاسلامية من الدقة والعمق بمثابة يصعب سبر اغوارها على الأقربين فضلاً عن الأبعدين(3).

ص: 260


1- (متافيزيك 28)
2- (جستارهاي فلسفي : 396)
3- (متافيزيك :102)

الفلسفة الغربية :

انّ الشيخ الحائري درس الفلسفة الغربية من معينها حيث أخذ الليسانس والماجستير والدكتوراه من امريكا وكندا ودرس عند كبار فلاسفة الغرب، لذا كان يرى القوة والتطور في المنظومة الفكرية الغربية(1) لاسيما مسألة المنهجية وأهميتها عندهم(2)

ثم انّه يقسّم فلسفة الغرب الى الفلسفة الكلاسيكية التي ورثوها من اليونان، والى الفلسفة الجديدة التي ظهرت بعد عصر التنوير حيث حاولت تقييد الفلسفة الكلاسيكية بالعلم(3) ثم ان الفلسفة الجديدة ايضا تنقسم الى:

فلسفة قارة اروبا عدا بريطانيا حيث يدخل تحتها: ديكارت، كانط، اسبينوزا، هيغل، هايدغر، روسو وسارتر ، وقوام فكرهم المثالية (ايدئاليزم).

الفلسفة التحليلية المتداولة في دول الانجلوساكسونية وقوام فكرهم الواقعية (رئالیزم)(4).

إنّ الشيخ الحائري يشكو من عزوف الغرب عن الفلسفة الاسلامية رغم الايجابيات الكبيرة الموجودة فيها ، ويعزو ذلك الى جناية المستشرقين امثال هانري كوربان، حيث يعتقد أنّ هذا الأخير اخرج الفلسفة الاسلامية عن الفلسفة وادخلها ضمن العلوم غير العلمية وغير الدقيقة (أي تئوزوفي)(5).

من هذا المنطلق يدعو الدكتور الحائري الى فتح باب الحوار بين الفلسفة الاسلامية والفلسفة الغربية للاستفادة المتبادلة، ويقول بهذا الصدد: ((اني أعتقد بأننا لابد من أن نتمكن من اقامة علاقة مع الغرب، علاقة عميقة وبنيوية، لأن العلاقة

ص: 261


1- (متافيزيك: 102)
2- (جستارهاي فلسفي :395)
3- (متافيزيك : 24-25 )
4- (كاوش هاي عقل عملي : 21)
5- (جستارهاي فلسفي :433)

الظاهرية لا تنفع لابد أن تكون علاقتنا بمستوى نتمكن منها سبر أغوار البنى الفكرية الغربية والتعرف عليها من جهة، ومن جهة ثانية نعرض عليهم البنى الفكرية الاصيلة التي عندنا لابد من معرفة اقتصاد وتقنية الغرب على ضوء بناه الفكرية والفلسفية والأ فالعلاقة الظاهرية فضلاً عن أنّها لا تنفع بل تكون مضرّة)(1)) .

فدعوته هذه كانت تنصب على فتح ابواب التفاهم بين الفلسفة الشرقية والغربية (2) لأنه كان يعتقد بعدم وجود فرق بنيوي كبير بين الفلسفتين، فعلى سبيل المثال فانّ ما طرحه كانط حول مباحث الوجود يتقارب في كثير من الجهات مع مباحث الوجود والمعرفة في الفلسفة الاسلامية، ومع ما طرحه صدر المتألهين حول القضايا الحملية، مضافاً الى أنّ الوجود الذهني في الفلسفة الاسلامية هو نفسه مباحث فلسفة العلم(3).

كما يشير في مكان آخر الى تطابق رأي الاخوند الخراساني في كتابه كفاية الاصول حول مباحث الالفاظ مع آراء فتجنشتاين(4) أو تطابق كلام ديفيد هيوم حول نفي العلية الطبيعة مع ما ذكره ابن سينا في الشفا والاشارات(5) او فتح باب التفاهم مع فلسفة هيغل ومقايسته مع بعض فلاسفة الاسلام الكبار(6) .

ناهيك عن انّه كان يرى انّ ما ضيعه الغرب ولم يصل اليه هو مباحث الالفاظ في علم اصول الفقه إذ يقول : ((قد توصلت بشكل جاد في ضوء دراساتي أنّ هذا العلم (مباحث الالفاظ )المبحوث عنه في الاصول يفيدهم كثيرا لاسيما بهذه الطريقة والمنهجية الخاصة، أنّه سيكون منشأ للتكامل الفكري عند الغربيين وموجباً للتحول)(7) .

ص: 262


1- (جستارهاي فلسفي :431)
2- (شرح اصول كافي: 107)
3- ( هرم هستي:169 -170)
4- (الفلسفة التحليلية:106)
5- (هرم هستي: 120 )
6- (کاوش هاي عقل نظري:210)
7- (جستارهای فلسفی :432 )

كما لا يفوته أن ينتقد ما أصاب الفلسفة الغربية من تخلّف جرّاء عزوفهم عن ما بعد الطبيعة، اذ يرى أنّ الأزمة التي أصابت ما بعد الطبيعة في المجاميع العلمية، هي أنّهم أرادوا تقييم علوم ما بعد الطبيعة بمقاييس العلوم الطبيعية والرياضية، ويحاولون إبداع فلسفة جديدة من المبادئ الحسية أو الأرقام الرياضية، فهذا الأمر لو اقتصر على الالفاظ والمصطلحات وتم استبدال الأرقام مكان الألفاظ لم يكن سوى نوع جديد من الترجمة الجديدة ومبادلة للألفاظ، أما لو كان استبدالاً حقيقياً لانمحقت الفلسفة وصارت علماً من العلوم، ونتيجة هذه المغالطة امتزاج العلوم وتوقع صدور أيّ نتيجة من أي مقدمة من دون وجود اي سنخيّة بينها، هذه دون وجود اي سنخيّة بينها، هذه هي المغالطة الفلسفية

الجديدة والفكر الجديد الذي سرى في جميع شؤون الحضارة البشرية(1)

لكن الفلسفة الاسلامية خلصت من هذا التشتت والانحراف الفكري الذي أصاب ،الغرب، انّ فلاسفة الاسلام بعدما عرفوا من جهة انّ الفلسفة إذا كان معناها العلم بحقائق الأشياء ولا داعي لها سوى الوقوف على الحقيقة والعلم بها، ومن جهة ثانية عرفوا أنّ الدين الاسلامي هو دين الفطرة ودين الحق المنطبق على حقائق الطبيعة والكون خرجوا بنتيجة عدم امكان وقوع الخلاف بينهما بالمآل عدا الخلاف في المنهج والتفسير(2).

الفلسفة التطبيقية :

بعد هذا العرض السريع لكلا الفلسفتين والشكوى من تباعدهما يرى الدكتور الحائري ان الحل هو الفلسفة التطبيقية، إذ يقول : ((قد توصلت بعد البحوث التطبيقية الى أنّ الفلسفة الغربية والفلسفة الاسلامية لم يكونا في قطبين متخالفين كما هو الشائع))(3) لذا يقوم بمقاربة الامور من وجهة نظر تطبيقية لرفع التعارض.

وعند شرحه لهذه المنهجية يقول: ((انّ معنى الفلسفة التطبيقية هو تنسيق المفاهيم

ص: 263


1- (م ن:7-8)
2- (متافيزيك: 27)
3- (کاوشهاي عقل نظري:45 )

والمصطلحات الفلسفية لدى كلا النظامين الفلسفيين في الشرق والغرب))(1) والمنهجية المتبعة عنده أن يحرّر مسائل وقضايا الفلسفة عند الغرب من خلال المصطلحات المستعملة في الفلسفة الاسلامية، ثم يدخل في ماهية البحث ويعقد مناظرة وجدلاً

بين واحد من فلاسفة الغرب وواحد من فلاسفة الشرق ليخرج بنتائج تطبيقية . وهذا لا يعني الخروج بنتائج ايجابية دائما، إذ لا يدعي أحد عدم وجود أي خلاف نظري بين الفلسفتين إذ الخلاف من لوازم التحقيق والاجتهاد فكما يوجد يوجد خلاف بين فلاسفة الاسلام أنفسهم فوجوده بينهم وبين غيرهم أولى، لكن رغم هذا الخلاف لابد من أن تلحظ مسائل العقل النظري في كلا المدرستين باسلوب واحد سواء اتفقا ام اختلفا(2).

الشواهد والمصاديق:

لا يخلو كتاب من كتب الشيخ الحائري من المباحث التطبيقية بين الفلسفتين، ولا يمكننا هنا التفصيل والنظرة الشاملة ولكن نحاول أن نسلّط الضوء على أهم المسائل التي ذكرها وعالجها مراعين الاجمال والاختصار.

معرفة الوجود:

لقد طرح الدكتور الحائري في كتابه (هرم الوجود) نظرية (وحدة الوجود المنطقية) وبنى عليها جميع نظرياته: (( نظريتنا هذه في معرفة الوجود التوحيدي التي بيناها بشكل هرمي للوجود، تعد المبنى والاساس لجميع نظرياتنا وأرائنا في مباحث معرفة الكون والاجتماع والانسان، وحقوق الانسان، والسياسة، ومباحث النفس.ومن هذا المنطلق مضافاً الى التغلّب على كثير من المصاعب العقلية والفلسفية المعقدة، تمكنا أيضاً من تحليل الرابطةالوجودية للنفس، والمبادئ العالية، والجسم، والظواهر الجسمية، والجوامع الانسانية مع مبدأ الخلق، وكذلك علاقة الناس بعضهم

ص: 264


1- (فلسفة تحليلي:203 )
2- (م ن:45-46)

ببعض)) (1)وفي البدء يجعل الوجود هو المبدأ الأول للمعرفة والعلم بأي شيء آخر، وعليه لا يمكن تعريف الوجود بل يرتسم معناه في الذهن من دون أي واسطة أو شرح وتوضيح ، اذاً معرفة الوجود تعد مبدأ المبادئ لجميع المعارف الاخرى (2).

نعتقد انّ الاجانب أخطأوا خطأ كبيراً في فهم تقسيمات ارسطو حول الوجود، إنّ ارسطو يقسّم الوجود الى اقسام تجريبية من خلال الامثلة وذكر المصاديق، وفي الواقع لا يعد هذا تقسيماً حقيقياً بل إعطاء الحكم بالمثال، لكن زعم الغربيون انّ ارسطو بصدد تفسير وتقسيم المعنى الحقيقي للوجود فوقعوا في مغالطة أخذ ما بالعرض بدل ما بالذات أو مغالطة المفهوم والمصداق، فزعما انه يذكر المعنى المنطقي للوجود وغفلوا انّ استعمال الألفاظ في المفاهيم المنطقية يختلف عن استعمالها في المصاديق(3)

قسّم حكماء الاسلام الوجود أي الموجود هنا الى:

الوجود المحمولي المستقل (الوجود النفسي).

الوجود الناعتي (الرابطي).

الوجود الرابط المحض.

الوجود المحمولي المستقل هو الذي يقع محمولاً حقيقياً في القضايا: (الله موجود)، اما الوجود الناعتي او الرابطي فهو الذي لا استقلال له في العالم الخارجي، واذا أراد أن ينوجد في الخارج لابد أن ينوجد ضمن موضوع آخر مثل الاعراض.

أما الوجود الرابط فهو النسبة والرابطة بين الموضوع والمحمول وليس له اي استقلال حتى في الخيال، فلو أمكن تعقله بشكل مستقل لزم الخلف وخرج عن كونه رابطاً(4).

ص: 265


1- ( هرم هستي: 7 - 8 )
2- (م ن:11)
3- (م ن:13-14)
4- (م ن :16،36)

أما كانط فقد انكر الوجود المحمولي وقال أنه محمول غير حقيقي بمعنى ان الانسان يتمكن من حمل كثير من الامور على شيء آخر من دون أن يكون له حقيقة عينية في الخارج، فعند كانط لا يوجد في الخارج شيء بازاء الوجود، فالوجود ليس الا رابطاً محضاً، مثلاً لو تصورنا مائة دولار وقمنا بتعريفه فالوجود العيني لمائة دولار لا يختلف عن وجوده الذهني، فمائة دولار مائة دولار سواء كانت في الخارج أم في الذهن (فالوجود) الخارجي لها لا يضيف عليها شيئاً اطلاقاً، ولو أضاف (الوجود) على مائة دولار ولو سنتاً لأصبح شيئاً آخر وخرج من كونه مائة دولار، وهذا دليل على ان (الوجود) الخارجي لم يكن محمولاً حقيقياً إذ لم يضف أي شيء على المفهوم.

وكذلك لو قلنا عندما نعرف الله تعالى بانّه القادر العالم، فبعد هذه التعاريف وبعد جمعها في ذات واحدة نقول: (الله موجود) فهذا الوجود في هذه القضية لم يضف على تلك الصفات صفة أخرى، وهو مجرد رابط بين الله وبين تلك الصفات ولم يكن محمولاً حقيقياً(1).

وقد تسالم على هذا الرأي اكثر علماء ،الغرب، وزعموا ان الوجود لم يضف أيّ شيء على الموضوع، ومن هذا المنطلق أسّس كانط مسألة (نومينو) و(فنومينو) وذهب الى اننا نتمكن من معرفة الامور التي تقع محمولاً في القضايا ونستطيع أن نجعل لها من خلال التجربة ما بازاء خارجي، لذا انطلق الفنومنولوجيون من هنا وقالوا بان المعرفة والعلم يتعلقان بما يمكن تجربته اما الامور المجردة لا نتمكن العلم بها ولا تدخل في الحقائق، وتبعه رسل في نظرية الاوصاف وكذلك كواين(2).

ونقول في الجواب: لو علمنا انّ الشيء موجود في المكان الفلاني لحصل اضافة في علمنا وإن لم تحصل اضافة لماهية الموضوع إذ من غير اللازم وجود ما بإزاء في الخارج للمحمول دائما، بل ان مجرد هذه الاضافة العلمية تكفي

ص: 266


1- ( م ن : 38 - 29)
2- ( م ن : 30 - 31 )

لجعل الوجود محمولاً حقيقياً للموضوع (1)

فالوجود وإن لم يضف شيئاً على الماهية في التحقق الخارجي لكنه يضيف علمنا، فلو علمنا بوجود الله او النفس، فوجود هذه الحقائق وإن لم تضف على ماهيتها شيئا لكن تضاف على علمنا وتتوسّع رقعة معلوماتنا حول حقائق الكون سواء في القضايا التجريبية أم الفلسفية والرياضية(2).

ونقول ايضاً : ان الرابط على ما قال كانط لا حقيقة له ولا استقلال بل لابد أن يكون بين شيئين، فلابد من وجود (إله) حتى يقال انه (عالم) والا لم يصح الربط، فالوجود الذي تحقق للخالق والوجود الذي تحقق للعالم وجود محمولي، فمن هنا نعرف انّ الوجود لم يكن رابطاً محضاً بل الوجود لابد أن ينتهي الى وجود محمولي لا محالة كي تصدق نسبة الربط (1)

الوجود والماهية

ذكر الدكتور الحائري انّ البحث عن الوجود والماهية من الامور الرئيسة سواء في الفلسفة الكلاسيكية أم الفلسفة الغربية الحديثة وذلك اولاً: للتعرف على كيفية سريان الوجود في الماهيات والمعروف في المحافل العلمية ب- (انطولوجيا) وثانياً : مسألة مبدأ الوجود والوجود المطلق حيث يلزم تنزيهه عن هذه العلقة التركيبية بين الوجود ،والمادة، فالبحث عن تقدم الوجود على المادة وكذلك العلقة بينهما من المسائل البنيوية في الفلسفة(3)

هذا وقد أثارت مقولة ابن سينا في عروض الوجود للماهية جدلاً كبيراً في الساحة الاسلامية والغربية على السواء، فاعترض ابن رشد علی ابن سينا وعد مقولته تلك من الزلات، وكذلك البروفسور جلسون وغيره من مفكري الغرب؛ لأنّ الوجود لو

ص: 267


1- م ن : 32
2- (م ن:46-47)
3- (متافيزيك : 102- 103

كان عارضاً على الماهية لزم أن تكون الماهية (المعروضة) قبل وجود العارض وهذا توقف للشيء على نفسه او تسلسل غير متناه للوجود وهو محال عقلاً(1).

-ثم ينبري الدكتور الحائري للاجابة عن هذه الشبهة ويعزو طروّها للخلط الواقع عند مفكري الغرب في فهم معنى (العروض) حيث أن له معاني عدّة تختلف باختلاف المورد والعلم الذي يُستعمل فيه، وعدم التمييز بينهما يوقع الانسان في مغالطة الاشتراك اللفظي . فالعرض المستعمل في البرهان يختلف عن المستعمل في المنطق، وهذا ما خفي على مفكري الغرب(2) .

- والحل هو ان الوجود لم يكن جزءاً تركيبياً مع الماهية، بل انه يلحق ويضاف للماهية كي يخرجها من العدم الى الظهور ، فهذا الالحاق وهذه العلقة المفهومية عبر عنها ابن سينا وسائر فلاسفة الاسلام بالعروض او الاضافة والزيادة(3).

- ثم انّ من المسائل المتفرّعة من اصالة الوجود واعتبارية الماهية انّ الوجود متقدّم على الماهية، هذه القاعدة تكررت كثيراً على لسان اصحاب اصالة الوجود في العصر الجديد من دون تحقيق منهم في كيفية هذا التقدّم والتأخر، وهذا الأمر من أهم النقائص الموجودة في الكتب الفلسفية الحديثة، فالوجوديون بأي قاعدة حسية او تجريبية تمسكوا ليشاهدوا انفكاك الماهية عن الوجود وتقديم أحدهما على الآخر؟! غاية ما يذكره سارتر في مباحثه حول تقدم الوجود على الماهية لا يتجاوز الاستحسان وغير معتمد حتى عندهم.

- إنّ سارتر وسائر الفلاسفة المعاصرين تجنبوا الخوض في اصول فلسفتهم وكلياتها خوفاً من الاتهام بحياكة الخيال والخوض في المسائل المجردة، فبنوا فلسفتهم على مبان واسس لم تثبت.

- ثم ينقل الحائري مقطعاً عن سارتر في رسالته عن الوجودية حول تقدّم الوجود

ص: 268


1- (متافيزيك : 121 - 122)
2- (متافيزيك :125 - 129 )
3- (ميتافيزيك:132)

على الماهية، من اننا نرى في المعمل آلة لقص الأوراق وهذه الآلة واقعية وخارجة عن الذهن، ونحن نعلم أنّ صانعاً صنعها بهذه الكيفية وهذه الخصائص، ونعلم انّ صانعها كان له تصور عنها في ذهنه قبل أن يصنعها، فماهية هذه الآلة - أي وجودها الذهني- متقدم على وجودها الواقعي، فهذا الامر كان سائداً عند اكثر الفلاسفة سابقاً لاسيما كانط وبهذه الطريقة يثبتون نسبة الكون مع خالقه المعتمدة على تقدم الماهية على الوجود.

- ولكن قد اتفق الوجوديون - رغم اختلافهم فيما بينهم على هذا الاصل الموضوعي الدال على تقدّم الوجود على الماهية ولا يصح قياس الكون على معيار الصانع والمصنوع لانّ المتحقق العيني والمتقدّم على جميع الاشياء هو الوجود.

-وفي مقام الرد على كلام سارتر يرى الدكتور الحائري:

هذا الكلام قياس بسيط بين آلة قص الورق والكون ، وليس دليلاً قاطعاً ولا منطقياً ولا يمكن اثبات الاصول الفلسفية على القياس.

لو سلمنا لهذا القياس البسيط ستكون النتيجة تقديم الوجود الذهني لهذه الآلة على وجودها العيني، اما بالنسبة الى ماهية الاشياء والكون نعكس الأمر ونقدم الوجود العيني للأشياء على وجودها الذهني، ولكن هذا القياس يثبت لنا فقط الفرق بين العلم الفعلي والعلم الانفعالي ولم ينظر بتاتا الى مسألة تقدم الماهية على الوجود او الوجود على الماهية ، فسارتر اذا أخطأ خطأ كبيراً في مسألة الوجود من جهة، ومسألة الوجود الذهني والماهيات من جهة ثانية.

لو سلمنا ما ذكره الوجوديون المعاصرون في كلا المسألتين وقلنا طبقاً لقياسهم أنّ الوجود مقدم على الماهية ، ولكن يبقى السؤال عن كيفية هذا التقدم، وهذا ما لم يجيبوا عليه.

لكن طبقاً لأصالة الوجود في الفلسفة الاسلامية يتم الاجابة عن جميع هذه

ص: 269

المسائل، بانّ ما له تحقق واقعي خارج جميع الاعتبارات والصور الذهنية انما هو الوجود، وما لا وجود عينياً له لا حقيقة له ومعدوم، وطبقاً لهذا الأصل يقدّمون الوجود على الماهية وانّه تقدّم بالحقيقة، ومعنى التقدم والتأخر بالحقيقة هو - طبقاً لأصالة الوجود انّ التحقق العيني لجميع الاشياء يكون بالوجود والوجود متقدّم قهراً على الماهية في اتصافه بالحقيقة العينية لان صفة (الحقيقة العينية) التي تنضح عن الوجود الذي هو منبع تحقق الماهيات ذاتية وحقيقية للوجود وعرضية للماهيات وغير حقيقية هذا الاتصاف الحقيقي والعرضي يطلق عليه في الفلسفة بالتقدم والتأخر(1)

3-- اثبات وجود الله تعالى:

-طريقة فلاسفة الغرب

- يُعد دليل الوجود من أتقن ادلة علماء الغرب في اثبات الصانع وهو الوصول الى

ضرورة وجود الله عن طريق تصوّر مطلق الوجود.

- ومن مميزات هذا الدليل عند علماء ما بعد الطبيعة في الغرب انّه لا يتعلّق بأيّ علم من العلوم الطبيعية ؛لانّ تصور الموضوع يوصلنا الى اثبات المطلوب، فأطلقوا عليه العلم المتعالي او المعرفة المتعالية، هذا ما دافع عنه امثال آنسلم القديس وديكارت واسبينوزا وخالفهم الحسيون وقالوا انه مردود لانه لا يرتبط بنحو من الأنحاء بالتجربة والحس.

- يعد انسلم القديس من أهم المتحمسين لهذا الدليل وزعم ان كل من تمكن من تصور معنى (الله) و(الوجود المطلق) تصوراً صحيحا أذعن لامحالة بضرورة ذلك، ومن هذا المنطلق يبدأ بالتنظير لتوضيح هاتين المفردتين(2)

- يقول في مقام تعريف الله:( ان الله هو ذلك الموجود الذي لا يمكن افتراض

ص: 270


1- (كاوش هاي عقل نظري : 179 - 183 )
2- ( كاوش هاي عقل نظري : 303 - 305 )

موجود أكمل وأفضل منه)(1) وفي مقام تفسير وشرح هذا التعريف والسؤال عن سبب هذا الافتراض ذهب بعض فلاسفة الغرب الى محاولة اعطاء جواب منطقي لهذا السؤال والاستعانة بغرائز الميل المذهبي الكامنة في الانسان بشكل طبيعي، فقالوا بانّ حس الاحترام والعبادة الكامن في ضمير الانسان تجاه الموجود الكامل دليل على انّه عندما اتخذ ذلك الشيء معبوداً لم يتصوّر في ذهنه أكمل منه ولو تصوّر ما هو أكمل منه لاتخذه رباً ومعبوداً بدل هذا.

هذا الشرح والتفسير وإن راق كثيراً من متفكري ،الغرب، ولكن نعتقد انّ الافضل والأتقن منه ما نستفيده من النصوص الاسلامية من دون الحاجة الى الاستعانة بغريزة العبادة (2)

ونقول :عند تعريف لفظ الباري تعالى او تعقل مفهومه ،لابد من تصور معنى ومفهوم في الذهن يتغاير نهائياً ويختلف عن سائر المفاهيم الامكانية، فلو انتزعنا مفهوم الباري من مصداق من المصاديق التي يمكن للذهن أن يتصور أعلى وأفضل منها، لم يكن حينئذ ذلك المفهوم هو مفهوم الباري وعلة العلل ومبدأ المبادئ وغاية الغايات وبسيط الحقيقة.

انّ الله تعالى خلافاً لباقي الممكنات المركبة من الوجود والماهية، لم يكن مركباً أي بمعنى انّ وجوده العيني عين الحقيقة والماهية التي يريد العقل أن يدركها، فكما انّ وجوده العيني أكمل وأفضل من جميع وجود سائر الممكنات فتصوره الذهني يكون بهذه المثابة أيضاً.

ولكن لماذا لابد من تصور الباري بهذه المثابة؟ لأننا لو تصوّرناه موجوداً مقيداً وخاصاً ومحاطاً لزمنا اجراء الامكان وسائر عوارضه عليه، وحينئذ لم يكن واجب الوجود والمبدأ الأول(3)

ص: 271


1- (ص305)
2- (م ن:331)
3- (م ن:312-314)

بعد مضي قرنيين من دليل أنسلم القديس جاء توما الاكويني (من اشهر فلاسفة القرن الثالث عشر الميلادي وبدأ بنقد دليله واظهر دليلاً آخر لا نذكره لأنه خارج بحثنا ولكن نذكر نقده على دليل الوجود عند أنسلم ونجيب عليها من وجهة نظر الفلسفة الشرقية(1).

الدليل الاول : انّه يقسّم في البداية البديهيات المنطقية الى قسمين:

البديهيات الضرورية في ذاتها وإن نعلم بها.

البديهيات الضرورية العامة عند الجميع كالكل والجزء.

فمسألة وجود الباري من النوع الاول، فانّ قضية الله موجود في الواقع ونفس الأمر ثابتة ولكن بما انه لا طريق لنا الى معرفة كنه ذات الباري لم نتمكن من فهم ضرورة هذه القضية وبداهتها.

الجواب: هذا التقسيم لا يتوافق مع الموازين الفلسفية عندنا؛ لأنه حتى لو كان صحيحاً فلا علاقة له بالقضايا والتصديقات بل منحصر في التصورات،مع انّ الضرورات المنطقية جميعها من القضايا، ومن المغالطة اجراء أحكام التصورات على القضايا الاوّليةوالتصديقات. يكفي في التصديق والاذعان في الاولويات- تصور الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية حصراً، اما شهرة هذه التصورات أو عدمها، ضيقها أو سعتها، لا تأثير لها في ظهورمجموعة جديدة من الضرورات الفنية في الاولويات( كما زعمه توماس ) (2).

الدليل الثاني وهو كالاول في عدم الاتقان الفلسفي اننا نصل الى معرفة ذات الباري الحقيقية في أواخر مراحل عملية البحث عن الحقيقة، وعليه لا نتوقع المعرفة النهائية في مراحل المعرفة الاولى، لابد أن نثبت وجوده اولاً لا عن طريق وجوده بل بالقياس الى وجود سائر الاشياء الظاهرة، وبعدما حزنا معرفة وجوده لابد أن نعرّج

ص: 272


1- (م ن :314)
2- (م ن315-318)

على صفاته وآثاره وخصائصه، ثم يمكننا أن ندعي معرفة ذاته بحسب استعدادنا. اما آنسلم يريد أن يوصلنا بسهولة الى معرفة حقيقة ذات الباري من قبل أن نعرف أصل وجوده، والحال يستحيل الوصول الى الحقيقة والكنه التي لا يكون اكمل منها والوقوف على اصل الوجود. اما آنسلم فيريد أن يعرفنا حقيقة الله اولاً ثم يثبت لنا أصل وجوده (1) .

الجواب: لقد اشتبه توماس و خلط بين ( ما ) الشارحة و (ما) الحقيقية، (ما) الشارحة هي السؤال الاول و(ما) الحقيقية هي السؤال عن جوهر الشيء وحقيقته. مضافاً الى انّ بالنسبة الى الحقائق البسيطة لا يمكن تصوّر حتى (ما) الشارحة فضلاً عن غيرها، لأنّ ما نريد أن نفهمه من الحقائق البسيطة هو مجرد شرح اللفظ ولا دخل له بهذه الاسئلة المنطقية ولا يدخل في عدادها، ففي التعريف اللفظي لا يُسأل عن ماهية الشيء بخلاف شرح الاسم حيث يكون تعريفاً ماهوياً، فما نطلقه على الباري تعالى لا يتعدّى كونه مبادلة لفظية لأنّه بسيط وماهو بسيط لا يقبل التحليل والتجزئة الحدّية ولا يعرف حقيقياً وماهوياً، وما كان كذلك لا يدرك حقيقة ، ولا يبقى لنا سوى شرح اللفظ والقدر المتيقن أنّه بعد الوقوف على شرح اللفظ نتمكن من الخوض في وجوده أو عدمه، فحتى لولا نتمكن من فهم كنه الباري تعالى من جميع الجهات، نتمكن من تصوّره من بعض الجهات، وهذا يكفي لردّ دليل توماس.

ولو كابر شخص وقال ان الله تعالى غير قابل للتصور حتى من حيث شرح اللفظ، نقول له انّ هذا الانكار هو عبارة أخرى عن المعرفة اللفظية لله تعالى لانّ ما تصوره ثم انكره؛ هو بنفسه معرفة لفظية، فانّه تصور الله في في ذهنه بوجه من الوجوه، فأنسلم وسائر الفلاسفة المتمسكين بدليل الوجود لم يريدوا التعرف على وجود الله تعالى من خلال معرفته الحقيقية حتى يُعترض عليهم بنقض القاعدة، بل انهم بدأوا من شرح اللفظ ليصلوا الى تصديق أوّلي من خلال التصور البديهي (2)

ص: 273


1- (م ن : 316، 319)
2- (م ن :320 ،324)

لعلّ ما يوجد من هنات ومغالطات في ادلة توماس، أدى لقيام ديكارت بتغيير مسار دليل الوجود الى ما يراه أتقن حيث تلقى فلاسفة الغرب هذه المحاولة بالقبول لكن بحسب رأينا فانّ تفسيره فضلاً عن انّه لم يؤدِ الى اي تقويم واستحكام في دليل الوجود بل أدّى الى انحراف صورته المنطقية والحقيقية أيضاً وجعله غير متقن ومورداً للأخذ والرد الفلسفي، ولكن بما ان اكثر النقد من قبل الفلاسفة المتأخرين على دليل الوجود متوجه الى ما ذكره ديكارت نضطر الى نقل كلامه ونقده (1)

خلاصة رأي ديكارت: اننا نزعم تفكيك الوجود عن الماهية في الله تعالى كما اعتاد ذهننا بذلك في جميع الموجودات، ولكن بعد الفحص نجزم بانّ وجوده لا ينفك عن ماهيته حتى في العقل، كما انّ ماهية المثلث لا تنفك عن تساوي الزوايا مع القائمتين او كما في تلازم الجبل والوادي، لذا لا يمكن أن نتصور بان الوجود والكمال من عوارض ماهية الله تعالى.

نقول في الجواب طبقاً للفلسفة الشرقية:

اذا كان الوجود -كما يزعم ديكارت- من لوازم ماهية الله تعالى لخرج وجود الباري من أقسام الضرورات الأزلية ودخل في الضرورات الذاتية، إذ في هكذا قضايا لم ينظر الى الوجود - من حيث كونه وجوداً - في موضوع القضايا لانّ موضوع القضية هنا يفترض مع الوجود أو عدمه وهذا لا ينطبق على الله تعالى وإن كان الوجود من لوازم الذات.

إذا كان الوجود من لوازم الماهية لكان تأثير الماهية (الملزومة) - والمفترض ان تكون بحد ذاتها عارية من الوجود في الوجود( اللازم) محال . إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد

الوجود وإن كان لازماً وضرورياً للذات لكنه يكون صفة زائدة للملزوم، بمعنى ان ثبوت هذا اللازم لذلك الملزوم متفرع على ثبوت الملزوم، والحال ان الوجود لم

ص: 274


1- (م ن:325)

یکن فرعاً لوجود الماهية -سواء كانت ممكنة أم واجبة والخلاصة اننا لا نتوافق مع ديكارت ولا نساوي بين قضية الله موجود وقضية (المثلث له زوايا تتساوى مع القائمتين)(1).

رأي كانط في دليل الوجود :

ان كانط من اكبر النقاد لدليل الوجود واكثرهم تأثيراً، ويبتني نقده على نظريته التي اعتقد بها كأصل موضوعي، وهذه القاعدة هي: ((لا يمكن جعل الوجود محمولاً حقيقياً للموضوع في القضايا الحملية)).

-إذا كان كانط يقصد من المحمول الحقيقي المحمول بالضميمة بمعنى أن يكون الوجود أمراً انضمامياً للماهية، فالحق معه إذ الوجود هو ثبوت وتحقق الشيءلا ثبوت شيء لشيء، ولكن لو قصد ان الوجود لا يكون محمولاً حقيقياً اطلاقاً فهو غير صحيح إذ الوجود عندنا - يعرض على الماهية في الذهن(2).

ثم يترقى كانط ويقول في تفسير قاعدته: انّ الوجود لايقع محمولاً للقضايا اطلاقاً، ويكون في جميع القضايا مجرد رابط، فالوجود لا يتعدى الرابط ولا يمكن أن نتصور له شأناً وكياناً مستقلاً سواء كان في الخارج أم في الذهن(3).

نعتقد من وجهة نظر فلسفة الشرق انّ خطأ كانط يكمن في انّه من جهة يفصل بين الصور الذهنية والحقائق العينية ويجعلهما شيئين مستقلين كي يتمكن من جعل الوجود رابطاً بينهما، ومن جهة اخرى يجعل أحدهما الحقيقة العينية والاخر الظاهرة أو ماهية وطبيعة تلك الحقيقة، وهذا يوجب التناقض، لانّ الوجود إذا كان رابطاً لكان التركيب انضمامياً وهو ما يعرض فيه الوجود على الماهية في الذهن والخارج على سواء، وإذا كان تركيب الوجود والماهية تركيباً اتحادياً أو لا يوجد أي تركيب حقيقي، فحينئذ فرض

ص: 275


1- (م ن:326-328)
2- (م ن:329-335)
3- (م ن:339-340)

الوجود الرابط مستحيل لانّ الرابط يعني وجود شيئين متغايرين لامتحدين(1).

اساس خطأ كانت انّه تصوّر الماهية والحقيقة أو الطبيعة والفرد، شيئين مستقلين، والوجود هو الذي يربط بينهما ، ولكن هذا مردود عندنا بتاتاً لانّ الوجود والماهية او الطبيعة والفرد لم يكونا اصيلين سوية بل اما الوجود اصيل واما الماهية، فلا يمكن تصور اصالتهما معاً لنربط بينهما.

ثم ثانياً لو افترضنا اصالتهما لاستحال التركيب الاتحادي بين الأصلين المستقلين لانّ قلب شيئين واقعيين الى شيء حقيقي واحد من دون استحالة او انقلاب ماهوي؛مستحيل.

ثالثاً لو حصل الحمل بين شيئين مستقلين لم يكن تركيباً اتحادياً حقيقياً بل سيكون انضمامياً، نعم ان كانط تنبه إلى ان الوجود لم يكن من أجزاء الماهية بل يحمل عليها بحمل عرضي أو بالحمل الشايع الصناعي، لكنه أخطأ في جعل الحمل الشايع الصناعي مساوياً مع وجود الرابط واستنتج من كون العلقة بين الفرد والطبيعة بما أنّها بالحمل الشايع الصناعي لا الذاتي والأولي، يكون الوجود رابطاً بين الموضوع ،والمحمول، والحال انّه بما ان التركيب بينهما اتحادي لا يمكن ان يصير الوجود رابطاً.

رابعاً عند المقايسة بين الطبيعة والفرد لو جعلنا الطبيعة في الذهن والفرد في الخارج وأردنا حمل موجود ذهني على واقعة عينية، لما أمكن ذلك، لعدم وجود أيّ علقة بين الوجود الذهني والوجود العيني، فالوجود حينئذ لا يكون تحليلياً ولا تركيبياً انضمامياً اي لا يحمل على الماهية لا بالحمل الاوّلي الذاتي ولا بالحمل الشايع الصناعي،لانّ الملاك في الحمل هو الاتحاد وعند الاختلاف لا يمكن الحمل فلا يكون الوجود الرابط.

ولوجود هذه الامور يوجد تناقض بين في كلام كانط يسقطه عن الاعتبار رأساً،

ص: 276


1- (ص 342)

فانّه عندما يقول في أصله الموضوعي : ((ان الوجود لا يكون محمولاً حقيقياً)) لابد أن يعترف بالتناقض الصريح لان معناه ان الوجود يكون رابطاً وغير رابط، يضيف على الماهية شيئاً ولا يضيف(1) .

وبعبارة أخرى ان نقيصة فلسفة كانط تكمن في انه جعل جميع القضايا التي هي من نوع الحمل الشايع الصناعي داخل نوع التركيب الانضمامي، والحال ان التركيب الانضمامي قسم من أقسام الحمل الشايع الصناعي، والقسم الآخر هو التركيب الاتحادي الذي يربط الفرد مع ماهيته، وهذا ما أغفله كانط تماماً وسبب الارباك في فلسفته وتبعه الارباك فيمن انبهر به من فلاسفة الغرب (2)

ثم ان كانط طرح مسألة (الله) تعالى ضمن مسائل العقل النظري، وذهب الى عدم امکان اثبات وجوده طبقاً للعقل النظري لكنه أثبته طبقاً لمقاييس العقل العملي كأصل الموضوعي، ولكن لماذا أغلق كانط الطريق أمام العقل النظري لاثبات الباري تعالى ؟ (3).

الدليل الاول: ان تصور مفهوم الله تعالى لا اشكال فيه من حيث العقل النظري، وكذلك لا اشكال في إعطاء تعريف لفظي لهذا التصور، ولكن هذا التعريف الاسمي واللفظي لا يثبت الضرورة المنطقية (وهي القضايا التي لو سلبنا المحمول منها لزم التناقض بالذات كما لو سلبنا الاضلاع الثلاثة من المثلث، ولكن لو سلبنا الوجود عن الله تعالى لم يلزم التناقض بدليل وجود ملحدين ينكرون الله مع تصورهم له) ونقول في مقام الاجابة ان ضرورة الله تعالى تستنتج من تقسيم الوجود الى الواجب والممكن لا عن طريق التعريف اللفظي (4)

الدليل الثاني : لو سلّمنا انّ التعريف اللفظي يعطي الضرورة المنطقية، ولكن هذه

ص: 277


1- (م ن:344-346)
2- (ص348)
3- (متافيزيك : 77 - 78 )
4- (متافيزيك : 80 - 82 )

الضرورة لا يمكنها اثبات الوجود الخارجي اي ان الضرورات المنطقية لا يمكنها بتاتاً اثبات الوجود العيني والخارجي. ولكن يرد عليه انّ الأحكام والقضايا الخاصة بالله تعالى لها ضرورة مطلقة وأزلية دون الضرورة الذاتية فلو تقيّدنا بالضرورة الذاتية لكان الأمر كما قال كانط إذ أنّها لا تثبت الوجود الخارجي العيني(1)

الدليل الثالث: انّ كانط قسّم الاشياء الى (نومينو) أي الوجود في نفسه وفي ذاته الذي لا يعكس في الذهن ، و (فينومينو) وهو الوجود فينا والمستقر في الذهن، وعليه يرى كانط انّ (نومينو) لا يدخل تحت علمنا سواء كان جوهراً أم هيولا أم النفس أم الله لأنّه يقع خارج الذهن، والعلم به يلزم منه التناقض لأنه لو دخل في الذهن وأصبح (فينومينو) لفقد ميزته ولم يكن( وجود في نفسه) بل صار (وجوداً فينا) وهذا خلف، لذا لا يمكن العلم ب- (نومينو)(2) .

بعد هذا العرض يعرّج كانط على العقل العملي ويثبت الله تعالى عن هذا الطريق، وذلك انّ الأفعال الاخلاقية كامنة في ضمير الانسان، وانّه يهدف من خلالها الى الوصول الى حالة أفضل من السابق أي من الحالة السيئة الى الحالة الحسنة، ومن الحسن إلى الأحسن وهكذا يكرر الفعل الأخلاقي ليصل الى الخير المطلق وهوالله تعالى، ففرضية انعدام الله تعالى توجب انهيار جميع منظومة العقل العملي، هذه هي التجربة العقلية العملية التي يستنتج منها كانط وجود الله، كما ان المسائل الاخلاقية لها حقائق ليس لها وجود محسوس بالحواس الظاهرة بل هي من المعقولات التي يتحد فيها العقل والعاقل ،والمعقول وعليه لا يحصل هنا التناقض عند الاستنتا لانها حاضرة في العقل بنحو من الانحاء، فالتناقض الذي مرّ في العقل النظري بين النومينو والفنومينو لا يحصل هنا(3).

ص: 278


1- (متافيزيك : 82 - 84 )
2- (متافيزيك: 86 - 88 )
3- (متافيزيك : 89 - 99)

ما بعد الطبيعة ( ميتافيزيقيا)

لم يوافق الدكتور حائري على ماهو السائد في الغرب لتعريف ما بعد الطبيعة؛ من أنّها ما تبقى من دراسات ارسطو التي وجدت من غير تسمية تم العثور عليها بعد بحوثه حول العلوم الطبيعية، لذا سميت بما بعد الطبيعة، وهذا المصطلح قد أطلقه (اندرنيكوس) عام سبعين قبل الميلاد على هذه البحوث، وعليه فهذه البعدية عندهم- في ما بعد (الطبيعة) بعدية زمنية وليست بعدية تعليمية أو منطقية أو بعدية في درجات الوجود ومراتبه.

بل يرى الشيخ الحائري- تبعاً للمحقق الطوسي - انّ ارسطو قد تدرّج في التعليم، فبدأ من المبادئ الحسية وانتهى الى المعقولات، فتقسيم العلوم الى حسية طبيعية وعقلية ما بعد طبيعية لم يكن تقسيماً جزافاً بل له أصل علمي رصين، والبعدية في (ما بعد الطبيعة) بعدية تعليمية من حيث تقدّم المعرفة الحسية على المعرفة العقلية(1).

ومع قطع النظر عن هذا الجدل اللفظي يرى الدكتور الحائري انّ الأمر الاهم هو التعرّف على هذه المعقولات التي تشكل موضوع (ما بعد الطبيعة) ومحمولها وهذا ما يبحث عنه في الفلسفة، فقد ذهب ابن سينا الى ان موضوع ما بعد الطبيعة هو الموجود بلحاظ حيثيته الاطلاقية لا الحيثية التقييدية او التعليلية، ومن صفات الحيثية الاطلاقية أنّها تنطبق على جميع أفرادها بأي مكان وزمان وكيفية ورتبة وبأي مواصفات؛ انطباقاً قهرياً عقلياً من دون أي استثناء، وعليه فمفهوم الوجود يكون موضوعا لعلم ما بعد الطبيعة بهذه الحيثية(2) .

ثم ان الدكتور الحائري بعدما يقسم الاطلاق الى الاطلاق القسمي (وهو ما يتعلّق بالمجردات غير المنطبقة على العالم العيني) والاطلاق المقسمي (وهو الذي يقبل الاشتراك الذاتي ويمتزج مع أيّ صورة) يرى انّ سبب عزوف فلاسفة الغرب عن علوم (ما بعد (الطبيعة) ربما يكون لتصورهم الخاطئ بانّ تلك العلوم تتعلّق بالعالم الخفي

ص: 279


1- (متافيزيك:3)
2- (متافيزيك:9)

والتجرّد التام الذي لا ينطبق على عالم الكثرة والتعين (الاطلاق القسمي) والحال انّ المراد من الاطلاق في الوجود (وهو موضوع ما بعد الطبيعة) هو الاطلاق المقسمي المنطبق على الجميع سواسية، فوجود كل موجود سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي محسوساً أم معقولاً ذهنياً أم عينياً، كلّها جميعاً تدخل تحت مظلة الوجود المطلق، فوجود أي موجود هو بعينه نفس وجوده الما بعد طبيعي سواء كان من المحسوسات والظواهر الطبيعية أم الذهنية وغير المحسوسة (1)

وبعد هذا التمهيد يرى الدكتور الحائري ان جوهر الخلاف بین فلاسفة الاسلام وفلاسفة ،الغرب، يكمن فيما ذهب اليه فلاسفة الاسلام من انّ العلقة بين علوم ما بعد الطبيعة وغيرها من العلوم الطبيعية انما هي علقة منطقية رتبيّة حيث ان رتبة علوم ما بعد الطبيعة تتقدّم لأنّها علوم ما قبلية، بينما تكون سائر العلوم علوماً متوسطة أو نازلة. (2)

وهذا بعكس ما ذهب اليه فلاسفة الغرب الجدد في الفلسفة التجريبية، حيث كانت ترى ان مباحث ما بعد الطبيعة من أغلق الامور ولا قيمة لها، فقد تمنى ديفيد هيوم لو يحرق جميع الكتب المتعلّقة بما بعد الطبيعة لأنّها لا تشتمل الا على الاحلام والخيال ولا تحكي عن واقع حقيقي(3) .

ولكن هذا الوهم الهيومي ومن على شاكلته ينشأ من عدم الالتفات الى النظام المنطقي السائد بين العلوم والى العلم الأعلى الذي يتكفّل اثبات موضوع سائر العلوم، فاستنتجوا من (ما بعد الطبيعة) مفهوماً مجرداً ذهنياً لا ينطبق على الحقاق العينية، وكلّما وصلوا الى مصطلح (ما بعد الطبيعة) تصوّروا التقسيم الافلاطوني حيث قسّم العالم الى عالم الحقيقة وعالم الوهم ثم ينسب الثبوت والكلية والتحقق الحقيقي الى الاول وعدم الثبات والتحقق المجازي والاعتباري الى الثاني، وعليه

ص: 280


1- (متافيزيك : 10)
2- (متافيزيك :15)
3- (متافيزيك: 16 - 17)

طبقاً لهذه المنظومة تدخل جميع المحسوسات في العالم الطبيعي ذيل الوهم والفناء بحيث لا يطلق عليها (الوجود) الا تجوزاً(1).

من هذا المنطلق حكم الماديون على كل ما هو (ما بعد الطبيعة) بانّه عالم الخيال والفناء الافلاطوني، فكما لا توجد طبيعة عينية في (ما بعد الطبيعة) كذلك لا توجد أي حقيقة أخرى، حيث ساووا بزعمهم بين الحقيقة والوجود والطبيعة المادية، وما لم يكن الشيء حسياً لم يكن موجوداً، ثم تطوّر هذا الأمر عند الوضعيين في فينا عام 1920 - 1930 م حيث فصلوا بين الفلسفة (المتعلقة بالاوهام) والعلوم (المتعلقة بالحقائق العينية) وحاولوا تسخير الفلسفة تحت نير العلوم الطبيعية.

وأخيراً يرى الدكتور الحائري عدم صحة كلام الماديين أمثال هيوم والمدرسة الوضعية، وكذلك عدم صحة ما ذهب اليه افلاطون من حصر الواقع والحقيقة بما بعد الطبيعة، بل يرى ان الوجود والموجود يطلق على نحو الاطلاق المقسمي على جميع الحقائق صريحاً سواء كانت مادية ام غير مادية كالنفس والعقل (2)

ومن وجهة نظر ثانية ينتقد الحائري بعض المغالطات المعاصرة في الفكر الجديد، ويذكر منها ما ورد في تعريف علوم ما بعد الطبيعة حيث ان بعض المستحدثين الذين يميلون الى التجدد في الفلسفة اجرى عليها قانون النشوء والارتقاء وقال انّ الفلسفة كانت في البداية وجودية، ثم عبرت هذه المرحلة ووصلت الى علم المعرفة ثم انحدرت الى المنطق البحت وبعد هذا تنزلت واقتصرت على مباحث الألفاظ، فمن أراد التعرف على حقيقة ما بعد الطبيعة يلزم أن لا يتجاوز مباحث الألفاظ، واذا أردنا ان نصبح فلاسفة ما بعد طبيعيين لابد أن نترك جميع الحقائق لكي نتمكن من الغوص في عالم الألفاظ(3).

ثم يرد الحائري عليهم:

ص: 281


1- (متافيزيك : 17)
2- (متافيزيك :21-22)
3- (کاوش هاي عقل نظري :9)

هؤلاء اجروا بكل قطع وجزم ما أحدثه عالم طبيعي في السير التاريخي والطبيعي في الأنواع وعلى نحو الاحتمال، أجروه على سائر العلوم وتمسكوا بقياس التشبيه-غير المعتبر منطقياً وعرفاً- بين الانواع الطبيعية وأنواع العلوم.

انهم ساروا على عكس المطلوب حيث انّ تلك النظرية تقول بارتقاء الأنواع في سيرها التكاملي، لكن هؤلاء قالوا بالارتجاع حيث هبطت الفلسفة من الأعلى الى الأدنى.

انّ هذا الاستكمال والارتقاء او الرجوع مهما كان فانّه مقتصر على الوجود الطبيعي للانواع اما الماهية فغير قابلة لهذا السير حتى عند داروين، لانّ هذه النظرية لا تدعي انّ طبقة نوع الانسان الحالي -اي مفهوم الانسان وماهيته- كان سابقاً بشكل آخر ثم استكمل، بل انها تقتصر على التكامل الطبيعي والتاريخي، وعليه فتحوّل الفلسفة من مفهوم الوجود المطلق الى الوجود المقيد الذهني (نظرية المعرفة) ثم الى الصور المنطقية ثم الى الالفاظ، لا ينطبق مع أي من الموازين، وكلام غير صحيح(1) .

5- فلسفة الأخلاق عند هيوم:

اول من سأل في الغرب عن علقة الوجود والوجوب هو ديفيد هيوم، وسؤاله هذا مبتنى على فلسفته التجريبية النافية لما بعد الطبيعة واستمر هذا السؤال بعده الى يومنا الحاضر، انّ جوهر سؤاله يبتني على مسألة العلقة المنطقية بين الوجود والوجوب، وانه كيف يمكن استنتاج قضايا وجودية من مقدمات تحكي عن الوجود في قياس منطقي ؟ !(2)

يرى هيوم انّ النظم الأخلاقية عندما تريد الخوض في مسائل الأخلاق تستعين بالطريقة الفلسفية المتداولة، وتبدأ من اثبات وجود الله أو عدمه، وبعد اثبات الله وسائر الخصائص الانسانية من خلال قضايا الوجود والعدم، تعرّج فجأة على مسألة

ص: 282


1- ( م ن : 10 - 12)
2- (كاوش هاي عقل عملي21 - 22)

الوجوب واللاوجوب، فهيوم يستغرب من هذا التحوّل المفاجئ ويتساءل عن الضوابط المنطقية لهذا التحول والاستنتاج، إذ إنّ التعريج من الوجود الى الوجوب ومن العدم الى اللاوجوب غير مقبول في الفلسفة ،التجريبية، فعلماء الأخلاق يرون قطعية هذه النتائج وكونها من الضرورات المنطقية، وبعبارة اخرى يتساءل هيوم ويقول: كيف يمكن أن نستنتج القضايا الناظرة الى (الوجوب) من مقدمات ناظرة الى (الوجود) إذ إن هذا الاستنتاج غير مقبول منطقياً.

والخلاصة ان فلاسفة ما بعد الطبيعة لا يمكنهم الاستفادة من المقدمات الناظرة الى وجود الله والنفس؛ للوصول الى وجوب الفضائل الاخلاقية وعدم الرذائل الاخلاقية(1)، بعد هذا العرض لشبهة هيوم ينبري الدكتور الحائري للإجابة، ويستعين بالفلسفة الاسلامية كي يبرهن على امكانية العبور من قضايا الوجود الى قضايا الوجوب واللزوم.

ان مسائل الفلسفة تتكوّن دائماً من قضايا (الوجود) وهو الرابط بين جميع تلك القضايا ولا تتعدّى ذلك، وهذا ما نتوافق فيه مع هيوم(2) ثم يدخل سؤال هيوم في منطق الصورة وروابط القضايا ولا علاقة له بمنطق المادة أي مواد القضايا، كما لا علاقة له ايضاً بصور القضايا والأقيسة الاخلاقية، وعقد وضع القضايا وعقد حملها(3).

البحث الوجودي عن الوجود والوجوب:

انّ السؤال عن الوجود -مع قطع النظر عن شبهة هيوم- يُعد من الاصول البنيوية في المنطق الصوري. ان مسألة وجود الله تعالى من أقدم مسائل فلسفة الوجود إذ يقع وجوده في قمة هرم سلسلة الوجودات العينية، ومن الواضح ان مورد مباحث الفلاسفة لم يكن حول ان وجود الله يختلف عن وجود الطبيعة وظواهرها، بل انّهم يبحثون عن الله من جهة اخرى اي انّ وجوده واجب و لازم اما سائر الوجودات فانها

ص: 283


1- (م ن:28-31)
2- (م ن:37)
3- (م ن:40)

قد تكون وقد لا تكون، وهذا هو معنى واجب الوجود بالذات اي انّ وجوده لم يكن وجوداً صدفياً كي يبحث عن لزومه او عدم لزومه، بل انّ وجوده واجب بالضرورة المنطقية، فحينئذ بعد تعريج الفلسفة من مطلق الوجود الى الوجوب واللاوجوب، يأتي هذا السؤال قهراً: أي كيف نصل من المقدمات الناظرة الى مطلق الوجود؛ الى نتائج ناظرة الى الوجوب ؟ هذا السؤال وإن كان ناظراً الى الوجوب المنطقي لا الأخلاقي وسؤال هيوم كان عن الوجوب الأخلاقي، لكن هذا لا يضر لانّ سؤاله يتمحور عموماً حول استنتاج الوجوب من الوجود، وبما ان نطاق السؤال توسع الى الوجوب المنطقي أيضاً يلزم علينا الرجوع الى البنى والاصول والتعرف على انّ علقه الوجوب بأي معنى كان منطقياً ام اخلاقياً من أي منبع يصدر، وما هو معنى الوجوب وما هو منطلقه الوجودي ؟! (1)، معنى الوجوب هو اللزوم والضرورة والحتمية، ويقابله الجواز والامكان كما يقابله الحرمة والامتناع واللاوجوب.

فالموجود الذي يلزم وجوده يكون واجب الوجود، ولو لزم عدمه كان ممتنع الوجود، ولو كان وجوده وعدمه متساوياً لكان ممكناً خاصاً، ويطلق في المنطق على هذه القضايا قضايا موجهة، وعليه فهذه المفاهيم تنشأ من تنوع واختلاف الوجود ولم يكن لها أي جذر ومنشأ غير الوجود، لانّ الوجود هو الذي يتلوّن بهذه الالوان، فتارة يتصف بالوجوب وتارة بالامكان والجواز واخرى بالامتناع.

هذه المباحث كلّها تتعلق بالفلسفة ومباحث العقل النظري الباحث عن الوجودات غير المقدورة فشبهة هيوم لا تقتصر على الاخلاق ومباحث العقل العملي بل تسري حتى على مباحث العقل النظري.

الوجودات الصادرة عن ارادة الانسان المسؤول تتصف بنفس تلك المفاهيم حيث بعض هذه الافعال تُعد لازمة وحتمية وواجبة عند الفاعل ولابد أن تتحقق بارادته، وبعضها الآخر لم تكن بهذه المثابة من الضرورة والحتمية، والقسم الثالث ما يكون وجودها عن الفاعل محكوم عليه بالحرمة، فتلخّص ان الوجوب الأخلاقي

ص: 284


1- (م ن:59-61)

كالوجوب المنطقي كيفيات تبين وتوصف النسب والروابط في الوجود، وانّ العامل الوحيد الذي يُوصِف الوجود بالوجوب الاخلاقي علم الانسان وارادته، وهو -أي العلم والارادة - العلة الفاعلية لهذه الوجودات، أي ان الارادة والاختيار العلة الفاعلية الوحيدة والعامل الرئيسي للوجودات التي تتصف بالوجوب(1).

ثم ان سؤال هيوم ينحل الى قسمين:

السؤال عن العلقة الصورية بين الوجود والوجوب .

السؤال المتعلّق بصورة القياس وهو كيفية استنتاج الصور الناظرة الى الوجوب من مقدمات ناظرة الى الوجود في قياس منطقي اي استنتاج القضايا المعيارية والقيمية من القضايا الاخبارية او التوصيفية.

السؤال الاول لا علاقة له بمسألة الاستنتاج بل يقتصر على تنوع الرابطة والعلقة بين الوجود والوجوب، وفي مقام الاجابة لابد أن نفرق بين نوعين من الوجود وهو ما يسمّى في الفارسي ب- (است) و (هست) فالأول لا يتعدى كونه وجوداً رابطاً لا اكثر ولا يدخل في عقد الحمل وغير منظور اليه اي رابط بين الموضوع والمحمول كما في مثال( زيد طبيب - زيد طبيب است- فالوجود هنا رابط بين الطب وزيد لا اكثر ولا

يحكي عن مسألة مسألة وجودية حول زيد أو الطب

وتارة نستخدم الوجود ونريد منه اثبات الوجودية (أي هستي)كما لو قلنا (الله موجود) فالوجود هنا ليس رابطاً بل انه محمول يدخل في عقد الحمل ويكون مفاد كان التامة وهل البسيطة، والخلاصة ان هناك فرقاً بيناً بين الوجود المحمولي والوجود الرابط، وبناء على هذا الفرق يتم الجواب عن سؤال هيوم الاول.

ونقول ان القسم الاول من سؤال هيوم يدور حول الوجود الرابط وهذه العلقة بين الوجود [أي بمعناه الرابط] وبين الوجوب تنحصر في العلوم الرياضية والطبيعية،

ص: 285


1- (م ن:61-64)

بينما الوجود المحمولي[ بمعنى هست] يكون في الفلسفة، وهذا السؤال الاول خارج عن مسألة الاستنتاج المعياري والقيمي الذي هو مفاد القسم الثاني من سؤال هيوم.

القسم الثاني من سؤال هيوم يتعلّق باستنتاج النتائج المعيارية والقيمية من القضايا والمقدمات الخبرية أوالتوصيفية، وهو يتعلق بمنطق الاستنتاج ولا علاقة له بمسألة الرابط في القضايا، بل ينحل الى السؤال عن العلقة المنطقية بين العقل النظري والعقل العملي.

وبعبارة أخرى هنا سؤالان عند هيوم:

مسألة الرابط في القضايا.

مسألة استنتاج القضايا.

المعيارية من القضايا الخبرية، فلو لم نميز بين هذين الأمرين سنقع في مغالطة جمع المسألتين في مسألة واحدة التي وقع فيها الكثير وسبب إرباكاً كثيراً(1).

اما الجواب عن الشق الثاني لسؤال هيوم فنقول بانّ العقل العملي هو قدرة الاستنباط واستنتاج نتائج ناظرة الى الوجوبات توضيح ذلك: هذه النتائج تنتخب من خلال الوجودات المشخصة والامور الجزئية المتعلقة بالانسان كي يصل الانسان الى غاياته ،مختاراً، هذه النتائج تستحصل من المقدمات الاولى او المشهورات او المجربات، فالحراك والعملية المنطقية من هذه المقدمات الى حين الوصول الى النتائج الناظرة الى الوجوب يتكفّلها العقل النظري الباحث في الآراء والقضايا الكلية، هذه هي الصورة العامة للقياسات المنطقية المنتهية الى النتائج الأخلاقية.

وبعبارة أخرى انّ حقيقة العقل العملي هو استنباط ما يجب أن يفعله الانسان المسؤول، وهذا الاستنباط لابد وأن يستند الى رأي وقاعدة ومقدمات كلّية وهذا يتعلّق بالعقل النظري أي انّ العقل العملي ينتج من العقل النظري والوجوب لا

ص: 286


1- (م ن:75-83)

يصدرالاّ من حاق الوجود، نحن نصل الى اي خير او فعل حسن من طريق المعرفة الكلية، ثم تظهر من هذه المعرفة الكلية معرفة جزئية ونكوّن منهما قياسين منطقيين الاول يتضمن المعرفة الكلية (عقل نظري) والثاني المعرفة الجزئية(عقل عملي)، مثلاً العقل النظري يدرك ان الصدق حسن، ثم يجري هذا الحكم على الجزئيات وينتج منه قياس أصغر يتعلّق بالعمل والفعل، فالنتيجة الصادرة من القياس الثاني هذا هي العقل العملي، فالعقل النظري يحوّل في البداية الوجوب الى الوجود، ثم يصوغ القضايا الاخلاقية من خلال كبرى وصغرى كسائر القضايا الفلسفية، فالوجوب هنا هو الضرورة او الوجوب بالذات أو بالغير الناشئ من اشتداد الوجود وقوته(1).

ان مسائل العقل العملي هي قضايا العقل النظري المتعلّقة بالوجودات الارادية والاختيارية لدى الانسان، وهذه الوجودات الاختيارية بعد صدورها تخرج من سلطة الانسان وتحكي عن الوجودات العينية وغير الارادية، وحينئذ يمكن تشكيل قضايا خبرية عنها، فالجلوس مثلاً حقيقة من الحقائق الوجودية المتعلقة بالانسان لانّه مقولات الوضع وهو من القضايا الفلسفية، هذا الوضع المخصوص (الجلوس) بما انه فعل ارادي قبل أن يتحقق يكون من الوجوبات الاخلاقية ويقع محمولاً في القضايا الاخلاقية ولكن بعد الوجود والتحقق يصبح من الوجودات الخبرية(2)

ثم ان سؤال هيوم حول كيفية استنتاج نتيجة ناظرة الى الوجوب من مقدمات ناظرة الى الوجود، لو كان سؤاله عن مادة القياس يُنقض بدليل الصديقين في الفلسفة الاسلامية والدليل الوجودي عند آنسلم، حيث ان هذين النظامين يُرجعان الوجود المطلق الى نتيجة منطقية ناظرة الى الوجوب وذلك ضمن تقديم قياس برهاني(3)

وأخيراً انّ الوجوب كيفية حقيقية من مراتب الوجود يحكي عن درجات الوجود شدة وضعفاً (4)الوجوب وإن كان وجوداً رابطاً من حيث الصورة لكنه في الواقع ينشأ من

ص: 287


1- (م ن 110 - 120)
2- (م ن:147-148)