نحنُ و الغرب المجلد 2

هوية الكتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

2

نحن والغرب

مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي

إعداد وتحرير

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني

الناشر:

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية /العتبة العباسية المقدسة

الطعه:الأولی2017م-1438ه-

2017 م

ص: 1

اشارة

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 2

ص: 3

هويّة الكتاب

الکتاب:

نحن والغرب(ج2).. مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي

إعداد وتحرير:

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني

الناشر:

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية /العتبة العباسية المقدسة

الطعه:الأولی2017م-1438ه-

ص: 4

الفَهْرسِ

نقد الغرب في دول الشرق الأوسط

جمال الدين الأفغاني قارئاً .. الغرب نقض قيم الاستعلاء الحضاري

هاشم الميلاني...10

نقد الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي قراءة تعريفية في كتاب أصول الفلسفة

مازن المطوري...37

مُحَمَّد حُسَين الطباطبائي الفيلسوف الناقد والحكيم العارف

نبيل علي صالح...89

معمارية الهوية الفكرية الإسلامية عند الفيلسوف محمد باقر الصدر

ودورها في تفكيك التغريب

الدكتور رحيم محمد الساعدي...115

مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر

مازن المطوري ...143

العلواني والنظر إلى "الآخر"

.د. محمد شهید ...170

نقد الفكر الغربي عند مُرْتَضَى مُطَهَّرَي

نبيل علي صالح...189

ص: 5

الثقافة الغربية الحديثة على ضوء آراء الشهيد مرتضى مطهري ( رحمه الله )

تدوين ناد علي علي نيا ...216

الفلسفة التطبيقية بين الشرق والغرب عند الشيخ مهدي الحائري اليزدي

إعداد : هاشم الميلاني...259

قراءة نقدية للفكر الغربي الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي انموذجا

بقلم : محمد عبد المهدي سلمان الحلو...302

نقد الفلسفة الغربية عند الشيخ مصباح اليزدي...324

إعداد : هاشم الميلاني..344

معالجات تأصيلية في نقد الغرب عند الشيخ جوادي الأملي

إعداد: هاشم الميلاني...344

العلامة الشيخ الجعفري والابتعاد عن الفلسفة التقليدية

بقلم: عبد الله نصري...364

دراسة نقود السيد أحمد فرديد على الليبرالية الغربية

بقلم: عبد الرحمن حسني فر - وعماد أفروغ...417

آراء رضا داوري حول الغرب والاستغراب

«على ضوء تبني مجتمعاتنا المبادئ الغربية الحديثة »

تدوين: رضا دهقاني...449

ص: 6

الاستغراب في المنظومة الفكرية لرموز التنظير والتثقيف

في إيران بعد عصر النهضة والحداثة

«دراسة تحليليةً على ضوء آراء الدكتور كريم مجتهدي »

:تدوین: عبد الرحمن حسني فر...476

ماهية الغرب عند السيد حسين نصر

بقلم: عباس حيدري بور...523

المنهج النقدي عند إدوارد سعيد بنحو زحزحته فلسفة" الاستشراق"

الباحث معروفي العيد...593

ص: 7

ص: 8

نقد الغرب في دول الشرق الأوسط

اشارة

ص: 9

جمال الدين الأفغاني قارئاً.. الغرب نقض قيم الاستعلاء الحضاري

هاشم الميلاني

(1)

لا نقصد بهذا البحث الدخول في إجراء تعريفي بشخصية السيد جمال الدين الأفغاني (1838-1897) م، كأن يجيئنا بالعرض التوثيقي لسيرته الشخصية والعلمية، وتقديم بيانات سردية بأعماله ومؤلفاته. فمثل هذا الجهد التوثيقي درج عليه الكثيرون على امتداد أجيال متعاقبة. إنّ ما يسعى إليه الباحث في دراسته هذه، هي الإضاءة على جانب مهم من حياة الأفغاني، وخصوصاً لجهة مقاربة مواقفه النقدية من الغرب. ومع أن الأفغاني لم يأتنا بمنظومة معرفية متكاملة حيال المنظومة الغربية، إلا أن تلك المواقف انطوت على أهمية معرفية استثنائية، ذلك بأنها جاءت في سياق مناظراته الحداثة المتدفقة على العالم الإسلامي، وضمن دعوته النهضوية والإصلاحية؛ ولذا سنرى كيف أنّ السمة الغالبة على أبحاثه كانت النقد اللاذع لسياسات الغرب في البلاد والمجتمعات الإسلامية.

نشير إلى أنا قد اعتمدنا في عملنا هذا على الأعمال الكاملة للسيد جمال الدين المنشورة في سبعة أجزاء من تحقيق هادي خسرو شاهي، 1421 ه-، وفي إطار منشورات المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية. (2)

ص: 10


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية العراق، النجف الأشرف.
2- السيد هادي خسرو شاهي، الاثار الكاملة، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، ط2، طهران، 1412ه-.

اذ كان الأفغاني وجلاً من تغريب العالم الإسلامي، ولا سيما لجهة ما سيؤول إليه من تخبّط في هويته .. كان يقول : علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأنّ المقلّدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم شؤماًعلى أبناء أمتهم، يذلونهم ويحتقرون أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم..» (1: 81).

ويقول: «المتسربلون بسرابيل الإفرنج، الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط لا يميزون بين حق وباطل (1:101)

ومن هذا المنطلق، كان يعارض بشدة النظرة القائلة بأنّ العلاج الوحيد للأمةالإسلامية هو إنشاء مدارس عمومية على الطراز الجديد المعروف في أوروبا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى عمّت المعارف؛ كملت الأخلاق، واتحدت الكلمة واجتمعت القوة (1: 78) ، وذلك لرؤيته أنّ هذه العلوم لم تكن ينابيعها من صدور الأمة الإسلامية، بل جاءت عبر مثقفين هم مجرد نَقَلَة وحَمَلَة لهذه العلوم من دون أن يعرفوا تلك العلوم، وكيف بذرت بذرها، وكيف نبتت واستوت على سوقها، وأينعت وأثمرت، وبأي ماء سقيت، وبأي تربة غذيت، ولا وقوفٌ لها على الغاية التي قصدت منها في مناشئها..»، حينئذ سيكونون كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلاّ فساداً (1 :79) ولذا كان يقول: «لا ريب أنّ الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال التي لا تنال إلا بهمة عالية تأبى العبودية» (4: 182).

وفي الوقت نفسه كان يندد بالحكام الذين اعتمدوا على الأجانب، وسلّموا لهم مقاليد الأمور، حيث أنّ الأجانب في الممالك الإسلامية لا يجدون في أنفسهم حاملاً على الصدق والأمانة، ولكن يجدون منها الباعث على الغش والخيانة.. وإنّ الدول ما انخفض مكانها ولا سقطت في هوّة الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف السامية في أعمالها، فإنّ ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار (1 :156). كان يهيب بالحكام والأمراء الذين سلّموا جميع الأمور

ص: 11

إلى الأجانب حتى الخدمة الخاصة في بطون البيوت ويقول: «ألا أيها الأمراء العظام ما لكم وللأجانب عنكم (ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم) قد علمتم شأنهم ولم تبق ريبة في أمرهم (إن تمسسْكُم حسنةً تسؤهُم وإنْ تُصِبْكُم سيئة يفرحوا بها) (1: 157).

كان السيد جمال الدين يرى أن للغرب وجهين الوجه الثقافي والعلمي، حيث يتبلور في العلم والتقدم والحرية والقانون، والوجه الآخر هو الوجه السياسي الذي يتبلور في الاستعمار والسيطرة على الشعوب والدول الضعيفة، فكان يمتدح الأول ويذم الثاني.

مصادر معلوماته عن الغرب:

بين أن النظرة الصائبة للواقع والتي يتبعها استشراف المستقبل، تبتني على نوعية

المصادر والمعلومات التي يعتمد عليها الإنسان، فكل ما كانت مصادره وأوعيته العلمية والمعرفية متعددة ومتنوعة كانت آراؤه أقرب إلى الصواب. وفيما يخص الأفغاني نرى أنّ نفاذ بصيرته وقرءاته للواقع -عدا ما منحه الله تعالى من فراسة - تعتمد على تنوع مصادر معلوماته، نشير إلى أهمها:

1. المعايشة المباشرة

إن السيد جمال الدين قد عاش لفترة في الدول الأوروبية، فقد ذهب إلى بريطانيا وفرنسا وتعلّم اللغة بحيث تمكن من مد جسور التبادل المعرفي بينه وبين الجالية العربية مما أكسبته معرفة جيدة عن أحوال الغرب ونقاط قوته وضعفه، ناهيك عن تواجده في مستعمرات الدول الأجنبية في العالم الإسلامي، فقد مكث لفترات مختلفة في الهند، وأفغانستان، ومصر، ولمس عن قرب تداعيات السياسات الاستعمارية على الشعوب وما آلت إليها من تدهور في جميع مفارق الحياة الاجتماعية والسياسية.

2. النخبة الغربية

كان الأفغاني ذائع الصيت ويتواصل مع النخبة الغربية: السياسية والثقافية، بهذا

ص: 12

تمكن من استكمال صورة الغرب في ذاكرته من تلك الاجتماعات التي أشار إليها السيد ما ذكره في العروة الوثقى حيث أرسل تلميذه ومدير تحرير مجلته إلى بريطانيا «إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية

مصالح المسلمين من رجال السياسة الانجليزية»

(1:430) ، كما أشار إلى حفاوة الأدباء والشعراء الفرنسيين به (4:137).

3. المكاتبات والمراسلات

استخدم السيد أسلوب المكاتبة والمراسلة لإيصال صوته، فكانت تأتيه برقيات ورسائل متعددة تخبره عن آخر التطورات، وقد يعبر عنها السيد بقوله: بلغنا من مصدر يوثق به (1: 307).

4. الصحف والجرائد

كانت الصحف والجرائد من أهم روافد المعرفية، إذ كان يؤمن بأنّ الطريق الوحيد للوصول إلى المطلوب هو الصحف والجرائد. وفي هذا الصدد كتب مقالاً في فوائد الجرائد وذكر لها تسع عشرة فائدة (5 :197) ، ولذا تنوعت الصحف التي تزود منها وقد أشار في طيات كتاباته إلى بعض منها وهي الفرنسية والبريطانية والروسية والألمانية وسواها وكذلك الصحف الإسلامية التي كانت تطبع في البلدان الإسلامية.

5. الكتب

كان جمال الدين كثير المطالعة لمختلف الكتب وبمختلف التخصصات، على سبيل المثال، قد درّس الهيئة الجديدة عن كتاب باللغة الانجليزية لبعض من التمس منه ذلك (7:22) ، واستفاد مما كتبه فرنسيس لنورمان حول تاريخ أفغانستان (7:113) وكذلك ما كتبه المؤرخون الأجانب في تاريخ إيران (7:39) ، أمثال ملكام سرجم الانجليزي في تاريخ فارس (1: 9).

ص: 13

ثلاث محطات

رغم شحة ما وصل إلينا من تراث السيد جمال الدين، لكن بمراجعة ما تبقى من آثاره ومراسلاته نرى أنّه تناول الغرب من ثلاث محطات رئيسة : الدين، الثقافة والسياسة.

وفيما يلي نشير إلى أبرز ما تناوله في هذه المحطات، علماً بأنّ البعد السياسي كان الغالب على بيانه وبنانه للظرف الذي كان يعيشه السيد آنذاك؛ حيث أن معظم الدول الإسلامية كانت تحت نير الاستعمار تشهد ويلات ذلك، ناهيك عن التخلف والجمود السائدين في جميع أقطار المعمورة الإسلامية.

1. الدين:

فيما يخص الفضاء الديني فقد انصب جهد السيد على بيان أمور:أولاً :الدين في الغرب ، ثانياً : الرد على الدهريين ،والماديين ثالثاً: ردّ شبهات الغرب على الإسلام.

ففي النقطة الأولى، يشير الأفغاني إلى التناقض الموجود بين المبادئ الدينيةالمسيحية وبين السلوك العملي الديني، حيث يقول : إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها (1 :87) ثم يتعجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي والمنتسبين إليه في عقائدهم حيث أنهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حدّ في استيفاء لذاتها، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة، ويخترعون كل يوم فناً جديداً من فنون الحرب ...» (1: 87 - 88 ) .

وسبب هذا التناقض أنّ الدين المسيحي انتشر في الممالك الأوروبية من أبناء الرومانيين-الذين كانوا على عقائد وآداب مختلفة ؛ لكونه جاء إليهم مسالماً لعقائدهم و دخلهم من طرق الإقناع ولم يسلبهم ما ورثوه من آبائهم، ولكن بما أنّ صحف السلم والسلامة لم تكن بمتناول كافة الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين،

ص: 14

فعندما أقام أحبار الرومانيين أنفسهم مقام التشريع وسنّوا محاربة الصليب، افترقوا وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطانه، فعاد وميض ما أودعه أجدادهم في وجودهم ضراماً وتوسّعوا في فنون كثيرة منها فن الحرب واختراع آلات الحرب.

يصف الأفغاني المتدين الغربي وغير المتدين منهم بالتعصب الديني الشديد ويستغرب من ذلك ويقول: «الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم، وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذاهبهم في ناحية من نواحي الشرق سمعت صياحاً، وعويلاً، وهيعات ونيآءات تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية... وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء، يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض، أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر البسيطة . دماء المخالفين لهم في الدين والمذهب، فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس، بل يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مدة الغاية من حدّه... وليس هذا خاصاً بالمتدينين منهم ، بل الدهريين ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم الديني... أما إنّ شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب، يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية کجلادستون، ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا ترى روحه إلا نسخة من روحه» (1: 109 -110).

مع هذا التعصب الديني، كان يرى السيد أنّ الدين المسيحي في مرحلة العزوف بسبب شبهات الفلاسفة، حيث يقول : وإن قيل لك إنّ النصارى لكثرة غواية الفلاسفة لهم وزحزحتهم عن دينهم شيئاً فشيئاً في مدة ثلاثمائة سنة؛ يتركون دينهم ولا يبقى له وجود فصدّقه (6 :50)

ص: 15

أما النقطة الثانية، فقد ألّف السيّد رسالة في الرد على الماديين في جواب من سأله عن معنى نيتشر، فأسهب الكلام في ذلك، وتطرق إلى تاريخ الدهريين منذ فلاسفةاليونان حيث قسمهم إلى قسمين: الإلهيين والماديين، فذكر معتقدات الماديين وناقشها من أبرز تلك المعتقدات: تساوي منزلة الإنسان مع الحيوان، لا حياة للإنسان بعد هذه الحياة محاربة القيم والأخلاق الإباحة والاشتراك المطلقان في جميع الأشياء، إنكار الصانع، جحد العقاب والثواب.

ثم يقول :« متى ظهر الماديون في أمة نفذت وساوسهم في صدور الأشرار من تلك الأمة، واستهوت عقول الخبثاء الذين لا يهمهم إلا تحصيل شهواتهم ونيل لذاتهم من أي وجه كان؛ لموافقة هذه الآراء الفاسدة لأهوائهم الخبيثة، فيميلون معهم إلى ترويج المشرب المادي وإذاعته بين العامة غير ناظرين إلى ما يكون من أثره، ومن الناس من لايساهم في آرائهم ولا يضرب في طرقهم، إلا أنّه لا يسلم من مضارهاومفاسدها ، فإنّ الوهن يلم بأركان عقائده ، والفساد يسري لأخلاقه من حيث لايشعر»(2:165).

كما أنّه يهاجم داروين ونظريته الشهيرة في تبدّل الأنواع وتطوّرها ويسهب في رده حيث يقول: «وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلاً بمرور القرون وكرّ الدهور ، وأن ينقلب الفيل برغوثاً كذلك. فإنّ سئل (داروين) عن الأشجار القائمة على غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحدّدها التاريخ إلا ظناً، وأصولها تضرب في بقعة واحدة وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كلٌّ منها عن الآخر في بنيته وشكل أوراقه، وطوله وقصره وضخامته ورقته، وزهره وثمره، وطعمه ورائحته، وعمره ؟ فأي فاعل خارجي أثر فيها، حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظنّ (أن) لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.. وإن قيل له: هذه أسماك بحيرة (أورال) وبحر (كسين) مع تشاركها في المأكل والمشرب وتسابقها في ميدان ،واحد، نرى فيها اختلافاً نوعياً، وتبايناً بعيداً في الألوان والأشكال والأعمال، فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ لا أراه يلجأ فى الجواب إلاّ إلى الحَصَر..

ص: 16

وهكذا لو عرضت عليه الحيوانات المختلفة البنى والصور والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق، أو الحشرات المتباينة في الخلقة المتباعدة ،التركيب المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة لتجلو إلى (تربة) تخالف تربتها، فماذا تكون حجته في علة اختلافها، كأنها تكون كسفاً لا كشفاً؟

بل إذا قيل له: أي هاد هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها؟ وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة ووضعها على مقتضى الحكمة، وأبدع لكلِّ منها قوة على حسبه، و (أناط) بكل قوة في عضو أداء وظيفة، وإيفاء عمل حيوي، مما عجز الحكماء عن إدراك ،سره، ووقف علماء السيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء، معلّماً لتلك الجراثيم، وهادياً خبيراً لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ لا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج الحيرة يدفعه ريب، ويتلقاه شك، وإلى أبد الآبدين.

وكأني بهذا المسكين ما رماه في مجاهل الأوهام ومهامه الخرافات إلا قرب المشابهة بين القرد والإنسان، وكأن ما أخذ به من الشبه الواهية الهية يشغل بها نفسه عن آلام الحيرة، وحسرات العماية، وإنا نورد شيئاً مما تمسك به:

فمن ذلك أن الخيل في سيبريا والبلاد الروسية أطول وأغزر شعراً من الخيل المتولدة في البلاد العربية وإنما علة ذلك الضرورة وعدمها.

ونقول: إنّ السبب فيما ذكره هو عين السبب لكثرة النبات وقلته في بقعة واحدة،

لوقتين مختلفين حسب كثرة الأمطار ،وقلّتها، ووفور المياه ونزورها، أو هو علّة النحافة ودقة العود، في سكان البلاد الحارة، والضخامة والسمن في أهل البلاد الباردة بما يعتري البدن من كثرة التحلل في الحرارة، وقلته في البرودة.

ومن واهياته ما كان يرويه (داروين) من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قروناً، صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول: حيث

ص: 17

لم تعد تعد للذنب حاجة كفّت الطبيعة عن هبته...

وهل صُمّت أذن هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب، ومما يجرونه من الختان ألوفاً من السنين، ولا يولد مولود حتى يختن، وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختوناً إلا لإعجاز ؟!

ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم، نبذوا آراءهم وأخذوا طريقاً جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية من الشعور، مصدراً لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة والأشكال المعجبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علوية وسفلية، والموجب لاختلاف الصور والمقدّر لأشكالها وأطوارها، وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: أي مادة ،وقوّة وإدراك. وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلابسها من الإدراك، تجلّت وتتجلى بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية - نباتية كانت أو حيوانية - تراعي بما لابسها من الشعور، ما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة، والفصول السنوية (141:2-143).

هاجم أيضاً فولتير وروسو وعدّهما ممن أحيى ما بلي من عظام الدهريين ونبذ كل تكليف ديني وغرس بذور الإباحة والاشتراك( 2 :177) ، يقول: «والأضاليل التي بثها هذان الدهريان فولتير ،وروسو هي التي أضرمت نار الثورة الفرنسية المشهورة، ثم فرقت بعد ذلك أهواء الأمة وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها ...» (3:178).

وأخيراً يشير إلى طائفة من الدهرية كرّست جهودها في نفي العقيدة الألوهية، فانبرى للدفاع عن تلك العقيدة مثبتاً إياها سبيلاً للوصول إلى السعادة الدنيوية والأخروية (183:2- 192).

أما النقطة الثالثة، وهي الدفاع عن الإسلام أمام شبهات الغربيين، فقد أشار في طيات كلامه إلى بعض تلكم الشبهات وأجاب عنها، ومنها مسألة القضاء والقدر

ص: 18

وزعم الغرب بأنّها السبب في تأخر المسلمين، وأنّها تساوي مذهب الجبرية، فردّ عليهم السيد بأنّ الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع وترشد إليه الفطرة (1: 115)، بل إنّ الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرّد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجرأة والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة، ويطبع الأنفس على الثبات واحتمال المكاره ويحليها بحلي الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها بل يحملها على بذل الأرواح (1: 116).

2. الثقافة والعلم

أما الثقافة والعلم وما تتبعه من تقدم وازدهار في الغرب، فكان ممدوحاً عند الأفغاني ويرى أنّها من إيجابيات الغرب ومحاسنه، وإن كان يرى أنهم اتخذوا جميع محاسن الدين الإسلامي (5: 249).

ومن أبرز ما أشار إليه السيد وامتدحه في هذا الصدد:

أ: العلوم والمعارف قال رحمه الله: ليعلم أن جميع هذا التقدم الموجود في أوروبا كان نتيجة العلم والاطلاع» (4:99) ، لذا كان يهيب ببني جلدته قائلاً: «يا أبناء الشرق أفلا تعلمون أن سلطة الغربيين وسيادتهم عليكم إنما كانت بارتفاع درجتهم في العلوم والمعارف وانحطاطكم فيها، فلم لا تتقد أحشاؤكم بنيران الشوق لهذا المؤلف البديع وأمثاله... هل رضيتم بعد ما كان لكم ذروة الشرف بواسطة العلوم والمعارف أن تدوم لكم تلك الحالة الوخيمة التي أوصلتكم إليها الجهالات والضلالات... فهلموا لاقتناء المؤلفات واقتناص صيد المعارف ».(6 :91)

ب: الحرف والصنائع (4: 99).

ج : نبذ البدع والخرافات التي كان يبثها رجال الكهنوت (5: 250).

د: حرية الصحافة، حيث قال: «وبالجملة فإنّ من أسباب تقدم الملل الأوروبية حرية الصحافة حيث أتاحوا للناس من خلالها نشر المحاسن والمعايب ،كي تدعو

ص: 19

صاحب الفضيلة إلى التمسك بخصاله الجميلة وحسن الأخلاق، وصاحب الرذيلة والأفعال المذمومة بشوائب الهوى والنفس إلى تركها

(4: 101)

ه-: القانون قال رحمه الله:« إن الإنسان الحقيقي هو الذي لا يحكم عليه إلاّ القانون الحق المؤسس على دعائم العدل الذي رضيه لنفسه يحدّد به حركاته وسكناته ومعاملاته مع غيره على وجه يصعد إلى أوج السعادة الحقيقية» (6: 56).

و: الهمة العالية، قال: «إن أبناء الأمم الغربية إذا عمدوا إلى قصد لا يفترون في طلبه، وعلو الهمة فيهم تجعل لديهم كل صعب سهلاً، وكل بعيد قريباً، يقتحمون المخاطر لاكتساب الشرف ويتجشمون المصاعب للوصول إليه... لهذا ترى الرجل منهم يجوب فيافي أفريقيا، ويتسنّم جبال سيبريا، ويخالط قبائل وشعوباً لا يعرف لهم لغة، ولا يألف لهم عادة ولا أخلاقاً، ويتكبد مشاق الحر والبرد والجوع والعطش، وينازل الموت مع من يخالطه من تلك القبائل البعيدة عنه في جميع أوصافهم... كل هذا ما يحتمله طلباً لشرف يكسب لذاته، أو ابتغاء مجد يحصله لأمته» (1: 286).

ولذا كان يمدح الأمة الفرنسية قائلاً: «والحق أن الأمة الفرنسية قد كسبت قلوب الشرقيين باعتدالها في صفة الأنانية، وحبها العام للخير والبر، وبذلك يحق للشرقيين أن يحبوها في المقابل، والحق أن تلك الأمة لم تنفك تظهر عواطفها الكريمة في جميع أنحاء الشرق... فتحية إلى الأمة التي تنطق أعمالها بمدحها، والتي يشهد العالم كله على فضائلها وطهارة ثوبها الذي لم يدنسه تلوث الطمع (7: 202).

3. السياسة

فيما يخص الفضاء السياسي الغربي، فإنّ السمة الغالبة كانت آنذاك التسابق على استعمار الدول الإسلامية والشرقية، وكأنّ الشرق كعكة تم تقاسمها بينهم بالسوية. إنّ الاستعمار الجديد تلبس بلباس الخدعة والحيلة ولم يكن على طرازه القديم منزوع القناع: «إن العدوان في هذه الأزمان لا يأتيه المعتدون كما كان في الأحقاب الخالية مشوّه الوجه منكر الصورة يعرفه الذكي والغبي بل من أراد عدواناً فلا بد أن يحفّه

ص: 20

بمواكب من الأدلة وحفال من البراهين، وهو ما يعبرون عنه بالحقوق والمصالح، وما أصعب الوقوف على كنه العدوان وهو في هذه الحيلة وتلك الهيئة الجميلة»

(82:4،331:1).

انقسم الاستعمار آنذاك بين دولتين فرنسا وبريطانيا، ولكن انصب غضب الأفغاني ونقده اللاذع على بريطانيا لكونها تشكل القوة الأولى في العالم آنذاك، والتي تطمع بالسيطرة على العالم أجمع، حيث يشبهها بالمبتلى بجوع البقر والاستسقاء الذي لم يشبعه ابتلاع مائتي مليون من الناس ولم تروه مياه التمس والقنج، بل غرفاه ليبتلع بقية العالم ويجرع مياه النيل ونهر جيحون (7: 107).

كان الأفغاني سيئ الظن ببريطانيا لا يرى خيراً في سياستها، كان ينادي الشعب المصري بكل صراحة ووضوح ويقول لهم أنّ بريطانيا لو ثبتت أقدامها لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم وخطرات قلوبهم ولأخذوا الأبناء بذنوب الآباء والأحفاد بجرائم الأجداد (1 :292)

ونظرته هذه كانت مبتنية على مشاهداته المباشرة لنتائج الاستعمار في الدول المستعمرة، وعلى قراءته الفاحصة لتاريخ بريطانيا، حيث عقد فصلاً خاصاً بهذا الشأن بين فيه تاريخ بريطانيا وما كانت عليه من سوء وكيف تمكنت من تطوير نفسها اعتماداً على الحيل والخدع (7: 196).

لقد وصف بريطانيا بخصال تكون بمثابة الدعامة للسياسة البريطانية: الأنانية، الخدعة والمكر، الأثرة.

أما بالنسبة إلى الخصلة الأولى، فيقول: «إنّ من يرجع إلى تاريخ الماضي يقتنع لا محالة بأنّ الانجليز لم يكفّوا قيد شعرة عن اتباع ذات السياسة الثابتة في تحقيق غاياتهم في الشرق والغرب وفي العالم القديم والحديث... فهم يتحركون من خطأ مستهجن كان في طبيعتهم، ألا وهو الأنانية (7:199). إن السياسة الضعيفة تنشأ من العقل المضطرب، وتنبت الشره والطمع اللذين ينبعان بدورهما من تلك الصفة

ص: 21

المستهجنة، ألا وهي الإفراط الإفراط في الأنانية، وقد أثارت هذه الصفة أعداءالانجليز عليهم، وجعلت أصدقاءهم يشعرون نحوهم بالاشمئزاز (7 :203).

أما الخصلة البارزة الثانية السائدة في سياسات بريطانيا فهي المكر والحيلة، فيقول السيد عنهما:« إن الانجليز لهم في كل مصلحة مفسدة، وفي كل حسنة سيئات، وفي كل صفاء دخل، فهم الخادعون الخائنون، بل هم الكاذبون المنافقون هذه صفاتهم لم يبق فيها ريبة عند مسلم»(1:417) . إن حكومة بريطانيا ما عاهدت عهداً إلا ونقضته بعد ما جنت ثمرته، فربحها في العهود خاص بها لا يشركها فيه غيرها» .(1: 442)

«إن الانجليز ملكوا نحو ثلث العالم بلا سفك دماء غزيرة، ولا صرف أموال وافرة، وإنما ملكوا ما ملكوا بسلاح الحيلة، يدخلون في كل بلد أسود ضاربة في جلود ضأن ثاغية، يعرضون أنفسهم في صورة خدمة صادقين، وأمنة ناصحين، طالبين للراحة، مقومين للنظام (1:343) الحكومة الانجليزية كالصياد الماهر لا يطلب السمك إلا عند تعكير الماء (1:464) ، اتخذوا سياسة قوامها التغرير والتلبيس، ونصب فخ المواربة وشرك المخاتلة، وبهذه السياسة حققوا أهدافهم وتفوّقوا على سائر الأمم الأخرى (7: 197) ، فهذه دولة الانجليز كمرض الآكلة يظهر أثره ضعيفاً لايحس به عند بدئه ثم يذهب في البدن فيفسده ويبليه بدون أن يشعر المصاب بالألم، هكذا شأن الانجليز في لينهم وتلطفهم، وحلاوة وعودهم وتملّقهم وخضوعهم» (1: 398).

هذه أهم السمات التي رسمها الأفغاني في ذهنه عن بريطانيا، والتي يصدقها الواقع الذي عاشه والتاريخ الذي أثبت صحة تلك النظرة الثاقبة، ومن هذا المنطلق بدأ بقراءة سياسات بريطانيا تجاه العالم عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً، «ليس في التعلات أعجب مما يتعلل به الانجليز، ولا في المحاورات أغرب مما يستدلون به لا مقدمات بينة ولا حجج قيمة، وأقوى ما يكون من أدلتهم أولى به أن يكون في معرض الهزل من أن يكون في جانب الجد» (1: 405).

ص: 22

بريطانيا والعالم

كان الأفغاني يرى سياسة بريطانيا تجاه العالم أوقعتها بين محاذير ثلاثة لا يتيسر واحدها إلا بما ينفي الآخر، لكنهم يريدونها مجتمعة ولن يقدروا عليها، وهذه المحاذير الثلاثة مسألة محمد أحمد المهدي السوداني، الوفاء بعهودهم لأوروبا، ما يضمرونه لأنفسهم في مصر. ثم إنهم يتشبثون لكل منها بوسيلة تضارب ما يتمسكون به في الأخرى.

هذه أهم المعالم التي أوقعت بريطانيا نفسها فيها بسبب سوء صنيعها وازدواجية فعالها، وسنحاول رسم بعض تلك المعالم تجاه مختلف الدول الإسلامية وغير الإسلامية.

1. بريطانيا والغرب

إنّ بريطانيا جرّاء سياساتها الغاشمة أثارت حفيظة حلفائها الغربيين حيث بدأوا بالعداء لها والتربص من سياساتها، وقد رصد السيد جمال الدين هذا العداء نتيجة تواصله مع وسائل الإعلام وتواجده في الغرب، فأفصح بذلك قائلاً: «نرى دوائر السوء تدور بالحكومة الانجليزية، وقد تهيأت ضاربات الشر للوثبة عليها، وليس لها حليف في أوروبا، وإنّ استئثارها بمنافع الأمم وطمعها في الاختصاص بمصالح العالم أبعد عنها الأصدقاء ونفّر منها الأولياء» (1:189)،« قامت الدول على معارضتهم لعلمها أنّ الانجليز صاروا للأمم كدودة الوحيدة على ضعفها تفسد الصحة وتدمر البنية» (1: 208)، «إنّ الأحقاد قد أخذت بقلوب الأمم الأوروبية، وامتلأت الأفئدة غيظاً حتى طفحت، ولهذا لا ترى جريدة ألمانية أو نمساوية أو فرنسية أو روسية إلا وهي مشحونة بالطعن والتنديد والوعد والوعيد والإنذار بسوء عاقبة حكومة الانجليز»

(441:1).

هذا على نحو العموم، أما على النحو الخاص فيشير السيد إلى الخلافات البارزة بين بريطانيا وبعض دول الغرب، منها :

ص: 23

إيرلندا حيث يشير السيد إلى العداء الواضح بينهما، أدى إلى استعمال العنف ونفور الطباع بين الشعبين مع اشتراكهما في الدين واللغة، هذا وبريطانيا تدعي أنّها ما استعمرت دول الشرق إلاّ لبسط العدل وإقرار الراحة بين أهلها، فأين هذا من تلك الدولة، التي لا ترحم شعبها كيف ترحم غيره؟! (1: 254، 382).

أميركا: إنهم ثاروا على الانجليز، فمع أنهم يشتركون معهم في اللغة والدين؛ نراهم يظهرون لهم عداوة صريحة، ولا يرجون شيئاً أفضل من أن يروا مملكتهم في حكم الزوال (7: 200) .

كما أنهم أثاروا اشمئزاز اليونانيين بعجزهم عن حفظ وعودهم لهم (7: 204) ، وأشعلوا غضب الإيطاليين أحفاد الرومان بسبب احتلالهم قبرص التي كانت من قبل إحدى ممتلكات الرومان (7: 205)

فرنسا: هي التي انحسرت رقعة نفوذها في العالم بسبب تمدد بريطانيا، فكان لهاحديث آخر، إذ كانت فرنسا تحس بأنّها خسرت الصفقة أمام بريطانيا، وأن بريطانيا تنوي التفرد بكعكة العالم التي تلتهمها أجمع وهذا ما لا يروق لفرنسا «إن فرنسا لا تزال تطلب من إنجلترا أن تعيد إليها ما فقدته من حظ السلطة في شواطئ النيل»(1:311)، فضلاً عن ذلك فإنّ لفرنسا مستعمرات كثيرة ما وراء البحر الأحمر ولا يمكن صونها وبريطانيا تسيطر على الطرق والمواصلات والمراكز الاستراتيجية. وهناك ثلاثة أمور أزالت الصداقة بين الدولتين نهائياً، وهي: تحريض فرنسا لشن الحرب ضد روسيا والتغرير بها ترك فرنسا تتكبد خسائر فادحة هناك مع إمكان التوسط من قبلهم احتلال قبرص حيث كانت تُعد بوابة سوريا وآسيا الصغرى ومصر (7: 204).

جراء هذه المصاديق العينية التي أغضبت الغرب حصلت تحالفات دولية جديدة أدت إلى تقليص نفوذ بريطانيا وظهر ضعفها أمام القاصي والداني.

2. بريطانيا والعالم الإسلامي

يرى السيد جمال الدين أن بريطانيا لا تريد خير المسلمين بل تكنّ لهم العداء

ص: 24

والضغينة:« الحكومة الانجليزية عدوة المسلمين عداءً شديداً لالتهامها الممالك الإسلامية... وكمال بهجتها في أن تراهم أذلاء عبيداً لا يملكون من أمرهم شيئاً» (1: 395) فبدأت تحاسبهم على خطرات قلوبهم وما يمكن أن يهجس في حديث

نفوسهم :(1) (348) . ومن مصاديق هذا العداء:

1. ازدراؤهم في التوظيف الرسمي كما هو الحال في الهند حيث تقدم المجوس ثم الوثني على المسلم فإذا لم تجد أحداً عيّنت مسلماً

(1 :362)

2. منع التبليغ الديني كما هو الحال في مصر حيث قاموا بغلق أبواب الأزهر على عامة الناس، ونفوا بعض العلماء إلى السودان، ومنعوا الوعظ والإرشاد وصلاة الجمعة (4: 134).

3. فسح المجال للمبشرين بالعمل لضرب الإسلام وبث الشبهات وإهانة القرآن والنبي صلى الله عليه وآله: «إنّ قسس الابروتستانت المغرورين يقومون في شوارع البلاد الهندية على سوقهم ويطعنون في الديانة الإسلامية طعناً تقشعر منه الأبدان ويفتعلون من الأراجيف ما تصطك منه الآذان، ويختلقون أقوالاً يستبشعها الأوباش، وينسبون إلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسائلهم من الشنائع والفظائع ما تنبو عنه الطباع ... و ميزان (الحق) و (المسيح الدجال) وغيرهما من الرسائل المحشوة بالسب والشتم والقذف في شارع الديانة الإسلامية تنبئك عن كيفية معاملة الانكليز مع مسلمي الهند و نهج مراعاتهم» (6: 214 ، وأيضاً 1: 445) .

4. المحاربة المالية للمسلمين وتضييق سبل العيش عليهم : ومن جهة أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين، وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم من كل وجه، فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس»

(445:1).

هذه بعض المعالم السياسات بريطانيا في العالم الإسلامي عموماً، أما سياساتها في كل دولة على حدة، فقد أشار السيد جمال الدين في طيات كلامه إلى بعض الدول

ص: 25

الإسلامية وأسهب القول في مصر لأهميتها ودورها المحوري آنذاك بين سائر الدول الإسلامية، وفيما يلي إطلالة سريعة وموجزة على أهم ما استقرأه السيد من سياسات بريطانيا تجاه كل بلد إسلامي.

1. إيران

كانت بريطانيا تبغض إيران لعدة أسباب قديمةوحديثة. أما عن القديمة فيقول الأفغاني : «إنّ في قلوب الإنجليز حقداً وضغينة على كل إيراني سواء كان من الأفراد أو الوجوه، ويسيؤون معاملتهم حيثما وجدوا من بلاد الهند ويمقتونهم مقتاً شديداً، لأنّ نادر شاه من ملوك العجم جاء إلى الهند فاتحاً على عهد السلطة التيمورية، واستولى على خزائن الأموال في دلهي، وأخذها إلى بلاده قبل استيلاء الانجليز على تلك المملكة بما ينيف عن قرن ، ويعضون الأنامل من الغيظ، ويحرقون الإرم من الأسف على ما أخذه نادر من أموال دلهي وحرمانهم من تلك الأموال، ويحملون هذا الوزر على عاتق كل إيراني (292:1).

أما السبب الحديث، فهو ما حصل لبريطانيا جراء إلغاء معاهدة التنباك، حيث فوّت عليهم العلماء مغانم كثيرة عندما أجبروا شاه إيران على إلغاء تلك المعاهدة التي تفوّض لبريطانيا حق التصرف المطلق بالتنباك الإيراني.

2. الدولة العثمانية

رغم العداء الذي تكنه بريطانيا للدولة العثمانية التي تشكل الخلافة الإسلامية آنذاك، تحاول جهد إمكانها السيطرة عليها بشتى السبل والوسائل وتضعيفها لتبتلعها لاحقاً «باختصار : إنكلترا هي بصدد تفكيك الإمبراطورية العثمانية من أجل ابتلاع الأجزاء المرغوبة منها الواحد تلو الآخر، تماماً بالطريقة نفسها التي ابتلعت فيها الهند ببطء ولكن بلا مخاطر» (6: 69).

ولكن مع هذا كانت بريطانيا تتوجس من الدولة العثمانية خيفة إذ كانت تحس أن كل إنجليزي قلبه بين أصابع الدولة العثمانية وأحشاؤه مستقرة على أناملها» (1: 98)

ص: 26

ولكن مع هذا كانوا أضعف من أن يجاهروها بالعدوان أو أن يعلنوا عليها حرباً خشية

أن تنقلب عليهم الدول الإسلامية

(1: 274 ،361 )،أو أن يتم تحالفهم مع روسيا أو سائر خصوم بريطانيا فتكون البلية عليهم أعظم . فلذا اكتفوا بالتهديد والترهيب والوعيد (1: 266، 333).

3. أفغانستان

كان هناك تنافر متبادل بين بريطانيا والأفغان، وكانت بلدة الأفغان عصية على بريطانيا لم تستسلم لها، رغم أنّها كانت منطقة استراتيجية بالنسبة لبريطانيا وتعد مفتاح الهند فمن سيطر عليها أمكنه السيطرة على الهند أيضاً وزعزعة سلطة بريطانيا، لذا شهدت الساحة الأفغانية سائر ما شهدته البلدان الإسلامية من غزو ومكر وحيلة؛ غير أنّ هذه الحيل لم تنجع وباءت بالفشل جرّاء بسالة أبناء الأفغان وشجاعتهم وثباتهم في الدفاع عن الأرض والوطن، رغم أن بريطانيا استخدمت كل ما بوسعها حتى أرادت أن تلقي الفتنة بين الأفغان وإيران حيث كانت تعطي الأموال لبعض أمراء وعلماء كابل لينادوا بالحرب الدينية، ولكن سرعان ما فشلت تلك الخطط كأنّ الأفغانيين علموا أنّ لوث حيل المحتال ودرن مكره وأوساخ خداعه؛ لا يطهرها إلاّ دمه المهراق، وإنّ عين الطامعين لا يملؤها إلاّ تراب القبور، فأراقوا دماء الانكليز، وجعلوا شعاب جبالهم قبوراً لقتلاهم، وأذاقوهم مرارة نقض العهود» (7: 160).

4. السودان والحركة المهدية

كان لبريطانيا مطامع في السودان، ولكن فشلت تلك المطامع جراء انكسار بريطانيا أمام حركة محمد أحمد المهدي السوداني، وإليك بيانه:

إن بريطانيا بعد ما رأت أنّ الدول الغربية لم تتوافق مع سياساتها لاسيما في مصر، طمعت أن تحتل السودان لتكون عوضاً عن مصر مستقبلاً :« تريد حكومة إنجلترا إذا عارضتها الدول في السيادة على مصر أن تنشئ لها سلطة في خرطوم يمتد حكمها إلى جميع أراضي السودان، وعساكرها الآن حالة في سواكن، وما أسرع أن تصل بين

ص: 27

المدينتين بالسكة الحديدية، فتكون القوة الانجليزية بعد هذا محيطة بمصر من جميع الجوانب »(1: 367)

ولكن فوجئت بريطانيا بشيء لم تكن تتوقعه وهو حركة (محمد أحمد) مدعي المهدوية السوداني حيث قام بوجه بريطانيا وألقى الهزيمة النكراء بجيوشها، وانعكست هذه الهزيمة على بريطانيا سلباً من عدة جهات:

1. انكسار الهيبة البريطانية وإظهار ضعف قواها العسكرية.

2. دفع مشاعر المسلمين عموماً نحو مقاومة المحتل وإعادة الأمل في قلوبهم حتى كتب بعض أصدقاء السيد إليه كتاباً يقول فيه :« إن محمد أحمد لو كان دجالاً لأوجبت علينا الضرورة أن نعتقده مهدياً وأن لا نفرط في شيء مما يؤيده (1: 274) ، ولّد هذا الحدث لدى المصريين الأمل بالتخلص من السيطرة الانكليزية بمساعدة المهدي ومن جهتهم فإنّ مشايخ جامعة الأزهر بدأوا يطلبون المغفرة في أعقاب الفتوى التي تناولت محمد أحمد كدجال» (6 :33) كما إنها أيقظت المشاعر الدينية لدى كل شيوخ الطرق مثل القادرية والنقشية والجلالية والسنوسية والشاذلية وغيرها . (6: 33).

3. إحراج الحكومة أمام شعبها وسائر الأحزاب المنافسة لها.

4. وقوع الخوف والهلع في قلوب العساكر البريطانية.

لذا استخدمت بريطانيا ماكنتها الإعلامية والسياسية، واستنفذت كل خططها وحيلها للتخلص من هذا المأزق، حيث عملت وفق الخريطة التالية:

1. أول ما قامت بريطانيا به إرسال الجيوش والعساكر لكن غيرت سياستها بعد إخفاق عساكرها وانهزامهم أمام المهدي السوداني (1: 222).

2. التقليل من صدمة الانكسار في الإعلام وأنهم تراجعوا لمصالح أخرى.

3 .الاستعانة بالعثمانيين لأخذ مرسوم منهم بتبديع محمد أحمد والتنديد به (1: 410).

ص: 28

4 .الاستعانة بالجيش العثماني (1 :312) .

5. اختراع مهدي آخر في السودان لتفريق الكلمة وإيقاع الخلاف بين السودانيين

(371:1).

6. الإيقاع بين المسلمين وغير المسلمين في أفريقيا، واستحداث حرب دينية جديدة، حيث بدأوا بالتنسيق مع ملك الحبشة وإغرائه ليدخل في حرب مع المهدي السوداني، «ولم تبال في التماس هذه المساعدة أن تصرّح للحكومة الحبشية أن الغرض منها كبح المسلمين في السودان وإضعاف قوتهم، لتثير بذلك حرباً دينية تذكّر العالم بالحروب الصليبية» (1: 280).

7. وأخيراً أطلقت آخر كنانة من سهام حيلها، فبدأت بمدح الإسلام وجلب مودّة المسلمين حتى إنّ بعض البريطانيين الموجودين في الهند دخل في الإسلام وكان الغرض من ذلك «أن يخدعوا المسلمين بمشاكلتهم إليهم ويحسنوا الظن بهم، فيبيحوا لهم بما تكنّه صدورهم من خواطر الميل إلى دعوة محمد أحمد السوداني» (1: 416).

5. الهند

«لقد انتزعت إنكلترا المملكة التيمورية الواسعة من أيدي الإسلام، كما استولت عنوة على حكم الميريت الذين يشكلون العدد الأكبر والأفتى بين الهندوس، لقد فتنت إنكلترا أشراف السند وراجوات السيخ في البنجاب، كما قضت على علماء البنغال، ولم توفر ممالك ميسور وأود التي أفرغتها من السكان بواسطة المجازر وأخيراً قامت إنكلترا بتقطيع الأقاليم التابعة لراجوات جيبور ودجوبتور وبرودا حيث استولت على القسم الأكبر منها» (6 : 39).

هذه السياسة الملتوية دامت عدّة عقود وأعقبت الويل والثبور والفقر والحرمان، ولم يكن الرابح الوحيد من هذه الصفقة سوى دولة بريطانيا الفخيمة، وفيما يلي نشير إلى

أهم سياسات بريطانيا في الهند بحسب ما أفادها يراع السيد جمال الدین رحمه الله :

ص: 29

1. الظهور بمظهر الصلاح والخدمة، قال السيد: «أول ما استمالوا به القلوب السالمة قولهم إننا نريد تخليصكم من هذه الدول الظالمة( فرنسا وهولندا والبرتغال)، فإنّها تريد التسلط على ممالككم، أما نحن الإنجليز فلا نريد إلا تحريركم واستقلالكم (1: 204)، وقال: «دخلت دولة الإنجليز بلاد الهنديين ومدت عينها إلى ما متعهم الله به من أراضيهم، وطمعت إلى اختطافها من أيدي المسلمين، إلا أنّها ذهبت مذهب اللين واللطف وخفض جناح الذل والظهور في ألبسة الخضوع والخشية» (288:1).

2. محاربة السلطة الحاكمة وإضعافها:«كانت تتدرج في نقض أساس السلطنةالتيمورية حجراً حجراً، وتمتلك أراضيها قطعة بعد قطعة، لكن بدون تعرّض للسلطنة الظاهرية ولا مس لنفوذها، كانت تغري الولاة من النوابين والرجوات بالخروج على السلطان التيموري، ثم تنوب عنه بالعساكر الإنجليزية والصينية للتغلب على الخارجين تحت اسم الملك، ولا تمس رسومه الملوكية بل تلقب نفسها خادمة مأمورة» (1 :289)

3. إغراء الأمراء وتحريضهم على الاستقلال:«دمّر الانجليز على الهنديين في أراضيهم وانبثوا بينهم فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء وإغراء كل نواب أو راجا بالاستقلال والانفصال عن السلطنة التيمورية فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه فصارت الأراضي الهندية الواسعة ميادين للقتال واضطر كل نواب أو راجا إلى المال والجنود ليدافع بها عن حقه أو يتغلب بها على عدوّه، فعند ذلك تقدم الإنجليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببدر الذهب وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب. بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك الصغار من عساكرهم الأهلية ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاختلال ثم أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الانجليزية وقوادها وما هم عليه من القوة والبسالة والنظام حتى اقتنع كل نواب أو راجا بأنّ لا ناصر له على مغالبه إلا بالجنود الانجليزية،

ص: 30

فأقبل الانجليز على أولئك السلّج يضمون لكلِّ صيانة ملكه وفوزه بالتغلب على غیره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الانجليز ويكون بعض الجنود من الهنديين وبعضها من البريطانيين وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها، ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم حتى أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر لتدفع شر بعضهم عن بعض، وصار الإنجليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها، ففرقة سموها (عمرية) وأخرى سموها (جعفرية) وغيرها سموها (كشتية) إرضاءً لأهل السنة والشيعة والوثنيين» (1 :329)

4. الاستحواذ على الأراضي وأملاك الناس

«لما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية فتح الإنجليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض وأظهروا غاية السماحة، فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة وبعضهم بدون فائدة وينتظرون به الميسرة حتى ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء، وبعد مضي زمان كانوا يومئون إلى طلب ديونهم بغاية الرفق ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات الجنود يصعب عليكم ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من الأرض نستغلها ونستوفي منها ديوننا من غلاتها على الجيوش التي أقمناها لكم ثم الأرض أرضكم نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء وإنما نحن خادمون لكم فيضعون أيديهم على غضروات الأراضي وفيحائها، وفي أثناء استغلالها يؤسسون بها قلاعاً حصينة وحصوناً منيعة كما يفعلون ذلك في ثكن عساكرهم على أبواب العواصم الهندية، وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبواباً من الإسراف والتبذير ويقرضونهم ويقتضون قرضهم بالقيام على أراض أخرى يضمونها إلى الأولى ثم يحضون نار العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتداخلون في أمر الصلح فيجبرون أحد المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة من أراضيه وهم في جميع أعمالهم

ص: 31

موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين لكل من المتغالبين.

وبعد هذا فلهم شؤون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي لتضعف قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت ،بعض حتى إذا بلغ السير نهايته واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم وغلبت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكاً، ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية له واقية لبلاده. وكانت تشحذ لجز عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله ثم خلفوه على ملكه وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب الملك فيخلعون المالك ويولون الطالب على شريطة أن يقطعهم أرضاً أو يمنحهم امتيازاً فيحولون الملك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه ومن العم لابن أخيه وفي الكل هم «الرابحون (1: 329 - 330) .

وهناك حيلة أخرى استخدموها للاستحواذ على الأراضي يشرحها السيد بقوله:

«أراد الإنجليز أن لا يكون لغيرهم يد على ملك واسع فيما تحت سلطتهم، فضربوا على أرباب الاقطاعات رسوماً زائدة يؤدونها عن أراضيهم في أوقات محدودة، ثم وضعوا في قانون الزراعة أنّه لا يجوز للمالك أن يقيم الدعوى على مزارعيه إذا تأخروا عن تأدية ما شرط عليهم إلا بعد مضي ثلاث سنوات من وقوع موضوع الدعوى، وإذا خان المزارعون أو أهملوا في أعمالهم أو استأثروا بمحصولات الزراعة فلا يمكن لصاحب الملك أن يخاصمهم في مجالس القضاء إلا بعد مضي تلك المدة، إلا أنه يؤدي ما عليه للحكومة في أوقاته رغم أنفه وإن لم يؤد إليه العاملون شيئاً. وفي قانون المرافعات عندهم أنه إذا مضى على موضوع الدعوى ثلاث سنوات لم تحصل في أثنائها إقامة الدعوى فلا تسمع. فهذا يحمل العاملين في الزراعة على الإضرار بأرباب الأملاك ولا سبيل لهؤلاء إلى استخلاص حقوقهم من أولئك، والحكومة لا تترك من فريضتها شيئاً ولا تتساهل في طلب أدائها بوجه فيضطر الملاك للتنازل عن أراضيهم للحكومة الإنجليزية (العادلة)» (1: 352).

ص: 32

5. اتخاذ سياسة( فرق تسد): حيث قاموا بإلقاء الخلاف الديني والمذهبي والطائفي بين كل من المسلمين والهنود وكذلك بين المسلمين أنفسهم والهنود أنفسهم (6: 158).

6. استصغار الهنود واحتقارهم حيث كانوا يتعاظمون عليهم في المجالس، كانوا عندما يريدون أن يأخذوا الضرائب هيئوا مكاناً مرتفعاً عن الأرض فيضعون الكراسي هناك للسادة ،الإنجليز، ويجلس الهنود في منخفض من الارض (1: 454).

7. وأخيراً دعم الدهريين والملحدين والطبيعيين من المسلمين لتضعيف الناس عن مبادئ دينهم وإبعادهم عنه (1:108)، كما دعموا السيد أحمد خان الهندي المستغرب تماماً لفتح جامعة ونشر الكتب والصحف التي تروّج للعلمانية والدهرية آنذاك (1: 445 446).

وقد أحلّت هذه السياسات بالبلاد الهندية الدمار والفقر وتشتت الكلمة، وبهذا تمكنت من بسط سيطرتها لعدة عقود.

6. مصر

قد أولى السيد جمال الدين لمصر اهتماماً كبيراً إذ كانت بوابة الإسلام آنذاك ولبريطانيا فيها مطامع كثيرة، ونحن لانريد هنا الخوض في تاريخ مصر إبان الاحتلال البريطاني، بل ما يهمنا هو تسليط الضوء على قراءة السيد لمجمل سياسة بريطانيا تجاه مصر وكشف أهدافها ومخططاتها.

يرى السيد أنّ السبب الرئيس لاحتلال مصر إنما هو إحكام السيطرة على الهند، حيث حاولوا السيطرة على جميع الطرق الاستراتيجية المؤدية إلى الهند، لبعد المسافات بينهم وبين الهند، فبدأوا بتطبيق مخططهم خطوة خطوة، وبما أنّ مصر تعد بوابة الشرق آنذاك -لاسيما بالنسبة إلى الدول الإسلامية - أصبحت محط أطماعهم.

طبعاً يشير السيد إلى الخلاف الموجود بين ساسة بريطانيا لكيفية العمل في مصر،

ص: 33

فكان رأي شريحة منهم الاستيلاء التام وإعلان السيادة على مصر، لكن ذهب البعض الآخر إلى إرسال العساكر ثم إخراجهم بعد تحقق مآربهم، وهذه الثنائية في الرأي بقيت مستمرة طوال فترة الاحتلال البريطاني، وكانت تشتد عند الإخفاقات السياسية والعسكرية (1: 99، 303).

يصوّر السيد هذا المشهد المحتدم بقوله:« اشتدت خطوب المسائل المصرية، واشتبهت مناهجها، وعظمت ،أخطارها والتبست وجوهها على ذوي الشؤون وأرباب المصالح فيها حتى على السياسيين من رجال حكومة إنجلترا، كل يتصور غاية ويطلب حظاً يناله وقد شد رحاله للوصول إليه ولكن ضل أعلام الجادة، وتاه في مجاهيل وليل المشكلات ،مظلم وديجورها ،مدلهم وتعاكست مذاهب السالكين هذا يشرّق والآخر يغرّب، وكل في وحشة يطلب المعين ويخاف العادي، وكلما فرح لنبأ رمي بسهمه من الجزع لا يدري أصاب خصماً أو قتل منجداً) (1: 257 - 258) .

لكن مع هذا التذبذب، تبقى السياسات الكبرى هي ذاتها سارية في جميع الأقطار، فليست سياسة بريطانيا في مصر ببدع من سياستها في الهند، والأحزاب رغم اختلافها تتحد في تحقيق مصالح الدولة الفخيمة راعية العدالة يقول السيد بهذا الصدد: «انظر إلى الحزب الحر في الحكومة الإنكليزية كيف كانوا يحامون عن حرية الأمم،ويحثون الدول على إطلاق رق العبودية عن الشعوب... ولما آل الأمر إليهم وأخذوا زمام الحكم بأيديهم ما حرّروا بلاداً، ولا أعتقوا عباداً ولا أطلقوا رقاباً، بل صاروا على الأمم أشد من الحزب المحافظ» (6: 120).

وفيما يلي يشير السيد إلى أهم معالم سياسة بريطانيا في مصر للسيطرة التامة عليها :

1.إظهار المحبة والود والخدمة، حيث أن بريطانيا : لا تسلك في فتوحاتها إلاّ مسلك الوداد حتى إنها قلّ ما تملكت بلداً بالقوة القاهرة، وإنّ الشر لا يأتي إلا من معاهداتها. أليست هي التي أزالت السلطنة التيمورية التي كانت منبثة في جميع أرجاء الهند بمداخلاتها الودادية ومواعيدها المؤكدة ؟ ... فاحذروا يا أهل الديار

ص: 34

النيلية من أن يحلّ ببلادكم ما حلّ بغيرها» (6: 108).

«هي تدخل البلد الذي تطمع به تحت كل الأشكال الأكثر مجاملة، وكل المظاهر الأكثر مودة، هناك تنحاز أحياناً إلى جانب الأمير ضد الشعب، وأحياناً إلى جانب الشعب ضد الأمير ...» (6 :68) .

2. طرد العساكر المصرية الوطنية ومحاولة استبدالهم بغيرهم على أن تكون القيادة بيد الإنكليز ، ثم محاولة طرد هؤلاء الجدد واستبدالهم بجنود بريطانيين تعللاً بفساد أخلاق المصريين وعدم أهليتهم للخدمة النظامية، وعجزهم عن القيام بوظائف الضبط وصيانة الراحة (1: 327 ،483)

3. غلّ أيدي الحكومة والتضييق عليها: «أما في مصر فقد أظهرت مقاصدها لأول خطوة، باكورة أعمالها بعد دخول تلك البلاد غلّ أيدي الحكومة ومعارضتها في جميع

أعمالها وصدّها عن تعاطي شؤونها (1: 289).

4. تحريض الشعب ضد الحكومة لإفساد الأمر وعدم توحيد كلمة المصريين(121 :6)

5. إخضاع العلماء والتصرف في الأوقاف، حيث حاكت بريطانيا مسرحية لتحقيق هدفها هذا، أنّها قصفت بعض المدن المصرية عام 1882م بلا جرم أو أي سبب آخر، فوقع تعويض المتضررين على عاتق الحكومة المصرية، لكن بما أن الخزينة فارغة، اقترح الإنكليز أن يدفعوا قرضاً للخزينة المصرية لإعطاء التعويض على شرط أن تكون الاوقاف العمومية كافلة للقرض وفوائده، وتكون إدارة الأوقاف في تصرف رجال من الإنجليز (1:465)

6. التسلط على الموارد المالية للبلاد من خلال الضغط على الحكومة المصريةلإعلان الإفلاس وإشهار العجز عن القيام بنفقات الحكومة، ليجدوا في ذلك وسيلة لتقرير حمايتهم على القطر المصري وتخفيض فائدة الدين والاستبداد بشؤون المملكة (1:442).

ص: 35

7. إحداث الفتن الداخلية والصراع بين القوميات المختلفة، ليجدوا مبرراً لطول بقائهم هناك (1: 314).

8. تغرير الأهالي ليطلبوا الحماية الرسمية الإنجليزية لضمان طول بقائهم هناك بحجة حماية حلفائهم (1: 337).

9. الدعوة إلى إقامة مؤتمر دولي بشأن مصر وحصر المناقشة فيه بما يخص الشأن المالي لتحكم بريطانيا سيطرتها بشكل أكبر ، لكن باقي الدول عارضتها وطلبت أن يكون المؤتمر عاماً بما يخص مصر سياسياً، وإدارياً، ومالياً، وعسكرياً، هذا الخلاف بين الدول صاحبة المصالح المتضاربة أدى إلى إفشال المؤتمر وإحباط مخطط

بريطانيا.

هذه وغيرها كانت أهم معالم سياسة بريطانيا في مصر لإحكام السيطرة عليها، ولم تنتج سوى الويل والدمار لأهل مصر إذ أصبحت« ببركة العدل الإنجليزي وحسن الإدارة البريطانية أرض الفتن ومجالات الحروب ومضارب الخلل والفساد... کسدت أسواق التجارة وغلت أيدي الزارعين عن العمل في الفلاحة بفقد الأمن وعموم الاضطراب، وامتنعت الأرض عن الإنبات بإهمال الأعمال العامة واستولى الفقر... ومع كل هذا ترى الإنجليز لا تأخذهم ريبة في أنهم عادلون قوامون بالقسط، وإنّ حلولهم في أي قطر وسلطتهم على أي شعب مقرونة بالسعادة والرفاهة والأمن والراحة» (1: 384)

ص: 36

نقد الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي قراءة تعريفيّة في كتاب أصول الفلسفة

مازن المطوري

(1)

في ظلّ نَزَق المعرفة أليس من المفارقة، وواقع الشرق مثقل بالمفارقات، أن نتناول كتاب أصول الفلسفة بالدراسة والبحث بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدوره؟ وما هي مبررات الاهتمام بعد عُقود عجاف ؟ أم ثمة ضرورة في العودة إلى النصوص الجادّة في ظلّ فوضى الأفكار؟

أجدني أمام هذه الإشكالية لائذاً بالفلسفة، فقد قرّر بحث الميتافيزيقيا أن الوجود الناقص خير من العدم، فالكتابة الناقصة خير من عدمها، لأنها تؤثر وتتأثر بخلاف

العدم فهو بطلان محض لا حظ له من التأثر والتأثير. ولكن ما جدوى ذلك؟

ما يبرّر لنا دراسة هذا الأثر القيّم بعد نصف قرن من الزمان أن الفيلسوف الطباطبائي (1981-1892م) كتب في الفلسفة المقارنة بعمق، فلم يَجْر على طريقة التقاط فقرة من هنا وفقرة من هناك مما قاله أرباب الفلسفتين الشرقية والغربية، ليؤلّف كتاباً غثّاً يضيع معه وقت القارئ وجهده فضلاً عن رأس ماله ! وإنما صدر الطباطبائي بالتحليل

والتشريح والمقارنة والنقد بمبضع الفيلسوف الحاذق.

لستُ - وأنا في عُجالة المدخل بموضع الكشف عن مزايا وخبايا هذا الأثر

ص: 37


1- أستاذ الفلسفة الإسلامية في حوزة النجف الأشرف العراق.

وأهميته، فذاك أمر تتكفّله هذه الدراسة، وإنما أريد الإشارة إلى قلة الأعمال الفكرية التي تلفت المهتمين بمعنى أن كثيراً من الإصدارات التي تستنفد المخزون القومي لشرقنا من المداد والقرطاس واليد العاملة، لا تمثل شيئاً يذكر من الأهمية والجدية لتعويض خسائر إخراجها لحيز الوجود. لستُ متشائماً، ولكن قليلة هي الأعمال التي ترفدالمفكر الجاد والعالم البصير. عسى ألا تكون دراستنا مصداقاً لتلك الإصدارات!

وبعد: حاولنا في هذه الدراسة الموجزة التعريف بدور العلامة الفيلسوف محمد حسين الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية في اتجاهاتها البارزة، عبر سفره القيم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي). وقفنا فيها عند محطات لقاء الفلسفتين الشرقية والغربية، مشخّصين ما رافق ذلك من تداعيات وإخفاقات ومعوقات، مركزين على مشاعل العتمة ومصادر النور.

تمحور الحديث حول التعريف بكتاب أصول الفلسفة ومنهجه ودوره وأهميته ومباحثه، آملين أن تكون هذه الدراسة خطوةً محفّزة لتثوير الأقلام للبحث في تراثنا الفكري لاستخراج النصوص الجادة التي تعاطت مع حكمة الغربيين باتزان ومنهج، وعرضها بين يدي البحث العلمي والدرس النقدي.

محطات لقاء فلسفتي الشرق والغرب

يحسنُ بنا ونحن نُقدِم على التعريف بمساهمة العلامة الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية عبر كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي)، أن نتعرف أوّلاً على محطات لقاء المسلمين مع حكمة الغرب في التاريخ المعاصر ، وما رافق ذلك من معوقات وأخطاء.

لابد من الإقرار سلفاً أن تعاطي الغربيين مع ثقافة المسلمين وفكرهم كان أسبق بمديات من تعاطي المسلمين مع فكر الغرب وثقافته وفلسفته، أيّاً كانت الأسباب في هذا التعاطي سياسيّة استعمارية، أو تبشيرية، أو معرفية خالصة. لقد تهيأت رؤية فكرية في القرن الثاني عشر ثم توسعت في القرنين الثالث والرابع عشر، ثم امتدت حتى العصر الاستعماري انطلقت من العداء لنبي المسلمين صلى الله عليه وآله،

ص: 38

فشكل هذا الموقف تحوّلاً في التعامل مع الإسلام نفسه. وقد اعترف بطرس الجليل (-11561092م)رئيس دير كلوني - الذي كان يقوم بجولة على الحدود الفرنسية مع الأندلس فتعرّف إلى الإسلام عن كثب - بما يعزّز هذه الرؤية، فقال: ((يجب أن نقاوم الإسلام لا في ساحة الحرب بل في الساحة الثقافية)). فكان لهذا الغرض أن شكل لجنة من مجموعة مترجمين تمثلت مهمتها في ترجمة القرآن الكريم. فقد أدرك بطرس أنّه لإبطال العقيدة الإسلامية يجب التعرف عليها أولاً(1) .

أضف إلى ذلك، فقد توفّر الغربيين على أفكار ومؤلفات أكابر فلاسفة الإسلام أمثال الكندي ،(801-873م) ، والفارابي ،(872-950م) ، وابن سينا (980-1037م)، وابن رشد (1126-1198م). وأوجدوا لهذا الغرض مراكز ترجمة تعهدت انجاز المهمة. ومن أشهر تلك المراكز طليطلة، صقلية، القسطنطينية، جامعة أكسفورد، البلاط البابوي. وقد عكست الترجمة إعجاب الكثير من الأوروبيين بالحضارة العربية الإسلامية، ولأجل ذلك سعوا جاهدين للتعرف على أوجه كثيرة منها، وكان في مقدمتهم رجالُ الدين الذين شجّعوا ترجمة الكتب من العربية إلى اللغات الأوربية(2).

يومَ كنّا نغطّ في سبات عميق أصدرت شركة بريل الهولندية بين عامي (1913/ 1938 )دائرة المعارف الإسلامية التي تعتبر أهم موسوعة دونها الغربيون عن الشرق واهتمت بكلّ ما يتصل بالحضارة الإسلامية من النواحي المختلفة الدينية والثقافية والعلمية والسياسية، وعمل عليها اثنان وعشرون مستشرقاً من أكابر المستشرقين من أمثال لويس ماسينيون (1883-1962)، جوزيف شخت (-197-1902م)، هنري لامنس اليسوعي (1937-1862م)، رينولد ألين نيكلسون (1945-1868م) دافيد صموئيل مرجليوث (1858- 1940م)، کارل بروکلمان (1956-1868م)، وغيرهم. ومن دلائل همّة الغربيين أن دائرة المعارف هذه

ص: 39


1- المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد د. محمد عابد الجابري 27 مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت 2000م. وقد طبعت الترجمة الأولى هذه سنة 1143م بفضل اللاهوتي السويسري تيودور ببلياندر (1564-1509م) ضمن حملة واسعة لدحض الإسلام
2- أثر الفلسفة العربية في الفكر الأوروبي خلال القرون الوسطى، يوئيل يوسف عزیز ،65، سلسلة آفاق عربية، العدد الثاني، بغداد 1985م.

ظهرت في أول إصدار لها باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية.

ويوم كان سلفنا ينقب ويبحث ويترجم ويتوفّر على تراث اليونانيين والهنودوالفهلويين والاسكندرانيين وجدت نهضة ثقافية وعلمية كبيرة، تجلت آثارها في أبعاد مختلفة، أما يومَ انقطعنا عن مواصلة طريقتهم ومساعيهم، وبتنا يلفّنا السُّباتُ والخمول واللاأُباليه، فقد صرنا مادة لتجارب الآخرين ونهباً لمساعيهم ودراساتهم، ونلعن بعد ذلك كلّه تيارات التغريب وهجوم الأفكار والثقافات الوافدة!

لو تركنا حديث الغربيين جانباً، وانتقلنا إلى الحال في العالم الإسلامي وبالأخص في الحواضر العلمية الدينية، فسنجد الوضع مختلفاً؛ إذ على الرغم من محاولة بعض أهل الفكر المسلمين الانفتاح على ثقافة العصر منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي - كجمال الدين الأفغاني (1838-1897م) وغيره - إلا أن المفكرين المسلمين لم يحاولوا التواصل مع الفلسفة والفكر الغربي المعاصر إلا في محاولات خجولةومحدودة. فلم يحاول أصحاب الفكر في الشرق اتخاذ موقف علمي وموضوعي شامل ومبادر من فلسفة كلّ من : فرانسيس بيكون (1626-1561م)، رينيه ديكارت (1650-1596م) ، عمانوئيل كانط (1724-1804م) ، فردريك هيجل (1770-1831م)، کارل مارکس ،(1818-1883م)، فردريك نيتشه (1844-1900م)، وغيرهم من رواد الفكر الغربي المعاصر، الذين أسهموا في تشكل صورة الغرب الثقافية والفكرية والفلسفية، والتي وجدت طريقها إلى الشرق عبر المتعلّمين الشرقيين في أوربا. بل لم تعرف الفلسفةُ الإسلامية المعاصرة شيئاً من فلسفة الغرب، ولم تلتق معها على بساط الحوار والنقد والتفاعل تأثراً وتأثيراً. وإنما رأت حكمة المسلمين في نفسها لاسيما بعد إنجازات الفيلسوف صدر الدين الشيرازي (1572-1640م) - أنها الفلسفة الحق التي لا يشوبها رين أو شك، ولا يستطيع أحدٌ مخاصمتها، وأخذت تنسج على هذا المنوال، منعزلة في دهاليز طلاسمها، وأنفاق التعقيد محاطة بنزاعات المشارب والمذاهب، حتى بدت بواكير الغزو الثقافي وتطلعات الماديين للنيل من وجود الإسلام، فَغُزينا في عُقر دارنا ، فكان التعاطي الانفعالي فشوّهت كثير من الأفكار.

ص: 40

لعلَّ أسباباً متعدّدةً اجتمعت فأفضت لتلك النتيجة المؤسفة، منها ما يرجع إلى اضمحلال الهَمِّ المعرفي ونزعة البحث والتنقيب في معارف الآخرين إلا في نفر محدود ومنها ما يتعلق بتصور شايع يحسب الفلسفة الأوربية بسائر مدارسهاواتجاهاتها ،تتقاطع تقاطعاً تاماً مع الفلسفة الإسلامية، ومع الألوهية والعقل، باعتبار أن كلاً منهما تحركت في مسارها الخاص، واحتضنتها بيئة مغايرة للأخرى. فضلاً عن هاجس الهوية، وعقدة التعالي.

لقد تركز حديثنا على هذه الحواضر لأكثر من سبب؛ فقد كانت تمثل الجامعات الرسمية لحفظ العلوم وتعليم الأجيال قبل أن تنتشر جامعات التعليم الحديثة في البلدان الإسلامية، كما وأنها بحسب المفكر اليساري الإيراني جلال آل أحمد(1923- 1969م) تمثل : آخر حصون المقاومة إزاء التغريب(1). أما غيرها من الحواضر فيكفي أن نعلم أنّه في عصر التقهقر العلمي والعقل السياسي في الشرق العربي اعتبرت الفلسفة عدواً للدين، وأدّى ذلك إلى تحريم دراستها في المعاهد الدينية ومراكز الثقافة حتى فيما يتعلّق منها بعلم الكلام سوى معاهد الثقافة في طهران عاصمة إيران، ومعاهد النجف الأشرف - وأخذت مصر بقسط وافر من ذلك التحريم(2). فهل بعد ذلك يمكن التواصل مع فلسفات الآخرين؟!

أياً ما كان الأمر، ففي القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، حيث تكثف الاتصال بين أوروبا والعالم الإسلامي في ظلّ اشتداد سطوة الاستعمار الأوربي المباشر، كانت هناك محطات لقاء بين فلسفتي الشرق والغرب، مثلت شعلة في العتمة ومصادر النور:

1- المدرس الطهراني وبدائع الحكم:

لعلَّ أقدم أثر تعاطى مع فلسفة الغرب - وإن بشكل مقتضب- يتمثل في كتاب

ص: 41


1- - نزعة التغريب جلال آل :أحمد 59 ترجمة حيدر ،نجف مراجعة عبد الجبار الرفاعي، كتاب قضايا إسلامية معاصرة الكتاب ،21 مؤسسة الأعراف للنشر 2000م.
2- صفحة من رحلة الإمام الزنجاني، محمد هادي الدفتر 1 357 مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، بيروت 1996م.

بدايع الحِكَم) باللغة الفارسية، تأليف الفيلسوف علي المدرس الزنوزي الطهراني (1893-1818م)(1) . الذي أتمه سنة (1890م) وطبع في إيران سنة (1897م).

يشتمل الكتاب على مجموعة من الأسئلة طرحها عماد الدولة على المدرس الطهراني (2) . وقد أشار عماد الدولة في السؤال السابع إلى أفكار كل من ديكارت وكانط وليبنتز (1646-1716م) وغيرهم، فأجاب الطهراني عن أفكار هؤلاء الفلاسفة، وبين صلتها بالمعقول الإسلامي. واستطاع إلى حدّ ما أن يقارن مقارنة علمية بين أفكار فلاسفة ما بعد عصر النهضة وفلسفة صدر الدين الشيرازي.

تجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف علي المدرّس كان يرتبط بعلاقات علمية مع المستشرق الفرنسي جوزيف كومت دو جوبينو (1816-1882م)(3)، فذكره الأخير في مواضع متعددة من كتابه الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى) الذي ألفه بالفرنسية، مشيراً إلى أنه يكن له تقديراً كبيراً(4).

2- الزنجاني ودروس الفلسفة:

ومن أبرز محطات لقاء الفلسفتين الشرقية والغربية محاولة الفيلسوف عبد الكريم الزنجاني (1887-1968م) في كتاب دروس الفلسفة، الذي أتمه سنة (1930م) وطبع أول أجزائه في النجف الأشرف عام (1940م ) .

اهتم الزنجاني بالفلسفة الغربية أيما اهتمام ورأى أنّها تشكل مع الفلسفة الإسلاميّة : ((قوّة عقليّة جاهزة، وعدّة فكرية ناهضة يجب استغلالهما ولا يجوز

ص: 42


1- علي عبد الله الزنوزي ، من مشاهير الفلاسفة الإسلاميين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين جمع بين المعقول والمنقول، واضطلع بمهمة التدريس بمدرسة عالي سپهسالار في طهران لقب بأستاذ الأساتذة، توفي بطهران، ويعتبر من المؤسسين بعد صدر الدين الشيرازي. من مؤلفاته: بدائع الحكم، حاشية على الأسفار، سبيل الرشاد في أحوال المعاد النفس كل القوى.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهراني ،3 ،64 دار الأضواء، بيروت،الطبعة الثالثة
3- أحد مشاهيرالكتاب الفرنسيين ومؤسّس طريقة عنصرية في فلسفة التاريخ عرفت ب- (الجوبينية)، كان لها أتباع كثيرون خصوصاً في ألمانيا. أقام في طهران السنوات (1855-1858م) بوصفه النائب الأول لسفارة فرنسا، كما مكث فيها (1862-1864م) بمنصب الوزير المفوّض.
4- .Paris 1866 97-Les Religions Philosophies Dans L'asie Centrale. M. Le Comte De Gobineau:93

الاستغناء عن كلّ منهما، بل يجب أن نضمّ نفائس الفلسفة الحديثة الغربية إلى حقائق الفلسفة القديمة الشرقيّة، على ضوء العقل والرويّة، لنستخلص منهما مزيجاً إصلاحيّاً خالصاً، وفلسفةً قويمةً صالحة للحياة والبقاء، وكذلك أراد الله أن تكون الحياة مزيجاً من صالح القديم والحديث))(1).

استعرض الزنجاني بعض مقولات ديكارت مقارنةً بفلسفة الرئيس ابن سينا، كما استعرض مقولات فيلسوف النقدية الألماني عمانوئيل كانط وآراءه في الزمان والمكان ، ودلّل على أسبقية الفيلسوف صدر الدين الشيرازي بتقرير حقائق هذه المسائل قبل كانط بقرنين من الزمان(2). كذلك استعرض النظرية النسبية للدكتور ألبرت اينشتاين (1955-1879م)، مشيراً إلى أن ما جاء في هذه النظرية من المفاخرة بإثبات البعد الرابع للموجودات الماديّة، كان قد أثبته صدر الدين الشيرازي قبل اينشتاين بقرون، ودلّل على ذلك بنقل كلمات الشيرازي(3).

فضلاًعن ذلك، فقد وقف الزنجاني عند الأفكار الاشتراكية والشيوعية مبيناً تهافتها وحفلت دراسات ومقالات ومحاضرات الزنجاني المختلفة بذكر آراء وأفكار كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين من أمثال توماس مور (1478-1535م)، کامپانیلا (1568-1639م)، جون لوك (1704-1632م) ، نيوتن (1642-1727م)، دارون (1882-1809م)، هيجل، أنجلز (1820-1895م)، دريبر (1837-1882م)، غوستاف لوبون (1841-1931م)، وليم جيمس (1842-1910م) ، فرنسيس بيكون، کارل مارکس، أدوارد هاتمان ،فيلبون كرادي فو (1867-1953م)، وغيرهم.

وقد دلّلت كتابات الزنجاني لاسيما كتاب دروس الفلسفة)، على عظيم اطلاعه على الفلسفة الغربية وإحاطته بها. ويمكن أن يعدّ الزنجاني من أوائل الذين تعاطوا مع الفلسفة الغربية مقارنة بفلسفة المسلمين بعد الفيلسوف الزنوزي وتوقف

ص: 43


1- دروس الفلسفة، الشيخ عبد الكريم الزنجاني 1 16-17 ، مطبعة الغري الحديثة - النجف، الطبعة الثانية 1962م.
2- دروس الفلسفة 1: 31، 36.
3- دروس الفلسفة 1: 40-45

الزنجاني كذلك عند تخرّصات المستشرقين وما حملته أقوالهم من خبط وخلط

بشأن الفلسفة الإسلامية.

ومع ذلك كله لم يكن الزنجاني فيلسوفاً من صنف الذين يقضون حياتهم متأملين في عزلة باردة في قمّة الأبراج العاجيّة، وإنما كان فيلسوفاً يحمل موقفاً اجتماعياً ورسالياً عظيماً، حاملاً لواء الإصلاح يجوب أقطار المسلمين، وظل يدافع عن موقفه ويضحي لأجله طوال حياته الغناء.

-3 الطباطبائي وأصول الفلسفة:

أمّا المحطّة الأهم في دراسة فلسفة الغرب، وتقويم اتجاهاتها الحديثة، ومقارنتها بالموروث الفلسفي الإسلامي، فقد تجلت في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

(محور الدراسة) تأليف الفيلسوف العلامة محمد حسين الطباطبائي (1892-1981). فقد افتتح الطباطبائي حواراً عقلياً معمّقاً مع اتجاهات الفلسفة الأوربية الحديثة لاسيما المادية الديالكتيكية، منطلقاً من ضرورة تحليل أصولها ومرتكزاتها ونقدها بعد اتساع ظاهرة التغريب، ودخول التيار الماركسي خط الصراع، وعمل قطاع واسع من المثقفين الدارسين في أوربا على الترويج لمقولات الفلسفة المادية المناهضة للميتافيزيقيا والإيمان بالله تعالى.

جاءت خطوة الطباطبائي بعد سبات طويل عمّ هذا الحقل المعرفي المهم، وكسرت حاجز الصمت لتدخل ميدان البحث الفلسفي المقارن بعمق وشمول. إذ برغم من طمرور زمان على إحساس هواة المعرفة بضرورة طرح الفكر الفلسفي الحديث، ومقارنة النظريات المحدثة بنظريات الفلاسفة المسلمين، لكنَّ المؤسف أن هذا الأمر لم يتجسّد عملياً حتى لحظة كتابة هذه المقدمة(1). نعم ما تم انجازه عبر هذه الفترة لا يتعدّى رسائل فلسفية على المنهج التقليدي، قد تتناول أحياناً قضايا الطبيعة والفلك وتتناقض تماماً مع النظريات العلمية الحديثة، أو جاء ترجمة بحتة

ص: 44


1- أي سنة 1953م

للنظريات الفلسفية الحديثة. إذن لا يتعدّى النشاط الفلسفي الراهن هذين اللونين: إمّا تقليداً تاماً للنهج الفلسفي المأثور، وإما ترجمة صرفة للنظريات الحديثة، وحيث اختلاف مراكز اهتمام هذين اللونين من التحقيق فما اهتم به السلف لم تعره الدراسات الحديثة اهتماماً، أو اهتمت به اهتماماً يسيراً، وطرحت قضايا ومواضيع أخرى أمام الدرس، مما أدى إلى أن القارئ لهذين اللونين لا يخرج بمحصلة من خلال قراءتهما معاً. ومن هنا جاء الكتاب الذي بين أيدينا لوناً ثالثاً من الدرس، لا هو بالنهج التقليدي، ولا هو بالترجمة للنظريات الحديثة»(1).

-4- الصدر والأنا الفكري:

ولا ننسى الإشارة والإشادة بجهود السيّد محمد باقر الصدر (1935-1980م) في مجال دراسة اتجاهات الفلسفة الغربية ونقدها في (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقيّة للاستقراء)، سالكاً في ذلك منهجاً فريداً، سبق وتحدثنا عنه(2).

وما سوى هذه المحطات السبّاقة والجادّة، كانت هناك محاولات أخرى مختلفة كماً وكيفاً ،ومنهجاً، تنوعت في دارسيها ومنهجياتهم، ظهرت في العراق وإيران والهند وبلدان أخرى، ولكنها تبقى ثانوية وفيها مشاكل كثيرة، ولا ترقى إلى النماذج المتقدّمة لاسيّما النموذجين الفريدين الطباطبائي والصدر.

وفي سبيل رصد المشكلات التي واكبت تعاطي المسلمين إجمالاً مع فلسفة الغرب، فإنّا نراها تتجلى بشكل أساس في أمرين:

الأوّل: قلّة الترجمات الأمينة للكتابات والأفكار الفلسفية الغربية التي تضطلع بها مراكز ترجمة مختصة، والقليل المترجم منها جاء رديئاً مشوّهاً بسبب من كونها تمثل محاولات فردية لأناس غير متمرسين في الفكر. وحتى نعضد كلامنا بشهادة عدل، نُذكر بأن الدكتور موسى وهبة أستاذ الفلسفة الحديثة في الجامعة اللبنانية، قام بإعادة

ص: 45


1- أصول الفلسفة :1: 42-43، مقدّمة الشارح.
2- مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر، الاستغراب 1: 118، خريف 2015م.

ترجمة كتاب( نقد العقل المحض) لعمانوئيل كانط بالرغم من سبق الدكتور أحمد الشيباني (1923-1995م) لذلك بأكثر من ثلاثين عاماً(1)، معللاً بأن تلك الترجمة: ((لم تقرأ ولو جزئياً بسبب من افتقاد المترجم للصبر يوم لم يكن لأحد الصبر على القراءة والتروّي))(2) . فيما يرى باحث آخر أن كلا الترجمتين لكتاب كانط (الشيباني/ وهبة)، أعجميتان، ومن المتعذر قراءتهما، وتتسمان بالغموض والاستغلاق، رغم ما بذل فيهما من جهد كبير ، ولا يزال الكتاب بحاجة إلى جهد أكبر حتى يمكن أن ينقل إلى العربية بلغة مفهومة(3). وغير هاتين الترجمتين قام الدكتور غانم هنا بترجمة الكتاب ثالثة عن النصّ الألماني(4).

على أن الترجمة لا تتحقق بتوفّر الفرد على معرفة اللغة المترجم عنها، مطلعاً على مفرداتها واستعمالاتها وتراكيبها الخاصة، وإنما يجب أن تتوفّر فيه مضافاً لذلك وخصوصاً في الأفكار الدقيقة كالفلسفة أن يكون المترجم من أهل الاختصاص، ومستوعباً للأفكار التي يريد ترجمتها، حتى ينقلها بأمانة.

إن الذي يؤسف له حقاً هو أن مفكرينا لم تتسنّ لهم فرصة قراءة الأصول الفكرية والفلسفية الغربية بلغتها الأم، لعدم معرفتهم بتلك اللغات، مما أبقاهم أسرى النصوص المترجمة، مع ما يعتور تلك الترجمات من فقدان الدقة وعدم الأمانة في النقل أحياناً كثيرة، ومن الوقوع في أسر ما ينتخبه المترجم من نصوص الفلسفة الغربية، مع العلم أن بعض الترجمات كانت تتم عبر واسطتين عن اللغة الأم.

الثاني: إنّ الكثير من مظاهر التعاطي واللقاء جاءت في أجواء ردّات الفعل، حيث الدفاع عن الوجود الإسلامي بوجه الأفكار الوافدة، فاتّسم بطابع إلزام الخصوم حسب الطريقة المتبعة في علم الكلام، فأفضى إلى أخطاء كبيرة .

ص: 46


1- صدرت عن النص الإنجليزي بعنوان : نقد العقل المجرد في بمجلّد ضخم عام 1965م عن دار اليقظة البيروتية.
2- نقد العقل المحض عمانوئيل كانط، ترجمة وتقديم موسى وهبة -الهامش مركز الإنماء القومي لبنان.
3- العقل وما بعد الطبيعية، تأويل جديد لفلسفتي هيوم وكانط، محمد إبراهيم الخشت: 227، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2005م.
4- صدرت عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت 2013م.

لقد كان من نتائج القراءة السطحية والمستعجلة لما ورد لنا من ثقافة الغرب أنها أدت إلى فضائح ثقافية، حيث ترسّخ في أذهان الوسط العام لقرائنا ومثقفينا(إن جازالإطلاق) أن الوجودية تعادل الإلحاد، وأن الوجودية تعني اللاإيمان والحال أن الوجودية في تكوينها تمثل نقلة ثقافية ترتبط بتفاعلات الفكر الأوروبي المعاصر، ولا يشكل الإلحاد محوراً لهذا الفكر ، بل هناك كبار بين الفلاسفة الوجوديين ممّن يتعصب بحماس للإيمان بالله»(1) حتى دعت هذه الظاهرة جون ماكوري أستاذ اللاهوت في الجامعات والمعاهد الأمريكية، إلى تأليف كتابه المعنون ب-(الوجودية) لغرض دفع هذه الأفكار المشوّهة عنها(2). ومن جملة الفضائح تلك المعادلة التي تساوي بين المنهج الاستقرائي والمذهب التجريبي. والحال أنه بالمراجعة لتاريخ حضارة الغرب نلاحظ أن التجريبية كاتجاه معرفي لم يكن أساساً لأي من التطورات الخطيرة التي لعبت دوراً رئيساً في تقرير مصير النهضة العلمية والحضارية المعاصرة. وإنما كلَّ هذه التطورات هي وليدة المنهج الاستقرائي(3).

الطباطبائي والغرب

من المهم ونحن بصدد التعريف بدور الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية كما تجلى في كتاب أصول الفلسفة، أن نتوقف عند أمر قد يكون غيباً أو غريباً عند كثيرين، يتعلّق بتواصل الفيلسوف الطباطبائي مع الغرب بصورة عامة. ذلك أن تعاطي الطباطبائي مع الغرب لم يقتصر على فلسفته في مقالات كتاب أصول الفلسفة، وإنما سبقته ورافقته حلقات ومحطات التقى فيها الطباطبائي مع الفكر الغربي ورجاله وسلوكه وأنظمة حضارته محاوراً وناقداً، يمكننا الإشارة إليها إيجازاً في عدة نقاط :

1- في ستينيات القرن الماضي تبنّى الطباطبائي مشروع تقديم الفكر الشيعي في مختلف أبعاده ميسراً باللغات الأوربية، حتى يكون بمقدور الباحثين والشباب الغربي التوفر على اطلالة سهلة وأمينة لهذا الفكر. كان منطلق الطباطبائي في هذا المشروع

ص: 47


1- منطق الاستقراء، السيد عمار أبو رغيف: 52 بتصرف، دار الفقه للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427ه-.
2- انظر: الوجودية جون ماكوري ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام سلسلة عالم المعرفة 1982م.
3- منطق الاستقراء: 53 بتصرف

يتمثل في أن جلّ الدارسين الغربيين لم ينفتحوا على دين الإسلام إلا بواسطة مصادر أهل السنة، سواء في ذلك الحديث والتفسير والكلام والتاريخ والفقه، ومن ثم بقي الوجه الآخر الشيعي محجوباً مع ما ينطوي عليه من فكر ومعارف.

حدث بعد ذلك وتحديداً في العام (1964م) أن تباحث الطباطبائي بهذا الشأن تلميذه الدكتور حسين نصر لإنجاز المشروع، بحيث يتكفّل الدكتور نصر ترجمة ما يكتبه الطباطبائي إلى الإنجليزية وهذا ما تمّ بالفعل وفي غضون ثلاث سنوات انشغل الطباطبائي بإعداد حلقات هذا المشروع، الذي صدرت أولى حلقاته بعنوان( الشيعة في الإسلام) الذي ترجم للإنجليزية(1)، ثم نقله الدكتور جعفر دلشاد إلى العربية (2). بعد ذلك أعقبه بثاني الحلقات( القرآن في الإسلام) الذي ترجم كذلك (3) .

2- حلقة أخرى من حلقات تواصل الطباطبائي مع الفكر الغربي حواراً ونقداً تمثلت في سلسلة حواراته ولقاءاته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903- 1978م)، التي أثمرت كتاباً بعنوان (الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان). ففي هذا الكتاب التقى الشرق مع الغرب لقاءً فكرياً حوارياً(4).

ومن الإشارات المهمة التي انطوى عليها حديث الطباطبائي في هذا الكتاب، وفي معرض جوابه لسؤال كوربان عن سبب توقف الاهتمام الغربي بشأن البحث الفلسفي الإسلامي مع ابن رشد تحليل الطباطبائي لنظام الاستشراق الفكري، مستغلاً الفرصة للإشارة (مبكّراً)، للعوامل والدوافع المتحكمة في بنيته كالسلطة والتفوق والنزوع إلى الغاء العوالم والثقافات الأخرى تحت ذريعة العالمية(5).

والطباطبائي في هذا التحليل سبق الباحثين المعاصرين كإدوارد سعيد (1935-

ص: 48


1- ترجمه الدكتور نصر إلى الإنجليزية تحت عنوان Shiite in Islam بمساعدة وليام شيتيك.
2- الشيعة في الإسلام السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام، قم، الطبعة الثانية 2004م.
3- رسالة التشيع في العالم المعاصر، الطباطبائي : 12-14، مقدمة المترجم
4- انظر: الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان محمد حسين الطباطبائي، نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416ه-.
5- الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان: 123

2003م) وغيره، الذين توفروا على تحليل بنية الاستشراق وتجلية دوافعه التي يغطّيها بستار البحث المعرفي(1).

وفي سياق حديثنا عن الطباطبائي والغرب لا بأس من الإشارة إلى أن رسالة مكتوبة وصلت الطباطبائي سجّل صاحبها اعتراضاً على تواصل الأخير مع (الأجانب)، و(أهل الدنيا) حتى اضطر لكتابة جواب لها ونشره في الكتاب الذي تضمن حواراته مع كوربان(2)!

استطاع الطباطبائي في هذا الحوار أن يفرض حضوره الفكري والمعرفي المستقل، منطلقاً من هويته الفكرية الأصيلة، حتى أن الدكتور علي شريعتي (1933- 1977م) سجّل لنا واصفاً الطباطبائي في معرض نقده لعقدة الاستلاب ومرض التغريب التي بلي بها تيار من المثقفين قائلاً: ((كانت تعقد في طهران جلسات أسبوعية، وكان يحضرها البروفسور هنري كوربن أستاذ السوربون وعالم الإسلاميات المعروف والمتخصص الفريد في الثقافة الشيعية، كما كان يشترك فيها السيد محمد حسين الطباطبائي مدرّس الحكمة وتفسير القرآن في قم، وعدد آخر من الفضلاء والعلماء في العلوم القديمة والجديدة. وكان الطباطبائي وكأنه سقراط قد جلس وحوله تلاميذه، وكان كوربن العظيم حسن الأدب، يجاهد في اغتراف جرعات من هذا المحيط العظيم للأفكار والعواطف العميقة والمتنوعة الني كونتها الثقافة الإسلامية الشيعية. أية روح وقوة وهبته هذا الثبات في الشخصية والاستقلال الفكري ؟ ليس هذا تعصباً قومياً أو غروراً ناشئاً عن جهل، إنه يعرف نفسه كممثل لتاريخ عظيم وحضارة عظيمة، وكنز فيّاض من الأفكار الفلسفية والمواهب الإنسانية والمعنويات الأخلاقية والعواطف والجماليات المدهشة العرفانية والفنية والأدبية، إنه مرتكن على جبل من الثقافة البشرية))(3) .

ص: 49


1- انظر: الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق إدوارد سعيد، ترجمة: د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006م
2- الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان: 223
3- الأعمال الكاملة، العودة إلى الذات، علي شريعتي 10 1396-140، ترجمة: د. إبراهيم دسوقي شتا، مراجعة حسين علي ،شعیب دار ابن طاووس، الطبعة الثالثة 2010م.

3- في محطة ثالثة من تواصل الطباطبائي مع الغرب الفكري والاهتمام برجالاته

وفكره ،وفتح جسور التواصل الحواري، تمثلت في لقاء الطباطبائي مع المستشرق الأمريكي كينيث مورغان (معاصر، تولد1934م) الذي قضى شطراً من حياته في الشرق، وكانت له لقاءات وتواصل مع رجال الفكر وعلماء الدين في الأديان المختلفة.

زار مورغان إيران صيف (1964م) فاستقدمه الدكتور حسين نصر إلى العلامة الطباطبائي الذي كان يصطاف في قرية (دركه) شمال غربي طهران. وقد وصف الدكتور نصر صورة من ذلك اللقاء في مقدمة الطبعة الفارسية لكتاب (الشيعة في الإسلام)، بقوله: ((منذ اللحظة الأولى هيمن العلامة الطباطبائي على البروفيسور موركان [كذا] بحضوره المعنوي والروحي، فأحس الأستاذ الأمريكي بالألفة والأنس وأدرك للفور أنه بمحضر إنسان تجاوز في العلم والحكمة مرحلة الفكر إلى العمل، وأنه قد تذوّق ما يقوله وطواه عملياً وسلوكياً ))(1) .

4- وفي مقالات الكتاب الذي حمل عنوان( مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي)، تعرّض الطباطبائي ناقداً الكثير من مقولات وسلوكيات ومظاهر الفكر الغربي ومدنيته المعاصرة، كاشفاً عن هناتها ومآلاها وعن خطر التحديث على النمط الأوربي، مبيناً في ذات الوقت أصالة الفكر الإسلامي وفلسفته القويمة في معالجاته لمشاكل الإنسان في أبعاد وجوده المختلفة(2).

5- لقد حفلت الأجزاء المختلفة من موسوعة الطباطبائي التفسيرية القيمة الميزان في تفسير القرآن، بفصول توقف فيها الطباطبائي ناقداً للفكر الغربي وفلسفته ومدنيته،

بنحو لو أتيح لم شتاتها في دراسة خاصة لكانت كتاباً كبيراً، وبأدنى مراجعة للفهرس التفصيلي لمواضيع هذه الموسوعة توقف القارئ على ذلك.

فعلى سبيل الإشارة نجد الطباطبائي قد تناول في الأجزاء الأولى من موسوعته

ص: 50


1- رسالة التشيّع في العالم المعاصر : 13، مقدمة المترجم.
2- مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، محمد حسين الطباطبائي، تعريب خالد توفيق مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1415ه-.

التفسيرية (2/1 /4) مواضيع من قبيل: الفساد الأخلاقي ورذائل المجتمع المتمدّن الحاضر ونتيجة ظهور المدنية الغربية، وعلى أي شيء أقبل الناس بعد ظهور مدنيّة ،الغرب، وكتابات المستشرقين الغربيين حول مدنيّة الإسلام، وغيرها من المسائل والمواضيع والمقولات المبثوثة في الأجزاء المشار إليها، وكذا سائر أجزاء تفسير الميزان.

قصة كتاب (أصول الفلسفة)

مذ سقطت البلدان الإسلامية صريعة بأيدي الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، رافق ذلك السقوط ورود سيل من الأفكار والثقافات والفلسفات التي تتقاطع مع الهوية الأصيلة للمجتمعات الإسلامية، بشر بها كتاب ومثقفون تلقوا تعليمهم في المراكز البحثية والعلمية الأوربية، فضلاً عن رجال الاستشراق. وقد شكل سيلُ الأفكار هذا إلى جانب الاستعمار العسكري والسياسي استعماراً ثقافياً وغزواً فكرياً أمد المستعمر بمؤونة الهيمنة. وفي سنوات لاحقة وفد سيل آخر من تيارات الفكر الغربي حاملاً لواء الماركسية، ومتخذاً من الثورة البلشفية ركناً يلوذ به.

وعلى حين غرة، وفي لحظة ((غفلة رضا حكمة الشرق بإنجازاتها، دقت الماركسية نواقيس الخطر، وكان خطراً موحشاً، أربك المؤسسة الدينية بزحف داهم البيوت، فاستيقظت هذه المؤسسة بما لها من عمق بشري، مدافعة عن إيمانها الذي هدّده الإلحاد الماركسي، وعن قيمها التي ناجزتها قيم الفكر المادي الزاحف بشكل منظم، وكان دفاعها دفاعاً سلبياً بوجه عام. وإلى حقول هذه المؤسسة هرع الفلاح العلامة هاجراً مسقط رأسه ومزرعته، ليبدأ زرعاً من لون آخر))(1) .

تعاضدت عدة أسباب دفعت بالطباطبائي إلى اتخاذ هذه الخطوة، من أهمها:ازدياد حجم المطبوعات الفلسفية في إيران بفعل الترجمة من دون ضوابط من جهة،واهتمام الشباب الإيراني بفكر فلاسفة أوروبا الذي راح ينتشر بفعل تلك الترجمة من

ص: 51


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 15-16، مقدمة الأستاذ المترجم.

جهة ثانية، إضافة إلى انتشار المطبوعات المروجة للمادية الديالكتيكية، والتي يقف خلفها خط سياسي وجهاز حزبي ممثلاً بالحزب الشيوعي الإيراني. وقد كان لصدور کتاب نگهبان سحر أفسون (الحارس السحري) عام (1950م) دافعاً مؤثراً، إذ تعرض الكتاب للأديان والمذاهب بالاستهزاء والسخرية بخسة متناهية، وتهكم بالمتدينين

ورجال الدين بشراسة(1) .

استقر الطباطبائي في مدينة قم المقدّسة، وعمل على إحياء درس المعقول فيها إلى جانب الأبحاث التفسيرية والقرآنية، التي كانت تخلو منهما المعاهد الدينية العلمية أو تكاد. كما بادر إلى تأسيس جمعية فلسفية، ضمّت في عضويتها كفاءات فلسفية، اهتمت بإثارة البحث والنقد في قضايا الفلسفة، حتى أضحى العلامة المدرس الوتر لهذه العلوم في حوزة قم العلميّة.

بعد انتهاء الطباطبائي من تدريس دورة من كتاب (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة)، عزم على القيام بالبحث المقارن بين الفلسفتين الشرقية والغربية. وقد كان يعتقد أن البحث فيما لو أقيم على أساس البرهان والطرق الصحيحة، فمن المستحيل أن نخرج بنتيجتين مختلفتين وفي أية مدرسة كنّا، ولهذا يجب أن نتتبع سرَّالاختلاف بين الفلسفتين وبيان نقاط الضعف فيهما(2). وبحسب شهادة تلميذه المطهري (1919-1979م) فإن الطباطبائي كان من سنوات يهم على تأليف دورة فلسفية تتشابك فيها معطيات الفلسفة الإسلامية التي نمت شجرتها خلال ألف سنة من الزمان، مع نظريات فلاسفة أوربا المحدثين، وتهدف إلى ردم الهوة بين هذين اللونين من التفكير حتى تكون منسجمة مع مزاج ،العصر، وتظلّ في الوقت ذاته محافظة على قيمة الفلسفة الإلهية وتتصدّى لفكرة انتهاء عصر الميتافيزيقيا والإلهيات(3).

ص: 52


1- محمد حسين الطباطبائي مفسراً وفيلسوفاً، دراسات في فكره ومنهجه مجموعة من الباحثين: 61، تعريب عباس صافي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2012م
2- الشمس الساطعة، محمد حسين الطهراني: 56 تعريب عباس نور الدين وعبد الرحيم مبارك، دار الأولياء، الطبعة الثانية 2008م.
3- أصول الفلسفة 1: 45

ولهذا المقصد قام بانتقاء ثلة من تلامذته لتشكيل حلقته الفلسفية، والتأمت منذ سنة (1951م) بعقد ندوة علميّة فلسفية في ليالي تعطيل الدراسة من كلّ أسبوع (ليالي الخميس والجمعة واستمرت حتى سنة (1957م). وضمّت يوم تأسيسها كلاً من: مرتضى المطهري، محمد حسين بهشتي (1981-1928م)، إبراهيم الأميني (1925) معاصر)، عبد الحميد الشربياني (1889-2015م)، موسى الصدر (1928 -1978م)، حسين علي المنتظري (2009-1922م)، محمد مفتح(1928 -1979م)، علي قدوسي (1927- 1981م)، جعفر السبحاني (1929 معاصر ) (1)، وانضم لها آخرون فيما بعد.

كانت طريقة الندوة تتمثل في أن يقوم الطباطبائي بإعداد بحوث تلقى في الجلسة، وبعد ذلك يبدأ الحاضرون بمناقشة ما طرحه الأستاذ فكان حصيلة هذه الدروس والحوارات، أن ولدت النواة الأولى لكتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي (اصول فلسفه وروش رئاليسم)، الذي يعد من أبرز مؤلفات الفيلسوف العلامة إلى جانب موسوعته التفسيرية القيّمة (الميزان).

جرى العلامة في هذه الأبحاث، على عرض المطالب بنحو موجز مكتف، يبتعد ما أمكن عن الإبهام والتعقيد وعدم الوضوح، وذلك كي تكون في متناول أكبر عدد ممكن من القراء من ذوي الذوق الفلسفي مع التوفّر على الحد الأدنى من المعلومات الفلسفية. وكذلك اقتصر على بيان أمهات المسائل الفلسفية، وأعرض عن بيان الأدلة والبراهين العديدة لكلّ مسألة ، واكتفى بما هو أسهل البراهين وأوضحها لإثبات المدعى.

وبعد تحرير المباحث التي كانت تلقى في تلك الجلسات الفلسفية على شكل مقالات، أخذ عشاق الفلسفة وطلاب المعرفة والشرائح المثقفة داخل مدينة قم وخارجها باستنساخها، فكانت تنتقل من يد إلى أخرى، إلى أن زاد الإلحاح على طبعها على شكل كتاب حتى يستفيد منها عموم القرّاء.

كانت تعتري فكرة طباعتها على شكل كتاب بعض الصعوبات والمعوقات، إذ

ص: 53


1- محمد حسين الطباطبائي مفسراً وفيلسوفاً: 61

برغم أن العلامة الطباطبائي قد تحرّى التبسيط فيها وتجنّب التعقيد والانغلاق الذي هو السمة الغالبة لكتب الفلسفة، إلا أنها مع ذلك كانت عسيرة على الفهم العام، وبسبب انشغالات الطباطبائي المتعددة العلمية والدراسية طلب من تلميذه العلامة مطهري، والذي كان وقتها انتقل للاستقرار في طهران بسبب ظروف معينة، أن يقوم

بمهمة إيضاح وبسط مطالبها أكثر حتى تكون في متناول جميع القراء(1).

كان اختيار الطباطبائي للمطهري في غاية التوفيق، فقد اضطلع الأخير بالمهمة على أحسن ما يكون، إذ بذل المطهري الوسع والجهد في كتابة تعليقاته لتكون لائقة بما طرحه أستاذه ، حتى أن العلامة الطباطبائي يحدثنا بما ينبئ عن جهود المطهري قائلاً: «لكي يصل المرحوم مطهري إلى عمق مسألة (القوة والفعل) التي طرحت للبحث في أصول الفلسفة، أخذني معه إلى طهران وأبقاني في بيته أسبوعاً كاملاً، حيث تباحث معي في المسألة لكي يستوعبها بعمق ويستطيع أن يكتب حواشيه عليها، ولم يقنع إلا بعد أسبوع كامل من البحث»(2) .

وبعد أن التأم شتات المتن ،والشرح صدر الكتاب في خمسة أجزاء بالفارسية تباعاً ضم الجزء الأول الصادر سنة (1953م) أربعة مقالات ما الفلسفة، الفلسفة والسفسطة والواقعية والمثالية العلم والإدراك قيمة المعرفة. فيما ضم الجزء الثاني الصادر سنة (1954م) مقالتين: نمو المعرفة وحصول الكثرة في الإدراكات والإدراكات الاعتبارية.

تأخر صدور الجزء الثالث سنتين عن صدور الثاني (1956م)، وضم المقالات: الوجود وواقع الأشياء الضرورة ،والإمكان العلة والعلول. أما رابع الأجزاء الذي لم

يتم المطهري تعليقاته عليه وصدر بعد استشهاده(3)، فقد ضمّ المقالات : القوة والفعل الإمكان ،والفعلية القدم والحدوث الوحدة والكثرة الماهية الجوهر والعرض.

ص: 54


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1: 46، مقدمة الشارح.
2- ذكرياتي مع الشهيد مطهري، الشيخ علي الدوّاني ،22 ترجمة خالد توفيق مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر-قم، الطبعة الأولى 1417ه- ش .
3- اصول فلسفه و روش رئالیسم :4 ،5 بنیاد علمی و فرهنگي أستاذ شهيد مرتضى مطهري.

وجاء خامس الأجزاء الصادر سنة (1971م) في مقالة واحدة هي الرابعة عشر تحت عنوان : إله العالم والعالم، وقد تأخر صدوره عن بقية الأجزاء أكثر من عشرة سنوات.

شكّل صدور الجزء الأوّل من الكتاب أعمق تحد فلسفي واجهته الاتجاهات المادية الديالكتيكية الناطقة بالفارسية، ولذلك عكف المعنيون بالشأن الفلسفي الماركسي على مراجعته، فأدهشتهم البراهين التي ساقها الطباطبائي في نقض الأسس الفلسفية للمادية الديالكتيكية، وبهرتهم الأمانة والدقة العلمية التي تحلى بها.

لقد مثل جهد الطباطبائي وجدته في مقالات الكتاب، خطوة أساسية أدخلت الفلسفة في إيران مرحلةً جديدةً غير منظورة، إذ لم تتجاوز معلومات دارسي الفلسفة قبل ذلك معطيات الكتب المدرسية المقررة، أما بعد مدة وجيزة من خطوة الطباطبائي وكتابه فقد توفّر كثير من طلاب العلوم الدينية في حوزة قم على معلومات فلسفية شاملة نسبياً، خصوصاً فيما يرتبط منها بنظريات الفلسفة المادية، واكتشاف مواطن المغالطة في أساليب استدلالها(1).

مصادر الكتاب

فيما يخص المصادر التي اعتمد عليها كتاب أصول الفلسفة لتقرير وعرض الفلسفات المختلفة، فقد استند بشكل أساس لاستعراض الفلسفة الغربية على كتاب سيرة الحكمة في أوربا (سير حکمت در أورپا) بالفارسية، تأليف محمد علي فروغي (1942م-1877).

ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، استعرض الجزء الأوّل الفلسفة الأوربية حتّى القرن السابع عشر الميلادي، وألحق به ترجمته لكتاب (مقال عن المنهج) لديكارت بعنوان گفتار در روش راه بردن عقل) ، بينما استعرض الجزء الثاني الفلسفة الأوربية من القرن السابع عشر حتى الثامن عشر، أما ثالث الأجزاء فقد استعرضها من القرن التاسع عشر حتى زمان مؤلّفه( القرن العشرين).

ص: 55


1- أصول الفلسفة 1: 46، مقدمة الشارح.

وكذلك اعتمد في تقرير اتجاهات الماديين ،والماركسيين، على كتابات الدكتور تقي آراني التبريزي (1903-1940م ) الشخصية اليسارية الإيرانية المعروفة، خصوصا

(العرفان والأسس الماديّة)، وعلم النفس الفسلجي)، و(المادية الديالكتيكية)(1) . وبحسب ما ينقله جعفر سبحاني فإن بعض الماركسيين في إيران عقدوا اجتماعاً بعد صدور الجزء الأول من كتاب أصول الفلسفة وأقروا بأن مؤلفه قد راعى الأمانة كاملة

في نقل آرائهم وأفكارهم (2).

ومن ضمن المصادر التي اعتمدها كذلك مجموعة الدكتور شبلي شميل (1860-

1917م) المادي اللبناني المشهور. مضافاً لمؤلّفات فلاسفة الإسلام المشهورين كأبي نصر الفارابي وأبي علي سينا وصدر الدين الشيرازي وغيرهم.

ترجمات الكتاب

حظي كتاب (اصول فلسفه و روش رئالیسم) بثلاث ترجمات، نأتي على ذكرها مع

خصائص كلّ واحدة منها حسب تسلسلها الزمني:

الترجمة الأولى:

قام بها العلامة جعفر السبحاني وجاءت بعنوان (أصول الفلسفة). اضطلع بها بناءً على طلب الطباطبائي نفسه كما ذكر في تقريظه للترجمة(3).

تمّت الترجمة سنة (1959م)، وهي ناقصة لم تستوعب إلا أربع مقالات من أصل أربع عشرة مقالة (ما الفلسفة الفلسفة والسفسطة العلم حقيقته وتجرده، كشف العلم عن معلومه وقيمته، أي أنّها ترجمة لخصوص الجزء الأول الفارسي.

كذلك هي ترجمة ناقصةٌ من حيث تعاليق وشروح العلامة المطهري، إذ اقتصر

ص: 56


1- أصول الفلسفة 1: 59-60
2- سيرة العلامة الطباطبائي، مجموعة من الأعلام ،312 ، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى·2000 م
3- أصول الفلسفة، نقله إلى العربية الشيخ جعفر السبحاني ،3 ، مؤسسة الإمام الصادق - قم، الطبعة الثالثة 1426ه-.

المترجم على خصوص ما كان يرجع إلى مقاصد الكتاب من التوضيحات والتعليقات التي سجلها المطهري، أما غيرها من الشروحات فقد أعرض عنها، معللاً ذلك ب (( لئلا يزيد الفرع على الأصل ))(1) . على أنها لم تحتو على العنوان كاملاً إذ سقطت منه عبارة والمنهج الواقعي (وروش رئاليسم).

طبعت الترجمة في مدينة النجف الأشرف بمطبعة الآداب سنة (1965م)(2)، مصدّرة بتقريظ للشيخ مرتضى آل ياسين(1978-1894م). وأعيد طباعتها ثانيةً سنة(1994م)، وثالثةً سنة (2004م). على ألا تفوتنا الإشارة إلى تضمّن الترجمة بعض الهوامش التوضيحيّة التي كتبها المعرب والإشارة كذلك إلى امتياز هذا الجزء عما سواه من الترجمات وقوع ترجمته تحت أنظار الطباطبائي وتقريظه لها.

الترجمة الثانية:

قام بها الشيخ محمّد عبد المنعم الخاقاني وجاءت بعنوان (أسس الفلسفة والمنهج الواقعي). وهي ترجمة ناقصة لم تستوعب سوى جزئين من الأصل الفارسي، حيث ضمت ست مقالات فقط. لكنّها لم تستثن شيئاً من تعاليق مطهري على الجزئين المترجمين.

تمّت مقدمة الترجمة يوم ارتحال العلامة الطباطبائي إلى الرفيق الأعلى، بعد عمر أنفقه في خدمة العلم والعقيدة، فجاءت الطبعة الأولى سنة (1981م) في بيروت من قبل دار التعارف للمطبوعات، ثم أعيدت طباعتها ثانية عام (1988م) من قبل الدار نفسها.

الترجمة الثالثة:

اضطلع بها الأستاذ العلامة السيد عمار أبو رغيف وجاءت بعنوان (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي). وهي الترجمة الوحيدة الكاملة التي استوعبت الأصل الفارسي بتمامه متناً وحاشية.

ص: 57


1- أصول الفلسفة: 8 ، ترجمة الشيخ جعفر السبحاني.
2- معجم المطبوعات النجفية د. محمد هادي الأميني : 122، مطبعة الآداب - النجف، الطبعة الأولى 1966م.

امتازت الترجمة بالدقة والشمول، فضلاً عن احتوائها على مقدّمة مسهبة اضطلع بها الأستاذ، سلّط فيها الضوء على مجموعة أمور ترتبط بالحكمتين الشرقية والغربية ومواضيع الكتاب والواقع إن الأستاذ قدم بترجمته خدمة جليلة وذلك بنقل الكتاب كاملاً للقرّاء الناطقين بلغة الضاد، مضافاً إلى أنه قد أعطاه مسحة جذابة من خلال أسلوبه العصري السلس.

طبعت الترجمة للمرّة الأولى سنة (2001م) باعتناء مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، وأُعيدت طباعتها مؤخراً من قبل المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع. وهي الترجمة المعتمدة في هذه الدراسة.

موقع وأهمية الكتاب

تكمن أهمية كتاب أصول الفلسفة في كونه يمثل المحاولة الأولى الشاملة التي اتسمت بالعمق والاستيعاب لمدارس الفكر الغربي والتي ولدت في حاضرة علمية محافظة. فلقد كان العلامة الطباطبائي فريداً في السبق إلى تشكيل ظاهرة للتواصل والحوار والنقد مع الحكمة الغربية على قاعدة حكمة الشرق. أي السلسلة التي انتهت بالحكمة المتعالية ومدرسة صدر الدين الشيرازي وهو بهذا فتح نافذةً في جدار العزل السميك بين حكمتي الشرق والغرب، بعد أن اتخذت كلُّ واحدة منهما مسارها الخاص(1).

ويمكن القول بضرس قاطع: إنّ كتاب( أصول الفلسفة) يظلَّ انجازاً متميّزاً لم يرق إليه عمل مما سبقه، وكذلك لم يتوفّر أثر فلسفي مما تلاه على جميع خصائصه ومميزاته التي توافر عليها مجتمعةً، ولكن ليس بسبب أخذه بمحاكمة الفلسفة المادية وتجلّياتها المختلفة، وليس بسبب صيرورته مرجعاً لما جاء بعده من أعمال فلسفية وفكرية، وإنما ظلّ انجازاً متميزاً بسبب كونه مثل المرة الأولى التي صاغ فيها فيلسوف مسلم بعد صدر الدين الشيرازي، نظاماً فلسفياً متيناً محكماً، استوعب

ص: 58


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي ،1 ،8 ،13 ، مقدمة الأستاذ المترجم

أمهات مسائل الفلسفة الإسلامية، من خلال الاتكاء على العناصر الحية الفاعلة التي ابتدعها الفلاسفة المسلمون عبر ألف عام من الزمان، وكذا بكسر جدار الفصل السميك والإفادة من العناصر الصحيحة في الفلسفة الحديثة. وهكذا يرجع الفضل إلى الطباطبائي في طرح مشكلة العلاقة مع الفلسفة الغربية، طرحاً علمياً وفلسفياًبعيداً عن العاطفة والعفوية والانفعال أو التبعية التي هي السمة الغالبة في الشرق المسلم، وبعيداً عن عقدة الهوية والشعور بالانبهار، وإنما نجد العلامة حلّل أفكار الفلاسفة الغربيين تحليلاً نقدياً في الإطار والمضمون.

أضف إلى ذلك فإن جهد الطباطبائي في مقالات أصول الفلسفة مثل دفعة جريئة في مسار الفلسفة الإسلامية، إذ ساهم في تطوير ونقد وإيضاح الكثير من مقولات التراث الفلسفي الإسلامي، وفكّ مغاليق رموزه، فأضفى على الفلسفة الإسلامية النشاط والحيوية.

وفي هذا الإطار سجّل الشارحُ مطهري قائلاً: «والهدف الأساسي لهذا الكتاب هو إيجاد نظام فلسفي رفيع يقوم على أساس الاستفادة من الجهود القيمة للفلاسفة المسلمين التي امتدت ألف عام من الزمن، ومن ثمار التحقيقات الواسعة الرائعة لعلماء الغرب زمن استخدام ملكة الإبداع والابتكار. ولهذا نشاهد في هذه المجموعة من المقالات، تلك المسائل التي كان لها دور أساسي في الفلسفة القديمة، ونلاحظ فيها المسائل التي تهتم بها الفلسفة الحديثة، ونجد أيضاً ضمنها أموراً لم تتناولها الفلسفة الإسلامية ولا الفلسفة الأوربية بالدرس والتحقيق. ولم يختص العلم ولا المعرفة بزمان معين، ولم ينحصر في أمة بعينها، ولا في شعب وحده، ولو كان العلم منحصراً في أشخاص معينين، لما حقق هذا التقدم الباعث على الحيرة الذي نشاهده اليوم في عصرنا الراهن. فالوضع المتميّز للحضارة البشرية المعاصرة، وذوبان المسافات بين الأمم والشعوب والانفتاح الحاضر بين الشرق والغرب فيما يتعلّق بالمعارف والمعلومات - كل -هذه توفّر أفضل الفرص للمحقق لكي يستفيد من نتائج قرون من التحقيق والدراسة والعذاب جاءته من طرق مختلفة، وهو يستطيع أن يستغل طاقات

ص: 59

الإبداع الكامنة في نفسه، ويفتح بها سُبلاً جديدةً ويقتحم آفاقاً رفيعةً، وبفضل هذه

الفرص والجهود المبذولة في هذا السبيل استطاع العلم وتمكنت الفلسفةمن قطع مراحل جديدة وتحقيق تقدّم ملموس»(1)

ولكنَّ الذي يؤسف له حقاً أن هذا الأثر ظلَّ منسياً مدة نصف قرن تقريباً منذ تأليفه إلى اليوم، ولم يسمع به سوى القلة خارج الحوزات العلمية، بينما تكتسب بعض الآثار الثانوية التي ربما لا تنطوي على أي إبداع شهرةً واسعةً، بفعل ما تقوم به أجهزة الدعاية. وهذا هو قدر الأمّة إذا تخلّفت فإنها تصاب بتبلد رؤيتها وانشطار وعيها، فلا تقدر على تشخيص المبدعين من أبنائها، وتدع منجزاتها مهملة على رفوف المكتبات))(2) .

إنَّ المتابع يرى غياباً ملحوظاً لهذا الكتاب عن حلقات تدريس الفلسفة في معاهدنا العلميّة، في الوقت الذي يهتمون فيه بكتابات مؤلّفة بلغة طلاسميّة مرموزة، تكدّ الذهن وتستنفد المجهود، فضلاً عن المجافاة التي يلقاها من الدراسات المهتمة بالأبحاث الفلسفيّة أو فلسفة العلم ونظرية المعرفة على أن نسجل : أنه بغياب هؤلاء الأعلام، انكفأت تجربتهم أو كادت فلم نلتق بأحد من أساتذة الفلسفة في معاهدنا العلمية (الدينية) حاول (أو يحاول أن يواصل تجربتهم، ويتواصل في دراسة ونقد الفلسفة الأوروبية المعاصرة، واتجاهاتها الحاضرة إلا في محاولات محدودة!

ومما يدلّل على أهمية الكتاب أنه كان مصدراً معتمداً في الكتابين القيمين (فلسفتنا) و (الأسس المنطقية للاستقراء) الذين كتبهما الشهيد الصدر ناقداً الفكر الغربي في تجلّياته المختلفة وميادينه المتنوعة.

ص: 60


1- أسس الفلسفة والمنهج الواقعي 2 19-10 تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية 1988م.
2- تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، د. عبد الجبار الرفاعي ،227، المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى 2010م

في المنهج الفلسفي للكتاب

نحاول في هذه الفقرة ومن خلال مجموعة نقاط توضيح معالم المنهج الفلسفي الذي سار عليه الطباطبائي في مقالات كتاب أصول الفلسفة مؤصلاً وناقداً:

1- من المعالم البارزة في مقالات كتاب أصول الفلسفة وضوح المنهج العقلي. فلقد كان تناول الطباطبائي للمواضيع الفلسفية والمقولات التي قاربها ولمختلف المشارب، وفق منهج نقدي واضح ، معتمداً في ذلك كله على ميراث المذهب العقلي في المعرفة الذي يستند للمقولات التصورية والتصديقية الضرورية.

وبرغم إيمان الطباطبائي بتعدد مصادر المعرفة وتوزعها بين العقل والقلب والوحي، ولكنه لم يتبع في مقالات كتابه سوى العقل ومقولاته في التصور والتصديق، ولم يركن لدليل نقلي أو لحجة مستندة لمكاشفة متصوّف وتجربة عارف وإشراق متعبّد، وإنما التزم بالعقل كحجة نهائية عرضاً واستدلالاً لاسيما وأن غالب مدارس الفكر التي تعرّض لها ونقدها في مقالات أصول الفلسفة لا تؤمن بالمصدرين: الكشف والنقل، وبالتالي فإن الضرورة النقدية تلزم أن يكون الأسلوب المتبع هو الأسلوب العقلي، وذلك لسعة دائرة المؤمنين به إجمالاً وإن اختلفوا في التفاصيل.

لقد ارتكز الطباطبائي في مقالات هذا الكتاب على اعتماد المقولات العقلية البديهية واتخاذها منطلقاً في نقده وتقويمه لسائر الاتجاهات والمذاهب الفكرية المختلفة والطباطبائي في مذهبه المعرفي فيلسوف عقلي يؤمن بأنّ كل ألوان النشاط الفكري البشري التصديقي ترجع لمقولات بديهية واضحة في نفسها وغنية عن كل ،برهنة، وإنما النفس تضطر للتصديق والإذعان ،بها وعلاوة على ذلك فإن صدق وصحة كل برهان تتوقف عليها. وعلى رأس تلك الأصول قانون استحالة التناقض. وقد تكفلت مقالات القسم الأول من الكتاب نظرية المعرفة ببيان وايضاح هذا الموقف بشكل كبير .

ومن اللافت في هذا الإطار أن الطباطبائي وخلافاً لأنصار مدرسة الحكمة

ص: 61

المتعالية قد ابتعد ببحثه عن الاعتماد على معطيات ومصطلحات التصوف والإشراق والعرفان، التي توجب فيما لو ولجت البحث الفلسفي الاضطراب والتشويش كما يرى ذلك في كتاب غرر الفرائد المعروف بشرح المنظومة.

وبتعبير آخر: إن الطباطبائي وإن كان مدرسياً ينتمي لسلسلة الحكمة المتعالية التي شيّد أركانها الفيلسوف صدر الدين الشيرازي، إلا أنه في كتاباته الفلسفية لاسيما أصول الفلسفة جرى وفق الأسلوب المشائي، وذلك بالاعتماد على البرهان العقلي دون الاعتناء بالذوق ،والتصوف وإدخال اصطلاحات علم العرفان. ولذا قيل بحق الطباطبائي: صدرائي المبنى سينوي المشرب(1).

2- أما طريقة بحث المسائل، فقد كان يعمد في المرحلة الأولى إلى توضيح المفاهيم الأساسية في كل مسألة يراد بحثها، ثم ينتقل لبيان المدعى، فالاستدلال عليه بأوضح البراهين العقلية وأخصرها بعد ذلك ينتقل لاستعراض ما قد يرد على نتائجه من إشكالات فيعمد إلى إيضاحها، ثم يقارب الأجوبة لها.

لقد سار الطباطبائي في هذه المقالات على منهج تحليلي قائم على أساس الدراسة المستوعبة للموضوع المراد بحثه، فما لم يعط تصوراً صحيحاً للموضوع لا يلج في بحثه مطلقاً، ولا يخوض في مرحلة التدليل عليه والإثبات والنفي بمعنى أن التصور النظري للمسائل الفلسفية في هذه المقالات يسبق مرحلة التصديق النظري، وفق الطريقةالمنطقية.

وفي نقده لمختلف الأفكار والمقولات، فإنا نجد الطباطبائي يساير تلك الاتجاهات بشكل يوضح تهافتها الداخلي وتناقضها، فضلاً عن تسجيله النقد الفلسفي لها وفق القواعد الأساسية العقلية والفلسفية.

المتابع لمقالات الكتاب يجد الطباطبائي متمكناً من ملكة التحليل والتنظير الفلسفي

ص: 62


1- إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة علي الرباني الكلبايكاني :1 ،16 ترجمة الشيخ محمد شقير دار زین العابدين 2011م

بشكل يدهش القاري، فضلاً عن سحر البيان، وتجلى ذلك بوضوح في مقالتي: نمو المعرفة والإدراكات الاعتبارية. وفي خصوص هاتين المقالتين فقد طرح الطباطبائي

أفكاراً لم يسبق لها قديماً وحديثاً، كما سنأتي إلى ذكر ذلك في القادم من أبحاث.

3- تماشى الطباطبائي مع الفلسفة الغربية في إعطاء الأولوية في البحث لمسائل نظرية المعرفة قبل الولوج في بحث نظرية الوجود، وخلافاً للفلسفة الإسلامية الموروثة التي لم تفرد مسائل المعرفة ببحث خاص. ولعلّ من أسباب ذلك أن الحقبة المعاصرة شهدت بروز تيارات وفلسفات تشكك بصحة المنهج العقلي في المعرفة بشكل واسع وكذا التشكيك في قيمة المدركات العقلية وحدودها ومدياتها، ولذا خص الطباطبائي مسائل نظرية المعرفة بمقالات القسم الأول من الكتاب.

كما وأن تحليل المعضلات الفلسفية ومقاربة مشاكلها، يقتضي في المرتبة الأولى دراسة أفكار الإنسان وإدراكاته ونشاطه الذهني، ولذا فإن البحث في نظرية المعرفة (فلسفة الإدراك) يسبق الولوج في المسائل الفلسفية المتعارفة.

إن أهمية البحث في نظرية المعرفة تتأتى من جهة أن تقييم جميع المدارس الفلسفية، والمناهج العلمية، يتوقف على المنحى والاتجاه المتخذ في المعرفة فما لم يتخذ الباحث رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في نظرية المعرفة (مصدر المعرفة قيمة المعرفة، حدود المعرفة، لا يصح منه الإذعان بأي قانون فلسفي أو مسألة علمية، بمعنى أن أبحاث نظرية المعرفة توفر خيارات الباحث المعرفية.

لقد شكل تناول العلامة الطباطبائي لنظرية المعرفة ومسائلها بشكل مفرد ومستقل ظاهرة غير مسبوقة في الفلسفة الإسلامية، ذلك أن الفلاسفة الإسلاميين لم يفردوا مسائل نظرية المعرفة بالبحث المستقل قديماً وحديثاً، وإنما غاية ما تطرقوا إليه بعض مسائل نظرية المعرفة والتي بحثوها بشكل مشتت في مختلف فصول علمي المنطق والفلسفة،كما يلاحظ ذلك في بحث الوجود الذهني وبحث العلم والعالم والمعلوم. أما الطباطبائي فقد كان فريداً وسابقاً في بحث مسائل نظرية المعرفة بشكل

ص: 63

مستقل في المقالات الأولى من الكتاب.

4- انتظمت المسائل الفلسفية في الكتاب وفق طريقة شبيهة بتنظيم أبحاث الرياضيات، وذلك بأن تأخذ كل مسألة موقعها المناسب لها، فتكون مكملة للمسائل المتقدمة عليها، وفي الوقت ذاته توفّر الأرضية للمسائل الآتية. وعلى هذا الأساس وبمتابعة استدلالات الطباطبائي، نجده حريصاً على أن تكون براهين مسألة متقدمة مُعينَةً في البرهنة على المسائل اللاحقة، كما يتجلى ذلك في استدلاله على مسألة وحدة الخالق والتي استند فيها لبرهان تقدم في مسألة إثبات وجود الخالق.

5- لقد أفضت تطورات العلم الحديث - وما صاحب ذلك من تغيرات في الرؤى والأفكار المتعلقة بالوجود والمعرفة - بالمذهب التجريبي وأئمته إلى تقديس العلم التجريبي وجعله المرجعية الوحيدة في تفسير كل قضايا الوجود والمعرفة والحياة. فقد قررت تيارات هذا المذهب على تنوعها جعل التجربة المحك الأخير في قبول ورفض مختلف الأفكار والمقولات أيا كانت دائرتها وموضوعها. فخرجت من رحم هذه الفكرة الفلسفة العلمية التي رفعت رايتها الماركسية والمدرسة الوضعية المنطقية.

اتفقت تيارات هذا المذهب المختلفة في مسائل كثيرة على مجافاة فلسفة الوجود (الفلسفة الأولى)، والهجوم على الميتافيزيقيا والإلهيات واعتبارها أوهاماً ولغواً وتخلّفاً معرفياً، وكانت حجتهم في ذلك القاعدة الأساسية في المذهب التجريبي التي ترى أن قضايا الميتافيزيقيا والإلهيات تتحدث عن أمور لا يمكن التحقق من صدقها، ومن ثم فهي خارجة عن دائرة العلم والمعرفة والحكمة.

في مقابل ذلك قدم الطباطبائي في مقالات أصول الفلسفة لاسيما في مقالات القسم الأول منه، معالجات لهذا التصور وللمذهب التجريبي في قواعده الأساسية. ولأن تطبيقات قاعدة المذهب التجريبي متعدّدة، ويحتج بها أنصار المذهب المادي في كل مسألة، فقد عكف الطباطبائي على تقديم مقاربات ومعالجات لزوايا متعددة ترتبط بمنهج العلم التجريبي، في أكثر من مقالة في أصول الفلسفة. نجد ذلك في

ص: 64

المقالة الأولى والخامسة والسادسة ومواضع متفرقة من المقالات الأخرى.

6 -وحتى يستكمل الطباطبائي إيضاح معالم المنهج الفلسفي، ويستكمل من جانب آخر نقده للفكر المادي ولما يعرف بالفلسفة العلمية، فقد أكدت مقالات أصول الفلسفة على ضرورة الفصل والتمييز بين الفلسفة وباقي العلوم، ذلك أن الفلسفة تختلف عن العلوم منهجاً وموضوعاً وغاية، فهي تتخذ من الوجود بما هو موجود موضوعاً لها، أي الوجود بما له من صفة الإطلاق دون لحاظ خصوصية يتصف بها، بينما تتخذ العلوم دائرة أضيق في بحث الوجود وتتمحور مسائلها حول مواضيع محددة، متحيّثة بحيثيات خاصة.

ومن ناحية المنهج فإن الفلسفة العقلية الميتافيزيقية تتخذ من البرهان العقلي بمعناه المنطقي الأرسطي وسيلة وأداة في المعرفة، بينما تتخذ العلوم من التجربة والملاحظة الحسية وسيلة لإثبات مسائلها وحلّ مشكلاتها. ويفرّع الطباطبائي على ذلك عدم إمكان استنتاج قضية فلسفية من مقدمات علمية ولا العكس، لأسباب تتعلق بطبيعة الحكم الفلسفي المرتبط بشروط البرهان.

نعم، قرر الطباطبائي إمكان الاستفادة من نتائج العلوم في انتزاع قضية فلسفية، ولكن هذا شيء والاستنتاج شيء آخر، إذ الاستنتاج يعني استخراج نتيجة فلسفية من مُقَدمَتَي قياس (صغرى وكبرى )علميتين، وهو أمر غير ممكن وفق شروط البرهان المنطقي، أما الانتزاع بواسطة مقدمة علمية تمثل صغرى القياس إلى جانب الكبرى الفلسفية، لتعطينا نتيجة ،فلسفية، فأمر ممكن.

وعلى وفق هذا، يرى الطباطبائي في مقام تأصيله للمنهج النقدي الفلسفي عدم وجود قطيعة تامة بين الفلسفة والعلوم، كما لا توجد موافقة تامة، إذ لكل منهما أدواته وميدانه وفضاؤه النموذجي ناعياً على الاتجاهات المادية الغربية عدم حفظها حريم هذه العلاقة، عندما تجاوزت حدود العلم فوقعت في خلط واشتباه(1).

ص: 65


1- انظر المقالة الأولى من أصول الفلسفة.

رتب الطباطبائي على ذلك أن ما نشاهده في الفلسفة الغربية في اتجاهاتها المادية من نتائج خطيرة، كإنكار عالم ما وراء المادة ،والميتافيزيقيا، وتفسير ظاهرة الإدراك البشري تفسيراً فسلجياً مادياً، ناشئ من الخلط والاشتباه وعدم وضع الشيء في موضعه المناسب، وتجاوز التجربة لجلدها لتمسك بالمسائل الخارجة عن حريم اختصاصها، متصورين أن المسائل الفلسفية يمكن استنتاجها من مقدمات علمية تثبت بالتجربة.

ولا بد من الإشارة في هذه النقطة إلى أن الطباطبائي لم يبتعد عن الأخذ بمُسَلّمات العلم الحديث، واتخاذها أصولاً موضوعة في كثير من المسائل التي قاربها. وكذا تعاطى مع الكثير من نتائج العلوم المختلفة المعاصرة في مقاربة كثير من المسائل سواء كانت علوماً إنسانية أم غيرها.

ومن معالم المنهج الفلسفي في كتاب أصول الفلسفة فصل الطباطبائي وتمييزه بين المدركات الحقيقية والاعتبارية، ذلك أن حصول الخلط في البحث الفلسفي بين المدركات الحقيقية والاعتبارية يوجب الاضطراب في تصور المسائل الفلسفية فضلاً عن التصديق بها، وقد أدى هذا الخلط في علوم مختلفة إلى التباس وتشويش كما يلاحظ في بعض مسائل علم أصول الفقه. ولذا اضطلع الطباطبائي بمهمة كشف النقاب عن هذه المسألة وتوصل إلى تفسير محدّد للفرق بين هذين النوعين من الادراكات، وأكد على أن البرهان لا يجري في الإدراكات الاعتبارية، وعلى هذا فهي خارجة عن البحث الفلسفي، كما سنأتي على إيضاح ذلك عند الحديث عن المقالة السادسة من الكتاب.

عرض موجز لمقالات الكتاب

تنقسم أبحاث الكتاب بصورة أساسيّة إلى قسمين؛ مثل القسم الأوّل ما خلا المقالتين الأولى والثانية أبحاث نظرية المعرفة، وقد استوعبت أربع مقالات من مجموع أربع عشرة مقالة . أما القسم الآخر فقد مثل أبحاث نظرية الوجود وقد جاءت في ثماني مقالات.

ص: 66

تمثلت مقالات القسم الأوّل البحث في: ما الفلسفة الواقعية والمثالية، العلم ،والإدراك قيمة المعرفة نمو المعرفة الادراكات الاعتبارية. وقد انطوت هذه المقالات في الجزء الأول من الترجمة العربية المعتمدة في هذه الدراسة.

أما مقالات القسم الثاني فقد مثلت مباحث نظرية الوجود:مباحث الوجود، الإمكان والوجوب الجبر والاختيار العلة والمعلول الإمكان والفعلية/ الحركة/ الزمان الحدوث والقدم/ التقدّم/ التأخر/ المعيّة الوحدة والكثرة، الماهية/ الجوهر والعرض، العالم وإله العالم .

السمة العامة لمقالات الكتاب التعرض بالتحليل والنقد لكثير من آراء الحكماء والمفكرين القدامى والمحدثين سواء أكانوا إلهيين أم ماديين. كما بذلت اهتماماً أكبر في إيضاح مواطن ضعف المذهب الديالكتيكي، وإماطة اللثام عن مجموع هنات المادية الديالكتيكية.

سنستعرض في الحديث القادم أبحاث مقالات كلا القسمين، محاولين التعريف بكل مقالة وأبحاثها والمقولات التي تناولتها عرضاً ونقداً.

القسم الأول (نظرية المعرفة)

المقالة الأولى (ما الفلسفة ):

انصبّت المقالة الأولى لتعريف الفلسفة وتحديد هويتها والفلسفة ظاهرة طبيعية في الإنسان وملازمة للطينة البشرية، أي أنها قديمة قدم الإنسان ذاته. والفلسفة کممارسة عقلية من الطبيعي أن تختلف الأنظار في شأنها وتحديد ماهيتها، لأن جوهر الفلسفة يقوم على حرية التفكير وإطلالة سريعة على ما قيل في تعريف الفلسفة یكشف عما قلنا(1) .

ص: 67


1- انظر: مدخل جديد إلى الفلسفة، دراسة لآخر الآراء حول حدود الفلسفة وغايتها ومنهجها وعرض لأهم مشاكلها، الوجود، المعرفة، الإلهيات د. عبد الرحمن بدوي: 357 وانظر الاتجاه المعاصر في تعريف الفلسفة والتعاطي معها برؤية جديدة ما هي الفلسفة جيل دولوز وفليكس غتاري ترجمة وتقديم : مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي اليونسكو، الطبعة الأولى العربية، بيروت 1997م.

أيّاً ما كان الأمر ، فقد عنى الماتن وشارحه من الفلسفة هي الفلسفة الموروثة عن مدرسة أرسطو (الفلسفة بالمعنى الأخص) ، التي ذكر بشأنها أنها البحث عن الوجود بما هو موجود، أو مطلق الوجود.

ميزت المقالة الفلسفة بین والعلم، ورأت أن الفلسفة تبحث عن الموجودات بما هي موجودة ، بمعنى أن البحث الفلسفي يتناول الموجودات من حيثية موجوديتها فقط أي الحيثية المشتركة أما العلم فإنه يبحث عن الجهات المختصة المختلفة المتكثرة (الماهيات)، بمعنى أن العلم لا يتناول الماء والتراب والإنسان بما هي موجودات، وإنما العلم يتناول مائيّة الماء وترابيّة التراب وإنسانية الإنسان. ولذا انشعبت العلوم فكانت متعدّدة بحسب تعدّد وتكثر الماهيات والجهات المختصة.

ولكن على الرغم من اختلاف حيثيتي البحث في الفلسفة والعلوم، إلا أن هناك صلات كثيرة بينهما. إذ أن الفلسفة تتكفل إثبات موضوعات العلوم، فإنه في كلّ علم لا يبحث عن إثبات موضوع نفسه وإنما يؤخذ موضوع العلم مفروغ الوجود،أما الذي يتكفل إثباته فهو الفلسفة.

وكذلك تتكفّل الفلسفة إثبات المبادئ التصديقية العامة للعلوم كأصل العليّة. أمّا العلم فإنه يساهم في تقديم إثاراته وأبحاثه للفلسفة كي تنتزع منه أحكاماً عامة. وقد حدّدت هذه المقالة سمات الفلسفة، مبينة أنها تقف في النقطة المقابلة للسفسطة، كما أنها تتكفّل التمييز بين أشكال مدركات الإنسان من اعتبارية ووهمية وحقيقية.

المقالة الثانية (الواقعية والمثالية):

جاءت المقالة الثانية لمناقشة الاتجاهات المثالية وقد انطلقت هذه المقالة في اختيار الاتجاه الواقعي من الفطرة والمذهب المثالي عميق الجذور في تاريخ الفكر الإنساني ومتعدد الأساليب، ولفظ المثالية هو أيضاً من الألفاظ التي لعبت أدواراً مهمة عبر التاريخ الفلسفي، وتبلور في عدة مفاهيم فلسفية تبادلت عليه، وأكسبته بسبب ذلك لونا من الغموض والالتباس.

ص: 68

أما تعريف المثالية في هذه المقالة، فهو : من ينكر مطلق الواقع، أي ينكر الواقع إنكاراً مطلقاً. وقد أعطت المقالة صفة التعميم للسفسطة بما يشمل المثالية، واستعرضت أفكار كلٌّ من باركلي وشوبنهاور (1788-1860م) عادة إياهم من المثاليين.

وقفت المقالة بعد ذلك عند مجموعة من شبهات المثالية ككاشفية العلم وخطأ الحواس فاستعرضتها وأجابت عنها. ثم انتقل الحديث لملاحظات توقف فيها عند بعض مقولات الديالكتيكيين.

المقالة الثالثة (العلم والإدراك):

تناولت المقالة الثالثة موضوعاً يعتبر من أهم موضوعات نظرية المعرفة، وهو تحديد هوية الإدراك البشري وطبيعته. فهل أن الفكر البشري موجود مادي وظاهرة مادية يقوم به الجهاز الفسلجي والعصبي عند الإنسان؟ أم أنّه ظاهرة غير مادية ويقوم به محور غير المادة؟

و(( البحث في الإدراك البشري وتحديد هويته وآليته ترفده اليوم مجموعة من العلوم. ففسلجة الجهاز العصبي وعلوم النفس والتربية والدراسات الاجتماعية تهتم بشكل أساس بهذا الموضوع، وتتناوله كلّ من زاويتها والدرس العقلي الجاد يتطلب متابعة هذه الأبحاث والاستضاءة بمعطياتها، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من هذه الأبحاث تتعدّر متابعتها بحكم الفواصل اللغوية))(1) .

انطلقت هذه المقالة من دراسة صفات الظواهر المادية، وعدم انطباقها على الفكر والصور العلمية، إلى القول بوجود (الروح) المجرد ، المحور لهذا الفكر والذي لا يتصف بصفات المادة. فهو لا يقبل التجزئة والانقسام، ولا يخضع للتغيير والتحوير، خلافاً للظواهر المادية.

ساق الطباطبائي براهين إثبات النفس وأنها مركز الإدراك، ثم تعرّض لمجموعة من إشكاليات يطرحها أنصار مادية الفكر ، وقاربها مقاربات عقلية وفلسفية.

ص: 69


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 :21، مقدمة الأستاذ المترجم.

المقالة الرابعة (قيمة المعرفة):

أما المقالة الرابعة في هذا الجزء من الكتاب فقد تناولت بالبحث والدرس موضوع قيمة المعرفة. والقارئ المحترم يعرف أن هذا البحث من أهم مسائل نظرية المعرفة ، بل هو الواجهة الرئيسة للبحث في نظرية المعرفة.

ينصب البحث في قيمة المعرفة على حقانية الإدراك البشري، فهل يكشف الإدراك البشري عن واقع موضوعي ؟ وهل تتطابق مدركات الإنسان مع موضوعها؟ أصلاً هل بإمكان الإنسان إدراك الواقع فيما لو كانت هناك واقعية خلف الذهن الإنساني؟

تابعت المقالة المذهب العقلي الأرسطي التي تبنّاه حكماء الإسلام، وقد رأى هذا المذهب أن المعقولات المكتسبة على أسس منطقية عين الحقيقة، والحواس أداة للارتباط بالخارج عملياً وليست وسيلة لكشف الحقيقة. وإجمال ذلك:

1 )إنّ الإدراك البشري على نحوين تصوّر وتصديق والتصوّر هو حضور صورة الشيء في الذهن، وليس له قيمة موضوعية، لأن هذا الحضور إذا جرّد عن كل إضافة، فإنّه لا يبرهن أو يدل على وجود موضوعي للشيء خارج نطاق الإدراك. بخلاف التصديق فإنه يتمتع بخاصية الكشف الذاتي عن الواقع الخارجي.

2) ثمَّ إِن جميع المعارف التصديقية التي يتمتّع بها الإنسان، ترجع إلى معارف ضرورية أساسية، تدركها النفس الإنسانية من دون مطالبة بدليل أو برهان، بل لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل وإنما تشعر النفس بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحتها كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية. وقيمة المعرفة إنما تنبع من ارتكازها على هذه المبادئ والدقة في تطبيقها .

3 )أما التطابق بين الصورة الذهنية، والواقع الموضوعي الخارج عن إطار الذهن فيرجع إلى التحليل الآتي: إن أي صورة نكوّنها عن شيء معين لها جانبان أو حيثيتان: فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا، ولأجل ذلك لا بد أن يكون الشيء متمثلاً فيها، وإلا لم تصح إضافتها إليه ولم تكن صورة له.

ص: 70

ومن ناحية أخرى فإن الصورة الذهنية تختلف اختلافاً أساسياً عن الواقع الموضوعي، وذلك أنها لا تتمتع بالخصائص التي يتمتع بها الواقع الخارجي من ألوان النشاط والفعالية.فالصورة الذهنية عن (الشمس) مهما كانت مفصلة ودقيقة لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعّالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي (للشمس). ولكن هذا لا يعني أن الموجود في الخارج غير الموجود في الذهن عن هذا الخارج، بل هما واحد من حيث الماهية وإن اختلفا بالآثار والفعالية والنشاط.

4) إنّنا لما نصف قضية بأنها حقيقة أو صادقة، فمعنى ذلك أنها متطابقة مع الخارج، فالحقيقة صفة للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع ونفس الأمر. وهذا المعنى للحقيقة هو الذي يحتفظ للمعارف البشرية بقيمتها. وبالتالي فقد أكدت هذه المقالة على أن موضوعية الإدراك بعامة ومطابقته للعالم الخارجي، أمر بديهي لا يتطلب برهاناً ودليلاً، بل لا يمكن الاستدلال عليه.

المقالة الخامسة (نمو المعرفة):

خصصت المقالة الخامسة للبحث في نمو المعرفة، وحصول الكثرة في الإدراكات فماذا يعني البحث في نمو المعرفة؟

إنّ البحث في نمو المعرفة يعني : أن المعارف القبلية الأولية التي يمتلكها الإنسان كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكن استنتاج قضايا جديدة من القضايا التي تشكل البنية التحتية للمعرفة الإنسانية وهكذا حتى يتكامل البناء المعرفي عند الإنسان؟

ولا يخفى فإن هذا البحث يرتبط بالعلم والإدراك البشري، وإن كان البحث فيه هنا متحيّث بحيثية خاصة هي كيفية حصول الكثرة في الإدراكات. وقد توفرت هذا المقالة على عرض وجهات نظر الحكماء الإسلاميين في نمو المعرفة وحدودها. وكذا توفّرت المقالة على عرض مواضيع لم يهتم بها القدماء اهتماماً كاملاً، ولم تشق فيها الفلسفة ولا المنطق ولا علم النفس الحديث طريقاً، أي أن التحقيقات الواردة

ص: 71

في هذه المقالة تعتبر خطوة جديدة في عالم الفلسفة (1).

قرّرت المقالة أن المعرفة التصورية تأتي من الحس وهو مبدأ المعرفة، أما التصديق فيقوم على أساس البديهيات الأولية التي تضطر النفس للإذعان بها من دون دليل، وعلى أساس من هذه البديهيات ينهض البناء المعرفي للإنسان من خلال منطق البرهان أو الارتباط الموضوعي بين موضوع الفكرة الأم وموضوع الفكرة ،البنت، وهو ما عبر عنه الشهيد الصدر بطريقة التوالد الموضوعي في قبال ما أسماه ب-(التوالد الذاتي)(2).

و«لقد جاءت إشارات المتن لبعض الأفكار المخالفة فرصة سانحة أمام الأستاذ مطهري، اغتنمها في استعراض أهم نظريات المعرفة الإنسانية. والملاحظ أن العنصر النقدي في ملاحظات الأستاذ ساهمت مساهمة أكثر جدية في الدفاع عن النظرية العقلية التي تبناها أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، أكثر جدية من العناصر التأسيسية التي أقام عليها الماتن والشارح صرح نظريتهما » (3).

المقالة السادسة( الإدراكات الاعتبارية):

انصبّت المقالة السادسة لبحث موضوع مهم وحيوي، وله آثار ومدخلية في أبحاث متعدّدة، ألا وهو بحث الاعتبار والإدراكات الاعتبارية. وقد طرح العلامة الطباطبائي في هذا البحث رؤية تأسيسية جديدة في المعرفة من خلال إبداعه لنظرية الاعتبار. وهو أوّل من بحث الإدراكات الاعتبارية تحت عنوان مستقل وبشكل مفصل كما أشار لذلك المحققون.

كتب الشارح المطهري قائلاً:

«أمّا المقالة السادسة فهي تتناول موضوعاً فلسفياً جديداً لم يسبق إليه وحسب ما وصل إليه علمنا، فإنَّ هذا الموضوع يطرح للدراسة لأول مرة في هذه السلسلة

ص: 72


1- أسس الفلسفة والمنهج الواقعي ،2 : 6 تعريب الشيخ محمد عبد المنعم الخاقاني
2- الأسس المنطقية للاستقراء، السيّد محمّد باقر الصدر: 160 فما بعدها، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قم الطبعة الثانية 1426ه- .
3- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 ،25، مقدّمة الأستاذ المترجم.

من المقالات، وهو الموضوع المتعلّق بالتمييز والتفكيك بين الإدراكات الحقيقيةوالإدراكات الاعتبارية، وسيتضح هذا الأمر من مراجعة المقالة ذاتها»(1) .

وأضاف: «لقد عكف في المقالة السادسة بشكل لم يسبق له نظير على نقد جهاز الإدراك، وتمييز وفرز الإدراكات الحقيقية عن الإدراكات الاعتبارية، وبهذا تتجنّب الفلسفة خطر الاختلاط بهذه الإدراكات، هذا الاختلاط المربك الذي زلزل كثيراً من الحكماء»(2). وكتب العلامة مصباح اليزدي: «تعدُّ المقالة السادسة (الاعتبارات) في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، بحثاً جديداً مبتكراً في الفلسفة الإسلامية»(3).

هذا، فضلا عن أن العلامة قد أشار إلى ذلك في رسالته الخاصة الموسومة بالاعتبارات، فقال: «وإنا لن ننسى مساعي السلف من عظماء معلمينا وقدمائنا الأقدمين وجهدهم في جنب الحقائق، فقد بلغوا ما بلغوا واهتدوا وهدوا السبيل شكر الله مساعيهم الجميلة، ولكننا لم نرث منهم كلاماً خاصاً بهذا الباب، فرأينا وضع ما يهم وضعه من الكلام الخاص ...» (4)

وغير خفيّ فإنّ البحث في الاعتبار والإدراكات الاعتبارية، مرتبط بعالم الذهن. والمراد من الإدراكات الاعتبارية هي تلك الأمور التي لو أغمض الإنسان النظر عنها لم يكن لها حقيقة في الخارج، وذلك نحو الملك والرئاسة وغيرها. وهذه المعاني تختلف وتتبدّل وتتغير بحسب اختلاف الأنظار.

الإدراكات الاعتبارية موجودات ذهنيّة، ولكن ليس بمعنى اختراع الذهن لها من دون استعانة بالخارج، وإلا لكانت غير صادقة على الخارج أو أن تقع على جميع ما في الخارج لاستواء نسبة الجميع إليها وإنما الذهن يوقعها على الخارج بتوهم

ص: 73


1- أسس الفلسفة والمنهج الواقعي ،2 6 تعريب الشيخ محمد عبد المنعم الخاقاني.
2- أصول الفلسفة :1 44، مقدّمة الشهيد المطهري.
3- رسالة التشيع في العالم المعاصر ، العلامة محمد حسين الطباطبائي : 400 ، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر - قم 1418ه- .
4- مجموعة رسائل العلامة الطباطبائي (رسالة الاعتبارات ): 340 ، تحقيق الشيخ صباح الربيعي، مكتبة فدك لإحياء التراث قم، الطبعة الأولى 1428ه-.

أنها في الخارج لوجود المنشأ لها هناك. فبما أن الذهن ينتزعها من خلال الاستعانة بالخارج، وحيث أن هذا الارتباط ليس بحقيقي لعدم تحققها في الخارج، فهو وهمي بتوهم الذهن أنها من المعاني الحقيقية.

وتأسيساً على ذلك، يعرّف العلامة الطباطبائي الاعتبار بأنه: ((عبارة عن إعطاء حد شيء إلى شيء آخر بحكم عوامل انفعالية، لأجل ترتیب آثار ذات ارتباط بعوامله الانفعالية))(1). وسار من جاء من بعد العلامة على منواله وأخذ بأقواله (2) .

ثم ذكر العلامة أن هذه الإدراكات لا يمكن التماسها بالبرهان، ذلك لأنه يجري في الحقائق فقط، وبالتالي فلا تحكم الاعتباريات علاقة استنتاجية، لأنَّ من شروط العلاقة الاستنتاجية أن يكون الربط بين المحمول والموضوع ربطاً حقيقياً، لكي يمكن إثبات الحد الأكبر للأصغر بواسطة الأوسط، أما في الاعتباريات فلا يوجد ربط حقيقي بين محمولها ،وموضوعها، ومن هنا تكون القضايا الاعتبارية ليست برهانية، بمعنى أنه لا يمكن إثبات صحة وسقم نتائجها منطقياً.

نعم، في إطار الاعتبار والمقاييس والقواعد السارية في الاعتباريات، يمكن استنتاج قضايا أخرى منها ، ولكنّها ليست برهانية ولا تتوفّر على شروط القضية البرهانية، ولذا يقول صدر الدين الشيرازي وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه، فكما لا يمكن قياس الزمان بالأمتار، كذلك لا يمكن قياس الاعتبار بالبرهان(3).

أن الإدراكات الاعتبارية قسّمت في هذه المقالة إلى قسمين اعتبارات قبل الاجتماع واعتبارات بعد الاجتماع. والأولى هي التي لا تفتقر في تحققها إلى الاجتماع وإنما تقوم في كل فرد على حدة. أما الثانية فهي التي لا تتحقق من دون افتراض

ص: 74


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1 :524
2- انظر: الرافد في علم الأصول، محاضرات السيد السيستاني بقلم: السيد منير القطيفي: 47، دار المؤرخ العربي بيروت، الطبعة الأولى 1994م ؛ المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي 1: 203 مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة السادسة 1425ه- ؛ الفلسفة العليا، السيد رضا الصدر 101-97، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الثانية 1420ه-، ومعظم روّاد مدرسة العلامة.
3- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين الشيرازي 9: 262 ،دار إحياء التراث العربي، بيروت، - الطبعة الأولى

الاجتماع كالأفكار المرتبطة بالحياة الزوجية وتربية الأطفال. ومن مصاديق القسم الأوّل: الوجوب، والحسن والقبح، وانتخاب الأخف والأسهل، واصل الاستخدام والاجتماع، وأصل متابعة العلم.

أمّا مصاديق القسم الثاني فمنها : أصل الملك واللغة، والرئاسة والمرؤسية ولوازمهما، والاعتبارات التي ليس فيها رئاسة ومرؤسية بل متساوية الأطراف-كالتبادل والارتباط والحقوق الاجتماعية المتساوية والأمر والنهي والثواب والعقاب.

ويلزم التنبيه إلى أنه توجد تطبيقات متعددة لنظرية الاعتبار، منها الحسن والقبح، وأصل متابعة العلم أو حجية القطع، وأفعال الإنسان الاختيارية. كما يلزم التنبيه إلى أن العلامة قد ألف رسالة مستقلة في الاعتبار سنة(1930م)وقد طبعت ضمن مجموعة رسائله(1).

ومن المهم الإشارة ونحن بصدد الحديث عن هذه المقالة إلى أن الطباطبائي في تحليله للمدركات الاعتبارية، قد التقى في مواطن كثيرة مع تحليل الفيلسوف الأسترالي جون ماكي (1917-1981م) في تفسير الأحكام العملية الأخلاقية، وإن اختلفت منطلقاتهما وموقفهما المنتمي للأبستمولوجيا (2) .

القسم الثاني (نظرية الوجود )

تمحورت مقالات القسم الثاني والتي ضمها ثاني جزئي الطبعة العربية حول نظرية الوجود كما أشرنا من قبل، وقد خص الطباطبائي نظرية الوجود بثماني مقالات: السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة وفيما يأتي من حديث نعرّف بكل مقالة والمواضيع والأفكار التي تناولتها.

ص: 75


1- مجموعة رسائل العلامة الطباطبائي، رسالة الاعتبارات: 339
2- انظر: الحكمة العملية، دراسات في النظرية وآثارها التطبيقية السيد عمار أبو رغيف 161 فما بعدها، دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1426ه-.

المقالة السابعة (الوجود وواقع الأشياء):

انصبت المقالة السابعة لدرس مسألة الوجود، وقد افتتحها الطباطبائي بالإشارة إلى السفسطة متخذاً من رفضها نقطة انطلاق في درس الفلسفة والواقع والطباطبائي في موقفه من السفسطة لم يتجاوز ما كان قد سجله في المقالة الثانية من القسم الأول من اتخاذ الإيمان بالواقعية أمراً بديهياً يدركه الإنسان من دون شائبة شك أو ريبة.

بعد ذلك انتقل لدراسة المسألة المحرّرة في الفلسفة الإسلامية بعنوان أصالة الوجود والواقع في مقابل القول بأصالة الماهية بعد أن فرّق بينهما في حديثه السابق عند تناول السفسطة ، مقرراً أن الأصالة للوجود دون الماهية. فالأصيل في كل شيء هو وجوده والماهية أمر ،ذهني بل إن جميع الماهيات تكون واقعية بالوجود، فهي في ذاتها أمر ذهني اعتباري لاحظ له من الواقع والوجود، فالواقع هو الذي يوجد الماهيات.

ثم فرّع على ذلك مجموعة من النتائج كالقول بوحدة الوجود (الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة)، منوهاً إلى أن الكثرة ليست عددية وإنما في المراتب والتجليات المختلفة، ذلك أن العدد والرقم بدوره من تجليات الوجود(1) .

ثم شرح ببحث أحكام الماهية والوجود، وفي أثناء حديثه عن أن الواقع لا يقبل العدم بالذات أي لا يتصف بنقيضه، تعرّض لنظرية الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازيه (1794-1743م) التي تنص على أن الموجود لا يعدم والمعدوم لا يوجد، منوهاً إلى اختلاف هذه الفرضية عن النظرية التي تنص على أن الوجود بذاته لا يتصف بنقيضه، شارحاً المراد من مقولة لافوازيه وفرقها عما يراد بحثه. بعد ذلك خرج باثنتي عشرة نتيجة من درسه في هذه المقالة(2)

ص: 76


1- أصول الفلسفة 2: 63.
2- أصول الفلسفة 2 : 88-89

المقالة الثامنة (الضرورة والإمكان ):

خص الطباطبائي المقالة الثامنة لبحث المسألة الفلسفية المعروفة الضرورة والإمكان والتي تشكل حكماً من أحكام الوجود العامة، وبحسب شهادة الشارح المطهري فإن الطباطبائي في هذه المقالة تناول البحث في الضرورة والإمكان بطريقة خاصة ونهج غير مألوف(1).

افتتح الطباطبائي حديثه بإيضاح مفهومي الضرورة الإمكان، متخذاً مسلكين مختلفين في إيضاحها، اعتمد في المسلك الأول على أساس دراسة سمات الوجود الخارجي، فيما سلك في الثاني عن طريق قانون العليّة. ثم توقف عند مجموعة من الإشكالات التي يثيرها البحث الميكانيكي، والبحث الفيزيائي لنيوتن (1643-1727م).

بعد ذلك خرج بملاحظتين وفرّع عليهما التعرّض لبعض معطيات التجارب العلمية فيما يرتبط بمسألة الحتمية (الضرورة)، ثم أثبت لائحة بالقضايا التي بحثها واستنتجها في المقالة.

المقالة التاسعة (العلة والمعلول ):

البحث في قانون العلية بحث فلسفي وعلمي ،مهم بسبب ما يمثله قانون العلية من ارتباط عام في سلسلة الوجود واتكاء البحث الطبيعي والتجريبي عليه، وقد رتب الطباطبائي البحث في هذه المقالة على دراسته في المقالة الثامنة ترتيباً منطقياً. ثم سلك طريقين لإثبات قانون العلية، عبر عن الأول منهما بالطريق الذي يسلكه الإنسان الاعتيادي بنظرة ساذجة، فيما قال عن الآخر إنه مقتضى النظرة الفلسفية الدقيقة(2).

بعد إثبات أصل العلية انتقل مستعرضاً مجموعة من الإشكاليات مقارباً لها أجوبة فلسفية. وفور انتهائه من تلك المقاربات تعرّض لتقسيمات العلة الفاعلية والغائية والمادية والصورية، وأشبع البحث في كل قسم منها بشكل مستقل، مستعرضاً في

ص: 77


1- أصول الفلسفة 2: 94
2- أصول الفلسفة 2 : 229.

طيات ذلك إشكاليات يفرضها البحث التجريبي المعاصر(1).

ولأن البحث في العلية يستدعي التوقف عند تفسير الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776م) لفكرة الضرورة في هذا القانون(2)، لذا تعرّض الطباطبائي لفكرة تداعي المعاني التي يأخذ بها هيوم تفسيراً لقانون العلية(3). بعدها عرّج على مسألة الصدفة متعرّضاً لمقالة بعض الماديين، وبعد مقاربة مستوعبة للإشكالية خرج بمجموعة عة أمور أثبتها في خاتمة المقالة.(4).

المقالة العاشرة (القوة والفعل/ الإمكان والفعلية ):

استوعبت المقالة العاشرة التي خصها الطباطبائي ببحث مسألة الإمكان والفعلية ما يقارب ربع الجزء الثاني من الكتاب المكوّن من 768 صفحة من القطع الوزيري في طبعته العربية.

انصب البحث لدراسة ظاهرة التغير والتحول التي تعتبر من مسلّمات حقائق هذا الكون، إذ لا وجود للسكون والجمود فيه، وقد أخضع الطباطبائي المسألة للبحث ولكن بمنظار الفلسفة وليس بمنظار آخر.

افتتح الطباطبائي مقالته بمدخل توضيحي للفكرة مستعيناً بمجموعة من الأمثلة الحياتية في ذلك، ثم توصل إلى إيضاح مفهومي القوة والفعل الصفتين الوجوديتين، منوهاً إلى استبدالهما أحياناً بتعبيري: الإمكان والفعلية، ثم خرج بمجموعة من النتائج.

انتقل بعد ذلك لمقاربة إشكالية يثيرها البحث العلمي المعاصر، تترتب على القول بعدم وجود فاصلة بين الإمكان والفعلية. ذلك أن العلم الحديث يرى أن بنية الأجسام

ص: 78


1- أصول الفلسفة 2 : 284
2- انظر: مبحث في الفاهمة البشرية ديفيد هيوم: 45، ترجمة: د. موسى وهبة دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2008م
3- أصول الفلسفة 2: 305
4- أصول الفلسفة 2: 320

ليست وحدة متصلة، وإنما يتألف كل جسم من مجموع أجزاء صغيرة تقبل التحول إلى طاقة، وكل جزء مادي يوجد في الواقع من تكاثف ركام من الطاقة، والطاقة ذاتها أيضاً بنية حبيبية وكل حبة منها تسمى كوانتوم (quantum) ، ومن ثم فلا يوجد لدينا في العالم سوى المادة والطاقة. وبتعبير أصح: لا يوجد لدينا سوى الطاقة،ومن هنا فالاتصال بين الإمكان والفعلية كما يفترضه هذا البحث ليس إلا مفهوماً خالياً.

بعد الانتهاء من مقاربة جواب لهذه الإشكالية انتقل الطباطبائي لبحث مفهوم الحركة، وبعد بسط لمفهومها انتقل لمقاربة موضوع الحركة والتكامل، خالصاً لنتيجة أن التحول والتكامل هو القانون العام لعالم الطبيعة(1). وختم مع موضوع التجربة وتكامل العالم مشيراً إلى مقبولية النتيجة التي خرج بها البحث لدى العلماء المحدثين.

ولأن البحث في الحركة والتكامل يقود الأذهان للفكرة الديالكتيكية الماركسية، عقد الطباطبائي البحث لفكرة قانون الحركة الديالكتيكية في الطبيعة، فتحدث عن تفسير المادية الديالكتيكية لقانون التكامل والتحول مستعرضاً مقالة أنصار هذا المذهب، وبعد استعراض فرضية المادية الديالكتيكية التي تعزو كل الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لهذا القانون، توقف ناقداً لها، وقد أسهب في نقده، مقارباً لما يقوله الماركسيون بمعطيات البحث العلمي الطبيعي (2).

انتقل الطباطبائي بعد ذلك للبحث في مسائل الامتداد في الحركة، والزمان والحركة والحركة الجوهرية والطفرة بنظرة فلسفية، ثم أثبت في خاتمة المقالة القضايا التي تمت دراستها واستنتاجها(3)

المقالة الحادية عشرة (القدم والحدوث ):

ترتب البحث في هذه المقالة على بحث القوة والفعل، فبعد أن بحث الطباطبائي

ص: 79


1- أصول الفلسفة 2 : 392
2- أصول الفلسفة 2 : 431.
3- أصول الفلسفة 2: 482.

في خاتمة مقالته السابقة عن الحركة والزمان انتقل للبحث عن القدم والحدوث. ابتدأ بتوضيح مفاهيم البحث من القدم والحدوث والمعية ، مورداً بعض الأمثلة التوضيحية، متخذاً منها منطلقاً في بحثه التحليلي. وقد ركز البحث في عالم الطبيعة وأحكامه.

وقد جاءت المقالة الحادية عشرة خلافاً لأخواتها مقتضبة موجزة.

المقالة الثانية عشرة (الوحدة والكثرة ):

على غرار المقالة الحادية عشرة جاءت مقالة الوحدة والكثرة مقتضبة موجزة، وقد خصها الطباطبائي لبحث هذه المسألة التي تعدّ من المسائل الفلسفية المهمة والتي تتشابك فيها الرؤى وتتقاطع فيها المشارب والمذاهب الفلسفية والصوفية.

بعد إيضاح مفهوم الوحدة والكثرة انتقل الطباطبائي لبحث أقسام كل من الوحدة والكثرة، ثم عرّج على بحث أحكامها، وخرج بعد ذلك بمجموعة قضايا.

المقالة الثالثة عشرة (الماهية /الجوهر والعرض)

كأختيها جاءت المقالة الثالثة عشرة موجزة، وقد خصت لبحث الماهية والجوهر والعرض وهما قسمان للماهية. أكد الطباطبائي أنه سبق وأن بحث الماهية في المقالتين الخامسة والسابعة، منوهاً على أن الغرض من التكرار مزيد من الايضاح، ولذا ابتدأ بإيضاح مفهوم الماهية وفرقه عن مفهوم الوجود. انتقل بعد ذلك للحديث عن أقسام الماهية والجنس والنوع والفصل ، ثم عنون البحث في الجوهر والعرض، وكذا عن وجود الجوهر في الواقع الموضوعي الخارجي.

وفي خصوص حديثه عن وجود الجوهر توقف الطباطبائي عند نتائج الاختبار العلمي التي تبناها أوجست كونت (1798-1857م) ووليم جيمس (1842-1910م)، وأورد مقالتهما القاضية بعدم وجود الجوهر بناءً على مذهبهما المعرفي الذي يرى التجربة المصدر الوحيد للمعارف البشرية، وبالتالي فإن العلوم لا تتكئ إلا على

ص: 80

الحواس والتجربة، وبالحواس إنما نعثر على الخواص والأعراض فحسب(1).

وبعد إيضاح مقالتهما توقف ناقداً لها مبيناً خلطهم بين الزاويتين العلمية ،والفلسفية، واقفاً على وجه الاشتباه الذي أدى بهم إلى إنكار وجود الجوهر. ومن ثم انتقل للحديث عن أقسام الجوهر والعرض.

المقالة الرابعة عشرة( إله العالم والعالم):

تمثل المقالة الرابعة عشرة آخر مقالة اختتم بها الطباطبائي كتاب أصول الفلسفة، وقد خصها لدرس الإلهيات بالمعنى الأخص في ضوء الأدلة العقلية والبراهين الفلسفية. توجهت المقالة كغالب مقالات الكتاب لمخاطبة الماديين المنكرين للميتافيزيقيا وعالم الغيب وانصبت لدفع إشكالاتهم وشبهاتهم.

افتتح الطباطبائي البحث بإثارة مجموعة من أسئلة عن ضرورة وأهمية وغاية وفائدة البحث في الإلهيات واثبات ،الخالق، وبعد مقاربة أجوبة لها انتقل لتقرير إشكالات (خصومنا الماديون) بحسب تعبيره (2) .

استعرض إشكالية كون التجربة المصدر الوحيد للمعرفة، وعرّج على مسألة تداعي المعاني في قانون ،العلية وإشكالية تبدل الفرضيات العلمية وما يقوله الماركسيون الذين يقيمون كل شيء على دعامة الاقتصاد والاستغلال وإشكالية أن الغيب ليس له أثر في ميدان الاختبار العلمي، وإشكالية ارتداد العلل إلى غير نهاية ولزوم العلية للخالق، وإشكالية الشرور والظواهر غير النافعة في العالم . ثم أخذ بمقاربتها مقاربة عقلية وفلسفية، منوهاً إلى أن الكثير منها قد تم التعرض له في طيات المقالات السابقة. ولم تخل مقاربات الطباطبائي من الاستعانة بمعطيات العلوم المختلفة الإنسانية والطبيعية.

وبعد اسهاب في نقد هذه المقولات التي تشكل مطبات وموانع أمام البحث في

ص: 81


1- أصول الفلسفة 2: 510.
2- أصول الفلسفة 2 : 562.

الإلهيات، انتقل الطباطبائي لصلب فكرة أن لعالم الخَلق خالقاً، مركزاً الحديث على الفهم الساذج والمغلوط لها من قبل الماديين (1). فأسهب في إيضاح الهوة الفاصلة في فهم هذه الفكرة بين المثبتين والنافين، مشيراً لأدلة الإلهيين في جواب الإشكالية التي تقرر : هل واقعية هذا العالم المتحول وواقعية كل جزء من أجزائه ناشئة منه أم أن واقعية الجميع ناشئة من واقعية ثابتة ومستقلة، وتنبع منها جميع الواقعيات؟

فاستعرض بيانين في جواب ذلك، ثم خرج بنتيجة أن هناك علةً وجودية لعالم الوجود، خارج ذاته، ثم توقف عند مجموعة إيضاحات(2).

وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن البرهان الوجودي المعروف في الفلسفة الإسلامية ببرهان الصديقين قد طوى مراحل مختلفة في المدرستين المشائية ومدرسة صدر الدين الشيرازي ولكنه مع بيان العلامة الطباطبائي له قد وصل إلى أوج دقته. فالطباطبائي يعتقد أن هذا البرهان لا يتوقف على أية مسألة فلسفية أخرى، وإنما يمكن طرحه لإثبات وجود خالق للعالم مباشرة بعد الإيمان بأصل الواقعية.

تحت عنوان تذكير وتنبيه توقف الطباطبائي عند بعض إشكاليات الماديين التي من الممكن أن ترد على معطيات البحث السابق فاستعرضها وقاربها فلسفياً.

كيف نتصور الله؟ تحت هذا العنوان شرع العلامة الطباطبائي ببحث الصفات الإلهية، ذلك أن أول إشكالية تنقدح في ذهن الإنسان في مجال بحث الإلهيات هي أساساً عن قدرة الإنسان على تصور الله لكي يؤمن به؟ باعتبار أن الاعتقاد والإيمان تصديق، والتصديق فرع التصور، وإذا كان تصور الله غير ممكن فسوف يكون التصديق به والاعتقاد غیر ممکن بداهة. ولذا عقد الطباطبائي البحث لهذه الإشكالية، وعرّج على الصفات الإلهية. ثم انتقل لإثبات وحدة الخالق مستعيناً بالبراهين السابقة.

ص: 82


1- أصول الفلسفة 2: 633.
2- أصول الفلسفة 2: 668-670.

عقيب البحث في الصفات الإلهية توقف الطباطبائي عند نظرية مؤسس علم الاجتماع الحديث أوجست كونت التي يقسم فيها الفكر البشري إلى حقب ثلاثة( قانون الحالات الثلاث )دينية وفلسفية وعلمية والتي تنطلق من نظرية اجتماعية تاريخية، وشرع بنقدها نقداً تاريخياً وفلسفياً، مستعيناً ببعض نتائج دراسات المستشرق الألماني ماكس مولر (1823-1900م)(1).

ثم رجع للبحث اللاهوتي الرتيب فوقف عند مسألة أن إله العالم جامع لكل كمالات الوجود، متعرضاً في طيات كلامه لبعض الإشكاليات.

وإذا كان للعالم خالق فإن العالم يمثل فعل ذلك الخالق، فشرع ببحث الفعل وتقسيماته ومراتب العالم المادي والمثالي والعقلي، مستعرضاً في طيات ذلك بعض إشكاليات الماديين.

وختم المقالة ببحث مسائل : القضاء والقدر والخير والشر والسعادة والشقاء، ونهاية العالم ، ثم أثبت لائحة بالقضايا التي بحثها واستنتجها(2) .

وبذلك يتم الحديث حول مقالات كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي.

ملاحظات ختامية

أريد فى هذه الفقرة الختامية التوقف عند مجموعة من الملاحظات التي تسلّط الضوء على زوايا ترتبط بكتاب أصول الفلسفة وأبحاثه وجهات أخرى تتعلّق به :

الملاحظة الأولى:

تضمنت مقالات الطباطبائي استعراض ونقد الكثير من الأفكار المرتبطة بالفضاء المعرفي الغربي، سواء ما يرتبط منها بالميتافيزيقيا والإلهيات أم الفسلجة والنفس والاجتماع والتاريخ. ولذا استحق الكتاب صفة الموسوعية. إذ هو في واقعه يمثل

ص: 83


1- أصول الفلسفة 2: 685-702
2- أصول الفلسفة 2 : 757 .

موسوعة في تحليل ونقد الأفكار والفلسفات المختلفة، وبتعبير الطباطبائي نفسه فإن الكتاب عبارة عن :((مقالات فلسفية تسير بقارئها حتى توقفه على أفق عال من النظر، ويشرف منه على خلاصة النظريات التي حصلتها الأبحاث الموروثة من قدماء الفلاسفة من كلدة ومصر وإيران واليونان وغيرهم، ثم تحمّلها فلاسفة الإسلام ويطلع على الأبحاث والآراء التي أضافتها إليها الفلسفة الغربية الحديثة، ثم يقف على القضاء الحرّ والرأي الحق الذي لا مناص عنه للنظر (المصيب))(1).

مقالات الكتاب من حيث الجدة بحيث يصعب العثور على ما يماثله في تاريخها الفكري المعاصر وحركة النقد الفلسفي، فضلاً عن الموضوعية العالية والنفس الطويل التي تحلى به الفيلسوف الطباطبائي، تجد التواضع الفكري والتعاطي الأخلاقي، فالكتاب درس في الحكمتين النظرية والعملية!

وحتى لا نترك هذه النقطة من دون مثال، فإن الطباطبائي بعد أن نقد مقولات المثالية، أكد على ضرورة عدم الزج بأصناف من الناس في زمرة المثالية بسبب تبنيهم لمقولات معينة؛ كالعرفاء الذين أنكروا منهج الاستدلال وطرحوا الكشف الذوقي طريقاً للوصول إلى الحقائق. أو أتباع الديانات الذين قصروا المعلومات الحقيقية على طريق الوحي، أو الفلاسفة الهرامسة الداعين إلى الانجذاب صوب العالم العقلي الباقي والتنزّه عن العالم الفاني؛ كهرمس، وبليناس (15 - 100م)، وفيثاغورس (497-572 ق.م)، وأفلاطون (347-427 ق.م)، وأفلوطين (205 -270م)، فكل هؤلاء لم يكونوا بصدد نفي الواقع وإدراكه، ولم يكن لهم آمال سوى إكمال مسيرة العلم والعمل وخدمة الإنسانية. وبعد ذلك سجّل نصاً تتمثل فيه حكمة الطباطبائي وتواضعه وإنصافه، فقال: ((فمن العدوان والتجاوز أن يبدأ الإنسان بالنطق بالألفباء فيوجه السباب والاتهام لصلب أبيه ورحم أمه بفم ولسان تم صنعهما بدم أبويه. على أن الاتهام والسباب من قبل الباحث الناقد يعني دعوى العلم ودليل الجهل ))(2) .

ص: 84


1- أصول الفلسفة، ترجمة السبحاني .3
2- أصول الفلسفة 1: 118.

الملاحظة الثانية:

من أغرب ما اطلعت عليه وأنا أعد لهذه الدراسة نص للعلامة محمد تقي الجعفري(1927-1999م) يتعلّق بمضمون كتاب أصول الفلسفة، أثبته حرفياً: ((لم أشاهد في مطالعتي لمؤلفات المرحوم الطباطبائي بحثاً وتحقيقاً خاصاً في فلسفة الغرب ومقارنتها مع فلسفة الشرق. وما يلاحظ في أسلوبه الفكري خاصة في كتاب قواعد الفلسفة وأسلوب الواقعية أصول الفلسفة والمنهج الواقعي هو اطلاع لازم بشأن المسائل الفلسفية التي تحدد قواعد ومبادئ العقيدة في الشرق والغرب)) (1).

إن غرابة هذا النص تنبع من مخالفته لواقع مقالات كتاب أصول الفلسفة والنظريات والأفكار التي تضمنها والتي يمكن لكل قارئ ومتابع ملاحظتها.

ومن جهة ثانية فإن هذه الشهادة مخالفة لشهادات مجموعة من تلاميذ الطباطبائي تتعلق بواقع وغرض الكتاب(2) ، فضلاً عن كلام الطباطبائي نفسه الذي نقلنا طرفاً منه. ولذا لا أجد مبرراً لهذا النصّ، أو للإسهاب في نقده.

الملاحظة الثالثة:

في إطار الاهتمام بالكتاب والعرفان بأهميته، وجدت بحسب تتبعي المحدود أن الدرس الجاد الوحيد من جملة محاولات والذي تناول الكتاب بشكل نقدي وعلمي هو الدرس الذي عقده أستاذنا العلامة عمار أبو رغيف، فقد تناول درس مقالات الجزء الأول تناولاً نقدياً وبأفق رحب. ثم أن تلك الجلسات حررت بقلم بعض تلاميذه ونشرت في العدد الثاني من مجلة البرهان التي يصدرها معهد الدراسات العقلية في النجف الأشرف، ثم أعيد نشرها في كتاب الأستاذ (مقالات عراقية) بعنوان: إطلالة نقدية على أصول الفلسفة والمنهج الواقعي. ومما جاء في ديباجة تلك الدروس: ((بين يديك دروس ألقيتها منذ سبعة أعوام لتكون حقلاً يخصب من خلاله النقاش

ص: 85


1- سيرة العلامة الطباطبائي : 276.
2- انظر : مقدمة مطهري في أصول الفلسفة 1: 43، 45 ؛ مقدمة سبحاني في ترجمته للكتاب : - 5؛ وكلام التلميذ الآخر الطهراني فى الشمس الساطعة : 56-57 ، وغيرها من شهادات تلاميذه والمتابعين والمهتمين بفكره وآثاره

والسؤال حول المعرفة البشرية، ولكي تنمو طاقات تملأ الفراغ الذي نلمسه في مقاربة النقاش العقلي. انصبت دروسنا على معالجات نقدية لنظرية المعرفة حسب ما جاءت في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، حيث حرر متنه الفيلسوف العلامة الطباطبائي، وزينه بحواشيه الفيلسوف مطهري تلميذ العلامة، وأهم المحققين في فلسفة صدر الدين الشيرازي والحكمة الإسلامية العتيدة بشكل عام. وأود التنبيه هنا إلى أهمية نقد النصوص الجادة، ذلك يتضمن إعادة الحيوية لما طرحته من المهم المصيري من أفكار ويتضمن إعادة تظهيرها، وهذا يعني بالضرورة احترامها وتكريم رجالها. المعرفة الإنسانية ليست ضواري مفترسة، بل هي إنتاج أنسي يتطلب معاشرة وإيضاحاً وتعديلاً ونقداً))(1).

هذا المعنى يؤكد ما أشرنا إليه في مطلع الدراسة من حزونة البحث العقلي النقدي، وقلة الاهتمام بالنصوص الجادة والمهمة، لا سيما هذا الكتاب، في ظل فوضى المعرفة والأفكار التي تحوطنا من كل صوب !

الملاحظة الرابعة:

هناك تصور مغلوط، سمعته من بعضهم، وتُحشى به أدمغة آخرين، يرتبط بكتاب أصول الفلسفة وكذا بكتابي (فلسفتنا) و (اقتصادنا) للشهيد الصدر، ومفاد هذا التصور أن هذه الكتابات مقتصرة على نقد الماركسية ، وبما أن الماركسية سياسياً واقتصادياً أضحت في متاحف تاريخ الأفكار، فإن مبرّر الاهتمام بهذه الكتب ينتفي !

وفي الواقع إن هذا التصور يدلل على عدم اطلاع صاحبه على هذه الكتابات، ولم يجسّم نفسه عناء النظر فيها، ذلك أن الطباطبائي والصدر لم يدرسا الماركسية إلا بوصفها تجلّياً من تجليات الفكر الغربي القائم على أسسهم الحضارية ورؤيتهم عن الكون والحياة والإنسان، والماركسية في كثير من منطلقاتها الفكرية لم تختلف منطلقات تيارات الغرب الفكرية وإن اختلفت في تفسيرها وعوامل صيرورتها

ص: 86


1- مقالات عراقية، مقالات وبحوث في الفكر والدين والفلسفة السيد عمار أبو رغيف 567-568، دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1435ه-.

التاريخية. بل إن الماركسية حاولت توظيف مجمل الدراسات النفسية والاجتماعية والفسلجية والعلمية لفلاسفة وعلماء ومفكري الغرب في سبيل إقامة فكرتها في تفسير التاريخ وتطوراته الكبرى وأمثولتها الشيوعية.

إن مراجعة بسيطة لكتاب أصول الفلسفة، وكذا كتابا الشهيد الصدر، توقف القارئ المحترم على أن نسبة استعراض الماركسية فيها قياساً بمجمل تيارات وأفكار ومقولات الفكر الغربي، نسبة ضئيلة جداً. فالبحث في نظرية المعرفة وتجليات المذهب التجريبي وتفسيره لمجمل النشاط الفكري البشري تصوراً وتصديقاً، قيمة ونمواً وتكثراً، حدوده ومدياته، ليس حكراً على الماركسية، وليس بحثاً في الماركسية، وإن كانت الماركسية تياراً في ذلك المذهب.

وكذا فيما يرتبط ببحث الوجود وتفسيره وقوانينه فالمذهب المادي في الوجود واسع تنتظم في طياته تيارات متعددة، تشكل فيه الماركسية تياراً من جملة تلك التيارات.

وباختصار إن هذه الكتابات تناولت المذهب المادي وفلسفته في أصولها الأساسية، وعبره تجلياتها المختلفة، منذ عصر اليونان وحتى العصر الحديث.

الملاحظة الخامسة :

أحسب أن الكتاب (متنا) بحاجة للترجمة عن أصله الفارسي لإحدى اللغات العالمية الحيّة كالإنجليزية ،مثلاً كي يتسنى للناطقين بها من المهتمين بالفكر والفلسفة الاطلاع على هذا النشاط الفكري والفلسفي المميز الذي اضطلع به الفيلسوف الطباطبائي . وتكمن أهمية هذه الخطوة في إطار تلاقح الأفكار والدراسات المقارنة.

كما أجد أن الضرورة الفكرية والعقيديّة تقضي بأن يكون متن العلامة في هذا الكتاب منهجاً دراسياً في معاهدنا الدينية والفلسفية، عسى أن نعيد بعض الهيبة

ص: 87

والوقار لذواتنا ووجودنا أمام نزق الأفكار.

الملاحظة السادسة:

لم أشأ تضمين الدراسة ملاحظات نقدية ترتبط بالكتاب أو طريقته أو بعض أفكاره ومقولاته، لأنني أردت للدراسة أن تكون تعريفية تُسهم في تعريف القارئ المحترم على المحاولات الجادّة في التواصل مع الفلسفة الغربية في حواضرنا العلمية. وإذا كان لا بد لنا من كلمة نختم بها دراستنا عن أصول الفلسفة، فإنها تؤكد على ضرورة قراءة الأفكار قراءة جادة ونقدية والأخذ بالحسبان أن ما حَرّره الأكابرُ من فلاسفتنا رغم جلالة قدره يبقى جهداً بشرياً وسعياً آدمياً لاكتشاف المجهول بقدر الطاقة البشرية، ومن ثم فهو يتأثر بظروفه ومحيطه، وتعتوره الهفوات والنواقص، وبالتالي يظل بحاجة للتقويم والتتميم ومواصلة المسيرة النقدية والمعرفية على أساس قراءة النصوص، وجذور الأفكار، وظروفها التاريخية والاجتماعية.

ص: 88

مُحَمَّد حُسَين الطباطبائي الفيلسوف الناقد والحكيم العارف

نبيل علي صالح

(1)

ذاع صيتُ العلامة والفيلسوف الإيراني الراحل السيد« محمد حسين الطباطبائي» بعيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، التي أسهمت في تعريف العالم العربي والإسلامي بنتاجات هذا المفكر البارز ، مع أنه قدّم - قبل هذا التاريخ - الكثير من الكتابات والمؤلفات القيمة التي ترك من خلالها بصمات مميزة وخلاقة على الساحة العلمية الفلسفية والفكرية في كل من إيران والعالم الإسلامي في العصر الراهن، بل وتخطت حدود إبداعاته وإشعاعات أفكاره عالمنا الإسلامي لتصل إلى العالم الغربي في كبريات جامعاته وأكاديمياته.

ولم يختص هذا العالم الكبير بعلم أو بصنف أو مجال محدد من علوم الفكر والمعرفة الإسلامية، بل برزت كتاباته وتصانيفه الفكرية في علوم عديدة كالفقه والفلسفة

والقرآنيات والعلوم الكلامية والأصولية والعرفانية والتفسيرية وغيرها، جامعاً بين الموسوعية والتخصص، ليكون كاتباً نوعياً في كل العلوم التي خطّ قلمه فيها، فمن« بداية الحكمة» إلى« نهاية الحكمة» وأصول الفلسفة إلى «الميزان في تفسير القرآن»، إلى غيرها من الكتب النوعية المهمة، ومناقشاته الرائدة والفريدة مع الفيلسوف الفرنسي«هنري كوربان» حول العرفان والتصوف عند الشيعة، والتي أسهمت في إيصال الفكر الإسلامي الشيعي إلى الجمهور الغربي والفرنسي منه بالذات..

ص: 89


1- باحث وكاتب سوري

ولعل ما ميّز فكر الطباطبائي عن غيره أمران اثنان أولهما تفلسفه العميق، وصلابة معياريته الفلسفية الإسلامية، وإقدامه الفكري، وقدرته الفائقة على النفاذ العقلي إلى بنية الأفكار والمعارف المطروحة.. وثانيها :ربطه ومزجه العملي( لا النظري فقط) بین الذات والموضوع بين النظري والعملي بين التعليم والتربية، بين عالم الأفكار وعالم العرفان، حيث كان معلماً فكرياً وفلسفياً، وفي الوقت نفسه عارفاً وأخلاقياً ورياضياً،حرص دائماً على تزكية النفس بالأخلاق والقيم والفضائل الإسلامية الأصيلة، لاسيما أخلاق الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل البيت(علیه السلام)، حيث خط مدرسة جديدة في التربية والحكمة والعرفان تقوم على التنشئة والتربية القيمية الأخلاقية وتزكية النفس والذات بالمكارم والأخلاق العملية، باعتبارها أساس أي عمل نهضوي ديني إسلامي على مستوى الذات أو الموضوع. فحتى تكون مسلماً فاعلاً ومنتجاً، لا بد أن تكون على درجة عالية ومتقدمة من الالتزام القيمي بالأخلاق والمبادئ الإسلامية، لأن قيم الإسلام من عدل وكرامة ومساواة ومحبة وإيثار وغيرها، هي الغاية والمنتهى من وجود أي مشروع فكري( دعوي قيمي) يراد ترشيد الناس إليه للالتزام والفاعلية والحضور الغني المعطاء.

وفي هذا الاتجاه، كان العلامة الراحل الطباطبائي نجماً عرفانياً يشار إليه بالبنان وتستضيء بنور أفكاره دروب السالكين (نحو المعرفة الجوهرية) والمنفتحين على عالم النظريات والمعارف الفلسفية.

تواريخ بارزة في حياة الفيلسوف الطباطبائي:

وُلدَ العلامةُ السّيّد «محمد حسين الطباطبائي» في العام 1906م في منطقة «شاد آباد» إحدى توابع محافظة«تبريز»الإيرانية، ضمن أسرة عُرفت بالعلم والرياسة والفضل والأخلاق ، وكانت سلسلة أجداده الأربعة عشر الماضين من العلماء المعروفين فيها، وهي تنتهي (أي سلسلة نسبه من جهة الأب إلى الإمام الحسين (علیه السلام).

بدأ السيد الطباطبائي بالدراسة الأولى عن طريق ما كان يعرف ب-»الكتاتيب»، من

ص: 90

العام 1911 إلى العام 1917م ، وهذه الطريقة كانت معروفة قديماً، وهي تطلق على من كان يدرس اللغة والخط والأدب، ويتعلم بعض الدواوين الشعرية عند رجالات الدين ومشايخه المعروفين في القرى والبلدات حيث لم تكن المدارس الرسمية الحديثة قد عُرفت بعد.

التحق السيد الطباطبائي لاحقاً بالمدرسة «الطالبية» في مدينة «تبريز» حيث درس فيها قواعد الأدب العربي، وبعض الحديث والفقه والأصول، فيما شرع بدراسات العلوم الإسلامية الأخرى ما بين عامي 1918م - 1925م.

وبعد أن فرغ من الدراسة في المدرسة الطالبية شدّ العلامة الطباطبائي الرحال مع أخيه السيد« محمد حسن» متوجهاً صوبَ حاضرة العلم الإسلامي الشيعي (النجف الأشرف)، حيث مكث فيها طالباً للعلم ما بين سنة 1925م إلى سنة 1935م، متتلمذاً على يد كبار العلماء والآيات في تحصيل العلوم الدينية، ومنشغلاً بالدراسات الفقهية والأصولية والفلسفية والعرفانية والرياضية.

وبسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وقلة العيش وضيق ذات اليد، قفَلَ« الطباطبائي» راجعاً إلى مسقط رأسه في« تبريز»، حيث اشتغل بالزراعة لأكثر من عشر سنوات في قرية «شادباد». وقام خلال هذه الفترة بتأليف مجموعة رسائل عرفانية وفلسفية وبسبب الاضطرابات التي حدثت في محافظة أذربيجان، توجه العلامة« الطباطبائي» إلى مدينة قم، ليبقى فيها ما يقرب من (35) سنة قضاها بالعلم والتحقيق والبحث والتعمق الفلسفي، والتوسع في مدارك الحكمة الإلهية، وتربية جيل من الأعلام والمفكرين حتى وافاه الأجل هناك في العام 1981م عن عمر ناهز الثمانين قضاها بالعلم والتربية، والاشتغال الفلسفي، ومحاولة بناء أسس متينة لهذا الدين العظيم وتربية أجيال من المفكرين الإسلاميين.

مؤلفاته ونتاجاته الفكرية:

نذر الراحل الطباطبائي حياته كلها للعلم والبحث والتقصي النقدي الفكري

ص: 91

والفلسفي، فكان أن أثمر هذا الانهماك المعرفي كثيراً من عيون المؤلفات التي خطها يراعه، وأغنى من خلالها المكتبة الإسلامية في أكثر من حقل معرفي، منها:

- «الميزان في تفسير القرآن». وهو تفسير قرآني متنوع وغني، يقع في عشرين مجلداً، كتبه السيد الطباطبائي باللغة العربية، وترجم إلى الفارسية والإنكليزية.

-«أصول الفلسفة والمنهج الواقعي». مع شروح وهوامش للعلامة الفيلسوف الشهيد مرتضى مطهري.

«شرح الأسفار الأربعة» لصدر الدين الشيرازي. ويقع في ستة مجلدات.

- «حوار مع الأستاذ هنري كوربن». ويقع في مجلدين.

-« رسالة في الحكومة الإسلامية». طبعت بالعربية والفارسية والألمانية (1).

- حاشية الكفاية. ورسالة في القوة والفعل . و رسالة في إثبات الذات. ورسالة في الصفات.

كما كان ينشر كثيراً من البحوث والمقالات المتعددة في كثير من المجلات الفكرية العلمية آنذاك.

نقد الطباطبائي للفلسفة الغربية ( مقاربة في الرؤية والمنهج) :

هيمنت الكلمة النقدية والموقف الفلسفي ذو الصرامة النقدية التأصيلية، على مجمل النتاج الإبداعي للمرحوم العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ولا نكاد نعثر على نص فكري له يخلو من ملمح نقدي فكري أو إشارة فلسفية نقدية حول أي موضوع دراسي (تاريخي أو عقدي أو كلامي) تناوله حتى في نصوص شروحات

ص: 92


1- مجموعة رسائل فلسفية وكلامية رسالة في الأفعال. ورسالة في الوسائط الإنسان قبل الدنيا والإنسان في الدنيا. و الإنسان بعد الدنيا. رسالة في النبوة . رسالة في الولاية رسالة في المشتقات رسالة في البرهان. رسالة في المغالطة. رسالة في التحليل. رسالة في التركيب. رسالة في الاعتباريات. رسالة في النبوة والمنامات علي والفلسفة الإلهية. القرآن في الإسلام

سفره التفسيري الضخم والشيق الميزان في تفسير القرآن»..

لقد انطلق العلامة الراحل -كمفكر تأصيلي نشأ في مناخ اجتماعي وسياسي يغلب عليه شعور الإحباط الإسلامي من طغيان مشاريع فكرية وتيارات وأحزاب سياسية تأخذ بالفكر المادي والشيوعي -انطلق في وعيه للمسألة الفلسفية- كقاعدة فكرية عميقة للدفاع والمواجهة وإثبات الذات الفلسفية الحضارية الإسلامية من خلال اطلاعه المعمّق على الفلسفة عموماً ومختلف تيارات الفكر الفلسفي الغربي مفنّداً لها، خاصة على مستوى شرحه الدقيق لفلسفة« صدر الدين الشيرازي» الذي يشكل فكره ومقولاته الفلسفية خلاصة التجربة الفلسفية الإسلامية الأصيلة بأبعادها وأشكالها المتعددة.

لقد أعجب الطباطبائي بالفلسفة الصدرائية (فلسفة الفيلسوف الشيرازي)(1)، ولكن إعجابه وشرحه للإبداع الفلسفي الصدرائي لم يمنعه من أن يبتعد عنه في بعض القضايا الفلسفية كقضية «أصالة الوجود واعتبارية الماهية» أي أنه اختار طريقاً مختلفاً و«أعلن» بياناً مغايراً لما اعتقد به «الفيلسوف الشيرازي».. بمعنى أنّه كان یری أنّ «اعتبارية الماهية »تعني مجرد ذهنية الماهية.

لقد كان الطباطبائي فيلسوفاً إسلامياً تأصيلياً بامتياز، انطلق في معظم أعماله النقدية للفكر الغربي- في تصديه للرؤى والمفاهيم الفلسفية الغربية- من منطلق الحرص على تعميق فهم معالم الإسلام المحمدي الأصيل، وإبراز خصائصه الفريدة، وتحصين أسس الفكر الإسلامي ومرتكزات العقيدة الإسلامية مما كان يتربص بها

ص: 93


1- يتحدث العلامة الطباطبائي عن هذا الفيض العارم من الإعجاب بفكر الشيرازي قائلاً: «ظهر هذا التطوّر في العصور الأخيرة الإسلامية أي بعد القرن العاشر الإسلامي، فهو بلا شك أدهش العقول وحيّر أصحاب الفكر. أحدثه رجل العلم والفضيلة، البطل المقدام في ميادين العلم والمعرفة سيّد نوابغ العالم، أسوة الحكماء والمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي المشتهر بصدر الدين، وصدر المتألهين (1050971) أسس أساساً حديثاً، ورسم قواعد ودوائر لم يسبق إليها أحد، وأتى بأفكار أبكار ، وآراء ناضجة، لم يقف على مغزاها إلا ثلة قليلة من بغاة العلم والفلسفة ولو تتبعت موارد أنظاره وكتبه ورسائله، لعلمت أنه المؤسس في المسائل الفلسفية، وأنّه المبتكر الوحيد في إبداع أصول لم تعهد، وتفريع فروع لم تسمع، وإحداث طريق للبحث والتحليل لم يشاهد . راجع) كتابه: أصول الفلسفة، الرابط : (http://dlia.ir/paygah.e.a/imamsadeq/book/sub3/asool-falsafa/asool-falsafa24.html

(فكرياً وفلسفياً)، في ضوء تحديات متغيرات الحياة وحركية الإنسان، بعد أن أيقن في وقتها بوجود مخاطر حقيقية وجدية تحيط بالإسلام، متمثلةً -على وجه الخصوص- بخطر السيادة الغربية على الشرق الإسلامي فكرياً وروحياً ومادياً، في خضم انتشار فلسفات غربية وضعية ترفض الأديان وتحاربها وتحاول الارتكاز على العلم الوضعي لتقوية مواقفها النقدية تجاه تلك الأديان..

على هذا الصعيد انشغل الراحل الطباطبائي (مثل كثيرين غيره من العلماء والمفكرين التأصيليين العرب والمسلمين) بمواجهة أفكار الفلسفة الغربية (ومختلف طروحاتها ومقولاتها وتصوّراتها المفاهيمية) التي صاحبت حملات الاحتلال الغربي لكثير من بلداننا الإسلامية، ساعيةً عبرها إلى تصدير فكرة محددة إلى المسلمين تقوم على تعميق الحس المادي أو الرؤية المادية للحياة والإنسان، من خلال مقولات مفاهيمية عديدة (تخفي السم في العسل كما يقال) أبرزها أنّ«العلم التجريبي»بفلسفته الأوروبية هو نسق فكري معصوم ومطلق الصحة (لا يعتريه أي خطأ)..وهذا يقتضي - بطبيعة الحال - الخضوع لمن يظن أنها «يقينياته» المطلقة، والتسليم بكل افتراضاته المبدئية المحسومة، لا سيما ما يتعلق منها بأصول المنهج العلمي القائم على المادة والحس وتجارب المختبرات فحسب، أي تكريس النظرة المادية للإنسان والحياة والوجود على أساس أنها -كما يزعم-

«بديهيات» و«مسلّمات» و«حقائق» راسخة.. بما يعني ويفضي إلى جعل الأخلاق والقيم الدينية - في نظرهم- أموراً اعتبارية لا حقيقة لها.

هذا هو - إذاً- المناخ الفكري الذي انطلق فيه العلامة الراحل الطباطبائي مواجهاً أفكار الفلسفة الغربية، ومقولاتها ومفرداتها التي شكلت القاعدة والأساس للاتجاهات المادية والوضعية التي كانت تهدد- كما ذكرنا- أسس البنيان الديني والقيمي والحقوقي الديني الإسلامي، بما يعني أنه كان لا بد من تمكين فعل المواجهة على خطين، أولهما نقد الذات لرأب الصدع ومعالجة الخلل، وترميم ما يمكن ترميمه، وثانيهما وجود تفكير بنّاء، وأسلوب منظم لنقد الآخر، في فكره

ص: 94

ومنهجيته.. وكان العلامة الطباطبائي من تلك الثّلة التأصيلية الفلسفية الأخيرة، فكان ميالاً بفطرته إلى التفكير في المسائل الكلية العائدة إلى الكون وقوانينه، ولأجل هذا الميل الفطري طاف على المناهج الفلسفية المختلفة المسائية والإشراقية، ولم يقتصر على ذلك بل قرأ شيئاً كثيراً مما يرجع إلى الفلسفة الموروثة من حكماء اليونان وإيران والهند فخرج بحصيلة علميّة ضَخْمة .

وتجلّت دراسة فلسفة الغرب ونقدها عند العلامة الطباطبائي في كثير من مقالاته وبحوثه وشروحاته التفسيرية، وكتابه« أصول الفلسفة والمنهج الواقعي» الذي قدّم له وشرحه الشهيد مطهري، حيث افتتح سماحته حواراً عقلياً معمّقاً اتجاهات الفلسفة الأوربية الحديثة لاسيما المادية الديالكتيكية، منطلقاً من ضرورة تحليل أصولها ومرتكزاتها وأسسها ونقدها بعد اتساع ظاهرة التغريب، ودخول التيار الماركسي خط الصراع، وعمل قطاع واسع من المثقفين الدارسين في أوربا على الترويج لمقولات الفلسفة المادية المناهضة للميتافيزيقيا والإيمان بالله تعالى.. وجاءت خطوة الطباطبائي بعد سبات طويل عَمّ هذا الحقل المعرفي المهم، وكسرت حاجز الصمت لتدخل ميدان البحث الفلسفي المقارن بعمق وشمول(1) . إذ برغم من مرور زمان على إحساس هواة المعرفة بضرورة طرح الفكر الفلسفي الحديث ومقارنة النظريات المحدثة بنظريات الفلاسفة المسلمين، لكنَّ المؤسف أن هذا الأمر لم يتجسّد عملياً حتى لحظة كتابة هذه المقدمة. نعم ما تم انجازه عبر هذه الفترة لا يتعدّى رسائل فلسفية على المنهج التقليدي، قد تتناول أحياناً قضايا الطبيعة والفلك وتتناقض تماماً مع النظريات العلمية الحديثة، أو جاء ترجمة بحتة للنظريات الفلسفية الحديثة. إذن لا يتعدّى النشاط الفلسفي الراهن هذين اللونين: إما تقليداً تاماً للنهج الفلسفي المأثور، وإما ترجمة صرف للنظريات الحديثة، وحيث اختلاف مراكز اهتمام هذين اللونين من التحقيق فما اهتم به السّلف لم تعره الدراسات الحديثة اهتماماً، أو اهتمت به اهتماماً يسيراً، وطرحت قضايا ومواضيع أخرى أمام الدرس،

ص: 95


1- المطوري، مازن. منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي : نقد المنهج والأصول». مجلة الاستغراب، العدد: ،2 كانون أول لعام 2015م. الرابط : http://istighrab.iicss.iq/?id=21sid=37

مما أدى إلى أن القارئ لهذين اللونين لا يخرج بمحصلة من خلال قراءتهما معاً. ومن هنا جاء كتاب «أصول الفلسفة» لوناً ثالثاً من الدرس، لا هو بالنهج التقليدي، ولا هو بالترجمة للنظريات الحديثة (1)

لقد كان العلامة والفيلسوف الطباطبائي أول مفكر فلسفي مسلم تمكن من إدخال نظرية المعرفة الجديدة في صلب مضامين الفلسفة الإسلامية، ومقولاتها، ومختلف مباحثها وموضوعاتها عبر استخدام أسلوب جديد طرحه في بعض مؤلفاته ك» بداية الحكمة، و«نهاية الحكمة»، وبشكل أوسع في كتابه «مبادئ الفلسفة ومنهج الواقعية».. وهذا ما أشار إليه «علي أميني نجاد» (عضو الهيئة العلمية للمجمع العالي للحكمة الإسلامية في إيران)(2) ، موضحاً أن العلامة الطباطبائي كان ينظر إلى مباحث «الإدراك» نظرة جادة للغاية حيث قد كتب سماحته عدة مقالات في هذا المجال. إضافة إلى أنه أبدع في مسألة : «تنظيم سياق المباحث الفلسفية»؛ على سبيل المثال أن المنهج الذي قدّمه سماحته في كتابي «بداية الحكمة» و«نهاية الحكمة» يملك إطاراً مبدعاً، فتطرق في بداية هذين الكتابين إلى مباحث «علم الوجود» ثم إلى مباحث «تقسيم الوجود» كتقسيم الوجود إلى الذهني والخارجي، ومباحث بالفعل وبالقوة، والعلة والمعلول، والمباحث الأخرى.. وهذا المنهج كان يعتبر سياقاً مبدعاً في منهجية الإبداع الفلسفي الإسلامي كما طرح العلامة الراحل في «برهان الصديقين» دليلاً جديداً حول إثبات واجب الوجود»؛ تم طرحه بشكل كان يعتبر أول قضية فلسفية.. كما قام سماحته بالنقد الواسع والمعمق لمفاهيم ومبادئ المادية» في كتابه «مبادئ الفلسفة ومنهج الواقعية، كما أنه قد تطرق إلى نقد المدارس الغربية؛ بمنجية ورؤية جديدة لم يقم به أي فيلسوف مسلم قبله..

لقد اعتبر الفيلسوف الطباطبائي أن مجمل المسائل الفلسفية التي أقام دعائمها كبار فلاسفة الغرب: ديكارت، كانت، هيجل، وغيرهم من عباقرة الفكر الفلسفي

ص: 96


1- الطباطبائي، محمد حسين.«أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» جزء: 1، ص: 42-43، مقدمة الشارح دار التعارف للمطبوعات بيروت طبعة ثانية لعام 1988م.
2- تصريح للعلامة علي أميني نجاد، لوكالة الأنباء القرآنية الدولية. الرابط : 2229338/http://iqna.ir/ar/news

الغربي(1)، عبارة عن مسائل ومقولات عامة لا تختص بعلم دون علم، بل تعد نتائج كلية لجميع ..العلوم وأمّا الفلسفة الإسلامية فهي تعتمد على البراهين العقلية المستمدة من الأمور البديهية، أي لم تربط ذاتها الفكرية بحقائق العلوم المادية، ولا تعتمد في إثبات قواعدها على نتائج العلوم أبداً. وهي بغالبيتها- قواعد نسبية متغيرة مرتبطة باختبار وقانون تجريبي يحتاج هو ذاته لعدة بديهية عقلية لتحقق صلاحيته ونفاذ واقعيته العملية..

لقد تجلى الإبداع الفلسفي عند العلامة الطباطبائي في طرح واكتشاف نظريات وقواعد فلسفية لم تكن تعرف قبله ومنها :

-1 قوله بأصالة الوجود واعتبارية الماهية:

وهي الأساس الفلسفي الذي بنى عليه العلامة الراحل هيكليته الفلسفية، لأنّ القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، له دور مهم وحيوي في حل كثير من المسائل والإشكاليات الفلسفية والكلامية المعقدة.

وقد قال بأصالة الوجود حيث الوجود يؤثر في تحقق الإنسانية وجعلها أمراً واقعياً، كما أنّ الإنسانية تكون حداً للوجود ، وتحديداً له من حيث درجات الوجود ومراتبه.. فكما أنّ الوجود متحقق في الخارج، فهكذا الإنسانية متحققة، لكن بفضل الوجود وظله.

-2 إسهاماته في نظرية المعرفة:

أكّد العلامة الراحل هنا على أن البحث الابستمولوجي (=نظرية المعرفة (2))

ص: 97


1- كان الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» (1596-1650) (صاحب مقولة : أنا أفكر إذاً أنا موجود) يعتقد «بأصالة العقل»، وانطلق ليبرر إيمانه الذاتي والعملي من خلال العقل، مؤكداً على ضرورة إدراك مفاهيم وجودية مثل مفهوم «الله» و «النفس، باعتبار أنهما من الأمور المعنوية غير المادية، ومثل مفهوم «الامتداد» و« الشكل »الماديين، وذلك في مقابل أمور وصفية تدرك من خلال حركة الحواس الخارجية تدعى ب- «الكيفيات الثانوية» كاللون والطعم والرائحة.. أما الفيلسوف الألماني « كانت » (1724-1804) فقد نَسَب إلى الذهن البشري مجموعة من المفاهيم الإدراكية كمفهومي «الزمان» و«المكان». وكان يسميها بالأمور المتقدمة على التجربة ما (قبل التجربة). وكان يعدّ فهم الإنسان ووعيه لمثل هذه القضايا خاصية ذاتية وفطرية للذهن الإنساني.
2- قد يفرق البعض بين مفهومي : «الايبستومولوجيا» و «نظرية المعرفة».. وللوقوف على سياق هذا الترادف والفرق ،وتبيان أسبابه، يراجع كتاب المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية، للدكتور جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، 1982م: ج 1، ص 33.

لا يمكن أن يكون دون البحث الأنطولوجي (= نظرية الوجود)، وجراء هذا التأكيد عرض لأبحاث العلم في إطار هيكلية منطقية؛ حيث بدأ البحث أولاً بالوجود الذهني وحقيقته وثانياً بالعلم[ والذي هو وجود خارجي]، وثالثاً: بالتفريق بين العلم والوجود الذهني، وخلص رابعاً إلى طرح محاولة لتحصيل معيار لاقتناص الواقع وكشفه(1).. فبعد أن حلّل معنى العلم (=الكشف والإراءة) وأثبت وجوده، وأنَّ العلم فعلية محضة منزهة عن أي قوة واستعداد، أثبت أنَّ العلم من سنخ الوجود لا الماهية ، وأثبت أيضاً أنَّ العلم مجرد لا مادي ولا مجال لأي نوع من أنواع التغير أو التحوّل فيه [الأعم من الدفعي أو التدريجي، بالطبع أو بالقسر، بصورة تكاملية أو تنازلية أو بمستوى واحد]، وهذا لا يعني عدم إمكانية تكامل العالم، بل العالم في تكامل ،دائم، إلا أن الصورة العلمية لا مجال لزيادتها أو نقصانها.

3- تقديمه لبرهان الصديقين بثوب جديد:

كانَ لاحتكاك الإسلام بالحضارات الأخرى، وتلاقحه ( وتفاعله) الخلاق معها فكرياً وثقافياً، أن نشأت حركات وتيّارات فكرية جديدة على واقع وعالم الإسلام والمسلمين، وكانت تلك التيارات تطرح إشكالات فكرية مستجدة ومستحدثة مناقضة لعقائد المسلمين خاصة على مستوى وجود الخالق ومعنى الحياة وهدف الوجود، الأمر الذي دفع علماء المسلمين للبحث الكلامي والفلسفي، ومحاولة الإجابة على تلك الإثارات( والاستشكالات) الفكرية، فأبدعوا كثيراً من المفاهيم والأفكار الحكيمة والبراهين الفلسفية على هذا الصعيد، فكان -على سبيل المثال- برهان الصديقين، وهو بالمناسبة من أهم البراهين التي اكتشفها هؤلاء الحكماء المسلمون لإثبات واجب الوجود جلّ وعلا.. وقد مرّ هذا البرهان بتطورات عديدة، حيث طرح في الفلسفة المشائية من أيام ابن سينا ببيان خاص، كما طرح أيضاً هذا البرهان في كلمات تلاميذه والمأنوسين بفلسفته ومنهم بهمنيار ونصير الدين الطوسي، وبقية طلاب هذا الحقل

ص: 98


1- العسر ميثاق . إسهامات السيد الطباطبائي الفلسفية . موقع مركز إجابات للبحوث والدراسات الدينية. الرابط : http://ajabaat.com

التخصصي ببيان آخر(1).. وهكذا توالت البيانات بالنضج حتى وصلت النوبة إلى الحكيم صدر المتألهين الشيرازي، الذي قام بطرحه وفقاً لمبانيه الخاصة. وعن طريق فلسفة هذا الحكيم حُلّت الإشكاليات التي كان يعاني منها في إطار البيانات السالفة.. وبعد مرور هذا البرهان بتطورات تكاملية طيلة القرون الأربعة الماضية، انتهى المطاف به أخيراً إلى حقبة الفيلسوف الطباطبائي، فقد جاء تقرير هذا البرهان في مجموع آثاره المختلفة، بإبداع مميّز لم يعتمد على أي مقدمة من المقدمات الفلسفية، بمعنى أن مسألة إثبات واجب الوجود أضحت - عن طريق هذا البرهان- أول مسألة فلسفية، ولم تعد هناك حاجة لافتراض مجموعة من المقدمات نظير أصالة الوجود، والتشكيك في الوجود، وبساطة الوجود، والمساوقة بين الوجود والشيئية.

وفي سياق التعريف بالدور النوعي الحيوي الكبير للطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية (كما تجلى في كتاب أصول الفلسفة الذي ألمحنا إلى أهميته سابقاً)، يشير الباحث الفلسفي

«مازن المطوري» إلى أنّ العلامة الطباطبائي تواصل مع الفلسفة الغربية في أكثر من موقع، وسبيل فكري، حيث لم يقتصر على فلسفته النقدية للغرب في مقالات كتابه أصول الفلسفة»، وإنما سبقته ورافقته حلقات ومحطات التقى فيها الطباطبائي مع الفكر الغربي ورجاله وسلوكه وأنظمة حضارته محاوراً وناقداً، خاصة في سلسلة حواراته ولقاءاته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903-1978)م، والتي أثمرت كتاباً بعنوان (الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان)(2). ففي هذا الكتاب التقى الشرق مع الغرب لقاءً فكرياً حوارياً(3).. ويوثق المطوري هنا أهم الإشارات التي انطوى عليها حديث الطباطبائي في هذا الكتاب حيث أنه وفي معرض جوابه لسؤال كوربان عن« سبب توقف الاهتمام الغربي بشأن البحث الفلسفي الإسلامي مع ابن رشد» حلل الطباطبائي نظام الاستشراق الفكري، مستغلاً الفرصة للإشارة (مبكرا)، إلى جملة العوامل والدوافع المتحكمة في بنيته كالسلطة والتفوق والنزوع إلى إلغاء

ص: 99


1- المصدر السابق نفسه.
2- منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي.. نقد المنهج والأصول. مصدر سابق.
3- انظر: الشيعة نص الحوار مع المستشرق كوربان محمد حسين الطباطبائي، نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416ه-.

العوالم والثقافات الأخرى تحت ذريعة العالمية والطباطبائي في هذا التحليل سبق الباحثين المعاصرين كإدوارد سعيد(1935-2003م)وغيره، الذين توفروا على تحليل بنية الاستشراق وتجلية دوافعه التي يغطّيها بستار البحث المعرفي(1).

كما تطرق السيد الطباطبائي للبحث الفلسفي النقدي في سفره التفسيري الإبداعي الكبير «الميزان في تفسير القرآن» حيث تحدّث عن عن كثير من المطالب والمباحث الفلسفية المعمقة يمكن أن تشكل بمجموعها« بنية» أو «هيكلية» فلسفية إسلامية متكاملة محكمة جاءت في سياق نقد الفلسفة والفكر الفلسفي الغربي.

ولكن أبرز ما حققه هنا هو تناوله المسألة مهمة وحيوية هي«الإدراكات الاعتبارية (كجزء من نظرية المعرفة المختلف عليها وفيها مع الفلسفة الغربية)، حيث نرى وجود تماسك وصلابة معرفية وواقعية عقلية فى معالجته .لها. فجوهر مشكلة المعرفة الإنسانية يبدأ من هنا، من تشخيص هذه المشكلة أولاً، مروراً بحقيقة العلم، وكيفية تشكله أو ما يسمى بظهور الكثرة في الإدراك، وانتهاءً بالألوان المختلفة للإدراك والتي منه الإدراكات الاعتبارية التي لاحظها الطباطبائي، وحلّل ضوابطها وخصائصها. ويشير السيد الطباطبائي (قدس سره)في كتابه الميزان(2)، إلى أن خاصية العلم الأولى هي الكشف والحكاية عن الواقع بمقدار ما يتعلق به، فإذاً: «حدود المعرفة هي حدود التعلق». لكن العلم بالواقع بحقيقة الكلمة لا يتحقق إلا بالإحاطة بجميع أجزائه من الأسباب والزمان والمكان وما يرتبط به وهذا يعني الإحاطة بجميع أجزاء الوجود وبالصانع، وهو أمر يفوق قدرة الإنسان. فالإنسان يقف مبهوتاً أمام عظمة الوجود ولا يملك من العلم به إلا مقدار ما يتعلق به إدراكه من أطرافه بل وأطراف أطرافه، ليفيد به مسيرة حياته إنها المحدودية أمام المطلق(3).. هكذا يرى السيد الطباطبائي (قدس سره)

ص: 100


1- سعيد، إدوارد. «الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق». ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة:.2002 م
2- الطباطبائي، محمد حسين. «الميزان في تفسير القرآن» الجزء 6، الصفحة : 200. الطبعة الأولى المحققة، مؤسسة الأعلمي، بيروت عام 1997م.
3- جابر آل صفا .« نظرية المعرفة، والإدراكات الإعتبارية عند العلامة الطباطبائي». طبعة دار الهادي، بيروت لعام 2001،ص:103

مشكلة المعرفة( التي يفترق في تقييمها بنيوياً مع كثير من اتجاهات الفلسفة الغربية وتياراتها، فيقيمها على العقل وبديهياته من دون الإحجام عن المذهب التجريب ومكتشفاته )في الجوهر من خلال ثنائية (الإنسان، الوجود) .. ومن هنا تتحول المعرفة إلى سعي دؤوب لا ينتهي للإحاطة بالوجود المتعالي الذي لا يحيط به شيء،« وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (البقرة: 216).

إن القضية الأبرز هنا - إذاً - هي إثبات أصل العلم كنقطة بدء لا غنى عنها، بل حيوية في نظرية المعرفة وهي تعني- كما يراها الطباطبائي في افتراق بائن، واختلاف جذري معياري لا لبس فيه عن معايير وأصول الفلسفة الغربية - أن هناك وجوداً وواقعاً خارج الذات نتلمسه من خلال الفعل والانفعال به.. وأن العلم في حقيقته مجرد من المادة، وهو من حيث كونه صور علمية فعلية لا قوة فيها (1).. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه لا إثنينية في العلم من خلال ثنائية العاقل والمعقول بل أحدهما عين الآخر. وذلك لأن العلم بالشيء يرجع إلى حصول المعلوم بصورته العلمية ووجوده بنفسه عند العالم. وبالتالي فالعلم هو عين المعلوم بالذات.

ويؤكد الطباطبائي(2) على أن المعرفة الحسية-على أهميتها-غير كافية لإثبات قضيةالإدراك الحقيقي وحقيقة العلم بالأشياء، لأن المعيار لتمييز الخطأ من الصواب ليس التجربة والحس مهما تكررت بل القياس

(والمعيار)العقلي، وإلا لزم التسلسل ما أن الكلية والعموم الضروريتين لتقنين العلوم لايمكن استفادتها من التجربة نفسها، بل بواسطة العقل الذي هو مبدأ هذه التصنيفات والأحكام، وعلى هذا فالتحويل هو على الحس والعقل معاً، وبالأخص منه العقل وبديهياته الأولى.. فكل تصديقاتنا - سواء أكانت بديهية أو نظرية - تحتاج في اكتمالها إلى القضية البديهية الأولى وأولى الأوائل«عدم اجتماع وارتفاع لنقيضين» أو الإيجاب والسلب، فإن الشك فيها لو فرض فإنه لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض». وبعبارة أخرى فإن الشك هو سلب اليقين، وهو معنى البطلان المفروض ، فلو أخذنا به في البديهية الأولى لجامع

ص: 101


1- تفسير الميزان، ج 1، ص : 115-120. مصدر سابق.
2- تفسير الميزان، ج 1 ، ص : 47-48 مصدر سابق.

اليقين لإمكان اجتماع السلب والإيجاب، فلا يجتمع الشك المفروض مع بطلان نفسه. وهذه البديهية الأولى هي الأساس المتين الذي ينظر السيد الطباطبائي لكل التصديقات العلمية النظرية والعملية،« فما من موقف علمي ولا واقعة علمية إلا ومعوّل الإنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، وكذا ظنه أو وهمه وجهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل »(1).

كما بحث الطباطبائي في تفسيره الميزان» في القضية البديهية الأساسية الأولى،وهي

«العلّة»، وكان يرى أن البراهين العقليّة ناهضة على أنّ استقلال المعلول وكلّ شأن من شؤونه - إنما هو بالعلّة، وأنّ كلّ ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنّه العلة التي تنتهي إليها جميع العلل ،والثناء والحمد هو إظهار موجود ما بوجوده کمال موجود آخر وهو لا محالة علّته، وإذا كان كلّ كمال لا محالة علّته، وإذا كان كلّ كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كلّ ثناء وحمد تعود وتنتهي إليه تعالى، فالحمد لله ربّ العالمين(2).

ويؤكد الطباطبائي على أن هذه النسبة الوجوبية إنما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علته التامة البسيطة أو المركبة من أمور كثيرة كالعلل الأربع والشرائط والمعدات. وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلّة أو إلى شيء آخر لو فرض، كانت النسبة نسبة الإمكان بالضرورة، بداهة أنّه لو كانت بالضرورة كانت العلّة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علّة تامة.. ففي عالمنا الطبيعي نظامان نظام الضرورة ونظام الإمكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها، ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة، لا ذات ولا فعل ذات، ونظام الإمكان منبسط على المادّة والصور التي في قوّة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الإنسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علّتها، وهي الإنسان والعلم والإرادة ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وارتفاع الموانع وبالجملة كلّ ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجباً ضرورياً،

ص: 102


1- تفسير الميزان، ج 1، ص : 49. مصدر سابق.
2- تفسير الميزان. ج: 1، ص: 24. مصدر سابق.

وإذا نسب إلى الإنسان فقط، ومن المعلوم أنّه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة

بالإمكان(1).

.. وفي هذا السياق ينتقد السيد الطباطبائي الماديين من فلاسفة العصر الحاضر، ممن يعتقدون بشمول الجبر لنظام الطبيعة، وينكرون الاختيار، مؤكداً على بطلان دعواهم وتفكيرهم قائلاً« بل الحق أنّ الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادّها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الإنسان وأفعاله، فبناؤه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر »(2) .

وعندما تختلف الرؤى الكونية ،ما بين رؤية كونية توحيدية تتقوم بجوهر وعلة وجودية أولى ،مبدأ الوجود واجب الوجود، وبين نظرية ورؤية كونية تقوم على معيار وضعي بشري ينظر للعلم كمقدس من الطبيعي أن تختلف المفردات الاعتبارية والتحولات الجارية والقيم والمعايير المبتغاة القائمة ..فمثلاً قضية الحرية، التي هي من أهم القضايا في الوعي المعرفي الغربي،يشير الطباطبائي في تفسيره«الميزان» إليها،(طبعاً على خلفية التطبيقات الاجتماعية لنظريته في الادراكات الاعتبارية للمجتمع )على أساس أن معناها جلي وواضح في أذهان البشر، وهي أمنيتهم منذ قديم التاريخ، إلا أن تداول هذا المصطلح والشعار حديث الولادة منذ قرون معدودة إبان النهضة الأوربية. فالإنسان كائن حي ذو شعور وإرادة تبعثه على العمل والفعل، وقد جعل تكويناً مختاراً فلا يملك إلا أن يكون كذلك، أي أنه مضطر للاختيار، لكنه أمام كل حدث يواجهه مطلق بحسب هذه الفطرة والطبيعة في أن يفعل أو أن يترك.وهذه هي الحركة التكوينية عند الإنسان التي لا مجال لإبطالها، لأن انتفاءها يعني

ص: 103


1- الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص : 108. م. س.
2- الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن الجزء 1 ، ص: 105-110 الطبعة الأولى المحققة، مؤسسة الأعلمي بيروت عام 1997م.

انتفاء إنسانيته(1). وهذه الحرية التكوينية تطرح أمام الإنسان نوعاً آخر من الحرية على صلة وثيقة بحياته الاجتماعية هي الحرية التشريعية أو الاجتماعية. وهنا لا بد من التمييز بين موقفين أمام الإنسان:

الموقف الأول : تجاه العلل والأسباب التكوينية الكامنة في الطبيعة الإنسانية فلا يملك الإنسان أمامها أية حرية ، بل هي-كما يؤكد السّيّد الطباطبائي- تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلبه ظهراً لبطن وهي التي بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما يحبه ويرد ما يكرهه، بل كما أريد لا كما أراد. إن أعمال الإنسان الإرادية والاجتماعية تخضع في حدود إمكاناتها لهذه الأسباب والعلل، فليس كلّ ما يريده الإنسان أو يأباه يتمكن من تحقيقه أو منع وقوعه. فهذه الأسباب التكوينية تثير فيه الحاجة إلى الغذاء والمواد والماء وسائر حاجاته المادية الأخرى. غير أنها تؤثر أيضاً في حياته القانونية والتشريعية حينما توجب التشريعات التي تكفل له هذه الحاجات والمصالح التي لا يمكن إهمالها.

الموقف الثاني : هو تجاه أفراد نوعه، حيث القاعدة الأساسية التي نطق بها القرآن الكريم «وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » (آل عمران: 64). فالإنسان حرّ أمام الآخرين، فيملك نفسه وأفعاله، حيث الحرية هنا موهبة الطبيعة التي خلقها الله تعالى. لكن الحاجة إلى الاجتماع الإنساني تقيّد هذه الحرية من ناحيتين، أولاهما، احترام حرية الآخرين لأن لهم بدورهم ،حقوقاً، ف-»كل حق يقابله واجب»، وثانيتهما، ما تتطلبه الحياة الاجتماعية من أنظمة وقوانين عامة تهدف إلى الحفاظ على مصالح المجموع، وتدفع بالأوضاع نحو التقدم الاجتماعي.

والدين -كما يؤكد الطباطبائي- يرى مملوكية الإنسان المطلقة لله تعالى، فهو لا يملك ابتداءً أية حرية في قباله بل هذه العبودية هي التي تعطيه الحرية أمام ما سواه من الناس كما في قوله تعالى:«أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » (آل عمران (64). أي أنّ مالكيته المطلقة تسلب أي

ص: 104


1- الميزان في تفسير القرآن مصدر سابق، ج 1، ص: 116.

حرية متوهمة للإنسان بالنسبة إلى ربه، كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بني نوعه.. فالإنسان إنما هو حرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، وأما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة، وخاصة المصالح الاجتماعية العامة-على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العلل والأسباب - فلا حرية له البتة(1).

وبالانتقال إلى موضوع آخر مهم تناوله السيد الطباطبائي في تفسيره القيم «الميزان، نجد استدلاله (وبحثه) الفلسفي حول طبيعة وأصل النظرية الأخلاقية التي أخذت نقاشاً مهماً في فلسفة الغرب، إذ يعتبرها ذات علاقة بنائية بنيوية مع إدراك العقل الإنساني لمفردات الحسن والقبح ، فالعدل حسن والظلم قبح، والجود والكرم حسن والقبح والبخل «ومسك اليد »قبح .... وهكذا. ومعنى الحسن فيها أنه ينبغي فعلها والالتزام بها، ومعنى القبح أنه ينبغي أن لا تفعل فالمنظور في هذه المفردات هو مقام العمل عند الإنسان وحركته في الأشياء والأفعال. ولأن العقل يدرك هذا الحسن والقبح في مقام الحركة والعمل سمي ب-

(العقل العملي) لتمييز هذا النوع من الإدراك ومتعلقاته من النوع الآخر الذي ينظر فيه إلى نفس الإدراك والمعرفة أي( ما ينبغي أن يعلم)، ويسمى ب- (العقل النظري). وغاية هذا الإدراك عند السيد الطباطبائي هو اقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة(2) . فكلما حصل الإنسان على المحاسن وتنزه عن القبائح، ترقى في سلم الكمال أكثر ، وتمكن من تملك أسباب القوة والقدرة والإحساس بالعناصر الحية في هذا الوجود وخصائصها وأدوارها والاستفادة منها. ولذا لا قيمة لهذه الإدراكات إلا بالعمل.

بما يعني حسب الطباطبائي، وعلى نقيض في المبدأ من الفلسفة الأخلاقية الغربية التي تنتهج الأخلاقية الوضعية النسبية الفردية كمبدأ ومنتهى، أنّ المعيار الأخلاقي يؤول إلى معيار فطري ثابت ومُطلق بطبيعته، ويرفض النسبية التي نادت بها كما قلنا- مختلف النظريات الأخلاقية الحديثة التي نشأت في الغرب(3). وأما اعتبارية

ص: 105


1- تفسير الميزان، مصدر سابق، ج 10، ص: 370-372
2- الميزان في تفسير القرآن مصدر سابق، ج:2 ، ص: 115.
3- تفسير الميزان م. س، ج: 2، ص: 115

الأخلاق فإنما هي لجهة «إعتبارية الإدراك فيها»، حيث يتعلق بالنسبة الوجوبية أو التحريمية أو الأمر والنهي.. والتي هي من الاعتبارات العامة(1). وهذا الثبات في الأخلاق وآدابها وفضائلها، يقتضي ثباتاً أو ينتج ثباتاً في القيم لا يبطله أي اختلاف حوله في المجتمعات.. فالمعيار الأخلاقي يحاكي أفراض وغايات المجتمع بحسب خصوصياته الاجتماعية والثقافية والطبيعية، وهو ما يترك تأثيره على الباطن والشعر لينقلها من حال إلى حال، محاولاً تبديل الصورة الشعورية ليتبدل معها عنوان الحسن والقبح، وبالتالي نوع الإدراك .. لكن الحسن والقبح يبقى المعيار الأخلاقي على كل حال، ويكتسب صوابيته في مدى موافقته- وهنا نقطة الافتراق عن النظرية الأخلاقية الغربية- للإلهامات الفطرية التي تعطي معنى الثبات(2).. وشرط حصول هذه الأخلاق (بما هي ملکات نفسانية راسخة) هو العمل المتكرر والتدرب والتمرن عليها، وذلك بتكرر النسبة الاعتبارية في انطباقها على العمل الإرادي(3).

وأما فلسفة الطباطبائي فيما أورده في تفسيره «الميزان» حول المرأة، فيبدأ بطرح رؤية وواقع المرأة لدى الشعوب والحضارات والأمم الأخرى، ويقارن بينها وبين واقعها في الإسلام..

ويسجل الطباطبائي وقائع وجملاً من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره.. ويستنتج من جميع ذلك :

أولاً - أنهم كانوا يرونها إنساناً في أفق الحيوان العجم، أو إنساناً ضعيف الإنسانية منحطاً لا يؤمن شرّه وفساده لو أطلق من قيد التبعية، واكتسب الحرية في حياته، والنظر الأول أنسب لسيرة الأمم الوحشيّة والثاني لغيرهم.

وثانياً - أنّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، وإنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء

ص: 106


1- الميزان المصدر نفسه.
2- تفسير الميزان م. س، ج: 1، ص: 257.
3- المصدر السابق، ج 1، ص: 258

عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترق الذي هو من توابع المجتمع الغالب ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين.

وثالثاً- أنهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها.

ورابعاً- أنّ أساس معاملتهم معها - فيما عاملوا - هو غلبة القوي على الضعيف.. وبعبارة أخرى قريحة الاستخدام..

هذا في الأمم غير المتمدنة ، وأما الأمم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرّها، وربما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الأمم والأجيال.

وينطلق الطباطبائي في معالجة هذا الموضوع من قاعدة فكرية «أخلاقية-اجتماعية» رصينة، وهي أنّ مجمل تشريعات الإسلام حول المرأة - وعموم الاجتماع وما يتصل به من وظائف وتكاليف اعتبارية متفرعة - تقوم على خصوصية البنية الإنسانية لديها، كجوهر ذاتي، وهي التي هدَتِ الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد، كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة.. ويؤكد الطباطبائي على أنّ التعاليم والأحكام ومنظومة الحقوق المتعلقة بالمرأة هي تعاليم وحقوق فطرية، كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ﴾(طه:50).. ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ (الأعلى: 3). ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْواها ﴾ (الشمس: 8)، إلى غير ذلك من آيات القدر.. والاجتماع بجميع شؤونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أم اجتماعاً فاسداً ينتهي بالآخرة إلى الطبيعة، وإن اختلف القسمان من حيث إنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره، بخلاف الاجتماع الفاضل.. فهذه

ص: 107

حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث، وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبيّنه بأبدع البيان(1).. فالأشياء-ومن جملتها الإنسان-إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خُلقتْ له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقا تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم : 30).

وبالنظر للاختلاف الطبيعي في الخلق، فرق الإسلام بينهما(ين الرجل والمرأة) في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بجوهر الخلق والطبيعة الذاتية..وهذا الاختلاف هو كمال التساوي، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كلّ ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حقٌّ حقَّا، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى:﴿ ...وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ .. ﴾ (البقرة: 228).. فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.

وينتقد الطباطبائي وضع المرأة في الفكر (والمجتمع) الغربي، مشيراً إلى أن الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الاجتماعية، وهي متوسطة متخلّلة، سطة متخلّلة، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.. وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.. والرأي العام عندهم تقريبًا : أنّ تأخر المرأة في الكمال والفضيلة

ص: 108


1- المرأة بين الإسلام وسائر الأمم من وجهة نظر العلامة الطباطبائي».. الرابط : http://motaghin.com/Ar_default.asp?RP=M_Content.aspP1N=ContentIdP1V=5901R=23331 63L=ArFT=False ص: 108

مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل ... ويتوجه عليه : أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطبعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.. ويؤيّد ذلك أنّ المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة، ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدّم الرجال وتؤخر النساء(1).

فلسفة الطباطبائي النقدية من خلال كتابه أصول الفلسفة:

يمكن القول بأنّ المحطة الأهم والمعلم الأبرز على طريق نقد الفلسفة الغربية الذي

انتهجه السيد الطباطبائي بصورة معيارية رصينة على خلفية شيوع المذهب المادي والاتجاهات التغريبية في إيران والمنطقة في وقتها، جاء بعد تأليفه لكتاب «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» الذي وجّه من خلاله نقداً فلسفياً صارماً للطروحات الفلسفية والمذاهب الوضعية الغربية، مبيناً مغالطاتها المفاهيمية والعقلية، في منهجيتها وأساليب استدلالها معتمداً في ذلك كله على ميراث المذهب العقلي في المعرفة الذي يستند للمقولات التصورية والتصديقية الضرورية، ومبتعداً -خلافاً لقناعات ومعطيات أنصار مدرسة الحكمة المتعالية التي درسها بعمق عن أساليب وطرق الكشف الذوقي والشهودي ومصطلحات التصوف والعرفان والإشراق.. أي أن الطباطبائي وإن كان مدرسياً ينتمي السلسلة الحكمة المتعالية - التي شيّد أركانها الفيلسوف صدر الدين -الشيرازي - إلا أنه في كتاباته الفلسفية (لاسيما أصول الفلسفة )جرى وفق الأسلوب المشائي، وذلك بالاعتماد على البرهان العقلي دون الاعتناء بالذوق والتصوف، وإدخال مصطلحات عالم العرفان ولذا قيل بحق الطباطبائي: «صدرائي المبنى سينوي المشرب»(2) .

ص: 109


1- تفسير الميزان، مصدر سابق ج: 2، ص: 261-277.
2- الكلبايكاني، علي الرباني. إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة». ترجمة الشيخ محمد شقير، الجزء: 1، ص: ،61 دار زين العابدين 2011م

لقد كان لالتزام العلامة الطباطبائي بمعايير المذهب العقلي القائم على بديهيات وتصورات تصديقية أولى دوره الهام في نقد بنى الفلسفة الغربية التي حاولت مختلف تياراتهاوأجناسها الفكرية استثمار تطورات العلم التجريبي (المرتكز على المذهب الحسي التجريبي لتوجيه ضربة قاضية للميتافيزيقيا والتفكير الديني وعموم التفكير اللاهوتي الذي- كان في نظر تلك الفلسفات - مجرد خرافات وأساطير وأضغاث أحلام..

لقد انقسم الفلاسفة الغربيون( في هذا المجال) إلى صنفين أو فئتين، الأولى كانت تعتقد بأصالة العقل في المستوى الروحي، وامتلاكه القدرة على إدراك مفاهيم الكون وحقائق الوجود ذاتياً وجوهرياً دون الحاجة إلى اعتماد قضايا الحس وقوانين المادة.

ويأتي كل من الفيلسوفين («ديكارت» و «كانت»)(1) على رأس المنتمين لهذه الفئة. أما الفئة الثانية(2) فكانت تقول بأن الإنسان خُلق وليسَ في ذهنه شيء يذكر، بل إنّ صفحة ذهنه بيضاء لم تُخط فيها كلمة واحدة أي أن الإدراك العقلي مادي بالذات. وقد قال بذلك الفيلسوف الانكليزي المعروف «جون لوك» (1632-1704) الذي قسم المعرفة إلى قسمين معرفة وجدانية وتأملية (روحية)، ومعرفة حسية ناشئة من وقوع الحس على المعنى المعلوم(3). وكان يعتقد بأن الذهن البشرى لا يستقبل إلا الإحساسات والإدراكات الحسية، أما مفاهيم «العلة» و«السببية» و«الجوهر»

ص: 110


1- كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت» (1596-1650) (صاحب مقولة: أنا أفكر إذاً أنا موجود) يعتقد ب- أصالة العقل»، وانطلق ليبرر إيمانه الذاتي والعملي من خلال العقل، مؤكداً على ضرورة إدراك مفاهيم وجودية مثل مفهوم «الله» و«النفس»، باعتبار أنهما من الأمور المعنوية غير المادية، ومثل مفهوم« الامتداد» و «الشكل» الماديين، وذلك في مقابل أمور وصفية تدرك من خلال حركة الحواس الخارجية تدعى ب-« الكيفيات الثانوية» كاللون والطعم والرائحة.. أما الفيلسوف الألماني« كانت» (1724-1804) فقد نَسَب إلى الذهن البشري مجموعة من المفاهيم الإدراكية كمفهومي«الزمان» و«المكان». وكان يسميها بالأمور المتقدمة على التجربة (ما قبل التجربة). وكان يعد فهم الإنسان ووعيه لمثل هذه القضايا خاصية ذاتية وفطرية للذهن الإنساني.
2- لم نتعمق زمنياً في متابعة توثيق أقوال الفلاسفة من ذوي الاتجاه الحسي أو النظرة المادية للعقل والإدراكات الحسية، فمثلاً كان الفيلسوف «أبيقور» يقول :« لا يوجد شيء في العقل إلا كان قبل ذلك متحققاً في الحس». وهذه الجملة نفسها ردّدها من بعده، بقرون طويلة، الفيلسوف التجريبي «جون لوك».
3- كرم يوسف.« تاريخ الفلسفة الحديثة». ص : 147 ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة مصر / القاهرة، طبعة عام 2012م. راجع أيضاً: درويش، صبحي . الفيلسوف والمفكر السياسي« جون لوك». رابطة أدباء الشام.. الرابط : http://www.odabasham.net/show.php?sid=16724

و« الأعراض» و «الأحوال» فلا يستقبلها الذهن من الخبرة، بل يتوصل إليها عن طريق

التركيب والدمج بين ما تلقاه من مدركات(1). واشتهر «جون لوك» (زعيم الحسيين) بعبارته المشهورة :« إذا سألك سائل : متى بدأت تفكر؟ فيجب أن تكون الإجابة: عندما بدأت أحس».

وقد عالج، بعد ذلك -بعض المفكرين المتخصصين- هذه المسألة من خلال البحوث والدراسات العلمية التجريبية التي أريد لها أن تصبغ الإدراك العقلي بالصبغة المادية البحتة من حيث المستويات الخاصة في الأحداث والمعادلات الفيزيائية الكيميائية والفيزيولوجية.

لقد عمد الطباطبائي إلى تقديم مقاربات ورؤى جدية عالجت زوايا متعددة (لم يسلط الضوء عليها سابقا) ترتبط بمنهج العلم التجريبي، في أكثر من مقالة في أصول الفلسفة(2)، مشدداً على ضرورة الفصل والتمييز بين الفلسفة وباقي العلوم، ذلك أن الفلسفة تختلف عن العلوم منهجاً وموضوعاً وغاية، فهي تتخذ من الوجود بما هو موجود موضوعاً لها، أي الوجود بما له من صفة الإطلاق دون لحاظ خصوصية يتصف بها، بينما تتخذ العلوم دائرة أضيق في بحث الوجود، وتتمحور مسائلها في مواضيع محددة، متحيّثة بحيثيات خاصة.

إن الفلسفة فى الإسلام قائمة على العقل، لا على التجربة (وإن كانت تستفيد من قضايا العلم المادي لانتزاع قضايا فلسفية)، لأن طبيعة الحكم الفلسفي مرتبطة بشروط البرهان العقلي وإدراكاته وتصوراته الأولى، بالدرجة الأولى.

وهذا لا يعني مطلقاً عدم الأخذ بأسباب العلم المادي، وبمسلّماته الحديثة، ولا يعني التنافر والتنابذ بين الفلسفة والعلم، أو وجود قطيعة ( معرفية) بين الحكمة النظرية والعلوم المادية، كما لا يعني أيضاً التطابق بينهما . لأنّ المجالين مختلفان،

ص: 111


1- بيومي، أشرف الاتجاه النقدي في الفكر الفلسفي المعاصر». ص: 148 ، دار المعرفة الجامعية مصر / القاهرة طبعة : 2009م.
2- منازل الفلسفة الغربية ... مصدر سابق.

ولكل سياقاته ومعاييره وأدواته ومناخه النظري والعملي النموذجي الخاص به. مع العلم أن الاتجاهات المادية الغربية(التي استثمرت فيها فلسفة الغرب الوضعية)تجاوزت- كما يشير الطباطبائي ناعياً وناقداً -حدود العلم وضوابطه، فوقعت في خلط واشتباه، بمعنى أن لم تكن وفية للعلاقة بين العلم والفلسفة ولم تراع حرمتها(1).

من هنا، معالجة مسألة الإدراك العقلي-في جوهره الفلسفي- ليست من شأن أواختصاص تلك العلوم المادية فقط. لأنّ العلم المادي ينحصر نشاطه الفكري وأداؤه العملي في نقطة مركزية واحدة معينة، وهي أنه يبحث- من خلال قوانينه الخاصة به، و مخابره وأساليبه التجريبية ووسائله العلمية المعيارية الحسية- في ماهية الأشياء كما هي في الواقع أي كما تظهر وتبدو في الواقع العياني التجريبي، وتظهر للإدراكات الخارجية مع دراسة آثارها ونتائجها الظاهرة والمضبوطة بواسطة الحواس المادية، وتجارب المختبرات لذلك لا يمكن أن نثبت أحداث الأجهزة المتعلقة بماهية التفكير والإدراك (وظواهرها المتنوعة )بالاستناد إلى ما تقدمه تلك العلوم من وسائل وأدوات وقوانين، على أساس أنها هي نفسها الإدراكات التي نحسها من تجاربنا في الواقع العام وإنما الحقيقة التي لا يرقى إليها شك ولا جدال هي أن هذه الأحداث والعمليات الفيزيائية والكيميائية والفيزيولوجية، ذات صلة بالإدراك وبالحياة السيكولوجية للإنسان، وهي تلعب دوراً فعالاً في هذا المضمار .. بمعنى أن العلم (بما هو معادلات وقوانين ومعايرات وقياسات ونظريات وتجارب ومختبرات تبحث في الجانب الحسي التجريبي) لا يثبت مادية الإدراكات العقلية، على أساس أنّ هناك فرقاً واضحاً بين كون الإدراك شيئاً تسبقه أو تقارنه عمليات تمهيدية في مستويات مادية، وبين كون الإدراك بالذات ظاهرة مادية ونتاجاً للمادة في درجة خاصة من النمو والتطور والحركة بحسب ما جاء في شروحات الشهيد الصدر(2)، والتي استند فيها إلى طروحات العلامة الطباطبائي.

ص: 112


1- ينظر إلى المقالة الأولى من كتاب أصول الفلسفة. مصدر سابق.
2- الصدر، محمد باقر «فلسفتنا». ص : 323 ، مؤسسة دار التعارف للمطبوعات والنشر، لبنان بيروت، طبعة عام 1992م.

إضافة إلى أن النظرية الحسية التي استندت إليها الفلسفة الغربية في تقريراتها ومعاييرها، تخفق إخفاقاً ذريعاً في إرجاع جميع قضايا الإدراك الذهني البشري ومفاهيمه وبديهياته إلى المادة، لأن تلك المفاهيم هي مفاهيم« انتزاعية» أولية وثانوية، ينتزعها العقل البشري من خلال تأمله وملاحظته لحركة الواقع الكوني والإنساني، وعلى ضوء المعاني المحسوسة أيضاً.

في ضوء ذلك، كان تمييز الطباطبائي للمدركات الحقيقية الاعتبارية، لأن الخلط بينهما في البحث الفلسفي يوجب الاضطراب في تصور المسائل الفلسفية فضلاً عن التصديق بها، وقد أدى هذا الخلط في علوم مختلفة إلى التباس وتباين.. ولذا اضطلع العلامة الراحل الطباطبائي بمهمة كشف النقاب عن جذور هذه المسألة، وتوصل (كما رأينا) إلى تفسير محدد للفرق بين هذين النوعين من الإدراكات، وأكد على أن البرهان لا يجري في الإدراكات الاعتبارية، وعلى هذا فهي خارجة عن البحث الفلسفي(1).

مراجع البحث:

بيومي، أشرف«الاتجاه النقدي في الفكر الفلسفي المعاصر». دار المعرفة الجامعية. مصر / القاهرة، طبعة: 2009م.

جابر آل صفا.« نظرية المعرفة ، والإدراكات الإعتبارية عند العلامة الطباطبائي». طبعة دار الهادي، بيروت لعام 2001.

سعيد، إدوارد« الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق». ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة: 2002م.

الصدر، محمد باقر. «فلسفتنا». مؤسسة دار التعارف للمطبوعات والنشر، لبنان/ بيروت، طبعة عام 1992م.

ص: 113


1- منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي.. مصدر سابق

صليبا، جميل.« المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية ».دار الكتاب اللبناني، 1982م.

الطباطبائي، محمد حسين. «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي». دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت لعام 1988م.

الطباطبائي، محمد حسين« الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان». نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416ه-.

الطباطبائي، محمد حسين «الميزان في تفسير القرآن». الطبعة الأولى المحققة، مؤسسة الأعلمي، بيروت عام 1997م.

الكلبايكاني، علي الرباني.« إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة». ترجمة: الشيخ محمد شقير، دار زين العابدين 2011م.

كرم، يوسف.« تاريخ الفلسفة الحديثة». مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة مصر / القاهرة، طبعة عام 2012م.

المطوري، مازن «منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي: نقد المنهج والأصول». مجلة الاستغراب العدد: 2، كانون أول لعام 2015م.

ص: 114

معمارية الهوية الفكرية الإسلامية عند الفيلسوف محمد باقر الصدر و دورها في تفكيك التغريب

الدكتور رحيم محمد الساعدي

(1)

ضوء على مفهوم الهوية والتغريب

في المعجم الفلسفي تعرف الهوية بأنها حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وصراع الهوية يعكس دائرة الشعور بالانتماء ومعارضة الثقافة الغربية(2)

وقد تعني الغربة النزوح عن الوطن اما الاغتراب فله مداليل عديدة منها مثلا لدى اليونان حرمان الإنسان من حقه القانوني أو الطبيعي وتعني عند أفلاطون ابتعاد الإنسان عن عالمه الأصلي وهو عالم المثل فصار في عالم طارئ بدون إرادته بانتقاله الى الأرض (3).

و یراد ب- التغريب، في اللغة العربية، النفي والإبعاد عن البلد والتغريب: النَّفْي عن البلد... ومنه الحديثُ : أنَّه أَمَرَ بتَغْريب الزاني، والتغريب: النفي عن البلد الذي وَقعَت الجنايةُ فيه. يُقال: أغربته وغَرَّبته إذا نَحَيْته وأبعدته... وغَرَّبَه وغَرَّبَ عليه: تركه بعدًا ويستعمل علماء اللغة (الإغْراب) و(التغريب) بمعنى واحد، وهو التنحية والإقصاء من الوطن، وإذا ما اقتصرنا على الدلالة المعجمية للتغريب، فلابد من ربط هذا المعنى بالدلالة السياسية والإيديولوجية والحضارية للكلمة فالتغريب انتقال

ص: 115


1- قسم الفلسفة، كلية الآداب، الجامعة المستنصرية
2- متولي موسى الهوية الإسلامية في الغرب ( المشكلة والحل ( مجلة الرائد العدد: 201، 1419 1998-ه
3- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، دار الهادي، ط1، 1422ه- 2001، ص 25.

إجباري وابتعاد اضطراري، لا يملك الإنسانُ السلطة لرَدّه أو دَفْعه، بل يُفرَض عليه فرْضًا، ويسمي بعض الدارسين هذا النمط من الارتحال ب- غربة القهر والواقع أن دلالة التغريب تتغير بانتقالنا من الإطار اللغوي إلى الأطر الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتتشعب معانيه مع توالي الأيام، فالتغريب، كما ندركه في الوقت الحاضر، ليس هو التغريب الذي كان يعرفه الجوهري أو ابن منظور(1).

وفي المجال الفلسفي في العصور الحديثة المصطلح يدل على التنصل من الدين فالاغتراب الديني عند هيجل هو اغتراب الإنسان عن ذاته وواقعه بشكل وهمي وهو الدين أو الإله وهكذا عند فيورباخ(2) .

ويتخذ التغريب أشكالا مختلفة، لعل أخطرها (التغريب الثقافي)، لأنه إبدال ثقافي يبغي إخلال ثقافة أجنبية محلَّ الثقافة المحلية الأصلية، مع ما يرافق ذلك من مظاهر التبدَّل والتغيير، وعندما يتحدث الباحثون والمفكرون المسلمون عن التغريب، فإنهم يشيرون إلى واقع يومي مشاهد في الحياة المادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية، واقع صنعته ظروف تاريخية عصيبة، وتضافرت على نسج خيوطه عوامل كثيرة، وبالنظر إلى عُمق ظاهرة التغريب في حياتنا الثقافية المعاصرة، فإننا نرى هؤلاء الباحثين يستعملون عددًا من المصطلحات للدلالة عليه نحو الاغتراب الثقافي و (الإلحاق الثقافي) و(الاستلاب الثقافي) ، و(المَسْخ)، ... ومن المؤكد أن مصطلح (التغريب) بدلالته المعاصرة المعروفة، من نتاج الفكر الغربي، ويرتبط بالحركة الإمبريالية الأوروبية التي انطلقت في القرن التاسع عشر. يقول محمد مصطفى هدارة إن (اصطلاح التغريب )ليس من ابتكارنا في الشرق، ولكنه ظهر في المعجم السياسي الغربي باسم (Westernyation) وكانوا يعنون به نشر الحضارة الغربية في البلاد الآسيوية والإفريقية الواقعة تحت سيطرتهم عن طريق إزالة القُوى المضادة التي تحفظ لهذه البلاد كيانها وشخصيتها وعاداتها وتقاليدها،وأهمها الدين واللغة، وفي زوال هذه القوى ضمان

ص: 116


1- د. فريد محمد أمعضشو، التغريب.. مفهومًا وواقعا ، مجلة الوعي الإسلامي العدد 553 السنة 2011م، الكويت http://www.alwaei.com/site/index.php?cID=487
2- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، ص 26

لاستمرار السيطرة الغربية السياسية والاقتصادية حتى بعد إعلان استقلال هذه البلاد

وتحررها من نير الاستعمار الغربي ظاهريًا (1) ، وهنا نلمس دور السياسة في استخدام الفكر وخطر ذلك على مصالح الشعوب.

ولا انفصام بين التغريب والاغتراب فهناك اتحاد في الجذر وتباعد في الدلالة كلمااتسعت مجالات الفكر ومن معاني الاغتراب أيضا هو التحول الى الآخر سواء أكان من الذات لتغترب عنها كآخر أم انفصام الذات عن العالم أو المجتمع الذي تعيش فيه. والتغريب مصدر تغرب وهو مطاوعة الفعل غربة فتغرب ويكون بفعل فاعل وباستدراج مستدرج (2).

وربما قاد الاغتراب الى التغريب فعندما لا تكون الذات منسجمة مع واقعها النفسي أو الفلسفي أو الديني فهي مهيأة للاغتراب والتغريب يطلق على حالات الانبهار والتعلق والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية والأخذ بالقيم والنظم الغربية (3).

التغريب بوصفه تحديا للهويات :

لا شك في أن الظروف السياسية والوقائع الاجتماعية التاريخية هي التي تقرّر مسيرة الحضارة ، والفعل الثقافي فيها على الخصوص، إن كان في نهوضها، أو في جمودها، وحتى في اضمحلالها وزوالها، والعوامل التاريخية، والتاريخ يدلّنا على أن ظروف نشوء الحضارة وازدهارها أو اضمحلالها متعلقة بعلاقتها مع بيئتها وموقعها ونشأتها، وطرق تعاملها مع ماضيها وحاضرها، وكيفية نظرتها إلى مستقبلها، مستمدة من روحيتها وإيمانها بعناصر الوعي لموقعها في العالم، ولبناء علاقاتها مع الآخرين وترسم مستقبلها مع الآخرين لتأمين مصالحها، باعتبارها مصالح مجتمعاتها، أو مصالح كل فرد فيها أو باعتبار مصالح المجتمع هي محصلة مصالح الأفراد، أو

ص: 117


1- د. فريد محمد أمعضشو، التغريب.. مفهومًا وواقعا ، مجلة الوعي الإسلامي ، المصدر السابق.
2- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، ص 390
3- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل،، ص 31

باعتبار مصلحة المجتمع تتجاوز مصالح الأفراد(1).

ويعلل بعض الباحثين من أنَّ الأسلوب المنظم الإيجابي الذي ينطوي عليه سلوك إنسان واحد يمكن أن يكون مؤثراً على آلاف البشر الآخرين سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، فكيف إذا ارتبطت الحالة بمجتمع إسلامي كبير، من هنا نتفهم عدم غفلة الاتجاهات الأخرى المعادية وسعيها الدائب (كما تعترف بنفسها) في الكيد لإطفاء شعلة النور التي يأبى الله لها الانطفاء (2)

وعندما شعر الغرب بخطورة المد الإسلامي في القرن الراهن توجس خيفة، فاخذ يخطط بجد لتحجيمه والقضاء عليه من موقع القوة والغرور والتعالي، فصدرت 1989م نظرية نهاية التاريخ في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة(3)

وكانت تيارات الفكر العربي الإسلامي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى هي بشكل عان تتمثل بتيار التجديد الديني والتيار الثقافي الذي يمزج بين الشرق والغرب كما عند الطهطاوي وخير الدين التونسي والتيار الثقافي الغربي لليسوعيين وتيار الجامعة الإسلامية للأفغاني والكواكبي وتيار الجامعة العربية (4).

والتيار المازج بين الشرق والغرب أراد الاقتباس من الغرب بالترجمة والتعريب وخلق الرأي العام وتنبيهه بالصحافة ورفع مستوى الشعب بالتربية والتعليم وتبسيط اللغة العربية وتحريرها من السجع والزخرف والدعوة الى تعليم المرأة وتصحيح المناهج(5) .

إن الغرب نفسه يطرح مفهوم تحدي الهوية الذي يتداخل وحضارته فقد وجد(ريتشاركوك) و(كريس سميث) في كتابهما (انتحار الغرب) أن الغرب مهدّد بالتلاشي والاندثار، ليس بموجب قوى خارجية تهدّده ، بل بموجب تقاعس الغربيين

ص: 118


1- مجلة الاستغراب المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ، العدد ،2، السنة 1437، 2ه-2016-م، بيروت، ص 75.
2- محمد حسين الطباطبائي، الإسلام والأديان الأخرى، مجلة الاستغراب - العدد 3 - 2016م - بيروت ص 307.
3- ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، دار الهادي، ط 1،1421ه- 2001م، ص48.
4- أنور الجندي، تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين 1920-1940م، دار الاعتصام، ص 27.
5- أنور الجندي تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين، ص 31.

عن نصرة حضارتهم الملهمة والرسولة في نشر عقيدتها الليبرالية على صعيد العالم كله، ولا بد من تدارك الموقف، والعودة بالحضارة الغربية إلى مجدها التليد، ويحدد المؤلفان المرتكزات الأساسية للحضارة الغربية ومنها أهمية وعي الغرب لذاته، ،ولهويته فبالإضافة إلى الفردانية والليبرالية القائمة على الفرد والإحساس بهوية الجماعة، وهي صيغة الغرب، المركبة بسحر ساحر من أوروبا كهوية قومية إقليمية وأميركا كهوية حليفة ، ولا بأس من جمع أستراليا ونيوزيلندا مع هذا الغرب الذي تقع عليه وحده، وبهذا الخليط ، تقع مسؤولية تحضير العالم ورفعه، بالتبعية اللازمة، إلى المصاف الذي يقترب فيها من الغرب والحضارة الغربية، وان أي بديل، باعتبارهما، «اللهوية الغربية هو إما شكل من أشكال الهوية التي تقسم الغرب وتقود إلى عالم كريه وخطر، أو هي هوية ليست هوية جماعية مشتركة (1) .

وربما ترد إشكالية. ان هناك من تفزعهم عملية التجديد ويعدونها حركة تمرد وشقاق على الأمة وهدفها الإطاحة بتراث الأمة وهويتها، لكنهم برأيهم هذا إنما يصدرون عن فهم يقرن التجديد بالاغتراب الفكري والإيديولوجي وهو فهم ينطلق من تشبع بعض النخب بالقيم والمفاهيم الغربية وانبهارها بكل شيء وافد من أوربا ودعوتها للتخلي عن الموروث وقطيعة الماضي وسلخ القيم والأفكار والتاريخ لاستبدالها بالقيم الوافدة من خارج الوطن (2) .

إلا ان الانغلاق على الذات هي إشكالية تعم كلا الحضارتين فالتعالي والفوقية الذين ابتليت بهما الحضارة الغربية لا تسمح لها بالانفتاح على الحضارات المناوئة،

وعلينا نحن أيضا ان لا ننغلق على الذات الى حد رفض كل ما لدى الغرب (3) .

ص: 119


1- مجلة الاستغراب المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العدد 2 السنة 1437، 2 ه-2016-م، بيروت، ص 81. يصف بعضهم ملامح الثقافة الأوربية بالمركزية أو التمحور حول الذات والعدوانية أو الدموية ثم المكر والخداع والحقد واللادينية وأيضا الجنبة اللاخلاقية انظر شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل ، ص 50 - ص 73.
2- ماجد الغرباوي إشكالية التجديد ، ص6
3- ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، ص 51.

ومع وجود هذا التخوف فان البعض يحاول ان يؤطره بعدد من القواعد أو الأفكار الراهنية التي تفسر النزوع الغربي ومحاولته إثبات هويته بانتزاع أو جذب هويات الحضارات الأخرى.

ولقد عرضت قيادة العالم والمسيرة الحضارية الإنسانية، الاحتمالات الممكنة النوعية العلاقة بين( الغرب والبقية) في ستة نماذج عقلية، يمكن أن تتلخص بما يلي(1):

الشمولية الغربية، وهو الرأي الذي يقول بأن الغرب يمثل الحداثة، وأن العالم سيصير “غربيا“ لا محالة.

الاستعمار الإمبراطوري الليبرالي الذي عليه أن يصنع من العالم صورة عن الغرب ولو بالقوة.

العالم المبني على الطريقة الأميركية، بسلامه واقتصاده، وبمنطقه المعولم.

الغرب (القلعة) الذي عليه أن يحمي نفسه ويتخلى عن رسالته تجاه العالم.

العالم الكوزموبوليتاني الذي لا بد أن يحلّ في حضارته الواحدة الغالبة.

العمل على دفع إستراتيجية التعايش إلى الأمام بتشعباتها الأربعة: الاحترام المتبادل للحضارة ،والقناعة التامة بالعيش المشترك، وتجديد المثل العليا الغربية، وجذب العالم إليها بدون قسر أو شعور بالتبعية.

في هذا النموذج الأخير، يمكن أن ينبني العالم على التفاهم والتعاون وترسيخ الاستقرار، بتبادل المصالح دون استعلاء أو تبعية.

ومن مجالات التغريب المنهج وهو اخطر مجالات التغريب لاسيما في مناهج الدراسات الإنسانية ومحاولة فرض مناهج العلوم المرتبطة بدراسة الإنسان والعلوم المرتبطةبالطبيعة

، والتعليم وهو ما أدركته القوى التغريبية فاستثمرته ونظمت له المناهج

ص: 120


1- مجلة الاستغراب المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العدد ،2 السنة 1437 ، 2 ه- 2016 - م ، ص 92

والأموال لصياغة عقلية الأمة وروحها صياغة تتخلى فيها عن مقوماتها الشخصية الأساسية في الدين والقومية والعادات واللغة وتتعلق بمقومات حضارية طارئة (1).

وبكلمة أخرى يقول المفكر الصدر ، علينا فهم الإسلام في نفسه لأجل أن يكون هذا قوّة بأيدينا في مقام ترويج الإسلام وإعلاء كلمته وتبليغ أحكامه والوقوف في وجه التيارات الكافرة التي تكتنف حياة المسلمين وتغزو عالم الإسلام من كلّ جهة وصوب (2) .

ولابد من القول ان ثنائية التغريب والهوية تبادلا الشد والجذب في اغلب الحضارات والمجتمعات، وربما تداخلا أو دخلا بصورة النسبية لأنهما يعتمدان أحيانا على فهم جغرافي أو اجتماعي أو سياسي فالشرق باتجاهه للغرب ربما مكننا من تحديد التغريب إلا ان القضية ستختلف عند الحديث عن نسبة الجنوب والشمال.

على كل حال فالمعنى يتضح هنا في وجود كيان قوي يحاول السيطرة على آخر فيه نوع من الضعف إذا فمسالة التغريب هي سياسية اما مسالة الهوية فهي إيديولوجية بشكل واضح.

منظومة الصدر الفكرية وتأسيس الهوية الفكرية الإسلامية:

أراد المفكر الصدر التحرك باتجاهين وهو النظر مرة الى الخارج ومرة الى الداخل ففي الأول نقد المذاهب الاجتماعية القائمة والمؤثرة في عالم اليوم وتحديدا الرأسمالية والاشتراكية والماركسية مع التشديد على نقد الماركسية، والأمر الآخر صد المد الشيوعي الذي شهد صعودا في العراق في الخمسينيات من القرن الماضي وشكل تحديا فكريا مستفزا داخل البيئة الإسلامية فهو يقول (3):

إني أنا الآن أشعر بألم شديد لأن العراق مهدد شيوعياً، لكن هل أني سوف

ص: 121


1- شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، ص-8883.
2- محمّد باقر الصدر ، السيرة والمسيرة، دار العارف للمطبوعات، بيروت، ج 1 ص 295.
3- محمد باقر الصدر، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، ص 41-43.

اشعر بنفس هذا الألم... بنفس هذه الدرجة لو ان هذا الخطر وجه الى إيران بدلاً عن العراق... لو وجه الى باكستان بدلاً عن العراق وإيران... لو وجه الى بلد آخر لو من بلاد المسلمين الكبرى. بدلاً عن هذه البلاد هل سوف اشعر بنفس الألم أو لا أشعر بنفس الألم ؟ أوجه السؤال الى نفسي حتى امتحن نفسي لأرى ان هذا الألم الذي أعيشه لأجل تغلغل الشيوعية في العراق هل هو الم لخبز سوف ينقطع عني ؟ لمقام شخصي سوف يتهدم ؟ لكيان سوف يضيع ؟ لان مصالحي الشخصية مرتبطة بالإسلام الى حد ما، فهل ان ألمي لأجل ان هذه المصالح الشخصية أصبحت في خطر؟ إذا كان هكذا... إذن فسوف يكون ألمي للشيوعية في العراق اشد من ألمي للشيوعية في إيران... أو اشد من ألمي للشيوعية في باكستان، وأما إذا كان ألمي لله تعالى، إذا كان ألمي لأني أريد ان يعبد الله في الأرض... وأريد ان لا يخرج الناس من دين الله أفواجا. فحينئذ سوف ارتفع عن حدود العراق وإيران وباكستان. سوف أعيش لمصالح الإسلام. سوف أتفاعل مع الأخطار التي تهدد الإسلام بدرجة واحدة دون فرق بين العراق وإيران وباكستان وبين أرجاء العالم الإسلامي الأخرى.

وقد وضح الصدر مشروعه الفكري في كتابه اقتصادنا حيث تحدث بان ما يريده من الدراسات الإسلامية هو ان تكتمل في نهاية المطاف كما يقول ( صورة ذهنية كاملة عن الإسلام بوصفه عقيدة حية في الأعماق ونظاما كاملا للحياة ومنهجا خاصا في التربية والتفكير(1) .

وعند الحديث عن خصائص فكر المفكر محمد باقر الصدر ينبغي بيان بنية مفاهيمية تتصل بالمفكر الصدر وتفسير المفهوم والمصطلح ثم المباشرة بتثبيت الأفكار التي تشكل أهم آراء الشهيد الأول وهي الأفكار اللاتقليدية والتي تعد دوائر خصبة يمكن للمفكرين تناولها أو تشكيلها وإعادة تكريرها أو تحليلها بطريقة مغايرة أو مركبة(2) . كما انها تمثل الفرادة التي يتمتع بها مفكر ما لتفسر قوة حضوره في ساحته

ص: 122


1- محمد باقر الصدر ، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، ص 40
2- وهي أفكار بثت في كتبه ونتاجه الفكري والفلسفي ومنها: غاية الفكر في علم الأصول وفدك في التاريخ. فلسفتنا، وهو كتاب يناقش المذاهب الفلسفية وخاصة الفلسفة الماركسية. -اقتصادنا،وهو كتاب يتحدث فيه عن الاقتصاد الإسلامي ويناقش فيه النظريات الاقتصادية مثل الرأسمالية -البنك اللاربوي في الإسلام. -المدرسة الإسلامية. -المعالم الجديدة للأصول. - الأسس المنطقية للاستقراء. -بحوث في شرح العروة الوثقى (أربعة أجزاء). -موجز أحكام الحج. -الفتاوى الواضحة. -دروس في علم الأصول (جزءان)، وهو كتاب يدرس كمنهج في علم الأصول في مرحلة السطوح. -بحث حول الولاية. -بحث حول المهدي، وهو مقدمة لموسوعة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر عن الإمام المهدي. - تعليق على رسالة بلغة الراغبين. -تعليق على منهاج الصالحين. -الإسلام يقود الحياة، وهو عبارة عن بعض المواضيع الإسلامية. -المدرسة القرآنية وهو عبارة عن محاضرات عن التفسير الموضوعي . -أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف.

الثقافية (الهوية ) بالقياس الى ساحة أخرى (التغريب ) والتي يعمد كل فيلسوف أو باحث أو حتى السياسي والعقائدي والأديب... الخ الى تصنيع نوع من التوازن الذي یحافظ به على وجوده وهويته التي لا يريدها ان تثلم، وهو ما يفعله مفكرو البيئات المختلفة، أو أصحاب منظومة حماية الأمم أو ما يفعله القادة والمنظرون على تحمل المسؤولية.

وفي الأسس المنطقية للاستقراء ذكر الصدر ان مرحلة الاستيراد في العالم الإسلامي من الغرب يجب ان تنتهي وان علينا ان نصدر إبداعنا الى الغرب (1).

بناء هوية المصطلح والمفهوم

وهو إجراء علمي فكري يستند الى إبراز الماهيات الثابتة في النسيج الإسلامي ،وتلك الماهيات هي البنية المصطلحية والمفاهيمية التي تثبت النظريات والأفكار والمشاريع المختلفة التي تستند على الفكر الإسلامي.

إن العروج إلى المصطلح عند الشهيد الصدر الأول يشير إلى مجموعة من العلوم تناولها المصطلح أو تشكل المصطلح وفق تناوله لهذه العلوم ومن المصطلحات

ص: 123


1- محمد باقر الصدر المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد ، دار الكتاب المصري، القاهرة - بيروت، 2011م، ص 31.

المستخدمة في منظومة المفكر الصدر والتي شكلت احد أركان هويته المعرفية وهوية مشروعه الفكري(1) نجد:

المصطلح والمفهوم السياسي

المصطلح والمفهوم الأصولي والفقهي

المصطلح والمفهوم الفلسفي والفكري

المصطلح والمفهوم الاجتماعي

مصطلح التاريخ وفلسفة التاريخ والسنن التاريخية

مصطلحات ومفاهيم علم النفس

المصطلحات والمفاهيم الاقتصادية

مصطلحات فلسفة الدين

مصطلحات ومفاهيم علم الكلام الإسلامي

المصطلحات والمفاهيم العلمية

مصطلحات ومفاهيم الفكر المستقبلي

المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية والتربوية والأخلاق التطبيقية.

المصطلحات والمفاهيم المنطقية.

الهوية التأسيسية للمفاهيم لدى الصدر:

في الوقت الذي توصف بأنها مفاهيم وأفكار ومصطلحات وفرضيات ونظريات

ص: 124


1- حول حياة الفيلسوف محمد باقر الصدر ينظر مقدمات كتبه الفكرية وأيضا .د. حسن عيسى الحكيم، السيد محمد باقر الصدر بين فلسفة الفكر وأصالة المعرفة التاريخية،المركز الإسلامي الثقافي، 2016م، ص4515.

مهمة، إلا انها من زاوية أخرى مثلت الجهد الكبير الذي قام به الشهيد الصدر والذي يعد أيضا البناء الفكري له والبنى الأساسية التي شكلت شخصيته الفلسفية والفكرية والفقهية الأصولية، وبشكل موجز يمكن وصف خصائص هذه الأفكار التي تمثل بنية المفكر الصدر العامة والتي شكلت نتاجا مهما للإنسانية وللإسلام بالقول:

ان ابتكار مصطلح أو مفهوم معين إنما هو صفة تأتي بعد مرحلة تراكم العلوم، والتمكين المعرفي والانتقال من مساحة القراءة إلى ساحات التنظير والابتكار، فالنشاطات الفكرية للصدر المنتج قادته إلى تقديم أفكار جديدة لقدرته وسرعته باستيعاب العلوم المختلفة وإضافة الجديد إلى تلك العلوم.

المفهوم والمصطلح عند الصدر يمثل صورة ملخصة لمشروع أو فكرة معينة، أو توصف أهميتها بأنها جزء من فرضية أو نظرية أو مشروع، او مفهوم.

يتسم مصطلح ومفهوم المفكر الصدر بالتنوع والموسوعية والامتداد فهو لا يكتفي بعلوم إنسانية أو فلسفية أو دينية أو اجتماعية واقتصادية وغير ذلك من العلوم بل يشملها كلها بطريقة موسوعية.

التشاركية أيضا صفة ملازمة لفكر الصدر ومفهوم ومصطلحه فالتبادل والتداخل بين مصطلحات العلوم كافة انما تشير الى ان منظومة الصدر المعرفية ثابتة القوة والابتكار ومتداخلة وموضوعية.

فمثلا في مجال الأصول تمّ توظيف نفس المصطلحات الفلسفية والمنطقية كالوجوب والإمكان والضرورة والعلة والمعلول والوحدة والكثرة والمقتضي والشرط والمانع واعتبارات الماهية والجامعية والمانعية والعرض الذاتي والغريب والعدم الأزلي والسنخية والقوة والفعل والذاتي والعرضي والكلي والجزئي (1)

على يد المفكر الصدر كان التحول من الثقافة الفقهية إلى الثقافة الفلسفية

ص: 125


1- حيدر حب الله معالم الإبداع الأصولي - عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، موقع الشيخ حيدر حب الله، /http://hobbollah.com/articles

والتطبيقية في مجال المفاهيم وغيرها.

المشروع الصدري المفاهيمي كان عراقيا من زوايا الفكر والمعالجة وإسلاميا من زاوية الفلسفة والاقتصاد والفقه والأصول وعالميا من زاوية النقد وابتكار المصطلح وطرح المشاريع الفكرية.

المفهوم لديه يوصف بالمفهوم الشمولي الموضوعي لا الذاتي، فعندما نتحدث مثلا عن مفهوم للفلاسفة بشكل مفردة ابستيمية تعد بمثابة جزء من منظومة معرفية إلا انها في نهاية المطاف تعبر عن خيال ومعرفة خاصة كما في الآراء والمفاهيم التي وظفها فوكو ونيتشة وشوبنهاور وغيرهم الكثير .

عبقريته تكمن في قدرته الخلاقة على توليد الأفكار الجديدة واطلاعه المعارف الغريبة وفي انجازه الفكري المبكر(1)

من خصائص مفهوم إسلامية المعرفة عنده هو مشروعه الذي لم ينطلق من دراسة

بل من ذات عقدية ومعرفة صالحة لقيادة البشرية، فهو لا يعتقد بالاستقلال الصوري ولا سبيل إلا بإيصال الأمة إلى الاستقلال والذاتية، ولم يكن يفكر برد فعل مرحلي مقابل ثقافة الآخر بل أسس لاستجابة واعية تأسيسية تتكامل عبر مشروع معرفي انطلاقا من الإسلامية فهو وان لم يستخدم مصطلح إسلامية المعرفة أو أسلمتها إلا انه مارس هذين النشاطين المعرفيين من خلال حلقات مشروعه المعرفي وهوما يتبن بالضمير (نا) في فلسفتنا واقتصادنا(2).

ابتكر على مستوى التجديد الفكري في علم الأصول مفاهيم حجية القطع وانتهى بان حجية القطع ليست ذاتية للقطع كما هو معروف عند الأصوليين واعتبرها تدور مدار مولوية المولى. وأنكر صحة ما يعرف بالبراءة العقلية، ومن ابتكاراته بحث حجية السيرة وحجية الإجماع وبحثه في ما يعرف بموافقة الكتاب ومخالفته في باب التعارض وبحثه في تفسير

ص: 126


1- محمد الحسيني ، محمد باقر الصدر ، حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البيضاء، 2005م ، ص 64
2- - حسن العمري، إسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر، ط1، دار الهادي ، 1424ه- 2003- م، ص 79-82.

نشوء اللغة في نظرية القرن الأكيد وأيضا إسهامه في مباحث الألفاظ عند الأصوليين(1) .

المنهج:

وقد عالج الشهيد الصدر إشكالية المنهج في كتابات متعدّدة لاسيّما كتابيه اقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء وبخصوص الأخر فقد قدم منهجاً في الابستمولوجيا ألقى بظلاله على مختلف صنوف المعرفة، الدينية واللاهوتية والفلسفية وقضايا العلوم، وحق له أن يتربع على عرش المعرفة إلى جانب المناهج والنظريات الأخرى(2). والمنهج هو الآلية المنضبطة التي قدم بها مشروعه الفكري بجعله نسيجا واحدا يستند الى جملة من الثوابت التي شكلت هويته العامة.

بناء الخطوط الفكرية العامة ( مشروع الهوية الإسلامية )

ان محمد باقر الصدر عمل ضمن مشروعه على الصعيد الفكري، الحركي، المرجعي، فعمل على استيعاب تراث الأمة ونقده وتقويمه واستخلاص عناصره الحية وتوظيفها في بناء أسس نظرية تلبي حاجات المجتمع الإسلامي ودراسة النظريات التي تنتمي الى بيئات فكرية أخرى لاكتشاف نقاط ضعفها ليقوم بتقوية الفكر الإسلامي كما قدم جذور نظريات إسلامية برؤية قرآنية (3)

والتي نضجت في سياق مسيره الشاق إلى العلم والفكر والإصلاح والتغيير والتحرير والشهادة، برزت أفكار عديدة (تعد أيضا من المفاهيم لأنها تمثل أفكارا جوهرية) تشعبت أيضا إلى صور فكرية متنوعة تشكل النظام العام لفكر الصدر وفلسفته التي يثبتها بعدها منظومة الأصالة الإسلامية الفكرية ومنها على سبيل المثال:

إدارة المستقبل بين التنظير والتخطيط والتطبيق والاستيعاب والتنظير إلى المستقبل.

ص: 127


1- محمد الحسيني، محمد باقر الصدر ، حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البيضاء، 2005م، ص 366.
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر ، ص 124
3- ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، ص128-129.

تكوين منظومة فكرية لمعالجة العلم والاقتصاد والفلسفة والدين والسياسة وتقديمه الى الشارع الإسلامي.

فهم التاريخ وفلسفته والسنن التاريخية وتطبيقاتها للسيطرة على المستقبل.

المشروع الإسلامي العام واعتماد مشروع الهوية الخاصة( الموعود المستقبلي).

فهو يقول بهذا الصدد ... هذا الشخص المتوغل في التاريخ، له هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعم بأنَّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ، تهيأت له الأسباب ،فوجد ، وستتهيّاً الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء، كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وإنَّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلا أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل، إنّ عمليّة التغيير المدَّخرة للقائد المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف تقوم على أساس رسالة معيَّنة هي: رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العمليّة في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيَّته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤشّرات الحضارة التي يُقدَّر لليوم الموعود أن يحاربها(1) .

وهذا النص الاستراتيجي يحمل ( مصدا) للفهم التغريبي ، وتقريبا وتواصلا مع الهوية الإسلامية.

محاولة إعادة إنتاج النظرية السياسية الإسلامية، وفرضها على الواقع.

محاولة تجديد الفكر القرآني، الفكري، الاجتماعي، النظم الإدارية، الفقهي، القانوني، الديني والسياسي .

ص: 128


1- السيد محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي (عجل الله) ، تحقيق د. عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات، الطبعة الأولى 1996م، ص: 8886

ج- الإصلاح

ومنها إصلاح النظام الإداري للحوزة العلمية وإصلاح النظام التعليمي وإصلاح ثقافة الحوزة العلمية (1) .

وإيجاد تغييرات بناءة في برامج وأساليب التعليم والتربية في كل من الحوزات العلمية ومراكز التحقيق الإسلامية، وطرح الإسلام بشكله الصحيح والذي يمثل رؤية للكون والحياة ونظاما للفرد والمجتمع ومنهجا في المعرفة والتغيير ومواجهة الأفكار المضادة للإسلام وأيضا تربية أجيال فعالة وحركية ومتفكرة وتربية جيل من العلماء في الحوزات العلمية والجامعات والأكاديميات يملكون روح التجديد في الأفكار والعلوم (2).

د -النقد والبدائل

إذا رصدنا السيد الصدر سنجده اشتغل على ملفّي نقد الآخر ونقد الذات، والقسم الثاني يحتاج إلى محاربة للأنا؛ لأنَّك تقوم في نقد الذات بمحاربة ذاتك للوهلة الأولى، فحين يقوم السيد الصدر بنقد الأمة الإسلامية فهو ينتقد ذاته الجماعية، وحين ينتقد المؤسسة الدينية فهو ينتقد ذاته أيضاً، وحين ينتقد الحركة الإسلامية فهو ينتقد نفسه أيضاً، وحين ينتقد الحوزات العلمية فهو ينتقد نفسه أيضاً، وكذا البرامج التعليمية(3).

إنّ الرجوع النقدي إلى التراث وتفسير القرآن الكريم في أفق اجتماعي وتأريخي، كما يتجلى في كتابات الصدر ، فتح مجالا فلسفياً جديداً وواسعاً أمام الفكر الإسلامي

ص: 129


1- إسماعيل اسماعيلي، الشهيد الصدر وإصلاح الحوزة العلمية مطالعة في الرؤى والأعمال، ترجمة صالح البدراوي ، نصوص معاصرة ، العدد 27 السنة 7 ، 2012م - 14333ه- ، ص 44
2- محسن الاراكي، الشهيد الصدر والمنجز الفكري والحضاري مجلة نصوص معاصرة، فصليّة تعنى بالفكر الديني المعاصر، العددان الأربعون والواحد والأربعون السنتان العاشرة والحادية عشرة، بيروت، خريف 2015م، 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م، 1437 ه-، ص 40.
3- حيدر حب الله التفكير النقدي محمد باقر الصدر أنموذجا، هناك مستويات للنقد منها السطحي والموضوعي والبنيوي، مجلة نصوص معاصرة، فصليّة تعنى بالفكر الديني المعاصر، العددان الأربعون والواحد والأربعون السنتان العاشرة والحادية عشرة، بيروت، خريف ،2015م، 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م، 1437 ه-، ص 8-9 .

المعاصر، ويتجلى ذلك فيما يلي (1):

1 - محاولة الصدر إعادة صياغة الفكر الإسلامي ورفعه إلى مستوى التحديات، أي مستوى مجابهة الفكر الغربي بكل تياراته وطرح البديل الإسلامي في المجال المعرفي والمنهجي والاجتماعي والحضاري.

2 - تأثر الصدر في تنظيره للرؤية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الإسلامية بالشريعة لا بالفلسفة، فالمفاهيم التي تمّ من خلالها التنظير في المجالات السابقة هي مفاهيم متضمنة في الأحكام الشرعية، لذلك يمكن القول بأنّ الصدر تجاوز القطيعة بين الفقه والفلسفة، كما تجلّت في الفكر الإسلامي قديماً، وأحدث العملية التركيبية بين الفقه والفلسفة.

3 - انطلق الصدر في كلّ ذلك من مبدأ تعبدي وعقائدي وإبستمولوجي في نفس الوقت: الإسلام ليس مجرد موضوع للفلسفة، فالصدر أعتمد على منهج في معالجته العلاقة العقل بالدين، في حين أن الفلاسفة المسلمين انطلقوا من مسلمة الدين حق والفلسفة حقّ، والحق لا يتناقض مع الحق ، أو «الفلسفة والشريعة أختان رضيعتان» كما يقول ابن رشد.

إن التفكير النقدي يرفع المشكلة ويضع البديل معاً، ولا يعيش رغبة النقد فقط لأجل النقد، فالنقد ليس للنقد، وإنما للتغيير والإصلاح وتحسين الأمور والتصويب، وقد يحتاج النقد إلى الخطوة اللاحقة، وهي وضع البدائل، وهذا ما فعله السيد الصدر حينما كان ينتقد المدارس الأخرى؛ حيث كان يضع بديلاً، ففي الفصل الأول والثاني من اقتصادنا حينما انتقد المدارس الأخرى تجده قد وضع في الفصل الأخير البديل، وفي الأسس المنطقية للاستقراء حينما انتقد المدارس التجريبية والعقلية والوضعيّة فقد وضع بديله المتمثل بالمذهب الذاتي للمعرفة، وهذا البديل جد ضروري في بعض الأحيان(2) .

ص: 130


1- حسين جويد الكندي البعد الفلسفي في صناعة التاريخ عند محمد باقر الصدر (قد)، موقع كتابات في الميزان http://www.kitabat.info/subject.php?id=63299
2- حيدر حب الله، التفكير النقدي محمد باقر الصدر انموذجا، هناك مستويات للنقد منها السطحي والموضوعي والبنيوي، مجلة نصوص معاصرة ، ص 212

ومن البدائل الأصيلة التي جاء بها الصدر الأول هو المفهوم الابستيمي المبتكر (منطقة الفراغ) والتي تصلح بوصفها قاعدة زئبقية يمكن للقوانين والأفكار التحرك من خلالها بشكل مرن ومنتج.

وقد توهّم البعض أنّ فكرة (منطقة الفراغ )تعبر عن وجود نقص وقصور في التشريع

الإسلامي، إلا أنّ هذه الفكرة تعبر عن كمال الإسلام وثرائه الفكري والتشريعي بحيث استطاع أن يعالج العناصر الثابتة والمتطوّرة من متطلبات النظام الاجتماعي الكامل الصالح للتطبيق في مدى العصور والأجيال، ولولا وضع الحلّ المناسب من قبل الإسلام للعناصر المتطوّرة من خلال فكرة (منطقة الفراغ )لما كان النظام الإسلامي صالحاً للتطبيق على مدى العصور والأجيال(1) .

من جانب آخر لم يستسلم باقر الصدر للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكرون الإسلاميون وقطع مع هذا التراث الطويلبأطروحته المتميزة (الأسس المنطقية للاستقراء ) والذي قال عنها باقر الصدر نفسه.. أنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة (2)

وبالإضافة الى البناء العقلي وتكوين العقل الفلسفي والمنطقي وكشف قصور المنطق الأرسطي ، فقد قدم في المعرفة مشروع المذهب الذاتي وتفسير نشاط الذهن البشري بمرحلتي التوالد الموضوعي والذي يسير فيه الفكر من المفردات الجزئية ويتصاعد في القوة الاحتمالية ومن ثم التوالد الذاتي ومحاولة صنع اليقين العلمي بالأمور وأعطى للاستقراء دور المعرفة في مقابل التيارات الشكية والترجيحية وفيها يأخذ الذهن نشاطا مستقلا عن القواعد الرياضية الصارمة لكنه وفق بنيته الذاتية يقفز من مرحلة الى أخرى(3).

ص: 131


1- علي الأكبر الحائري منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، مجمع الفكر الإسلامي، النجف، 1434 ه-، ص 20
2- محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4، ص140.
3- حيدر حب الله مكونات المشروع الإسلامي، مجلة نصوص معاصرة ، العدد 26 ، السنة 7، بيروت، 2012م 1433ه- ، ص 5.

وعندما يطرح المفكر الصدر مفهوم الاقتصاد الإسلامي مثلا فانه يقدمه بوصفه فكرا محليا مهما يمكن التواصل معه من دون الاتكاء على الفكر الغربي فهو يقول. هناك من يسال هل هناك اقتصاد في الإسلام وبحوث كما لآدم سمث وريكاردو وغيرهما، لان عناصر تكامل الاقتصاد اكتملت فيما بعد، ولهذا علينا التمييز بوضوح بین طبيعة الاقتصاد الإسلامي وكونه مذهبا اقتصاديا لا علما للاقتصاد هنا يمكننا دحض اكبر العقبات التي تحول دون الاعتقاد بوجود اقتصاد في الإسلام (1)

نقد الفيلسوف الصدر لايقونة التغريب (الغرب)

يشير المفكر الصدر إنّ من يدرس النهضة الأوروبية الحديثة - كما يسميها التاريخ الأوروبي - بفهم يستطيع أن يدرك أن اتجاهها العام في ميادين المادة كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة. فهي في ميادين المادة

كانت علميّة، إذ أقامت أفكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة(2).

أما في الميدان الاجتماعي، فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية، لا الأفكار العلمية، فهو ينادي مثلاً: بحقوق الإنسان العامة، التي أعلنها في ثورته الاجتماعية، ومن الواضح أنّ فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية، لأنّ حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي، وإنما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تُدرس علميّاً (3)

و يقول الصدر ، نرفض إسلاميّاً المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخل المطلق (أصالة الفرد) والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع ، ونؤمن بأن وظيفتها تطبيق شريعةالسمحاء التي وازنت بين الفرد والمجتمع وحملت المجتمع لا بوصفه وجوداً هيغلياً مقابلاً للفرد بل بقدر ما يعبر عن أفراد وما يضمّ من جماهير تتطلب الحماية والرعاية (4).

ص: 132


1- محمد باقر الصدر المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، ص175.
2- المدرسة الإسلامية ص: 34.
3- المدرسة الإسلامية ص: 34.
4- محمد باقر الصدر (السيرة والمسيرة)، دار العارف للمطبوعات جزء 1 ص 272.

وفي واحدة من حالات تماس المفكر الصدر مع حاملي القدرة على الغرابة وبالتالي التغريب يقول ... وبدت هذه الفكرة غريبة على تلك الذهنيات الممتلئة بروح التبعية والملتصقة بالواقع الفاسد والمشبعة بتصورات الإنسان الغربي عن الحياة ومؤسستها الاجتماعية، وقد عبر إنسان مسلم جعلت منه مسيرة الانحراف في عالمنا الإسلامي وزيراً في بلده بلده عن هذه الغرابة، إذ قال لي شخصياً بكل طفولة وسذاجة: إني اندهشت حينما سمعت باسم البنك اللاربوي، تماماً كما أدهش حينما أسمع أنساناً يتحدث عن الدائرة المربعة(1)

ولعلّ المطالعة الاستقرائية للكتابات التي تعاطت مع فكر الغرب توقفنا على اتجاهات ثلاثة انطلقت في تعاطيها مع المنجز الغربي بأبعاده المختلفة بأبعاده المختلفة من إشكالية

مزمنة، هى أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص(2) :

1- ينظر أصحاب الاتجاه الأول إلى الغرب ككل بأنه غير قابل للتفكيك والتجزئة؛ فهو هوية واحدة موحدة، تمثل عنوان الغازي المستعمر، الذي تجب مجافاته والقطيعة معه، والتعامل مع عطائه بحذر الشعوب المقهورة.

2 بينا ينظر أصحاب الاتجاه الثاني رؤية معاكسة للاتجاه الأول حيث يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى ضرورة التعامل مع هوية الغرب الواحدة الموحدة بوصفها

ص: 133


1- محمد باقر الصدر البنك اللاربوي في الإسلام، إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي الإمام الشهيد الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم ، 1245 ق - 1383ه-، ص12.
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص-122121. ويضيف الباحث، وقد تمثل هذا الاتجاه في كتابات قطاع كبير في العالم الإسلامي من الذين دعوا إلى اللحوق بركب حضارة الغرب على كافة الأصعدة، حتى عرفوا بدعاة التغريب، وفي تصور هؤلاء الباحثين أن المرجع الوحيد لخروج البلاد العربية والإسلامية من واقعها المرير والمتخلّف في شتى المجالات هو اللحوق بالغرب، واعتبار مفاهيمه الملاذ الآمن في ذلك النهوض المنشود فالحداثة والتحديث والتنمية والنهضة فى فكر هذا النمط من الناس يجب أن تكون امتداداً للغرب، وهو مرجعية كل ذلك، وقد أثبتت الوقائع والأحداث أن هذا النمط من التفكر طوباوي وبعيد عن واقع الشعوب الإسلامية سيوسيولوجياً وتاريخياً، ذلك أن جزءاً كبراً من حداثة الغرب تحقق عن طريق استعمار الشعوب وقهرها ونهب ثرواتها وامتصاص دمائها، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث في العالم الإسلامي، وفضاً عن ذلك فإن أفكار الغربيين وتجاربهم تشكلت في أرض ثقافية مناسبة لها وبالتالي فا يمكن تعميمها على كل الشعوب والبلدان وما يشهد على ذلك أن الشعوب والدول الغربية نفسها مختلفة بينها فيرتبط بالممارسة والتجارب السياسية والاقتصادية ومنظومات القيم والأفكار وإن جمعتها أطر عامة

كلاً غير قابل للتجزئة والتفكيك، ولكنه المنقذ المستنير الذي يجب إتباعه حذو القذة بالقدّة، فحتى نواكب حياة هؤلاء (كما يقولون) لا بد لنا من الأخذ بكل إنجازاته ومنتجه مأخذ الواله لفضى الحياة.

-3 انطلق الاتجاه الثالث من أزمة الهوية نفسها التي صدر منها الاتجاهان الآخران ، ولكنه - وهو اتجاه احتل مساحة واسعة في العالم الإسلامي دعا إلى تجزئة عطاء الغرب ومنجزه، فلم ينظر للغرب ككل لا يقبل التجزئة، وإنما دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية والتكنولوجية والحياتية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية والقيميّة.

يمكن القول ان الفلسفة الاجتهادية التي صاغها الإمام الصدر هي فلسفة متحررة إلى درجة كبيرة من العوامل الذاتية ومن ثقل الواقع، هذا في إطارها العام على الأقل وهو إطار مستمد من الدين ومن العقل معاً أو من العوامل الاجتماعية والتاريخية، إن قوة فلسفة الإمام الصدر تكمن في استيعابها لأزمة الحضارة المعاصرة من حيث هي أزمة قيم وفي تجاوزها لكل المذاهب الفلسفية عن طريق طرحها لنموذج حضاري بديل، ويرى أنّ سقوط الايديولوجيات الوضعية أمر لا مفر منه في الحضارة الغربية. فمصدر الأزمة يكمن في الحداثة نفسها لا الحداثة في ذاتها، أي من حيث هي عملية تغيير كل ميادين الحياة الاجتماعية ، بل الحداثة في صورتها الغربية وهي صورة تتميز بنفي الجانب الروحي في الإنسان وما ينتج عن هذا النفي من فصل السياسة عن الدين، واعتبار القضاياالميتافيزيقية مجرد رواسب لمرحلة تاريخية قد انقضت، وقد أدى نفي أو إبعاد الروحانية عن الحياة الاجتماعية إلى نفي أي أساس للقيم الأخلاقية، فأصبحت هذه الأخيرة مجرد انعكاس للواقع بدلاً من تغيير الواقع وتوجيهه(1).

وفي نقده المزدوج لكل من مناهج التغريب الواردة الى العالم الإسلامي ونقد الحضارة الغربية يقول ... لقد فشل الكثير من النماذج التقدمية ذات المنشأ والأصول الغربية في العالم الإسلامي، ويرجع حسب تحليل الصدر في مقدمة كتاب اقتصادنا

ص: 134


1- د.عامر عبد الأمير حاتم، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر،مجلة الأستاذ،ص43

إلى التناقض بين نماذج التقدم المقترحة وواقع الشعوب الإسلامية، بمعنى أن هناك تناقضاً بین الأدوات الفكرية للتحليل وعلاج الأزمات والحلول المقترحة وبين الواقع النفي والفكري والسوسيولوجي للشعب المسلم كان هو السبب في فشل النماذج التقدمية والتحديثية، ذلك أن من أهم عوامل نجاح القوانين والتشريعات والنماذج المقترحة التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وتجاوبهم العاطفي مع أهدافها، وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق، وهذا ما لا يتوفر في مثل هذه النماذج، ولذا حصلت قطيعة وتناقض بين الواقع والمشاريع، أما نموذج الحل المقترح بحسب الصدر ، فهو اكتشاف الذات والعودة إليها، فهوية الشعب الحقيقية هي المنطلق في النهوض (1).

وهنا نلاحظ استخدام الذات بعدها منظومة الوعي وبالتالي القاعدة التي يستند عليها مفهوم الهويات.

ولتأكيد الصدر على هويته الإسلامية فانه انتقد النظامين الاشتراكي والرأسمالي فأشار الى ان سقوط النظامين الاشتراكي والرأسمالي والذي توقعه المفكر الصدر هو تعبير عن حالة مرضية تنبئ عن دخول البشرية في مرحلة تاريخية جديدة تقتضي إعادة النظر بصورة جذرية في الفكر الغربي من الأساس، وفي كل جوانبه المعرفية والاجتماعية والأخلاقية، إن هذه المرحلة التاريخية الجديدة ستتحقق عندما يتم ربط الحياة الاجتماعية بالروحانية كما تتجلى في الإسلام، أي ربط التاريخ بالمثل الأعلى المطلق (الحقيقي)(2) .

ونفهم انه في هذا النقد يحاول توجيه منظومة الخلل الغربي وتقوية ضعف الموقف الفكري الإسلامي.

فقد وقع العالم الإسلامي بمرحلة النظر الى تجارب الأنظمة، فالتجارب وجدت نفسها أمام خيارين لا ثالث لها إما الأخذ بالاقتصاد الحر أو الاقتصاد الاشتراكي

ص: 135


1- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص 136
2- د. عامر عبد الأمير حاتم ، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر، مجلة الأستاذ، ص 45

فاخذ بعضهم بالحر والآخر بالاشتراكي لأنها وجدت فيه النقيض للاقتصاد الأوربي، وهو ما يدعمها في كفاحها في سبيل التخلص من السلطة السياسية التي تحكم البلدان الرأسمالية، أن أصحاب هذه التجارب، وبسبب الشعور النفي الذي عاشته الشعوب الإسلامية تجاه الاستعمار وما استتبعه من شك وريبة واتهام وخوف وتوجس من كل شيء يمت للغرب بصلة ناتج عن تاريخ مرير ولكفاحهم الطويل ضد الاستعمار، أصابهم الانكماش من كل شيء يرتبط بدول الاستعمار حتى فيما يتعلق بالجانب التنظيمي الحياتي في البلاد الأوربية مها كان صالحاً وجيداً في نفسه ومنفصلاً عن الاستعمار سياسيّاً، وقد أفرز هذا الانكماش عدم تفاعل أصحاب تلك الحركات التحرّرية مع كل النظام الحياتي والتنظيمي في الغرب، ووجدوا أن يقيموا نهضتهم التحرّرية وكيانها على نظام لا يمت لبلاد أوربا والاستعمار بصلة، فاتخذوا من القومية فلسفةً وقاعدةً في البناء الاجتماعي والتنظيم السياسي، ولكنهم وجدوا أن القومية ليست سوى رابطة دم ولغة (1).

ويشير الصدر الى إنّ القومية ليست إلا رابطة تاريخية ولغوية وليست فلسفة ذات مبادئ ولا عقيدة ذات أسس بل هي حيادية بطبيعتها تجاه الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائديّة والدّينيّة، ولذلك فهي بحاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معيّنة تجاه الكون والحياة

وفلسفة خاصة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي (2).

وفي اغلب تنظيراته الفكرية، نلاحظ تحذير المفكر الصدر من الاغتراب الخاص المتعلق بتضييع الهوية داخل الكيان الإسلامي، هذا مع انتقاده للجانب القومي أيضا سواء أكان الغربي أم العربي الإسلامي، فالبدائل التي لديه تتيح له التحرك بحرية.

وهناك نقطتان أساسيتان في تعاطي الصدر مع فكر الغرب ومنجزه الحضاري وصرحه الفكري، تتمثلان في تجاوز أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص والانبهار، والاستقلال في المنهج، ليتجاوز بذلك إشكالية التبعية المنهجية، وعلى وفق ذلك

ص: 136


1- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر،ص 125
2- منابع القدرة في الدولة الإسلامية ص: 16

فعندما نتحدث عن نقد الصدر للغرب، فإننا نتحدث عن العقلانية التي يشرك فيها الصدر مع الحداثة، بمعنى إعطاء قيمة للعقل ولمدركاته والوثوق بها، وكذلك عن العودة للذات وإبراز الأنا بكل ما يعنيه ذلك الإبراز من استخدام العقل وتفعيل قيمته وحركيته، فضلاً عن نقد الآخر نقداً حراً يتجاوز أزمة الهوية والانبهار(1) .

إن نقد الصدر لنظم الحضارة الغربية وإبرازه في مقابل ذلك لنظم النهوض الإسلامي، قد كرر تلك الثنائية التي صارت معبودة في كتابات من يعرفون بالمتنورين في العالم الإسلامي، ثنائية القديم والجديد، والتراث والمعاصرة، والتي استلت من الرؤية الغربية للتاريخ والتراث ، وهي ثنائية قضت بأن تكون الحضارة الغربية بعاداتها وقيمها وخصوصياتها مرجعية كونية يجب على كل الشعوب الاندماج في مساراتها وسياقاتها وتتبع كل خطواتها وآثارها، وهذا يعني وفق المنطق الذي يطرحه الصدر أن مفاهيم القديم والجديد والتقدّم مفاهيم نسبية وليست كونية عابرة للحدود والقارات وكل الأوضاع الثقافية والقيم المختلفة حول العالم (2).

فالإنسان وفق فهم الصدر للفكر الغربي أصبح لعبة في يد حركة التاريخ التي تتمحور حول البعد المادي المتمثل في الإنتاج والاستهلاك، فالإنسان بدلاًمن توجيه حركة التاريخ نحو أهداف أخلاقية وإنسانية، أصبح فريسة لهذه الحركة، فهي التي توجهه حسب منطقها الذي أنتج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بالإضافة الى استغلال الغرب للشعوب المستضعفة والعلاج ان يكون الإنسان هو الموجه للتاريخ ، ويجب التمييز في نظر الفيلسوف الصدر بين الحداثة كتقدم وبين ،التغريب أي تقليد الحضارة الغربية بصورة آلية دون إعادة النظر في أسس وقيم هذه الحضارة ؛ فالعقلانية والحرية والعدالة واحترام إنسانية الإنسان، ليست قيماً غربية، بل هي قيم كونية تستمد وجودها من تطلع الإنسان عبر التاريخ إلى الكمال، وهكذا فالغرب قد أعطى للحداثة صورة خاصة انتهت إلى أزمة حضارية شاملة، ويمكن لحضارة أخرى أن تعطي صورة أخرى واتجاهاً آخر للحداثة وللتقدم، وظهرت النفعية

ص: 137


1- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر ، ص 128
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص 136

والماركسية والبرجماتية والوجودية، كل هذه المذاهب قد فقدت عنصري الموقف النقدي وقوة التجاوز تجاوز الواقع لتغييره، فالفلسفة تتميز بالموقف النقدي الذي يمنحها قوة تجاوز الواقع الفاسد لتصور واقع أحسن منه إن فصل السياسة عن الدين وحصر الفلسفة في مجال فلسفة العلوم دون طرح للمشكلة الميتافيزيقية، جعل الفكر الغربي على غرار المجتمع الغربي لا يهتم بمشكلة المصير، فما هو مصير الحياة البشرية ؟ وما هو مصير الثقافة ؟ وما هو الهدف الذي تسعى نحوه (1)؟

إن مرجع هذا التناقض إلى أن الحضارة الغربية نابعة من واقع الإنسان الغربي نفسه، وبالتالي فهي محدّدة بحدود التجربة التي عاشتها شعوب الغرب، في حدود الزمان والمكان والروابط الموضوعية والاقتصادية والسياسية، التي تمخضت عنها تلك الحضارة، ومن ثمّ فمهما امتلكت حضارة الغرب من تفوّق مرحلي على بقية الشعوب إلا أن ذلك لا يبرّر لها منطقياً أن تنتزع إرادة الإنسان وأن تسيطر عليه بالقوة في سبيل تطويره، ولا أن تمارس الضغوط السياسية والاقتصادية على شتى البلدان لأجل إجبارها على الأخذ بنظمها ورؤاها في إدارة الحياة (2)

ان الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم بالفشل والانهيار المحقق في نظر الإسلام ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته والعوامل

التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها ، بل الى مفاهيمها المادية الخالصة(3) .

والنظام الرأسمالي مادي بكلّ ما للفظ من معنى، فهو إمّا من معنى، فهو إما أن يكون قد استبطن الماديّة، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها، وإما أن يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية، وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة، التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها، وهو - بكلمة - نظام مادّيّ، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة ماديّة واضحة الخطوط (4) .

ص: 138


1- د. عامر عبد الأمير حاتم، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر ، مجلة الأستاذ، ص 44
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر ، ص 128
3- محمد باقر الصدر ، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلادص 87 .
4- المدرسة الإسلامية ص: 49

لقد حلل الصدر الحداثة في الفكر الغربي تحليلاً علمياً، وتبين بأن جوانب خاصة بالتاريخ الغربي وظهرت الحداثة في الغرب كتمرد ضد الماضي وضد القيم المرتبطة بالكنيسة، يقول آلان تورين (لقد نظر الغرب إلى الحداثة وعاشها كثورة، أصبح العقل لا يعترف بأي شيء بصورة مسبقة سواء في ميدان العقيدة أم في ميدان التنظيم الاجتماعي والسياسي ما لم يكن قائماً على أدلة علمية، فمن العناصر الجوهرية لإيديولوجية الحداثة أنّ المجتمع هو مصدر القيم وأن الخير هو ما ينفع المجتمع، والشر هو ما يضر بوحدة المجتمع، لقد انتقد الصدر البعد المادي للحداثة وما ينتج من سعي للمنفعة واستغلال للشعوب... وكانت الحداثة في بداية ظهورها ثورة محررة للإنسان إلا أنها - في نظر الصدر - وبدلاً من أن ترتبط بالجانب الروحي الذي تصبح بفضله مفتوحة على المطلق وقد ألهت الحداثة الإنسان والواقع، فلا مرجعية خارج الإنسان وخارج الواقع ، فالقيم كلها تستمد وجودها من الإنسان ومن الواقع، ولذلك أصبحت المنفعة هي الغاية القصوى، كما أصبح الإنتاج والاستهلاك غاية تطلب لذاتها، وأصبح (1)

كان توجه الصدر في تعاطيه مع فكر الغرب قائما على مسلمة أن الإنتاج الداخلي( إبراز الأنا) هو المنهج الأسلم والطريقة الفضلى في التعاطي مع فکر ،الغرب، وأن هذا الإبراز هو الذي يتجاوز أزمة الهوية، أما عقدة الشعور بالدونية أمام الآخرين فتجاوزها يكون من خلال التعاطي النقدي والحوار الفكري مع الآخر، وعلى أساس نقدي (2)

وقد تشمل تلك الصورة ذات الواقع الغربي الذي تعرض الى تحدي الهوية، ولكن بصورة مختلفة، فالإنسان الأوربي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلاً أعلى وهي الحرية لأنه يرى أن الإنسان الغربي كان محطماً ومقيداً... سواء كان مقيداً في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنتها... أم أراد الإنسان الأوربي الرائد لعصر النهضة أن يحرر هذا الإنسان من هذه القيود... وهذا شيء صحيح، إلا هي

ص: 139


1- د. عامر عبد الأمير حاتم ، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر، مجلة الأستاذ، ص43.
2- مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب، قراءة في دراسات الشهيد الصدر، ص 129

أنّ الشيء الخاطئ في ذلك هو التعميم الأفقي، فإن هذه الحرية بمعنى كسر القيود قيمة من القيم وإطار القيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الإنسان، ليس هذا هو المثل الأعلى... هذا الإطار بحاجة إلى محتوى وإلى مضمون، وإذا جرد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم (1)

إن الصدر بين إنّ النظام الاجتماعي الذي آمنت به أوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفيّة مجرّدة أكثر منها آراء علميّة مجرّبة، ونتيجة لفهم عقلي وإيمان بقيم عقليّة محدودة أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجيّة والفسيولوجيّة والطبيعية (2)

المصادر

متولي موسى، الهوية الإسلامية في الغرب( المشكلة والحل ) ، مجلة الرائد، العدد 1998 1419 201 .

شلتاغ عبود، الثقافة الإسلامية، بين التغريب والتأصيل، دار الهادي، ط1، 1422ه- 2001.

د. فريد محمد أمعضشو، التغريب.. مفهومًا وواقعًا ، مجلة الوعي الإسلامي العدد 553 السنة 2011م، الكويت .http://www.alwaei.com/site/index

php?cID=487

مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العدد 2، السنة 1437، 2ه- 2016 - م، بيروت.

محمد باقر الصدر ، البنك اللاربوي في الإسلام، إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي الإمام الشهيد الصدر ، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم، 1245 ق – 1383ه-.

ص: 140


1- د.عامر عبد الأمير حاتم ، آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر ، مجلة الأستاذ العدد 203 السنة 1433ه- 2012م، ص 37 - 40 .
2- المدرسة الإسلامية ص: 33

محمّد باقر الصدر ، السيرة والمسيرة، دار العارف للمطبوعات، بيروت.

السيد محمد باقر الصدر بحث حول المهدي (عجل الله) ، تحقيق د.عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات، الطبعة الأولى، 1996م.

الكلمات القصار للشهيد السيد محمد باقر الصدر، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مركز نون للتأليف والترجمة www.almaaref.org الطبعة الأولى، 2010م- 1431ه- .

محمد باقر الصد، المدرسة الإسلامية، تقديم زكي الميلاد، دار الكتاب المصري، القاهرة – بيروت، 2011م.

هاشم الميلاني جمال الدين الافغاني ،قارئا الغرب، نقض قيم الاستعلاء الحضاري، مجلة الاستغراب، العدد4، بيروت، 2016م.

محمد حسين الطباطبائي، الإسلام والأديان الأخرى، مجلة الاستغراب- العدد 3 -2016م - بيروت.

ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، دار الهادي، ط1،1421ه- - 2001م.

أنور الجندي، تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين 1920-1940م ، دار الاعتصام.

د. حسن عيسى الحكيم، السيد محمد باقر الصدر بين فلسفة الفكر وأصالة المعرفة التاريخية، المركز الإسلامي الثقافي، 2016م.

حيدر حب الله، معالم الإبداع الأصولي - عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، موقع الشيخ حيدر حب ،الله http://hobbollah.com/articles/

محمد الحسيني ، محمد باقر الصدر حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البيضاء، 2005م.

حسن العمري، إسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر، ط1، دار الهادي ، 1424ه- 2003-م

ص: 141

مازن المطوري، مدخل الى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر، مجلة الاستغراب السنة الأولى، 2015م - 1436ه-.

إسماعيل اسماعيلي الشهيد الصدر وإصلاح الحوزة العلمية مطالعة في الرؤى والأعمال، ترجمة صالح البدراوي، نصوص معاصرة ، العدد 27 السنة7، 2012م 14333ه-

د.عامر عبد الأمير حاتم،آفاق الحداثة في فكر الإمام محمد باقر الصدر،مجلة الأستاذ، العدد 203 السنة 1433ه- - 2012م.

محسن الاراكي، الشهيد الصدر والمنجز الفكري والحضاري، مجلة نصوص معاصرة، فصليّة تعنى بالفكر الديني المعاصر ، العددان الأربعون والواحد والأربعون السنتان العاشرة والحادية عشرة ، بيروت، خريف ،2015م 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م،1437 ه- .

حيدر حب الله التفكير النقدي محمد باقر الصدر أنموذجا، هناك مستويات للنقد منها السطحي والموضوعي والبنيوي مجلة نصوص معاصرة، فصلية تعنى بالفكر الديني المعاصر ، العددان الأربعون والواحد والأربعون، السنتان العاشرة والحادية عشرة، بيروت، خريف 2015م، 1436 ه- ؛ وشتاء 2016 م 1437 ه- .

حيدر حب الله، مكونات المشروع الإسلامي، مجلة نصوص معاصرة، العدد 26، السنة 7، بيروت، 2012م - 1433ه-.

حسین جويد الكندي، البعد الفلسفي في صناعة التاريخ عند محمد باقر الصدر (قد )، موقع كتابات في الميزان http://www.kitabat.info/subject.php?id علي الأكبر الحائري منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، مجمع الفكر الإسلامي النجف، 1434ه- .

محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4.

ص: 142

مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر

مازن المطوري

(1)

يُقارب هذا البحث إشكاليات نقد الغرب في الفكر العربي الإسلامي الحديث. وقد استند في مسعاه إلى أحد أبرز المشروعات النقدية المعاصرة، حيث اتخذ الكاتب من الدراسات والأعمال النقدية للعلامة السيد محمد باقر الصدر حقلاً معرفياً لبلورة مدخل منهجي لنقد مكونات العقل الغربي.

سنقرأ فيما يلي مقاربة للمنهج النقدي الذي ظهر من خلاله الشهيد الصدر رؤيته للغرب فكراً وسلوكاً وأنظمة قيم. ولهذا سنجد أن الكاتب الشيخ مازن المطوري لم يشأ الوقوف على التظهيرات النقدية للموضوعات التي تناولتها أعمال الشهيد الصدر ، بقدر ما مضى إلى تظهير المنهج الذي تأسست عليه تلك الأعمال في سياق متاخماتها المعرفية النقدية لبنية الفكر الغربي.

«المحرر»

يومَ رُعْبَ الى أن أكتب مقالاً يتناول نقد السيد محمد باقر الصدر للفكر الغربي أحسستُ بكبير الأزمة التي تحكمنا في تعاطينا مع الغرب، ذلك أن تعاطينا مع الغرب تغلب عليه نظرةٌ ضيّقةٌ، فضلاً عن حاكمية الخيار السياسي، ومن نتائج ذلك الأحكامُ التعسّفيّة التي نَسمُ بها الأفكار والتجارب والرؤى التي قدمتها شعوب غرب المعمورة. ولعلّ المنشأ في ذلك كله هو ما سوف أُشير إليه في مطلع هذه المقال، أعني مشكلة

ص: 143


1- استاذ الفلسفة الاسلامية في حوزة النجف الاشرف / العراق

غياب المنهج وعدم الوضوح في الرؤية، فضلاً عن الشعور بالخوف والريبة إزاء كلّ فكرة يُصَدّرها لنا الغرب، وهذا بدوره ناشئ عن عوامل لسنا بصددها.

بناءً على ذلك وجدت أنّنا لسنا بحاجة لتظهير نقد السيد الصدر لفكر الغرب بقدر ما نحتاج إلى تظهير المنهج الذي انطلق منه الصدر في نقده، وإلى طريقة التعامل التي مارسها في أعماله الفكرية وهو يتناول مقولات مفكري الغرب، والغاية التي كان يسعى لأجلها. فبدلاً من الوقوف مليّاً عند نقد الصدر لاقتصاد الغرب أو لفلسفته أو مقولات الأخلاق والسياسة وحركة التاريخ الحري بنا الوقوف عند المنهج في ذلك النقد، وهكذا كان.

وعلى وفق ذلك جاءت هذه الأوراق التي أعترف بنقصها وحاجتها للمراجعة والتتميم، فلا يدعي الكمال سوى مغرور أو صاحب (أنا) منتفخة. وأعني ب-(الأنا) هنا مدلولها الأخلاقي لا المدلول الذي يتحدث عنه الصدر، عندما جعلها عنواناً في بعض حلقات مشروعه الفكري (فلسفتنا) ،(اقتصادنا)، حيث كان يشير بها إلى الهوية والعودة إلى الذات.

فإذن هذه الأوراق مدخل لنقد الصدر للغرب ولا تدخل في تفاصيل نقده، فلذلك قصة أخرى تحتاج جهوداً كبيرةً ممن لهم رسوخ في الفهم.

ما المنهج الأسلم في قراءة الغرب ونقده؟

من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا التساؤل والانسياق خلف الأجوبة الجاهزة والعفوية يوقعنا كما فعل بالكثيرين - في منزلقات ووديان تخلف آثاراً مدمّرة، لا تقتصر تداعياتها على الفكر وإنما تمس الواقع بالصميم.

إن التعاطي مع فكر الغرب ونقده يمثل إشكالية كبيرة في عالمنا الإسلامي، ولا تقف هذه الإشكالية عند بعد من أبعاد مُنتَج الغرب، بل تمتد لتشمل كل الأبعاد: السياسية والاقتصادية والفلسفية والاجتماعية، ولا تنحصر كذلك في فئة من الناس

ص: 144

دون أخرى، بل تشمل الاتجاه الديني كما تشمل غيره.

لعلّ المطالعة الاستقرائية للكتابات التي تعاطت مع فكر الغرب توقفنا على اتجاهات ثلاثة انطلقت في تعاطيها مع المنجز الغربي بأبعاده المختلفة من إشكالية مزمنة، هي أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص :

1 -ينظر أصحاب الاتجاه الأول إلى الغرب ككل غير قابل للتفكيك والتجزئة؛ فهو هوية واحدة موحدة تمثل عنوان الغازي المستعمر الذي تجب مجافاتُه والقطيعةُ معه، والتعامل مع عطائه بحذر الشعوب المقهورة.

2 -بينما ينظر أصحاب الاتجاه الثاني رؤية معاكسة للاتجاه الأول وإن اتفقوا في الانطلاق من أزمة الهوية، حيث يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى ضرورة التعامل مع هوية الغرب الواحدة الموحدة بوصفها كلاً غير قابل للتجزئة والتفكيك، ولكنه المنقذ المستنير الذي يجب اتباعه حذو القذة بالقذة. فحتى نواكب حياة (البشر) - كما يقول هؤلاء - لا بد لنا من الأخذ بكل إنجازاته ومنتجه مأخذ الواله لفضلي الحياة.

وقد تمثل هذا الاتجاه في كتابات قطاع كبير في العالم الإسلامي من الذين دعوا إلى اللحوق بركب حضارة الغرب على كافة الأصعدة حتى عرفوا بدعاة التغريب. والأسماء في ذلك كثيرة ومعروفة فلسنا بحاجة لاستعراضها أو لنقل نصوصهم. ففي تصور هؤلاء الباحثين أن المرجع الوحيد لخروج البلاد العربية والإسلامية من واقعها المرير والمتخلّف في شتى المجالات هو اللحوق بالغرب، واعتبار مفاهيمه الملاذ الآمن في ذلك النهوض المنشود فالحداثة والتحديث والتنمية والنهضة في فكر هذا النمط من الناس يجب أن تكون امتداداً للغرب، وهو مرجعية كل ذلك.

وقد أثبتت الوقائع والأحداث أن هذا النمط من التفكير طوباوي وبعيد عن واقع الشعوب الإسلامية سيوسيولوجيّاً وتاريخيّاً. ذلك أن جزءاً كبيراً من حداثة الغرب تحقق عن طريق استعمار الشعوب وقهرها ونهب ثرواتها وامتصاص دمائها ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث في العالم الإسلامي. وفضلاً عن ذلك فإن أفكار

ص: 145

وتجاربهم الغربيين تشكلت في أرض ثقافية مناسبة لها وبالتالي فلا يمكن تعميمها على كل الشعوب والبلدان، ومما يشهد على ذلك أن الشعوب والدول الغربية نفسها مختلفة بينها فيما يرتبط بالممارسة والتجارب السياسية والاقتصادية ومنظومات القيم والأفكار وإن جمعتها أطر عامة.

3 - انطلق الاتجاه الثالث من أزمة الهوية نفسها التي صدر منها الاتجاهان الآخران، ولكنه - وهو اتجاه احتل مساحة واسعة في العالم الإسلامي- دعا إلى تجزئة عطاء الغرب ومنجزه ، فلم ينظر للغرب ككل لا يقبل التجزئة، وإنما دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية والتكنولوجية والحياتية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية والقيمية.

وبتعبير آخر: إن أنصار هذا الاتجاه التفكيكي دعوا إلى نبذ كل ما يرتبط بمقولة العقل العملي وما ينبغي وما لا ينبغي فعله من مُنتَج الغرب. في إطار هذا الاتجاه كتب سيد قطب قائلاً :

«إن اتجاهات الفلسفة بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها - عدا الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة له - ومباحث الأخلاق بجملتها، واتجاهات

التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها - فيما عدا المشاهدات والمعلومات المباشرة، لا النتائج العامة المستخلصة منها، ولا التوجهات الكلية الناشئة منها - إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي قديماً وحديثاً، متأثرة تأثيراً مباشراً بتصورات اعتقادات الجاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها - إن لم يكن كلها - يتضمن في أصوله المنهجية عداءً ظاهراً وخفيّاً للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي على وجه خاص...

إن حكاية أن الثقافة تراث إنساني لا وطن له ولا جنس ولا دين هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية دون أن تتجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية الميتافيزيقية لنتائج هذه العلوم، ولا التفسيرات الفلسفية للإنسان نفسه ونشأته وتاريخه ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعرية جميعاً،

ص: 146

ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهودية العالمية .. » .

وهكذا نجد أتباع هذا الاتجاه يقرّرون أن الإنسان فيما يرتبط بمقولات العقل العملي لا بد أن ينبذ فكر الغرب وهويته ومنتجه، أما فيما سوى ذلك من علوم ومنجزات وتقنيات فلا ضير من الأخذ بها وإقامة الحياة عليها .

ومن الواضح لنا ونحن نستعرض هذا الاتجاه المفكك بين مُنتَج ومُنتَج لواعية واحدة أنه لا يصدر عن تأسيس واضح ومنهج مؤسس ، وإنما هاجس الهوية والعاطفة، فضلاً عن الغيرة الدينية والأخلاقية - وهي محمودة على كل حال تلعب دوراً كبيراً في هذا التعاطي التفكيكي مع منجز الغرب.

المنهج الأسلم

لم يرتض الشهيد الصدر كلّ المناهج المتقدمة في التعاطي مع فكر الغرب، ذلك أن الأخذ بتلك المناهج يجر المشاكل الكثيرة، فضلاً عن افتقارها لأساس منهجي ثابت وهوية تنطلق منها، وإنما رأى أن المنهج الأسلم في التعاطي مع فكر الغرب لا بد أن يكون المنطلق فيه الإنتاج الداخلي وإبراز الأنا الفكري، وكما سار على ذلك في مختلف مؤلفاته. فالقاعدة التي ينطلق منها الصدر في تعاطيه مع نتاج الغرب لا تتضمن أزمة هوية، وإنما ينطلق من مسلّمة أن الإنتاج المعرفي الداخلي هو السبيل الوحيد والصراط السوي لتحقيق هويتنا، وأن التعاطي النقدي والحواري مع فكر الآخرين هو الذي يجتاز عقدة الشعور بالدونية أمامهم. ففي تشخيص الصدر أن أزمة المعرفة في العالم الإسلامي تكمن في غياب الإنتاج الداخلي الذي يحقق الذات فضلاً عن استيراد مناهج الآخرين ورؤاهم المنتجة ضمن الإطار المناسب لمناخاتهم.

وعلى وفق هذه المسلّمة سار الشهيد الصدر في مشروعه الفكري في مختلف كتاباته التي تناول فيها بالنقد والتحليل والتمحيص رؤى الغرب وأفكاره ك-: فلسفتنا واقتصادناوالأسس المنطقية للاستقراء ، والسنن التاريخية في القرآن الكريم، وغيرها.

ص: 147

إشكالية التبعية المنهجية

فضلاً عن تشخيصه لأزمة الهوية التي عانت منها اتجاهات التعاطي مع فكرالغرب،وضمور الذات، رأى الصدر في توجهات أخرى حاولت الخروج عن منتج الغرب أنها لم تستطع أن تنفذ بجلدها من مشكلة الوقوع في شراك الغرب مجدداً بسبب التبعية في المنهج، فاستيراد المنهج، حتى مع اختلاف المادة والتجربة التي تصاغ به، والواقع الذي يكون مسرحاً لتطبيقه، لا يغير من واقع المشكلة وجوهرها شيئاً، وإنما يعني الوقوع في مركب الأزمة نفسها: الهوية/ الدونية/ التبعية.

وقد عالج الشهيد الصدر إشكالية المنهج في كتابات متعدّدة لاسيّما في کتابیه القيّمين

(اقتصادنا) و(الأسس المنطقية للاستقراء). وفي خصوص الأخير فقد قدم منهجاً في الابستمولوجيا ألقى بظلاله على مختلف صنوف المعرفة، الدينية واللاهوتية، والفلسفية وقضايا العلوم، وحق له أن يتربع على عرش المعرفة إلى جانب المناهج والنظريات الأخرى، كما سنأتي على ايضاحه مجملاً.

وعلى مستوى المنهج الاقتصادي رأى الصدر أن تجارب سياسية عديدةً في داخل العالم الإسلامي حاولت الاستقلال عن التبعية السياسية الغربية، وعن سيطرة الاقتصاد الأوربي الذي يمتص خيراتها، وذلك من خلال الاعتماد على القدرات الذاتية في التطوّر الاقتصادي ، والتغلب على مظاهر التخلّف المتعددة، والسير في طريق التنمية الشاملة، ولكنها من الناحية العملية فضلاً عن النظرية، لم تستطع أن تخرج عن الفهم الغربي للمشكلة في أبعادها المختلفة السياسية والاقتصادية، فسلكت المنهج الأوربي نفسه لاسيما في الاقتصاد.

وبسبب من هذا السلوك والتبعية المنهجية وجدت هذه التجارب نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما : إما الأخذ بالاقتصاد الحر القائم على الأساس الرأسمالي، وإما الأخذ بالاقتصاد الاشتراكي فذهبت تجارب صوب الأخذ بالاقتصاد الحر بسبب نفوذه في عالم الحياة، ورأت في شيوعه في دنيا الغرب مبرر نجاح، فيما جنحت تجارب أخرى للأخذ بالاقتصاد الاشتراكي لأنها وجدت فيه النقيض للاقتصاد

ص: 148

الأوربي، وهو ما يدعمها في كفاحها في سبيل التخلص من السلطة السياسية التي تحكم البلدان الرأسمالية.

أما نتيجة هذه التجارب فكانت أن وجدت نفسها في أحضان الهيمنة الغربية التي فرّت منها، والسبب في ذلك يرجع بحسب تشخيص الصدر إلى التبعية في المنهج، فضلاً عن الفشل في مجال التطبيق لكلا المنهجين الاقتصاديين في هذه التجارب السياسية.

وعلى مستوى التبعية في المناهج السياسية والتي أعادت حركات التحرر السياسي والنهضة في البلاد الإسلامية لأحضان الغرب، في الوقت الذي حاولت فيه التخلّص من تلك التبعية، فقد تمثلت في تلك التجارب التي اتخذت من القومية العربية شعاراً .لها. ذلك أن أصحاب هذه التجارب، وبسبب الشعور النفسي الذي عاشته الشعوب الإسلامية تجاه الاستعمار وما استتبعه من شك وريبة واتهام وخوف وتوجس من كل شيء يمت للغرب بصلة، ناتج عن تاريخ مرير وطويل في الكفاح ضد الاستعمار والاستغلال أصابهم الانكماش من كل شيء يرتبط بدول الاستعمار حتى فيما يتعلق بالجانب التنظيمي الحياتي في البلاد الأوربية مهما كان صالحاً وجيداً في نفسه ومنفصلاً عن الاستعمار سياسياً.

وقد أفرز هذا الانكماش عدم تفاعل أصحاب تلك الحركات التحررية مع كل النظام الحياتي والتنظيمي في الغرب، ووجدوا أن يقيموا نهضتهم التحررية وكيانها على نظام لا يمت لبلاد أوربا والاستعمار بصلة، فاتخذوا من القومية فلسفةً وقاعدةً في البناء الاجتماعي والتنظيم السياسي ولكنّهم لما وجدوا أن القومية ليست سوى رابطة دم ولغة وتاريخ ولا تتضمن أي فلسفة أو دلالات عقيدية، وإنما هي بطبيعتها حيادية تجاه مختلف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والرؤى المذهبية والدينية، عمدوا إلى صياغة تلك القومية بوجهة نظر عن الكون والحياة تفلسف لهم القومية وتجعلها صالحة للتنظيم الاجتماعي والسياسي ، ولذا نادوا بالاشتراكية العربية.

ص: 149

وهنا عادت هذه التجارب إلى النقطة نفسها التي هربت منها، ذلك أن وسم التجربة بالاشتراكية العربية لا يعبر إلا عن زيف ظاهري وشكلي، أما المضمون والجوهر فهو التبعية للغرب في رؤيته السياسية، إذ أن توصيف الاشتراكية بالعربية لا يغير من واقع الاشتراكية شيئاً، الاشتراكية التي هي واجهة الأجنبي، ومجرّد إضافة كلمة العربية للاشتراكية لا يميزها عن الاشتراكية السوفياتية أو الصينية أو الكوبية أو غيرها من الاشتراكيات، لأن المضمون واحد.

وهكذا نجد أن هذا التخبط في التجارب الاقتصادية والسياسية ناجم عن إشكالية في المنهج المتبع ، وهذه الإشكالية تتمثل في التبعية للغرب واقعاً وتطبيقاً على الرغم من أن المنطلق والمبتغى هو الخروج من إطار التبعية السياسية والاقتصادية للغرب.

أما على مستوى العلوم الطبيعية والتجريبيات واللاهوت، فقد ابتكر الشهيد الصدر نظرية ومنهجاً جديداً جعل التعاطي مع العلوم التجريبية في صف واحد مع اللاهوت والميتافيزيقيا، بحيث يكون الأساس المنطقي للإيمان بالطبيعيات نفسه مبرراً للإيمان بالله تعالى والغيب والميتافيزيقيا، ورفض أحدهما يستلزم رفض الآخر، كما شرح ذلك مفصلاً في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.

عقلانية الصدر / قيمة العقل

وحتى نستكمل هذه النقطة المتعلقة بالمنهج ودوره في النتائج، لا بد من الإشارة ونحن بصدد الحديث عن الأسس المنطقية للاستقراء إلى أن السيد الصدر في كتاب (فلسفتنا) أشار إلى أنّ المنهج الذي يبرز (الأنا) الفكري ويحقق الهوية هو المنهج العقلي والطريقة العقلية في التفكير ، وهذا هو المراد بعقلانية الصدر، بمعنى إعطائه قيمة للعقل ومدركاته، سواء في مجال البحث الميتافيزيقي واللاهوتي، أم في مجال البحث الابستمولوجي(نظرية المعرفة)، وكذلك فيما يرتبط بالتحليل الاجتماعي والتاريخي. ذلك أن بعض المفكرين المسلمين الذين تعاطوا مع فكر الغرب قد وقعوا في إشكالية منهجية عندما تصوروا أن منهج التفكير العام في الإسلام هو

ص: 150

المنهج الطبيعي التجريبي، وقد نسبوا ذلك للقرآن الكريم بوعي وبغير وعي، ودون أن يلتفتوا إلى أنهم يسايرون المناهج المادية التي ترفض الميتافيزيقيا والألوهية.

أما السيد الصدر في تعاطيه مع فكر الغرب فلم يجد حرجاً في إعلان أن منهج الإسلام العام وطريقته في التفكير هي الطريقة العقلية، على الرغم من أن المعرفة الغربية في العصور المتأخرة شهدت كساداً في المنهج العقلي فيما صار التمركز باتجاه المنهج التجريبي، كما ولم يجد حرجاً في إعلان أن مفهوم حضارتنا عن العالم والوجود مفهوم إلهي ، بالرغم من أن توجهاً كبيراً في الغرب انتهى من تأليه الإنسان إلى مسألة موت

(الإله).

فهذه التداعيات في دنيا فكر الغرب لم توجد هزةً في نفس الصدر كما أوجدتها في نفوس آخرين من آخرين من الكتاب العرب والمسلمين، عندما صرّحوا أن البحث في الإلهيات والميتافيزيقيا ينحصر باستخدام المنهج الحسي التجريبي الذي يستخدم في مجال اكتشاف الطبيعة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ادعوا أن المنهج القرآني في الإلهيات ينحصر بقراءة الطبيعة وعالم الخلق.

فالسيد الصدر وعلى الرغم من أنه قد أسس منطقياً لمنهج البحث الطبيعي والتجريبي، وجعل هذا البحث مع مسألة الألوهية يمتلكان أساساً منطقياً واحداً، بنحو يقف الباحث فيهما على مفترق طرق ؛ فإما الإيمان بهما معاً، وإما رفضهما معاً، ولا يمكن التفكيك في الإيمان، إلا أنه ومع ذلك كله بقي مصرّاً على المنهج العقلي في التفكير والمفهوم الإلهي للعالم والوجود.

وعلاوة على ذلك، فالسيد الصدر وفي إطار بحثه اللاهوتي عن مسألة إثبات الصانع، قد أشار عند حديثه عن الدليل الفلسفي على إثبات الصانع، إلى أن القرآن الكريم - وخلافاً لأولئك النفر من المفكرين المسلمين- تناول هذا الدليل الفلسفي وقضاياه في عدد من آياته.

فعقلانية الصدر تكمن في إعطاء قيمة للعقل ولمدركاته وتأكيده أنّ المعرفة العقلية

ص: 151

تحظى بالثقة. ولم يتزعزع هذا الايمان بالعقلانية عند الصدر بالرغم من ولوجه صلب البحث في التأسيس لمنطق التجريب والاستقراء.

وبتعبير آخر إن الصدر لا يرى ذلك الانفصام الذي أوجدته العدمية بين الايمان والمعرفة، وذلك بإعطاء قيمة للعقل ومدركاته البديهية من جهة، وبالتأسيس لمنطق الاستقراء العلمي من جهة ثانية.

ومن كل ما تقدم يمكننا أن نقول : إن هناك نقطتين أساسيتين ومرتكزين اثنين في تعاطي الصدر مع فكر الغرب ومنجزه الحضاري وصرحه الفكري، تتمثلان في تجاوز أزمة الهوية وعقدة الشعور بالنقص والانبهار ، والاستقلال في المنهج، ليتجاوز بذلك إشكالية التبعية المنهجية.

وعلى وفق ذلك فعندما نتحدث عن نقد الصدر للغرب، فإننا نتحدث عن العقلانية التي يشترك فيها الصدر مع الحداثة، بمعنى إعطاء قيمة للعقل ولمدركاته والوثوق بها، وكذلك عن العودة للذات وإبراز الأنا، بكل ما يعنيه ذلك الإبراز من استخدام العقل وتفعيل قيمته وحركيته، فضلاً عن نقد الآخر نقداً حراً يتجاوز أزمة الهوية والانبهار.

بين الأصالة النقدية والنزعة التلفيقية

في إطار تفاعل المفكرين العرب والمسلمين مع فكر الغرب ظهرت تيارات فكرية متعددة، قامت في جوهرها على أساس التوفيق والتلفيق بين الموروث العربي الإسلامي من جهة والمنتج الغربي من جهة ثانية، اعتماداً على المناهج الوضعية في صياغة وبلورة المفاهيم، فضلاً عن المنهج، فبرزت في ظل هذا التدافع والتفاعل تيارات اليسار الإسلامي التي تقاسمتها توجهات مختلفة كتوجهات الدكتور على شريعتي وتوجهات الدكتور حسن حنفي والدكتور محمد عمارة في حقبة زمنية معينة، وغيرهم.

وإلى جانب ذلك برزت تيارات حاولت التوفيق بين الماركسية والإسلام، فيما ظهرت توجهات حاولت صياغة فلسفة وجودية عربية كما تجلى ذلك في مساعي الدكتور عبد الرحمن بدوي.

ص: 152

وواضح أن التلفيق بين الأفكار والمنتجات المختلفة البيئة الثقافية والفضاء المعرفي الذي ولدت فيه، لا يقوم على منهج واضح، بقدر ما يقوم على تهجين للفكر ينتج تضخماً في الكلمات وخواء في المعنى، فضلاً عن المجازفات الفكرية والتشوهات المعرفية والعقيدية التي تحصل بسبب النزعة التلفيقية.

في قبال ذلك كله، كان منهج السيد الصدر أبعد ما يكون عن النزعة التوفيقية والتلفيقية، وإنما اعتمد النقد كأساس. فالصدر كان قد حدد في الأصل اطاراً معرفياً للطرح الإسلامي عقيدة وفكراً، منطلقاً في ذلك كله من مفاهيم الإسلام ذاته كالتوحيد وخلافة الإنسان وعقيدة المعاد، وطرح في ضوء هذه المفاهيم علاقة الفكر بالتاريخ والمجتمع، مؤصلاً للواعية في علاقتها مع حركة التاريخ، ونقد العقل، ومناهج العلوم الإنسانية واللاهوتية .

فالسيد الصدر وخلافاً لآخرين من تيار المحدثين كأمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الرحمن بدوي ومحمد أركون وفؤاد زكريا وطيب تيزيني، ،وغيرهم، ولج أفقاً جديداً في ميدان البحث الفلسفي والفكري بشكل عام، فلم يستخدم مفاهيم الحداثة والفلسفة الغربية في دراسته للتاريخ والتراث الإسلامي والعقيدة الدينية الإسلامية فابتعد بذلك بالتاريخ والدين عن مذاهب الوجودية والماركسية والبنيوية وغيرها من تمظهرات الفلسفة الغربية، لإيمانه باختلاف الفضاء النموذجي لكل ميدان.

إن منهج الصدر في دراساته المتنوعة قد اتسم بالأصالة والأمانة للميدان الذي مارس النشاط الفكري والثقافي فيه، ولم يخرج لنا مزيجاً تلفيقياً لا ينتمي للتراث ولا للمعاصرة، كما نرى في أعمال الكثيرين والإصدارات المتتابعة الظهور كل يوم فالصدر لم يصدر في طرحه لعلاقة الفكر الإسلامي بالفكر الغربي من موقع العاطفة، ولا الانفعال أو الانبهار والتبعية والتقليد مفاهيم ومنهجاً، وإنما كان يصدر في كل ذلك عن تأسيس وتأصيل علمي ونقدي.

ص: 153

إبراز الأنا ونقد الآخر

أسلفنا أن توجه السيد الصدر في تعاطيه مع فكر الغرب قائم على مسلّمة أن الإنتاج الداخلي (إبراز الأنا) هو المنهج الأسلم والطريقة الفضلى في التعاطي مع فكر الغرب، وأن هذا الإبراز هو الذي يتجاوز أزمة الهوية، أما عقدة الشعور بالدونية أمام الآخرين فتجاوزها يكون من خلال التعاطي النقدي والحوار الفكري مع الآخر.

وعلى أساس هاتين الركيزتين سار الشهيد الصدر في مشروعه الفكري وفي مختلف مؤلفاته، التي تناول فيها المشروع الحضاري بأبعاده المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والخلقية وغيرها .

ومن الواضح أن إبراز (الأنا) الحضاري في الإسلام ونحن أمام نصوص متناثرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، إبرازاً في مختلف المجالات، يتطلب احاطة وشمولية وجهداً نظرياً تنوء به العصبة أولو القوة، وقد عمل الشهيد الصدر في هذا الميدان وهو الفارس الوتر ، وأخرج لنا أعمالاً سارت في هذين الخطين المتوازيين: إبراز الأنا، ونقد الآخر، كما نلاحظ ذلك في كل من : فلسفتنا، اقتصادنا، الأسس المنطقية للاستقراء، الإسلام يقود الحياة، والسنن التاريخية في القرآن الكريم. ففي هذه الأعمال قدم لنا الصدر التصورات الإسلامية المتكاملة الأسس في شتى المواضع التي تناولها بحثاً وتعميقاً وتأصيلاً، وأعطانا نظريات متكاملة في مقومات النهوض الحضاري، حتى أضحى المُنظّر الرائد للنهضة الإسلامية.

لقد انتقل الصدر في كتاباته من التعامل مع الإسلام كنصوص إلى عرضه كنظريةمتكاملة

، ذلك أن المجتمع المسلم في عصر نزول الوحي: التشريع والنص قد عرف الإسلام من خلال تطبيق تشريعاته وتعاليمه على أرض الواقع، حتى فيما يرتبط بالجوانب الاجتماعية، والجوانب الأخرى ذات الدلالات العامة. فالرسول صلى الله عليه وآله لم يطرح الإسلام كنظريات عامة وإنما طرحه من خلال تطبيق خارجي وتشريعات حسب الحاجة ومتطلبات الحياة الجديدة التي عاشها المجتمع المسلم والتي كان يقودها بنفسه ، ولذا لم يكن المجتمع أو آحاد المسلمين بحاجة إلى تصور

ص: 154

النظرية والإحاطة بأبعادها المختلفة. ولكن في مثل زماننا وبعد انحسار الإسلام عن مسرح الحياة والتطبيق، ومواجهة الإنسان المسلم لمختلف النظريات المذهبية والعقائدية والأيديولوجيات المختلفة، صارت ضرورة ملحة إلى عرض الإسلام كنظرية متكاملة، وكذا لأجل مواجهة النظريات المختلفة وهذا ما عمل عليه السيد الصدر في كتاباته المختلفة، فقد أراد أن يطرح التصورات الإسلامية المتكاملة في المجالات المختلفة التي تناولها، فإبراز الأنا يتطلب القيام بكل هذا المجهود النظري والفكري الدقيق وقد جمع السيد الصدر وهو يعمل على هذا المجهود بين الريادة العلمية وسحر البيان وعمق الطرح.

أما نقد الآخر، فهو مجهود يحتاج لاستيعاب فكر الآخر استيعاباً شاملاً ودقيقاً، وكذا عرضاً أميناً واعياً وبالاستناد لمصادره، ومن ثم نقده وتسجيل الملاحظات عليه في إطار ذلك الفكر ومنهجه، وليس في إطار منهج الخصم الفكري (الأنا).

وبعبارة أخرى : إن نقد الآخر يتطلب نقده في مرتكزاته الأساسية وبناه التحتية، وكذا من خلال إبراز تهافته الداخلي وبيان اللوازم الباطلة له، بحيث لو اطلع عليها أصحاب ذلك الفكر لما وسعهم الالتزام بتلك النتائج واللوازم الباطلة.

وهذا يعني أن نقد الآخر يقتضي المرور بمرحلتين : مرحلة النقد المبنائي من خلال نقض أصل الرؤية والأساس الفكري، ومرحلة النقد البنائي من خلال بيان التداعيات والآثار السلبية واللوازم الباطلة لفكر الآخرين ورؤاهم.

وبتتبع الاعمال الفكرية للصدر نجده قد سار في سعيه لإبراز الأنا ونقد الآخر، وفق هذه الخطة بأمانة ودقة عاليتين، فعلى مستوى ارجاع الأفكار لأصحابها والاستناد لمصادرهم، نجده قد أولى عناية فائقة في مؤلّفاته بالرجوع لمصادر الآخر الأساسية، أو لمصادر المؤمنين بذلك الفكر حتى لو لم يكونوا من مؤسسيه ورواده، ولم ينقل فكرة عن خصومه الفكريين بالمعنى والمضمون، بل كان يعمد إلى إثبات نصوص الأفكار ، كما ولم يعمد في مقام استعراض أفكار الآخرين إلى الاستعانة بمصادر

ص: 155

خصومهم كما يفعله كثيرون، فهذا ليس من الأمانة العلمية في شيء ومخالف للقواعد الأخلاقية.

كما ابتعد الصدر وهو يمارس نقد الآخر عن الاسقاطات النفسية ومناقشة النوايا وخبايا النفوس، إذ معرفة النوايا أمر لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، وإنما اعتمد على الواضح والصريح من أفكارهم المبثوثة في كتاباتهم ومصادرهم.

أما استيعاب فكر الآخرين وعرضه، فقد كان السيد الصدر أُعجوبة في ذلك، حتى أنّه يخيّل للقارئ وهو يطالع عرض الصدر للماركسية واستيعابه لها أنه ماركسي من الطراز الأول ومن كبار مفكريها ، وهكذا فيما يرتبط ببقية المذاهب الفكرية والفلسفية.

وفيما يرتبط بالنقد المبنائي والبنائي، نجد السيد الصدر وهو يستعرض المذاهب الفكرية المتعددة يعمد أولاً إلى نقد أركان تلك المذاهب وأسسها، ثم ينتقل إلى النقد البنائي الداخلي من خلال بيان التداعيات والآثار واللوازم الباطلة لتلك الأفكار، وقد سار على هذه الطريقة في نقده لكل الأفكار التي تناولها في اعماله الفكرية.

الحفر في نظم الحضارة

إن عمليتي نقد الآخر وإبراز الأنا (العودة إلى الذات) بكل ما تتضمنانه من تأصيل منهجي ونظري، تتلخصان في كونهما المعبر التفصيلي عن نُظم الحضارة وأسسها . إذ من الواضح أن الحضارة - أي حضارة - تتقوّم بأربعة نُظم أساسية: النظام العقلي والفكري، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي، والنظام الخُلُقي، وفي كل نظام من هذه النظم توجد شبكة مترابطةً من العلاقات.

وجوهر عمليتي نقد الآخر وإبراز الأنا التي اضطلع بها الصدر تتمثل فی أنه أراد إبراز نُظم الحضارة الإسلامية وأسس قيامها، فيما نقد الآخر الغربي في أساس حضارته من خلال دراسة نظمه السياسية والاقتصادية والخلقية والعقلية.

من هنا يتضح لنا أن الصدر كان بصدد مشروع نهضوي كبير سعى له في أعماله

ص: 156

الفكرية المختلفة، فقد رام من وراء مجهوده الضخم تقديم بديل حضاري من حيث النظم والمرتكزات عن حضارة الغرب، فضلاً عن نقده لنظم تلك الحضارة كما سنتعرف على ذلك بشكل مجمل في القادم من حديث:

-1 النظام الاقتصادي:

على مستوى النظام الاقتصادي سعى الصدر لنقد النظام الاقتصادي الغربي (نقد الآخر) ومن ثم الى تقديم نظام اقتصادي إسلامي كفيل بمعالجة المشاكل التي يعانيها ذلك النظام (إبراز الأنا). وقد خص لهذا المشروع كتابه الكبير والقيم (اقتصادنا)، فكتاب اقتصادنا كما عرفه الصدر: دراسة موضوعية تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام في أسسها الفكرية وتفاصيلها.

وقد جعل الكتاب في قسمين: خص القسم الأول منه لنقد الآخر الغربي في أسس نظاميه الاقتصاديين المعروفين الاشتراكي والرأسمالي، من خلال دراسة نقدية لكل من المذهبين في أسسهما ونظريتيهما دراسة علمية مستوعبة. فقد درس الماركسية في نظريتها المادية التاريخية والأسس التي تقوم عليها، ودرسها بما هي مذهب اقتصادي يقوم على أساس الاشتراكية ثم الشيوعية.

وكذا فعل مع الرأسمالية، فقد درسها في خطوطها المذهبية العامة، مركّزاً نقده على النظام الاقتصادي الرأسمالي.

وبعد انتهائه من دراسة هذين النظامين والمذهبين عقد البحث للحديث عن معالم

النظام الاقتصادي البديل (إبراز الأنا)، أعني المعالم العامة للنظام الاقتصادي الإسلامي، فتحدث عن الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي وعن علاقات التوزيع وانفصالها عن شكل الإنتاج، وفضلاً عن حلول المشكلة الاقتصادية من وجهة نظر الإسلام.

أما ثاني القسمين، فقد خصّه الصدر بعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي، في ضوء تشريعات الإسلام ومفاهيمه وأحكامه التي ترتبط بالحقل الاقتصادي والثروة، وقد أبدع الشهيد الصدر في هذا الجزء ابداعاً قل نظيره.

ص: 157

وقد أقام الصدر جهده النظري في اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام على أساس عمليتين مترابطتين: الأولى تجميع عدد من التشريعات والمفاهيم الإسلامية التي يمكنها أن تلقي الضوء على عملية اكتشاف المذهب الإسلامي في الاقتصاد. والثانية تفسير تلك المجموعة من التشريعات والمفاهيم تشريعاً نظرياً موحداً يبرز المحتوى والمضمون المذهبي للاقتصاد الإسلامي.

من كل هذا يتضح لنا أن الصدر على مستوى النظام الاقتصادي الذي هو نظام أساس من نظم الحضارة، سار في خطين متوازنين: نقد الآخر وإبراز الذات.

2- النظام السياسي:

فيما يخص النظام السياسي، فقد أولاه السيد الصدر كذلك عناية وهو ينظر لمشروعه أعني العودة إلى الذات مع نقد الآخر. ولا يخفى ان النظام السياسي في الحضارة يقوم على مجموعة من العناصر تتمثل في القانون ومؤسسات الدولة والأسرة وما أشبه بكل ما فيها من تفاصيل.

وقد تناول الشهيد الصدر النظام السياسي في كثير من عناصره في كتابات متعددة، أبرزها السلسلة التي صدرت في ست حلقات بعنوان : الإسلام يقود الحياة، والتي تناول فيها اللبنات الأولى لنظام الحكم والإدارة والدستور ودور الإنسان والأمة في الحياة السياسية، ومنابع القدرة في الدولة الإسلامية، مجلياً آفاق التحرك في البناء والتنمية.

وكذلك تحدث عن بعض عناصر النظام السياسي في سلسلة مقالاته التي كان يكتبها بعنوان (رسالتنا)، فضلاً عن بحثه لعقيدة الإمامة في الفكر الإسلامي الإمامي وترابطها الوثيق مع النظام السياسي، وكذا تناول جوانب وعناصر أخرى في مختلف كتاباته دالمتنوعة كمقدمة فلسفتنا وبعض مواضع اقتصادنا.

والسيد الصدر كما لا يخفى على القارئ الكريم صاحب تحرك سياسي رسالي ختمه بالشهادة على أيدي زمرة الحكم البعثي في العراق عام 1980م.

ص: 158

وفي النظام السياسي سار الشهيد الصدر على خطته المرسومة بوضوح: العودة إلى الذات وإبراز الأنا مع نقد الآخر، ذلك أن نقد الغرب في فكر السيد الصدر يسير جنباً إلى جنب مع إبراز الأنا والعودة إلى الذات.

3- النظام العقلي:

النظام العقلي واسع العناصر، وتتشابك فيه أنماط مختلفة من السلوك الفكري، فيندرج فيه السلوك العقلي بمعناه الخاص، وكذا العلوم والآداب والفنون.

وفي خصوص هذا النظام فالسيد الصدر ثري جداً، فقد تحدث عن كثير من عناصر النظام العقلي على مستوى نقد الآخر وإبراز الذات في كتابيه القيمين فلسفتنا والأسس المنطقية للاستقراء، فضلاً عن دراساته في علم أصول الفقه ومحاضراته الفلسفية التي كان يلقيها على تلاميذه.

ففي كتاب فلسفتنا سار الصدر في خطي إبراز الأنا ونقد الآخر في حقلين مهمين هما نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) ونظرية الوجود( الأنطولوجيا) والذي عبر عنه بالمفهوم الفلسفي للعالم. وفي القسم الثاني تحديداً ركز على نقد الماركسية ونظريتها المادية بشأن المفهوم الفلسفي للعالم، وإن كان تعرّض كذلك للمفهوم المادي الأوسع للعالم والوجود.

أما الأسس المنطقية للاستقراء، فقد أجملنا الحديث عنه سابقاً، وقلنا إن السيد الصدر قد انطلق من معالجة إشكالية الاستقراء الناقص إلى ابتكار منهج جديد ونظرية بديعة في دراسة الطبيعيات والتجريبيات وألقى بظلاله على اللاهوت. فقد جعل التعاطي مع العلم التجريبي في صف واحد مع اللاهوت والغيب من خلال إبراز أساس منطقي مشترك في الاثبات بنحو يكون الأساس المنطقي للإيمان بالعلوم الطبيعية والتجريبيات نفسه مبرراً منطقياً للإيمان بالغيب والميتافيزيقيا، وأن رفض أحدهما يستلزم رفض الآخر،على تفصيل يطلب من كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.

والصدر في كل ذلك ما حاد عن طريقته في العودة إلى الذات وإبراز الأنا ونقد الآخر، فضلاً عن التأسيس المنهجي السليم.

ص: 159

-4 النظام الخُلُقي:

النظام الخلقي لا يقل سعة في عناصره عن النظام العقلي، فهو يشمل الدين والأخلاق بكل ما يعنيه هذان المفهومان من تشعب ومظاهر. وقد أولى الصدر هذا النظام اهتماماً في كتاباته المتعددة، منها محاضراته في التفسير الموضوعي التي تحدث فيها عن السنن التاريخية في القرآن الكريم، فقد تناول في هذه المحاضرات الحديث عن جوانب مختلفة من النظام الخلقي، فتحدث عن عناصر المجتمع وعلاقاتها، ودور الإنسان في حركة التاريخ والمثل الأعلى وما يمثله من منطلق لبناء الإنسان، وعن انهيار الأمم والحضارات وأسبابها، ودور العلاقات الاجتماعية في حركة التاريخ.

كما تحدث في مقالات طبعت مع تلك المحاضرات عن الحرية وأبعادها ورؤيةالاتجاهات المختلفة فيها، وهو موضوع يتداخل في النظامين السياسي والخلقي، وكذا عن العمل الصالح من منظور الإسلام والرأسمالية والماركسية.

وكذلك تحدث عن عناصر أخرى عناصر أخرى من النظام الخلقي في كتابات أخرى من قبيل: نظرة عامة في العبادات البحث الذي ألحقه بكتابه الفقهي الفتاوى الواضحة، ففي هذا البحث تطرق إلى كون العبادة بما تمثله من التزام خُلُقي حاجة إنسانية ثابتة، وعوامل ذلك الثبوت، والملامح العامة للعبادات في الإسلام. هذا فضلاً عن دراساته الفقهية المتنوعة والتي تناول فيها الكثير من عناصر النظام الخلقي والسلوكي.

إن دراسة كل نظام من نظم الحضارة هذه تحتاج لدراسة مفصلة ومسهبة، وهي خارجة عن غرضنا، وما نريد التأكيد عليه هنا أن السيد الصدر في نقده للغرب الفكري سار في خطين متوازيين: نقد الغرب في أسس حضارته، إضافة لإبراز الأنا والعودة إلى الذات فيما يرتبط بأسس الحضارة الإسلامية ونهضتها، فالصدر كان يضطلع بمشروع حضاري كبير، برّز في أعماله المختلفة أسس ذلك المشروع بشكل موضوعي وحواري نقدي.

ص: 160

إن نقد الصدر لنظم الحضارة الغربية وإبرازه في مقابل ذلك لنظم النهوض الإسلامي، قد كسر تلك الثنائية التي صارت معبودة في كتابات من يعرفون بالمتنورين في العالم الإسلامي، عنيتُ بذلك ثنائية القديم والجديد، والتراث والمعاصرة، والتي استلت من الرؤية الغربية للتاريخ والتراث، وهي ثنائية قضت بأن تكون الحضارة الغربية بعاداتها وقيمها وخصوصياتها مرجعية كونية يجب على كل الشعوب الاندماج في مساراتها وسياقاتها وتتبع كل خطواتها وآثارها وهذا يعني وفق المنطق الذي يطرحه الصدر أن مفاهيم القديم والجديد والتقدّم مفاهيم نسبية وليست كونية عابرة للحدود والقارات وكل الأوضاع الثقافية والقيم المختلفة حول العالم.

لقد أراد السيد الصدر من كل ذلك التأكيد على أن التنمية والتقدم والنهوض يرتبط بالوجود وإبراز الأنا والذات وهذا الإبراز والرجوع إلى الذات سبيله الإنتاج الداخلي لاسيّما المعرفي، فهو السبيل الوحيد لتحقيق هويتنا ووجودنا والقاعدة التي تنطلق منها نهضتنا الشاملة، وليس القطيعة مع الآخر، أو الاندماج فيه كليّاً، أو التلفيق والتفكيك بين منتج ومنتج.

إن فشل الكثير من النماذج (التقدمية) ذات المنشا والأصول الغربية في العالم الإسلامي، يرجع حسب تحليل الصدر في مقدمة كتاب (اقتصادنا) إلى التناقض بين نماذج التقدم المقترحة وواقع الشعوب الإسلامية، بمعنى أن هناك تناقضاً بین الأدوات الفكرية للتحليل وعلاج الأزمات والحلول المقترحة وبين الواقع النفسي والفكري والسيسيولوجي للشعب المسلم كان هو السبب في فشل النماذج التقدمية والتحديثية، ذلك أن من أهم عوامل نجاح القوانين والتشريعات والنماذج المقترحة التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وتجاوبهم العاطفي والنفسي مع أهدافها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق، وهذا ما لا يتوفر في مثل هذه النماذج، ولذا حصلت قطيعة وتناقض بين الواقع والمشاريع. أما نموذج الحل المقترح بحسب الصدر، فهو اكتشاف الذات والعودة إليها، فهوية الشعب الحقيقية هي المنطلق في النهوض.

ص: 161

تواصل نقدي

لعلّ من أبرز التداعيات المترتبة على رؤية الاتجاهين الأول والثالث المشار إليهما في بداية الحديث في هذا المقال هو القطيعة، وصيرورة العالم الإسلامي في عزلة تامة عن أفكار ومشايع وأنظمة وتجارب الشعوب الأخرى بخيرها وشرّها. ومثل هذه القطيعة تعني فيما تعنيه أن نعيش في نفق مظلم ونعود للعصر الحجري، على أن الظروف الموضوعية وتداعيات الواقع، وإفرازات العولمة لا تسمح بمثل هذه القطيعة وأي عاقل يرضى أن نرفض كل خبرات ومشاريع الآخرين ومشاريعهم وتجاربهم الغنيّة في الحياة والفكر والممارسة ؟

إن رؤية السيد الصدر المبنية على إبراز الذات ونقد الآخر في أنظمته ومفاهيمه ورؤيته، لا تتضمن مثل تلك القطيعة، وإنما تعني التواصل النقدي والحواري بين ذاتين ، فنقد الصدر لحضارة الغرب بكل أنظمتها ومفاهيمها لا يعني السكون ورفض الحركة والتغيير والتنمية والتقدم، وإنما يعني رفض رؤية معينة في التغيير والتقدم الرؤية القائمة على أساس النظر للتغير بنفسه كغاية نهائية وقيمة عليا، ولم تؤسس حركتها ونظامها في صيرورة الحضارة على القيم الروحية والأخلاقية التي تحفظ التغيير من الانحراف.

العَماءُ في حداثة الغرب هو المرفوض من جانب الصدر، وهذا العماء ناشئ من فصل الفكر في الغرب وفي نظم حضارته عن الميتافيزيقيا وعن الأخلاق. ومثل هذا الفصل جاء نتيجة طبيعية لإخفاقات متكررة بلي بها الغرب في إقامة أساس تبنى عليه عالمية الأخلاق وكونيتها، إذ أن مطالعة سريعة لتاريخ تيارات الفكر في عالم الغرب توقفنا على تلك الإخفاقات، فيوم كان فيه الفكر الأرسطي سائداً في الغرب أخفق في بناء أخلاق كونية على أساس مفهوم الطبيعة البشرية أو على ماهية الإنسان، وكذلك الحال في التيارات اللاحقة التي أرادت جعل الواقع أو التاريخ مصدراً للقيم الأخلاقية، وحتى التيارات الغربية التي جعلت من الدين أساساً في البناء الأخلاقي فشلت في ذلك، ومرجع ذلك بنظر الصدر إلى أن الدين في دنيا الغرب وبالأخص

ص: 162

الدين المسيحي ليس صالحاً لكل زمان ومكان حتى ينتج قيماً أخلاقية كونية.

فالصدر في نقده للغرب منهجاً ونُظُماً لا ينطلق من موقف القطيعة مع كل نتاج الغرب كما هو الحال في كثير من التوجهات السلفية، وإنما ينطلق من منهج إبراز الذات والهوية مع نقد الآخر وتقديم الحل، ومثل هذا النقد وذلك الابراز وإن أوجد قطيعة إبستمولوجية، بمعنى وجود اختلاف في الطرح والمنهج والهوية، إلا أنه لا يعني رفض منتج الآخر من موقع القطيعة، وإنما يرى الصدر أننا مع إبراز ذاتنا عن طريق الإنتاج الداخلي فإننا لا نهاب الحوار النقدي مع الآخر والتواصل العقلاني مع منتَجه، لأننا في مثل هذه الحال لا نصدر عن أزمة هوية أو عقدة الشعور بالدونية إزاء الآخرين، وعند ذلك سنأخذ ونرفض من منتج الآخر من دون أية عقدة أو أزمة.

إن الصراع الفكري والنقد الفلسفي الذي خاضه الصدر تجاه الفكر الغربي ليس صراعاً تدميريّاً أو لنفي عطاءات الآخرين، وإنما هو حوار نقدي لاستيعابه في إطار مبدأ (التعارف) القرآني، يستهدف قيادة البشرية نحو القيم الإلهية والأخلاقية.

القيمومة الغربية

ربط السيد الصدر في كتاباته وأعماله الفكرية بين نقد الأساس الفكري والحضاري للغرب وبين قيمومته العملية على شعوب العالم، فبعد أن توقف مليّاً ناقداً نُظم الحضارة في الغرب رتب على ذلك أن الفكر الغربي لا يمتلك قيمومة على بني الإنسان حتى يعمل على اخضاعهم لنظامه الفكري وقيمه وتجاربه وطريقته في الحياة، مركزاً على التناقض بين حضارة الغرب وقاعدتها الفكرية.

ومرجع هذا التناقض إلى أن الحضارة الغربية نابعة من واقع الإنسان الغربي نفسه، وبالتالي فهي محدّدة بحدود التجربة التي عاشتها شعوب الغرب، في حدود الزمان والمكان والشروط الموضوعية والاقتصادية والسياسية التي تمخضت عنها تلك الحضارة، ومن ثمّ فمهما امتلكت حضارة الغرب من تفوّق مرحلي على بقية الشعوب إلا أن ذلك لا يبرر لها منطقياً أن تنتزع إرادة الإنسان وأن تسيطر عليه بالقوة في

ص: 163

سبيل تطويره، ولا أن تمارس الضغوط السياسية والاقتصادية على شتى البلدان لأجل اجبارها على الأخذ بنظمها ورؤاها في إدارة الحياة.

إن الشعوب الأخرى من وجهة نظر الصدر فيما لو توفرت لها شروط موضوعية للنهوض، وبدأت تتحرك ذاتيّاً ومارست تجاربها ، فمن الممكن ان تكتشف حقيقة حضارية أكبر من الحقيقة التي وصلتها شعوب الغرب، فاكتشاف الشعوب الغربية ضمن ملابسات معينة ومن خلال شوطها الاجتماعي لحقيقة حضارية قامت عليها نهضتها لا يعني اكتشاف الحقيقة المطلقة، فمثل ذلك أمر لا تدعيه حضارات البشر.

وهنا يركز الصدر في نقده للغرب على هذا التناقض بين واقع الغرب وقاعدته الفكرية، فالغرب في واقعه يمارس سياسية فرض قيمه وطريقته في الحياة وكانه يفترض سلفاً حقانيتها المطلقة وكونيتها، بينما نظريّاً لا يمكنه اثبات ذلك الشمول أو الكونية ولا التدليل عليها، ولكن برغم ذلك تجد الغرب في واقعه يمارس القوة في سبيل أن تنتهج الشعوب المختلفة طريقته في الحياة، بينما لو فسح المجال لكل شعب أن يمارس تجربته الذاتية وتفاعل في تلك التجارب الذاتية ضمن شروط مختلفة وملابسات اقتصادية وسياسية وفكرية وروحية، لكان بالإمكان أن يصل لحقيقة أكبر وأفضل مما وصلها الغرب.

والصدر في هذا النقد للقيمومة والممارسة الغربية لا ينطلق من موقف سياسي، وإنما ينطلق من موقف إبستمولوجي ويمارس تحليلاً سيسيولوجياً، ذلك أن الإيمان بنسبية المعرفة ومحدودية التجارب، وبالتالي نسبية قيم الحضارة مع سلوك نشرها في الشعوب المختلفة بمختلف الوسائل، يعبر عن إمبريالية ثقافية واستعمار بواجهات مختلفة، تصطبغ بالعولمة.

«فمن غير المنطقي أن حضارة تقول بأنني اكتشفت الحقيقة من زاويتي وضمن شروط وملابسات لكن هذه الحقيقة التي اكتشفتها من زاويتي وشروطي وملابساتي، أريد أن أفرضها على شعوب العالم، بينما هذه الشعوب بالإمكان أن تكتشف حقيقة

ص: 164

من جوانب وزوايا أخرى، وقد تكون هذه الكشوف الأخرى في التجربة التاريخية للبشر، قد تكون نافعة في سبيل تصعيد الحياة الإنسانية ككل فيبقى هنا نوع من التناقض التناقض العقلي في موقفهم صحيح أن هناك احتمالاً آخر، وهو أنه بالإمكان أن هذا الشعب الآخر لو ترك فسوف يضيع وسوف يستمر في الضياع، ولكن هذا مجرد احتمال طبعاً الاحتمال موجود ، ولكن هذا الاحتمال الآخر هو الأقوى؛ لأنه هو الذي يساعد عليه التاريخ والذي ينظر إلى تاريخ شعوب العالم، وإلى حركة التاريخ يرى بأن الحقيقة لن تنكشف من قبل شعب واحد، ولم تكن الحقيقة في وقت من الأوقات محتكرة لشعب واحد، أو مكتشفة من قبل شعب واحد جميع شعوب العالم تقريباً ساهمت في الحقيقة التاريخية ككل، كل شعب خلال حضارته وخلال وجوده ودخوله على مسرح التاريخ أعطى جانباً من الحقيقة، وكوّن جزءاً من التاريخ الذي هو الأساس لحياة الإنسان اليوم. فالشيء الأقرب احتمالاً سوف يكون مانعاً عن فرض القيمومة لشعب على شعب بالقوة.

ولو جمّدنا المواهب والعطايا والطاقات الخام الموجودة في هذه الشعوب وفرضنا عليهم بالقوة أن يعملوا عملنا، ويعيشوا اقتصادياً وسياسياً كما نعيش سياسيّاً واقتصادياً، فإننا سوف نجمد حركة هذه الشعوب وكذلك يمكن ان تكتشف هذه الشعوب أخطاءنا، وبالتالي نصبح متخلفين عنها حضارياً، فهل نقبل قيمومة هذه الشعوب بالقوة؟».

ويسوق السيد الصدر مثالاً على أن القاعدة الفكرية الغربية محدودة وبالتالي لا يمكن اعطاؤها صفة الكونية برغم أن الغربيين يمارسون الاطلاقية عملياً في سياساتهم. يقول : أنجلز كتب في ضدّ (دوهرنك)يعتذر - كأنَّ كاتباً انتقده على قوله: إن الديالكتيك ينطبق على كلّ شيء حتى على الرياضيات، وكونه طبق الديالكتيك على الرياضيات حيث قال: إن الاعداد السالبة والموجبة تمثل نفياً وإثباتاً. حينئذ ذاك الكاتب قال بأن أنجلز يجهل معنى الموجبة والسالبة وإلا ما معنى أن الاعداد الموجبة تمثل إثباتاً والأعداد السالبة تمثل نفياً - وهو يعتذر في هذا الكتاب ويقول ما معناه:

ص: 165

إني قد تسرّعت في دعوى أن الديالكتيك ينطبق على كلّ شيء وعلى الرياضيات، ومطالعاتي في الرياضيات قليلة، ولذا لا أستطيع أن أجعله في هذا الميدان. ولكنّي حينما حاولت هذا كنت متأكداً من ان الديالكتيك ولا أزال متأكداً بشكل من الأشكال بأنه ينطبق على كلّ شيء.

طبعاً إن قصده أن الديالكتيك ينطبق على كل أنواع التطبيقات، وذلك لأنه عاش ومارس الفترة التاريخية التي عاشها في أوربا في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. هذه ثلاثة قرون أصبح واضحاً لكل ذي عينين إلا أن يكون أعمى، أنها عاشت التناقض الفلاحون يتعاركون مع الإقطاعيين العمال يتعاركون مع أصحاب المعامل، إن الحياة تناقض وصراع، إذن فيجب أن يكون الكون كله صراعاً؛ لأن الحياة مظهر من مظاهر الكون؛ يعني: إن أنجلز اكتشف جانباً من الحقيقة ضمن شروط خاصة جدّاً، ضمن فترة معينة من تاريخ كائن حي في منطقة معينة على الكرة الأرضية، وفي زمان معين في هذه الحدود الزمانية والمكانية التي لا تزيد عن ثلاثمئة سنة، وفي أوربا كان التناقض هو الذي حرّك المجتمع، تناقض في الطبقة الحاكمة.

حينئذ جرد من هذا نظرية ملأت كل أبعاد الزمان والمكان، وكل الأرض والكون إلى أن جاءت إلى الرياضيات وإلى الأعداد الموجبة والسالبة. هذا طبعاً يعتبر خطأ علمياً، لأن الحضارة التي تحترم نفسها لا تدعو إلى نوع من التعميم المطلق قط، وإنما تقول: أنا اكتشفت الحقيقة من خلال زاوية معلومة معينة ليست أكثر من هذا المقدار. إذاً أنا حينما اكتشفُ هذه الحقيقة من خلال هذه الزاوية، فإذا إن آلافاً من الطاقات التي أجمدها والتي أفرض رأيي عليها والتي احجرها لأمنعها من النمو الطبيعي، ومن منافع الصعود بشكل آخر غير هذا الشكل الذي أنا صعدت به، إذاً ماذا يدريني أني بهذا لم أقصر معالم تصور بشرية كبيرة جداً؛ ولو نظرنا إلى هذا ككلّ يصبح شيئاً معقولاً وتصبح مؤاخذة لهذا التفكير لا جواب عليها من وجهة النظر الغربية.

ص: 166

مع الحداثة الغربية

برغم أن الصدر في أعماله الفكرية التأسيسية قد أوجد قطيعة معرفية (إبستمولوجية) مع فكر الغرب بالمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه، ونقد القيمومة الغربية، إلا أنه تواصل مع الحداثة الغربية في مقولاتها الأساسية كالعقلانية والحرية وغيرهما، ولكن ليس بمدلولاتها الفكرية عندهم، لأنه كان قد انتقد نُظم الغرب الفكري، وإنما تواصل معها كمقولات تعبر عن أبعاد خلافة الإنسان على الأرض، وعلاقة هذه الخلافة بحركة المجتمع والتاريخ، وما يتطلبه ذلك من فاعلية عقليّة وفضاء حر في الممارسة.

فالفكر الإسلامي كما رآه الصدر لا يقبل هذه المقولات بالمطلق ولا يرفضها بالمطلق، وإنما يتحفظ على طابعها المادي المنقطع الصلة عن الغيب والإيمان بالله تعالى والمحدّدات الدينية والأخلاقية، إذ إنّ مقولات الحداثة في الرؤية الصدرية إن جاز التعبير ترتقي على المفهوم الضّيق لها في رؤية الغرب والمحدود بحدود الزمان والمكان، لترتفع للارتباط بصفات الله وأسمائه تعالى.

فالتقدم في رؤية الغرب على سبيل المثال شأن مادي صرف، فيما هو في المفهوم الإسلامي عن التقدم علاوة على ميدانه المادي، يرتفع ليضم التقدم في المجالات الروحية والقيمية والأخلاقية للإنسان، والتقدم بهذا المفهوم أمر لا يمكن للرؤية الضيقة أن تتحمله.

إن تعاطي الصدر مع مقولات الحداثة يختلف اختلافاً جذرياً عن تعاطي دعاة التحديث في العالم الإسلامي، فالصدر لا يتعامل مع ثنائية إما رفض الحداثة كما جرى عليه جماعة وإما تحديث الإسلام كما عليه آخرون، وإنما المسألة تكمن ردّ قيم الحداثة إلى حجمها الطبيعي، بمعنى ردّها إلى ظروفها التاريخية ومناخاتها الثقافية التي ولدت فيها، وعند ذلك سنجدها قيماً نسبية لا يمكن توصيفها بالكونية والعالمية، ذلك أن اعتبارها قيماً كونية يعبر عن خلل منهجي وقع فيه دعاة التحديث في العالم الإسلامي، فهذه الكوننة لقيم الحداثة يعني تجاوز الظروف والسياقات والتاريخ والملابسات، ومن ثم الوقوع في أسر التلفيق والتوفيق، فضلاً عن خطئهم

ص: 167

في تحجيم قيم الإسلام والشريعة بعد رؤيتهم الاطلاقية لمقولات الحداثة. وهذا المعنى بالتحديد يعود بنا إلى حديث الصدر عن الحالات التي رامت التوفيق بين الاشتراكية والقومية، أو بين الاشتراكية والعربية والإسلام.

نقد الفكر الإسلامي

لا ينبغي أن نختم هذا المدخل دون أن نشير إلى أن نقد الصدر للغرب الفكري يسير جنباً إلى جنب مع نقد الفكر الإسلامي، ذلك أن إبراز الأنا والعودة إلى الذات أمر غير متيسر بل ومتعدّر دون الدخول في عملية نقدية للفكر الإسلامي. ونقد الصدر للفكر الإسلامي يتمثل في نقد الممارسات وتاريخ المسلمين، فضلاً عن نقد الأفكار والرؤى والاجتهادات ومناهج التفكير الإسلامي.

فعلى مستوى نقد تاريخ الممارسات الإسلامي أكد الصدر في أكثر من دراسة تاريخية له على انحراف السياسيات والممارسات التي تولتها الحكومات الإسلامية غير المعصومة، وأكد في مواقع مختلفة من تلك النتاجات على أن تلك الممارسات والحكومات مفتقدة للوعي الإسلامي الأصيل وتمثيله، فضلاً عن افتقادها للشرعية الدينية. ويرى الصدر أن النظرية الإسلامية لم تطبق بأيدي أصحابها الحقيقيين، وإنما طبّقت بيد أعدائها الداخليين ، ولذا كان مثل هذا التطبيق بالنسبة للنظرية الإسلامية يمثل انحرافاً كبيراً ، كانت له تداعيات متعددة انعكست على الفكر الإسلامي وعلى صورة الإسلام.

وقد أكد الصدر هذا المعنى كثيراً في محاضراته عن أهل البيت عليهم السلام، والتي طبعت في جزء مستقل من سلسلة آثاره بعنوان: أئمة أهل البيت عليهم السلام ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية، وكذلك أكده في مقالات أخرى ضمها الجزء المعنون ب-

( ومضات) من سلسلة تراثه الفكري القيمة.

هذا على مستوى نقد التأريخ الإسلامي وسلوك المسلمين، وأما فيما يتعلق بنقد الأفكار والمناهج، فالصدر صاحب عقل اجتهادي متحرك، قدّم لمناهج التفكير

ص: 168

الإسلامي والاستنباط الفقهي والديني إضافات نوعية مهمة، سواء في ما يتعلق بنقده لرؤية التيار الأخباري وتأكيده على قيمة العقل في مقام الاستنباط، أم في نقده وتقويمه للكثير من الرؤى الفقهية وتعاطيه مع أدوات الاجتهاد والواقع، وخروجه عن أسر بعض المقولات التي تكبّل حركة الاجتهاد وتخضع الباحث لنتائج المحيط الفكري والاجتماعي الذي يعيش فيه.

لا أريد الاسهاب في تناول هذا الموضوع، فقد كتبت عنه دراسات متعددة مختلفة سعة وضيقاً وعمقاً، وإنما أُريد الإشارة في هذه الأفكار المفتاحية إلى أن نقد الصدر للغرب الفكري يسير بوتيرة ثابتة مع نقد الفكر الإسلامي وتحديث التفكير الديني فهو الطريق الموصل لإبراز الأنا الفكري وتظهير الذات. بمعنى أن الجهل بالإسلام من جهة وعدم معرفة الغرب بصورة صحيحة ونقدية واعية من جهة ثانية يقودنا إلى جهالة مضاعفة، وأبسط تداعيات تلك الجهالة فقداننا لأصالة هويتنا وابتعادنا عن جمال تلك الهوية واستسلامنا لفوضى عارمة، ولعلّ ما نعيشه هذه الأيام بعض صورها ومظاهرها. ولسنا ندري إلى ما ستؤول إليه فاجعتنا !

ص: 169

العلواني والنظر إلى "الآخر"

د. محمد شهید

(1)

مقدمة :

هناك نظريتان، أو بالأحرى قولان يحددان التوجه العام في التعامل مع الثقافة الشرعية والتراث العلمي الذي ورثناه من العلماء السابقين الذين أبدعوا وابتكروا ما يعينهم على التعامل مع واقعهم وفق الظروف والبيئة العامة التي عاشوا فيها.

النظر الأول يرى انه لابد من الإعراض عن غير الغوص في العلوم الشرعية والتأصيل لها وتطويرها من الداخل، باعتبارها المكون الأساس للثقافة الإسلامية، وكذلك السبيل الوحيد لاستنباط الأحكام الشرعية وما يحتاجه الناس من إجابة على أسئلتهم في الواقع. وبهذا تنغلق هذه العلوم على نفسها وتتفرغ للإغراق في التخصص الدقيق فتصير نخبوية تنفرد بها طبقة الانتلجنسيا“ حتى لا نقول رجال الدين وهو- من هذه الوجهة ما يمكن الثقافة الشرعية من التساؤل والإجابة عن أسئلة العصر من الداخل وليس توسلا بثقافة غير شرعية أو من خارج الذات والنفسية والمرجعية الإسلامية.

في حين يرى النظر الثاني أن العلوم الشرعية قد قتلت بحثا، وان هذه العلوم قد استنفذت أغراضها من حيث البحث والدراسة من جانب التأصيل خاصة والقراءة الداخلية لها عامة . مما يستلزم تخليص هذه العلوم من الضغط التاصيلي والإغراق في مصطلحات مستغلقة ومفردات غريبة يستحيل معها توسيع دائرة الاهتمام بها والعمل

ص: 170


1- جامعة محمد الأول / وجدة، المغرب، دكتوراه في مقاصد الشريعة.

على" شعبيتها". وعليه فلابد من التعامل مع هذا التراث بواقعية والنزول إلى الواقع والبحث عن كل ما يكمل هذه العلوم ويتكامل معها باعتبار العوم إنسانية وان الثقافة الإسلامية أيضا لها نفس إنساني كبير.

والدكتور طه جابر العلواني ينحو منحى أخر وهو منحى مركب من السابقين. فهو عالم من علماء الشريعة درس وتخرج من الأزهر. ويؤكد عبقريته سفره العظيم المتمثل في تحقيقه لكتاب "المحصول في علم الأصول" لفخر الدين الرازي (604ه)، حيث تقدم ونال به درجة الدكتوراه وهو كذلك مثقف منفتح على التخصصات التي تبدو عند البعض بعيدة عن العلوم الشرعية خاصة العلوم الإنسانية. ويؤكد هذا انشغاله لمدة طويلة بمشروع إسلامية المعرفة بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي في فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو المشروع الذي اخذ على عاتقه إعادة قراءة العلوم الإنسانية وفق التصور الإسلامي. وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع المشروع، فان حضور العلوم الإنسانية - ومختلف التخصصات التي لا تدخل في العلوم الشرعية واضح وجلي بشكل كبير فيه.

وبذلك فان الشيخ العلواني من علماء العصر الذين تشد إليهم الرحال خاصة أن اجتهاداته وانتاجاته تصب في اهتمام العصر انطلاقا من العلوم الإسلامية والمنطلقات والمبادئ الأساس في الثقافة الشرعية. فهو صاحب "الاجتهاد والتقليد في الإسلام"، وأدب الاختلاف في الإسلام"، "والجمع بين القراءتين :" قراءة الوحي وقراءة الكون" والأزمة الفكرية ومناهج التغيير "ولا" إكراه في الدين... ،،

إن الثقافة الشرعية الإسلامية، والتكوين المعرفي الشامل، والنشوء في بيئة (العراق/بغداد) متعددة الثقافة والمذهب والعقيدة، بالإضافة إلى الحضور في الغرب والاطلاع على ثقافته، هي عوامل متعددة ومتنوعة عملت على صقل شخصية العلواني و اختمار تجربته لتعطي لنا في نهاية المطاف عالما معاصرا، مثقفا "تراثيا"، مفتيا ”مقصدیا“ جعلت من مواقفه وآرائه اجتهادا وثورة مهمة في الواقع الإسلامي المعاصر في مواجهة ثقافة التكفير والتقتيل والبغض والكراهية .. التي عششت في عقول بعض

ص: 171

"أنصاف العلماء" وبعض الشباب المغرر بهم مع كامل الأسف.

لذلك فموقفه من الغرب والثقافة الغربية، موقف يتسم بالتوازن والاعتدال بعيدا عن ردود الفعل والابتزاز .. فهو ينتقد ثقافة مسيطرة على عقول غالبية المسلمين حاليا خصوصا في الغرب، كما ينتصر للمسلمين وقضاياهم بالدفاع عنهم. وفي نفس الوقت ينظر إلى الغرب كمكون من أهم مكونات العصر فينصفه ويدعوه إلى التنازل عن غطرسته والقبول بالآخر . وهذا موقف عظيم اكتسبه وحقق مناطه بعيدا عن ابتزاز السلطان وإغراءات الغرب.

ويزيد من دقة هذه المواقف والفتاوى إتقانه لتخصص مهم في العلوم الشرعية إنه مقاصد الشريعة الإسلامية وهو تخصص يحيل على الذوق الرفيع والجمال والفن بالإضافة إلى الدقة في تنزيل الأحكام الشرعية حتى لا تعود على المكلفين بالانتكاس وجلب المفاسد عليهم. ويفتح هذا الفن الباب على مصراعيه للعلماء خاصة والمسلمين عامة على الانفتاح على العالم والإنسان والاهتمام به في كل مكان بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه وثقافته ..

ولعل هذا هو السر في الاتزان في مواقفه وأفكاره، التي تجنب متتبعيه وتلامذته من الوقوع في شرك العنف والإرهاب والوحشية والكره والاقتتال.

في تحرير المصطلح:

يتعرض طه العلواني لمصطلح "الآخر" ليحدده ويضبطه. وهذا العمل قد يكون من أهم دوافعه ثقافة العلواني وتكوينه الأول المتمثل أساسا في البناء المعرفي ذي المرجعية الأصولية، ذلك أن من طبيعة هذا التخصص ضبط المفاهيم والمصطلحات وتحديدها لرفع اللبس عنها ويستوعب المتلقي أبعادها وسياقاتها.

یرد هذا المصطلح إلى جذوره الحضارية والتربة المعرفية التي نشا فيها والسياق العام الذي أنتجه فيبين بأن :"الآخر “ مصطلح ولد وشاع في البيئة الغربية أولاً، ولا جذور له في البيئات العربية الإسلامية قبل مرحلة التداخل الفكري والثقافي مع

ص: 172

الغرب، وأغلب الظَّنِّ أنَّ المفهوم قد بدأ استعماله في أوروبا مع “الثورة الفرنسية” وبدأ تداوله في أمريكا مع “الثورة الأمريكية" فالثوار الفرنسيون أطلقوا على أنفسهم والمتبنين لمبادئ" الثورة الفرنسيَّة“: "نحن" ، وأطلقوا على مناوئيهم من الذين وصفوهم بالاستبداد وعناصر الإقطاع والرجعيّة وأعداء الحرية والمساواة والعدالة : الآخر" أو "الآخرين".. "(1)

وفي هذا المصطلح تتلخص قيمة معرفية وصمت الحضارة الغربية ولا تزال تلتصق بها وهي المركزية العربية التي تحدد الغرب وحده المقياس الحضاري الوحيد ولا غيره للتقدم والتخلف للتقدمية ،والرجعية للنماء وللخراب.. فيربط بین هذه القيمة وهذا المصطلح حين يرى أن هذا المصطلح مع مقابله ( نحن ) أصبحا".. شائعين على مستوى عالمي خاصة في مجالات الخطاب النضالي و التحريضي؛ ولذلك فإنَّ من المتعذّر أن تولد الاتجاهات العالمية الحقيقية في بيئة غربيَّة؛ لأنَّ الأفكار المرتبطة ب-"نحن والآخر"، جعلت الاتجاهات العقلية والنفسيَّة للفكر الغرب تقود دائماً إلى نظر الغربي إلى نفسه وذاته على أنَّه "مركز الكون"، وإلى غيره على أنَّه هامش وآخر، ولا تجتمع المشاعر والاتجاهات العالميّة مع الاتجاهات المركزية ".(2)

وفي المقابل فان الإسلام الذي بعثه الله دينا للبشرية لتستهدي به "فإنَّه -منذ البداية - قد نظر إلى البشرية - كلّها - على أنَّها داخلة في مفهوم "نحن"، واستبعد - من ساحته الفكرية - مفهوم "الآخر" إلا بالمعنى اللُّغوي المجرَّد من أيَّة تحيزات أو ظلال فكريَّة تؤدي إلى مواقف تتّسم بالتمييز بأي نوع من أنواعه.دو بي

فالأسرة البشرية الممتدة - في نظر الإسلام- كلُّها تندرج في "نحن": ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجر: 13]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ

ص: 173


1- طه العلواني : " الآخر بين الإسلام والغرب "في الموقع الالكتروني: http://alwani.org/
2- طه العلواني: (م، ن)

الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]

ويُحدّد القرآن المجيد الآخر" في مخلوق واحد، هو «الشيطان»، قال تعالى:﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [يس: 160] ، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الشعير﴾ [فاطر: 6] . (1)

هكذا إذن يعلن العلواني عن خلفيات هذا المصطلح ليؤكد غرابته عن الإسلامية وعن الأمة ثقافتها، وليكون لونا من ألوان الوافد الغريب مع الغزو الثقافي الذي عانت منه الأمة والأمم المستضعفة غيرها في بقاع العالم . ثم يكشف النقاب عن الأبعاد والتبعات الحقيقية له، فيؤكد : ".. خلاصة الأمر: إن مبدأ "نحن والآخر“ مبدأ قد ورد إلى الساحة الإسلاميَّة، خاصة بعد أن أصبح المسلمون متهمين، يحملون مسئولية كل ما يجري في العالم من مشكلات لأسباب لا تخفى على كثيرين، فإذا اختل اقتصاد بلد قيل له: لأن العرب رفعوا أسعار البترول، وإذا جاع بلد أو افتقر أو أوذي أو تضرّر، قيل: إن المال العربي والتجارة العربية والبترول العربي والإسلامي هي السبب،وذلك يعني أنَّ من مقاصد خصوم هذه الأمة أن يجعلوها على الدوام آخر" مكروها بالنسبة للعالم -كله- وفي حالة دفاع عن النفس وإحساس بالهزيمة، وشعور بالذنب وبالاتهام، فلا ينبغي لعاقل أن يُستدرج إلى مثل هذه المواقف ويتقبل على نفسه كل هذه الاتهامات؛ ليجعل من نفسه ميدانًا لأمور هو بريء منها، وأنَّه لا يليق بأحد أن يوجه ذلك إليه، وألا يتقبل أن يكون آخر لأي أحد، ولا يستخدم من المصطلحات إلا ما يعرف أصله وفصله (2).

القرآن يؤسس للاختلاف:

التعايش والاختلاف والتعدد والتعارف مترادفات تحقق تنوعا يقصده القرآن الكريم. ولقد ساعدت هذه المرجعية العظيمة رغم بعض الفترات الحالكة- في تأسيس

ص: 174


1- طه العلواني: (م، ن )
2- طه العلواني: (م- ن )

مجتمع متعايش متنوع في امن وأمان.. وهكذا فإن ".. القرآن المجيد يحمل خطابًا كونيا يحمل كل مواصفات الخطاب الكوني وخصائصه؛ الذي يسع الكون وأزماته، ومشكلاته جميعها، إذ هو وحده المعادل للوجود الكوني وحركته القادر على استيعاب مشكلاته وتجاوزها وإخراج البشرية كلّها من الظلمات إلى النور :﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور بإذن رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزيز الحميد ﴾ [إبراهيم: 1]. وحملة القرآن مطالبون أن يحملوا هذا القرآن إلى البشرية، ويستوعبوا به سقفها المعرفي، ونسقها الثقافي، ويعالجوا به أزماتها؛ ولذلك أُمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم أن يجاهدهم به جهادًا كبيرًا: ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبيرًا ﴾ [الفرقان : 152] (1) . وقد انعكس هذا بشكل واضح على الثقافة الإسلامية في كل مجالاتها. فمن النادر جدا أن تجد جزئية في التراث الإسلامي إلا والاختلاف والتعدد سمتها. وقد يمتد الاختلاف والتنوع والتعدد في الفقه الإسلامي مثلا ليس بين المذاهب الإسلامية ، بل داخل المذهب الواحد الذي يبدو انه اقرب إلى الاجماعات حول فروعه وجزئياته لكن تتنوع الآراء والأحكام حول جل قضاياه. وهذا مصدر ثراء وتنوع وتعايش قل نظيره في الثقافات والمرجعيات الأخرى عند الإنسان.

والإيمان بالاختلاف لا يكفي بل لابد من مراعاة كليات -تبدو في صورة جزئيات- على غاية من الأهمية يغفل عنها الكثير من قبيل الاهتمام بالآخر ودراسة فكره وثقافته. وهنا يرى العلواني "ان التعدُّد ضروري وأنَّ الاختلاف طبيعي، وأنَّ قبول ذلك لا يكفي ،وحده، بل لابد من رعاية المخالف، والاهتمام بفكره وإبراز ما لديه؛ ليكون في ذلك ثراء وغنى للحالة الفكريَّة لدى الأمة، فما الذي يجعل هؤلاء القوم تضيق صدورهم بالمخالف وتنتفخ أوداجهم لسماع ما يخالف ما ألفوه، وقد يندفع بعض نابتتهم إلى نفي المخالف ومحاصرته والتضييق عليه ظنًا منهم «وبعض الظن إثم»أنَّ الحق معهم وحدهم، وأن كل ما يخالف مذاهبهم وآراءهم ومقالاتهم باطل وغير صحيح وخطأ أن يُحال بين الناس وبين سماعه !

(2)

ص: 175


1- طه العلواني : "الإسلاميون بين المصحف والسيف، الموقع الالكتروني.
2- طه العلواني: "ثقافة الاختلاف" ، الموقع الالكتروني.

وسرعان ما يتنبه رحمه الله إلى قضية جوهرية تتعلق بتضخم سياسي للمرجعية والقيم الإسلامية فتخرج عن مضمونها ومقصدها "فالمرجعية الإسلامية" - في نظر البعض يمكن اختزالها في برنامج سياسي أو اجتماعي محدود، لإقليم محدود، في إطار جغرافي بشري، فذلك يجعل أصحاب ذلك المشروع ينوؤون بثقل ذلك المشروع الأوسع والأكبر من قدراتهم، وسوف يجدون أنفسهم أمام أنواع هائلة من ضغوط الفهم والتأويل والصيغ التطبيقية المختلفة، في واقع تاريخي متغير متنوع"(1). وهنا ينزلق الإنسان إلى الاصطدام والتصارع والاقتتال.

والاهم تنزيل القيم وتفعيلها في ارض الواقع لإنتاج مفاهيم وأحكام تحقق مراد الناس وتدفع عنه الضيق والمفسدة، ف”.. المطلوب هو تجريد القيم القرآنية والإسلامية الكبرى والعمل على تبنيها، والاجتهاد في الآليات والوسائل المتطورة لتحقيق تلك القيم؛ فهناك قيم : "التوحيد، والتزكية والعمران والعدالة في التوزيع ودرء المفاسد، وتحقيق المصالح... إلخ "؛ فهذه القيم هي التي ينبغي التي ينبغي أن تكون المرجعيّة، وهي التي ينبغى أن تجري توعية الناس بها، وقياس أداء الجميع إليها، حكامًا ومحكومين، إسلاميين وغيرهم “(2)

الوجود الإسلامي في الغرب :

لقد تنوعت الدوافع والأسباب التي كانت وراء هجرة المسلمين والعرب إلى عالم الغرب. وقد احدث هذا التواجد مع مرور الزمن نقاشا مستفيضا بين مؤيد له داعيا إلى استثماره في صالح الغرب، وبين معرض له داعيا إلى تهجير المسلمين وإعادتهم إلى .بلدانهم. وتطور النقاش أكثر حتى على المستوى السياسي فظهرت حركات متشددة يمينية متعصبة في بعض الأحيان تتبنى العنف والقوة والترهيب ضدهم.

والعلواني يترك هذا جانبا لينكب على دراسة وتشريح الجسم الإسلامي في الغرب ليلاحظ أنه ".. بالرغم من المستوى العالي للتعليم والثقافة لدى المسلمين

ص: 176


1- طه العلواني : "الإسلاميون بين المصحف والسيف"، الموقع الالكتروني.
2- طه العلواني: (م ،ن)

في الغرب فإنَّهم متخلفون جدا.. فلقد رأيت مساجد وجوامع كثيرة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة يختص بها عرق واحد أو مذهب واحد أو إقليم واحد فجوامع اختص بها الإخوة الباكستانيون فهم مؤسسوها وهم الإداريون فيها وإذا وجد سكان آخرون من عرب أو غيرهم فقد لا يجدون لأنفسهم مكانا بين هؤلاء الإخوة يجعلهم يشاركون بخبراتهم وقدراتهم في تحقيق رسالة المسجد؛ بحيث يسمح لهم أن يكونوا جزءً من إدارة المسجد أو مجلس إدارته ووجدت مساجد خاصة بالعرب لا فرصة لغيرهم بالدخول إلى مجالس إدارتها ووجدت مساجد للأتراك ولأبناء جنوب شرق آسيا وغيرها ..(1) فأصبح التواجد الإسلامي في الغرب نقمة عوض أن يكون نعمة بالنسبة لهم، فصار مشكلة جديدة استنزفت الطاقات والوقت والجهود "ولقد حاولت جاهدا خاصة من خلال موقعي في المجلس الفقهيّ الأمريكي مقاومة هذه الظواهر السلبية وتغييرها بقدر الإمكان؛ لكن ثقافة التخلف تعايش كثيرا من الإخوة والأخوات المهاجرين حالت دون ذلك. لقد كانت تلك الثقافة من أخطر العقبات وأشدها في وجه أي تغيير، ولا أرى أن المجتمع المسلم في الولايات المتحدة خاصة بل وفي الغرب -كله - سوف يأخذ مواقعه الملائمة إذا لم يتخلص من تلك الفيروسات الثقافية المستصحبة، ويعود إلى مبدأ أمة مسلمة واحدة ينضم إليها كل من يقول لا إله إلا الله* محمد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ويتجاهلون تلك الخلفيات التي لم تأت لهم بأي خير في بلدانهم الأصلية من تفرق مذهبي وإثني وعرقي وطرقي ولغوي وما شاكل ذلك.“

وإذا كانت ثلة من الناقمين في الغرب على الوجود الإسلامي، فإنه حري بالمسلمين هناك أن يلمعوا صورتهم وان يكون تواجدهم إضافة نوعية للمجتمع الذي يعيشون فيهم. وهذا الأمر يستدعي التأمل بعمق وتدقيق لذلك يدعو العلواني بخبرته الكبيرة في الغرب وبعمق تكوينه الشرعي إلى تأسيس فقه خاص بهذا التواجد. ففي الولايات المتحدة الأمريكية أو في أوروبا فالوجود الإسلامي مهدد ومستهدف ليس من جهة أو حزب واحد بل من جهات متعددة، كما أن فى أرشيف الذاكرة الغربية تاريخيا صورة سيئة عن علاقة الغرب بالمسلمين، لذلك".. فإن المسلمين في حاجة إلى أن يبنوا

ص: 177


1- طه العلواني : الوجود الإسلامي في أمريكا، الموقع الالكتروني

وعيًا كبيرا بين الأقليّات يساعدها على أن تحتفظ بهويَّتها الإسلامية وألا تفرط فيها. وفي الوقت نفسه يحبّبها إلى بيئتها ويجعلها مقبولة ومحبوبة في تلك البيئات، بل نريد أن نقنع تلك البيئات بأنّ الوجود الإسلامي فيها هو لصالحها ويشكل إضافة لها. وهذا يعني أن نبني فقها خاصًا بهذه البيئات ونوجد لها ثقافتها الخاصة، وأن نحدّد دور كلّ فصيل من فصائل الأقليات في تعزيز ذلك الوجود ،،

ينبغي أن يكون التواجد الإسلامي في الغرب عاملا من عوامل توحيد هذه المجتمعات والعمل على تجميع المجتمع وتوحيده حول أصوله وأساساته التي لا تقبل الاختلاف عليها، كما ينبغي أن يعمل أيضا على التعلم والتدريب على أفضل سبل التعاون مع الجيران والواقع “وكلا الأمرين لا يمكن أن يأتيا بشكل عفوي، بل لابد من وجود فهم مشترك بين قيادات كل مجتمع إسلامي من هذه المجتمعات سواء الفكرية والتربوية الاجتماعية والسياسية إذا كان للأقلية نشاط سياسي. كما لابد من إعادة النظر في الثقافات والمعارف الذهنية التي يحملها المنتمون لأي مجتمع مسلم يعيش بين أكثرية غير مسلمة، بحيث يصبح كل منتم إلى ذلك المجتمع على وعي کامل بطبيعة البيئة وطبيعة وجود مجتمع من أقلية مسلمة فيه، وما يعزز هذا الجهود وما قد يضعفه في كل مجال“

دو

ولكيلا يكون هذا التواجد الإسلامي في الغرب سلبيا، وحتى يسهل التعارف والتعايش مع المجتمع الغربي، يوظف العلواني الرصيد المعرفي الشرعي عنده والثقافة التعارفية والتعايشية التي اكتسبها لصالح المسلمين في أمريكا الشمالية مثلا، فيتوجه إليهم بالنصح “ومن وسائل بناء الأمة من جديد في أمريكا الشمالية، إتقان لغتين أساسيتين. اللغة العربية التي هي لسان القرآن، وذلك من أجل دينهم وانتمائهم الديني، والإنجليزية لنشاطهم الدنيوي وللتفاهم مع جيرانهم. كما يجب أن تكون للمسلمين مدارس لتخريج الأئمة والمرشدين الدينيين من أبناء المجتمع الأمريكي يتعلمون في هذه المدارس الإسلام بصيغته السليمة من مصدره المنشئ كتاب الله ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- يتعلمون ذلك على

ص: 178

أيدي علماء قادرين ممن يعيشون في الغرب على تعليمهم ذلك بعمق وفقه وفهم ربانيين بعيدًا عن الثقافة المذهبية والفرقية والطرقية التي حطمت مفهوم الأمة، وفرقت المسلمين في بلدانهم“.

وأخطر ما يؤثر فى علاقة المسلمين فى الغرب فيما بينهم من جهة وفي علاقتهم بالغرب هو نقل معاركهم في بلادهم واستيرادها منه إلى واقعهم فتتعقد المشاكل وتزداد وضعيتهم سوءاً في مجتمع حساس وغير مستعد لضياع جهده ووقته في غير صالح وطنه. وهو ما ينبه له الدكتور طه إذ يقول : “ويفترض أن تختفي أيضًا الصراعات الحزبية القائمة في بعض الأماكن في أمريكا وأوروبا بين حركات وفئات إسلامية من إخوان مسلمين وحزب تحرير وجماعة إسلاميّة وجماعة التبليغ والصوفية والسلفية وما إلى ذلك. فإذا كان هناك أي مبرّر أو مسوّغ لوجود مثل هذه الجماعات في المشرق، أو في العالم الإسلامي، فلابد من البحث عن صيغ تجمعات أخرى تناسب البيئة واحتياجات المجتمع. أمّا الصيغة الحاليّة فهي تساعد على تفريق كلمة الأمة وإضعاف تأثير الوجود الإسلامي في الغرب. فلابد للأقليات من أجندة إسلامية خاصة تربطهم ببيئتهم وجيرانهم ومجتمعهم وأن تكون أولويتهم لقضايا بلدانهم تلك التي هاجروا إليها، فيهتمون بمجتمعاتهم الجديدة وبجيرانهم ويكونون في مقدمة الصفوف عند معالجة المشكلات المشتركة بحيث يقتنع جيرانهم ومواطنوهم والحاكمون في تلك البلدان بأنَّ المسلمين يشكلون إضافة نوعيّة وهم بفضل الله كذلك“.

" في فقه التعارف“:

فطر الله عز وجل الكون على التنوع والاختلاف والتعدد.. وقد نبه القرآن الكريم البشرية، وفسر لها قبل كل شيء اختلافها، في الألوان، وفي اللغات، وفي المواقف، والآراء، وبالتالي في الأديان، والثقافات ونبه إلى أن ذلك كله جزء من متطلبات الاجتماع البشري ومتطلبات العمران فلابد من ذلك التفاعل، لابد من وجود الجدل، ولذلك خلق الله سبحانه وتعالى كل شيء في هذا الكون من زوجين فهناك الذكر، وهناك الأنثى، وهناك الفاعل، وهناك المنفعل، وذلك شامل للشجر،

ص: 179

والمدر، والحجر وتكوين العناصر المختلفة من ماء، وهواء، وسواهما، وكذلك الناس ...“(1)غير أن الكارثة تحل حين لا نحسن تدبير هذا الخلاف ونخطئ في توجيهه نحو الأحسن، ويحدث هذا حين يفضل عرق على آخر أو طائفة على أخرى أو لون على آخر .. مما يستدعي تحديد ضوابط ومعايير واضحة تساعد الإنسانية على التعارف والتعايش في جو سليم بعيد عن الأحقاد والضغائن.

وهنا يمكن النظر إلى الاختلاف باعتباره ثراء وتنوعا، دافعا إلى التعاون والتآلف لا باعتباره مثبطا دافعا إلى التشتت والتفرق، فالخلاف أمر طبيعي في حياة البشر، وقد جعل الله سبحانه وتعالى- الخلافات الطبيعية في الألسن والألوان وما إليها دليلاً وشاهدًا على وجوده وألوهيته وربوبيته فقال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ (الروم: 22). وأما الاختلافات في الرأي والفكر فهي اختلافات يمكن للناس أن يعالجوا أجزاء منها بالحوار والجدال بالتي هي أحسن؛ لتقليل مساحتها أو لوضعها في إطارها الطبيعي وتحديد مستواها، فإذا بقيت واستمرت فينبغي أن تُحاط بما عرف بأدب الاختلاف»، بحيث لا ينكر أحد من المختلفين مزايا الآخر ولا أهمية تفكيره، ولا ما هو صحيح من آرائه وأفكاره، فالأصل عدم تشخيص الأفكار بل تجريدها عن الشخصنة(2)

وطه العلواني يفضل مصطلح “ثقافة التعايش“ على غيره من المصطلحات مثل ثقافة التعدد الأكثر تداولا في المرحلة الراهنة. وهذا المصطلح ( ثقافة التعدد ) مصطلح مؤدلج ، لا يحمل قيمة تحليلية، بل هو من تلك المصطلحات التي تعمل على تكوين وإيجاد وهم بوجود موضوع ثقافي مطلق اسمه ثقافة التعدد، وذلك لإحكام الحصار على جوانب ثقافية أخرى، ويمكن أن تسمى بثقافة التوحد، أو التفرد، أو الواحدية.

وبذلك يستطيع الناحتون لهذه المصطلحات من مفكري المركزية الغربية أن

ص: 180


1- -طه جابر العلواني : "الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش“ (حوار)، مجلة "قضايا إسلامية معاصرة“، س : 7 ، ع : 22 شتاء 2003، ص: 23-24
2- طه العلواني: "ثقافة الاختلاف" من الموقع الالكتروني

يكرسوا شرعية ثقافتهم، ويهمشوا ثقافة الآخرين، أو يحاصروها، وقد يدفعون أصحابها

أنفسهم للتنصل منها ، أو البراءة من الانتماء إليها، فضلا عن تبنيها. (1)والفرق جوهري بین التعدد والتعايش كما يرى العلواني، فالتعدد أقصى ما يمكن أن يقدمه هو أن للآخر حقوقاً وعليه واجبات كما له خصوصيات وعدم فرض ثقافة أخرى عليه أو الاعتراض على هذه الخصوصيات.. وهذا في الحقيقة يعارض في الصميم المركزية الغربية التي تدعو هي بذاتها لثقافة التعدد. فالغرب لايحترم خصوصيات غيره ولا ثقافته سواء في مرحلة الحداثة ولا في مرحلة ما بعد الحداثة وإن كانت تعترف بحق الاختلاف نظريا لكن عمليا لا تحقق ذلك خاصة خارج مجالها الجغرافي(2) .

في الأصول منهجية ل"فقه التعارف"

كعادة العلواني انه حين يطرق مشروع فكرة ما فهو يحاول التأصيل له والتأسيس من الناحية المنهجية.وهذا صنيع العلماء والفقهاء المتمرسين على النص واقتضاءاته المنفتحين على الواقع ومتطلباته. وقد كانت له وقفة مع مصطلح مهم يتداوله العديدون لكنه أعاد النظر فيه حين يقف عند مصطلح "فقه الأولويات“، بل تجاوزه ليطرح مصطلحا جديدا لم يلتفت إليه فيما نظن سواه من القلائل الذين انشغلوا بهذا الأمر. إنه ”علم الأولويات“، ذلك أن ”..إدراك الأولويات لم يعد ممكنا من خلال مدخل معرفي واحد، أو تخصص واحد، بل لابد من مقاربته من مداخل عديدة وتخصصات مختلفة، بل والنظر إليه على أنه علم له أصوله وقواعده وجوانبه العديدة، ومن الغبن لهذا العلم أن يحصر في دائرة علم ما أو يحشر في ثنايا مباحث حتى لو كان ذلك العلم هو الفقه"(3) . ويشبه هذا المقترح إلى حد بعيد ما طرح الطاهر بن عاشور رحمه اله حين انتفض على الأصوليين وهو يقترح علم مقاصد الشريعة، إذ يؤكد ".. فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار

ص: 181


1- طه العلواني:” الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش”، ص: 24-25.
2- طه العلواني (م، ن)
3- طه جابر العلواني: ”مقاصد الشريعة، دار الهادي بيروت - ط : 1، 2001، ص: 76.

النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها ، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر ، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله .."(1)

يمضي قدما طه جابر في تحديد أسس منهجية تؤسس لفقه التعارف من القرآن الكريم في الأصول الآتية:

"1.الإيمان بوحدة الأصل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ . فالإيمان بوحدة الأصل يعتبر دعامة أساسية من دعامات أصول منهجية التعارف.

2.الإيمان بوحدة الغاية: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾

3.الإيمان بان كل ما يظن انه عنصر من عناصر اختلاف، أو أصول تنوع، إنما هي أصول تعارف، أو دوافع للتعارف، أو وسائل مساعدة.

4. الإيمان بوحدة البشرية في عهدها مع الله جل شانه: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾

5. الإيمان بأننا جميعا مستخلفون في هذه الأرض، مسؤولون عن تعزيز قافلة التسبيح لله سبحانه وتعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ ﴾والقيام بمهام العمران، وأداء أمانة الاستخلاف وأننا جميعا مؤتمنون، وإنّ هذه الأمانة إنما انيطت بنا كجنس بشري، تحمل الأمانة،وعليه أن يقوم بها، وإلا كان ظلوما جهولا.

6. أننا جميعا مشتركون في قضية الابتلاء، مطالبون بان نحسن العمل، والعمل هنا

ص: 182


1- محمد الطاهر بن عاشور : ”مقاصد الشريعة”، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس - عمان - ط :2 2001 ، ص : 172

إذا لوحظت فيه جوانبه العامة، عمران الأرض، والقيام بمهمة الأمانة، والاستخلاف والوفاء بالعهد الإلهي ، فان ذلك لا يتم إلا من خلال التعاون والتعاون إنما يتوقف على التعارف والتالف.“(1)

لقد كسب العلواني خبرة كبيرة خاصة إذا علمنا أن الرجل نشا في العراق وهي بلاد التنوع العقدي، وتخرج من الأزهر إحدى اكبر المعاهد الدينية في العالم، وعاش مدة غير يسيرة في الغرب بالضبط بالولايات المتحدة الأمريكية بلد التنوعات العرقية والفكرية .. فاختمرت لديه جيدا فكرة التعارف حتى صارت - بالنسبة إليه -فقها، يتمناه قائما بذاته.

ونلمس هذا منه حين يقول مثلا عن تنوع العراق وتعدده وكيف تعامل المجتمع العراقي مع هذه النازلة: "ولقد عشت في بغداد سنوات من عمري كنت أرى اليهود العراقيين والنصارى والصابئة واليزيديين وغيرهم لا يختلفون في ثقافتهم رجالا ونساءً عن المسلمين. وحينما تقدم بي العمر بدأت أطلق على جيراننا من النصارى والصابئة واليهود (المسلمون ثقافيا) وأما معتنقو الإسلام فهم مسلمون دينا وثقافة. ذلك لا يعني أن الإسلام كان يعمل عن عمد وقصد على إذابة خصوصيات تلك الأقليات ودمجهم رغما عن أنوفهم في ثقافة إسلامية، بل كانت الثقافة الإسلامية تستهوي هؤلاء وتكسبهم إلى صفها وتجعلهم قادرين على تبنيها دون شعور بأنهم بذلك يتنازلون عن خصوصياتهم الثقافية أو يتنازلون عن هويتهم(2).

في الموقف من الغرب :

الفكر الإسلامي المعاصر بتياراته المتعددة، وهو يحتك أو يصدم بالغرب، يقف مواقف متباينة في التعامل مع الغرب كما يرى العلواني. وقد لخصها- بعد الرصد والمتابعة -في ثلاثة مواقف كبرى. فالتيار الأول يعرف بالسلفي، والتيار الثاني هو الذي يعرف بنخب الحداثة متدينا كان أو رافضا للدين، والتيار الثالث هو التيار التوفيقي.

ص: 183


1- طه العلواني : "الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش"، ص: 26.
2- طه جابر العلواني: "الوجود الإسلامي في أمريكا"الموقع الالكتروني

"والتيار الأول، ذو حساسية عالية من مقاربة أي فكر لم ينبثق عن الأصول الإسلامية، بل قد تبلغ درجة حساسيته حتى رفض المصطلح غير الإسلامي، فهو يتخذ على الدوام من النص النقلي وما ارتبط به واتصل به اتصالا وثيقا الدرع الذي يتدرع به في مواجهة أية مؤثرات أخرى."(1)

"أما التيار الثاني.. يعتبر القيم الإسلامية قيما نهائية وصالحة..لكنه حينما يواجه بحضارات أخرى، وبمؤثرات فكرية، أو بتيارات فكرية أخرى من خارج الدائرة الإسلامية، لا يجد مانعا من الانتقاء منها، والتفاعل معها، والعمل على استيعابها .."(2)

وإذا كان العلواني لم يفصل القول في التيار الثالث فلأنه ظاهر من السياق من جهة ومن جهة أخرى ربما لأنه يعتبره من خارج الفكر الإسلامي ومن ثم فموقفه من الغرب لايحتاج إلى بيان باعتباره أحد المرتمين في أحضانه فكريا وثقافيا وحضاريا..

لقد أصبح الغرب بفعل القبضة الحديدية التي أرخى بظلالها على العالم - والمسلمون جزء من هذا العالم هو المركز ، هو الميزان الذي توزن به الحضارات والشعوب والأفكار والثقافات.. وهذه المركزية هي التي تخول له إنتاج ترسانة من المصطلحات ينعتنا بها دون مراجعة أو اعتراض . فمرة يكون العربي المسلم ( إنسان ما وراء البحار) وثانية(إنسان العالم الثالث) أو ( إنسان التخلف ) مرورا ( بالأصولية والإرهاب ) وسواها.. لقد حولتنا ثقافات بعض النخب المستوردة إلى أصفار على هامش حضارة المركز الغربي لا يملك فرصة للحياة إلا من خلال الاندماج في ( السوق العالمية ) ، من موقع يجعله مجرد مكمل ومتمم لحاجات المركز الغربي.(3)

وبالعودة إلى موقف العلواني من الغرب وكيفية التعامل معه، فإننا نفضل ان نقارب هذا الموضوع عمليا أكثر منه نظريا. ذلك ان الوقوف على المشروع الكبير

ص: 184


1- طه جابر العلواني ( حوار ) : أبعاد غائبة عن الفكر الإسلامي المعاصر، مجلة قضايا إسلامية معاصرة-بغداد-ع: 5، 1999، ص : 35.
2- طه جابر العلواني: (م، ن)
3- طه جابر العلواني: "فقه الأولويات، مجلة قضايا إسلامية معاصرة - بغداد - ع: 7 ، 1999، ص : 152

الذي وقف حياته عليه يمكننا من معرفة موقفه من هذا العالم المخالف للفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، إنه مشروع“ إسلامية المعرفة“.

يرى العلواني - كغيره من النخب الأصيلة - أنه منذ أوائل القرن العشرين قد صارت السيطرة المطلقة في العالم لمنظومة الفكر والثقافة والمعرفة المنتمية للغرب مما جعل جميع المنظومات الأخرى تتراجع وتتخلى عن إمكانية المزاحمة أو حتى الريادة، وبالطبع منها منظومة المعرفة الإسلامية. (1)وهكذا فكل محاولة لزحزحة هذه السيطرة هي بمثابة إعلان عن عدم القبول به رمزا ثقافيا وفكريا وحيدا في هذا العالم. فكيف يكون الأمر بالتخطيط وتدبير الوقوف في هذه الموجة القوية وطرح بدائل عنها في معترك الثقافة والمعرفة والمنهج والحضارة؟

وهذا هو ما يطمح إليه مشروع العلواني حين يؤكد أن“ إسلامية المعرفة“ أو“ التأصيل الإسلامي للعلوم والمعارف“ أو توجيه العلوم وجهة إسلامية» أو إسلام العلوم“ أو“ النظام المعرفي الإسلامي“ أو “علم العلوم والمعارف“، هذه وبعض مصطلحات أخرى تمثل تعبيرا عن قضية أساسية واحدة هي قضية “البديل الفكري والثقافي ثم الحضاري“ الذي يمكن للإسلام أن يقدمه لعالم اليوم، بما في ذلك عالم المسلمين(2) .

إن الإسلامية في نهاية الأمر هي الوقوف أمام الغرب والاعتراض على طريقته في قيادة البشرية واختطافها إلى حيث يريد هو. فالنظام المعرفي الغربي هو الذي يصوغ للناس جميع تصوراتهم عن الكون والحياة والإنسان، بل يصوغ لهم معتقدات إذا لزم الأمر، ويجيب عن الأسئلة النهائية ..(3). وهذا الموقف من الغرب يعكس عمق وأصالة النظرة النقدية التي تميز هذا الرجل. ففي الوقت الذي كان يعتقد قطاع كبير من الناس في العالم الإسلامي - نخبة وعامة - أن الغرب مادام لم يمس المساجد والعقائد والأخلاق

ص: 185


1- طه جابر العلواني: كلمة التحرير مجلة إسلامية المعرفة -ماليزيا س: 1 ، ع : 2 سبتمبر 1995، ص: 5.
2- طه جابر العلواني: م، ن، ص: 5.
3- طه جابر العلوانی (م، ن) ص: 7.

فيمكن القبول بنظامه الثقافي والمعرفي والتعايش معه والتعايش هنا بمعنى القبول به واتخاذه منهجا وتصورا في الحياة، وليس بمعنى قبول الاختلاف معه.

والغرب نفسه يدرك خطورة هذا الموقف، وذلك لأنه أقوى من حمل السلاح. فحامل السلاح يمكن هزمه وحصره في الميدان واتخاذ الإجراءات القتالية في مهما كان الثمن في الأرواح والعتاد والخسائر المالية، في حين بناء الفكر والمعرفة البديلة وصياغة البدائل والاستقلال في القرار الفكري يمثل قوة، إذا تمكن منها صاحبها، خاصة وانه يملك رصيدا حضاريا قويا من مثل الإسلام، تجعل منه احد المزاحمين - في نظر الغرب أو المتعاونين - في نظر الإسلام- لمواجهة التحديات المتنوعة والمخاطر الرهيبة التي تهدد الإنسانية في هذا العالم المستضعف الذي تغول فيه الغرب.

الخاتمة:

أصبح التواجد الإسلامي في الغرب حقيقة قائمة بذاتها، كما أصبح التعامل والاحتكاك الغربي ببلاد المسلمين واقعا ملموسا أكثر من أي وقت مضى، مما يستلزم التوقف طويلا لإعادة النظر في المسير العام للإنسانية واستشراف المستقبل الذي أصبح يزداد قتامة مع توالي السنين.

لقد أصبح لزاما على الغرب أن يتنازل عن أنانيته وعجرفته وتكبره من خلال استضعافه واحتقاره للمستضعفين حيث لا يرى فيهم إلا أسواقا استهلاكية يغرقهم بالسلع وبالثقافة الاستهلاكية واقتصاد السوق ليثقل كاهلهم بالديون والربا فيسترقهم ويبتزهم.

كما أصبح لزاما على المسلمين التخلي عن خلافاتهم الضيقة، وطائفيتهم المقيتة، ومذهبيتهم البغيضة، ليلتفتوا إلى ما أكرمهم الله به من كنوز غنية، وثراء متنوع، في الوحي الرباني فيسخروه في خدمة الإنسانية ويسعوا في مصالحها من اجل تحقيق مقاصد هذه الرسالة الربانية في مصدرها الإنسانية في أهدافها ومعانيها.

ص: 186

وتحقيق هذه المهمة من قبل المسلمين رهين بالبحث عن الشرفاء والفضلاء في العالم من خارج المسلمين واستنصاتهم ليعرفوا عمق هذه الرسالة عن قرب وبدون واسطة .وهذه مهمة المسلمين ونخبتهم من المثقفين والعلماء في مختلف التخصصات، كلفتهم بها الرسالة السماوية التي بعثها الله عز وجل رحمة للعالمين.

وأول خطوة وأهمها هي مهمة البحث عن هؤلاء الشرفاء في الغرب، أو بالمصطلح القرآني "حنفاء الغرب"، والتعارف معهم.

هذا التعارف ينبغي أن يكون مخططا له بتحديد أولوياته وخطواته ومراميه وكل أسباب نجاحه. وهذا بالتحديد الذي حاول العلواني رحمه الله تعالى لفت النظر إليه والتأسيس له وذلك وعيا منه بأهمية الخطوة وخطورتها.

لقد فتح العلواني الباب على مصراعيه للفقه الإسلامي وأصوله لتنزيل أحكام التعارف وإنجاحه في الواقع الإنساني والعالمي. والأمة الإسلامية بمختلف أطيافها تملك من الرصيد ومن الزاد المعرفي والعلمي والأخلاقي من اجل تحقيق الشهود الحضاري. وذلك باعتباره مكونا من مكونات هذه الإنسانية وباعتبار الظروف القاسية والعيش الضنك الذي يهدد الإنسان، وباعتبار رصيدها الثري والغني.

لقد كان من أهم القضايا التي تؤرقه ويلح في معالجتها هي ضرورة "ممارسة الاجتهاد لبناء فقه للأكثريات في بلاد المسلمين وللأقليات في سائر أنحاء الأرض، فقه لا يؤدي إلى تغيير أي شيء من ثوابت العقيدة والشريعة، بل يؤدي إلى إعادة فقه التدين، ليجعل منه فقها معاصرا سليما، بحيث يستطيع الإنسان أن يكون متدينا، دون أن ينفصل عن عصره وواقعه، ومعاصرا دون أن ينفصل عن عقيدته، أو يتجاوز ثوابت شريعته (1)وهذا هاجس المجددين من الأمة الباحثين عن الأفاق الواسعة التي يتمتع به النظر الفقهي والشرعي الأصيل.

ص: 187


1- طه جابر العلواني وآخرون: "مقاصد الشريعة" حوارات أجراها عبد الجبار الرفاعي، دار الفكر-دمشق- ط:1، 2001 ، ص : 122.

- المصادر والمراجع:

طه جابر العلواني : ”مقاصد الشريعة، دار الهادي بيروت - ط :1، 2001.

طه جابر العلواني وآخرون: ”مقاصد الشريعة حوارات أجراها عبد الجبار الرفاعي، دار الفكر-دمشق- ط:1، 2001.

طه جابر العلواني(حوار) : أبعاد غائبة عن الفكر الإسلامي المعاصر، مجلة قضايا إسلامية معاصرة-بغداد-ع: 5، 1999.

طه جابر العلواني: الأصول المنهجية لفقه التعارف والتعاون وثقافة التعايش (حوار)، مجلة "قضايا إسلامية معاصرة ، س : 7 ، ع: 22، شتاء 2003.

طه جابر العلواني : "فقه الأولويات، مجلة قضايا إسلامية معاصرة -بغداد- ع: 7 ، .1999 .

طه جابر العلواني: "كلمة التحرير" مجلة إسلامية المعرفة-ماليزيا-س: 1، ع: 2، سبتمبر 1995.

طه جابر العلواني : " الآخر بين الإسلام والغرب في الموقع الالكتروني: //:http

/alwani.org

طه جابر العلواني: "الإسلاميون بين المصحف والسيف"، الموقع الالكتروني.

طه جابر العلواني: الوجود الإسلامي في أمريكا الموقع الالكتروني.

طه جابر العلواني: "ثقافة الاختلاف"، الموقع الالكتروني.

محمد الطاهر بن عاشور : ”مقاصد الشريعة، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس - عمان - ط 2 ، 2001.

ص: 188

نقد الفكر الغربي عند مُرْتَضَى مُطَهَّرَي

نبيل علي صالح

نبیل علی صالح

نبذة عن حياة الشيخ مطهري:

الكتابة الذاتية عن أصحاب مشاريع النهوض، ليست سهلة على الإطلاق، فدونها جهد فكري حثيث ، ومتابعة نشطة دؤوبة، ومنهجية تحليلية رصينة يفترض أن يلتزم بها للوصول إلى المطالب المدروسة.

الشهيد العلامة الشيخ «مرتضى مطهري»، أحد أهم الشخصيات العلمائية الإسلامية، كانَ هذا العقلاني والحكيم نموذجاً للمفكر الإسلامي الأصيل والمنفتح على الحياة والإنسان، اذ عُرف الشهيد مطهري بنشاطاته العقلية الفلسفية والكلامية القديمة والحديثة، وحتى عندما دخل المجال التاريخي (السيرة) والحقوقي (القانون والعدالة)، غالباً ما حكمته نزعة فلسفية بارعة ورصينة أي أنه كان يقرأ دائماً البعد الفلسفي سواء على صعيد فلسفة التاريخ أم فلسفة وتحليل الوقائع التاريخية، كما في قراءته للسيرة الحسينية، أو للمجتمع والتاريخ، أم على صعيد فلسفة الأحكام كما في دراسته المشهورة حول نظام حقوق المرأة في الإسلام وهكذا(1).

في هذه الدراسة حول سيرته وحياته ومنهجه البحثي، سنحاول تقديم صورة إجمالية عامة عن إبداعه العلمي العقلاني، ورؤيته للغرب والعلاقة معه.

ص: 189


1- حب الله حيدر« الاجتهاد وجدل الأصالة والمعاصرة ..قراءة في التجربة الفقهية للشهيد مرتضى مطهري». الموقع الرسمي للشيخ حيدر حب الله تاريخ النشر: 52014/12م. الرابط : http://hobbollah.com/articles

ولد الشيخ«مرتضى مطهري»في 12 جمادى الثانية من عام 1338 ه-.ق(1919 ميلادية) في مدينة «فريمان» بمحافظة «خراسان»، من عائلة متدينة عرفت بالعلم والتقوى، ولها جذور علمائية حوزوية عميقة.. وجاء والده( الشيخ محمد حسين مظهري) على رأس هذه العائلة، فدرس العلوم الدينية في مدينة العلم الديني (النجف الأشرف)، وبعد فترة من الإقامة في العراق والحجاز ومصر عاد إلى «فريمان»، وتوطن هناك، وقضى عمره في نشر المذهب وترويج الدين، وإرشاد الناس ووعظهم، والدعوة للإسلام ولمذهب أهل البيت(علیه السلام) بالذات.

تلقى الشهيد الشيخ« مرتضى مطهري» تعليمه الأوّلي في مدينته فريمان».. ثم انتسب طالباً دارساً للحوزة العلمية في قم بين عامي 1944 و1952م.. فحضر أولى الدروس عند «الإمام الخميني»والسيد« البروجردي». ثم سافر إلى أصفهان وتعرف هناك على«الميرزا أغا علي الشيرازي»، فتعلّم عنده التحقيق في نهج البلاغة ثم عاد إلى قم والتحق بدرس الفيلسوف العلامة «محمد حسين الطباطبائي»، ثم غادر إلى طهران سنة 1953م ، وانضم إلى جامعة طهران ليبقى هناك دارساً (ومدرساً) للفلسفة في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية التابعة لجامعة طهران لمدة 22 عاماً. وقد كان له - خلال هذه الفترة- علاقة بمنظمة ما يسمى ب-« فدائيي الإسلام»، حيث عمل معهم كمستشار فقط.

وبين عامي 1965- 197م ، قدّم الشهيد مطهري محاضرات فكرية منتظمة في حسينية الإرشاد الواقعة في شمال طهران..

وبعد هجرة الإمام الخميني (قائد الثورة الإسلامية) من العراق إلى باريس، كان الشهيد مطهري على ارتباط دائم ووثيق معه، بحسب ما أكده هاشمي رفسنجاني في مقابلة تلفزيونية : «كان منزل الأستاذ مطهري مركز هداية الثورة في داخل البلد، والتنسيق مع قيادة الإمام».

ص: 190

نتاجاته الفكرية (تعريف موجز بأهم مؤلفاته)(1)

عاش الشيخ مطهري ما يقارب ستة عقود زمنية .. وما بين ولادته واستشهاده مرّ تاريخ شخصي له حافل بالعطاء الفكري والنتاج الثقافي الإبداعي، وبنشر واسع للمعرفة الإسلامية الأصيلة، وممارسة النقد العقلاني للذات والآخر...

وجاءتْ مؤلفات مطهّري وتصانيفه الكثيرة، في شتى حقول وفروع العلوم الإسلامية المتعددة (في التفسير والفقه وأصول الفقه وأصول الدين والفلسفة الشرقية والحكمة الإسلامية وغيرها).. وقد ترجمت تلك الكتب إلى لغات مختلفة ومنها اللغة العربية. وتزيد مؤلفات مطهري على المائة كتاب فكري .. نقرأ فيها التوسع في العرض، والسلاسة في الطرح والعمق في التحليل والتفكيك، والشمولية في الأداء الفكري، والوعي الموضوعي بالأفكار المطروحة، مما أكسبه درجة رفيعة بين المفكرين النهضويين الملتزمين، وصانعي الفكر الأصيل، ومنتجي المعرفة الحقيقية.. وهذه المرتبة والدرجة العلمية الرفيعة والسامقة التي وصل إليها مطهري لها أكثر من دلالة، فهي (من جهة أولى) لم تأت حقيقةً - من فراغ، بل جاءت من خلال ما التزمه وسار عليه وتدرّج فيه، من دراسات حوزوية وأكاديمية متقدمة ومكثفة خلال سنوات طويلة من حياته التي كان العلم والمعرفة هاجسها الأساسي..كما أنها (من جهة ثانية) مؤشر من جهة أخرى على عقلانيته وانفتاحه، وعمق ،نظرته وسعة معرفته، وتجدر مقدرته الفكرية التي يقل نظيرها لدى كثير من الكتاب والمفكرين الكبار .. كذلك هي حصيلة للجهود الفكرية والاجتهادية لهذا الرجل الكبير التي جاءت استجابةً لتلبية حاجة العصر وإنسان العصر بظروفه المتحولة وتعقيدات وجوده المتنوعة والهائلة الحجم الكيفي والكمي. وهذا ما أوصله وأهله ليتبوأ طليعة المفكرين والمصلحين الدينيين.

منهج الشيخ مرتضى مطهري ورؤيته النقدية للغرب

كان الشيخ مرتضى مطهري - في كل طروحاته ونتاجاته النقدية - وفيّاً ( ومخلصاً)

ص: 191


1- يمكن تحميل معظم تلك المؤلفات كلها من الرابط التالي: http://alfeker.net/authors.php?id=155

لقيم الإسلام ومبادئه الإنسانية الأولى التي نشأ عليها. وكان سعيه الدائم وقلقه المعرفي، منطلقاً من فكرة إدخال هذا الدين في العصر، وأنّ هذا الدين يمتلك كافة المؤهلات والقابليات والقدرات اللازمة لدخوله (ومواكبته التطورات) العصر ومختلف مستجداته ومتغيراته، فهو الدين الخاتم، بجوهره القرآني الخالد ونصوصه المفتوحة على قراءات متعددة وتمثلات وتأويلات هائلة للنظر، وتدفق إمكانات المعرفة العملية.

وتجلى هذا الوفاء من خلال جَمْعه - بلا تكلّف بین أصالة الفكرة والمعتقد الإسلامي، وحداثة التفكير والمنهج العلمي الموضوعي الذي حصله من خلال دراساته وبحوثه الأكاديمية الطويلة .. ولا شك أن هذا التكييف الفكري والمزاوجة المعرفية - إذا صح التعبير - بين فكر ينتمي لفضاء زمني عتيق، وبيئة حديثة يعيش فيها، بتحولاتها الكبيرة ومتغيراتها الهائلة لا شك أنه عملية صعبة ومعقدة خصوصاً بالنسبة لمن نشأ(وتربى) بين أحضان الفكر الديني وأيديولوجيته «الخلاصية التمامية».. وبطبيعة الحال، هي قضية قد لا تتوفر إلا للقلّة قضية قد لا تتوفر إلا للقلة من المفكرين الموهوبين والناضجين

والمجرّبين الذين كان مطهري واحداً منهم.

استفاد المطهري من سعة اطلاعاته ومراجعاته النقدية لكثير من النظريات الفكرية والثقافات والفلسفات الإنسانية الحديثة التي درسها بعمق وروح مجردة ومسؤولة، وكأنه يريد الالتزام بها، فزاده هذا الاطلاع النوعي والانهماك الفكري التفكيكي معرفةً عميقة بالآخر، وبأفكاره وانفتاحاً على نظرياته وحكمةً وخبرة ونضجاً واقعياً في نقده لكثير من الأفكار والمفاهيم والطروحات والنظرات الدينية الإسلامية.

وللوهلة الأولى، قد يخال القارئ والمتابع (لبعض أفكار مطهري النقدية) أنه ليس إسلامياً أو أنه لا انتماء دينياً له، من شدة واقعيته الفكرية، وحسه النقدي العميق، وبراعته في القبض على مناهج المعرفة الحديثة بكل اتجاهاتها ومدارسها الوضعية المعروفة.. والسبب أنه كان مخلصاً لمعنى النقد بعنوانه الأولي، ولبنية الحوار الفكري، وأسس المساءلة النقدية ومعاييرها الموضوعية التي تقتضي الحيادية

ص: 192

والعقلانية وإنكار الذات والاقتدار النفسي الذاتي.

كان مطهري يكتب من موقع الخبرة والتجربة والانشغال العملي في ذاتية الفكرةوالنظرية المراد وعيها ودراستها وتفكيك معانيها، ونسج معان جديدة.. بمعنى أنه كان ينفذ إلى العمق والنواة المؤسسة والمولّدة، دونما تغافل عن تحولاتها ومظاهرها الخارجية المؤثرة.. وهذا الدخول أو الاستغراق الموضوعي-إذا صح التعبير- في بنية الفكرة أو النص المؤسس كان له هدف محوري هو الوقوف المتأمل أمام ذاتية الأشياء وبديهياتها الأولى بعد تعريتها من كل القشور والحجب، ونزع الأقنعة الخارجية عنها للنفاذ إلى العمق الأولي بقصد تحقق فاعلية النقد، والاشتغال النقدي الصحيح المتوازن والموضوعي.

انشغل مطهري في منهجه الفكري القائم على التحليل العقلي والتفكيك الموضوعي للأفكار المطروحة، بموضوع أساسي يلاحظ في معظم كتاباته وهو« تأصيل الفكرة والمعرفة الإسلامية» القائمة ( كرسالة دعوتية دينية) على الحق والعدل والحرية والدفاع عنها ، واعتبار أن التجديد الديني لا يعني تغيير الدين أو التجديد فيه (كقيم قارّة)، لأنّ أحكام الإسلام حية، لا يعتريها موت أو نسخ.. والله سبحانه تعهد صيانة هذا الدين إذ قال:«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »(الحجر: 9)، بل يعني التجديد في الفكرالديني المشروح في مناهجه وأدواته ووسائل تفكيكه وتأويلاته العقلية.. فخاصية الخلود هذه التي تميز الدين الخاتم عن النظريات العلمية التي قد تموت إلى الأبد مثل نظرية بطليموس في الهيئة ونظرية العناصر الأربعة للطبيعة.

هذا الإخلاص للفكرة القيمية الإسلامية لم يمنع الشيخ مرتضى مطهري من التواصل المنهجي والانفتاح العقلي على الثقافات المتنوعة ومدارس الآخرين الفكرية والمعرفية (حتى تلك المضادة لاعتقاداته وقناعاته الإسلامية)، وكان نقده هنا للآخر (الغربي بالتحديد كونه مرجعية متفوقة تقنياً وعلمياً، وحاضرة بقوة في مفاصل العالم كله إلى درجة الهيمنة والاستحكام السياسي والاقتصادي والغزو

ص: 193

الثقافي والإعلامي)كان نقده متركزاً ومنطلقاً من نقطة جوهرية وهي البعد النظري

«المفهومي» ، والاختلاف بين الرؤية الإسلامية والرؤية والغربية حول هذا الموضوع التأسيسي للفكر بكليته.. وقد جاءت رؤية مطهري النقدية للغرب في سياق مواجهة الخطر الوافد على البلدان الإسلامية المتمثل بالغزو الفكري المناهض للنظرية الإسلامية،ولاسيما التيارات الماركسية، ففي غفلة رضا حكمة الشرق بإنجازاتها، دقت الماركسية نواقيس الخطر، وكان خطراً موحشاً، أربك المؤسسة الدينية بزحف داهم البيوت، فاستيقظت هذه المؤسسة بمالها من عمق بشري، مدافعة عن (إيمانها) الذي هدّده الإلحاد الماركسي، وعن (قيمها) التي ناجزتها قيم الفكر المادي الزاحف بشكل منظم(1).. لكن بالإطار العام لم تقتصر المساءلة النقدية هنا على محور أو بعد واحد، بل امتدت كما أشرنا - لتطال منظومة التفكير البنيوي الغربية حيال قضايا عديدة ك--« نظرية المعرفة»(2) والتصور الفلسفي للعالم والحياة ككل.. وكان تقييم تلك المنظومات التفكيرية والمدارس الفلسفية، يتوقف بحسب مطهري على المنحى والاتجاه المتخذ في أصل طبيعة المعرفة، فما لم يتخذ الباحث رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في نظرية المعرفة، لا يصح منه الإذعان بأي قانون فلسفي أو مسألة علمية.(3). وبخصوص أهم المسائل التي تتناولها نظرية المعرفة بالبحث والدرس، فتتمثل في مباحث ثلاثة هي:( البحث في مصدر المعرفة-البحث في قيمة المعرفة- البحث في حدود المعرفة). والمسألة الأساسية في نظرية المعرفة هي البحث في قيمة المعرفة.. وهو بحث ينصب أساساً للإجابة عن التساؤلات التي تطرح حول «حقانية» الإدراك البشري، ذلك أنّ العقل الإنساني ينشط من أجل المعرفة وإدراك الواقع من حوله، بيد أنّ الإنسان يخطئ، وإقراره بالخطأ يوقظ فيه الريبة والشك،

ص: 194


1- مطهري، مرتضى. أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. ترجمة: محمد عبد المنعم الخاقاني، جزء: 12، ص: 15 دار التعارف، بيروت لبنان، طبعة ثانية لعام 1988م
2- نظرية المعرفة علم يبحث فيه عن مبادئ المعرفة الإنسانية، وطبيعتها، ومصدرها، وقيمتها، وحدودها، وفي الصلة بین الذات المدركة [بالكسر] والموضوع المدرك [بالفتح]. وكذا تبحث في الأفكار المتعلقة بأشكال ومناهج المعرفة والحقيقة، ووسائل بلوغها (راجع : المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية : 203 ، القاهرة 1979م ؛ المعجم الفلسفي . جميل صليبا :2 : 478 ؛ الموسوعة الفلسفية المختصرة : ص 476475).
3- المطوري، مازن. قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهري والصدر الحلقة 1 موقع كتابات في الميزان الرابط : http://www.kitabat.info/subject.php?id=36771

ويوقعه في الحيرة ما يكتنف آراء الناس من غموض وتناقض.. ثم إن العقل الإنساني بعد أن ينصب على الأشياء، يستدير لدراسة ذاته وطبيعة فكره، وهذا التأمل في الذهن والتساؤل عن قيمة ما يحمله من معرفة، أوّل لحظات الشك لا يلبث أن يجتازها بسلام أو ينحرف في تيارها، إلا أن إثارة الشك تفضي إلى إثارة أهم المسائل المعرفية، وهي المسألة المتمثلة بالتساؤل الذي يقول : هل يصل الإنسان والعقل البشري إلى اليقين ومعرفة الواقع فيما لو كانت هناك واقعية خارج ذهن الإنسان؟ وهل معرفة الإنسان متطابقة مع الخارج؟ هذا التساؤل الذي يمثل في جوهره البحث في قيمة المعرفة تعتبر كلّ الفلسفات شرقيها وغربيها، يقينيتها ولا أدريتها وما بينها، بمثابة جواب عنه.. أسئلة حيوية لا يمكن الإجابة عنها إلا بالعقل والبديهيات العقلية والإدراكات العقلية الحقيقية التي تسندها التجربة بمقاييسها واختباراتها وقوانينها العملية..

لقد أكد مطهري - في موضوع الإدراك العقلي- على أن موضوعية الإدراك بعامة ومطابقته للعالم الخارجي، أمر بديهي لا يتطلب برهاناً ودليلاً، بل لا يمكن الاستدلال عليه.. وجميع المعارف التصديقية التي يتمتع بها الإنسان، ترجع إلى معارف ضرورية أساسية، تدركها النفس الإنسانية من دون مطالبة بدليل أو برهان، بل لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل، وإنما تشعر النفس بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحتها كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية وقيمة المعرفة إنما تنبع من ارتكازها على هذه المبادئ والدقة في تطبيقها.

قوم مطهري - في ضوء إثبات القضايا العقلية وتفسير قيمة المعرفة الإنسانية عموم المذهب التجريبي (1)، ونَقَدَه نقداً مركزاً وشديداً خاصة لجهة النقص الذي بلي به المنطق الأرسطي، وكذا التأسيس العقلي والفلسفي للمنطق التجريبي.. وبين

ص: 195


1- وأما عن العوامل التي وَلَّدَت المذهب التجريبي والفكرة المادية في أوروبا، ومَهَّدَتْ لتتحول الفكرة المادية إلى نظرية وخط ومدرسة معرفية وحالة فكرية يتبعها الكثيرون، فقد حددها مطهري ضمن عدد من العوامل التاريخية والاجتماعية، هي: .1 قصور المفاهيم الدينية الكنسية. .2 قصور المفاهيم الفلسفية. 3. عدم نضج المفاهيم الاجتماعية والسياسية. (راجع مطهري، مرتضى. «الدوافع نحو المادية». ص: 27، دار التعارف للمطبوعات لبنان بيروت، طبعة أولى لعام 1994م.

علاقة الفلسفة بالمنطق، ونقد من خلال ذلك، عموم النظريات غير العقلية، وحدّدالمقياس في التمييز بين الحق والباطل مقارناً بين النظريات المتنوعة والمتعددة المختلفة الحديثة والقديمة في المعرفة. كما أثبت أن الفلسفة الحديثة لا تستطيع تفسير المعرفة والإدراك من غير أن ترجع إلى المعقولات الثانية الفلسفية، وفصل ذلك ضمن ردّه على هيجل» و «هيوم» و«كانت» وبقية الفلاسفة الماديين (1).

.. الواضح أن نقد الشيخ مرتضى المطهري للغرب يتركز على بعد فلسفي معياري لا سياسي آني لحظي( رغم الخلاف الفكري البنيوي الواضح بين منطلقات الليبرالية السياسية الغربية ومنطلقات التفكير السياسي الإسلامي الذي التزمه مطهري كرمز من رموز الثورة الإسلامية في إيران).

انطلق نقده للغرب، وتغدّى من قناتين، الأولى وعيه العميق لأسس الفلسفة الإسلامية ومبانيها النظرية القارّة التي تأخذ بالمذهب العقلي القائم على بديهيات العقل الأولى، ولا ترفض التجريبية ولا المذهب التجريبي. والقناة الثانية، تعمقه في فهم( ووعي) أسس الفلسفة الغربية ومرتكزاتها بكافة تياراتها، وبناها الفكرية النظرية والعملية. وقد لاحظنا أنه لا يوجد أي منهج فلسفي غربي، ولا رؤية فلسفية غربية معروفة، إلا وللشيخ المطهري رأي ما فيها وحولها، شارحاً وموضحاً وناقداً أو مؤيداً لفكرة أو نظرية ما منها هنا أو هناك.

يعتقد مطهري أن هناك مجموعة من المواضيع - من بين كل المجهولات التي يأمل الإنسان في إيجاد الحلول لها -يعيرها الإنسان الدرجة القصوى من الأهمية، وهي تلك المسائل المرتبطة بالنظام الكلي للعالم والحركة العامة للحوادث، والتي تؤخذ على أنها رمز الوجود وسر الكون.. والإنسان -سواء نجح أم خاب- لا يستطيع أن يكف نفسه عن المحاولات الفكرية والنشاطات العقلية التي تدور حول بدء العالم وغاية الوجود ومبدئه وحول الحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والمتناهي

ص: 196


1- النوري، حسن . العلامة مطهري في آرائه الفلسفية والعقائدية». مجلة ثقافتنا، العدد 6 الرابط : http://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticleArticleID=618

واللامتناهي، والعلة والمعلول، والواجب والممكن، وغيرها من الأمور التي هي من هذا القبيل.. وهذه الحاجة الفطرية هي التي أوجدت الفلسفة(1). من حيث أنها (أي الفلسفة )هي التي تجعل الوجود بأجمعه ميداناً ليجول فيه الفكر البشري، وهي تحمل العقل الإنساني على جناحها وتحلق به إلى عوالم هي منتهى آماله وغاية طموحه.

وقد مرّت الفلسفة الغربية- التي صال وجال مطهري في مختلف أرجائها الفكرية- بتحولات كبرى منذ الزمن« الاثيني» وقواعد أرسطو الفلسفية المعروفة، حيث الأسئلة والإشكاليات الكبرى (أسئلة الوجود والخلق والإنسان والحياة) تبحث عن إجابات معرفية عقلية نظرية .. فتعددت أنماط التفكير وتنوعت الصور والتراكيب والعناوين والمعاني والكل من رموز تلك الأيام الفكريين -كان يدلو بدلوه في ساحة التفكير والعقل والخيال محاولاً تقديم صورة أو إجابة ما( تصورية أو تصديقية) على تلك الأسئلة التي كانت تتراكم وتتعاظم مع تطورات الحياة، وتقدم الزمان والعيش البشري.. هذا التراكم في الفكر والرؤى والنظريات الفلسفية منذ زمن أرسطو، جعل للفلسفة تاريخاً، يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام هي الفلسفة القديمة، والفلسفة الوسطى، والفلسفة الحديثة. وتمتد مرحلة الفلسفة القديمة من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي.. وتمتد مرحلة الفلسفة الوسطى من القرن الخامس إلى القرن السابع عشر الميلاديين، أما مرحلة الفلسفة الحديثة فتمتد من القرن السابع عشر الميلادي حتى العصر الحديث.. وأما الفلسفة الإسلامية، فقد ابتدأت من القرن الثاني الهجري مع ظهور اهتمام عدد من المفكرين المسلمين العرب وغير العرب بالفلسفات الشرقية واليونانية. وكان مبحث (الوجود) هو المحور المركزي للبحث والتفكير في الفلسفة الإسلامية، لأن الحكمة الإلهية كما وسموها، هي ( علم يبحث فيه عن أحوال الموجود بما هو موجود) غير أن الفلاسفة المسلمين عالجوا حقيقة العلم والمعرفة وأنواعها ، ومراتبها، ومصادرها، وحكايتها عن الواقع وقيمتها، وغير ذلك في مباحث( النفس، والعقل والعاقل والمعقول،

ص: 197


1- الطباطبائي، محمد حسين . أسس الفلسفة والمذهب الواقعي. تعليق الشيخ مرتضى مطهري، ترجمة: محمد عبد المنعم الخاقاني دار التعارف للمطبوعات لبنان بيروت، طبعة ثانية لعام 1988م. ص: 10.

والمقولات والكلي، والوجود الذهني، وان لم يفردوا باباً خاصاً بمباحث المعرفة في مؤلفاتهم (1).. وهكذا اهتم بقضية المعرفة علماء الكلام والمتصوفة والعرفاء، فبينما اعتبر المتصوفة المعرفة حالة ذوقية وجدانية مصدرها القلب والحدس والشهود، وان العلم يتحقق بلا واسطة ترسَّمَ المتكلمون أسلوب الجدل، وتوسلوا للتدليل على مدعياتهم بالمظنونات والمشهورات ،والمسلمات واعتمدوا المنهج العقلي تارة، والمنهج النقلي تارة أخرى.

وكانت قضية «المعرفة»، سواء معرفة الذات أم المحيط أم العالم هي القضية الأساسية التي طغت (وهيمنت) -كما ذكرنا - على مجمل التفكير الفلسفي الغربي منذ بدايات عصر النهضة وصولاً إلى عصر التنوير .. حيث واصل الفلاسفة الغربيون (جون لوك، وعمانوئيل كانت وغيرهما) تركيزهم واهتمامهم بنظرية المعرفة، إلى أن انتهت مفاعيلها إلى المنطق الوضعي( الوضعية المنطقية) والتصور العلمي الفيزيائي للعالم وما تزال تلك المقولات التي برزت خلال النصف الأول من القرن العشرين سائدة ومستمرة إلى اليوم بل شكلت مصدر إلهام لمناهج العلوم المادية المعاصرة وفلسفتها.

طبعاً، برزت علی الساحة في أوروبا -كما قلنا- رؤى ومذاهب فلسفية متعددة ومتباينة منذ عصر ديكارت وحتى العصر الحاضر، وكان لكل من هذه المذاهب أتباع ومؤيدون. فبعض انصرف إلى الفلسفة العقلية، وبعضُ نظر إلى الفلسفة من نافذة العلوم التجريبية العقلية، وبعض اعتقد بأنه يمكن البحث والتحقيق في مسائل الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية وأبدى آراء في هذا المجال، وبعض ادعى أنّ الإنسانَ عاجز عن إدراك هذه المواضيع، وكل ما قيل في هذا المضمار - نفياً أو إثباتاً- قد كان قولاً بغير دليل. كانوا إلهيين في عقائدهم وبعض كانوا ماديين.. وعلى الإجمال لم يحصل أي تقدم مهم في هذا الفن المسمى ب- «الفلسفة الحقيقية» أو «العلم الأعلى» وهو الفن الذي يأخذ على عاتقه التحقيق في النظام الكلي للعالم، وتوضيح الوجود

ص: 198


1- الرفاعي عبد الجبار. إسلامية المعرفة .. هل هي قضية فلسفية من دون مضمون فلسفي». موقع مدارك. الرابط : htm.4/10-http://www.madarik.net/mag9

بأسره، سواء في أوربا القرون الوسطى أم في أوربا الحديثة، ولم يظهر نظام قوي مقنع يحفظ الفلسفة من التشتت والتفرق وأدى هذا إلى ظهور مشارب متناقضة في أوربا.. وأما ما هو موجود في أوروبا باسم الفلسفة وهو يستحق الإعجاب والاستحسان فهو لا يربط بالفلسفة، وإنما هو متعلق بالرياضيات أو الفيزياء أو بعلم النفس.. ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفلاسفة المسلمين الذين وجهوا معظم جهودهم للتحقيق الفلسفي قد أنجزوا الشيء الكثير ودفعوا الفلسفة- التي أوصلها اليونانيون إلى منتصف الطريق- نحو الأمام، ومع أن مسائل الفلسفة اليونانية عند ورودها إلى الحوزات الإسلامية لم تكن تتجاوز مائتي مسألة فإنها قد بلغت في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة، وتغيرت فيها أصول الاستدلال وطرقه حتى في المسائل الأساسية لليونانيين واكتسبت الفلسفة خاصية رياضية. وتظهر هذه الخاصية بجلاء في فلسفة صدر المتألهين. ومن الإنصاف أن ننسب هذا التقدم إلى العلماء المسلمين(1).

ولعل هذا الانكماش أو التراجع الفلسفي وعدم اقتحام مناطق مجهولة فلسفياً، كان من أسباب ودوافع صعود نجم الفكرة المادية في أوروبا على النحو الذي تفجرت من خلاله أفكار ومعطيات وانبثقت مذاهب متنوعة (تحت العنوان المادي)ظهرت في أوروبا بالتحديد

..وهذا التراجع كان له علة أساسية، هي افتقار تلك البلاد .كما يقول مطهري - لمذهب فلسفي عقلي محكم وقوي ومتلائم مع العلوم الحديثة. ووجود سلسلة من العقائدالسخيفة(2) التي يطلق عليها اسم «الحكمة الإلهية »بما هيأ الجو وفتح الباب على مصراعيه أمام انتشار وتفشي ما يسمى بالفلسفة المادية. ومن يرجع إلى الكتب المادية يجد ما هي نوعية العقائد التي بها هاجمها هؤلاء بشدة. وحتى إن مجموعة العلماء المحدثين الأوربيين المعتقدين بالنظرية الإلهية يعانون كثيراً من محتويات هذه الحكمة الإلهية. ومن المؤكد أنّ هذا التبعثر الفلسفي إذا-

ص: 199


1- المصدر نفسه، ص: 14
2- يضرب الشهيد مطهري مثلاً بسيطاً على تفاهة تلك النظرات الفلسفية المسماة حكمة أو فلسفة إلهية وهو تخصيص القديس توما الاكويني» (الذي يعتبر أكبر الحكماء في القرون الوسطى وتتجلى فيه الحكمة «الاسكولاستية» (المدرسية) وبقيت كتبه لمدة أربعمائة سنة هي الكتب الرسمية للحوزات العلمية والدينية في أوربا تخصيصه لفصل من كتاب «المجموعة اللاهوتية» يدور حول هذا السؤال: ما عدد الملائكة التي يمكن أن تحلّ في رأس إبرة ؟!...».

صح التعبير - لم يكن ليوجد لو أنّ «الحكمة الإلهية» في أوروبا قد أحرزت التقدم الذي ظفرت به بين المسلمين، وعند ذاك لم يكن الميدان ليسمح «للسوفسطائيين» أن يشيعوا خيالاتهم، ولا للماديين أن ينشروا غرورهم، وبالتالي فلا المثالية تستشري، ولا المادية تستحكم.

والتقدم الذي عناه مطهري هنا هو في نهاية المطاف والفصل الأخير إضفاء طابع روحي (غائي معنوي) على مفاهيم وتصورات الفلسفة الغربية التي انتهجت المنهج المادي البحت في نظريتها المعرفية وتصورها الفلسفي عن العالم، أي في قراءتها للذات والعالم.. وهذا الطابع الروحي (الوسطي) للفلسفة الإسلامية يرى أن العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية علوم مادية متحيزة اصطبغت بلون المحيط الذي نشأت (وتطورت )فيه، وما يحفل به ذلك المحيط، من ملابسات، وقيم ثقافية ومعايير منهجية، تستند إلى قراءة أحادية هي (قراءة الكون) فقط، وهذه القراءة تجسد حالة فصام حاد، لأنها تستبعد قراءة الوحي، التي تتكامل بها قراءة الكون، عبر منهج (الجمع بين القراءتين). كذلك تعتقد جماعة( إسلامية المعرفة) بأن فلسفة (العلوم الطبيعية) و(العلوم البحتة )هي فلسفة وضعية قاصرة، أفضت إلى منهج وضعي مادي، يفسّر ما يجري في العالم على أساس الجدل بين الإنسان والطبيعة، من دون وعي لدور الله في العالم وباختزال دور الباري تعالى يختزل الإنسان والعالم إلى مجموعة موجودات وأشياء مادية لا غير .. وتتلخص المرتكزات المنهجية لإسلامية المعرفة، حسب رأي دعاتها، بما يلي(1)

1 .صياغة النظام المعرفي الإسلامي.

2 .اكتشاف المنهجية القرآنية.

3 .بناء منهج للتعامل مع القرآن والسيرة والتراث الإسلامي.

4. بناء منهج للتعامل مع التراث الغربي والإنساني عموماً.

ص: 200


1- الرفاعي، عبد الجبار .« إسلامية المعرفة .. هل هي قضية فلسفية من دون مضمون فلسفي». مصدر سابق.

وهذا ما سار عليه مطهري من زاوية التأصيل المعرفي الإسلامي الذي انبنى أيضاً -وفي جانب آخر منه- على نقد الفلسفة ونظرية المعرفة الغربية، حيث يمكن عد كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) الذي ألفه السيد محمد حسين الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان)، وكتب تعليقةً موسعةً عليه تلميذه الشيخ مرتضى المطهري (موضوعنا في هذا البحث المقتضب حوله، يمكن عده كأول كتاب في الفلسفة الإسلامية الحديثة يخصص مساحة واسعة لبحث (المعرفة) ونقد الرؤية الغربية للمعرفة الذاتية والكونية.. فبعد أن فرغ الطباطبائي في المقالتين الأولى والثانية من بیان( معنى الفلسفة وحدودها، والعلاقة بينها وبين العلوم الطبيعية والرياضية) دشّن بحثه بنظرية المعرفة وأولاها أهمية متميزة، حيث جعلها تتصدر مسائل الفلسفة الأخرى، وعمل على ترتيب البحث فيها على ثلاثة محاور متسلسلة منطقيا، تبدأ ب- (قيمة المعرفة) يليها (مصدر المعرفة) وتنتهي ب-(حدود المعرفة).

لكن ورغم تأصيلية مطهري (ورؤيته) المعرفية الإسلامية، وقناعته العميقة بالمنهج والمشروع الإلهي الفكري والعملي، لم تمنعه (قناعته وإيمانه) من التمييز - في تعاطيه النقدي مع المعرفة والفلسفة الغربية الحديثة - بين الغرب الحضاري والثقافي والتقني والعلمي والغرب السياسي الاستعماري بتاريخه البربري والعنصري والوحشي ،ولعل ما زاد الصورة الغربية بشاعة هو هذا البروز الكبير السافر لكثير من الاتجاهات الفكرية والفلسفية الغربية ذات المنحى العبثي والمادي،وبالعكس فقد لاحظنا أنه وخلال المرحلة الاستعمارية كان الاستشراق الفكري مقدمة لإرهاصات الاحتلال الاستعماري بداعي تطوير الشعوب وتحديثها (1)..

-3 نماذج من نقد مطهري للفلسفة الغربية

نحن في هذه الدراسة الفكرية المقتضبة والمختصرة والمكثفة عن الشيخ مرتضى المطهري ، لن نتمكن من الإحاطة برؤية الشيخ النقدية لكل التراث المفاهيمي والرؤى الفلسفية الغربية منذ بدء تشكلها الأولي في العهد الاثيني، حيث كانت نشأة

ص: 201


1- المصدر السابق

أفكار فيثاغورث والسفوسطايين والشكوكيين، ثم فلسفة سقراط وأفلاطون وغيرهم، قبل نحو 2500 عام، مروراً بالفلاسفة بيكون، ديكارت، بيركلي، هيوم، روسو، كانت، شوبنهاور ،داروین ،جیمس ،نیتشه ،فروید ،دورکایم، برجسون،برتراند راسل ،وغيرهم، وصولاً إلى جان بول سارتر والفلسفة الوجودية.

كل تلك المحطات الفلسفية في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، خاض معها الشيخ مرتضى مطهري معارك فكرية وسجالات نقدية بنيوية صميمية في محاولة منه لإثبات قوة( وعلو كعب) الفلسفة الإسلامية (المرتكزة على العقل والبديهيات العقلية)، وعمق بنيتها الذاتية واتساع مقولاتها العملية، التي شملت الذات والموضوع.

من هنا سنحاول تحليل معايير هذه الرؤية النقدية على نحو من الإجمال العام، مع ذكر أمثلة مهمة في هذا الاتجاه.

..لدى مراجعة ما كتبه مطهري حول الفلسفة الغربية وتحليله، يمكن القول بأنّ الجهد النقدي له (المطهري) كان يتركز حول نقد الاتجاه المادي البحت المهيمن على عموم الفلسفة الغربية بكل تنوعاتها وأشكالها واتجاهاتها الفكرية والسياسية.. هذا هو الانطباع الفكري الذي يمكن أن نخرج به عن رؤية مطهري النقدية للفلسفة الغربية التي قيّدت الحقيقة بالرؤية المحسوسة فقط، دون وعي الأمور المعنوية والروحية، ورفضت بشكل كلي وشامل كل ما له علاقة بالأمور الغيبية الما ورائية، مع أن هذا الرفض ليس من مختصات العلم بما هو حس وتجربة وقوانين مادية، ورؤية عيانية مادية.

.. فعلى سبيل المثال، انتهج بعض فلاسفة الغرب منهجاً وجودياً يقوم على فكرة «أصالة الإنسان»، محاولين إثباتها وترسيخها في أذهان الناس على ضوء النزعة الحسية المادية.. حيث لرغبات الإنسان ونزعاته الأولى أولوية على ما عداها، ولا منهج يقودها كغاية ومعنى سوى الفردية والنفعية الذرائعية.. وأن الخير كله في مصلحة الفرد ولا شيء سواه، وهو مقياس الخير والمصلحة لذاته..

ص: 202

طبعاً هذه الفكرة كانت- كما يقول مطهّري - مطروحةً قبل ذلك،وهي تختلف عمّا تبنّاه الحكيم ابن سينا وأمثاله من فلاسفة المشرق من مبادئ وأصول فلسفية، كالقول بوجود نمطين من الخير، إذ هناك خير محسوس وخير معقول ؛ وهو بصورتيه يعني تلك الأشياء المادية والمعنوية التي يرغب الإنسان في تحقيقها.. وحينما يتطرق الوجوديون إلى المنفعة ( واللذة) فهم يقصدون منها الجانب المادي أحياناً، وربما يرومون منها الجانب المعنوي أحياناً أخرى، حيث يقولون إنّ العلم خير معقول لكنّ الطعام خير محسوس ، والإنسان بدوره مجبر على السير نحو ما يراه خيراً بشعوره الباطني، أي إنّه يروم تحقيق الخير من منطلق دواعيه الفطرية. لو سألناهم عن المعيار الذي يحدّد الخير، لأجابوا بأنّ الكمال هو المعيار في ذلك؛ وهذا يعني أنّ الخير يجب أن يضمن للإنسان بلوغ مراتب الكمال.

والإنسان بطبيعته المادية يبحث عن الخير المادي، وبطبيعته المعنوية يبحث عن الخير المعنوي؛ وهو في كلا الحالتين باحث عن الخير بما هو خير، فإن بادر إلى البحث عن العلم، فهو في هذه الحالة يروم بلوغ حقيقة تتمثل في خير معقول، وإذا بدأ يبحث عن المال فهو حينئذ يبحث عن حقيقة تتجسّد في خير محسوس..فالنمط الفكري الذي تبنّاه الفلاسفة الغربيون تمحور في أساسه حول كون الحقائق مادّيةً محسوسةً فحسب، ومن هذا المنطلق قالوا إنّ الإنسان إمّا أن يكون باحثاً عن الخير (المنفعة المادية)، وإما أن يبحث عن شيء لا وجود له، ولا يعدو كونه مجرد مبدأ معنوي؛ وحينما سادت البحوث الفلسفية حول المنافع المادية والمعنوية في أوروبا واجهت الفلسفة البشرية بأسرها انحرافاً كبيراً، بعد أن عدوا الحياة الإنسانية مجرد مضمار يجول فيه البشر لتحقيق منافع مادّية، وقالوا إنّ العقل يحفّز الإنسان على طلب الخير، ويأمره بالتخلي عمّا لا خير فيه، لكنّ الإنسان أحياناً يتنصل عن حكم العقل، ويلهث وراء تلك الأمور التي لا خير فيها، وهذا التضادّ هو حقيقةٌ موجودة لدى بعض إنْ لم يكن كثير من بني آدم فالإنسان برأيهم لا يحقق من وراء عناده أية نتيجة إيجابية، أي إنّ هذا العناد لا خير فيه؛ ولكن هل يمكن لأحد ادّعاء أنّ جميع أفعال الإنسان تتطابق مع حكم العقل ؟!... عد الفلاسفة الغربيون تلك الأعمال

ص: 203

المعنوية مجرد مبادئ وقيم، ولم يعدوها خيراً، لذلك أصبحوا في حيرة من أمرهم حول وضع تفسير لها، لأن الإنسان يسعى وراءها باختياره رغم خروجها عن نطاق الخير بزعمهم، فهو برأيهم يجب أن يكون مادياً محسوساً. رأيهم هذا باطل بكل تأكيد، فهل هناك من يدعي أن الجمال ليس خيراً؟!... وفي إجابته يقول مطهري بأن الجمال أمر معنوي، وليس مادياً، فهو لا حجم له، أي إنّه لا يملأ العين بحجمه المادي. وهل يمكن القول إنّ الفضيلة أمرٌ مادّيُّ ؟ ! والأمثلة في هذا الصدد كثيرة على مستوى القيم والأفكار الجمالية كقيمة الحرية والعدالة والكرامة وغيرها ... وبعد أن طرحوا هذه المسائل بصفتها أموراً غير معقولة وجدوا أنفسهم في مأزق من حيث إقناع المجتمع برأيهم حولها، إذ كيف يمكنهم تلقين الناس بأنّ القيم المعنوية مجرد أوهام لا حقيقة لها ؟! وهذا التشكيك يماثل ما ذهب إليه كبار فلاسفتهم من أمثال نيتشه(1) ، إذ عدّوا الحقيقة فحسب، وأنكروا كلّ أمر لا نفع مادي فيه، وزعموا أنّ العقل يرفض تلك الأمور التي لا يحقق الإنسان منها منافع مادّية (حسية)؛ ومن الطبيعي أن الفلاسفة الغربيين فسّروا هذه المسألة بأساليب مختلفة، فالجريء منهم صرّح بها من دون وجل، والذي لم يكن يمتلك الجرأة اللازمة التفّ على الموضوع وراح يلقنه للناس بأسلوب آخر ، ومنهم من قال إنّ القيم بلغت درجة التكامل، والوجوديون بدورهم تصوّروا أنّهم وجدوا الحلّ فعدّوا القيم تختلف عن الحقائق من حيث كونها مخلوقة - مصنوعة - وليست من سنخ الأمور التي يتمكّن الإنسان من اكتشافها. الأمور التي يمكن اكتشافها يراد منها تلك القضايا الحقيقية التي يتمكن الإنسان من التعرف عليها عن طريق العقل والعلم والاستدلال؛ في حين القيم تعني تلك القضايا التي يخلقها الإنسان بنفسه بحيث لم يكن لها وجود مسبق(2)

المنفعة

ص: 204


1- فيلسوف ألماني عُرف بفيلسوف القوة. آمن بالإنسان السوبرمان.. وهو ملهم للمدارس الوجودية، وما بعد الحداثة في مجال الفلسفة والأدب في أغلب الأحيان. روج «نيتشة» لأفكار توهم كثيرون أنها مع التيارات اللاعقلانية والعدمية. استخدمت بعض آرائه وأفكاره فيما بعد، من قبل أيديولوجيي ،الفاشية، وتبنّت النازية أفكاره. رفض نيتشه الأفلاطونية والمسيحية وكل ما يمت للأديان بصلة (الميتافيزيقيا) بشكل عام، ودعا إلى تبني قيم جديدة بعيداً عن «الكانتية» و«الهيغيلية» والفكر الديني.. كتب «نيتشة» نصوصاً وكتباً نقدية حول الدين والأخلاقية والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية منها والمثالية الألمانية. وكتب أيضاً عن الرومانسية الألمانية والحداثة.
2- دجاكام علي الفلسفة الغربية برؤية الشيخ مرتضى مطهري. ترجمة: أسعد مندي الكعبي، صادر عن :« المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية - العتب العباسية المقدّسة. طبعة أولى لعام 2016. ص: 425 - 426.

وأما الوجه السياسي لثقافة الغرب «المادية»، والتي تمظهرت من خلال الفكرة الوجودية

(أصالة الإنسان)، فقد اعتبر الشيخ مرتضى مطهري أنّ هذه الفكرة (بتطبيقاتها السياسية الليبرالية) هي من أهمّ أوجه المدنية الغربية، وهي تعني حرية الإنسان في تربية نفسه، وحريته في الفكر والعمل.. ويظهر الإنسان في هذا التعريف في صورة الكائن الغرائزي

(المتحرّر من قيود الأخلاق وضوابط التكليف ومعايير الردع والضبط الذاتي) والذي يقوم سلوكه على قاعدة المنفعة والمصلحة الخاصة فحسب. إذ ليس للتعبّد بالدين أو احترام القيم الإنسانية الخالدة أية معان تذكر في هذا الاتجاه.. بل الخوف من التزاحم مع مصالح الآخرين، بالأخص الخوف من ردود فعل الأكثرية المنافسة، وهذا الذي أدى إلى الامتناع عن الاعتداء على حقوق الآخرين الواضح أنه إذا فقد الخوف من الله من داخل الإنسان، وإذا لم يتمكن الإنسان من تقديم تعريف واضح للحق والباطل، وإذا أنكر الاحترام الذاتي والإنساني للآخرين، هذا الإنسانُ - المتمثل لتلك السلوكيات- سيعتدي على حقوق الآخرين، إذا ما توفّرت له السلطة والحاكمية..

هذه هي خلاصة رأي الوجوديين بالنسبة إلى القيم والمبادئ الأصيلة والمعنويات الدينية، لذا غالباً ما يراود أذهان الناس السؤال الآتي: ما المقصود من أن الإنسان هو الذي يخلق القيم ؟ للإجابة عن هذا السؤال قيل: المراد من القول بأنّ الإنسان هو الذي يخلق القيم هو أنه بطبعه يعد بعض المسائل من سنخ ،واحد، كالإيثار والأثرة حسب تعبير العرب، ومثل العدل والظلم ؛ فهما متساويان بحدّ ذاتيهما، لكنّ الإنسان يضفي القيمة الساميةعلى العدل، ومن ثم يمسي مختلفاً عن الظلم من حيث كونه ذا قيمة. كما نلاحظ فالإنسان هو الذي جعل العدل واحداً من القيم السامية، مثلما جعل الإيثار أرجح من الأثرة، وما إلى ذلك من أمثلة أخرى لا حصر لها جميع المفاهيم المتضادّة برأي الوجوديين كانت متساويةً في أساسها، إلا أنّ الإنسان هو الذي رجّح بعضها على بعض، فقد عدّ العدل أفضل من الظلم والصدق أفضل من الكذب والأمانة أفضل من الخيانة. وفي نقده العميق لهذه الأطروحة الوجودية الغربية

ص: 205

يسأل مطهري: ما المقصود من كون الإنسان هو الذي يخلق القيم؟..

يمكن القول أحياناً إنّ الإنسان يخلق القيم من خلال إضفائه حقيقةً على أمر ما، بحيث تكون موجودةً فيه سابقاً، أي إنّ الأمر نفسه موجود لكن هيئته (يعني: شكله وعنوانه) يتغير وهو فى هذه الحالة بطبيعة الحال لا يخلقه فالإنسان قادر على صناعة أشياء مادّية عبر تحويرها أو تركيبها بمختلف الفنون والمهارات التي يمتلكها فيضفي عليها صورةً أخرى؛ والوجوديون بدورهم متفقون معنا هنا (مع أتباع المنهج الإلهي) على أن تغيير الشكل والصورة والمادة لا يمكن عده خلقةً. إذن، القول بأنّ الإنسانَ صنع القيم (بمعنى أنه خلقها وأضفى عليها حقيقةً وجودية) هو كلام باطل جملةً وتفصيلاً كما يؤكد شيخنا المطهري؛ وحتى لو افترضنا أنّه أراد إضفاء حقيقة على الأمور المعنوية، فالسؤال الآتي يطرح نفسه: هل أنّ المعنوية بحدّ ذاتها موجودةً أو غير موجودة ؟ هؤلاء يقولون إنّ المعنوية لا حقيقة لها - أي إنّها غير موجودة- ونحن نردّ عليهم بالقول: كيف يمكن للإنسان إضفاء حقيقة على أمر لا وجود له وليس من شأنه أن ينزل في حيّز الحقيقة؟!..

القول بأنّ الإنسان خالق هو في الحقيقة اعتبار، والاعتبار هو أمر توافقي، فالكادر التعليمي في إحدى المدارس على سبيل المثال لا يمكنه مزاولة عمله الجماعي بشكل منسجم ما لم تكن هناك إدارة مشرفة عليه تسير شؤونه وتنظم أموره؛ ولأجل تحقيق هذا الهدف لا بدّ من قيام هذا الكادر باختيار أحد أعضائه كمدير له؛ وبطبيعة الحال فإنّ هذا المنصب الذي تولاه السيّد المدير لم يكن موجوداً سابقاً، بل إنّ الكادر التعليمي هو الذي ابتدعه - خلقه - ومن المؤكد أنّ هذا الخلق يعد أمراً اعتبارياً توافقياً مما يعني أنه ليس واقعياً لكون السيد المدير يتصف بهذه الميزة في عالم الذهن والاعتبار، إذ تحوّل خلال لحظة من معلّم كسائر أعضاء الكادر التعليمي إلى مدير مشرف على زملائه ؛ لذا فهو في عالم الواقع الأمر نفسه- ليس سوى ذلك الإنسان السابق الذي كان معلّماً، فتولي منصب الإدارة هو مجرد عقد جماعي واعتبار بحت لا غير ، والهدف منه يكمن في تحقيق المصلحة الجماعية، فهو أمر مسوّغ من

ص: 206

داعي المنفعة. إذن هذه هي حدود قدرة البشر على الخلقة(1).. وبناءً على ما ذكر فغاية ما يدلّ عليه الرأي القائل بأنّ الإنسان يخلق القيمة المعنوية للأشياء، هي عدم حقيقة تلك الأمور التي نعدّها قيماً ، لأنّ الإنسان هو الذي أضفى عليها هذا الاعتبار، وإلا فهي بحدّ ذاتها لا قيمة لها.

.. يؤكد مطهري بذل الفلاسفة الغربيين جلّ جهودهم بغية نفي الأصالة وعدوا القيم مجرّد أمورٍ تصوّرية متفق عليها، ولكنّهم غفلوا عن أنّ ما يتم الاتفاق عليه يتعلّق بالوسائل فقط في حين الهدف ليس من شأنه أن يدخل في ضمن ذلك. مثلاً يقال إنّ العملة النقدية ذات قيمة اعتبارية خلافاً للذهب الذي هو ذو قيمة حقيقية لأنه يدخل في كثير من الشؤون الحياتية ولأنّه شحيح وثمين بحدّ ذاته لا باعتباره؛ فقيمة العملة النقدية محدودة بالرقم المدوّن عليها وقد أجيز استبدالها بالذهب بغية تحقيق هدف معي، إذ أضفينا هذا الاعتبار المالي لها لأجل تيسير عملية التبادل التجاري. إذن، العملة النقدية لا قيمة لها بحدّ ذاتها ولا تختلف عن أية ورقة أخرى إن كانت ورقيةً، كما أنّها لا تختلف عن أية قطعة معدنية أخرى إن كانت معدنية؛ لكنّها من حيث الاعتبار ذات قيمة محدّدة مدوّنة عليها، فهي مجرد وسيلة لتحقيق هدف معي.

إذا عدَدْنا المبادئ الإنسانية الأصيلة مخلوقةً من قبل البشر على نحو الخلقة الحقيقية، فهذا الكلام باطل؛ لأنّ ما يوجده الإنسان من مبادئ وقيم يكون على نحو إضفاء اعتبار على بعض القضايا بصفتها وسائل يرام منها تحقيق أهداف معينة، إذ ليس من شأنها أن تكون أموراً اعتباريةً وهدفاً في آن واحد، فالإنسان لا يمكنه إضفاء اعتبار على أحد الأمور ثمّ يدّعي أنه هدفٌ، لأن فعله هذا يشابه عبدة الأوثان من العرب الذين كانوا يصنعون آلهتهم بأيديهم، وقد وبّخهم القرآن الكريم في قوله :تعالى: «قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحتُونَ»(الصافات: 95).

الهدف في الحقيقة أعلى مرتبةً من الاعتبارات التي يمنحها الإنسان لبعض القضايا مهما كان سنخها، لأنه يسعى إلى تحقيقه ومن البديهي أنّ الأمر الذي يضفي عليه

ص: 207


1- المصدر السابق نفسه، ص: 425

اعتباراً بالتوافق مع الآخرين هو أدنى مرتبةً من تلك الأهداف السامية.

والإشكال السابق لا يمكن حله بحسب مطهري إلا من خلال عد المبادئ الإنسانية أموراً فطريةً أي إنّها حقائق معقولة يتحرك الإنسان نحوها نظير حركته نحو الخيرالمادّي ؛ وهذه هي الفرضية الوحيدة التي يمكن على أساسها تصوّر تكامل الإنسان، فلو جردناه من هذه المبادئ السامية سوف تنتفي إنسانيته. القيم على هذا الأساس هي الخير الحقيقي ، ومن ثمّ لا صواب لأن نقسم أهداف الإنسان في الحياة إلى منافع وقيم ثم نقوم بتجريد القيم من فائدتها بداعي أنّها أمور عبثية لا تنسجم مع حكم العقل وعد السعي وراءها ضرباً من الجنون ولكن حتى وإن قيل إنّه جنون، فهو ممدوح وضروري(1) .

ويعتقد أتباع هذه المدرسة (أصالة الفرد) بالحرية المطلقة، والواضح أن الحرية المطلقة توصل الإنسان إلى الانحراف والفساد والاعتداء على حقوق الآخرين. ومن هنا، فالوجودية توصل إلى الفساد كما يقول مطهري، بل هي تمهد وتهيئ الأرضية له(2). إنّ حرية الإنسان هي من حقوقه الأساسيّة، وهي من القيم الإلهية المتعالية ومن جملة فلسفات بعثة الأنبياء تخليص الإنسان وإيصاله إلى الكمال والجمال. أما الإنسان الفكر الإسلامي وخلافاً لفلسفة سارتر - فهو كائن مقيّد .. أي ليس حرّاً وبعيداً عن كلّ قيد وشرط. صحيح أنّ الإنسان أفضل الموجودات ولكنه جزء من الخلق، وليس شيئاً مختلفاً وغير متجانس مع الخلق. الإنسان مصنوع الله، ويجب عليه أن يدفع عنه كلّ ما يمنعه من الوصول إلى الله، وقد جاء الأنبياء لتحريره على المستوى الاجتماعي عدا الداخل، وبالتالي نقله من «محورية الأنا» إلى «محورية الله والحقيقة المطلقة»(3) . إنّ هذه الحريّة تلقي على الإنسان المسؤولية والالتزام، وتفتح فيه بذور

ص: 208


1- مطهري مرتضى« مجموعة آثار (باللغة الفارسية)». ج 3، ص: -541 546.
2- شريعتي علي «الإنسان التائه». مجموعة الآثار الكاملة، الجزء: 25، ص: 31.
3- اعتبر مطهري أنّ الفلسفات والمذاهب الأخلاقية الغربية لا توصل الإنسان إلى الكمال، ليس هذا فحسب، بل تأخذ به إلى الحضيض. فالأوروبي الذي يتحدّث عن الإنسان وحريته، وقف ولقرون متمادية وبوساطة القوة حائلاً أمام تقدّم الآخرين، ولم تتضمن شعاراته المرفوعة سوى الزيف والخداع.. يقول الشهيد مطهري:« .. إن مثالية أوروبا لم تظهر على صورة عامل حي في حياتها على الإطلاق، وكانت النتيجة وجود الأنا الضائعة التي بدأت تبحث عن ذاتها في الديمقراطيات المتعارضة مع بعضها البعض، التي كانت تستثمر الدراوشة لمصلحة الأقوياء. اقتنعوا بما نقول من أنّ أوروبا اليوم هي أكبر مانع في طريق تقدّم الأخلاق». (راجع الثورات الإسلامية في المائة سنة الأخيرة. ص: 51)

الإيثار والتضحية فيما يتعلّق بالنوع الإنساني. إنّ هذه الحرية والشخصية الداخلية لايمكن الوصول إليهما عن طريق العلم والسلطة، نعم ، لو لم يكن هناك شخصية داخلية،لتمكنت الوسائل والأدوات من إغراقه في الأنانية.. والأنبياء كما يقول مطهري - جاؤوا ليقدّموا للإنسان الحرية الاجتماعية بالإضافة إلى الحرية المعنوية، والحرية المعنوية هي صاحبة القيمة قبل أي شيء آخر. ليست الحرية الاجتماعية هي المقدّسة فقط، بل الحرية المعنوية مقدّسة أيضاً، ولا يمكن الوصول إلى الحرية الاجتماعية من دون الحرية المعنوية ... لا يمكن تأمين الحرية المعنوية سوى عن طريق النبوّة والأنبياء والدين والإيمان والكتب السماوية(1) . كما يقول مطهري.

إذا الإنسان (من وجهة نظر فلاسفة الغرب) عبارة عن موجود ذي ميول وطلبات عديدة، وهو يعيش على هذا النحو بلا قيود ولا ضوابط سوى مصلحته وغريزته وحريته هذه الميول هي سبب الحرية في العمل. أما الذي يحدّ الحرية فهو حرية الميول عند الآخرين. ولا يوجد أي ضابطة أو إطار آخر يمكنه الحدّ من حرية الإنسان وميوله(2).. وأما نتائج ما سمّي بالنزعة الإنسانية والمدرسة الوجودية التي روّج لها فلاسفة كبار أمثال ،سارتر، فليست سوى هذه الأمور .. وهذه المدرسة الوضعية (النزعة الإنسانية) (التي تقول بأصالة الإنسان في مقابل أصالة الطبيعة وأصالة الله تعتقد بضرورة الابتعاد عن القيم الخارجية المفروضة على الإنسان أمثال الله والدين والعقل والطبيعة.. ويعتقد هؤلاء أنّ معيار الحق والباطل السيّئ والحسن، والخير والشرّ، هو ما يقتضيه سلوك الإنسان واحتياجاته وتأمين متطلباته ومصالحه وغرائزه.. وإذا كانت النزعة الوجودية تعتقد بعدم الاستعانة بالمصادر المقدّسة، حيث إنّ ذلك لا معنى له في نظرياتها، وإذا كانت تعتقد أنّ الحرية المطلقة هي محور كافّة الأشياء، فلماذا كان بناء هذه المدرسة يقوم على أساس أصالة المادة والحس؟!

ص: 209


1- مطهري مرتضى الحرية عند الشهيد مطهري . ص : 15 دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان بيروت طبعة أولى لعام 2001م
2- مطهري، مرتضى. حول الثورة الإسلامية». ص: 100.

الواضح أنه عندما لا يعتقد الإنسان بأي أمر مقدّس سوى ما يصنعه، تصبح القيم عنده غير ذات معنى فلا يمكنه فعل الخير وتحقيق فعل الإيثار»، بل يؤذي الآخرين من أجل راحته، ونيل سعادته وتأمين مزاجه الدنيوي.نقد

من هنا، يعود سبب النقد الفكري الذي وجهه مطهري لفكرة الأصالة (أصالة الإنسان) إلى النتائج السلبية الكارثية التي سيترتب عليها الإذعان للفكرة السابقة المفضية لاعتبار القيم مجرد قيم مخلوقة بشرياً لا أصالة لها البتة.. والتي يأتي على رأسها هجر الدين وإنكار الخالق، وضياع الأجيال، وتبديد طاقاتها، وانهيار منظومتها المعيارية المعنوية الدينية وإلزاماتها ومحدداتها القانونية الأخلاقية.. إذاً، هو معرفي رصين وصريح لا علاقة للسياسة وشؤون السياسة المبتذلة به لا من قريب ولا من بعيد.. والغاية منه، تكمن في الحفاظ على أصالة المشروع الديني، ونقاوة طرحه القيمي المعنوي، والدفاع عنه في مواجهة أفكار فلسفية اعتبارية تتقوم بالمنهج المادّي فكراً وسلوكاً، وتربط وجود الفرد الإنساني بغاية ومثل أدنى منخفض، بينما تريد المدرسة القرآنية ربطه بمثل أعلى مرتفع، لا بد من الكدح الارتقائي نحوه قيماً ومبادئ وسلوكيات معنوية غائية واعية ومسؤولة(1).

-4 الحداثة الغربية وانعكاسها في السياق الحضاري الإسلامي لم يتحدث الشيخ مطهري كثيراً عن موضوعة الحداثة الغربية بصورة مباشرة، كانعكاس لرؤية الغرب الفلسفية والفكرية ولجهود وتجارب وأفكار كثير من فلاسفة الغرب، بل ناقشها وحللها في لبها وجوهرها الفلسفي المعرفي كما ذكرنا، ناقداً مرتكزاتها الفلسفية المادية، القائمة على التجربة والحس والشك والنسبية.. داعياً إلى

ص: 210


1- وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة «يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنّكَ كادح إلى ربِّكَ كَدَّحاً فَمُلاقِيهِ » (الانشقاق 6) التي تضعُ الله تعالى غايةً وهدفاً أعلى للإنسان والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككل في حركتها التاريخية منذ فجر الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها ومن عليها.. فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى.. والكدح هنا، يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة، لأنّ هذا السير ليس سيراً اعتيادياً، بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلّق، فهؤلاء الذين يتسلّقون الجبال ليصلوا إلى القمم يكدحون نحو هذه القمم، يسيرون سیر معاناة وجهد كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو الله فإنما هي تتسلق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الأفضل باستمرار. (راجع المدرسة القرآنية للشهيد محمد باقر الصدر، ص: 149 ، دار التعارف لبنان بيروت، طبعة ثانية لعام 1993م).

ثورة ثقافية إسلامية الطابع والهوية والانتماء، تستفيد من الغرب دونما الانصهار به..

وبالاستطراد قليلاً في هذه النقطة، يمكن القول بأنه قد ظهرت في تاريخ الثقافةالإسلامية ثلاثة اتجاهات أو مسارات فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب المتقدم والمتفوق على بقية حضارات العالم ومنها حضارتنا الإسلامية، وهي:

الاتجاه الأول: من كان منبهراً بالغرب إلى حدّ التخلي عن كل ما يمت إلى الأمة الإسلامية بصلة، حيث دعا هذا الصنف إلى نبذ التراث، وأقام حاجزاً وقطيعة معرفية(نظرية وعملية) معه، ليحل النموذج الغربي محل النموذج السائد في حضارتنا.

والاتجاه الثاني: ارتد سلفياً رافضاً لمعطيات الحضارة الحديثة منكبّاً على التراث لا يرى غيره، بل ويُصر على تكرار النموذج الحضاري الإسلامي المعروف تاريخياً رغم مضي قرون طويلة عليه.

والاتجاه الثالث : عاد إلى التراث يستنطقه ويبحث فيه عن مصدر قوته ليؤسس - من عناصره القادرة على البقاء قاعدة تستوعب معطيات الحضارة الحديثة في إطار الإسلام وقيمه ومبادئه.. بمعنى أنه لم ينبهر ولم يعش «عقدة الخواجة» من تقدم الغرب المذهل، بل كان ينقده ويقومه ليستلهم منه الرقي الحضاري، فلا يرتمي في أحضان الغرب، ولا يرفضُ معطياته الحضارية(1). والاتجاه الأخير هو ما كان يدعو له الإسلام، وهو ما انتهجه وأصله مفاهيمياً كثير من العلماء والفلاسفة الكبار في تاريخ الثقافة الإسلامية وعلى رأسهم الشيخ مرتضى المطهّري الذي كان يقول في هذا الصدد: «إن الجمود والركود الفكريين اللذين حكما العالم الإسلامي خلال القرون الأخيرة، وخاصة توقف الفقه الإسلامي عن التحرك، وظهور روح الميل إلى الماضي، والنظر إليه والامتناع عن مواجهة روح العصر تعد من أسباب هذه الهزيمة. واليوم يحتاج العالم الإسلامي أكثر من أي وقت مضى إلى نهضة تشريعية تنبع من رؤية جديدة شاملة وواسعة وعميقة إلى التعاليم الإسلامية» (2).

ص: 211


1- الغرباوي، ماجد« إشكاليات التجديد» . ص: 26 . دار الهادي للطباعة والنشر، لبنان بيروت، طبعة أولى لعام 2001.
2- ،مطهري مرتضى «ختم النبوة». ص : 49. دار المحجة البيضاء دار الرسول الأكرم لبنان بيروت.. بلا تاريخ

كان مطهري إذاً، يعتبر النظر إلى الماضي تفاقماً لأزمة الفكر الإسلامي، وليس حلاً لمشكلاته، وأزمات الاجتماع الإسلامي المعاصر المتلاحقة.. وهي أزمات توحي بأن هذا الدين يعيش الهزيمة المادية النهائية.. وبرأي مطهري هي ليست هزيمة عضوية مادية (إذ هو أمر يمكن تعويضه)، بل هي أساساً هزيمة نفسية وانكسار معنوي رمزي وهذا ما قام به الغرب السياسي، من خلال إعاقته لتطوير واقع المسلمين، والوقوف في وجه تحديثهم وحداثتهم العلمية بناءً على مقتضياتهم المعرفية وسياقاتهم الحضارية.. واعتبر مطهري أنه ما لم تشعر الأمة بالغربة من ذاتها، وما لم تُخدع بثقافة وصناعة الغربيين وما لم تشعر بالحقارة بالنسبة إلى الدين والمذهب، فلا يمكن للعدوّ أن يطمع بها وأن يهزمها بتحطيم إرادة الوعي والتغيير والإبداع عندها.. يقول: «.. مما لا شك فيه أنّ الاستعمار الثقافي هو أخطر أنواع الاستعمار العديدة، فهل يمكن استعمار شعب من الناحية السياسية والاقتصادية قبل استعماره فكريّاً. وإذا كان المطلوب الاستفادة من الشخص يجب بداية سلبه شخصيته. يجب جعله يسيء الظنّ بما يملك، ويجب ترغيبه وتشجيعه على ما يقدمه الاستعمار»(1).

لقد سعی الشهيد مرتضى مطهري في كل كتاباته ونظراته الفكرية التجديدية الإبداعية إلى بناء نوع من الحداثة الإسلامية بناءً على نظرية المعرفة الإسلامية (خاصة في ظل نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وقيام دولتها بناء على مفردات الأصالة ورفض التبعية للغرب).. أي محاولة إنتاج ثورة فكرية معرفية حقيقية في عالمنا الإسلامي، تنطلق من قاعدة نقد خطاب الأصالة.. دون الانبهار بخطاب الغرب وثقافته الحديثة القائمة على الأصالة المادية والتمركز الثقافي والحضاري.

وغني عن القول هنا إن الثقافة الإسلامية هي بطبيعتها ثقافة «تأصيلية»، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلا أن حاجتها للتجدد في عالم التحول والتغير والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة لتتمكن من أداء دورها الريادي بغية تنوير المجتمعات وترشيدها بما يكفل لها

ص: 212


1- حول الجمهورية الإسلامية، مصدر سابق، ص: 160.

الارتقاء في سلم الرقي والتقدم كباقي الشعوب والأمم .. أي أنه لا يكفي أن نؤمن نظرياً بقدرة ثقافتنا على البناء والنمو والتصاعد بل لا بد من الاعتقاد أن شرط النمو هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوار ونقد مع مسببات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أولاً قبل الآخر ..

قد كان تركيز الشهيد الشيخ مرتضى مطهري على الناحية الثقافية والفكرية، نظراً لأنّ الغرب وجه سهامه إلى هذا الجانب، لإضعاف الروح المعنوية للأمة، ونجح إلى حد كبير على أمدية زمنية طويلة في إضعاف ثقة الناس بثقافتهم الأصيلة، فكان مطهري (وغيره من الإحيائيين) من أهم هؤلاء الذين صبوا جل اهتمامهم ومجهوداتهم على قضيةأساسية وهي استئناف الحركة الحضارية لهذه الأمة( انطلاقاً من هويتها المنفتحة)، وتصدوا لتلك الحالة الانهزامية التي أصابت الأمة في مقتل، من خلال مرض فقدان الإرادة على الفعل والتغيير والحضور في العصر، وكان اهتمامه الأول في عملية الإحياء السّاحة الفكرية، لأنّ هذه الساحة كانت مستهدفة أكثر من غيرها في إيران وفي العالم الإسلامي.

وهذه الهوية «القيمية» التي دافع عنها الشيخ مطهري، لا يمكن استعادتها اليوم من براثن التغريب المهيمن كلياً على المستوى العملي في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي، إلا بإعادة الثقة النفسية بهذه الهوية وإبراز عناصر الهيمنة الغربية التي فرضت علوم الغرب الإنسانية.. إذ كيف نريد العودة على سبيل المثال إلى علوم إنسانية إسلامية أو غير غربية، في الوقت الذي نتبع فيه النموذج الغربي سياسياً واقتصادياً وتربوياً وتنموياً ؟! كانت أفريقيا على سبيل المثال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تعتمد على غذائها نفسه.. أما اليوم فلم تعد كذلك، وباتت بحاجة إلى المساعدات والمعونة الغربية للحصول على هذا الغذاء ... كيف يمكن استعادة« علومنا الإنسانية» إذا لم نستعد الثقة بأنفسنا؟! أو إذا لم نتجاوز «عقدة» النموذج الغربي المرجعي ؟ .. عندما كتب المسلمون في عصور الازدهار والتقدم عن علوم النفس والأخلاق والفلك والطب والكيمياء والجبر والرياضيات وغيرها لم ينسبوا

ص: 213

إليها صفة الإسلامية، أو أي صفة أخرى. بل فعلوا ذلك وهم يعتقدون أنهم هم مرجعية هذه العلوم وعندما ترجم المسلمون أو قرؤوا العلوم الأخرى كانوا هم مرجعية المقارنة أو الاستيعاب. وعندما تبدل واقع المسلمين وتراجعت «دولتهم» وتقدمت «دولة» الغرب أصبحت العلوم الإنسانية علوما» غربية، بعدما أصبح الغرب مهيمناً ومسيطرا

حول المرأة: نظام حقوق المرأة في الإسلام.(مترجم). و قضية الحجاب.و الأخلاق الجنسية. (مترجم).

حول الثورة الإسلامية: الحركات الإسلامية في القرن الأخير. (مترجم). وحول الثورة الإسلامية (مترجم) . و حول الجمهورية الإسلامية (مترجم).

في القرآن معرفة القرآن (4 أجزاء) (ترجم منه 3 أجزاء).

في الثقافة والحضارة الإسلامية الإسلام وإيران.(3 أجزاء). (مترجم) . و الإسلام ومتطلبات العصر. (جزءان). (مترجم) . و التعرف على العلوم الإسلامية، ويشمل:( المنطق والفلسفة - علم الكلام والحكمة العملية الفقه وأصول الفقه-العرفان).و مشهد السر. (عرفان حافظ) . و الجهاد في الإسلام (مترجم) . وفي رحاب نهج البلاغة. (مترجم) . و الإمداد الغيبي في حياة البشرية . (مترجم). و شمس الدين لن تغيب. (مترجم) . و الإدارة والقيادة في الإسلام.

في الثقافة والحضارة الإسلامية: الرشد الإسلامي.(مترجم). وحول المحلل.و الحق والباطل. و إحياء الفكر الديني. (مترجم) . و التكامل الاجتماعي للإنسان.(مترجم). الشهيد.( مترجم).

في الاقتصاد: النظام الاقتصادي في الإسلام. و الربا والمصرف والضمان (التأمين).

ص: 215

الثقافة الغربية الحديثة على ضوء آراء الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله)

تدوین: ناد علي علي نيا

تدوین: ناد علي علي نيا (1)

مقدمة

احتدمت النقاشات في العصر الحديث وطرحت كثير من النظريات والآراء حول الثقافة الغربية لبيان مختلف جوانبها السلبية والإيجابية وكيفية التعامل معها، ومن المؤكد أنّ هذا الموضوع ذو أهمية بالغة للغاية ولا بدّ من تناول أطراف الحديث عنه بتفصيل وإسهاب بغية استكشاف حقائقه سيما وأننا في عصر الاتصالات الذي تحتدم فيه المواجهات في شتّى الصّعد ولاسيما العلمية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية.

المسألة التي لها الأولوية على صعيد معرفة حقيقة الثقافة الغربية هي اختلافها بشكل جذري مع النزعات الفكرية السائدة في المجتمعات الإسلامية ولا سيّما المجتمع الإيراني المسلم، إذ لا بد من وجود حدود معيّنة لا يمكن تجاوزها على هذا الصعيد، وبطبيعة الحال ليس من اليسير بمكان وضع أطر واضحة المعالم للتمييز بین الثقافة والأخلاق في المجتمعات الغربية والإسلامية، إذ إنّ البلدان الشرقية قد اقتبست من تلك الديار مباني فكرية متنوعة تحت طائلة الاستعمار والمد الثقافي المتواصل؛ ومن هذا المنطلق سلّط الباحث الضوء في هذه المقالة على أطروحات الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله )بغية بيان جوانب الموضوع ووضع أسس معتبرة للتمييز بين الثقافتين الغربية والإسلامية.

ص: 216


1- ترجمة: أسعد مندي الكعبي.

جميع العلماء والباحثين متفقون على أنّ الشهيد مطهري امتاز عن أقرانه ببراعته وحنكته في التعامل مع مقتضيات العصر ناهيك عن مقتضيات العصر ناهيك عن أنّه كان مصلحاً واعياً أدرك واقع المجتمع الإيراني بحذافيره، لذلك تطرّق إلى بيان واقع المجتمع الغربي في عدد من آثاره ووضح كيف تمكن أبناء تلك الديار من تحقيق إنجازات علمية وتقنية كبيرة إلى جانب نزعتهم السلطوية الاستعمارية، وقد اعتمد بشكل أساسي على المبادئ والأصول الفلسفية لمناقشة الموضوع وتحليله في حين أنّه قلّما احتج بالمصادر الدينية.

استناداً إلى ما ذكر سوف نتطرق في هذه المقالة إلى بيان أهم معالم الثقافة الغربية على ضوء التراث الفكري للشهيد مرتضى مطهري باعتباره أحد المفكرين الذين اطلعوا بدقة ودراية على أهم الأصول والمبادئ الفلسفية والعقلية لهذه الثقافة.

أهمية تدوين البحث

لا يختلف اثنان في ضرورة دراسة ماهية الثقافة الغربية وتحليلها وأهمية التعرف على مجمل القضايا المرتبطة بها من نظريات وأصول فكرية وإجراءات عملية ونتائج إيجابية وسلبية.

الثقافة الغربية تمحورت بشكل أساسي حول عالم المادة، وقد تأثر بها كثير من المفكرين الشرقيين الذين طرحوا آراءهم ونظرياتهم تحت مظلة ظاهرة الاستغراب التي تحوّلت إلى تيار عام اجتاح إيران وسائر البلدان في العالم ومن ثمّ همش ثقافاتها الأصيلة، وبطبيعة الحال فالنتيجة الحتمية لهذه الموجة العاتية هي رواج التوجهات المادية المتقوّمة على العلوم التجريبية والنزعة الإنسانية والعقل العملي المدبّر، حيث حلّت هذه التوجهات محلّ القيم الدينية ومن ثمّ همّشت نمط الحياة المعنوي وأزاحت الإيمان من الحياة الاجتماعية في بلاد المسلمين لتجردهم عن هويتهم الأصيلة وتجعلهم يدورون في حلقة مفرغة من دون أي هدف يُذكر.

وتجدر الإشارة هنا إلى ما جاء في وصية الإمام الخميني (رحمه الله )على هذا

ص: 217

الصعيد، إذ قال: «من المؤسف أن أحد المخططات التي كان لها تأثير كبير على مختلف البلدان في العالم وبما فيها بلدنا العزيز إيران هو قيام القوى الاستعمارية بتغريب المجتمعات التي تستعمرها عن ذاتها بحيث تجعلها خاضعةً إما للمعسكر الشرقي أو الغربي ومن ثمّ تضطرّ للتخلي عن ثقافتها باعتبار أنّ القوى الشرقية والغربية هي الأرجح وأهلها هم القوم الأفضل وثقافتها هي الأسمى لدرجة أنها تصبح قبلةً للشعوب المغلوبة على أمرها ...» (1)

لقد اتبع بعض المفكرين الغربيين أسلوباً استعمارياً ذكياً بغية تأصيل الثقافة الغربية في المجتمعات الإسلامية، وغالباً ما طرحوا آراءهم في ظل دعوات استعمارية استبدادية صريحة، واستهانوا أحياناً بالشعوب الضعيفة عبر التفاخر بإنجازاتهم المادية وعلومهم التجريبية لكي يرغموها على الإذعان للمد الاستعماري الغربي تحت ذريعة التطوّر العلمي والتقني؛ وهذا يدلّ بكل وضوح على أنّهم سخّروا التقنية والعلم الحديث كوسيلة لاستعمار البلدان غير المتطوّرة والاستحواذ على خيراتها بحجج شتّى كالتنمية والرقي والعمران والتثقيف والرفاهية، وما إلى ذلك من شعارات برّاقة تستبطن أهدافاً شيطانيةً خبيثة.

إذن، إن أردنا معرفة الأسلوب الأمثل في التعامل مع الثقافة الغربية والتصدّي للأهداف الاستعمارية التي استبطنتها الدعوات إلى الاستغراب والهادفة إلى تهميش تعاليمنا الإسلامية والإنسانية الأصيلة، فلا بدّ لنا من تسليط الضوء على شتى الأساليب التي اتبعها أرباب المد الاستعماري بكل شرائحهم الفكرية والسياسية من غربيين ومستغربين، ولا سيما تلك الجهود الحثيثة التي بذلت في هذه المضمار تحت مظلة العلم الحديث والتقنية المتطوّرة.

بإمكاننا دراسة ماهية الثقافة الغربية وتحليلها بصفتها تياراً فكرياً أساسياً تتفرّع عليه تيارات عدّة ثانوية مستقلة عن بعضها في ظاهر الحال رغم ارتباطها الوثيق من حيث الفكرة والمضمون ؛ وذلك في إطار المباحث الآتية:

ص: 218


1- وصية الإمام الخميني (رحمه الله) ، ص 36

1) العلوم والتقنيات التي شهدتها المجتمعات البشرية بعد عصر النهضة والحداثة ولا سيّما التطوّر المذهل والمتسارع على صعيد العلوم التجريبية.

2) النزعات الاستعمارية ونهب خيرات الشعوب وتهديدها والتدخل في شؤونها الخاصة.

من المؤكد أنّ البشرية في القرنين الماضيين كانت بحاجة ماسة وملحة إلى العلم والتقنية، إلا أنّ المجتمعات الضعيفة المغلوبة على أمرها عانت الأمرين من التخلّف ونير الاستعمار، فبقيت منزويةً في قوقعتها بعد أن نهب المستعمرون ثرواتها الطبيعية. إذن، الحداثة تطاولت على أديان الشعوب الضعيفة وتجاهلت قابلياته المحلية، والاستعمار بدوره استهدف خيراتها ومصالحها المادية.

وتتجلى أهمية دراسة آراء المفكّر الشهيد مرتضى مطهري وتحليلها لكونه امتلك معرفةً عميقةً بدقائق العلوم الفلسفية وتفاصيل التعاليم الدينية، ناهيك عن سعة معلوماته العامة وإلمامه بأهم مباني الفكر المادّي وخوضه في شتى مباحثه منذ أيام شبابه وبراعته هذه قد تجسّدت بأروع الأطروحات ضمن كتاباته الرصينة وعباراته البينة الواضحة، فطرح شخصيته كمفكر متديّن ومصلح متزن فاق أقرانه في العصر الحديث إثر إبداعه وحذاقته في تحليل مختلف جوانب الثقافة الغربية وتصوريها للقرّاء على حقيقتها؛ لذا بادرنا إلى تخصيص مباحث هذه المقالة بما ذكر من نظريات وآراء قيمة.

المقصود من الغرب

قبل أن نتطرق إلى شرح تفاصيل الموضوع وتحليله، لا نرى بأساً في تعريف القارئ الكريم ولو بشكل مقتضب بالمقصود من مصطلح«غرب» في المباحث الفكرية المطروحة حول الحداثة والتقنية والاستعمار.

عندما يدور النقاش حول الغرب وأهم النزعات الفكرية المطروحة في رحابه من قبل أتباع المعسكرين الشرقي - الاشتراكي - والغربي - الرأسمالي - فلا يراد منه تلك

ص: 219

البقعة الجغرافية الواقعة غربي الكرة الأرضية، وإنما يقصد منه منظومة ثقافية اجتماعية تأريخية مما يعني أنّه اصطلاح شامل يطلق على المعالم الحضارية التي لا تتناغم مع المشارب الفكرية في المجتمعات الشرقية. وعلى هذا الأساس فالتعريف يشمل أيضاً ثقافات شتى المناطق والبقاع الجغرافية النائية عن بلداننا الإسلامية، لذا فإنّ بلداً من بلدان قارة أمريكا الجنوبية يمكن أن يدرج ضمن قائمة البلدان الشرقية من حيث ظاهرة الاستغراب، وفي الحين ذاته من الممكن أنّ بلداً من بلدان شرق آسيا ينضوي تحت مظلة المعسكر الفكري الغربي؛ إذ إنّ المعيار الأساسي في الاستغراب أو عدمه هو مدى تأثر المجتمع بالثقافات الشرقية أو الغربية بغض النظر عن الرقعة الجغرافية التي يشغلها . الشهيد مطهري بدوره التفت إلى هذا التقسيم في مختلف بحوثه العلمية ومن جملة ما قاله بالنسبة إلى الإنجازات التي تحققت إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران ما يلي:

«أحد الإنجازات الهامة التي تحققت بعد انتصار ثورتنا الإسلامية يكمن في إعادة الثقة إلى شعبنا وانتشاله من حالة الانهيار والشعور بضياع الهوية مقابل العالم الغربي بمعناه الأعمّ المتمثل بالمعسكرين الشرقي والغربي»(1). كما نلاحظ من هذا الكلام فالشهيد مرتضى مطهري يعد الغرب مفهوماً في مقابل مفهوم الشرق، اذ أكد على وجود مواجهة تأريخية ثقافية محتدمة بين المجتمعات البشرية كافة، وتوصل في بحوثه الفكرية إلى أنّ المد الثقافي الغربي يروم استئصال جميع الثقافات الشرقية لذا فالسبيل الوحيد لانتشال مجتمعاتنا من هذا الخطر المحدق بها هو الحفاظ على تأريخنا العريق وأصولنا الثقافية، ومن هذا المنطلق شدّد على خطر الفكر الاشتراكي معتبراً أنه جرد المجتمع الإيراني من هويته الشرقية وساقه نحو مشارب فكرية غربية لا تمتّ إليه بأدنى صلة؛ ومن جملة ما قاله في هذا الصدد: «لو اعتبرنا العرق الآري كمعيار لتحديد معالم القومية الإيرانية فحصيلة ذلك التقارب المحتوم مع العالم الغربي الذي ينحدر من هذا العرق أيضاً، وهذه القرابة العرقية بطبيعة الحال تستتبعها آثار ونتائج على صعيد القرارات الوطنية والسياسية التي تتخذ في بلدنا فتضطرنا للنأي بأنفسنا عن البلدان التي تجاورنا وسائر الشعوب المسلمة غير الآرية والسير في ركب

ص: 220


1- مرتضی مطهری پیرامون انقلاب اسلامي (باللغة الفارسية)، الطبعة التاسعة، منشورات صدرا، ص 45

البلدان الأوروبية والغربية؛ وفي هذه الحالة يتحوّل أعداؤنا المستعمرون إلى أصدقاءمقربين ويمسي العرب المسلمون غرباء بعيدين عنا.

ولو كان الأمر على العكس من ذلك بحيث اعتبرنا القرون الأربعة عشرة الأخيرة من حياة مجتمعنا بأنّها الهوية الحقيقية لنا ولقوميتنا، فسوف تتغير وجهتنا ونسلك سبيلاً آخر بحيث نعتبر العربي والتركي والهندي والأندونيسي والصيني المسلم مقرّباً لنا ونتعامل مع الغربي غير المسلم كغريب عنا حتى وإن كان ينحدر من نفس جذورنا القومية»(1). نستشفّ من هذا الكلام أنّ الشهيد مطهري أناط المعيار في تحديد ما إن كانت النزعات الفكرية للمجتمعات شرقيةً أو غربيةً إلى مدى تبعيتها للثقافتين الشرقية والغربية؛ ومن هذا المنطلق سوف نتطرق في هذه المقالة إلى بيان وجهات نظره حول الهوية المزدوجة للثقافة الغربية(2) والسبل المناسبة التي ينبغي الاعتماد عليها في التعامل معها، وذلك ضمن المباحث الآتية :(3)

(1) الخلفية العلمية للشهيد مرتضى مطهري ومدى إلمامه بشتى جوانب الثقافة الغربية.

(2) آراء الشهيد مطهري بالنسبة إلى التوجهات العلمية والصناعية في العالم الغربي.

(3) وجهات نظر الشهيد مطهري حول النزعات الاستعمارية الغربية.

4 ) أسباب تدهور أوضاع المسلمين وتخلّفهم، والمقترحات التي طرحها الشهيد مطهري للتصدّي إلى الثقافة الغربية.

ص: 221


1- للاطلاع أكثر راجع مرتضى مطهري، خدمات متقابل إسلام وإيران (باللغة الفارسية)، الطبعة الثانية عشرة، منشورات صدرا، ص 18
2- الشهيد مرتضى مطهري لم يدعُ إلى نبذ الثقافة الغربية من أساسها كما فعل ،آخرون بل عدها سلاحاً ذا حدّين - مزدوجةً - ففيها الغثّ والسمين أيضاً؛ لذلك وصفها كاتب المقالة بأنها مزدوجة الهوية.
3- فضلا عن هذه المواضيع هناك مباحث فرعية أخرى سوف نتطرق إلى بيان بعض جوانبها في تفاصيل المقالة.

المبحث الأوّل: الخلفية العلمية للشهيد مرتضى مطهري(رحمه الله) ومدى إلمامه بماهية الثقافة الغربية

الشهيد مرتضى مطهري أكد في كتاباته على أنه بدأ بمطالعة الثقافة الغربية بشكل تخصصي في عام 1946م، حيث دوّن في مقدمة كتابه (أسباب النزعة إلى المادية)(1) ضمن حديثه عن النزعة المادية ما يأتي: بدأت دراستي للعلوم العقلية بشكل تخصصي في عام 1944م، وكنت أشعر في قرارة نفسي بضرورة الاطلاع عن كثب على الأصول المنطقية التي يتبناها أصحاب الفكر المادّي عبر قراءة مختلف مؤلّفاتهم التي تضمّنت أهم آرائهم ومعتقداتهم.

لا أتذكر بالتحديد، ولكن ربما في عام 1946م ،قرأت بعض الكتب التي كان أعضاء الحزب الشيوعي يوزّعونها في إيران باللغة الفارسية، كما قرأت بعض الكتب العربية التي طبعت في مصر بنفس هذا المضمون كذلك كنت أتابع مؤلفات الدكتور تقي آراني بدقة ولكن نظراً لعدم إلمامي آنذاك بمعاني بعض المصطلحات الفلسفية الجديدة فقد واجهت صعوبةً إلى حد ما في فهمها، لذلك كنت أراجعها مراراً وتكراراً وأدوّن ما كان غامضاً عليّ منها ومن ثمّ أبحث عن دلالته في مختلف المصادر العلمية والفلسفية؛ وبعض كتبه نقشت مضامينها في ذهني لكثرة قراءتي لها.

في عام 1950م أو 1951م حصلت على كتاب أستاذ كلية الأعمال في باريس المفكر الفرنسي جورج بوليتزر ، وقد أردت حينها حفظ الآراء التي طرحها فيه بالكامل، لذلك قمت بتلخيصه في كرّاسة خاصة ما زالت عندي حتى اليوم وفيها أيضاً تلخيص لكتاب الدكتور تقي آراني (المادية والديالكتيك)(2)

الهاجس الأساسي الذي كان يراود الشهيد مطهري في بحوثه حول الفكر الغربي

ص: 222


1- عنوان الكتاب باللغة الفارسية: (علل گرایش به مادي گري)
2- مرتضى مطهري علل گرایش به مادي گري (باللغة الفارسية)، الطبعة الثالثة عشرة، منشورات صدرا، طهران، 1372 ه- ش (1993م)، ص 10 - 11.

نشهده جلياً في كتابه (الإنسان والمصير )(1) ، حيث قال فيه: «قبل عشرين عاماً تقريباً عرفت لأوّل مرّة أنّ الغربيين يعتبرون القضاء والقدر سبباً أساسياً لتخلّف المسلمين،وحينها لم أكن قد التحقت بدروس الحوزة العلمية بعد... (2) إذن، هناك دلالة واضحة في هذا الكلام وما شاكله من أقوال الشهيد مطهري على اهتمامه البالغ بالفكر الغربي، فهو كالطبيب الذي يسخر مساعيه لصيانة مجتمعه من الأوبئة والأمراض الخطيرة المحدقة به، حيث يبادر إلى تحصينه بلقاح مضاد كإجراء وقائي؛ لذلك تصدّى بحكمة وذكاء لكلّ مدّ فكري يهدّد ثقافة المسلمين أو نزعة منحرفة تقدح بمعتقداتهم وتؤثر على تدينهم، وإلمامه الشامل بالعلوم الفلسفية مكنه من تشخيص ماهية الأصول الفلسفية الدينية وتمييزها عن المتبنّيات الفكرية الإلحادية، إذ أدرك بكلّ وجوده حقيقة الفلسفة الإسلامية وعلاقة الخالق بالمخلوق في هذه الحياة المادية التي طغت عليها الفلسفة الإلحادية.

لقد تعامل هذا المفكر البارع مع سائر المدارس الفكرية - ولا سيما المدرسة الفلسفية المادية - في إطار رؤية فلسفية متقوّمة على مبادئ وأصول دينية، حيث تمكن من استنتاج قواعد جديدة ذات صبغة تراثية وفي الحين ذاته نقية من كل شائبة ولا يكتنفها أي نقص وخليل ليتحف بها قراء آثاره والباحثين عن الحق والحقيقة أثرى المفاهيم العلمية والنظريات النافعة؛ وقد وصف أسلوبه الفريد هذا بالقول: «في بادئ الأمر حينما بادرت إلى قراءة الأصول الفلسفية المادية والدينية على حد سواء، حاولت أن أفهم أوجه الاختلاف الأساسية بين المدرستين الفكريتين الغربية والإسلامية بدقة متناهية، حيث بذلت قصارى جهودي لأعرف نقطة الخلاف الأساسية التي تميزهما عن بعضهما » .(3)

لم يتعامل الشهيد مطهري مع الفلسفة بصفتها علماً عقلياً بحتاً، بل عدّ قواعدها

ص: 223


1- عنوان الكتاب في اللغة الفارسية( انسان و سرنوشت).
2- مرتضی مطهري انسان و سرنوشت (باللغة الفارسية)، الطبعة الثانية عشرة، منشورات صدرا، طهران 1372ه- ،ش ص 21
3- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري باللغة الفارسية ص 12

العقلية أصولاً ناجعة لدراسة المفاهيم الدينية وتحليلها بأمثل وجه وكذلك اعتمد عليها بوصفها قواعد معتمدة لتقييم السلوكيات البشرية، ناهيك عن أنه تمكن بواسطتها من التعرّف بدقة على مكامن الخلل التي تكون منفذاً لتغلغل التعاليم المنحرفة في الفكر الإنساني ومن ثمّ طرحها على طاولة البحث والتحليل بصواب والأهم من كلّ ذلك أنّه سخّرها ببراعة بهدف التصدّي للمد الفكري الغربي، وهذه الحالة تتجلى بكلّ وضوح فيما لو أمعنا النظر وتأملنا بما دوّنه في كتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي )ولا سيّما في المباحث المتعلقة بالإمكان والوجوب، والعلة والمعلول.

المبحث الثاني: الثقافة المادية الغربية

نتطرق فيما يأتي إلى بيان المتبنّيات الفلسفية الأساسية للأستاذ الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله) حول ماهية الثقافة الغربية ضمن المباحث الآتية:

أوّلاً: الفكر التخريبي

تناول الشهيد مرتضى مطهري مختلف نظريات المفكرين الغربيين وآراءهم بالبحث والتحليل بدقة متناهية وبراعة منقطعة النظير لأجل توعية المسلمين بالخطرالمحدق بهم والوافد إليهم تحت مظلة العلوم المادية والأفكار العلمانية التي لا تمت بأدنى صلة لدينهم سيما وأنّ هناك من يحاول تفسير جميع الظواهر الموجودة تفسيراً مادياً، لذلك امتدح السيد جمال الدين الأسد آبادي - الأفغاني - لكونه امتلك فهماً عميقاً وإدراكاً شاملاً بجميع جوانب الثقافة الغربية، حيث نقل آراءه في عدد من مؤلّفاته ووصفه بالقول: «أحد الأهداف التي طمح السيد جمال الدين إلى تحقيقها هو أن يتمكن المسلمون من اكتساب العلوم الغربية وامتلاك تقنياتهم الصناعية، ولكنّه مع ذلك كان يؤكّد على كون الإيديولوجية الإسلامية تختلف بالكامل عن النزعات والأفكار الغربية، لذلك كانت رؤيته للحياة تختلف عما تبنّاه المستغربون من أقرانه آنذاك، حيث دعا المسلمين إلى حثّ الخطى لأجل الانتهال من العلوم الغربية وفي الحين ذاته حدّرهم من الوقوع في فخ المدارس الفكرية الغربية المنحرفة والانخراط في ركبها، فهو إلى جانب مقارعته الاستعمار العسكري والسياسي الذي

ص: 224

اجتاح البلدان الإسلامية، شمّر عن ساعديه لمواجهة الاستعمار الثقافي القادم من تلك الديار، ناهيك عن أنّه تصدّى بحزم لأولئك الذين حاولوا تفسير الكون والإسلام والقرآن على وفق نمط غربي، كما أنه لم يتبنَّ نزعةً متطرفة ومبالغاً فيها ولم يبادر إلى تطبيق المفاهيم القرآنية الماورائية على القضايا المادية والظواهر المحسوسة»(1). كما تطرق إلى الحديث عن لقاء حدث بين السيّد جمال الدين والسيد أحمد خان الهندي، وقال: «كتب أحد الباحثين المعاصرين واصفاً رحلة السيد جمال الدين إلى الهند وموقفه المناهض للسيد أحمد خان، كما يأتي:

-السيد أحمد خان طرح نقاشه على أساس مبدأ إصلاح التعاليم الدينية، في حين أنّ السيد جمال الدين حذر المسلمين في كلامه من مكر وخداع بعض المصلحين المبالغين في نزعاتهم الإصلاحية.

-السيد أحمد خان أكد على ضرورة سعي المسلمين للتعرف على النظريات الفكرية الحديثة ، بينما دعا السيد جمال الدين إلى فهم المعتقدات الدينية حق فهمها لكونها أهمّ عامل في هداية الإنسان نحو الصراط القويم.

- السيد أحمد خان شجّع المسلمين على ضرورة اتباع الأساليب التربوية الحديثة، إلا

أنّ السيد جمال الدين عدّ هذه الأساليب غير ناجعة للشعب الهندي لا دينياً ولا قومياً.

إذن، السيد جمال الدين دافع عن الأفكار والعلوم الحديثة، لكنه حينما شد رحاله إلى الهند أثبت أنّه متمسّك بمعتقداته وتراث مجتمعه الأصيل لدى مواجهة مفكّر محدث مثل السيد أحمد خان الهندي، وفي الحين ذاته لم يتنصل عن دعوته إلى ضرورة السعي لإحياء الفكر الديني(2) .

الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري برع في أصول الفلسفة الإسلامية وتعرف على جوانبها كافة لدرجة أنها ترسخت في نفسه ومكنته من امتلاك رؤية ثاقبة ساعدته

ص: 225


1- مرتضى مطهري بررسي اجمالي نهضت هاي صد ساله اخير (باللغة الفارسية)، الطبعة الخامسة والعشرون، منشورات صدرا، ص 18
2- المصدر السابق، ص 19.

على طرح نظريات أثبت فيها أسباب انحراف الثقافة والفلسفة الغربيتين، حيث أكد على أنّ نقطة الافتراق بين الفلسفة الإسلامية والغربية تكمن في أن الثانية متقومةٌ على أفكار مادّية وتسعى إلى تصوير الحقائق والظواهر الكونية في معزل عن عالم ما وراء الطبيعة وبعيداً عن عقيدة الإيمان بوجود الله عزّ وجلّ ؛ فالمفكرون الغربيون سخّروا كلّ ما لديهم من طاقات علمية بغية إثبات أنّ شؤون الحياة كافةً متقوّمةٌ في أساسها على عوامل دنيوية وأسباب مادية.

من المؤكد أنّ الناس في كل مجتمع يحذون حذو فلاسفتهم ومفكريهم،لذلك نجد الآراء الإلحادية التي طرحها بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين من أمثال برتراند راسل وتوماس هوبز وأوجست كونت قد تغلغلت بشكل تدريجي في المجتمعات الأوروبية والغربية جيلاً بعد جيل ومن ثمّ أسفرت عن تهميش المعتقدات الدينية لتحلّ محلّها أفكار علمانية وإلحادية ولا يختلف اثنان في أنّ النظريات التي ورثتها الشعوب الغربية من إيمانوئيل كانط وباروخ سبينوزا وأوجست كونت والكثير من العلماء الماديين الآخرين، قد أسفرت عن رواج النزعات المادية بشتى صيغها وأنماطها الإلحادية كالطاوية على سبيل المثال.

لقد أدرك هذا المفكّر المسلم مكامن الخلل في الفكر الغربي الفكر الغربي منذ باكورة حياته العلمية، أي في عنفوان شبابه لما شرع في دراسة المبادئ الفلسفية، لذلك كان حذراً من الوقوع في فخ الشعارات الغربية البراقة حتى آخر حياته، وهذا ما نلمسه جلياً في تراثه الفكري القيّم الذي خلّفه لنا، ولا سيّما في كتابه (شرح على المذهب الواقعي)، (1)وقال في مقدمة كتابه (أسباب النزعة إلى المادية): «خلال الأيام الأولى التي انهمكت فيها بدراسة وتحليل التعاليم الفلسفية للمدرستين الإسلامية والغربية، بذلت قصارى جهودي لكي أُدرك أوجه الاختلاف والتمايز بينهما، إذ ركزت اهتمامي لأجل معرفة نقطة الافتراق التي تجعل كلّ واحدة منهما تنصب في بوتقة معيّنة.

النتيجة التي توصلت إليها في هذا الصدد أنّ نقطة الاختلاف تكمن في مفهومي

ص: 226


1- اسم الكتاب باللغة الفارسية : ( شرحی بر روش رئالیسم).

(الوجود) و(الحقيقة)، فأصحاب النزعة المادّية يعتبرون هذين المبدئين حكراً على المادة فحسب، أي إنّ الوجود الحقيقي لا يمكن أن يتجلى إلا في رحاب الحقائق النسبية المحسوسة المتصفة بالأبعاد الزمانية والمكانية والتي هي عرضة للتغيير والتحوّل باستمرار، لذا ليست هناك أية حقيقة فيما وراء هذه القضايا العينية. بينما أصحاب النزعة الدينية يؤمنون بتأثير القدرة الغيبية - الإلهية - في الوجود والحقيقة، لذا نجدهم لا يقيّدون الوجود والحقيقة في تلك القضايا المادية المشار إليها، حيث اعتبروا المادّيات مجرد بعد من أبعادهما.

من المؤكد أنّ المفكر المتديّن يختلف في توجهاته الفكرية عن نظيره المادي، إذ لا يعتقد بأنّ الوجود والحقيقة مقتصران على الأمور المادية، بل يؤمن بالقضايا الماورائية المجرّدة عن الزمان والمكان والحركة باعتبارها حقائق وجودية ثابتة وخالدة إذن، نستنتج مما ذكر أنّ المدرسة المادّية ضيّقة النطاق في حين أنّ المدرسة الدينية واسعة الأفق »(1) هذه العبارات فلسفية بالكامل ونستشف منها أنّ الشيخ الشهيد تناول آراء المنظرين الغربيين بالنقد والتحليل اعتماداً على الأصول والقواعد الفلسفية الرصينة، ومن جملة الأمور التي أكّد عليها مراراً في كتاباته واستدلالاته أنّ الثقافة الغربية متقوّمةٌ على الفكر المادّي، لذا فهي تعد المعايير المادية هي البنية الأساسية لجميع القيم الإنسانية التي تطرح في رحابها؛ وعلى هذا الأساس ترفع شعارات برّاقةً في ظاهرها لخداع الرأي العام وتدعو إلى قيم سامية تحت مظلة مادية بحتة، لكن هذه الشعارات ليس من شأنها الأخذ بيد البشرية نحو الرقي والتطوّر المزعوم فيها.

لا ريب في أنّ البذرة الأولى للفكر العلماني في العالم الغربي وما ترتب عليه من نزعات مادية دنيوية بحتة، قد غرست إثر رواج النظريات الفلسفية التي طرحها المفكر الفرنسي إيمانوئيل كانط وبعد أن عجز العلماء الغربيون عن تسخير العقل لإثبات الحقائق الماورائية بشكل عام وإثبات وجود الله تعالى بالأخص، وقبل ذلك فقد مهد لها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم الذي نفى وجود أي ارتباط عليّ بين

ص: 227


1- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري (باللغة الفارسية)، ص 10.

عالمي المادة والغيب وفنّد الجانب الروحي المجرد للنفس الإنسانية بزعم أنه ضرب من الخيال، وذلك بعد أن قيّد جميع الحقائق بالقضايا المادية المحسوسة فقط. أمثال هؤلاء الفلاسفة المحدثين تبنّوا نزعةً ماديةً دنيويةً صرفةً لدرجة أنهم اعتبروا الحياة الدنيا الفانية هي المبدأ والنهاية وأنكروا جميع الحقائق الماورائية السابقة والتالية لها، وقد تمخض عن نظرياتهم العلمانية ظهور فلسفة وضعية جرّدت جميع القضايا الماورائية عن حقيقتها بزعم عدم توفّر أي دليل يثبت وجود القضايا الماورائية، ومن هذا المنطلق أنكروا وجود الله تعالى والملائكة والروح وكلّ ما يعجز الحس البشري عن إدراكه؛ وثمرة هذه النزعة المادّية المنحرفة أنّها ساقت جميع العلوم والتوجهات الفكرية نحو مسلك مادّي بحت؛ لذا تطرّق الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري إلى نقد هذه النزعة الباطلة التي تتنافى مع الحقائق الوجودية وبادر إلى تفنيدها بحنكة ودراية، ومن جملة ما قاله على هذا الصعيد قوله : «الثقافة الغربية متقوّمة في أساسها على أفكار مادّية، فهي في واقعها ليست ثقافةً مسيحيةً وإنما ماديةٌ تتصف في بعض جوانبها بالكفر والإلحاد.

نقصد من كونها ماديةً أنّ القيم الإنسانية فيها منبثقة من جذور مادية ولا تمت بأدنى صلة للروح المجردة والإيمان بالله سبحانه وتعالى»(1). لقد أدرك هذا الفيلسوف المسلم النتائج المخرّبة التي تتمخض عن الفكر المادي المنحرف خير إدراك، فشمّر عن ساعديه لمواجهته وتفنيد مزاعمه بحنكة ودراية عن طريق بيان مكامن الخلل فيه وتحديد نقاط ضعفه ومكامن انحرافه على ضوء دراسة وتحليل الآراء الفلسفية الغربية الباطلة من أساسها لأبرز المنظرين له من فلاسفة ومفكرين؛ ومن جملة ما قاله في هذا الصدد قوله : «في تأريخنا المعاصر هناك علماء معروفون مثل برتراند راسل يعتبرون أنفسهم ذوي نزعات مادية، فهذا الفيلسوف الغربي قال : الإنسان لم يخلق بتدبير مدبّر كما أنّه لم يخلق لأجل غاية معيّنة، فهو بدن ينمو، وأما مشاعره وأحاسيسه كالرجاء والخوف والمحبة والعقيدة فهي قد نشأت في نفسه إثر تركيب الذرّات مع بعضها عن طريق الصدفة.

ص: 228


1- المصدر السابق، ص 61.

،إذن، نستشف من هذا الكلام أنّ برتراند راسل لا يعتقد بوجود قدرة مدركة ومدبّرة

ماورائية رغم أنّه في بعض أقواله اعتبر نفسه شكوكياً».

هناك إشارة واضحةً في هذه العبارة وكثير من العبارات الأخرى الواردة في مؤلّفات الشهيد مطهري، تدلّ على أنّه تطرّق إلى نقد وتحليل مختلف آراء المفكرين الغربيين التي كانت لهم كلمة الفصل في ميدان الفكر الغربي لأجل بيان جميع جوانبه ومكامن الضعف والخلل فيه، فهو كالطبيب البارع الذي يمتلك قابلية فريدةً على تشخيص الداء وتعيين الدواء الناجع له لاستئصال جذوره بالكامل؛ حيث نلمس مهارته العجيبة هذه في أهم مؤلّفاته الفلسفية التخصصية مثل شرحه لكتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي)، فقد ذكر مباحث موسعة ودقيقة لتفنيد تلك الأباطيل المادية التي اجتاحت الأوساط المثقفة في العصر الحديث، ناهيك عن أنّه سلّط الضوء عليها بأساليب رائعة ضمن مختلف مدوّناته غير الفلسفية التي تمكن من خلالها بيان حقيقة التوجهات الغربية ووضع الأسس الكفيلة بمكافحتها على الصعيد النظري.

ثانياً: الله في رحاب الفكر الغربي

لا شكّ في أنّ عقيدة الإيمان بالله عزّ وجلّ تعدّ واحدةً من القضايا الهامة والأساسية التي لها تأثير بالغ في حياة الإنسان، إذ لها وقع كبير على متبنياته الفكرية وتعيين سبيله في تلاطم أمواج الفتن والأفكار الضالة المنحرفة، والتعاليم الإسلامية بدورها تؤكّد على أن عقيدة التوحيد هي البنية الأساسية لسائر المعتقدات الدينية.

أصول الدين في الشريعة الإسلامية متقوّمة على خمسة مبادئ أساسية أهمها التوحيد الذي يعد الركن الركين لها، فالله سبحانه وتعالى وحده المصدر الفياض للوجود في الكون وهو علة العلل التي تفتقر إليها الكائنات قاطبةً، لذا فإنّ أي خلل في عقيدة التوحيد لا نتيجة له سوى الخسران المبين والضرر العظيم.

الشهيد مرتضى مطهري الذي اتصف بدقته الفلسفية وحنكته العلمية، أدرك أنّ عقيدة التوحيد لم تطرح في المجتمعات الغربية كما ينبغي، حيث تم الترويج لها في

ص: 229

إطار متزعزع وفي الحين ذاته منحرف عن الحقيقة واعتبر أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الضلال الديني يرجع إلى استياء الناس من الكنيسة وتصرفات أربابها قبل عصر النهضة والحداثة، أي في القرون الوسطى بالتحديد ؛ كما أكّد على أنّ هذا الطرح الغربي الجديد ليست له جذور في المبادئ الفلسفية الإغريقية وإنما نشأ وشاع في العصر الحديث الذي شهد تحولات كبرى على مختلف الأصعدة التقنية والثقافية والدينية، ومن جملة أقواله في هذا المضمار ما يأتي:« إبّان الفترة المظلمة من تأريخ أوروبا وفي القرون الوسطى بالتحديد، كان بيان عقيدة الإيمان بالله عزّ وجلّ منوطاً بالقساوسة فحسب، ومن المؤسف أنّهم طرحوها في إطار مفاهيم ساذجة لا تفي بالغرض ولا تعكس الحقيقة بحذافيرها مطلقاً، لذلك لم تقنع المفكرين والباحثين عن الحقائق الاستدلالية الرصينة، بل جعلتهم ينأون عن الإيمان بالخالق البارئ ويسخرون جلّ طاقاتهم الفكرية لتفنيد التعاليم الدينية»(1). وقال في هذا السياق أيضاً: «الكنيسة صوّرت الله سبحانه وتعالى على هيئة بشرية، لذا نجد أبناء المجتمعات التي كانت تحت سلطتها يتبنون هذه الصورة المادية الباطلة منذ نعومة أظافرهم، ولكنّهم حينما يبلغون سن الرشد والإدراك العلمي يكتشفون بطلانها لكونها تتعارض مع القواعد والأصول العلمية والعقلية الثابتة وعلى أقل تقدير فهي لا تتناغم معها بالكامل. أضف إلى ذلك أنّ عامة الناس في تلك الآونة لم يمتلكوا القدرة الكافية للنهوض بواقع عقيدتهم عبر نقد تعاليم أرباب الكنائس وطرحها ضمن مفاهيم استدلالية معقولة بعد تفنيد العقيدة التي روّجها القساوسة؛ لذلك لم يجدوا بداً فيما بعد من إنكار الأفكار الكنسية والتخلي عنها من الأساس بادعاء أنها لا تنسجم مع المعايير العلمية الثابتة»(2). وبعد هذا الاستدلال التأريخي، واصل كلامه حول طبيعة الرؤية الغربية لله عزّ وجلّ والإيمان به وبدوره في عالم الوجود، فقال: «الغربيون اعتبروا عصر التطوّر العلمي صفحةً جديدةً طوت صفحة التدين واللاهوت، حيث تأثروا بنظريات مؤسس المذهب الوضعي الفيلسوف أوجست كونت الذي طرح متبنّياته الفكرية في أجواء طغت عليها سلطة الكنيسة. هذا المفكر الغربي جعل الله

ص: 230


1- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري (باللغة الفارسية)، ص 56.
2- المصدر السابق

تعالى كسائر الكائنات المخلوقة وكأنه قد قسم المهام والوظائف والكون بين الربّ وعباده! وغاية ما في الأمر أنه اعتبر الإله غامضاً لذلك نسب إليه كلّ ظاهرة لا يمكن تفسيرها وفق القواعد والأصول المادية.

نقل المفكر الفرنسي نيكولا كميل فلاماريون كلاماً لأوجست كونت حول العلم، وقد جاء في جانب منه :العلم هو والد الطبيعة، وهو الذي عزل الإله عن عمله وهمشه، ومن ثمّ قدّم له الشكر والثناء على خدماته المؤقتة، وهو السبب في عظمته.

المراد من هذه العبارة أنّ الناس قديماً كانوا ينسبون جميع الظواهر والحوادث التي تطرأ في الكون إلى الله عزّ وجلّ، فعلى سبيل المثال حينما يصاب أحد الناس بالحمّى آنذاك، يتساءل الآخرون عن السبب في ذلك ويبحثون عن منشأ هذا المرض، ومن ثم لا يتوصلون إلا إلى نتيجة أنّ الله سبحانه هو الذي خلق الحمّى فيتوقف استنتاجهم العلمي عند هذا الحد.

إذن، أوجست كونت لا يقصد من كلامه الذي نقله فلاماريون بأنّ الله عزّ وجلّ هو مدبّر شؤون الكائنات بحيث له القابلية على خلق الحمّى وابتلاء الإنسان بها - أي إنّه لا يعتقد بكون الله هو الخالق البارئ للكون والكائنات - وإنما أراد وصف عقيدة الأمم السالفة بأنّها تصوّر الربّ بكونه كائناً غامضاً أو ساحراً بإمكانه أن يقرّر فجأةً إيجاد حمّى لدى الإنسان، لذلك أكد على أنّ العلم جاء ووضع حلاً لهذا اللغز الذي بقي عصياً على البشرية طوال تأريخها ليثبت أنّ الحمّى ليست مخلوقةً من قبل الله تعالى، بل هناك ميكروبات معيّنة تتسبب بحدوثها. هذه الأطروحة أسفرت عن تراجع العقيدة بوجود الخالق خطوةً إلى الوراء، لذلك اضطرّ عالم اللاهوت لأن يتخلى عن معتقداته الماورائية وينسب الحمّى إلى الميكروبات. الخطوة القهقرائية التالية تجسّدت في معرفة خالق هذه الميكروبات، وهنا أيضاً تمكن العلم المادّي من تخطّي علم اللاهوت بعد أن اكتشف منشأ تكاثر الميكروبات وأسباب نشأتها، ومن ثمّ تهمّشت العقيدة اللاهوتية أكثر من السابق وتراجعت إلى الوراء خطوةً أخرى. وهكذا توالت المباحث العلّية وفي كلّ مرحلة يتفوّق العلم المادي بالتزامن مع تراجع

ص: 231

علم اللاهوت خطوات أكثر فأكثر إلى الوراء حتى تطوّرت العلوم الحديثة واتسع نطاقها لتستكشف حقائق مادّية جديدة لم تكن البشرية على علم بها سابقاً، وأمّا كثير من القضايا التي بقيت عللها طي الكتمان فقد تيقنت البشرية بكونها معلولةً لعلل مادّية أيضاً تناظر تلك العلل التي تم استكشافها قبل ذلك؛ وإثر ذلك أعرضت المجتمعات عن عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى إلى الأبد إذ لم يبق له مكان ولا واجبٌ يؤدّيه في حياتها العملية، فهو في هذه الحالة كالموظف القديم الذي يُحال على التقاعد إلى الأبد لتوكل مهامه إلى من هو أكثر جدارةً وكفاءةً منه، لذا لا يبقى له مكان في نطاق وظائفه ولا تأثير في الدائرة التي ينتسب إليها»(1).

أوجست كونت قسم تأريخ الفكر البشري في ثلاث مراحل أساسية، وعد المرحلة الراهنة بأنّها عهد العلم الحقيقي وقد أنهت عهد النزعات الدينية والفلسفية، حيث أكّد على أنّ هذه المراحل منفصلة عن بعضها وليس من الممكن الجمع بينها.

بعد أن ذكر الشهيد مرتضى مطهري آراء أوجست كونت، تطرّق إلى نقدها وتحليلها وبيان مكامن النقص والخلل فيها، ولا سيما الخطأ الفادح الذي وقع فيه هذا الفيلسوف الغربي وسائر أقرانه على صعيد العلاقة بين البارئ جلّ شأنه وعالم المادة والطبيعة؛ حيث قال في هذا الصدد: «عهد الفكر الإسلامي هو أحد المراحل الفكرية في تأريخ البشرية، وحسب تعاليمنا السمحاء فالمراحل الثلاثة التي ذكرها أوجست كونت يمكن أن تجتمع في مرحلة واحدة بنحو ما، وذلك بمعنى أنّ الإنسان قادر على أن يمتلك فكراً دينياً وفلسفياً وعلمياً في آن واحد.

كل مفكّر مطلع على مبادئ الفكر الإسلامي يدرك أنّ التعاليم الإسلامية لا تعتد بتقسيم مراحل الفكر البشري ضمن المراحل الثلاثة المذكورة، ولو كان الأمر كذلك فنحن نحيط السيّد أوجست كونت علماً بوجود مرحلة رابعة - مرحلة الفكر الإسلامي - حيث غفل عنه في تقسيمه هذا» .(2)

ص: 232


1- المصدر السابق، ص 60 - 59 .
2- المصدر السابق، ص 66.

هذا المفكر المسلم الحريص على تعاليم دينه اعتمد على سعة علمه وإلمامه بالأصول الفلسفية والتعاليم الإسلامية لأجل تحديد مكامن الخلل والانحراف في اللاهوت الغربي، وبالفعل فقد تمكن من ذلك وحذرنا من الانجراف وراء الدعوات الكنسية الغربية؛ حيث أكد على أن أوجست كونت وأمثاله قد وقعوا في خطأ فادح إثر مقارنتهم الله عزّ وجلّ مع سائر الكائنات التي هي برمتها مخلوقة - معلولةٌ - كما عدوه مؤثراً في الكون كتأثير سائر العلل الطبيعية في حين أنه تبارك شأنه حقيقةً لا يضاهؤها أيّ شيءٍ آخر مطلقاً، بل إنّه مفيض الوجود على جميع الحقائق في الكون من دون استثناء، لذا فكلّ شيءٍ مفتقر إليه افتقاراً تاماً كاملاً، ولا شكّ في أنّ عليته ليست مثل أيّة علّية أخرى ومن الخطأ بمكان مقارنته مع العلل الطبيعية.

العلل التي اعتدنا عليها واستأنست بها أنفسنا في عالم الطبيعة، هي في الواقع علل صورية لا قدرة لها على خلق أي شيء كان، في حين أنّ الله سبحانه وتعالى هو علة العلل التي خلقت جميع الكائنات والعلل الصورية؛ لذا فهو كالينبوع المتدفّق الذي لا ينقطع فيضه عن التدفّق وكلّ أمرٍ يكون أهلاً لأن يتصف بالوجود فهو متعلّق به وتابع له ومعلول له، لأنّه هو الوجود التام الأزلي والفيض الجاري الذي لا ينقطع ولا يتوقف مطلقاً.

الشهيد مرتضى مطهري قال في هذا الصدد: «البنية الأساسية لعلم اللاهوت هي الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو ربُّ الكون بأسره ولا يعزب عن ذكره شيء، فكلّ شيء في الكون يدلّ على قدرته وعلمه وحكمته وإرادته ومشيئته وآياته، وجزئيات الوجود بكلّ أنواعها مظهر لكماله وجماله وجلاله».(1)

ثالثاً: النزعة المادية والفساد الأخلاقي

الأستاذ مرتضى مطهري في مدوّناته ولا سيّما في كتاب (الأخلاق الجنسية)(2) وجه نقداً لاذعاً للنظام الأخلاقي الحاكم في العالم الغربي معتبراً الفساد الأخلاقي

ص: 233


1- المصدر السابق ص 62.
2- اسم الكتاب باللغة الفارسية (أخلاق جنسي).

المتمثل بالانحراف الجنسي ثمرةً طبيعيةً للنزعة المادّية التي اجتاحت المجتمعات الغربية في القرون المنصرمة التي تلت عصر النهضة والحداثة؛ حيث هجر الإنسان الغربي تعاليم الشرائع السماوية وأقبل بكلّ وجوده على العلم والتقنية الحديثة ومن ثم تبنّى أفكاراً ماديةً مخرّبةً للفكر السليم والعقيدة الماورائية. ومن جملة أقواله في هذا الصدد ما يأتي «المادية الأخلاقية تعني تجريد الإنسان من جميع المبادئ الخلقية السامية وإبعاده عن الروح المعنوية»(1) .

وقد عد السبب الأساسي في إقبال المجتمعات الغربية على المفاسد الأخلاقية يكمن في شيوع الفكر المادّي والاعتماد عليه لبيان ماهية الإنسان والكون، فهذا النمط الفكري المحدود يضيّق نطاق العقل ويفتح الباب على مصراعيه للتخلي عن المتبنّيات العقلية السليمة ومن ثَمَّ يسفر عن السقوط في وحل الفساد والانحراف؛ لذلك قال : «عندما تتبلور لدى الإنسان فكرة أنّ الكون لم يخلق لهدف، وأنه عار من كلّ أنماط الوعي والإدراك باعتبار أنّ الكائنات خلقت فيه عن طريق الصدفة ولأغراض عبثية بحيث ينعدم كلّ شيءٍ بعد مفارقة الحياة من الطبيعي أن يبادر إلى استغلال كلّ فرصة تتاح له لأجل تحقيق مآربه الخاصة ونزواته الحيوانية، حيث يتوصل إلى نتيجة فحواها أن لا فائدة من التحلي بالخلق الرفيع وإتلاف العمر بالمحاسن

لا شكّ في أنّ اعتبار الحياة والخلقة والوجود أموراً عبثية يسفر عن شيوع المادية الأخلاقية ولاسيّما أنّ هذا التوجه الفكري يجعل الإنسان في صراع باطني دائم ويستنزف جميع طاقاته الذهنية، لذلك نجد من يتبنّاه عادةً ما يتهرب من واقعه المرير الذي يؤرق كيانه من دون انقطاع ليبحث عن وسيلة تجعله في مأمن مما هو فيه؛ ومن ثم يسعى إلى تحصيل ما يجعله قادراً على نسيان واقعه فيلجأ إلى تعاطي المخدرات وشرب الخمر، وهذا الشذوذ النفسي بطبيعة الحال ينتعش بأجلى صوره في مجالس الفسق والمجون التي تجعل الإنسان غارقا في المادّية الأخلاقية من رأسه إلى أخمص قدميه»(2).لذا من الضروري بمكان تضافر الجهود لتنقية الأجواء الاجتماعية من جميع

ص: 234


1- المصدر السابق ص 172
2- المصدر السابق، ص 173.

الشوائب التي تكتنفها لكي ينعم الناس بحياة آمنة ملؤها الطمأنينة والخلوص، وفي هذا السياق لا بد من التصدّي للاستثمار الجنسي بشتى أشكاله وعدم إطلاق العنان للحرّيات المبالغ فيها؛ ومن المؤكد أننا ما لم نكبح جموح الغرائز الجنسية الحيوانية فسوف يقع مجتمعنا في هاوية الضلال والانحراف ومن ثم يسلك طريق اللاعودة المشؤوم، لذا من الحري بنا وضع برامج مناسبة للإشراف على النشاطات الفردية والاجتماعية على حد سواء بغية تشذيبها ووضعها في المسار الصحيح واستثمارها بأمثل شكل ممكن وذلك كي لا يشدّ الفكر عن الأصول القويمة وحتى لا يغور في وحل الفساد الخلقي؛ وهذا الأمر أكد عليه الشيخ الشهيد قائلاً: «البلدان الغربية التي نقلّدها بشكل أعمى قد اختارت السبيل الآخر - المادّي - حيث أخرجت الممارسات الجنسية من حيّز الأسرة لتشيعها على نطاق عام في رحاب المجتمع، ولكنّها اليوم تدفع ثمن هذا التصرّف الشاذ، لذلك بدأت الأصوات المعارضة تتعالى من قبل المفكرين الذين أدركوا سقم وقبح ما فعله أسلافهم» (1)

المفكّران المحدثان سيجموند فروید و برتراند راسل يعتبران من أبرز دعاة الحرّية الجنسية في العالم الغربي، حيث طالبا بضرورة اجتثاث الأخلاق الجنسية القديمة وإقرار أخلاق جديدة تحلّ محلّها، لذلك وصفهما الشهيد مطهري بالقول: «سيجموند فرويد وجميع الذين حذوا حذوه يتبنّون معقتدات خاصة، إذ يزعمون بأنّ الأخلاق الجنسية القديمة متقوّمة على المنع والتقييد، واعتبروا أنّ البلايا التي عانت منها البشرية في العهود السالفة ناجمة عن المنع والحرمان والخشية على صعيد الممارسات الجنسية، فهذه الأخلاق برأيهم قد حلت محل النزعات الإنسانية المستبطنة في نفوس البشر » .(2)كما أنّ برتراند راسل الذي اقترح صياغة منظومة أخلاقية جديدة، تبنّى نفس هذه الفكرة وجعلها منطلقاً لاستنباط آرائه، وقد بالغ في تهميش الطباع والأعراف الاجتماعية الموروثة لدرجة أنه استهان بالأسرة التي هي قوام المجتمع واعتبرها عديمة القيمة والفائدة، ناهيك عن أنّه فنّد أبرز المشاعر

ص: 235


1- مرتضى مطهري، أخلاق جنسي (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، منشورات صدرا، قم، ص 46
2- المصدر السابق، ص 22 - 23

الإنسانية النبيلة كالحياء والعفّة والتقوى والغيرة - التي اعتبرها حسداً مقيتاً - لذلك لا نجد لهذه القيم السامية أي مكان في منظومته الأخلاقية، بل دعا إلى التخلي عنها وضربها عرض الجدار عبر الاعتماد على العقل والفكر فحسب؛ وقد وصف الشيخ الشهيد رؤيته هذه بالقول: «برتراند راسل لم يعر أية أهمية لبعض الأمور التي يحترمها المجتمع، مثل القبح والسوء والفضيحة، وإنما ارتكز في منظومته الفكرية على العقل والفكر فحسب، كما طالب بنبذ جميع القيود الجنسية إلا ما كان فيها ضرر على سلامة بدن الإنسان، وحسب رأيه هذا فليس من الجائز الامتناع عن ممارسة الجنس إلا إذا كان كالطعام الضارّ الذي يتسبب في إلحاق ضرر بجسم من يفعله! وفي كتابه (معرفتنا عن العالم الخارجي كحقل للمنهج العلمي في الفلسفة) وضمن الفصل الذي دونه حول الأخلاق المحظورة أشار إلى سؤال طرح عليه ثمّ أجاب عنه، وهو كما يأتي: هل لديك نصيحة لأولئك الذين يرغبون باتباع سبيل عقلاني صائب في مجال الأمور الجنسية؟... ومن ثم لا بد لنا من تحليل الأخلاق الجنسية كما نحلل سائر القضايا، لذا لو أنّ عملاً لا يتسبب بإلحاق الضرر بالإنسان، فليس هناك ما يدعو إلى ردعه وشجبه ...(1) «كما نلاحظ مما ذكر فإنّ أبرز المفكرين الغربيين يتبنون نزعات ماديةً وجنسيةً منحرفةً، لذلك روّجوها في مجتمعاتهم وجعلوها أصولاً وقواعد تتقوّم عليها الأخلاق الجنسية.

بعد أن نقل الأستاذ مطهري هذه الآراء وما شاكلها، بادر إلى نقدها وتحليلها ومن ثم تفنيدها ببراعة لا نظير لها، حيث أكد فيها على أنّ التعاليم الإسلامية لا تعارض الرغبات البشرية مطلقاً ولا تردع الإنسان عن إشباع غرائزه، بل احترمتها ووضعت له قواعد خاصة لتلبية متطلباته الجنسية ؛ ومن أقواله في هذا المجال: «نعقب على ما ذكر هؤلاء بأنّ التعاليم الإسلامية السامية قد تعاملت مع الأمر بأمثل شكل ممكن فهي لم تشر إلى النتائج التي تتمخض عن العلاقات الجنسية المنحرفة، وإنما صاغت أصولاً وقواعد متكاملة لتشذيب هذه العلاقات، حيث قيّدتها حسب مصالح المجتمع الراهنة ومصالح الأجيال اللاحقة، ومن هذا المنطلق اتخذت التدابير اللازمة التي

ص: 236


1- المصدر السابق

تصون الإنسان من الانحراف وتنجيه من الحرمان والشعور بالكبت الجنسي» (1).

وبعد ذلك حدر الشباب من الانجراف وراء هذه الأفكار الرذيلة التي تزعزع أركان الأسرة والمجتمع على حد سواء، وكلامه لا يعد مجرّد وعظ وإرشاد فحسب، بل نستشف منه التأكيد على أنّ مستقبل الثقافة الغربية المعاصرة سيكون مظلماً وذا عواقب وخيمة، فهذا هو المصير المحتوم للإباحية والتفسّخ الخلقي؛ ولا شكّ في أنّ هكذا رؤية دقيقة للمستقبل تنمّ عن حنكة الشهيد مطهري ومعرفته بواقع التوجهات الغربية، وقد قال في هذا الصدد أيضاً: «... من الواجب علينا أن نضع القرّاء الكرام في الصورة الحقيقية لتحذيرهم مما يجري حولهم وتوعيتهم بما تتضمنه تلك الأفكار التي تستوردها مجتمعاتنا من العالم الغربي والتي تبهر شبابنا حينما يطلعون عليها ومن ثم تستدرجهم بشعاراتها البراقة التي تطرح تحت عناوين مقدّسة كالحرية والمساواة؛ فيا ترى كيف سيكون مصيرهم فيما لو أنّهم ساروا في ركبها وانخدعوا بها؟! فما هی نهاية هذا الطريق الشائك؟! وهل ستتمكن المجتمعات البشرية من السير قدماً فی هذا المضمار من دون أن تتوقف في نفق مظلم؟! أو أنّ كلّ هذا مجرد خدعة كبرى استهدفت كيان البشرية بأسرها ! لا ريب في أنّ الانخراط في ركب هذه القافلة السقيمة لا ثمرة له سوى الهلكة والخسران»(2)

رابعاً: سقوط شخصية الإنسان في ظلّ الثقافة الغربية

من المؤكّد أنّ المفهوم الذي يلي مفهوم الربّ في الأهمية يتمثل في الإنسانية التي تدلّ على معنى في غاية الدقة والقداسة مما جعلها بؤرة للجدل والنقاش وطرح شتّى النظريات المتوائمة والمتضاربة على حد سواء، ناهيك عن أنّها البنية الأساسية لعدد من الفروع العلمية، لذلك أعارت التعاليم الإسلامية لها اهتماماً بالغاً وأكدت على أنّ جميع القضايا والقرارات المرتبطة بالحياة البشرية يجب أن تكون ذات منشأ ديني في حين أنّ سائر المدارس الفكرية تبنّت نظريات متباينةً وغير منسجمة حول الموضوع

ص: 237


1- المصدر السابق، ص 14 - 15
2- المصدر السابق، ص 28

وإثر ذلك تنوّعت أطروحاتها وتشرذمت في توجهات ومذاهب فكرية شتّى.

نظراً لأهمية هذا الموضوع فقد تناوله الشهيد مطهري بإسهاب وتطرق إلى بيان الأسس الفكرية الغربية في التعامل مع الشخصية الإنسانية، فهو خبير حاذق في مبادئ وأصول علم النفس الفلسفي وأصوله وله اليد الطولى في تطبيق هذه الأصول عملياً في رحاب التعاليم الدينية؛ لذا فنحن لا نبالغ لو قلنا إن آراءه على هذا الصعيد تعدّ القول الفصل، حيث أكد على أنّ المجتمعات التي تسخّر كلّ ما لديها خدمةً للحياة الدنيوية الفانية ولا تكترث بروح الإنسان وبنيته الفطرية ولا تعبأ بمصيره بعد الموت وحياته الأخروية الخالدة باعتبار أنه مجرد آلة معقدة التركيب، فهي بطبيعة الحال تتجاهل جميع القيم الإنسانية النبيلة وتستهين بكلّ مبدأ أصيل كالإنصاف والعدل والمودة وحبّ النوع.

وعلى هذا الأساس عد الأصول الفلسفية السائدة في العالم الغربي سقيمةً لكونها لا تولي أدنى أهمية للقيم الإنسانية، حيث قال: «لقد تدنّست شخصية الإنسان طوال سنوات في رحاب الفلسفة الغربية الحديثة، فهي اليوم هدفُ للسخرية والإهانة في معظم المنظومات ال فلسفية السائدة بين المجتمعات الغربية؛ إذ إنّ الإنسان في تلك الديار قد سقط إلى الحضيض ليصبح مجرد آلة ميكانيكية بعد أن تم تهميش بعده الروحي الأصيل.

الفلاسفة الغربيون يعدّون الإيمان بوجود غاية لخلقة الطبيعة والإنسان عقيدةً رجعيةً تنمّ عن تخلّف وشذوذ، لذا لا يمكن لأحد اعتبار بني آدم بأنهم أشرف الكائنات وأنّ كلّ ما في المكوّن مسخّر لخدمتهم، فهذه العقيدة برأيهم ناشئة من فكرة بطليموسية قديمة طُرحت في العهود السالفة حول هيئة الأرض والسماء باعتقاد أنّ الأرض هي المحور الأساسي الذي تدور حوله جميع الكواكب السيارة؛ لذلك بعد أن أُثبت بطلان هذه النظرية الجغرافية سوف لا يبقى مجال لقول إنّ الإنسان هو أشرف المخلوقات، حيث زعموا أنّ هذه العقيدة تنم عن أنانية اجتاحت المجتمعات البشرية في فترة من الزمن بينما الإنسان أمسى اليوم متواضعاً ويعتبر نفسه كسائر الكائنات

ص: 238

لكونه خلق من التراب وسيكون مصيره إلى التراب أيضاً وهذه هي نهايته المحتومة»(1).

وفي السياق ذاته تطرّق الشيخ مرتضى مطهري إلى الحديث عن الطبيعة الإنسانية في رحاب مبادئ حقوق الإنسان السائدة في العالم الغربي فاستدلّ على وجود تناقض صريح فيها ومن ثمّ بادر إلى بيانه ونقده، إذ أكد على أنّ المفكرين الغربيين تعاملوا مع الإنسان كآلة ميكانيكية من دون أن يعيروا أهميةً لروحه وضميره ونفسه وكرامته وأصالته، ولكنّهم مع ذلك اضطروا لأن يقرّوا أصولاً وقوانين حول مكانته الرفيعة ومقامه العالي في المجتمع ؛ وعلى هذا الأساس قال: «الغربيون أهانوا شخصية الإنسان وقللوا من شأنه في جميع مراحل وجوده، فقد حطوا من قيمته ابتداءً من خلقته والعلل التي أوجدته وصولاً إلى الهدف الحقيقي لهذه الخلقة، فضلاً عن أنّهم لم يعيروا أهميةً لبنيته البدنية وضميره ووجوده الروحي وما اكترثوا بالدوافع التي تحفّزه على أداء أعماله؛ ومع ذلك فقد أصدروا إعلاناً عالمياً حول قيمته ومقامه وكرامته وشرفه الذاتي وحقوقه المقدّسة التي لا يحق لأحد مصادرتها منه بتاتاً، ومن ثم طالبوا جميع المجتمعات البشرية بوجوب الالتزام بما تضمنه هذا الإعلان الطويل العريض»(2). بعد هذا النقد الصريح للنزعة الإنسانية الغربية، تطرّق الأستاذ الشهيد إلى بيان الازدواجية في الدفاع عن حقوق الإنسان معتبراً أنّ هذه الحقيقة دليل جلي على كون الهوية الغربية الحديثة متزعزعةً ولا طائل منها ، وضمن هذا المبحث أثبت أنّ علاقة الوجود بالواجبات والمحرّمات ثابتة ولا يمكن لأحد تجاهلها مطلقاً، كما أكّد على أنّ من يتبنى فكرةً خاطئة حول الله عزّ وجلّ فهو لا يمتلك القابلية التي تؤهله لتدوين برنامج شامل للحياة البشرية، إذ لو أننا أعفينا الإنسان من أهم مسؤولية في حياته، ألا وهي تكليفه إزاء ربّه العظيم، بحيث جعلنا الأصالة للقيم الإنسانية؛ فكيف يمكن له حينئذ مراعاة تكاليفه تجاه أقرانه البشر وسائر الكائنات التي هي أدنى رتبةً من الله سبحانه وتعالى؟! ومن المؤكد أنّه في هذه الحالة لا يتورع عن القيام بأفعال تتنافى مع الأخلاق الرفيعة والقيم الإنسانية الحقة.

ص: 239


1- مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة والثلاثون، ص 135.
2- المصدر السابق، ص 137.

الإنسان الذي يجعل الحياة الدنيا غايته النهائية وهويته الأساسية بحيث يتغاضى عن كل أمر ماورائي وينكر جميع الحقائق غير المادية فهو بطبيعة الحال لا يجد وازعاً يحفّزه على ضرورة مراعاة الأصول الخلقية الرفيعة واحترام شؤون الآخرين؛ لذا هل يمكن ادّعاء أنّ إنساناً كهذا له قيمة في عالم الوجود؟! فما هو الفرق إذن بينه وبين سائر البهائم التي لا تفقه شيئاً من الحياة الحقيقية؟ ومن هذا المنطلق وصف سماحة الشيخ النزعة الإنسانية الغربية قائلاً:« حينما نقرأ المقدّمة التي دونت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجدها مثيرةً للسخرية حقاً، حيث أكد مدوّنوها على قيمة الإنسان وزعموا أنّهم اكتشفوا الأسباب الحقيقية التي أدت إلى سلب حرّيات المجتمعات البشرية والتجاوز على حقوقها وإراقة دماء أبنائها، حيث عزوا ذلك إلى عدم احترام البعض لمكانة النفس الإنسانية وتغاضيهم عن حقوقها المشروعة؛ ولكننا نسألهم : ما هي القيمة الحقيقية للإنسان برأيكم؟ فهل لهذه الآلة الميكانيكية - بزعمكم - أية قيمة تُذكر ؟! فإذا اعتبرنا الإنسان مجرّد آلة ميكانيكية لا ضير حينئذ من القضاء عليه لكونه ماكنةً يمكن أن تستبدل بغيرها»(1) . ثم واصل بحثه الاستدلالي ليستكشف جذور هذه المشكلة ويشخّص النواقص التي تعاني منها الثقافة الغربية الحديثة ولا سيّما الازدواجية في طرح الآراء.

من جملة الأمور التي أكّد عليها هذا العالم الفدّ أنّ الإنسان لا قيمة له ولا كرامة، بل وليس من شأنه أن يمتلك شخصية محترمة مستقلة إلا في ظلّ الإيمان بوجود إله عظيم خلقه وكرّمه ذاتياً بعد أن جعله خليفةً له في الأرض؛ لذلك قال:«إنّ الذي له الحق في الحديث عن الإنسانية وكرامة الإنسان وشرفه، هو من قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(2). نعم، من هو أهل للحديث عن قيمة الإنسان وحرمته، هو من له القدرة على غرس الإيمان والتقوى في نفسه، وهو من قال:(إِني جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ)(3)» (4)

ص: 240


1- مرتضی ،مطهري پانزده گفتار باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، ص 115.
2- سورة الإسراء، الآية 70.
3- سورة البقرة، الآية 30.
4- المصدر السابق، ص 137 – 138.

المبحث الثالث: وجهة نظر الشهيد مرتضى مطهري حول التوجهات العلمية والتقنية الغربية

الرؤية التي تبنّاها الشيخ الشهيد مرتضى مطهري بالنسبة إلى الوجهة العلمية والصناعية في الثقافة الغربية لا تختلف عن آرائه التي طرحها حول مختلف القضايا الأخرى، حيث تستند بالأساس على تعاليم الشريعة الإسلامية المستوحاة من القرآن الكريم والأحاديث المباركة، فقد أكّدت هذه التعاليم السمحاء على ضرورة طلب العلم معتبرةً ذلك فريضةً على كلّ مسلم ومسلمة، وكما نعلم فالآيات الأولى التي نزلت على نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حفزته على ذلك(1)، وهو بدوره دعا المسلمين في مواطن عدّة إلى عدم التخلّف عن ركب قافلة العلم والمعرفة.

من المؤكد نحن لا نبالغ حينما نقول بأنّ الإسلام فاق جميع الأديان قاطبةً في الدعوة إلى طلب العلم وكسب المعارف وأن ليس هناك نبي كالنبي الخاتم شجّع أتباع دينه على هذه الفريضة الهامة، لذلك عدّ الشهيد مطهري هذه الميزة الفريدة واحدةً من أسباب الرقي المتنامي والسريع للحضارة الإسلامية وأنّها العامل الأساسي لتطوّر المسلمين ،ثقافياً، إذ قال: «أحد الأسباب التي أدّت إلى رقي المسلمين في شتّى العلوم والفنون والصناعات يكمن في عدم تعصبهم في اكتسابها وبحثهم عنها للانتهال منها في أي مكان كان في العالم من دون أ يتوانوا في ذلك بتاتاً».(2)

الأحاديث النبوية المباركة أعارت أهميةً كبيرةً لطلب العلم وكسب الحكمة في كلّ آن ومكان، ومنها ما عده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فريضةً على جميع المسلمين، لذلك قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا وإنّ الله يحبّ بُغاة العلم»(3)، وعقب الشهيد مطهري على هذا الحديث قائلاً: «... إذن كلّ علم فيه فائدة

ص: 241


1- المقصود من ذلك الآيات الخمسة الأولى من سورة العلق، وهي: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) )» .
2- مرتضى مطهري خدمات متقابل إسلام وإيران (باللغة الفارسية)، ص 392
3- محمّد بن يعقوب الرازي الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 31. وفي حديث آخر وردت كلمة (سنة) بدلاً عن« فريضة».

وضرورة للإسلام والمسلمين، ينبغي اعتباره علماً دينياً، وكلّ من خلصت نيته وسعى إلى طلب هذا العلم بهدف خدمة ديننا الحنيف سوف يكرمه الله تعالى بالثواب الذي وعد به طلاب العلم، وسيحظى بهذه الكرامة التي أكد عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):(من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة؛ وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)؛ ولكن إن لم يتحلّ طالب العلم بخلوص النية فسوف لا ينال أي ثواب حتى إذا سخّر وقته لدراسة العلوم القرآنية»(1).

وفيما يأتي نسلّط الضوء على الموضوع في إطار المباحث الآتية:

أوّلاً: العلاقة بين العلم والدين

الشهيد مرتضى مطهري لا يتفق مع الذين صنفوا العلوم إلى دينية وغير دينية، اذ عدّ هذا التصنيف ليس صائباً من الأساس، وذكر تصنيفاً آخر على ضوء التعاليم الإسلامية، وهو تقسيمها إلى علوم مفيدة وغير مفيدة؛ وهذه التعاليم القيمة قد عدّت المفيد منها مطلوباً ومناسباً من دون أن تميّز بين ما كان دينياً أو غير ديني، فالعلوم التفسيرية ذات فائدة كبيرة وكذا هو الحال بالنسبة إلى العلوم الأساسية كالكيمياء والفيزياء والرياضيات، إذ من الواجب بمكان تعلّمها.

ونستشف من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أُطلبوا العلم ولو في الصّين أنه دعا المسلمين إلى كسب العلوم غير الشرعية أيضاً، فالعلم بحدّ ذاته ضروري ومفيدٌ إلا أنّ التعاليم الإسلامية حظرت تسخيره لأغراض غير مشروعة؛ وهو يروم في الأساس استكشاف العلاقات بين مختلف الحقائق في الكون، إذ كلّما اتضحت هذه العلاقات للإنسان سوف يتمكن من استثمارها بأمثل شكل. وقد أشار هذا العالم الفذ إلى عظمة العلم ومكانة طالب العلم قائلاً: «... هذا التصنيف باطل من الأساس، أي ليس بمقدورنا تصنيف العلوم إلى دينية وغير دينية، فهذا الأمر قد يوقع بعضهم في توهّم فيتصوّروا بأنّ العلوم غير الدينية غريبة عن بنية الشريعة

ص: 242


1- مرتضى مطهري ده گفتار (باللغة الفارسية)، ص 172 - 173

الإسلامية؛وبطبيعة الحال نستلهم من شمولية هذه الشريعة السمحاء وخاتميتها بأنّ كلّ علم مفيد ونافع للمجتمع الإسلامي ينبغي اعتباره علماً إسلامياً»(1). ثم واصل كلامه موضحاً الموضوع بتفصيل أكثر ، فقال : كلّ علم مفيد ومؤثر وينسجم مع تعاليم الشريعة الإسلامية بحيث ينال تأييدها، فهو علم حسن ومطلوب ولا بد من السعي لتحصيله بلا شكّ، ولكن ما هو المعيار الإسلامي في تعيين الفائدة أو الضرر لمختلف القضايا ؟

حسب تعاليمنا الإسلامية السمحاء فإنّ كلّ علم يخدم المصالح الفردية أو العامة وفي الحين ذاته يكون الجهل به سبباً للتخلّف والضلال، فهو علم مفيد وضروري بينما كلّ علم لا يؤثر في مجال تحقيق الأهداف الإسلامية فتعاليمنا لم تعين ما إن كان ضرورياً أو غير ضرويّ؛ ومن ثمّ فكل علم ينعكس بشكل سلبي على الفرد والمجتمع فهومرفوض ولا ضرورة له« .(2) وأضاف سماحته في هذا السياق قائلاً: «نحن بصفتنا مسلمين نعير أهميةً كبيرةً للعلم، فهو يكشف لنا الأسرار التي استودعها الله سبحانه وتعالى في الوجود ولا فرق فيما إن كان العالم الذي يكشف هذه الأسرار شرقياً أو غربياً، مسلماً أو كافراً؛ فالعلم بحد ذاته محترم.

فيا ترى هل هناك إنسان لايحترم المخترعين والمكتشفين؟!نحن نؤيد تلك الاختراعات والاكتشافات الغربية المفيدة للبشرية ناهيك عن أننا نعتقد بكون الإيمان يتحقق عن طريق العلم والمعرفة، ونرى بأنّ العلم لا يوجد شيئاً معدوماً، بل يتطرّق العالم من خلاله إلى دراسة الكائنات وتحليلها واستكشاف العلاقات الجديدة فيما بينها.

العلم إذن أدنى مقاماً من الإيمان إلا أنه لا يتعارض معه بتاتاً، ومن ثم يمكن اعتباره سنداً يدعم حقانية الدين وصدق تعاليمه السمحاء». كما نلاحظ من هذا الكلام البليغ فقد عدّ سماحته التطوّر العلمي في العصر الحديث أمراً إيجابياً ودعا إلى ضرورة السير في ركبه، لذلك أكّد على أنّ المجتمع المعاصر الذي تراعى فيه

ص: 243


1- المصدر السابق.
2- مرتضى مطهري، بیست گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة السادسة طهران، 1369 ه- ش (1990 م)، ص 267.

حقوق الإنسان ويحظى أعضاؤه بالقدرة ،والاستقلال لا بدّ له من الانضواء تحت مظلة التطوّر العلمي النافع المتناغم مع تعاليم الشريعة؛ فالإسلام برأيه يهدف إلى صيانة كرامة المسلمين من كلّ دنس، لذلك لا يرضى بتقوقعهم وتخلّفهم عن الاكتشافات الحديثة والتطور العلمي في شتّى جوانب الحياة كالطبّ وسائر العلوم الهامة؛ ومن هذا المنطلق أضاف قائلاً: «... من البديهي أنّ ديننا الإسلامي يدعو إلى استقلال المجتمع ويدافع عن حرّيته وعزّته وكرامته ويؤكد على ضرورة عدم تبعيته للأجانب، وهناك أمر آخر أيضاً لا ينبغي لنا تجاهله وغض الطرف عنه، ألا وهو العلم عبارة عن ركيزة أساسية يتقوّم عليها العالم المعاصر، فهو سرّ النجاح في قضاء جميع الحوائج ومن دونه لا يمكن للمجتمع أن يعتمد على قابلياته الذاتية أو أن يستقلّ عن غيره ويحيا أبناؤه بعزّة واقتدار. لا ريب في أننا اليوم ندرك أكثر من أيّ وقت مضى بكون طلب العلم فريضةً وواجباً على جميع المسلمين، لذا من الحري بنا السعي لاكتساب جميع العلوم التي تعيننا على تحقيق أهدافنا الإسلامية ولا مجال هنا للتماهل في هذا الأمر المصيري »(1).

بعد أن ذكر تفاصيل مسهبة حول أهمية طلب العلوم النافعة، تطرق إلى الحديث عن العلوم الغربية والتطوّر الذي تحقق في رحابها، حيث سلّط الضوء على الموضوع من زاوية إيجابية باعتبار أنّ العلم ليس حكراً على فئة معينة من البشرية، فهو لا شرقي ولا غربي برأيه، وإنما يجسّد معرفةً توحيديةً ويأخذ بيد الإنسان لمعرفة دينه وربّه؛ لذا قال إنّ العلم بحدّ ذاته ذو شأن عظيم وقيمة كبرى ولا يمكن التغاضي عنه بتاتاً، بل لا بد من احترامه والتفاعل معه قدر المستطاع، وعلى هذا الأساس أولى احتراماً لبعض العلوم والاكتشافات الغربية التي من شأنها تطوير المجتمعات البشرية نحو الأفضل، ومن جملة أقواله في هذا الصدد ما يأتي:

-« ... استناداً إلى ما ذكر ، يمكننا استثمار كثير من الإنجازات العلمية التي تحققت في العالم الغربي ».(2)

ص: 244


1- المصدر السابق
2- مرتضی مطهري، شناخت (باللغة الفارسية)، ص 65

-«... ولكنّ هذا الأمر لا يعني عدم وجود مشتركات بين الفكرين الغربي والإسلامي في بعض القضايا الإنسانية، فالاختلاف في البنية الفكرية لا يعني التعارض في جميع القضايا وبشكل مطلق»(1) .

- «... وهذا يعني أننا لو لم نستورد من الأوروبيين سوى الجوانب التقنية والعلمية الناجعة، فسوف لا يهدّدنا أي خطر حينما نواكب تطوّرهم العلمي، لأنّ العلم علم ولا ضير فيه، ناهيك عن أنّ العلوم الأوروبية تعد امتداداً للعلوم الإسلامية، أي إنّ الثقافة في تلك الديار ثمرة للعلوم التي هي في الواقع حصيلة للثقافة الإسلامية الأصيلة». (2)

نستشفّ من هذه العبارات القيّمة وما شاكلها أنّ الشهيد مطهري ينظر إلى العلم والتقنية الأوروبية من زاوية إيجابية ولا يرى محذوراً من استثمارها بشكل صائب، فالعلوم المتطوّرة في البلدان الأوروبية بحدّ ذاتها لا تشكل خطراً على مجتمعاتنا الإسلامية فيما لو راعينا الأصول القويمة في الاستفادة منها؛ ومن ثم نستنتج أنه لا يعد الثقافة الغربية بعبعاً يؤرّق كياننا ما دامت تنصب في خدمة البشرية لكونها في الأساس مستوحاة من نفس العلوم التي دعا رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين إلى اكتسابها والانتهال من نتائجها الإيجابية. وعلى هذا الأساس أولى احتراماً كبيراً للسيد جمال الدين الأسد آبادي - الأفغاني - باعتبار أنه أدرك في زمانه تخلّف المجتمعات الإسلامية عن ركب الحضارة البشرية وابتعادهم عن مظاهر العلم والتقنية الحديثة فتصدى لهذه الحالة المزرية بكل ما أوتي من قوة؛ لذلك أكّد على أنّ هذا العالم المسلم أدرك المعاناة الحقيقية للمسلمين في عصره والتي تكمن بشكل أساسي في تخلّفهم عن قافلة العلم والحضارة ومن ثم دعا إلى وجوب كسب العلوم والتقنيات الحديثة كعلاج لهذه المعانة الأليمة، حيث قال: «أهم المشاكل التي عانى منها المسلمون آنذاك برأي السيد جمال الدين عبارةً عمّا يأتي؛

ص: 245


1- مرتضی مطهري علل گرایش به مادي گري( باللغة الفارسية)، ص 90
2- مرتضى مطهري، حق وباطل (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، قم، ص 72

1 ) استبداد الحكام.

2) جهل معظم المسلمين بالعلم والثقافة وتخلّفهم عن ركب التطور الحضاري.

3) رواج المعتقدات الخرافية في المجتمعات الإسلامية، وابتعاد المسلمين عن إسلامهم الحقيقي.

ومن ثمّ شخّص العلاج لهذه المشاكل واقترح ما يأتي:

1) مكافحة استبداد المستبدين والظلمة.

2) التسلّح بالعلوم والتقنيات الحديثة.

3 ) العودة إلى التعاليم الإسلامية الأصيلة ونبذ الخرافات وجميع المظاهر المنحرفة التي أُلصقت بالإسلام على مر العصور.

4) التحلي بالتقوى والثقة بما لدينا من تعاليم إسلامية سمحاء.

ومن هذا المنطلق نجد الآثار العلمية لهذا العالم الجليل تزخر بالكتابات التي تمجدالإسلام الحقيقي الأصيل وتعكس صورته الحقة للمجتمع على صعيد تثمين مكانة العقل واحترام البرهنة والاستدلال، وأكد على أنّ التعاليم الإسلامية متقوّمةٌ في أساسها على كرامة الإنسان والثقة بقدرته على الرقي والتطور وبلوغ أرفع الدرجات المعنوية باستثناء النبوة، كما عدّ ديننا بأنه دين العلم والمعرفة».(1)

فضلاً عن السيد جمال الدين، فقد عد سماحته إقبال اللاهوري أيضاً بأنّه شخصيةٌ إسلامية محترمة وأطرى عليه لكونه شجّع المسلمين على طلب العلم الحديث ودعاهم إلى عدم التخلّف عن ركبه.

ص: 246


1- مرتضى مطهري، بررسي اجمالي نهضتهاي اسلامي در صد ساله اخير( باللغة الفارسية) ، منشورات صدرا، الطبعة الحادية والثلاثون، ص 23.

ثانياً: مخاطر العلموية

ذكرنا في المباحث الآنفة جانباً من آراء الشهيد مرتضى مطهري حول العلم والثقافة في العالم الغربي، حيث استنتجنا أنّه يعد العلم واحداً، وإذا كان نافعاً للبشرية فهو ضروري بحيث لا يجوز التماهل في طلبه سواء طرح في البلدان الشرقية أو الغربية، فالتعاليم الإسلامية السمحاء في القرآن والحديث أكدت على وجوب طلبه واكتساب معارفه النبيلة. لكنّه في الحين ذاته نبه على ضرورة عدم الانجراف وراء تلك العلوم الغربية التي تقطع الطريق على عالم الغيب الماورائي وتجعل المعرفة مادية بحتة، لذلك قال:« يجب أن يتواكب العلم والإيمان مع بعضهما البعض... إذ ليس من الممكن الاكتفاء بأحدهما وغضّ النظر عن الآخر، فلا الإيمان يحلّ محلّ العلم وكذلك لايمكن للعلم ملء الفراغ الحاصل من عدم الإيمان ؛والتجربة بدورها أثبتت أنّ الفصل بينهما له عواقب وخيمة وخسائر فادحة لا يمكن تعويض الضرر الناجم منها(1) .

ونلمس جلياً في متخلف نتاجاته الفكرية أنّه حدّر المسلمين من الانبهار بالتطوّر العلمي والتقني الذي حصل في أوروبا معتبراً أنّ العلم وحده ليس كافياً لتحقيق الرقي الحقيقي، ومن هذا المنطلق تصدّى للنزعة العلموية واستدلّ على عدم نجاعتها بأنّ كثيراً من البلدان التي أصبحت تابعةً للغرب باتت تعاني من مشاكل جمة لأن مفكريها تصوّروا أنّ العلم وحده هو الحل لجميع مشاكل البشرية؛ حيث قال: «لا شك في أنّ العلم علاج ناجع للجهل والفقر في إطار القوانين الطبيعية، ولكنه ليس حلاً لجميع صور معاناة البشرية كتلك التي تنشأ من الظلم والاستبداد والإرهاصات النفسية التي تؤرّق روح الإنسان وتكدر صفوه، فهو ليس سبيلاً ناجعاً لانتشال الإنسان من شعوره بالوحدة أو إنقاذه من كآبته واضطرابه؛ لذا لا صواب للنظرية التي تقوم عليها الفكر الغربي والتي عدّت العلم علاجاً لجميع مآسي البشرية ومشاكلها، ومن المؤسف هناك مفكرون في بعض المجتمعات المتأثرة بالثقافة الغربية يتصوّرون أنّ العلم هو مفتاح الحلّ لكلّ مشكلة»(2). وفي السياق ذاته انتقد النزعة العلموية في المجتمعات

ص: 247


1- مرتضی مطهري انسان و ایمان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة العشرون، ص 27 - 28
2- مرتضى مطهري تكامل اجتماعي انسان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثامنة، طهران، 1374 ه- ش (1995م)، ص 41 - 42.

الشرقية ووضّح هذه المعضلة قائلاً: «... هذا الأمر أسفر عن الفصل بين العلم والإيمان بزعم أنّ الإنجازات التي حققها الإيمان في العهود السالفة سوف تتحقق في هذا العصر تحت مظلة العلم الحديث، وثمرة هذه الرؤية الشاذة حدوث أزمة في المجتمعات الغربية، وهي في الحقيقة ليست ناشئةً من ذاته العلم، وإنما مجرد نتيجة طبيعية للنظريات الخاطئة التي طرحها الفيلسوف فرنسيس بيكون وأمثاله»(1) .

لقد أكّد سماحته على أنّ العلم بحدّ ذاته ليس وازعاً للمشقة ولا يثمر عن خلق أزمات للمجتمع كما أنّه لا يؤدّي إلى الانحراف الثقافي ولا يدعو إلى إطلاق العنان للقيم الإنسانية لتجاوز العرف والحدّ المعقول، فهذه المعضلات الاجتماعية وما شاكلها ناشئة من الأفكار التي روّج لها بعض الفلاسفة الغربيين من أمثال فرنسيس بيكون بزعم أنّ العلم قادر على اكتشاف جميع حقائق الكون سواء في الكرة الأرضية وفي المجرات السماوية أيضاً مما يعني قدرة الإنسان على الاستغناء عن سائر المعارف والعلوم الماورائية؛ بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وفنّدوا وجود جميع الأمور غير المادية بتقييد الحقائق بتلك الأمور المادية البحتة التي ندركها بحواسنا الظاهرية فقط لدرجة أنّهم استهانوا بالمفاهيم والقيم المعنوية النبيلة المرتبطة بعالم الغيب والحقيقة لأنها لا تخضع لمعايير الحسابات المادية.

لا شكّ في أنّ جدلية العلمنة قد تسببت في تأزيم أوضاع العلوم الغربية بعد أن أضفت عليها صبغةً ماديةً دنيويةً صرفةً، والشهيد مطهري حتى وإن لم يذكر اصطلاح (جدلية العلمنة) بهذا اللفظ، إلا أنّه ساق كلامه بشكل ينطبق مع دلالته بالتمام والكمال؛ حيث أكد على أنّ أعتى أزمة تعصف بالمجتمعات الغربية في العصر الحاضر تتمثل في الأزمة الروحية الناجمة من النزعة العلموية.

الاستعمار الغربي اجتاح مجتمعاتنا الشرقية تحت مظلة العلم والحضارة، وقد وصف الشيخ الشهيد هذه الظاهرة السلبية قائلاً: [الاستعمار الغربي] روّج لظاهرة

ص: 248


1- مرتضى مطهري ، فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، ص 250

الاغتراب الثقافي وجعل الشعوب المستعمرة في غربة عن ذاتها وأرغمها على التخلي عن معتقداتها بزعم أنّ الثقافة الغربية هي الحلّ الأنجع والسبيل الأمثل لتحقيق سعادة البشرية، وقد نجح في مساعيه هذه لدرجة أنّه أثر على بعض المفكرين المسلمين وجعلهم ينخرطون في ركب الحضارة الوافدة إليهم من الغرب بحيث زعموا أن المجتمعات الشرقية إن رامت التحضر والتطوّر فلا مناص لها من الغور في تعاليم الثقافة الغربية من رأسها حتى أخمص قدميها، ومن ثم ينبغي لها أن تجعل جميع قابلياتها الثقافية غربيةً من حيث الكتابة واللغة ونمط الثياب والتقاليد والطقوس والآداب والمعتقدات والفلسفة والفن والأخلاق»(1).

من المؤكد أنّ العلم حتى وإن كان واحداً في بلاد المشرق والمغرب، فهذا لا يعني أنّ النتائج التي يتم تحصيلها منه واحدةٌ ولا يدلّ على أنه يمكن أن يسخر لتحقيق مصالح مشتركة؛ وهو حسب أصول الثقافة الدينية يعدّ واحداً من السبل التي يجب الاعتماد عليها لتحقيق أهداف إنسانية، ولكنّه في الحين ذاته أدنى رتبةً من الإيمان الذي يُعد السبيل الوحيد لبلوغ السعادة الأبدية المنشودة.

إذن، العلم ليس سوى وسيلة يمكن الاعتماد عليها للنهوض بواقع المجتمعات البشرية وتحقيق السعادة والرفاهية لها على ضوء انخراطها في المبادئ الإنسانية المقدّسة لذا ليس من الحري يمكان تسخيره لمآرب مادية صرفة، في حين أن المجتمعات الغربية جعلت المادة هدفاً أساسياً لها وسخّرت العلوم كوسائل لتحقيق هذا الهدف في رحاب النزعة الإنسانية التي لا غاية لها سوى الإنسان بحدّ ذاته، فهي تؤكد على أنّ الحياة برمتها يجب أن تكون تحت إرادته وإشرافة ولا بد لها من تحقيق جميع ملذاته فحسب.

الأستاذ الشهيد في عين دعوته إلى ضرورة استثمار العلوم الحديثة بأمثل شكل وتأكيده على وجوب أخذ ما كان مفيداً منها، حذر من التبعات السيئة التي تترتب على بعض أنماط هذه العلوم وخصوصاً ما كان ذا تأثير سلبي على رؤية الإنسان بالنسبة إلى الدين ، والإنسانية ، فالعلوم الغربية برأيه تسوق وجهة البشرية نحو

ص: 249


1- مرتضى مطهري، بررسي اجمالي نهضتهاي اسلامي در صد ساله اخیر (باللغة الفارسية)، ص 31

الشؤون والملذات الدنيوية وتسفر في النهاية عن حدوث جموح مبالغ فيه؛ لذلك قال: «ينبغي لنا التعامل مع نمط الحياة الغربية بحذر، إذ لا بدَّ من تمييز الغثّ عن السمين فيها، أي إنّنا نقتبس من علوم الغربيين وتقنياتهم الصناعية ومظاهرهم الاجتماعية ما كان مثمراً وفيه نفعاً لنا مع اجتناب آدابهم وقوانينهم التي جرت عليهم الويلات وأزّمت أوضاعهم» (1)

إنّ هذا المفكر المسلم الفذ نظير طبيب بارع له القدرة على تشخيص الداء ومعرفة أسبابه بدقة فائقة ومن ثم تحديد العلاج الناجع له في كلّ آن ومكان، وذلك من منطلق اهتمامه البالغ بالتعاليم الإسلامية وإلمامه الكامل بالأصول الفلسفية وإدراكه الفريد المعتقدات الشريعة المحمدية الأصيلة؛ فقد عرف مكامن الخلل في الحياة الاجتماعية الغربية وتمكن من تتبع جذور الانحراف الفكري الذي يؤرّق الروح الإنسانية ويؤزّم أوضاعها، لذلك تصدّى بحزم لكلّ من انبهر بالثقافة الغربية وتصوّر أنّ التقنية الوافدة من تلك الديار هي

الحلّ الناجع لمشاكل المجتمعات الشرقية؛ ومما قاله في هذا المضمار : «يقول بعضهم إنّ عصر العلم والذرّة والأقمار الصناعية والسفن الفضائية هو عصر مثالي، ويعربون عن بهجتهم بأنّهم خلقوا فيه، لذلك يدعون إلى استثمار جميع علومه وتقنياته قدر المستطاع؛ ولكن هل حقاً أنّ جميع الينابيع المعرفية قد جنّت في هذا العصر باستثناء ينبوع العلم الحديث ؟! ويا ترى هل أنّ كلّ ما تحقق في هذا القرن يمكن عده حصيلة للتطوّر العلمي؟ أيمكن القول إنّ العلم قد توصل إلى أنّ الطبيعة قد سخّرت العلماء لصالحها بالتمام والكمال؟! بالتأكيد كلا، فالعلم لا يدّعي ذلك، إذ هناك كثير من العلماء المتدينين المخلصين يحققون إنجازات علميةً ويستكشفون كثيراً من الحقائق، إلا أنّ عبيد الدنيا وضعاف النفوس والمتصيدين في الماء العكر يصادرون هذه الجهود العظيمة ويسخرونها خدمةً لمآربهم الدنيئة.

نعم العلم على مر العصور يعاني من النزعة الاستغلالية الجامحة الموجودة لدى بعض الناس، وهذا البلاء العظيم نراه جلياً في عصرنا الراهن» . (2)

ص: 250


1- مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، ص 39.
2- المصدر السابق، ص 122

وأكد سماحته على أن استغلال العلم لمآرب دنيئة قد نجمت عنه كثير من الويلات و تسبّب في إعراض بعضهم عنه وعن إنجازاته العظيمة في حين أنّه مجرد وسيلة يمكن أن تقع بيد كلّ كائن كان مهما كانت توجهاته الفكرية وأهدافه، فإذا ما خضع لإمرة أشخاص يعدّون الإنسان هو الهدف والأساس للكون بأسره، فلا عجب حينها من أن يسخّر كوسيلة لإشباع النزوات الحيوانية والاستبدادية ومن ثمّ يصبح ذريعةً لإشاعة الفحشاء وتقوية شوكة الاستعمار وطغيان الظلمة والجائرين؛ في حين أنه إذا كان في متناول المتقين والمصلحين حقاً فسوف يمسي مصدراً للشرف والعزة والطمأنينة الحقيقية في الحياة؛ لذا قال في هذا السياق: استغلال العلم بشكل سلبي قد أدّى إلى نبذه من قبل بعضهم وتحرزهم منه، ولكن الحقيقة أنه سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن يستثمر للخير والشرّ على حد سواء؛ فهو إن كان بين يدي الأتقياء والمصلحين الحقيقيين سوف يكون وسيلةً لرقي المجتمع وسموه وصلاحه، لكنّه إذا ما وقع في براثن النفعيين وأتباع النزوات الحيوانية والمستعمرين، سيصبح وسيلةً للظلم والفحشاء والقتل ونهب خيرات الشعوب المستضعفة» (1).

وانتقد أولئك الذين انبهروا بالثقافة الغربية وقلّدوها تقليداً أعمى عاداً فعلتهم هذه ذريعة لتدنيس كرامة الإنسانية الحقة والدين والأخلاق، ووصفها بكونها تجاوزاً على قدسية المعتقدات الإسلامية؛ وعلى هذا الأساس شمّر عن ساعديه لمناقشتهم ودحض أباطيلهم بعد أن أثبت باستدلالات متقنة أنّ البشرية لا يمكنها مطلقاً الاستغناء عن الدين والإيمان بالله العزيز الجليل، فقد أكّد على أنّ شمس الدين لم ولن تغيب ولا يمكن أن تحجبها سحب ،الضلال والعلم وحده ليس من شأنه تلبية جميع متطلبات حياة البشرية في منأى عن التعاليم والمعتقدات الدينية.

الثقافة الغربية متقوّمةٌ في أساسها على النزعة الإنسانية، لذلك أكدت على أنّ العلم بجميع فروعه يجب أن ينصب في خدمة المصالح المادية للإنسان وحسب، حيث يعتقد الغربيون بأنّ البشرية لا سبيل لها سوى تحقيق جميع متطلباتها في

ص: 251


1- المصدر السابق، ص 39.

الحياة الدنيا على نطاق أوسع وإشباع رغباتها الشهوانية بشتى السبل ولا يحق لها أن تخالف دعوات النفس الحيوانية الجامحة أو أن تضع عقبات في طريقها؛ ولكنّ هذه الرؤية الشاذة سرعان ما انكشف زيفها، فالمجتمعات الغربية بنفسها لم تعد تعبأ بها بعد أن أدركت عدم نجاعها في تلبية متطلبات الحياة بأمثل شكل، وهذه هي الحقيقة بحذافيرها، فطبيعة الإنسان لا تشبع رغباتها بهذه الأطروحة المنحرفة ولا تشعر بالسكينة في رحابها ، وهو ما أكد عليه الشيخ الشهيد حينما قال: «لقد تصوّر [المفكرون الغربيون] أنّ الدين لا مكان له في عجلة التطوّر الحضاري التي لا تتوقف ولكنّ البشرية أدركت اليوم أنّ هذا التطوّر الذي شهدته المجتمعات الغربية على صعيد العلم والحضارة لا يمكنه أن يشبع رغباتها الدينية المشروعة؛ إذ من المؤكّد أنّ الدين حاجة ماسة لا يمكن الاستغناء عنها بوجه، وبالطبع فالفرد والمجتمع في هذه الحاجة سواء » .

المبحث الرابع: التوجهات الاستعمارية الغربية

بعد أن سلطنا الضوء على ماهية العلم والحضارة في المجتمعات الغربية وذكرنا ما ترتب عليهما من نزعات علموية متطرفة، لا نرى بأساً في الحديث عن النهج الاستعماري الذي اتبعه الغربيون في رحاب علومهم الحديثة وحضارتهم الجديدة.

طوال قرون عدة والبلدان الضعيفة تعاني أشدّ المعاناة من نير الاستعمار الغربي الذي يتعامل معها بأسلوب الترغيب والترهيب وينتهك حقوقها بشكل سافر، ونجد أنّ أرباب الحضارة البرجوازية الغربية يدافعون عن الحملات الاستعمارية ويمجدون إنجازاتها لكنّهم في الوقت ذاته يكتمون الدوافع الحقيقية لهذه الظاهرة الأليمة ولا يطرحون الفكر الاستعماري على طاولة البحث والنقاش، بل يتكتمون عليه بغية أن يبسطوا نفوذهم على نطاق أوسع بيسر وسهولة بالاعتماد على القابليات العلمية والإنجازات التقنية.

الشهيد مرتضى مطهري حذا حذو السيد جمال الدين الأسد آبادي - الأفغاني -

ص: 252

حيث عدّ السرّ في نجاح الغربيين بترويج ثقافتهم في بلدان المشرق الإسلامي يكمن في حملاتهم الاستعمارية التي تزامنت مع التطوّر العلمي والرقي الحضاري، لذلك صالوا وجالوا في البلدان التي استعمروها تحت شعار العلم والثقافة؛ وهذا الأمر لم يكن وليد الساعة، وإنما بادروا إلى دراسة أوضاع جميع الشعوب والمجتمعات النائية عنهم طوال أعوام متمادية لكي يتمكنوا من بسط نفوذهم بشكل رصين، ومن المؤسف أنّ البلدان التي خضعت لاستعمارهم لم تدرك هذا المخطط الدقيق والشامل. وفي هذا السياق نقل الشيخ مطهري كلاماً للمفكر المصلح مالك بن نبي، وفحواه: «المستعمرون تمكنوا من تسخيرنا بعلومهم ونحن غافلون عمّا يجري، والحق أنهم تعرفوا على جميع أوضاعنا بدراسات علمية في حين أننا لم نطلع على أوضاعهم بهذا الأسلوب؛ لذلك استغلوا مواقفنا الوطنية وحتى الدينية سواء علمنا بذلك أو لم نعلم به»(1).

إذن، لا مناص لنا من السعي لمعرفة حقيقة التوجهات الاستعمارية المتخفّية في نقاب العلم والتقنية حتى نعرف كيفية التعامل معها ونحصّن مجتمعاتنا من مساوئها وشرورها، ومن هذا المنطلق قال الشهيد مطهري : «الغرب في عصرنا الراهن يشحذ هممه ويسخّر جلّ طاقاته الثقافية والاقتصادية ضدّ بلدان العالم الثالث»(2)، وأضاف في هذا الصدد أيضاً: «الأمة الإسلامية تتعرّض منذ قرون إلى هجوم شرس من قبل الأعداء الغربيين الذين نهبوا خيراتها، ففي بادئ الأمر استهدفوا ثقافة المسلمين وأصولهم الأخلاقية والدينية، ثمّ بادروا إلى استنزاف مصادرهم المادية والاقتصادية ونهب خيراتهم ومن المؤسف هناك أمور قد مهدت الطريق لهذه الهجمة الشعواء وعلى رأسها سبات المسلمين العميق، لذا تزايدت الحملات الاستعمارية يوماً بعد يوم ومن ثم تحمّل المسلمون خسائر فادحة لا حصر لها » . (3)

ص: 253


1- أسعد السحمراني، مالك بن نبي انديشمند مصلح (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور صادق آيينه وند، الطبعة الأولى، طهران 1369 ه- ش (1990م)، ص 168.
2- مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ایران (باللغة الفارسية)، ص 40.
3- المصدر السابق، ص 41

لا شكّ في أنّ التعاليم الإسلامية التي تدعو إلى وحدة الصف واجتناب التفرقة، تقتضي بحد ذاتها طلب العلم، ومكافحة الفقر والحرمان، وعدم الخضوع للظلم والجور، ومراعاة حقوق النساء، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين، وما إلى ذلك من مبادئ سامية تنصب في خدمة الدين والمجتمع ؛ وهذه المبادئ هي التي أيقظت ضمائر المسلمين في الآونة الأخيرة، حيث أدركوا أنّ الاستعمار الغربي يناهض تعاليمهم الدينية ويسعى إلى اجتثاثها من الأساس؛ وفي هذا المضمار قال الشهيد مطهري: «... ومن جهة أخرى نلاحظ انبثاق نهضة شعبية في البلدان الإسلامية المستعمرة، إذ إنّ الشعارات التي ترفع في هذا الصدد والدعوات المخلصة للقيام ضد الظلم وضرورة التمسّك بعقيدة التوحيد المقدّسة، كلها دوافع لم تحرك ضمائر المسلمين فحسب، وإنما أحيت ضمائر جميع الشعوب المضطهدة وغرست في أنفس أبنائها النشاط والحيوية للانتفاض وتنفّس الصعداء»(1). وأضاف قائلاً: «يبدو أنّ الغربيين اليوم يلملمون قواهم ويجمعون حلفاءهم لأجل ضرب الإسلام من الصميم ومقارعة المسلمين بشكل غير عادل ومن هذا المنطلق بادروا إلى حياكة الدسائس والمؤامرات في كلّ آن ومكان بغية تجريد التعاليم الإسلامية عن مضامينها الحقة؛ ولكنّ هذه الحالة كان لها انعكاس إيجابي على أوضاع المسلمين، إذ أوجدت لديهم مشاعر مشتركة بالنسبة إلى الآلام التي يكابدونها، ناهيك عن أنها رسخت لديهم النزعة الوطنية إلى حد كبير؛ ومن ثم تمخض عن كل هذه النتائج تطوّر في شتّى الأصعدة وأدّت إلى إحياء الهوية الإسلامية من جديد»(2). وفي الحين ذاته حذر سماحته المسلمين من الانبهار بالإنجازات العلمية والتقنية التي حققها الغربيون كي لا نضطرّ إلى تقليدهم بشكل أعمى ، ومن المؤسف أنّهم استغلوا هذه الظاهرة غاية الاستغلال لتحقيق مآربهم الاستعمارية، حيث خدعوا بعض ضعاف النفوس الذين ساروا في ركبهم وحرّضوا الناس على التخلي عن أصولهم القيّمة ومعاييرهم الثابتة؛ لذا أكد قائلاً:« ينبغي لنا التعامل مع الحياة الغربية بحذر ، فلا ضير من الاعتماد على علوم الغربيين والاستفادة من صناعاتهم وتقنياتهم واستثمار بعض أصولهم الاجتماعية؛

ص: 254


1- المصدر السابق، ص 42.
2- المصدر السابق.

ولكن ليس من الحري بنا مطلقاً تقليد طباعهم أو اقتباس قوانينهم التي جرت الويلات

عليهم طوال قرون من الزمن»(1)

خلاصة البحث:

الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري( رحمه الله) يعدّ واحداً من الفلاسفة المسلمين الذين لم ينظروا إلى الأصول الفلسفية الإسلامية من زاوية واحدة وبرؤية إيجابية بحتة، بل سلّط الضوء عليها في إطار نقدي أيضاً، وعدّ العلوم غير الفلسفية التي تطرح مواضيعها تحت مسمّيات فلسفية بأنّها عديمة الفائدة، إذ إنّها بدل أن تقدّم خدمةً للبشرية فهي تعقم متبنياتها الفكرية.

ولقد اعتمد على أصول العلوم الفلسفية لدراسة وتحليل ماهية العالم الغربي وتحليله بدقة فائقة، حيث سلط الضوء بشكل أساسي على متبنياتهم العقائدية وتوجهاتهم الفكرية بغض النظر عن سائر القضايا بهدف بيان واقع نظرياتهم الفلسفية، لذا تمكن من تشخيص تلك الآراء المخرّبة والأفكار الهدّامة على وفق أسلوب هو الغاية في الدقة والإنصاف، ومن ثمّ وضّح لمخاطبيه كيفية إقامة ارتباط بين الفكر والعمل من جهة، والعقيدة والتكليف من جهة أخرى.

أكد هذا المفكر المسلم الفنّ على أنّ الفكر المادّي الذي طغى على نظريات العلماء الغربيين بشتى مشاربهم وتوجهاتهم ، أدى إلى تجريد المجتمعات الغربية من هويتها الإنسانية الحقة، لذلك لم يترعرع الإنسان الغربي وهو يتبنّى أهم القيم الإنسانية الحقة، لذا لا معنى في حياته للعفّة والغيرة والعزة والإيثار، وما إلى ذلك من مفاهيم أصيلة لا يمكن التخلي عنها بوجه.

ومن خلال اعتماده على التعاليم الدينية الحقة دافع عن العلم من حيث كونه علماً مطلقاً، وعلى هذا الأساس عدّ كلّ نمط من أنماطه مطلوباً في الشريعة الإسلامية سواء كان دينياً أو تجريبياً شريطة أن يكون نافعاً للبشرية؛ لذا فلا ضير من اقتباس

ص: 255


1- مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در الإسلام (باللغة الفارسية)، ص 39.

بعض العلوم من العالم الغربي فيما لو تحقق هذا الشرط فيها. ولكنه مع ذلك حدر من ماهية العلم الغربي الحديث الذي يحرم الإنسان من فيض الغيب والعلوم الماورائية ويشوّه القيم الدينية في مخيلته، حيث عدّ هذه الحالة بأنّها مرض عضال ولا بد من العمل على صيانة المجتمع من عواقبه الوخمية؛ ومن هذا المنطلق انتقد التبعية التامة للثقافة الغربية وتقليدها بشكل أعمى ، ودعا أبناء المجتمعات الشرقية إلى عدم الغفلة عن مساوئها والنوايا الشيطانية التي يضمرها المروجون لها لكونها تجرد الإنسان عن إنسيانته وتحرمه من دينه فمن هنا تستفحل معضلة المادية الأخلاقية وينشأ الانحراف العقائدي ومن ثَمَّ تتزعزع العلاقات العاطفية بين البشر ويصبح الإنسان مجرد ماكنة متحركة بشكل آلي، ويسود الفساد الأخلاقي في المجتمعات وتنهب خيرات الشعوب المستضعفه، والأعتى من كلّ ذلك هو التغاضي عن الله عزّ وجلّ وتهميشه من الحياة العملية بالكامل.

المسألة الهامة التي أكد عليها الشهيد مرتضى مطهري مراراً وتكراراً في مؤلفاته تكمن في ضرورة معرفة حقيقة المدّ الثقافي الغربي في المجتمعات الشرقية، حيث عادةً ما يسعى المروجون له بالتخفي وراء شعارات العلم والحضارة والرقي المادّي، ومن ثمّ ينهبون خيرات هذه المجتمعات تحت ذريعة التنمية والعمران.

مصادر البحث:

1) أسعد السحمراني، مالك بن نبي انديشمند مصلح (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور صادق آيينه وند، الطبعة الأولى، طهران، 1369 ه- ش (1990 م).

2) محمّد بن يعقوب الرازي الكليني أصول الكافي، الجزء الأول، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الخامسة ، طهران، 1362ه- ش (1993م).

3 )مرتضى مطهري، شناخت (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الخامسة عشرة، قم 1380ه- ش (2001م).

4 )مرتضى مطهري، مجموعه آثار استاد شهید مطهري (باللغة الفارسية)، الجزء

ص: 256

14 ،منشورات صدرا، الطبعة الثالثة طهران ،1377ه- ش (1998م).

5 ) مرتضی مطهري، انسان و ایمان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة العشرون طهران، 1381 ه- ش (2002 م).

6) مرتضی مطهري پيرامون انقلاب اسلامی (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة العاشرة ، قم ، 1373 ه- ش (1994م).

7) مرتضى مطهري تکامل اجتماعى انسان (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثامنة طهران، 1374 ه- ش (1995م).

8 ) مرتضى مطهري علل گرایش به مادي گري باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة عشرة ، طهران، 1372 ه- ش (1993م).

9) مرتضى مطهري فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة والعشرون ، قم، 1381ه- ش (2002م).

10) مرتضی مطهري، انسان و سرنوشت (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا ،الطبعة الثانية عشرة ، طهران، 1372 ه- ش (1993م).

11) مرتضی مطهري، بررسی اجمالي نهضتهاي صد ساله اخير (باللغة الفارسية)،منشورات صدرا، الطبعة الخامسة والعشرون ، قم ، 1378 ه- ش (1999م).

12) مرتضی مطهري، نبرد حق وباطل (باللغة الفارسية، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، قم، بلا تأريخ طباعة.

13) مرتضی مطهري، ده گفتار (باللغة الفارسية، منشورات صدرا، الطبعة الثامنة عشرة، قم، 1381 ه- ش (2002م).

14) مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثالثة والثلاثون طهران 1381ه- ش (2002م).

ص: 257

15 ) مرتضى مطهري بیست گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة السادسة، طهران 1369 ه- ش (1990م).

16 ) مرتضى مطهري، اخلاق جنسي (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الأولى، قم، بلا تأريخ طباعة.

17) مرتضی مطهري پانزده گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات صدرا، الطبعة الثانية، قم، 1381ه- ش (2002 م).

18) وصية الإمام الخميني (باللغة الفارسية).

ص: 258

الفلسفة التطبيقية بين الشرق والغرب عند الشيخ مهدي الحائري اليزدي

اعداد : هاشم الميلاني

اعداد : هاشم الميلاني(1)

نبذة عن المؤلف:

ولد الشيخ الدكتور مهدي الحائري اليزدي عام 1302 ه- ش بمدينة قم، وهو نجل المرجع الديني الكبير الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية بمدينة قم.

درس الدروس الحوزوية على كبار الاستاذة والمراجع، فحضر في الفقه والاصول عند السيد البروجردي ، والسيد محمد حجت کوه كمري، والسيد محمد تقي الخونساري، كما درس الفلسفة الاسلامية عند السيد الخميني، والسيد احمد الخونساري، والشيخ مهدي الآشتياني الى أن نال درجة الاجتهاد على يد السيد البروجردي رحمه الله.

ارسله السيد البروجردي عام 1339 ش مندوباً عنه الى اميركا، وكانت هذه الرحلة بداية اطلاعه على الغرب والفلسفة الغربية حيث تمكن في رحلته الثانية من اخذ الماجستير من جامعة مشيغان ثم انتقل الى كندا ودرس الفلسفة التحليلية وأخذ الدكتوراه من جامعة تورنتو .

ألّف مجموعة من الكتب تدور اكثرها حول المسائل الفلسفية برؤية تطبيقية بين الفلسفة الشرقية والغربية من أهم كتبه مباحث العقل النظري، مباحث العقل العملي،

ص: 259


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العراق، النجف الأشرف.

هرم الوجود العلم الحضوري، تقارير بحوثه حول الفلسفة التحليلية، وبعض الكتب والدراسات الاصولية (علم الاصول)، توفي عن عمر ناهز (76) سنة، عام 1377 ه-.ش.

اهمية الفلسفة:

تحتل الفلسفة عند الشيخ الحائري مكانة مرموقة حيث يجعلها ام جميع العلوم: ((الفلسفة أساس وعماد جميع الظواهر الانسانية انها عماد الاقتصاد، السياسة والعدل الاجتماعي انها اساس جميع الأمور اذا لم تكن لكم فلسفة لم يكن لكم مجتمع ...إذا لم يتم ابتناء أي فكر سواء اكان اقتصاديا ام سياسيا ام تجاريا ام أي شيء آخر حتى الرياضيات على الفلسفة فمن المستحيل أن يدوم ذلك الفكر ... فأيّ نظام لم يتكئ على فلسفة سيحكم عليه بالفناء))(1).

لذا ينطلق من هذا المنطلق ويبدأ بالبحث والتنقيب، وبما أن الفلسفة تنقسم الى نظرية وعملية، قسّم المؤلف بحوثه وكتبه ايضا بهذا التقسيم حيث تطرق في بعضها الى مسائل العقل النظري وفي بعضها الآخر الى مسائل العقل العملي.

الفلسفة الاسلامية:

عندما يؤكد المؤلف على الفلسفة فإنه ينظر من منظار الفلسفة الاسلامية حيث يعتقد بأنّها مع اسلوبها وانتظامها الخاص يلزم أن تعرف على العالم المعرفي المعاصر كي تنال مكانتها الممتازة، وتستعيد موقعها المتقدم حتى أمام أرقى وأحدث المدارس الفلسفية المعاصرة، مضافاً الى أن آراء حكماء الاسلام بالقياس الى أفكار متفلسفة الغرب أقرب الى اسلوب النظم العقلاني البشري (كاوش هاي عقل نظري: - 21) ناهيك عن أن بعض المسائل الفلسفية العويصة تم حلها على ضوء الفلسفة الاسلامية تماما، كما هو الحال في مسائل نظرية المعرفة او فلسفة العلم(2). وأن طرق التعليم في الفلسفة الاسلامية من الدقة والعمق بمثابة يصعب سبر اغوارها على الأقربين فضلاً عن الأبعدين(3).

ص: 260


1- (متافيزيك 28)
2- (جستارهاي فلسفي : 396)
3- (متافيزيك :102)

الفلسفة الغربية :

انّ الشيخ الحائري درس الفلسفة الغربية من معينها حيث أخذ الليسانس والماجستير والدكتوراه من امريكا وكندا ودرس عند كبار فلاسفة الغرب، لذا كان يرى القوة والتطور في المنظومة الفكرية الغربية(1) لاسيما مسألة المنهجية وأهميتها عندهم(2)

ثم انّه يقسّم فلسفة الغرب الى الفلسفة الكلاسيكية التي ورثوها من اليونان، والى الفلسفة الجديدة التي ظهرت بعد عصر التنوير حيث حاولت تقييد الفلسفة الكلاسيكية بالعلم(3) ثم ان الفلسفة الجديدة ايضا تنقسم الى:

فلسفة قارة اروبا عدا بريطانيا حيث يدخل تحتها: ديكارت، كانط، اسبينوزا، هيغل، هايدغر، روسو وسارتر ، وقوام فكرهم المثالية (ايدئاليزم).

الفلسفة التحليلية المتداولة في دول الانجلوساكسونية وقوام فكرهم الواقعية (رئالیزم)(4).

إنّ الشيخ الحائري يشكو من عزوف الغرب عن الفلسفة الاسلامية رغم الايجابيات الكبيرة الموجودة فيها ، ويعزو ذلك الى جناية المستشرقين امثال هانري كوربان، حيث يعتقد أنّ هذا الأخير اخرج الفلسفة الاسلامية عن الفلسفة وادخلها ضمن العلوم غير العلمية وغير الدقيقة (أي تئوزوفي)(5).

من هذا المنطلق يدعو الدكتور الحائري الى فتح باب الحوار بين الفلسفة الاسلامية والفلسفة الغربية للاستفادة المتبادلة، ويقول بهذا الصدد: ((اني أعتقد بأننا لابد من أن نتمكن من اقامة علاقة مع الغرب، علاقة عميقة وبنيوية، لأن العلاقة

ص: 261


1- (متافيزيك: 102)
2- (جستارهاي فلسفي :395)
3- (متافيزيك : 24-25 )
4- (كاوش هاي عقل عملي : 21)
5- (جستارهاي فلسفي :433)

الظاهرية لا تنفع لابد أن تكون علاقتنا بمستوى نتمكن منها سبر أغوار البنى الفكرية الغربية والتعرف عليها من جهة، ومن جهة ثانية نعرض عليهم البنى الفكرية الاصيلة التي عندنا لابد من معرفة اقتصاد وتقنية الغرب على ضوء بناه الفكرية والفلسفية والأ فالعلاقة الظاهرية فضلاً عن أنّها لا تنفع بل تكون مضرّة)(1)) .

فدعوته هذه كانت تنصب على فتح ابواب التفاهم بين الفلسفة الشرقية والغربية (2) لأنه كان يعتقد بعدم وجود فرق بنيوي كبير بين الفلسفتين، فعلى سبيل المثال فانّ ما طرحه كانط حول مباحث الوجود يتقارب في كثير من الجهات مع مباحث الوجود والمعرفة في الفلسفة الاسلامية، ومع ما طرحه صدر المتألهين حول القضايا الحملية، مضافاً الى أنّ الوجود الذهني في الفلسفة الاسلامية هو نفسه مباحث فلسفة العلم(3).

كما يشير في مكان آخر الى تطابق رأي الاخوند الخراساني في كتابه كفاية الاصول حول مباحث الالفاظ مع آراء فتجنشتاين(4) أو تطابق كلام ديفيد هيوم حول نفي العلية الطبيعة مع ما ذكره ابن سينا في الشفا والاشارات(5) او فتح باب التفاهم مع فلسفة هيغل ومقايسته مع بعض فلاسفة الاسلام الكبار(6) .

ناهيك عن انّه كان يرى انّ ما ضيعه الغرب ولم يصل اليه هو مباحث الالفاظ في علم اصول الفقه إذ يقول : ((قد توصلت بشكل جاد في ضوء دراساتي أنّ هذا العلم (مباحث الالفاظ )المبحوث عنه في الاصول يفيدهم كثيرا لاسيما بهذه الطريقة والمنهجية الخاصة، أنّه سيكون منشأ للتكامل الفكري عند الغربيين وموجباً للتحول)(7) .

ص: 262


1- (جستارهاي فلسفي :431)
2- (شرح اصول كافي: 107)
3- ( هرم هستي:169 -170)
4- (الفلسفة التحليلية:106)
5- (هرم هستي: 120 )
6- (کاوش هاي عقل نظري:210)
7- (جستارهای فلسفی :432 )

كما لا يفوته أن ينتقد ما أصاب الفلسفة الغربية من تخلّف جرّاء عزوفهم عن ما بعد الطبيعة، اذ يرى أنّ الأزمة التي أصابت ما بعد الطبيعة في المجاميع العلمية، هي أنّهم أرادوا تقييم علوم ما بعد الطبيعة بمقاييس العلوم الطبيعية والرياضية، ويحاولون إبداع فلسفة جديدة من المبادئ الحسية أو الأرقام الرياضية، فهذا الأمر لو اقتصر على الالفاظ والمصطلحات وتم استبدال الأرقام مكان الألفاظ لم يكن سوى نوع جديد من الترجمة الجديدة ومبادلة للألفاظ، أما لو كان استبدالاً حقيقياً لانمحقت الفلسفة وصارت علماً من العلوم، ونتيجة هذه المغالطة امتزاج العلوم وتوقع صدور أيّ نتيجة من أي مقدمة من دون وجود اي سنخيّة بينها، هذه دون وجود اي سنخيّة بينها، هذه هي المغالطة الفلسفية

الجديدة والفكر الجديد الذي سرى في جميع شؤون الحضارة البشرية(1)

لكن الفلسفة الاسلامية خلصت من هذا التشتت والانحراف الفكري الذي أصاب ،الغرب، انّ فلاسفة الاسلام بعدما عرفوا من جهة انّ الفلسفة إذا كان معناها العلم بحقائق الأشياء ولا داعي لها سوى الوقوف على الحقيقة والعلم بها، ومن جهة ثانية عرفوا أنّ الدين الاسلامي هو دين الفطرة ودين الحق المنطبق على حقائق الطبيعة والكون خرجوا بنتيجة عدم امكان وقوع الخلاف بينهما بالمآل عدا الخلاف في المنهج والتفسير(2).

الفلسفة التطبيقية :

بعد هذا العرض السريع لكلا الفلسفتين والشكوى من تباعدهما يرى الدكتور الحائري ان الحل هو الفلسفة التطبيقية، إذ يقول : ((قد توصلت بعد البحوث التطبيقية الى أنّ الفلسفة الغربية والفلسفة الاسلامية لم يكونا في قطبين متخالفين كما هو الشائع))(3) لذا يقوم بمقاربة الامور من وجهة نظر تطبيقية لرفع التعارض.

وعند شرحه لهذه المنهجية يقول: ((انّ معنى الفلسفة التطبيقية هو تنسيق المفاهيم

ص: 263


1- (م ن:7-8)
2- (متافيزيك: 27)
3- (کاوشهاي عقل نظري:45 )

والمصطلحات الفلسفية لدى كلا النظامين الفلسفيين في الشرق والغرب))(1) والمنهجية المتبعة عنده أن يحرّر مسائل وقضايا الفلسفة عند الغرب من خلال المصطلحات المستعملة في الفلسفة الاسلامية، ثم يدخل في ماهية البحث ويعقد مناظرة وجدلاً

بين واحد من فلاسفة الغرب وواحد من فلاسفة الشرق ليخرج بنتائج تطبيقية . وهذا لا يعني الخروج بنتائج ايجابية دائما، إذ لا يدعي أحد عدم وجود أي خلاف نظري بين الفلسفتين إذ الخلاف من لوازم التحقيق والاجتهاد فكما يوجد يوجد خلاف بين فلاسفة الاسلام أنفسهم فوجوده بينهم وبين غيرهم أولى، لكن رغم هذا الخلاف لابد من أن تلحظ مسائل العقل النظري في كلا المدرستين باسلوب واحد سواء اتفقا ام اختلفا(2).

الشواهد والمصاديق:

لا يخلو كتاب من كتب الشيخ الحائري من المباحث التطبيقية بين الفلسفتين، ولا يمكننا هنا التفصيل والنظرة الشاملة ولكن نحاول أن نسلّط الضوء على أهم المسائل التي ذكرها وعالجها مراعين الاجمال والاختصار.

معرفة الوجود:

لقد طرح الدكتور الحائري في كتابه (هرم الوجود) نظرية (وحدة الوجود المنطقية) وبنى عليها جميع نظرياته: (( نظريتنا هذه في معرفة الوجود التوحيدي التي بيناها بشكل هرمي للوجود، تعد المبنى والاساس لجميع نظرياتنا وأرائنا في مباحث معرفة الكون والاجتماع والانسان، وحقوق الانسان، والسياسة، ومباحث النفس.ومن هذا المنطلق مضافاً الى التغلّب على كثير من المصاعب العقلية والفلسفية المعقدة، تمكنا أيضاً من تحليل الرابطةالوجودية للنفس، والمبادئ العالية، والجسم، والظواهر الجسمية، والجوامع الانسانية مع مبدأ الخلق، وكذلك علاقة الناس بعضهم

ص: 264


1- (فلسفة تحليلي:203 )
2- (م ن:45-46)

ببعض)) (1)وفي البدء يجعل الوجود هو المبدأ الأول للمعرفة والعلم بأي شيء آخر، وعليه لا يمكن تعريف الوجود بل يرتسم معناه في الذهن من دون أي واسطة أو شرح وتوضيح ، اذاً معرفة الوجود تعد مبدأ المبادئ لجميع المعارف الاخرى (2).

نعتقد انّ الاجانب أخطأوا خطأ كبيراً في فهم تقسيمات ارسطو حول الوجود، إنّ ارسطو يقسّم الوجود الى اقسام تجريبية من خلال الامثلة وذكر المصاديق، وفي الواقع لا يعد هذا تقسيماً حقيقياً بل إعطاء الحكم بالمثال، لكن زعم الغربيون انّ ارسطو بصدد تفسير وتقسيم المعنى الحقيقي للوجود فوقعوا في مغالطة أخذ ما بالعرض بدل ما بالذات أو مغالطة المفهوم والمصداق، فزعما انه يذكر المعنى المنطقي للوجود وغفلوا انّ استعمال الألفاظ في المفاهيم المنطقية يختلف عن استعمالها في المصاديق(3)

قسّم حكماء الاسلام الوجود أي الموجود هنا الى:

الوجود المحمولي المستقل (الوجود النفسي).

الوجود الناعتي (الرابطي).

الوجود الرابط المحض.

الوجود المحمولي المستقل هو الذي يقع محمولاً حقيقياً في القضايا: (الله موجود)، اما الوجود الناعتي او الرابطي فهو الذي لا استقلال له في العالم الخارجي، واذا أراد أن ينوجد في الخارج لابد أن ينوجد ضمن موضوع آخر مثل الاعراض.

أما الوجود الرابط فهو النسبة والرابطة بين الموضوع والمحمول وليس له اي استقلال حتى في الخيال، فلو أمكن تعقله بشكل مستقل لزم الخلف وخرج عن كونه رابطاً(4).

ص: 265


1- ( هرم هستي: 7 - 8 )
2- (م ن:11)
3- (م ن:13-14)
4- (م ن :16،36)

أما كانط فقد انكر الوجود المحمولي وقال أنه محمول غير حقيقي بمعنى ان الانسان يتمكن من حمل كثير من الامور على شيء آخر من دون أن يكون له حقيقة عينية في الخارج، فعند كانط لا يوجد في الخارج شيء بازاء الوجود، فالوجود ليس الا رابطاً محضاً، مثلاً لو تصورنا مائة دولار وقمنا بتعريفه فالوجود العيني لمائة دولار لا يختلف عن وجوده الذهني، فمائة دولار مائة دولار سواء كانت في الخارج أم في الذهن (فالوجود) الخارجي لها لا يضيف عليها شيئاً اطلاقاً، ولو أضاف (الوجود) على مائة دولار ولو سنتاً لأصبح شيئاً آخر وخرج من كونه مائة دولار، وهذا دليل على ان (الوجود) الخارجي لم يكن محمولاً حقيقياً إذ لم يضف أي شيء على المفهوم.

وكذلك لو قلنا عندما نعرف الله تعالى بانّه القادر العالم، فبعد هذه التعاريف وبعد جمعها في ذات واحدة نقول: (الله موجود) فهذا الوجود في هذه القضية لم يضف على تلك الصفات صفة أخرى، وهو مجرد رابط بين الله وبين تلك الصفات ولم يكن محمولاً حقيقياً(1).

وقد تسالم على هذا الرأي اكثر علماء ،الغرب، وزعموا ان الوجود لم يضف أيّ شيء على الموضوع، ومن هذا المنطلق أسّس كانط مسألة (نومينو) و(فنومينو) وذهب الى اننا نتمكن من معرفة الامور التي تقع محمولاً في القضايا ونستطيع أن نجعل لها من خلال التجربة ما بازاء خارجي، لذا انطلق الفنومنولوجيون من هنا وقالوا بان المعرفة والعلم يتعلقان بما يمكن تجربته اما الامور المجردة لا نتمكن العلم بها ولا تدخل في الحقائق، وتبعه رسل في نظرية الاوصاف وكذلك كواين(2).

ونقول في الجواب: لو علمنا انّ الشيء موجود في المكان الفلاني لحصل اضافة في علمنا وإن لم تحصل اضافة لماهية الموضوع إذ من غير اللازم وجود ما بإزاء في الخارج للمحمول دائما، بل ان مجرد هذه الاضافة العلمية تكفي

ص: 266


1- ( م ن : 38 - 29)
2- ( م ن : 30 - 31 )

لجعل الوجود محمولاً حقيقياً للموضوع (1)

فالوجود وإن لم يضف شيئاً على الماهية في التحقق الخارجي لكنه يضيف علمنا، فلو علمنا بوجود الله او النفس، فوجود هذه الحقائق وإن لم تضف على ماهيتها شيئا لكن تضاف على علمنا وتتوسّع رقعة معلوماتنا حول حقائق الكون سواء في القضايا التجريبية أم الفلسفية والرياضية(2).

ونقول ايضاً : ان الرابط على ما قال كانط لا حقيقة له ولا استقلال بل لابد أن يكون بين شيئين، فلابد من وجود (إله) حتى يقال انه (عالم) والا لم يصح الربط، فالوجود الذي تحقق للخالق والوجود الذي تحقق للعالم وجود محمولي، فمن هنا نعرف انّ الوجود لم يكن رابطاً محضاً بل الوجود لابد أن ينتهي الى وجود محمولي لا محالة كي تصدق نسبة الربط (1)

الوجود والماهية

ذكر الدكتور الحائري انّ البحث عن الوجود والماهية من الامور الرئيسة سواء في الفلسفة الكلاسيكية أم الفلسفة الغربية الحديثة وذلك اولاً: للتعرف على كيفية سريان الوجود في الماهيات والمعروف في المحافل العلمية ب- (انطولوجيا) وثانياً : مسألة مبدأ الوجود والوجود المطلق حيث يلزم تنزيهه عن هذه العلقة التركيبية بين الوجود ،والمادة، فالبحث عن تقدم الوجود على المادة وكذلك العلقة بينهما من المسائل البنيوية في الفلسفة(3)

هذا وقد أثارت مقولة ابن سينا في عروض الوجود للماهية جدلاً كبيراً في الساحة الاسلامية والغربية على السواء، فاعترض ابن رشد علی ابن سينا وعد مقولته تلك من الزلات، وكذلك البروفسور جلسون وغيره من مفكري الغرب؛ لأنّ الوجود لو

ص: 267


1- م ن : 32
2- (م ن:46-47)
3- (متافيزيك : 102- 103

كان عارضاً على الماهية لزم أن تكون الماهية (المعروضة) قبل وجود العارض وهذا توقف للشيء على نفسه او تسلسل غير متناه للوجود وهو محال عقلاً(1).

-ثم ينبري الدكتور الحائري للاجابة عن هذه الشبهة ويعزو طروّها للخلط الواقع عند مفكري الغرب في فهم معنى (العروض) حيث أن له معاني عدّة تختلف باختلاف المورد والعلم الذي يُستعمل فيه، وعدم التمييز بينهما يوقع الانسان في مغالطة الاشتراك اللفظي . فالعرض المستعمل في البرهان يختلف عن المستعمل في المنطق، وهذا ما خفي على مفكري الغرب(2) .

- والحل هو ان الوجود لم يكن جزءاً تركيبياً مع الماهية، بل انه يلحق ويضاف للماهية كي يخرجها من العدم الى الظهور ، فهذا الالحاق وهذه العلقة المفهومية عبر عنها ابن سينا وسائر فلاسفة الاسلام بالعروض او الاضافة والزيادة(3).

- ثم انّ من المسائل المتفرّعة من اصالة الوجود واعتبارية الماهية انّ الوجود متقدّم على الماهية، هذه القاعدة تكررت كثيراً على لسان اصحاب اصالة الوجود في العصر الجديد من دون تحقيق منهم في كيفية هذا التقدّم والتأخر، وهذا الأمر من أهم النقائص الموجودة في الكتب الفلسفية الحديثة، فالوجوديون بأي قاعدة حسية او تجريبية تمسكوا ليشاهدوا انفكاك الماهية عن الوجود وتقديم أحدهما على الآخر؟! غاية ما يذكره سارتر في مباحثه حول تقدم الوجود على الماهية لا يتجاوز الاستحسان وغير معتمد حتى عندهم.

- إنّ سارتر وسائر الفلاسفة المعاصرين تجنبوا الخوض في اصول فلسفتهم وكلياتها خوفاً من الاتهام بحياكة الخيال والخوض في المسائل المجردة، فبنوا فلسفتهم على مبان واسس لم تثبت.

- ثم ينقل الحائري مقطعاً عن سارتر في رسالته عن الوجودية حول تقدّم الوجود

ص: 268


1- (متافيزيك : 121 - 122)
2- (متافيزيك :125 - 129 )
3- (ميتافيزيك:132)

على الماهية، من اننا نرى في المعمل آلة لقص الأوراق وهذه الآلة واقعية وخارجة عن الذهن، ونحن نعلم أنّ صانعاً صنعها بهذه الكيفية وهذه الخصائص، ونعلم انّ صانعها كان له تصور عنها في ذهنه قبل أن يصنعها، فماهية هذه الآلة - أي وجودها الذهني- متقدم على وجودها الواقعي، فهذا الامر كان سائداً عند اكثر الفلاسفة سابقاً لاسيما كانط وبهذه الطريقة يثبتون نسبة الكون مع خالقه المعتمدة على تقدم الماهية على الوجود.

- ولكن قد اتفق الوجوديون - رغم اختلافهم فيما بينهم على هذا الاصل الموضوعي الدال على تقدّم الوجود على الماهية ولا يصح قياس الكون على معيار الصانع والمصنوع لانّ المتحقق العيني والمتقدّم على جميع الاشياء هو الوجود.

-وفي مقام الرد على كلام سارتر يرى الدكتور الحائري:

هذا الكلام قياس بسيط بين آلة قص الورق والكون ، وليس دليلاً قاطعاً ولا منطقياً ولا يمكن اثبات الاصول الفلسفية على القياس.

لو سلمنا لهذا القياس البسيط ستكون النتيجة تقديم الوجود الذهني لهذه الآلة على وجودها العيني، اما بالنسبة الى ماهية الاشياء والكون نعكس الأمر ونقدم الوجود العيني للأشياء على وجودها الذهني، ولكن هذا القياس يثبت لنا فقط الفرق بين العلم الفعلي والعلم الانفعالي ولم ينظر بتاتا الى مسألة تقدم الماهية على الوجود او الوجود على الماهية ، فسارتر اذا أخطأ خطأ كبيراً في مسألة الوجود من جهة، ومسألة الوجود الذهني والماهيات من جهة ثانية.

لو سلمنا ما ذكره الوجوديون المعاصرون في كلا المسألتين وقلنا طبقاً لقياسهم أنّ الوجود مقدم على الماهية ، ولكن يبقى السؤال عن كيفية هذا التقدم، وهذا ما لم يجيبوا عليه.

لكن طبقاً لأصالة الوجود في الفلسفة الاسلامية يتم الاجابة عن جميع هذه

ص: 269

المسائل، بانّ ما له تحقق واقعي خارج جميع الاعتبارات والصور الذهنية انما هو الوجود، وما لا وجود عينياً له لا حقيقة له ومعدوم، وطبقاً لهذا الأصل يقدّمون الوجود على الماهية وانّه تقدّم بالحقيقة، ومعنى التقدم والتأخر بالحقيقة هو - طبقاً لأصالة الوجود انّ التحقق العيني لجميع الاشياء يكون بالوجود والوجود متقدّم قهراً على الماهية في اتصافه بالحقيقة العينية لان صفة (الحقيقة العينية) التي تنضح عن الوجود الذي هو منبع تحقق الماهيات ذاتية وحقيقية للوجود وعرضية للماهيات وغير حقيقية هذا الاتصاف الحقيقي والعرضي يطلق عليه في الفلسفة بالتقدم والتأخر(1)

3-- اثبات وجود الله تعالى:

-طريقة فلاسفة الغرب

- يُعد دليل الوجود من أتقن ادلة علماء الغرب في اثبات الصانع وهو الوصول الى

ضرورة وجود الله عن طريق تصوّر مطلق الوجود.

- ومن مميزات هذا الدليل عند علماء ما بعد الطبيعة في الغرب انّه لا يتعلّق بأيّ علم من العلوم الطبيعية ؛لانّ تصور الموضوع يوصلنا الى اثبات المطلوب، فأطلقوا عليه العلم المتعالي او المعرفة المتعالية، هذا ما دافع عنه امثال آنسلم القديس وديكارت واسبينوزا وخالفهم الحسيون وقالوا انه مردود لانه لا يرتبط بنحو من الأنحاء بالتجربة والحس.

- يعد انسلم القديس من أهم المتحمسين لهذا الدليل وزعم ان كل من تمكن من تصور معنى (الله) و(الوجود المطلق) تصوراً صحيحا أذعن لامحالة بضرورة ذلك، ومن هذا المنطلق يبدأ بالتنظير لتوضيح هاتين المفردتين(2)

- يقول في مقام تعريف الله:( ان الله هو ذلك الموجود الذي لا يمكن افتراض

ص: 270


1- (كاوش هاي عقل نظري : 179 - 183 )
2- ( كاوش هاي عقل نظري : 303 - 305 )

موجود أكمل وأفضل منه)(1) وفي مقام تفسير وشرح هذا التعريف والسؤال عن سبب هذا الافتراض ذهب بعض فلاسفة الغرب الى محاولة اعطاء جواب منطقي لهذا السؤال والاستعانة بغرائز الميل المذهبي الكامنة في الانسان بشكل طبيعي، فقالوا بانّ حس الاحترام والعبادة الكامن في ضمير الانسان تجاه الموجود الكامل دليل على انّه عندما اتخذ ذلك الشيء معبوداً لم يتصوّر في ذهنه أكمل منه ولو تصوّر ما هو أكمل منه لاتخذه رباً ومعبوداً بدل هذا.

هذا الشرح والتفسير وإن راق كثيراً من متفكري ،الغرب، ولكن نعتقد انّ الافضل والأتقن منه ما نستفيده من النصوص الاسلامية من دون الحاجة الى الاستعانة بغريزة العبادة (2)

ونقول :عند تعريف لفظ الباري تعالى او تعقل مفهومه ،لابد من تصور معنى ومفهوم في الذهن يتغاير نهائياً ويختلف عن سائر المفاهيم الامكانية، فلو انتزعنا مفهوم الباري من مصداق من المصاديق التي يمكن للذهن أن يتصور أعلى وأفضل منها، لم يكن حينئذ ذلك المفهوم هو مفهوم الباري وعلة العلل ومبدأ المبادئ وغاية الغايات وبسيط الحقيقة.

انّ الله تعالى خلافاً لباقي الممكنات المركبة من الوجود والماهية، لم يكن مركباً أي بمعنى انّ وجوده العيني عين الحقيقة والماهية التي يريد العقل أن يدركها، فكما انّ وجوده العيني أكمل وأفضل من جميع وجود سائر الممكنات فتصوره الذهني يكون بهذه المثابة أيضاً.

ولكن لماذا لابد من تصور الباري بهذه المثابة؟ لأننا لو تصوّرناه موجوداً مقيداً وخاصاً ومحاطاً لزمنا اجراء الامكان وسائر عوارضه عليه، وحينئذ لم يكن واجب الوجود والمبدأ الأول(3)

ص: 271


1- (ص305)
2- (م ن:331)
3- (م ن:312-314)

بعد مضي قرنيين من دليل أنسلم القديس جاء توما الاكويني (من اشهر فلاسفة القرن الثالث عشر الميلادي وبدأ بنقد دليله واظهر دليلاً آخر لا نذكره لأنه خارج بحثنا ولكن نذكر نقده على دليل الوجود عند أنسلم ونجيب عليها من وجهة نظر الفلسفة الشرقية(1).

الدليل الاول : انّه يقسّم في البداية البديهيات المنطقية الى قسمين:

البديهيات الضرورية في ذاتها وإن نعلم بها.

البديهيات الضرورية العامة عند الجميع كالكل والجزء.

فمسألة وجود الباري من النوع الاول، فانّ قضية الله موجود في الواقع ونفس الأمر ثابتة ولكن بما انه لا طريق لنا الى معرفة كنه ذات الباري لم نتمكن من فهم ضرورة هذه القضية وبداهتها.

الجواب: هذا التقسيم لا يتوافق مع الموازين الفلسفية عندنا؛ لأنه حتى لو كان صحيحاً فلا علاقة له بالقضايا والتصديقات بل منحصر في التصورات،مع انّ الضرورات المنطقية جميعها من القضايا، ومن المغالطة اجراء أحكام التصورات على القضايا الاوّليةوالتصديقات. يكفي في التصديق والاذعان في الاولويات- تصور الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية حصراً، اما شهرة هذه التصورات أو عدمها، ضيقها أو سعتها، لا تأثير لها في ظهورمجموعة جديدة من الضرورات الفنية في الاولويات( كما زعمه توماس ) (2).

الدليل الثاني وهو كالاول في عدم الاتقان الفلسفي اننا نصل الى معرفة ذات الباري الحقيقية في أواخر مراحل عملية البحث عن الحقيقة، وعليه لا نتوقع المعرفة النهائية في مراحل المعرفة الاولى، لابد أن نثبت وجوده اولاً لا عن طريق وجوده بل بالقياس الى وجود سائر الاشياء الظاهرة، وبعدما حزنا معرفة وجوده لابد أن نعرّج

ص: 272


1- (م ن :314)
2- (م ن315-318)

على صفاته وآثاره وخصائصه، ثم يمكننا أن ندعي معرفة ذاته بحسب استعدادنا. اما آنسلم يريد أن يوصلنا بسهولة الى معرفة حقيقة ذات الباري من قبل أن نعرف أصل وجوده، والحال يستحيل الوصول الى الحقيقة والكنه التي لا يكون اكمل منها والوقوف على اصل الوجود. اما آنسلم فيريد أن يعرفنا حقيقة الله اولاً ثم يثبت لنا أصل وجوده (1) .

الجواب: لقد اشتبه توماس و خلط بين ( ما ) الشارحة و (ما) الحقيقية، (ما) الشارحة هي السؤال الاول و(ما) الحقيقية هي السؤال عن جوهر الشيء وحقيقته. مضافاً الى انّ بالنسبة الى الحقائق البسيطة لا يمكن تصوّر حتى (ما) الشارحة فضلاً عن غيرها، لأنّ ما نريد أن نفهمه من الحقائق البسيطة هو مجرد شرح اللفظ ولا دخل له بهذه الاسئلة المنطقية ولا يدخل في عدادها، ففي التعريف اللفظي لا يُسأل عن ماهية الشيء بخلاف شرح الاسم حيث يكون تعريفاً ماهوياً، فما نطلقه على الباري تعالى لا يتعدّى كونه مبادلة لفظية لأنّه بسيط وماهو بسيط لا يقبل التحليل والتجزئة الحدّية ولا يعرف حقيقياً وماهوياً، وما كان كذلك لا يدرك حقيقة ، ولا يبقى لنا سوى شرح اللفظ والقدر المتيقن أنّه بعد الوقوف على شرح اللفظ نتمكن من الخوض في وجوده أو عدمه، فحتى لولا نتمكن من فهم كنه الباري تعالى من جميع الجهات، نتمكن من تصوّره من بعض الجهات، وهذا يكفي لردّ دليل توماس.

ولو كابر شخص وقال ان الله تعالى غير قابل للتصور حتى من حيث شرح اللفظ، نقول له انّ هذا الانكار هو عبارة أخرى عن المعرفة اللفظية لله تعالى لانّ ما تصوره ثم انكره؛ هو بنفسه معرفة لفظية، فانّه تصور الله في في ذهنه بوجه من الوجوه، فأنسلم وسائر الفلاسفة المتمسكين بدليل الوجود لم يريدوا التعرف على وجود الله تعالى من خلال معرفته الحقيقية حتى يُعترض عليهم بنقض القاعدة، بل انهم بدأوا من شرح اللفظ ليصلوا الى تصديق أوّلي من خلال التصور البديهي (2)

ص: 273


1- (م ن : 316، 319)
2- (م ن :320 ،324)

لعلّ ما يوجد من هنات ومغالطات في ادلة توماس، أدى لقيام ديكارت بتغيير مسار دليل الوجود الى ما يراه أتقن حيث تلقى فلاسفة الغرب هذه المحاولة بالقبول لكن بحسب رأينا فانّ تفسيره فضلاً عن انّه لم يؤدِ الى اي تقويم واستحكام في دليل الوجود بل أدّى الى انحراف صورته المنطقية والحقيقية أيضاً وجعله غير متقن ومورداً للأخذ والرد الفلسفي، ولكن بما ان اكثر النقد من قبل الفلاسفة المتأخرين على دليل الوجود متوجه الى ما ذكره ديكارت نضطر الى نقل كلامه ونقده (1)

خلاصة رأي ديكارت: اننا نزعم تفكيك الوجود عن الماهية في الله تعالى كما اعتاد ذهننا بذلك في جميع الموجودات، ولكن بعد الفحص نجزم بانّ وجوده لا ينفك عن ماهيته حتى في العقل، كما انّ ماهية المثلث لا تنفك عن تساوي الزوايا مع القائمتين او كما في تلازم الجبل والوادي، لذا لا يمكن أن نتصور بان الوجود والكمال من عوارض ماهية الله تعالى.

نقول في الجواب طبقاً للفلسفة الشرقية:

اذا كان الوجود -كما يزعم ديكارت- من لوازم ماهية الله تعالى لخرج وجود الباري من أقسام الضرورات الأزلية ودخل في الضرورات الذاتية، إذ في هكذا قضايا لم ينظر الى الوجود - من حيث كونه وجوداً - في موضوع القضايا لانّ موضوع القضية هنا يفترض مع الوجود أو عدمه وهذا لا ينطبق على الله تعالى وإن كان الوجود من لوازم الذات.

إذا كان الوجود من لوازم الماهية لكان تأثير الماهية (الملزومة) - والمفترض ان تكون بحد ذاتها عارية من الوجود في الوجود( اللازم) محال . إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد

الوجود وإن كان لازماً وضرورياً للذات لكنه يكون صفة زائدة للملزوم، بمعنى ان ثبوت هذا اللازم لذلك الملزوم متفرع على ثبوت الملزوم، والحال ان الوجود لم

ص: 274


1- (م ن:325)

یکن فرعاً لوجود الماهية -سواء كانت ممكنة أم واجبة والخلاصة اننا لا نتوافق مع ديكارت ولا نساوي بين قضية الله موجود وقضية (المثلث له زوايا تتساوى مع القائمتين)(1).

رأي كانط في دليل الوجود :

ان كانط من اكبر النقاد لدليل الوجود واكثرهم تأثيراً، ويبتني نقده على نظريته التي اعتقد بها كأصل موضوعي، وهذه القاعدة هي: ((لا يمكن جعل الوجود محمولاً حقيقياً للموضوع في القضايا الحملية)).

-إذا كان كانط يقصد من المحمول الحقيقي المحمول بالضميمة بمعنى أن يكون الوجود أمراً انضمامياً للماهية، فالحق معه إذ الوجود هو ثبوت وتحقق الشيءلا ثبوت شيء لشيء، ولكن لو قصد ان الوجود لا يكون محمولاً حقيقياً اطلاقاً فهو غير صحيح إذ الوجود عندنا - يعرض على الماهية في الذهن(2).

ثم يترقى كانط ويقول في تفسير قاعدته: انّ الوجود لايقع محمولاً للقضايا اطلاقاً، ويكون في جميع القضايا مجرد رابط، فالوجود لا يتعدى الرابط ولا يمكن أن نتصور له شأناً وكياناً مستقلاً سواء كان في الخارج أم في الذهن(3).

نعتقد من وجهة نظر فلسفة الشرق انّ خطأ كانط يكمن في انّه من جهة يفصل بين الصور الذهنية والحقائق العينية ويجعلهما شيئين مستقلين كي يتمكن من جعل الوجود رابطاً بينهما، ومن جهة اخرى يجعل أحدهما الحقيقة العينية والاخر الظاهرة أو ماهية وطبيعة تلك الحقيقة، وهذا يوجب التناقض، لانّ الوجود إذا كان رابطاً لكان التركيب انضمامياً وهو ما يعرض فيه الوجود على الماهية في الذهن والخارج على سواء، وإذا كان تركيب الوجود والماهية تركيباً اتحادياً أو لا يوجد أي تركيب حقيقي، فحينئذ فرض

ص: 275


1- (م ن:326-328)
2- (م ن:329-335)
3- (م ن:339-340)

الوجود الرابط مستحيل لانّ الرابط يعني وجود شيئين متغايرين لامتحدين(1).

اساس خطأ كانت انّه تصوّر الماهية والحقيقة أو الطبيعة والفرد، شيئين مستقلين، والوجود هو الذي يربط بينهما ، ولكن هذا مردود عندنا بتاتاً لانّ الوجود والماهية او الطبيعة والفرد لم يكونا اصيلين سوية بل اما الوجود اصيل واما الماهية، فلا يمكن تصور اصالتهما معاً لنربط بينهما.

ثم ثانياً لو افترضنا اصالتهما لاستحال التركيب الاتحادي بين الأصلين المستقلين لانّ قلب شيئين واقعيين الى شيء حقيقي واحد من دون استحالة او انقلاب ماهوي؛مستحيل.

ثالثاً لو حصل الحمل بين شيئين مستقلين لم يكن تركيباً اتحادياً حقيقياً بل سيكون انضمامياً، نعم ان كانط تنبه إلى ان الوجود لم يكن من أجزاء الماهية بل يحمل عليها بحمل عرضي أو بالحمل الشايع الصناعي، لكنه أخطأ في جعل الحمل الشايع الصناعي مساوياً مع وجود الرابط واستنتج من كون العلقة بين الفرد والطبيعة بما أنّها بالحمل الشايع الصناعي لا الذاتي والأولي، يكون الوجود رابطاً بين الموضوع ،والمحمول، والحال انّه بما ان التركيب بينهما اتحادي لا يمكن ان يصير الوجود رابطاً.

رابعاً عند المقايسة بين الطبيعة والفرد لو جعلنا الطبيعة في الذهن والفرد في الخارج وأردنا حمل موجود ذهني على واقعة عينية، لما أمكن ذلك، لعدم وجود أيّ علقة بين الوجود الذهني والوجود العيني، فالوجود حينئذ لا يكون تحليلياً ولا تركيبياً انضمامياً اي لا يحمل على الماهية لا بالحمل الاوّلي الذاتي ولا بالحمل الشايع الصناعي،لانّ الملاك في الحمل هو الاتحاد وعند الاختلاف لا يمكن الحمل فلا يكون الوجود الرابط.

ولوجود هذه الامور يوجد تناقض بين في كلام كانط يسقطه عن الاعتبار رأساً،

ص: 276


1- (ص 342)

فانّه عندما يقول في أصله الموضوعي : ((ان الوجود لا يكون محمولاً حقيقياً)) لابد أن يعترف بالتناقض الصريح لان معناه ان الوجود يكون رابطاً وغير رابط، يضيف على الماهية شيئاً ولا يضيف(1) .

وبعبارة أخرى ان نقيصة فلسفة كانط تكمن في انه جعل جميع القضايا التي هي من نوع الحمل الشايع الصناعي داخل نوع التركيب الانضمامي، والحال ان التركيب الانضمامي قسم من أقسام الحمل الشايع الصناعي، والقسم الآخر هو التركيب الاتحادي الذي يربط الفرد مع ماهيته، وهذا ما أغفله كانط تماماً وسبب الارباك في فلسفته وتبعه الارباك فيمن انبهر به من فلاسفة الغرب (2)

ثم ان كانط طرح مسألة (الله) تعالى ضمن مسائل العقل النظري، وذهب الى عدم امکان اثبات وجوده طبقاً للعقل النظري لكنه أثبته طبقاً لمقاييس العقل العملي كأصل الموضوعي، ولكن لماذا أغلق كانط الطريق أمام العقل النظري لاثبات الباري تعالى ؟ (3).

الدليل الاول: ان تصور مفهوم الله تعالى لا اشكال فيه من حيث العقل النظري، وكذلك لا اشكال في إعطاء تعريف لفظي لهذا التصور، ولكن هذا التعريف الاسمي واللفظي لا يثبت الضرورة المنطقية (وهي القضايا التي لو سلبنا المحمول منها لزم التناقض بالذات كما لو سلبنا الاضلاع الثلاثة من المثلث، ولكن لو سلبنا الوجود عن الله تعالى لم يلزم التناقض بدليل وجود ملحدين ينكرون الله مع تصورهم له) ونقول في مقام الاجابة ان ضرورة الله تعالى تستنتج من تقسيم الوجود الى الواجب والممكن لا عن طريق التعريف اللفظي (4)

الدليل الثاني : لو سلّمنا انّ التعريف اللفظي يعطي الضرورة المنطقية، ولكن هذه

ص: 277


1- (م ن:344-346)
2- (ص348)
3- (متافيزيك : 77 - 78 )
4- (متافيزيك : 80 - 82 )

الضرورة لا يمكنها اثبات الوجود الخارجي اي ان الضرورات المنطقية لا يمكنها بتاتاً اثبات الوجود العيني والخارجي. ولكن يرد عليه انّ الأحكام والقضايا الخاصة بالله تعالى لها ضرورة مطلقة وأزلية دون الضرورة الذاتية فلو تقيّدنا بالضرورة الذاتية لكان الأمر كما قال كانط إذ أنّها لا تثبت الوجود الخارجي العيني(1)

الدليل الثالث: انّ كانط قسّم الاشياء الى (نومينو) أي الوجود في نفسه وفي ذاته الذي لا يعكس في الذهن ، و (فينومينو) وهو الوجود فينا والمستقر في الذهن، وعليه يرى كانط انّ (نومينو) لا يدخل تحت علمنا سواء كان جوهراً أم هيولا أم النفس أم الله لأنّه يقع خارج الذهن، والعلم به يلزم منه التناقض لأنه لو دخل في الذهن وأصبح (فينومينو) لفقد ميزته ولم يكن( وجود في نفسه) بل صار (وجوداً فينا) وهذا خلف، لذا لا يمكن العلم ب- (نومينو)(2) .

بعد هذا العرض يعرّج كانط على العقل العملي ويثبت الله تعالى عن هذا الطريق، وذلك انّ الأفعال الاخلاقية كامنة في ضمير الانسان، وانّه يهدف من خلالها الى الوصول الى حالة أفضل من السابق أي من الحالة السيئة الى الحالة الحسنة، ومن الحسن إلى الأحسن وهكذا يكرر الفعل الأخلاقي ليصل الى الخير المطلق وهوالله تعالى، ففرضية انعدام الله تعالى توجب انهيار جميع منظومة العقل العملي، هذه هي التجربة العقلية العملية التي يستنتج منها كانط وجود الله، كما ان المسائل الاخلاقية لها حقائق ليس لها وجود محسوس بالحواس الظاهرة بل هي من المعقولات التي يتحد فيها العقل والعاقل ،والمعقول وعليه لا يحصل هنا التناقض عند الاستنتا لانها حاضرة في العقل بنحو من الانحاء، فالتناقض الذي مرّ في العقل النظري بين النومينو والفنومينو لا يحصل هنا(3).

ص: 278


1- (متافيزيك : 82 - 84 )
2- (متافيزيك: 86 - 88 )
3- (متافيزيك : 89 - 99)

ما بعد الطبيعة ( ميتافيزيقيا)

لم يوافق الدكتور حائري على ماهو السائد في الغرب لتعريف ما بعد الطبيعة؛ من أنّها ما تبقى من دراسات ارسطو التي وجدت من غير تسمية تم العثور عليها بعد بحوثه حول العلوم الطبيعية، لذا سميت بما بعد الطبيعة، وهذا المصطلح قد أطلقه (اندرنيكوس) عام سبعين قبل الميلاد على هذه البحوث، وعليه فهذه البعدية عندهم- في ما بعد (الطبيعة) بعدية زمنية وليست بعدية تعليمية أو منطقية أو بعدية في درجات الوجود ومراتبه.

بل يرى الشيخ الحائري- تبعاً للمحقق الطوسي - انّ ارسطو قد تدرّج في التعليم، فبدأ من المبادئ الحسية وانتهى الى المعقولات، فتقسيم العلوم الى حسية طبيعية وعقلية ما بعد طبيعية لم يكن تقسيماً جزافاً بل له أصل علمي رصين، والبعدية في (ما بعد الطبيعة) بعدية تعليمية من حيث تقدّم المعرفة الحسية على المعرفة العقلية(1).

ومع قطع النظر عن هذا الجدل اللفظي يرى الدكتور الحائري انّ الأمر الاهم هو التعرّف على هذه المعقولات التي تشكل موضوع (ما بعد الطبيعة) ومحمولها وهذا ما يبحث عنه في الفلسفة، فقد ذهب ابن سينا الى ان موضوع ما بعد الطبيعة هو الموجود بلحاظ حيثيته الاطلاقية لا الحيثية التقييدية او التعليلية، ومن صفات الحيثية الاطلاقية أنّها تنطبق على جميع أفرادها بأي مكان وزمان وكيفية ورتبة وبأي مواصفات؛ انطباقاً قهرياً عقلياً من دون أي استثناء، وعليه فمفهوم الوجود يكون موضوعا لعلم ما بعد الطبيعة بهذه الحيثية(2) .

ثم ان الدكتور الحائري بعدما يقسم الاطلاق الى الاطلاق القسمي (وهو ما يتعلّق بالمجردات غير المنطبقة على العالم العيني) والاطلاق المقسمي (وهو الذي يقبل الاشتراك الذاتي ويمتزج مع أيّ صورة) يرى انّ سبب عزوف فلاسفة الغرب عن علوم (ما بعد (الطبيعة) ربما يكون لتصورهم الخاطئ بانّ تلك العلوم تتعلّق بالعالم الخفي

ص: 279


1- (متافيزيك:3)
2- (متافيزيك:9)

والتجرّد التام الذي لا ينطبق على عالم الكثرة والتعين (الاطلاق القسمي) والحال انّ المراد من الاطلاق في الوجود (وهو موضوع ما بعد الطبيعة) هو الاطلاق المقسمي المنطبق على الجميع سواسية، فوجود كل موجود سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي محسوساً أم معقولاً ذهنياً أم عينياً، كلّها جميعاً تدخل تحت مظلة الوجود المطلق، فوجود أي موجود هو بعينه نفس وجوده الما بعد طبيعي سواء كان من المحسوسات والظواهر الطبيعية أم الذهنية وغير المحسوسة (1)

وبعد هذا التمهيد يرى الدكتور الحائري ان جوهر الخلاف بین فلاسفة الاسلام وفلاسفة ،الغرب، يكمن فيما ذهب اليه فلاسفة الاسلام من انّ العلقة بين علوم ما بعد الطبيعة وغيرها من العلوم الطبيعية انما هي علقة منطقية رتبيّة حيث ان رتبة علوم ما بعد الطبيعة تتقدّم لأنّها علوم ما قبلية، بينما تكون سائر العلوم علوماً متوسطة أو نازلة. (2)

وهذا بعكس ما ذهب اليه فلاسفة الغرب الجدد في الفلسفة التجريبية، حيث كانت ترى ان مباحث ما بعد الطبيعة من أغلق الامور ولا قيمة لها، فقد تمنى ديفيد هيوم لو يحرق جميع الكتب المتعلّقة بما بعد الطبيعة لأنّها لا تشتمل الا على الاحلام والخيال ولا تحكي عن واقع حقيقي(3) .

ولكن هذا الوهم الهيومي ومن على شاكلته ينشأ من عدم الالتفات الى النظام المنطقي السائد بين العلوم والى العلم الأعلى الذي يتكفّل اثبات موضوع سائر العلوم، فاستنتجوا من (ما بعد الطبيعة) مفهوماً مجرداً ذهنياً لا ينطبق على الحقاق العينية، وكلّما وصلوا الى مصطلح (ما بعد الطبيعة) تصوّروا التقسيم الافلاطوني حيث قسّم العالم الى عالم الحقيقة وعالم الوهم ثم ينسب الثبوت والكلية والتحقق الحقيقي الى الاول وعدم الثبات والتحقق المجازي والاعتباري الى الثاني، وعليه

ص: 280


1- (متافيزيك : 10)
2- (متافيزيك :15)
3- (متافيزيك: 16 - 17)

طبقاً لهذه المنظومة تدخل جميع المحسوسات في العالم الطبيعي ذيل الوهم والفناء بحيث لا يطلق عليها (الوجود) الا تجوزاً(1).

من هذا المنطلق حكم الماديون على كل ما هو (ما بعد الطبيعة) بانّه عالم الخيال والفناء الافلاطوني، فكما لا توجد طبيعة عينية في (ما بعد الطبيعة) كذلك لا توجد أي حقيقة أخرى، حيث ساووا بزعمهم بين الحقيقة والوجود والطبيعة المادية، وما لم يكن الشيء حسياً لم يكن موجوداً، ثم تطوّر هذا الأمر عند الوضعيين في فينا عام 1920 - 1930 م حيث فصلوا بين الفلسفة (المتعلقة بالاوهام) والعلوم (المتعلقة بالحقائق العينية) وحاولوا تسخير الفلسفة تحت نير العلوم الطبيعية.

وأخيراً يرى الدكتور الحائري عدم صحة كلام الماديين أمثال هيوم والمدرسة الوضعية، وكذلك عدم صحة ما ذهب اليه افلاطون من حصر الواقع والحقيقة بما بعد الطبيعة، بل يرى ان الوجود والموجود يطلق على نحو الاطلاق المقسمي على جميع الحقائق صريحاً سواء كانت مادية ام غير مادية كالنفس والعقل (2)

ومن وجهة نظر ثانية ينتقد الحائري بعض المغالطات المعاصرة في الفكر الجديد، ويذكر منها ما ورد في تعريف علوم ما بعد الطبيعة حيث ان بعض المستحدثين الذين يميلون الى التجدد في الفلسفة اجرى عليها قانون النشوء والارتقاء وقال انّ الفلسفة كانت في البداية وجودية، ثم عبرت هذه المرحلة ووصلت الى علم المعرفة ثم انحدرت الى المنطق البحت وبعد هذا تنزلت واقتصرت على مباحث الألفاظ، فمن أراد التعرف على حقيقة ما بعد الطبيعة يلزم أن لا يتجاوز مباحث الألفاظ، واذا أردنا ان نصبح فلاسفة ما بعد طبيعيين لابد أن نترك جميع الحقائق لكي نتمكن من الغوص في عالم الألفاظ(3).

ثم يرد الحائري عليهم:

ص: 281


1- (متافيزيك : 17)
2- (متافيزيك :21-22)
3- (کاوش هاي عقل نظري :9)

هؤلاء اجروا بكل قطع وجزم ما أحدثه عالم طبيعي في السير التاريخي والطبيعي في الأنواع وعلى نحو الاحتمال، أجروه على سائر العلوم وتمسكوا بقياس التشبيه-غير المعتبر منطقياً وعرفاً- بين الانواع الطبيعية وأنواع العلوم.

انهم ساروا على عكس المطلوب حيث انّ تلك النظرية تقول بارتقاء الأنواع في سيرها التكاملي، لكن هؤلاء قالوا بالارتجاع حيث هبطت الفلسفة من الأعلى الى الأدنى.

انّ هذا الاستكمال والارتقاء او الرجوع مهما كان فانّه مقتصر على الوجود الطبيعي للانواع اما الماهية فغير قابلة لهذا السير حتى عند داروين، لانّ هذه النظرية لا تدعي انّ طبقة نوع الانسان الحالي -اي مفهوم الانسان وماهيته- كان سابقاً بشكل آخر ثم استكمل، بل انها تقتصر على التكامل الطبيعي والتاريخي، وعليه فتحوّل الفلسفة من مفهوم الوجود المطلق الى الوجود المقيد الذهني (نظرية المعرفة) ثم الى الصور المنطقية ثم الى الالفاظ، لا ينطبق مع أي من الموازين، وكلام غير صحيح(1) .

5- فلسفة الأخلاق عند هيوم:

اول من سأل في الغرب عن علقة الوجود والوجوب هو ديفيد هيوم، وسؤاله هذا مبتنى على فلسفته التجريبية النافية لما بعد الطبيعة واستمر هذا السؤال بعده الى يومنا الحاضر، انّ جوهر سؤاله يبتني على مسألة العلقة المنطقية بين الوجود والوجوب، وانه كيف يمكن استنتاج قضايا وجودية من مقدمات تحكي عن الوجود في قياس منطقي ؟ !(2)

يرى هيوم انّ النظم الأخلاقية عندما تريد الخوض في مسائل الأخلاق تستعين بالطريقة الفلسفية المتداولة، وتبدأ من اثبات وجود الله أو عدمه، وبعد اثبات الله وسائر الخصائص الانسانية من خلال قضايا الوجود والعدم، تعرّج فجأة على مسألة

ص: 282


1- ( م ن : 10 - 12)
2- (كاوش هاي عقل عملي21 - 22)

الوجوب واللاوجوب، فهيوم يستغرب من هذا التحوّل المفاجئ ويتساءل عن الضوابط المنطقية لهذا التحول والاستنتاج، إذ إنّ التعريج من الوجود الى الوجوب ومن العدم الى اللاوجوب غير مقبول في الفلسفة ،التجريبية، فعلماء الأخلاق يرون قطعية هذه النتائج وكونها من الضرورات المنطقية، وبعبارة اخرى يتساءل هيوم ويقول: كيف يمكن أن نستنتج القضايا الناظرة الى (الوجوب) من مقدمات ناظرة الى (الوجود) إذ إن هذا الاستنتاج غير مقبول منطقياً.

والخلاصة ان فلاسفة ما بعد الطبيعة لا يمكنهم الاستفادة من المقدمات الناظرة الى وجود الله والنفس؛ للوصول الى وجوب الفضائل الاخلاقية وعدم الرذائل الاخلاقية(1)، بعد هذا العرض لشبهة هيوم ينبري الدكتور الحائري للإجابة، ويستعين بالفلسفة الاسلامية كي يبرهن على امكانية العبور من قضايا الوجود الى قضايا الوجوب واللزوم.

ان مسائل الفلسفة تتكوّن دائماً من قضايا (الوجود) وهو الرابط بين جميع تلك القضايا ولا تتعدّى ذلك، وهذا ما نتوافق فيه مع هيوم(2) ثم يدخل سؤال هيوم في منطق الصورة وروابط القضايا ولا علاقة له بمنطق المادة أي مواد القضايا، كما لا علاقة له ايضاً بصور القضايا والأقيسة الاخلاقية، وعقد وضع القضايا وعقد حملها(3).

البحث الوجودي عن الوجود والوجوب:

انّ السؤال عن الوجود -مع قطع النظر عن شبهة هيوم- يُعد من الاصول البنيوية في المنطق الصوري. ان مسألة وجود الله تعالى من أقدم مسائل فلسفة الوجود إذ يقع وجوده في قمة هرم سلسلة الوجودات العينية، ومن الواضح ان مورد مباحث الفلاسفة لم يكن حول ان وجود الله يختلف عن وجود الطبيعة وظواهرها، بل انّهم يبحثون عن الله من جهة اخرى اي انّ وجوده واجب و لازم اما سائر الوجودات فانها

ص: 283


1- (م ن:28-31)
2- (م ن:37)
3- (م ن:40)

قد تكون وقد لا تكون، وهذا هو معنى واجب الوجود بالذات اي انّ وجوده لم يكن وجوداً صدفياً كي يبحث عن لزومه او عدم لزومه، بل انّ وجوده واجب بالضرورة المنطقية، فحينئذ بعد تعريج الفلسفة من مطلق الوجود الى الوجوب واللاوجوب، يأتي هذا السؤال قهراً: أي كيف نصل من المقدمات الناظرة الى مطلق الوجود؛ الى نتائج ناظرة الى الوجوب ؟ هذا السؤال وإن كان ناظراً الى الوجوب المنطقي لا الأخلاقي وسؤال هيوم كان عن الوجوب الأخلاقي، لكن هذا لا يضر لانّ سؤاله يتمحور عموماً حول استنتاج الوجوب من الوجود، وبما ان نطاق السؤال توسع الى الوجوب المنطقي أيضاً يلزم علينا الرجوع الى البنى والاصول والتعرف على انّ علقه الوجوب بأي معنى كان منطقياً ام اخلاقياً من أي منبع يصدر، وما هو معنى الوجوب وما هو منطلقه الوجودي ؟! (1)، معنى الوجوب هو اللزوم والضرورة والحتمية، ويقابله الجواز والامكان كما يقابله الحرمة والامتناع واللاوجوب.

فالموجود الذي يلزم وجوده يكون واجب الوجود، ولو لزم عدمه كان ممتنع الوجود، ولو كان وجوده وعدمه متساوياً لكان ممكناً خاصاً، ويطلق في المنطق على هذه القضايا قضايا موجهة، وعليه فهذه المفاهيم تنشأ من تنوع واختلاف الوجود ولم يكن لها أي جذر ومنشأ غير الوجود، لانّ الوجود هو الذي يتلوّن بهذه الالوان، فتارة يتصف بالوجوب وتارة بالامكان والجواز واخرى بالامتناع.

هذه المباحث كلّها تتعلق بالفلسفة ومباحث العقل النظري الباحث عن الوجودات غير المقدورة فشبهة هيوم لا تقتصر على الاخلاق ومباحث العقل العملي بل تسري حتى على مباحث العقل النظري.

الوجودات الصادرة عن ارادة الانسان المسؤول تتصف بنفس تلك المفاهيم حيث بعض هذه الافعال تُعد لازمة وحتمية وواجبة عند الفاعل ولابد أن تتحقق بارادته، وبعضها الآخر لم تكن بهذه المثابة من الضرورة والحتمية، والقسم الثالث ما يكون وجودها عن الفاعل محكوم عليه بالحرمة، فتلخّص ان الوجوب الأخلاقي

ص: 284


1- (م ن:59-61)

كالوجوب المنطقي كيفيات تبين وتوصف النسب والروابط في الوجود، وانّ العامل الوحيد الذي يُوصِف الوجود بالوجوب الاخلاقي علم الانسان وارادته، وهو -أي العلم والارادة - العلة الفاعلية لهذه الوجودات، أي ان الارادة والاختيار العلة الفاعلية الوحيدة والعامل الرئيسي للوجودات التي تتصف بالوجوب(1).

ثم ان سؤال هيوم ينحل الى قسمين:

السؤال عن العلقة الصورية بين الوجود والوجوب .

السؤال المتعلّق بصورة القياس وهو كيفية استنتاج الصور الناظرة الى الوجوب من مقدمات ناظرة الى الوجود في قياس منطقي اي استنتاج القضايا المعيارية والقيمية من القضايا الاخبارية او التوصيفية.

السؤال الاول لا علاقة له بمسألة الاستنتاج بل يقتصر على تنوع الرابطة والعلقة بين الوجود والوجوب، وفي مقام الاجابة لابد أن نفرق بين نوعين من الوجود وهو ما يسمّى في الفارسي ب- (است) و (هست) فالأول لا يتعدى كونه وجوداً رابطاً لا اكثر ولا يدخل في عقد الحمل وغير منظور اليه اي رابط بين الموضوع والمحمول كما في مثال( زيد طبيب - زيد طبيب است- فالوجود هنا رابط بين الطب وزيد لا اكثر ولا

يحكي عن مسألة مسألة وجودية حول زيد أو الطب

وتارة نستخدم الوجود ونريد منه اثبات الوجودية (أي هستي)كما لو قلنا (الله موجود) فالوجود هنا ليس رابطاً بل انه محمول يدخل في عقد الحمل ويكون مفاد كان التامة وهل البسيطة، والخلاصة ان هناك فرقاً بيناً بين الوجود المحمولي والوجود الرابط، وبناء على هذا الفرق يتم الجواب عن سؤال هيوم الاول.

ونقول ان القسم الاول من سؤال هيوم يدور حول الوجود الرابط وهذه العلقة بين الوجود [أي بمعناه الرابط] وبين الوجوب تنحصر في العلوم الرياضية والطبيعية،

ص: 285


1- (م ن:61-64)

بينما الوجود المحمولي[ بمعنى هست] يكون في الفلسفة، وهذا السؤال الاول خارج عن مسألة الاستنتاج المعياري والقيمي الذي هو مفاد القسم الثاني من سؤال هيوم.

القسم الثاني من سؤال هيوم يتعلّق باستنتاج النتائج المعيارية والقيمية من القضايا والمقدمات الخبرية أوالتوصيفية، وهو يتعلق بمنطق الاستنتاج ولا علاقة له بمسألة الرابط في القضايا، بل ينحل الى السؤال عن العلقة المنطقية بين العقل النظري والعقل العملي.

وبعبارة أخرى هنا سؤالان عند هيوم:

مسألة الرابط في القضايا.

مسألة استنتاج القضايا.

المعيارية من القضايا الخبرية، فلو لم نميز بين هذين الأمرين سنقع في مغالطة جمع المسألتين في مسألة واحدة التي وقع فيها الكثير وسبب إرباكاً كثيراً(1).

اما الجواب عن الشق الثاني لسؤال هيوم فنقول بانّ العقل العملي هو قدرة الاستنباط واستنتاج نتائج ناظرة الى الوجوبات توضيح ذلك: هذه النتائج تنتخب من خلال الوجودات المشخصة والامور الجزئية المتعلقة بالانسان كي يصل الانسان الى غاياته ،مختاراً، هذه النتائج تستحصل من المقدمات الاولى او المشهورات او المجربات، فالحراك والعملية المنطقية من هذه المقدمات الى حين الوصول الى النتائج الناظرة الى الوجوب يتكفّلها العقل النظري الباحث في الآراء والقضايا الكلية، هذه هي الصورة العامة للقياسات المنطقية المنتهية الى النتائج الأخلاقية.

وبعبارة أخرى انّ حقيقة العقل العملي هو استنباط ما يجب أن يفعله الانسان المسؤول، وهذا الاستنباط لابد وأن يستند الى رأي وقاعدة ومقدمات كلّية وهذا يتعلّق بالعقل النظري أي انّ العقل العملي ينتج من العقل النظري والوجوب لا

ص: 286


1- (م ن:75-83)

يصدرالاّ من حاق الوجود، نحن نصل الى اي خير او فعل حسن من طريق المعرفة الكلية، ثم تظهر من هذه المعرفة الكلية معرفة جزئية ونكوّن منهما قياسين منطقيين الاول يتضمن المعرفة الكلية (عقل نظري) والثاني المعرفة الجزئية(عقل عملي)، مثلاً العقل النظري يدرك ان الصدق حسن، ثم يجري هذا الحكم على الجزئيات وينتج منه قياس أصغر يتعلّق بالعمل والفعل، فالنتيجة الصادرة من القياس الثاني هذا هي العقل العملي، فالعقل النظري يحوّل في البداية الوجوب الى الوجود، ثم يصوغ القضايا الاخلاقية من خلال كبرى وصغرى كسائر القضايا الفلسفية، فالوجوب هنا هو الضرورة او الوجوب بالذات أو بالغير الناشئ من اشتداد الوجود وقوته(1).

ان مسائل العقل العملي هي قضايا العقل النظري المتعلّقة بالوجودات الارادية والاختيارية لدى الانسان، وهذه الوجودات الاختيارية بعد صدورها تخرج من سلطة الانسان وتحكي عن الوجودات العينية وغير الارادية، وحينئذ يمكن تشكيل قضايا خبرية عنها، فالجلوس مثلاً حقيقة من الحقائق الوجودية المتعلقة بالانسان لانّه مقولات الوضع وهو من القضايا الفلسفية، هذا الوضع المخصوص (الجلوس) بما انه فعل ارادي قبل أن يتحقق يكون من الوجوبات الاخلاقية ويقع محمولاً في القضايا الاخلاقية ولكن بعد الوجود والتحقق يصبح من الوجودات الخبرية(2)

ثم ان سؤال هيوم حول كيفية استنتاج نتيجة ناظرة الى الوجوب من مقدمات ناظرة الى الوجود، لو كان سؤاله عن مادة القياس يُنقض بدليل الصديقين في الفلسفة الاسلامية والدليل الوجودي عند آنسلم، حيث ان هذين النظامين يُرجعان الوجود المطلق الى نتيجة منطقية ناظرة الى الوجوب وذلك ضمن تقديم قياس برهاني(3)

وأخيراً انّ الوجوب كيفية حقيقية من مراتب الوجود يحكي عن درجات الوجود شدة وضعفاً (4)الوجوب وإن كان وجوداً رابطاً من حيث الصورة لكنه في الواقع ينشأ من

ص: 287


1- (م ن 110 - 120)
2- (م ن:147-148)
3- (م ن:149)
4- (ص151)

حاق الوجود، وهو من كيفيات الوجود البسيط المتعلق بمنطق المادة(1) الوجوب لم يكن مفهوماً مستقلاً أمام الوجود، بل هو ذاتي للوجود ويصف صور وجوداتنا الاختيارية(2).

-6 دليل الاستقراء:

البرهان لا يحتاج الى تجربة حيث نصل فيه من المقدمات العليا او الكلية الى النتائج الجزئية، اما القوانين العلمية فهي تجريبية وهذه القنوانين قد تحصل عن طريق الاستقراء ، علماً بانّ الاستقراء التام لا يتحصل في الطبيعة لخروج موارد الاستقراء عن حيّزالاحاطة، لذا يكون الاستقراء ظنياً وغير يقيني.

يوجد اشكالان في الاستقراء:

الاشكال التجريبي.

الاشكال العقلي.

الاشكال التجريبي :اننا لا نتمكن من استقراء جميع الحالات في الماضي والحال والمستقبل وتجربتها، إذ إنّ الافراد التي لا نهاية لها لا تحضر في الذهن.

الاشكال العقلي: اننا لا نتمكن من الوصول الى حكم كلي قطعي عن طريق الاستقراء لعدم امكان معرفة الكل عن طريق الجزء الجزء هو نموذج للكل لكنه لا يحكي عنه الكلي يحكي عن الجزء دون العكس، بخلاف البرهان حيث نصل من الكلي الى الجزئي ويكون حكمه قطعياً.

فقد اشكل هيوم في القرن السابع عشر هذا الاشكال وقال: ان تجربة مجموعة من المصاديق لا توصلنا الى نتيجة دائمية وكلية لانّ الافراد لا تناهي لها ولا يمكن الوقوف على جميعها فهو لا يعطينا اليقين بل يعطينا الاطمئنان الظنى.

وقد ردّ على هيوم الوضعيون أرباب حلقة فينا وأصحاب معيارية الاثبات او الابطال

ص: 288


1- (ص 155)
2- (ص 159 - 158)

في القضايا، إذ تعتمد آراؤهم على الاستقراء لكن دون جدوى والحق مع هيوم.

ومن وجهة نظر المنطق الاسلامي فانّ الاستقراء على نوعين:

الاستقراء الذي حقيقته البرهان فهو يفيد العلم بشرط أن تكون التقسيمات عقلية، كما لو قلنا الجسم أما حيوان أو نبات أو جماد، فهنا نستقرئ الأفراد عن طريق التقسيم المنطقي لا التقسيم التجريبي، فيكون الاستقراء حينئذ تاماً يقينياً وهذا نقض على هيوم.

ويمكن الجواب عن شبهة هيوم بنظرية( الفرد بالذات) حيث ان التجربة لو أوصلتنا الى الفرد بالذات لكان الحكم ضرورياً لا يختلف عن الطبيعة الكلية ولا يحتاج الى استقراء جميع الأفراد، فالفرد بالذات وإن كان جزئياً ولكن يمكنه الحكاية عن الكلي، فهو استقراء بمعنى وبرهان بمعنى(1)

نبين ذلك عن طريق مثال: لو سألك ابنك وقال ما لون هذه الورقة؟ لأجبته بانّ هذه الورقة بيضاء، فأنت تبين له بياض الأبيض أي الفرد بالذات للبياض في الخارج، فلذا لو رأى لاحقاً الثلج أو أي أبيض آخر لحكم عليه بالبياض أي يصل الى حكم كلي عن طريق هذا الفرد بالذات، فلو وصلنا الى الفرد لحكمنا عن طريقه على جميع الافراد لا نحتاج الى الاستقراء كي نصل عن طريق مشاهدة الأفراد الى الحكم الكلي(2)

-7 الصحة والفساد:

ان الغربيين عدوا بعض المفاهيم من قبيل الصحة والفساد ضمن الامور القيمية والمعيارية وذهبوا الى أنّها توجيهية توصيفية (prescriptive) وليست اخبارية أي لا يمكن الاخبار عنها لانها لا تملك وجوداً عينياً مدركاً بالحواس الظاهرية أو الباطنية

فلا يمكن الاخبار عنها.

ص: 289


1- (فلسفة تحليلي: 93 - 99)
2- (ص102 - 101)

الجواب : اذا كانت هذه المفاهيم من الاعتبارات المحضة ولا يمكن الاخبار عنها، فكيف أخبر عنها الانبياء والفلاسفة ؟ انّ الصحة صفة العمل الذي يتطابق تماماً مع أجزاء الفعل وشرائطه، والمطابقة حقيقة رياضية وليست معيارية ولا اعتبارية والفساد ،بخلافه، فما ذهب اليه التجريبيون من انّ الصحة والفساد أو الحسن والقبح ليست اموراً حقيقية كالبياض والفساد فلا معنى لها وانّها غير خاضعة للمعرفة التجريبية وغير قابلة للتأييد او التكذيب هذا الكلام في غير محله(1).

ذهب آلفرد جولز إير- استاذ الفلسفة التجريبية في جامعة اكسفورد- الى ان القضايا الاخلاقية غير قابلة للتجزئة والتحليل العلمي، فلا تكون من مصاديق الوجود وتبقى تصورات ذهنية غير مفهومة، وعلى سبيل المثال اذا قلنا:

أنت فعلت قبيحاً في سرقة هذا المال.

أنت سرقت هذا المال.

يرى (إير) انّ هذين المثالين لا فرق بينهما، فكلمة القبيح المستعملة في القضية الاولى لم تضف شيئاً واقعياً على المثال الثاني، فالمعنى المحصل من المثال الاول في عالم الوجود لم يكن باكثر من المعنى الموجود في القضية الثانية، اذاً ليس (القبح) شيئاً يدل على واقع عيني ولو كان شيئاً عينياً لزم الاختلاف في معنى المثالين.

نقول في الجواب: لو أغمضنا الطرف عن مسألة الحسن والقبح وعكفنا على مفهوم السرقة لأصبح مفهوم السرقة -طبقاً لاصول الفلسفة التجريبية- غير مفهوم ايضاً كمعنى الحسن والقبح، ونقول له على سبيل النقض: ما معنى السرقة في العالم الحسي؟ وما الفرق بين السارق والأمين ؟ فلو افترضنا شخصين تحققت أموالكم عندهما، واحد على سبيل الائتمان والامانة وواحد على سبيل السرقة، فما الفرق في المنطق التجريبي بين هذين الشخصين، إذ الامانة والسرقة من وجهة نظر المنطق التجريبي سواسية لانّ معناهما انتقال أموالك منك الى غيرك، فكيف يصبح هذا

ص: 290


1- (كاوش هاي عقل عملی 187 -188 )

الانتقال أمانة عند أحدهما وسرقة عند الآخر؟

لا مناص لنا من القول بانّ أحد الانتقالين لم يتطابق مع قواعد العرف أو القانون والآخر يتطابق لذا يكون احدهما اميناً والآخر سارقاً، اذا التقابل بين التطبيق وعدم التطبيق يعود الى تقابل السلب والايجاب الوجود والعدم، وهذا التقابل مردّه الى الوجود ولم يكن من القيم، وعليه فانّ القبح في المثال المذكور ينتزع من عمل السرقة القبيح، وبما ان السرقة لا تتطابق مع نظام القانون تكون فساداً بهذه الطريقة يتم ارجاع الحسن والقبح الاخلاقي الى الانطباق وعدم الانطباق التجريبي أو الرياضي، وهما من ضمن الوجودات الطبيعية والرياضية ولم يكونا اعتباريين(1).

-8 العلة والمعلول

مسألة العلة والمعلول من أهم مسائل الفلسفة ومن دونها يكون الاستدلال عقيماً وغير منتج ويلزم منه تعطيل العقل، لكن جاء هيوم - من مؤسسي الفلسفة التجريبية- وذهب الى اننا لا نتمكن من قبول قانون العلّية عن طريق التجربة، لانه يحصر الاستدلال بالتجربة والحواس او ما ينتج عنهما مباشرة،لانّ مفاد هذا القانون هو ثلاثة أشياء:الاتصال التعاقب الزمني الاستمرار، وهذه الثلاثة لا تنتج القطعية والضرورة المنطقية، كيف تقولون: كلما كانت العلّة كان المعلول بالضرورة ،وبالعكس من أين لكم هذه الضرورة، انّ الامور الثلاثة أعلاها لا تنتج سوى الواقع التجريبي لا الضرورة المنطقية، فلو أذعنا بهذا الكلام لم نتمكن من اثبات واجب الوجود لا من خلال المعلولات ولا من خلال العلل (2).

نقول في الجواب: معنى العلية عندنا انّ الكون هو تجلي الله تعالى ومعلوله الابداعي، فهو مفيض الوجود وتسمّى نتيجة هذه الافاضة بالمعلول(أي المفاض )وهذا مفاد قاعدة( الواحد لا يصدر منه الا الواحد)، وما أنكره هيوم هو التعاقب والاستمرار بين شيئين اما في قاعدة الصدور لا يوجد تعاقب زمني بين الصادر

ص: 291


1- (م ن:189-192)
2- (هرم هستي: 116 -120)

والمصدور، ولا استمرار واتصال مكاني، لانهما يتعلقان بوجود شيئين والحال انّ في الافاضة لا توجد اثنينية بل هناك ظهور ، وظهور الشيء لا يكون سوى نفس الشيء.

فبعد اثبات الصدور نفهم نوعاً آخر من العلّية غير التي نفاها هيوم، من هذه العلية والمعلولية التي تكون بمعنى الصدور ، نستنتج الضرورة المنطقية، الضرورة المنطقية بين المعلول وعلّة إثبات الكون من حيث انّ الكون ظهور وجود الله تعالى، هذا بناء على قانون العلية في قاعدة الصدور لا قانون العلية في الاجسام التي نفاها هيوم لانها كما قال لا تثبت سوى الاحتمال دون الضرورة المنطقية(1).

8- العلم والفلسفة:

انّ المنهجية الجديدة تحاول أن تحصر(العلم) بالعلوم الطبيعية والرياضية، وبتبعه يخرجون الفلسفة وعلوم ما بعد الطبيعة عن اسرة العلوم، ولكن ليُعلم ان العلم الأعلى أو الفلسفة الكلية وعلم ما بعد الطبيعة تعدّ من العلوم لامتلاكها جميع مميزات العلم ولم تكن جهلاً، بل هي منبع سائر العلوم وجميع العلوم تتغذّى منها.

يقول الفكر الجديد: انّ الفلسفة فلسفة وليست علماً ولا جهلاً، وذلك ان العلم هو الادراك الذي يتعلّق بالمحسوسات مباشرة أو يكون كالرياضيات يعتمد على مبادئ حسية، وبما أنّ ما بعد الطبيعة لا تدخل ضمن هذين التقسيمين فلا تكون علماً، فالفلسفة فلسفة وليست علماً كما انّها ليست جهلاً لانها نوع تحرك فكري.

تقول الفلسفة الاسلامية في مقام الاجابة : لا يمكن تعريف الفلسفة بنفسها لانه يلزم منه محذور توقف الشيء على نفسه او الوقوع في التناقض، فالفلسفة إما أن تكون علماً من العلوم فهو المطلوب، وإما أن تكون جهلاً وهذا ما لا يقول به أحد، وإما أن لا تكون علماً ولا جهلاً ولا يفهم منها شيء، فهذا خروج عن البحث العلمي وتعطيل للعقل (2) .

ص: 292


1- ( م ن : 122 - 130)
2- (كاوشهاي عقل نظري 14 - 16 )

بعد هذا الجدل اللفظي نقول : ليست علوم ما بعد الطبيعة كما يتصوّره فلاسفة الغرب وبعض المتفلسفة الاسلاميين؛من أنّها علوم تتعلّق حصراً بالموجود في خارج عالم الطبيعة ، وتُطلق على ما لايرى، وتبحث عن الامور الغيبية. هذا الفهم لا يستقيم وليس له أساس علمي متين انّ العلم بوجود المحسوسات من جهة كونه وجوداً يدخل في زمرة علوم ما بعد الطبيعة عندنا ، ان عوارض الجسم كالجسم نفسه وكسائر الموجودات لو بحثت من حيثية القضايا البسيطة نفياً واثباتاً سوف تكون من مسائل ما بعد الطبيعة عندنا، وهذا يرجع الى الخلاف الجوهري بين الفلسفة الاسلامية والفلسفة الاروبية في تفسير ومعنى ما بعد الطبيعة والوجود المطلق ولا تقارب بينهما في هذا الأمر(1).

وسبب هذا الخطأ عند كثير من فلاسفة الغرب والشرق ناشئ من تعريف الفلسفة عندهم، حيث زعموا أنّها تبحث عن الوجود المطلق، لذا جعلوا مسائل الفلسفة من المجردات التي لا علاقة لها بالواقع العيني الجزئي ولا تحقق لها سوى التحقق الذهني؛ لانّ الوجود المطلق مع قيد الاطلاق لا يتحقق سوى في الذهن، فالفلسفة اذا لا تتمكن من الخوض في الحقائق العينية إذ إنّ مسائلها خارجة عن هذا المضمار ومنحصرة في المسائل الذهنية المجردة.

هذا هو الخطأ الكبير عندهم إذ لو كان موضوع الفلسفة (الوجود المطلق)لكان الحق معهم لانه مجرد ولا تحقق خارجياً وجزئياً له، ولكن الصحيح أن نقول بانّ موضوع الفلسفة هو (مطلق الوجود)، ومطلق الوجود ينطبق على جميع الامور حتى الظواهر الجزئية الطبيعية لأنّها كلها ضمن مفهوم الوجود، وبما انها وجود تكون من مسائل الفلسفة، وعليه ستصبح جميع الاشياء الجزئية والكلية الطبيعية وما بعد طبيعية الوجودات الفلسفية غير المقدور عليها والوجودات الاخلاقية المقدور عليها، ستصبح كلها ضمن مسائل الفلسفة من حيثية وجودها؛ لأنّ مطلق الوجود كما يصدق على المجردات يصدق على الطبيعيات أيضا(2).

ص: 293


1- (م ن : 17 - 18)
2- (كاوش هاي عقل عملي : 204 - 208 )

وعليه فقد جعل فلاسفة الاسلام الفلسفة مرادفة للعلم، وقسّموا العلم الى: العلم الأعلى

(الفلسفة الكلية وما بعد الطبيعة)والعلم الأدنى(الرياضيات والعلوم الطبيعية) بخلاف فلاسفة الغرب حيث فصلوا الفلسفة عن العلم(1) .

يظن البعض انّ هذا التقسيم غير صحيح، والاولى اتباع ما طرحه فلاسفة الغرب قديماً وحديثاً، ولكن هذا غير صحيح لانّ تمايز العلوم ورتبتها تُقدّر بتمايز الموضوعات سعة وضيقاً، فالعلم الذي يكون موضوعه أكثر كلية وتجرداً وشمولاً يكون أعلى، وما لم يكن بهذه المثابة بل يقتصر على الأشياء والظواهر العينية يكون أدون(2) .

- نقد نظرية بوبر حول( قابلية التكذيب )في القضايا

ان كارل بوبر قسم القضايا الى علمية وغير علمية، وجعل قضايا الأخلاق والكلام والفلسفة والقانون ضمن القضايا غير العلمية والمعيار عنده في القضايا العلمية هو قابلية التكذيب (falsibility )فالقضايا الكاذبة يكون نفس كذبها معياراً لكونها ذات معنى، فالكذب هو الملاك والمعيار لاثبات القضايا العلمية.

كثير من القضايا العلمية تبقى في مرحلة الفرضيات وما دامت هكذا لم تكن لها صبغة علمية، نعم تصطبغ بالصبغة العلمية عندما نجربها ونأخذ منها نتائج ايجابية وقد نأخذ ايضاً نتائج سلبية، فاذا كانت القضية العلمية تحمل في طياتها السلب يكون هذا دليلاً على انها ذات معنى، أما لو كانت النتائج مائة بالمائة ايجابية واثباتية فتلك القضية لم تكن علمية، عندما نحكم على قانون علمي بالنفي يكون هذا دليلاً على اننا أدركنا معناه.

الجواب: يمكننا نقد نظرية بوبر من وجهين: الجواب النقضي، الجواب الحلي.

اما الجواب النقضي : توجد قواعد وقضايا ايجابية بحتة غير قابلة للتكذيب وتكون علمية أيضاً، مثال ذلك : لو قلنا انّ طائر دَدُو (dado) [طائر قد انقرض منذ مائتي سنة]

ص: 294


1- (كاوش هاي عقل نظري: 66 )
2- (م ن:93-94)

موجود. هذه قضية تجريبية ولا يمكن نقضها أو تكذيبها ، فلذا لم يكن التكذيب هنا معياراً للعلمية. وهكذا الحال في كثير من القضايا العلمية التي مدعاها ايجابي ولا يمكن تكذيبه اطلاقاً.

الجواب الحلي: نستعين هنا بقاعدة فقهية ذهب اليها البعض من انّ الشهادة في العدميات غير مسموعة، وذلك ان الامور العدمية او السالبة لم تقبل التجربة، فلو أشرنا الى ألف طائر وقلنا انه ليس طائر (دَدُوْ) يكون صحيحاً، لكنه لم يثبت عدم وجوده في أيّ نقطة من العالم وكذا الحال في ما بعد الطبيعة، لانّ الشهادة على النفي والسلب غير مقبولة ولا معنى لها(1).

كما انّ تقسيمه للقضايا الى علمية وغير علمية غير صحيح ولم يكن منطقياً، لانّ المنطق ينقسم الى منطق الصورة ومنطق المادة، ولا يجوز الخلط بين أحكام كل واحد منهما ، فلو قسمنا القضايا الى علمية وغير علمية لتعلّق هذا بمنطق المادة دون الصورة، والتقسيمات التي تقع في المنطق الصوري كلها عمومية من دون فرق في الامور العلمية وغير العلمية، إذ الاركان الرئيسة فيها هي الموضوع والمحمول والنسبة بينهما، فلا يمكن فصل القضايا العلمية عن غير العلمية لان الصورة واحدة وإن اختلفت المادة فانها قد تكون عدداً أو طبيعة او ما بعد الطبيعة (2) .

10-الرد على الفنومينولوجيين:

ان مبحث الوجود الذهني في الفلسفة الاسلامية يجيب على إشكال الفنومينولوجيين أمثال هسرل ،لانّهم يعتقدون بوجود حد فاصل بين الذهن والعالم الخارجي، وهذه الفاصلة لا تمتلئ اطلاقاً ولا طريق لنا الى عالم خارج الذهن، وما نراه من الحقايق هو (فنومينو) الذهن لا الواقع العيني. ان جميع الكون ظهورات في ذهننا اما (النومينو) الذي الوجود في نفسه لا طريق لنا اليه لأنه بمجرد ما يدخل (النومينو) الى الذهن تحول الى .(فنومينو).

ص: 295


1- (فلسفه تحليلي: 85 – 87)
2- (م ن:90)

ولكن الفلسفة الاسلامية تجيب عن هذه الشبهة، قال السبزواري:

للشيء غير الكون في الاعيان

كون بنفسه لدى الاذهان

لكل شيء وجودان: وجود في الخارج الطبيعي والمادي، ووجود في الذهن( الوجود العلمي) وتوجد بين هذين الوجودين المماثلة لا العينية، الوحدة والعينية متعلقة بماهية هذين الوجودين، وعلى سبيل المثال انّ شخصاً عنده لباسان لباس لليل ولباس للنهار مع ان حقيقته واحدة لا تتغير بتغير اللباس فالوجود الذهني والوجود الخارجي بمثابة اللباسين لتلك الحقيقة، فالحقيقة عندما تدرك تخلع اللباس الخارجي وتلبس لباساً آخر، فالفرق بين العالم العقلي والعالم العيني الحقيقي هو انّ كل حقيقة تظهر بلباس وجودها الطبيعي في عالم الطبيعة، وتلك الحقيقة بعينها تظهر بلباس وجودها الذهني في الوجود العلمي.

وخطأ الفنومينولوجيين هو أنّهم زعموا ان واقع كل شيء هو وجوده الخارجي والعيني لذا لا يمكن أن يدخل الواقع في ذهننا، انّهم لم يصوروا الوجود الخارجي أو الذهني كاللباس.

والخلاصة انّ حقيقة الأشياء شيء واحد؛ تارة ينوجد في الخارج بلباسه العيني الخارجي وله آثار خارجية، وتارة ينوجد في الذهن وله آثار ذهنية، وبناء على هذا لابد من ترك التقسيم الى (نومينو) و (فنومينو) فما يقال من ان الحقيقة بوجودها الخارجي لا تدخل الى الذهن وبما أنّها لا تدخل الذهن لا نتمكن من جلب حقائق الاشياء الى الذهن والعلم بها فمعلوماتنا جميعاً لا تتعدى (الفنومينو)، هذه المقولة مردودة عند حكماء الاسلام إذ حقيقة الأشياء وماهيتها كما توجد في الخارج توجد في الذهن أيضاً(1).

ص: 296


1- (جستارهاي فلسفي: 417 - 422)

مضافاً الى ان كانط لم يفرّق بين العلم الحصولي والعلم الحضوري، ففي العلم الحضوري

( علم الذات بالذات) يتحد العلم والمعلوم، فلا يجري تقسيم كانط في العلم الحضوري.

11- نظرية الاوصاف عند رسل:

ان نظرية الأوصاف عند رسل وإن اقتصرت على الوجودات الشخصية، لكن أبعادها قد تجاوزت ما كانت عليها بشكل كبير .

من المسائل المطروحة منذ بداية القرن العشرين هي السؤال عن ظواهر الطبيعة، وهل انها هي التي تعبر عن معلوماتنا تماماً، أي هل ان علومنا تنحصر في الظواهر الخارجة عن الذهن أو يمكن أن تكون هناك علوم أخرى تفوق الظواهر؟! وبعبارة اخرى هل ينحصر توصيفنا وفهمنا بالامور التي لها وجود عيني خارجي فقط، أو اننا نتمكن من توصيف وفهم ما لا تحقق عينياً له أيضاً؟!

ذهب الفلاسفة الجدد الى عدم امكانية فهم وتوصيف ما لا تحقق خارجياً له، ولو وصفنا ذلك لكان وصفنا غير مفهوم ولم يكن من العلوم، فكل قضية سواء كانت صادقة أم كاذبة - لابد أن يكون موضوعها متحققاً في الخارج كي تكون علمية.

فمن ذهب الى هذه النظرية رسل وكثير من التجريبيين ومثالهم المعروف (انّ ملك فرنسا عالم)والحال ان فرنسا لم تكن ملكية حتى يكون لها ملك، فهذه القضية بما أنّهالاتحكي عن شيء مطابق وموجود في الخارج لا تكون مفهومة وهي غير معقولة، فعند رسل يجب تحقق موضوع جميع التوصيفات في الخارج كي تكون القضية قضية(1).

في المقابل قد انبرى بعض فلاسفة الغرب للاجابة على هذه الشبهة، حيث ذهبوا الى عدم اقتصار معلوماتنا على ما هو متحقق خارجاً، فلنا معلومات لم يكن لها ما بازاء خارجي،وهي مع هذا صادقة وتعدّ من ،علومنا من جملة هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف الالماني المعروف ماينونج، ويمثل لمدعاه بقضية: (هذا الجبل الذهبي

ص: 297


1- (هرم هستی: 79 - 82 )

من ذهب) فانّها قضية صادقة وتعدّ من علومنا وطبقاً لقواعد المنطق من ان نقيض السالبة الكلية : الموجبة الجزئية، ينتقض استدلال رسل بهذه الموجبة الجزئية (1)وذلك انّه يقول على نحو السالبة الكلية : (ليس لنا اطلاقاً أي معلومات خارجة عن الحس والوجود العيني) فتأتي الموجبة الجزئية عند ماينونج لتنقض منطقياً استدلال رسل.

لكن يعترض رسل ويقول انّ هذه القضايا تعد من القواعد القاموسية لا المنطقية، إذ إنّ قواعد وقاموس اللغات لا علاقة له بالوجود الخارجي، بل تصدق في محيط الالفاظ حصراً وتكون من قبيل شرح اللفظ ، فلو صح هذا لزم التناقض كما لو قلنا:( ان مسجد مدينة ليما كبير) والحال انّ ليما لم يكن فيها مسلم فلا مسجد فيها اطلاقاً، ثم يأتي شخص آخر ويقول: (انّ مسجد مدينة ليما ليس بكبير) وبما ان اجتماع النقيضين محال -يعني لا يمكن أن يكون مسجد ليما كبيراً وصغيراً بنفس الوقت لابد أن يصدق أحد المتناقضين، فاذا ثبت أحدهما يعني ان هناك مسجداً في ليما، والحال انّها كما قلنا لا تحتوي على أي مسجد(2).

يجيب الدكتور الحائري عن اشكال رسل في اجتماع النقيضين ويقول: هاتان القضيتان غير متناقضتين لانّ القضية السالبة هنا ترجع الى (الموجبة السالبة للمحمول) فيرتفع التناقض، فلو كانت احدى القضايا سالبة والاخرى موجبة لزم التناقض ، لكن إذا كانت إحداها موجبة والاخرى موجبة أيضاً أو معدولة أو موجبة سالبة للمحمول، فلا تناقض بين القضيتين ولكن انهم لم يلتفتوا الى هذا فجعلوا جميع القضايا التحليلية على غرار القواعد اللغوية وعلم المعنى الراجعة الى الألفاظ التي لا علاقة لها بالواقع الخارجي.

لكن نحن في الفلسفة الاسلامية اسسنا القاعدة الفرعية وأفادتنا اموراً كثيرة، حيث تقول القاعدة ان(( ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت)) فاذا كانت القضية ذهنية كان المثبت له ذهنياً واذا كانت خارجية كان المثبت له نفس ذلك الموضوع الخارجي. وذلك اننا اذا أردنا وصف أي شيء فانّ ذلك يستلزم اثبات الوجود لذلك الشيء في مرحلة من المراحل، امّا نفس ذلك الوصف الذي نصفه

ص: 298


1- ( م ن : 82 - 83)
2- (م ن:87-88)

للمثبت له فلا يلزم أن يكون موجوداً في الخارج، والموضوع في القضية التوصيفية يلزم أن يكون إما موجوداً او مفترض الوجود(1).

نحن هنا نؤكد على جملة (لا) الثابت في القاعدة الفرعية، بمعنى عدم لزوم تحقق الوجود العيني الخارجي (للثابت). (الثابت) من الأحكام والأوصاف، فهذه الأوصاف قد تكون من المعقولات الثانية حيث لا مطابق لها في الخارج فانّ عروضها في الذهن واتصافها في الخارج، وقد تكون من المعقولات الأولية حيث لها مطابق في الخارج فانّ عروضها واتصافها في الخارج كالبياض مثلاً.

أما إصرار رسل في جعل المثبت له في مثال(ملك فرنسا ومسجد ليما) من القواعد اللغوية التي ليس لها واقع في الخارج في غير محله وخلل منطقي، إذ هذه القواعد لها معنى تصوري أو تصديقي حتى لو كانت كذبا أما القضايا الفاقدة للموضوع الحقيقي فانّها ليست قضايا ولا معنى لها بخلاف ما نحن فيه، فكان على رسل بناء على مذهبه انكار أن يكون لمثاله (ملك فرنسا عالم) معنى في قواعد اللغة أيضاً والحال انه لم ينكر هذا.

ولكن هذه القضايا محلولة عندنا على ضوء القضايا اللابتية التي ابتكرها ملا صدرا حيث يكون موضوعها مقدر الوجود، فتكون من حيث القواعد اللغوية صحيحة أما من حيث الانطباق على الواقع الخارجي غير صادقة(2).

لقد قسّم ملا صدرا القضايا الى:

قضايا بتية (أو حملية) حيث ننسب المحمول للموضوع بشكل قاطع ولابد أن يكون الموضوع متحققاً خارجاً.

القضايا الشرطية حيث لا نحكم فيها بشكل قاطع بل حكمنا مشروط بشرائط.

القضايا اللابتية حيث لا هي حملية ولا شرطية يوجد فيها شرط وجزاء لكنهما لا يرجعان الى النسبة بين المقدم والتالي، بل يرجعان الى نفس الموضوع ونفس التالي

ص: 299


1- ( م ن : 90 - 91)
2- (م ن:93-95)

سواء وجدا أم لم يوجدا.

ففي مثال: (بحر من زيبق بارد بالطبع) نقول: إذا افترضنا تحقق بحر من زيبق في الخارج لكان هذا البحر الموجود موصوفاً بالبارد بالطبع، وكذا في مثال (هذا الجبل الذهبي من ذهب) فعند هذا الافتراض يكون المثبت له موجوداً وتكون هذه القضية صادقة منطقياً، إذ لا اشكال من افتراض الوجود للمحالات واتصاف ذلك الوجود المفروض بأوصاف، فالقاعدة الفرعية تلزمنا بوجود المثبت له، ولكن لا تلزمنا أن يكون وجوده بتياً وقطعياً، فالقضايا التي لا وجود خارجياً لها ترجع الى القضايا اللابتية(1).

12- لغز رسل:

طرح رسل مسألة في الأجناس والانواع عرفت بلغز رسل، وهي ان بعض الأجناس لم تشتمل على أفرادها مثلاً الكلي الطبيعي للانسان هو النوع الطبيعي للانسان ولم یکن شخص الانسان، إذ الشخص هو زيد وبكر وعمرو، ثم نسأل عن جنس الأجناس بانه هل هو جنس أيضاً أم لا؟ فيرى رسل ان جنس الأجناس لو كان جنساً لم يكن جنس الأجناس بل كان من أفراد الأجناس، واذا لم يكن جنس الأجناس (جنسا) -أي لم يكن جنساً كسائر الأجناس- فلم يكن(جنس الأجناس) جنساً بمعنى أنه يلزم من عدمه وجوده و من وجوده عدمه.

في مقام الاجابة نستعين بنظرية صدر المتألهين ونقول : إنّ جنس الأجناس جنس بالحمل الأوّلي الذاتي لا بالحمل الشايع الصناعي، إذ إنّه لم يكن فرداً من أفراد الجنس بل هو الجنس بعينه، ولم يكن جنساً بالحمل الشايع الصناعي(2)

فهرس المصادر:

هرم هستي، الطبعة الثالثة عام 1385 ش، مؤسسة بزوهشي حکمت و فلسفه ايران.

كاوش هاي عقل عملي، الطبعة الثانية 1384 ش، مؤسسة بزوهشي حكمت و فلسفه ایران

ص: 300


1- (م ن:95-100)
2- (هرم هستی:273-276)

کاوش هاي عقل نظري، الطبعة الرابعة 1384 ش، مؤسسة بزوهشي حکمت و فلسفه ایران .

جستارهاي فلسفي، الطبعة الأولى 1384 ش مؤسسة بزوهشي حكمت و فلسفه ایران .

علم كلي، الطبعة السادسة 1394 ش مؤسسة بزوهشي حکمت و فلسفه ايران.

فلسفه تحليلي تقريرات بحوث الشيخ الحائري بقلم عبد الله نصرى، الطبعة الاولى 1385ش، نشر علم .

علم حضوري، الطبعة الاولى 1395 ش، نشر علم.

متافيزيك، الطبعة الأولى 1360 ش، نشر نهضت زنان ایران.

شرح اصول الكافي، الطبعة الأولى 1391 ش، نشر حکمت.

ص: 301

قراءة نقدية للفكر الغربي الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي انموذجا

بقلم : محمد عبد المهدي سلمان الحلوا

(1)

- ليس الخوض في المنجز المعرفي والثقافي لشخصية ذات النتاج المعرفي الغزير بالأمر الهين، ويمكن ان يرد ذلك الى سبيين مبعدين الاسباب الفرعية التي تقبل المداخلة والنقاش السبب الاول: ان الشخصية موضوع البحث ذات غزارة انتاجية في حقول معرفية واسعة تتراوح موضوعاتها بين( الانسان - الاسلام)، والسبب الثاني ان تناول افکار مفکر مكثر يوزع افكاره بين اكثر من مكان معرفي يجعل من الصعوبة ان نستخلص رأيا نهائيا له في مسألة ما ولا سيما ان النتاج الفكري في تزايد...

ومفهوم الثقافة من المفاهيم التي اتسع البحث عنها، حتى اصبحت ذات محور خاص في العلوم الاجتماعيه وعلم النفس الاجتماعي والعلوم الفكرية الاخرى ،فمفهوم (ثقافة) مفهوم له عمق تاریخی متطور، وهذا التطور مرتبط بالمجال الاجتماعي والسياسي ولهذا تعددت تعاريف الثقافة: (إن صراعات التعريف هي في الواقع صراعات اجتماعية، اذ ان المعنى يتأتى من رهانات اجتماعية اساسية) (2)

ص: 302


1- ماجستير فلسفة وطالب دكتوراة في قسم الفلسفة جامعة الكوفة ، استاذ في تربية النجف.
2- آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي من مواليد الجمهورية الاسلامية الايرانية، ولد عام 1935، درس وتتلمذ على بعض العلماء البارزين مثل الامام الخميني والشيخ بهجت ودرس الشفاء والحكمة المتعالية عند السيد محمد حسين الطباطبائي، يترأس مؤسسة الامام الخميني للتعليم والبحث العلمي في قم المقدسة، له مجموعة من البحوث والمؤلفات في الفلسفة الاسلامية والمقارنة والالهيات والاخلاق والعقيدة الاسلامية. http:mesbahyazdi.ir/ar .http://mesbahyazali.org/arabic/ 1. دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة: منير السعيدان المنظمة العربية للترجمة، بيروت -لبنان، الطبعة الاولى، 2007، ص 11.

- ومع ان كلمة ثقافة في بدء استخدامها لاتيني يعني فلاحة الأرض، لكن المفهوم شهد تطورا وانتقالا من الفلاحة الى استخدامات متنوعة : ثقافة الفنون ثقافة الآداب، ثقافة العلوم (1)، وكان من التعدد ان جمع له المختصون سبعاً وعشرين صفحة تتحدث عن تعاريف الثقافة(2) ، وحاول تايلور ان يضع لها تعريفا جامعا مانعا وُصِفَ بانه اقدم تعريف واشده ،رسوخا حيث عرفها بانها : (( تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة والايمان والفن والاخلاق والقانون والعادات، بالاضافة الى أي قدرات وعادات اخرى يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع ))(3) ومن الغريب وصف تايلور للثقافة بهذا المفهوم بان الانسان لا يتمكن من امتلاكها(4).

ومن مفهوم الثقافة ننطلق مع المفكر الاسلامي المعاصر (مصباح اليزدي) الذي جعل من الصراع الغربي - الجمهورية الاسلامية(الشرق الاسلامي) صراعا ثقافيا يدور حول مسالة العقيدة والقيم الاسلامية ومحاولة تدميرها، والتي جاء بها الاسلام واكدتها الثورةالاسلامية في ايران، فكانت بذلك هذه الثورة امتداداً لثورات الانبياء عليهم السلام، وسياسة الغرب محاولة للقضاء على الحركة الثقافية في الجمهورية الاسلامية(5) .

تعدد تعاريف الثقافة:

يرى مصباح ان الثقافة مصطلح متعدد التعاريف، وان تعاريفها تربو على خمسمئة تعريف، وان كان لابد من تعريفها فهي مجموعة من الاصول التي تميز سلوك الانسان عن سلوك الحيوان، فتحديد مصطلح الثقافة من خلال اركانها، فالثقافة لها ركنان أساسيان الاول : العقيدة (الرؤية الكونية) التي تعتمد على معرفة الامور الموجودة أي ما ينبغي معرفته والثاني: القيم (المثل العليا ما ينبغي ان يوجد وما يجب على

ص: 303


1- المصدر السابق، ص 18
2- كليفورد غيرتز تاويل الثقافات ترجمة محد بدوي المنظمة العربية للترجمة، بيروت - لبنان، الطبعة الاولى، 2008، ص 81.
3- المصدر السابق، ص 8
4- المصدر السابق، ص 8.
5- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، اصول المعارف الانسانية، ترجمة: مركز نون للتاليف والترجمة، جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2001، ص 9.

الانسان ان يفعله (1).

فهذان هما الأساسان لكل ثقافة، وبهما ايضا تمتاز ثقافة عن اخرى، وهو لا يعترض ان يكون من الثقافة الآداب العرفية او الكتابة او اللغة، لأنها امور ان تغيرت لا تتغير (جوهر ثقافة الانسان) فالإنسان المسلم الذي يتكلم اللغة العربية، اذا سافر الى بلد ما وتكلم اللغة الانكليزية، فتغيير اللغة لا يغير ثقافته بجوهرها كما انها لا تغيرجوهر الانسان بالذات، والحال كذلك للكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، فما يغير (جوهر الثقافة) هو العقيدة (الرؤية الكونية) والقيم (المثل العليا) ليصل مصباح بعد ذلك الى رؤية واضحة وحاسمة ومهمة، وهي ان تغييرعقائد الشخص هو ما يغير الرؤية الكونية والقيم وتحويل ثقافته من الايمانية الى الالحادية، فالثقافة بهذين الركنين ترتكز على اسس ثلاث:

رؤية كونية : معارف واعتقادات

قيم وميول: مثل عليا.

تصرفات وافعال سلوكيات (2).

- وهذه المرتكزات والاسس تركز على مكانة الانسان في الكون ومعرفته بأمور ثلاث محله من هذا الكون، اين هو ؟ من این جاء ؟ الى اين يذهب ؟ وعندما يفكر الانسان ويتعقل هذه الامور الثلاثة يكوّن حدا فاصلا بينه وبين الحيوانية بالوصف القرآني، لان مصباحاً يرى ان معنى التفكير القرآني يختلف عن معنى التفكير الاعتيادي، فقد يفكر الانسان فيما يأكله او يشربه، لكن هذا التفكير ليس هو التفكير المطلوب قرآنيا، فالتفكير المطلوب ورد في الآيات القرآنية المباركة: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران (191)، (إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ

ص: 304


1- المصدر السابق، ص 11. وينظر ايضا : الغزو الثقافي مؤسسة ام القرى، قم - ايران، الطبعة الأولى، 2005، ص 73.
2- اصول المعارف، مصدر سابق، ص 11.

عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذِينَ لا يَعقِلونَ ) (الانفال (22)،: ((فهناك معرفة يجب علينا ان نعرفها ونتقنها اكثر مما نعرفها في يومنا هذا، منها الهدف من خلق الانسان، الغاية من حركته، ولأي شيء خلقنا ماهي الغاية التي ننشدها ، ولأي شيء يجب علينا ان نتحرك ونسير الى هذه الغاية))(1).

وبذلك يقسم مصباح الثقافة الى قسمين : ثقافة الهية ومن ضمنها الثقافة الاسلامية، مع ما مضى عليها من التطورات، وثقافة إلحادية معتبرا الثقافة الغربية من هذا الفرع ابتداءا من عصر التجدد والنهضة وما بعد التجدد أو ما بعد الحداثة والفرق بين الثقافتين مجموعة امور:

الكون : النظرة الالهية الى الكون تختلف عنها في الثقافة الغربية فهي تعتمد على امر تعلقي، بمعنى انها ثقافة لا تقوم على امر مستقل وانما على امر قائم بالغير، واستدل الشيخ مصباح بما ورد في القران الكريم: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الحج /64 ) ، في حين ان الثقافة الغربية لا تنظر الى الكون الا بنظرة طبيعة مادية.

الانسان تنظر الثقافة الانسانية الى الانسان باعتباره ذا بعد روحي، والذي يبقى من خلالها الانسان انسانا وان انفصلت عنه الروح بعد الموت، مُشكلة هذه الروح هوية وشخصية الانسان المحفوظة في دنياه واخرته، وهي ايضا ما تحفظ وحدته كانسان في العوالم المختلفة التي يمر بها تكوّنه حتى موته وبعد البعث والنشور، لكن الثقافة الالحادية تنكر وجود هذه الروح وتعتقد بموتها بعد موت البدن ولا علاقة لبقائها مع هذه العوامل المختلفة.

القيم: الاختلاف في زاوية النظر الى المسائل القيمية (المسائل العملية) قيم، ،اخلاق ،قانون باعتبارها امورا اعتبارية ام اصلية وهل هي تابعة الى ذوق الانسان ام انها احكام وجدانية، وهنا تختلف النظرة بين الثقافتين.

ص: 305


1- اصول المعارف، مصدر سابق، ص 17.

الدين: من المسائل التي تشكل فرقا بين الحضارتين او الثقافتين، بين من يجعل الدين اساسا في الحياة كالثقافة الالهية، وبين من يفصل بين الدين والحياة كالحضارة الغربية(1) .

وهذا لا يعني ان مصباحاً يتجه اتجاها سلبيا من التقدم الغربي، فهو يحاول ان يحد بين الثقافة والتكنولوجيا، ولا يرفض التقدم الحديث او الاجراءات لأي عملية تحديثية في الثرات والآداب القديمة ولا ينكر التقدم التكنلوجي الذي حصل في الثقافة الغربية وما وصلت اليه في الجانبين الاقتصادي والعلمي، فهو تقدم لا ينكر، لكنه لا يعد هذا التقدم (ثقافة) وكما سبق لان الثقافة عنده الرؤية الكونية مع ما تشتمل عليه من القيم وخسارة هذين الأمرين يعني خسارة الايمان والقيم السامية وهذا ما يسعى الغرب جاهدا لهدمه وتخريبه(2) .

ان الاهتمام بمفهوم الثقافة بوصفه مفهوما واسعا ينتقل من خلاله مصباح من الهوية الى الغزو الثقافي، فلكل امة ثقافتها الخاصة والمميزة التي تمييزها عن غيرها، وتكون سببا وملامح بارزة في هويتها، فالشرقيون تبنى ثقافتهم بشكل واضح بالمعارف الالهية والمباحث العرفانية:(( وهذا المعنى ما يصفنا به الغربيون كأحد الملامح البارزة لهويتنا - ولو اننا لا يمكننا ان نحسن الظن كثيرا بكلامهم))(3)، فما يميز الثقافة والحضارة الشرقية ويحدد لها هويتها هي المعنوية الانسانية والاخلاق والعاطفة والتي تبنى كأساس على فلسفة الاسلام ونظرياته في ما بعد الطبيعة، في حين ان الغرب لا يعرف الا بالتقدم التكنولوجي فقط، وهو تقدم خال من العناصر المتقدمة مما اثار الامتياز الشرقي مواجهة الغرب بأقسى مواجهة، والعلائقية بين الهوية ومحوها وبين الغزو الثقافي هو ما يسعى الغرب اليه، لقطع لقطع الصلة بين الهوية والدين عند الانسان الشرقي من خلال القضاء على الفكر والرؤية التوحيدية في كل العالم.

ص: 306


1- اصول المعارف، مصدر سابق، ص 163-164
2- المصدر السابق، ص 170 ، وينظر الغزو الثقافي، ص 13.
3- الغزو الثقافي، ص 9

ومع انه يعترف بضبابية مفهوم الثقافة وتعقيده فهو بنفس الوقت يحدد تعريفاً واضحاً ومميزاً للغزو الثقافي: (( فهو عبارة عن مجموعة الاصول الفكرية القيمية التي تؤثر على السلوك الارادي والاجتماعي للإنسان))(1).

ويستطرد بتعريف الغزو من الناحية اللغوية وهو المشاركة بين الطرفين، لكنه يستخدم هذا المعنى من الغزو ويقصد به المعنى السائد في الاستعمالات العرفية الرائجة (الهجوم)، والهجوم الذي يكون من طرف واحد، ويفرق بين مصطلحي( الغزو الثقافي) و( التبادل الثقافي )من حيث ان الغزو الثقافي يكون من طرف واحد، والتبادل يكون بين طرفين، لكن الثقافة الغربية القادمة التي يصفها بالمتسلطة ولها اهدافها الخاصة وهي بسط السيطرة والنفوذ على العالم، كمحاولة منها لتبديل العالم وتبديل القيم الانسانية، سعيا وراء هدف منشود ((قرية عالمية متحدة))، ليخلص مصباح ان غاية الغزو تظهر من معناه مباغتة واجبار)، ويعلل سبب هذه التسمية( السلبية) للغزو، لان الغزو يقلع عقائد وقيم سامية متكونة ومتجذرة داخل مجتمع، ويبدلها بعقائد وقيم يصفها بانها : (( عقائد خاطئة وقيم سلبية))(2) ، وبذلك يكون مفهوم الحوار المطروح بين الحضارات اقرب الى مفهوم (الصراع)، فالتحاور بحاجة الى هضم ووعي لكل التراث الاسلامي، فالحوار مع قلة المعلومات والثقافة هو عدم مراعاة للتوازن بين طرفي الحوار ويكون دعوة واضحة للخسارة (3) .

وكنتيجة للغزو الثقافي الغربي، يميز مصباح بين نوعين من الثقافة الاسلامية، الثقافة الاسلامية المنسجمة، وهي ثقافة تتحدد من خلالها القيم مع تنسيق وانسجام سلوكي، وثقافة اسلامية لا تراعي هذا الانسجام بين القيم الاسلامية والسلوك ويصفها بانها ثقافة لقيطة وملوثة ولا تتلاءم مع الاسلام بشيء(4)

ص: 307


1- المصدر السابق، ص 11-12
2- الغزو، مصدر سابق، 13.
3- اصول المعارف الانسانية، مصدر سابق، ص 171.
4- الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص.15

ويحدد مصباح مجموعة من العوامل التي تتفاوت في الاهمية من جراء الوقوف ضد الثقافة الغربية، فهو لا يكتفى بوصفها بانها ثقافة تافهة وملوثة، وليس سبب الوصف المتقدم هو كوننا شرقيين وهم ،غربيون بل من احد الاسباب وقد يكون السبب الرئيسي لهذا التقابل الفرق الاصلي بين الثقافة الالهية والثقافة الملحدة، وهي مسالة المادية التي يتمتع بها الجانب الغربي، فلم تكن المخالفة للاختلاف بين الآداب والتاريخ والجغرافية، لكن السبب ما تحمله الثقافة المادية من آثار وابعاد مفسدة تؤدي الى الانحطاط والسقوط الاخلاقي(1).

والغرب يريد ويجهد بمحاولة لتغيير واضح المحددات الثقافة الاسلامية( المعارف والمعتقدات القيم والميول التصرفات والاحوال ) بما يعني محاولة تغيير رؤية الافراد الى الله والعالم والانسان والخلط او تغيير القيم الصالحة وعدم التمييز بین ما هو صالح ورديء، فالغزو يعمل جاهدا لتغيير هذه القيم، وتعتمد تصرفات الافراد وافعالهم بصورة مباشرة على هذه القيم والميول بما يؤدي الى انحرافها (2).

وهنا يعتبر مصباح المعنى السلبي للغزو، ويقابله بمعنى آخر ايجابي، يصفه بصفة وطابع الهي، يمكن وصفة ب- (الاصلاح) ويشبهه بمشاريع الانبياء لتبديل القيم والسلوك المنحرف الشائع في مجتمع ما، وهذا غزو- عمل – مقبول وممدوح،: (( ونحن نستقبل هذا الهجوم الثقافي الذي يؤدي الى اصلاح الاخطاء والانحرافات والمفاسد في مجتمعنا)) (3) وهذا النوع يواجه بالشكر والامتنان، عكس الاتجاه السلبي الذي يسعى الى تغيير عكس المطلوب، فيقلب القيم الى ضدها، ويغير الاعتقادات الصالحة الى فاسدة، ويزرع بين الناس الترديد والتشكيك وعدم الاعتقاد، مشفوعة بحالة من التفاهات والاعتقادات التافهة الكاذبة وهذا التمييز يرجع الى الاصلين الاساسين اللذين بموجبهما تختلف هذه الثقافتين والاعمال المرتبطة بها، من اعمال اهدافها الاساسية اهداف حيوانية مادية، مع عدم الاعتراض على الاشباع

ص: 308


1- المصدر السابق، ص 21
2- المصدر السابق، ص 75.
3- المصدر السابق، ص 77

الغريزي المادي( الاكل الشرب الجنس)، لكنه ينقد الجهود الكثيرة من ابحاث علمية وتحقيقات والتي يكون اساسها الغرائز المادية ذاتها، حتى يكون الاسس التي تحل بها المشاكل الاجتماعية هي الاسس الغريزية ايضا(1) .

وان من الاهداف الاساسية للغزو الثقافي ايضا وسلب عقائد الامم، هو الهدف الاقتصادي ودوافعه المادية، لكن الثقافة الالهية (ثقافة الانبياء والمصلحين) تعتمد حين تبديل وتغيير ثقافة الناس تصحيح الاعتقاد والالتزام بالقيم العليا (2).

والمرتكز لهذا العداء التفريق بين مفهومين (اليقين والشك)، مؤكدا مسلكه القرآني المعتاد في الاعتماد على رؤيته الفكرية، فالقرآن يدل على اليقين، ويعد اليقين من شروط الايمان بالغيب والايمان باليوم الاخر ( ذُلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى من ربهم مْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة (2-5)، والثقافة الغربية غرضها التشكيك في كل ما هو غيبي، بل يتعدى الشك حتى يصل الى الامور المرئية، ليستنتج مصباح ان الغرض من الشك في المسائل الغيبية هو ما يطلبه الغرب ويبتغيه، وهو الهدف الاساسي للغزو الثقافي ، فالغزو لم يكن غرضه الآداب او التقاليد، وكان تعدد تعاريف الثقافة من الاسباب التي اعتمد عليها الغرب، وهذا ما يتطلب وعيا بنظر مصباح وتحديد معنى الثقافة التي يتحدث عنها ل-: ((احباط هجومه واهدافه باتخاذ الموضع الصحيح والمناسب))(3).

فالركنان الأساسيان للثقافة الاسلامية بمحاورها الثلاث المتقدمة يعبر عنها مصباح بالايدلوجية - مع تأسفه لاستخدامه هذا المصطلح باللغة الانكليزية -والايديولوجية عنده معنيان تطلق على النظام الفكري والعقائدي الشامل للأفكار والنظريات، أي

ص: 309


1- الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص 78.
2- المصدر السابق، ص 81
3- المصدر السابق، ص 113

الافكار المبينة للواقعيات الخارجية والتي لا ترتبط بشكل مباشر بسلوك الانسان وتطلق على النظام الفكري المحدد لشكل وسلوك الانسان وسلوكه - عقائد، قيم، سلوك - وهو المفهوم الأعم للثقافة(1).

الرؤية الكونية:

-يمتاز العالم الاسلامي الشرقي بثقافته الاصيلة والعريقة، وان دبيب الضعف فيها عرضها الى هجمات شرقية - ماركسية- وغربية اوربية - غزو ثقافي، مما ادت الى انقسام ذوي الحضارة الى هذين المعسكرين، فضرورة الايديولوجية ودراستها لغرض التحصين الفكري والعقائدي للامة الاسلامية ضد انقسام الإسلام الشرقي الى مؤيد للشرق، ومؤيد للغرب، والى تائه ضائع بين ذينك ،الطرفين، من هنا جاء الاهتمام واضحا بالرؤية الكونية - احدى ركني الثقافة وهي بنفس الوقت الايديولوجية بالمعنى الخاص والتي تفترق عن المعنى العام بانها تخلو من افعال (الوجوب والمنع)، أي سلوكيات الانسان المشكلة لمجموع افكاره العملية المحددة لسلوكياته، وتحديد هذا السلوك لا يكون الا على وفق نظام عقائدي - نظام فكري - يبلور الافكار العملية التي تحدد سلوك الانسان، فالأيديولوجية بالمعنى الخاص : (( النظرة الكلية التي تدور حول ما هو موجود) والمعنى العام فضلا عما ما سبق تحدد سلوك الانسان تجاه ما هو موجود وتتعلق بأعمال مباشرة - وجوب ومنع(2) ، وبهذا تتسم الحياة الانسانية بالطابع الانساني على وفق رؤية كونية واقعية، ترافقها أيديولوجية سليمة، ويدخل في ضمنها مضمون الحرية والاختيار الذي يصير الحياة الحيوانية - الغريزية فقط - الى حياة انسانية باتباعها ايديولوجيتها المقررة: فلكي تكون لنا حياة انسانية حقيقية لابد من ان نفهم ما هي اعمالنا ؟ ولأي شيء نحن عاملون ؟ وأ من الواجب ان نعمل هذا او لا ؟ وعندئذ نؤدي ذلك العمل الذي يجب ان نؤديه،

ص: 310


1- .الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، الايديولوجيا المقارنة، ترجمة: عبد المنعم الخاقاني، دار المحجة البيضاء، بيروت - لبنان، الطبعة الاولى، 1992، ص 10.
2- الايديولوجية المقارنة ، مصدر سابق، ص 10.

وبالطريقة التي يجب ان نؤديه بها))(1) .

- ويرفض مصباح ان تكون الرؤية الكونية متولدة عن الايديولوجية فقط او بالعكس، كما يرفض الايديولوجيات ذات الرؤية الملفقة التي تأخذ شيئا من هذا المذهب وشيئا من ذاك المذهب من دون مراعاة للانسجام المنطقي الذاتي بينهما، فالثقافة التي تبنى على مقدمات ونتائج صحيحة، وذات استنتاج صحيح بعيداً عن المغالطات هو ما يكون رؤية كونية منسجمة، ونظام فكري يتمتع بنفس تلك الخاصية من الانسجام الداخلي والعملي فقط، والقرآن يشير بوضوح الى هذا التمازج بينهما - الرؤية الكونية والايديولوجية - من خلال التفرقة التي تبينها الآيات المحكمات بين الدواب والناس فتنعتهم مرة بالكفر واخرى بالصم والبكم (إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَروا فَهُم لا يُؤْمِنونَ ) (الانفال (55)، (وَلَقَد ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها وَلَهُم أَعين لا يُبصِرونَ بها وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعونَ بها أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلم أَضَلُّ أُولئِكَ هُم الغافِلُونَ)

(الاعراف/179)، فالحقيقة الانسانية تدعو الانسان ان يفكر بقواه المدركة ليظفر برؤية كونية صحيحة تكون اساسا لسلوك حر مختار وهذا هو الانسان المؤمن المتمتع بقيمة ايجابية، والذي يقابله الانسان المستضعف الذي لا قيمة له لوقوعه تحت ممانعة الطغاة، والجدير بالذكر ان مصباحاً يقسم الانسان الى مجموعة من الاقسام:

الانسان المؤمن ذو القيمة الايجابية.

الانسان المستضعف الواقع تحت ضغط الطغاة.

الانسان الغافل الذي يكف عن استخدام التفكير المستقل وقواه المدركة.

الانسان الكافر ذو القيمة السلبية المتعصب الناكر للأيديولوجية الحقيقية وللرؤية الكونية بهذا المعنى ثلاثة مباحث رئيسية:

ص: 311


1- المصدر السابق، ص 11-12

معرفة الوجود: وهي ما تؤهله للحصول على رؤية عامة عن الكون والوجود والرابطة بين المادة والوجود والتساوي بينهما أو عدمه.

معرفة الانسان: وهو الانسان المادي الروحي الذي يملك روحا تبقى بعد البدن في مرحلة ما بعد الموت وما تشكله الروح من اهمية في الحياة الخالدة وهل ان الانسان مع الروح تكون حياته خالدة ام محددة ؟

معرفة السبيل :والسبيل هو الوحي الرابط للإنسان بين الدنيا والآخرة، بين التوحيد والمعاد، بوصفه - الوحي - حلقة وسطى بين الرؤية الكونية والايديولوجية، ويقع ضمن هذه المباحث النبوة، لتكتمل الاصول العقائدية (التوحيد، النبوة، المعاد، وما يتعلق بمبحث النبوة من مباحث الامامة لتكوين نظرية كاملة، هذا ما يحقق سعادة لا نهائية للإنسان في بحثها وادراكها - من اين ؟ ، وفي اين ؟ والى اين ؟

-التقسيم المعرفي المتقدم يتضمن نقدا للغرب لتخليه عن بعض المباحث المتقدمة، والتي تضمن حصول اليقين للإنسان، رافضا الراي السائد في الثقافة الغربية الذي يؤكد ان حصول اليقين انما يكون من خلال المسائل العلمية ومباحثها، باعتبار ان هذه المسائل العلمية مسائل ذات نتائج احتمالية وليست يقينية، مع ان اليقين هو المرتكز الاساسي كما تقدم للحضارة الشرقية الاسلامية (1). ويتضح خطل الراي الغربي اكثر والنقد الموجه الى الغرب من خلال تقسيم مصباح الرؤية الكونية الى اربعة اقسام:

الأول: الرؤية الكونية العلمية : فبعد ان يذكر مجموعة من تعاريف العلم باعتباره اعتقاداً دينياً مقابلاً للشك او مجموعة من المسائل التي لها موضوع مشترك وتدور حول موضوع واحد كعلم الطب، تقع الفلسفة تحت هذا التعريف، كونها تدور حول موضوع احكام الوجود الكلية، ويعرف العلم ايضا بانه مجموعة المسائل المثبتة بالعلم التجريبي، ويكون بذلك في مقابل الفلسفة، معتمدا على الفرضيات والنظريات

ص: 312


1- الايديولوجية المقارنة، مصدر سابق، ص.15-17. ينظر ايضا، اصول المعارف الانسانية، مصدر سابق، ص 161-167.

التي يحتاج في اثباتها الى التجربة.

الثاني: الرؤية الكونية الفلسفية : ويعرف الفلسفة بتعريفين قديم ليشمل ضمنها كل العلوم الحقيقية وتقسيماتها المعروفة في الفلسفة القديمة، والثاني الجديد، وهو ما تكون الفلسفة فيه بمقابل العلم، لتشمل ما بعد الطبيعة وهو المعروف بالإلهيات او الفلسفة الاولى في الفلسفة القديمة.

الثالث: الرؤية الكونية الدينية:ويقصد بالدين مجموعة العقائد والمسائل الاخلاقية والاحكام والقوانين الفردية والاجتماعية والتي تمثل المسائل الموحى بها من السماء ومنزلةبواسطة (السبيل) على الانبياء، وهو ما يقصد به الرؤية الكونية الدينية المنتهية الى الوحي الالهي.

الرابع: الرؤية الكونية العرفانية: وهي المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبية،لا بواسطة العقل ولا بواسطة التجربة الحسية، حيث يرى العارف الوجود مظهرا لنور الله تبارك وتعالى(1).

- وكما ينقد مصباح الرؤية العرفانية والرؤية الدينية، باعتبار ان الرؤية العرفانية رؤية شخصية محضة لا يمكن ان تنقل الى الاخرين او تقدم تفسيرا للعالم يقوم على هذا الشهود، ومن جانب آخر ان السلوك العرفاني يحتاج الى معرفة كاملة ،بالدين وهذه المعرفة لا تتم الا من خلال الاسس العقلية الفلسفية، اما الرؤية الدينية وان تضمنت مسائل جاء بها الوحي والكتب السماوية، كالتوحيد ومسالة وجود الله تبارك وتعالى والنبوة ،وغيرها، الا ان هذه المسائل لا يمكن الاعتماد عليها من دون تقديم برهان (فلسفي) لها، خصوصا انه يشيد بدور القرآن الكريم الذي اشار الى مجموعة كبيرة من آيات التعقل والتفكر العقلي والبرهان على المسائل المتقدمة لكن : ((ورود هذه البراهين في القرآن لا يسلب منها حقيقتها الفلسفية، اذ لايمكن ان توجد رؤية كونية دينية مستقلة عن الفلسفة )) (2) .

ص: 313


1- الايديولوجية المقارنة، مصدر سابق، ص 19-22
2- المصدر السابق، ص 24

-ينقد مصباح الرؤية الكونية العلمية التي يقول بها الغرب، كونها تعتمد على منهج تجريبي احتمالي ولا يمكن ان توصل الى اليقين خاصة اذا كان تعريف العلم بالمعنى الثالث مجمو عة الفرضيات والنظريات المعتمدة على التجربة، لان الرؤية الكونية تعتمد على الفسقة:((المواضيع الاساسية للرؤية الكونية هي امور فلسفية لابد من اثباتها بالطريقة العقلية، ولا وجود اطلاقا لرؤية كونية مستقلة عن الفلسفة))(1).

-ليخلص مصباح الى ان النظرة الكونية، نظرة فلسفية لا يمكن استحصالها الا من خلال استخدام الاسلوب العقلي وليس الاسلوب العملي التجريبي، لاعتبار ان كل علم من العلوم التجريبية انما يدور حول احكام وقوانين خاصة بموضوع معين (( والحاصل ان الرؤية الكونية نظرا لماهية مسائلها وطريقة اثبات تلك المسائل نظرة فلسفية وليست علمية ولا واقعية للرؤية الكونية العلمية، بمعنى ان تكون هناك رؤية كونية مبنية على اساس نتائج العلوم ويتم اثباتها بالأسلوب التجريبي))(2)، مع اخذه بنظر الاعتبار ان اختلاف المنهج الفلسفي عن المنهج العلمي الغربي – التجريبي - ليس عيبا ولا نقصا للفلسفة والمنهج العلمي- مع ان مسائلة اليقينية قليلة جدا- لا يتمتع بذات اليقين الفلسفي الذي يتأتى من العقل، مقارنا بين الخسارة في الثقافة الاسلامية الاصيلة، وبين التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي في العالم الغربي، فالتقدم الاخير الواسع الانتشار لا يعني شيئا امام الخسارة الاسلامية الثقافية: فالإسلام رهن لثقافته لا لاقتصاده ولا لسياسته، اذا خسرنا الثقافة الاسلامية فلا يبقى لنا شيء نعتز به ونهدف اليه))(3) .

القيم:

الجانب الثاني من الجوانب الاساسية للثقافة التي بحثها مصباح هو جانب القيم، فهل القيم ثابتة خالدة فطرية عقلية ؟ ام انها قيم متغيرة بتغير الظروف الزمكانية ؟ وهنا يسلط الضوء نقديا على القيم الغربية التي يرى انها لا تقوم على اسس ثابتة، وانما

ص: 314


1- المصدر السابق ص 24
2- المصدر السابق، ص 23
3- اصول المعارف الانسانية، مصدر سابق، ص 169

اسس متغيرة بتغير الاقوام والازمان فشيء له قيمة في هذا اليوم، قد لا تكون له نفس القيمة غدا، وهذه مسالة اساسية في التفكير القيمي، تتفرع عنها مجموعة كبيرة من المسائل منها اصول هذه القيم ومنبعها وتبرير الالتزام بها ، وهل يمكن مخالفتها ام لا ؟ وهل ان هذه المسائل القيمية مسائل جدية ام انها غامضة ؟وما مدى تأثيرهاعلى الانسان ، وهل ان هذا التأثير عميق او سطحي ؟ وهل هي تؤثر سلبا او ايجابا على الانسان ؟(1) .

وعلى ذلك يفرق مصباح بين العقل النظري، والذي يدرك من خلاله وجود الاشياء او عدمها، ويدرك من خلاله ايضا الرؤية الكونية، وبين العقل العملي، الذي يحكم بالحسن او القبح، بال- ( ينبغي) وال- - لا (ينبغي) وهو الحكم القيمي المقصود(2).

ومن خلال تفرقته بين الواقع والحقيقة، ينطلق مصباح لنقد الفكر الغربي الذي نظر الى مسالة القيم بانها ليس لها واقع عملي، باعتبارها احاسيس ومشاعر في انفسنا ولا يوجد في الواقع العيني المستقل عن الادراك شيء يسمى (القيم) ف-: ((الحسن العقلي والخير الاخلاقي والفضيلة)) يعدها علاقة بين احاسيس وبين اشياء واقعية (3).

ويبين العلاقة بين (الميل) و(الواقع) في الفكر الغربي، فاذا اردنا تحقيق شيء او الميل اليه نستخدم عبارتي ( ينبغي، يجب)، ونصفه بالحسن، لكن بابتعادنا عن تحقيق هذا الشيء او الميل اليه نستخدم نفس العبارتين لكن بمعنى الضد لا(ينبغي، يجب) ونصف الفعل الصادر بالقبح فالحسن ميل الى الاحساس بهذا الشيء والرغبة في عمله ،واقعا والقبح ميل عن هذا الاحساس والابتعاد عن فعله وبهذا تكون المصطلحات من حسن وقبح وواجب وغيرها: ((احكام عملية عقلية ليس لها واقع عيني موضوعي انما هي احكام ذاتية )) (4)، وهذه الأمور ما يطلق عليها بالأمور الاعتبارية، ويدخل في ضمنها الجانب الديني او المسائل الدينية، والقصد

ص: 315


1- المصدر السابق ص 19
2- المصدر السابق، ص78
3- مصدر سابق، ص 80.
4- مصدر سابق، ص 79.

من الحكم الاعتباري الحكم الذي لا واقع له ولا حقيقة له، فلا شيء مطابق للواقع، وكل ما يوجد علاقة بين انفسنا وبين شيء آخر لا يمتلك شيئا من الحقيقة وليس هو مطابق للواقع، وهنا يسقط أي معنى للمطابقة او عدم المطابقة، فالفعل يكون مطابقا اذا توافق شيء مع شيء آخر، وهذا التوافق او التطابق يطلق عليه (بالوجوب)، فالوجوب على وفق النظرة الغربية ليس ادراكا لواقع الأمر ، وبهذا لا يمكن ان يتصف بالحقيقة، فالقيمة لا توصف بالحقيقة مادام انها تعبر عن احساس.

وبعد هذا العرض يقدم مصباح نقده للمسالة الغربية، لأهميتها في كثير من المسائل الدينية والتربوية والاسرية، وللارتباط المباشر بين هذه المسائل وبين احكام وجوبية كالحلال والحرام - ينبغي ولا ينبغي - ولتصادم هذه الاحكام وهذه النظرة بينها وبين الاحكام المتعلقة بالدين وصولا الى قاعدة اعتمد عليها الغرب- حسب وجهة نظر مصباح - يطلق عليها - قاعدة التساهل والتسامح - ومفاد هذه القاعدة، اذا كانت الاحكام القيمية لا واقع لها وهي احكام تتعلق بأحاسيس شخصية فلا ينبغي التشدد في عدد من المسائل، فلكل قوم فعل خاص بهم على وفق ما يحسون وعلى وفق ما يرون (1)، فالمسائل القيمية مسائل تخضع للتوافق والاختبار والاشتراك بين الناس، فان اتفق الناس على مسالة فيجب مراعاتها حتى لا تقع الفوضى والاختلاف ونقد مصباح هذه النظرة الغربية وعارضها، باعتبار ان الامور القيمية لا يمكن الحكم عليها بالسلب او الايجاب ما لم يكن وراءها واقع تطابقه، فالاستدلال على حسن او قبح شيء انما يتعلق بمقارنة القيمة مع ما تحققه من ارصدة واقعية، يعبر عنها مصباح بانها (قيم حقيقة)، فاذا لم يتعلق الحسن والقبح بقيم حقيقة واقعية تكون هذه القيم قيماً زائفة، لينطلق مصباح من هذه الفكرة والعلائقية بين القيمة والمطابقة، او القيمة والواقع مع الاحكام الاسلامية وما يتبعها من المصالح والمفاسد ، فان انتهت هذه الاحكام - في الواقع- الى مصالح فهي تستند الى ارصدة واقعية وبذلك لا تكون هذه القيم (نسبية) على وفق مقولات الناس واهواؤهم وان وصفت بعض الافعال

ص: 316


1- المصدر السابق ص 79.

بالقبح، فهذا ايضا يدلل على ان هذه الاحكام واقعية لأنها عنت مفاسد واقعية(1) .

ليصل مصباح الى مسالة اصالة القيم، فالقول بان حفظ الامانة امر له قيمة واقعية ويصدق عند جميع الناس ولا يخضع لآراء الناس واهوائهم، ومن دون حفظ الامانة يعاني المجتمع من خلل كبير ومثل حفظ الامانة شيوع الكذب الذي يؤدي الى الخلط بین الصدق وعدم القدرة على التفاهم بين الناس وابناء الجنس الواحد، ويؤثر سلبا على المجتمع، فالقول بان القيم اعتبارية او نسبية في نظرة الغرب : (( مغالطة من المغالطات الشائعة في المدارس الفلسفية السائدة في الغرب))(2)، والتي نشأت بنظر مصباح نتيجة للتوأمة بين الليبرالية والاخلاق الوضعية والتي ادت الى نشوء اتجاهات ثقافية مثل النسبية والاتجاه الفردي في الثقافة الغربية، فالملاك في القيمة هو اللذة وبما ان الناس تختلف في الالتذاذ بالأفعال والاشياء فلذة شخص ليس كمثل لذة آخر ولهذا تكون الاخلاق والقيم نسبية في المنظور الغربي (3).

ان اثبات القيم يختلف بين الثقافتين الاسلامية والغربية، ففي الثقافة الاسلامية تثبت القيم بالاستدلال والادلة والبراهين المنطقية، فاذا اثمرت بهذا الاستدلال نستطيع ان نثبت وجوب احياء القيمة الاخلاقية، لكن ليس هذه الطريقة الوحيدة بل ان تهييج الاحاسيس من الطرق التي اتبعها الغرب لمجابهة القيم الاسلامية ومواجهتها، لانهم لا يملكون سلاحا يوقعوا به القيم الاسلامية الاصيلة فالتجأوا الى اسلوب الدعاية المركزة من الكتب والروايات التي يقبلها الناس ويقرؤنها بما يؤدي الى تهييج مشاعر الناس واحاسيسهم بالاستفادة من الخيال ويحاولون بث نوع من السلوك عن طريق فلم معين او شخصية بطل الفلم(4).

ويزيل مصباح الابهام عن مصطلح القيمة، ويميز بينه وبين القيمة المستعملة في

ص: 317


1- اصول المعارف الانسانية، مصدر سابق، ص 82 . وينظر ايضا الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، النظرية السياسية في الاسلام ترجمة خليل الجليحاوي، دار ،اولاء بيروت - لبنان، الطبعة الاولى، 2008، ج2، ص 269.
2- اصول المعارف الانسانية، مصدر سابق، ص 84 وينظر ايضا الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص 181-182.
3- .الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، النظرة الحقوقية في الاسلام، ترجمة: وليد المؤمن دار اولاء، بیروت لبنان، بدون طبعة ولا تاريخ ،ج1، ص ،367، وينظر : ج 2، ص 269.
4- الغزو الثقافي، مصدر ،ثقافي، مصدر سابق، ص 161-163

الاقتصاد، مقسما اياها الى قسمين في مجال استعمالها، فالقيمة الذاتية تتضح في العلاقة بين شخص وشخص آخر، أي ان العلاقة ذاتية بينهما، لكن القيمة الغيرية والتي تكون العلاقة فيها للواقع وليس للشيء في ذاته، كقيمة المال، فهي قيمة غيرية للفائدة المرجوة منه وليس لذاته - أي ليس مطلوباً لذاته -لكن القيمة الاخلاقية بنظر مصباح بعيدة عن القيمة بالمعنى الاقتصادي او الفلسفي، فالقيمة تتعلق بالأخلاق وارتباطها بالسلوك الاختياري للإنسان، فالملكات النفسانية والاخلاقية انما تحصل نتيجة لتكرار العمل الاخلاقي وتصبح ملكات كالبخل او الكرم وغيرها: ((كل قيمة اخلاقية موضوعها السلوك الانساني او مبدؤها او نتيجتها الفعل الاختياري))(1)،وللقيمة اهمية كبيرة داخل المنظومة الاخلاقية الاسلامية ومن جوانب متعددة من جانب ارتباط اخلاقيات الفرد مع الذات ((النفس))، من جانب ارتباط اخلاقیات الفرد مع الآخر ((الله، الاسرة المجتمع))، في حين ان المذاهب الاخلاقية الغربية ترتبط ارتباطا جزئيا مع ما تقدم، فقد لا تخص الآخر((الله))، فضلا عن ما تحققه من عدم انسجام بينها، فوجود تضاد او تناقض بين مجموعة القيم دلالة على عدم وجود الانسجام والاتساق هذه بين القيم (المصطنعة)، ومما يدلل على اصطناعيتها تبدلها وتغيرها بين فترة واخرى ومن جيل الى جيل، لكن القيم في الاخلاق الاسلامية منسجمة ومتسقة اتساقا وانسجاما داخليا، فهي قيم خالدة ثابتة غير متغيرة، من بداية الدين الاسلامي الى يومنا هذا، ويشبهها بالشجرة المتأصلة الجذور، وذات الجذع القوي، ويؤكد الارتباط والانسجام بينها ويصفه بالارتباط العقلي والمنطقي(2)

ومع ما تمتاز به القيم الاسلامية من الحسن الفعلي تمتاز ايضا بالحسن الفاعلي، فمصباح يؤكد ان هناك مجموعة من الافعال التي يكون فيها حسن فعلي مثل الصدق لكن اذا كان الصدق لغرض الرياء يفقد الحسن الفاعلي، أي لا يترتب عليه الاجر والثواب وهذا واضح من خلال تعابير القران الكريم في آياته (فآمنوا) حسن فاعلي، و(اعملوا الصالحات) حسن فعلي أي ان الدين الاسلامي يعطي اجرا وثوابا على

ص: 318


1- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، الحاجات الاساسية للادارة الاسلامية، ترجمة: سلمان الانصاري، دار النبلاء، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2002، ص 148.
2- المصدر السابق، ص 151

الفعل الاخلاقي، وبهذا يفترق عن الفعل الاخلاقي في الثقافة الغربية والذي ليس لفعله الا الحسن الفعلي فعمل الانسان غير المؤمن مع امتلاكه للحسن الفاعلي، لكنه يفتقر الى الحسن الفاعلي، فيكون الهدف منه ليس الرضا الالهي وانما الشهرة مثلا او ارضاء الناس او اكتساب المحبة منهم(1) .

فهو يعتقد ان المصالح الحقيقة للأعمال والافعال ترتبط بعالم ما بعد الطبيعة بما فيها من منفعة روحية ومعنوية وهذه المسائل لا يمكن اثباتها بالمنهج التجريبي الغربي، وان الدفاع عن هذه القيم والمحافظة عليها هو ما يؤدي الى حفظ الهوية والثقافة الاسلاميتين من محاولات( التطميس) الذي تقوده الثقافة الغربية، بل انه يدعو الى العنف في سبيل الدفاع عن هذه القيم، بعد ان يفرق بين العنف الابتدائي المذموم - بمعنى الغزو - والعنف الذي يكون مواجها لعنف آخر (الرفع عنف آخر) وهو عنف بالذم ما زال الهدف منه المحافظة على القيم من الهجمات الغربية والمنع من تبدلها بقيم مفككة منحلة، ويؤكد ان المجتمع الغربي يشيع مقالات غامضة، الغرض منها قتل روح الايثار والشجاعة في نفوس المؤمنين من خلال مقولتهم ان الاسلام يرفض العنف، ليحلوا محلها قيماً جديدة ذات صبغة تنعدم فيها الحساسية والغيرة الدينية والوطنية وتشيع فيها روح التسامح في اتباع القيم بين الناس لغرض سلب الدين، الذي هو اعز ما يملكه الانسان المؤمن، وفي المقابل يرفض مصباح استخدام اساليب الغلظة والشدة في الدعوة الى هذه القيم مطالبا بان يكون الخطاب الدعوي، خطاب صدق وامانة لإدراك الحقيقة والتحرر من الجهل والغفلة (2) .

الدين السياسة، الحق، الحرية:

من الاسباب التي ادت الى فارق كبير بين الثقافتين من جراء اختلاف النظرة والتفسير الى مجموعة من المقولات الفكرية في الثقافة الاسلامية ومحاولة صبغها بصبغة عفوية بعيدة عن التصور الديني لها شكل بدوره نقطة عداء بین الثقافة

ص: 319


1- الحاجات الاساسية للدارة الاسلامية، مصدر سابق 280-283
2- النظرية السياسية في الاسلام، مصدر سابق، ج2، ص 220-222

الاسلامية والثقافة الغربية، وكانت اهم هذه المحاور العلاقة بين الدين والسياسة، والحرية والنظرة الى الحق والواجب فمن ابرز المظاهر التي ادت الى العداء بين القطبين هو فكرة فصل الدين عن السياسة والاعتقاد ان الكنسية ليس الا مكانا للصلاة والدعاء، فالدين مكانه الكنيسة حتى اصبحت هذه النظرة دخيلة على الفكر الاسلامي والفصل اتسع من الدين والسياسة الى الفصل بين الدين وتشريع القوانين الاجتماعية والعلاقة بين الحرية في المفهوم الديني والحرية في الفكر الغربي.

الحرية والكذب في التاريخ من الوسائل التي كانت تزرعها الثقافية الغربية من خلال (اصالة القدرة والقوة)، ومن خلال تطبيق افکارها وقوانينها بقوة داخل المجتمع، ومسالة تحريف التاريخ يشير اليها مصباح باعتبارها وسيلة لإثبات النبوغ والتطور الغربيين، فقام الغرب بحذف كل الموضوعات التي تتعلق بالحضارات الاخرى، لتكون الحضارة الاوربية هي النابغة ولذلك حذفوا:(( الاسلام من المناهج الدراسية بعد عصر النهضة حتى يتجنبوا الاعتراف بعظمة الحضارات غير الاوربية)) (1) ، ولهذا كانوا يعتبرون ويصفون انفسهم بانهم الافضل، ويصفون غيرهم من الشعوب بانها الادنى(2) .

ان مصباح يربط بين مفهومي (الحرية والدين) من جهة، ومفهوم ولاية الفقيه من جهة اخرى وهذا تحت سقف الدين وفصله عن السياسة، وينطلق من فكرة الحق، ويعتبر الحقوق من المسائل المهمة والتي سبق ان اكد الغرب انها تتعلق بالإنسان وحق الشعب، ويعزل الغرب بينها وبين حق الله تبارك وتعالى، في حين ان النظرة الاسلاميةالى الحقوق وخاصة حقوق الانسان تنشأ من حق الله سبحانه، فحقه تعالى ان يعبدوه ويطيعوه وينفذوا اوامره جراء هذا الحق في العبادة، فان هناك ثوابا ينتظر الانسان الذي يراعي هذه الحقوق، لكن هذه الموضوعات لا تتفق والنظرة الغربية، او بعض من يطلق عليهم مصباح مستنيري الفكر (المتدين الذين تأثروا بالثقافة الغربية، مطلقين على هذا العصر، عصر التجديد او عصر التحضر، ومبدؤهم هو

ص: 320


1- الغزو الثقافي، مصدر سابق. ص 32.
2- المصدر السابق، ص 32-33.

ليس الاهتمام بالواجبات التي تتوفر على الانسان المسلم في الدين الاسلامي، مقابل حقوق مضمونة لهم، فالثقافة الغربية تنتزع الحقوق انتزاعا(1) .

اذن يؤكد مصباح ان هناك علاقة بين الحق والواجب في الدين الاسلامي، ولها اهمية كبيرة في استمرارية وديمومة المجتمعات البشرية ومن جملتها المجتمعات المعاصرة، ويوضح العلاقة بین (الحق) و(الواجب)، مؤكدا اذا كان للإنسان الأول حق على الانسان الثاني، فمن (واجب) الانسان الثاني احترام (حق) الانسان الاول، وهذه الخاصية تنتقل من الفرد الى المجتمع، فيوجد حق لمجموعة من الناس ازاء مقابل هو (الواجب) لجماعة أخرى، هذه النظرة الاسلامية تختلف عن النظرة الغربية التي تدعي الحقوق فقط من دون ان يكون امامها نوع من الواجب، لذا هم يقولون بانتزاع الحق انتزاعا من دون مقابل من واجب (2).

فمنشأ النظرة النقدية للغرب هو ترك العبادة لله تعالى، فالعبودية حق له، كونه تعالى خالقنا وخالق ،العالم، وبذلك يتوجب علينا (واجب) حق العبادة، مما دفع الغربيون الى عدم الاعتقاد بخلق العالم وعدم الاعتقاد بوجوده تعالى، وان منهم من ذهب للقول بوجوده تعالى من دون حق للطاعة له، وذهب فريق ثالث الى انه ،موجود ومفترض الطاعة وله واجبات ،واوامر لكن لا يوجد أي اجبار للطاعة اتساقا مع نظرية الانسان الحر، ومصدر الاعتقاد هو ما جاء به اوجست كونت حين فصل الدين عن الاخلاق من جراء هذا الفصل تحققت اخلاق لا الهية وظهور ما يسمى بالدين الوضعي دين من دون اله بنوا له معابد لعبادة الانسان وحققوا (دين عبادة (الانسان واصبح كونت نبيا لهذا الدين(3).

فاصبح مفهوم الحرية عندهم وثنا، واصبح من المفاهيم الدخيلة في الفكر الاسلامي، حتى اثاروا تنافي مفهوم الحرية مع مفهوم الحكم السياسي والاجتماعي

ص: 321


1- النظرة الحقوقية في الاسلام، مصدر سابق، ج1، ص 167-177
2- المصدر السابق، ج1، ص 177
3- المصدر السابق، ج 1، ص 178 وكذلك ينظر: ج2 ص 210

في الاسلام، وهي مغالطة كما يعبر عنها مصباح، رافضا مفهوم الديمقراطية بعد ان يقدم لها مصباح صورة واضحة عنها وعن نشوئها في المجتمعات الغربية القديمة وهو يؤكد ان هذا الاستخدام اختلف في النظام (العلماني) عن ما كان مستعملاً في السابق، فالنظام العلماني يستخدم مفهوم الديمقراطية بما يعني فصل الدين عن السياسة والمجتمع، فمع قولهم بالحرية لكن هذا المفهوم الجديد للديمقراطية لايسمح للأشخاص بممارسة الشعائر الدينية في الدوائر الحكومية والمؤسسات، ان القائلين بالديمقراطية يعطون اصالة الحكم والسلطة للناس مع ان هذا الراي لا يتفق و (نظرية الحق الالهي) لاعتبار ان الحاكمية ك- (حق) ليس ثابتا للناس فردا فردا، لان جميع الوجود متعلق به تعالی فعلی الانسان ان يحسن التصرف طبقا لأوامر الله تعالى المالك الحقيقي ونواهيه، فليس من حق الناس ان يمارسوا الحكم على الاخرين او ان يعينوا لهم حاكما، وبما ان الملك له تعالى الحاكمية له، فهو خول النبي (صلى الله عليه واله وسلم )واعطى له مشروعية الحاكمية على الناس والتصرف في اموالهم وحقوقهم وصلاحياتهم، ان الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وسلم كان في اعلى مركز من الدولة لكنه لم يكن له سلطة على الناس، والناس يملكون حرية فيما يفعلون مستدلا على ذلك بآي القران ( فَذَكِّرْ إِنما أَنتَ مُذَكَّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية)، (وَلَو شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلناكَ عَلَيهِم حَفيظًا وَما أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكيل) (الانعام) ( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (المائدة)، لان هدف الرسالة هو معرفة الناس بالحق ومسلكهم سلوك وطريق السعادة، وهذا ما لا يتم بالإكراه لعدم انسجام الاكراه مع التربية الانسانية، فضلا عن ان جوهر التربية هو معرفة الناس الحقيقة عن وعي ومعرفة(1) ، ومن الايمان الحقيقي هو التسليم والاتباع للرسول( صلى الله عليه وآله وسلم )لان الايمان بشكل نظري من دون التطبيق العملي بدعوى الحرية، موقف يشبهه مصباح بالفعل الديمقراطي حين ينتخب مجموعة من الاشخاص اصحاب المواعيد - المرشحون للانتخاب - بعد ان يأخذوا مواقعهم في الحكومة فيبتعدوا عن المواعيد التي يطلقونها وهذا هو مفهوم الحرية الغربية التي

ص: 322


1- النظرية السياسة في الاسلام، ج1، ص 82.

جعل الغرب لها اكثر من مئتي تعريف مؤكدا الالتباس بهذا المفهوم، وان من العقل ان يكون الانسان حرا كي يعتنق الدين الاسلامي فمن لم يكن حرا كيف يتسنى له الاعتقاد والايمان بالإسلام؟ (1).

ومع تعدد الوان الحرية الغربية - حرية الدين حرية العقيدة، حرية الزواج... الخ - فان هذه الحريات لا يمكن تقييدها باعتبارها حقوقا طبيعية، مع ان الحرية التي

فرضوها مقيدة بحقوق الاخرين حتى اكدوا ان الحرية فوق القانون ولا يمكن تقييدها - فان هذه الحرية منشأ الفساد بمختلف انواعه - الاخلاقي والجنسي والاجتماعي لاعتقادهم ان الدولة لا يحق لها ان تتدخل في تحديد حرية أبنائها، وبذلك جعلوا العقائد من الامور الفردية النسبية الشخصية، وكان هذا من وراء الاسباب التي دعتهم الى تزوير تعريف الثقافة ومعناها حتى يحددوا النقاط التي يتمكنون من خلالها الهجوم على الشعوب المختلفة (2).

ص: 323


1- المصدر السابق، ص 107.
2- الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص 117

نقد الفلسفة الغربية عند الشيخ مصباح اليزدي

اعداد هاشم الميلاني

(1)

يسرد الشيخ مصباح اليزدي في بداية كتابه (المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ) تاريخ الفلسفة الغربية،ويشير الى انها مرت بثلاث مراحل من الشك: الاولى زمن السوفسطائيين في اليونان قبل الميلاد، الثانية بعد انهيار الفلسفة المدرسية جرّاء ظهور الاتجاهات المادية والمذاهب الفكرية الجديدة والمرحلة الثالثة على أيادي التجريبيين الجدد أمثال بيكون وجون لوك وديفيد هيوم.

ثم يقسم المذاهب الفلسفية الى فئتين رئيسيتين هما: أصحاب الاتجاه العقلي، وأصحاب الاتجاه الحسي، ويذهب الى أنّ أغلب الفلاسفة الالهيين هم من ذوي الاتجاه العقلي، في حين ترى أكثر الملحدين من الاتجاه الحسي، مع انه يرى انّ الغلبة كانت للاتجاه الحسي لعدم وجود منافس قوي لهم في معسكر العقليين.

ومن هذا المنطلق يرى الشيخ مصباح انّ الفلسفة الغربية لغلبة الافكار التجريبية والمادية حُرمت من نظام فلسفي قوي ومحكم رغم وجود بعض المحطات المضيئة عندهم حيث يقول : ((ومع انّه بين الحين والآخر يُبدي بعض فلاسفتهم ملاحظات طريفة ويفيضون في مسائل دقيقة ولاسيما في مجال المعرفة، وتنقدح في بعض العقول والقلوب شرارات مضيئة، ولكنهم لم يستطيعوا ابداع نظام فلسفي محكم ومستقر، ولم تستطع تلك النقاط المضيئة في تفكيرهم أن ترسم للعلماء خطاً مستقيماً راسخاً،

ص: 324


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العراق، النجف الأشرف.

وانما كانت الاضطرابات والغيوم ولا تزال تخيّم على الجو الفلسفي في الغرب))(1).

ويستنتج الشيخ مصباح بعد عرضه الموجز لتاريخ الفلسفة الغربية، دوام الفلسفة الاسلامية واستحكامها وأنّها قطعت مسيراً مستقيماً ومتعالياً دائماً ولم تنحرف عن مسيرها الأصلي، في حين يعد الخلافات الداخلية فيها من قبيل الاغصان المتفرعة من أصل الشجرة(2) .

هذه النقاط المضيئة والضئيلة في الغرب التي أشاد بها الشيخ مصباح لم تتمكن من الغلبة على تيار الشك والمادية، ولم تنجح في انقاذه من الأزمات الكثيرة، لذا يحكم الشيخ على الانسان المعاصر بالضياع والحيرة ويقول: (انّ هذه قصة انسان عصرنا الذي حقق تقدماً تكنولوجيا هائلاً فأصابته الحيرة وضاع ولم يدر من أين جاء؟ والى أين يذهب؟ والى أية جهة لابد من أن يتجه ؟وأي سبيل لابد من أن يسلك؟ وهكذا تنتشر في عصرنا مذاهب العبث والعدمية فتدب كالسرطان في فكر الانسان المتمدن ،وروحه، وكدودة الأرض تنخر اسس الانسانية وتحطّمها)(3).

(انّ الحيرة التي استولت على انسان عصر الفضاء لم تقتصر على مسائله الفردية والشخصية، وانما امتدت لتشمل مسائله الاجتماعية أيضا، وقد تجلى ذلك في مذاهب سياسية اقتصادية متناقضة، ومع انّ هذه المذاهب التي صاغتها اليد البشرية قد أدّت امتحانها وأثبتت فشلها ونقصها وعدم صلاحيتها، فانّ المجتمعات البشرية الحائرة لم تنفض منها يدها ...)(4).

هذه الحيرة وهذا الشك سرى في العالم الاسلامي أيضاً وأدى الى تيارات مختلفة، منها حالة التغريب والالتقاط ، لذا يشكو الشيخ مصباح هذه الحالة التي يعيشها المجتمع الاسلامي وبعض المثقفين ويقول: ((من المؤسف ان مجتمعنا

ص: 325


1- (المنهج الجديد في تعليم الفلسفة :43)
2- (م ن1:43-44)
3- (م ن1:131)
4- (م ن1:132)

الاسلامي ظهرت فيه أفكار انتقائية (التقاطية) كثيرة خاصة في النصف الأخير من القرن الماضي ..))(1)، ويعزو سبب هذه الانتقائية الى ان هؤلاء الاشخاص يحملون من جهة معتقدات موروثة من مجتمعهم الاسلامي لا يريدون التفريط بها، ويطلعون من جهة اخرى على آراء جديدة ويقتنعون بها أيضاً ويضيفونها الى معتقداتهم الدينية دون الالتفات الى عدم تجانسها.

وقد أدّت هذه الانتقائية الى القول بالتعددية المعرفية بمعنى ان كل ما يقوله اي شخص فهو صحيح ولايوجد باطل مطلق الى أن ينتهي الى مذهب الشك وعدم امكان الحصول على الاعتقاد اليقيني.

هذه الحالة هي الثقافة التي اختارها الغرب اليوم لنفسه ويحرص على اخضاع العالم كله لها كي تضمحل فيه روح الحمية إزاء المعتقدات الدينية والعلمية والفلسفية، ويتصوّر انّ كل رأي وكل نظرية ربما تكون صحيحة أو قد تكون نظرية اخرى على العكس منها صحيحة أيضاً، وهذا يعني رفض الاعتقاد اليقيني، ونفي القول بانّ الدين الحق والمذهب الحق والنظرية الحقة هو شيء واحد(2).

ثم انّ الشيخ مصباح يقوم بعقد مقارنة بين النظرة الاسلامية والنظرة الغربية حول مجموعة من المفاهيم الثقافية والسياسية، ليقدّم اختلاف النظرة الاسلامية عن الغربية. ففي مجال القانون فانّ الرؤية الاسلامية ترى أنّ افضل القوانين هو الذي يلبي ويوفّر موجبات التكامل المادي والمعنوي في الانسان مع شدة التأكيد على الجانب المعنوي، في حين أهملت القوانين الغربية الجانب المعنوي وذهبت الى لزوم تلبية الحوائج المادية والاجتماعية للانسان حصراً(3).

اما التعددية الدينية إذا كانت بمعنى التعامل بأدب واحترام مع بقية الأديان فهو أمرممدوح ومؤكّد عليه في الاسلام، ولكن إذا كانت بمعنى ان المسيحية واليهودية مثل

ص: 326


1- (النظرية السياسية في الاسلام 1:186 )
2- (م ن1:187-188)
3- (م ن1:184)

الاسلام ولا فرق بين اعتناق الاسلام أو أي دين آخر لانّ كل واحد منها يتضمّن جزءاً من الحق فلا الاسلام حق مطلق ولا اليهودية، فلا شك في ان هذا لا ينسجم مع روح أي دين من الأديان بل لا ينسجم حتى مع العقل(1).

ثم يشير الشيخ مصباح الى مقوم آخر تم استيراده من الغرب وهو مفهوم الحرية المطلقة، وينفي قبول هذه الفكرة إذ الدين يبتني على مفهوم العبودية لله والخضوع ،أمامه، بخلاف النظرة الغربية(2) .

وفي المناخ السياسي يشير الشيخ مصباح الى مسألة الديمقراطية وانها تبتني على أساس اعطاء حق التشريع للناس، وعدم وجود أي واقع بمعزل عن ارادة الشعب ولكن هذا أيضاً غير صحيح، إذ قبول الاسلام كمجموعة أحكام وقوانين تسود المجتمع لا ينسجم مطلقاً مع قبول الديمقراطية في التشريع(3).

اما مسألة شرعية تعدّد القراءات فهو أيضاً من المستوردات الغربية، وقد انجر الغرب اليها أولاً لعدم انسجام مضمون الكتاب المقدس عندهم مع الاكتشافات العلمية، وثانياً: النزاعات الدينية بعد عصر النهضة بين أتباع المسيحية، فهذان العاملان أديا الى إضفاء الشرعية على تعدّد القراءات وان كلها تتسم بالصحة(4).

أما بخصوص أصل الدين فانّهم في هذا العصر ذهبوا الى التقليل من قيمته وشأنه، وإخراجه من واقع الحياة الانسانية الى الهامش فيتعاملون مع الدين معاملة الفنون الجميلة ويقبلونه كأمر فني، فالمتدين كالشاعر حيث يختلي في المعبد ويتصوّر انّ له رباً يخاطبه ويناجيه هذا هو الأصل الأساس عندهم ربما يصرحون به أو يلمحون به لكن المؤدى ،واحد، فالدين عندهم يرجع الى أذواق الناس المتدينين فليس هناك أمر يجب اثباته بالدليل العقلي والبرهان والمنطق.

ص: 327


1- (م ن1:190)
2- (م ن1:191)
3- (م ن1:199)
4- (تعدد القراءات: 13)

كما أنّهم لا يعترفون بالأحكام القطعية للعقل، ولا يعترفون باليقين، فالنزعة الغالبة عندهم هي نزعة الشك، ويرمون القائل باليقين والجزم الى الجهل.

أما الانسان فالثقافة الالحادية تنكر وجود الروح لانّه أمر غير محسوس، أو تتصوره كأمر تابع للبدن فيموت بموت البدن، فلا يبقى بعد البدن شيء باسم الانسان حتى تكون له لذة أو عذاب، فالأصالة اذا عندهم لهذا الجسم المادي ورغباته(1).

هذه بعض المفاهيم المستوردة من الغرب التي أشار اليها الشيخ مصباح في طيات كلامه، ويرى ان الجامع لها هو النزعة الانسانية (Humanism) التي ظهرت في اروبا اواخر القرون الوسطى، وجعلت الانسان ورغباته المادية أساس كل شيء، وانتهت هذه النزعة الى العلمانية والليبرالية، وهذان العنصران هما اللذان يُشكلان الثقافة الغربية حالياً(2).

ثم انّ الدواء الذي يعطيه الشيخ مصباح لهذا الداء هو إعادة صياغة العلوم الاجتماعية والسياسية والحقوقية وما سواها من جديد بحيث تنسجم علمياً واصولياً مبادئنا ومعتقداتنا الدينية، ومن هذا المنطلق بدأ الشيخ مصباح بالعمل وشمّر عن ساعديه ليعالج الشبهات المستوردة من الغرب برؤية فلسفية اجتماعية مستوحاة من المبادئ الدينية: نحن نؤكد ابتداء عند مواجهة الآراء والأفكار والمعتقدات المستقاة من الثقافات الاخرى على محاولة استكناه جذورها، ثم نرى هل أنّها تنسجم مع الأفكار الاسلامية أم لا؟ فان كانت منسجمة يؤخذ بها، والا فيجب نبذها والتوجه نحو أسس ديننا واتخاذها منطلقاً لأفكارنا وعقائدنا وثقافتنا))(3) .

هذه هي المنهجية المتبعة للشيخ مصباح في جميع مؤلفاته وبحوثه، وفيما يأتي نحاول تسليط الضوء اجمالاً على أهم المسائل التي حاول معالجتها بهذه المنهجية، ومن أراد التوسع فعليه مراجعة الدراسات والبحوث نفسها . إذ هذا المختصر لا يسع

ص: 328


1- اصول المعارف الانسانية : 222 - 226
2- (النظرية السياسية في الاسلام 1 :210
3- (م ن 1:194)

لأكثر من هذا، رغم ان الشيخ لا يرى ضيراً بالاقتباس من الغرب في مجال التكنولوجيا والتقنية، ولكن كلامه ونقده ينصب على المجال المعرفي والثقافي، كما انه يدعو الى فتح باب الحوار مع الغرب لكن بشرط الالمام بالثقافة الاسلامية اولاً وعقد توازن علمي معرفي بين طرفي الحوار كي لا نخسر الحوار (1).

1- نظرية المعرفة

- يرى الشيخ مصباح تقدّم نظرية المعرفة والبحث عن قيمتها المعرفية والعلمية على مباحث الوجود، إذ ما دامت لم تثبت قيمة المعرفة العقلية فمن العبث الخوض في مباحث الوجود والفلسفة والوصول الى الحق.

ويذهب الشيخ مصباح الى ان مباحث المعرفة هذه هي التي أربكت مواقف كثير من فلاسفة الغرب إذ يقول : ((ومن هنا اضطربت مواقف كثير من رجال الفلسفة المشهورين في الغرب من قبيل هيوم وكانط واوجست كُنت وجميع الوضعيين، فحطموا بنظرياتهم الخاطئة اسس الثقافة في المجتمعات الغربية، وضلّلوا حتى علماء العلوم الاخرى وبالخصوص علماء النفس السلوكيين..))(2) وبهذا الصدد يتناول الشيخ اتجاهين معرفيين ظهرا في الغرب:

الاتجاه الوضعي

اتجاه اصالة العقل أم الحس.

الوضعية:

انّ الوضعيين يقتصرون في مقام المعرفة على الادراك الحسي الذي يحصل نتيجة لاتصال أعضاء الحس بالظواهر المادية ويعتقدون انه الادراك الحقيقي والعلمي وبناء عليه فلا يبقى مجال للبحث والدراسة العلمية المفيدة لليقين حول مسائل ما

ص: 329


1- (اصول المعارف الانسانية (232،235)
2- ( المنهج الجديد في تعليم الفلسفة 1 :147 )

وراء الطبيعة، وتصبح جميع مسائل الفلسفة فارغة لا قيمة لها(1).

وفي مقام الرد على الوضعيين يذكر الشيخ مصباح نقاطاً عدة:

بحسب هذا المذهب تنهار أقوى أسس المعرفة وهي المعرفة الحضورية والبديهيات العقلية.

انهم بنوا أساسهم على الادراك الحسي، وهو أضعف نقطة في المعرفة وأقلّها قيمة لأنّها معرّضة للخطأ أكثر من غيرها.

ادعاء فراغ المفاهيم الميتافيزيقية من المضمون ادعاء جزافي باطل، لانه لو صح هذا لما بقي بينها وبين الألفاظ المهملة فرق ولأصبح نفيها واثباتها سواء.

بناء على هذا لا يبقى مكان لأي قانون علمي بعنوان كونه قضية كلية يقينية وضرورية، ذلك انّ هذه الخصائص لا يمكن اثباتها حسياً بأي وجه من الوجوه.

ينتقض عليهم بالمسائل الرياضية التي تُشرح وتُعالج بوساطة المفاهيم العقلية، أي بنفس تلك المفاهيم التي يعتبرها هؤلاء لا معنى لها، ولذا اضطر بعضهم للاعتراف بنوع من المعرفة الذهنية للمفاهيم المنطقية(2).

أصالة العقل أم الحس:

هذا الاتجاه هو أكثر اعتدالاً من الاتجاه الوضعي، ورغم اعترافهم بالحس وأهميته يختلفون في إعطاء الأصالة والتقدّم للحسّ أم العقل والبحث عندهم يقع تارة في التصورات وتارة اخرى في التصديقات.

ففي التصورات وبعد الاعتراف بالمفاهيم الكلية يُطرح سؤال عن مهمة العقل بانها هل تقتصر على تجريد الادراكات الحسية وتعميمها أو انّ العقل بنفسه يتمتع

ص: 330


1- (م ن1:214-215)
2- (م ن1:216-217 )

بادراك مستقل، غاية الأمر انّ الادراك الحسي قد يصبح شرطاً لتحقق الادراك العقلي.

القائلون بأصالة الحس يعتقدون ان العقل لايستطيع أن يفعل شيئاً سوى التجريدوالتعميم ، فلا يوجد ادراك عقلي الا وهو مسبوق بادراك حسي، وفي قبالهم أصحاب الاتجاه العقلي حيث يؤمنون بانّ للعقل ادراكات مستقلة هي من لوازم وجوده ولا يحتاج فيها الى ادراك قبلي.

اما في التصديقات فمحور البحث فيها ان الاحكام في القضايا هل تكون متوقفة على التجربة الحسية أم انّ العقل يستطيع مستقلاً وبعد الظفر بالمفاهيم التصورية اصدار الأحكام من دون حاجة الى التجارب الحسية؟ فالتجريبيون يعتقدون ان العقل لا يستطيع إصدار الأحكام من دون الاستعانة بالتجارب الحسية، أما القائلون بأصالة العقل في التصديقات فيؤمنون انّ للعقل مدركات تصديقية خاصة يدركها بشكل مستقل.

والرأي الصحيح عند الشيخ مصباح هو أصالة العقل بمعنى خاص في كل باب، أما في باب التصورات فهي بمعنى ان المفاهيم العقلية ليست هي نفس التصورات الحسية قد تغير شكلها، وأما في التصديقات فهي بمعنى ان العقل في أحكامه الخاصة لايحتاج الى التجربة الحسية(1).

ثم ان هناك امراً آخراً يتعلق بقيمة المعرفة وانّ الناتج هو معرفة حقيقية أي مطابقة

الصور العلمية للواقع الذي تحكي عنه، وهذا يقتصر على المعارف الحصولية فقط.

يعدّ العقليون ان فطرة العقل هي المعيار لمعرفة الحقائق، ويعدّون القضايا التي تستنتج بشكل صحيح من البديهيات قضايا حقيقية، ويضفون القيمة على القضايا الحسية والتجريبية إذا كانت قابلة للاثبات بفضل البراهين العقلية.

كما انّ ملاك الصدق والكذب في القضايا عند الشيخ مصباح هو تطابق القضايا

ص: 331


1- (م ن1:218-220)

أو عدم عدم تطابقها مع ما وراء مفاهيمها، ففي القضايا التجريبية تقارن مع الواقعيات المادية، وفي القضايا المنطقية تقارن مع مفاهيم ذهنية اخرى تحت اشرافها، وفي القضايا الفلسفية لابد من الالتفات الى علاقة الذهن والعين أي: ان صدقها يعني كون محكياتها العينية - سواء كانت مادية ام مجردة بشكل بحيث ينتزع الذهن منها المفاهيم المتعلقة بها(1).

2- العلة والمعلول

يرى الشيخ مصباح خطأ كثير من فلاسفة الغرب أمثال هيوم في تفسيرهم للعلة والمعلول حيث زعموا انه يتم الحصول عليهما من ملاحظة التقارن والتعاقب بين ظاهرتين بشكل منتظم(2).

ثم ان هؤلاء يحاولون اثبات أصل العلية عن طريق التجربة، ولكن هذه المحاولة عقيمة ولا طائل تحتها؛ لأنّها تستلزم الدور، إذ إنّ كلّية نتائج التجربة تتوقف على قوانين العلية والمفروض اننا نحاول اثبات تلك القوانين عن طريق تعميم نتائج التجربة وكليتها.

ثم ان أقصى ما يمكن الحصول عليه من التجارب الحسية هو التقارن أو التعاقب المنتظم، لكن هذا التقارن والتعاقب أعم من العلية وعن طريقهما لا يتيسر اثبات علاقة العلية، وأخيراً فانّ التجربة الحسية مهما تكررت فانّها لا تستطيع نفي امكانية تخلّف المعلول عن العلة أي انّ هذا الاحتمال يبقى موجوداً على الدوام وهو أن يتحقق معلول بدون علّة كذا احتمال أن لا يتحقق المعلول مع وجود علة وذلك في الموارد التي لم تتم تجربتها، فالتجربة الحسية تعجز عن اثبات العلاقة الكلية والضرورية بين ظاهرتين فضلاً عن أنّها لا تستطيع اثبات القانون الكلي للعلية في مورد جميع العلل والمعلولات(3).

ص: 332


1- (م ن258 - 251:1)
2- (المنهج الجديد في تعليم الفلسفة 2: 10 )
3- (م ن1:22-24)

وبعد هذا العرض يرى الشيخ مصباح انّ أصل العلية من القضايا التحليلية التي يستخرج مفهوم المحمول فيها من مفهوم الموضوع، فهي من البديهيات الاولية المستغنية عن أي دليل وبرهان، وصرف تصور الموضوع والمحمول كاف للتصديق بها.

ومع هذا فانّ هذه القضية لا تدلّ على وجود المعلول في الخارج، فاعتماداً عليها لا يمكن اثبات ان في العالم الخارجي وجوداً يحتاج الى العلة، لانّ القضية الحقيقية في حكم القضية الشرطية، وهي بذاتها لا تثبت وجود موضوعها في الخارج، وغاية ما تدل عليه هو انّه إذا تحقق في الخارج موجود بوصف المعلولية فلابد من أن تكون له علة.

والخلاصة ان العلم بمصاديق العلة والمعلول - عدا ما يدرك منها بالعلم الحضوري- ليس بديهياً ويحتاج الى برهان، فلابد أولاً من تعيين صفات العلة والمعلول وبتطبيقها على الموجودات الخارجية يمكن تشخيص مصاديق العلة والمعلول (1)

3- المادية الديالكتيكية

-من المسائل العقدية الأساسية في الانسان نوع نظره الى الكون والى ما بعد الطبيعة، ومن خلال هذه النظرة يتم تصنيف الانسان عقدياً ضمن حلقة الايمان او حلقة الالحاد، وعليه فانّ الشيخ مصباح يقسّم النظرة الكونية لدى الانسان الى قسمين أساسيين:

النظرة الالهية.

النظرة المادية.

ثم يشرح اسس ومقومات النظرة المادية ومقوماتها من اعتمادها على الحس والتجربة ونفي ما وراء ذلك ليصل الى المادية الديالكتيكية التي كانت مثاراً للنقاش

ص: 333


1- (م ن2:24-26)

بين المفكرين الايرانيين آنذاك والتي أسسها ماركس وانجلز.

يرى الشيخ مصباح انّ المادية الديالكتيكية تعتمد على ثلاثة أسس:

أصل التضاد الداخلي.

أصل الطفرة أو تحوّل التغيرات الكمية الى تغيرات كيفية.

أصل نفي النفي أو ديناميكية الطبيعة.

أصل التضاد :

يبتني هذا الأصل على وجود ضدين في كل ظاهرة حيث يخرج من الصراع بينهما ظاهرة ثالثة ،وهكذا، وأجرى الماركسيون هذا التضاد الى المجتمع أيضاً، فالمجتمع الرأسمالي يحتوي على ضده وهو طبقة البروليتاريا ويخرج منهما المجتمع الشيوعي، كما يعتقدون ان أصل التضاد أثبت بطلان النظرة الميتافيزيقية حول استحالة التضاد والتناقض .

وفي مقام الرد عليهم يرى الشيخ مصباح انّ وجود أصل التضاد لاينكر على نحوالاجمال، إذ انّها ليست حالة شاملة بل يمكن ذكر أمثلة كثيرة على خلاف هذه الحالة، ثم إذا صدقت هذه النظرية لابد من أن تشمل نفسها أيضاً بمعنى انّ الظواهر اذا اشتملت على ضدين فلابد من أن يكون لكل واحد من الضدين أيضاً ضدان وهكذا الى ما لا نهاية، وأخيراً فانّ امتناع التضاد المنطقي لا علاقة له بهذا التضاد، إذ إنّ المستحيل هو اجتماع الضدين أو النقيضين في موضوع واحد، أما ما يطرحه الماركسيون فلا يتصف بوحدة الموضوع.

أصل الطفرة:

هذا الأصل يعتمد على أنّ الظواهر الطبيعية ليست كلها تدريجية الحصول بل يحصل بعضها على نحو الطفرة بمعنى ان التغيرات الكمية حينما تبلغ درجة معينة،

ص: 334

فانّها تتبدل الى كيفية جديدة وتكون سبباً في حدوث التغيرات الكيفية النوعية ، كما في المجتمع حين تحتدم الصراعات بين طبقات المجتمع فسوف تحدث طفرة وثورة جديدة لا محالة.

وفي مقام الاجابة عن مسألة تغيير الكمية الى الكيفية وحصول الطفرة يرى الشيخ مصباح انّ ما يمكن تقبله هو لزوم توفّر كمية معينة لتحقق بعض الظواهر الطبيعية لا تبدّل الكمية الى الكيفية ولا ضرورة الزيادة التدريجية للكمية، كما انّ هذا الشرط لا يشمل جميع التغيرات الكيفية والنوعية، فليس هناك قانون كوني شامل يسمّى بالطفرة او الانتقال من التغيرات الكمية الى التغيرات الكيفية.

أصل نفي النفي :

يعني هذا الاصل والذي يطلق عليه أيضاً قانون تطور الضدين أو ديناميكية الطبيعة، انّ الحركة الديالكتيكية ارتقائية وتكاملية دائماً، فالظاهرة الجديدة تكون أكثر تكاملاً من القديمة دائماً.

والجواب ان كل تغير وتبدل يعني زوال الحالة السابقة وظهور حالة جديدة، فاذا كان الغرض من هذا الأصل هو هذا المعنى فلم يأت بشيء جديد، أما الالزام من قبلهم بانّ هذا التطوّر يكون تكاملياً دائماً ، وانّ الظاهرة اللاحقة لابد من أن تكون أكمل من السابقة، فهو غير صحيح، فهل انّ الماء يتكامل عندما يتحوّل الى البخار أو البخار حينما يتحوّل الى الماء ؟ (1) .

-4 فلسفة الاخلاق

يرى الشيخ مصباح انّ الجمل الاخلاقية والقانونية تشتمل على مفاهيم ((لابد)) و ((لا ينبغي)) و ((واجب)) و ((ممنوع))، وعندما تلاحظ هذه المفاهيم يُرى أنّها لیست من قبيل المفاهيم الماهوية اي ليس لها ما بازاء خارجي بل انها من المفاهيم الاعتبارية.

ص: 335


1- (دروس في العقيدة الاسلامية 1 :133-140)

وهذه المفاهيم يمكن أن تدرس بأشكال مختلفة منها دراستها من الناحيةاللفظية والأدبية ، بمعنى انّ هذه الألفاظ لأيّ معنى وضعت؟ وما هي التحولات التي طرأت عليها؟ وهل استعمالها في هذه المعاني حقيقي أم مجازي؟ وهذه الدراسات تتعلق بعلم اللغة وتناول علماء اصول الفقه كثيراً منها بالدرس والتحقيق.

ومنها البحث حول كيفية إدراك هذه المفاهيم وطريقة انتقال الذهن من مفهوم الى مفهوم آخر، وتدرس هذه الجوانب في فرع خاص من علوم النفس وهو المختص بعمليات الذهن.

ومنها البحث عن تعلق هذه المفاهيم بالواقعيات الخارجية، بمعنى ان هذه المفاهيم هل هي من ابتكارات الذهن وليس لها أي ارتباط بالواقع الخارجي؟ أم انها تعكس الميول والرغبات الفردية والاجتماعية ؟ وهل القضايا الأخلاقية والقانونية قضايا خبرية قابلة للصدق والكذب والصحة والخطأ ؟ أم أنّها من قبيل العبارات الانشائية التي لا معنى للصحة والخطأ فيها ؟ وإذا كانت قابلة للصدق والكذب فما هو المعيار في صدقها وكذبها ؟ وهذا ما يهمنا هنا (1) .

ثم يقول الشيخ مصباح انّ القضايا الأخلاقية تصاغ بصورتين:

أن تحكي عن ثبوت قاعدة خاصة في نظام معين كما يقال: ((الكذب لإصلاح ذات البين في الإسلام جائز))، وملاك الصدق والكذب فيها هو مطابقتها وعدم مطابقتها للمصادر الأخلاقية عند ذلك النظام الخاص.

أن يكون مفادها الحكاية عن نفس الأمر والثبوت الواقعي بغض النظر عن الأنظمة

الخاصة ، كما يقال : ((العدل حسن)) فهنا توجد آراء مختلفة في الغرب:

إنّ أشهر النظريات المطروحة في هذا المضمار هي:

أ- بعض فلاسفة الأخلاق والقانون في الغرب ينكر أساساً وجود مثل هذه الأصول

ص: 336


1- (المنهج الجديد في تعليم الفلسفة 1 :204 - 206)

العامة والثابتة، والوضعيون بالخصوص يتخيلون أن البحث في هذه المسألة لغو لا فائدة وراءه، ويعدوّنها من الأفكار الميتافيزيقية غير العلمية.

ومن الواضح أنّه لا يُتوقع غير هذا من أتباع المذهب الوضعي الذين سمروا عيونهم على معطيات الحواس، ولكن بعض العلماء الآخرين الذين صدر منهم مثل هذا الحديث يمكن أن يقال لهم: إنّ منشأ هذا التخيّل هو تحول القيم الأخلاقية والقانونية في المجتمعات المتنوّعة وفي الأزمنة المختلفة، مما أدى بهؤلاء للاعتقاد بنسبيّة الأخلاق والقانون وللتشكيك بالأصول القيميّة الثابتة أو إنكارها، وسيزول هذا التخيّل بعد نفي نسبيّة الأخلاق والقانون.

ب- وهناك فئة اخرى من الفلاسفة عدّت القضايا القيميّة من قبيل الاعتباريات الاجتماعيّة الناشئة من حاجات الناس ومشاعرهم الباطنية، وهي تتطوّر بتغير هذه العوامل، ومن هنا عدّها هؤلاء خارجةً عن نطاق الدراسات البرهانية القائمة على أساس المبادئ اليقينيّة الضرورية الدائمة، وبناءً على هذا فالملاك في صدق هذه القضايا وكذبها هو تلك الحاجات والرغبات التي أدت إلى اعتبارها.

وفي مقابلهم يمكن القول: لا شكّ في أنَّ جميع المعارف العمليّة تتعلّق بسلوك الإنسان الاختياري، ذلك السلوك الناشئ من لون من ألوان الرغبة الداخلية، وهو يتجه نحو هدف خاص وغاية معيّنة، وعلى هذا تتكوّن مفاهيم خاصة ليست من سنخ المفاهيم الماهوية وتتشكّل منها هذه القضايا، ولكن دور المعارف العملية هي أنّها تنير للإنسان الطريق في مقام الاختيار بين الرغبات المتعارضة لكي يصل إلى الهدف الإنساني الأصيل والرفيع ولكي يهتدي إلى السعادة والكمال المطلوب، ومثل هذا الطريق لا يتلاءم دائماً مع رغبات كثير من الناس الذين هم أسرى رغباتهم الحيوانية ولداتهم المادية الدنيوية المتقصّية، وإنما هو يحملهم على تعديل طلباتهم الغريزية والحيوانية، وعلى الكفّ عن بعض اللذائذ المادية والدنيوية.

إذن إذا كان المقصود من حاجات الناس ورغباتهم هو مطلق الحاجات الشخصية

ص: 337

والفئوية التي هي دائماً في تعارض وتزاحم ومؤدّيةً لفساد المجتمعات وتدهورها، فإنّ ذلك مخالف للأهداف الأساسية للأخلاق ،والقانون وإن كان المقصود هو الحاجات الخاصة والرغبات الإنسانيّة الرفيعة المدفونة عند كثير من الناس وهي غير نشطة لديهم لتغلّب الهوى والرغبات الحيوانية عليها فإنّ ذلك لا ينافي الثبات والدوام والكليّة والضرورة، ولا يؤدّي إلى خروج مثل هذه القضايا عن نطاق المعارف البرهانية، كما أنَّ اعتبارية المفاهيم التي تشكل عادةً موضوعات مثل هذا القضايا وهي تتضمن لوناً من المجاز والاستعارة لا تعني أنّها فاقدة للأساس العقلي.

ج- النظرية الثالثة هی أنَّ الأصول الأخلاقية والقانونية هي من بديهيات العقل العمليّ، وناشئة - مثل بديهيات العقل النظري من فطرة العقل ومستغنية عن الدليل والبرهان، وملاك الصدق والكذب فيها هو موافقتها ومخالفتها لضمير الناس.

إنَّ هذه النظرية التي لها جذور في أفكار فلاسفة اليونان القديمة وقد تبناها كثير من فلاسفة الشرق والغرب ومن جملتهم كانط أوجه من سائر النظريات وأقرب إلى الحقيقة ، منها ، ولكنّها في الوقت نفسه قابلة لمناقشات دقيقة نشير إلى بعضها:

إنَّ ظاهر هذه النظرية هو تعدّد العقل وانفكاك مدركات كلّ منهما عن الآخر، وهو أمر قابل للمنع.

إنَّ الإشكال الوارد على كون مدركات العقل النظري فطريةً وارد أيضاً على هذه النظرية.

إِنَّ الأصول الأخلاقية والقانونية ليست مستغنية عن الاستدلال ولا غير قابلة للتعليل كما يزعم أصحاب هذه النظرية بل حتى أعمها وهو حسن العدل وقبح الظلم يحتاج إلى برهان كما سوف نشير إليه فيما بعد)(1).

النسبيّة في الأخلاق والقانون:

وفي مبحث نسبية الاخلاق يقول الشيخ مصباح : (إنَّ كثيراً من القضايا القيمية

ص: 338


1- (م ن 1:264-268)

ولاسيّما القضايا القانونية لها استثناءات، وحتى حسن الصدق أيضاً لا كليّة له، ومن ناحية أخرى فقد يصبح موضوع واحد محلاً لاجتماع عنوانين لهما حكمان متضادان، وفي صورة تساوي ملاكيهما فإنَّ الشخص يكون مخيراً بين الفعل والترك، أما إذا كان أحد الملاكين أهمّ من الآخر وكانت المصلحة فيه أرجح من الأخرى فإنّه مكلّف برعاية جانب الملاك الأهمّ فيسقط الحكم الآخر عملياً، ويلاحظ أيضاً أنَّ لبعض الأحكام القانونية قيوداً زمانيّة ثم تُنسخ بعد الفترة المحدّدة.

وبالالتفات إلى هذه الملاحظات تصوّر بعضهم أن جميع الأحكام القيميّة نسبيّة ولا تتميّز بالعموم الأفراديّ والإطلاق الزماني، وقد اتخذت المذاهب ذات الاتجاه الوضعي اختلاف الأنظمة القيميّة في المجتمعات والأزمنة المختلفة دليلاً على كون جميع القضايا القيميّة نسبية.

ولكن الواقع أنَّ مثل هذا النسبيّة موجودة أيضاً في قوانين العلوم التجريبية، فكلّيّة أي قانون تجريبي تابعة لتحقق شروطه وانعدام الموانع والمزاحمات، وتعود هذه القيود - من وجهة النظر الفلسفية - إلى تركب علل الظواهر، وبفقدان شرط منها ينتفى المعلول أيضاً.

وبناءً على هذا إذا استطعنا تعيين علل الأحكام الأخلاقية والقانونية بشكل دقيق والتفتنا إلى قيود موضوعاتها وشروطها بشكل كامل فسوف نجد أنَّ الأسس الأخلاقية والقانونية تتمتّع أيضاً بالعموم والإطلاق في نطاق ملاكاتها وعللها التامة، ومن هذه الناحية فهي لا تختلف عن سائر القوانين العلمية.

ونلفت النظر إلى أنّنا نعتمد في هذا البحث على الأسس الأخلاقية والقانونية العامة، وأما بعض الجزئيات من قبيل قوانين المرور وأمثالها فهي خارجة عن محلّ البحث(1)).

-5 الليبرالية

لم يركز الشيخ مصباح كثيراً على المعنى اللغوي لمصطلح الليبرالية، وفي معناها

ص: 339


1- (م ن1:272-273)

الاصطلاحي يقتصر على قوله انها تطلق على طريقة التفكير المستخدمة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، وهي تعتمد أساساً في طبيعتها على مزيد من الاهتمام بالحقوق الطبيعية للافراد))(1).

وبناء على هذا فانّ الليبرالية السياسية مثلاً تعني الاهتمام الجاد بحقوق الفرد وحريته في الشؤون السياسية والليبرالية الاقتصادية تشير الى الاقتصاد الذي يُعتمد فيه على الفرد وحريته في النشاط الاقتصادي وعدم تدخل الدولة الأ بالحد الأدنى، وهكذا الليبرالية الثقافية والدينية وما شاكل.

أمّا الاسس والمباني التي يعتمد عليها هذا المذهب فيشير الشيخ مصباح الى أهمها وهي:

الفردية: بمعنى انّ الفرد وحقوقه الخاصة مرجّح على كل شيء، وان المفاهيم الجماعية من قبيل مصلحة المجتمع لم تكن الا وهماً، كما لا يوجد خير مطلق أو فضيلة حتى نحاول على أساسها التدخل في الحياة الخاصة للناس.

القيمة المطلقة للحرية: حيث لايحدّها شيء الا حرية الأفراد الآخرين، ولا يمكن التغاضي عن الحرية بعد هذا الحد من أجل قيم أخرى كالعدالة والقيم والدين وما شاكل.

الرأسمالية: وهي اقتصاد السوق الحرّ وقد عُجنت الرأسمالية مع الليبرالية حتى قيل انّ الليبرالية هي ايديولوجيا الرأسمالية.

محورية الانسان بمعنى انه محور الكون وهو الأصل ويجب إخضاع القوانين السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها لرغباته.

هذه أهم المحاور الأساسية لليبرالية عند الشيخ مصباح تاركاً سائر المحاور من قبيل العلمانية والتسامح والتساهل من التفرعات.

وهذا المذهب بهذه الاسس والمباني لا ينسجم مع الاسلام، ولذا يشير الشيخ

ص: 340


1- (أسئلة وردود :288 )

مصباح الى أهم نقاط الخلاف بين الليبرالية والاسلام قائلاً:

الحرية ليست قيمة مطلقة للانسان في الاسلام، بل القيمة المطلقة هي الطاعة والامتثال لأحكام الله، فالحريات في الاسلام مقيدة بالحدود الالهية.

اقتصار دور الانسان في (الأنا) الطبيعية والمادية، ولكن الانسان في الاسلام له بعد مادي وبعد معنوي، والأصالة للروح، والبدن المادي حامل ومركب للانسان الحقيقي، فالانسان بلا معنويات ولا أخلاق ولا دين ولا التزام بالخالق والمعبود ليس انساناً، وانما هو حيوان ذو رجلين كسائر الحيوانات بل هو أسوأ منها.

حرية التعبير في الفكر الديني محدودة، فلا يسمح الاسلام باقتناء كتب الضلال أو الإساءة الى المقدسات.

انّ حق التقنين في الإسلام مختص بالله تعالى، إذ هو المالك الحقيقي للمخلوقات، وهو الذي يمتلك حق التقنين في شؤون الحياة كافة.

ان الدولة في الليبرالية لابد من أن تدافع عن الاطر العامة للحياة الاجتماعية وتمارس الحد الأدنى من التدخل في شؤون الناس استناداً الى أصالة الفرد، لكن الدولة في الفكر الاسلامي ملزمة بنشر الفضيلة والمحافظة على أرواح الناس ونواميسهم والسعي للارتقاء بمعنويات الفرد والمجتمع مضافاً الى بثّ الرفاه والأمن وما شاكل، وإذا ما حصل هناك تزاحم بين الحقوق فانّ حقوق المجتمع تقدّم على حقوق الفرد والفضيلة تقدم على الرفاه والمادية.

انّ من لوازم الليبرالية التسامح والتساهل في شتى المواقف، ولكن الإسلام وإن كان شريعة سمحة سهلة، لكنه يقرّ المداراة في اطار الأحكام الالهية، ويتعامل بالشدّة والغلظة في بعض الموارد.

هذه الموارد تدلّ على عدم إمكان الجمع بين الإسلام والليبرالية بأي حال من الأحوال(1).

ص: 341


1- (م ن:291-294)

-6 العلمانية

يعرف الشيخ مصباح العلمانية بانّها:(( اتجاه فكري له معالمه منها فصل الدين عن الدولة، وتبلور الدولة على أساس وطني، والتقنين وفقاً لارادة البشر، والتركيز على الشؤون المادية، وسيادة العلوم التجريبية بدلاً عن العلوم الالهية، بناء على هذا فانّ العلمانية تركز على انفصال دائرة الدين عن السياسة، ويُعتبر الدين في هذا النظام أمراً فردياً رسالته بلورة العلاقة بين الانسان وربه فقط، ولا دخل له في السياسة وادارة امور المجتمع أبداً))(1).

وعند البحث عن جذور العلمانية وتاريخها يرى الشيخ مصباح انّ الغرب هو مهدها، وأنّها افراز طبيعي للأحداث التي سبقت عصر النهضة، كما انه يشير الى أهم أسباب حدوثها ويلخصها في نقاط:

حدوث التعارض بين معطيات العلم وتعاليم الكنيسة المستوحاة من الانجيل.

تقاسم الأعمال بين الكنيسة والقيصر استناداً الى ما في الانجيل: (ما لقيصر يجب أن يُترك لقيصر وما لله يجب أن يُترك للكنيسة حيث مهد الطريق أمام العلمانية.

ظهور نهضة الاصلاح الديني وما أدت الى تقليص دور الدين في شؤون الحياة.

ظهور عصر التنوير وجعل الانسان هو المحور للكون ونبذ ما وراء الطبيعة والغيب (2) .

هذه العوامل هي التي أدت الى ظهور العلمانية، ولكن هذه النظرة لا تتوافق مع الاسلام، ذلك ان العلمانية تخوّل غير الله حق التشريع والحاكمية، فيما تصرّح الرؤية التوحيدية ان المالكية والحاكمية الحقيقية لله ولا حق للإنسان أبداً في الحكم على غيره من دون إذن منه تعالى، كما انّ الفكر العلماني يحصر الدين في علاقة الانسان بالله فقط، ولكن للإسلام قوانينه وأحكامه لكافة شؤون الانسان الفردية والاجتماعية(3).

ص: 342


1- (اسئلة وردود :163)
2- ( م ن:165 - 163 )
3- (م ن :166)

فهرس المصادر:

اصول المعارف الانسانية، الطبعة الثانية عام 1432 ه-، دار التعارف للمطبوعات.

اسئلة وردود الطبعة الأولى عام 1425 ه- ، دار التعارف للمطبوعات.

دروس في العقيدة الاسلامية، الطبعة الخامسة عام 1427 ه- ، مؤسسة الهدى.

النظرية السياسية في الاسلام، الطبعة الثانية عام 1432 ه- ، دار الولاء.

تعدد القراءات الطبعة الثانية عام 1426 ه- ، دار التعارف للمطبوعات.

المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، الطبعة السابعة 1431 ه- ، مؤسسة النشر الاسلامي.

ص: 343

معالجات تأصيلية في نقد الغرب عند الشيخ جوادي الأملي

اعداد هاشم الميلاني

(1)

تمهید :

-ينحو الشيخ جوادي الأملي في مؤلفاته منحى التأصيل الإسلامي للأزمات المعرفية والاجتماعية التي يشهدها عالمنا المعاصر، ويرى أنّ هذه الأزمات المعرفية والاجتماعية مردّها الى ما حدث في الغرب ابان النهضة العلمية والدينية هناك حيث بدأت منذ القرن الرابع عشر، واستمرت الى يومنا الحاضر وأنتجت هذه الأزمات، فنرى الانسان اليوم في بعده المعرفي أصيب بالحيرة العلمية والنسبية وعدم ثبات الآراء، وفي بعده النفسي أصيب بالكآبة والاضطراب السلوكي وفقد الراحة والطمأنينة والهوية، وفي بعده الخُلقي أُصيب بأنواع المفاسد الخُلقية، وفي بعده الاجتماعي أصيب بالانهيار الاسري وتفسّخ أواصر الحب والأخوة بين أفراد المجتمع، أما الجانب السياسي فما نراه من امبريالية عالمية والفوضى السائدة في المجتمعات.

- يرى الشيخ الأملي أنّ سبب جميع هذه الأزمات هو العزوف عن الدين وعن البعد الالوهي في الانسان واعطاء زمام الامور الى النزعة الانسانية الحديثة، وما أنتجته من تغليب البعد المادي في الانسان، حتى ان الدين أصبح يُفسّر بتفاسير مادية دنيوية، حيث أصبح ظاهرة على غرار باقية الظواهر التاريخية التي حدثت في التاريخ بأسباب ومبادئ دنيوية مادية(2).

ص: 344


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العراق، النجف الأشرف.
2- انتظار بشر از دین: 13

- في عملية التأصيل التي يرنو اليها الشيخ الآملي، لا يفوته أن يسجل ملاحظاته النقدية لما ذكره علماء الغرب ومفكريه، وهذه الملاحظات هي التي سنحاول تسليط الضوء عليها في بحثنا هذا ضمن نقاط موجزة:

-1 المعرفة

- يرى الشيخ جوادي الأملي ان نظرية المعرفة متأخرة عن كثير من المباحث العقلية في مقام الاثبات، لكنها في مقام الثبوت متقدّمة عليها جميعاً، إذ ما دامت لم تُحلّ مسألة المعرفة ولم يتبين كيفية معرفتنا بالأشياء، سوف لا تنفع سائر المسائل الفلسفية والكلامية وغيرها.

- وعند تعريف المعرفة يرى الشيخ الأملي أنّها من المفاهيم البديهية الغنية عن التعريف، إذ محاولة تعريفها يوقعنا في الدور الصريح، لذا لابد من الاكتفاء بشرح الاسم وبيان المحتوى( التعريف التنبيهي)(1).

- ثم ان هناك من ذهب الى انكار المعرفة، وهم قسمان: قسم ينكر أي نوع من انواع المعرفة وهم السوفسطائيون والشكاكون، وقسم ينكر المعرفة في اطار خاص وهم الماديون الذين حصروا المعرفة بالحس والتجربة المادية وانكروا المعرفة الغيبية، إذ الوجود والواقع عندهم محصور في المادة، فالنظرة المادية للانسان والكون تنتج مادية المعرفة وآلياتها.

- وفي قبال هؤلاء يوجد اناس يعترفون بأصل امكان المعرفة مضافاً الى توسيع نطاقها وعدم اقتصارها على الماديات، لذا ذهبوا الى القول في جميع المحسوسات او المعاليل العقلية ومنها المعرفة بالعلّة الفاعلية الى جنب العلل القابلة وفي طولها(2).

ثم بعد هذا شرح الشيخ أهم الآراء الواردة حول نظرية المعرفة وقيمتها قائلاً:

ص: 345


1- م ن : 87
2- م ن 89 - 93

-1 هناك لا من ينظر الى مسألة كاشفية العلم والمعرفة للواقع ولم يعر لها اهمية، بل يرى ان المهم هو مقدار المنفعة الحاصلة من هذه المعرفة سواء كشفت عن الواقع أم لم تكشفه، وسواء كانت صحيحة أم خطأ، انما الملاك هو الأثر النفعي الحاصل منها .

- يلاحظ على هذا الرأي انّه يخلط بين الوسيلة والهدف ويلزم منه عدم وجود معيار ومحك لتشخيص الصحيح من الخطأ في العلوم التي لم تنتج فائدة عملية، ويلزم أيضاً القول بصحة ما ينفع عملاً وإن لم يكن مطابقاً للواقع، وفساد ما ليس فيه نفع وإن كان مطابقاً للواقع، كما تنفي هذه الرؤية التفاوت بين العلوم النظرية والعملية وتجعلهما واحدة.

- ذهب بعضهم الى ان المعرفة لم تكن كاشفة عن الواقع بل هي التي تولّد الواقع، فالواقع ما توافق عليه العلماء (نظرية التصويب)، ويلزم من هذا عدم تخلّف الواقع عما أجمع عليه العلماء وهو كما ترى.

- حصر المعرفة بالأمور الحسية وانّ مشاعر الانسان كما تتأثر من الواقع الخارجي تؤثر فيه أيضاً، والناتج من هذا التأثير والتأثر هو الواقع والحق، وهو المعيار لمعرفة الصحيح من الخطأ.

- يلزم من هذا التفسير الفصل بين الانسان والكون وعدم وقوف الانسان على ما يدور خارج ذاته بشكل تام، وهو خلط بین مقدمات المعرفة وحقيقة المعرفة وذلك اولاً : انّ المعرفة لا تنحصر بادوات الحس، وثانياً انّ المعرفة أمر مجرد عن المادة فلا يمكن ان تكون نفس الناتج الحاصل من التأثير والتأثر بل هي حركة فيزيائية تنتج امراً ميتافيزيقياً اسمه المعرفة ثالثاً: يلزم ان يكون الحق عند كل شخص مختص به ولا يوجد حق مشترك بين أفراد الانسان(1).

ومما يسرد الشيخ الأملي في مباحثه قصة المعرفة في الغرب، واعتمادهم على

ص: 346


1- م ن : 96 – 106

الفرضيات بدل اليقينيات والفرضية هي سلسلة قضايا لم تكن بديهية ولم يتم اثباتها في مكان آخر، بل هي خنثى للإثبات وعدم الاثبات فالقضايا التي تستنتج هكذا لم تكن ذات قيمة علمية بل هي مضطربة ومتزلزلة وإن أنتجت آثاراً وهمية، لانها تعتمد على الفرض.

-هذا الاضطراب والتزلزل الناتج من ترك اليقين لا يمكن علاجه بقيد أو قيود اضافية كما توهمه الوضعيون (أصل الاثبات او التحقق او الملحدون والماديون، فأي قيد وشرط لا يمكنه أن يوصل هذه الفرضيات الى ساحة المعرفة الحقيقية التي هي اليقين بالواقع.

- ان الفوضى والتغير الدائم التي تشهده الفرضيات يؤدي الى تبدّل وتغيير الأنظمة المعرفية أيضاً، كما يؤدي الى تكوين رؤية عند مفكري المعرفة الحقيقية المؤدية الى العلم واليقين بان المعرفة البشرية لم تكن سوى بناء أنظمة فكرية بالاعتماد على هكذا قضايا مختلفة ومتغيرة، وعليه لا توجد معرفة ثابتة اطلاقاً بل انّ الثبات وهم متغير وزائل ولا يمكن الاعتماد على البرهان(1).

- وعند الرجوع الى الخلف للبحث عن سبب وصول الغرب الى هذه المرحلة،يرى الشيخ الأملي ان الحسيين طرحوا شعاراً مفاده ان القدرة هي التي تولّد العلم، وانّ غاية جميع العلوم هي السلطة على الطبيعة، ووظيفة العلم معرفة الطبيعة لتحقيق هذه السلطة، فرسم أرباب هذه الفكرة جدولاً استقرائياً للوصول الى جميع الحقائق المادية وزعموا انّ الحس هو الطريق الوحيد لمعرفة الكون، فتولّدت جراء ذلك فلسفات علمية ادعت ان المعرفة البشرية تتكوّن على شكل علوم مختلفة جراء مجموعة احاسيس اولية اي تم مشاهدة الموارد الجزئية بالحس وبعد التكرار الغيت الخصائص الزمكانية واستنتجت قوانين كلية، وتولّدت علوم مختلفة، ووصلت بالمآل بعد أخذ مشتركات العلوم الى قوانين كونية عامة مثل قانون الحركة أو التكامل، المشتركة بين جميع العلوم.

ص: 347


1- م ن 161 - 165

- هذه المناهج لم تدم كثيراً وسرعان ما تبين عوارها إذ الظنون المتراكمة عن طريق

الحواس لا تولّد اليقين فانتبه الحسيون الى انّ الحس بمجرده لا يتمكن من کشف كثير من القوانين ولم يوصل الانسان الى اليقين فذهبوا الى القول بان المعارف البشرية مزيج من ادراكات الحواس وتفاعلات الذهن وبعد مدة ظهر عوار هذه النظرة أيضاً، فابدعوا أمراً آخر هو قانون الفرضيات العلمية، وعليه فانّ المعرفة العلمية هي تلك الفرضيات التي يمكن اثباتها او ابطالها عن طريق الحواس(1) .

- طبعا هذا لا يعني عند الشيخ الأملي نكران ما انتجه العلم الحديث من منافع مختلفة للناس، ولكن الذي يرفضه هو الافراط في الحس والمادية المنتجة لمذاهب فكرية باطلة أمثال الماركسية وكذلك تأليه الانسان ورفض الميتافيزيقيا والأديان وجعلها في بوتقة الخرافة والاساطير(2).

- وخلاصة الأمر : يرى الشيخ جوادي الأملي انّ من المبادئ الفلسفية الهامة المؤثرة في مسير المعرفة، كيفية النظر الى الواقع : هل ان الواقع ينحصر في الطبيعة والمادة او

انّ هناك واقعاً وحقائق غير مادية وميتافيزيقية ؟

-((فلو اعتقد شخص بانّ الواقع ينحصر في المادة والامور المحسوسة، لاعتقد بمادية المعرفة وانّها تتولّد من خلال المجاري الادراكية الطبيعية وبالتأثير والتأثر المتقابل بين الجسم والطبيعة ... مادية الواقع يوجب تهيئة ارضية التأثير والتأثر المتقابل بين الانسان والكون كواقعيتين طبيعيتين تكونان في عرض الآخر وعلى نحو العلل الاعدادية، ومن هذا الاحتكاك تتولد المعرفة من خلال تأثر الانسان بالواقع الخارجي. وبما ان المعرفة الانسان والكون في سيرها الميتافيزيقي تعد عللاً معدة لظهور الفكر ، فيكون الفكر بمثابة امر واقعي ثالث الى جنب الانسان والكون، اي إنّ له واقعاً غير العالم وغير المعلوم))(3).

ص: 348


1- م ن: 167 - 169
2- م ن: 170 - 171
3- تبين براهین اثبات خدا :65.

وعندئذ تكون النتيجة ظهور واقع جديد جراء احتكاك الانسان بالكون، وبما ان الانسان في سيره المعرفي يحاط بالفكر عادة دون المعلوم، وانّ الفكر يغاير المعلوم دائماً ، فهذا التغاير يعيق الانسان الفكور عن الوصول الى العالم الخارج عن نفسه وحينئذ تفقد المعرفة قيمتها في اظهار الواقع ومعرفة الكون ويبقى العالم في وادي الشك والحيرة.

- وبعد أن يقسّم الشيخ الآملي الشك الى الجلي والخفي، يرى ان المعرفة المادية توجب الشك لا محالة، فمن يقارب المعرفة من وجهة نظر مادية سيقع في فخ الشك لا محالة سواء الجلي منه أو الخفي.

- ثم بعد هذا العرض يرى الشيخ الآملي أنّ النظرة ما بعد الطبيعية الى الواقع والقول بعدم انحصار المعرفة بالسير المادي، وقبول الجوانب الميتافيزيقية للمعرفة، توجب الامان من الوقوع في الشكاكية بكلا نوعيها.

2- مسألة الالوهية:

-ان من اهم المسائل المطروحة في اللاهوت الغربي مسألة اثبات وجود الله تعالى حيث تزلزلت كثير من الأدلة الفلسفية المقامة على ذلك بسبب النظريات العلمية الجديدة التي ولدت بعد عصر الظلمة المسمى بعصر التنوير.

- وقد اشار الشيخ جوادي الأملي الى براهين اثبات وجود الله تعالى وردّ على بعض الشبهات الغربية، وفيما يأتي نشير الى أهم تلك الردود

1 --برهان الامكان والوجوب:

-تقرير البرهان: انّ الوجود الخارجي إما أن يكون وجوده ضرورياً فهو واجب الوجود، وإما أن يكون عدمه ضرورياً فهو ممتنع الوجود، وإما أن يتساوى فيه الطرفان فهو ممكن الوجود. ثم ان هذا الممكن يحتاج الى مرجّح ليتصف بالوجود والعدم إذ هما يعرضان عليه ولم يؤخذا في ذاته. فاذا وجد هذا الممكن في الخارج لابد من أن

ص: 349

يكون له مرجح رجّح له طرف الوجود دون العدم.

- هذا البرهان دخل الى العالم الغربي عن طريق ابن رشد ومن خلال توما الأكويني

وتم نقده في الفلسفة الغربية المعاصرة.

-تلك الشبهات ما أورده هيوم حيث قال بانّ نسبة أجزاء العالم الى الوجود والعدم لو كانت متساوية وانّ كل واحد من تلك الاجزاء بحاجة الى علة موجودة، فلو كان هذا صحيحاً لا يمكن تعميمه على المجموع لعدم وجود دليل على تساوي المجموع مع الأجزاء في الحكم، فلو قلنا مثلاً انّ كل واحد من أفراد البشر له أم واحدة، لما أمكننا القول بانّ جميع البشر لهم ام واحدة.

ثم انّ الشيخ الآملي يردّ على هذه الشبهة بانّ المستفاد من هذا البرهان ان الممكن لا يوجد من دون الاستعانة بغيره، وهذه قضية حقيقية تسري على جميع الممكنات لا مجموعها لانّ المجموع لا وجود له أصلاً وبما انه لا وجود له؛ لا يكون واجباً ولا ممكناً فلا يحتاج الى غيره.

- وبعبارة اخرى قد ذهب هيوم الى اننا نستكشف مجموع العالم حتى نرى حاجته الى العلّة، نقول : اولاً انّ المجموع لا يمتلك وجوداً خارجياً، وثانياً لم يكن المجموع في هذا البرهان من مقدمات الاستدلال، وثالثاً: لو فرضنا وجود المجموع والاستفادة منه في البرهان لكان الامكان والاحتياج من لوازمه الذاتية التي تدرك بالعقل ولا تحتاج الى المشاهدة والتجربة(1).

2- البرهان الوجودي:

-هذا البرهان من ابداعات آنسلم القديس في القرن الحادي عشر، وكان مثاراً للجدل في تاريخ الفلسفة الغربية، ويبتني هذا البرهان على كيفية تصوّر مفهوم الله تعالى في ذهن الانسان، وهو :انّ الله موجود لا يمكن تصوّر موجود آخر اكبر منه ولا أكمل منه ، فلو لم يكن الله موجوداً لكانت الكائنات الموجودة اكمل منه، أي: إذا لم

ص: 350


1- م ن : 147

يكن الله موجوداً لم يمكن تصور كونه اكمل موجود، وعدم كمال الله – وقد أُخذ الكمال في مفهومه - يوجب التناقض وباطل . وعليه نستنتج من ابطال عدم وجود الله تعالى - لاستحالة ارتفاع النقيضين نقيضه أي: وجود الله تعالى.

- اما دليل التلازم بين عدم الوجود وعدم الاكملية، هو ان العدم نقص، والموجودات أكمل من المعدومات، وعليه فلو كان الله معدوماً لكانت الموجودات أكمل منه، فلم يكن اكمل موجود متصوّر، وهذا خلف.

- وقد تم مناقشة هذا البرهان من وجهات نظر متعدّدة من قبل فلاسفة الغرب وفلاسفة الشرق، ولكن يرى الشيخ الآملي انها غير تامة، ولكن مع هذا لا يصحح البرهان الوجودي أيضاً، بل يرى انّ الاشكال الرئيسي عليه هو وقوعه في مغالطة الخلط بين المفهوم والمصداق.

ذلك انّ الحمل الأولي الذاتي يختص بالمفاهيم والحمل الشايع الصناعي يختص بالواقع والحقائق الخارجية، ومن هنا يمكن خطأ برهان آنسلم ، لان الاكملية لمفهوم الله تعالى تخدش فيما إذا سُلب منه مفهوم الوجود والموجودية بالحمل الاولي، فلو كان الله غير موجود في الخارج بأن يُسلب منه الوجود بالحمل الشايع لايستنتج منه سلب مفهوم الوجود والاكملية بالحمل الأولي.

- وعليه فأنسلم القديس لابد من أن يبين مراده من كلمة (الموجود) في قوله: (اذا لم يكن الله موجوداً) فلو كان المراد الحمل الأولي فالحق معه، اما لو كان مراده بالحمل الشايع فلا يحصل التناقض(1).

3- برهان المعجزة:

- استند بعض ارباب اللاهوت المسيحي بالمعاجز لاثبات وجود الله تعالى، حيث ينطلقون في البدء من اثبات وجود معاجز ، ثم ان هذه المعاجز ليس لها مبدأ مادي أو طبيعي فلابد من أن يكون لها مبدأ غير مادي وهو الله تعالى.

ص: 351


1- م ن : 200 - 203

-ولكن هذا البرهان غير تام عند الشيخ الأملي اذا لم يرجع الى احدى البراهين الثابتة من قبيل برهان الامكان والوجوب . ومن جملة ما يؤخذ على هذا البرهان:

1 - امكان الخدشة في تلك المعاجز لمن لم يشهدها ولم يطلع عليها عن حس ويقين.

2- لو فرضنا صحة تلك المعاجز، فاستنتاج وجود الله تعالى من هذا البرهان يتوقف على مقدمات:

أ: قبول أصل العلية والقول بانّ تلك الحوادث معلولة.

ب: امکان تصوّر جميع الطرق الطبيعية وغير الطبيعية المؤدية الى ايجاد تلك الحوادث.

ج: ابطال علية جميع تلك الطرق الا علية الباري تعالى. ونظراً لصعوبة تحقق هذه

المقدّمات لا يمكن الاعتماد على هذا البرهان .

ثم يستنتج الشيخ الآملي انّ علماء الكلام تمسكوا بالمعجزة لاثبات النبوة لا وجود الله تعالى ،كما انّ اثبات النبوة من خلال المعجزة بحاجة الى مقدمات تعد بمثابة الاصول الموضوعة من قبيل وجود الواجب ضرورة وجود النبي، ضرورة المعرفة الدينية وما شاكل(1).

3- برهان التجربة الدينية:

تمسك بعض المتكلمين في الغرب بهذا البرهان، وتقريره: اولاً: اثبات وجود شهود لواقع مقدس، وثانياً هذا الشهود لايمكن اسناده الى المبادئ الطبيعية، اذاً يوجد واقع غير طبيعي لهذا الشهود وهو الله تعالى.

وفي مقام الاجابة يرى الشيخ الآملي انه لو افترضنا صحة المقدمة الاولى من قبل من ليس له شهود يبقى الاشكال على المقدمة الثانية قائماً لانّ الكبرى حتى لو

ص: 352


1- م ن : 257 - 261

تمت فانها لا تثبت سوى موجود غير طبيعي، وهذا المقدار لايثبت وجوب الوجود ووحدته وما شاكل.

ثم ان كبرى القياس بحاجة الى اقامة برهان ذلك ان بعض علماء النفس يرجعون التجارب الدينية الى الميول والغرائز الكامنة او الناشئة من الوجدان الجمعي، وهذه الامور ليست برهانية. وعليه فالتجربة الدينية لا توجب اليقين العلمي(1).

-4 البرهان الاخلاقي:

للبرهان الاخلاقي صور متعددة في الغرب تطرّق اليها علماء اللاهوت ولكن العمدة فيها ما ذهب اليه كانط، فانّه عند تحليله النظري للقوانين الاخلاقية لم يكن بصدد تبريرها من خلال اثبات المبدأ الواجب الآمر والمقنّن، يرى انّ العقل العملي عند فهمه للقوانين الأخلاقية التي هي ضرورية الصدق، يعتقد بوجود الله والنفس، وبعبارة اخرى ان الاعتقاد بالله يستند الى المعرفة الاخلاقية، لا انّ القانون الأخلاقي يستند الى الاعتقاد بالله.

ولكن يورد الشيخ الأملي اشكالين على هذا البرهان:

أوّلاً: لا يعد استدلاله بمثابة اقامة البرهان على وجود الواجب أو النفس، لانه يعتقد انّ المفاهيم العقلية ما دامت تقترن بالشهود الحسي لا تحكي عن العالم الخارجي وعليه فالملازمة التي حاكها بين احكام العقل العملي مع الاذعان بوجود الله وارادة الانسان لم تكن لها سوى قيمة اخلاقية من دون أن تجد الى الواقع الخارجي سبيلاً. إذ الدليل الاخلاقي لم يثبت وجود الله تعالى عن طريق عيني معتبر ولم يدفع شبهة الشكاكين غاية ما يثبته انّه إذا أراد أن يفكر طبقاً للقوانين الأخلاقية، لابد له من أن يصدّق هذه الفرضية طبقاً لقواعد العقل العملي، والخلاصة فانّ هذا البرهان لم يثبت وجود الله كواقعية عينية معترف بها في الاديان الالهية.

ثانياً: الاشكال ناظر الى القول بالملازمة بين الاحكام الأخلاقية وقضايا العقل

ص: 353


1- م ن : 269 - 270

النظري أمثال وجود الله تعالى ذلك ان الأحكام الأخلاقية المرتبطة بالعقل العملي لها محمولات و موضوعات خاصة حيث تشتمل على قضايا بيّنة يذعن لها العقل العملي، ولا يمكن استنتاج القضايا المرتبطة بالعقل النظري من القضايا المرتبطة بالعقل العملي، وعليه فالقوانين الأخلاقية لا تستلزم قضايا نظرية، بل ان احكام العقل العملي تعتمد على احكام العقل النظري لتصل الى نتائج جديدة في مناخ العقل العملي(1).

هذه أهم البراهين التي تطرق اليها الشيخ الآملي، كما أنه لا يفوته أن يعزو هذا الارباك الفكري في اللاهوت الغربي الى بعد علماء الغرب عن المعارف العقلية والفطرية والوحيانية والاقتصار على المعارف الحسية والتجريبية مما أدّى اما الى الالحاد الصريح او الالحاد المبطن، إذ الالحاد غالباً ما يعرض في عبائر مبهمة وملتوية كي لا يفهم القارئ منها شيئاً واضحاً، وجراء هذا فقد ذهب امثال غابريل مارسل وياسبرس الى ابطال أدلة اثبات وجود الله وذهب امثال سارتر الى انكار الله رأساً، والآخر أمثال بارت وكي يركغور جعلوا التجربة الدينية هي الدالة على الله دون الادلة العقلية،وآخرون أمثال تيليش واتباعه فصلوا المعبود عن الخالق والالوهية عن الربوبية، اما كانط ولاك فقد تنزلوا الى البراهين الاخلاقية فقط، ناهيك عن اتباع هيغل الملحدين أمثال باخ وماركس وانجلز حيث زعموا ان الاعتقاد بالإله مضيعة، وكذلك ما ذهب اليه اسبينوزا ولايب نتز حيث جعلوا الله كوجود كلي ومطلق -هذه الاقوال كلها يقيمها القرآن بانّها طائف من الشيطان أدت الى الحيرة والشك في الغرب سيما بمدد وسائل الاعلام الهائلة(2).

-3 العلم والدين:

من المسائل الهامة التي شغلت المناخ المعرفي الغربي وأثارت جدلاً كبيراً في وسط الأدنية الفلسفية، مسألة العلاقة بين العلم والدين، وحيث تغلب في المآل القول بتعارضهما

ص: 354


1- م ن : 284 – 287
2- حق وتكليف در اسلام 66 - 69

مما أدى الى انحسار الدين وفسح المجال أمام الالحاد والنظرة المادية للعلوم.

يرى الشيخ الأملي انّ سبب هذا التعارض الموهوم يعود الى:

-1 تحجيم دور العقل وابعاده عن أطر المعرفة الدينية والزعم بأنها تقتصر على النص فحسب، فالمعرفة الدينية إذا تنحصر في الادلة النقلية وما يستوحيه الانسان من النصوص، وما يُدرك بواسطة العقل الحسي او التجريبي أو التجريدي فانه يختص بالمعرفة العلمية والفلسفية ولا دخل للدين فيها، فحينئذ يقع التعارض فيما لو جاء نص أوهم الخلاف مع أمر علمي أو تجريبي او فلسفي.

والحل هو القول بانّ العقل يقابل النقل او النص ولا يقابل أصل الدين، فالله الذي جعل الأدلة النقلية من مصادر المعرفة الدينية، جعل العقل أيضاً حجة شرعية ومصدراً لمعرفة الدين، فحينئذ لو حصل تعارض بين دليل نقلي ودليل علمي او فلسفي، لكان من مصاديق التعارض بين العلم أو الفلسفة مع مع النقل لا مع الدين فالعقل لا يعارض الدين لانه من مصادره اما التعارض بين العلم والنقل فهو أمر مستساغ كما قد يتعارض دليل نقلي مع دليل نقلي آخر من دون أن يتم أي مساس بأصل الدين وقدسيته، بل لابد من البحث عن الوجوه التي تحلّ هذا التعارض.

2- الأمر الثاني الذي مهد لإيهام التعارض بين العلم والدين في الغرب، هو مسألةتخصص العلوم وتجزئها وفصل بعضها عن الآخر، ذلك ان العلوم والمعارف فيما مضى كانت مترابطة ومتلاءمة بعضها مع بعض كانت الأندية العلمية آنذاك تدرس الطبيعيات والرياضيات الى جنب الفلسفة والكلام وسائر العلوم الرائجة، كانت العلوم في أخذ وعطاء مستمر فيما بينها، انّ العلوم ما بعد الطبيعية كانت تتكفّل تحليل ونقد المبادئ والمباني والفرضيات وتضع نتائجها تحت اختيار العلوم الطبيعية في منظومة كونية واحدة.

ولكن بعد القرن الثالث عشر بدأت بوادر فصل العلوم بعضها عن الآخر، فتخصصت العلوم واستقلت في منظومات فكرية غير مترابطة، فانفصلت العلوم

ص: 355

الطبيعية عن ما بعد الطبيعية وانفصل العلم التجريبي عن الفلسفة.

نعم هذا العلم الحديث يعترف كسابقه بنظام العلية، لكن بما انه انقطع عن الدين والفلسفة الالهية، ترك العلّة الفاعلية والغائية واقتصر على ما انتجه الحس والتجربة والبحث في العلل القابلية أي إنّ هذا الشيء ماذا كان قبل هذه اللحظة؟ وما هو الآن؟ وماذا سيكون لاحقاً جراء تأثره بالعوامل الطبيعية؟ هذا هو الاقتصار على السير الافقي للظواهر الطبيعية، واغفال السير العمودي والصعودي للكون والطبيعة(1).

ثم يرتقي الشيخ الأملي ليقول : بما أنّ العالم صنع الله تعالى، وبما ان العلم كشفُ وقراءة للطبيعة والكون، وتفسير وتبيين لصنع الله وفعله، فالعلم لا يكون الا دينياً وإلهياً ولا يوجد علم الحادي، بل إنّ الانسان يجعل العلم آلة للإلحاد ويستغله لمآربه(2).

-4 العلم والايمان:

من الشبهات المستوردة من التراث الكلامي الغربي شبهة انفصال الايمان والدين عن البرهان والاستدلال، ذلك ان كثيراً من الذين زعموا حصولهم على المعرفة العلمية والبرهانية للمبادئ الدينية؛ يفقدون الايمان بل ربما يلحدون، كما ان كثيراً من المؤمنين لا يقدرون على اقامة البرهان والاستدلال على ما يؤمنون به.

ويردّ الشيخ الآملي على هذه الشبهة قائلاً : ((انّ القضايا العلمية تنتج من الربط والدمج الحاصل في النفس بين الموضوع والمحمول ، وادراك هذا الربط مناط بالعقل النظري والايمان يحصل جراء العلقة بين النفس ومعلومها سواء كان حصولياً أم حضورياً - وهذه العلقة هي العقيدة المناطة بالعقل العملي... ان الايمان علقة نفسية وهذه العلقة إذا تعلقت بأمر صحيح تكون صحيحة، واذا تعلقت بأمر باطل أصبحت باطلة، فاذا انسد باب تشخيص الصحيح من السقيم في المسائل الميتافيزيقية واصول

ص: 356


1- منزلت عقل در هندسه معرفت ديني: 107 – 110
2- م ن : 130

الدين؛ لانسد باب تقييم صحة او سقم ايمان المؤمنين بأرباب متفرقة من بإله واحد قهار

المؤمنين بإله واحد قهار))(1).

ثم يشير الشيخ الآملي الى النصوص الدينية التي تؤيد التلازم والترابط العميق بين العلم والايمان،لقوّة العقل في التعرف على القضايا الدينية من جهة، ولتأثير العلم على تقويم الايمان الصحيح من جهة ثانية ومن تلك النصوص التي يشير اليها الشيخ، قوله تعالى: ((انما يخشى الله من عباده العلماء))(2) وقول امير المؤمنين (عليه السلام): ((ما آمن المؤمن حتى عقل)(3) وكذلك قوله عليه السلام:(( على قدر العقل يكون الدين))(4) وغيرها من النصوص التي تشير الى ان المراتب العليا من الايمان لا تتحقق من دون مراتب عليا من العلم والتعقل.

وهذه الحقيقة لا تُنتقض عند الشيخ الآملي بايمان كثير من الجهلاء أو فسق كثير من العلماء، أو القول بانّ الكتب السماوية تقتصر على التجربة الدينية والاحساس الداخلي فقط، أو انّ لغة الدين تفترق عن لغة الفلسفة، أو ان طريق الدين يختلف عن طريق العقل، ذلك انّ الانفكاك بين العلم والايمان في بعض الموارد لا ينتج سلب التلازم الوجودي بينهما(5).

ثم يشير الشيخ الأملي الى حقيقة اخرى يقع فيها القائلون بفصل العلم عن الدين، وهي الوقوع في فخ الافراط والتحجر، وهذا ما ابتلى به متكلمو الغرب، ذلك انّ القيمة الفلسفية للمعرفة الحسية عندما تتناول القضايا الدينية والحقائق الميتافيزيقية لم تكن سوى السفسطة والشك، وانّ الدين يهبط الى كونه احساساً ووجداناً باطنياً، لأنّ المؤمن الراسخ على ايمانه بعد ما حكم بفصل العلم عن الدين فاما أن يحكم بتعطيل العقل لمعرفة المعارف الدينية العميقة والعالية ويصل الى الجمود والتحجر

ص: 357


1- تبیین براهین اثبات خدا 118 - 119
2- فاطر: 28
3- غرر الحكم للآمدي
4- م ن
5- تبیین براهین اثبات خدا 120 - 123

والافراط، وإما أن يقع في فخ الشك والسفسطة جراء تفسيرها تفسيراً مادياً حسياً.

فعندما ينزاح العقل عن مهمة الحكم في المبدأ والمعاد، تصبح القضايا الميتافيزيقية مهملة لا معنى تحتها، فحينئذ يفقد العلم صلاحيته للحكم بصلاح هذا الدين أو عدم صلاح ذلك الآخر ، ويستوي في هذه الحالة الايمان بالطاغوت والايمان بالله تعالى، وهذه اهم الأضرار المتوجهة الى الايمان عندما يفقد حصن العقل (1).

بعد هذا يذكر الشيخ الآملي وجهاً آخر أورده دعاة الفصل بين العلم والايمان، وهو ان الاديان سيما التوحيدية منها لم تستشهد بالبراهين الفلسفية والمنطقية لاثبات وجود الله، بل انّ كثيراً من المتكلمين والفلاسفة يتحاشون من إقامة البرهان على وجود الله تعالى، أو يرون عدم الفائدة في إقامة هكذا براهين، وهذا ما وقع فيه بول تيليش اذ لم يكتف بالقول ان اقامة البرهان على وجود الله خلاف اقتضاء الشرع، بل ذهب الى انّه من قبيل الالحاد(2) .

وفي مقام الردّ على هذه الشبهة يرى الشيخ الأملي أنها غير صحيحة سيما بالنسبة الى القرآن، إذ انّه اولاً جاء في مقام الرد على المشركين الذين كانوا يعتقدون بوجود الخالق، ولم يكن بصدد اثبات اصل الخالق، وثانياً فانّ القرآن في مقام الرد على الدهريين يطالبهم بالحجة والبرهان ويقيم ادلة برهانية لدحض مدعاهم، كقوله تعالى : ((أم خلقوا من غير شيء ام هم الخالقون * ام خلقوا السماوات والارض بل لا يوقنون))(3) وثالثاً توجد روايات كثيرة في التراث الديني مليئة بالبراهين العقلية سيما في كتاب نهج البلاغة.

والخلاصة انّ هذا القول ناتج من غلبة السفسطة والشك والأسر في فخ الآراء الحسّية والمادية الصرفة، حيث ألقتهم في حبائل اتهام المستدلين بالالحاد من جهة، وتقليل نطاق الدين الى أقل ما يمكن من جهة ثانية ليتمسكوا في سلوكهم الجمعي

ص: 358


1- (م ن:123-124)
2- فلسفة الدين: 31
3- (طور: 35 - 36 )

بالمدينة الجمعية الديمقراطية)، وفي سلوكهم الفردي بالليبرالية (1).

-5 حقوق الانسان:

ينطلق الشيخ جوادي الأملي في تأسيسه لفلسفة حقوق الانسان، من تعريفه للحقوق حيث يشكّل هذا التعريف العمود الفقري الذي يبني عليه بنيانه المعرفي والتأسيسي لنظرية حقوق الانسان، ذلك انّ الحقوق عنده: ((مجموعة قوانين وقرارات اجتماعية جاءت من قبل خالق الانسان والكون، لتحكيم وبسط النظم والقسط والعدل في المجتمع البشري كي يضمن سعادة المجتمع ))(2) .

ومن هذا المنطلق انبرى الشيخ الآملي لنقد لائحة حقوق الانسان الغربية، حيث انّها كتبت بمعزل عن هذه النظرة الكونية الحقوقية ولا تتمكن من تأمين حاجيات اكثرالناس، مضافاً الى أنها لم تعتمد على قانون كوني موحد، بل اعتمدت على الأعراف والآداب الاعتبارية المتغيرة بين بني البشر، كما ان الانسان لايتمكن من رسم هذه الحقوق العالمية لأنّه محصور في نطاق الدنيا وجاهل بحقائقه الباطنية والظاهرية ورغباته وحوائجه الصادقة والكاذبة.

وبعد هذا العرض السريع يطلّ الشيخ الآملي اطلالة سريعة على لائحة حقوق الانسان العالمية ليسجّل عليها النقاط الآتية:

1- أنّها اعتمدت على مبان واسس الحادية ومادية منقطعة عن الله تعالى.

2 -هذه اللائحة تحقق رغبات الدول الاستعمارية ولم تكن بصدد تحقق حوائج الامم المستضعفة، مضافاً الى انّ الاسلام يعترف بالحقوق الناشئة من تراضي الامم والأفراد فيما إذا كانت في دائرة الحكم الالهي.

3 -رغم وجود مفاهيم وبنود براقة وانسانية في هذه اللائحة كالحرية والمساواة

ص: 359


1- ( م ن 127 - 137)
2- فلسفه حقوق بشر: 75

والأمن العام، والتعليم وغيرها من الموارد، فرغم وجود هذه المفاهيم لابد من أن يحذر الانسان من الانخداع ببريقها، بل عليه التفكر أولاً في المعاني المرادة من هذه المصطلحات فهل المراد من الحرية في هذه اللائحة مثلاً نفسها المراد منها في القاموس الالهى؟!.

4 -فشل هذه اللائحة في مقام التطبيق والعمل والتبعيض بين أبناء البشر.

5- الاقتصار على النظرة المادية للانسان واغفال الجوانب المعنوية والبعد الروحي والارتباط بالخالق(1).

هذا فيما يخص الحقوق، أمّا الانسان فالنظرة الغربية اليه ترى انّه لم يكن ذا أيّ منزلة وقيمة سابقاً وانما الحداثة هي التي أرجعت له كرامته وقيمته وسيصل الى كماله المطلوب فيما بعد الحداثة وهذا هو المذهب الانسانوي المعاصر والسائد في الأندية الفكرية المعاصرة.

اما النظرة الاسلامية فهي بخلاف هذا كله حيث ترى ان الانسان ذو بعد روحي وبعد مادي، وهو المظهر الأتم للباري تعالى ، ولم تكن هذه الصورة المادية هي كماله الأتم بل كماله الأتم هو الكمال الباطني والروحي(2).

-6 التعددية الدينية

من المسائل الفكرية التي أثارت جدلاً واسعاً في الوسط المعرفي، مسألة التعددية الدينية، فقد ذهب جان هيك وغيره الى القول بالتعددية وعدم انحصار النجاة في دين ،واحد بل جميع الأديان على حق وتؤدي الى النجاة.

يرد الشيخ الآملي على هذا القول ويذهب الى انّ الدين جاء لهداية الانسان، وقد ثبت انّ للانسان بعداً واحداً وحقيقة واحدة وعليه لابد من أن يكون الدين النازل

ص: 360


1- م ن : 257 - 271
2- حق و تکلیف در اسلام 74

لهدايته واحداً أيضاً، وذلك للترابط الوثيق بين معرفة الانسان ومعرفة الدين، فلو عُرف الانسان بشكل دقيق؛ لعُرف الدين بشكل صحيح، فلو قلنا ان للانسان حقائق متعدّدة في مرّ العصور لذهبنا الى تعدّد الاديان، ولكن لو قلنا ان الانسان يمتلك فطرة الهية ثابتة لم تتغير على مدى القرون وتبدلاتها، لكان الدين ثابتاً أيضاً وواحداً وإن تغيرت الشرائع بحسب الزمان والمكان.(1)

ومن وجهة نظر اخرى يرى الشيخ الآملي انّ جذور التعددية الدينية تعود الى نوعية النظرة الكونية التي يمتلكها الانسان فلو اعتقد شخص بنسبية المعرفة والحقيقة لذهب الى القول بنسبية الدين وتكثره، لانّ حاق الواقع طالما لا يُدرك يكون كل رأي حق وصحيح (2).

اذا قد عرضنا انّ السبب الرئيسي عند الشيخ الآملي للقول بالتعددية الدينية، هو نوع النظرة الكونية، فالقول بنسبية المعرفة والكون لا ينتج سوى التعدّد والتكثر في كل شيء ومنها الدين.

ثم بعد هذا العرض ينبري الشيخ الأملي للرد على الأدلة العرفية والنقلية المقامة من قبل أرباب التعددية لدعم مدعاهم، ويفنّدها واحداً واحداً.

-7 العلمانية:

يرى الشيخ الأملي ان العلمانية مصطلح دخيل ورد من الغرب، وقد تم تعريفه في دوائر المعارف بفصل الدين عن الدنيا أو فصل الدين عن امور المجتمع أو فصل الدين عن السياسة، وهذه المعاني طولية ومتداخلة ومحورها نفي الحكومة الدينية (3)

وقبل الخوض في التعريف لابد من أن نقف على الأرضية والمناخ الذي سبب

ص: 361


1- دین: 185 - 190
2- م ن : 207 - 211
3- نسبت دین و دنیا 18

ظهور العلمانية، وهي عند الشيخ الأملي تتلخص في:

-1 العلموية : انّ عصر النهضة الاروبية قُرن بالحركة العلمية في جميع الحقول المعرفية، هذه الحركة ما كانت تتعارض مع الدين في البداية حتى ان كثيراً من العلماء والمفكرين كانوا من المتدينين يذعنون بما وراء الطبيعة والغيب، لكن سرعان ما انقلبت الطاولة واصبح العلم هو المعبود الاول والاخير وضيق الخناق على الدين، وهذا ما أدى الى فصل الدين عن العلم وارجاع جميع الاسباب والمسببات الى العلل المادية، وغفلوا عن انّ الدين لا ينكر الوسائط المادية بل يؤكد عليها دوماً، والتراث الديني مليء بالدعوة الى العلم والتعلّم واستعمال العقل، كما انّ العلم ايضاً بدوره لا يدلّ على عدم حاجة الظواهر الطبيعية عن علة غائية وعليا، بل لو أنصف العلماء لرأوا انّ هذا الكون لابد له من مدبر .

-2 العقلانية: الى جنب الحركة العلموية ظهرت حركة الاكتفاء بالعقل في فهم الظواهر الطبيعية واهمال الجانب الديني في فهم الكون، فزعموا ان العقل حلال المشاكل يمكن الاعتماد عليه في جميع الأمور، واوهموا الناس باننا كنا ننتظر الدين كي يفسر لنا الكون والحياة، أما الآن فحلّ محلّه العقل وهو مفتاح جميع المغلقات، وتطوّر الأمر حتى بالنسبة الى اللاهوت، فاخترعوا اللاهوت الطبيعي وأحلّوه محلّ الدين المسيحي، وهؤلاء أيضاً غفلوا عن انّ العقل ليس هو الفارس الوحيد، وهناك امور لم يتمكن من الوصول اليها.

-3 النزعة الانسانية : حيث يعود تاريخها الى أواخر القرن الثالث عشر عندما ظهرت بوصفها نهضة أدبية في البداية ثم تعمّمت وجعلت الانسان ورغباته المادية هي المحور التام لكل شيء، زعماً منهم بانه ذو بعد واحد وهو البعد المادي، غافلين عن البعد الروحي

(1)

ثم بعد هذا السرد يشرح الشيخ الأملي أدلّة القائلين بالعلمانية، كما

ص: 362


1- م ن : 33 - 62

يشير الى تنوعهم بين ملحد لا يؤمن بالدين وبين متدين يرى لزوم انحسار الدين عن الفضاء العام حفاظاً على قدسيته، كل بحسب مبانيه الفكرية(1).

الى هنا ننهي رحلتنا الفكرية الممتعة في كتب الشيخ جوادي الآملي، وإن لم نستوف جميع ما ذكره بأمل أن تترجم تلك الكتب الى اللغة العربية لينتفع بها القارئ العربي.

فهرس المصادر:

-1 تبيين براهین اثبات خدا تعالى شأنه، الشيخ جوادي الآملي، نشر اسراء، الطبعة الرابعة، عام 1394 ش.

-2 نسبت دين ودنيا، الشيخ جوادي الأملي، نشر اسراء ، الطبعة الثامنة عام 1392 ش.

-3 دين الشيخ جوادي ،الآملي، نشر اسراء، الطبعة السابعة، عام 1392 ش.

-4 حق تکلیف در اسلام، والشيخ جوادي الآملي، نشر اسراء، الطبعة السادسة، عام 1392 ش.

-5 فلسفة حقوق بشر، الشيخ جوادي ،الآملي، نشر اسراء، الطبعة السابعة، عام 1393 ش.

-6 منزلت عقل در هندسه معرفت ديني، الشيخ جوادي الآملي، نشر اسراء، الطبعة

الثامنة، عام 1393 ش.

-7 انتظار بشر از دین الشیخ جوادي الأملي، نشر اسراء، الطبعة الثامنة، عام 1391 ش.

ص: 363


1- م ن : 66

العلامة الشيخ الجعفري والابتعاد عن الفلسفة التقليدية

اشارة

العلامة الشيخ الجعفري (1)والابتعاد عن الفلسفة التقليدية

بقلم: عبد الله نصري

يعد العلامة الشيخ محمد تقي الجعفري (1304 - 1377 ه- ش) واحداً من كبار المفكرين المعاصرين الذين تعاملوا بجدية في مواجهة التفكير الغربي وتلبية حاجة الإنسان المعاصر. فقد بادر سماحته إلى دراسة التراث الفكري للغرب في فترة مبكرة من حياته. حيث تعرف على فلاسفة الغرب أثناء دراسته للعلوم الإسلامية في النجف الأشرف، وذلك من خلال دراسة أفكارهم المترجمة إلى اللغة العربية. وفي كتابه ارتباط انسان وجهان الذي عكف على تأليفه ما بين عامي (1334 - 1338 ه- ش) نجد إحالات إلى ما يربو على ألف كتاب غربي.

وقد ثابر العلامة الجعفري على دراسة الأفكار الغربية طوال العقود الأربعة التي أعقبت تأليفه لهذا الكتاب أيضاً. ففي الأعوام التي انهمك فيها العلامة الطباطبائي والشيخ مرتضى المطهري في البحث حول (أسس الفلسفة والمذهب الواقعي)، كان العلامة الجعفري قد بدأ الدرس والأبحاث الفلسفية الحديثة في النجف الأشرف، الأمر الذي مهد الطريق إلى تأليف هذا الكتاب. لقد توجه العلامة الجعفري إلى قراءة الأفكار الغربية بدافع من شعوره بالحاجة إلى ذلك. ومن هنا لم تكن نظرته إلى المفكرين الغربيين بدافع من العمل على ردّ شبهاتهم، وهذا النوع من الرؤية هو الذي أدى إلى أن يؤكد - ضمن نقده لفلاسفة الغرب - على ملاحظاتهم العميقة. وفي

ص: 364


1- مستل من كتاب: رويا رويي باتجدد المواجهة مع الحداثة عبد الله ،نصري ج 2 منشورات العلم، ط2، طهران، 1390. ، ص 463 تعريب حسن علي مطر.

معرض المقارنة بين فلسفة الشرق وفلسفة الغرب نجد سعياً حثيثاً منه إلى ردم الهوة بين هاتين الفلسفتين من خلال تأكيده على نقاط الاشتراك أكثر من تأكيده على نقاط التمايز والاختلاف بينهما .

لقد أفضى اطلاع العلامة الجعفري على الأفكار الغربية إلى حدوث تغيير في زاوية رؤيته إلى مسائل الفلسفة التقليدية، والخوض في الوقت نفسه في سلسلة من المسائل الجديدة فكانت المسائل التي عالجها في حقل: ماهية الإنسان، ومفهوم الجبر والاختيار، والحياة المعقولة، والوجدان، وفلسفة الأخلاق نماذج من ابداعاته في حقل التفكير الإسلامي.وهكذا نجد تحليله في حقل الفن مختلفاً جداً عن الأشياء التي قيلت في حقل الفن الإسلامي على أساس المباني العرفانية لابن .عربي. كما أن الأبحاث التي طرحها في حقل الوجدان، لم تكن مسبوقة في التفكير الإسلامي، ويبدو عليها التأثر بقراءاته في حقل علم النفس وحتى الأدبيات الغربية واضحة وجلية.

وقد أدى به ذهنه الوقاد، وكثرة قراءته وسعة صدره العلمية إلى الابتعاد عن الفلسفة

التقليدية في التفكير الإسلامي رغم شدة تعلقه بها.

لقد كان للعلامة الجعفري - على مدى سنوات طويلة - كثير من الحوارات والمباحثات الفكرية مع مختلف الشخصيات الفكرية في الشرق والغرب، وهي موجودة حالياً في متناول أيدينا. وهي تحتوي على كثير من المسائل الهامة. ومن بينها أنها تنطوي على احترام وتوقير خاص لجميع العلماء، ففي الوقت الذي يدافع فيها عن العقائد الإسلامية، يأخذ المسائل التي يثيرونها بجدية. حيث ترمي أبحاثه إلى کشف من الحقيقة دون التغلب على الخصم. ولم يرتض لنفسه أبداً أن يكون مجرد شارح للفلسفة أو أن يقتصر - كما هو شأن الفلاسفة في القرون الأربعة الأخيرة - على بيان بعض المسائل الدقيقة والجديدة فيما يتعلق بالمباحث الفلسفية التقليدية فقط. وإنما آثر الدخول في أودية لم تطرقها الفلسفة الإسلامية. ومن هنا كانت أبحاثه في حقل ماهية ،الإنسان والفن، وفلسفة التاريخ، والحضارة، والعلاقة بين العلم والدين،

ص: 365

نماذج من إبداعاته. وإلى جانب تحليله ونقده لأفكار (برتراند راسل) وغيره من فلاسفة الغرب الآخرين، تحظى دراسته لكتاب (مصير (الأفكار) ل- (وايتهيد) بأهمية كبيرة. وقد كان بإمكانه الاكتفاء بشرح أو تهميش بعض المؤلفات الفلسفية -مثل كثير من المفكرين المسلمين - ولكنه رأى أن شرح كتاب لفيلسوف غربي يحظى بضرورة أكبر .

لقد كان العلامة الجعفري من المفكرين المسلمين القلائل الذين أخذوا المواجهة مع الفلسفة والأفكار الغربية بجديّة. وقد توصل من خلال قراءته لثقافة الغرب المعاصر وحضارته إلى نتيجة مفادها أن جذور أفول القيم الإنسانية في الغرب يجب العثور عليها في الآراء التي صدع بها بعض المفكرين الغربيين، ولا سيما ما يطرحونه من المسائل المتعلقة بماهية الإنسان وفلسفة الحياة. ويعود سرّ اهتمام العلامة بالبحث عن فلسفة الحياة إلى الخلل الذي تنبّه إلى وجوده في التفكير الغربي المعاصر.

المعرفة الفلسفية

بالنظر إلى المحدوديات والقيود التي تواجه العلوم التجريبية في معرفة حقائق العالم والوجود، تبدو المعرفة الفلسفية ضرورية. إن العلوم التجريبية لا تفي بالإجابة عن جميع التساؤلات الأساسية للبشر. وإن ذهن الإنسان يسعى من خلال الجزئيات للوصول إلى الكليات ويبحث في حقل أصول الحقائق، وقد أثبت العلم عجزه في هذا المجال. وفي الحقيقة لا يمكن الوصول إلى المبادئ والأصول العامة إلا من خلال المعرفة الفلسفية ولا يمكن للعلم أن يجيب عن الهدف الأعلى والأسمى من الحياة، ولا يمكن الإجابة عن فلسفة الحياة إلا من خلال المعرفة الفلسفية.

يذهب العلامة الجعفري إلى عد تجاهل الفلاسفة الغربيين لما بعد الطبيعة في القرون الأخيرة من نقاط ضعف التفكير الفلسفي للغرب. فقد أدى حدوث التطور الذي شهدته العلوم التجريبية ببعض الفلاسفة من أمثال (أوجست كونت) إلى القول - خطأ - بعدم الحاجة إلى ما بعد الطبيعة، وأن العلم يستطيع الإجابة عن جميع أسئلة

ص: 366

الإنسان. في حين لا يمكن لنا أن نحيط بعالم الوجود من خلال العلم. فالعلماء لايحددون سوى بعض أبعاد الحقائق. ولا يمكن الإشراف على عالم الوجود إلا من خلال المعرفة الفلسفية.

فإن مسائل من قبيل: القيمة النهائية للخير والشر، والحقيقة المطلقة، والعدم المطلق، والمادة المطلقة من المسائل التي لا يمكن للعلم أن يجيب عنها أو يبدي رأيه وحكمه الحاسم بشأنها، وإنما الفلسفة وحدها التي تستطيع الخوض في هذه الأمور.

( إن الفلسفة تخطو بكل جهدها من أجل العثور على الحل الحاسم لجميع المسائل المطروحة منذ القدم. وبعبارة أوضح حتى الفلسفة الراهنة تحاول فهم حقيقة المادة الفلسفية والقيم على نحو مطلق وارتباط الإنسان بالعالم، وحجم أحكام العقل فيما يتعلق بالحقائق. والقسم الآخر يكمن في ميل الفلسفة إلى فهم القوانين العمياء الشاملة لنتائج العلوم المنفلتة )(1) .

يرى العلامة الجعفري ضرورة الحفاظ على ما بعد الطبيعة بعيداً عن التسطيح. فالفلسفة ليست بالعلم الذي يمكن أن نضعه في متناول عامة الناس. فإن المباحث الفلسفية العالية مهما عرضت على الناس بعبارات مبسطة ، ولكن حيث يكون فهمها بعيداً عن طاقة الأفراد الاعتياديين لن يترتب على عرضها عليهم سوى تعذيبهم نفسياً. ثم إن تعميم المفاهيم الفلسفية قد يصيب هؤلاء الأفراد العاديين بتوهم أن بمستطاعهم حل المسائل الجوهرية والأساسية في الفلسفة.

يرى العلامة الجعفري أن الأنظمة الفلسفية تتغذى على نوعين من الأصول، وهي:

أ - الأصول الموضوعة التي تدعم الأنظمة الفلسفية. وقد عدّ بعض الفلاسفة (أصول الفلسفة الأرسطية) في العهود القديمة، وأصالة الواقع المفرطة (الفلسفة

ص: 367


1- محمد تقي جعفري توضيح وبررسي مصاحبه برتراند راسل - وايتهد إيضاح ودراسة مقابلة برتراند راسل - وايتهد ، ص 75 نشر کتابخانه مرتضوي، 1338.هش.

الوضعية في العصر الحديث، بوصفها من الأصول الموضوعة.

ب - الأصول والأنشطة الذهنية للمفكرين القائمة على الأسس العقلية المحضة وكذلك على أذواقهم وأمزجتهم الخاصة. فإن بعض مدارك المفكر قد تستحوذ عليه وتستقر في رواسبه الذهنية والنفسية بحيث يعدّها أفكاراً مطلقة. فعلى سبيل المثال: يذهب كل من (ميكافيلي)، و(هابز) إلى القول بأن طبيعة الإنسان عبارة عن شر محض، وقد عدا هذا الأمر مطلقاً بحيث لم يكن بإمكانهما تقبل خلاف ما توصلا إليه.

(إن بعض الأصول والمدركات تستوطن أعماق الطبقات النفسية للمفكر بحيث تبرر له القول بالحتمية، وأغلب عناصر هذا التبرير الحتمي يستند إلى العناصر التي تحتل الرواسب النفسية التي يغفل عنها المفكر. كما نرى ذلك عند مفكرين من أمثال (ميكافيلي) و(هابز)، حيث يعتقدان بأن الطبيعة البشرية شر محض، وأن هذا الاعتقاد من المطابقة للواقع عندهما بحيث استحوذ على كامل العمق النفسي لهما، وتحول هذا المفهوم لديهما إلى عنصر داخلي فعال وغدا هيامهما بهذا الأمر من الشدة والقوة بحيث يبدو للقارئ أنهما هما اللذان قاما بخلق الإنسان(1).

إن الذي يعنيه العلامة الجعفري بهذا الكلام، هو أن جميع جميع المفكرين لا يفكرون بمعزل عن النزعة المطلقة أو أذواقهم الخاصة. فأحياناً يستحوذ الحب والتعصب أو الوله الشديد بمسألة ما على ذهن المفكر ، بحيث يتجاهل كثيراً من الحقائق.

يرى العلامة الجعفري أن بعض علماء العلوم التجريبية يتمتعون بمدركات فلسفية. فهو يرى أن كل باحث ينظر بدقة في مسار التحقيق العلمي - إذا لم يشغل ذهنه بمجموعة بمجموعة من الأصول الجاهزة - قد يتمكن من اكتشاف قضايا الوجود الشاملة والعالية من خلال إدراك العلاقات الظريفة والدقيقة بين القضايا العلمية. وفي الحقيقة يمكن حتى للعلماء أن يحصلوا على ارتقاء وصعود فلسفي. وإن هذه الحركة التصاعدية لا تتحقق في حقل العلوم التجريبية فحسب، بل قد تتحقق حتى في حقل

ص: 368


1- سرگذشت اندیشه ها (تاريخ الأفكار)، ص 9.

العلوم الإنسانية أيضاً.

فعلى سبيل المثال: نجد (نيلزبور) يتوصل في حقل التحقيقات الفيزيائية إلى مسألة تؤدي به إلى التوجه ناحية ( لاوتزه)(1) ويأخذ عنه الأصل الفلسفي القائل : (إننا في مسرح الوجود الكبير ، نؤدي دور الممثل والمتفرّج في وقت واحد)، ويجعل من هذا الأصل أساساً لنظرياته العلمية. كما أن ماكس بلانك يعد واحداً من الشخصيات العلمية التي توصلت من خلال دراستها الدقيقة للعلاقات الفيزيائية الحاكمة على العالم إلى أسرار هذه العلاقات والكشف عن أسرار ارتباط عالم الطبيعة بالحقائق الكامنة خلف حجاب هذه الطبيعة.

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى أعلى المسائل الفلسفية وأسماها والصعود إلى القضايا ما بعد الطبيعية من خلال سلوك القضايا العلمية البحتة. فقد أدت به نظرته الدقيقة في آراء علماء الفيزياء من أمثال: (ألبرت أنشتاين)،و(ماكس بلانك)

، و(شرودينغر)، و(نيلزبور)، إلى إدراك حقيقة أن الباحثين المدققين يمكنهم - من خلال مشاهدة حقائق عالم الطبيعة - إدراك أبعاد أخرى من العالم، لا يمكن للسطحيين من علماء الطبيعة أن يتوصلوا إلى إدراكها أبداً. وبعبارة أخرى إن علماء الطبيعة المدققين يمكنهم من خلال التعرّف على الكائنات الطبيعية - التابعة للقوانين الطبيعية البحتة - أن يحصلوا على مسار صعودي، يجعل منهم (جزءاً مفهوماً من كلّ مفهوم يتماهى ويتناغم مع الوجود الأكبر).

ولا يرى العلامة الجعفري هذا الإدراك الفلسفي العميق مقتصراً على مجرد بعض العلماء في حقل العلوم التجريبية فقط، بل يمكن لكثير من الشعراء والكتاب أن يصلوا إلى هذا الإدراك أيضاً. وإن كتاباً من أمثال:( فيكتور هيجو)، و(دستويفسكي)، و (بالزاك)، من المفكرين الذين توصلوا إلى بيان مسائل هامة في حقل معرفة الإنسان. وتأتي إشارات العلامة الجعفري إلى نصوص المئات من الكتاب والشعراء

ص: 369


1- لاوتزه فيلسوف صيني قديم (604 - 531 ق م )من ألقابه: تايشانغ لاوجون، وهو أحد الأنقياء الثلاثة في الطاوية. ينسب إليه كتابة العمل الأهم في الطاوية (تاو تي تشينغ). وهو من الشخصيات الرئيسة في الحضارة الصينية.

في مؤلفاته، من باب طرح بعض المسائل الفلسفية الهامة فهو يؤكد باستمرار على ضرورة عدم تجاهل بعض الأفكار العميقة التي يطرحها بعض الشعراء والكتاب. كما يجب على المختصين في حقل الفلسفة أن لا يقتصروا في دراستهم على الاهتمام بكلمات المحترفين من الفلاسفة فقط.

الثقافة الطليعية والتبعية

لقد عمد سماحة العلامة الجعفري - في معرض بحثه عن مختلف تعريفات الثقافة في دوائر المعارف العالمية الكبرى - إلى التأكيد على أن الوجه المشترك بين مختلف هذه التعريفات هو «عنصر الوجوب والضرورة، والكمال، والرقي المادي والمعنوي، والكرامة والحيثية والشرف الذاتي للإنسان والحياة اللائقة، والحرية المسؤولة، والعدالة في تطبيق الحقوق والقوانين»(1) . ومن هنا فإنه يقدم التعريف الآتي للثقافة:

(إن الثقافة عبارة عن : الكيفية والأسلوب اللائق والمناسب للمظاهر وأنشطة الحياة المادية والمعنوية للإنسان المستندة إلى نمط التعقل السليم والمشاعر الصاعدة لهم في حياتهم التكاملية (الحياة المعقولة)(2).

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بأن العناصر الثقافية يجب أن تقوم على العقل السليم والمشاعر والأحاسيس الإنسانية المتسامية، تمهيداً لوصول الناس إلى الكمال المنشود، وإذا شاع في المجتمع ما يخالف هذه الأمور فإنها ستعد مخالفة للثقافة وعلى الضد منها. وعليه طبقاً لهذا التعريف يجب أن نعد كثيراً من العناصر الثقافية السائدة في المجتمعات المختلفة على الضد من الثقافة. وفي الحقيقة فإن الذي يذكر في المجتمع بوصفه ثقافة يجب أن يتم تقييمه بما يتطابق مع المعايير المثالية أو يجب أن يكون مطابقاً لها. وكلما كانت ثقافة المجتمع أكثر رسوخاً على الأسس الثابتة والمعقولة والمدركات الإنسانية السامية، كانت ثقافة ذلك المجتمع أشد تماسكاً وأكثر ثباتاً. وقد رأى سماحته للثقافة بعدين البعد المطلق والبعد النسبي. والبعد المطلق هو

ص: 370


1- محمد تقي جعفري، فرهنك بيرو وبيشرو الثقافة الطليعية والتبعية ، ص ،77، انتشارات علمي وفرهنكي، 1373 ه-.ش.
2- المصدر أعلاه، ص 77 و137.

الذي يتمثل في الأصول العامة والشاملة من قبيل : احترام الناس، والاعتراف بالحقوق، والبحث عن المعرفة، وما إلى ذلك من الأمور والمفاهيم التي تنشدها المجتمعات على اختلافها. أما البعد النسبي فهو ينبثق عن النمط الفكري لمجتمع بعينه من قبيل: الاحترام الشديد الذي تكنه النساء اليابانيات للرجال.

يعمد العلامة الجعفري إلى تقسيم الثقافة إلى نوعين : ثقافة طليعية، وثقافة تبعية. إن الثقافة التبعية هي تلك الطريقة من الحياة التي لا تقوم على أي قانون أو أصل معقول إن هذا النوع من الثقافة يقوم على الأهواء ويشتمل على الكماليات غير الضرورية، ولا يقوم على المطالب الإنسانية الحقيقية. وفي هذا النوع من الثقافة يمكن العثور على أمور مبتذلة ومنافية للقيم الثقافية. فلربما كانت هناك بعض الأمور الاعتباطية التي ترسخت في وجدان المجتمع، وكتب لها الاستمرار على شكل تقليد وعرف في موضع معين. ويجب تسمية هذا النوع من الثقافة بالثقافة المترسبة. وفي هذا النوع من الثقافة نعثر على سلسلة من الثوابت التاريخية والبيئية المترسخة في المجتمع، وتعمل على مقاومة التحوّل الاجتماعي.

أما الثقافة الطليعية، فهي الثقافة القائمة على الأسس الثابتة للحياة التكاملية للإنسان. إن عناصر هذا النوع من الفن تدفع بالفرد إلى السعي نحو الأهداف السامية من الحياة. وحيث يقوم هذا النوع من الثقافة في مسار القيم الإنسانية المتعالية، فإنه يهدي إلى البشرية حضارة إنسانية أصيلة.

إن الثقافة الطليعية تشتمل على الأصول الأربعة الآتية:

أ - أصل الكمال والسعي إلى تحقيقه والوصول إليه.

ب - أصل احترام الآخرين، والذي يطرح ضمن عناوين، من قبيل: حب الناس لأبناء جلدتهم، وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان.

ج - الشوق إلى الحصول على الصفات والسجايا الأخلاقية الفاضلة.

ص: 371

د - تنظيم الإنسان لعلاقته بنفسه وخالقه والوجود وسائر إخوته في الإنسانية.

ومن خلال بيان هذه الأصول الأربعة يسعى العلامة الجعفري إلى تقديم معيار لتقييم مختلف الثقافات لا أن يدافع عن ثقافة الشرق أو ثقافة الغرب بشكل مطلق. وفي الحقيقة لو كانت هذه الأصول الأربعة هي الحاكمة في ثقافة المجتمع، كان ذلك المجتمع طليعياً، وإلا سيكون مجتمعاً تبعياً.

ومن منطلق هذه المعايير يتحدث سماحة العلامة الجعفري - بسبب تفشي بعض الظواهر وانتشارها- عن عدم الاهتمام بالثقافة الطليعية وتضييعها. وقد عمد سماحته إلى تعداد العناصر المنافية للثقافة في العصر الراهن على النحو الآتي:

زوال المحبة الأصيلة بين أبناء البشر.

سقوط الوجدان الأخلاقي عن الأصالة.

عدم اهتمام الناس بأهداف الحياة السامية.

- ضعف الصدق، وعدم الوفاء بالعهود.

- نفي القداسة عن العلم والمعرفة.

- ضعف روح التكافل والتعاون.

- إضعاف سيادة الفنون البناءة.

-تجاهل الحريات المسؤولة والسلوكيات العادلة.

-إحجام وسائل الإعلام عن بيان الحقائق.

-تجاهل حقوق البشر، وحق الإنسان في الحصول على حياة عادلة.

ص: 372

أسس الثقافة الغربية

يرى العلامة الجعفري بعض الأصول الحاكمة في المجتمعات الغربية ويعدّها دليلاً على ثقافة الغرب. وعلى الرغم من وجود بعض الأشخاص في المجتمعات الغربية الذين لا يعملون طبقاً لإطار هذه الأصول، إلا أن هيمنة هذه الأصول على سلوك وحياة الأغلبية الساحقة من الغربيين هي التي تفرض هذه الثقافة بوصفها من الأسس والدعائم الثقافية في عالم الغرب. وهذه الأصول عبارة عن:

أصالة الحياة الدنيوية : حيث يذهب عامة الغربيين إلى القول بأن الأصالة ثابتة للحياة في هذه الدنيا فقط. وأن لا هدف للناس وراء هذه الحياة الدنيا. وإن الحياة الدنيوية هي المحطة الأخيرة التي يتوقف عندها قطار حياة الإنسان.

الحرية المطلقة: تثبت الحرية لجميع الأفراد ما لم تصطدم بحريات الآخرين. وبذلك يحق للأشخاص أن يقترفوا أسوأ الأفعال وأقبحها، شريطة عدم إزعاج الآخرين وتقييد حرياتهم. فإن الملاحظ في الغرب هو التعايش السلمي بين الناس لا أكثر ، ولا أهمية للصراع في مسار الحياة المعقولة.

أصالة القوّة: إن هذا الأصل يمثل القوّة المحورية التي تبيد الإنسان، وهو الذي يحكم إطار العمل في المجتمعات الغربية. فقد أدى هذا الأصل إلى توظيف التعاون والتكافل بين الناس بوصفه وسيلة للوصول إلى القدرة والسلطة. وبذلك نجد الأقوياء يسعون بكامل ما يستطيعون من أجل القضاء على الناس في إطار شهواتهم الحيوانية.

أصالة اللذة: يتم التأكيد في الثقافة الغربية على تأصيل اللذة باستمرار. وقد يحظى تأصيل اللذة بدعامة علمية وفلسفية، حيث يذهب بعض المفكرين إلى القول بأن كبح اللذة اللذة يصيب المرء بالعقد والاختلالات النفسية.

أصالة المنفعة :يتم التأكيد في الثقافة الغربية على أن لكل فرد - أو جماعة - أن يسعى إلى تحصيل مصالحه ومنافعه الشخصية. ويعود استعمار الشعوب والقضاء على الناس بجذوره إلى هذا الأصل.

ص: 373

المذهب الميكافيلي: إن السيادة في الثقافة السياسية للغرب هي للمذهب الميكافيلي. وهذا المذهب يؤدي بدوره إلى انتهاك القيم الإنسانية من قبل رجال السياسة.

شيوع النزعة البراغماتية: يعد العمل الواقعي هو الملاك في الحقيقة طبقاً لهذا المذهب. وبعبارة أخرى إن ملاك صحة القضايا وبطلانها هو العمل الخارجي لا غير. إن القول بعدم الاستناد إلى مجرّد المفاهيم التجريدية للاستفادة العملية من الحقائق، والقول بأن الخوض في التفسير المنطقي للحقائق غير القول بالبراغماتية. وللأسف الشديد فإن هذا المذهب هو السائد حالياً في الغرب من دون تفسيره بشكل صحيح.

عدم الالتفات إلى قصور العلم إن كثيراً من الغربيين يعوّلون على العلم والمعطيات المستحصلة من المختبرات الغربية فقط. ومن هنا فإنهم لا ولون اهتماماً بالدين والأخلاق والحكمة والعرفان بحجة أنها غير علمية.

قصور الفلسفات الغربية: لم تتمكن أي واحدة من الفلسفات الغربية الراهنة من تقديم مذهب فلسفي يبين موقع الإنسان من الوجود بوضوح، ولم يبحث في تفسير العلاقات الإنسانية الأربعة.

إشاعة الفنون المبتذلة : إن الفنون المبتذلة هي السائدة حالياً في العالم الغربي. حيث يتم عرض أكثر الفنون ابتذالاً وقبحاً، بعد تقديمها إلى الناس ضمن أكثر الأطر استقطاباً للناس.

( إن الذي يقال حالياً بشأن الفن في عالم الغرب -إذا صح أن يكون مصداقاً للفن -هو أن يتمكن من لفت انتباه الناظرين لا أكثر. بمعنى أنه كلما كان انبهار المشاهدين ودهشتهم للأثر الفني أكبر، عُد ذلك الفن هو المنشود. في حين يمكن تقديم أي نوع من أنواع الظواهر المبتذلة والمدمّرة والاستئصالية وعرضها على الغافلين والجاهلين من أفراد المجتمع وإثارة انبهارهم ودهشتهم، ولكن هل يمكن لهذه الفنون أن تعمل

ص: 374

على نشر الحقائق في مسار الحياة البشرية الهادفة ؟ !)(1) .

امتزاج الثقافات

لقد أدّى وجود الثقافات المختلفة في المجتمعات البشرية ببعض العلماء إلى الحديث عن تنوّع الثقافات. وقد تحدث الدكتور عبد الكريم سروش عن وجود ثلاث ثقافات في إيران، وقال بأن على الإيرانيين أن يعيشوا ضمن هذه الثقافات الثلاثة. وقد حصر هذه الثقافات ب- «الثقافة الإيرانية»، و «الثقافة الإسلامية»، و«الثقافة الغربية». وقد تحدث الدكتور داريوش شايغان عن الفسيفساء الثقافي الذي تحتضنه إيران ودافع عن التعايش السلمي بين مختلف الثقافات في إيران. وقد ذهب الدكتور داريوش شايغان إلى الاعتقاد بالنظرية الجذموري (2)- متأثراً بكل من الفيلسوف الفرنسي (جيل دولوز )(3) و(بيير فيليكس غوتاري)(4) - في تحليل الثقافات، نافياً أن يكون هناك تناغم بينها. وفي الحقيقة فإنه بدلاً من التأكيد على نقاط الاشتراك بين الثقافات، يعمد إلى التأكيد على مواطن الاختلاف بينها. وقد تساءل العلامة الجعفري - من خلال نقده لهذه الآراء -قائلاً: هل يمكن لمجتمع أن يواصل بقاءه مع اختلاف الثقافات وتنوعها؟ وهل يمكن للثقافات المختلفة أن تتعايش فيما بينها أم لا ؟ وقد عمد العلامة الجعفري في تحليله لتنوع الثقافات إلى الاهتمام بالمشتركات والاختلافات على السواء، وقسمها إلى تقسيمات عدة:

إن الثقافة التي تشترك في سلسلة من الأصول الرئيسة من حياة البشر ، هي من قبيل

الأديان الإلهية التي تعتقد بالأصول الآتية:

ص: 375


1- المصدر أعلاه، ص 111 .
2- ریزورم (Rhizome) : الجذمور أو الجذمار ساق أرضية شبيهة بالجذر، وقد استعاره الفيلسوف الفرنسي (جيل دولوز) هذا المصطلح من علم الأحياء، وقام بتوظيفه في الفلسفة. حيث عمد هو وصديقه (فيليكس غوتاري) في كتابهما (ألف سطح مستوي) (A Thousand Plateaus إلى استخدام هذا المصطلح مراراً ناحتاً منه مصطلحاً أو مفهوماً فلسفياً
3- جيل دولوز (1925) - 1995م): فيلسوف وناقد أدبي وسينمائي فرنسي له عدد من الكتب في الفلسفة وعلم الاجتماع ألف مع صديقه فيليكس غوتاري كتاب (ما الفلسفة). المعرب.
4- بيير فيليكس غوتاري (1930 - 1992م) : طبيب، وطبيب نفسي وفيلسوف وسياسي فرنسي. عرف أساساً بتعاونه الفكري مع (جيل دولوز)، وبالكتب التى ألفها معه المعرّب.

أ - وجود مبدأ لعالم الوجود.

ب - الحكمة الإلهية.

ج - المعاد والحياة الخالدة.

د - الشرف والكرامة الإنسانية.

ه- - ضرورة أن يحظى الناس بالحياة الكريمة.

إن أتباع الأديان الإلهية من زاوية اشتراكها في هذه الأصول يمكن لها أن تنسجم فيما بينها.

إن الثقافات التي تشترك فيما بينها في الأصول الضرورية للحياة الطبيعية والعقيدة. وكل الثقافات التي تؤمن بالحياة المعقولة - وإن لم تصطبغ بصبغة دينية - يمكنها التناغم فيما بينها.

أما الثقافات التي تختلف في تفسير الوجود والهدف الأسمى من حياة البشر، فإنها لا تستطيع أن تتعايش مع بعضها باستمرار. فإن التزاحم والتضاد المحتدم بينها يقضي على أي إمكانية للتعايش الدائم والمثمر. ( إن ملاك التناغم والانسجام بين الثقافات يكمن في اشتراكها في الأمور النافعة للحياة المادية والمعنوية للناس).

إن تنوّع الثقافات في عصرنا الراهن والارتباط بين الأفراد والمجتمعات المختلفة يطرح ظاهرة باسم تقبل الثقافة، لا سيما وأن الثقافة الغربية هي التي تفرض نفسها اليوم من ناحية، ومن ناحية أخرى سائر الثقافات الوطنية لمختلف الأقوام والأمم. فهل ينبغي على الأفراد أن يتقبلوا الثقافة الغربية ويتخلوا عن ثقافتهم الوطنية أم عليهم القيام بالعكس؟ وفي هذا البحث لا بد من طرح هذا السؤال وهو: هل يصح تقبل الثقافة الأخرى بالمطلق أم لا ؟ هل يجب القبول بسائر الثقافات بشكل مطلق أم يجب نبذها بشكل كامل؟ يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بعدم وجوب الدفاع عن ثقافة ما بشكل مطلق ونبذ ثقافات الآخرين. كأن يهتم كل قوم أو شعب - على

ص: 376

سبيل المثال - بالحفاظ على ثقافتهم الوطنية، ونبذ ثقافات الآخرين. كما قام بعض

المفكرين بالدفاع المطلق عن التقاليد وذلك لاعتقادهم بأن السنن والتقاليد هی عنصر بقاء القوم والشعب.

غير أن رؤية العلامة الجعفري إلى الثقافة والسنن والتقاليد ليست على هذه الشاكلة فهو يرى وجوب جعل الثقافة الطليعية هي الملاك دون السنن والتقاليد. إذ ربما كانت السنن والتقاليد متفرعة عن الثقافات التبعية وعليه يجب نبذها وليس الحفاظ عليها. وفيما يتعلق بالثقافات المختلفة يجب العمل على جعل الثقافةالطليعية هی الملاك والمعيار. فإذا كانت ثقافة الغير ثقافة طليعية، وجب اتباعها والعمل على نقلها إلى مجتمعنا. وفي الحقيقة يجب تأصيل الغربلة الثقافية، وذلك لإصلاح ،ثقافتنا، واستقبال عناصر من الثقافات الأجنبية. ويجب إخضاع عناصر كل ثقافة على طاولة النقد والتمحيص، وذلك للحيلولة دون انتقال العناصر غير اللائقة من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ولكي تخضع الثقافة السائدة في المجتمع للتهذيب والإصلاح أيضاً. إن انتقال الثقافات المتبلورة على أساس القيم الإنسانية ضروري لتكامل حياة الإنسان. وإن عناصر من قبيل العلوم والصناعات والفنون الطليعية والأخلاقيات الإنسانية السامية يجب أن تنتقل من كل مجتمع يشتمل عليها إلى المجتمعات الأخرى. وإن هذه العناصر الثقافية الأصيلة يجب أن تجد طريقها إلى الثقافات الأخرى. وإن على المجتمعات التي تفتقر ثقافاتها إلى هذه العناصر أن تعمل على استيرادها وأخذها من الثقافات الأخرى.

يرى العلامة الجعفري أن آداب وتقاليد وعقائد وسنن أي قوم أو شعب هي من عوامل ثباتها الثقافي. إن الآداب والتقاليد والسنن تؤثر في الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمع، ويؤدي إلى اكتساب ذلك المجتمع هوية خاصة. وإن هذه الهوية الخاصة هي التي تضمن استمرار ثقافة ذلك المجتمع وبقائها. بيد أن رسوخ واستحكام سلسلة العناصر الثقافية بين قوم أو شعب يجب أن لا تعتبر دليلاً على أصالتها. فإن أصالة الثقافة رهن بمطابقتها مع الحقائق والأصول الثابتة في الحياة

ص: 377

البشرية. من هنا فإن العلامة الجعفري لايرى إمكانية القبول بجميع أنواع الثبات والاستمرار لكل ثقافة من الثقافات وإنما يقبل بثبات الثقافة واستمرارها إذا كانت طليعية فقط.

«إن رسوخ ثقافة واستحكامها ما بين قوم لا ينهض وحده ليكون دليلاً كافياً على

أصالة تلك الثقافة أو تطابقها مع الحقيقة والواقع. صحيح الحقيقة والواقع. صحيح أن الثقافة عندما تترسخ في أعماق وجدان الناس وتترسب في قعر ضمائرهم ، فإنها سوف تتحول إلى منظار ينظر به أتباعه إلى الإنسان والعالم وحقائق هذين المفهومين، ولكن حيث إن كثيراً من الثقافات الماضية والراهنة تتحول عند التحليل إلى أمور فاقدة للأسس، يمكن القول: إن الإنسان - في كل خطوة إيجابية يخطوها في مسار الصعود نحو حياته التكاملية - مضطر إلى تحليل الثقافة السائدة في مجتمعه، وعليه أن ينبذ العناصر الراسبة التي لا تقوم على أساس متين وعليه أن لا ي- لها بالوقوف عقبة أمام طريقه»(1).

قلنا إن العلامة الجعفري ينتقد نظرية الدكتور عبد الكريم سروش القائمة على ثلاثية الثقافات. اذ يرى الدكتور سروش أن الثقافة الإيرانية مزيج من ثلاث ثقافات، وهي: الثقافة الإيرانية والإسلامية والغربية. بيد أن هذا الكلام يواجه إشكالاً جاداً وهو أن الثقافة في إيران قد شهدت تغيراً عبر مراحلها المختلفة. فما هي المرحلة التي يتحدث عنها الدكتور سروش ؟ فقد مرت إيران منذ العهود القديمة إلى عصرنا الراهن بكثير من المراحل التاريخية.

فهل المراد في هذا البحث هو «القضايا المشتركة والعامة بين جميع المراحل التاريخية لإيران»، فعندها يجب أن نرى هل تنسجم هذه العناصر المشتركة مع الثقافة الطليعية أم مع الثقافة التبعية؟ ثم إن عناصر الثقافة الغربية التي يمكن لها أن تجانس عناصر الثقافة الإسلامية يجب أن تتناغم معها، وإلا فإن العناصر المتعارضة والمتخالفة بين الثقافات لا يمكن لها أن تتجانس فيما بينها لتأليف ثقافة واحدة.

ص: 378


1- المصدر أعلاه، ص 118.

اذ إن أساس الثقافة الإسلامية يقوم على الحياة المعقولة، فإن كل ثقافة تنسج- مع هذا المبنى ،والأساس، سواء أكانت ثقافة غربية أم ثقافة شرقية - لن تتعارض مع الثقافة الإسلامية، بل إن الثقافة الإسلامية سوف تعمل على تأييدها وتعزيزها أيضاً». وفي الحقيقة فإن العلامة الجعفري يذهب إلى الاعتقاد بأن العناصر الثقافية الثلاثة (الإسلامية والإيرانية والغربية إذا لم تنسجم فيما بينها، فإن التأليف فيما بينها لن يكون ممكناً. فكيف يمكن للثقافة الغربية في القرن العشرين - حيث ترى أن الهدف من الحياة هو اللذة والتي تقوم على المذهب النفعي - أن تجتمع مع الثقافة الإسلامية؟

«هل يمكن للثقافة التي ترصد بعد التعايش بين الناس وتأخذ بنظر الاعتبار حقوقهم فقط، أن تنسجم مع الثقافة الأخرى التي ترصد جميع أبعادهم لتضعهم في مسار الحياة المعقولة تحت القانون والحقوق ؟ ! » (1).

الثقافة العالمية

لقد توصل الإنسان المعاصر في حقل العلم والتصنيع إلى تحقيق إنجازات ملحوظة. اذ أفضت ضرورة الحياة في الطبيعة والحصول على المنفعة وبسط الإنسان لسيطرته وسلطته ، إلى ظهور رقعة بعض الظواهر الثقافية واتساعها. ومن هنا فإن العناصر الثقافية المرتبطة بالأبعاد المادية للإنسان قد شهدت تطوراً ملحوظاً، أما العناصر المتعلقة بالأبعاد المعنوية للإنسان فلم تشهد ذلك التحول التكاملي الملحوظ.

إن مرحلتنا المعاصرة [أواخر القرن العشرين للميلاد] تشير - بدلاً من المنحى الثقافي الصعودي - إلى منحى نزولي للعناصر الثقافية المشتركة والتعالي الثقافي الخاص بالمجتمعات، وهو أمر يعود سببه إلى المجتعات الصناعية الكبرى في العالم، ولا يعرف مآل هذا الأمر غير المستبدين والمتعطشين للسلطة. ولو استمر هذا المنحنى وتواصل هذا القوس النزولي على ما هو عليه، وتوقف عند إعادة البشر إلى من عصر السكن في الكهوف، ولم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، سنعد أنفسنا

ص: 379


1- المصدر أعلاه، ص 109

محظوظين جداً.. إن هذا القوس النزولي قد تمت تسميته ب- (الثقافة الجديدة)، ومضمونه توظيف جميع الجهود العلمية والفنية من أجل الترويج لثقافة إشباع جميع الغرائزوالشهوات الحيوانية، وإبعاد الناس عن الأخلاق الإنسانية العالية»(1).

يرى العلامة الجعفري مظاهر السقوط الثقافي للإنسان المعاصر في الأمور الآتية:

- عجز الإنسان عن ضبط غروره وأنانيته وتكبره.

- إضعاف العنصر الثقافي المتمثل بسيادة الحق، وتوظيف القوة من أجل إعلاء كلمة الحق وتطبيقها على أرض الواقع.

- خضوع الوجدان العملي لتأثير حبّ الشهرة وعبادة المناصب والجاه والسلطة.

-غياب العنصر الثقافي المتمثل بالاهتمام بالنوابغ والشخصيات البناءة وتوظيفها بشكل صحيح في أكثر المجتمعات.

- زوال العنصر الثقافي المتمثل بالارتباط البناء بين أفراد البشر، واستبدال هذه العلاقات وتحويلها إلى ما يشبه العلاقة بين الذئاب والخراف.

إن الإنسان المعاصر أسير الأفكار الميكافيلية والصراع من أجل البقاء والنزوع نحو الاستحواذ على الحكم والسلطة. إن ركود الثقافة التكاملية أدى إلى حرمان كثير من الناس من الوصول إلى الحقائق السامية والالتزام بها. وإن الثقافة التي تحكم الحياة الآلية والصناعية قد حجبت الناس عن إدراك جمال الوجود والعدالة والحرية. حيث يتم السماح في الثقافة السياسية بارتكاب الأعمال المنافية للأخلاق بوصفها وسيلة للوصول إلى الأهداف وتحقيق الغايات. كما أن منطق الاقتصاد البشري تحول إلى الاستهلاك، وإلى الحياة من أجل المعيشة بدلاً من المعيشة من أجل الحياة.

يرى العلامة الجعفري أن البشرية يجب أن تسير في إطار تحقيق ثقافة عالمية.

وإن المراد من هذه الثقافة ليس مجموعة من العناصر الثقافية لمختلف المجتمعات

ص: 380


1- المصدر أعلاه، ص 135

إذ «إن لكل مجتمع مصاديق معينة للحقائق الثقافية الخاصة بذلك المجتمع كحصيلة الجذوره التاريخية والجغرافية والعلاقات المتنوّعة بين أفراد ذلك المجتمع والدين وعالم الوجود وأبناء جلدتهم». إن المراد من الثقافة العالمية هي الأصول والحقائق العامة التي تحكم الثقافة الطليعية من قبيل: «الأصول الأخلاقية الإنسانية (حب الإنسان لأخية ،الإنسان والتضحية والفداء من أجل إعلاء وتحقيق الأهداف الإنسانية السامية)، والقول بالحياة الكريمة واللائقة لجميع أفراد البشر، والإيمان بالحيثية والكرامة الذاتية لجميع أفراد البشر، والحرية المعقولة المسؤولة) لجميع الناس، والعمل الجاد من أجل تحقيق المقاصد الإنسانية السامية»(1).

إن تحقق الثقافة العالمية تتوقف على أربعة عناصر يجب على الشعوب توفيرها، وهي: الاقتصاد العالمي، والقدرة والسلطة العالمية، والحقوق العالمية، والسياسة العالمية.

لا يمكن العثور على أي مجتمع يمكنه - من خلال التخبط في اقتصاد مختل، والحرمان من جميع أشكال السلطة والقوّة - أن يقيم دعائم الحياة المادية والمعنوية لذلك المجتمع على أسس وقواعد متينة، من دون أن يتمتع بذلك النظام الحقوقي القائم حقيقة على أساس متطلبات وحقائق الحياة الاجتماعية، في إطار الاستفادة من ثقافة تكاملية حيوية هادفة»(2).

الحضارة الغربية

كانت هناك على طول التاريخ واحدة وعشرون حضارة. كما نشهد اليوم حضارات متنوّعة. وأما كيف يجب أن يقوم الارتباط بين الحضارات؟ وهل يمكن تقليد حضارة ما أم لا؟ وما هي نسبتنا إلى الحضارة الغربية؟ فهي من بين الأسئلة التي تكون الإجابة عنها متفرّعة على تحصيل نظرية خاصة بشأن ماهية الحضارة. وبعبارة أخرى: لايمكن الإجابة عن سلسلة من الأسئلة من دون القيام بتجزئة وتحليل فلسفي في حقل

ص: 381


1- المصدر أعلاه، ص7-136
2- المصدر أعلاه، ص 137

ماهية الحضارة وإن العلامة الجعفري واحد من المفكرين الذين قاموا بأبحاث هامة في حقل الأصول الفلسفية الخاصة بمعرفة الحضارات. حيث قام أولاً بتعريف الحضارة قائلاً:

إن الحضارة عبارة عن إقامة ذلك النظام والتنسيق الذي يحكم علاقات أبناء المجتمع بما من شأنه أن يحول دون حدوث النزاعات والصراعات المدمرة، وتنظم التنافس في إطار المسير نحو التكامل، بحيث تؤدي الحياة الاجتماعية للأفراد والجماعات في ذلك المجتمع إلى تفجير طاقاتهم البناءة»(1) .

إن الثقافة تعكس المعلومات والمطالب والأهداف التي ينشدها كل مجتمع من المجتمعات، أما الحضارة فإنها تعكس«نشاط العوامل الأصيلة للحياة الفردية والاجتماعية ». وفي الحقيقة فإن للحضارة ظهوراً حقيقياً وخارجياً، وليست مجرد فكرة مثالية. وإن كل حضارة تشتمل على العناصر الآتية:

أ - مجموعة من المواد الحقوقية التي تستوجب إقامة النظم والانسجام بين الأفراد.

ب - قيام نوع من الإدارة السياسية التي تعمل على تنظيم أفراد المجتمع وتنمية طاقاتهم.

ج- توظيف سلسلة من الأدوات الفنية والطاقات الإنسانية في إطار تلبية مطالب الحياة.

د - تقديم السبل من أجل مكافة العناصر التي تعيق الحركة الطبيعية والإنسانية.

ه-- التفسير والتبرير المنطقي للنشاط الفكري والعضلي للإنسان.

وفي الحقيقة فإن الحضارات تشتمل على العنصر المادي والمعنوي. فهي من جهة تشتمل على مظاهر عينية ملموسة من قبيل: الأدوات والإمكانات المادية والترفيهية، ومن جهة أخرى تشتمل على مجموعة من الأهداف والقيم السائدة في العلاقات بين أفراد البشر .

ص: 382


1- محمد تقي جعفري ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج 1، ص 4 - 233

يرى العلامة الجعفري أن الحضارة تقوم على أمرين وهما: محورية الإنسان، ومحورية السلطة. وفيما يتعلق بالمحور الأول (محورية الإنسان يكون هدف الحضارة متمثلاً بتشكيل الأفراد والعمل على تنمية طاقاتهم للوصول إلى الحياة المعقولة. وفيما يتعلق بالمحور الثاني محورية السلطة، فالهدف يتمثل ب_ «تفعيل جميع القابليات وتوظيف جميع أشكال القدرة والسلطة في إطار تحقيق أهداف الحياة الطبيعية والاعتيادية»(1) .

يرى العلامة الجعفري أن الحضارة الغربية الراهنة تقوم على محورية القدرة والسلطة؛ إذ إن الهدف والغاية التي ترمي إليها تكمن في وصول الناس إلى مرحلة من العلم والتقنية التي توصلهم إلى الرفاه والسعادة، ويفعلون كل ما يحلو لهم.

إن ملاك الحضارة المثالية لا يتمثل في بناء الأبراج وناطحات سحاب، وتسريع حركة الانتقال بين المسافات البعيدة واختراع الآلات والمكائن الدقيقة، وإشباع اللذات المتنوّعة، والأنشطة الأنانية. بل إن ملاك الحضارة المثالية يكمن في تعديل الأنا والحصول على الحياة المعقولة.

فيما يتعلق بالبحث عن الحضارة الإنسانية يجب الالتفات إلى حقيقة أن تعديل الأنا على أساس الجبر والحتمية التكنولوجية لا يمثل عنصراً من الحضارة المثالية نرى اليوم في بعض المجتمعات نظماً وانضباطاً اجتماعياً في المرافق كافة، من المختبرات والمؤسسات التعليمية إلى الدوائر والمتاجر وسائر الأماكن الأخرى. وقد يبدو هذا النظم معبراً عن تعديل الأنا، ولكن ما هو هذا التعديل وما هي وسيلة الموصلة إليه؟ إن عامل هذا التعديل هو التكنولوجيا المهيمنة على جميع شؤون حياة الإنسان المعاصر؟ وبعبارة أخرى: إن لازم القول بالتكنولوجيا وجود سلسلة من مظاهر النظم والانضباط. وإن هذا النوع من تعديل الأنا ليس مطلوباً، ذلك لأنه يقضي على الإنسان نفسه، ولا يبقي منه على غير الإنسان المنضبط والمغترب عن ذاته.

ص: 383


1- انظر: المصدر أعلاه، ج 5، ص 162.

في الحضارة الغربية نشهد تجلياً عينياً للإمكانات المادية والترفيهية على المستوى المطلوب، أما التنمية الروحية للناس فهي في غاية الضعف. ففي هذه الحضارة أضحى الإنسان وسيلة وأداة للأشياء التي صنعها بيده وعليه فإن هذه الحضارة تسير في اتجاه القضاء على الإنسان وليس إحياءه إنها الحضارة التي طرحت ثلاثين مادة قي إطارالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكنها لم تطرح بإزاء هذه المواد حتى مادة واحدة في إطار الصيرورة الإنسانية ضمن الحياة المعقولة.

يرى العلامة الجعفري إمكان توظيف المظاهر العينية لحضارة ما من خلال التفكيك بين مظاهرها العينية وبين قيمها بمعنى أن بالإمكان الاستفادة من العلم والتقنية لحضارة ما من دون الالتزام بالقيم والعلاقات التي تسود الحياة الفردية والاجتماعية في تلك الحضارة.

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بأن مشكلة الإنسان المعاصر لا تنشأ من توظيف التكنولوجيا، وإنما تنشأ من أنانيته.

«إن التكنولوجيا - بشكل بسيط - عبارة عن المواد والظواهر وأشكال الصناعات الآلية المنفصلة عن الوعي والحرية والقيم والعدالة والتاريخ واللذة والألم الذي يعاني منه الإنسان».

إن هذا العنوان اللاشعوري المتمخض عن ملاك العلم المقدسة، كان موجوداً عبر القرون والأعصار بوصفه هدفاً في تضاعيف المستويات النفسية للناس، ويتم إبرازه بكلمات من قبيل الرفاه والتنعم والرقي والتكامل في عالم الوجود.

ونحن نعتقد حالياً أن التكنولوجية التي هي الوليد الشرعي للعلم، لم تفقد ذلك الامتياز حتى هذه اللحظة، وهي من من أكبر النعم الإلهية التي أنعم بها على البشر من خلال تزويدهم بالعقول التي تمكنت من إبداعها إلا أن الذي يدعو إلى الحسرة والحرقة، وصار سبباً في بؤس الإنسان المعاصر، ليس هو العلم، وليس هو الفن، ولا التكنولوجيا، بل هو التمادي في مرض الأنا والتكبر الذي أوشك في الحرب العالمية

ص: 384

الأولى والحرب العالمية الثانية أن يلقي بالإنسانية على شفير الموت والفناء، ومع ذلك لم يستفق الأنانيون الذين يديرون هذه الحضارة على أنفسهم واستمروا في وضع الأغلال التكنولوجية الفولاذية على رقاب الناس، ويمعنون يوماً بعد يوم في تضيق القيود التكنولوجية عليهم، بحيث تحولت التكنولوجيا إلى وسيلة لنقل إرادة عدد من القائمين على إدارتها إلى حد تقرير المصير وتحديد كيفية وكمية حياة الناس ومعلوماتهم وقيمهم(1) .

نقد العلوم الإنسانية الغربية

يبدي العلامة الجعفري اهتماماً كبيراً بالعلوم الإنسانية، بل إنه يقدم تقسيماً جديداً لهذه العلوم . فقد عمد إلى تقسيم «العلوم الإنسانية بالالتفات إلى الفواصل المتنوعة عن النقطة المركزية لموضوع الإنسان العام الذي يمثلني أنا النوع أو يمثل الشخصية الآدمية» إلى سبعة أقسام:

1- العلوم الإنسانية المرتبطة بالحياة الطبيعية للإنسان من قبيل: البيولوجيا، والفسيولوجيا، وعلم الآفات.

2 - العلوم الإنسانية المرتبطة بالتاريخ من قبيل التاريخ الطبيعي، والتاريخ السياسي وما سوى ذلك.

3 - العلوم الإنسانية المرتبطة بالأبعاد الاقتصادية والتي تشمل مختلف فروع العلوم الاقتصادية.

4 - العلوم الإنسانية المرتبطة بالحياة الاجتماعية للإنسان، من قبيل: علم الاجتماع،

والديموغرافيا، والإدارة، وعلم السياسة، وعلم الحقوق وما إلى ذلك.

5 - العلوم الإنسانية المرتبطة بالكفاءات التكاملية للإنسان، من قبيل: الثقافة والحضارة والأدبيات والفنون.

ص: 385


1- محمد تقي جعفري ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج 5، ص 181.

6 - العلوم الإنسانية المرتبطة بالنشاط الروحي والنفسي للإنسان من قبيل: علم النفس، والطب النفسي .

7 - العلوم الإنسانية المرتبطة بالقيم أو الضرورات التكاملية الفردية والاجتماعية، من قبيل : الأخلاق والعرفان والدين.

يرى العلامة الجعفري أن العلوم الإنسانية يجب أن تجعل الشخصية الإنسانية وطاقاتها واحتياجاتها محوراً لأبحاثها وتحقيقاتها. إن العلوم الإنسانية يجب أن تسير على طريق تنميتي أنا النوع أو على طريق تنمية الشخصية الإنسانية. إن العلوم الإنسانية للأسف الشديد - بدلاً من أن تعمل على الخوض في الحقائق وأصول حياة الإنسان تخوض في سلوكيات الإنسان. وإن العلوم الإنسانية بدلاً من تناول الأبحاث العلمية والفلسفية في حقل الإنسان، غالباً ما تستغرق في بيان الإحصاءات. إن عدم الاهتمام بالعلوم الإنسانية ودورها التوجيهي في حياة الإنسان، يستتبع النتائج الآتية:

1 - إن ظواهر هامة من قبيل : المشاعر والأحاسيس، والأفكار، والإرادة، والذكاء، تقع مورداً للتحقيق من دون أخذ الإنسان في إدارة هذه الأمور بنظر الاعتبار. ومن هنا لا يتم الالتفات لغير الأفعال والسلوكيات المنبثقة عن هذه الأمور.

2 - فيما يتعلق بمسألة الاختيار - التي هي تعبير عن الحرية المزدهرة في مسير التنمية والكمال - لا يتم تقديم تفسير صحيح لهذه المسألة؛ إذ إن ظاهرة الاختيار لا يمكن أن تقوم من دون إشراف الإنسان الفرد أو الشخصية على قطبي الإيجاب والسلب.

3 - يتم تجاهل عظمة أمور من قبيل الأخلاق والعرفان والدين مما يمتد بجذوره -بالقوة - في وجود البشر. إن العلوم الإنسانية الحديثة لا تهتم بأثر هذه الأمور في تطوير شخصية الإنسان.

يرى العلامة الجعفري تأثيراً لأفكار بعض المفكرين الغربيين في حرف مسار

ص: 386

العلوم الإنسانية. ومن هنا فإنه يعمل في جميع كتاباته ومؤلفاته على مناقشة آراء بعض المفكرين الغربيين ونقدها. ويرى أن النظريات الآتية قد كان لها تأثير في انحراف العلوم الإنسانية المعاصرة عن مسارها :

أ - النزعة الطبيعية المتطرفة : إن النزعة الطبيعية المتطرفة لدى المفكرين الغربيين قد أدت - في تحليل الظواهر الطبيعية - إلى الاقتصار على الأمور المادية القابلة للقياس فقط. وهذا الأمر أدى بدوره إلى تجاهل هوية الحياة وشخصية الإنسان إلا فيما ندر.

ب - نظرية التطوّر وأصل الأنواع، ل- (لامارك)، و(تشارلز دارون)، التي أضرت بعظمة وقداسة الشخصية الإنسانية وقداستها، وتنزلت بالإنسان إلى مستوى الحيوان.

ج - نظرية أصالة القوّة: المطروحة من قبل أمثال فريدريش نيتشة. فإنه وأمثاله بدلاً من التفسير الصحيح للقوة والعمل على توظيفها واستثمارها، جعل منها أرضية للانحراف عن مسارها .

هل هؤلاء الذين يقولون بأصالة القوّة يريدون وصف ظاهرة بعينها، ويقولون: إن الأقوياء هم الذين يحتلون مساحات الحياة حتى الآن، أم إنهم يطالبون الأقوياء بالاستيلاء على ميادين الحياة ؟ إن هؤلاء لا يستطيعون القول بأنهم يصفون الواقع؛ إذ إن تجاهل أنواع المحبة والتضحيات الكثيرة في التاريخ ، ومقاومة الظالمين للوصول إلى الحرية، مساوق لتجاهل التاريخ نفسه. ومن هنا يجب القول بأن هؤلاء المدافعين عن القوّة إنما يعبرون في الحقيقة عن دواخلهم ونوازعهم الشخصية، لا أنهم يعبرون عن تيار واقعي ثابت في ضمير التاريخ(1).

د - النظرية المتطرفة ل- ( سيغموند فرويد) بشأن الغريزة الجنسية، حيث تؤدي إلى التنزل بهوية الإنسان والصفات القيمة للشخصية الإنسانية. يرى العلامة الجعفري أن بعض نظريات ،فرويد من قبيل: (ضمير الإنسان) هامة وتنطوي على مسائل نافعة، بيد أن رؤيته السلبية بشأن خصائص الإنسان وعظمته الروحية، وتفسيره

ص: 387


1- محمد تقي جعفري بيام خرد، ص 219

الخاطئ للأخلاق والدين جديرة بالنقد.

يضع العلامة الجعفري على عاتق فلسفة العلم وظائف ومسؤوليات لإصلاح العلوم الإنسانية. من ذلك أنه يطالب المفكرين في العلوم الإنسانية أن يقدموا أدلة مناسبة لإثبات مدعياتهم.

لو أن المتصدين في مجال العلوم الإنسانية قد عملوا على تقييم أدلتهم ومدعياتهم

بشكل صحيح، لما وصلت البشرية إلى هذه الحالة المزرية حتى بلغ الحال بهم أنفسهم إلى تسمية هذا القرن ب- (قرن الضياع والاغتراب عن الذات)، كما لم يكن بالإمكان استبدال جميع هذه العواطف والمشاعر الجميلة والمحبة بين الناس والتضحية والفداء، وكل تلك الظرائف العقلية والسلوكية، بأسنان الآلة الصماء(1).

إن على فلسفة العلم في حقل العلوم الإنسانية أن تدفع أصحاب هذه العلوم إلى تجنّب العبث بالإحصاءات لإثبات الحقائق. يجب إعادة النظر بالإحصاء في إثبات القضايا العلمية. إن الأبحاث الإحصائية تعرف الباحث في بعض الأحيان بعداً من أبعاد الظواهر الإنسانية، ومن هنا يجب أن لا تؤخذ بوصفها حقائق مطلقة.

إن على فلسفة العلم أن تعمل على تفهيم الباحثين في العلوم الإنسانية أنهم وإن كانوا من المنظرين في الموضوع الداخل في مجال اختصاصهم، بيد أنهم قد لا يدركون ما يدور في حقول العلوم الإنسانية، ولا سيما في ما يتعلق بأصول وأهداف حياة الإنسان وأهدافها.

ينبغي أخذ إعادة النظر المتواصلة والمستمرة في الأصول والقوانين العلمية على نحو جاد. وإن على فلسفة العلم أن لا تكتفي بالاهتمام بهذه الضرورة الحيوية وحدها فقط، بل إن عليها أن تبين الطرق والأساليب الناجعة في إعادة النظر. وفي الحقيقة فإنه على الرغم من القبول بالأصول الثابتة في العلوم الإنسانية، بيد أنه يجب النظر إلى الأصول المسائل العلمية المتنوّعة بروح التجدد كي يتم حل مختلف أبعاد المسائل الإنسانية وفصلها.

ص: 388


1- محمد تقي جعفري، تحقيقي در فلسفه علم ص 108 نشر دانشگاه صنعتي شريف، 1372 ه- ش .

«إن الذي يحظى بالاهتمام ويحتاج إلى اليقظة والوعي الكامل هو أن علينا إعادة النظر باستمرار حتى بالنسبة إلى الصور( الأبعاد والجهات) العقلانية للعلم المتعارف الذي يؤخذ بوصفه ثابتاً ،وصحيحاً، فعلينا أن نخضعها يومياً للتحقيق والأفهام الجديدة، بحيث ننظر إليها بوصفها حقيقة مكتشفة حديثاً، إذ كما سبق لنا أن أشرنا فإن أغلب الاكتشافات العلمية والصناعية معلولة لحالة من التجديد والتحديث الذهني والعقلي والنفسي للمفكرين الذين أخذوا الأصول والقوانين في كل موقعية من الأفكار والأبحاث العلمية بوصفها قابلة للفهم وإعادة النظر»(1)

سقوط الإنسان المعاصر

لا يرى العلامة الجعفري حركة الإنسان المعاصر في مسار تاريخ التكامل. إن سيطرة الإنسان وهيمنته على الطبيعة في القرنين الأخيرين قد حملت بعض المفكرين إلى الاعتقاد بأن حركة التاريخ تسير في اتجاه التكامل. ولكن على الرغم من تقدّم الإنسان في حقل العلوم والفنون غير قابل للإنكار ، إلا أنه يمكن الشك في تكامل الإنسان في حقل الأخلاق والقيم. وقد ذهب العلامة الجعفري إلى عد الأمور الآتية دليلاً على تخلف الإنسان في عصرنا وزماننا:

1 - عدم وعي الناس، وشيوع عناصر التحذير.

2 - انحسار العاطفة والمودّة البناءة والموجدة للخيرات.

3 - جفاف مصادر الحب والمشاعر النبيلة والزاخرة بالحياة.

4 - وقوف القوّة واصطفافها بوجه الحق.

5 - عدم التعرف على الذات.

6 - فقدان الاعتدال والتوازن النفسي.

ص: 389


1- محمد تقي جعفري، تحقيقي در فلسفه علم ص 115

7 - العجز عن السيطرة على النفس.

8 - عدم الاستفادة من الشخصيات الكبيرة.

9 - العجز عن العيش من دون سلاح.

10 - الهيام والعبودية للمسائل العلمية بدلاً من بحثها بشكل واقعي.

11 - التأكيد على النفعية بوصفها عنصراً وعاملاً لاستمرار الحياة.

12 - عبادة اللذة والشهوة.

13 - التضحية بالقيم الإنسانية.

14 - اعتبار الفرد نفسه هو الهدف والنظر إلى الآخرين بوصفهم وسائل وأدوات.

15 - القضاء على البيئة. -

16 - القضاء على النسل والأجيال.

17 - بقاء أحجية الرجل والمرأة على حالها.

18 - تنافس وصراع الإنسان مع ذاته.

19 - انتفاء الشعور بالوحدة العالية في الحياة والشخصية.

20 - التحوّل التدريجي للشخصيات المستقلة إلى شخصيات فاقدة للأصالة.

21 - اضمحلال المشاعر الإنسانية اللطيفة.

22 - خمود عواطف الأمومة.

23 - عدم الإدراك الجمالي.

ص: 390

24 - شيوع ثقافة الخواء والفراغ والعدمية.

25 - الاضطراب والقلق بشأن مستقبل البشرية.

26 - عدم إدراك فلسفة الخلق.

27 - اغتراب الإنسان عن ذاته.

28 - اغتراب الناس عن بعضهم .

-29 سيادة المضاربات.

30 - عجز رجال السياسة عن الوفاء بوعودهم والعمل بتعهداتهم.

31 - الحیرة بشأن مسألة الفن.

32 - عدم العثور على حل لمسألة المطلق والنسبي والثابت والمتغير.

33 - تقليد حياة الآخرين واستنساخها.

34 - معضلة تعليم وتربية الأطفال.

35 - تفشي ظاهرة الانتحار والحروب والجرائم.

36 - تجاهل الأمانة الإلهية.

37 - عدم إيجاد الحلول لمشكلة العلاقة بين الفرد والمجتمع.

38 - الاستهانة بأرواح الناس.

39 - عدم الاهتمام بطلب الكمال.

40 - عدم الاهتمام بالله وما وراء الطبيعة.

ص: 391

41 - التزاحم بين أبناء البشر.

42 - عدم الاهتمام بقبح الكذب.

43 - شيوع ظواهر الاحتيال والمكر والخديعة.

التكنولوجيا

يرى العلامة الجعفري أن التكنولوجيا وإن كانت لا تمثل البنية التحتية الوحيدة البلورة سلوكيات الناس إلا أنها قد تركت بتأثيرات كبيرة على حياة الفرد والعلاقات الاجتماعية للأفراد. لقد أحدثت التكنولوجيا تغييراً كبيراً في الحقوق والأخلاق بل حتى الثقافة العامة، وبطبيعة الحال «إن التكنولوجيا بوصفها ظاهرة مجردة من القوانين الحقوقية والأخلاقية الخاصة، لا تجدي شيئاً»(1).

يذهب العلامة إلى القول بأن جميع مشاكل الإنسان الراهنة لا ينبغي إعادة جذورها إلى التأثيرات التكنولوجية فقط، بل لا بد من أخذ سوء استغلال النفعيين في الاقتصاد والسياسة لعواطف الناس وعقائدهم بنظر الاعتبار أيضاً. كما ترك التفكيك بين الأبعاد المادية والاقتصادية للإنسان وبين معتقداته وأخلاقياته وعواطفه، كثيراً من التأثيرات السلبية أيضاً، ولكن هذا الأمر لا يحظى بمزيد من الاهتمام. وفي الحقيقة فإننا إلى جوار التأثيرات التكنولوجية على حياة الإنسان، نشهد حوادث أخرى وقعت للإنسان المعاصر من الناحية الفكرية إلا أن بعض المفكرين - للأسف الشديد - لم يلتفت إليها أبداً، وألقى باللائمة في جميع مواطن الخلل على عاتق التكنولوجيا فقط.

يرى العلامة الجعفري أن التكنولوجيا رغم ما تنطوي عليه من منافع كثيرة، إلا أنها قد تركت في الوقت نفسه كثيراً من التبعات والآثار السلبية، ومن بينها أن الإنسان قد تحلل من مسؤوليته وألقى باللوم على التكنولوجيا نفسها.

إن التكنولوجيا رغم ما تنطوي عليه من فوائد كثيرة جداً، إلا أنها حملت معها

ص: 392


1- سرگذشت اندیشه ها ص .438

هذه الآفة المتمثلة بدفع الإنسان إلى التخلي عن الشعور بالمسؤولية، وإلقائها على التكنولوجيا العمياء وغير المسؤولة. وقد أدت هذه التكنولوجيا - الموجدة لسلسلة من العلاقات الحتمية بين أفراد المجتمع - إلى ظهور علاقات عنقودية متشابكة بين أفراد المجتمع الواحد والمجتمعات المتعددة الأخرى، وصارت هذه العلاقات بكلا شقيها - للأسف الشديد - محوراً للعلاقات النفعية والمصلحية والربحية(1).

وعلى الرغم من ذلك يمكن - من وجهة نظر العلامة الجعفري - تدجين التكنولوجيا والسيطرة عليها لمصلحة حياة البشر. إذ يمكن من خلال إبراز الأهداف السامية من الحياة والغايات الإنسانية القيّمة والجدية والمثابرة في تعليم وتربية الناس، العمل على إيجاد التناغم والانسجام بين عواطف الناس ومعتقداتهم وسلوكياتهم وبين التكنولوجيا. إن العناصر الأربعة المتمثلة بالنماذج السلوكية، والعاطفية، والاعتقادية، والتكنولوجية التي يعدّها (وايتهيد) من عناصر المدنية، إنما يمكن لها التناغم والانسجام فيما بينها إذا أمكن للبشر التعايش فيما بينهم ضمن إطار الأهداف العالية والقيم الإنسانية السامية. فلو سار الإنسان في طريق الحياة الطبيعية البحتة من دون أن يخطو خطوة واحدة باتجاه الحياة المعقولة، لن يكون هناك أمل في حصول التناغم بين هذه الأصول الأربعة أبداً. نعم يمكن للدين أن يعمل على منطقية هذه العناصر بشكل جيد.

العلاقة بين الإسلام والغرب

يرى العلامة الجعفري أن التعارض بين الإسلام والغرب قابل للرفع، ذلك لأنه يرى وجود كثير من المشتركات بين المسلمين ،والغربيين وإن هذه المشتركات تقتضي التعايش السلمي بينهم. ويرى سماحته أن العلاقة بين الإسلام والغرب يمكن بحثها من خلال بعدين:

1 - العلاقات الثقافية والعقائدية أو التفسيرية المطروحة في باب الحياة والهدف

ص: 393


1- المصدر أعلاه، ص 439.

منها. إن الشرخ بين الإسلام والغرب في هذه الناحية ليس عميقاً؛ وذلك لوجود كثير من المشتركات في الأصول الإنسانية السامية بين الإسلام واليهودية والمسيحية. وإن بإمكان هذه المشتركات أن تشكل قاعدة ومنطلقاً للتعايش السلمي، بل حتى التنافس البناء فيما بينهم . فلو أمكن للشرق والغرب أن يجعلا الدين مناطاً للتعايش فيما بينهما، ستكون الأرضية ممهدة بينهما لرفع الخلافات وأنواع التعارض أيضاً. وقد شهدنا على طول التاريخ كثيراً من مصاديق التعاون والتعاطي بين الإسلام والشعوب المختلفة.

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بأن الأفراد من بني البشر إذا كانوا يتمتعون بمراتب متقدّمة من الوعي فإن الاختلاف العقائدي والثقافي القائم بينهم لن يؤدي إلى خلافات مهلكة بل سيساعد على التسامي الفكري والروحي فيما أيضاً. يجب البحث عن جذور الاختلافات في السلوكيات التي تهدف إلى الحصول على الشهوة والسلطة من قبل بعض أصحاب القدرة. إن المسلمين والغربيين متحدون في الاعتقاد بالنبي إبراهيم الخليل (علیه السلام) . فإذا اتخذ كلا هذين الفريقين تعاليم الدين الحنيف أسوة لهما، سيقوم بينهما التعايش العادل والمتوازن. بل يذهب العلامة الجعفري إلى القول: حتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمكن أن يشكل أرضية لإقامة العلاقات الصحيحة بين شعوب الشرق والغرب.

2 - كما يمكن للعلاقات الاقتصادية والحقوقية والسياسية أن تنطوي على كثير من المشتركات بين المسلمين والغربيين في حقل النشاطات الاجتماعية أيضاً. لقد أدت النفعية الناشئة عن التكاثر المحض (غير المنظم للمعاش الضروري (القانوني والعنصرية واتباع الشهوات، وحبّ السلطة إلى تأزيم العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الإسلام والغرب.

في هذا النوع من العلاقات يمكن لنا أن نصل من ناحية الأصول العامة والجوهرية إلى مشتركات تجلب الوحدة المعقولة من أجل إقامة حياة كريمة. ومن شأن ذلك أن يمنحنا إدراكاً واقعياً للقوانين والقواعد المشتركة التي تجعلنا نتجاوز الأهواء والأمور

ص: 394

التي تدعو إلى التفرقة بين الشعوب(1).

يرى العلامة الجعفري أن عنصر الحياة قد اختل في العالم الغربي، ومن هنا يذهب كثير من الذين يعيشون في الغرب إلى القول بتفاهة الحياة وخلوّها من الهدف هذا في حين يعدّ الهدف الأسمى للحياة - الذي يمكنه تفسير جميع أبعاد الحياة» أمراً ضرورياً جداً لإقامة الاتحاد والألفة بين الناس. وقد ذهب العلامة الجعفري إلى عدّ أفكار بعض المفكرين مؤثرة في هذا المجال:

أرى أن الغربيين - وبعض الشرقيين تبعاً لهم قاموا في القرن التاسع عشر للميلاد بطرح بعض المسائل على أنها مسائل علمية، وقد آمنوا بها وصدقوها بضرس قاطع، فكانت رؤيتهم إلى الإنسان - نتيجة لذلك - تنتهي إلى إشاعة العبثية وتفاهة الحياة، في حين أن تلك المسائل لم تكن علمية أبداً، بل كانت في بعض جوانبها مخالفة للعلم أيضاً(2).

فلسفة الحياة

يرى العلامة الجعفري أن أهم مشكلة يعاني منها الإنسان المعاصر، تكمن في فلسفة التفاهة. اذ يرى سماحته أن كثيراً من الأشخاص في عصرنا لا يمتلكون فهماً وإدراكاً صحيحين عن الحياة. وأن أفكار بعض المفكرين من القائلين بفلسفة الخواء والتفاهة قد تركت بتأثيرها في الترويج لهذه الرؤية والفلسفة القائلة بتفاهة الوجود والحياة. ومن هنا نجد العلامة الجعفري يخوض في تضاعيف مؤلفاته وكتاباته في مناقشة أفكار ( جان بول سارتر)(3)، و(ألبير كامو)(4) ، و (فرانز كافكا)(5). ويذهب العلامة

ص: 395


1- محمد تقي جعفري تكابوي ،اندیشه ص 9 - 448 ، دفتر نشر فرهنك اسلامي، 1373 ه- ش
2- المصدر أعلاه،ص453
3- جان بول سارتر (1905 - 1980م) : فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي تتميز كتاباته الغزيرة بالوجودية المعرب
4- ألبير كاموا (1913 - 1960): فيلسوف وجودي وكاتب مسرحي وروائي فرنسي -جزائري، ولد في الجزائر من أب فرنسي وأم اسبانية مصابة بالصمم قتل أبوه في الحرب العالمية الأولى بعد ولادته بعام واحد من أشهر مؤلفاته (صخرة سيزيف) التي يعبر من خلالها عن عبثية وتفاهة وجود الإنسان في هذه الحياة. المعرب.
5- فرانس كافكا (1883 - 1924م) : كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يعد أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة المعرّب

الجعفري إلى ضرورة أن يقوم المفكرون بالعمل على تحرير إنسان عصر التقنية من الشعور بالعبثية والتفاهة. ويرى العلامة الجعفري أن الإنسان الذي ينزع إلى الشعور بتفاهة الحياة وعبثيتها يتميز بالخصائص الآتية:

أ - إن الإنسان العبثي بدلاً من الاستمتاع بالحياة، يعبر عن مقته لها.

ب - يذهب الفرد العبثي إلى اعتبار آيات الجمال والقبح أموراً وهمية لا تقوم على أساس ثابت، وأن الأمور الواجبة والضرورية مسائل خيالية.

ج - إن نفسية العبثي سريعة التأثر بالعوامل المختلفة، ويسعى إلى تخليص نفسه من جميع المنبهات.

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بأن سبيل الخلاص من العبثية والتفاهة يكمن في التفات المرء إلى الهدف والغاية النهائية من الحياة. ومن هنا فإنه يرى أن الاهتمام بالهدف النهائي من الحياة ضروري جداً بالنسبة إلى الإنسان المعاصر.

وفي السؤال عن فلسفة الحياة يجب عدم الانشغال بوسائل وشؤون الحياة؛ لأن كل واحد من أجزاء الحياة ينطوي على فلسفة وهدف يتناسب معه. وفي الحقيقة لا ينبغي طرح مجموع أجزاء الحياة التي يشتمل كل واحد منها على فلسفة وهدف معين في مساره الطبيعي بوصفها فلسفة وهدفاً للحياة.

ويرى العلامة الجعفري أن الإنسان إذا توصل إلى الهدف النهائي والأخير من الحياة والوجود، فإن حياته سوف تتسم بالخصائص الآتية:

- إدراك قيمة الحياة وعدم الشعور بالخلأ والتفاهة في الحياة: إن الإنسان الذي يلتفت إلى الهدف من الخلق لن يشعر في حياته بعبثية الحياة وتفاهتها أبداً، وحتى إذا تعرّض لإخفاق في حياته، لن يصل به الأمر إلى الحكم على الحياة والوجود بالعبثية والتفاهة.

-معرفة موقعه من عالم الوجود: إن إدراك الهدف من الحياة، يدفع بالإنسان إلى

ص: 396

الشعور بأنه ليس وحيداً أو غريباً في هذا الوجود، وعليه فإنه لن يشعر بالنفور والحنق من هذا الوجود.

-احترام الذات واحترام الآخرين : إن الفرد الذي يرى أن الوجود يشتمل على هدف، سوف يرى قيمة لنفسه وللآخرين أيضاً، خلافاً للعبثيين الذين ينسبون التفاهة وعدم القداسة للوجود بأسره فضلاً عن أنفسهم وعن الآخرين.

-إدراك الألطاف الإلهية: إن الإنسان الذي يصل إلى حقيقة الهدف من الخلق، يرى جميع ما يمتاز به من الفضائل، من قبيل العلم والقدرة مواهب قد نالها بعناية إلهية.

-التنظيم المنطقي بين الوسائل والأهداف: إن هذا الإنسان لا ينظر إلى الوسيلة بوصفها هدفاً أو غاية، وفي الوقت نفسه لا يعمل على توظيف كل وسيلة من أجل الوصول إلى الهدف، وإنما يعمل على اختيار الوسائل المناسبة للوصول إلى الأهداف السامية، بعد تمحيص الوسائل بشكل دقيق.

-حب العمل والمثابرة عليه : إن الإنسان الذي يعرف الهدف من الحياة يمارس العمل والسعي الدؤوب برغبة عارمة، خلافاً لأصحاب النزعة العبثية الذين لا يبدون تلك الرغبة الجادة إلى العمل والنشاط بفعل الإحباط واليأس الذي أحاطوا به أنفسهم.

-تحقيق الحرية المنشودة: في الحياة الهادفة تتم السيطرة على الأهواء والنزوات، ويصير الإنسان إلى تحقيق الحرية المنشودة. ولازم تحقيق الحرية المنشودة هو التحرر من الأوهام والأخيلة الباطلة والعبثية.

- تحرير الإنسان من النزعات الإطلاقية : إن ذهن الإنسان كثيراً ما يتعرض إلى الصياغات المطلقة. وإن إدراك الهدف الأعلى من الخلق بوصفه هو الأمر المطلق دون غيره، من شأنه أن يخلص الإنسان من جميع أنواع الأحكام المطلقة الأخرى.

ص: 397

الحياة المعقولة

يحظى التساؤل عن نوعية الحياة بالنسبة إلى العلامة الجعفري بأهمية كبيرة. إن مجرد الحياة ليست هي الهامة، وإنما المهم في البين هو نوع الحياة. وقد عمد العلامة الجعفري إلى تقسيم الحياة الإنسانية إلى نوعين، هما: الحياة الطبيعية البحتة، والحياة المعقولة. وفي الحياة الطبيعية البحتة، يقوم الأفراد بمجرد إشباع غرائزهم الطبيعية. وفي هذا النوع من الحياة هذا النوع من الحياة يتم تجاهل كثير من الطاقات والأبعاد الإيجابية من وجود الإنسان. وإن كثيراً من مشاكل الإنسان المعاصر تنشأ من اختياره لهذا النوع من الحياة. وما دام الإنسان لم يتجه ناحية تحقيق الحياة المعقولة، لن يكون هناك حل لمشاكله المتنوّعة. وقد قدم العلامة الجعفري التعريف الآتي للحياة المعقولة:

إن الحياة المعقولة عبارة عن : الحياة الواعية التي تعمل على تنظيم الطاقات والأنشطة الجبرية وشبه الجبرية في الحياة الطبيعية من خلال التمتع بالحرية المتقدّمة والمزدهرة في مسار الأهداف التكاملية النسبية، لتدخل الشخصية الإنسانية - التي يتم بناؤها عبر هذه القناة بالتدريج - في الهدف الأسمى من الحياة. ويتمثل هذا الهدف الأسمى في الانخراط ضمن مسار الوجود العام التابع إلى الكمال المنشود(1).

في الحياة المعقولة يكون الإنسان مدركاً لأصول وقيم الحياة، ويعمل على أساسها. كما يكون مدركاً للعلل والعوامل الجبرية في الحياة أيضاً، ويعمل على استثمار الحرية الممنوحة له بشكل صحيح. فعلى سبيل المثال لو بلغ هذا الشخص منصباً رفيعاً فإنه يراقب نفسه باستمرار كي لا تعمل الآثار والتبعات المدمّرة لحبّ الجاه والمنصب على إبعاده عن مسير الكمال والتمسّك بالقيم الإنسانية السامية. وفي مسار الحياة المعقولة يقع سلوك الإنسان وقوله في مسار الكمال. كما تتحول الأحاسيس الأولية للإنسان إلى مشاعر مصعّدة، وتتحول تعلقاته الجزئية إلى تعلقات سامية وراقية. وفي الحياة المعقولة يتناغم العقل النظري مع العقل العملي ويعملان معاً على توظيف الشخصية المزدهرة في طريق الكمال الإنساني. وعلى المدراء في المجتمع أن يبذلوا

ص: 398


1- العلامة محمد تقي جعفري، حيات معقول (الحياة المعقولة)،ص 8- 37 ، نشر : سيماي نور، 136 ه- ش.

كل ما بوسعهم من أجل تمكن الأشخاص من تذوّق طعم الحياة المعقولة. فلو أدرك الأشخاص لوازم الحياة المعقولة التي هي عبارة عن إدراك عظمة العدل والصدق والتعقل في الأعمال والأقوال والشعور بعظمة التكليف وحبّ أبناء النوع، فإنهم سيتقبلون ذلك بشكل جيّد. ومن هنا يرى العلامة الجعفري أن أثر المفكرين في بيان الحياة المعقولة وشرحها على درجة بالغة من الأهمية. وعليه يجب على المفكرين أن ينبّهوا الناس إلى أن الخروج من الحياة الطبيعية البحتة يساوق الدخول في الحياة المعقولة. ويرى سماحته أن تحقق الحياة المعقولة يؤدي إلى ظهور الآثار الآتية:

- تحول المشاعر الكامنة إلى مشاعر جياشة ومتصاعدة.

- تحوّل التيارات الذهنية المنفلتة إلى« أفكار مرتبطة بموضوع خاص».

- تحول الحب غير الناضج إلى «حبّ معقول».

- تحول الآمال الطويلة والعريضة إلى «آمال محركة».

-تحوّل التعلقات الصورية إلى علاقات تدفع نحو الكمال.

-تحول القناعة بسلسلة من الأمور المنفصلة إلى جهود وصراع من أجل الوصول إلى الكمال.

-زوال التقليد البحت، وحلول «الفكر والرؤية الواقعية والأصيلة والمباشرة» محله.

-زوال ألاعيب الشطرنج للعقل النظري الجزئي، وحلول التناغم بين العقل السليم والوجدان الواقعي محلها.

- تحول اللعب بالرغبات إلى حريات صاعدة.

-تحول الاغترار بالنفس وحب الذات والامتياز على الآخرين إلى« إدراك للوحدةالإنسانية العالية والشعور بالتساوي مع جميع الناس في الهدف أو الوسيلة».

ص: 399

ويرى العلامة الجعفري أموراً من قبيل : العلم والفن والتعليم والتربية والأخلاق والحقوق والاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية بين الناس سيكون لها شكل آخر في الحياة المعقولة. فمن خلال تحقق الحياة المعقولة وحدها يمكن لنا أن نشهد تحوّلا في تاريخ الحياة الطبيعية إلى تاريخ إنساني.

إن الحياة المعقولة تصر على مواكبة حقوق الحياة الطبيعية البحتة وقوانينها، للتعريف بالحقوق والقوانين الموضوعة لإنعاش أرواح البشر، التي تعمل - فضلا عن تعريف الناس بامتيازاتهم وعظمتهم الروحية - على تمهيد طريق الاستفادة منها، وتحويل هذا الإنسان الاعتيادي إلى شخص مثل أبي ذر الغفاري، وتحويل راع يجوب الفيافي إلى أويس القرني، وتحويل شاعر مبتذل إلى الحكيم السنائي، وتحويل كائن غارق في الشر إلى الفضيل بن عياض (1).

العرفان الإسلامي

إن نظرة العلامة الجعفري إلى العرفان وتحليله له، يثبت انفصاله عن العرفان الإسلامي التقليدي. فقد هيمن عرفان ابن عربي وبسط سيطرته على التفكير الإسلامي على مدى قرون وقد بلغت هذه الهيمنة بحيث يتم أحياناً تفسير حتى العرفان السابق على ابن عربي على طبق أفكاره إن الأبحاث التي ساقها ابن عربي في حقل موضوعات من قبيل مرتبة الأحدية والواحدية والفيض الأقدس والفيض المقدّس، والأعيان الثابتة، تشتمل في الغالب على ناحية انتزاعية بحتة، وقلما تترتب عليها آثار عملية. وإن كثيراً من المفكرين المسلمين الذين تحدثوا في باب العرفان لم يذهبوا إلى أبعد مما ذهب إليه ابن عربي في العرفان، وكانوا مجرد شراح لأفكاره، ولم يأتوا بنظريات جديدة في هذا الشأن. أما العلامة الجعفري فإنه فيما يتعلق ببحث العرفان لا يروم اجترار الكلمات ذاتها، وإنما يسعى إلى تقديم عرفان لا يتعارض مع الشريعة - فيكون مضطراً بعد ذلك إلى تقديم تبريرات فلسفية وعرفانية - وليس عرفاناً لا ينطوي على ثمار ونتائج ملموسة للإنسان المعاصر. فهو يسعى إلى تقديم عرفان

ص: 400


1- المصدر أعلاه، ص 78-8

منبثق عن صلب الشريعة ويشتمل على جميع الأبعاد الفردية والاجتماعية للإنسان أيضاً. وإن أبحاثه تصبّ غالباً في التفسير الفلسفي لهذا النوع من العرفان.

يرى العلامة الجعفري أن العرفان طريقة تعمل على تفتح شخصية الإنسان، وتجعله يتذوّق طعم اتصال الذات الملكوتية بالله سبحانه وتعالى. إن تعريف سماحته للعرفان يبين اختلاف رؤيته عن الآخرين في هذا الشأن بوضوح. وقد قال في تعريف العرفان:

إن العرفان الإسلامي عبارة عن : الانتشار والإشراف النوراني للأنا الإنسانية على جميع عالم الوجود، في إطار تواجد هذه الأنا في جاذبية الكمال المطلق الذي يؤدّي إلى لقاء الله(1).

يرى سماحة العلامة الجعفري أن هناك جماعات عدة تتحدّث عن العرفان، وأن عدم الفصل بينها يؤدي إلى فهم خاطئ للعرفان:

- الجماعة التي تقف في الحد الأعلى من الإنسانية. إن هؤلاء الأشخاص فضلا عما يمتلكونه من المعرفة العالية في مورد أنفسهم والوجود، يقيمون أعلى أنواع الارتباط بمبدأ الكون والوجود وفي الوقت نفسه لا يقطع هؤلاء ارتباطهم بالمجتمع أبداً. وعليه يمكن تسمية هذا النوع من العرفان ب- (العرفان الإيجابي).

- الجماعة التي تعجز عن معرفة عالم الوجود ونفسها، ولا تقيم ارتباطاً صحيحاً الله، وكذلك من أجل الهروب عن منغصات الحياة تؤثر الانطواء على نفسها، وتقنع بإلهاء نفسها بالمتع واللذات المحدودة والعابرة. وعليه يمكن تسمية هذا النوع من العرفان ب- (العرفان السلبي).

-جماعة من أصحاب الذوق والبهجة من الذين يبلغون ذروة الهيام بسبب ظهور حالات الروح الجميلة في ارتباطها مع الوجود الذي ينطوي على غاية المتعة، ولا

ص: 401


1- محمد تقي جعفري، عرفان اسلامي ص ،13 نشر دانشگاه صنعتي شريف، 1371 ه- ش

يريدون من العرفان شيئاً غير هذه الأصول الروحية العذبة»(1). وعليه يمكن تسمية هذا النوع من العرفان ب- (عرفان أهل الحال).

وقد تحدّث العلامة الجعفري عن كل واحد من هذه الأنواع الثلاثة من العرفان ،بدقة، ومن خلال بيان خصائص كل واحد منها ، يسوق بعض المعايير كي يتم التمكن من تمييز العرفاء الحقيقيين من العرفاء المتظاهرين فإن العرفان الإيجابي على سبيل المثال يشتمل على الخصائص الآتية:

في هذا النوع من العرفان لا يتم احتقار الذات، وبدلاً من إحراق الذات،تتم دعوة الأفراد إلى بناء أنفسهم.

-في هذا النوع من العرفان - إلى جانب الالتفات إلى الآثار التخريبية للأنا الطبيعية وضرورة التخلص منها - يتم التأكيد على قدرات الإنسان للوصول إلى التنمية والكمال أيضاً.

في هذا النوع من العرفان لا يوجد تضخيم للذات ولا تقزيم لها.

- لا يقتصر تفكير الأشخاص على إنقاذ أنفسهم، بل يرون أنفسهم مسؤولين عن مصير الآخرين أيضاً.

- إن الشعور بالتكليف عن وعي وإدراك، ومن دون توقع الأجر والثواب أو الخوف من العقاب، يمثل عاملاً رئيساً في تحرر الروح من مخالب الأهواء والنزوات الحيوانية.

- يقوم نشاط السالك في ضوء التعاليم الإلهية واتباع هدي الأنبياء.

- إن العارف الحقيقي هو الذي يعد نفسه سالكاً في طريق الهداية دائماً، ولا يعدّ

نفسه واصلاً أبداً.

ص: 402


1- محمد تقي جعفري، ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج 14، ص 191.

-حيث يتمتع العارف الحقيقي باستقلال شخصيته، لذلك يكون فوق رضا الناس وإنكارهم فلا تزيدهم كثرة الأتباع والأنصار عزّة، ولا يؤدي تفرّق الناس عنهم إلى خوفهم وتراجعهم عن مبادئهم.

- إن العارف لا يرى الدنيا وهماً ولا ينهمر عليها بسيل الشتائم، وإنما يراها خير مكان للصدق والعثور على الحقيقة والواقعية.

- إن العارف على كرسي السلطة يحمل ذات شخصيته وروحه في محراب العبادة. ولا يتوقع من الناس أن يتقدموا له بالشكر والتقدير.

-إن الازدهار والبريق الحاصل من الحالات العرفانية لا يقف سداً أمام سلوكه.

-إن هدف السالك هو الوصول إلى الحق لا تحقيق الكشوف والكرامات.

يعد النظم والانضباط واتباع القانون - في العرفان الإسلامي - ضرورياً في جميع شؤون الحياة. وفي هذا العرفان يتم نبذ الفتوة .والملامتية إن السالك يعدّ الدنيا ميداناً للسبق والتسابق نحو الخيرات. وإن كل سعي ونشاط من أجل إصلاح الحياة المادية والمعنوية يمثل نوعاً من العبادة والطاعة بالنسبة إلى السالك. إن العرفان الإسلامي لا يقف موقف الحياد تجاه السلطة والسياسة. إن الإنسان العارف يعمل على ضبط السلطة وتعديلها في مسار جاذبية الكمال، ويعمل على توظيفها في إدارة الحياة الاجتماعية للأفراد. إن العرفان يستوجب الحيلولة دون تحوّل السياسة إلى آلة بيد أنصار النزعة الميكافيلية. إن العارف يرى من واجبه القيام على خدمة الأفراد وتحسين وضع المجتمع، وليس الابتعاد عنه واعتزاله وإن العلم والعقل حيث يعملان على توجيه العارف نحو الحقائق يعدّان من عناصر التنوير بالنسبة له. كما يمثل الجهاد ومقارعة أعداء الله أصلاً أساسياً في العرفان الإسلامي.

وفي الحقيقة فإن العلامة الجعفري يسعى إلى تقديم وتبيين ذلك النوع من العرفان الذي ينفع الناس أيضاً. فإن هذا النوع من العرفان لا ينزع إلى الخصومة مع الدنيا

ص: 403

والناس. بل هو مرتبط بالاقتصاد والإدارة والسياسة والجهاد، ولا يقتصر على مجرد الأبعاد الفردية والأخلاقية المحضة فقط.

إن هذا العرفان يرى أن الاهتمام بتضميد جراح شخص مريض، لا يختلف عن ذكر الصوفي عندما يهتف في جوف الليل وجنح الظلام بذكر( الله حي الله حي) فكلاهما عنده عمل صالح. أجل إن العارف يرى في وضع صمولة أو لولب في الموضع المناسب من آلة مفيدة للمجتمع البشري، أو حراثة الأرض من أجل زراعة البذور الضرورية لحياة الناس، أو الانحناء في المختبرات للتدقيق في أجزاء وروابط الكائنات الطبيعية، ذات ما يراه في النظرة المقدسة للطالب إلى معلمه، فهذه الأمور بأجمعها من قبيل العبادة التي تعبر عن الاتصال المباشر مع الله سبحانه وتعالى(1).

الإسلام وحقوق الإنسان

لقد كانت المقارنة بين الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان محط اهتمام دائم من قبل علماء المسلمين. حيث كتبوا آراءهم في هذا الشأن على شكل مقالات أو كتب ومؤلفات مفردة.

وكان من بينهم العلامة الجعفري من خلال تأليفه كتاباً مستقلاً يعد هو الأهم في تناول هذا الموضوع . وبذلك يكون قد أدلى بدلوه من خلال بيان بعض آرائه في تدوين الإعلان عن حقوق الإنسان في الإسلام أيضاً.

يرى العلامة الجعفري أن الحديث عن الحقوق العالمية للإنسان إنما يكون ممكناً فيما لو تم تفسير الإنسان في إطار القيم. وبعبارة أخرى: يجب أولاً أن نحدد ما هو مرادنا من الإنسان؟ فهل المراد هو الإنسان المستذئب، أم هو ذلك الكائن الذي أوجده الله على هذه الأرض بحكمة البالغة، وأن كل من أهانه أو تجاهل حقوقه يكون قد حارب المشيئة الإلهية ؟إن القاعدة التي تقوم عليها حقوق الإنسان في الغرب هي قاعدة التعايش السلمي المقرون بالسلام والحرية والعدالة في العالم.

ص: 404


1- محمد تقي جعفري، عرفان اسلامي ص 2 - 81 نشر دانشگاه صنعتي شريف، 1371 ه- ش .

وهذه القاعدة رغم أهميتها لا يمكنها أن تجمع الناس بوصفهم أفراداً لأسرة واحدة.

يرى العلامة الجعفري أن تدوين منظومة حقوقية على شاكلة الإعلان العالمي الحقوق الإنسان لا يعني بالضرورة تطبيقه على أرض الواقع. فإن تطبيق أي نوع من أنواع الأنظمة الحقوقية يقتضي أولاً رفع التفرقة والمحاباة بين الناس، ثم العلم على إعداد الأرضية لتطبيق تلك الأنظمة من زاوية التربية والتعليم. ومن هنا نجد الإسلام قد وضع سلسلة من القواعد الأخلاقية المشتركة بين جميع الناس تمهيداً لتطبيق القوانين الحقوقية . ويجب أن يتعلم الناس أن هناك - فضلا عن الحقوق الضامنة للتعايش السلمي الطبيعي بين الناس- حقوقاً للحفاظ على أرواحهم أيضاً. فما لم يدرك الناس أهمية القيم المتعالية وضرورتها، لن يعدّوا أنفسهم أعضاء في أسرة بشرية واحدة. ومن هنا فقد أكد الإسلام على حقيقة التآخي بين البشر وأنهم أعضاء أسرة واحدة من خلال بيان أن جميع الناس عيال الله فما لم يقم الاحترام المتبادل بين أبناء البشر لن يكتب التحقق للحب المتبادل بينهم. وما لم يعمل الناس على ضبط أهوائهم ولم يكبحوا نزواتهم وشهواتهم، لن يكتب التحقق لحقوق الإنسان العالمية. وعلى الناس أن يدركوا أن تعديل وضبط رغباتهم وأهوائهم ليس أسطورة لا تقوم على أساس من الحقيقة والواقع.

إن وضع وتنظيم هذا النوع من الحقوق المثالية للناس الذين لا يتم توجيه أدمغتهم وأرواحهم غير إدارة الحياة الطبيعية البحتة والازدهار ضمن أبعادها، يشبه بناء عمارة شامخة وفخمة على فوّهة بركان(1) .

يرى العلامة الجعفري أن التطابق بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان من وجهة نظر الغرب تصل نسبته حتى إلى(2)80٪. «إن الحقوق العالمية للإنسان قد تم الأمر بها في التعاليم الإسلامية على نحو صريح وحاسم». هناك كثير من المشتركات بين حقوق الإنسان في الإسلام وما ورد في الإعلان العالمي لحقوق

ص: 405


1- محمد تقي جعفري تحقیق در دو نظام جهاني حقوقي بشر، ص 66
2- انظر: محمد تقي جعفري، تكابوي اندیشه ها ص 391 دفتر نشر فرهنك اسلامي، 1373 ه- ش .

الإنسان، ويمكن لنا أن نرصد من بينها المسائل الآتية:

1 - لقد تم أخذ الحق في الحياة في كلا النظامين بجدية. فكلا النظامين قد أخذ بنظر اعتباره الحق في الحياة اللائقة والحق في الحرية والأمن، وحظر التعذيب، ومنع جميع أنواع الظلم والسلوك المخالف للشؤون الإنسانية. وللإسلام ميزة اعتبار الحياة هبة ونعمة من الله، وهذا لوحده يمثل ضمانة تطبيقية لوجوب المحافظة عليها. يضاف إلى ذلك أن الإسلام يحظر على الفرد أن يتلف حياته أو يضرّ بها، وهو أمر لم تأخذه حقوق الإنسان في الغرب بنظر الاعتبار.

2 - كلا النظامين يأخذ بنظر الاعتبار حق الإنسان في الحيثية والكرامة. بيد أن الإسلام يرى أن الكرامة الذاتية للإنسان ناشئة من عناية الله الخاصة به، في حين لا نجد لهذا الأصل تفسيراً منطقياً من وجهة النظر الغربية. مضافاً إلى أن الإسلام قد أخذ بنظر اعتباره - خلافا لما عليه حقوق الإنسان في الغرب - حق الحياة للناس في بيئة صالحة وسليمة من الناحية الأخلاقية.

3 - لقد اهتم كلا النظامين بأمر التربية والتعليم واعتبراه من الأصول التي يتعين على المسؤولين في المجتمع .يضطلعوا بتحقيقه. بيد أن حقوق الإنسان في الإسلام قد اهتمت - إلى جانب ذلك - بالأمور المعنوية والروحية للإنسان أيضاً، وهو أمر لم تشر له حقوق الإنسان في الغرب من قريب أو بعيد. يضاف إلى ذلك أن الدعوة إلى الخير والكمال تعدّ من الحقوق الهامة للناس في الإسلام، وأن على وسائل الإعلام أن تعمل في خدمة تكامل الإنسان وتعاليه، لا في خدمة الشهوات الفردية والنزوات الشخصية.

4 - لقد عدّ كلا النظامين حق الحرية من الحقوق الأساسية للإنسان. وبطبيعة الحال فإن الإنسان لا ينظر إلى هذا الحق الثابت بوصفه هدفاً وغاية في حدّ ذاته، وإنما هو وسيلة لوصول الإنسان إلى الحياة المعقولة. ولا يقتصر تحديد حرية الإنسان وتقييدها بعدم إلحاق الضرر بالآخرين، بل يتوسع الإسلام في ذلك حيث

ص: 406

يقيد الحرية بالعوامل التي تؤدي إلى إعاقة نمو كمال الإنسان أيضاً.

لقد أثبتت المادة التاسعة عشرة من حقوق الإنسان في الغرب حرية التعبير وحرية المعتقد بوصفهما حقاً ثابتاً لجميع الأفراد وفي جميع الأحوال من دون قيد أو شرط. إن هذا الحق بهذا الإطلاق والتعميم المذكور له سوف يتعارض في نهاية المطاف مع حق الكرامة وحق الشرف والحيثية التي سبق أن أثبتناها للإنسان، وبذلك سيقع التزاحم فيما بين هذين الأصلين لا محالة(1).

5 - يقدّم العلامة الجعفري تحليلات دقيقة حول الحرية. وذلك حيث يقوم أولاً بتحليل مفهوم الحرية . ويرى وجود فرق بين الحرية والتحرّر . والتحرر من وجهة نظره عبارة عن رفع القيود أو الأغلال والسلاسل أو أي عائق يقف سداً أمام الإرادة. وأما الحرية فلها مرتبتان:

أ - الحرية الطبيعية البحتة وهي عبارة عن اختيار هدف أو وسيلة بعينها من بين مختلف الأهداف والوسائل المتنوّعة. وهذه الدرجة من الحرية أعلى من التحرر الذي يعني رفع القيود والموانع الماثلة في طريق الإرادة.

ب - الحرية المصعدة. وهي عبارة عن إشراف وسلطة الشخصية على قطبي الإيجاب والسلب في «العمل». وعلى أساس هذا التعريف كلما كانت سلطة الشخصية على قطبي الإيجاب والسلب أكبر ، كانت حرية الفرد أكثر .

ويرى العلامة الجعفري أن الحرية على ستة أنواع وهي:

1 - حرية المعتقد.

2 - حرية التفكير .

3 - حرية التعبير والتبليغ .

ص: 407


1- المصدر أعلاه، ص 464

4 - حرية التصرّف والسلوك.

5 - حرية ممارسة السياسة.

6 - الحرية من جميع أنواع الاستعباد.

1 - حرية المعتقد: يرى العلامة الجعفري أن لكل إنسان معتقداً يعتنقه؛ إذ إن كل شخص يجب أن يكون قد بلور لنفسه تفسيراً للحياة. فحتى ذلك الذي يدعي أنه يعيش مجرّداً من أي عقيدة، يكون ادعاؤه هذا نوعاً من الاعتقاد. وعلى الرغم من ندرة أن يغير الفرد عقيدته طوال حياته، ولكن لو كان تغييره لعقيدته عائداً إلى جذور تنتمي إلى الحقائق السامية، كان ذلك مؤشراً على تقدمه على المستوى الروحي. وإن متعلق العقيدة هي الحقائق المرتبطة بعالم الوجود، والإنسان وضروراته ومتطلباته وكفاءاته.

2 - حرية التفكير: من الضروري التفكير بشأن الحقائق ذات الصلة بالإنسان والعالم. إن التفكير يجب أن يوظف في إطار الحياة المعقولة، من دون أن يتعرض لمقص الرقابة. إن التفكير بشأن عالم الطبيعة والأبعاد الطبيعية للإنسان يجب أن لا يخضع لأي قيد أو شرط، إلا في بعض الموارد، وذلك عندما تكون نتائج هذا التفكير مضرة بحال أفراد المجتمع. وللحيلولة دون اختلال عقول أفراد المجتمع وأرواحهم، وتجنّب التخبّط في الأوهام يجب أن يكون هناك قانون مفاده:جعل الاكتشاف ومعرفة الحياة المعقولة للناس غاية في الحياة المعقولة والهادفة».(1)

3 - حرية التعبير والتبليغ : إن هذا النوع من الحرية يجب أن يكون معقولاً. فلا يمكن القبول بالحرية على نحو مطلق. وقد اشتهر عن فولتيير قوله: «إنني اختلف معك في ما تقوله، ولكني على أتم الاستعداد إلى التضحية بنفسي من أجل أن تتمكن من قول ما تشاء بحرية ».

وقد قال العلامة الجعفري في نقد هذه العبارة: لست أدري ما هي القيمة التي

ص: 408


1- محمد تقي جعفري حكمت أصول سياسي اسلام ص ،375 نشر بنیاد نهج البلاغة، 1369 ه-.ش.

يراها فولتيير لنفسه وحياته كما أني لاأعلم إذا كان ما يقوله ذلك الشخص -الذي يختلف معه - يؤدي إلى إهدار حقوق الناس والحرية واحدة منها، هل كان فولتيير يسترخص التضحية بحياته من أجل السماح لذلك الشخص بأن يطلق حممه البركانية على هشيم أرواح الناس وأذهانهم بغية إتلافها ؟ !»(1) .

إن بيان الحقائق المفيدة بحال الناس لا يجب أن يُسمح بها فحسب، بل يجب تجريم من يبخل بها على الناس. بل إن حرية التعبير إنما تشكل معضلة إذا «كانت تخل بالأصول والقيم الإنسانية الحقيقية، وتعمل على إضلال العقول وتسميمها».

4 - حرية السلوك والتصرّف : يقال في العالم الغربي: «إفعل ما شئت، ما دمت لا تعتدي على حقوق الآخرين». يقول العلامة الجعفري: اذ إن رغبات الناس وميولهم قد لا تتوافق دائماً مع العقل السليم، ولا تطابق الحقائق أبداً، من هنا فإن قيد عدم الإضرار بحقوق الآخرين لا يؤثر كثيراً في تحديد حرية الأفراد. كيف يمكن إقناع الشخص الذي لا يؤمن بأي حق أو قانون لنفسه، أن يحترم حقوق الآخرين وقوانينهم. فالإنسان المتكبر والمغرور لا يعترف بمفاهيم من قبيل : حق الحياة والكرامة والحرية، فضلاً عن مراعاتها في حق الآخرين.

كما يجب تقسيم حرية التصرّف والسلوك إلى نوعين هما: حرية السلوك المعقول، وحرية السلوك غير المعقول. فإذا كان سلوك الفرد لا يستند إلى أي أصل قانوني أو ميول طبيعية قانونية، سيكون سلوكاً غير معقول.

5 - الحرية في ممارسة السياسة : إن هذا النوع من الحرية يقوم على أصلين هما:

أ - إن لكل شخص حريته وإرادته السياسية.

ب - لا يمتلك أي شخص سلطة وإرادة سياسية على غيره.

إن لكل إنسان حريته في تحديد خياراته وحياته ونشاطه، إلا إذا كان هناك محذور

ص: 409


1- المصدر أعلاه، ص 376.

قانوني يمنعه من ذلك من قبيل الإضرار بنفسه أو غيره.

6 - الحرية من جميع أنواع الاستعباد : لقد كانت هذه الظاهرة مطروحة في العصور الماضية والأزمنة الغابرة، وقد عدّها بعض الفلاسفة والمفكرين - من أمثال : أفلاطون وأرسطو طاليس - قانوناً اجتماعياً. من هنا كانت ظاهرة الاستعباد مسألة متجذرة طوال التاريخ. وقد قام نبي الإسلام (صلی الله علیه وآله وسلم) بمحاربتها واجتثاثها من خلال وضع مخطط تدريجي بعيد الأمد. ولو كان النبي قد خطط للقضاء على ظاهرة الاستعباد بضربة واحدة مستعجلة، لكان قد أضر بالنظام الاقتصادي والاجتماعي برمته، ولا يخفى أن من شأن هذا الحل أن يقوّض نظام الدولة والمجتمع بأسره. وقد تحدّث العلامة الجعفري عن الأساليب التي اعتمدها النبي الأكرم (ص) في إطار القضاء على ظاهرة الاستعباد.

العلمانية

إن العلمانية تعني فصل الدين عن السياسة أو الانحياز إلى الأصول الدنيوية والعرفية. والعلمنة تعني جعل الأمور دنيوية وغير روحانية.

يرى العلامة الجعفري أن ظهور العلمانية في العالم الغربي يعود إلى التعارض الشديد بين رجال الكنيسة وأصحاب المناصب السياسية والاجتماعية. وإن اعتبار المستبدين وأصحاب السلطة أنفسهم فوق المسؤولية والقانون، وأن العلم والحرية تعارض الدين الإلهي شيء آخر لا ربط له بأصل الدين. وإذا كان العالم الغربي قد شهد اليوم تطوراً على المستوى العلمي والتكنولوجي، فإن السبب في ذلك«لا يعود إلى استبعاد الدين الإلهي والفطري عن المجتمع، بل هو معلول لاستبعاد صناع الدين الذين صاغوا دينا منسجماً مع أطماعهم الشخصية، وأخذوا يفسرون الدين الإلهي- الذي جاء لهداية الإنسان- على وفق أهوائهم ورغباتهم(1).

يرى العلامة الجعفري أن هناك في الغرب المعاصر فهماً خاصاً للدين والسياسة هو

ص: 410


1- محمد تقي جعفري، ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج 25، ص 68.

الذي أدى إلى الفصل بينهما. فحالياً يعدّ الدين في الغرب عبارة عن : «العلاقة الروحية القائمة بين بين شخص وبين الله وسائر الحقائق ما فوق الطبيعية الأخرى، من دون أن يكون لهذه العلاقة أي تأثير أو دور في الحياة الدنيوية للناس. وأما السياسية فهي بدورها عبارة عن توجيه وإدارة دفة الحياة الطبيعية للناس على الساحة الاجتماعية نحو الأهداف التي تم تحديدها من قبل أكثرية أفراد المجتمع بحسب الظاهر(1) .

طبقاً للمعاني المتقدمة التي ذكرناها من وجهة نظر الغرب الراهن للحياة والدين والسياسة، لامحالة أن الدين لن يكون منفصلاً عن السياسة فحسب - إذ لا شيء من هذين المفهومين له صلة بالآخر - بل إن حياة الإنسان بدورها لا ربط ولا حاجة لها بالدين إطلاقاً، إلا في حدود اعتبار الدين وسيلة لإشباع متطلبات الأنا(2).

أما في الإسلام فالدين مرتبط بالسياسة؛ إذ أولاً : إن الدين مشتمل على مجموعة من القوانين والبرامج العملية في حياة الإنسان لبلوغ الهدف الأسمى من الحياة. وثانياً: إن السياسة من وجهة نظر الإسلام عبارة عن : تفسير وإدارة حياة الإنسان للوصول إلى أفضل الأهداف المادية والمعنوية وأسماها . وفي الحقيقة هناك وحدة وتناغم في الإسلام بين جميع شؤون الحياة الإنسانية. وبعبارة أخرى إن كل ما يدخل بنحو من الأنحاء في تنظيم الحياة الإنسانية وإصلاحها ، يُعد جزءاً من الدين الإسلامي.

إن التناغم بين الدين والسياسة والقانون وسائر الشؤون الداخلة في إدارة الحياة البشرية، تمثل أجزاء مكوّنة لحقيقة واحدة عنوانها الدين(3).

بالالتفات إلى رؤية الإسلام إلى الدين والسياسة، فإن العلمانية التي تعني فصل الدين عن حياة الناس الدنيوية، سوف تؤدي إلى حدوث الاختلال شخصية الإنسان. فإن عدم حضور الدين في جميع أبعاد حياة الإنسان سيؤدي إلى «تجزئة حياة الإنسان وشخصيته وشطرهما إلى قطعتين دنيوية وأخروية». يرى العلامة

ص: 411


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 70.
2- المصدر أعلاه
3- المصدر أعلاه، ص 76

الجعفري أن فصل الدين عن الحياة الاجتماعية للبشر أو العلمانية في الغرب، قد أدى إلى تزعزع الأصول والقيم الآتية:

- توضيح وتفسير الحقيقة والجذور الأصلية للجمال المحسوس والمعقول.

-العدالة بمعناها الحقيقي.

-الحرية الشخصية إلى أعلى درجات الاختيار.

-الإيثار والتضحية في سبيل خدمة الأفراد.

-الإحساس بالوحدة السامية للناس.

-الإجابة عن الأسئلة الستة الرئيسة، وهي من أنا ؟ من أين أتيت؟ إلى أين أتيت؟ مع من أكون؟ لماذا أتيت؟ إلى أين أذهب؟).

- صفاء الوجدان وهيمنته على الإنسان.

-الشعور بالمسؤولية والواجب المنشود.

-الأخوة والمساواة بين جميع البشر .

في الإسلام تعدّ «جميع شؤون الحياة الدنيوية - كما هو الحال بالنسبة إلى شؤون الحياة الأخروية - مشمولة للحقوق والأحكام الدينية». إن مساحة الدين من وجهة نظر العلامة الجعفري واسعة وإن إدارة الحياة الدنيوية للناس ممكنة للدين في كل عصر وزمان. يشتمل الدين على كثير من الأصول والقواعد التي تلبي الاحتياجات الفردية والاجتماعية للإنسان في طريق الوصول إلى الحياة المعقولة. وهو يرى أن الفقه الإسلامي واسع جداً، ويذكر أن هذا الفقه يتجاوز ثلاثة وعشرين نوعاً. من قبيل : الفقه العبادي، وفقه الأحوال الشخصية، وفقه المعاملات والعقود والإيقاعات، وفقه العلاقات الدولية وفقه الإدارة وفقه الجهاد والدفاع، وفقه الحقوق الجزائية،

ص: 412

وفقه المسائل الطبية(1)، وما سوى ذلك. وإذا كان الفقهاء الشيعة حتى المرحلة الأخيرة لم يحققوا في الأصول والمسائل السياسية في الإسلام إلا نادراً، فمردّ ذلك يعود إلى أن الظروف لم تسمح لمدرسة التشيع بالظهور العملي في مثل هذه المسائل».

المتوقع من الدين

لكي نفهم السبب الذي يدفع بالفرد إلى التوجه نحو الدين، وما الذي يتوقعه من الدين، علينا أن نعمل على تحليل مفهوم الدين والحياة. وفيما يتعلق بالحياة يجب الالتفات إلى وجود نوعين من الحياة للإنسان:

أ - الحياة الطبيعية والاعتيادية التي تشتمل على الإحساس والحركة والتناسل وما سوى ذلك. وفي هذا النوع من الحياة تصبّ جميع النشاطات الإنسانية في خدمة الأنا الطبيعية وإشباعها.

ب - الحياة المعقولة التي تمثل الصراع الواعي من أجل بلوغ الكمال. وهو بطبيعة الحال «ذلك الكمال المطلق الذي تعمل نسمة من محبته وجلاله على إطراب حقائق الوجود، وتضرم نوراً في منعطفات طريق تكامل المادة والمعنى».

والدین بدوره عبارة عن مجموعة من التعاليم الشاملة للاعتقاد بالله وإشرافه على عالم الوجود، وبرنامج حركة الإنسان نحو الكمال المطلق. وهذا البرنامج يشتمل على الأخلاقيات والأحكام الفقهية أيضاً. والأحكام الفقهية تحدد العلاقات الأربعة الآتية: علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان ،بالله وعلاقة الإنسان بعالم الوجود، وعلاقة الإنسان بأخوته في الإنسانية.

وبالالتفات إلى تعريف الحياة المعقولة، يتحدث العلامة الجعفري عن ضرورة الدين من خلال الأدلة الآتية:

- لا يمكن أن يكتب التحقق للحياة المعقولة من دون اتباع الدين.

ص: 413


1- انظر: المصدر أعلاه ص 6 - 125

- إن الإجابة عن أسئلة الحياة الأساسية، وهي من أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين أتيت؟ مع من أكون؟ لماذا أتيت؟ إلى أين أذهب؟)، لا تكون إلا من خلال الدين.

- لا يمكن إثبات أي فضيلة أو قيمة أخلاقية من دون حضور الدين في حياة الإنسان.

- لا يمكن ضبط التنازع من أجل البقاء -المتبع من قبل الأقوياء على الضعفاء - من دون الرجوع إلى الدين.

-من دون حضور الدين في حياة البشر ، سوف يزول الشعور المنشود للإنسان بشأن عظمة عالم الوجود».

-لا يمكن «تقديم تفسير الجمال المحسوس والمعقول، وتتبع جذوره» من دون استحضار الدين.

-إن الدين عنصر قوي وحافظ ل- «الشعور الخالص بشأن التكليف المنشود»(1) .

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بأن الدين يلبي حاجة الإنسان في كل عصر وزمان ومن وجهة نظره تنقسم احتياجات الإنسان إلى مجموعتين:هما:

أ - الاحتياجات الثابتة التي ترتبط ب-«الهوية القانونية والطبيعية للإنسان من قبيل: الحاجة إلى العلم والحرية والكرامة، وصحة البدن.

ب - الاحتياجات المتغيرة والمرتبطة ب-« اتساع الأبعاد الحقيقية للهوية القانونية والطبيعية للإنسان». من قبيل: الحاجة إلى العلاقات الدولية، والتنوّع التكنولوجي. وفيما يتعلق ببحث الاحتياجات يذهب العلامة الجعفري إلى التأكيد على أن بعض احتياجات الإنسان مصطنعة. وحيث يقوم الإنسان باختلاق حاجاته المصطنعة، لا يجد مندوحة من «وضع الحقوق والقوانين الخاصة بتلك الاحتياجات وتدونها». وإن الدين لا يلبي تلك الاحتياجات .

ص: 414


1- انظر: محمد تقي جعفري، فلسفه دین (فلسفة الدين)،ص 120، نشر: پژوهشگاه فرهنگ و انديشه اسلامي، 1375 ه- ش.

«إن حاجة الإنسان فيما يتعلق بصلاته الأربعة وهي: صلته بنفسه، وصلته بخالقه، وصلته بعالم الوجود، وصلته بأبناء جلدته، لايطالها تغير جوهري. وإنما الذي يطاله التغير هو الذي يؤدي إلى وجود الاحتياجات من الدرجة الثانية والثالثة، أو الاحتياجات المصطنعة التي يتم فرضها على الحياة الاجتماعية للإنسان من قبل عناصر من خارج الحياة المعقولة»(1).

يذهب العلامة الجعفري إلى الاعتقاد بسعة الفقه الإسلامي؛ ذلك لأن هذا الفقه لا ينحصر ببيان العلاقة الشخصية بين الإنسان وخالقه (والعبادة)، بل يشمل جميع أعمال حياة الإنسان وشؤونها. ومن هنا فإنه يتحدّث عن أقسام الفقه وأنواعه، من قبيل فقه السياسة، وفقه الحقوق، وفقه القضاء، وفقه العلاقات الدولية، وفقه الإدارة، وفقه الاكتشافات وما سوى ذلك .

يرى سماحته أهمية كبيرة لفهم الفقهاء في استنباط الأحكام الإسلامية، ويؤكد كثيراً على الشم والذوق الفقهي في فهم الأحكام الشرعية.

«يجب البحث عن المصدر الرئيس للكمال الفقهي واكتمال النظام الحقوقي والأحكام في الكتاب والسنة والإجماع والعقل رغم أن الاطلاع على فهم الفقهاء ونتائج استنباطاتهم من المصادر الأولى يساعد على زيادة الوعي والاطلاع والإحاطة بمختلف أبعاد القواعد المتنوّعة والمسائل الفقهية وجوانبها . لا سيما بالالتفات إلى أن الذوق الفقهي للفقهاء يفتح أحياناً باباً قيما في مسار الاستنباطات»(2).

ويذهب العلامة الجعفري إلى القول بأن الفقه الإسلامي يشتمل على بعد طليعي وبعد تبعي. اذ يرى أن الفقه الإسلامي من حيث تلبية الاحتياجات المادية والمعنوية الثابتة للناس فقهاً طليعياً، وأما من حيث التبعية لموضوعات وشؤونها الحياة فهو فقه تبعي.

ص: 415


1- المصدر أعلاه، ص .181
2- المصدر أعلاه، ص 148

كما يلتفت العلامة الجعفري إلى الآفات التي يتعرّض لها الفقه أيضاً. ويرى أن

منافذ الآفات التي تتعرّض لها الأنظمة الفقهية والحقوقية تكمن في الموارد الآتية:

- كيفية الاستفادة من النصوص.

-النزعة المفرطة إلى كل ما هو قديم.

- ثقة الفقيه المفرطة باستنباطاته.

- عدم التفات الفقيه إلى حدوث التغير في الموضوعات.

الخضوع المفرط بدلا من الشعور بالاحترام المعقول تجاه الفقهاء والحقوقيين.

- عدم الالتفات إلى العلل والدوافع والأذواق الفقهية والحقوقية.

وقد أكد العلامة الجعفري على التحقيقات التخصصية في حقل الموضوعات ،بشدة من ذلك قوله :

«يقع تحديد الموضوعات والعلاقات وطرق تطبيق الموضوعات على الموارد وسائر الأمور التخصصية الموضوعية في الأبواب الفقهية على عاتق المتخصصين والخبراء الأتقياء، وبعد ذلك يصل الدور إلى الفقهاء حيث يباشرون استنباط الأحكام من المصادر الفقهية»(1) .

ص: 416


1- المصدر أعلاه، ص 188

دراسة نقود السيد أحمد فرديد على الليبرالية الغربية

بقلم: عبد الرحمن حسني فر و عماد أفروغ

بقلم: عبد الرحمن حسني فر (1)

و عماد أفروغ(2)

أ - المقدمة

إن التعبير ب- «المرحلة الجديدة والمعاصرة في مجال تبويب الفكر في العالم الغربي، يحكي عن مرحلة تبلور حضارة اسمها« الحضارة الغربية»، وتغلب «الليبرالية» على سائر المفاهيم السياسية الأخرى. إن أبعاد هذه الرؤية والتيارات الغربية الأخرى قد تسللت إلى البلدان الأخرى ومن بينها إيران تحت مقولة التجديد والحداثة أو أي مفهوم آخر، على صيغة خبرية أو نظرية ، واقعية أو غير واقعية. وحيث أن هذه الآراء والتيارات تمثل نظرية الحضارة الغربية الحديثة»، وبعبارة أخرى: «النموذج والمثال العملي» في الحضارة والعالم الغربي في المرحلة المعاصرة، تمت مواجهته في البلدان الأخرى - غير البلدان الغربية التي تعدّ جزءا من التاريخ والتيار الغربي - بردود فعل إيجابية أو سلبية . بمعنى أن بعضهم تماهى معها وارتضاها وبعض الآخر وقف إلى الضد منها وقام بنقدها ونفيها. وهناك من قدم رؤيته التقليدية الخاصة عطفاً على العناصر والتعاليم الجديدة. ونحن في هذا المقال نسعى بأسلوب توصيفي - تحليلي إلى مناقشة آراء السيد أحمد فرديد الناقدة للغرب بوصفه واحداً من الذين تعاطوا مع الغرب ومع الأبعاد

ص: 417


1- عضو اللجنة العلمية في مؤسسة العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية للبحوث والتحقيقات .(hassanifar@yahoo.com)
2- الأستاذ المتقاعد من مؤسسة العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية للبحوث والتحقيقات. تعريب علي حسن مطر.

الليبرالية؟ وسوف نبين خلال هذا البحث - ضمنياً - أن اتجاه فرديد ينطلق من المعارضة للغرب، بمعنى أنه يصدق على آرائه الإطار الفكري المخالف للغرب وكل ما يأتي من الغرب أو يقترن بالصفة الغربية. ثم سنقوم - بعد بيان مفهوم الغرب ومحاربة الغرب والليبرالية - بمناقشة أفكار السيد أحمد فرديد ونقدها.

ب - ماهية الغرب

يذهب الأستاذ (داوري) إلى الاعتقاد قائلاً:« إن الغرب ليس في مكان، بل هو مكان وفضاء للأشياء» (1) . وقال في موضع آخر: «لقد تبلور الغرب من خلال الفكرة القائلة بأن الإنسان كائن يمتلك العلم والإرادة والقدرة ، ولذلك يجب عليه الاستحواذ على كل شيء»(2). وقال أيضا:« إن الغرب عبارة عن مشروع تصطبغ فيه الأشياء والأشخاص والأفكار والأعمال والقصص والسلوكيات والقوانين بصبغة خاصة، وإن هذه الصبغة الخاصة التي تمثل ذات الصناعة الغربية في العلوم والأدب والأعمال والقوانين والأعراف والتقاليد والأشياء والأشخاص و... لا تتعلق بمكان أو فضاء محدد، ولا تختص بقوم دون قوم، وإنما هي معجونة بالفلسفة والعلم والقانون والسياسة والأخلاق والاقتصاد والاعتقاد والسلوك الغالب في الحياة الراهنة» (3) .

وقال الأستاذ (عبد الحسين زرين كوب) في تعريف الغرب: «إن الغرب عبارة عن منظومة جديدة عملت بالدرجة الأولى على جعل الحياة في أوروبا الغربية من خلال الثورة الصناعية وما كان من مقدماتها ولوازمها، معتركاً وساحة للمتغيرات»(4) .

إن الغرب في الجغرافيا والسياسة يتمثل في القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية. أما من الناحية الحضارية والفكرية فهو عبارة عن تيار فكري وفلسفي له مناهجه ومعطياته ونتائجه الخاصة، ومن ضمنها الحداثة أو التجدد والتكنولوجيا والعلم

ص: 418


1- انظر: داوري نظري به عالم متجدد غربي، مجلة : نامه بجوهش، العدد 18 - 19، ص 7، 1379 ه- ش.
2- انظر داوري ما وراه دشوار تجدد ص ،15 نشر ساقي طهران 1383 ه-.ش.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 25
4- انظر: عبد الحسین زرین کوب با کاروان ،حلة ص ،128 نشر سخن طهران، 1373 ه- ش .

الحديث والرقي والاستثمار والاستعمار أيضاً.

وربما أمكن القول بأن بداية تسلل الأفكار الجديدة المنسوبة إلى الحضارة الغربية كانت متزامنة مع الحروب الإيرانية الروسية، حيث تتجلى في الحوار بين (عباس میرزا)و (جوبر) الفرنسي. ويتم وصف هذا الحوار بأنه بداية استعادة الإيرانيين لوعيهم، ومنذ ذلك الحين بدأت الأفكار الغربية بالتسلل إلى إيران، حيث بدأ البحث حول التنمية الفنية والآلية بالنسبة إلى الإيرانيين، ولا سيما في منظومة الدولة بوصفه هدفاً ومطمحاً هاماً. وقد تجلى ذلك في بعض أبعاده على شكل إرسال بعض الطلاب لدراسة العلوم الجديدة، وفي بعض أبعاده ومراحله الأخرى من خلال تكوين التيار المطالب بالملكية الدستورية (المشروطة)، ومن ثَمَّ بدأنا نشهد تغيراً في البنية السياسية وظهور خصائص وشرائط وأدبيات جديدة في مختلف الحقول. فقد تم الحديث عن القانون والدستور والحرية والمساواة والملكية الدستورية (المشروطة) وما إلى ذلك في هذه الفترة الزمنية، ويطلق على هذه الظاهرة الفكرية مصطلح التجدد و«الحداثة» أيضاً. وفي السنوات التي أعقبت تلك الفترة وبعد قيام سلطة البهلوي وسيرها باتجاه الحداثة وسعي رجال الدولة نحو الاستغراب والتبعية للغرب ونفوذ سطوة الغربيين وهيمنة المحاصيل والمنتوجات الغربية في إيران، واستثمار موارد الطاقة والثروات الإيرانية، اشتد تيار المعارضة للغرب في إيران، بحيث نجد شخصاً مثل جلال آل أحمد) يستعمل مصطلح الإصابة بالغرب بدلاً من مصطلح الاستغراب لبيان هذه الظاهرة، إمعاناً منه في إثبات أن التماهي مع الغرب أشبه ما يكون بإصابة الفرد بالجنون(1)

وفي مواجهة هذا التيار الاستغرابي، وبالالتفات إلى سياسات الغرب في منطقة الشرق الأوسط، من قبيل : الدعم المطلق لقيام دولة إسرائيل، والدفاع عنها في مواجهة العرب الذين خالفوا قيام هذه الدولة، ظهر تيار معارض للمعاهدات والسياسات المنسوبة إلى الغرب قاده الجامعيون وعلماء الدين والسواد الأعظم من الناس، وهو

ص: 419


1- انظر: جلال آل احمد ،غربزدگي ص 50 نشر فردوس، ط 7، طهران، 1380 ه- ش.

أمر أدى إلى اشتعال فتيل «الثورة الإسلامية في إيران»، اذ يتمثل بعض أركان ومقومات هذه الثورة بمعارضة ،الغرب، وقد تجلى هذا الركن في شعارات من قبيل: «الاستقلال، والحرية، والجمهورية الإسلامية»، و «لا شرقية، ولا غربية، جمهورية إسلامية».

مكافحة الغرب

هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن مكافحة الغرب ليست ظاهرة جديدة، ولاهي خاصة بالمسلمين ،والعرب بل هي ضاربة بجذورها في التفكير الرومنطيقي الألماني، وفي الاشتراكية الروسية، وفي الشوفينية اليابانية أيضاً. إن أعداء الغرب عبارة عن جماعات متنوعة وغير متجانسة، وتعود نقطة اشتراكها في محاربة الغرب إلى نبذ المادية، والنزعة الاستعمارية، والابتذال الذي تشتهر به الثقافة الغربية. وهناك من أعداء الغرب من يراه فاقداً للخصائص الإنسانية الجوهرية من الأساس. إن أعداء الغرب وإن كانوا يتصفون بالنزعة التقليدية، إلا أن مكافحة الغرب لا تعني النزعة التقليدية، وإنما هي ظاهرة حديثة، وتمثل جزءاً من اتساع رقعة الحداثة.

لقد عمد أعداء الغرب إلى تقبل بعض وجوه الحداثة، ثم قاموا بتعريف أنفسهم بوصفهم في مواجهة جذرية مع الحداثة. إنهم يرون عدم وضوح الحد بين ما هو من الحداثة وما هو على الضد من الحداثة. وإن مكافحة الغرب من قبل العلمانية تختلف عن محاربة الغرب من قبل التيارات الإسلامية والدينية. وإن الطبقة المتوسطة تُعد مركز الحداثة وفي طليعة مكافحة الغرب أيضاً(1). والإشكال الرئيس الذي يرد على هذا التعريف هو أنه قد توسّع كثيراً في تعريف مكافحة الغرب، حيث يشمل الإسلام السياسي إلى الفاشية والاشتراكية والماركسية أيضاً. وهناك من رأى مكافحة الغرب في إيران معادلاً ل- «النزعة التقليدية» (2). وهناك من اختار« النزعة التقليدية المعارضة للتجدد» لهذه الغاية (3) . بيد أن الذي يجب قوله هو إن

ص: 420


1- http://www.Balagh.Net/persian/baztab/lib/baz_5012/.
2- انظر ،قريشي فردين علي شريعتي وغرب اندیش از موضع نوکرائي ديني مجلة : نامه بجوهش، العدد 18 - 19 ص 167، 1379 ه- ش .
3- انظر حسین بشیریه، تاریخ اندیشههای قرن بیستم کتاب لیبرالیسم و محافظه کاری ،تهران، نشر ني. ص 111 1378 ه- ؛ وانظر أيضاً : جامعه مدنى و توسعه ،سیاسی گفتارهایی در جامعه شناسی مؤسسه نشر علوم نوین.

المخالفين للغرب يعدون جزءاً من طيف مخالف للغرب بالكامل. وقد تم اتخاذ ثلاثة مواقف عامة من الحداثة، هي كالآتي:

1 - الاتفاق التام مع «الحداثة» والتجدد.

2 - الاختلاف التام مع «الحداثة» والتجدد.

3 - إمكان الاستفادة من الأفكار والمعطيات الغربية في إطار تحقيق الأهداف الدينية والإيرانية.

والموقف الأول هو موقف( الميرزا ملكم خان) و (حسن تقي زاده)، أما الموقف الثاني فهو موقف (الشيخ فضل الله النوري)، أما الموقف الثالث فهو الذي ذهب إليه (الشيخ محمد حسين النائيني). أما( السيد أحمد فرديد) فهو من الذين خالفوا الغرب، وكان من بين المحاربين للغرب في حقيقة الأمر. ويمكن أن نرصد الخصائص الآتية لمكافحة الغرب:

1 - إن طريق الغرب منفصل عن طريق الإسلام وإيران.

2 - إن النظريات الغربية مخالفة لله ومغايرة للدين.

3 - إن طريق الغرب منحرف عن مسار الحقيقة.

4 - إن السلوك في مسار الغرب يعني السقوط في هاوية الإلحاد ومستنقع اللادينية.

5 - إن عدم اتباع مسار الغرب يمثل أفضل الخيارات في الوصول إلى الهدف، بل

هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك.

6 - إن التعويل على مجرد العقل البشري - وهو ما يفعله الغرب - لن يؤدي إلى سعادة الإنسان، وذلك بسبب نقصان هذا العقل وعدم إحاطته بجميع الحقائق.

ص: 421

د - الليبرالية

ليس هناك معلومة خاصة عن الليبرالية، ولا وجود لأي نص يشير إلى النواة المركزية أو المفكرين الأصيلين في الليبرالية. كما لا يوجد هناك مضمون ليبرالي صريح لا يخلو من الغموض والإبهام. ولكن مع ذلك يمكن القول بوجود مثل هذه الفكرة المركزية، وأنها مبثوثة في مختلف النصوص، وإنها قد تجلت من قبل مختلف المفكرين على أنحاء مختلفة. وإن القرنين المنصرمين مزدحمان بنماذج كثيرة من التجارب الليبرالية. وإن هذا التنوّع لا يعني الاضطراب وعدم التناغم والانسجام، بل يعني وجود مسار متواصل من الأفكار ضمن إطار «الليبرالية» (1).

إن «الليبرالية» على الرغم من قابلية التغيير التاريخية قد تجلت في الغالب على شكل رؤية متناغمة يمكن تحديد أركانها وعناصرها الرئيسة من دون عناء. وعلى هذه الشاكلة يمكن لنا- على سبيل المثال دون الحصر- أن نعد (جون لوك)، و إيمانوئيل كانت وجون ستيوارت میل و( هیربرت سبنسر)، و(جون مینارد كينز)،و(فريدريتش فون هايك)،و (جون رولز) و (روبرت نازك بوصفهم مظاهر الفروع مختلفة تنتمي إلى أرومة وأصل واحد مشترك.

1 - الأصول الليبرالية المشتركة

1 - الحرية: وهي تشتمل على الحريات الآتية: حرية الإنسان وحقه في الحياة، والحرية الفكرية، وحرية الدين والمعتقد، وحرية التعبير وحرية الصحافة، وحرية التجمعات والحرية الاقتصادية للإنسان.

2 - حاكمية الفرد بالنسبة إلى المجتمع.

3 - المساواة في الخلق وفي مختلف الأبعاد الاجتماعية أو المساواة في الحقوق.

4 - المداراة، أو تحمّل المخالفة أو التسامح.

ص: 422


1- انظر أندرو ،فینسنت ایدئولوژیهای مدرن ،سیاسی ص 43 - 48 ترجمه إلى الفارسية مرتضى ثاقب فر : انتشارات ققنوس طهران، 1387 ه- ش

5 - سيادة القانون أو النزعة القانونية.

6 - الدولة المقيّدة أو المشروطة.

7 - سيادة العقل والعلم بوصفه أساساً عملياً.

8 - التطور والتقدم الدنيوي أو الرقي على الأساس التكنولوجي.

2 - الأسس الليبرالية

إن الأسس تختلف عن الأصول، بل إنّ الأسس هي التي تشكل جذوراً للأفكار والأصول التي يمكن بيانها من خلال المحاور الخمسة الآتية: معرفة الإنسان، ،والغايات والوجود، والمعرفة، والمنهج.

3 - النتائج

بعد إحصاء الأسس الليبرالية، يجب - من الناحية المنطقية - البحث في خصوص النتائج المترتبة على ذلك. ولكن حيث لا ضرورة إلى الخوض في نتائج الليبرالية من منطلق النقد المنبثق عن المواقف الإيرانية، ننتقل مباشرة إلى الموضع التالي من هذا المقال.

ه-- آراء السيد أحمد فرديد

1 - رأي السيد فرديد حول الغرب

لقد تحدّث السيد(أحمد فرديد) بشأن الغرب وتاريخه قائلاً: «إن الغرب يعني الولاية،ويعني الاستحواذ إن العالم المعاصر هو عالم الإصرار في الولاية، أعني بذلك الإمبريالية التي يمكن أن نطلق عليها مصطلح التفرعن أو الفرعونية»(1). وقال أيضاً:« إن الغرب هو عالم الغرور ، وتاريخ الغرب يمثل مرحلة هجوم الشيطان في

ص: 423


1- أحمد فردید بحران جريانهاي فلسفي عصر حاضر وتزلزل روشنفکری در ایران (نص بحوث الأستاذ [فرديد] في واحدة من البرامج التلفزيونية في بداية عقد الخمسينات (1350 ه- ش) تحت عنوان مدخل إلى الحكمة المعنوية)، إعداد: بهمن خدابخش بيركلاني موقع أحمد فرديد، ص 1، 1350 ه- ش.

آخر الزمان، إن للغرب عقلاً وله قلب أيضاً، بيد أن كلا هذين العضوين الحيويين قدتحولا إلى مأدبة للشيطان... إن تاريخ الغرب هو تاريخ الظلم والشر، بل هو حقيقة الشر ... إن التفكير الشيطاني طوع إرادة الغرب»(1).

وقد أشار بالقول:« إن هناك أزمات في الغرب»(2). وإن من بين تلك الأزمات آفة الاستغراب. وكان يستعمل لهذه الظاهرة مصطلح ال- (dysplexia) حيث نحتها من خلال التركيب بين كلمتين ،إغريقيتين وهما (dysis) بمعنى الغرب، و (plexia) بمعنى الابتلا(3)ء. ومما قاله أيضاً: «لو طلب مني تعريف العالم المستغرب، فسوف :أقول: إنه يعني تأصيل العدم الذي يبدو موجوداً. فإن ما نقول إنه «موجود» هو في الحقيقة «عدم» ، وإن ما نقول عنه إنه« معدوم» هو في الحقية «موجود»، ولا غرابة في ذلك فنحن نعيش في عالم انقلاب القيم».

يرى السيد أحمد فردين أن عالم الأمس واليوم وعالم الغد مصاب بالاستغراب، وذلك لغياب الله عن هذا العالم. يرى فرديد أن الإصابة بالاستغراب أسوأ من الإصابة بالجنون، وإن هذه الإصابة قد بدأت من العهد الإغريقي واستمرت إلى مرحلة العصور الوسطى وما يصطلح عليه بالقرون الأربعة من الغرب الحديث. وإن شمس الحقيقة قد أفلت منذ ظهور الفلسفة الإغريقية في تاريخ الغرب، حيث احتجب الشرق خلف ستار من أفول الغرب(4).

يذهب السيد أحمد فرديد إلى الاعتقاد بأن الأزمة قائمة في الغرب، وهي في حالة من التفاقم والاستفحال، بمعنى أن الله إذا كان يتمثل قبل الأمس على شكل

ص: 424


1- السيد أحمد فرديد، ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 419، إعداد: محمد مدد بور، نشر نظر، الطبعة الأولى، طهران، 1381 ه- ش .
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 359
3- انظر علي قيصري روشنفکران ایران در قرن بیستم ص ،152 ترجمه إلى الفارسية: محمد دهقاني، نشر شهر کتاب هرمس، المركز العالمي لحوار الحضارات، 1383 ه- ش
4- انظر مهرزاد بروجردي روشنفکران ایرانی و غرب سرگذشت نافرجام بومی ،گرایی ص 105، ترجمه إلى :الفارسية جمشيد شيرازي نشر نشر و پژوهش فرزان روز

الاستعمار والاستثمار والإمبريالية، فهو اليوم يتمثل على شكل الحركة الإنسانية(1)، التي تعني الاستغراب المضاعف، والذي يعني بعبارة أخرى: استفحال تأليه الذات والتفكير الإنساني، وبلوغ هذه الظاهرة ذورتها وحالتها القصوى» (2)

يرى السيد أحمد فرديد فيما يتعلق بالغرب والاستغراب أن العدمية ما لم تصل إلى نهايتها، لن يكون هناك ثورة تلقائية(3). وأن أي نوع من أنواع احتمال الصلاح منوط بالاستعادة النهائية لروح الزمان في التاريخ (4).

2 - الليبرالية وأبعادها

2 / 1 - الليبرالية

يرى السيد أحمد فرديد أن الليبرالية تعني الإباحية التي تحدث بفعل التمرد وعدم الانصياع لأحكام الدين(5) . إن هذه الرؤية تمثل نوعاً من النقد لنتائج وتبعات الليبرالية. ويذكر أيضاً أن شعور وباطن الليبرالية [ يجاهد](6) مجاهدة النفس (7) ، ويشير إلى أن الليبرالية تريد القضاء على الإنسان» (8) . إن الليبرالية تعني اعتقال الإنسان وتقييده بالأغلال (9).

2 / 2 - الحرية

ص: 425


1- الحركة الإنسانية (humanism) أو الفلسفة الإنسانية : فلسفة تؤكد على قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات من طريق العقل. وكثيراً ما ترفض الإيمان بأية قوة خارقة للطبيعة.
2- انظر بروجردي ص 79، 1381 ه- ش.
3- انظر بروجردي ص 1، 1350 ه- ش .
4- انظر علي ،قیصري روشنفکران ایران در قرن ،بیستم ص ،153 ، ترجمه إلى الفارسية: محمد دهقاني، نشر شهر ،كتاب هرمس، المركز العالمي لحوار الحضارات، 1383 ه- ش
5- انظر: السيد ديباج الموسوي، آراء وعقايد سيد أحمد فرديد، ص 19 نشر علم طهران 1386 ه-.ش
6- ما بين المعقوفتين إضافة من طبعة أخرى للمقال لا يستقيم المعنى إلا بها، المعرب.
7- انظر: أحمد فرديد، ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 350، إعداد: محمد مدد بور، نشر نظر، الطبعة الأولى، طهران، 1381 ه- ش .
8- انظر: المصدر أعلاه، ص 343
9- انظر: أحمد ،فرديد، ص 2، 1384 ه- ش

إن الحرية من أبرز أركان الليبرالية. لأن الحرية في الليبرالية ليست وسيلة للوصول إلى هدف أو غاية سياسية متعالية، بل هي في حدّ ذاتها من أسمى الأهداف السياسية(1). إن الحرية تعدّ ه- القيمة الأسمى، وفي أكثر المؤلفات الفلسفية تُعد الحرية جوهرة الحياة، وإنها من أهم الأهداف المنشودة للإنسان، ومن أغلى القيم(2). وفيما يتعلق يبحث مفهوم الحرية التي هي من أهم أصول الليبراليين، تعد الحرية من الرقابة والسيطرة والإكراه وفرض القيود، وتدخل الدولة أهم من كل شيء آخر، والحرية إنما تراد بالنسبة إلى الفرد الذي يشكل الهاجس الرئيس بالنسبة إلى الليبراليين. وإن المراد من حرية الفرد هي الحرية الشخصية عادة(3) .

ويمكن لنا أن نتبين رأي السيد أحمد فرديد بشأن الحرية، حيث يقول: «إن الحرية المعاصرة تعني التحرر من أحكام الله والنفس المطمئنة، وتعني عبادة النفس الأمارة أيضاً. إن الحرية المعاصرة تمثل صرخة تنادي بالتحرر من الحرية. بيد أن الحرية الجديدة مأزومة ... »(4) . إن الحرية الراهنة تحرر من الدين الإسلامي الحنيف »(5) . لأن« الحرية التي يتمّ الدفاع عنها لا تعني مجرد التحرر من الإله الحقيقي الكائن ما قبل الأمس أو ما بعد الغد.. إن الحرية الجديدة تعني إعطاء الحرية الكاملة للنفس الأمارة، وعليه لا يمكن أن تكون حرية حقيقية» (6) . ويذهب السيد أحمد فرديد إلى الاعتقاد بأن «هذه الحرية وإن كانت مكفولة للجميع ، إلا أنها تحول الجميع إلى قطيع من القردة والسعادين»(7). وفي موضع آخر يقول :« إن الحرية الغربية ليست حرية»(8). وقال أيضاً: «إن هذه الحرية [الحرية الليبرالية ]تعني التحرر من الحق والحقيقة،

ص: 426


1- انظر: أنطوني آربلاستر ظهور وسقوط ليبراليسم غرب، ص 82 - 86 ترجمه إلى الفارسية: عباس مخبر، نشر مركز، الطبعة الأولى، طهران، 1376 ه-.ش.
2- انظر: ناصر کاتوزیان مقدمه علم حقوق و مطالعه در نظام حقوقی ایران ص ،23 شركة انتشار، طهران، 1385 ه- ش.
3- انظر: أنطوني آربلاستر، ظهور وسقوط ليبراليسم غرب، ص 86 ترجمه إلى الفارسية: عباس مخبر، نشر مركز، الطبعة الأولى، طهران، 1376 ه-.ش.
4- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص ،412، 1381 ه- ش
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 78
6- انظر: المصدر أعلاه، ص 138
7- انظر: المصدر أعلاه، ص 342
8- انظر: المصدر أعلاه، ص 359

والتحرر من إنسانية الإنسان»(1).

ثم يستطرد قائلاً: إن الحرية تكمن في الفردانية القائلة: يجب عدم القضاء على الحرية الفردية، وإن الحرية في الجماعة تعني التحرر من الحرية»(2). وعليه فإن المطالبة بالحرية الغربية الليبرالية من وجهة نظر السيد فرديد هي عين الكفر(3) .

إن هذه التعابير - كما هو واضح - تنتقد وتهاجم الحرية الراهنة، وبذلك يتضح أن السيد فرديد يستهدف أصله هذه الحرية وماهيتها.

3/2 - حاكمية الفرد بالنسبة إلى المجتمع

«إن مفهوم الفرد هو التأكيد على شخص إنساني واحد». إن الفرد يمثل الحجة الأولى والأخيرة بالنسبة إلى الليبرالية، فهو حجة أولى؛ لأن حقوق الفرد هي الأساس في الحالة الطبيعية، وفي هذه الحالة لا بد من تغيير الطبيعة إذا توقف بقاؤه على تغييرها، وهوالحجة الأخيرة؛ لأن الفرد هو المنتج أو صاحب المشروع»(4). ينظر إلى الفرد في الليبرالية بمعزل عن انتمائه لعرق أو جماعة أو مجتمع أو دين أو حزب، وتراه صاحب حقوق طبيعية.

وقد تحدّث السيد فرديد في هذا الشأن حول تأثير النزعة العقلية التي هي من نتائج الفردانية الليبرالية على أساس الدوافع نحو الفرد أو الجماعة: «إن العقل يعاني اليوم من الضعف والمرض... هناك جهتان هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة فواحدة تمنح الأصالة للفرد، والأخرى تمنح الأصالة للجماعة والأولى تنتج الديمقراطية، والأخرى تنتج الاشتراكية ظ(5) . بمعنى أنه يهاجم عموم العقل المعاصر ونتائجه، بسبب ضعفه ويضع عليه كثيراً من علامات الاستفهام وعلى هذا الأساس فإنه من خلال

ص: 427


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 54.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 127
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 238
4- انظر میخائیل غاراندو لیبرالیسم در تاریخ اندیشه ،غرب ص 38 ترجمه إلى الفارسية: عباس باقري، نشر ني، الطبعة الأولى، طهران 1383 ه-.ش.
5- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص 127، 1381 ه- ش .

الهجوم على أصل سيادة الفرد، فإنه تبعاً لذلك لا يرى نتائجه مناسبة أيضاً.

2 / 4 - المساواة

إن الليبرالية تدّعي القول بأصالة المساواة في الحقوق لجميع الناس في كل مكان. ولا ينبغي لأي قانون أن يعطي لبعض الأفراد امتيازات خاصة، أو أن يفرض على بعض الأفراد واجبات لا يفرضها على غيرهم. فالقانون- سواء في جوانبه الإيجابية أو في جوانبه السلبية، وسواء كان داعماً أو معاقباً - يجب أن يتم تطبيقه على الجميع دون استثناء (1).

ومما قاله السيد فرديد بشأن العدالة والمساوة: إنني اعتبر هذا العدل الكافر، وهذا التآخي الكافر، وهذه المساواة الكافرة، قمة العدالة الكافرة»(2).

إن هذا الرأي ينتقد أصل المساواة، ويصفه بالكفر، ولا يختلف الأمر من وجهة نظره فيما لو كان هذا المفهوم سائداً في إيران أو في الغرب؛ لأنه يرى ذلك معبراً عن مرحلة وفترة زمنية منفصلة عن الله ومتنكرة له، وبذلك يكون هذا المفهوم كافراً، وعلى حد تعبيره «مصاباً بالاستغراب»، وهو عصر الناس النسانيس والسعادين الذين مسخهم الله وقال لهم : { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }(3) . ولذلك فإنه يرى كل ما يتم طرحه في هذا الإطار وضمن هذا المفهوم، كفراً.

2 / 5 - المداراة واستيعاب المخالف أو التسامح معه

إن المداراة تعني تحمّل عقائد الآخرين وآرائهم وهي من مسؤولية الدولة والمجتمع أو الفرد، وبموجبها يجب عدم التدخل في أنشطة الآخرين أو عقائدهم(4).

ص: 428


1- انظر: جون سالفين شابيرو، ليبراليسم معنی و تاریخ آن ص4، ترجمه إلى الفارسية: محمد سعيد حنائي كاشاني، نشر مركز ، الطبعة الأولى، طهران، 1380 ه- ش
2- انظر أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص 238 ، 1381 ه- ش
3- البقرة: 65 الأعراف: 166
4- انظر: أنطوني آربلاستر، ظهور وسقوط ليبراليسم غرب، ص 99 ترجمه إلى الفارسية: عباس مخبر، نشر مركز، الطبعة الأولى، طهران، 1376 ه-.ش.

إن رأي السيد أحمد فرديد بشأن المداراة والتسامح غير صريح، ويمكن القول: إنه لا يقبل باختلاف العقيدة، ويرى جميع العقائد الراهنة في إطار «إله الأمس، وإله اليوم، وإله الغد»، وهي بأجمعها «غربية» و «نفسانية» و«مشوبة بالكفر» و«الإصابة بالاستغراب». ومن هنا فإنه يؤمن بالرؤية التي تقع ضمن إطار «إله ما قبل الأمس، وإله ما بعد الغد»، وهو الإله الوحياني والديني، وليس الإله الإنساني والبشري. ومن الواضح أن هذا الرأي مخالف لرؤية الغربيين والليبراليين، ولذلك فإن السيد فرديد يهاجم أصل المدارة.

2 / 6 - سيادة القانون أو النزعة القانونية

إن منشأ ومبدأ القانون في الفكر «الليبرالي» هو الحقوق الطبيعية والقوانين الوضعية. وتقوم الحقوق الطبيعية على أسس ثلاثة من الأصول، وهي: أصل الحق في الحياة،وأصل الحق في الحرية، وأصل الحق في الملكية، بوصفها من الأصول الهامة والحقوق الطبيعية المقتبسة من أفكار (جون لوك)، وقد تبلورت هذه الحقوق في القانون والمجتمع والسياسة إن هذه القوانين - فضلا عن القوانين الوضعية - تشكل أساساً للقوانين وأصلاً لسيادة القانون أو النزعة القانونية بوصفها معياراً للعمل والسلوك في القضاء والأنشطة واتخاذ القرارات، ولا يمكن لأي شخص أو جماعة أو مؤسسة (حكومية أو غير حكومية) أن تتجاوز هذه القوانين.

يذهب السيد أحمد فرديد - فيما يتعلق بالقانون وسيادته، وسطوة المؤسسات المرتبطة به من قبيل: الدستور والبرلمان - إلى الاعتقاد بأن القوانين فيه منبثقة عن أحكام المرحلة الجديدة الموضوعة للبشر من قبل الغرب(1). في هذه المرحلة يكون عقل الإنسان هو الواضع للقوانين وإن عقل الإنسان هو الواضع للأحكام العملية والأحكام الحقوقية(2). في حين أن «واضع هذه القوانين هو النفس الأمارة»(3). و «مرجع

ص: 429


1- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 238 ، 1381 ه- ش
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 432.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 343.

هذه النفس إلى العقل الممسوخ المنتسب إلى القرن الثامن عشر للميلاد»(1). وفيما يتعلق بمجلس الشورى والبرلمان يقول سماحته إن المجلس يشبع غريزة النفس الأمّارة للإنسان إذ أنا على سبيل المثال كنت أروم الدخول إلى هذا المجلس لإشباع رغبة نفسي الأمارة» (2) .

إن هذه العبارات تدلّ على أن السيد فرديد لا يقبل بهذه القوانين والمؤسسات الجديدة بأي حال من الأحوال. وذلك لأنها منبثقة عن« النفس الأمارة» و«العقل الممسوخ» للغرب الحديث ويعبر عن الحركة في هذا الاتجاه ب- «الإصابة بالاستغراب». ومن هنا فإنه يذهب إلى الاعتقاد قائلاً: «لقد سئم الإنسان من هذه القوانين التي وضعها بنفسه، وقد بدأ بالتوجه إلى الله»(3). ويمكن لنا أن نستنبط من هذا التعبير سيادة القوانين الإلهية في المنظومة الفكرية للسيد فرديد، ولكنه لا يذكر ما هو الإطار والمؤسسة التي يمكن تطبيق هذه الأحكام والقوانين من خلالها. ولكن مع ذلك لابد من الإشارة إلى أنه يعارض أصل الليبراليين في هذا الشأن، ولا يرتضي القانون والنزعة القانونية الغربية بشكل كامل.

2 / 7 - الدولة المقيّدة أو المشروطة

يرى الليبراليون أن الغاية الرئيسة من قيام الدولة هو العمل على صيانة الحرية والمساواة وضمان أمن جميع المواطنين. ومن هنا فإن الحكومة الليبرالية - سواء في شكلها الملكي أو في شكلها الجمهوري - تقوم على دولة القانون (المقيدة والمشروطة بالقانون)، والقانون هو الذي يصادق عليه المقننون والمشرعون الذين يتم انتخابهم من قبل الناس في إطار انتخابات حرة (4).

إن الرأي الذي يذهب إليه السيد فرديد بشأن السياسة والدولة الإسلامية المنشودة

ص: 430


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 358.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 90.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 345.
4- انظر: جون سالفين شابيرو، لیبرالیسم معنی و تاریخ آن ص ،5 ، ترجمه إلى الفارسية : محمد سعيد حنائي كاشاني،نشر مركز ، الطبعة الأولى، طهران، 1380 ه- ش .

بشكل عام هي« السياسة الصحيحة التي يكون فيها الإنسان مطيعاً لله والرسول وأولي الأمر، شريطة أن يكون ولي الأمر تابعاً للرسول، ويكون الرسول تابعاً لله»(1).بمعنى أن تكون الولاية المحبة والمودة وباطن الولاية (الحكومة والدولة) على شاكلة حكومة النبي محمد ، وحكومة الإمام علي (علیه السلام) (2) .

يذهب السيد فرديد إلى الاعتقاد بأن الحقيقة فيما قبل الأمس وما بعد الغد، إنما تتحقق في الحكومة الإسلامية (3). إن الحقيقة فيما بعد الغد هي تلك التي تشهد حضورالله والوحي، وتكون مجردة من هيمنة الواقعية ونفس الإنسان الأمارة.

لا يوجد في كلمات فرديد تعبير صريح بشأن قيود وحدود الدولة والحكومة بالمعنى السياسي الحديث ، ولكن يمكن لنا أن نستنبط من تضاعيف كلماته أن الدولة من وجهة نظره، مقيدة نوعاً ما بقيود الولاية أو المحبة والمودّة، ويرى أن من جملة مصاديق هذه الدولة والحكومة دولة وحكومة النبي محمد ، والإمام علي .. ومن جهة أخرى عندما يقوم السيد أحمد فرديد ببيان بحث السياسة الصحيحة ، ويشترط أن تكون مقرونة بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر، فإنه بذلك يعمل على تقييدها بشكل وآخر. وفي المجموع حيث يعبر السيد فرديد عن المرحلة الراهنة بالمرحلة المأزومة، بحيث يحكمها تعدد الأئمة أوالنفوس الأمارة للناس، ولا وجود فيها لإله ما قبل الأمس. ولذلك فإنه يعارض رؤية الغربيين والليبراليين في حقل الدولة المقيّدة والمشروطة بشدّة .

2 / 8 - سيادة العقل والعلم

إن الإنسان من وجهة النظر الليبرالية هو من الناحية الذاتية كائن عاقل وينظر العقلانيون إلى العلم لما يتسم به من الناحية التنويرية، ويعتبرونه دليلاً ومرشداً لهم(4) .

ص: 431


1- أحمد فردید دیدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص 54 ، 1381 ه-.ش.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 52.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 79.
4- انظر: جون سالفين شابيرو لیبرالیسم معنی و تاریخ آن، ص 8 ترجمه إلى الفارسية : محمد سعيد حنائي كاشاني نشر مركز ، الطبعة الأولى، طهران، 1380 ه-.ش.

إن وجهة نظر السيد أحمد فرديد فيما يتعلق بالعقل والعلم البشري، والسيادة وعدم السيادة لهما، تتلخص في:

1 - إن العقل نور وضعه الله أمام الناس كي يتبينوا به الطريق من الحفر، وهو ذو مراتب تبدأ من العقل الهيولي ويصل حتى إلى العقل المستفاد(1).

2 - وأعلى مراتبه هو العقل الهادي، وهو عقل الأنبياء ، أما العقل المشترك الذي يتساوى فيه جميع الناس من وجهة نظره، فيعد عقلاً نازلاً والذي يبدأ في المرحلة الجديدة منذ عهد (ديكارت) . إن هذا العقل هو عقل لا مكان لله في دائرته (2) ، وهو عقل مريض ومستكين (3) ، ويشتمل على الخصائص الآتية:

1 - ممسوخ ومنحوس(4).

2 - وهمي وغير حقيقي (5).

3 - استحالة تلبيته للمطالب المعاصرة (6).

4 - إنه سبب في الانحراف(7).

5 - «إن العقل المعاصر - على كل حال - يبدي الأصالة، ويعمل على عبادة الظاهر والتصور، ويقدم الحساب على العمل، بل إن الإنسان الغربي المعاصر يقتل نفسه ويضحي بها من أجل أوهامه(8).

6 - إن العقل بالمعنى الشريف للفظ لم يعد اليوم بتلك الأصالة التي كان عليها

ص: 432


1- انظر: أحمد فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 175، 1381 ه- ش .
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 427.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 127
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 58.
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 139.
6- انظر: المصدر أعلاه، ص 343.
7- انظر: المصدر أعلاه، ص 427.
8- انظر: المصدر أعلاه، ص 427.

في ما قبل الأمس والتي سيكون عليها بعد الغد»(1)

7 - إن عقل القرآن يخالف العقل المنحوس.

8 - لا يمكن استنباط علل أحكام الإسلام بواسطة العقل البشري.

إن هذه العبارات والمسائل المذكورة بشأن العقل تدل على أن العقل لوحده - لا سيما بمعناه الغربي - لا يمكن الاعتماد عليه من وجهة نظر السيد فرديد؛ إذ إنه لا يلبي حاجة الإنسان، وإنه يعالج الأمور الظاهرية فقط، وهذا يتعارض مع العقل الشريف والأصيل في إطار الفضاء الفكري للسيد فرديد، والذي كان سائداً قبل الأمس، وسيكون هو السائد في ما بعد الغد. والأهم من جميع ذلك أن العقل البشري لا يستطيع أن يستنبط علل أحكام الإسلام. ومن خلال هذه العبارات يمكن القول: إن السيد أحمد فرديد يوجه سهام نقده إلى أصل رؤية الغربيين والليبراليين فيما يتعلق بسيادة العقل. ولكنه حيث يقول بأن العقل الغربي يؤدي إلى انحراف البشر، وإن كان لا يبين نوع هذا الانحراف، بيد أنه يوجه الانتقاد إلى نتائجه. وحيث يقول إن العقل الغربي والعقل المعاصر مبتلى بالمرض والبؤس، وأنه ممسوخ ومنحوس وواهم، فإنه ينسب إلى هذا العقل صفات لم يقدم المبررات عليها.

وقد ذكر السيد فرديد بعض الأمور في مورد العلم أيضاً، ويمكن إجمال هذه الأمور على النحو الآتي:

1 - إن العلم الجديد هو اتحاد الموضوع النفساني والمتعلق النفساني. ويصطلح على الموضوع النفساني والمتعلق النفساني جمعاً، بمصطلح ال- (objective) (2)ويطلق ال- (subjective )(3)على الأساليب والأعمال التي تستعمل من أجل تعين ال- (objective) بالتعين العلمي إن الرؤية الموضوعية والذاتية تعمل على تحويل راهن العالم إلى شيء(4).

ص: 433


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 139.
2- موضوعي غير ذاتي. وبالتالي مجرّد عن الغرض، وغير متحيّز
3- ذاتي غير موضوعي
4- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص 325، 1381 ه- ش .

2 - «إن ماهية العلم الجديد هي التمسك بالظاهر فقط، بل التمسط بظاهر الظواهر ، أما الباطن فقد زال وقد تحوّل الباطن إلى ظاهر، والظاهر إلى ظاهرة وتحوّل إلى أصالة(1). كما أن العلم الجديد ليس سوى وهم. إنه وهم قبيح. إن العلم القبيح من خلال توجهه ناحية التصنيع العسكري يسدل الستار على العالم. وبعبارة أخرى إن أساس العلم الجديد يقوم على هوى النفس، ويلبي حاجاته من خلال تغيير الأشياء(2) .

3 - إن العلم الراهن حيث يكون تحصلياً ومعاشياً صرفاً، يكون بعيداً عن التقوى والورع والتضرّع إلى الله ومناجاته، ويترتب على ذلك عدد من التوالي الفاسدة(3) ولا موضع فيه للتعالي والوقوف إلى جانب الحق والحقيقة(4).

4 - إن العلم الحديث لا يعمل في الأصل على تحسين الحياة، إذ لا ينطوي على شكر ، بل ينطوي على النفس الأمارة، والعلم يمثل آخر مراحل الاستدراج، ومن هنا تحولت الرغبة النفسانية إلى منافسة سياسية (5) .

5 - إن الأسلوب التحصلي والتجريبي أو العلة الدورانية - على حدّ تعبير الفقهاء - «نهاية التاريخ، وعين التدني عن التعالي والرقي والفرار من الحق والحقيقة التي هي عبارة عن أصالة الموجود والزمن الفاني، وهذه هي التمامية في الإصابة بالاستغراب» (6)

إن هذه العبارات تدل على أن العلم الحديث والغربي هو - من وجهة نظر السيد أحمد فرديد - علم الوهم والظاهر والنفساني، وأنه لا ينطوي على شكر، ويخلو من الورع والتقوى والخضوع والتضرّع إلى الله، ولا وجود فيه للحق والحقيقة، وإنما الأصالة فيه للموجود، ومن هنا فإنه يذهب إلى الاعتقاد إلى أن تطبيقه والعمل به

ص: 434


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 325
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 430
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 215.
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 432.
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 430
6- انظر: المصدر أعلاه، ص 205

يساوق التدني من التعالي والرقي والهروب من الحق والحقيقة، ولذلك فإنه يوجه سهام نقده إلى أصل سيادة العلم من وجهة نظر الغربيين والليبراليين وما يترتب على ذلك من النتائج . فهو عندما يقول إن العلم الجديد والغربي يدفع بالناس المعاصرين نحو سباق التسلح والتنافس السياسي والصناعة العمياء والتوالي الفاسدة، إنما ينتقد النتائج المترتبة على الرؤية الليبرالية في هذا المجال.

2 / 9 - الرقي على الأساس التكنولوجي

إن لدى الليبرالية نظرة خاصة إلى الحياة، وتنشد الرقي والتطوّر للإنسان، وتبذل كل ما بوسعها كي تحوّل العالم الذي نعيش فيه إلى مكان. وقد وجدت أن طريق تحسين الحياة يكمن في التقدّم والرقي القائم على التكنولوجية التي تجلب النعيم والراحة والعيش الرغيد إن مفهوم الرقي الذي كان غامضاً في القرن الميلادي السابع عشر، تمّ طرحه في القرن الثامن عشر للميلاد، ليتحول في القرن التاسع عشر بعد ذلك إلى أصل من أصول الإيمان الحديث (1).

وقد ذكر السيد فرديد المسائل الآتية بشأن الرقيّ والتطوّر على أساس التكنولوجيا:

1 - لا يمكن رفض التكنولوجيا بالمطلق (2)

2 - إن الصناعة والتكنولوجيا تدعو الناس إلى الاقتتال فيما بينهم وإلى محاربة الله أيضاً (3).

3 - إن الإنسان المعاصر يعدّ التنمية الصناعية والتكنولوجيا أصلاً من أصول الحياة. في حين أن الصناعة قد دمّرت حياتهم، وأن هذه الصناعة مظهر من مظاهر النقمة الإلهية(4).

ص: 435


1- انظر: جون سالفين شابيرو، لیبرالیسم معنی و تاریخ آن، ص 8 ترجمه إلى الفارسية: محمد سعيد حنائي كاشاني، نشر مركز ، الطبعة الأولى طهران 1380 ه-.ش.
2- انظر: أحمد فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 325، 1381 ه- ش .
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 230
4- انظر: المصدر أعلاه، ص ص 316-317

إن هذه العبارات تدل على أن السيد فرديد كان معارضا للمسار القائم بشأن الصناعة و التكنولوجيا». وإن كان يرى عدم إمكان رفض التكنولوجيا» مرة واحدة، بید أنه يرى أن الصناعة إنما جاءت لمحاربة الناس من خلال دفعهم نحو الاقتتال فيما بينهم، ومجاهرتهم لله بالمحاربة. ومن هنا تكون مظهراً من مظاهر نقمة الله وتؤدي إلى تحطيم البشر. ومن هنا فإن السيد فرديد ينتقد أصلها والنتائج المترتبة عليها. بمعنى أنه لايرتضي أصل الرقي« التكنولوجي» بوصفه هدفاً، بل ويعارضه أيضاً، ويعتقد في الوقت نفسه أن نتيجة ومآل هذا الأصل هو الدمار لا غير.

2 / 10 - ماهية الإنسان

يتم تعريف ماهية الإنسان في المفهوم الليبرالي على أن الناس أحرار وعلماء ويمتلكون إرادة تخوّلهم الاعتماد والتعويل على أنفسهم، كما يتمتعون بالعقل والمساواة، والحقوق الطبيعية في« الملكية والحفاظ على أرواحهم وحرياتهم»، وأنهم هم الذين يخلقون قيمهم و« أهدافهم الذاتية»(1) .

يذكر السيد أحمد فرديد الأمور الآتية بشأن الإنسان:

1 -«إن الإنسان يمثل مظهر اسم الله أو أسمائه الحسنى»(2) .

2 - إن حقيقة الإنسان تكمن في ماهيته، كما تكمن حقيقته في وجوده (3).

3 - في الغرب المعاصر - حيث سيادة تفكير المذهب الإنساني الأومانيستي الذي هو نوع من الزندقة والكفر والليبرالية - تمنح الأصالة للإنسان المعاصر. بمعنى أن الحالة الراهنة تعدّ الأصالة لوجود الإنسان (4) . بمعنى أنها تجاهلت حقيقته (5) في

ص: 436


1- انظر جون ،غراي ليبراليسم (الليبراليةص ،14 ترجمه إلى الفارسية: محمد ساوجي، مركز جاب وانتشارات صحیفه وزارت خارجه طهران، 1381 ه- ش .
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 31
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 431
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 31
5- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص 423، 1381 ه- ش .

«النزعة الإنسانية»، «يكون الإنسان مركز جميع الأشياء... وتكون الإصالة للإنسان بوصفه طاغوتاً، يرى في إرادته هي الإله الحاكم فوق جميع الأمور»(1).

4 -«إن الإنسان الراهن عديم التقوى، وعديم الورع» (2).

إن هذه العبارات تدل على الهجوم الشديد للسيد أحمد فرديد على الغرب والعالم المعاصر ومرحلته الراهنة، وينتقد هيمنة ماهية وحقيقة الإنسان المنفلت الذي لا يهتم بغير الناحية المادية والجسدية من وجوده يرى السيد فرديد أن هذا الإنسان الأناني يجلس خلف مقود عربة نفسه الأمارة منطلقاً على مركب الغرور والنسناس متنكراً لجميع حقائق الحياة ومنكراً لوجود الله والنفس المطمئنة، متسلحاً بسلطة «اليوم» ليتجه نحو سيادة «الغد». وإن هذا الاختلاف من قبل السيد فرديد مع آراء الغربيين والليبراليين بشأن المباني المتعلقة بماهية الإنسان، تصل حتى إلى النتائج التي يبتغونها أيضاً. فهو يشير إلى أن الإنسان قد ابتلي بالتشرد وانعدام الهوية والوطن، وانعدام التقوى، وانعدام الورع، والانحياز إلى النزعة المستذئبة والزندقة والإمبريالية، والطاغوتية، وما سوى ذلك من الموبقات، حيث استحوذ عليه سبات عميق.

2 / 11 - معرفة الغاية

لقد تحوّل مفهوم التقدّم والرقي - بوصفه غاية وهدفاً لليبرالية - إلى نوع من العقيدة والقانون، بحيث أضحى إصلاح الأمور وتحسينها ، نوعاً من «الإيمان بالعدالة» وصفة ضرورية متأصلة(3).

وقد ذكر السيد فرديد بشأن الغاية، الأمور الآتية:

1 - إن الإنسان المعاصر قد أسهم في قلب العالم، بمعنى أنه يمنح الأصالة لهذه الدنيا، ويراه هو الآخرة، بمعنى أنه يفسر هذه الدنيا بذلك الشيء الذي يجب عليه

ص: 437


1- انظر: المصدرأعلاه، ص 341.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص215.
3- انظر جون غراي ليبراليسم (الليبرالية)، ص 31 -32 ترجمه إلى الفارسية: محمد ساوجي، مركز جاب و انتشارات صحیفه وزارت خارجه طهران 1381 ه-.ش.

الوصول إليه، وبذلك يتحول عالم الوهم إلى حقيقة من وجهة نظره، وهكذا فإنه يتجاهل عالم اللقاء الذي ينتظره (1) .

2 -« كل ما هو موجود حالياً لا يتخطى الحضارة، ولا أثر للثقافة في البين... إن الإنسان المعاصر قد تحوّل - بفعل الحضارة - إلى مشرّد فإن المدنية قد عملت على تفريغ الإنسان من ثقافته، وإن هذه الحضارة قد استأصلت الإنسان من تربته وحولته إلى مشرّد، بل هو أسوأ من المشرّد، إذ لا سماء له تغطيه، بل أغلقت حتى دائرة التقديس من وجوده وقاموسه»(2).

3 -« إن القرون الجديدة تعمل على تأصيل الدنيا ...وقد كانت الأصالة في القرون الأربعة الأخيرة للدنيا ... وعندما يعمل الإنسان على تأصيل هذه الدنيا، فإنه سوف ينسى وطنه الأصيل في الوقت نفسه...(3).

4 - إن الزمن الباقي (الآخرة) والزمن الفاني (الدنيا) مقترنان، ويجب على الإنسان أن يأخذ كلا الزمنين بنظر الاعتبار(4).

5 - إن الشهوات الأربعة المتمثلة ب- (شهوة السلطة، وشهوة البطن، وطول الأمل وشهوة الفرج)، قد استحوذت على العالم، وأضحت هي الهدف الذي يسعى نحوه العالمين(5).

إن هذه العبارات تدل على أن العالم المعاصر من وجهة نظر السيد أحمد فرديد بسبب تأصيل الدنيا واعتبارها هي الهدف - هو «عالم مقلوب»، وإن باطن الدنيا قد أضحى خالياً من المحتوى، ولم يعد للثقافة فيه من وجود؛ إذ لا ذكر فيه لله، فهو عالم شيطاني ونفساني، في حين لا بد من الالتفات إلى« الدنيا» (الزمن الفاني )،

ص: 438


1- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 322 ، 1381 ه- ش
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 46
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 48
4- انظر: المصدر أعلاه.
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 83.

و« الآخرة» (الزمن الباقي أيضاً). فكلا هذين العالمين مقترن. ومن هنا فإنه يعارض الأسس الفكرية للغرب والليبرالية، ويسدد سهام نقده إليهما.

2 / 12 - معرفة الوجود

إن الحقيقة في التفكير الليبرالي ليست مجرد أمر ،حسي، بل إن الحقيقة العلمية أمر حسيّ وذهني.

وقد ذكر السيد أحمد فرديد الأمور الآتية بشأن الحقيقة والوجود:

1 -« إن الحقيقة ليست وجوداً ولا موجوداً. إن الحقيقة هي جميع الأشياء الظاهرة أمامنا ويدركها الجميع على نحو واحد ويمكن التصرّف فيها... إن حقيقة الأمر المستقل عني أو العكس ليست منفردة، بل هي أمر انتزاعي، وحيث أنها تظهر للجميع على نحو واحد تمثل مفهوماً»(1). كما أن للحقيقة ناحية ظاهرية، وناحية باطنية. إن الظاهر أو الواقع هو الذي يدرك بالعين والبصر، وربما يناسبه التعبير بمصطلح المذهب الواقعي، حيث يتم التأكيد على مجرد الواقع. بيد أنه يأخذ الناحية الباطنية أو الرؤيوية لعالم الغيب بنظر الاعتبار أيضاً، وهو الذي يعبر عنه بالبصيرة المساوق للمذهب المثالي (2).

2 - إن عالم الشهادة يقع في قبال عالم الغيب، الذي لا يتم الاهتمام به في الأفكار

الجديدة.

3 - «إن الذي يعمل الإنسان المعاصر على تأصيله ويطلق عليه اسم الحقيقة، عبارة عن الوهم»، وإن عالم الوهم هو عالم محسوس، وعالم ظاهر، في حين أن كل شيء في هذه الدنيا له ظاهر وله باطن والظاهر هو تجل، والباطن هولقاء، «ووجود وراء الذهن والعين وحقيقة وراء الذهن والعين »(3) .

ص: 439


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 430.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 88. وبطبيعة الحال فإن التعريف بالواقعية والمثالية قد جاء من قبل السيد أحمد فرديد.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 313

إن هذه العبارات تدل على أن السيد فرديد يذهب إلى الاعتقاد بأن الحقيقة لا يتم اطلاقها على مجرد الأمور المشهودة فقط، بل إن الحقيقة أو الوجود وراء العين والذهن وهو الله، وتسمى الحقيقة أيضاً، ولها ناحية ظاهرية وباطنية. يذهب السيد فرديد إلى الاعتقاد بأن عالم الغيب قد تم تجاهله في المرحلة الراهنة، ومن هنا فإنه يعمد إلى انتقاده بهذا الأسلوب حيث يتم الاهتمام بمجرد عالم الشهادة وعالم الوهم فقط، واصفاً ذلك بأنه تأصيل للعدم الذي يبدو وجوداً، وهذا يمثل قلباً لحقائق الوجود والعالم.

2 / 13 - علم المعرفة

في علم المعرفة الليبرالية يُعد التعرّف إلى الحقيقة أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق .إن هذه المعرفة تحصل من طريق الإنسان نفسه وعقله وفهمه. ويطلق على ذلك مصطلح العلم. وفي هذه الرؤية تحظى المعرفة العلمية(1) بالاهتمام بمعنى الاعتقاد بأن الإنسان يمكنه الوصول إلى العلم من خلال توظيف حواسه الخمسة وعقله.

وقد طرح السيد أحمد فرديد الأمور الآتية بشأن علم المعرفة:

1 - إن للإدراك أقساماً، وهي: الإدراك الحسي، والإدراك الخيالي، والإدراك الوهمي، والإدراك العقلي، والإدراك المتعالي. وإن الإدراك المتعالي يتمثل في الكشف عن سبحات الجلال والمحو الموهوم والصحو المعلوم. إن الإنسان عندما يتجه نحو العلم، يصل إلى علم اليقين، وعندما يتجه نحو الفلسفة، يصل إلى علم عين اليقين، وعندمايصل إلى العرفان يبلغ علم حق اليقين(2). وإن الصفة العلمية للإنسان تكمن في كونه مدركاً».

2 - إن العلم على نوعين: حصولي وحضوري والعلم الحصولي يتم عبر الحركة من المعلوم للوصول إلى المجهول. أما التفكير الحضوري فهو عبارة عن الانتقال

ص: 440


1- scientific knowledge
2- انظر: أحمد ،فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان ص 429، 1381 ه- ش

من الباطل إلى الحق(1).

3 - إن ماهية المعرفة والعلم الجديد هي التمسك بالظاهر فقط، بل التمسط بظاهر الظواهر ، أما الباطن فقد زال، وقد تحوّل الباطن في هذه الرؤية إلى ظاهر، والظاهر إلى ظاهرة، وتحوّل إلى أصالة (2). وهذه عملية تدقيقية، وليست تعمقية(3).

4 - إن البنية الناظرة إلى الدنيا في علم المعرفة لدى الغرب، والتي تعود جذورها إلى الفلسفة الإغريقية (اليونانية القديمة، ترى فرقاً وجودياً بين ذهن الإنسان بوصفه عامل المعرفة، وعالم الخارج بوصفه موضوع المعرفة .

إن هذه العبارات والمضامين الفكرية لفرديد تدل على أن المعرفة المعاصرة (الأسلوب المعرفي الناشئ عن الغرب والسائد في كل مكان بحيث اكتسب حالة تأليهية)، إنماخاضت في العينيات والظاهرات. لأن خصوصية الإنسان تكمن في كونه مدركاً»، وإن للإدراك أقساماً من قبيل : الإدراك الحسي والإدراك الخيالي والإدراك الوهمي، والإدراك العقلي، والإدراك المتعالي، وبالتالي فإن دائرته واسعة. ومن هنا فإن هذه الرؤية تختلف عن رؤية الغربيين والليبراليين في حقل علم المعرفة(4).

2 / 14 - علم المنهج

إن الأسلوب الملحوظ في علم المنهج الليبرالي - بالالتفات إلى إمكان المعرفة للإنسان من خلال توظيف حواسه الخمسة والشهود(5) والعقل والفهم -يقوم في الغالب على أساس علم المنهج الوضعي. «إن النزعة الإثباتية تمثل اتجاهاً معرفياً في العلوم الاجتماعية، وإن أتباع هذا الاتجاه يعدّون أساليب العلوم الطبيعية وعملياتها

ص: 441


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 212
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 325.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 345
4- انظر علي قيصري روشنفکران ایران در قرن ،بیستم ص ،153 ترجمه إلى الفارسية محمد دهقاني، نشر شهر ،کتاب هرمس المركز العالمي لحوار الحضارات، 1383 ه- ش.
5- Observation

نموذجاً لكل نوع من أنواع البحث والتحقيق»(1).

لقد ذكر السيد أحمد فرديد الأمور الآتية في باب علم المنهج :

1 - إن العلم الراهن حصولي بحت، ولا يوجد فيه تفكير حضوري.

2 -إن العلم الحصولي تحول إلى وسيلة للاعتياش، وهو بعيد عن التقوى والورع والخضوع والتضرّع إلى الله(2).

3 - في العلم الحصولي إذا لم يكن هناك تفكير حضوري، فإن العلم والفلسفة بدورهما سوف يتجهان نحو الثرثرة (3) .

4 - «إن التفكير الحضوري يجب أن يكون شرطاً في العلم والصناعة»(4).

5 - إن التفكير الحضوري حركة من الباطل باتجاه الحق.

إن هذه العبارات تدل على أن السيد فرديد مخالف -بل ومنتقد - للمنهج التحصلي أو

«الوضعي» الذي يحظى بتأييد الليبراليين؛ إذ إنه يراه غير كاف، وإنه وسيلة للاعتياش، وبعيد عن التقوى والورع والخضوع والتضرع إلى الله، وإنه تترتب عليه التوالي الفاسدة، وإن التفكير الحصولي ،زائف وإنه يمثل نهاية التاريخ، وإنه عين التدني والسقوط من التعالي والرقي، وهو يمثل الفرار من الحق والحقيقة، وإنه يؤصل الموجود والزمن الفاني، ويتماهى مع النزعة الاستغرابية بشكل كامل.

كما أن للسيد فرديد انتقادات أخرى، وهي تمثل نوعاً من النقد على أسس الليبرالية، بيد أننا في هذه المقالة لم نعدّها جزءاً من أسس الليبرالية، ومن بينها الرأسمالية، والديمقراطية

، اذ عدّهما السيد أحمد فرديد جزءاً من أسس الليبرالية.

ص: 442


1- انظر: کاووس سید امامی، پژوهش در علوم ،سیاسی ص ،7 پژوهشکده مطالعات فرهنگی و اجتماعی و دانشگاه امام صادق (عليه السلام)، الطبعة الأولى طهران 1386 ه-.ش.
2- انظر: أحمد فرديد ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، ص 215، 1381 ه- ش.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 216.
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 215.

يرى السيد فرديد أن أنصار الليبرالية يعملون على حماية الرأسمالية ورأس المال(1)، وأن الليبرالية تدعم الديمقراطية الغربية(2) . إن الليبرالية التي يتعرض لها السيد فرديد، ويعمد إلى تسديد سهام نقده ناحيتها هي الليبرالية في صيغتها الإيرانية، اذ يقوم القائلون بها بإضفاء مسحة ليبرالية على القرآن، ويصبغون القرآن بصبغة ديمقراطية، ويسقطون عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهم يقيمون الصلاة في الظاهر وفي الوقت نفسه لا يختلف عندهم الأمر بين ولاية الإمام الخميني وبين وجدان جان جاك روسو وعاطفته (3) . وحيث أن الثورة والنزعة الثورية والصيرورة الثورية تمثل هدفاً بالنسبة إلى السيد فرديد، فإنه يرى في الليبرالية تياراً يحول دون الاتجاه نحو الثورة، ودون تمكن الإنسان وقدرته واستعداده للقيام بثورة ما بعد الغد (4).

خلاصة واستنتاج

إن كلمات السيد أحمد فرديد بشأن الغرب، هي في الغالب ذات نزعة إنكارية وصبغة دفعية، بمعنى أنه يعمد إلى إثبات وجهة نظره والتخفيف من هجمة الغرب من خلال إلغاء الغرب. إن السيد فرديد ينتقد الأسس الليبرالية، بمعنى أنه يسعى إلى نقد الناحية الإنسانية والمعرفية والغائية والوجودية في الغرب، وبذلك فإن آراءه تأتي غالباً في سياق نفي الأسس الليبرالية ذاتها.

وفيما يتعلق ب- «حرية التفكير ، يوجه السيد فرديد نقداً واضحاً وصريحاً، حيث يهاجم الحرية القائمة. . بمعنى أنه يهاجم بنحو ما أصل هذه الحرية وماهيتها.

وفيما يتعلق ب-« سيادة الفرد على المجتمع يقوم بمهاجمة شمولية العقل المعاصر والنتائج المترتبة عليه بسبب ما يعانيه من الأمراض ويضع عليه كثيراً من علامات الاستفهام.

ص: 443


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 309.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 55
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 53
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 74

وعليه من خلال الهجوم على الأصل، لا يرى النتائج المترتبة عليه مناسبة أيضاً.

وفيما يتعلق ب- «المساواة» يذهب إلى الاعتقاد بأن هذه المساواة كافرة، سواء أكانت هذه المساواة في إيران أم الغرب؛ إذ إنه يرى أن المرحلة المعاصرة والراهنة غير إلهية، ومن هنا يكون كل ما يطرح في إطارها داخلاً في نطاق الكفر .

وفيما يتعلق ب- «المداراة أو تحمل المخالف أو التسامح والتساهل»، لا نلمس موقفاً ورأياً صريحاً من السيد فرديد، بيد أنه لا يطيق الاختلاف في العقيدة، ويدرج جميع العقائد الراهنة في خانة«آلهة الأمس وآلهة اليوم وآلهة الغد»، حيث يراها آلهة «غربية» و

«نفسانية». ومن هنا فإنه لا يرتضي غير الرؤية التي تندرج في إطار «إله ما قبل الأمس، وإله ما بعد الغد». وهذه الرؤية مغايرة لرؤية الغربيين والليبراليين، وبذلك يهاجم السيد فرديد أصل المداراة.

وفيما يتعلق ب- «سيادة القانون أو النزعة القانونية» لا يرتضي السيد فرديد القانون والمؤسسات الحديثة بأي حال من الأحوال. وذلك لأنه يراها منبثقة عن النفس الأمارة والعقل الممسوخ للغرب الحديث، ويعبر عن الحركة في هذا الاتجاه ب- «الإصابة بالإستغراب». ومن هنا فإنه يذهب إلى الاعتقاد بأن «الإنسان قد سئم من هذه القوانين التي وضعها بنفسه، وقد بدأ بالتوجه إلى الحكومة الإلهية». ويمكن لنا أن نستنبط من هذا التعبير سيادة القوانين الإلهية في المنظومة الفكرية للسيد فرديد، ولكنه لا يذكر ما هو الإطار والمؤسسة التي يمكن تطبيق هذه الأحكام والقوانين من خلالها. وفي المجموع فإنه لا يرتضي القانون والنزعة القانونية الغربية.

وفيما يتعلق ب- «الدولة المحدودة أو المشروطة »لا يوجد في كلمات فرديد تعبير صريح بشأن قيود وحدود هذه الدولة والحكومة بالمعنى السياسي والحديث للكلمة، ولكن يمكن لنا أن نستنبط من تضاعيف كتاباته أن الدولة من وجهة نظره، مقيدة نوعاً ما

ص: 444

بقيود الولاية أو المحبة والمودّة ، ويرى أن من جملة مصاديق هذه الدولة والحكومة، دولة وحكومة النبي محمد ، والإمام علي .. ومن جهة أخرى عندما يقوم السيد أحمد فرديد ببيان بحث السياسة الصحيحة، ويشترط أن تكون مقرونة بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر، فإنه بذلك يعمل على تقييدها بشكل وآخر. وفي المجموع حيث يعبر السيد فرديد عن المرحلة الراهنة بالمرحلة المأزومة، بحيث يحكمها تعدد الأئمة أو النفوس الأمارة للناس ولا وجود فيها لإله ما قبل الأمس، لذلك فإنه يعارض رؤية الغربيين والليبراليين في حقل الدولة المقيدة والمشروطة بشدّة.

وفيما يتعلق ب- سيادة العقل يرى السيد فرديد أن العقل لوحده -لا سيما بمعناه الغربي - لا يمكن الاعتماد عليه؛ إذ إنه من وجهة نظره لا يلبي حاجة الإنسان، وإنه يعالج الأمور الظاهرية فقط، وهذا يتعارض مع العقل الشريف والأصيل في إطار الفضاء الفكري للسيد فرديد، والذي كان سائداً قبل الأمس، وسيكون هو السائد في ما بعد الغد. والأهم من جميع ذلك أن العقل البشري لا يستطيع أن يستنبط علل أحكام الإسلام ومن خلال هذه العبارات يمكن القول: إن السيد أحمد فرديد يوجه سهام نقده إلى أصل رؤية الغربيين والليبراليين فيما يتعلق بسيادة العقل. ولكنه حيث يقول بأن العقل الغربي يؤدي إلى انحراف البشر ، وإن كان لا يبين نوع هذا الانحراف، بيد أنه يوجه الانتقاد إلى نتائجه وحيث يقول إن العقل الغربي والعقل المعاصر مبتلى بالمرض والبؤس، وإنه ممسوخ ومنحوس وواهم، فإنه ينسب إلى هذا العقل صفات لم يقدم المبررات عليها .

وفيما يتعلق ب- «العلم»، يذهب السيد فرديد إلى الاعتقاد بأن العلم الحديث والغربي هو علم الوهم والظاهر والنفساني، وأنه لا ينطوي على شكر، ويخلو من الورع والتقوى والخضوع والتضرّع إلى الله، ولا وجود فيه للحق والحقيقة، وإنما الأصالة فيه للموجود، ومن هنا فإنه يذهب إلى الاعتقاد إلى أن تطبيقه والعمل به

ص: 445

يساوق التدني من التعالي والرقي والهروب من الحق والحقيقة.

وفيما يتعلق ب- «الرقي على أساس التكنولوجيا»، يذهب إلى انتقاد الاتجاه الراهن في خصوص الصناعة والتكنولوجيا، وعلى الرغم من أنه لم يكن يرى إمكان رفض

«التكنولوجيا »مرة واحدة، بيد أنه يرى أن الصناعة إنما جاءت لمحاربة الناس من خلال دفعهم نحو الاقتتال فيما بينهم، ومجاهرتهم لله بالمحاربة. ومن هنا تكون مظهراً من مظاهر نقمة الله، وتؤدي إلى تحطيم البشر.

وفيما يتعلق ب-« معرفة الإنسان» كذلك يذهب السيد فرديد إلى الهجوم الشديد

على الغرب والعالم المعاصر ومرحلته الراهنة وينتقد هيمنة ماهية وحقيقة الإنسان المنفلت الذي لايهتم بغير الناحية المادية والجسدية من وجوده. يرى السيد فرديد أن هذا الإنسان الأناني يجلس خلف مقود عربة نفسه الأمارة، منطلقاً على مركب الغرور والنسناس متنكراً لجميع حقائق الحياة ومنكراً لوجود الله والنفس المطمئنة، متسلحاً بسلطة «اليوم» ليتجه نحو سيادة «الغد».

وفيما يتعلق ب- «المعرفة الغائية يذهب السيد فرديد إلى الاعتقاد بأن العالم المعاصر من خلال تأصيل الدنيا واعتبارها هي الهدف هو «عالم مقلوب»، وإن باطن الدنيا قد أضحى خالياً من المحتوى، ولم يعد للثقافة فيه من وجود؛ إذ لا ذكر فيه لله، فهو عالم شيطاني ونفساني»، في حين لا بد من الالتفات إلى «الدنيا» (الزمن الفاني)، و«الآخرة »(الزمن الباقي أيضاً). فكلا هذين العالمين مقترن. ومن هنا فإنه يعارض الأسس الفكرية للغرب والليبرالية، ويسدد سهام نقده إليهما.

وفيما يتعلق ب- «معرفة الوجود» يذهب السيد فرديد إلى الاعتقاد بإن الحقيقة لا يتم اطلاقها على مجرد الأمور المشهودة فقط، بل إن الحقيقة أو الوجود وراء العين والذهن وهو الله، وتسمى الحقيقة أيضاً، ولها ناحية ظاهرية وباطنية. يذهب السيد

ص: 446

فرديد إلى الاعتقاد بأن عالم الغيب قد تم تجاهله في المرحلة الراهنة، ومن هنا فإنه يعمد إلى انتقاده بهذا الأسلوب، حيث يتم الاهتمام بمجرد عالم الشهادة وعالم الوهم فقط، واصفاً ذلك بأنه تأصيل للعدم الذي يبدو وجوداً، وهذا يمثل قلباً لحقائق الوجود والعالم.

وفيما يتعلق ب-« علم المعرفة» يذهب السيد فرديد إلى الاعتقاد بإن المعرفة المعاصرة (الأسلوب المعرفي الناشئ عن الغرب والسائد في كل مكان بحيث اكتسب حالة تأليهية)، إنما خاضت في العينيات والظاهرات. لأن خصوصية الإنسان تكمن في كونه «مدركاً»، وإن للإدراك أقساماً، من قبيل الإدراك الحسي، والإدراك الخيالي، والإدراك الوهمي والإدراك العقلي والإدراك المتعالي، ومن ثم فإن دائرته واسعة. ومن هنا فإن هذه الرؤية تختلف عن رؤية الغربيين والليبراليين في حقل علم المعرفة.

وفيما يتعلق ب-« علم المنهج» يذهب كذلك إلى انتهاج موقف المخالف -بل الناقد- للمنهج التحصلي أو «الوضعي» الذي يحظى بتأييد الليبراليين؛ إذ يراه غير كاف وأنه وسيلة للاعتياش، وبعيد عن التقوى والورع والخضوع والتضرع إلى الله، وأنه تترتب عليه التوالي الفاسدة، وأن التفكير الحصولي ،زائف، وأنه يمثل نهاية التاريخ، وأنه عين التدني والسقوط من التعالي والرقي، وهو يمثل الفرار من الحق والحقيقة، وأنه يؤصل الموجود والزمن الفاني، ويتماهى مع النزعة الاستغرابية بشكل كامل.

وفي المجموع يندرج رأي السيد أحمد فرديد في إطار معارضة الغرب؛ ذلك لأن أغلب آرائه تذهب إلى المخالفة مع الغرب، ويذكر أدلة على هذه المخالفة، وبطبيعة الحال فإنه في إثبات النسخة البديلة وتقديمها يطرح موقفه ورؤيته على نحو إجمالي، وينظر في الغالب إلى الموضوع من زاوية اللغة والفلسفة، ويطرح بعض الأمور التخصصية. وفيما يتعلق باتجاه السيد فرديد في مكافحة الغرب، يمكن لنا أن نستنبط الأمور الآتية:

ص: 447

1 - يجب أن يكون لله حضور في المجتمع.

2 - إن المعنويات أمر لازم وضروري.

3 - إن حضور الوحي أمر لازم وضروري.

4 - إن النزعة الإنسانية من مصاديق عبادة النفس الأمارة.

5 - إن المستقبل والعاقبة من نصيب المتدينين والمؤمنين بالله كما كان الأمر كذلك في الماضي البعيد أيضاً.

6 - إن السياسة يجب أن تشتمل على المحبة والرحمة.

7 - إن الحقيقة تتجلى في كل زمان بشكل من الأشكال.

وهذه النتائج مع أهميتها عامة، ولا تدخل في الجزئيات.

ص: 448

آراء رضا داوري حول الغرب والاستغراب «على ضوء تبني مجتمعاتنا المبادئ الغربية الحديثة »

اشارة

آراء رضا داوري حول الغرب والاستغراب «على ضوء تبني مجتمعاتنا المبادئ الغربية الحديثة » (1)

تدوین : رضا دهقاني

مقدمة:

دوّن الباحثون كثيراً من الدراسات حول آراء الدكتور رضا داوري ونظرياته وكلّ واحد منهم أدلى بدلوه في هذا المضمار ليحتدم الخلاف حول حقيقة مذهبه الفكري، لكنّه عدّ هذا الخلاف مجرّد سوء فهم للموضوع، وعزا السبب في ذلك إلى الإجمال في كلامه وكتاباته كما عد الارتباطات اللغوية بين مختلف الشعوب في العالم المعاصر قد أسفرت عن عدم فهم بعض الباحثين لدلالات الكلام، حيث سادت النزعات إلى التجدّد وتشابكت الآراء وامتزجت مراتب الوجود مع بعضها، كما تدنى مستوى الفلسفة والفنّ والدين والمعارف لتتنزل إلى مستوى الفهم العام وأمست اصطلاحاتها وعباراتها تدوّن بأسلوب الصحف والمجلات، وبما أنّ اللغة السياسية هي التي تطغى على لغة الإعلام المعاصرة فقد اصطبغت هذه الأصول والمعارف بطابع سياسي

يعتقد الدكتور داوري بأنّ السياسة لها اليد الطولى في العصر الحديث وقد طغت على كلّ شيءٍ بحيث لا يمكن تجاهل نفوذها بتاتاً، وأكد على أنّ البشرية واجهت مشاكل جمّة وتعقيدات فكرية إثر الإذعان لها وتسييس جميع جوانب الحياة تحت

ص: 449


1- بحث مستل من كتاب: غرب سناسی انتقادی مسلمين مجموعة مؤلفين اعداد ذبيح الله نعیمیان منشورات المعهد العالي للعلوم والثقافة الاإسلامية -قم.-ترجمة: أسعد مندي الكعبي

مظلتها(1)؛ ومن هذا المنطلق قال: «حاولت في كتاباتي أن أكون وفياً للفلسفة وأنا على يقين بأنّ هذا الوفاء ليس عقلانياً ولا مسوّغ له في الظروف الراهنة، فالفهم الخاطئ الذي وقع فيه بعض القراء والباحثين لدى مطالعتهم مدوّناتي منشؤه تصوّرهم بأنّ هدفي من الكتابة هو الترويج والدعوة إلى وجهة سياسية معيّنة، والسبب الأساسي في ذلك طبعاً يكمن في طغيان الأفكار السياسية على الذهن البشري المعاصر .

نعم، لقد ابتليت البشرية بهذه الظاهرة، وكلّ محاولة تبذل للتخلص من قيودها فهي تبوء بالفشل لأنّ النقاشات المطروحة في أيامنا هذه قد امتزجت بأسرها مع التوجهات السياسية، لذا فكلّ صوت يغرد خارج هذا السرب يقمع ويهمش ليكون الصمت مصيره المحتوم، وهذا ما تواجهه لغة الفلسفة والشعر اليوم»(2)

الدراسات المعاصرة التي تدوّن حول الاستغراب تتضمن مواضيع عده، بما فيها دراسة الآراء والنظريات التي طرحها المفكرون الإيرانيون المحدثون الذين تطرقوا إلى تحليل واقع العالم الغربي والتوجهات الفكرية للمفكرين الذين أنجبتهم تلك الديار؛ حيث تم تسليط الضوء فيها على الكتاب الإيرانيين الذين اقتبسوا بعض متبنيات نظرائهم الغربيين؛ والدكتور رضا داوري هو أحد أبرز هذه الشخصيات العلمية، ومن هذا المنطلق فقد أجريت حول نزعاته الفكرية كثير من البحوث والدراسات، ناهيك عن المقابلات التي أجريت معه في هذا الصدد، وهذا الأمر بطبيعة الحال ينم عن أهمية نظرياته وأفكاره في العصرالراهن.

دوّن الدكتور رضا داوري عدداً من الكتب والمقالات التي أعرب فيها عن وجهات نظره ومتبنّياته الفكرية، لذا فقد اعتمدنا عليها في تدوين هذه المقالة بهدف إجراء دراسة تحليلية لاستكشاف آرائه على صعيد الغرب والاستغراب، فأُطروحاته في هذا المضمار تعدّ برأينا أهم محور في تراثه الفكري؛ وبما أنّه عد الباحثين قد أساؤوا فهم وجهات نظره الحقيقية، فقد بادرنا إلى البحث عن منشأ هذا الفهم الخاطئ وبيان

ص: 450


1- باحث متخصص في العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، وطالب دكتوراه في الفلسفة التطبيقية بجامعة العلامة الطباطبائي (رحمه الله).
2- رضا داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387 ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 3.

أسبابه ودواعيه على ضوء ما قاله ودونه.

وفي هذا السياق تطرقنا في بادئ المقالة إلى توضيح مفهومي الغرب والاستغراب وتعريفهما حسب وجهة نظر الدكتور داوري، ثمّ سلّطنا الضوء على مسألة الاقتباس الفكري من العالم الغربي وذكرنا مدى أهميتها وحدودها الخاصة التي لا ينبغي أن تتجاوزها، وبعد ذلك أشرنا إلى أهم الأصول والقواعد اللازم اتباعها في عملية الاقتباس الفكري وكيفية التصدّي للهجمات الثقافية الغربية التي تجتاح مجتمعاتنا الشرقية بين الفينة والأخرى بذرائع شتّى، فتارةً تطرح علينا في إطار علمي تقني وتارةً أخرى يخدع بها بعض مفكرينا باعتبارها أصولاً تحرّريةً ديمقراطيةً يقال إنّها تهدف إلى تنمية المجتمعات وانتشالها من التخلّف والاستبداد.

لا ريب في أن دراسة أصول الهوية الذاتية(1) لاستكشاف السبل الناجعة في التصدّي إلى التيّارات الفكرية الغربية على ضوء آراء الدكتور رضا داوري ونظرياته، من شأنها أن تكون منطلقاً لتحليل وتقييم وجهات نظره التي سوّغ فيها تبني النظريات المطروحة في العالم الغربي؛ ومن هذا المنطلق سوف نتطرق إلى هذا الموضوع خلال طيّات البحث ثمّ نعرّج على مبحث حوار الحضارات لنثبت أنّ هذا المفكر الإيراني يعدّ هذا الحوار سبيلاً صائباً وعملياً في مواجهة المدّ الفكري القادم من الغرب.

الغرب والاستغراب

أكّد الدكتور رضا داوري في بحوثه على أنّ الشرق والغرب عالمان متباينان، فهو

ص: 451


1- من جملة ما قاله الدكتور رضا داوري على هذا الصعيد ما يأتي: «لدي كثير لأقوله حول مباحث الهوية الذاتية، وهذه ليست المرة الأولى التي أتطرّق فيها إلى هذا الموضوع، فكثير من الزملاء عدّوني من جملة الباحثين في هذا المضمار إلا أنّني كلّما محصت آثاري الفكرية طوال خمسة عقود، لا أجد فيها ما يدلّ على ذلك، ولربما يكون السبب في ذلك جهلي بالمعنى الاصطلاحي لمفهوم الهوية. النقد الذي طرحته في دراساتي حول الغرب والحداثة لم يكن متقوّماً على نزعة إيديولوجية محدّدة، وحينما تحدثت عن بعض التطوّرات والأحداث التأريخية كنت أروم الإشارة إلى أهمية التحرّر والخلاص من قيود التقليد والنجاة من الضلال والضياع الفكري. إنّني لست مناهضاً للغرب في كتاباتي كما زعم بعض الكتاب الذين لم يطلعوا على مؤلّفاتي وتجاهلوها بالكامل، فأنا لا أكنّ العداء لأحد في حياتي، بل غاية ما في الأمر أني حاولت التعرف على واقع الغرب وماهية الحداثة الغربية؛ كما لم أقل يوماً بأنّ تأريخ تلك الديار فذ ومنقطع النظير ولا أعتقد بتاتاً بأنه أزلي؛ فغاية ما قصدته هو أن لا أحد يعلم بماهية الحضارة التي ستحلّ محلّ الحضارة الغربية مستقبلاً إلا الله عزّ وجلّ.»

لا يؤيد فكرة كونهما مصداقين لعالم واحد من منطلق اعتقاده بأنّ الكون ليس سلسلةً متحدةً زاخرة بالأمور الحسنة والقبيحة كما قال بعضهم، كما عدّهما المنشأ الأساسي لظهور بعض التقاليد والأعراف المشتركة والعلاقات المتبادلة(1) تجدر الإشارة هنا إلى عدم وضوح مقصوده من مفهوم كلمة (غرب) التي تطرّق إليها في مختلف آثاره، ومن أقواله في هذا المضمار ما يأتي:« الشرق والغرب عالمان متباينان فكلّ واحد منهما مستقل بذاته، والكون الذي نحن فيه لا يمكن اعتباره سلسلةً من الأشياء المترابطة مع بعضها، ناهيك عن أنه ليس روحاً جماعيةً كما ادعى إيميل دوركايم؛ وإنما هو نبراس يضفي للأشياء إمكانية الوجود والظهور والقرب والبعد والتقدّم والتأخر والأهمية وعدمها والعظمة والصغر وسائر الأمور الضرورية في الحياة البشرية.

لا نبالغ لو قلنا إنّ الشرق والغرب بصفتهما عالمين مختلفين لا بد من أن يمتلك كلّ واحد منهما القابلية على صياغة بعض التقاليد والأعراف والعلاقات والقوانين المختصة به، لذا فهما ليسا سلسلةً من الأشياء المتحدة والمتناغمة مع بعضها» .(2)

الغرب برأيه عبارة عن حادث وتأريخ، إذ قال بأنه ولد في بلاد الإغريق تزامناً مع انبثاق علم الفلسفة، وكما أشرنا آنفاً فهو يؤكد على أنّ كلاً من الشرق والغرب له هويته الخاصة به، (3)فالعالم الغربي باعتقاده يمثل تأريخاً يحظى ابن آدم فيه بالحياة في رحاب عالم الوجود ، أي إنّه عالم أبصر النور في تأريخ محدّد ضمن نطاق فكري معين ثم بدأ يسير قدماً ليفرض نفسه شيئاً فشيئاً كوجود بين سائر الموجودات، وآخر مرحلة بلغها في مسيرته الوجودية تتجسّد في انضوائه تحت مظلة التقنية المطلقة والعلوم المتنامية. وقد أكّد على أنّ العالم الغربي الحديث أمسى مضماراً لحياة جعلت مصير البشرية مرهوناً بالتطوّر التقني. (4)

كما ذكرنا أعلاه فقد ذهب هذا المفكّر إلى القول بأنّ الغرب ذو ماهية خاصة به،

ص: 452


1- قال الدكتور رضا داوري في هذا الصدد:« ليس من الصواب بمكان تقييد العلم بالسنن والتقاليد والعلاقات المتبادلة».
2- رضا داوری فرهنگ خرد و آزادی (باللغة الفارسية) ، 2004 م 1383 ه- ش) طهران منشورات ساقی، ص 145 - 146.
3- المصدر السابق، ص 146.
4- المصدر السابق 152

ولكنّ هذه الماهية ليست من سنخ تلك الأشياء التي تقع في جواب (ما هو)، بل هي عبارة عن مشروع فكري تكتسب فيه الأشياء والأشخاص والأفكار والأعمال والمقاصد والمعاملات والقوانين صبغتها الخاصة بها وتصقل لتظهر بمظهرها المعين ؛ فهذا التأثير الذاتي متحقق بشكل دائم في العلوم والآداب والأعمال والقوانين والأعراف ومختلف الأشياء وجميع الأشخاص(1).

لا نبالغ لو قلنا إنّ مفهوم الاستغراب هو أحد أهم المباني المحورية في المنظومة الفكرية للدكتور داوري، والفضل في ذلك يعود إلى الباحث أحمد فرديد الذي أثر على أفكاره غاية التأثير لدرجة أنّه ساق بحوثه على أساسها .

الدكتور داوري لا يعتقد بأنّ الاستغراب مجرد تقليد بحت للأعراف والتقاليد والطباع السائدة في العالم الغربي، لذلك قال: «الاستغراب يعني توحيد النمط الفكري في العالم، لذا فهو عبارةٌ عن رؤية موضوعية ذهنية للكون والكائنات».(2) هذا الكلام يدلّ بوضوح على أنّ الغربيين أنفسهم قد أمسوا تحت طائلة ظاهرة الاستغراب، فقد أكد في موضع آخر على أنّ بعض البقاع في العالم كأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان قد تأثرت بهذه الظاهرة في مستوى بسيط، في حين وطؤها كان أشدّ في سائر البقاع والبلدان ولا سيّما الشرقية!(3) لذا أكد على أنّ الاستغراب هو المصير المحتوم الذي ستواجهه البشرية من أقصاها إلى أقصاها، ورأى أنّ أدنى مراتب هذه الظاهرة تتجلى في سيادتها على المجتمعات البشرية من منطلق اعتبار القيم الغربية شاملةً مطلقةً مع الجهل بأنّها غربية المنشأ، وهذا الأمر في حقيقته استغراب مضاعف، أمّا المرتبة الأخرى فتتمثل في الوعي الذاتي الذي لم نبلغه حتى يومنا هذا، حيث لا ندرك أنّ جميع القيم السائدة حالياً في العالم الغربي هي من سنخ الاستغراب البسيط. القيم الغربية من وجهة نظره تستند إلى مبادئ وأصول وهي الصورة الظاهرية للفكر الغربي المتغلغل في باطن الحضارة؛ وعلى هذا الأساس لا بد للبشرية من تبنّي

ص: 453


1- رضا داوري ما وراه دشوار تجدد (باللغة الفارسية)، 2005 م (1384ه- ش)، طهران، منشورات ساقي، ص 25.
2- رضا داوري عقل وزمانه گفتگوها (باللغة الفارسية) ، 2008م (1387) ه- ش)، طهران منشورات سخن، ص 28.
3- المصدر السابق.

الظاهر والباطن في آن واحد من دون التمييز بينهما، وهذه الصورة من الاستغراب

مستحسنة وهامة برأيه(1).

ومن الآراء الأخرى التي تبنّاها هو إدراج القضايا النفسانية - ومن جملتها النزوات الشهوانية - في مقابل القضايا الموضوعية ،الذهنية، إذ لم يكن يعتقد ببطلان هذا التقابل فيما لو تحقق على ضوء دلالته الفلسفية لا الأخلاقية؛ لذلك قال: «إنّ كثيرين عارضوا هذه الفكرة، وهم على حقٌّ في موقفهم هذا، فأنا أيضاً لا أتفاعل معها بالكامل».(2) وتجدر الإشارة هنا إلى أنه تبنّى هذه الفكرة متأثراً بآراء المفكر الإيراني أحمد فرديد، وفي السياق ذاته أيضاً طرح مباحثه حول النفس الأمارة؛ حيث تطرق إلى الحديث عن النزعات النفسانية والنزوات الشهوانية في بعض مباحثه فعلی سبیل المثال ذهب إلى القول بأنّ أصحاب النزعة الطوباوية المعاصرة لا يعتقدون بوجود الله تعالى، ومن ثَمّ لم يرتبوا أيّة آثار على الأحكام والمقررات الدينية؛ لذلك قال في هذا الصدد: «الإنسان المعاصر يعير أهمية بالغةً لطبيعته الحيوانية ويصرّ على الامتثال لأوامرها» .(3)وقال أيضاً : «إذا اعتبرنا النزعات النفسانية الجامحة والنزوات الشهوانية بأنها عين الوجود البشري، فحتى وإن أمكن إثبات وجود الله تعالى على أساسها، لكنها ليست مفتقرةً إليه؛ لذا فإنّ جميع مبادئ الفلسفة الغربية عبارة عن توجهات نفسانية شهوانية، كما أكّد على ما يأتي: كلّ شيء في العالم الغربي يسير على وفق نمط معين، لذلك ليس هناك اختلاف بين العلم والسياسة والحرّية على هذا الصعيد، وهذه هي النزوة الشهوانية الحيوانية بحذافيرها»(4)

لا شكّ في أنّ طريقة طرحه لمسألة الشهوانية قد تسببت في حدوث سوء فهم المتبنّياته الفكرية وتوجيه نقد لاذع له من قبل بعض الباحثين، ومن جملة ما قيل في نقده ما يأتي: «ما الضير في اعتبار أنّ لكلّ شيءٍ أسلوباً خاصاً به؟! فيا ترى هل يمكن

ص: 454


1- رضا داوری وضع کنوني تفکر در ایران (باللغة الفارسية)،1987م (1357ه- ش) طهران منشورات سروش، ص 65.
2- المصدر السابق، ص 29
3- رضا داوري درباره علم (باللغة الفارسية)، 1990م (1379 ه- ش) طهران منشورات هرمس، ص 47.
4- رضا داوري فلسفه در بحران (باللغة الفارسية)، 1988م (1367 ه- ش) طهران منشورات امير كبير، ص 67.

ادعاء أنّ كلّ تلك الدراسات والنقاشات المطروحة في الفكر الغربي حول أساليب شتّى العلوم مجرد نزعات نفسانية شهوانية؟! لو أننا اعتبرنا النفسانية الشهوانية أمراً موضوعياً ذهنياً، فهي بطبيعة الحال تنضوي تحت مبدأ الحسن وليس القُبح، وعلى هذا الأساس فما هو الدليل في اعتبار المنهجية الخاصة لإحدى النزعات الفكرية سبباً لادعاء عدم وجود اختلاف بين السياسة والحرّية ؟ ! » .(1)

السير في ركب الحداثة

الدكتور رضا داوري عد العصر الحديث بأنّه عصر له خصوصياته التي يمتاز بها عن غيره، والبشرية فيه تبنّت مفهوم العقل العملي الآلي(2) ، ومن هذا المنطلق ذهب إلى القول بأنّ الحداثة عبارة عن ظاهرة مرتبطة بحياة بني آدم على نحو معين بحيث تتجلى فيها مختلف العلوم والفنون والتقنيات ضمن نطاق هذا الارتباط(3)، ورأى أنّ العقل الحاكم فيها عاجز عن التعرف على الأشياء كما هي، فهو لا يدركها بحقيقتها وإنما يضفي على الكون والكائنات صوراً معينةً ومن ثم يترسّخ لديه العلم في رحابها، وهو في الحين ذاته ليس في معزل عن إرادة الإنسان، كما أنّه عين القدرة والنفوذ.

هذه الرؤية في حقيقتها قد انبثقت في بادئ الأمر على ضوء نظريات الفيلسوف الغربي رينيه ديكارت، فهو أوّل من طرح فكرة العقل الموضوعي الذهني، وثمرة هذا الرأي هي تهميش المقولات المعنوية المقدّسة وانضواء الفنّ تحت مظلة علم الجمال وسائر المجالات الجديدة، وهذا هو السبب الذي أدى إلى تجلي القابليات العقلية في رحاب التطوّر التقني(4). لو تعمقنا في تفاصيل هذا الرأي لوجدناه أقرب ما يكون إلى آراء المفكر الألماني مارتن هايدجر التي طرحها في مقدمة كتابه (الكينونة والزمان) الذي عدّ الحداثة فيه سبباً لطروء خمسة تغييرات أساسية هي:

ص: 455


1- عبد الله نصري رويارويي با تجدد (باللغة الفارسية)، المجلد الثاني 2007م 1386 ه- ش)، طهران، منشورات نشر علم ج 2 ص .263
2- رضا داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية) ، 2008م (1387ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 23
3- رضا داوری فرهنگ خرد و آزادی (باللغة الفارسية) ، 2004 م (1383ه- ش) طهران منشورات ساقی، ص 101.
4- المصدر السابق

(1) ظهور العلم الحديث.

2 سيادة التقنية الآلية.

3 ) تحوّل النشاطات البشرية إلى ثقافات.

4 سريان الفن في نطاق علم الجمال.

5 ) تهميش الإله أو الآلهة(1) .

وفي بعض كتاباته عد الدكتور داوري الحرّية الفردية بأنّها الميزة الفارقة للعالم الغربي، وفي مواطن أخرى ذهب إلى القول بأنّ المتبنّيات العقلية هي فصل الخطاب في تلك الديار؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه قصد من ذلك العلوم العقلية المادية، حيث تبنّى فكرة أنّ الفكر الغربي بأسره متقوم على العلوم والنزعات العقلية المادية، وعلى هذا الأساس قيّد العقل بالنزعات النفسانية الشهوانية، ولكنه أكد على أنّ هذه الشهوانية لها مفهومها الخاص لأنها لا تعني الخوض في غمار الأفعال الشهوانية والحيوانية، بل هي نزعة نفسانية تجسّد نظاماً غربياً فريداً من نوعه يكون الإنسان هو المرتكز الأساسي والمعيار الفذ لكلّ شيءٍ فيه (2). وفي هذا السياق أيضاً ادّعى أنّ العقل هو ذات النفسانية الشهوانية التي أبادت الحرث والنسل إثر ترويجه الفساد بين المجتمعات البشرية،(3) فأتباع النزعة العقلية برأيه يحاولون بشتى السبل استغلال المادة وتسخيرها خدمةً لجميع مقتضيات الحياة البشرية مهما كانت ماهيتها؛ كما أكّد على أنّ العقل الحديث لا يعدّ قابليةً قدسيةً مرتبطةً بعالم القدس، بل تنزل شأنه من مراتب الجروت والملكوت ليتحوّل إلى مرشد يأخذ بيد الإنسان لفرض سلطته على ما يحيط به. (4)كما ذهب إلى القول بأنّ الوجهات الفكرية الحديثة قد طرأت

ص: 456


1- مارتن هايدجر، عصر تصویر جهان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية : يوسف أبا ذري، 1996 م (1375 ه- ش)، مقالة نشرت في مجلة (ارغنون)، العددان 11 و12، ص 1.
2- رضا داوري فلسفه در بحران (باللغة الفارسية)، 1988م (1367 ه- ش طهران) منشورات امير كبير، ص 84
3- قال الدكتور داوري على هذا الصعيد : في كتابي (أزمة الفسلفة) أردت بيان حقيقة فكرة النفسانية الشهوانية، ولكنّني لم أقصد من ذلك ادّعاء أنّ هذه النزعة قد أفسدت البشرية كما يقال، فأنا لست متأكداً من ذلك».
4- رضا داوري شمه ای از تاریخ غرب زدگی ما (باللغة الفارسية)، 1984م (1363 ه- ش)، طهران، منشورات سروش، ص 12.

عليها تغييرات ولم تعد متكافئةً مع الرؤى القديمة، والطبيعة بدورها تحوّلت إلى كيان مجرد عن الروح ولا بد من أن تتنزل إلى أدنى المستويات المادية وتخضع بكلّ وجودها لإرادتنا كبشر(1)

ومن جملة الآراء التي أصرّ عليها هذا المفكر الإيراني أن مجتمعاتنا الشرقية قد واجهت هزائم وهفوات متتالية طوال صراعها المحتدم مع المد الفكري الغربي، حيث قال: «... كنا على مشارف نهاية تأريخنا، ولو لم تنبثق حقبة تأريخية جديدة في تلك الآونة لكان مصيرنا المحتوم هو الزوال والاضمحلال؛ إلا أنّ التأريخ الغربي أبصر النور فانخرطنا في ركبه رغم إرادتنا، وإثر ذلك بدأت مظاهر الحضارة الغربية تفرض نفسها علينا شيئاً شيئاً وهو أمر نجم عنه تلاشي قيمنا القديمة لتحلّ محلّها القيم التي جاءت بها هذه الحضارة الفتية؛ فتصوّرنا أن ما حدث في نهاية التأريخ الغربي القديم سيكون انطلاقاً لنشأة تأريخنا الحديث»(2)، وقال في موضع آخر: «الانطلاقة الأولى لتأريخنا المتجدّد - أو تأثرنا بالتجدّد إن صح التعبير - قد ولدت تزامناً مع نهاية التأريخ الغربي القديم، أي إنّنا سلكنا سبيل التجدّد والحداثة بعد توقف عجلة العالم الغربي المندرس واضمحلال تأريخه القديم»(3). وقد وصف هذا التجدّد بأنّه اقتباس ثقافي فكري، لكنّنا لم نع هذه الحقيقة إلا في الوقت الراهن بعد أن ألقى بظلاله على علومنا وآدابنا وفلسفتنا؛ وهذا الأمر برأيه هو المشكلة الأساسية التي تعاني منها المجتمعات غير المتطوّرة التي أمست حضارتها اليوم غير متناغمة مع متبنياتها الفكرية، في حين المجتمعات الغربية عندما بلغت الذروة في حضارتها وانتعشت ثقافتها، اتحدت متبنّياتها الفكرية وتلاقحت مع بعضها وتناغمت آدابها وأعرافها وأخلاقها واتسق نمط معيشتها وانتعشت علومها وسياستها وتقنيتها إلى أقصى حد(4)، فنحن لم نفهم حقيقة التجدّد ،والحداثة، لذلك ابتلينا بالفوضى التأريخية حسب تعبيره.

ص: 457


1- رضا داوري فرهنگ خرد و آزادی (باللغة الفارسية) ، 2004م (1383ه- ش) طهران منشورات ساقی، ص 122.
2- رضا داوری وضع کنونی تفکر در ایران (باللغة الفارسية)، 1987م 1357ه- ش)، طهران، منشورات سروش
3- رضا داوري درباره علم( باللغة الفارسية)، 1990م (1379ه- ش) طهران منشورات هرمس، ص 44.
4- رضا داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387) ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 43.

وقال في كتابه (واقع الفكر في إيران المعاصرة)(1) بأنّ التأريخ المعاصر لإيران هو نسخة من التأريخ الغربي القديم، ذلك لأننا عجزنا عن الانضواء في ركب التيار الفكري الثقافي الغربي الحديث، وفي الحين ذاته أمسينا غرباء عن ماضينا وابتعدنا عنه؛ لذا لا يمكن لأحد ادّعاء أنّ هذه النزعة الفكرية ستتمخض عنها آثار سلبية من قبيل قطع الطريق على الإبداع الفكري والاكتفاء بالتقليد من الغير (2).

في المباحث الأولى من الكتاب المذكور، تطرّق هذا المفكر إلى دراسة التأريخ والفكر وتحليلهما، وكما هو معلوم فقد تأثر في آرائه بنظريات الفيلسوف الغربي مارتن هايدجر ولا سيما تلك النظريات التي طرحها في كتابه (الوجود والزمان)، ومن هذا المنطلق ذهب إلى القول بأنّ الإبداع الفكري هو نقطة البداية لكلّ تأريخ، بمعنى أنّ الفكر هو الدعامة الأساسية لكلّ إبداع علمي وهو البنية التي يرتكز عليها في كلّ مرحلة من مراحله ولكن مع ذلك ليس من الحري بنا الاعتقاد بوجوب تبعية الفكر للتأريخ(3). ونوّه على أنّ الشعوب الشرقية في العصر الحديث لاتمتلك منظومةً فكريةً متكاملةً تؤهلها للاستقلال بنفسها والاستغناء عن الإبداع الفكري الغربي كما أكّد على أنّ مجرد معرفة مراحل المسيرة التأريخية للفلسفة لا يعدّ سبيلاً ناجعاً يعيننا على مواكبة الفكر الغربي الحاكم في أوروبا، لذا علينا الإقرار بأنّ الإمكانيات الفكرية المتاحة لنا اليوم ليست كافيةً، ولو أننا تقوقعنا في نطاقها فسوف نبلغ مستقبلاً تلك المرحلة التي بلغها التأريخ الغربي القديم فقط إثر غلبة التجدّد الغربي وطغيانه على العالم وسيره قدماً من دون توقف، وعلى هذا الأساس فالمصير المحتوم لنا في المستقبل سوف لا يتجاوز ما وصل إليه العالم الغربي في أوروبا اليوم، إذ مشكلتنا الأساسية تكمن في عجزنا عن الإبداع الفكري وغفلتنا عن أنّ التجدّد قد بسط نفوذه

ص: 458


1- عنوان الكتاب باللغة الفارسية: (وضع کنوني تفکر در ایران)
2- قال الدكتور داوري حول هذه الظاهرة :«لو قيل بأننا لم ننضو تحت مظلة الفكر الغربي، فهذا الكلام لا يعني بالضرورة عجزنا عن الإبداع فكرياً، وقد تحدّث عن الظروف التي نعيش في كنفها إبان العصر الحديث؛ ويجب على الأجيال الشابة أن تكبّ على مسألة التفكر لانتشال متبنياتنا الفكرية من تحت أنقاض الضياع والغربة عن الذات. إنني أتعجب ممّا يقوم به بعض الباحثين والناقدين لدى تحليلهم كتاباتي، حيث لا يميزون بين الأحكام والقضايا الوجودية، ويخلطون بين المسائل الإمكانية والضرورية؛ وهذا خطأ جلي، فلا أعتقد بأنّ هذه المشكلة يمكن أن تُحلّ بمجرد فهم قواعد علم المنطق».
3- رضا داوري، فلسفه تطبيقي (باللغة الفارسية)، 2004 م (1383ه- ش)، طهران، منشورات ساقی، ص 3.

في جميع أصقاع العالم وأصبحت كلمته هي القول الفصل في العصر الحديث.(1)

الخطأ الذي وقعنا فيه برأي الدكتور رضا داوري هو تعاملنا مع الغرب والحياة الغربية بانتقائية، حيث تجاهلنا المبادئ الفلسفية التي طرحت في تلك الديار وأعرضنا عن المتبنّيات الفكرية التي حكمت المجتمع ، ذلك لأننا أردنا اقتباس العلم والتقنية ومظاهر التطوّر والتنمية فحسب؛ ولكن الحقيقة أنّ الحضارة كالشجرة العظيمة التي لا يمكن لأحد قطع أغصانها واستبدالها بأغصان أخرى أو اجتثاث جذورها فقط وزرعها في مكان آخر(2) .

التقنية الغربية في بوتقة النقد والتحليل

تبنى الدكتور رضا داوري رأي مارتن هايدجر الذي أكد فيه على أن الحقائق التي توصلت إليها المجتمعات الغربية ليست سوى حقائق تقنية، ومن هذا المنطلق حذا حذوه وعدّ التقنية الحديثة شيئاً آخر مختلفاً عما يتصوّره بعضهم ويقيّدها بالوسائل والآلات الحديثة، أي إنّها ناشئة في الواقع من فكرة أنّ العالم مصدر للطاقة، لذا فهي ليست حصيلةً للعلم الحديث كما قيل، وإنما تجسّد روح الفلسفة الغربية. (3)

رغم أنّ التقنية التي هي ذات التكنولوجيا الحديثة قد نشأت في مرحلة متأخرة عن نشأة العلم، إلا أنّها متقدّمة عليه من حيث الذات وهي التي تسوقه نحو السير قدماً في رحاب آفاق جديدة(4)، فنحن كبشر برأيه قد قهرتنا التقنية واستحوذت على جميع منافذ حياتنا، وبعبارة أوضح فهي قد استعبدتنا، لذا لو أنّ الأمر كان على العكس بحيث تمكنا من استعباد التقنية لقمنا بتسخيرها خدمةً لمصالحنا بشكل يحفظ مجتمعاتنا من الحروب والاستبداد والويلات التي ألقت بظلالها علينا.(5)وأكد على أنّ بعض الفلاسفة من أمثال الفيلسوف الألماني كارل تيودور ياسبرس يعدون التقنية مجرد

ص: 459


1- رضا داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 61 - 66.
2- رضا داوري درباره علم (باللغة الفارسية)، 1990م( 1379ه- ش) طهران منشورات هرمس ص 72.
3- المصدر السابق، ص 36 - 37.
4- رضا داوري درباره علم (باللغة الفارسية)، 1990م (1379ه- ش) طهران منشورات هرمس، ص 40
5- رضا داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387ه- ش) طهران منشورات ،سخن ص 37.

وسيلة يمكن للإنسان الخلاص من قيودها إن رغب بالتحرّر منها، وأوعز السبب في ذلك إلى جهل هؤلاء الفلاسفة بماهيتها وخلطهم بين ميزاتها الخاصة وبين متبنياتهم الفكرية؛(1) حيث عدّوا التقنية وسيلةً طيّعةً بيد الإنسان إلا أنّ الدكتور داوري ذهب إلى القول باستحالة السيطرة عليها . (2)

بعض الباحثين الذين انتقدوا آراء هذا المفكر الإيراني المعاصر أكدوا على أنه لم يطرح استدلالات متقنةً لإثبات صحة آرائه حول التقنية، وتساءلوا قائلين: حتّى وإن افترضنا أنّ التقنية في العصر الحديث خارجةً عن طوع البشرية، ولكن هل يسوّغ لنا في هذه الحالة زعم أنّها ليست وسيلةً بأيدينا؟! وهذا السؤال بطبيعة الحال منشؤه اعتبار العالم مصدراً للطاقة التي أسفرت عن ظهور التقنية وتطوّرها، وبعد ذلك طرحوا السؤال الآتي عليه لو افترضنا أنّ الطاقة تلاشت من الكون ولم يبق لها أثر، فهل ستبقى التقنية على حالها أو أنّ مصيرها سيكون الزوال المحتوم ؟(3)

يعتقد الدكتور داوري بأنّنا مكلّفون بتحرير أنفسنا من استحواذ التقنية، حيث يرى أنّ الإنسان الذي يدرك كنهها ويعرف مقامه فيها سيتمكن من إنقاذ نفسه والتحرّر من قيودها ليختار مسيرته في الحياة بإرادة وحرية.(4)

الأسلوب الأمثل في مواجهة المدّ الفكري الغربي

الدكتور رضا داوري قسم المفكرين الغربيين في فئتين: أدرج في الفئة الأولى أولئك الذين يعدّون العالم الغربي مجرّد وجود هامشي لا هوية له، في حين أكدعلى أنّ الذين ينضوون ضمن الفئة الأخرى على العكس منهم تماماً، و حسب

ص: 460


1- رضا داوري درباره علم (باللغة الفارسية)، 1990م (1379 ه- ش)، طهران، منشورات هرمس، ص48
2- المصدر السابق، ص 39.
3- عبد الله نصري، رویارویی با تجدد (باللغة الفارسية)، المجلد الثاني 2007م 1386ه- ش)، طهران، منشورات نشر علم، ج 2، ص 263 . أحد آراء الدكتور رضا داوري على هذا الصعيد نستشفّه من هذه العبارة التي أكد فيها على أنّ العالم الحديث هو عالم التقنية، حيث قال : « لا شكّ في أنّ البحث عن ماهية التقنية ليس بالأمر الهين، إذ هناك أنماط مختلفة لها في عالم آخر غير العالم الغربي، ومن الممكن أن توجد أنماط أخرى لها مستقبلاً؛ ولكن مع ذلك فالعالم الحديث هو عالم التقنية الحديثة وهو متلازم معها بشكل دائم.
4- رضا داوري، فلسفه در بحران (باللغة الفارسية)، 1988م (1367ه- ،ش) طهران منشورات امير كبير، ص 173.

هذا التقسيم فهم ليسوا متفقين على طبيعة الهوية الغربية؛ وقد عد نفسه الفئة الثانية حيث ذهب إلى القول بعدم إمكانية تجاهل الهوية الغربية وتهميشها فلسفياً، ومن هذا المنطلق عد الذين يندرجون في الفئة الأولى لايمتون بأدنى صلة للعلم والفلسفة(1) خلافاً للفئة الثانية؛ (2)ولكن مع ذلك فهو لا يعدّ العالم الغربي مكوّناً شاملاً ذا أجزاء متنوّعة، حيث قال في هذا الصدد:« ليس من الصواب اعتبار العالم الغربي كلاً شاملاً لسلسلة من العلوم والتقنيات والفنون والأخلاق أو الطبايع السيّئة، كما ليس من الحريّ قول إنّه مجرد معاملات وعلاقات عامة»(3) ، وهذا الكلام لايعني أنّه يعدّ العالم الغربي كلاً واحداً يجسّد مفهوماً متحداً، بل يعتقد بأنه وجود كلي ذو ماهية تمتاز بمواصفات خاصة، لذلك وصفه قائلاً: «العالم الغربي هو نحو من الإدراك والإرادة اللذين أثمرا عن ظهور إنسان جديد مرتبط بالحياة الدنيا وشتّى الكائنات ارتباطاً من نمط خاص». وقد أصرّ على رؤيته هذه غاية الإصرار لدرجة أنّه انّهم من يرفضها بالسفاهة وعده مناهضاً للفكر لأن هدفه هو إيهام الآخرين بأنّ العيوب الطاغية على العالم الغربي لا واقع لها.

لقد أكّد هذا المفكّر المسلم على عدم وجود أي مسوغ للانخراط في ركب العالم الغربي وتجاهل عيوبه ونقاط ضعفه،(4) ومن جملة ما قاله على هذا الصعيد ما يأتي: «هناك شروط يجب تحققها قبل الولوج في عالم التجدد والحداثة، لذا فإنّ الإقدام على هذا العمل من دون توفّر هذه الشروط قد يسفر عن استفحال النزعة المناهضة للتجدّد والحداثة ورسوخها في المجتمع».(5)

إن أردنا معرفة واقع أوضاعنا في مواجهة التيّارات الفكرية الغربية ولا سيما على صعيد اقتباسها وتبنّيها ، فمن الأنسب بمكان تسليط الضوء على آراء الدكتور داوري

ص: 461


1- حسب رأي الدكتور داوري، هناك الكثير من العلماء الغربيين الذين يمكن إدراجهم في الفئة الأولى.
2- رضا داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387) ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 59.
3- تجدر الإشارة هنا إلى أنّ ماهية الجزء تختلف عن ماهية الكلّ الذي تنضوي في مجموعته، لذا لا ينبغي الخلط بين الأمرين.
4- رضا داوري فلسفه در بحران باللغة الفارسية)، 1988م( 1367ه- ،ش) طهران منشورات امير كبير ، ص 74.
5- رضا داوري ما وراه دشوار تجدد (باللغة الفارسية)، 2005م (1384ه- ش) طهران منشورات ساقي، ص 18

ومقارنتها مع آراء داريوش شايكان الذي يعتقد بكون هويتنا الجديدة تشابه قطعات الطابوق التي عادةً ما تكون بنفس الحجم إلا أنّها مختلفة الشكل إن تمعنا فيها بدقة؛ لذا فالميزة الجامعة لنا هي الإسلام ولكنّ هذا المسلم تارةً يكون هندياً وأخرى إيرانياً وإلخ، وعلى هذا الأساس ذهب إلى القول بعدم وجود هوية موحدة ومنسجمة بالكامل، وهذا التنوّع في العصر الراهن يثبت لنا وجود إدراكات متعدّدة بالنسبة إلى الهويات المختلفة حسب رأيه، لذلك قال: «جميع مراتب الوعي الكامنة في وجودنا من شأنها أن تنزل إلى أرض الحقيقة والواقع فتتجلى في إطار مصاديق عدة، وبطبيعة الحال فهي تنعكس في حياتنا إلى جانب بعضها البعض لتصوّر لنا الهوية النهائية التي لم نكن نعلم بوجودها قبل ذلك».(1) الدكتور داوري لم يتفق مع المفكر داريوش شايكان في هذا الرأي إذ عدّ الهوية بهذا الوصف ليست مصداقاً للهوية من الأساس رغم صدقها على بعض الناس من إحدى الجهات الاعتبارية؛ فقد قال حتى وإن اتصفت هوية الشعوب في شتّى أرجاء العالم بهذه الميزة، لكن ذلك لا يمكن الاعتماد عليها لفعل أيّ شيء يُذكر لكونها نقصاً محضاً، لذا فهي سوى مرحلة من مراحل فقدان الهوية. إذن، الهوية بهذه الصيغة علامة جلية على ضعف الروح والفكر معاً. ولدى بيانه أوجه اختلاف آرائه عن آراء داريوش شايكان، صرّح بعدم اتفاقه معه في هذا الرأي ومعارضته له، لذلك قال :ط اعتبار هوية البشر كالطابوق يدلّ في الواقع على وضع مؤقت لا مناص لنا من مواكبته، ومن ثم لا يمكننا الاعتماد عليه لكونه غير دائم؛ فهو اعتبار أبتر وعقيم لا طائل منه » .(2)

بناءً على ما ذكر، يمكن القول إنّ الاختلاف الأساسي بين آراء الدكتور رضا داوري وداريوش شايكان يكمن في كون الأخير يعدّ الوضع - الذي شبّهه بالطابوق المتساوي بالحجم والمختلف في الشكل ويعكس فكراً غير مستقر - بأنّه أحد أسباب الاقتدار ؛ فالإنسان الجديد برأيه يميل إلى العلمنة ويعشق دواوين الشعر ويتأمل بأفكار ديكارت

ص: 462


1- داریوش شایکان افسون زدگی جدید (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية نازي عظيما، 2001 م (1380 ه- ش) طهران منشورات فرزان ،روز ص 134 .
2- رضا ،داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387 ه- ش) طهران منشورات سخن ص .191 - 190

ومن ثمّ فهو يغذي ذهنه بثقافات من شتّى المشارب الفكرية والنزعات الإنسانية؛ في حين قال الدكتور رضا داوري:« نستشف من تشبيه هوية الإنسان بالطابوق المتساوي في الحجم والمختلف بالشكل بأنّ هذه الهوية ليست منسجمةً في باطنها حتى وإن كان التشبيه على وفق النمط الغربي المتجدّد؛ أي إنّ هذا المثال لا يصدق حتى على الإنسان الغربي، فمجتمعات تلك الديار في الوقت الراهن ليست في أفضل أحوالها ولا تمتلك ذلك الاقتدار التام الكامل، حيث بقي نفوذها يراوح في نفس المستوى الذي بلغه أواخر القرن التاسع عشر وإبان القرن العشرين»(1).

الديمقراطية والحرّية والتنمية

شاعت مجموعة من المصطلحات الحديثة في العالم الغربي بعد الثورة الفرنسية ولا سيّما الديمقراطية والحرّية والتنمية، والدكتور رضا داوري بدوره تطرق إلى بيان الدلالات المفهومية لها بأسلوب خاص جعل بعضهم يتهمه بالفاشية فيما قال آخرون بأنّه مناهض لتحرّر البشرية.

ومن جملة أقواله في مجال العقل والزمان ما يأتي: «... لم يطرأ أي تغيير جذري على مسيرة الفكر البشري باعتقادي، وأقصد من كلامي هذا تلك الآراء والنظريات التي طرحت حول التجدّد والتنمية والديمقراطية والحرّية، فهذه المبادئ قد بقيت على حالها كما كانت سابقاً إلى حد ما، وأحياناً وُصفت بكونها فاشيةً أو مناهضةً للحرّية الحقيقية. أما بالنسبة لي، فأنا لست من الدُّعاة إلى العنف ولا أسوّغ ارتكابه بتاتاً، وليس لدي أي ارتباط لا من قريب ولا من بعيد بالفاشية ولا بالنازية، إلا أنّني أعتبر المبادئ المذكورة ركاماً من مخلفات التجدد والحداثة، بمعنى أنها لم تبتدع من أمر خارج عن هذا النطاق، ومن هذا المنطلق لا يمكن اعتبارها خطراً يهدد كيان الحضارة الحديثة) .(2)

التنمية في المنظومة الفكرية للدكتور داوري

ص: 463


1- المصدر السابق، ص 191.
2- رضا داوري عقل وزمانه گفتگوها باللغة الفارسية)، 2008م (1387 ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 96.

أما على صعيد التنمية، فهو يعتقد بأنّ الفكر الغربي كان أمام مفترق طرق في باكورةعصر الحداثة، فقد كان مخيراً بين سلوك سبيل التنمية أو الإعراض عنه والاستسلام للأوضاع التي يفرضها عليه الأمر الواقع ومهما كان الخيار فكلا السبيلين يُعدان حقيقةً من حقائق التأريخ الغربي؛ وقد استدلّ على مدّعاه هذا بأنّ الإنسان الغربي حينما ينظر إلى عالم الواقع فهو يلاحظ أمامه السبيلين المذكورين ولكنّه دائماً يجد نشاطه وقدرته ينعكسان في مرآة التجدّد والحداثة.

كما ذكرنا آنفاً فالدكتور داوري يؤكد على امتلاك العالم الغربي هويته الخاصة به، ويعتقد بأنّنا ملزمون بالسعي وراء التنمية ولا حيلة لنا سواها، لذا لابدّ لنا من تنسيق برنامج حياتنا معها ومواكبتها بشكل متواصل وحذر من التخلّف عنها(1)، ولكنّها بطبيعة الحال مشروطةٌ بشروط معينة وتقتضي تحقق مقدمات أساسيّة.(2) ومن جملة الآراء التي تبنّاها تأكيده على ضرورة سعينا كمسلمين إلى معرفة ما إن كانت التنمية تتناغم مع ديننا بحيث يواكبها وتواكبه أو لا، ومن ثمّ لا بدّ لنا من أن نقيم أوضاعنا لمعرفة ما إن كنا قادرين على الجمع بين تعاليم نظامنا الإسلامي وبين مبادئ العصرنة أو لا، فيا ترى هل هذا الأمر ممكن أو مستحيل؟

وصرّح بأنّه لا ينكر فائدة العمل على اكتساب كلّ ما هو مفيد - إذا - تمكنا من القيام بذلك، ولكنّه عدّ (إذا) هذه بأنّها تعكس منطق أصحاب الرؤية الساذجة؛ وقال أيضاً بأننا غير قادرين علی اقتباس كلّ شيءٍ من العالم الغربي وفي الحين ذاته فنحن عاجزون أيضاً عن تجاهل كلّ شيء فيه والإعراض عنه لكوننا لانمتلك القدرة التامة المطلقة التي تسوّغ لنا أخذ ما نشاء متى ما شئنا، وترك ما لا نريد متى ما أردنا. (3)

ص: 464


1- قال الدكتور داوري على هذا الصعيد: كلمة (نحن) تعني (نحن أصحاب الهدف وإلا هناك ألف ألف مسلك للحياة، ولكن إن كان بيننا من يعرف مسلكاً أفضل وأنجع من التنمية فليدلني عليه إنّني لأشعر بالعجب من أولئك الذين يصرّون على طرح قراءة جافة وانتزاعية لا روح فيها حول حياة البشرية
2- رضا ،داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008 م 1387ه- ش) طهران منشورات سخن ص .75 -74
3- المصدر السابق، ص 76. قال الدكتور داوري معلقاً على ما ذكر : يبدو أنّ هذه العبارة تفسير لكلامى وليست مقتبسة منه بذاته».

لو تتبعنا الدراسات التي أجريت حول ،آثاره لوجدنا بعضهم يعدّه مناهضاً للتنمية نظراً لذلك النقد اللاذع الذي وجهه للتجدّد والحداثة والتنمية، لكنّه ردّ على هذا الاتهام قائلاً: «لم أتطرّق إلى البحث والتحليل حول مسألة المواجهة المحتدمة بين التطوّر والرجعية، لذلك لا ترد هذه المؤاخذة على نظرياتي»(1). أما بالنسبة إلى السُّنن الموروثة، فقد طرح في بحوثه التي دوّنها حولها نقاشات في مجال التجدّد وتبنّى فكرة أنّ التقيّد بها يعرقلنا عن بلوغ قمّة التجدّد والتنمية بيسر وسهولة، فنحن بعد قرن ونصف القرن لم نتمكن من السير في ركب التنمية وهذا الأمر بالطبع يعني وجود عقبات جادة أمامنا؛ ولكن مع ذلك لا يمكن البت بأنّ السُّنن هي العقبة الأساسية على هذا الصعيد، فهي تعني سلامة الفكر وصواب العمل، لذا ليس من الحري بنا اعتبارها رجوعاً إلى الماضي أو تقليباً لصفحات التأريخ التي انطوت إلى الأبد؛ فهو يعتقد بأنّ السُّنن حتّى وإن تعلّقت بالماضي، لكنّها لا تدلّ على مجرد العادات والتقاليد السالفة، وإنما هي نور يتشعشع من وراء ظهورنا لينير لنا طريقنا الذي نسلكه نحو مستقبل زاهر؛ لذلك قال: «عندما أتحدّث عن السنن فإني أقصد منها إلى حد ما ذلك المعنى الذي تبنّاه الفيلسوف الألماني هانز جورج جادامير، وهذا المعنى له ارتباط بالظروف النفسية والفكرية للإنسان، بل حتى إنّه مرتبط بلغته ورغباته، ولكنّه لا يمت بصلة إلى عاداته وطباعه الظاهرية». بعد ذلك ذكر الأسباب التي حالت بيننا وبين التي التنمية ووصفها بقوله : «إنّ رؤيتنا للحياة ومتبنياتنا الفكرية ورغباتنا النفسية هي تمهد لنا الطريق الذي نسلكه أو إنّها قد تحول أحياناً بيننا وبينه وتسوقنا نحو طريق آخر أسرع وأقرب إلى الهدف». وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التنمية لا تعدّ أمراً عبثياً مطلق العنان، وإنما لها قواعدها وأصولها الخاصة، لذا فالمجتمع الذي يروم مواكبتها لا مناص له من إيجاد انسجام ووحدة نظر بين أبنائه على الصعيدين النظري والعملي؛ وهذا الأمر بكل تأكيد مرهون بالسير في ركب التأريخ وعدم الانزواء عنه؛ ولا شكّ في أن عجزنا عن بلوغ أرقى درجات التنمية ناشئ من تعلقنا المبالغ فيه بالسنن الموروثة التي لا يتسبب التخلي عنها بحدوث مشاكل أساسية في هذا المجال.(2)

ص: 465


1- رضا داوري، عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية) ، 2008م (1387 ه- ش) طهران منشورات سخن، ص 101.
2- قال كاتب المقالة إنّ هذه العبارة مشوّشة وغير واضحة الدلالة بشكل دقيق.

كما نلاحظ من كلامه فهو يعد مجرد زوال العقبات ليس سبباً أساسياً في تحقق التنمية، لذا فالسبب في تخلّفنا عن ركبها برأيه هو انعدام المقتضي، ومن هذا المنطلق دعا إلى

البحث عن هذا المقتضي بغية تحقيق الهدف .(1) وقد عرف التنمية بأنها الرقي والتطوّر العلمي والنهوض بالنظام الاجتماعي والعلاقات العامة إلى أرفع المستويات، وهذا النظام برأيه عالمي وموحد، لذلك نجد أن التنمية في مختلف بلدان العالم مثل الفلبين والجزائر والمكسيك على نسق واحد ولا يشوبها أي اختلاف جذري، فنحن كبشر سوف نصل إلى مقصد واحد في هذا المضمار ألا وهو ذلك العالم التقني الخيالي.(2)

الديمقراطية في المنظومة الفكرية للدكتور داوري

بعد أن وضّح الدكتور داوري أهم معالم التنمية انصرف إلى الحديث عن الديمقراطية وتطرّق إلى نقدها على ضوء المبادئ الجديدة التي شاعت إبان عصر النهضة والحداثة، لكنّه صرّح بأنّ هذا النقد لا صلة له بالأفكار والتوجهات السياسية وليس ناشئاً من متبنّيات إيديولوجية، حيث ادّعى بأن الغرض منه إحياء الأمل لدى المجتمعات البشرية في ظهور فكر معنوي جديد، حيث قال: «لا أروم من هذا النقد تجريد الناس من حقوقهم أو حرمانهم من الإدلاء بآرائهم»، كما أكد على أنّ العالم المتجدّد له مسوّغاته الصائبة لأنه أحيا الأمل لدى المجتمعات البشرية التي قمعت ونكل بها إبّان القرون الوسطى(3).

وقد وصف الديمقراطية التي جاءت بها الأنظمة الحاكمة بأنها افتراضية وأعرب عن عدم معارضته لحق الناس في إدارة شؤونهم والإشراف على حكوماتهم، واعتبر هذه الرؤية هي التفسير الذي يتبنّاه لمفهوم الديمقراطية، إلا أنه لم يذكر كلاماً يوضح

ص: 466


1- رضا داوري عقل وزمانه گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387 ه- ش) طهران منشورات ،سخن ص 85-78
2- المصدر السابق، ص 85 - 86.ومن جملة ما قاله حول هذا الموضوع أيضاً: «استدلّ بعضهم من كلامي هذا بأني اعتبر عالم التقنية مجرد عالم خيالي لا حقيقة له، إلا أنّ قصدي ليس كذلك طبعاً؛ فالعالم التقني الخيالي برأيي هو ذلك العالم الذي له القابلية على التنمية فى روح الشعوب التي تخلّفت عن ركبها ورغبت ببلوغها ومواكبتها».
3- رضا داوري عقل و زمانه گفتگوها (باللغة الفارسية 2008م (1387ه- ش)، طهران، منشورات سخن، 93 - 92

معالم تلك الديمقراطية الافتراضية، حيث فندها على أساس الأصول الموضوعية الذاتانية؛ ولكنّه مع ذلك لم يبين مراده منها بوضوح وصراحة، ففي بادئ الأمر انتقدها نقداً لاذعاً وكأنه يريد القول بأنّها باطلة ومرفوضة جملةً وتفصيلاً لكونها مجرد وضع مؤقت ملازم للعصرنة، ومن ثمّ قسمها إلى حقيقية وافتراضية فعدَّ القسم الثاني باطلاً والأوّل حقيقياً.

نقد الديمقراطية

كما ذكرنا في أعلاه فقد وجه الدكتور داوري نقداً لاذعاً للديمقراطية، وأكد على أنّ النزعة الإنسانية هي الأساس للعصرنة والعلم الحديث، لذلك قال: «العلم في الواقع متفرّع على الإنسانية، لذا فإنّ كلّ تطوّر ورقيّ تشهده العلوم والتقنيات الحديثة لا بدّ من أن يكون منبثقاً منها» ،(1) كذلك تبنّى فكرة أنّ الإنسانية ليست أمراً طارئاً على الفكر الغربي، بل عدّها جزءاً ذاتياً لا يتجزأ منه ووصفها بأنّها البنية الارتكازية للحضارة المعاصرة، (2)فهي برأيه منبثقة من أصول موضوعية ذاتانية حديثة ووصف الديمقراطية بكونها أمراً ملازماً لهذه الأصول ، ومن هذا المنطلق قال: «أصل الديمقراطية هو اعتبار إرادة الإنسان معياراً للسياسة، وعلى هذا الأساس فكلّ من ينكر فكرة أنّ الإنسانية هي المعيار الارتكازي لكلّ شيءٍ، لا يمكنه أن يسير في ركب الديمقراطية». نلمس من كلامه هذا أنّ نقده للديمقراطية ناشئ من رغبته في شيوع الفكر المعنوي، وفي كتابه (نحن) وطريق الحداثة الشاق) أكّد على استحالة الجمع بين الدين والديمقراطية موعزاً السبب في ذلك إلى أنّ الدين له أصوله وقواعده الخاصة المنبثقة من وحي السماء، في حين أنّ التجدّد الفكري لا يُتيح للنظام الديني فرصة ترويج تعاليمه .(3)

ص: 467


1- رضا داوري درباره علم (باللغة الفارسية)، 1990م (1379ه- ش) طهران منشورات هرمس ص 11.
2- رضا داوري تمدن وتفكر غربي (باللغة الفارسية)، 2001 م (1380ه- ش) طهران منشورات ساقي، ص 98.
3- رضا داوري ما وراه دشوار تجدد (باللغة الفارسية)، 2005م (1384 ه- ش) طهران منشورات ساقی، ص 161

الحرّية في المنظومة الفكرية للدكتور داوري

الدكتور رضا داوري تأثر غاية التأثر بأفكار الفيلسوف الغربي مارتن هايدجر لدرجة أنّه اقتبس آراءه على صعيد الحرّية، ومن جملة أقواله ما يأتي:

- الحرّية عادةً ما تكون متزامنةً مع عملية استكشاف الحقائق ولا تتحقق إلا في ظلّها، لذا فمن يغفل عن الحقيقة هو في الواقع لا يعرف المعنى الواقعي للحرّية» (1).

- «الحرّية تعني العبودية للحق».

- الحرّية حقيقة لا شائبة عليها».

كما أكّد على أنّ آراءه حول الحرّية قد قرأت بشكل خاطئ، حيث عدّها بعضهم فاشية إثر عدم تمييزهم بين المبادئ الفلسفية والسياسية.(2)

وقال الفيلسوف الغربي مارتن هايدجر في كتابه (نداء الحقيقة): «الحرّية هي الذات التي تتقوّم بها الحقيقة»، وهو بطبيعة الحال لا يقصد من هذه العبارة قول إنّ الحرّية حقيقةً مفروضةٌ في الأمر الواقع ولا مناص منها بحيث لا يمكن لأحد إنكارها، وإنما أراد التنويه على العلاقة بين ذاتها وبين الحقيقة أي إنّ الحقيقة تستبطن الحرّية في ذاتها وكنهها؛ (3)وفي موضع آخر وعلى أساس اعتقاده باستعلاء الكينونة الإنسانية عدّهما أمراً واحداً لكنّه في الحين ذاته أكد على أنّ الحرّية لا تعني الانحلال وفعل كلّ شيءٍ من دون قيد وضابطة، بل هي مقام رفيع واستعلاء للكينونة الإنسانية لدى التعامل مع الكائنات .(4)

ص: 468


1- رضا داوري فلسفه در بحران (باللغة الفارسية)، 1988م (1367ه- ش) ، طهران منشورات امير كبير، ص 491.
2- رضا ،داوري عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387 ه- ش) طهران منشورات ،سخن ص .99-98
3- بيجن عبد الكريمی رابطه حقیقت و آزادی در اندیشه هایدگر در نامه فلسفی (باللغة الفارسية)، 2005 م (1384 ه- ش)، ص 15
4- 3]- Heidegger. Martin. (1993). "on the Essence of Truth" in David Farrell Krell (ed). Martin-.Heidegger، Basic writings، London: Routledge: p. 111 - 138

الدكتور داوري قال بصراحة في بعض مؤلّفاته بأنّ الحرّية جزء من ذات ابن آدم إلا أنّها لا تعني الإباحية والليبرالية كما شاع في العصر الحديث ضمن الأصول الوضعية التي استحوذت على المجتمعات الغربية بعد أن تعالت بعض الأصوات الداعية إلى إطلاق العنان لها، ففي هذه الآونة يؤكد دعاة التفسخ الخلقي والإباحية إلى ضرورة عدم كبح جموح الحرّية معتبرين أنّ كلّ أمر يقيّد نطاقها مناهضاً للإنسانيةً وقمعاً شرساً لها؛ ومن هذا المنطلق قال : الحرّية التي ظهرت إلى الساحة في العصر الحديث ليست سوى دعوة لإطلاق العنان للنزوات والنزعات الحيوانية الجامحة».(1) لو تتبعنا كلامه حول الحرّية في مختلف ،مدوّناته لاستنتجنا أنّه يعدّها شأناً فردياً ذا صلة بعالم التجدّد والحداثة بداعي أنّها مرتبطة بفلسفة التأريخ والعالم المعاصر، لذلك أكد على أنها قد تجردت من معناها الحقيقي؛ فهي في هذه الآونة من تأريخ البشرية أصبحت ذات الطغيان والاستبداد، أي إنّ معالم الظلم والاضطهاد شأن ذاتي للعصرنة وليست عارضةً عليها (2)

حوار الحضارات منعطف فكري أنهى قرنين من سيادة الغرب

يعتقد الدكتور رضا داوري بسيادة الحضارة الغربية على العالم وسطوة التأريخ الغربي على على جميع البلدان بعد أن اجتاح الفكر الذي انبثق في تلك الديار كافة أصقاع المعمورة، وهذه الفكرة دعته إلى أن يقول: «معايير الفكر الغربي لها القول الفصل في جميع أرجاء المعمورة بحيث اعتمدت عليها البشرية في تقييم جميع الأحداث التأريخية».(3) وعلى هذا الأساس قسم العالم المعاصر إلى قسمين، أحدهما متجدّد والآخر يمرّ في مرحلة مخاض التجدّد، ومن ثمّ عدّ العقل المتجدّد كأنه مارد طغى على الحياة البشرية وعمّ جميع جوانبها؛ لذا تبنّى مقولة أنّ الفكر الغربي هو السبب الأساسي لكلّ أزمة تعصف بالمجتمعات قاطبةً، حيث قال: «لقد بلغ الإنسان مرحلةً

ص: 469


1- رضا داوري فلسفه در بحران( باللغة الفارسية)، 1988م (1367 ه- ،ش) طهران منشورات امير كبير، ص 495. ومن أقواله حول هذا الموضوع : من الصواب بمكان تفسير الحرّية بأنّها مبدأ اجتماعي - سياسي، ولكن معظم آرائي حولها تمحورت حول بيان حقيقتها في أطر أخرى غير السياسة والاجتماع».
2- رضا داوري ما وراه دشوار تجدد (باللغة الفارسية)، 2005م (1384ه- ش) طهران منشورات ساقي، ص 94.
3- المصدر السابق، ص 7

جعلته يتصوّر بأن لاأمل له ولا ملجأ يمكن أن يلوذ به خارجاً عن نطاق الحداثة الغربية».(1) لذلك عدّ مبدأ حوار الحضارات بأنّه ردّ ذكي وبالغ التأثير بحيث يمكن الاعتماد عليه في التصدّي إلى فكرة صراع الحضارات التي طرحها المفكر الغربي صاموئيل هنتنجتون، فهذا الحوار برأيه عبارة عن مشروع سياسي يجب على الساسة صياغة أصوله الكلّية، ولكنّ هذا لا يعني أنّ أصحاب الحوار يجب أن يكونوا ساسةً بالضرورة، فالحوار الحضاري هو مجرد تكتيك سياسي ينبغي اتخاذه للحيلولة دون اندلاع صراع بين الحضارات وبطبيعة الحال نحن هنا لسنا بحاجة إلى أصول مشتركة، إذ غاية ما في الأمر أنّنا نحترم أصول بعضنا البعض كبشر متحضّرين. وقد أكد على أنّ صاموئيل هنتنجتون حاول المضي قدماً بمبدأ صراع الحضارات في رحاب الاستراتيجية السياسية الأمريكية على وفق خطة يمكن من خلالها تحقيق تقارب بين جميع الحضارات البشرية لإيجاد تحالف مفترض مناهض للحضارة الحضارة الإسلامية ، وهذا الأمر برأيه يسفر عن حدوث كونفوشيوسية .(2)

ومن جملة المسائل التي تبنّاها الدكتور داوري أنّ الحروب التي خاضتها بلاد فارس القديمة لم تكن حروب حضارات، سواء مع الإغريق أو الروم أو المغول، حيث قال في هذا الصدد:« الحروب التي اندلعت بين إيران القديمة وبين الإغريق والروم والمغول لا يمكن عدها سنخاً من حرب الحضارات، كذلك فإنّ ما يجري من حروب اليوم فهي مختصة بزماننا فحسب؛ والحقيقة أنّ الحضارة الغربية حينما تشعر بأنّها في هاوية السقوط تلوذ بمبدأ صراع الحضارات»، ونوّه على أنّ ضعف الحضارة الغربية لا يعني بأنّها ستؤول إلى الأفول قريباً، لذلك وصفها قائلاً: «العالم الغربي يمثل قدرةً تسير في طريقها نحو الضعف والتزعزع، ولكنها مع ذلك ما زالت في ذروة القوّة لأنّها تمسك بزمام الأمور في شتى المستويات التقنية والتجارية والإعلامية»، وأضاف واصفاً الوضع الراهن للحضارة الغربية: «لقد طرحت فكرة صراع الحضارات بصفتها ميزةً للسياسة المستقبلية، لذا يجب على كلّ سياسي أن يطرح مشروعاً

ص: 470


1- رضا داوري، عقل وزمانه؛ گفتگوها (باللغة الفارسية)، 2008م (1387ه- ش)، طهران، منشورات سخن، ص 16.
2- المصدر السابق، ص 109 - 112.

مناهضاً لها ومختلفاً عنها غاية الاختلاف بحيث يتصف بميزات أخرى».(1) وعلى هذا الأساس فهو يؤمن بأنّ المجتمعات الغربية لو أذعنت إلى مبدأ حوار الحضارات فهذا يعني تخليها عن سيادتها التأريخية على العالم والتي دامت قرنين من الزمن، إذ ادّعى الغربيون بعد عصر النهضة والحداثة بأن لا تأريخ ولا حضارة في العالم سوى تأريخهم وحضارتهم، ومن هذا المنطلق قسموا الشعوب إلى غربية ورجعية؛ ولكن إذا ما طرحنا مشروع حوار الحضارات فلا حيلة لهم حينئذ من الإقرار بتساوي جميع البشر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ولا يبقى خيار لهم سوى الجلوس على طاولة الحوار وتبادل الآراء مع الآخرين (2).

يرى بعض الباحثين أنّ الغربيين قد تخلّوا عن فكرة أنّ تأريخهم المعاصر هو التأريخ الأوحد للبشرية وهو أمر يعني دخولنا في مرحلة تأريخية جديدة ة ألا وهي مرحلة ما بعد الحداثة التي وصفها الدكتور رضا داوري بالقول:«في هذه الآونة بدأت الشكوك والنقاشات تُثار حول الأعراف والأصول التأريخية الغربية ... » .(3)

خلاصة البحث:

الدكتور رضا داوري يعدّ العالم الغربي كياناً له ماهيته الخاصة، ويعتقد بأنّ الكون ليس سلسلةً من المسائل الحسنة والسيئة، وإنما هو شرط أساسي لتجلي بعض أنحاء السنن والعلاقات.

الغرب برأيه يجسّد حدثاً تأريخياً، لذا فهو تأريخ يكون الإنسان فيه محوراً للحياة، وآخر مرحلة فيه تتمثل في بلوغ التقنية ذروتها وصيرورتها أصلاً مطلقاً.

كما أكّد على أنّ الاستغراب لا يقتصر على تقليد أعراف وتقاليد الغربيين فحسب، بل هو نمط للحياة في هذا الكون حيث ينعكس بمرآة النزعة الوضعية المتبعة في التعامل مع جميع الكائنات وفي شتّى جوانب الحياة؛ والغربيون أنفسهم حسب هذا

ص: 471


1- المصدر السابق، ص .213
2- المصدر السابق، ص 214
3- المصدر السابق، ص 215

التعريف مستغربون إلا أن استغرابهم بسيط، في حين استغرابنا مضاعفُ حيث غرقنا من رأسنا إلى أخمص قدمينا في التعاليم الغربية، وبما أنّ هذا الأمر الواقع قد فُرض علينا فلا بد لنا حينئذ من التعرف على حقيقة الحضارة الغربية وأصولها الأساسية.

أمّا في مجال كيفية التعامل مع التيارات الفكرية الغربية والاقتباس منها، فقد طرح آراءه ونظرياته ضمن أربع مقولات هي الديمقراطية والحرّية والتنمية؛ إذ عدّ التنمية تعني الرقي العلمي وإقامة نظام علاقات على وفق أصول معيّنة لأجل أن يُعتمد عليها كنهج عالمي موحد يعمّ جميع المجتمعات البشرية بمختلف مشاربها الفكرية لكي نتمكن من بلوغ هدف واحد ألا وهو العالم التقني الأسطوري.(1)

فضلاً عما ذكر ، فهذا المفكّر المسلم يعد نفسه في زمرة المنتقدين للديمقراطية الغربية، وقال إنّ نقده لا يرتكز على أصول إيديولوجية محدّدة، بل طرحه من منطلق الرغبة في ظهور نحو من الفكر المعنوي؛ لذلك عدّ الديمقراطية الغربية الحديثة ليست سوى أمر افتراضي، ولكنّه في الحين ذاته لا يعترض على حق الناس في إدارة شؤونهم المعيشية اجتماعياً وسياسياً والإشراف على نشاطات النظام الحاكم عليهم؛ لذا يمكن عده من هذه الناحية بأنّه أحد مؤيدي النظام الديمقراطي الحديث.

وقد تأثر بآراء المفكر الغربي مارتن هايدجر على صعيد الحرية التي عدّها حقيقةً وعبر عنها بالعبودية في عين تجريده لها من النزوات والنزعات الحيوانية، ووصف أولئك الذين عدّوا آراءه حولها فاشيّةً بأنّهم قد خلطوا بين المفاهيم العلمية المستوحاة من المبادئ الفلسفية والسياسية، لذا أكد على أنّ الحرية الحقيقية ليست مطلقة العنان بحيث لايحدّها حد ولا يقيدها قيد، وإنما هي ذات جنبة معرفية تدلّ على رفعة الإنسان وسموّ شخصيته مقارنةً مع سائر الكائنات.

كما أكّد على أنّ التأريخ الغربي قد عمّ جميع بلدان العالم التي أضحت اليوم

ص: 472


1- قال الدكتور داوري على هذا الصعيد العالم الخيالي لا يدلّ على تقنية محدودة في نطاق خاص بحيث نتمكن من الولوج فيه متى ما شئنا، والحقيقة أن لا أحد يقدر على ذلك؛ وهذا العالم كما ذكرنا آنفاً، يراود أذهان أبناء المجتمعات غير النامية لكونهم يرغبون غاية الرغبة في مواكبة التنمية».

تنضوي تحت فئتين أساسيتين، فمنها بلدان متجدّدة وأخرى تمرّ في مرحلة مخاض لبلوغ مرحلة التجدّد؛ وفي هكذا أوضاع طرح صاموئيل هنتنجتون نظرية صراع الحضارات التي وصف فيها الحضارة الغربية بالمهاجم الذي يشن حملاته على سائر الحضارات الضعيفة التي لا قدرة لها على المواجهة والصمود؛ ومن هذا المنطلق عدّ الدكتور داوري مبدأ حوار الحضارات كرد مناسب على هذه النظرية، ولا ريب في أنّ تبنّي هذا الحوار من قبل المفكرين الغربيين سيرغمهم على التخلي عن سيادة عالمية دامت قرنين من الزمن ولم تشهد البشرية فيها سوى حضارة وتأريخ غربيين.

مصادر البحث:

1) داریوش شایکان افسون زدگي جديد (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية: نازي عظيما، 2001م 1380ه- ش) طهران منشورات فرزان روز .

2) رضا داوری وضع كنوني تفکر در ایران (باللغة الفارسية)، 1987م (1357 ه- ش )طهران منشورات سروش.

3 ) رضا ،داوري فلسفه چیست؟ (باللغة الفارسية)، 1980م (1359 ه- ش)، طهران منشورات الاتحاد الإسلامي للحكمة والفلسفة في إيران.

4) رضا داوري شمه ای از تاریخ غرب زدگی ما (باللغة الفارسية)، 1984م (1363ه- ش) طهران منشورات سروش.

5 ) رضا داوري، فلسفه در بحران (باللغة الفارسية)، 1988م 1367ه- ش)، طهران منشورات امير كبير.

6) رضا داوري اتوپی و عصر تجدد (باللغة الفارسية)، 1990م (1379 ه- ش) طهران منشورات ساقي.

7) رضا داوري درباره علم باللغة الفارسية)، 1990م (1379 ه- ش)، طهران، منشورات هرمس.

ص: 473

8 ) رضا داوري، درباره غرب (باللغة الفارسية)،1990م (1379)، طهران، منشورات هرمس.

(1380)

9) رضا داوري، تمدن و تفكر غربي (باللغة الفارسية)، 2001م (1380ه- ش)طهران، منشورات ساقی.

10) رضا داوري، فرهنگ، خرد و آزادی (باللغة الفارسية)، 2004م (1383 ه- ش)،طهران، منشورات ساقی.

11) رضا داوري، فلسفه تطبيقي (باللغة الفارسية)، 2004 م (1383 ه- ش)، طهران منشورات ساقی .

12) رضا داوري، ما وراه دشوار تجدد (باللغة الفارسية)، 2005م (1384 ه- ش)، طهران، منشورات ساقی.

13) رضا داوري، رساله در باب سنت وتجدد (باللغة الفارسية)، 2005م (1384 ه- ش)، طهران، منشورات ساقي.

14) رضا داوري، فلسفه معاصر ایران (باللغة الفارسية)، 2005م (1384 ه- ش)، طهران، منشورات ساقی.

15) رضا داوري، ملاحظاتی درباره حقوق بشر و نسبت آن با دین و تاریخ مبانی نظری حقوق بشر (باللغة الفارسية)، 2005م (1384 ه- ش)، قم، منشورات جامعة مفيد.

16) رضا داوري عقل وزمانه گفتگوها باللغة الفارسية)، 2008 م(1387ه- ش) طهران، منشورات سخن.

17) بيجن عبد الكريمي، رابطه حقیقت و آزادی در اندیشه هایدگر در نامه فلسفی (باللغة الفارسية)، 2005م (1384 ه- ش).

ص: 474

18) عبد الله نصري، رویارویی با تجدد (باللغة الفارسية)، المجلد الثاني، 2007م (1386 ه- ش) طهران منشورات نشر علم .

19) مارتن هایدجر عصر تصویر جهان (باللغة الفارسية ) ، ترجمه إلى الفارسية: يوسف أبا ذري، 1996م (1375 ه- ش)، مقالة نشرت في مجلة (ارغنون)، العددان 11 و 12.

20) Heidegger. Martin. (1993). "on the Essence of Truth" in David

Farrell Krell (ed). Martin Heidegger. Basic writings. (111

(London: Routledge). - 138.

ص: 475

الاستغراب في المنظومة الفكرية لرموز التنظير والتثقيف في إيران بعد عصر النهضة والحداثة «دراسة تحليلية على ضوء آراء الدكتور كريم مجتهدي »

تدوين: عبد الرحمن حسني فر

تدوين: عبد الرحمن حسني فر(1)

مقدمة:

الساسة والعلماء الإيرانيون المعاصرون راودتهم هواجس عدة حول السبل والأسباب التي أسفرت عن تطوّر الحضارة الغربية إبّان القرون الماضية، كما أنّهم لم ينفكوا عن التفكير بوضع حلول تضمن للمجتمعات الشرقية القدرة على مواجهة النظريات والتقنيات التي جاءت بها هذه الحضارة أو تسخيرها لصالحها، ومن هذا المنطلق شمّروا عن سواعدهم بغية تحقيق هذه الأهداف المصيرية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآراء المتضاربة التي دعت إلى ضرورة مواكبة التطوّر الحضاري أو التصدّي له ومقارعة السلطة الغربية، تضرب بجذورها في تلك الهزائم التي تعرّضت لها إيران إثر نزاعاتها ، مع روسيا القيصرية ولاسيما في عامي 1228 ه- و 1243 ه- بعد أن عقدت اتفاقيتا جلستان و ترکمان شاي اللتين ألزمتا طرفاً واحداً فقط وهو حكومة إيران طبعاً، فقد وصف الباحثون هذه الفترة من تأريخ إيران المعاصر بأنّها عهد الوعي الذاتي للشعب الإيراني لكونه أدرك حينها نقاط ضعفه، ومن ثمّ بادر بعض المسؤولين السياسيين إلى إيفاد بعض الطلاب إلى مواصلة دراساتهم العليا في البلدان الغربية كي يمتلكوا المهارات اللازمة التي تؤهلهم لمواكبة التطوّر العلمي والتقني في العالم، كما كانت هناك جهود حثيثة من الناحية العسكرية من قبل

ص: 476


1- العليا

بعض الشخصيات مثل عباس ميرزا وقائم مقام، وتم تأسيس مدارس عدة واستدعي كثير من الأساتذة الغربيين، وأمير كبير بدوره أسّس مدرسة دار الفنون الشهيرة التي تحوّلت فيما بعد إلى جامعة طهران، والقائد سیبه سالار تعاضد مع الحائزين على شهادات من المؤسسات التعليمية الغربية وسائر العلماء الإيرانيين الذين كانوا مقيمين في إيران والعراق بهدف النهوض بواقع ثقافة الشعب والتصدّي للسيطرة العلمية والتقنية التي فرضت عليه من قبل المجتمعات الغربية، وكذلك لأجل إصلاح نقاط الخلل في مختلف المؤسسات الحكومية والمدنية والعمل على اجتثاث الظلم والاستبداد ونيل الاستقلال وما إلى ذلك من مبادئ سامية يسعى إلى تحقيقها جميع الأحرار في العالم. هذه الإجراءات وما شاكلها والتي تجسّدت في جهود فئات عدة من الساسة والعلماء والمثقفين الذين كانوا مقيمين في إيران والبلدان الغربية؛ قد تمخض عنها انطلاق الثورة الدستورية بعد قرن من الزمن، وذلك في شهر آب / أغسطس عام 1906 م.

الثورة الدستورية في إيران أدت إلى ظهور بنية سياسية جديدة تمثلت في تأسيس نظام ملكي دستوري وتأسيس أحزاب وبرلمان وتدوين دستور للبلاد، ومن ومن الناحية الثقافية كانت مادة دسمة لتدوين كثير من الكتب والمقالات حول السنن الموروثة والتجدد ضمن عناوين متنوّعة تمحور معظهما حول القدم والحداثة، والحقيقة ،والخيال والحقوق والقوانين والعدل والحرّية والمساواة وماهية البرلمان والثورة الدستورية، والدين والإلحاد والظلم والإنصاف والعلم والجهل؛ وما شابه ذلك من مواضيع ذات صلة بالمطالبات الشعبية بحيث كان جيل الشباب هو المخاطب الأوّل لها، وبطبيعة الحال فإنّ هذه الأقلام كانت على سنخين، فبعضها دافع عن الثورة الدستورية بكلّ ما أوتي من قوة وبعضها الآخر تهجم عليها وانتقدها نقداً لاذعاً.

لاشكّ في أنّ الثورة الدستورية فشلت في تحقيق أهدافها التي انبثقت من أجلها، فاضطربت إثر ذلك الأوضاع وتفاقمت أزمات الشعب الإيراني واستاءت مقارنةً بما كانت عليه سابقاً، فعانى الناس من مشاكل أمنية وصحية وافتقدوا لأهم متطلبات

ص: 477

العيش الرغيد ناهيك عن تغلغل المستعمرين البريطانيين والروس في شمال إيران وجنوبها ، وكلّ هذه الأزمات قد تأججت بسبب ضعف النظام الحاكم وعجزه عن إدارة شؤون البلاد بالشكل المناسب ناهيك عن تشتت الآراء وانعدام روح التكافل الاجتماعي؛ ومن ثمّ شيئاً فشيئاً بدأت الاعتراضات تحتدم ليتمخض عنها الانقلاب العسكري الذي أطاح بالسلطة في شهر شباط/ فبراير عام 1921م حيث كان مدعوماً بشكل مباشر من قبل جهات خارجية. قاد هذا الانقلاب عدد من الساسة والعسكر الموالين لبريطانيا وعلى رأسهم سيد ضياء الدين الطباطبائي ورضا خان بهلوي، فهدف هؤلاء لم يكن ينصب في المصلحة الوطنية وإنما كانت لهم مآرب شخصية.

قبل هذا الانقلاب العسكري وفي عام 1919م بالتحديد عقد الحاكم وثوق الدولة اتفاقيةً مع بريطانيا ولكنّها واجهت معارضةً روسيةً ولم تحظ بتأييد بعض الشخصيات داخل إيران، لذا عجزت عن تحقيق أهدافها على أرض الواقع، وفي خضم هذه الأحداث كانت روسيا في صراع فكري سياسي متأجّج في رحاب الثورة البلشفية التي انطلقت عام 1917م مما اضطرها لرفع يدها عن مما اضطرها لرفع يدها عن الساحة السياسية في إيران.

في خضم هذه الظروف العصيبة والأزمات المتفاقمة، بادر بعضهم إلى رفع شعارات تدعو إلى الدفاع عن حقوق الشعب الإيراني، لذلك شعر البريطانيون بخطر يهدّد نفوذهم فبذلوا ما بوسعهم للحفاظ على مواطئ القدم التي كانت لهم في إيران، بل وتوسيع نطاق سيطرتهم إلى مناطق أخرى لم تكن تخضع لسلطتهم، وبالطبع فإنّ أقصر وأيسر طريق لتحقيق هذا الغرض هو إيكال زمام الأمور إلى من يواليهم ويطيع أوامرهم ولا سيّما أولئك الذين كانوا منبهرين بالثقافة الغربية والسائرين في ركب التجدد والحداثة؛ وخلاصة الكلام أنّ الاستغراب هو السبيل الوحيد الذين كان يضمن للبريطانيين الحفاظ على نفوذهم في إيران آنذاك.

رضا خان بهلوي كان أبرز شخصية عسكرية شاركت في الانقلاب العسكري ضدّ النظام الحاكم في تلك الآونة، وقد حظي بدعم من قبل بعض المثقفين من أمثال تقي زاده، وكذلك ساندته بعض الأحزاب الليبرالية التي كانت تسعى إلى تطبيق النهج

ص: 478

الغربي بحذافيره في إيران عبر اجتثاث التعاليم والسُّنن الإسلامية ومحوها من الوجود بالكامل. هذه التوجهات المناهضة للإسلام استهوت الزعيم الانقلابي رضا خان بهلوي فقد كان منبهراً إلى أقصى حد بالأنموذج الغربي الجديد الذي اجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه بعد الثورة الصناعية، لذلك سلك طريق التجدّد والحداثة بشكل منسجم بالكامل مع النمط الغربي، ومن ثمّ قلب صفحات التأريخ ليرجع إلى عهد ما قبل المسيحية داعياً إلى إعادة أمجاد بلاد فارس القديمة وراح يروج لهذه الفكرة بشتى الوسائل والأساليب التي كانت متاحةً له؛ وبالفعل فقد ناهض الإسلام بكل ما أوتي من قوة وتجرأ على تعاليمه الأصيلة لدرجة أنه أمر بمحو جميع المظاهر الإسلامية والتقاليد والأعراف الدينية، وحارب الحجاب الإسلامي بقسوة بحيث أصدر أمراً إلزامياً بسفور النساء ومعاقبة المحجبات منهنّ وخلع حجابهن بالإجبار، كما ضايق رجال الدين وكافة رموزه بحيث منعهم من ارتداء الزي الإسلامي وجعلهم مهمشين في المجتمع بعد أن حظر عليهم مزاولة نشاطاتهم التبليغية.

بعد رضا خان بهلوي، حان دور ابنه محمّد رضا شاه الذي استولى على السلطة بدعم بريطاني مباشر ، وقد حذا حذو أبيه في اتباع النهج الثقافي الغربي والانخراط في مسيرة التجدّد والحداثة الأمر الذي أسفر عن اتساع نطاق نفوذ المستعمرين وعلى رأسهم البريطانيون أكثر من أي وقت مضى.

تجاوز محمد رضا شاه والده رضا خان بهلوي في العمالة للغرب والإذعان إلى أوامرهم ولا سيما بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في شهر آب/ أغسطس عام 1953م وبعد تأسيس إسرائيل وإقامة علاقات حميمة معها وتغلغل أتباع الفكر البهائي المنحرف في أروقة القصر الملكي ومختلف المؤسسات الحكومية تزامناً مع تهميش التعاليم الإسلامية وتجاهل أحكام الشريعة المحمدية الأصيلة فشاع إثر ذلك الظلم وزال العدل وضاعت الحقوق مما أدى إلى ظهور توجّهات ثورية لدى كافة شرائح الشعب الإيراني؛ وبما أنّ هذا النظام الحاكم استهدف ذات الإسلام وحاول محوه من الوجود فقد اتصفت هذه التوجهات المعارضة بشكل عام بطابع إسلامي، ومن

ص: 479

ثمّ أثمرت الجهود الشعبية الحثيثة المتنامية عن انتصار الثورة الإسلامية التي أطاحت بهذا النظام الشاهنشاني الملحد.

بعد انتصار الثورة الإسلامية في نهاية عقد السبعينيات من القرن المنصرم، أي في شهر شباط / فبراير عام 1979م، بذل الثوّار قصارى مساعيهم لتأسيس نظامِ إسلامي متقوّم على مبادئ العدل والحرّية والاستقلال والتطوّر ومقارعة الظلم والفقر والتصدّي للنفوذ الغربي علمياً وتقنياً والتحرّر من التبعية للشرق والغرب على حدّ سواء مع اتخاذ مواقف جادّة ورصينة في محاربة القوى الاستكبارية. وعلى هذا الأساس اتّصف عهد الثورة الإسلامية بميزات مختلفة بالكامل عما كان عليه الحال في زمان الأنظمة الملكية السابقة، وإثر ذلك ظهرت توجهات فكرية عدّة بالنسبة إلى كيفية التعامل مع الثقافة الغربية في شتّى نواحيها السياسية والعلمية والتقنية، ويمكن تلخيصها في النقاط الثلاثة الآتية:

1) مناهضة العالم الغربي بالكامل والإعراض عن كلّ إنجازاته الثقافية والعلمية والتقنية.

2) عدم الانزواء عن التطوّر الذي بلغته الحضارة الغربية ومواكبته بالكامل.

3 ) اقتباس الأساليب والمناهج العلمية المتطوّرة والعمل على تطبيقها محلية لتتحوّل إلى أسس وقواعد مستقلة عن العالم الغربي وتظهر بصيغة محلية جديدة، وهذا الأمر قد فعله الغربيون سابقاً حينما اقتنصوا العلوم الشرقية ولا سيّما في القرون الوسطى، بل ما زالوا إلى يومنا هذا يقتبسون علومنا بواسطة المستشرقين الذين يرسلونهم لاستطلاع أحوالنا وعلومنا.

هذه التوجهات الفكرية الثلاثة المتباينة مع بعضها قد طرحت حلولاً حول كيفية التعامل مع التطوّر التقني والثقافي الغربي في العصر الحديث، فلو تمعنا بها سنجد أنّها تعكس رغبة بعضهم في الإعراض عن الغرب وتجاهل إنجازاته بالكامل، ودعوة آخرين إلى الانضواء في ركبه ومواكبته بحذافيره، وإرادة بعضهم بأن يكون التعامل

ص: 480

معه بحذر عبر اقتباس ما هو مفيد والإعراض عمّا لا طائل منه ؛ لذا نجد أنّ الصراع بین السُّنة والتجدّد ما زال محتدماً حتى اليوم في خضم هذه الآراء المتلاطمة.

بعض المفكرين الإيرانيين عدّوا الرؤى الفلسفية التي شاعت في العالم الغربي إبان العصر الحديث سبباً في التطوّر الذي شهدته تلك الديار ثقافياً واجتماعياً وتقنياً، وكذلك وصفوها بأنّها العامل الأساسي الذي أدى إلى نجاح الغربيين في إدارة شؤونهم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وفي سائر المجالات الأخرى من دون أن يحتاجوا إلى غيرهم، وبناءً على هذا الكلام يمكن عدّ تلك الرؤى بنيةً أساسيةً للحضارة الغربية وفيما بعد ترتبت عليها أصول التطوّر الحديثة.

الفلسفة الغربية بطبيعة الحال تضرب بجذورها في الديانة المسيحية والأصول الفلسفية الإغريقية والرومية، وقد تنامت واتسع نطاقها على ضوء تطوّر شتّى العلوم مثل الرياضيات والفلك والهندسة والفيزياء؛ وإحدى النتائج التي تمخضت عن النزعات الفلسفية الغربية الحديثة هي ظهور نمط فلسفي علمي مشترك على صعيد المناهج والأهداف في مختلف مجالات الحياة، ولا شكّ في أنّ رائد هذه الحركة الفكرية الفلسفية هو المفكّر رينيه ديكارت الذي يمكن عده المؤسس للثقافة الغربية الحديثة والعلم البارز في عالم التجدّد والحداثة.

إلى جانب ديكارت، هناك فلاسفة آخرون كان لهم فضل في ترسيخ بنية الحضارة الغربية الحديثة وعلى رأسهم فرنسيس بيكون، حيث كان يجمعهم هدف واحد رغم اختلافهم في وجهات النظر والأساليب الفلسفية. لو أردنا المقارنة بين آراء ديكارت وبيكون لألفينا الثاني أدنى رتبةً من الأوّل رغم أنّه متقدّم عليه زمنياً، إذ إنّ المبادئ الفلسفية الجديدة في العالم الغربي لم تتكامل إلا بعد القرن التاسع عشر الميلادي رغم أنّها انبثقت قبل ذلك في القرن الخامس عشر، وبالطبع فقد أسهم كثير من الفلاسفة والمفكرين في ذلك عبر شرح الأصول الفلسفية الغربية وتحليلها وبيان دلالاتها وتوسيع نطاقها؛ ومن أبرزهم: - باروخ سبينوزا - نيكولا مالبرانش - غوتفريد فيلهيلم لايبنتز - ديفيد هيوم - جون لوك - إسحاق نيوتن - إيمانوئيل كانط - فريدريك

ص: 481

هيجل.

المفكرون الإيرانيون الذين تبنّوا فكرة أنّ الغرب قد تطوّر وتنامي على أساس المبادئ الفلسفية التي اتبعها، يقسّمون التأريخ الفكري الغربي بعد ظهور الديانية المسيحية إلى عهدين أحدهما قديم والآخر حديث، ولكلّ واحد منهما خصائصه التي تميزه عن غيره؛ فالعهد الحديث ترسخت فيه العلوم المادية واتسع نطاقها ولاسيما العلوم الرفاهية والطبية والتنموية والتقنية والإدارية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهذه الأمور لم تكن متعارفةً في العهد القديم إذ اتصفت العلوم السالفة بالسطحية وكان نطاقها ضيّقاً للغاية.

الهدف الذي يراد تحقيقه من العلوم الحديثة هو صياغة الحياة البشرية بأسلوب مختلف عما كانت عليه سابقاً وبناء شخصية الإنسان بشكل متكامل ولا سيما في مجال التقنية الصناعية الحديثة والشؤون الطبّية والمبادئ الأخلاقية بالاعتماد على آراء رينيه ديكارت التي تُعد أصولاً نظريةً أساسية للحضارة الغربية، وكذلك بالاعتماد على الأنموذج العقلي الطبيعي الذي أرسى دعائمه فرنسيس بيكون، ووفق وجهة نظر إيمانوئيل كانط حول العقل النظري والعملي وعلى أساس المبدأ الجدلي الديالكتيكي للتأريخ والمجتمع حسب نظريات فريدريك هيجل.

أمّا العهد الغربي القديم فقد اتصفت الحياة فيه بنمط آخر، إذ ركز الفلاسفة جهودهم الفكرية على مباحث العقل والوحي من حيث التشابه والاختلاف، وتطرقوا إلى بيان ماهية العلاقة بينهما؛ في حين سلك فلاسفة العصر الحديث منحى آخر نظراً للظروف التي اكتنفت حياتهم، حيث سلطوا الضوء على السنن الدينية والأعراف الموروثة إلى جانب اهتمامهم البالغ بالعلوم الجديدة التي أوجدت آفاقاً جديدةً للبحث والتحليل بحيث لم تكن متعارفة لدى أسلافهم.

من المؤكد أنّ الغربيين لهم عصا السبق في ريادة العالم- بالمعنى الأعم- في بعض القضايا والمبادئ الجديدة التي ظهرت في شتّى المجالات الحياتية والعلوم

ص: 482

الفنّية والتقنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما سواها، إذ تمكنوا من بسط نفوذهم على سائر المجتمعات البشرية التي ما زالت متخلفة عن عجلة التطوّر الثقافي والتقني؛ وإثر هذه السلطة أدركت المجتمعات الضعيفة حاجتها الماسة إلى العلوم التقنية الحديثة وعلى رأسها القضايا العسكرية، لذلك شاعت بين مفكريها مباحث جديدة حول كيفية التعامل مع القضايا المعاصرة وإحياء تراثها الأصيل والحفاظ على هويتها والأسلوب الأمثل الذي يمكنها من مواكبة العلوم المعاصرة في مجال الصناعات العامة على ضوء امتلاك تقنية متطوّرة.

لا يختلف اثنان في أنّ المجتمعات البشرية ولا سيّما الشرقية منها قد وجدت نفسها مضطرّةً إلى امتلاك تقنيات عسكرية متطوّرة وصناعات راقية بسبب شعورها بالمخاطر المحدقة بها من جهة العالم الغربي؛ وهذا الأمر قد تجلى بوضوح في تأريخ إيران المعاصر حينما كسرت شوكة الجيش القاجاري الذي كان يمتلك أسلحةً تقليديةً أمام الجيش الروسي المجهز بمختلف الأسلحة المتطوّرة، كما نشهده بوضوح في الحوار الذي دار بين عباس ميرزا والمبعوث الدبلوماسي الفرنسي جوبير.

الشعوب والمجتمعات الضعيفة بحاجة ماسة إلى شتّى العلوم والتقنيات العسكرية الحديثة لمرورها في ظروف قاهرة وتعاني من ضياع تراثها الأصيل إثر تخلّفها عن قافلة التطوّر والحداثة، ناهيك عن أنّ مقاليد الرقي والتصنيع بيد تلك البلدان الاستعمارية التي لا تتوانى عن فعل شيء لتسخير كلّ ما هو موجود خدمةً لمصالحها؛ وهذا الأمر قد أسفر عن حدوث تناقض وحتى نزاعات سياسية بين البلدان التي تمتلك التطوّر التقني، فالغربيون يسخّرون الثروة التي يمتلكونها لاستعباد سائر المجتمعات ونهب خيراتها، ومن هذا المنطلق بادر بعض المفكرين إلى دراسة وتحليل طبيعة المساعي التي تبذلها المجتمعات في التصدّي للتيارات الفكرية الجديدة بهدف مقارنتها مع التوجهات الفكرية ولا سيّما الفلسفية الحديثة التي تبنّاها مختلف العلماء والفلاسفة الغربيين خلال شتّى مراحل التأريخ المعاصر ؛ ونظراً لأهمية هذا الموضوع من الناحيتين التأريخية والفلسفية فقد حظي باهتمام بعض العلماء باعتبار أنه المرتكز

ص: 483

الأساسي في التصدّي لسيطرة الغرب على مقدّرات الحياة البشرية علمياً وتقنياً، ومن هذا المنطلق تطرّق الباحثون الإيرانيون إلى دراسته وتحليله لاستكشاف ماهية الفكر الفلسفي الغربي في رحاب توجهات أبناء المجتمع الإيراني وردّة فعلهم إزاء ما يُصدّر إليهم من مبادئ ثقافية ذات صبغة غربية؛ وبطبيعة الحال إن أردنا تسليط الضوء على هذا الأمر ومعرفة ماهية الارتباط الثقافي بين الشعب الإيراني والعالم الغربي ونسبة تأثير هذين القطبين على بعضهما، فلا مناص لنا من دراسة وتحليل النشاطات الاستشراقية في إيران وكيفية تعامل المستشرقين مع التوجهات الفكرية السائدة فيها، وهذا الأمر يقتضي مراجعة الأصول والنظريات الفلسفية التي لها القول الفصل على الصعيد الفكري والتعرّف على بعض القضايا الفكرية المطروحة على طاولة البحث ومن جملتها الصراع المحتدم بين العلم والإيمان وكيفية استثمار العقل لتلبية بعض مقتضيات الحياة وبلوغ درجة التطوّر والاكتفاء الذاتي في المجالين العلمي والتقني؛ وهذا ما سنتطرّق إلى الحديث عنه ضمن تفاصيل البحث.

نتطرق في هذه المقالة إلى بيان ما ذكر أعلاه على ضوء آراء الدكتور كريم مجتهدي،فهو أحد الأساتذة الذين سخّروا جلّ نشاطاتهم العلمية في دراسة مختلف النظريات الفلسفية وتحليلها طوال عدة عقود.

أكد هذا الباحث الإيراني في دراساته ومدوّناته على ضرورة النهوض بواقع الفكر المحلي وتنميته في ظلّ مقتضيات العصر، حيث اعتمد على مبادئ الفكر الغربي ودعا إلى السير تحت مظلته واتباع منهجيته العلمية؛ وقد وصف هذا الأمر بأنّه هام للغاية.

تتضمّن هذه المقالة جملةً من المباحث حول آراء الدكتور كريم مجتهدي، فبعد بیان بعض جوانب الموضوع المطروح للبحث في المقدّمة، سوف نسلّط الضوء على المواضيع الآتية:

- تدوين فهرس يتضمن آثار الدكتور كريم مجتهدي.

ص: 484

- دراسة دلالية حول مواضيع الفلسفة الغربية الحديثة.

- المستوى المعرفي في المجتمع الإيراني بالنسبة إلى مبادئ الفلسفة الغربية الحديثة.

- أهمية الفلسفة الغربية الحديثة.

- الخلفية التأريخية للمواجهة الفكرية بين إيران والغرب.

- النشاطات الاستشراقية في إيران.

- عباس ميرزا شخصية محورية في توعية الشعب الإيراني.

- الجهود العلمية للمفكرين الإيرانيين في التعامل مع النظريات التي طرحها نظراؤهم الغربيون المحدثون من أمثال فولتير وديكارت وكانط وشيلينج.

- النزعة العقلانية والمساعي التي بذلت للنهوض بواقع العلوم المحلية من قبل بدیع الملك ميرزا والسيد جمال الدين الأسد آبادي.

- مساعي بعض المستغربين من أمثال حسين قلي آغا والميرزا ملکم خان والميرزا

فتح علي آخوند زاده.

- خلاصة البحث.

* أهمّ مؤلّفات الدكتور كريم مجتهدي

المفكر الإيراني الدكتور كريم مجتهدي له آثار عديدة تمثلت في كتب ومقالات دوّنها باللغة الفارسية، وأهمها ما يلي:

- مباحث فلسفية موجزة (چند بحث کوتاه فلسفي) 1348 ه- ش . 1969م

- الفلسفة النقدية لكانط (فلسفه نقادى كانت) 1378 ه-.ش. 1999 م

ص: 485

- السيد جمال الدين الأسد آبادي والفكر الحديث ( سيد جمال الدين اسد آبادي وتفكر جديد) 1363 ه- ش . 1984 م .

- حول هيجل وفلسفته (درباره هگل و فلسفه او) 1373 ه- ش. 1994 م .

- ظاهرانية الروح برؤية هيجل پدیدار شناسي روح بر حسب نظر هگل 1371 ه- ش . 1992 م

- نظرةً على الفلسفة الحديثة في العالم الغربي( نگاهي به فلسفه های جدید ومعاصر در جهان غرب 1373 ه- ش. 1994م ؛ 1377 ه- ش . 1998 م

- الفلسفة في القرون الوسطی( فلسفه در قرون وسطى) 1375 ه- ش. 1996 م

- دونيس سكوتس وكانط برواية هايدجر( دونس اسکوتس وكانت به روایت هایدگر) 1376 ه- ش . 1997 م

- المنطق من منظار هيجل (منطق از نظرگاه هگل) 1377 ه- ش . 1998 م

- الفلسفة والغرب (فلسفه وغرب )

- فلسفة التأريخ (فلسفه تاريخ 1381) ه-.ش. 2002 م

- شخصية ديكارت وفلسفته (دكارت و فلسفه او )

- ترجمة مقدّمة كوربين على كتاب« المشاعر » لصدر المتألهين (ترجمه مقدمه

کربن بر المشاعر ملا صدرا )

- الفلسفة والتجدّد (فلسفه وتجدد) 1385 ه- ش . 2006 م

- المدارس والجامعات الإسلامية والغربية في القرون الوسطی (مدارس و دانشگاه های اسلامی و غربی در قرون وسطی) 1379 ه- ش. 2000 م

ص: 486

وقد اعتمدنا على بعض هذه الآثار لاستكشاف آراء مؤلّفها حول موضوع البحث كما راجعنا آثاره الأخرى التي لم نذكرها في هذا الفهرس من مقالات دونها وخطابات ألقاها ومقابلات أجريت معه.

أوّلاً: دراسة حول دلالة الألفاظ

- الفلسفة في العصر الغربي الحديث

عرف الدكتور كريم مجتهدي الفلسفة في العصر الحديث بأنّها فكر جديد مختلف اختلافاً جذرياً عما كان شائعاً في القرون الوسطى بين شتّى المدارس الفكرية الفلسفية والكلامية.

وقد أكد على أنّ المفكّر الغربي في النهج الفلسفي الجديد يعير أهميةً بالغةً للعلوم الحديثة، في حين سلفه في القرون الوسطى كان يتطرق في الدرجة الأولى إلى دراسة وتحليل واقع العلاقة بين العقل والوحي من حيث التشابة والاختلاف، فقد كان العقل محوراً للفكر الفلسفي إلى جانب عدم تجاهل تعاليم الوحي، وعلى هذا الأساس سلّط الفلاسفة القدماء أنظارهم على إمكانية التنسيق بين هذين المبدئين أو عدم إمكانية ذلك؛إلا أنّ الفيلسوف المعاصر سلك مسلكاً آخر، حيث انصرف إلى بیان تفاصيل علم الكلام التقليدي في عين بحثه وتحليله لمختلف القضايا المرتبطة بالعلوم الحديثة.

إذن، إن أردنا التعرف على مبادئ وفروع الفلسفة الحديثة فلا بد لنا أوّلاً من البحث عن جذورها في العلم الحديث، وهذا الأمر بالطبع يتطلب دراسة آراء أعلام النهضة الفكرية الحديثة في العالم الغربي وتحليلها من أمثال فرنسيس بيكون، رينيه ديكارت باروخ سبينوزا، نیکولا مالبرانش غوتفريد فيلهيلم لايبنتز، ديفيد هيوم، جون لوك، إسحاق نيوتن إيمانوئيل كانط فريدريك هيجل ؛ وسائر الشخصيات التي تركت بصماتها على الساحة الفكرية في التأريخ المعاصر (1).

ص: 487


1- کریم مجتهدي چهره هاي ماندگار (باللغة الفارسية)، منشورات ،روزكار ، 1381 ه ش. (2002 م)، ص 30.

- احتكاك المفكّرين الإيرانيين بالفلسفة الغربية الحديثة

قال الدكتور كريم مجتهدي إن المفكرين الإيرانيين تعرفوا على المبادئ والنظريات الفلسفية الغربية الحديثة بفضل الجهود والنشاطات العلمية والسياسية لبعض العلماء ورجال السياسة الذين احتكوا بالمجتمعات الغربية ودوّنوا مؤلّفات حول واقع الفكر الفلسفي في تلك الديار؛ كما عزا جانباً من هذا الموضوع إلى الفعاليات الاستشراقية لبعض المستشرقين الذين أقاموا في إيران وزاولوا نشاطات علمية.

ثانياً: المنهجية

وصف الدكتور كريم مجتهدي الطريقة التي تعرّف بواسطتها المفكرون الإيرانيون على الفلسفة الغربية الحديثة بأنّها تشابه عملية القسطرة، حيث تطرّق إلى شرح نشاطات العلماء والمفكرين الإيرانيين وتحليلها على ضوء أصول الفلسفة الغربية الحديثة بالاستناد إلى نظريات رينيه ديكارت بصفتها الصورة الحقيقية للحضارة الغربية، ومن ثمّ قارنها مع سائر المبادئ الفلسفية التي شاعت في تلك الديار إبّان العصر الحديث ؛ وبعد ذلك أشار إلى أوجه الارتباط بين الفلسفة الإيرانية والغربية حيث عدّ هذا الارتباط تأريخياً فلسفياً،(1) أي إنّه تحقق تزامناً مع مسيرة التأريخ في جميع مراحله وكذلك تقوم على الفكر الفلسفي المتأثر بالزمان في عين خروجه عن نطاق التأريخ بحدّ ذاته. فالفكر الذي ساد بين الفلاسفة الإيرانيين في العصر الحديث متأثر بالمنهج الغربي ومنضو تحت أهدافه ومنسجم مع مضامينه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا المفكر الإيراني قد عدّ العلاقة بين التأريخ والفلسفة وكيفية تعرف المفكرين الإيرانيين على المبادئ والأصول الفلسفية الغربية الحديثة، مفهوماً جديداً يدلّ على فترة زمنية محدّدة من تأريخ إيران المعاصر، وهذه الفترة برأيه

ص: 488


1- كريم مجتهدي، آشنائی ایرانیان با فلسفه هاي جديد غرب (باللغة الفارسية)، منشورات مؤسسة دراسات التأريخ الإيراني المعاصر ، 1379 ه-.ش. 2000)،م ، ص 53 للاطلاع أكثر ، راجع: مركز آثار دار البحوث والثقافة والفكر الإسلامي التابع لمؤسسة دراسة تأريخ إيران المعاصر، 1379ه-.ش. (2000م)، ص 3 - 5 تقرير لندوة عقدت تحت عنوان (من هذه المعرفة إلى هذه الغربة)، مجلة (زمانه) الشهرية، السنة الثانية، العدد ،12، 1382 ه- ش . (2003م).

تلت التجدّد الثقافي الغربي والمبادئ الفكرية التي سيطرت على تلك الديار إبّان القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.

ثالثاً: أهمّية الفلسفة الغربية الحديثة، وكيفية تعرّف المفكّرين الإيرانيين عليها

لا يختلف اثنان في أنّ التعرّف على أصول الفلسفة الغربية الحديثة يعدّ أمراً . غاية الأهمية، والدكتور كريم مجتهدي بدوره أكد على هذه الضرورة من جهات عدّة يمكن تلخيصها بما يأتي:

1) التعرف على الأصول الفلسفية والنظريات الأساسية التي طرحها المفكرون الغربيون يعيننا على تحسين أوضاعنا الحالية ويمكننا من توفير الإمكانيات العلمية والتقنية والصناعية اللازمة لتطوير مجتمعاتنا اقتصادياً وانتشالها من حالة التخلّف التي تعاني منها، ناهيك عن أنّنا لو تعرّفنا على هذه الأمور بمضمونها الحقيقي سيتسنّى لنا سلوك النهج الصحيح وصيانة أنفسنا من الزلل والانحراف والحذر من تبنّي أفكار ضالّة وأهداف مخادعة.

2) لو تعرفنا على التعاليم الفلسفية الغربية بشكل أمثل ودقة أكثر، سوف نتمكّن إثر ذلك من معرفة النظريات التي طرحها أسلافنا الفلاسفة المسلمون والإيرانيون بأفضل وجه ممكن، أي إنّنا سنعرف كنه تعاليم الحكيم ابن سينا والفارابي وتراث سائر علمائنا القدامى على ضوء الظروف الفكرية السائدة في عالمنا المعاصر، ومن ثم سيتحقق القول المأثور (للآباء فضل على الأبناء) على أرض الواقع بعد أن يدرك جيلنا المعاصر عظمة المفاهيم الفلسفية التي طرحها أجداده.

3 ) نظراً لرواج بعض القضايا المستحدثة في مجتمعاتنا المعاصرة على صعيد الدين والعلم والفلسفة فلا حيلة لنا من الخوض في غمار الفكر الفلسفي الغربي المعاصر لأنه تطرّق إلى دراسة هذه القضايا وتحليلها؛ لذا بإمكاننا الاعتماد عليه كأصل ومصدر فكري له الأولوية في هذا المضمار شريطة التعامل معه معه بحذر.

ص: 489

4 ) من المؤكد أن معرفة متبنّيات المدارس الفكرية الأخرى عن طريق البحث والمقارنة تساعدنا على معرفة أنفسنا بنحو أفضل، إذ إنّ الوعي المنبثق من معرفة الغير يأخذ بيد الإنسان لإدراك كُنه شخصيته وهويته التي هي في الواقع ذات بُعد انفعالي بحيث تتأثر بما يكتنفها من ظروف محيطة بها، ومن ثمّ تؤثر على غيرها في رحاب المجتمع الذي تعيش بكنفه.

شخصية الإنسان بطبيعتها لا تُصقل بشكلها الحقيقي إلا بعد رسوخ المعرفة في باطنها، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ الهوية الموروثة من السلف تبقى محفوفةً بهالة من الغموض أو إنّها لا تفهم بحقيقتها ما لم يتم تشذيبها على وفق الأصول الحديثة، وفي غير هذه الحالة لا يُستبعد أن تمسخ من أساسها وتحرّف ماهيتها.(1)

وتطرّق هذا المفكّر المسلم إلى دراسة وتحليل مسألة اطلاع المجتمع الإيراني على معالم الفلسفة الغربية الحديثة في إطار المباحث الآتية:

1) تعرف الإيرانيين على العلوم الحديثة.

2) مدى براعتهم في مختلف العلوم الحديثة.

3) ظاهرة التجدّد في إيران.

من المؤكد أن المبادئ الفلسفية التي طرحت على الساحة الغربية في القرون الماضية لها ارتباط وثيق بالعلوم ،الحديثة، وثمرة هذا الارتباط ظهور علم حديث ؛ وعلى هذا الأساس فالتعرف على الفلسفة الغربية يعدّ بوّابةً يلج المفكرون من خلالها في غمار العلوم الحديثة التي شاعت في تلك الديار .

إذن، الأصول الفلسفية هي التراث الحديث الذي صدّره العالم الغربي إلى شتّى أصقاع المعمورة بعد عصر الحداثة والتنوير الفكري وهي بطبيعة الحال تتناغم مع مبادئ الثورة السياسية الاجتماعية التي اجتاحت فرنسا والثورة الصناعية التي انبثقت

ص: 490


1- كريم مجتهدي آشنائی ایرانیان با فلسفه هاي جديد غرب (باللغة الفارسية)، ص 1 - 3 .

في بادئ الأمر من بريطانيا، ولكنّها في بعض البلدان التي تمتلك تأريخاً عريقاً وثقافةً أصيلةً -مثل إيران - قد أسفرت عن حدوث أزمات فكرية عديدة أبرزها تضارب الأعراف والسُّنن الموروثة مع التجدّد ،والحداثة، وقد احتدمت هذه الأزمات أحياناً وتفاقمت بشكل كبير لتتسبّب بحدوث مشاكل معقدة وجدل كبير سيما وأنّ التعاليم الوافدة إلى المجتمع الإيراني من الغرب كانت ذريعة للدعوة إلى فسح المجال للمستعمرين والأجانب بالتغلغل في مخلف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية ومن ثمّ نهب خيرات البلد وتدنيس حقوق الشعب المغلوب على أمره.

أضف إلى ذلك فإنّ دراسة واقع الفلسفة الغربية الحديثة وتحليله من شأنه بیان مدى ثقافة الشعب الإيراني مقارنةً مع الثقافة الحديثة التي اجتاحت العالم الغربي بعد الثورة الصناعية، وفي هذا المضمار يطرح موضوع النزاع بين السنن والتجدّد على طاولة البحث. لا نبالغ لو قلنا بأنّ النزعة التجدّدية كانت تراود أذهان الإيرانيين منذ العهد الصفوي حينما حظيت الصناعات والفنون بأهمية بالغة، إذ إنّ المفكرين الإيرانيين يعتقدون بأنّ المجتمعات الغربية قد تطوّرت بفضل براعتها في مختلف المجالات التقنية والصناعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، لذلك بذلوا جهوداً حثيثةً لتذليل العقبات الكامنة للنهوض بواقع المجتمع في جميع المجالات المذكورة.

رابعاً: الخلفية التأريخية للمواجهة الفكرية بين إيران والغرب الحروب الصليبية باعتقاد الدكتور كريم مجتهدي تُعدّ مصداقاً تأريخياً جلياً على المواجهة المحتدمة بين المسلمين والمسيحيين لكونها دامت قرنين من الزمن تقريباً، لكنّ الخلافات بين هاتين الديانتين لم تقتصر على هذه الحروب فحسب، بل كانت سائدةً قبلها ولم تهدأ بعدها أيضاً ولكن بأشكال ومصاديق مختلفة؛ ولربما هذا هو السبب الذي دعا الغربيين إلى الاهتمام بعلوم المسلمين العملية التقنية والفكرية الفلسفية وعدم الاكتراث بمتبنّياتهم العقائدية الدينية، إذ إنّهم ارادوا من ذلك رأب الصدع الموجود في مجتمعاتهم والرقي بمستوى منظومتهم الفكرية والعلمية ومن ثمّ

ص: 491

تطوير أنفسهم في المجالات كافة.(1)

وصف هذا المفكر الإيراني علاقة المجتمع الإيراني بالعالم الغربي منذ الفترة التي سبقت الهجمة المغولية حتى بداية العهد القاجاري، كما يأتي:« إبّان هذه الفترة - قبل الهجمة المغولية حتى بداية العهد القاجاري - استثمر الغربيون الديانة المسيحية كوسيلة يراد منها تحقيق مآرب سياسية ومنافع اقتصادية، وفي القرن الثالث عشر الميلادي استغلّوا علاقاتهم مع الحكّام المغول لتحفيزهم على محاربة المسلمين في مصر وبلاد الشام رغم تلك النزاعات المسلّحة التي اندلعت بينهم إبان الحروب الصليبية. وقد اتبعوا هذه السياسة الخارجية نفسها مع العثمانيين بعد ذلك، حيث احتالوا عليهم كي لا يتغلغلوا في الأراضي الأوروبية.

الشعب الإيراني لم يُدرك جيداً تلك الجوانب السياسية والاستعمارية للنشاطات التبشيرية المسيحية، وإنما تصوّرها مجرّد مواجهة عقائدية تستهدف المعتقدات الإسلامية، لذلك شمّر المفكرون المسلمون في إيران عن سواعدهم لدحض الشعارات التبشيرية وتفنيدها نظرياً وعملياً عبر إثارة شبهات فكرية حولها.

الملوك والسلاطين الذين حكموا إيران ولا سيّما الشاه عباس الصفوي ومن تلاه، قدركزوا اهتمامهم بشكل أساسي على الإمكانيات التقنية والصناعية التي يمتلكها الأوروبيون وبالأخص الأسلحة والمعدّات الحربية كالبنادق والمدافع لأنهم كانوا بحاجة ماسة إليها؛ وفي الحين ذاته حاولوا إيجاد موطئ قدم لهم في الأسواق الأوروبية عن طريق تصدير البضائع الإيرانية المرغوبة آنذاك وعلى رأسها الأقمشة بمختلف أنواعها والحرير، حيث اعتمدوا على وسائط أجانب لتحقيق هذا الهدف.

المفكرون الإيرانيون بشكل عام وبالأخص علماء الكلام حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، كانوا يعتقدون بأنّ الفكر الغربي بأسره منبثق من الديانة المسيحية لدرجة أنّه لا توجد أية نظرية فكرية خارجة عن نطاق هذه الديانة، ومن هذا المنطلق

ص: 492


1- المصدر السابق، ص 23

عدّوا الفلسفة الغربية الحديثة أيضاً تابعةً لها بكلّ تفاصيلها ولا تنفك عنها أبداً.

من الجدير بالذكر هنا أنّ السيّد أحمد العلوي العامل الأصفهاني يعدّ أحد أشدّ الناقدين للفكر المسيحي الغربي.

بعد العهد الصفوي وفي الفترة التي أوكل الحكم فيها إلى نادر شاه بقي الأمر على حاله ولم يكترث أحدٌ بالعلوم التي كانت سائدةً في العالم الغربي، واقتصرت الأخبار التي يدوّنها مؤلّفو الكتب على العجائب في تلك الديار وبعض المهارات الفنّية كالرقص والشعوذة وما سوى ذلك.

في العهد الزندي استمرّت الأوضاع على حالها ولم تُتخذ أية إجراءات عملية للتعرّف على حقيقة الثقافة الأوروبية، وغاية ما في الأمر تمّ تأليف بعض الكتب التي تضمّنت مواضيع حول العلاقات الحسنة بین الأوروبيين والحاكم كريم خان زند الذي كانت له علاقات تجارية معهم وقدّم لهم دعماً كبيراً في حماية قوافلهم من قطاع الطرق وسفنهم من القراصنة من أمثال أمير محض والشيخ سلمان الكعبي» (1)

- النشاطات المتبادلة بين إيران والغرب

شهد التأريخ الإيراني الحديث علاقات متبادلة بين إيران والبلدان الغربية في شتّى المجالات، وهذا الأمر بطبيعة الحال له سلبياته وإيجابياته وتداعياته الخاصة، وفيما يأتي سوف نسلّط الضوء على جانب من ذلك:

1 ) موقف الإيرانيين إزاء النشاطات التبشيرية

تطرق الدكتور كريم مجتهدي إلى الحديث عن أهم الإجراءات التي اتخذها شيعة إيران تجاه نشاطات المبشرين المسيحيين، حيث وصفها قائلاً: «كتاب (مصقل الصفا) الذي ألّفه العالم الشيعي السيد أحمد العلوي العاملي باللغة الفارسية، هو رد على كتاب (مرآة الحقيقة) الذي دوّنه المبشر البرتغالي جيرم خافيير، وبعد مضي

ص: 493


1- المصدر السابق، ص 21 - 46.

ما يقارب 35 عاماً على تأليف هذا الكتاب جرت مناظرات دينية بين المفكر شيزو وعدد من الشخصيات الشيعية، حيث بادر هذا العالم الغربي إلى تأليف كتب باللغة الفارسية بهدف إثبات صحة المعتقدات المسيحية وطلب من اعتماد الدولة الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك بأن يوزّعها في إيران.

ويحتمل أنّ ظهير الدين التفرشي قد ألف كتابه (نصرة الحق) في عهد الملك سليمان الصفوي والموجودة منه نسخة مخطوطة حالياً، رداً على مبشر مسيحيّ يُدعى فادري جبرائيل الإفرنجي الذي دوّن كتاباً باللغة العربية، لذلك قام ظهير الدين بتدوين الردّ عليه باللغة العربية أيضاً؛ وفيما بعد تُرجم هذا الردّ إلى اللغة الفارسية.

أما الباحث علي قلي جديد الإسلام فقد ألف كتاب (سيف المؤمنين) في عهد الملك حسين الصفوي». يُشار إلى أنّ الدكتور كريم مجتهدي قارن بين النصوص التي دوّنها اليهود والمسيحيون باللغة الإنجليزية وقال إنّه وجد فيها تحريفاً لبعض المصطلحات مؤكداً على أنّ هذا الأمر متعمّدٌ وينمّ عن مكر وخداع لتشويه الحقائق. وواصل كلامه قائلاً: «الملا علي النوري وآغا محمد رضا الهمداني دوّنا ردوداً على النشاطات التبليغية للمبشِّر الميثودي هنري مارتن في إيران وبعد عام 1231 ه- تصدّى شخص يُدعى آغا أكبر لهذه المهمة. هنري مارتن ترجم الإنجيل من اللغة اليونانية إلى الفارسية، وقد واجه نقداً لاذعاً حينما غادر إيران من قبل كثير من المفكرين الإيرانيين وعلى رأسهم الميرزا عيسى خان قائم مقام وابنه أبو القاسم قائم فراهاني؛ وقد تواصلت هذه المساعي الفكرية الانتقادية لسنوات متمادية بعد وفاة هذا المبشِّر المسيحي حيث دُوّنت كثير من الردود باللغة الفارسية على ما طرحه، ولكن رغم كلّ ذلك لم يلتفت أحد من الباحثين إلى غرضه الحقيقي الرامي إلى تمهيد الطريق للسيطرة الاستعمارية على إيران وفسح المجال للبريطانيين كي يجدوا موطئ قدم فيها »(1).

ص: 494


1- المصدر السابق، ص 47 - 59.

2) نشاطات المستشرقين في إيران

تحدث الدكتور كريم مجتهدي عن النشاطات الاستشراقية في إيران، وسلط الضوء في هذا المجال على كتاب الرحالة والمستشرق الفرنسي جان شاردان (رحلات في فارس) وعلى موسوعة اللغة الفارسية التي نشرت في هولندا باللغات الإيطالية والإنجليزية والفرنسية والفارسية، واعتمد أيضاً على مذكرات القسّيس يوجين بوري.

وقد أكد هذا المفكر الإيراني على أنّ أهمّ المؤلّفات الاستشراقية حول إيران عبارةً عما يأتي:

أ - مؤلّفات المستشرق الفرنسي جان شاردان هي الأهم من غيرها حول واقع إيران في تلك الآونة، وذلك للأسباب الآتية:

- تعدّ أكثر الآثار الاستشراقية شمولية بالنسبة إلى إيران بحيث يمكن عدها موسوعةً

حقيقيةً حول بلدنا في العهد الصفوي.

- لم يترك قضيةً صغيرةً كانت أو كبيرةً حول واقع إيران والمجتمع الإيراني إلا وتطرق إلى ذكرها.

- لم يكن مستشرقاً فحسب، بل يمكن عده مؤسساً للدراسات الأوروبية حول إيران.

- هو أوّل رحالة غربي دوّن في مذكراته حقيقة المعتقدات الدينية للشعب الإيراني بصدق ومن دون تحريف، كما أنّه اطلع على الفلسفة الإيرانية عن كثب عبر تواجده شخصياً في الأوساط الفلسفية واحتكاكه المباشر مع العلماء والمتخصصين الإيرانيين في هذا الفنّ ومختلف الفنون الأخرى.

- رغم أن مدوّناته لا تتعدى كونها تقارير خبرية ومذكرات أسفار كتلك التي دوّنها سائر الرحالة الأوروبيين ، إلا أنّه تطرّق إلى الحديث عن أبرز العلماء من أمثال الحكيم ابن سينا والفارابي والخواجة نصير الدين الطوسي، كما أشار إلى العلوم والمعارف التي شهدتها بلاد فارس في عهد الفلاسفة الإغريق القدماء كسقراط وأفلاطون

ص: 495

وأرسطو ؛ ولكن ما يثير الاستغراب أنّه لم يشر إلى بعض أبرز الفلاسفة الإيرانيين الذين عاصروه كالميرداماد وصدر الدين الشيرازي، فهذا العلمان البارزان في سماء الفلسفة الإيرانية قد توفّيا قبل 25 و 35 عاماً من مجيئه إلى إيران. (1)

ب - موسوعة اللغة الفارسية المسماة ب- (كنز اللغة الفارسية) (2)تعدّ أفضل الموسوعات التي دوّنها المستشرقون في القرن السابع عشر الميلادي حول إيران والمجتمع الإيراني، وقد نشرت في هولندا باللغات الإيطالية والإنجليزية والفرنسية والفارسية، وعنوانها بالتحديد هو (كنز لغة الفرس)(3) وقد اشتملت على كثير من المباحث المرتبطة بإيران والإيرانيين ومن جملتها أوجه التشابه بين اللغة الفارسية وسائر اللغات الأوروبية، ونمط حياة الشعب الإيراني وأعرافه وتقاليده وثقافاته، وكذلك بعض الأمثال الفارسية (4) .

أقام المستشرق الفرنسي جان شاردان في مدينة لاهاي بهولندا عام 1683م وفي هذه الفترة اطلع على موسوعة اللغة الفارسية قبل أن تطبع وتنشر، لذلك أثنى في كتابه على مؤلّفها وثمن جهوده القيمة، حيث قال: «هذا المؤلّف القدير له إلمام واسع باللغات الأوروبية، لذا أرجو أن يترجم مختلف الجوانب الثقافية في إيران إلى هذه اللغات». كما أنّ أستاذ الفلسفة والرياضيات في أمستردام ألكسندر ديبي أثنى على المؤلّف وبالغ في الإطراء عليه عام 1383 ه- لدرجة أنه عدّ هذه الموسوعة نافذةً لمعرفة ماهية المجتمعات الأفريقية والآسيوية على حد سواء، وفي الحين ذاته اعترف بأنّ المفكرين والعلماء المسلمين قد تركوا بصماتهم على ثقافات المجتمعات الغربية وعلومها.

إذن، يمكن القول إنّ موسوعة اللغة الفارسية لا تعدّ مجرّد وثيقة تأريخية حول إيران في العهد الصفوي، وإنما هي عبارة عن وثيقة تأريخية حيّة ترتبط بقضايا إيران

ص: 496


1- المصدر السابق، ص .76 - 61
2- تمّ تأليف هذه الموسوعة باللغة الفارسية تحت عنوان (گنجینه لغت).
3- گنجینه زبان پارسیان
4- كريم مجتهدي آشنائی ایرانیان با فلسفه هاي جديد غرب (باللغة الفارسية)، ص 77 - 92.

المعاصرة ومدى علقتها بالعالم الغربي ولاسيما تلك القضايا التي ترتبط بالسياسة

والاقتصاد والثقافة.

ج - مذكرات يوجين بوري هي الأخرى يمكن عدها مصدراً حول المنافسة المحتدمة بین المبشرين المسيحيين من أتباع المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي في إيران إبان حكومة محمّد شاه ،القاجاري، وفي تلك الآونة كانت النشاطات التبشيرية للمبشِّر الميثودي هنري مارتن ذات تأثير بالغ وأدت إلى اهتمام عدد من أبناء نحلته بمنطقة الشرق الأوسط وخصوصاً إيران، حيث اطلع إثر ذلك - وفي القرن التاسع عشر بالتحديد - جميع المبشرين الكاثوليك والبروتستانت على واقع أوضاع الأقلية المسيحية الآشورية والأرمنية في إيران فوضعوا خططاً واسعة النطاق لاستقطابها نحوهم.

في عام 1244 ه- (1826م) انطلقت حركة استعمارية تبشيرية جديدة قادها المبشرون البروتستانت الأمريكان وقد تقوّمت على أسلوب مغاير للحركات التي سبقتها بعد أن تم الترويج لها من قبل شخصيات حاذقة أبرزها سميث ودوايت وبيركنز، وقد حظي هؤلاء بدعم لا محدود من قبل القنصلية البريطانية في طهران كما أنّ الحكومة الروسية لم تصدر منها أية ردّة فعل إزاء نشاطاتهم التبشيرية الاستعمارية.

الأوساط الكاثوليكية الأوروبية المرتبط بالفاتيكان عندما علمت بالحركات التبشيرية البروستانتية الجارية في إيران أوفدت القسيس الفرنسي يوجين بوري على رأس وفد إلى مدينة أسطنبول التركية لكونه ملماً بمختلف اللغات الشرقية، فقام بتأسيس مدرسة على النمط الغربي ودوّن بعض المؤلّفات ودرس الفلسفة والأدب والعلوم الغربية، وعمل على استقطاب بعض الإيرانيين إلى المذهب البروتستانتي في كنيسته. ومن جملة تأليفاته كتاب في مئة صفحة حول الطائفة الكلدانية الإيرانية والظروف المعيشية والثقافية للمسيحيين في إيران، وذلك في إطار مذكرات أشار فيها إلى مدى تأثير الفكر الكاثوليكي على المجتمع الإيراني وضعف التبشير البروتستانتي إثر عدم الاعتماد على التبشير المباشر معتبراً هذا الأمر دلالةً صريحةً على ضرورة

ص: 497

فهم واقع التجدّد وأهميته بالنسبة إلى هذا المجتمع الشرقي .(1)

- عباس ميرزا نقطة البداية في الوعي الذاتي للمجتمع الإيراني

تبنّى الدكتور كريم مجتهدي الرأي القائل بأنّ عباس ميرزا وحاشيته هم من أوائل الذين أدركوا الحاجة الماسة إلى العلوم والتقنيات الغربية الحديثة في تلك الآونة، والمسؤولية الرسمية التي تولاها في تلك الآونة هي رئاسة الوزراء في حكومة الملك فتح علي شاه القاجاري، وقد كانت شخصيته مرموقةً بحيث يشهد القاصي والداني بأنّه أبرز الأمراء القاجاريين وأبرعهم وأشجعهم وأفضلهم تدبيراً، ونظراً لحذاقته الفائقة فقد اختار وزيراً حاذقاً له ألا وهو الميرزا قائم فراهاني وولده المعروف بحنكته. المبعوث الفرنسي إلى إيران جوبير تناقش ذات يوم مع عباس ميرزا حول أسباب تطوّر الغرب وتخلّف إيران، وإثر هذا النقاش وصفه جوبير بأنّه يمتلك شخصيةً فذةً وفكراً لامعاً في عين تواضعه؛ كما أنّ مبعوث نابليون إلى إيران الدبلوماسي بين تان أثنى عليه وأشاد بشجاعته وعلمه لدرجة أنّه دعا أقرانه الغربيين إلى الاحتكاك به عن كتب والتعرف على شخصيته الفريدة من نوعها.

وأكد الدكتور مجتهدي على أنّ عباس ميرزا وبعض الشخصيات الإيرانية المعاصرة له قد أدركوا بأنّ بلدهم يعاني من تخلف وجهل وهو أمر حفّزهم على الدعوة إلى التجدّد، ولكن دعواتهم هذه اقتصرت على الآراء والنظريات ولم تنزل حيّز التطبيق نظراً لسطوة الأعداء وضعف إيران؛ لذلك لم تكن مساعيهم كافيةً لحل هذه المعضلة العويصة، إذ لا يكفي في حلّ المشاكل مجرّد فهمها والتنظير لها، فما لم تتخذ إجراءات عملية سوف لا يتسنّى للإنسان حلّ أية مشكلة يواجهها. وقد عزا الباحث جي. أم. تانكواني عجزهم إلى أنّهم لم ينتهلوا من معين علم الفلسفة الذي هو نبراس ينير الطريق أمام البشرية لكسب العلوم والتعرف على شتى المهارات والفنون، إذ إنّ التجدّد يتجرّد عن معناه الحقيقي فيما لو لم يتزامن مع الحركة الفكرية وحتّى إن تحقق بعيداً عن الأصول الفكرية فهو سوف يصبح رتيباً وهامشياً بالتدريج.

ص: 498


1- المصدر السابق، ص 115 - 130.

بناءً على ما ذكر يمكن عدّ السؤال الذي وجهه عباس ميرزا للمبعوث الفرنسي جوبير حول السرّ في تطوّر البلدان الغربية وتخلّف البلدان الشرقية بأنّه سؤال ساذج وينمّ عن سذاجة من طرحه لأنّ هذا الأمر متشعب التفاصيل ولا يمكن الإجابة عنه في إطار سؤال مقتضب، إذ حتى وإن أجيب عنه في عبارة قصيرة فهذا الجواب لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً من الناحية العلمية. نعم، التطوّر العلمي والتقني ليس شعاراً يهتف به لتحريض الناس وحتّهم على أداء فعل ما ، وإنما هو بُنيةٌ أساسيةٌ لا يمكن أن تتقوم بذاتها ما لم ترتكز على قواعد مستحكمة، وفي غير هذه الحالة ستذهب جميع المساعي والجهود أدراج الرياح.(1)

خامساً: المفكّرون الغربيون في إيران

- فرانسوا ماري فولتير

استند الدكتور كريم مجتهدي إلى آراء الكونت آرثر دو غوبينو في كتابيه (قصص آسيوية) و (ديانات وفلسفة آسيا الوسطی) حول انعکاس نظريات الفيلسوف الفرنسي فولتير في إيران موعزاً السبب في رواجها إلى الروس والقوقازيين، وقال إنّها لم تنتشر إلا بين شريحة خاصة من المجتمع الإيراني، وذلك نظراً للظروف الثقافية التي كانت سائدة في بلدنا آنذاك؛ حيث شاعت بين الكتاب والمثقفين الرسميين والمستقلين الداعين إلى الانخراط في ركب قافلة التجدّد والحداثة على وفق النمط الغربي؛ ومن ثمّ شيئاً فشيئاً اتسع نطاقها لتتحوّل إلى دعوة تشجّع على التفسخ الخلقي في إطار صبغة شرقية، لكنّها لم تجد ترحيباً كبيراً إلا من قبل أبناء الشوارع والبلطجية ومرتادي الملاهي والحانات، وهؤلاء في الحقيقة لم يقتبسوا من أفكار فولتير سوى النزعة المنحرفة الداعية إلى التفسخ الخلقي والتعرّي في حين تجاهل الأعراف والتقاليد الأصيلة؛ وإثر هذه الظاهرة الذميمة تغاضى هؤلاء عن الفكر الفلسفي الحقيقي الذي تضمنته أطروحات هذا المفكر الغربي، بل إنّهم لم يدركوها بحذافيرها لذلك وقعوا

ص: 499


1- المصدر السابق، ص 93 - 113.

في خطأ كبير وخلقوا أزمات أخلاقية للمجتمع الإيراني.(1)

قال الدكتور مجتهدي بأنّ فولتير كان معروفاً في إيران وآثاره تُرجمت إلى اللغة الفارسية قبل مجيء الكونت آرثر دو غوبينو إلى طهران بسنوات عدة، ولكن ترجمتها كانت ضعيفةً وافتقرت إلى الذوق الفنّي والنمط التخصصي، وأوّل كتاب ترجم له هو سيرة شارل الثاني عشر في عام 1243ه- (1845م ) ؛ وغوبينو بدوره كان على علم بذلك رغم أنّه لم يطلع على هذه الترجمة، وفي كتابه (قصص آسيوية) أشار إلى هذه الترجمة لكنّه لم يتطرق إلى الحديث عن مدى تأثيرها على صعيد شهرة فولتير في إيران.

نستشف من آثار فولتير المترجمة إلى اللغة الفارسية بأنّه كان مؤرخاً وفيلسوفاً قبل أن يكون قصصياً وناقداً وكاتباً ساخراً كما هو متعارف لدى بعض المفكرين الإيرانيين آنذاك ؛ وهذه الحقيقة بطبيعة الحال تعيننا على فهم بعض القضايا التأريخية وترفع من مستوى المعلومات العامة لدى المفكرين المعنيين وتمنحهم الأصول اللازمة للانخراط في ركب التجدد والحداثة بأسلوب أمثل وتمكنهم من معرفة الجذور الثقافية لمجتمعنا بشكل أفضل وإدراك معالمها المعاصرة كما حقاً .(2)

ترجم موسى جبرائیل كتابا فولتير (تاريخ الإمبراطورية الروسية تحت حكم بطرس الأكبر) و(تأريخ شارل الثاني عشر)، وكتاب محمد علي فروغي (تأريخ الإسكندر) من اللغة الفرنسية إلى الفارسية بإملاء من المؤرّخ ميرزا رضا قلي ومن ثمّ نشرها في سلسلة واحدة عام 1236ه-، وفي عام 1313 ه- قام السيّد محمّد طهراني الذي كان مقيماً في الهند بطباعة تلك السلسلة بدون تأريخ الإسكندر). والجدير بالذكر هنا أنّ المرحوم محبوبي أردكاني أشار في الصفحة 184 من كتابه (تأريخ المؤسسات الحضارية الجديدة في (إيران إلى أنّ الميرزا رضا ترجم هذا الكتاب من اللغة الإنجليزية إلى الفارسية، كما تحدث عن هوامش الميرزا حسن شوكت الأصفهاني عليه، وهذا الرجل كان سكرتيراً في السفارة العثمانية بطهران.

ص: 500


1- فلسفة وتجدّد (باللغة الفارسية، منشورات أمير كبير ، 1385 ه- ش 2006م)، ص 172.
2- المصدر السابق، ص 172 - 173.

وأمّا بالنسبة إلى ديانة الباحث موسى جبرائيل، فقد قيل إنّه يهودي، والدكتور كريم مجتهدي بدوره رجّح ذلك لكنّه قال:« ليست لدي معلومات مؤكدة حول ما إن كان موسى جبرائيل يهودياً أو لا، ولكن بما أنّ المصادر ذكرت اسم المؤرّخ الميرزا رضا قلي ولم تذكر اسم الميرزا رضا فهذا السؤال يبقى من دون إجابة، وهو : هل أنّ هذا الشخص هو نفسه الميرزا رضا مهندس باشي المذكور اسمه في كتاب الباحث محبوبي الأردكاني او أنّه شخص آخر ؟ الأمر الجدير بالذكر هنا أنّ الأردكاني قال إنّ عبد العلي هو الذي أقدم على طباعة كتاب فولتير ولم يذكر اسم محمد علي في هذا الصدد »(1) .

وقد استنتج بعد ذلك أنّ الأمر الثابت والمؤكد هو ترجمة الكتاب المذكور من الفرنسية إلى الفارسية، وقبل ذلك بمدّة طويلة اعتمد الباحثون على النسخة الإنجليزية من كتاب تأريخ الإسكندر) ، وأكد على أنّ الغموض الموجود حول مترجمه واللغة التي دوّن فيها يُعد دليلاً جلياً على عدم استقرار الأوضاع الثقافية في مجتمعنا خلال فترة من مراحل تأريخنا، لذا لا يتسنّى لنا التعرف على ماهية هذه الفترة بشكل واقعي ودقيق، وبطبيعة الحال فإنّ فهم ما اكتنف إحدى مراحله بالتفصيل يعد أصعب وأكثر تعقيداً. وقال إنّ طبعة الكتاب في الهند يعود تأريخها إلى خمسين عاماً بعد طبعة طهران، ورغم عدم وجود إقبال كبير على اقتنائها بعد حذف الجزء الأخير منها المتضمن كتاب (تأريخ الإسكندر)، لكن مضمونها كان أكثر انسجاماً وتنظيماً من غيرها.(2) هذه الطبعة كانت أنسب من غيرها، لكنّها كانت زاخرة بالأخطاء المطبعية، ومن جملتها عبارة «الدكتور فولتير الإيرلندي »وهذا الخطأ بطبيعة الحال ينمّ عن أنّ المفكر الغربي فولتير لم يكن مطروحاً على الساحة الإيرانية لأنه كان كاتباً متجدّداً وناقداً ثقافياً سواء كان فرنسياً أو إيرلندياً، وسواء كان ذا شخصية بارزة أو لم يكن كذلك، كما يدلّ على أنّ المفكرين الإيرانيين أعاروا أهميةً لشارل الثاني عشر من منطلق اهتمامهم ببطرس الأكبر.

ص: 501


1- المصدر السابق، ص 186 - 187.
2- المصدر السابق، ص 185.

شخصية بطرس الأكبر كانت مطروحةً على الساحة الإيرانية منذ عهد عباس ميرزا الملقب بنائب السلطنة، بل قبل هذا العهد بمدة مديدة وذلك إبان حكومة الملك حسين الصفوي حينما كان بطرس حيّاً، أي قبل نصف قرن من تدوين سيرته بواسطة فولتير؛

حيث كانت شخصيته معروفةً بين الأوساط الفكرية والسياسية الإيرانية آنذاك .(1)

الدكتور كريم مجتهدي قال إنّ كتابي (تاريخ الإمبراطورية الروسية تحت حكم بطرس الأكبر) و (تأريخ شارل الثاني عشر) قد طبعا باللغة الفارسية بعد وفاة عباس ميرزا وفي فترة شهدت رواج شعارات سياسية ثقافية - أو تأريخية على أقل تقدير - أريد منها استئصال جذور الظلم وإقرار العدل والمساواة في أروقة السلطة الحاكمة بإيران وكذلك تضمّنت دعوةً إلى الحفاظ على الحدود الشمالية وتحسين الأوضاع العامة للشعب في إطار العمل على مواكبة التجدّد وإقرار إصلاحات عامة شاملة لجميع جوانب الحياة التقنية والصناعية بهدف نظم شؤون البلد وإزالة العقبات الكامنة في طريق التطوّر .(2)

وفي خاتمة بحوثه التي دوّنها حول فولتير، أكد على أنه اشتهر بين الملأ بفضل نزعته الانتقادية اللاذعة وسخريته وعدم التزامه بالأعراف والتقاليد الموروثة بين أتباع الديانة المسيحية، وهذا الأمر أشار إليه الكونت آرثر دو غوبينو، لذا لا تكمن شهرته في ترجمة كتابيه المشار إليهما؛ كما يمكن القول إنّه اشتهر عن طريق المشافهة ونقل الأخبار عنه وعن متبنياته الفكرية، وللأسف لم يبادر شخص إلى بيانها في إطار دراسة تحليلية تحقيقية؛ لذا لم تردنا دراسة متكاملة حوله وكلّ ما لدينا عبارة عن أخبار متداولة تناقلتها الألسن من جيل إلى آخر ، وهذا الأمر بطبيعة الحال يسفر أحياناً عن حدوث جهل مركب كما يصطلح في علم المنطق(3)

ص: 502


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق، ص 189.
3- المصدر السابق.

- رينيه ديكارت

عزا الدكتور كريم مجتهدي السبب في اهتمام العلماء والمفكرين الإيرانيين بآثار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عبر المبادرة إلى ترجمتها وشرحها ومناقشتها، إلى أنّه أبرزشخصية في الفكر الغربي الحديث والدعامة الأساسية له لدرجة أنّ كتابه (مقال عن المنهج) ترجم إلى اللغة الفارسية ثلاث مرّات؛ وهذا الاهتمام البالغ - برأي الدكتور مجتهدي - دليلٌ جلي على رغبة المجتمع الإيراني بالسير في ركب قافلة التجدد والحداثة.

ترجم الكتاب المذكور لأوّل مرّة في إيران إبان حكومة الملك القاجاري ناصر الدين شاه بواسطة حاخام يهودي اسمه ملا لالا زار وبتشجيع من القنصل الفرنسي آنذاك الكونت آرثر دو غوبينو، حيث طبع في طهران سنة 1279 ه- تحت عنوان حكمت ناصريه) في إطار 160 صفحةً. الترجمة الثانية قام بها الشيخ محمود الكرماني الملقب بأفضل الملك الكرماني، إذ ترجمها من اللغة التركية إلى الفارسية تحت عنوان (نطق) ضمن 11 صفحةً فقط، وقد طبعت في عام 1321 ه-. أما الترجمة الثالثة فقد دوّنت بقلم الباحث محمّد علي فروغي في عام 1349 ه- ولكنّها لم تطبع بشكل مستقل، بل ضمن كتاب السيّد فروغي (مسيرة الحكمة في أوروبا )(1)وفي فصل تحت عنوان (مقال عن المنهج).

الترجمة الأولى التي قام بها الحاخام اليهودي ملا لالا زار بنصيحة من القنصل الفرنسي آرثر دو غوبينو برأي الدكتور كريم مجتهدي لم تكن جيدةً ومعظم تعابيرهاغامضة وغير مفهومة ولا سيما تلك المواضيع التي رغب دو غوبينو ترجمتها كي يطّلع عليها المفكرون الإيرانيون نظراً لأهميتها، لذا لم يتحقق الهدف المنشود من كتاب ديكارت ولم يطلع أحدٌ على عمق آرائه وماهية بنيته الفكرية.(2)

وعلى الرغم من أنّ المترجم الفاضل والعالم النحرير أفضل الملك الكرماني

ص: 503


1- عنوان الكتاب باللغة الفارسية ( سیر حکمت در اروپا).
2- كريم مجتهدي آشنائی ایرانیان با فلسفههاي جديد غرب (باللغة الفارسية)، ص 205.

الذي تولى مهمة الترجمة الثانية قد أدرك حينها حاجة المجتمع الإيراني إلى علم الفلسفة كضرورة ماسة بصفتها الدعامة الأساسية للعلوم الحديثة، إلا أن ترجمته دوّنت بأسلوب بسيط على غرار النصوص النثرية المتعارفة لاستعماله مصطلحات بسيطة ومتداولة في الكتابات غير الفلسفية ناهيك عن أنّه أقحم فيها بعض التعابير المأثورة في الأدب الفارسي؛ لذلك لم تغير هذه الترجمة شيئاً يذكر ومن ثم بقيت آراء رينيه ديكارت طي الكتمان على المفكرين الإيرانيين. هذا المترجم البارع كان متأثراً بآراء ديكارت بحيث أكد على أنّها تعكس نفس متبنّياته الفكرية وأنّ ترويجها في إيران يعني ترويج أفكاره؛(1) لذلك قال الدكتور كريم مجتهدي بأنّه لم يبادر إلى ترجمة هذا الكتاب عن طريق الصدفة، بل كان على علم بمدى أهميته وفائدته ترجمته لأهل الفكر والعلم في إيران.

بعد ذلك شبّه الدكتور مجتهدي هذا الإنجاز بأنّه يناظر تصرّف من يوشك على الغرق فيكتب رسالةً ويجعلها في قارورة ويلقيها بين أمواج البحر المتلاطمة على أمل تأخذها هذه الأمواج إلى الساحل ليلتقطها من هو مخاطب فيها . (2)

أمّا الترجمة الثالثة التي دوّنت بقلم الباحث محمد علي فروغي، فهي برأي الدكتور مجتهدي مقبولة لكنّ طابعها العام سياسي أكثر من كونه فكرياً فلسفياً غربياً، لذا لم تف بدور مشهود على صعيد ترويج الأصول الفلسفية، بل نظراً لصبغتها السياسية فإنها أسفرت عن ترويج نزعة الاستغراب ومن المؤكد أنّ هذه النزعة الغريبة على بنية المجتمع الإيراني المسلم لابد من أن تتسبب في عرقلة الفكر الفلسفي والترويج لنمط من الفكر السطحي وتجعل المجتمع يخضع للاستعمار ويسير تحت مظلته؛ وبالفعل فقد حدث هذا الأمر على أرض الواقع.(3)

ص: 504


1- المصدر السابق ص .140
2- المصدر السابق، ص 210
3- المصدر السابق، ص 310

- إيمانوئيل كانط ومفكرون غربيون آخرون

قال الدكتور كريم مجتهدي إنّ أسماء بعض المفكرين والفلاسفة الغربيين الجدد قد تألقت لأوّل مرّة على الساحة الإيرانية بعد مرور ما يقارب أربعين عاماً من ترجمة کتاب رینیه دیکارت (مقال عن المنهج)، حيث أُلحق نص هذا الكتاب باللغة الفارسية في خاتمة كتاب (بدائع الحِكَم)، وهذا الكتاب في الحقيقة يعد أحد الأسباب التي أدت إلى سطوع نجم ديكارت في المجتمع الإيراني وفي الحين ذاته كان سبباً في اشتهار فلاسفة ومفكرين غربيين آخرين من أمثال الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط .

كتاب (بدائع الحِكَم) عبارة عن سبع إجابات دوّنها الحكيم الفذ والعالم النحرير الآغا علي الزنوزي ردّاً على أسئلة الأمير القاجاري بديع الملك ميرزا، حيث تضمّن السؤال الأخير اسم إيمانوئيل كانط وأسماء بعض المفكرين الغربيين المحدثين.(1)

هذا الكتاب برأي الدكتور مجتهدي يتضمّن في طياته دراسة تحليلية مقارنةً حول مختلف مسائل الفسلفة الإيرانية التي تتصف بطابع إسلامي وبعض قضايا الفلسفة الغربية الحديثة، وعلى الرغم من أنّ إجابات الآغا علي الزنوزي قد تمحورت بشكل أساسي على المبادئ الفلسفية الإسلامية التقليدية المتعارفة في إيران آنذاك، إلا أنّ أسئلة الأمير القاجاري بديع الملك ميرزا كانت ناظرةً إلى تعاليم الفلسفة الغربية الحديثة .(2)

وعلى أعتاب الثورة الدستورية التي اجتاحت الساحة السياسية الإيرانية في العهد القاجاري، طبعت مجموعة من الكتب لباحثين انبهروا بالتنوير الفكري الذي شاع في العالم الغربي آنذاك ولكنّهم في واقع الحال لم يكونوا ملمين بالأصول والمبادئ الفكرية التي تبنّاها المحدثون الأوروبيون في تلك الآونة، فغاية ما في الأمر أنّهم طرحوا أنفسهم كمحدثين من دون امتلاك أية نزعة فكرية؛ لذلك لم يتطرقوا في مدوّناتهم الفكرية إلى ذكر آراء إيمانوئيل كانط بقدر ما اهتموا بكلام فرانسوا ماري

ص: 505


1- كريم ،مجتهدي، فلسفه ،وتجدّد، 1385ه-.ش. (2006 م)، ص 272.
2- المصدر السابق

فولتير بصفته مفكّراً مناهضاً للأفكار الخرافية كما شاعت بينهم نظريات شارل لوي مونتيسكيو بوصفه داعيةً إلى وضع قوانين جديدة بدلاً عن تلك القوانين والأعراف الموروثة؛ حيث كانوا يعدونه من فلاسفة التجدّد والحداثة.

وبشكل عام، يرى الدكتور مجتهدي بأنّ هذه المؤلفات لم تتصف بطابع تخصصي، لذا تطرّق مدوّنوها إلى ذكر أفكار إيمانوئيل كانط بشكل عابر لأجل النهوض بمستوى

الوعي العام.(1)

وأكد هذا الباحث في كتاباته بأنّ الإيرانيين تعرّفوا لأوّل مرّة على طبيعة أفكار الفيلسوف إيمانوئيل كانط عن طريق كتاب الباحث محمّد علي فروغي (مسيرة الحكمة في أوروبا)، كما تعرّفوا من نافذة هذا الكتاب على النهج الفكري لسائر فلاسفة العصر الحديث. يُذكر أنّ هذا الباحث خصص سبعاً صفحةً من وسبعين الجزء الثاني في كتابه المؤلّف من ثلاثة أجزاء، لبحث وتحليل آراء كانط ونهجه الفلسفي، ورغم مضي أكثر من نصف قرن على تأليفه فهو ما زال مدخلاً مناسباً يمكن الاعتماد عليه في معرفة الأصول الفلسفية لهذا الفيلسوف الغربي (2)

ومما قاله الدكتور كريم مجتهدي في هذا الصدد: في عام 1934 م تم تأسيس جامعة طهران التي وضعت مناهجها التعليمية على وفق النمط الأوروبي الحديث، وهذا الأمر بطبيعة الحال زاد من اهتمام المفكرين الإيرانيين بالفلسفة الغربية الحديثة؛ وإثر رواج العلوم الإنسانية على نطاق واسع واستقلال الفلسفة عن غيرها كعلم متقوّمِ بذاته وله أصوله ومبادؤه الخاصة بادر أساتذة هذه الجامعة إلى تدريس الفكر الغربي الحديث على ضوء المتبنّيات الفكرية لأبرز أعلام الفلسفة الغربية من أمثال رينيه دیکارت وإيمانوئيل كانط .

أمّا في خارج نطاق التعليم الجامعي وفي السنوات الأخيرة بالتحديد، فقد بادرت وسائل الإعلام بما فيها الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية إلى تسليط الضوء

ص: 506


1- المصدر السابق، ص 272 - 273.
2- المصدر السابق.

على بعض الخلافات النظرية السائدة حول فلسفة كانط، لذا تعرّف الناس على آراء بعض أشهر المحلّلين الغربيين من أمثال مارتن هايدجر وإرنست كاسيرر وغيرهما» (1) .

وبالنسبة إلى الدراسات التي أجريت في إطار مبادئ الفلسفة المقارنة، أكّد هذا الباحث الإيراني على أنّها لا تفي بالغرض، إذ ليس من الممكن تدوين دراسات مقارنة بدقة متناهية وتفصيل واف خلال مدة يسيرة من الزمن، ولا سيّما مقارنة نظريات كانط العميقة والمتشعبة التفاصيل مع المناهج الفلسفية الإيرانية المتقوّمة على أصول إسلامية، وبطبيعة الحال فإنّ غاية ما يتم تحصيله من هذه المقارنة السطحية لا يتجاوز بعض النتائج المقتضبة التي لا نستحصل منها علي شيءٍ مفيد سوى بعض المعلومات المحدودة؛ ولكن مع ذلك دوّنت بعض البحوث والدراسات في هذا الصدد مثل مناقشة وتحليل مدى تأثير التصوّرات الذهنية على إيجاد ارتباط بين الصور الحسّية المتقدّمة والمفاهيم الفلسفية التي طرحها كانط وبين أداء قوّة التصوّر لدى الإنسان، حتّى إنّ بعضهم قارنها مع نظرية الوجود الذهني التي طرحها الحكيم صدر الدين الشيرازي طبعاً ليس من المستبعد أن يبادر الباحثون إلى تدوين دراسات أكثر في هذا المضمار ممّا الأمل لدينا في تدوين مقارنة حقيقية يحيي مستقبلاً بين آراء كانط والفلاسفة الإيرانيين القدامى بحيث يتمكن طلاب العلم من خلالها التعرف على تفاصيل المنظومة الفكرية لهذا الفيلسوف الغربي (2).

- فريدريك شيلينج

الفيلسوف الألماني فريدريك شيلينج هو أحد المفكرين الذين دعا الدكتور كريم مجتهدي إلى ضرورة دراسة آرائهم وتحليل نظرياتهم، اذ أعرب عن أسفه لعدم إجراء أية دراسة معتبرة حول المنظومة الفكرية لهذا الفيلسوف الغربي في إيران؛ لذلك قال: «لو تمكن الباحث الإيراني من معرفة آراء فريدريك هيجل على ضوء آراء فريدريك شيلينج، فسوف يدرك حينها عظمة نظريات الأوّل وروعتها الحقيقية أكثر من أي وقت مضى » .(3)

ص: 507


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق، ص 274
3- مقالة دوّنت تحت عنوان (كيفية التصدّي للاستغراب) في مجلة (غرب شناسي)، العددان 11 و12.

سادساً: المذهب العقلي Rationalism

لا شكّ في أنّ العقلانية تُعدُّ واحدةً من الأصول الأساسية التي ترتكز عليها الفلسفة الغربية الحديثة، وعد الدكتور مجتهدي بعض المنظرين الإيرانيين مناهضين للعقلانية الغربية لدرجة أنّهم رفضوا جميع تعاليمها الفلسفية.

وقد أكّد على أنّ المذهب العقلي الغربي يضرب بجذوره في التعاليم الفلسفية الإسلامية التي صاغها الفلاسفة المسلمون من أمثال ابن رشد، ولكنّها مع ذلك لا تحظى بأهمية تُذكر، وهي في واقعها عقلانية لا تعدّ العقل مجرّد بنية أولية للفكر الفلسفي، بل تراه متزامناً مع هذا النمط الفكري في جميع مراحله بحيث يرتقيمع ارتقائها لكونها تقومه وتسمو بشأنه مهما تعالت وتقوّمت وثمرة هذه المرحلة التطوّرية تتمثل في تنامي الفكر ورسوخه، وهو ما نلمسه بوضوح في آثار رينيه دیکارت وباروخ سبينوزا .(1)

سابعاً: العمل على تحقيق إنجازات علمية جديدة

نستشف من آثار الدكتور كريم مجتهدي أنّه لخص المساعي التي بذلت في إيران بهدف إيجاد نتاجات علمية جديدة كما يأتي:

1) رسائل بديع الملك ميرزا إلى الحاج أمين الضرب ولا سيما السؤال السابع في كتاب (بدائع الحكم، فهي أنموذج للمساعي الفكرية التي بذلت في إيران بغية إنتاج علم محلي يتناول دراسة قضايا العصر وتحليلها؛ حيث قال: «في عهد الملك القاجاري ناصر الدين شاه وخصوصاً في النصف الثاني منه والذي وصف بأنّه عصرالنهضة، أقبل بعض المفكرين الإيرانيين على الثقافة الغربية والفكر الأوروبي المتداول في تلك المجتمعات آنذاك لدرجة أنّهم عدّوا النمط الغربي الحديث الدعامة الأساسية للعلم والصناعة.

الفكر الغربي بالنسبة إلى منوّري الفكر هؤلاء كان يتصف ببعد واحد فقط يتمثل

ص: 508


1- مجلة چهرههای مانگار العدد 13، ص 17 - 18.

بالرقيّ الفكري، حيث تمسكوا بهذا الرأي وحاولوا تحقيق هدف واحد لا غير بغض النظر عن صحته أو سقمه رغم أنّهم تبنّوا نزعات فكرية متباينة مما يعني التشكيك في مدى مصداقية أطروحاتهم. نعم، رغم أنّهم لم يتبنوا منهجاً فكرياً واحداً لكنّهم ساروا في مسلك واحد ولم يخرجوا عن النطاق الذي يعجبهم ويتناغم مع رغباتهم الشخصية والفئوية؛ حيث تأثروا بالنظريات الطبيعية التي فرضت نفسها في العالم الغربي بعد عصر النهضة والحداثة، وعلى أساسها حاولوا طرح مبادئ فلسفية على النمط ذاته الذي طرحه أوجست كونط وجون ستيورات ميل؛ وبالفعل فقد تجسّدت هذه الأفكار بكل وضوح في آثار بعض المفكرين الإيرانيين من أمثال الميرزا فتح علي آخوند زاده والميرزا ملکم خان، وأشار الكاتب بديع الملك ميرزا إليها في رسائله إلى الفيلسوف الفرنسي أولاند وطالب في أربعة من رسائله بضرورة مطالعه كتابه؛ وهذا الأمر إنما ينمّ عن وجود بعض الاستثناءات في تلك الآونة أيضاً إذ لم يكن جميع المفكرين راغبين بالاطلاع على آراء نظرائهم الغربيين بأسلوب موحد ومن مصادر متشابهة، فمنهم من رجّح التيّارات الفكرية الغربية على نحو مجمل ومتباين، ولربما فهموا واقع هذا الفكر عبر التعرّف على ما يتضادّ معه، أي إنهم لم يدركوا سوى جانب محدود منه لا يتنافى مع مبادئ الفلسفة الإيرانية ولا يمس بتعاليمها الأصيلة.

هذه الجهود الحثيثة تدلّ على أنّ بديع الملك ميرزا قد أعار أهميةً لمسألة الفلسفة المقارنة ولو على نحو ذهنيّ على أقل تقدير، وهناك احتمال قوي بأنّ بعض أسئلته قد تمحورت حول نمط من الفلسفة الغربية على وفق التعاليم الكانطية الحديثة، وهذا الأمر في تلك الآونة - أي قبل قرن من الزمن - كان بكراً في إيران لكونه غير مسبوق بما يناظره » .(1)

استناداً إلى ما ذكر فالدكتور كريم مجتهدي عد بديع الملك ميرزا واحداً من المفكرين الأوائل الذين أعاروا أهميةً للفكر الغربي والعلوم الحديثة، وقد تطرق في منهجه الفكري إلى الصلة بين علم الكلام والعلوم الأخرى؛ لذا فهو في تلك

ص: 509


1- هذا الكلام مقتبس من كلمة للدكتور كريم مجتهدي في مؤتمر تكريمي للملا علي الزنوزي عقد بتأريخ 14 / 7 / 1367 ه- ش (6 / 10 / 1988

الآونة التي عاصرها لم يكن يقصد القيام بوجه السنن الفلسفية في إيران وذلك لأنّ الإمكانيات كانت محدودةً آنذاك، لذا رام النهوض بواقع المبادئ الفلسفية في بلده على ضوء بعض تعاليم الفلسفة الغربية والعلوم الحديثة؛ أي إنّه أراد طرح مبادئ علمية جديدة تخدم إيران في مجال التطور التقني والصناعي وتُسهم في تطوير واقع العلوم الوضعية في مختلف المراكز العلمية من دون أن تمس بالروح المعنوية الإنسانية ولا تتعدّى على مبادئ الإيمان والأخلاق الاجتماعية والدينية.

وقد وصف الدكتور مجتهدي بعض الكتب والرسائل بأنّها دراسات مقارنة بين الفكرين الغربي والإيراني، ومن جملتها كتاب بدائع الحكم للملا علي الزنوزي الذي تمّ تا تأليفه كردٍّ على تلك الأسئلة التي طرحها بديع الملك ميرزا على بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين ، وكذلك رسالة بديع الملك ميرزا التي دونها حول كتاب المفكر الغربي أُولاند والتي أرسلها إلى الحاج أمين الضرب؛ حيث قال في هذا الصدد: «لو قارنا بين مبادئ الفكرين الشرقي والغربي على الساحة الإيرانية لوجدنا صداماً فلسفياً بين وجهات النظر المتأثرة بآراء إيمانوئيل كانط والسنن الشرقية الموروثة من مدرسة صدر المتألهين. أمّا المساعي العلمية التي بذلها كلّ من الملا الحكيم الزنوزي وبديع الملك ميرزا بهدف استكشاف بعض ملامح الفلسفة الغربية الحديثة، فهي في الحقيقة تروم إلى إضفاء اعتبار للفلسفة الإيرانية الموروثة وليس تفنيدها وذلك لأجل أن تتناغم مع العلوم الوضعية الحديثة وتخدم عملية التطوّر التقني والصناعي في البلاد من دون أن تقدح بالجوانب المعنوية لدى المواطن الإيراني ولا سيما ما يرتبط منها بالإيمان والأخلاق؛ وهذا التوجه الفكري نلحظه جلياً أيضاً في آراء المفكر أولاند وهو ما أدركه بديع الملك ميرزا جيداً».(1)

2 ) عدّ الدكتور مجتهدي آراء السيد جمال الدين الأسد آبادي قيّمةً ومفيدةً، ولا سيما تلك التي تمحورت حول الثقافة والفكر الغربيين، فقد أكد هذا الرجل الفذ على ضرورة اقتباس مقتضى الحاجة من الغرب وتطبيقه في مجتمعاتنا الإسلامية.

ص: 510


1- كريم مجتهدي، فلسفة وتجدّد (باللغة الفارسية)، ص 252.

وقد نقل كلاماً للسيد جمال الدين تمحور حول المتبنّيات الفكرية للباحث والمؤرّخ الفرنسي إرنست رينان الذي دوّن بعض المقالات التي أعرب فيها عن حقده على المسلمين، ويمكن تلخيص أهم البحوث التي دوّنها الدكتور مجتهدي حول آراء السيّد جمال الدين في المواضيع الثلاثة الآتية :

أ - السيّد جمال الدين الأسد آبادي والفكر الحديث.

ب - السيد جمال الدين الأسد آبادي والردّ على المبادي الفلسفية للمذهب الطبيعي.

ج- السيد جمال الدين الأسد آبادي وإرنست رينان.

هذا المفكر المسلم برأي الدكتور مجتهدي كان رجل قول وعمل، وبإمكاننا الاطلاع على آرائه في تفاصيل مختلف آثاره التي وصلتنا ولا سيّما سيرته ورسائله ووثائقه السياسية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مقالاته قد دوّنت بأسلوب إنشائي فارسي ثقيل ولاسيما تلك التي نشرت في مجلة (معلم) التي تصدر في مدينة حيدر آباد دكن، إذ إنّ كتاباته تزخر بالكلمات العربية والإنجليزية والفرنسية والأردو والهندو، كما أنّها تتسّم بطابع توجيه الخطاب للقارئ ؛ ولكنها رغم كلّ ذلك جديرة بالاهتمام لكونها تعكس آراء هذا العلم المسلم بحيث نستشف من خلالها نزعاته الفلسفية باعتبارها مذهباً فكرياً جديداً وفريداً من نوعه، وهذا الأمر بطبيعة الحال يدلّ على مدى إلمام المجتمع الإيراني بالفكر الفلسفي الغربي الحديث وتلك الجهود التي بذلها أعلامه في هذا المضمار.

العالم الفذ السيّد جمال الدين الأسد آبادي خلّف لنا كثيراً من الآثار القيمة، ولكن الدكتور كريم مجتهدي عدّ اثنين منها صورةً جليةً على مدى إلمامه بالفلسفة الغربية الحديثة، وهما مقالتان دوّن إحداهما تحت عنوان (محاضرة في التعليم والتعلّم) والأخرى عنوانها (فوائد الفلسفة)،(1) فهاتان المقالتان تمحورتا بشكل أساسي حول القضايا المرتبطة بالدين والعلم والفلسفة وواقع العلاقة بين هذه العلوم الحياتية،

ص: 511


1- كريم مجتهدي سيد جمال الدين أسد آبادي وتفكر جديد (باللغة الفارسية)، منشورات تأريخ إيران، 1363 ه- ش (1984م)، ص 20 - 21 .

حيث فسّر الدين فيهما بالإسلام والعلم بالعلوم الاستقرائية، والفلسفة بالفلسفة العملية الوضعية.

أكّد الدكتور مجتهدي على أنّ السيد جمال الدين الأسد آبادي اعتمد في هاتين المقالتين على العلوم الاستقرائية بغية التعرّف على ماهية الفلسفة الوضعية الغربية والاعتماد على ما يفيد مجتمعاتنا الإسلامية منها لكي يتمكن المسلمون من تطوير أنفسهم علمياً والاطلاع على روح العلم الحقيقي؛ إذ حاول من خلال هذه الرؤية المستنيرة إزالة جميع العقبات الكامنة في طريق توحيد النمط بين العلم والدين لذلك طرح فكرة وجود روح علمية وسمها بأنّها روح فلسفية، لذلك لم يجعل للفلسفة حدّاً ونهايةً باعتبارها مثيلةً للعلم؛ ومن هذا المنطلق عدّها بمثابة الروح الشاملة والدعامة الأساسية والعلة المبقية للمبادئ العلمية فهي برأيه تعلم الإنسان أركان إنسانيته وتثبت له مدى حاجته إلى مختلف العلوم ، لذا فكلّ أمة تفتقر لهذا الفنّ الفذ لا يمكن لعلومها أن تبقى مدّةً طويلةً من الزمن حتى وإن كان كلّ أبنائها علماء، إذ لا يمكنهم استنباط قواعد علمية أخرى منها .(1)

إذن هذا العالم المسلم القدير يندرج ضمن زمرة العلماء الذين ذهبوا إلى القول بأنّ الإنسان الشرقي - والمسلم بالتحديد - قد أدرك أهمية العلوم الحديثة وفائدتها الفنّية والتقنية؛ لذلك أكد الدكتور مجتهدي على أنّه من دعاة المذهب الوضعي وقد طرح آراءه التجدّدية سعياً لانتشال المجتمعات الإسلامية من الفقر والتخلّف بعد أن أدرك معاناتها وعايش آلامها، ونستشف من سيرته أنه بذل الغالي والنفيس للنهوض بواقع الشعوب المسلمة وشجعها على التصدّي للقوى الطاغية؛ ومن هذا المنطلق عد الإنجازات التي حققها الغرب في شتّى الصّعد التقنية والعسكرية والاقتصادية بالاعتماد على المبادئ الوضعية بأنها مفيدة لتحقيق هذا الهدف السامي، أي إنّه رام من كلّ جهوده إثبات أنّ العلم والصناعة هما البنية الأساسية للاقتدار مؤكداً في الحين ذاته على ضرورة مواكبتهما للعقيدة والإيمان بشكل متلازم لا انقطاع له . (2)

ص: 512


1- المصدر السابق ص 22
2- المصدر السابق، ص 93

لقد اتبع السيد جمال الدين الأسد آبادي أسلوباً فكرياً بارعاً وتمكن من تشخيص مصلحة المجتمع الإسلامي، لذلك ميّز بين السُّنن الفلسفية التي كانت سائدةً لدى الشعوب المسلمة وبين تعاليم القرآن الكريم، ولم يقصد من وراء ذلك فقط تشجيع المسلمين على اكتساب العلوم الاستقرائية الحديثة لأجل ترسيخ مرتكزاتهم الفكرية، بل أراد إثبات أنّ هذه العلوم مع كونها ذات أهمية بالغة لكنّها ليست سوى فصل واحدٍ من كتاب عظيم لا يمكن أن تخطه أيدي البشرية. وعلى هذا الأساس أكد الدكتور كريم مجتهدي على أنّ هذا العالم النحرير كان مختلفاً بالكامل عن جميع معاصريه من الذين دعوا إلى السير في ركب التجدّد والحداثة بحيث فاقهم في دعوته إلى مواكبة العلوم الوضعية الحديثة على ضوء التعاليم الدينية السمحاء، فهو لم يكن مثل الميرزا فتح علي آخوند زاده ولا الميرزا ملکم خان ناظم الدولة وليس كسائر الذين تبنوا آراء قد تكون مشابهة لآرائه، فما أكّد عليه يختلف تماماً عما دعا إليه غيره في روحه وطابعه.

الميرزا فتح علي آخوند زاده على سبيل المثال عد الإسلام عقبة في طريق كسب العلوم الحديثة حاله حال سائر الأديان والشرائع التي تؤمن بها المجتمعات الشرقية، وقد بالغ في نزعته العلمانية هذه لدرجة أنّه عد اصطلاح البروتستانتية الإسلامية - الذي كان مطروحاً آنذاك - ذا دلالة خاصة ولا يقصد منه ضرورة الحفاظ على التعاليم الإسلامية الأصيلة. أمّا الميرزا ملكم خان فهو الآخر لم يبادر إلى طرح أفكاره التي تمحور بعضها على تعاليم إسلامية إلا لأجل أغراضِ سياسية وأهداف اجتماعية شخصية، إذ إنّه لم يكترث يوماً بمدى إيمان المسلمين ومعتقداتهم الحقة، بل لجأ إلى تبنّي تلك الآراء التي اصطبغ بعضها بطابع إسلامي لأنه اضطر إلى ذلك ولم يجد حلاً آخر (1).

وذهب الدكتور مجتهدي إلى القول أيضاً بأنّ السيد جمال الدين الأسد آبادي حتّى وإن أكد على أهمية الفلسفة وفوائدها للمجتمع الإسلامي، لكنّه لا يعني من

ص: 513


1- المصدر السابق، ص 28 - 29

ذلك مجرد القواعد والأصول العقلية البحتة، كما أنّه لم يكن يستحسن الأسلوب المتبع في تدريسها ولربما عدّها عائقاً يحول دون التعرف على العلوم الحديثة(1)

وقد تطرّق في آثاره إلى ذكر أسماء بعض العلماء الغربيين الذين كانت لهم إنجازات علمية من أمثال سيجوندو جاليليه وإسحاق نيوتن ويوهانس كيبلر وغيرهم ممن طرحوا نظريات في العلوم الطبيعية، إلا أنّه لم يشر إلى بعض الفلاسفة الذين أرسوا دعائم الفكر العقلي الغربي مثل رينيه ديكارت وغوتفريد فيلهيلم لايبنتز وباروخ سبينوزا، بل وحتى إيمانوئيل كانط وفريدريك هيجل، فهو كان يعرف متبنياتهم الفكرية ومدى تأثيرهم على المنظومة الفكرية التي حكمت المجتمعات الغربية لكنّه لم يكترث بذلك من منطلق اعتقاده بعدم أهمية تراثهم الفكري على صعيد ترسيخ أسس الفكر والتنظير في تلك الديار؛ أو لربما يعود السبب في ذلك إلى عدم اهتمامه بالفلسفة كعلم عقلي تنظيري بحت، لأنها من هذه الناحية لا طائل منها سوى على صعيد النقاش والاحتجاج كما أنّ ضرورتها مرحلية وعابرة لأنها تشابه الأخبار الصحفية فحسب . (2)

ثامناً: المستغربون

- حسين قلي آغا

حسين قلي آغا هو أحد الشخصيات التي أشار إليها الدكتور كريم مجتهدي في بحوثه العلمية، حيث سطع نجمه على الساحة الفكرية الإيرانية في العهد القاجاري وتأثر بنظريات إيمانوئيل كانط والكونت آرثر دو غوبينو، وقد نُقل عن الأخير كلاماً يؤكد فيه على أنّه التقى مع هذه الشخصية القاجارية، حيث قال: «تعرفت في طهران على رجل اسمه حسين قلي آغا، وهو شخص ذكي وبارع للغاية».

الباحث حسين قلي آغا كان مقيماً في أوروباً مدةً من الزمن وتلقى علومه وثقافته في تلك الديار، لذلك تشوّهت أفكاره الشرقية الإيرانية الأصيلة وتنصل عن المبادئ

ص: 514


1- المصدرالسابق.
2- المصدر السابق، ص 30

الوطنية الموروثة ليتبنّى الفكر الغربي الذي لا يمت بأدنى صلة للمجتمع الإيراني ومن ثم انخرط في قافلة المفكرين المؤيدين للاستعمار والداعين إلى الانضواء تحت مظلة التجدّد والحداثة؛ لذا فهو أنموذج جلي على الشخصيات التي دعت إلى الاستغراب قبل قرن من الزمن بغض النظر عما إن كانت شخصيته حقيقية حسب زعم دو غوبينو أو لا وجود لها من الأساس.

إذن، أكد الدكتور مجتهدي على أنّ حسين قلي آغا جسّد شخصية تعكس التوجّهات الفكرية الحقيقية للمثقفين الإيرانيين في تلك الآونة، فالمد الثقافي الذي اجتاح المجتمع الإيراني إثر هجرة بعضهم إلى أوروبا وعودتهم فيما بعد، هو مدَّ فكري متقوم على الدعوة إلى التجدّد لكون حملته كانوا يتبنون مذهب التنوير الفكري الحديث؛ لذا فإنّ شخصية هذا الباحث المستغرب تجسّد صورة النزعة الاستغرابية في تلك المرحلة من تأريخ البلدان الشرقية ولا سيّما إيران، حيث أكد أولئك المستغربون على أنّ السير في ركب الحضارة الغربية ضرورة لا محيص منها.

لقد أثرت هذه التوجّهات بشكل جاد على مصير مجتمعاتنا وغيرت واقع توجّهاتها في شتّى الصعد السياسية والثقافية وغيرها، ولكن رغم كلّ ذلك فالتجدّد الذي بسط نفوذه إلى حد ما في الأوساط الفكرية لم يلب طموحات الدعاة إليه ولم يكن منطلقاً لتحقيق الاستقلال الشعبي والوطني لأنّه لم ينبثق من فكر أصيل وتمحور بشكل أساسي على نزعات قومية وتفاخر بأمجاد السلف وإنجازات الأجداد؛ لذلك شدّد الدكتور مجتهدي على أنّ الرقي الحقيقي في جميع المجالات لا يتحقق إلا على ضوء فهم التأريخ فهماً حقيقياً وأخذ العبر منه وليس بالتفاخر والتباهي به.(1)

- الميرزا ملكم خان

الميرزا ملكم خان هو أحد المثقفين الذين تبنّوا مبدأ التنوير الفكري إبان العهد القاجاري وفي أيّام حكومة الملك ناصر الدين شاه بالتحديد، لذلك تطرق الدكتور

ص: 515


1- كريم مجتهدي آشنائی ایرانیان با فلسفههاي جديد غرب (باللغة الفارسية)، ص 143 - 154

كريم مجتهدي إلى بيان متبنّياته الفكرية وآرائه التنظيرية عاداً إيّاها سبباً في سطوع نجمه کمفكّر متجدّد، وقد لخص أهم المحاور التي تناولها في كتاباته في المواضع الآتية:

1) تخلّف المجتمع الإيراني في تلك الآونة وعدم مواكبته لركب التطوّر والحداثة.

2 ) وجوب عدم التزام جانب الصمت إزاء هذا التخلّف، وضرورة حتمية وضع حل مناسب يتم على أساسه اتخاذ قرار مصيري حول مواكبة ركب الحضارة الغربية أو الإعراض عنها.

3 ) إذا نأى المجتمع الإيراني بنفسه عن ركب الحضارة الغربية فمصيره سوف لا يختلف عن مصيرتلك الشعوب المختلفة، ومن المؤكد أنّ التطوّر هو السبيل الوحيد للحفاظ على كيان المجتمع في هذا العالم الصناعي الجديد.

4) الإنسان إنما يفوق الحيوانات في تطوّره ورقيه ، لذلك لا مناص له من السعي في

هذا المضمار .

5) هناك أسباب وعقبات خارجية تسبّبت في تخلّف المجتمع الإيراني، ولكنّ التدخل الخارجي ليس سبباً في ذلك؛ والمقصود من ذلك أنّ الحائل الخارجي يعدّ محلياً في واقعه إثر الاعتماد على الأصول العقلية البحتة والإعراض عن الأصول العلمية التطبيقية، إذ إنّ العقل لا نجاعة منه من دون أن يرتكز إلى العلم، فهو إن تجرد عن العلم التقني سوف يمسي عاجزاً عن تحقيق أي شيء.

6 ) ترويج العلم في إيران مرتكز في أساسه على إشاعة رؤية يتبنّاها جميع أبناء المجتمع وفحواها أنّ التطوّر مستحيل من دون امتلاك علم متطوّر، وهذا العلم المتطوّر بطبيعة الحال نجده لدى المجتمعات الأوروبية.

7 ) أوّل العلوم التي يجب على أبناء الشعب الإيراني اكتسابها من الغرب هي تلك العلوم التي يعتمد عليها في إدارة شؤون الحكم في البلدان الغربية.

بعد أن سلّط الدكتور مجتهدي الضوء على هذه النقاط الأساسية في المنظومة

ص: 516

الفكرية للميرزا ملكم خان، تحدّث عن آرائه حول أهمية القانون وضرورة تأسيس مجلس استشاري، وكذلك دعوته إلى حرية التعبير وإقامة نظام حكم تنفيذي تقوده كوادر متخصصة.

وفي خاتمة المطاف تطرّق إلى نقض آرائه وقال إنّه دعا إلى إيجاد نظام اقتصادي تنافسي حرّ من دون أن يشير إلى النتائج السلبية المحتملة من هذا الطرح كما أنّه لم يذكرالدعائم الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها هذا النظام المقترح الذي دعا بكلّ حزم إلى تعميمه وإشاعته على نطاق واسع؛ لذا فإنّ هدفه الأساسي من وراء ذلك هو فسح المجال للغربيين ببسط نفوذهم في المجتمع الإيراني وأيضاً أراد تحقيق مطامح شخصية، أي إنّه اعتمد على آرائه ومعلوماته الدقيقة لأجل بلوغ مآرب خاصة.

وبما أنّ هذا المفكر المستغرب هو أحد الذين أرسوا دعائم النزعة العلمية الحديثة التي سادت إبّان العهد القاجاري، لذلك دعا بنحو ما إلى السير في ركب قافلة العلم الحديث الذي هو في حقيقته لا يمثل سوى معرفة سطحية، وثمرة هذه النزعة بطبيعة الحال هي تجرّد آثاره من مبادئ فكرية رصينة .(1)

- الميرزا فتح علي آخوند زاده

ضمن دراسته وتحليله لآراء الميرزا فتح علي آخوند زاده وتحليلها ومقارنتها مع المبادئ الفلسفية الغربية، أكد الدكتور كريم مجتهدي على أنّ هذا الرجل كان معروفاً في الأوساط الفكرية خارج إيران بوصفه أحد روّاد النزعة الثقافية الجديدة للفكر الاشتراكي، كذلك له كتابات مسرحية باللغات الروسية والإنجليزية والألمانية؛ أمّا أهمية أفكاره على الساحة الإيرانية فترجع إلى كونه من الرعيل الأول لدعاة الفكر الفلسفي الغربي في بلدنا بحيث عُدَّ أوّل من طرح فكرة ترويج مبادئ الفلسفة الوضعية ورفع راية النزعة العلمية الحديثة.

وقد عدّ الدكتور مجتهدي منظومته الفكرية متقوّمةً على النزعات المادية والإنسانية

ص: 517


1- المصدر السابق، ص 155 - 180.

والعلموية والقومية والتحررية، كما استنتج أنه دعا إلى الفصل بين الدين والسياسة وكان من المتحمسين لفكرة تغيير الخط الفارسي من حروفه الحالية وتبديلها إلى حروف إنجليزية كما فعل الأتراك، والأسوأ من كلّ ذلك أنّه أحد المروّجين للفكر الغربي بلا قيد ومعيار حيث طالب بتقليد الغربيين في كلّ شيء على الصعيدين العملي والنظري بزعم أنّ التعاليم الإسلامية تتناقض مع الأصول العلمية الحديثة، لذا زعم أنّ هذا الدين المبارك غير ناجع في الحياة المعاصرة.

رغم أن آراء هذا المستغرب المبالغ في نزعته الاستغرابية انتشرت على نطاق واسع في الأوساط الفكرية المناهضة للشريعة الإسلامية، لكنّ الدكتور مجتهدي استنتج أن فكره الفلسفي خاو وعار من أدنى مضمون فكري معتبر ولا يرقى إلى مستوى يمكن على أساسه طرح نظريات مجلجلة كما قصد ، ولكن غاية ما في الأمر أنّ المجال أتيح له كي يطرحها من دون أن يخشى مؤاخذة أحد، حيث أطلق العنان للسانه من دون أن يعبأ بما يكتنف كلامه من نقاط ضعف وتضاد، بل تجرأ وبالغ في التشبث بآرائه وكأنها وحي منزل غافلاً عن أنّه يقلّد أسياده الغربيين ويكرّر ما يقولونه كالببغاء التي لا تعي ما تثرثر به من كلام، لذلك لا نجد أي إبداع علمي لديه سوى نقل ما سمعه من أبناء تلك الديار ومن ثَمَّ فهو قطعاً لا يمكن أن يُعد مفكّراً مستقلاً بفكره وليس من اللائق إدراج اسمه في زمرة الدعاة إلى التجدّد، فمن يدعو إلى التجدّد يرتكز على أصول منطقية عقلانية ولا يتجرأ على إهانة أصوله الاجتماعية وقيمه الدينية بحيث يهين أسلافه ويعدّهم همجاً رعاعاً ويغضّ النظر عن جميع العيوب في دعوته الجديدة مهما كانت عواقبها . (1)

نتيجة البحث

النتيجة التي نستخلصها من آراء الدكتور كريم مجتهدي فحواها أن المبادئ الفلسفية الغربية الحديثة لم تتغلغل في عمق المنظومة الفكرية للمفكرين الإيرانيين بعد عصر التجدّد والحداثة، لكن أُسيء فهمها من قبل بعضهم مما أدى إلى حدوث صراع بين

ص: 518


1- المصدر السابق، ص 181 - 200.

السنن الموروثة في المجتمع الإيراني وأصول النزعة التجدّدية، وسلبية هذا الصراع تكمن في عدم ارتكازه على حوار حقيقي وافتقاره لأصول الاستدلال الجدلي الصائب.

التجدّد الغربي من وجهة نظر هذا المفكّر الشرقي منبثق من تعاضد القضايا المستحدثة مع السنن الموروثة، حيث ارتكز عليها ومن ثمّ صقل ليظهر بحلة حديدة؛ لذا فإنّ كلّ نزعة تجدّدية ما لم ترتكز على السنن الموروثة سوف لا يتسنّى طرحها بين الأوساط الفكرية ومن ثمّ لا يبقى مجال لرقيها وشيوعها كمبادئ أساسية على نطاق واسع ؛ وعلى هذا الأساس أكد الدكتور مجتهدي لدى حديثه عن الصراع المحتدم بین السنة والتجدّد في إيران على ضرورة إعادة قراة التقاليد الموروثة وكذلك وجوب التعامل مع أصول التجدّد والحداثة بأسلوب مثالي بغية تحقيق أفضل النتائج على هذا الصعيد وتأسيس منظومة فكرية تجدّدية تتناسب مع المباني الفكرية والأصول الفلسفية التي يتبنّاها المجتمع الإيراني، لذا يمكن عد الفلسفة هنا معياراً أساسياً لكونها تعيننا على تعيين المستوى الفكري المعرفي أو أنها على تقدير تصون الذهن من الوقوع في فخ النزعات السطحية وتحفظه من تقليد الآخرين من دون وعي ودراية.

إذن، أكد الدكتور كريم مجتهدي على أهمية الفلسفة ودورها الفاعل على الصعيد الفكري وعدّها البنية الأساسية للحضارة الغربية المعاصرة، وعلى هذا الأساس لا بدّ من اتخاذها سبيلا ناجعاً للنهوض بواقع مجتمعاتنا ومن ثمّ تطويرها تقنياً وصناعياً، كما يجب الارتكاز عليها في التعامل مع الهجمات الثقافية التي تستهدف فكرنا وتراثنا الأصيل، لأنّ التجربة الغربية أثبتت ضرورة ذلك حيث تمكن أبناء تلك الديار من تحقيق نجاحات باهرة بالاعتماد عليها لدرجة أنّهم اجتاحوا العالم فكرياً وصناعياً وسياسياً ولا شكّ في أنّ معرفة واقع فكرنا الفلسفي بشكل أمثل يتيح لنا فرصة التعرّف على إمكانياتنا الفكرية الحقيقية وكذلك يساعدنا على التنظير بشكل صائب ومقبول في إطار متبنّياتنا الفكرية وتوجهاتنا الثقافية الخاصة بنا . وبطبيعة الحال بإمكاننا هنا دراسة الأصول والمبادئ الفلسفية الغربية للتعرف على النمط المتبع فيها والذي يتمّ على أساسه التعامل مع القضايا المستحدثة وشتى المسائل المتعلقة

ص: 519

بالعلم والدين، ومن ثمّ ينبغي لنا طرح نظريات تتناغم مع ظروفنا وأصولنا الثقافية، لذا علينا اتباع منهج مشابه لأسلوب الفيلسوف الغربي رينيه ديكارت على ضوء فهم جذورنا الفلسفية بصيغتها الصائبة كي يتسنّى لنا التمييز بينها وبين ما يفد إلينا من العالم الغربي للحيلولة دون شيوع مبان فكرية وعلوم تتعارض مع أعرافنا وتقاليدنا الأصيلة؛ وهذا الطريق سلكه بعض روّاد الفكر في تأريخ إيران المعاصر من أمثال الميرزا ملكم خان والميرزا فتح علي آخوند زاده والملا علي الزنوزي رغم أنّهم لم يطبقوا الأصول التي ذكرت.

إذن ،يمكن تلخيص مجمل آراء الدكتور كريم مجتهدي حول الاستغراب الذي شهده المجتمع الإيراني في العصر الحديث بما يأتي:

- الفلسفة هي البنية الأساسية التي ترتكز عليها العلوم الحديثة في العالم الغربي.

- الفلسفة هي المعيار الذي يتمّ على أساسه اختيار الطريق الصائب في التعامل مع التطوّر التقني في العصر الحديث.

- المبادئ الفلسفية الحديثة تختلف عن تلك التي سادت في العهود السالفة، ومن هذا المنطلق يجب على كلّ مجتمع صياغة منظومة فلسفية تتناسب مع الظروف الراهنة التي أمسك الغربيون فيها عصا السبق على صعيد التجدد والحداثة ومن ثمّ صدّروها إلى المجتمعات الأخرى التي بقيت ملتزمةً بتقاليدها وأعرافها الموروثة، حيث طرحت في رحاب هذه المجتمعات تحت مظلة صراع محتدم بين التجدّد والسنن التي ترتكز عليها هوية الشعب وعلومه ودينه.

- أصول العصرنة تغلغلت في المجتمعات الشرقية المتمسكة بسننها الموروثة، لذلك بادر المفكرون المتمسكون بالقيم إلى إزاحة العقبات وحلحلة المشاكل التي فرضتها عليهم الحداثة.

- لم يطرح المفكرون الإيرانيون المحدثون مبادئ وأصول فلسفية جديدة تتناسب

ص: 520

مع المتبنّيات الفكرية في المجتمع الإيراني.

- معظم المفكرين الإيرانيين المعاصرين عدّوا التقنية الحديثة والصناعات المعاصرة ضرورةً ماسّةً لا محيص من امتلاكها.

- بعض الفلاسفة الإيرانيين تجاهلوا المبادئ الفلسفية الغربية على صعيد التطوّر التقني والصناعي، وبعضهم الآخر اهتموا بها بشكل محدود، في حين أن آخرين فهموها بشكل خاطئ ولم يعوا ماهيتها الحقيقية.

- لا محيص لمجتمعاتنا الشرقية من الاعتماد على نفسها وتأسيس منظومة فكرية يتم على أساسها إعادة النظر في السنن الموروثة وطرح قراءة جديدة لها عبر تقييمها في بوتقة التجدّد والحداثة طبقاً لما فعل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت؛ ومن ثم يجب السير على وفق الأطروحات الجديدة التي لا تتعارض مع القيم الأصيلة.

- ضرورة تبني منهج عقلي متناسب مع الأفكار والسنن المحلية السائدة في المجتمع الإيراني ومنظومته الأخلاقية الأصيلة، وفي الحين ذاته يجب أن يكون منسجماً مع العلوم والتقنيات الحديثة.

- وجوب معرفة النهج الذي سلكته المجتمعات الغربية على صعيد المبادئ والأصول الفلسفية بشكل صائب ومن ثمّ استثمارها من خلال تأسيس منظومة فلسفية تتناسب مع الهوية الذاتية للمجتمع الإيراني وتكون مبادؤها محايدةً في التعامل مع جميع جوانب الحضارة الغربية الحديثة من دون أن تنحاز إلى غيرها بدواع عاطفية ونزعات نفسية لا تنمّ عن وعي وإدراك حقيقيين.

- ينبغي التعرف على الأسلوب الذي اتبعه المفكرون الغربيون لبسط نفوذهم في مجتمعاتنا الشرقية.

- لا بد من التعامل مع الفكر الغربي بصفته مكوّناً كلياً متماسكاً في جميع أجزائه لطغيانه على كافة التوجهات الدينية والعلمانية لدى تعامله مع العلوم والتقنيات الحديثة.

ص: 521

- ليس من الحري بمكان التعامل مع الغرب في معزل عن الديانة المسيحية.

- عدم الانبهار بالإنجازات التي تم تحقيقها في رحاب العلوم الحديثة والحذر من المبالغة في تعظيمها.

- ضرورة حثّ الخطى لتحقيق إنجازات محلية في شتّى الأصعدة العلمية والتقنية.

مصادر البحث:

(1) كريم مجتهدي ،چهره هاي ماندگار (باللغة الفارسية)، منشورات روزكار، 1381ه.ش. (2002).م).

2) کریم مجتهدي آشنائی ایرانیان با فلسفههاي جديد غرب (باللغة الفارسية)، منشورات مؤسسة دراسات التأريخ الإيراني المعاصر، 1379 ه- ش. (2000 م).

3) كريم مجتهدي فلسفة وتجدّد (باللغة الفارسية)، منشورات أمير كبير، 1385 ه- ش (2006م ) .

4 ) مجلّة (چهرههای مانگار) العدد 13.

5) كريم مجتهدي سيد جمال الدين أسد آبادي وتفكّر جديد (باللغة الفارسية)، منشورات تاريخ إيران، 1363 ه- ش (1984م).

6) مقالة دوّنت تحت عنوان (كيفية التصدّي للاستغراب) في مجلة (غرب شناسي)،العددان 11 و 12 .

7 ) كلمة للدكتور كريم مجتهدي في مؤتمر تكريمي للملا علي الزنوزي عقد بتأريخ 14 / 7 / 1367 ه- ش (6 / 10 / 1988 م).

8 ) تقرير لندوة عقدت تحت عنوان ( من هذه المعرفة إلى هذه الغربة) مجلة (زمانه) الشهرية، السنة الثانية، العدد 12، 1382 ه- ش. (2003 م).

ص: 522

ماهية الغرب عند السيد حسين نصر

بقلم: عباس حيدري بور

(1)

المقدمة:

لقد حظي التعرف على ماهية الغرب من حيث الإقبال العام بين طبقة الشباب والمحافل الفكرية الجامعية والحوزوية - بانتشار وامتداد واسعين. وربما كان السبب في هذه الظاهرة يعود إلى الإمكان الذي يستشم من خلال القريحة العامة، وهو أن ماهية الغرب توفر إمكانية التعريف بها في قبال الماهيات الأخرى، حيث يستدعي الأمر - تحصيل رؤية عن ماهية هذا الغرب وموقفه التاريخي. وبالالتفات إلى تعدد الآراء سرعان ما وجدت أصناف معرفة أنواع الغرب أو تقديم التقارير الإجمالية بشأن مختلف أنواع المعرفة الغربية، مكانها في الأروقة العلمية. وفي هذا البين يعد الاهتمام بمعرفة الغرب عند السيد حسين نصر - سواء من ناحية النص أو من ناحية الموقع والصنف الخاص - من ضمن الموارد الجديرة بالالتفات. وربما كانت كثرة مؤلفات السيد حسين نصر والسائرين على فكره وترجمة الجزء الأكبر من أعماله - مضافاً إلى جنسيته الإيرانية (بين أتباع النزعة التقليدية بين نظرائه في التفكير) - واحدة من الأسباب الجادة في أن يحظى بهذا الاهتمام. وقد تمّ السعي في هذه المقالة إلى تقديم تقرير دقيق وجامع نسبياً عن الأحكام ونوعية الآراء التي يحملها السيد حسين نصر عن الغرب. وفي هذا البين فضلت هناك مسائل لم يتسع المجال إلى ذكرها خشية الإطالة، ومن بينها : المعرفة الختامية لنصر بشأن الغرب الحديث، والرياضيات والهندسة والحرية واللغة والأخلاق وما بعد الحداثة والمؤسسات الاجتماعية،

ص: 523


1- تعريب حسن علي مطر.

والسياسة، وعنصر الزمان والمكان والتكامل التاريخي وما سوى ذلك من المسائل الأخرى. بل حتى بعض المسائل، من قبيل: «الدنيوية»(1) - التي تم تناولها بشكل متفرق تحت عدد من العناوين، حيث يمكن جمعها تحت عنوان واحد، ومع ذلك أحجمنا عن ذكرها للسبب ذاته أيضاً. كما كان بإمكان أهداف معرفة الغرب عند السيد نصر، وحياته وسيرته الشخصية، وكيفية تأثيره على معرفته الغربية، أن تكون متمماً ومكملاً لهذه الأبحاث أيضاً . وإن بعض المسائل من قبيل: الطبيعة - التي قلّ ما يتم تناولها والاهتمام بها في سائر الأفكار التي تعنى بمعرفة الغرب - كان يجب تناولها بشكل مستقل، لا أن يكتفى بمجرد الإشارات العابرة إليها. ومع ذلك فإن الحجم الكبير لهذا الموضوع الذي تجاوز حدود حجم المقالة الاعتيادية، قد دفعنا إلى الإحجام عن تناول جميع هذه الموارد وبعض الموارد الأخرى، ومن بينها إضافة بعض الإحالات أو اللجوء إلى مزيد من التوضيح بشأن الأسس والمباني الواردة في القسم الأول من هذه المقالة. وقد تعمدنا في كثير من مواطن هذه المقالة إلى الانحياز إلى رؤية السيد نصر، كي نتمكن من تقديم تقرير تفصيلي عن هو هواجسه وآرائه في حقل المعرفة الغربية. وفي الختام تعرّضنا إلى بعض انتقادات المفكرين الآخرين - ضمن تقديم تبويب بآراء الناقدين - مع ذكر بعض الملاحظات عليها. وهناك خلاصة تقديمها إلى القارئ تستعرض الخطوط العامة للمسار الذي قطعه السيد حسين نصر،مع استعراض وتقديم نوع من التقييم النقدي الختامي الذي سيجده القارئ فينصر، نهاية هذه المقالة أيضاً.

أ - المسائل العامة :

1 - ما هو المراد من الغرب؟ -

يفهم الغرب أو الاستغراب عادة في قبال الاستشراق، وهذا بدوره يقوم على ما بلوره الغربيون تحت عنوان الاستشراق بهدف استبدال عالم ما قبل عصر النهضة بنموذج بارز من الأرومة والتاريخ الماضي للبشر. بيد أن ردود فعل العالم الشرقي في قبال التحوّل

ص: 524


1- (secularization) : التأكيد على النزعة الدنيوية. المعرّب.

إلى العناصر العينية المتلاحمة برؤية غربية ذهنية، قد أطلق عليه مصطلح الاستغراب بعد تجاوز مرحلة الإعجاب والانبهار المفرط بمنجزات الحضارة الغربية الحديثة في تيار معاكس من خلال نوع من الرؤية المستقلة. ليس الغرض بيان كيفية وضع واستعمال هاتين المفردتين، واستعمالهما بل هو التذكير بهذه المسألة الجوهرية، وهي أن سعة كلمة الغرب في عبارة «الاستغراب تبدو ناظرة إلى مرحلة ما بعد عصر النهضة. وبطبيعة الحال في التدقيق اللاحق والسؤال عن جذور تبلور هذه المرحلة يمكن لنا أن نتوقع امتداد هذه الأبحاث حتى إلى ما قبل مرحلة عصر النهضة أيضاً، بمعنى إخضاع غرب ما قبل عصر النهضة للبحث أيضاً. ومن الطبيعي في هذه الدراسة أن يلاحظ عصر ما قبل النهضة بوصفه تابعاً لدراسة تبلور العالم الجديد بعد عصر النهضة. بيد أننا إذا نظرنا إلى كلمة الغرب بنظرة شاملة، يجب أن لا تقتصر نظرتنا على مرحلة عصر النهضة من الغرب فقط، بل على سبيل المثال عند دراستنا للعصور الوسطى - وبطبيعة الحال حتى هذا العنوان يُعد مؤشراً على الرؤية التبعية لمجمل التاريخ الغربي بوصفه ذيلاً للتاريخ الحديث - يجب أن تكون هناك رؤية مستقلة، كي نتمكن عند إلقاء النظرة الشمولية عليها مقارنة بأجزائها الثقافية والدينية والحضارية المختلفة أيضاً. خلاصة القول: إن دراسة الاستغراب عند المحقق الفلاني، يمكن أن تقتصر على دراسة تفكيره بشأن الغرب الحديث أو قد يشمل دائرة أوسع من ذلك، وهذا بدوره رهن بفهم الاستغراب في قبال الاستشراق، أو إلى حد ما أن يفهم من مفردة الغرب معنى جغرافياً أوسع، ومن خلال رؤية تاريخية بطبيعة الحال.

ويمكن رصد كلا هذين اللحاظين في مؤلفات السيد حسين نصر وتحقيقاته، فهو من جهة حيث يهفو قلبه إلى المدرسة التقليدية، يتابع العوالم التقليدية بشغف خاص، ويسعى إلى تقديم تقريرات مشبعة إلى القارئ الذي يتابع كتاباته حول النظام التقليدي بمختلف مصاديقه، من عالم الهنود الحمر والأديان الشامانية،(1) إلى الحضارات الكبيرة من قبيل الحضارة الإسلامية. وعلى هذا الأساس يمكن لتقريراته

ص: 525


1- الشامانية (shamanism) دين بدائي من أديان شمالي آسية وأوروبة يتميّز بالاعتقاد بوجود عالم محجوب هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح السلف، وأن هذا العالم لا يستجيب إلا للشامان الذي هو كاهن يستخدم السحر لمعالجة المرضى ، وكشف المخبّاً، والسيطرة على الأحداث المعرب 526

عن العالم المسيحي وحتى العالم ما قبل المسيحي - بشيء من التسامح - أن تكون جزءاً من معرفته الغربية. رغم أننا في بحث آخر نجد بعض تقريراته- حتى بشأن العالم المسيحي - ناظرة إلى الأواصر الملحوظة بين التاريخ الحديث للغرب وماضيه الديني فحيث نجده يتابع جذور التفكير العلماني الحديث في قلب تاريخ العالم المسيحي الماضي ، يمكن ملاحظته من هذه الزاوية أيضاً. بعبارة أخرى: إنه تارة يرى العالم المسيحي ما قبل عصر النهضة منفصلاً عن العالم الجديد، وبوصفه مصداقاً لواحد من العوالم التقليدية والشرقية، وتارة يراه مشتملاً على بعض الآراء والاتجاهات التي كانت مؤثرة في ظهور العالم الجديد. فعلى سبيل المثال عندما يشير إلى إلغاء العالم الوسطي للملائكة في النظام السينائي(1) ، ومن قبل بعض المفكرين في العالم المسيحي، يرى الجانب المخرّب لهذا الأمر كامناً في سهولة الاقتراب من العالم العلماني، وحيث يشير إلى معتقدات بعض النحل المسيحية في أوروبا الشمالية أو بعض أفكار (سانت أوغسطين ) بشأن الطبيعة وأهميتها المعنوية، يبحث عن الغربي المتدين بالمعنى الدقيق والشامل للكلمة.

سوف نقوم في هذه المقالة - بشكل عام - بالبحث حول الاستغراب بمفهومه المقابل للاستشراق، ذلك لأن الانصراف الذهني الحاصل من هذا التعبير يتجه إلى هذا المعنى. ومن هنا فقد أعرضنا متعمدين عن تقرير فهم نصر للغرب بوصفه واحداً من التقاليد الشرقية وإن في المرحلة المسيحية مخافة أن يحدث تقريره نوعاً من الإعوجاج في الفهم إلا عندما تمس الحاجة إلى ذكره بشكل تبعي وتكميلي.

2 - تقرير عن الكتب

يبدو أن جميع كتابات السيد حسين نصر يمكن أن تعكس نمط نظرته إلى الغرب، سواء تحدث فيها عن الغرب أو تحدّث عن التقاليد الشرقية؛ إذ إن خصائص العالم الغربي الجديد - من وجهة نظره - بحيث تقف بكل ثقلها في النقطة المقابلة لجميع التقاليد المعنوية والشرقية ومن هنا فإن الحديث عن الشرق إذا تم إصلاحه ضمن

ص: 526


1- نسبة إلى ابن سينا المعرب.

إطار القضايا المخالفة، سوف يتحول إلى الاستغراب الإيجابي لا محالة. إن هذا الرأي يتم تأييده بكتابات السيد نصر ذاته، وذلك عندما يتحدث بشكل مباشر حول ،الاستغراب، إذ إنه من أجل إيضاح الوضع الغربي الجديد، يبين رأيه بشأن الغرب الحديث من خلال سوقه للأمثلة المتعدّدة. ولكن حيث إن هذا المسار العكسي في الكتابات والمؤلفات - التي كتبت لغرض التعريف بالغرب، أو التي تركز على ذلك إلى حد كبير - قد استعمل من قبله مباشرة ، يكون بحسب القاعدة متناغماً مع منظومته الفكرية، وعليه يمكنه أن يقدم صورة أكمل عن الاستغراب عند السيد حسين نصر. الأمر الأخير: يجب أن يتضح أي كتب السيد نصر قد تناول موضوع الاستغراب على نحو أكثر مباشرة؟ ثم ما هي الحقول التي اهتم بها كل واحد من مؤلفاته وأعماله؟ إن کتابتنا لهذه المقالة تقوم بشكل رئيس على أساس الكتب الأتية التي تبدو من وجهة نظر الكاتب أكثر تركيزاً على الاستغراب، أو أن بإمكانها أن تقدم - بوجه خاص - صورة أوضح عن مفهوم الاستغراب عند السيد حسين نصر .

1 / 2 - المعرفة والمعنوية

رغم أن هذا الكتاب هو واحد من الكتب المحورية للسيد حسين نصر في حقل معرفة الشرق، اذ يشتمل على رؤية ذات نزعة تقليدية ولكن يمكن الحصول منه بوضوح - ولا سيما من خلال الفصل الأول : (المعرفة وإزاحة القداسة عنها )، والفصل الخامس:( الإنسان خليفة الله والإنسان العاصي) والفصل السابع: (السرمدية والنظم الزمني)، والفصل الثامن: (الفن التقليدي: مصدر المعرفة والمعنوية)، وإلى حد ما سائر الفصول الأخرى - على خطوط عريضة حول رؤية السيد حسين نصر إلى العالم الغربي، ولا سيما في حقل المعرفة ، والمسار الفكري لفلسفة الغرب، ومفهوم الإنسان، ومعرفة الزمان، وكذلك ماهية الفن الحديث أيضاً.

2 / 2 - الدين ونظام الطبيعة

خلافاً لما يوحيه عنوان هذا الكتاب - إذ قد يُفهم منه التركيز على موضوع النسبة القائمة بين الدين والطبيعة، أو التركيز على مفهوم الطبيعة - علينا الإذعان والاعتراف

ص: 527

بأن هذا الكتاب يمثل واحداً من الكتب المحورية لسماحة السيد حسين نصر في حقل الاستغراب. حيث يشتمل الفصل الثالث: (الفلسفة وأخطاؤها)، والفصل الرابع: (العلوم التقليدية، والثورة العلمية وتداعياتها)، والفصل الخامس:( المعطيات المأساوية للنزعة الإنسانية في الغرب)، والفصل السادس: (إعادة تعريف الطبيعة: الدين وأزمة البيئة)، على كثير من القضايا المتعلقة بشأن الاستغراب. إلا أن موقع الفصل الثالث والرابع من حيث التركيز الكبير وكثرة التقريرات يستحق الاهتمام الجاد بطبيعة الحال.

3 / 2 - الشباب المسلم والعالم المتجدّد

إن هذا الكتاب رغم كونه خطاباً للشباب المسلم الذي يود التعرّف على العالم الغربي، وعدم اشتماله - بطبيعة الحال - على العمق الذي نجده في مؤلفاته الأخرى، إلا أنه يحظى بمكانة هامة من حيث تعدد أنحاء الموضوعات والهواجس التي يحملها السيد حسين نصر تجاه الاستغراب وإن بعض المسائل التي لم يتعرّض لها السيد حسين نصر في مؤلفاته الأخرى إلا لماماً، قد تم تقريرها في هذا الكتاب ولو على نحو الاختصار والقسم الثاني من هذا الكتاب تناول تعريف ماهية العالم المتجدد من خلال سبعة فصول، وهي: (الدين)، و(الفلسفة والمدارس الفكرية)، و(العلم والتكنولوجيا)، و(الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية)، و(التعليم الجديد)، و(الفن)، وفي نهاية المطاف (منهج الحياة الغربية). وإذا استثينا فصل (التعليم الجديد)، فإن سائر الفصول الأخرى في هذا الكتاب كان لها دخل في تأليفه، وبذلك تكون موضعاً للإحالة.

4 / 2 - سائر الكتب الأخرى

لقد كان كتاب (الحاجة إلى العلم المقدس) ولا سيما الأقسام: الأول والثالث والرابع منه، وكتاب (الإنسان والطبيعة) بجميع فصوله تقريباً، وكتاب (الإسلام وقيود الإنسان المتجدد) ولا سيما الفصل الأول منه - الذي يحتوي على دور محوري في توصيف الوضع الوجودي للإنسان والحضارة الجديدة - والفصل العاشر

ص: 528

والحادي عشر منه، وكذلك بعض الكتب الأخرى للسيد حسين نصر، من قبيل: (قلب الإسلام)، من ناحية آرائه المتأخرة والناقدة للتوجهات السياسية والأيديولوجية للغرب، وكذلك بعض مقالاته - المتخذة بشكل رئيس من كتاب(المعرفة الخالدة )وهو (بأجزائه الثلاثة) من إعداد الدكتور السيد حسن الحسيني - على نحو جزئي، قد حظيت بالاهتمام في كتابة هذا المقال. ومن البديهي أن تقديم اسم كتاب( الشباب المسلم والعالم المتجدد) على هذه الكتب المذكورة في الفقرة الأخيرة، لا يعني العمق الأكبر في التوصيفات المدرجة في ذلك الكتاب، إنما يعود السبب في ذلك إلى اتساع المساحات المطروحة في ذلك الكتاب وإلا فإن بعض مواضع الكتب المدرجة في هذه الفقرة لها محورية أكبر في تشكيل الهيكل العام لتقرير الرؤية التي يحملها السيد حسين نصر تجاه الاستغراب.

3 - أنواع الاستغراب

يمكن في عملية تقسيم، أن نقسم الاستغراب - لا سيما بالنظر إلى مؤلفات المفكرين الإيرانيين في هذا الشأن - إلى أربعة أقسام، وذلك بأن يتم تقسيم الاستغراب أولاً إلى قسمين رئيسين وهما: الاستغراب العام والاستغراب الخاص. ومن ثم يتم تقسيم كل واحد من هذين إلى قسمين آخرين :وهما الاستغراب المجمل، والاستغراب المفصل. والمراد من الاستغراب العام هو ذلك النوع من الاستغراب الذي ينظر إلى الغرب - في معرض دراسته - بنظرة شاملة، ويسعى من خلال هذه النظرة إلى إعادة تنظيم أجزاء مجموعة الغرب إلى قواعدها أو أسسها العامة في إطار التوصيف العلمي. وفي قباله الاستغراب الخاص الذي ينظر في بعض أجزاء الغرب أو في واحد من أجزائه من قبيل العلم التجريبي، ويسعى إلى توصيف مجمل التاريخ الغربي إلى هذه الأجزاء أو العناصر المعدودة. وعلى هذا الأساس إذا تم تقديم تقرير عن الغرب يقوم على تطوّر العلم التجريبي في الغرب، عُدّ ذلك من الاستغراب الخاص، في حين لو تم تقديم ذات هذا التقرير في إطار التحوّلات الغربية الأخرى، أمكن اعتبار ذلك من الاستغراب العام. ولا بد من الالتفات - بطبيعة

ص: 529

الحال - إلى أن التقرير عن أجزاء الغرب قد لا يكون ناظراً في بعض الأحيان إلى التعريف بالغرب، ولذلك فإن التوصيفات المعروضة في هذا الاتجاه لا تندرج في ضمن بحث الاستغراب أساساً، كي يصار إلى تصنيفها في ضمن القسم العام أو الخاص من الاستغراب، وعليه فإن المهم أن يكون الغرض من تعداد بعض أجزاء الاستغراب أو قصر الاستغراب على تلك الأجزاء، كي يمكن لنا توصيف الاستغراب مورد البحث بكونه من الاستغراب الخاص مثلاً. إن إطلاق عنوان العام والخاص - بطبيعة الحال - يأتي بمعزل عن دعوى النزعة الكلية أو التعميمية التي يمكن بحثها في محلها، وهي الدعوى التي يبحث فيها عن أسئلة من قبيل: وحدة الغرب واعتباريته أو كونه حقيقياً.(1) وبطبيعة الحال يمكن القول بوجه يكون فيه إطلاق عنوان الرؤية العامة مقابلاً للاتجاه الذي يكون فيه الغرب مجموعة من الأشياء، بل ويمكن لنا من خلال إطلاق هذا العنوان أن نتوقع السؤال عن إمكان أخذ أجزاء الغرب أو عدمه، بيد أنه على كل حال - وأياً كان الرأي - يجب اعتبار إطلاق الرؤية العامة في الرواية عن الغرب غير هذه المسائل، والقول في الحد الأقصى فيما يتعلق بالرؤية العامة وإن كان هناك نوع من الوحدة التوصيفية ، ولكن هناك سعي إلى اجتناب بلورة المباحث على صيغة العنصر الواحد والأشد صراحة من ذلك أن شمولية الغرب أو عموميته يُعد سؤالاً من الدرجة الأولى، إلا أن الرؤية العامة أو الرؤية الخاصة تعتبر وصفاً من الدرجة الثانية عن كيفية الاستغراب وبطبيعة الحال لا بد من الاعتراف بأن مراتب توصيف الذهن والأعيان الخارجية غير منفصلة عن بعضها . والمسألة الهامة الأخرى هي أنه في معرض تحليل الغرب مثلاً على أساس وتيرة مسار العلم التجريبي، قد يدعي مستعرض هذا التحليل رؤية عامة، بمعنى أن يدعي توصيف جميع أجزاء الغرب الحديث ضمن هذا الإطار العام ويعمل على الإحالة إليه بنحو من الأنحاء،

ولذلك فإنه يقوم بالشيء ذاته الذي يقوم به الشخص الذي يدعي انبثاق الغرب من صلب الفلسفة الحديثة، ويعمل على إعادة صياغة جميع المساحات والأنظمة الغربية الحضارية من خلال العودة إلى مبادئ ما بعد الطبيعة، ويستنتج من ذلك أن التحليل

ص: 530


1- انظر رضا داوري اردكاني فرهنك، خرد و آزادي ص ،91، نشر ساقي طهران 1378 ه-.ش.

الأول عام، كما هو الحال بالنسبة إلى عمومية هذا التحليل الأخير. وفي مقام الإجابة يمكن عد قيد ذكر القرائن التاريخية والاستدلالية الكافية شرطاً في تحقق جميع أنواع التعميم أو الرؤية العامة، سواء أكان محور هذه الرؤية العامة يكمن في العلم الجديد للغرب أو فلسفة الغرب أو شيء آخر. ثم إنه يجب التفكيك والفصل بين الأمور المبنائية والأمور البنائية الأعم من ماهية ذلك الشيء الذي يؤخذ بوصفه مبنى أو بناءا. خلاصة القول : إن شرط تحقق الرؤية العامة يكمن في تجنب إرجاع الغرب إلى الأمور المشتتة، وكذلك تجنّب الإرجاع إلى عامل بسيط من دون إيضاح نسبته إلى سائر المساحات الحيوية لدى الغرب. إن التوصيف الذي يعجز عن العثور على نسبة بين العلم والفلسفة والفن والهندسة والتكنولوجيا والحياة الاجتماعية وسائر أبعاد الغرب الأخرى، هو ذو رؤية خاصة وجزئية قطعاً، سواء تحدّث عن عامل واحد أو عن تلاحم عدد من العوامل فيما بينها. وبعبارة أخرى إن لازم الرؤية العامة تقديم تحليل متصل ومتماسك. وإن خروج بعض المساحات الحيوية من ثقافة وحضارة الغرب الحديث عن أي تحليل، يُعد نوعاً من الرؤية الخاصة والجزئية، حتى في ذلك التحليل الجاري تبعاً لمبادئ ما بعد الطبيعة لدى الغرب الحديث. أما فيما يتعلق بالتقسيم اللاحق للاستغراب إلى مجمل ومفصل ، فيقوم الفرد أو النحلة أحياناً بإلقاء فكرة في مقام توصيف الغرب، سواء من خلال الاتجاه العام أو من خلال الاتجاه الخاص، أو الأوصاف القليلة أو المجملة، أو حتى ذات المحملين أحياناً، وتارة يلقى على المخاطب كثيراً من الجزئيات والتفصيلات أيضاً. ويبدو أن بالإمكان تطبيق حاصل ضرب هذه التقسيمات الأربعة على المصاديق الخارجية وأنواع توصيفات الاستغراب، فعلى سبيل المثال نجد الرؤية الإجمالية العامة - التي تضع الغرب بحكم واحد وفي إطار القضية الواحدة البسيطة في موقعه الخاص - في الغالب هي الأمر الشائع، إذ إنها من أسهل أنواع الاستغراب ومن أعقدها تحصيلاً في الوقت نفسه. وفي المقابل يمكن عد الاتجاه العام التفصيلي من أعقد أنواع الاستغراب وأكثرها نفعاً في الوقت نفسه؛ إذ يسعى إلى تقرير المساحات المختلفة من حياة الغرب برؤية منظمة، ولا يتجاهل في الوقت نفسه تقرير الجزئيات والكسر والانكسار الحاصل في

ص: 531

الوقائع والتحولات الأعم من الفكرية والتاريخية والحضارية. وتكمن صعوبة هذه العملية في ضرورة عدم الاستغراق في جزئيات المعطيات والمعلومات التاريخية والتحليلية، وفي الوقت نفسه لا ينبغي - تحت ذريعة الرؤية العامة - إصدار أحكام لا تنسجم مع صلب المتغيرات الواقعية والتاريخية والمثال المحسوس في هذا الشأن الذي هو أكثر تقدما إلى حد ما بالقياس إلى المثال العامي السابق - يكمن في إحالة، الغرب إلى الرؤية الديكارتية في توصيفها. وعلى الرغم من عدم خطأ هذه الإحالة حيث يتم تقرير هذه المسألة بوضوح في جميع التواريخ التحليلية والحضارية، إلا أن الوقوف عند هذا الحد يعني عدم ذكرجميع الجزئيات التي أدت إلى دعم الفكر الديكارتي، بل حتى المناحي المعارضة للتحولات الحاصلة في خلفيات نشاط ديكارت أيضاً. إن مثل هذا الاستغراب يُعد - بالقياس إلى النوع الذي يسعى إلى التحقيق بشأن مرحلة ما قبل ديكارت، كما يسعى في الوقت نفسه إلى إيضاح كيف سار كل من ديكارت ونيوتن في امتداد خط فكري واحد، مع الالتفات إلى أن رؤية نيوتن إلى الفيزياء تخرج الرؤية الفيزيائية لديكارت من الساحة بشكل كامل - مختلفاً بشكل كامل، بل سيكون من قبيل الأمر التمهيدي، وإن قيمة التفصيل المندرج في التفصيل الأخير يبدو أكثر تجلياً وظهوراً ولا بد من القول صراحة: إن التقريرات الاستغرابية للسيد حسين نصر لا تمثل نوعاً من الرؤية العامة التفصيلية فحسب، بل هي من بعض الجهات تقدم للقارئ الإيراني أكثر التقريرات تفصيلاً في هذا الشأن أيضاً وإن الأمثلة التي تثبت هذا الأمر كثيرة جداً، بيد أننا سنكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة في هذا الشأن، وذلك على النحو الآتي:

1 / 3 - أمثلة من الاستغراب التفصيلي عند السيد حسين نصر

لا يقتصر السيد حسين نصر في بيان النزعة الإنسانية في الغرب الحديث وتوضيحها؛ على معنىً واحد من النزعة الإنسانية فقط، وإنما يتعرض بالتفصيل إلى القول بأن النزعة الإنسانية الغربية تطلق اليوم على كثير من المعاني المختلفة. وفي هذا الشأن يشير سماحته إلى خمسة معان في الحدّ الأدنى، ثم ينتقل إلى ذكر المعنى

ص: 532

الذي يرمي إليه والذي ينظم محور أبحاثه على أساسه (1). ويحظى هذا التذكير من قبله بالأهمية من حيث أنه يشكل مرجعية لأولئك الذين يرومون رصد جميع زوايا الدراسة والبحث في هذا المجال بمزيد من الدقة.

وفي البحث عن تأثير غاليلو أثناء تقرير أداء المفكرين الغربيين عمد السيد حسين نصر - ضمن تعداده للجوانب الكثيرة من أعماله وحجم تأثير كل واحد في مسألة نجاحه الأكثر مقارنة ب- (ديكارت) في التأسيس للفيزياء والرياضيات - إلى بيان الاحتمال الأول الذي يخطر على الذهن البسيط (وهو تأكيد غاليلو على الرياضيات من حيث كونها تمثل لغة العلم التجريبي الجديد في الغرب) ويرده، ثم ينتقل في مقام بيان العلة الإيجابية إلى ذكر أسماء من الشخصيات العلمية، حيث يشير إلى اسم( جان بوریدان) (2)و (ابن باجة)(3) من جهة، واسم (أرخميدس)، و(كوبرنيق) من جهة أخرى، وقد عمل في الموردين الأولين على إيضاح التقليد الفكري وحجم تأثيرهما، وفيما يتعلق بالموردين اللاحقين تحدّث بالتفصيل عن التأثير الذي تركاه على غاليلو في هذه المسألة الخاصة . (4)في حين يبدو أنه كان بالإمكان القيام بهذا الأمر من دون الحاجة إلى إقحام الاسمين الأولين، وحتى أرخميدس أيضاً، ولكنه يأبى إلا أن يقدم للقارئ مادة زاخرة ومفعمة في هذا الشأن. هذا مع أن أصل هذه المسألة لا يتم طرحها حتى في معرض معرفة الغرب من قبل أكثر المنظرين، فضلاً عن أن يضيفوا إليها - في مقام الإجابة - كل هذه التفريعات والتشقيقات والاحتمالات.

والذي نريد قوله هنا هو أن هذا النوع من الإغراق في التفاصيل يؤكد أن السيد

ص: 533


1- انظر: السيد حسين نصر، دین و نظام طبیعت ص 322 - 323 ، ترجمه إلى الفارسية محمد حسن فغفوري، نشر حكمت، الطبعة الثانية، 1386 ه- ش .
2- جان بوریدان (حوالي 1300 - إلى ما بعد 1358م : كاهن فرنسي نثر بذور الثورة الكوبرنيقية في أوروبا، وقد طوّر مفهوم قوة الدفع الذي شكل الخطوة الأولى نحو مفهوم القصور الذاتي المعاصر، والذي كان تطوراً هاماً في تاريخ علوم العصور الوسطى. وقد شُهر اسمه بسبب تجربة فكرية تعرف باسم (حمار بوريدان). ومن أقواله: (لا حاجة إلى تفسير حركات الأجرام السماوية، أكثر من أنها بدأت تتحرك أصلاً بإذن الله وبقانون قوة الدفع)، أي: إن كل جسم يتحرك يستمر في الحركة ما لم تمنعه قوة موجودة. وبذلك كان له فضل السبق على غاليلو وديكارت ونيوتن المعرب
3- أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ السرقسطي المعروف ب- ابن باجة التجيبي، من أبرز الفلاسفة المسلمين. اهتم بالطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى كان أحد وزراء وقضاة الدولة المرابطية المعرب
4- انظر: السيد حسین نصر، دین و نظام طبيعت، ص 268 - 269

حسین نصر لم يكن ليكتفي في نشاطه الفكري بذكر الخطوط العريضة والأمور الكلية فقط، بل كان في بعض الأحيان يعمد في إطار بيان بلورة الفكر والفهم في العالم الغربي المعاصر إلى ذكر عشرات الأسماء والمدارس وتقديمها إلى القارئ مع ذكر حجم تأثير كل واحد منها ومستواه ولو على مستوى الإشارة. إن هذا الاتجاه من شأنه أن يسهل على القارئ طريقة البحث والتحقيق في هذا المجال؛ إذ إن فهرسة الكم الهائل من أسماء الشخصيات والمدارس والمذاهب الفكرية يمكن أن يشكل مقدمة لعمل مستقل بالنسبة إلى الباحثين في هذا الموضوع. واضح أن هذه المزية لا تعني بالضرورة القول بتطابق رواية السيد حسين نصر عن المفكرين والتيارات، بل يمكن حتى لمن يخالف السيد نصر في الاتجاه أن يستفيد من أعماله في موضوع الاغتراب والانتفاع بقراءة المصادر المعرفية وحتى معرفة المسائل ذات العلاقة بمعرفة الغرب أيضاً.

4 - المصادر الفكرية

في كل عمل يتعلق بمعرفة الغرب، وبالنسبة إلى كل مفكر، يمكن البحث عن مصادره و منابعه الفكريه. وفيما يتعلق بالمصادر الفكرية للسيد نصر - أي المصادر والمنابع التي عملت على تنظيم اتجاهاته وحتى نصوص ومضامين تقاريره بشأن الغرب - يمكن لنا أن نذكر ثلاثة مجموعات مترابطة وهي: التقليدية، والتصوف، والإسلام والمراد من الترابط هنا - بطبيعة الحال - ليس هو الترابط الذاتي، وإنما المراد هو الترابط في الخلفيات الذهنية والفكرية للمفكر مورد البحث.

1 / 4 - النزعة التقليدية

يتفق الموافقون والمخالفون للسيد نصر معه في أن النزعة التقليدية والمنظومة الفكرية لأصحاب النزعة التقليدية كان لهم دخل في بلورة السيد حسين نصر وتوجيهه من الناحية المعرفية. وقد بلغ التأكيد على هذه الحقيقة حداً تحول معه الاتهام بالنزعة التقليدية إلى عصا لطرد هذه المنظومة الفكرية، وتحت طائلة هذا الاتهام تم نبذ كل المنظومة الفكرية لبعض المنتسبين إلى هذه المدرسة. ومن هنا فإننا في هذه المقالة الراهنة عن معرفة الغرب عن السيد نصر - بدلا من تناول هذا المدخل الذي اتسم

ص: 534

حالياً بتأثير حاجب - سوف نخوض في مسار آخر. إن مثل هذا المدخل- كما أشرنا - يختلف عن نشاط السيد نصر الذي ترتبط أكثر مباحثه بتوضيح النزعة التقليدية. ولكن من حيث حجم تأثيرها، يمكن ذكر الموارد الآتية:

إن الأحكام الأخلاقية في تفضيل جميع مواطن النزعة التقليدية وعناصرها بالمقارنة إلى العالم الحديث ناشئة عن اعتقاده الراسخ بالنزعة التقليدية ومن الضروري هنا التأكيد على أن السيد حسين نصر لا يرى أن كل ما تحقق في الماضي يدخل في النزعة التقليدية، في حين يذهب بعض الناقدين - من أمثال: السيد عبد الله نصري، والسيد محمد لغنهاوزن - إلى عد السيد حسين نصر مبرراً للنزعة التقليدية، أو أنهم - في الحد الأدنى - قد بينوا أن اللازم غير المقبول بتفضيل النزعة التقليدية، يكمن في تفضيل جميع معطيات الأزمنة السابقة والعوالم التقليدية على سواها.

إن بيان الأمثلة المتعدّدة في تقابل تعاليم مختلف التقاليد مع تعاليم الحضارة الغربية وأجزائها وعناصرها ينبثق عن الاعتقاد الراسخ لنصر بالتقابل بين مختلف التقاليد من جهة ، وبين الغرب الحديث من جهة أخرى.

إن الاستلهام من التقاليد الخاصة في بيان شدة البينونة والافتراق بين التجدد والأفهام التقليدية يمثل جانباً آخر من حضور النزعة التقليدية في أمر معرفة الغرب عند السيد حسین نصر. فعلى سبيل المثال يرى السيد نصر في عدم تدمير جبال روكي التي ظلت شامخة أمام طريق هجرة الهنود الحمر في أمريكا عبر القرون- وظلت هذه الجبال محافظة على شكلها حتى كأن أقدام البشر لم تصل إليها - مصداقاً بارزاً لاختلاف تعاطي الإنسان المعاصر والإنسان التقليدي مع الطبيعة. وبطبيعة الحال فإنه يلتفت إلى اتجاه الإسلام وسائر التقاليد في هذا الموضوع أيضاً، إلا أنه يتعرّض إلى المسائل الجادة من قبيل المورد المتقدم من خلال الاستلهام من تقليد بعينه. ومن الطبيعي أن يكون ذكر الأمثلة الخاصة عن التقاليد المختلفة، والاستفادة التمثيلية عن تقليد خاص ممكناً من خلال المنظومة الفكرية لأصحاب النزعة التقليدية الذين يعدّون جوهر التقاليد شيئاً واحداً، ويؤكدون على

ص: 535

بلورة التقاليد حول التعاليم الأساسية والجوهرية.

2 / 4 - التصوّف والعرفان

لقد كان لتأكيد النزعة التقليدية على الناحية الباطنية للتقاليد من وجهة نظر السيد حسین نصر انعكاس على نحو خاص في دائرة الإسلام فحيث كان يرى أن العرفان والتصوف يشتملان على الناحية الباطنية من الإسلام، فقد أولى هذه الناحية اهتماماً خاصاً. وسوف نتعرّض إلى الانعكاس الواضح لهذا الاتجاه في مباني معرفة الغرب عن السيد نصر لاحقاً. وفيما يتعلق بالمباحث الناظرة إلى مستقبل الغرب الحديث وطرق خروج الغرب من وضعه الراهن يرى سماحة السيد نصر في التصوّف قابلية استثنائية يمكن الاستعانة بها والتماس العون منها.

3 / 4 - الإسلام

بصرف النظر عن الهوية الإسلامية التي يحملها السيد حسين نصر، وأنه يعدّ الإسلام بوصفه تقليداً يحظى في الوقت الراهن بالإمكانية الأكبر فيما يتعلق بالوصول إليه، ولذلك فإنه يعدّ الإسلام من هذه الناحية ممثلاً لنزعة تقليدية ممتازة، وحتى بصرف النظر عن أن كثيراً من أصحاب النزعة التقليدية يُبدون ميلاً جاداً تجاه الإسلام ابتداءً من (رينيه غينون)(1) ، الذي يموت مسلما يحمل اسم (عبد الواحد يحيى)، الذي يعد من وجهة نظر أصحاب النزعة التقليدية مؤسساً لنداء النزعة التقليدية في العالم الحديث، إلى سائر أتباع النزعة التقليدية الذين أنفقوا شطراً كبيراً من أعمارهم في البحث والتحقيق في حقل المعارف والفنون الإسلامية - يحظى البحث عن الإسلام في معرفة السيد حسين نصر للغرب بأهمية من زوايا عدّة:

إن كثيراً من تحولات الغرب الحديث القائمة على التقليد المسيحي تمتد بجذورها

ص: 536


1- رينيه غينون أو عبد الواحد يحيى (1886 - 1951 م): كاتب ومفكر فرنسي توفي في القاهرة مسلما، لا يزال شخصا ذا نفوذ في مجال الميتافيزيقا والعلوم المقدسة والدراسات التقليدية والرمزية والاستهلالية. وقد اقترح من خلال كتاباته اكتشاف بعض النواحي الميتافيزيقية في العقائد الشرقية مباشرة، أو تعديل هذه العقائد للقراء الغربيين مع المحافظة على جوهرها بشكل كامل ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة، كما كتب بالعربية في مجلة المعرفة. المعرب.

في الرواية والتقرير الخاص عن التقليد والسنة الفكرية الإسلامية، ومن هذه الناحية تقع معرفة تموضع التقليد والسنة الغربية من التقرير الإسلامي في معرفة جذور التحولات في الغرب من وجهة نظر السيد حسين نصر في مرتبة جوهرية للغاية. وقد تمّ تقرير نموذج هذا الأمر في بحث تطوّر نسبة موضع الغرب من ابن سينا، من قبل السيد حسين نصر مراراً وتكراراً.

يتوقف مستقبل الحضارة الغربية، وكبح جماح مسارها نحو الأفول والزوال من وجهة نظر السيد حسين ،نصر على الارتباط بالسنة والنزعة التقليدية ،ومن هذه الناحية تحظى السنن والتقاليد الحية التي هي في المتناول - ولا سيما الإسلام - بأهمية كبيرة وحيوية للغاية. يضاف إلى ذلك أن الموقع الجغرافي للبلدان الإسلامية-حيث تتوسط بين الغرب الحديث وسائر السنن والتقاليد الشرقية الأخرى - يجعل الإسلام - من وجهة نظر السيد حسين نصر - بمنزلة الجسر الذي يمكن للغرب أن يصل من خلاله إلى سائر التعاليم الأخرى، بل يجعل منه ذلك ترجماناً ومفسراً لتلك السنن والتقاليد. وربما من خلال طيّ هذا المسار، يمكن العثور على مستقبل جديد للغرب الآيل إلى السقوط والانهيار من وجهة نظر السيد نصر.

5 - السرّ في ظهور الغرب الحديث

إن من بين الأسئلة الرئيسة في بحث رؤية المفكرين إلى ماهية الغرب، هو السؤال القائل: ما هو مفتاح السر الذي مثل - من وجهة نظر السيد حسين نصر - بداية لتحولات عصر النهضة والمرحلة الجديدة من مراحل الغرب؟ هل يراه أمراً فكرياً وإرادياً وتاريخياً أم يراه مرتبطاً بالعوالم الفوقية؟ في هذا العنوان نسعى بنحو من الأنحاء إلى بحث رؤية السيد حسين نصر من هذه الزاوية.

يقول سماحته في هذا الشأن: «لقد حيك رداء عصر النهضة المؤلف من رقع مختلفة الألوان من أنسجة متناقضة، وقد خرج من هذا الرداء طرح ومشروع يتسم بالنزعة الإنسانية ، وقد أضحى هذا المشروع لاحقاً صفة للعالم الجديد.. في أتون

ص: 537

هذه النزعة الإنسانية، تكمن الرؤية الغاضبة (المتمرّدة) إلى الإنسان الذي أصبح في مركز الخلق وبؤرته بوصفه كائناً مستقلاً»(1). وعلى الرغم من ذهاب السيد حسين نصر إلى عد ظهور عصر النهضة ناشئاً من الكسر والانكسار في العناصر المتعددة، إلا أنه يرى أن أهم خصوصية في المرحلة الجديدة هي الخصوصية التي تتمثل في الفهم الجديد للإنسان الذي سبق له أن اكتسب مفهومه ومعناه من خلال نسبته إلى مركز ما، وأضحى الآن هو المركز من دون أن يكتسب صبغة مرآتية بالقياس إلى أي مركز أو وجهة أخرى (2). وهناك - بطبيعة الحال - هذا السؤال الهام جداً والقائل : ما هو السبب الذي دعا إلى تأسيس هذا الفهم وهذه الرؤية وتثبيتها؟ ومن الممكن - بطبيعة الحال - أن يتمّ تتبع الجواب من طريق بيان التطوّرات الفكرية والانتقالات النظرية والعقلية، وهو أمر نلاحظه في كتابات السيد حسين نصر بشكل واضح. بيد أن هذا المقدار من التوضيح لا يلجم لسان السائل دائماً، وقد يدفعه مجدداً إلى السؤال عن علل هذه التطوّرات وأسبابها، وفي هذه الحالة لا تعود إحالة المسألة إلى التحولات الفكرية مقنعة بالنسبة له. وفي مقام الإجابة عن هذه الهواجس هناك من تحدّث في المراحل التاريخية، أو بعبارة أخرى في المراحل العرفانية - التاريخية، عن علم الأسماء التاريخية، وأن كل مرحلة من مراحل التاريخ تمثل مظهراً لأحد أسماء الجلال والجمال الإلهي، وبطبيعة الحال هناك ما يشبه هذا النوع من التحليل في العالم الغربي بكثرة، مع فارق جوهري يكمن في عدم الإحالة - في العادة - إلى أمر ميتافيزيقي، بل ربما لاحظ ارتفاع قدرة الذهن ومراكمة التجارب والأفهام البشرية بوصفها سبباً في هذه الظاهرة، كما نجد ذلك عند (أوجست كونت) مثلاً. وعلى كل حال فإننا نشاهد في أعمال السيد حسين نصر، ما يشبه هذا النوع من التحليلات الذاتية التي تمثل طبقة أعلى من البحث عن العلة القائمة على التحولات الفكرية، ولكن لا على نحو متراكم وربما كان تمثيله بالطوق والمحور لبيان نسبة وجود معرفة الإنسان إلى مركز الوجود، داخلاً في هذا الباب أيضاً. وذلك حيث يقول:« إن التاريخ الباطني لما يصطلح عليه تطور الإنسان الغربي المتجدد.. معبراً عن

ص: 538


1- السید حسین نصر، دین و نظام ،طبیعت ص ،342 ، ترجمه إلى الفارسية : محمد حسن فغفوري.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 345.

الاغتراب والانفصال التدريجي عن مركزه ومحوره من طريق زعانف محاور الوجود إلى طوقه ».(1) في هذه العبارة - التي تمثل بنحو من الأنحاء تحليلا وجودياً متواصلاً - تم بيان علة وسبب تحولات هذا الابتعاد الوجودي للإنسان الغربي عن مركز وجوده، واستقراره في حاشية ذلك المقام. ومن الطبيعي جداً أن نجد وضوحاً كاملاً في أعمال السيد حسين نصر لكلمات دالة على وجود نوع من الاختيار في هذا التغيير للموضع الوجودي. فعلى سبيل المثال نجد السيد حسين نصر يقول في بعض كلماته: «إن الإنسان المتجدد منذ أن نسي ذاته عمل في الواقع على إحراق يده بالنار التي أشرف بنفسه على تأجيجها. فهو حيث باع روحه - على طريقة (فاوست)(2) - بسعر السلطة والسيطرة على الطبيعة، أدى إلى ظهور أوضاع وأحوال أدت إلى تحوّل هذه السيطرة على البيئة والطبيعة إلى عوامل وأسباب تخنق هذه الطبيعة».(3) في القسم الأول من هذه العبارة هناك إشارة واضحة إلى الرغبة في السلطة وسيطرة الإنسان الحديث، وهي أمنية لا تستند - قطعاً - إلى إرادة الإنسان الحديث ذاته. وفي كتابه (معرفت و معنويت يتحدّث في فصل عقده لتصوير الإنسان العاصي والمعارض للإنسان بوصفه خليفة الله، قائلاً: إن الرؤية التقليدية حول الإنسان الأسمى تمثل القطب المخالف للفهم المتجدد للإنسان، وهو الإنسان الذي يُعد من وجهة النظر التقليدية كائناً متمرداً على العوالم العليا، ويسعى إلى إساءة استغلال دور الألوهية لصالحه.(4) وإن هذا البيان - بالالتفات إلى اعتبار السيد نصر نفسه مدافعاً عن الرؤية التقليدية وقائلاً بها - يُشير بوضوح إلى نوع من التمرّد الإرادي للإنسان الحديث بيد أن المسألة الرئيسة هي أن لا تفهم إرادة هذا التمرّد بوصفها تغريداً خارج السرب. فإن هذه الإرادة عبارة عن

ص: 539


1- السید حسین نصر، اسلام و تنگناهاي انسان متجدد ص 26 ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي دفتر بجوهشي ونشر سهروردي، الطبعة الأولى، 1383 ه- ش .
2- (فاوست): هو الشخصية الرئيسة في الحكاية الألمانية الشعبية عن الخيميائي الألماني يوهان جورج (فاوست الذي يحقق نجاحاً كبيراً، ولكنه يبقى غير راض عن حياته، فيعقد صفقة مع الشيطان يسلم إليه روحه بموجب تلك الصفقة، في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات الدنيوية. المعرّب.
3- المصدر أعلاه
4- انظر: السيد حسین ،نصر معرفت و معنويت المعرفة والمعنوية، ص 326 ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي دفتر بجوهشي ونشر سهروردي ، الطبعة الثانية، 1380 ه- ش .

سمفونية منسجمة تشتمل في مبائدها وتطورها على الكثير من النوطات ولا سيما في حقل المسائل والأسس الفكرية. وفي الصفحات اللاحقة لهذا الفصل، نواجه عناوين من قبيل: تجريد المعرفة من القداسة، والفصل المبالغ به بين موقف الأنا الإنسانية بوصفها موضعاً لاستقرار الوعي والمعرفة ونحن/ الأنا وذلك الوجود لاسيما في اللاهوت المسيحي على هيئة الشرخ بين الروح والجسد، وتجاهل سلسلة مراتب المعرفة، وأفول الناحية الذوقية من الإدراك، وتحول التفكير في القرن الثالث عشر للميلاد إلى الأرسطية المتطرفة، وصيرورة المعرفة مسألة خارجية، وما إلى ذلك من العناوين الموجودة بأجمعها في ذلك التمرّد أو إرادة التمرد من جهة، وفي الوقت نفسه يمكن لها أن تكون انعكاساً لذلك التمرد في عالم الفكر والنظام التعقلي من ناحية أخرى. وباختصار : فيما يتعلق بما إذا كانت بداية التحول في الغرب وعصر النهضة - وفي الحقيقة النقطة المركزية والجوهرية لكل هذا التحوّل والتطوّر قابل للإحالة إلى حقل المعرفة أو الاختيار أو أمر آخر ؟ يمكن القول: يمكن تحويل الإنسان- من وجهة نظر السيد حسين نصر - إلى دائرة وجودية تقوم بدورها على فكر غربي الذي هو ميراث لرؤية مسيحية في النظر إلى الإنسان بوصفه إرادة بحتة (1). ولكن يمكن الحديث عن حدث وجودي للإنسان يكتسب - في مقام التعبير - تعبيرات تعقلية تارة، وتعبيرات إرادية تارة أخرى. والمهم في البين هو إدراك أصل هذا الحدث والاختلاف الحاصل مع الوضع المعيشي القديم والتقليدي.

ب - المباني

في دراسة معرفة الغرب عند السيد حسين نصر - في هذه المقالة - تم تصوير مختلف المساحات والموضوعات عن الغرب بعدسة السيد حسين نصر. وفي مثل هذا الأفق وإن كان هناك اختلاف من الناحية المضمونية الارتباطية بين آراء نصر بشأن هذه المسائل، ولكن يمكن لنا أن نتوقع اختلاف بعض المباني التوجيهية العامة للسيد

ص: 540


1- يمكن الرجوع إلى كتاب: انسان وطبيعت، ص 65 ترجمه إلى الفارسية عبد الرحيم گواهي، الطبعة الثالثة، نشر : دفتر نشر فرهنگ اسلامي طهران 1384 ه- ش، ولا سيما الفقرة التي يقول فيها : (إن المسيحية عندما ترى الإنسان هو في الغالب إرادة منه إلى عقل وذكاء، إنما تؤكد على رجحان الإيمان والعشق على العلم واليقين).

حسین نصر في تقديم توصيفاته لمعرفة الغرب في مختلف المسائل. وبعبارة أخرى: إذا كان السيد نصر يتعرّض إلى الأخلاق أو المعرفة الإنسانية في الغرب أو العلم الغربي، فإنه يستعرض توصيفات يمكن تعميمها - من خلال تنقيح الموضوع - على جميع المسائل والمساحات التي تقع في دائرة اهتمامه الأعم من الأخلاق ومعرفة الإنسان والعلم. يمكن تقرير هذه المباني على نحوين: إذ يمكن اعتبارها قواعد تجري في مسائل مختلفة وفي هذه الحالة تكتسب صبغة شكلية ،ومنهجية كما يمكن اعتبار هذه المباني - في رؤية عامة - بوصفها عناصر من زاوية الرؤية المعرفية للسيد نصر، وفي مثل هذه الحالة سيتخذ البحث صبغة مضمونية ونصيّة. وفي الحالة الثانية سوف تشتمل معرفة السيد نصر للغرب على مجموعتين من الأحكام، وهما: الأحكام الخاصة بموضوعات ومساحات بعينها من قبيل: (العلم والأخلاق، أو الدين وما سوى ذلك)، والمجموعة الأخرى هي الأحكام العامة التي تصدق على الغرب بشكل عام.

وفضلا عن هذه المباني المذكورة في الفقرة السابقة، يمكن العثور على نقاط ومسائل،وهي وإن كانت لا ترقى إلى التعميم على جميع المساحات والمسائل مورد البحث، لكنها تلعب دوراً محورياً ومركزياً في وصف السيد نصر الأوضاع الغرب. وإن تقديم فهرسة لهذه النقاط المركزية والمحورية وكذلك تحصيل العناوين الجامعة لقسم من هذه الفهرسة - في الحد الأدنى - يُعد عملاً آخر من شأنه أن يساعد إلى حد ما على بلورة صورة منتظمة لمعرفة الغرب عند السيد حسین نصر، ولا سيما في المنظار العام.

ويبدو أن بعض الأمور الآتية يمكن فهرستها في إطار المباني بالمفهوم الشائع في جميع الموضوعات ومساحات معرفة الغرب أو بالمفهوم العام لمعرفة الغرب عند السيد حسين نصر:

1 - نقد تحويل المراتب الطولية للواقعية والوجود إلى أمور عرضية

ص: 541

يمكن العثور على أمثلة كثيرة تثبت أن السيد حسين نصر قد أفاد من هذا الأمر من أجل بيان مختلف معطيات الغرب الحديث. فإن ما يقوله من أن الأخلاق بين الخالق والمخلوق في الغرب، تقرأ في إطار أخلاق المخلوق فقط، ويتم السعي إلى إعادة صياغة أخلاق المخلوقات مع الإعراض عن دراسة نسبتها إلى الأمور المتعالية. وإنه لم يعد من وجود لمراتب العلوم المفقودة من السلسلة الأعلى التي تشمل الدين وفهمه إلى علم الفلك والنجوم - الذي كان يعد العلم المؤلف لسائر العلوم - وأن الروح والنفس الإنسانية قد اكتسبت شرحاً هو في الحد الأقصى يدخل في علم النفس، وما سوى ذلك من الأمور، يمكن وصفها بأجمعها في إطار هذا المبنى. والمسألة الهامة للغاية هي أن الإشكال على هذا التوجه في الغرب لا ينفي صحة التوجه إلى المساحات الأدنى، وإنما يتناسى ما هو أسمى، ولا سيما إرجاع ذلك الأسمى إلى شيء لا يكون إلا أرضياً ومتدنياً، ويرى أن التوصيفات العرضية مع الإعراض عن المراتب الطولية إما أن تفقد معناها أو تغدو مضحكة أو تفقد قدرتها على التحليل والبيان والمثال الذي يذكره السيد حسين نصر للمورد الثاني يكمن في توضیح معنى الحياة، والذي لم يصل إلى نتيجة بسبب عدم وجود معرفة في باب النفس الكلية للعالم.(1)

2 - نقد تقلص المساحة والشمول

فضلا عن مشكلة استبدال الأمور الطولية بأمور عرضية، هناك إشارات كثيرة من قبل السيد حسين نصر إلى تقلّص بعض الأمور في حقل بعض المسائل في الغرب الحديث أيضاً. ويمكن لنا أن نقتفي أثر هذه الظاهرة في الأخلاق أيضاً، حيث نرصد في التقاليد الشرقية فيما يتعلق بالأخلاق أنها تلحظ نسبة الأخلاق إلى الإنسان والبيئة والطبيعة أيضاً، في حين أن الأخلاق المطروحة في الغرب الحديث تقتصر في نظرتها على الأخلاق القائمة بين الناس أنفسهم(2). كما أن تدني علم الفلسفة إلى النزعة

ص: 542


1- انظر: السيد حسین نصر، معرفت ومعنويت (المعرفة والمعنوية)، ص 326، ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي.
2- انظر: السيد حسین نصر، نیاز به علم مقدس، ص 151 ترجمه إلى الفارسية: حسن ميانداري، نشر: مؤسسه فرهنكى ،طه، الطبعة الأولى، 1378 ه-.ش.

الاستدلالية البحتة والمنطقية، واضمحل فيها دور الذوق والشهود أو زال بالمرة، يُعد مثالاً آخر عن ظاهرة انكماش المساحات وتقلّص الشمولية.(1)

3 - نقد الانكماش والنزعة الاستبدالية

يتم التعبير عن هذه الخصوصية - عادة - بوصفها خصوصية شاملة ورئيسة في عالم الغرب، من هنا يتم التعبير بالعولمة - بوصفها مساراً يجعل جميع مساحات حياة الإنسان أرضية بالتدريج - في إيضاح المسار الأصلي للغرب الحديث. وقد يعد حتى المبنى الأول - أي استبدال الأمور الطولية بأمور عرضية - مصداقاً لهذا الأمر، بيد أن المراد الدقيق من ذلك قلب المشهد التقليدي الذي على طبقه تكون كل مرتبة أسمى من الوجود مشتملة على مرتبة أدنى، وإن المبدأ الكلي يحتوي على جذور ذلك الشيء الواقعي في جميع مساحات الوجود الكوني وما فوق الكوني» (2) . وعلى هذه الشاكلة فإننا في النزعة الاستبدالية لا نشهد بالضرورة تبديل أمر طولي بأمر عرضي، بل من الممكن أن يتحوّل أمر متعال إلى أمر طولي، ويحدث تبدل في هامش ذلك الأمر المتعالي، وقد تتحول مرتبة عرضية إلى ما دونها. والمثال في هذا المجال يتجلى في تدني معنى الروح إلى النفس، وتحول الأمور الذهنية إلى أمور انتزاعية أيضاً.(3)

4 - نقد تعميم العلم الجديد

لا نفك السيد حسين نصر عن إصدار تحذيراته بشأن التعميمات الاعتباطية للعلم الجديد ، وهو علم يدعي من جهة نفي أي مساحة غير مادية، ويعمل من جهة أخرى على توضيح جميع مجالات الحياة. يجب عدّ هذا التعميم الذي يمثل القطب المخالف والذي يمثل نوعاً مكملاً لقاعدة النزعة الاستبدالية - ناشئاً عن الطبيعة النهائية والأخيرة للواقعية التي لا يؤدي إنكارها إلى نفيها ولا غرو أن الإنسان الغربي

ص: 543


1- انظر: السید حسین نصر، معرفت و معنویت (المعرفة والمعنوية) ص 12 و 99 - 100، ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي.
2- المصدر أعلاه ص .412
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 412 و507.

لا يحجم عن تفسير الظاهرة بما يمتلك من الأدوات المحدودة حتى بعد إنكارها. إن ظهور العلم الوضعي في دائرة العلوم الإنسانية، وحتى توضيح مضمون الدين بهذا التوجه يُعد من الأمور السائدة في العالم المعاصر (1). يبدي السيد حسين نصر حساسية شديدة تجاه اعتماد التعميمات التي يقوم بها العلم الجديد في سائر المجالات.(2) وأنه يعمد أحياناً حتى إلى ذكر أسماء بعض المفكرين منتقداً أفكارهم بالتفصيل.(3) وأن حساسيته في حقل اعتماد هذه التعميمات في حقل الدين تتفاقم بشكل أكبر. وأن ما يقوم به في الفصل الحادي عشر من كتابه( نياز به علم مقدس) في نقد نزعة التجدد الكلامي ل- (هانس كونج)(4) يأتي من هذه الناحية. والمثال الآخر يتجلى في نقده لأفكار ( بيير تيار دو شاردان)(5) أيضاً.(6)

5 - نقد رسم الخطوط الحصينة في طبقات مراتب الوجود

يمكن لنا أن نعد رسم الخطوط الحصينة والمستعصية على النفوذ في طبقات أمورومراتب الوجود، جزءاً أو مقدمة لزوال رؤية سلسلة المراتب في العالم الجديد. إن من بين دقائق المشهد الذوقي التقليدي أنه في الوقت الذي يؤمن معه بوجود سلسلة من المراتب يعمل بشكل ظريف ودقيق على التبويب بين هذه المراتب أيضاً، وكأن هذه المراتب تمثل طيفاً ومنشوراً ضوئياً يمتاز في اللون الأصفر من الأحمر، مع وجود مرتبة تتوسط هذين اللونين تتمثل باللون البرتقالي، وكلما تم التدقيق في هذا الشأن

ص: 544


1- انظر: السيد حسين نصر دين ونظام طبیعت، ص 286 - 291 ترجمه إلى الفارسية: محمد حسن فغفوري.
2- انظر: السید حسین نصر معرفت و معنویت (المعرفة والمعنوية)، ص 403 ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 409-405 .
4- هانس كونج (1928) - ؟ م) : لاهوتي سويسري وقس رومي كاثوليكي (سابق)، مؤلف منذ عام 1960 م وحتى 1996م درس، اللاهوت المسكوني في جامعة (إيبرخالد) في مدينة توبنغين جنوب غرب ألمانيا. وحتى عام 2013 كان كونج رئيس الجمعية التي أنشأتها مؤسسة الأخلاق العالمية). يُعد من أشهر علماء اللاهوت المعروفين بانتقادهم للكنيسة قديماً وحديثاً، لاسيما فيما يتعلق بعصمة البابا حيث نزع عنه البابا يوهانس باول (الثاني) الصلاحية الكاثوليكية بعد عام من نشر كتابه (هل يوجد إله؟ جواباً عن السؤال عن الله في العهد الجديد). المعرّب.
5- بییر تیار دو شاردان (1881 - 1955م) : فيلسوف فرنسي وراهب جزويت من أعماله تصور فكرة نقطة أوميغا وتطوير مفهوم فلاديمير فردانسكي المعروف بمجال العقل أو مجال نو واجهت بعض أفكاره معارضة المسؤولين في الكنيسة الكاثوليكية، وتم منع عدد من كتبه المعرب
6- انظر: السید حسین نصر، نیاز به علم ،مقدس ص 257 - 258 ترجمه إلى الفارسية: حسن ميانداري.

أكثر كان هناك مزيد من العثور على تجليات وتعيّنات أكثر. أما في المبنى المتقدم المعرفة الغرب، فيتم تجاهل هذه المفاصل المرنة بين المراتب في الذهنية الغربية بالتدريج حتى يتحول نفس كيفية الارتباط بين هاتين المساحتين إلى معضلة فكرية. ونجد المثال البارز على الازدواجية بين الذهن والجسم، أو بين المادة والفكر، في التفكير الديكارتي، وبطبيعة الحال يمكن العثور قبل ذلك على كثير من مصاديق هذه الإزدواجية في الفكر المسيحي لدى الغرب أيضاً.

6 - نقد السقوط التدريجي والتراتبي

يبين هذا المبنى أن مسار التحوّلات في الغرب لم يحدث على دفعة واحدة، وإنما حصل تدرّج في توصيفات الفكر الغربي إلى الحد الذي أضحت فيه التوصيفات الدنيوية والمادية وحدها هي المعيار الحاسم. وتتجلى أهمية هذا المطلب من ناحية اختزال مجمل تاريخ التطورات الغربية في جملة واحدة أحياناً، في حين أن مفاد الجملة مورد البحث (من قبيل الدنيوية) حصيلة تدنيات متعددة وذات مراتب. إن هذا المبنى لا يُشير إلى التدني، ولا إلى تبدل المراتب العليا إلى المراتب الدنيا، ولا إلى انخفاض المراتب العرضية، بل يشير إلى تدريجية هذه المسارات المتعددة التي تقدم ذكر كل واحد منها في إطار المباني السابقة إن توصيفات السيد حسين نصر للغرب تحتوي على خارطة طريق لهذه التقلصات والانخفاضات المتكررة والتدريجية، وقد تم فيها إيضاح انقسامات هذه الأنواع من السقوط بشكل جيد. وإن ما قام به السيد حسين نصر في الفصل الثالث من كتاب (الدين ونظام الطبيعة) أو ما قام به في الفصل الأول من كتاب (المعرفة والمعنوية)، يمثل إزاحة للستار عن هذه الانقسامات المتعددة والسقوط التدريجي.

7 - الطبيعة الجذرية للواقعية

يمثل هذا المبنى أساساً لإيضاح رؤية السيد حسين نصر. والمراد منه أن الواقعية من حيث هي واقعية لم يتم تذليلها أو تدجينها من قبل الغربيين، ولا تزال متفلتة إطار المعادلات. فعلى سبيل المثال: إن تكريم مقام الإنسان في عصر النهضة

ص: 545

المقترن بإنكار الحق تعالى لم تترتب عليه من نتيجة سوى تدمير الوضع الوجودي لهذا الإنسان وضياعه بعد بضعة قرون؛ إذ إن تشويه وجه الحق - بسبب ارتباط هذا الإنسان وتعلقه بالحق تعالى - لن يترتب عليه من شيء سوى تدمير واقع الإنسان المتجدد .(1) إن من بين لوازم هذا المبنى أنه يبرز مفهوم الأمل في معرفة الغرب عند السيد نصر، ففي بعض أنواع معرفة الغرب، حيث يتم رسم صورة قاتمة ومظلمة عن الغرب، يعكس الأمر على المخاطب نوعاً من اليأس وانعدام الأمل الناشئ من مواجهة هذه الصورة عادة، بيد أن معرفة الغرب عند السيد نصر لا تأبى عن إظهار عمق الوضع البائس للإنسان الحديث والحضارة والثقافة الجديدتين، ولكنه لا يفضي إلى أي يأس أو إحباط أبداً؛ إذ لا شيء في هذه الناحية أكثر واقعية من الحق تعالى، وإن جميع المراتب والحقائق نماذج وأمثلة مشيرة إلى تلك الحقيقة القاهرة، ولو أن الإنسان الحديث قد أقام عالماً مخالفاً للتعاليم التشريعية للأديان والسنن، فإنه في العمل على المستوى الوجودي لم يخرج أبداً عن مدار المربوبية ولن يخرج من هذا المدار أبداً. إن الإنسان المعاصر رغم انفصاله وابتعاده عن المركز، وبقائه قابعاً في طوق محور الوجود، إلا أنه لا يوجد هناك طوق من دون مركز أو من دون انتسابه إلى مركز الوجود (2).والمثال الآخر على توظيف هذا المعنى يكمن في أن نفور الإنسان المتجدد مما وراء الطبيعة قد تجلى على شكل إجابة قاسية من الطبيعة تجاه الحياة الراهنة ونمط الحياة الجديدة؛ إذ من الناحية الجوهرية ليست الطبيعة شيئاً غير الأمر الآتي مما وراءه، وإن إنكار ال- (ماوراء) لا يعدو إنكار الطبيعة نفسها. إن هذه القضية الأساسية هي التي يمكنها أن تجعل الاستعانة بالتقليد الحي لإعادة صياغة الغرب - لا في مسار عصر النهضة، بل في مسار تطابق الطبيعة الحقيقية للعالم والإنسان - أمراً ممكناً. وعلى أساس هذه الرؤية لا يستطيع السيد حسين نصر - رغم حساسيته المفرطة تجاه تدمير البيئة والطبيعة وأزمتها - أن لا يتفاءل بإمكانية تحسنها وعودتها إلى حالتها الطبيعية. وهذا المعنى كذلك هو الذي يجعل استنطاق السيد نصر التفصيلي للغرب الحديث بشأن الجسد الإنساني والطبيعة المحيطة به أمراً ذا

ص: 546


1- انظر: السيد حسین نصر، معرفت و معنويت (المعرفة والمعنوية)، ص 359، ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي.
2- انظر: السيد حسين نصر ، اسلام و تنكناهاي انسان متجدد ص ،26 ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي

معنى. إن السيد حسين نصر يبدأ من حيث الموضع المألوف للإنسان المعاصر الذي يعرف نفسه بوصفه محض ،جسد بل يرى الطبيعة كلها بوصفها وحدها التي تمثل درجة من الواقعية، وينطلق السيد نصر من هذه النقطة المألوفة ليبدأ حواره التفصيلي تجاه الغرب؛ لاعتقاده الراسخ بأن الحقيقة الأصيلة يمكن لها أن تظهر صورتها حتى من خلال الجسد والطبيعة أيضاً.

8 - شرق الحقيقة مجاز الغرب

يعمد السيد حسين نصر - على أساس المبنى الذي يرى الإنسان في المحور المنفصل عن مركزه وعدّ هذه المحور انعكاساً وشعاعاً لذلك المركز - في إطار معرفة وتوصيف الغرب، ضمن التوسل بأوضاع العالم الشرقي والتقليدي إلى وضع هذين الأمرين في قبال بعضهما، ويبادر أحياناً في هذا الأمر إلى كتابة تقريرات مختلفة عن التقاليد الشرقية لموضوع واحد في قبال تقرير شاذ للغرب الحديث(1). وقد صرح في بعض المواضع بأن الغاية من ذلك تكمن في مواجهة هيمنة الغرب، والتأكيد على الاختلاف الماهوي له مع مجمل الحياة المختلفة للإنسان في الأزمنة الماضية. وفي هذه الرؤية يتم تصوير الغرب بوصفه حالة مجازية، أو بعبارة أصح: الصورة المقلوبة، التي يمكن العثور على صيغتها الحقيقية في الدين والسنة. (2)

9 - الاهتمام بالجذور المسيحية للحضارة الغربية المناهضة للمسيحية (أهمية الجذور المسيحية في تغير أحوال الغرب)

إن المراد من الكلام عن جذور المسيحية هو أن الحضارة الجديدة حيث تحمل توجهاً مناهضا للدين يجب أن يكون السيد نصر قد شاهد تلك التعاليم في المسيحية ولم تعجبه، وفي مقام التأسيس تعاطى مع تلك التعاليم المسيحية في إطار المعارضة التفصيلية بشكل إيجابي. إن هذا الفهم وإن كان صحيحاً من بعض الوجوه، بيد

ص: 547


1- وهذا ما نجده في عدد من مؤلفاته من قبيل معرفت و معنویت و اسلام) و تنكناهاي انسان متجدد)، وما سواها من الكتب الأخرى.
2- إن عبارة: (الطوق والمحور)،أو التقابل بين الظاهر والباطن في بعض الكتب تثبت هذا الأمر أيضاً.

أن المراد هو أنه على أساس المبنى السائد في النزعة التحويلية، وكذلك السقوط التدرّجي، يجب أن تكون هناك إمكانية لبيان أن جذور الإعوجاج التي يعاني منها الغرب الحديث تكمن في ذات القراءة التاريخية للمسيحية في العالم الغربي،كما أن بعض المعاني الإيجابية للمسيحية في مقام التفصيل، إما أن تتحول إلى معلومة متجددة، أو توفر أرضية لتبلور الآراء المتجددة. وعلى هذا الأساس نجد السيد حسين نصر مهتماً بالجذورالمسيحية في المساحات والموضوعات المتعددة لمعرفة الغرب بشكل كامل. وإن بعض هذه الجذور التي يمكنها أن تكوّن الرؤية العامة لمعرفة الغرب عند السيد نصر، أو في الحد الأدنى أجزاء المباني المؤلفة لمعرفة الغرب عنده، على النحو الآتي:

أولاً : المسيحية دين الإمبراطورية الرومانية

إن هذا الوضع التاريخي الجديد - أي تحول المسيحية إلى دين إمبراطورية اسمها روما - أضحت بالنسبة إلى المسيحية منشأ لبعض الأحداث في مستقبل الحضارة الغربية التالية لعصر النهضة. وفي الحد الأدنى يمكن لنا أن نرصد ثلاثة آثار ناشئة من هذا التحوّل في معرفة الغرب الحديث من وجهة نظر السيد حسين نصر، هي :

1 - المخالفة الشديدة مع الأديان الإغريقية والرومانية الوثنية، ومن ثم ضياع بعض النواحي الإيجابية لهذه الأديان من قبيل التمتع بالرؤية الشمولية الجامعة أو ال-

(كوزمولوجيا) (1)، وتجاهل المساحات العالمية المحيطة بنا، وإيقاف التوغل في المعرفة الإنسانية.(2)

2 - الامتزاج بالقوانين الرومانية ومن ثم فقدان المشروعية الدينية الكافية في بعض القوانين، وهو أمر ترك تأثيراً سلبياً على إطار التكوين المناسب للنظام الأخلاقي

ص: 548


1- الكوزمولوجيا (cosmology) أو علم الكونيات علم يبحث في مظهر الكون وتركيبه العام، وهو يشمل علوم الفلك والجغرافيا والجيولوجيا المعرّب.
2- انظر: السيد حسين نصر معرفت و معنويت المعرفة والمعنوية ص 88 - 90 ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي وله أيضاً إنسان وطبيعت (بحران معنوي انسان متجدد)، ص 64 - 66 ترجمه إلى الفارسية عبد الرحيم كواهي، الطبعة الثالثة نشر: دفتر نشر فرهنك اسلامي، طهران، 1384ه-.ش.

للغرب المسيحي، وأدى في نهاية المطاف إلى إيجاد نوع من اختلاف الآراء الشديد في بلورة القضايا والأحكام الأخلاقية.(1)

3 -التحول إلى دين رسمي وهو أمر جعل منه تقريراً نمطياً أو غير منعطف عن المسيحية إلى حد ما، وطرد كل تقرير آخر - ولا سيما الآراء الذوقية والعرفانية المسيحية - من شأنه أن يقف في وجه المسار القهقرائي للفكر الغربي إلى حد كبير(2)

وثانياً: ضياع الشريعة

إن هذه الناحية أدّت إلى ضعف أطر توجيه سلوك الناس، وتنظيم نسبتهم إلى العالم المحيط بهم، ومن ذلك عجزها عن تنظيم نسبة الإنسان والطبيعة .(3)

وثالثاً: تنزل النجاة إلى لحظة خاصة في التاريخ

لقد شكل هذا الأمر في المسيحية أرضية لتحوّل التاريخ إلى غاية، وكانت هذه الناحية مؤثرة في ظهور أفكار من قبيل: فكرة التطوّر والتقدم المستمر والمتواصل بوصفه هدفاً في العالم المعاصر(4).

ورابعاً حذف العوالم الواسطة بين الخالق والمخلوق لقد مهّد هذا الأمر الأرضية لعزل الخالق وتغييبه عن أنظار المخلوقين، وقد ترتب على هذه الناحية كثير من النتائج والتداعيات في مختلف المجالات.(5)

10 - الاهتمام بالضعف التدريجي لإدراك المثال والرمز وأهمية التمثيل

ص: 549


1- انظر: السيد حسين نصر إنسان و طبیعت (بحران معنوي انسان متجدد)، ص 183؛ وله أيضاً: دنياي جوان مسلمان ودنياي متجدد( الشباب المسلم والعالم المتجدد)، ص 298 ترجمه إلى الفارسية مرتضى أسعدي، الطبعة الرابعة، :نشر طرح نو، 1382 ه- ش .
2- انظر: السید حسین ،نصر معرفت و معنويت المعرفة والمعنوية)، ص 90.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 386-385
4- انظر: السید حسین نصر، معرفت و معنويت (المعرفة المعنوية، ص 438؛ وله أيضاً نیاز به علم مقدس (الحاجة إلى العلم المقدس)، ص 249 - 250 ترجمه إلى الفارسية: حسن ميانداري.
5- انظر: السيد حسين نصر إنسان وطبيعت بحران معنوي انسان (متجدد)، ص 74 و 87 - 92.

إن السيد حسين نصر يؤكد في مختلف الموضوعات - ابتداءً من الفن وصولاً إلى العلوم المتعددة الأخرى، من قبيل( الفلك والنجوم والهيئة وحتى الرياضيات)، بل حتى الطبيعة والمادة - على أهمية الفهم الرمزي لهذه الأمور،(1) ويذكر في المقابل بأن الذي أدى بالغرب المعاصر إلى الوقوف في مسيرته الراهنة - ومنها الضعف والنسيان التدريجي - هو مفهوم المثال والرمز في السنن السابقة بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يرى أن نسيان معنى المثال والرؤية الرمزية إلى الوجود كان سبباً لتجاهل ونسيان أمر آخر في غاية الأهمية، وهو سلسلة مراتب العالم(2).

11 - تطبيق القواعد العرفانية الدقيقة والكبيرة (الاستلهام المضموني والمنهجي لمحتوى العرفان)

حيث يتصف السيد حسین نصر بشغفه بالشكل العام للسنن المعنوية في تنسيقاته العرفانية ،وكذلك بالإسلام من هذه الناحية، يُفيد من هذه المساحة في معرفته للغرب على المستوى الأسلوبي والمنهجي وعلى المستوى المضموني أيضاً. وإن بعض الأمثلة تبين هذه النسبة.

إن مبنى الطبيعة الجوهرية للواقعية يقوم على أصل التوحيد، وذلك بطبيعة الحال ضمن قراءة دقيقة وشفافة تماماً.

إن التركيز على مسألة سلسلة المراتب الوجودية يقوم على رؤية عرفانية بشأن كيفية ظهور المخلوقات من خلال تجلي ذات الحق تعالى.

إن تقدم الإشراق على التفكير والاستدلال، وتقدم المعرفة على الإيمان وما سوى ذلك من الأمور ، رغم وجود الاشتراك بشأنه بين بعض القراءات الدينية، ومن بينها الكلامية والفلسفية والعرفانية، وفي الحد الأدنى في العالم الإسلامي، إلا أنه قد اكتسب من الزاوية العرفانية مفهوماً غنياً بالكامل، بحيث إنه في تناظره مع الوجود والواقعية يقع خارج ذهن الإنسان. لقد كانت هذه الموارد مأخوذة بأشكال متكررة من وجهة نظر السيد حسين نصر

ص: 550


1- انظر: السيد حسين نصر إنسان وطبيعت بحران معنوي انسان متجدد)، ص 177 - 179، وله أيضاً: نياز به علم مقدس (الحاجة إلى العلم المقدس)، ص 76 و 205 - 206 .
2- انظر: السيد حسین نصر معرفت و معنويت (المعرفة والمعنوية)، ص 392.

في دراسته لمسار صيرورة العالم الجديد غربياً، وأقام نقده على هذا الأساس.

ج - المضمون والأحكام

إن استخراج الأحكام والمضامين النصية لمعرفة الغرب من قبل الشخصيات التي تحدثت حول الغرب بشكل مباشر لا يبدو معقداً أو متعذراً، ولكن حيث يشتمل الغرب الحديث على مساحة واسعة بحجم الثقافة والحضارة، بل وحتى التاريخ الحديث فإن الأحكام المذكورة يمكن أن تكون واسعة جداً، وإن تقديم فهرسة عنها من دون صبها في بوتقة وإطار نظامي منسجم ومترابط نسبياً، لن يوفر معرفة ناجعة بشأن آراء هؤلاء العلماء. ومن هنا سوف نسعى في هذا القسم إلى فهرسة بعض أهم الأحكام والآراء بشأن معرفة الغرب عند السيد حسين نصر، مع ملاحظة نسبية ارتباطها في ذيل عناوين أكثر كلية . وسيكون اختيار العناوين العامة من خلال ملاحظة اهتمامات الكاتب والمؤلف نفسه إلى هذه المساحات، ولن يكون هناك أدنى تحميل لمنطق أو نظام زائف على التقريرات النصية، بل سيتم التركيز على تقديم تقرير لمختلف أنحاء اهتمام السيد حسين نصر بالعناوين المذكورة مقرونة بذكر بعض الأحكام، ذلك لأن التركيز على تقرير جميع الأحكام والقضايا المرتبطة بمعرفة الغرب عند السيد نصر، وحتى بيان جميع المساحة الموضوعية لنشاطه المعرفي المتعلق بحقل الغرب يتطلب فرصة أكبر من هذه مقالة المقتضبة.

1 - المعرفة

تقدم أن ذكرنا أن السيد حسين نصر يرى أن ابتعاد الإنسان الغربي عن النقطة المركزية من الوجود، قد أدى إلى ظهور العالم الغربي الجديد، وبطبيعة الحال فإن هذا الموقعية وهذا التاريخ لن يعود إلى مجراه الأصلي - من هذه الناحية - إلا من خلال الاتصال المجدد بالمركز ، ولكن واسطة الاتصال بين الإنسان والحق في هذا الشأن هي المعرفة. وهذه المعرفة هي التي لم تكن في البداية - من وجهة نظر السيد حسین نصر - وفي أكثر مواطنها أصالة، أي عند الحق تعالى، منفصلة عن الحق، كما أنها لم تكن منفصلة عن الرحمة. إلا أن العالم الجديد - من خلال تجريد المعرفة

ص: 551

من قداستها، أو خفضها إلى مرتبة نازلة، أو تحويلها إلى مستويات لاتبقي إمكانية لإطلاق المعرفة عليها - قد حرم نفسه من الحبل الذي يربطه بالحق.

1 / 1 - مسار تجريد المعرفة من القداسة

يبحث السيد نصر عن الخطوة الأولى من مسار تجريد القداسة في اليونان القديمة، حيث تُعد - من وجهة نظره - النموذج الأول لظهور المجتمع غير التقليدي. وإن الأهم في هذه الخطوة هو زوال روح الرمزية وظهور النزعة الاستدلالية بوصفها أمراً مستقلاً عن التعقل ومن تداعيات هذا الوضع ظهور النزعة التشكيكية بوصفها الوجه الآخر للاستدلال الجاف والتوقد الذهني البحت وفي ظل هذه الظروف برزت أثناء ظهور المسيحية في روما ردّة فعل على اليونان برمتها من ناحية هذا الدين الجديد. (1)إن ردّة الفعل هذه التي اكتسبت صبغة متطرفة إلى حد ما، برزت من ناحية بوصفها طريقاً إلى المحبة كي تبدي تجاهلاً لجميع طرق المعرفة السابقة التي تجلت على شكل أطر ذهنية استدلالية جافة، وأن لا تفرّق - من ناحية أخرى - بين التعقل والدليل أيضاً. وكانت النتيجة العملية لذلك أن تفوقت المسيحية المستندة إلى الشريعة السماوية - من زاوية خاصة - على التفكير اليوناني، بل حتى جنباته الذوقية أيضاً. وبطبيعة الحال لا يفوت السيد حسين نصر أن ينوّه بعد ذلك مباشرة إلى عدم خلوّ المسيحية في الوقت نفسه من بعض النحل العرفانية والذوقية التي كانت تواصل نشاطها، ولكنها لم تكن لتظهر في صُلب المسيحية المعترف بها رسمياً.(2) وكانت نتيجة ذلك قد تجلت بعد القرون الأولى من خلال اللاهوت المسيحي المعترف به رسمياً، القائم على مقولة «أؤمن كي أفهم »، وبذلك تمّ تحويل التعقل إلى خادم للإيمان، وعدم عدّة وسيلة لتهذيب النفس. وبعد هذه الخطوة، وفي الخطوة الثالثة التي حصلت في القرن الثاني عشر والثالث عشر بعد الميلاد، من خلال اتساع رقعة مدرسة أرسطو ومدرسة ابن رشد اللاتيني،(3) ولا سيما في امتزاجها بشروح القديس

ص: 552


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 88.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 90.
3- يتحدث السيد حسين نصر عن ابن سينا الإسلامي واللاتيني، وكذلك عن ابن رشد المسلم واللاتيني، ويعد المورد الأخير مصداقاً كاملا للنزعة الاستدلالية البحتة في التفكير الغربي الجديد.

توما الأكويني للاهوت المسيحي، شهدنا أفولاً لفهم توما الأكويني الذي كان حتى ذلك الحين قد حافظ على تفوّق الإشراق المتمثل بالفهم التومائي بصيانة تفوّق الكتاب السماوي«بمعنى أنه نفى إمكان إشراق الذهن بواسطة العقل الشهودي، وعدّ جميع المعارف ذات مبدأ ومنشأ حسي». وعلى الرغم من أن القديس توما الأكويني لم يقبل بالفصل بين الإيمان والعقل، بيد أن استعانته بأقوال أرسطو طاليس، وتأكيده على المنشأ الحسي للمعرفة، تعدّ خطوة عملية أخرى في إطار نبذ القداسة عن المعرفة في العالم الغربي. (1)وفي نهاية المطاف تم إطلاق رصاصة الرحمة على هذا المسار على يد مدرسة أصالة التسمية، وهو أمر أدى إلى نسيان أصل مفهوم النزعة الواقعية. (2)لقد تمّ إضعاف قدرة العقل الاستدلالي الذي يمثل آخر حصون الإيمان المسيحي في تلك الفترة - من قبل أصالة التسمية، وحدث على المستوى العملي نوع من اللاأدرية الفلسفية وفي ظل هذه الظروف حيث لم يجد بعض المسيحيين من ذوي النزعة التعقلية - مشارب ذوقية وعرفانية عن أسئلتهم داخل المسيحية، ولم يجدوا حصناً تعقلياً سالماً في إطار المسيحية المعترف بها رسمياً، لم يجدوا بداً من اللجوء إلى خارج العالم المسيحي، وكانت نتيجة هذه النزعة الإسقاطية مزيداً من الانهيار في أنظمة اللاهوت المسيحي.(3) وكانت نتيجة هذا الانهيار فضاءاً ملبداً بسحب الشك والغموض. وهو الفضاء ذاته الذي عمد أمثال (ديكارت) - في القرن السابع عشر للميلاد - إلى اتخاذه ركيزة لكي يبنوا عليه فلسفتهم المستقلة عن الدين بغية التفوّق عليه.(4) وبطبيعة الحال كانت هناك بعض المحاولات في صلب عصر النهضة لاستعادة الحكمة القدسية، إلا أن أياً منها لم يحقق نجاحاً، ويعود هذا الإخفاق إلى أسباب متعددة من قبيل : التأثير السابق والراهن لذات الاتجاهات الفردية أو الإنسانية لعصر النهضة (5)والمسألة اللافتة التي يشير إليها السيد حسين

ص: 553


1- انظر: السيد حسین نصر، معرفت و معنويت (المعرفة المعنوية)، ص 92 - 93.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 93.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 96.
4- انظر: المصدر أعلاه.
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 97.

نصر هنا هي أنه على الرغم من الصولات والجولات التي تقوم بها أنواع الاتجاهات الباطنية وأقسامها في هذه المرحلة، إلا أنه لم تتم إعادة قراءة هذه الاتجاهات في إطار تقليدي كامل، وإنما كانت بأجمعها تصبّ في زاوية فردية واستدلالية تمثل الرؤيةالحقيقية للفلسفة الأوروبية الحديثة. وعلاوة على ذلك يمكن تأويل هذا التنوع ذاته بوصفه تحوّلاً ناسوتياً لضجيج وصخب آخر الذخائر المعنوية والإشراقية التي كان في متناول الغرب.(1) وعلى هذه الشاكلة يمكن اعتبار (ديكارت) صاحب الخطوة التالية فإنه من خلال وضعه للتفكير الفردي - الذي ليست له أية نسبة مع الإدراك الشهودي في مركز فلسفته، إنما ختم بذلك في الحقيقة مسار الصيرورة الدنيوية لمستقبل المعرفة في الغرب، بحيث أضحى كل اكتشاف لاحق محاكاة عن هذا التفكير الفردي المستقل عن الوحي والشهود.(2) وعلى الرغم من تحويل(كانت) للشك الديكارتي إلى شك ثابت ومستقر، ونفيه إمكانية معرفة ذات الأشياء إلى الأبد، ولكن لم يعمد أي منهما - لا هو ولا ديكارت - إلى إنكار ثبات المقولات المنطقية، أما في القرن التاسع عشر للميلاد فأضحت الواقعية ذاتها عند هيجل وماركس قائمة على صيرورة الديالكتيك والتغير، وتم تحويل البصيرة الثابتة تجاه الأشياء إلى بصيرة غير ثابتة،(3) وبذلك فقد المنطق ثباته أيضاً، وكان ذلك خطوة أخرى في مسار تجريد المعرفة من القداسة، بل كان هذا يمثل دفناً وحرقاً لجثمان المعرفة في الحقيقة والواقع. ولكن يبدو مع ذلك أن هذه العملية الدنيوية لم تكن لتعرف حداً تقف عنده، حيث أنزلت ضربة قاضة أخرى من خلال الرؤية التحصيلية ل- ( أوغسط كونت)، وبذلك تجلى عدم فهم الأمر القدسي بالنسبة إلى الإنسان على أبعد مديات ظهوره. وإن جميع المسارات السابقة التالية للفكر الغربي إما أن تكون قد واصلت طريقها من خلال فصل الدين وبحث الأمر القدسي عن الاستدلال والمنطق، أو من طريق تفريغ اللغة أو المسارات الفكرية ذات الصلة باللغة من أي مضمون ميتافيزيقي. وإن تعبير نصر بشأن نتائج الاتجاهات التحصيلية أو التحليلات اللغوية يتلخص في عدّها من الزاوية

ص: 554


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 98.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 100.
3- انظر المصدر أعلاه، ص 102.

التقليدية تفاهة أو نفوراً من الحكمة(1).

1 / 1 - نتائج صيرورة المعرفة دنيوية

لقد ترتب على صيرورة المعرفة دنيوية- من وجهة نظر السيد حسین نصر- بعض النتائج، من بينها :

أ - زوال إمكانية الاتصال بإلحاق التقاليد في حالة التعهد بالاتجاهات المطروحة بشأن معرفة محو القداسة ( من قبيل: طرد كل مشرب وذوق باسم الأفلاطونية الحديثة، أو النزعة الاتحادية، أو النزعة الطبيعية، أو النزعة الإغريقية وما إلى ذلك.

ب - تحويل العالم إلى أمر دنيوي وكذلك جعله آلياً.

ج - خفض التاريخ إلى صيرورة من دون كمال متعال.

د - النزعة التاريخية في سياق الفهم المتغير للظواهر .

ه- - صيرورة اللغة دنيوية.

و - تحوّل قراءة الكتاب المقدس إلى قراءة دنيوية.

ز - تحول ذاته الدين إلى أمر دنيوي واستحالة فهمه(2).

2 - الفلسفة

1 / 2 - فصل الفلسفة عن الدين

يرى السيد حسين نصر أن الفلسفة- إذا ما استثينا مرحلة قصيرة في روما واليونان القديمة ، وكذلك الغرب الحديث - كانت على الدوام ملازمة للدين، بيد أن الفصل

ص: 555


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 102 -103.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 103 - 110. لقد جاء هذا الأمر من قبل أمثال(سورين كيركيغارد)کرد فعل على ما قام به(هيجل) حيث فصل عالم الإيمان عن ساحة الإنسان المفكر، حيث وجد كيركيغارد أن هذا الأمر الذي يمثل سعياً إلى فهم الحقيقة يقترن بالإحباط ومن هنا لا بد من القيام بقفزة تقوم على الإيمان.

الذي حصل بين الدين والفلسفة في الغرب الحديث - والذي حدث في الغالب بعد العصور الوسطى - قد أدى من خلال المشاكل التي أثارها بشأن الإيمان والعقل إلى نتائج كارثية للحضارة الغربية.(1) فحتى في المدارس الإغريقية - على الرغم من الإعراض عن الاتجاه الديني في المراحل المتأخرة من اليونان - كانوا يثبتون لعالم الكون خصائص من قبيل : النظم والقانون والحياة. وفي العصور الوسطى حيث تمّت إزالة النزعة الطبيعية والأساطير الإلحادية من تراث الفكر الإغريقي والروماني إلى حد ما، بل وتم ارتقاء فهم الطبيعة - بوصفها تمثل الوجود بأسره -إلى الاشتمال على نوع من الفهم الديني للعالم. وفي النشاط الفكري ل- (سانت أوغسطين ) تم عدّ الفلسفة مساوية للدين أيضاً. وفي نظريات القديس توما الأكويني أضحى عد تحكيم المشيئة الإلهية على المخلوقات والاعتقاد بالعالم بوصفه نظاماً مشتملاً على سلسلة من المراتب القائمة على الموازين المختلفة من المشابهة لله أكثر وضوحاً.

2 / 2 - التوجهات الجديدة لما بعد عصر النهضة

على الرغم من بقاء بعض التصورات المستوردة من العصور الوسطى، نشهد في مرحلة حلة عصر النهضة ظهوراً لتأليف جديد وتوجهات حديثة عملت على إحداث أنظمة فلسفية جديدة. ومن بينها يمكن لنا تسمية الأنظمة الآتية: تبلور تيار مناهض للنزعة الغائية عند أرسطو طاليس، والسعي إلى بيان العلل والأسباب مع التأكيد على العلل الفاعلية والقيام التلقائي للطبيعة، وعدم محاكاة الصورة السرمدية، والضياع بين ثنوية النفس والجسم والله والطبيعة، وكذلك أصالة الرؤية الميكانيكية القائمة على الرياضيات التي بدأت بشكل خاص في القرن السادس عشر للميلاد، وتم تثبيتها في القرن السابع عشر للميلاد، وبعد ذلك يتم تفصيل لوازمها الخفية من قبل المفكرين في القرون اللاحقة.

3 / 2 - المرحلة الوسيطة

يشير السيد حسين نصر بوضوح إلى هذا المسار الملبد بالغبار في هذا الطريق

ص: 556


1- انظر: السید حسین نصر، دین ونظام طبیعت، ص 164.

الطويل، ولا يغفل حتى عن الميل إلى السحر والشعوذة والأديان الخفية وقراءة الطوالع بوصفها من الأمور التي شكلت هواجس المراحل الأولى من عصر النهضة، وهي المراحل التي لعبت دور الوسيط للعبور من تصورات العصور الوسطى والدخول إلى العقائد التي سادت الغرب الحديث.(1) إن أعمال السيد حسين نصر في تعداد الآراء الفلسفية للمرحلة الجديد تقترن عادة بذكر أسماء الفلاسفة الجدد أو الأعمال المؤثرة على الفلسفة الحديثة، وفي هامش كل اسم يتم بيان كيفية تأثير صاحب الاسم على التفكير الفلسفي في الغرب.

4 / 2 - التقدم الرتبي ل- ( رينيه ديكارت) على (فرانسيس بيكون)

يذهب السيد حسين نصر إلى القول بأن أهمية (ديكارت) تفوق (فرانسيس بيكون)؛ ذلك لأنه يرى في عبارته الشهيرة: «أنا أفكر ؛ إذن أنا موجود» نوعاً لتأسيس فلسفة جديدة من اذ إن هذا الأمر يؤسس لفلسفة معرفة نفس الفرد والعقل الاستدلالي للإنسان بشكل مستقل عن الوحي ومن دون اعتباره معياراً نهائياً في هذا الشأن. يضاف إلى ذلك أن الثنوية المطروحة في أعمال( جوردانو برونو)(2) تظهر في نشاط(دیکارت) من خلال الشرخ بين عالم الفكر وعالم الاستمرار والمادة، ويستمر الأمر على هذه الشاكلة بحيث يخلق معسكرين من المدارس الفلسفية القائمة على المادية والمثالية إلا أن السهم الأوفر ل- (بيكون) يكمن في مشربه الدهري، ورغبته في الاستقواء بالعلم، وسعيه إلى تأسيس ميثولوجيا العلم والطعن في النزعة الغائية، وتأثيره على الأجيال اللاحقة من أمثال (نيوتن)، وكذلك دعمه للعلم بوصفه من واجبات الدولة. وعلى الرغم من إمكانية فهرسة تقرير السيد حسين نصر الآراء الفلاسفة الغربيين وأفكارهم في هذا المقام، إلا أن الغرض الرئيس يتلخص في بيان هذه الرؤية المركزية من وجهة نظر السيد حسين نصر حيث يرى أن انفصال الدين عن الفلسفة هو الوجه المميز لوضع الفلسفة في العالم الجديد، وهو أمر تجلى على

ص: 557


1- انظر: المصدر أعلاه، الفصل المتعلق بالفلسفة.
2- جوردانو برونو (1548 - 1600م) : كان دارساً دينياً وفيلسوفاً إيطالياً شهيراً. كان في بداية أمره ،راهبا، ولكنه انتقل من الدراسات اللاهوتية إلى الفلسفة حوكم بتهمة الهرطقة من قبل محاكم التفتيش الرومانية، وعوقب حرقاً في روما.

نحو بارز في الفكر الديكارتي بوصفه مؤسساً للفلسفة الحديثة من حيث قيامها على التفكير البشري البحت.

3 - الفن

1 / 3 - تقدم الفن

«إن الإنسان... من خلال إبداع أثر فني قائم على تمرّد الإنسان على الله، يعمل على الابتعاد عن «مبدئه الإلهي» بشكل أكبر. لقد كان أثر الفن في سقوط الإنسان المتمرّد في العالم المتجدد أثراً محورياً، وذلك من ناحية أن هذا الفن يمثل نموذجاً للمراحل الجديدة من السقوط الباطني للإنسان عن مثاله القدسي،كما أنه من العناصر الرئيسة لظهور هذا السقوط ؛ ذلك لأن الأمر قد بلغ بالإنسان بحيث يعد نفسه مساوياً لما صنعته يداه»(1) . يرى السيد حسين نصر أن الفن قد ظهر على نحو متقدم على العلوم الإلهية والفلسفية المفصلة في التقاليد والسنن. وذلك لأن التصرف في عالم رؤية الإنسان إلى عموم البشر - في العالم التقليدي الذي يسعى فيه الدين والسنن إلى بناء شكل جديد للعالم - متأخر عن التصرف في العالم الخارجي. وإذا ارتضينا ذات هذه النسبة بشأن العالم الحديث يكون للفن الجديد نوع من التقدم على حقل الحياة الفكرية والفلسفية للغرب، وهو ما نراه بوضوح في الكلام المنقول عن السيد حسين نصر.

2 / 3 - الفن والنزعة المادية والانقطاع عن العوالم العلوية

في القسم الأخير من الجملة المذكورة تم لحاظ موارد مدمجة ببعضها، من قبيل: الفهم المادي للنفس، والقول بتساوي الإنسان وجسده المادي، وليس السعي في خلق العوالم العالية - أو فوق ذلك إعادة خلق حضورها - في صلب وجود الإنسان. ولاسيما بالالتفات إلى آثار النزعة الإنسانية في بداية عصر النهضة حيث نشاهد فيها نوعاً من تصور الطبيعة المفرطة من خلال الاستلهام والتقليد للنماذج الإغريقية

ص: 558


1- انظر: السيد حسین نصر معرفت و معنويت المعرفة والمعنوية)، ص 500 - 501 .

والرومانية القديمة. ومن هنا فإن كل أثر فني هنا فإن كل أثر فني يخلق في هذه البيئة، يمثل في الحقيقة تأكيداً آخر على لحاظ الإنسان منفصلاً عن سلسلته الوجودية، بل لا بد من لحاظه على هذه الشاكلة. وهذه هي الرسالة الكامنة في الفن الجديد. خلافاً للحق تعالى الذي يعد خلقه - بوصفه فناً - نوعاً من الصنع الخارجي، إن فن الإنسان نوع من الصنع الداخلي. إن الله حيث يصنع شيئاً يمنحه شكلاً، في حين يتشكل الإنسان من خلال ما يصنعه». هذا في حين أن الفن الجديد فن متمرّد، ويسعى إلى تقديم صورة الإنسان المتمرّد - لأنه شيء غيره ولا يلحظ فيه عوالم أسمى - ولذلك بالالتفات إلى القاعدة المذكورة تحول إلى وسيلة ل-« المزيد من التحول إلى الانفصال عن المبدأ العام».(1) ونتيجة هذا المسار ليست سوى أصالة الذهن الفردي البحت؛ لأنه لا يقوم على الواقعية الوجودية للفرد الذي خلقه الله - طبقاً للرؤية التقليدية على صورته، وإنما هو مجرد حكاية متمحضة للمزيد من التصور الذهني.(2) وقد لجأ السيد حسين نصر في توضيح هذا الأمر إلى المفردة الأرسطية وهي «الصورة» بوصفها تعبيراً قوياً في التعبير عن (ما بعد طبيعة) الفن، وقال في توضيح ذلك: إن هذا المشهد من الصورة ليس أمراً عارضاً للشيء، بل - في الحد الأدنى - هو ذلك الشيء في المرتبة المادية أو مظهراً لذاته. وبطبيعة الحال فإنه يمثل صورة انعكاس الواقعية المثالية للشيء وقنطرة للعبور نحو الجهة العليا، قبل أن تكون تذكيراً بالأمر المفتقر إلى الشكل والصورة. وفي قبال هذا الوصف يقع فهم الإنسان المتجدد للفن من وجهة نظر السيد حسين نصر، حيث تظهر من خلال كلمات خاطئة للانتزاع والانضمام. ففي التفكير الجديد يكون التفكير بمعناه الذهني شيئاً أهم من الصورة، ويتم فهم الصورة بوصفها حداً للشيء - خلافاً للرؤية التقليدية التي تعدّ العوالم الأسمى، ومن بينها عالم المثال ، أموراً انضمامية - والأمر الانضمامي هو نفس الأمور المادية والطبيعية نفسها. والنتيجة واضحة: إن القول بالتساوي بين الأشياء المادية والأمور الانضمامية، وبين المفاهيم الذهنية والأمور الانتزاعية، لا تؤثر على مجرد محو أهمية الصورة في قبال المادة في المرتبة المادية نفسها فحسب، بل تؤثر حتى

ص: 559


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 503
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 504.

على إزالة الاعتبار عن أهمية الأمور المادية والجسمانية بوصفها مصدراً من مصادر المعرفة» (1). يرى سماحة السيد حسين نصر أنه على الرغم من أن هذا المنهج قد يبدو في ظاهره مغايراً لمسار التظاهر والجعل المادي في المعرفة «بيد أنه في الواقع يمثل الوجه الآخر لهذه العملة ذاتها، فهما وجهان لعملة واحدة». إن هذه العبارة من السيد حسين نصر تذكر في الواقع بتوقف العالم الجديد في العالم المادي وإنكار أي نوع من العوالم العليا وهنا في الحقيقة نشاهد نوعين من التنزل، فمن ناحية نجد الظرفية الموجودة في مرتبة العالم المادي من طريق صورها - التي تروم العبور إلى العوالم الأسمى - تذهب في المحاق من خلال إرجاع تلك الصور إلى الأمور الذهنية والانتزاعية، ومن ناحية أخرى فإن الواقعية ذاتها من خلال فهم المادة بوصفها ساحة للانضمام - التي كانت قبل ذلك في الفهم الانتقالي تمثل أكثر المساحات انتزاعية - تتوقف في تلك المرتبة. وبعبارة أخرى في الفن الجديد يعد نسيان أهمية الصورة، وعد مساواة الانضمام والأمر المادي تأكيداً متزامناً على هذه الرؤية الأساسية تجاه العالم الجديد، وهو عدم وجود شيء آخر غير المادة. وفي الحقيقة فإن كل أثر فني يُخلق في العالم الجديد يعمل على تكرار هذه المعلومة على مسامع روح الإنسان المتجدد. وهذه هي ذات القدرة الكامنة في الفن والتي تحظى بأهمية بالغة من الناحية الارتباطية الموجودة حتى بين عموم الناس - وليس النخب وأهل العلم منهم فقط - والتي تعمل من ناحية أخرى إلى حدّ ما على نحو لا شعوري.

3 / 3 - جذور الفن الجديد في الفكر المسيحي

يذهب السيد حسين نصر بالبحث عن جذور الوضع الراهن للغرب - كما هو الحال في المساحة الفكرية والمعرفية - إلى ما قبل عصر النهضة والوضع السائد في الفكر المسيحي. ولا ينسى هذا المسار في ما يرتبط بقضية الفن أيضاً، بحيث إنه يعد صراحة أن النزعة العدمية في الغرب الحديث ترتبط بالوضع الخاص في الفن المسيحي، اذ يتم العمل على بيان المفاهيم على نحو إيجابي فقط.« إن العدمية

ص: 560


1- المصدر أعلاه، ص 507.

أو ال- (nihil) لم تحظ بأهميتها المعنوية في اللاهوت والفن المسيحي... إن الإنسان المتجدد إثر تمرده على المسيحية لم يجرّب العدمية إلا في بعدها السلبي والمرعب »(1). إن هذه الجملة على ما لها من الأهمية من حيث بحثها لوضع الفن في العالم الغربي، تحمل ذات الرؤية المتقدمة للسيد حسين نصر من حيث إنها تعكس الاعتقاد بالتأثير المباشر والفاعل للفن في صيرورة التاريخ والمجتمع ضمن موضوع خاص على نحو واضح جداً.

4 / 3- الفن والحياة اليومية

أما المسألة الأخرى التي تحوز بالغ الأهمية من وجهة نظر السيد حسين نصر، فتكمن في قطع الارتباط بين الفن والمعرفة في العالم الجديد، ففي السابق كانت الطبقات تجمع بين التعليم الفني في حقل الصناعات والتعليم المعنوي، ويمكن مشاهدة الأمثلة على ذلك في الأصناف الإسلامية وفي العصور الوسطى أيضاً.(2) إن هذه الأمثلة تذكر في الحقيقة بالتزامن بين خصوصيتين تطبيقيتين والاتصال الذاتي للفن بالمعرفة والعرفان في السنن، بيد أن كلا هذين النوعين من الارتباط قد أصابه التصدّع والانفصال في العالم الحديث إن الفن الجديد يأخذ طريقه إلى المتاحف بانسيابية ليشهد مخاضه هناك، وهذا يعني بوضوح الانفصال عن فائدته التطبيقية والعملية على أرض الواقع. كما أنه لا صلة له بأي وجه من الوجوه بالمعرفة بسبب الافتقار إلى بناء الذات وعدم تكرار النماذج العالمية، وكذلك فقدان الإدراك للصور.

5 / 3 - مرآتية الفن

أما الوجه الآخر المذكور للفن في الكلام الأول لهذا القسم، فهو أن بالإمكان عد الفن الجديد على أنه بمنزلة المرآة التي تظهر مسار الإنسان المعاصر، أو تاريخه الحديث بحسب الحقيقة والواقع. وقد ذكر في كتابات السيد حسين نصر لمثل هذا الوجه من الفن تقريرات ناظرة للتاريخ الغربي الحديث. من ذلك على سبيل

ص: 561


1- انظر: السید حسین نصر اسلام و تنكناهاي انسان متجدد ص 309 ترجمه إلى الفارسية: إن شاء الله رحمتي.
2- انظر: السيد حسین ،نصر معرفت و معنويت( المعرفة المعنوية)، ص 502

المثال أنه يرى في فصل (المنجزات الكارثية للنزعة الإنسانية) من كتابه (الدين ونظام الطبيعة) أن الفن في عصر النهضة يعكس صورة أمينة لغرور وتكبر الإنسان المعاصر وتكبره والذي يعود بجذوره في تصورات النزعة الإنسانية. (1)ويشير في كتابه (المعرفة والمعنوية) إلى أن الفن الذي ينتمي إلى عصر النهضة يحاكي النزعة الإنسانية لهذه النزعة بشكل مباشر.(2) وفي كتاب (الدين ونظام الطبيعة) هناك إشارة من السيد حسين نصر إلى فن الرسم في أوروبا وأنواع الأزياء بالنسبة إلى الملابس والثياب أيضاً، ويصفها بأنها تمثل تقليداً لمسخ الإنسان في دائرة النزعة الإنسانية تدريجياً. (3)فقديماً كان يتم تجسيم الشكل المسيحي للإنسان في وجهه وصورته الأزلية، وهو وجهه ما فوق البشري.« وفي مرحلة عصر النهضة اتخذ تجسيم الأشكال الدينية شكلاً تشبيهيا [شبيهاً بالإنسان الأرضي لا في الصورة الإلهية للإنسان] وهو أمر أدى إلى مزيد من تراتبية النزعة الطبيعية. وقد انتهى هذا التحوّل في نهاية المطاف بالقضاء الكامل والمبرم على صورة الإنسان في آثار بيكاسو وأتباع مدرسته. ومنذ ذلك الحين حتى هذه اللحظة ظهر فن منزوع الهوية تحت عنوان الفن التجريدي، حيث ينبثق من أسفل مستويات النفس البشرية، ويتجه في الغالب إلى عالم ما دون البشر. حتى وصل الأمر بفن الأزياء وزينة الثياب - بعد ظهور عصر النهضة - ليقضي على قداسة اللباس والساتر ولا سيما بالنسبة إلى ثياب الرجال وحلت محلها موضات لا تعبر عن غير التبختر وحب الظهور والغرائز الحيوانية وكل ما هو خارج عن الطبيعة القدسية والسماوية للإنسان لتؤدي في نهاية المطاف إلى التهتك والتفلت من القيم وكل ما من شأنه أن يراعي حرمة وكرامة جسم الإنسان ويستره».

4 - الإنسان

إن من بين الموضوعات التي لعبت دوراً محورياً في معرفة الغرب عند السيد حسین نصر، بل مثلت واحدة من هجماته العنيفة على الغرب هي معرفة الإنسان

ص: 562


1- انظر: السيد حسين نصر دين و نظام طبيعت، ص 341.
2- انظر: السيد حسین ،نصر معرفت و معنويت (المعرفة والمعنوية)، ص 329.
3- انظر: السيد حسين نصر دين ونظام طبيعت، ص 354.

من وجهة نظر الغرب الحديث والتفسير الجديد الذي يقدمه الغرب عن الإنسان.

وإن تعابير من قبيل: الإنسان البروميثيوسي(1) والإنسان الفاوستي(2) تمثل جانباً من هذه الهجمات العنيفة التي يوجهها السيد حسين نصر إلى العالم الغربي. وقد تم تخصيص فصلين من كتابيه (المعرفة والمعنوية )،و(الدين ونظام الطبيعة) وهما تحت عنوان: (الإنسان خليفة الله والإنسان المتمرد) و(المنجزات الكارثية للنزعة الإنسانية) لهذا الأمر. وما يرد في هذا الفصل يهدف في الغالب إلى البحث في رؤية السيد حسين نصر على أساس هذين الفصلين.

1 / 1 - خصائص الإنسان المعاصر

أولاً : الوجود المستقل والهوية الجديدة

إن الإنسان الحديث يمثل وجوداً مستقلاً لا تربطه أية وشيجة بمجمل عالم العصور الوسطى. إن دور (ديونيسوس)(3) الذي أضعف دور الملائكة في سلسلة مراتب الوجود يشكل أهمية في هذا الشأن من وجهة نظر السيد حسين نصر، ذلك لأنه: «بعد طرد من الملائكة العالم أصبح، الإنسان الجديد هو الكائن المدرك الوحيد على وجه الأرض. »(4)وبطبيعة الحال فإن هذا الإنسان لم يعد نصف ملاك ونصف إنسان، إنما هو دنيوي تماماً، وأخذ يشعر بالارتياح في موطنه الأرضي؛ إذ إن ما كان يشكل امتداداً لحياته اللاحقة

(التشبه بالملائكة) لم يعد له من وجود. يضاف إلى ذلك: «أن حب الدنيا أصبح أمراً طبيعياً بين أوساط البشر، في حين أصبح حب الآخرة - الذي كان متداولاً في مسيحية العصور الوسطى - موضع سخرية في الأوساط المعاصرة... إن الإنسان المتجدد من خلال نسيانه للنعيم والجنة التي كان يعتقد بها الناس في العصور

ص: 563


1- نسبة إلى (يروميثيوس) : تعد قصة (بروميثيوس) واحدة من أهم القصص في الميثولوجيا الغربية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وهي قصة ترمز لمضامين ودلالات هائلة في الفكر والتاريخ الغربي المعرب.
2- نسبة إلى (فاوست)، وقد تقدّمت ترجمته في هامش سابق. المعرب
3- ديونيسوس: يمثل في الميثولوجيا الإغريقية إله الخمر عند الإغريق القدماء وملهم طقوس الابتهاج والنشوة، ومن أشهر رموز الميثولوجيا الإغريقية، وتم إلحاقه بالأولمبيين الإثني عشر. أصوله غير محددة لليونانيين القدماء، ولكن يعتقد أنه من أصول (غير إغريقية) كما هو حال الآلهة آنذاك. وكان يعرف باسم (باكوس) أو (باخوس) أيضاً. المعرّب.
4- انظر: : السيد حسين نصر دين ونظام طبيعت، ص 329.

الوسطى، اكتشف عالماً جديداً كان يسميه عالم الدنيا»(1) . بيد أن هذا الإنسان الجديد لكي يشعر بالراحة في هذه الدنيا كان عليه أن يكتسب هوية ديدة، وحيث إنه لم يكن يرى ذاته على أساس الكمال في الجنة، ولم يكن يشعر بالفراق والحنين إليها، لم يجد بداً من إعادة تعريف نفسه على أساس خصائصه الجسدية والمادية.

ثانياً: النزعة الفردانية والنزعة العقلية للإنسان الحديث

أما الخصيصة الثانية الناشئة من هذا الوضع فهي النزعة الفردانية والنزعة العقلية لدى الإنسان، وكان هذا يعني أن الإنسان المعاصر يرى نفسه مختلفاً عن جميع أفراد البشرية مختلف العصور والحضارات السابقة .(2) وبطبيعة الحال فإن النزعة العقلانية من وجهة نظر السید حسین نصر في الوقت الذي تتغذى على النزعة الإنسانية لهذه المرحلة، إلا أنها كانت مدينة لاتجاهات مدرسة ابن رشد اللاتيتي أيضاً.(3) إن هذا الاستقلال في التفكير يمثل - من وجهة نظر السيد حسين نصر - الشاخص الأكبر في تيار الحداثة، بل وما بعد الحداثة أيضاً، وإن عصر التنوير بالتحديد يقوم على هذا المبنى أيضاً .(4)

ثالثاً: نزعة الشك والاكتشافات الجديدة

إن الخصيصة الثالثة الهامة جداً في النزعة الإنسانية لعصر النهضة الكامنة في صلب النزعة العقلانية للإنسان هي النزوع إلى الشك. إنها حالة تنطوي على شيء من المفارقة؛ إذ إنها من جهة تخالف الحصول على اليقين النسبي، ومن جهة أخرى تفرض نفسها وحضورها في دائرة العلم على نحو قاهر. وهذا هو الشيء الذي يرتبط به كثيرون في عصر النهضة ومن بينهم رينيه ديكارت أيضاً. إن نتيجة هذه النزعة إلى الشك لم تظهر - من وجهة نظر السيد حسين نصر - على شكل التردد في إمكان سيطرة وهيمنة الإنسان المعاصر على الدنيا، وإنما تجلت في شكل التشكيك في

ص: 564


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 329- 330
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 330.
3- انظر المصدر أعلاه، ص 331.
4- انظر: المصدر أعلاه.

إمكانية فهم الأصول والقواعد الغائية للحياة.(1) وإن هذا النزوع إلى الشك هو الذي شكل - من وجهة نظر السيد حسين نصر - حاضنة للاكتشافات العلمية الحديثة في الغرب، إلا أنه في المقابل جرد هذا الإنسان المكتشف من أي نوع من أنواع الرؤية القدسية في دائرة العلم والوجود(2) .

رابعاً: النزعة الطبيعية واعتبار الإنسان جزءاً من الطبيعة

الناحية الرابعة المنبثقة عن النزعة الإنسانية لعصر النهضة، تكمن في اكتشاف الإنسان بوصفه جزءاً من الطبيعة. وربما أمكن تسمية هذا الأمر بالنزعة الطبيعية، إلا أن المراد منها هو الاكتشاف المجدد للذة من مجرّد الطبيعة البحتة والصرفة، وليس الطبيعة بما هي انعكاس عن العوالم الأخرى، ومن ثَمَّ يمكن تسمية هذه الناحية بالنزوع إلى اللذة المفرطة، أو التخبّط في مستنقع الحواس المادية، أو إشباع الغرائز الجسدية وما شاكل ذلك.(3)

خامساً: الحرية الخصوصية الأهم

إن من بين أهم خصائص النزعة الإنسانية في عصر النهضة وما بعد عصر النهضة - من وجهة نظر السيد حسين نصر- هو المفهوم الجديد للحرية، ذلك إذ يقول في تعريفها:

«أن يكون بإمكان الإنسان أن يستقل عن أي عامل آخر في عالم الكائنات ».(4) هذا المفهوم قد عُدَّ قريناً للعقل، والأهم من ذلك أنه قد عُدَّ منشأ لعظمة الإنسان وتجبره. (5)

سادساً: تقدّم العمل على الوجود

إن العامل المكمّل لهذه الخصيصة هو تقديم العمل على الوجود، وهو ما قام به

ص: 565


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 332- 333
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 334
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 334 - 335
4- المصدر أعلاه، ص 336.
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 336- 337 .

أمثال (بيكو)، وهكذا فقد تم في الحقيقة قلب الرؤية التقليدية التي كانت تقوم على تأخر العمل على الوجود الإنساني. يرى السيد حسين نصر أن هذا العامل كما يُعدّ شاخصاً للإنسان الحديث كان له تأثير أعمق على تخريب الطبيعة، كما عمل على توجيه القوة المطلقة للحضارة الغربية إلى عالم الظاهر بشكل كامل.(1) وبطبيعة الحال يبدو أن بالإمكان عدّ هذا العامل ذاته تقريراً للنزعة الظاهرية في الحضارة الغربية، إلا أن السيد حسين نصر لا يشير إلى هذه النقطة (2).

سابعاً: التقدّم المتواصل والنزعة التاريخية

أما الخصوصية الأخرى التي يذكرها السيد حسين نصر للنزعة الإنسانية في عصر النهضة فهي النزعة التاريخية ومفهوم التطوّر المتواصل وإن هذه الناحية من وجهة نظره هي - بطبيعة الحال - حصيلة التأليف بين عاملين وهما: عامل تحول النظرية المسيحية بشأن الزمان إلى مسألة عرفية، والأخرى النزعة الإنسانية الحديثة.(3)

2 / 4 - معرفة جذور تبلور التصوير الجديد للإنسان

في رؤية عامة نجد أن الذي أدى إلى خلق صورة جديدة للإنسان يعود إلى مسار نفي القداسة عن المعرفة والحياة، أو من زاوية أخرى من حيث إن الإنسان يقوم دائماً على التصوير الإلهي، فإن إدراكه لله إذا أصيب بخلل واعوجاج، فإن هذا الخلل سینعكس بدوره على إدراكه لنفسه وذاته أيضاً، وإن المعرفة الإنسانية في عصر النهضة قد ترعرعت في ظل هذا المبنى.(4) كما أن هذا الوضع نفسه يعود بجذوره إلى مرحلة ما قبل عصر النهضة، حيث آلت السنة المسيحية إلى الضعف والضمور ويمكن العثور على تجليات هذا الضعف في الفصل المفرط بين الإنسان بوصفه موضع استقرار الوعي، أو (الأنا) وعالم الوجود بوصفه ال- « لا- أنا» أو مساحة من الواقعية

ص: 566


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 337
2- لا أنه لا يشير إلى النزعة الظاهرية في الحضارة الغربية، إنما يعمد إلى توصيف نزعتها الظاهرية بشكل آخر .
3- انظر: السيد حسين نصر دين ونظام طبيعت الدين) ونظام الطبيعة)، ص 335.
4- انظر: السيد حسین نصر، معرفت ومعنويت (المعرفة والمعنوية)، ص 329.

يكون الإنسان أجنبياً عنها»(1) . إن هذه الرؤية تعود بجذورها إلى الشرخ السابق الذي كان موجوداً في تاريخ الفكر الرسمي للمسيحية التي كانت تقول بالفصل بين الروح والجسد إلى حد كبير .

3/ 4 - ثلاثة مراحل من التصوير الجديد للإنسان

ينوّه السيد حسين نصر مشيراً إلى أن تاريخ الغرب وإن كان له امتداد محدد، بيد أنه يحتوي على مقاطع حدثت فيها اختلافات تدريجية في تصوير الإنسان الجديد. وبعبارة أخرى إن الإنسان في هذه المقاطع التاريخية بمنزلة لوحة رسم تبدأ من الخطوط العامة، وتظهير الصورة، إلى مرحلة اكتمالها بالتلوين، وبذلك يكون الإنسان الغربي قد قطع عبر تاريخه ثلاث مراحل في الحد الأدنى بالتدريج، وهي عبارة عن:

1 - مرحلة المواطنة، اذ أضحى الإنسان المسيحي بوصفه مواطناً، راضياً وسعيداً بحياته في هذا العالم، وتبدأ هذه المرحلة بالقرن الثالث عشر للميلاد (الإنسان بوصفه كائناً دنيوياً ومتفلتاً من الآخرة.)

2 - الإنسان بوصفه عبداً للآلة، وقد حدث ذلك في القرن الميلادي السابع عشر للميلاد ( حيث تقوم هذه المرحلة على الفهم الفيزيقي الديكارتي).

3 - الإنسان بوصفه إلهاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، أو الإنسان بوصفه أمراً غير ثابت وخالقاً لكل أمر ثابت في وجهه الذهني القائم على الفهم التاريخي ل-

(هيجل) و (فوير باخ) من خلال القول بتساوي الوعي المتناهي الإنساني والوعي اللامتناهي،أو امتزاج الوعي اللامتناهي في الشكل المنبثق عن الذهن اللامتناهي للإنسان .ويرى سماحة السيد حسين نصر أن هذه الصور الثلاثة لا زالت مستمرة حتى هذه اللحظة (2).

ص: 567


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 330
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 331 - 333.

5 - الدين

1 / 5 - اللادين والتدين الغربي

لقد فتح السيد حسين نصر في كتابه الشباب المسلم والعالم المتجدد) فصلاً مستقلاً تحت عنوان الدين) في الغرب المعاصر). وقد نوّه السيد حسين نصر في هذا الفصل إلى وجوب عدم تصور أن العالم الغربي برمته مسيحي، أو أن جميع الغربيين ملحدون أو ماديون. بل لا يزال هناك كثير منهم - على الرغم من التأثير الحاسم لعصر النهضة - في بداية مسار ضعف وخمود العقائد الدينية «من يحمل تراث المسيحية واليهودية، وإن كانوا ليسوا مسيحيين أو يهوداً بالمعنى الدقيق للكلمة». (1)وهذا لا يعني عدم تشرّع المتدينين، الغربيين ، بل بمعنى أن الغرب الجديد - خلافاً للعصور الوسطى حيث اتخذت شكلها الحضاري في تلك المرحلة من خلال سيادة القراءة الكاثوليكية للمسيحية - أخذ يشهد بالتدريج حضارة جديدة تعارض في بعض أنحائها هيمنة الدين بالكامل، ولا سيما بشكلها القروسطي والمسيحي، ومن ناحية أخرى اتخذت شكل ردة فعل متمثلة بالمسيحية البروتستانتية أو نهضة الإصلاح الديني.

2 / 5 - الاستقطاب الكنسي (الكاثوليك والبروتستانت)

إن الحركة البروتستانتية الدينية التي تبلورت من خلال معارضتها لمرجعية البابا والتفسير الكاثوليكي للدين لم تتعرض إلى الإعراب عن نفسها من الناحية الإثباتية ،كمرجعية وسرعان ما تعرّضت إلى الكثير من الانشقاقات، ولا تزال هذه الانشقاقات مستمرة في أقصى نقاط أمريكا وأوروبا أيضاً. من هنا فقد تبلور تيار رئيس بين الفضاء البروتستانتي والكاثوليكي في العالم الغربي. إن الكنيستين اللتين كانت إحداهما تؤكد على الناحية الشعائرية من الدين، في حين تؤكد الأخرى على المسؤولية الاجتماعية والعمل الفردي، والارتباط المباشر مع الله، إن هاتين الكنيستين اللتين خاضتا أكبر الحروب فيما بينهما، ولا سيما في القرن السابع عشر

ص: 568


1- انظر: السيد حسين نصر دنياي جوان مسلمان ودنياي متجدد (الشباب المسلم والعالم المتجدد) ص 298،ترجمه إلى الفارسية : مرتضى أسعدي، الطبعة الرابعة نشر طرح نو، 1382 ه- ش

والثامن عشر للميلاد، آل الأمر بهما في المرحلة المعاصرة إلى التأكيد على ضرورة قيام الصلح والسلام بين المذهبين كما شهدنا ظهور التيارات المسالمة من رحم هذين المذهبين المتطاحنين هذا من جهة، ومن جهة أخرى سعى كل واحد من هذين المذهبين إلى العمل على إصلاح نفسه بما يتناسب وتلبية مقتضيات المرحلة الجديدة، حيث قامت الكنيسة الكاثولية بعد ألف سنة بالتخلي عن لغتها اللاتينية الرسمية، وسمحت بأن تحل اللغات المحلية الأخرى محلها. وهذا الأمر يعبر بدوره عن الصراع المحتدم داخل الكنيسة الكاثولية اذ كانت تؤكد من جهة على التقاليد والتفاسير القديمة للكنيسة الكاثوليكية، في حين كان يصر الطرف الآخر على النزعة التجديدية والإصلاح، ويعبر في الوقت نفسه أن الكنيسة الكاثوليكة عرضة للانشقاق والتحريف المتزايد للمنتوجات الفكرية والعلمية للعالم الحديث. والناحية الأخيرة تمثل - من وجهة نظر السيد حسين نصر - المفهوم الناسوتي والنزعة الدنيوية للتعاليم المعنوية للمسيحية. كما أننا نشاهد في البروتستانتية نوعين من الاستقطاب يعبران بدورهما عن الدنيوية المتزايدة والمتسارعة للدين في الغرب الحديث أيضا، فمن جهة نرى اتجاهات وكنائس في المذهب البروتستانتي لا تعتقد بموارد من قبيل الولادة الإعجازية للسيد المسيح عيسى - عليه السلام - وعذرية أمه السيدة مريم - عليها السلام - والمعاد الجسماني والكثير من التعاليم الأخرى التي كانت في يوم ما جزءاً من مسلمات العقيدة المسيحية. ومن جهة أخرى تتجلى في الدعوة المخلصة إلى ألفاظ الكتاب المقدس والتدين القائم على رعاية الموضوعات الأخلاقية في إطار تيار شديد التديّن ومن الواضح أن هذه الناحية تمثل - من وجهة نظر السيد حسين نصر - تمثل في الحقيقة تعبيراً آخر عن دنيوية الدين في العالم الغربي. إن الإيمان الجاف وغير المرن والخالي من التفسيرات التأويلية تجاه العالم والتعاليم الدينية لا يستطيع أن يؤدي إلى غير الأصولية الدينية بمفهومها السلبي.

5/3 - الدنيوية البروتستانتية المتطرّفة

يذهب السيد حسين نصر إلى الاعتقاد الى أن البروتستانتية كانت أكثر من حالة

ص: 569

دنيوية، بل كانت هي المتماهية والممهدة للغرب، وفي الحقيقة فإن الانشعابات المذكورة تمثل خير شاهد على تقبّل روح النزعة الفردانية في هذا المذهب، وأنها نتيجة للتأكيدات الكثيرة في المجادلات الألمانية حول حرية إرادة الإنسان ولاسيما بعد عصر ( مارتن لوثر) على يد التيارات البروتستانتية (1).

4 / 5 - دنيوية الدين من خلال تسخير الكلام المسيحي

يرى سماحة السيد حسين نصر أن المساحة الدنيوية لا تنحصر بإخراج الدين من التصدّي وهداية مختلف الأنظمة الاجتماعية والسياسية وحتى الفلسفية والعلمية(2) وإنما الدين ذاته - بصرف النظر عن فقدانه لمساحة حاكميته وحضاريته - قد تعرض إلى التحوّل الدنيوي من الداخل. وبعبارة أخرى إن الهزات الارتدادية الناجمة عن الحداثة قد هزّت حتى دعائم الكنيسة نفسها، وإن انعزال الكنيسة وانسحابها من الحياة العامة، لم يحفظ لصاحب البيت الغربي القديم حرمته وكرامته والمثال البارز الذي يذكره السيد حسين نصر في هذا الشأن في حقل علم الكلام الذي كانت حتى الأمس القريب قائماً على نحو طبيعي في المنطقة المحافظة للمسيحية، أما اليوم فنجد مناورات في هذه الحلبة حتى لأيديولوجيات لا أدرية أو إلحادية أيضاً.(3) والمسألة الهامة من وجهة نظر السيد حسين نصر هي أن الكلام في المسيحية - خلافاً للإسلام الذي يضع الفقه في مركز اهتمامه - يحظى بأهمية محورية، بحيث إن المنظومة الفكرية في الدين المسيحي برمتها مرتبطة بالكلام، وإن النكوص والانسحاب المذكور آنفاً يعني تراجعاً شديداً للدين من صلب الحياة في أعمق معانيها، بحيث أدى الوضع إلى ظهور حتى الماركسية ونظرية التكامل وأصل الأنواع لدارون على قشرة الكلام المسيحي في مختلف الأطر ، من قبيل: حركة موت الإله، واللاهوت التحررية وما إلى ذلك.(4)

ص: 570


1- انظر: السید حسین نصر دين و نظام طبیعت (الدين ونظام الطبيعة)، ص 341.
2- هناك في الصفحة رقم 206 من كتاب السيد حسين نصر جوان مسلمان ودنياي متجدد إشارة إلى هذه المساحات.
3- انظر: السيد حسين نصر دين ونظام طبيعت (الدين ونظام الطبيعة)، ص 341.
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 207

5 / 5 - بقايا المسيحية القديمة في العالم الجديد

يذهب السيد حسين نصر- بطبيعة الحال- إلى الاعتقاد بأن كل ما نراه حالياً من الفضائل والأخلاقية والسجايا الإنسانية، إنما هو من رواسب ذلك التراث المسيحي المتبقي حتى الآن في الفضاء الغربي العام.(1)

6 - العلم

1 / 6 - أسباب الظهور

يذكر سماحة السيد حسين نصر أسباب ظهور العلم الحديث في الرقعة التي يحتلها العالم الغربي من الجغرافيا، في العوامل الآتية:

- ضمور البعد الحكمي من المسيحية، وعدم التأكيد على الأهمية المثالية للعالم.

-ظهور نوع من المذهب العقلي الممزوج بالنظريات التومائية.(2)

-هيمنة أصالة التسمية في نهاية العصور الوسطى.

-أفول الفلسفة المسيحية في هذه المرحلة.

-وأخيراً النزعة الإنسانية بوصفها أهم العوامل التي أدت إلى هذه الظاهرة(3) .

يرى السيد حسين نصر أن عصر النهضة وإن شكل بداية للتخلي والانفصال الرسمي عن العلوم السابقة، ولكن ينبغي عدم التصوّر بأن هذه هي الفترة التي ظهرت فيها هذه العلوم على وجهها الأتم ، بل إن الثورة العلمية التي حدثت في القرون اللاحقة قد جاءت بعد المرحلة الوسيطة من عصر النهضة، والتي كانت لا تزال تحمل امتدادات الآراء العلمية القديمة في صلبها.(4) لقد كانت مرحلة ما قبل

ص: 571


1- انظر: المصدر أعلاه.
2- نسبة إلى القديس توما الأكويني.
3- انظر: السيد حسین نصر دين ونظام طبيعت (الدين ونظام الطبيعة)، ص 255.
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 256

الثورة العلمية والصناعية مرحلة مفعمة بالاعوجاج، وهو أمر أدى إلى ظهور مقدمات لتبلور العلوم الجديدة. ففي هذه المرحلة على الرغم من شيوع المذهب الهرميسي- الذي يحتوي من وجهة نظر السيد حسين نصر على ظرفية كبيرة بالقياس إلى سائر الاتجاهات الباطنية والمعنوية - ولكن حيث كان هذا المذهب مفتقراً إلى الأصول الميتافيزيقية ذات المغزى، فقد تمكن من مجرد القضاء على الرؤية الأرسطية بوصفه منافساً قاهراً لها. وحتى الطبقة المعمارية - الفنية التي كانت لها في تلك المرحلة نظرياتها بشأن الطبيعة كانت تعمل على المزيد من الترويج للعملة الأرسطية التي لم يعد هناك من يتعامل بها في سوق التداول الفكري. إلا أن هذه الآراء التي تقدمت حتى القرن السادس عشر للميلاد، وجدت ما يحل محلها ولم يكن هذا سوى الرؤية الآلية إلى الطبيعة في الآراء السابقة، حتى في مرحلة عصر النهضة كان ينظر إلى الطبيعة بوصفها كائناً ذا شعور، وأما الآن حيث يُنظر إلى الطبيعة بوصفها كائناً غير ذي ،شعور، فقد أخذ يعتبر في الحد الأقصى مسرحاً لتحمل القوانين المفروضة عليه من قبل كائن ذي شعور اسمه الله. والنقطة الهامة في هذه الرؤية أنها كانت ترى شرخاً وانفصالا تامّاً بين الخالق والمخلوق.(1) إن هذه الازدواجية ترتبط بازدواجية أخرى نراها في نسبة الإنسان إلى الطبيعة، أي الإزدواجية بين الذهن والمادة في فلسفة ديكارت وإسبينوزا، وأضحت حتى صورة للمسألة بالنسبة إلى المفكرين في المراحل اللاحقة أيضاً. إن مفهوم قانون الطبيعة قد تجلى - من وجهة نظر السيد حسين نصر - في مثل هذه الظروف، اذ أضحت من قبيل القوانين التي يمكن فهمها بالعقل البشري، بل أصبح بإمكان البشر بنحو من الأنحاء أن يكون واضعا لها في هذه الرؤية - خلافاً للتصورات الدينية - لم يكن هناك بالضرورة توافق خاص بين القوانين الناظرة إلى الطبيعة والقوانين الناظرة إلى الإنسان في إطار الشريعة والدين. بيد أن عد القوانين الطبيعية مسألة رياضية شكل الخطوة التالية لتبلور العلوم الجديدة.(2) ومنذ ذلك الحين أضحى الكون منظما ومتناسقا، ولم تعد السماوات والطبيعة مرتعاً للملائكة أو أي قوّة روحية أو معنوية، ومن هنا كان الذي يحكم هذا الجوهر الواحد هو النسب والأعداد وحدها من دون الكيفيات. وكان باستطاعة قواعد نيوتن الجارية في الأرض

ص: 572


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 256 257
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 260 261 .

أن تفسر لنا جميع ظواهر العالم، وأن تحل نظمه الآلي بلغة رياضية.(1) يذهب السيد حسین نصر إلى عدم وجود مدخلية ل- (بيكون) ومنهجه الاستقرائي في إبداع الآراء العلمية الجديدة؛ وذلك لأن حقيقة الأمر والجهود العلمية لم تتبع توصيات (بيكون) في الكشف عن القواعد العلمية أبداً، بيد أن الذي يجعل هذا الاسم هاماً ولامعاً هو تعريفه الجديد للعلم بوصفه بحثاً من أجل السيطرة على الطبيعة واكتساب القدرة، بالإضافة إلى المقبولية التي يتمتع بها هذا التعريف (2) . وفيما يتعلق برياضية العلوم الجديدة يذهب السيد حسين نصر بدوره إلى اعتبار(غاليليو) مقدّماً حتى على (ديكارت)؛ إذ إنه كان يعد كتاب الطبيعة كتاباً رياضياً، وكان يخرج عنها أي كيفية غير رياضية من اللون والرائحة والمواد الأخرى.(3) ومن هنا فإن محاكمته لم تكن رمزاً لانتصار العقل على التعصب الديني الأعمى، بل هي رمز لانتصار الإدراك الكمّي للطبيعي بالكامل على إدراكها الكيفي. وإن أشخاصاً من أمثال: (كوبلر) و(ديكارت) وحتى ( جيلبرت) رغم أنهم كانوا يتمتعون بتوجهات لم تكن بحسب الظاهر لتنسجم مع توجهات العلوم الجديدة بالكامل، إلا أن أعمالهم في نهاية المطاف كانت تسلك ذات المسير والإنتاج الكمي للواقعية وإرجاع العلم إلى المساحة الرياضية. وفي نهاية المطاف كان (نيوتن) هو الذي تمكن من صياغة جميع التراث الواصل من المتقدمين في قالب يعرف حتى هذه اللحظة بوصفه الوجه المعروف والمعهود للعلم الغربي الحديث. وبطبيعة الحال يبدو أن نيوتن كان له هواجسه المخالفة لهذا المسار بحسب الظاهر، الأمر الذي لم يحظ بالاهتمام الكافي من قبل أتباعه اللاحقين، بل تم تعميم رؤيته الميكانيكية القائمة وبسطها على الرياضيات في الفيزياء إلى سائر فروع .العلم. وقد عمد السيد حسين نصر إلى ذكر أسماء علماء وحقول علمية تعود إلى القرن الثامن عشر للميلاد وما بعده من الذين قاوموا الرؤية الميكانيكية إلى حد كبير، وسعوا إلى الحفاظ على الرؤية القائلة بسلسلة المراتب في صلب التحولات العلمية

ص: 573


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 263.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 264 - 265.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 267- 268 .

الجديدة، بيد أنهم بطبيعة الحال لم يحالفهم الحظ والنجاح على المستوى العام.(1) ويرى السيد حسين نصر أن ظهور نظريات - من قبيل: النسبية والكم في الفيزياء - رغم إحداثها تحولاً في نظام (نيوتن) الجامع، إلا أنه واصل الحفاظ على أهم عناصره - أي جعل العالم رياضياً - بل حتى التحولات التي ظهرت على الآراء العلمية بواسطة هذه النظريات، تمثل بنحو من الأنحاء استمراراً لمسار الثورة العلمية بعد عصر النهضة. إن ركام النظريات الجديدة وكذلك سيل الأنظمة الجارف في سعيه إلى التلفيق بين الآراء العلمية والفيزياء الحديثة، كان بحيث يستدعي لوازم من قبيل: عدم إمكان معرفة الواقع أو حتمية بعض الإدراكات للعالم، ومن شأن هذا الأمر - بطبيعة الحال أن يكون في غاية الأهمية من حيث مداليل العلم الجديد،(2) وقد ظهر امتداد هذه الآراء في العلوم الإنسانيةوالاجتماعية بشكل رئيس في إطار المذهب الوضعي الذي سعى إلى الاستفادة من الأساليب التجريبية لعلم الفيزياء في الكشف عن الطبیعة في المساحات المذكورة، تحت ذريعة أنه الصيغة العلمية الوحيدة المعتبرة. وبطبيعة الحال فإن المخالفات، حتى أنواع الإبطال الفلسفي للوضعية لم يؤدّ من الناحية العملية إلى انحسار ظل هذا النوع من التفكير في العلوم الغربية. يذهب سماحة السيد حسين نصر إلى الاعتقاد بأن المذهب الوضعي وحتى حقله المنطقي، قائم في صلب فيزياء نيوتن التي تمثل الصورة الغالبة للعلم المعاصر، وهو يمثل الحد الأقصى من البيان الفلسفي للأمر الموجود وهي الفلسفة التي كانت تعمل ضد فلسفة الوجود،وقطع الجذور الميتافيزيقية للفيزياء، وهو أمر سبق له أن ظهر في التعبير المجمل ل- (كانت) في تفريقه بين الظاهرة والمظهر على النحو الفلسفي واتخذ على يد أتباع (كانت) شكل المدرسة الفلسفية المتمثلة بالمذهب الوضعي .(3)

3 / 6 - النتائج العينية للعلوم الجديدة

فيما يتعلق بالنتائج العينية للعلوم الغربية التي تجلت بشكل رئيس في إطار

ص: 574


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 280 - 281
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 286 - 291
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 294.

التكنولوجيا الحديثة، يتعرّض السيد حسين نصر إلى مطالب متمركزة تارة ومبعثرة تارة أخرى، وعلى رأسها أزمة البيئة. وقد تعرّض السيد حسين نصر في كتابه (الإنسان والطبيعة) بشكل مباشر إلى هذه المسألة من مختلف الجوانب، وخاض حتى في المباني والأسس المعرفية المنتجة لمثل هذه الوضعية. كما أن بعض الموارد الأخرى، من قبيل: إيجاد حالة الاغتراب بين الإنسان والعمل، وتوفير قدرة السيطرة على ضعاف الأشخاص الذين لا يمتلكون شيئاً من هذه القدرة، ولا سيما في إطار تقنية التواصل الحديثة، ولا سيما ضخ العقائد والآراء ونمط الحياة الغربية من طرف واحد إلى العالم غير الغربي،(1) وأزمة الطاقة وكذلك عجز العلوم الجديدة الواضح في حل بعض المسائل والأمور البسيطة، في الوقت الذي تعمل على تقديم الحلول لأدق التفاصيل الاستثنائية في مختلف العلوم والفنون التي تحوّلت إلى شبكة لا متناهية من العقد والمتاهات، كل هذه الأمور هي من جملة النتائج العينية الأخرى الناجمة عن تطبيق العلوم الجديدة.(2)

7 - طريقة الحياة :

1 / 7 - أهمية طريقة الحياة

يرى السيد حسين نصر أن البحث بشأن نمط الحياة الغربية وأسلوبها يرقى إلى الأهمية نفسها التي يحظى بها البحث عن المبادئ الفلسفية والكلامية والعلمية للغرب الحديث؛ إذ إن أسلوب الحياة الغربية بمنزلة المتمم لهذه الأمور،(3) ويتجلى في مقام العينية الخارجية رغم عدم مطابقته لتلك المباني ، ولكن في إطار نمط الحياة، وتعرض الحياة المعنوية للخطر المباشر.(4) وبطبيعة الحال هناك زاوية أخرى تضفي

ص: 575


1- السيد حسین نصر، اسلام و تنگناهاي انسان متجدد ص 345 ترجمه إلى الفارسية إن شاء الله رحمتي، دفتر بجوهشي ونشر سهروردي ، الطبعة الأولى، 1383 ه- ش .
2- انظر: السيد حسین نصر، نیاز به علم مقدس، ص 138 - 139 و 142 - 143 ، ترجمه إلى الفارسية: حسن ميانداري نشر: مؤسسه فرهنكي طه الطبعة الأولى، 1378 ه- ش.
3- انظر: السيد حسين ،نصر دنياي جوان مسلمان و دنياي متجدد الشباب المسلم والعالم المتجدد)ص 339 ترجمه إلى الفارسية : مرتضى أسعدي، الطبعة الرابعة نشر طرح نو، 1382 ه- ش
4- انظر: المصدر أعلاه، ص 330

أهمية على البحث عن نمط الحياة الغربية، وهي زاوية الحجم الكمّي للتأثير الذي يجعل من هذا الأسلوب في مواجهة سائر الثقافات غير الغربية بل حتى الإسلامية على الجموع الغفيرة من الناس، ولا سيما فئة الشباب منهم . يؤكد السيد حسين نصر بوضوح على هذه الناحية من مواجهة العالم الغربي للعالم الشرقي من دون قصد منه إلى التقليل من دور العوامل الفكرية والفلسفية (1).

2 / 7 - وجوه الحياة الجديدة

وعلى هذا الأساس فقد عمد سماحة السيد حسين نصر إلى إفراد فصل مستقل من كتابه (الشباب المسلم والعالم المتجدد) البحث هذه المسألة، وبادر فيه إلى ذكر جملة من مظاهر الحياة الجديدة وجانب من أسبابها أو تأثيراتها. ويمكن لنا الإشارة من بين هذه الأمور إلى الانقلاب الجنسي، والرياضة والحياة في اللحظة الراهنة، والبحث عن المعنى والمفهوم في مجاورة الأديان التي تظهر في كل لحظة، والتأثير الخاص لوسائل الإعلام، ونفي الثبات والاستمرار في الحياة، وكذلك السرعة والسفر .

3 / 7 - المثل الأعلى في الحياة الغربية

كما أن التذكير بتنويه سماحته الدقيق القائم على تجلي المثل الأعلى والأتم للحياة الغربية في طريقة ونمط الحياة الأمريكية - بحيث نجد حتى الأوروبيين الذين يمثلون مهد العالم الجديد يطالبون من هذه الناحية بنمط الحياة الأمريكية - لا يخلو من الدقة وربما أمكن بيان كثير من الوجوه من قبيل النزعة العملية حتى في التضاعيف الفكرية لأمريكا (2) في توضيح هذه الوضعية، بيد أن السيد حسين نصر لا يذكر تعليلاً في هذا الشأن، وإنما يكتفي بالإشارة إلى أصل الموضوع.

ص: 576


1- السید حسین نصر، اسلام و تنكناهاي انسان متجدد، ص 346 - 347.
2- من قبيل ظهور البراغماتية فى القارة الأمريكية.

4 / 7 - بعض وجوه الأسلوب الجديد

أولا: الثورة الجنسية

يرى سماحة السيد حسين نصر أن المرحلة المعاصرة للغرب هي المرحلة التي يشكك فيها حتى كثير من المتدينين بالأخلاق الجنسية الدينية والتقليدية، وأنه لولا الخوف من أمراض من قبيل (الإيدز) لبلغ الانفلات في العلاقات الجنسية إلى مديات تفوق الحالة الراهنة. وعلى الرغم من وجود كثير من الأسر في المجتمعات الغربية التي تهتم - بتأثير من الأفكار المسيحية واليهودية - بالحفاظ على أسس الأسرة، بيد أن الغرب مع ذلك يسير بوضوح نحو الأفول والزوال. إن هذا الوضع هو نتيجة الأمر يطلق عليه السيد حسین نصر مصطلح (کشف الجسد) الذي يجب عده تباعاً هزة ارتدادية لوضع النزعة الإنسانية التي سادت الغرب الحديث إلى جانب تنكره لجميع الجوانب والأبعاد الإنسانية المتعالية والماورائية. (1)وفي الحقيقة فإنه عندما يعمد (ليوناردو دا فينتشي إلى تشريح الجسد الإنسان بمشرط ميكانيكي، ويقوم الديكارتيون بالتعبير عن الجسم بوصفهة آلة بيد الإنسان لا يعود بالإمكان أن نتوقع من الغرب أن يعدّ الجسم والروح بوصفه الماهية الإعجازية للجسم أو الخلق على الصورة الإلهية، بل إنه في الظروف التي يذهب فيها كل إنسان إلى وجود علاقة مباشرة مع الجسم، فإن الافتقار إلى تلك التوجهات بالإضافة إلى القول بتلك العلاقة المباشرة، سيؤدي لا محالة إلى الاهتمام بالجسم - هذه المرة - بمعناه الفيزيقي البحت، وسوف تكون الحرية المنفلتة - التي تجلى جانب منها في الدائرة الجنسية - واحدة من نتائج هذه المسألة (2).

ثانياً: الرياضة

أما الوجه الآخر لعملة الكشف المجدد للجسد فيكمن في عبادته في إطار

ص: 577


1- انظر: السيد حسين نصر دنياي جوان مسلمان ودنياي متجدد الشباب المسلم والعالم المتجدد)، 334 السید حسین نصر، دین و نظام طبیعت (الدين ونظام الطبيعة)، ص .487
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 452 - 454.

الرياضات والمباريات البطولية والتركيز المفرط على تربية الجسد، وهذا لايعني ذم الرياضة، بل نعني به أن العالم الغربي أخذ ينظر إلى التربية البدنية والرياضة - علاوة على الناحية المادية والربحية - بوصفها نوعاً من الدين أو بديلاً عن الدين.(1) يضاف إلى ذلك أن تقديس الرياضيين، والتأكيد على الحركات الجسدية، والأصوات العالية، والألوان الصارخة تمثل بأجمعها جوانب أخرى من الحياة اليومية المعاصرة (2) .

ثالثاً: البحث عن مفهوم الأديان المختلقة

ربما أمكن لبعضهم مناقشة مسألة انتشار ظاهرة المخدرات والمشروبات الكحولية بوصفها تلبية لحاجة المعنى المفقود في حياة الإنسان المعاصر، بيد أن هذا الشعور بالفقدان قد ترك تأثيرات أخرى على حياة الإنسان الغربي الجديد وقلما أمكن تناول هذه الظاهرة بالنقاش. فإن مسألة اللجوء إلى المعنويات حتى إذا كانت من قبيل المعنويات المنحولة والمختلقة في إطار الأديان الوهمية التي هي من مختلقات اللحظة في الحياة اليومية في الغرب، لا يمكن لأي شخص أن ينكرها حالياً. واضح أن هذا لا يعني الإيجابية الكاملة لهذه الظاهرة، بل إن الناحية السلبية من هذه الظاهرة تكمن في البحث عن المعنى بشكله الموهوم الذي لا يقوم يقوم على أساس؛ حيث يتجلى بالتشبث بالأديان الجديدة أوتوسيع نطاق التأويلات النفسية للمفاهيم المتعالية في الأديان التقليدية في عرض المذاهب العدمية والنسبية والمتجاوزة للنصوص الغربية المتكثرة .(3)

رابعاً: السرعة والسفر

أما التجلي الآخر لعدم الاستقرار والثبات في نمط الحياة الغربية، فيكمن في ثقافة السفر والتجوال حول العالم، وكذلك ثقافة السرعة والعجلة. لا ينبغي تصور وجود قصد أو هدف من وراء هذه الثقافة، أو أن الهدف هو التسريع والتعجيل بالوصول

ص: 578


1- انظر: السيد حسين نصر دنياي جوان مسلمان ودنياي متجدد الشباب المسلم والعالم المتجدد)، ص 334.
2- انظر: السيد حسين نصر دين ونظام طبيعت الدين) ونظام الطبيعة)، ص 456.
3- انظر: السيد حسین نصر دنياي جوان مسلمان و دنياي متجدد( الشباب المسلم والعالم المتجدد)، ص 337.

إلى ذلك الهدف، بل إن كلا هذين الأمرين هما الغاية والهدف، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية.(1) إن الإنسان المعاصر حيث يسعى من خلال السفر إلى اكتشاف المناطق الجديدة، وحيث يتحدّث عن الكشف عن الأسرار أو الشعور بالحاجة إلى رؤية الأماكن والبلدان الأخرى، إنما يأتي حديثه هذا في إطار أن الكشف عن الأمور ما فوق الطبيعية - في الوقت الذي تم التخلي عن الأمور ما فوق الطبيعية - لا يمكن إلا من خلال الطبيعة والحياة الأرضية. بعبارة أخرى: إن الظمأ الباطني إلى اكتشاف المجاهيل في الحياة الغربية المعاصرة لن يتحقق إلا بشأن الأماكن أو التواريخ المتقاطعة.« إن السر المعنوي المفقود قد تجسّد الآن على صورة سرّ الطبيعة، ومن ثم فإنه- نتيجة لفقدان الفتح المعنوي قد خلق شعوراً بفتح القمم المجهولة»(2).

د - الدراسات النقدية

تبويب الانتقادات

يمكن لنا في تبويب ما أن نرصد عدداً من المواقف التي أبداها الناقدون للسيد حسین نصر. فمن بينها الموضع الحداثي وما بعد الحداثي، ومن بينها الموقف الإسلامي بل حتى الثوري في نقد السيد حسين نصر ، وفي هذا الموقف يمكن الإشارة إلى الخطوط الرئيسة الآتية؛ فهناك من نظر إلى السلوك الشخصي للسيد حسين نصر من قبيل: تعاملة مع النظام الاستبدادي العميل للاستعمار (النظام البهلوي)، وذلك في مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية بل وما بعدها وإن على نطاق ضيق، إلى جانب قلة حديثه عن الثورة أو عدم التعاطف بعها بالشكل المناسب، وفي هذا المناخ يمكن إدراج هذا الموقف في دائرة بحث الفكر السياسي للسيد حسين نصر. أما الخط الآخر فينظر إلى التشكيك في قوة ورصانة آراء السيد حسين نصر أو نزعته التقليدية للدخول الفاعل إلى مساحة التحدي والمواجهة مع الغرب الجديد في بناء عالم حديث وقائم على الثقافة الدينية. وقد ذهب بعضهم إلى الخوض في النزعة التقليدية لنصر

ص: 579


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 330 -331 .
2- انظر: السيد حسين نصر، إنسان وطبیعت( بحران معنوي انسان متجدد)، ص 10.

في الاهتمام بجميع الأديان وبيان التعددية بالنسبة إلى النزعة التقليدية أو شخص السيد حسين نصر. كما تم التعرّض إلى موارد أخرى من قبيل: الاتجاهات الصوفية والعرفانية للسيد حسين نصر، وتعريضها لهجوم صاخب أو هادئ. وبطبيعة الحال فإن أكثر الذين أبدوا رأيهم بشأن السيد حسين نصر إنما جعلوا الاتجاه التقليدي له في مركز نقدهم، وبحثوا عن نجاح هذه الآراء في توصيفاته. من هنا فإن مسألة رؤية السيد حسين نصر إلى الغرب فضلا عن دراستها من هذا المنطلق على نحو ثانوي، ولكنها من حيث التحدي الذي تمثله نسبتنا إلى الغرب تبدو مضاعفة في الدراسات الانتقادية الناظرة إلى أعماله وآثاره. وعلى كل حال فإن سعينا هنا سوف يتلخص في تجنب الخروج عن موضوع المقالة، ولذلك سوف يتم تخفيف التركيز على الجوانب الانتقادية الناظرة إلى النزعة التقليدية، إلا من حيث النسبة التي تربطها بمعرفة الغرب، حيث لن يكون هناك بد من الخوض في هذه الناحية. وسوف نذكر في أثناء البحث بعض الأسماء الواردة في انتقاداته، ونعمل على بحثها وتقييمها إجمالاً.

الإجابة عن أهم الانتقادات

الدكتور عبد الله نصري تعرّض في كتابه (المواجهة مع التجدد) إلى دراسة أفكار السيد حسين نصر. وكان من بين الأمور التي أكد عليها هي الأمور الآتية:

1 - لقد قبل السيد حسين نصر بالحداثة (ولا سيما ضمن معطياتها التقنية والحضارية)، وعمد إلى نقد النزعة الحداثوية بوصفها عقيدة.

يمكن القول في إطار هذا النقد : إن الحداثة - كما يقرّ الدكتور نصري - هي أكثر من المعطيات التقنية والحضارية، بل هي تيار اجتماعي وحضاري، وإن القبول بها من قبل الناقدين لا ينبثق من التفكيك بين المعتقدات الحداثوية ومعطياتها، وإنما من حيث إن هذه الحضارة قد اكتسبت صبغة عالمية واكتسحت جميع البقاع حتى لم تبق فسحة خلفية. وبعبارة أخرى: إن هذا النوع من القبول هو من قبيل القبول بالأمر الواقع والإلزام العملي، وليس من قبيل الموافقة والانسجام النظري، والفرق بين

ص: 580

الأمرين في غاية الوضوح، إذن لم يحصل في البين تفكيك أو فصل على المستوى النظري. مع التذكير بهذه النقطةوهي أن ظهور العالم الحديث، يعود إلى أكثر من رؤية واحدة بحتة. وبعبارة أخرى: يجب أن نعد دائرة الحداثة أوسع من كونها مجرد رؤية كونية صرفة، وبطبيعة الحال يمكن النقاش في أصل هذا الإطلاق أيضاً.

2 - التشكيك في إمكانية أن تكون النزعة التقليدية بديلاً عن العالم الحديث، بل

يقوم الا الادعاء ، على أن فقدانها وغيابها هو الذي أدى إلى ظهور العالم الحديث، وهذا لا

ينسجم مع المسارات التي تقول بإطلاق النزعة التقليدية من قبل السيد حسين نصر واعتبار أي أمر تقليدي بوصفه أمراً مطلوباً وحسناً.

إن الإشكال في نقد الدكتور نصري يعود إلى أن تحليل السيد حسين نصر للعالم التقليدي المسيحي - بالمناسبة - وأنواع الخلأ الناشئة عنه، يعكس كيفية النتائج التي أدى إليها ظهور مشاكل هذا العالم التقليدي ونقاط الضعف التي يعاني منها. بل إنه يعزو حتى المذهب الوجودي إلى طريقة فهم المسيحية للإنسان بوصفه إرادة وليس فكرة .(1) وعليه فإن النقطة الهامة هي أن السيد حسين نصر - خلافاً للمدعى المذكور- كما هو واضح لا يعد كل ما ينبثق عن الماضي بوصفه من السنة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل إنه يفرق صراحة بين مختلف السنن من قبيل الإسلام والمسيحية أيضاً. بل إنه حتى في العالم الإسلامي الذي يمكنه - من وجهة نظر السيد حسين نصر - أن يمد - بنحو من الأنحاء - يد المساعدة إلى الغرب الآيل إلى الزوال - في حين لا يتوقع مثل هذا الشيء من المسيحية -يعثر على موارد مخالفة للسنة في الأزمنة الماضية التي جرت فيها هذه السنة. وبطبيعة الحال إذا كان هناك من إصرار على اعتبار كل أمر سار في الأزمنة الماضية سنة، وجب الفصل والتفكيك بين السنة بمعنى أنه الأمر المتجذر في الوحي والسماء ومجموعة التقاليد والأعراف التي يتوارثها الناس عبر الأجيال. بمعنى يجب عد السنة مشتركاً لفظياً . بيد أن هناك نموذجين من النتائج المنبثقة عن العالم التقليدي غير المتطابقة مع السنة - وذلك في صلب السنة

ص: 581


1- انظر: السید حسین نصر معرفت جاودان (المعرفة الخالدة) من سلسلة مقالات السيد حسين نصر، ج 1، ص 371، إعداد: حسين الحسيني، نشر : مهر نيوشا، الطبعة الأولى، طهران، 1386 ه- ش.

الإسلامية القوية التي لا تشكو من وجهة السيد حسين نصر من نقاط ضعف السنة المسيحية - وهما عبارة عن:

أ - وجود الملاحظات السياسية في ممارسة الضغط على المسلمين تحت ذريعة الأدلة الكلامية والدينية في تاريخ الإسلام.

ب - وجود الحكومات الدكتاتورية والاستبدادية في العالم الإسلامي الراهن.(1)

3 - الإشكال على تحليل السيد حسين نصر بسبب ضعفه في بيان علل ظهور العلم الحديث، حيث يراه قائماً على النزعة الكمية، ولكن حيث يمكن للكمية والكيفية الاجتماع في وقت واحد لا يكون مثل هذا التحليل مجدياً.

إن الملاحظة الواردة على مثل هذا النقد هي أن الذي يراه السيد حسين نصر محل

إشكال هو تجاهل ونسيان سلسلة مراتب الواقعية، وكذلك سلسلة مراتب المعرفة وأن مرحلة ومرتبة تسعى بنفسها إلى إصدار حكم كل شيء وكل مكان، ولا سيما أن هذه المرتبة تقع في أسفل مراحل الحقيقة، كما صنعت النزعة الكمية الراهنة، ولذلك فإن تعميمات النزعة الكمية للعلم الحديث وتجاهل المراتب الأخرى من الواقعية هي محط إشكال السيد حسین نصر، وليس ذات كمية العلوم الحديثة.

والإيراد على توقع السيد حسين نصر من العلم القدسي أن يتكفل وظائف العلم التجربي ومهامه وأنه فى نهاية المطاف والمآل يضع العرفان والشهود في الطليعة بحيث لا يبقى معه موضع للفلسفة والاستدلال ولا المنهج التجريبي. يمكن الإجابة عنه بذات الجواب السابق وهو تجاهل المفهوم الأساسي لسلسلة مراتب المعرفة أيضاً.

الدكتور محمد لغنهاوزن: وقد كانت أكثر موارد استشهاده مأخوذة من مقالة له تحت عنوان (لماذا أنا لست من القائلين بالنزعة التقليدية؟)، وهي في الغالب ناظرة

ص: 582


1- انظر: السید حسین نصر، قلب ،اسلام ص 341 - 346 ، ترجمه إلى الفارسية : مصطفى شهر آييني، نشر حقيقت، الطبعة الأولى، طهران 1383ه-.ش.

إلى نقد مجمل الفضاء والاتجاه الفكري للسيد حسين نصر، ومن جملة ما يشير إليه فيها، المسائل الآتية:

1 - إن دعوى انبثاق العينيات الراهنة والحديثة من تفكير خاص على ما نشاهده في كلام أمثال السيد حسین نصر، مجرد رؤية ساذجة لا تقوم على أساس وغير مبررة؛ إذ هناك عدداً من أنواع التعاطي والتلاقح بين الذهن والواقع العيني والخارجي، ويترك كل واحد منهما على الآخر بتأثيرات معقدة ومتشابكة.

يمكن القول بشأن هذا الإشكال: لا شك في وجود علاقة وثيقة ومتبادلة بين الذهن والعين ولكن في التحليل النهائي يجب الإذعان بالسهم الأوفر لأحدهما في التأثير على الآخر. بل لا بد من الإذعان بأن للعالم الذهني نحواً من التقدم الرتبي على العالم الأفعالي للبشر، وإلا ترتب على ذلك لوازم من قبيل الإضرار بالمباني الكلامية لاختيار الإنسان، وهو أمر لا يمكن الدفاع عنه أو تقبله من وجهة النظر الإسلامية.

2 - إن النزعة التقليدية على الرغم من شجبها للحداثة والأيديولوجيات، في ذاتها عبارة عن مذهب وأيديولوجيا، ومن هنا تكون مناقضة لنفسها.

لقد اتسعت دائرة الأيديولوجيا في كلام المستشكل إلى الحد الذي يجب معه عد حتى الأديان نوعاً من الأيديولوجيا، في حين أن هذا المستشكل نفسه لا يقول بمثل هذا اللازم، إلا إذا اعتبرنا الوجه المميز للأيديولوجيا من غيرها يكمن في التمتع بالمنشأ السماوي، وبذلك يمكن استثناء النزعة التقليدية التي يذهب صاحب الادعاء إلى عدّها قائمة ضمن إطار دين ما والمسألة الهامة هي أن كل فكرة تعمل على التسويق لنفسها، ويسعدها كثرة المؤيدين لها، وهذا الأمر لا يمكنه أن يكون وجها مميزاً للأيديولوجيا. يضاف إلى ذلك أن بعض المفكرين المعاصرين لديهم آراء مغايرة ومختلفة بشأن بداية ونهاية الأيديولوجيا.

الدكتور السيد جواد الطباطبائي والدكتور نصر الله بور جوادي: حيث تعرضا في حوار مشترك لهما في نشرة (مهر) (نامه لبحث النزعة التقليدية الإيرانية، ولا سيما عند

ص: 583

السيد حسين نصر . وكانت أهم انتقاداتهما له من زاوية الاستغراب على النحو الآتي(1) :

1 - تنظر النزعة التقليدية إلى ظاهرة الحداثة بوصفها بدعة، ومن هنا فإنها تدعو إلى العودة إلى الماضي وإصلاح المسار الراهن والحال أن هذا لا يعدو الوهم والخيال.

ليس هناك من نقاش في أن الزمن يتغير وهو يمضي قدماً، ولا يمكن إخضاع المستقبل للماضي، بيد أن هذا الكلام لا ربط له بالاستعانة بالتراث في صيانة الحياة الراهنة والبحث عن مخارج للخلاص من المعضلات الراهنة. فما هي الهوية التي سیمتلكها الإنسان، وما هو الامتداد الذي سيكون له في المستقبل، إذا لم يكن له ماض وحرمناه من الماضي بالمرة.

2 - إنما تتوفر الأرضية لإمكانية التفكير بالسنة والنزعة التقليدية إذا حدث شرخ بيننا وبين العالم التقليدي، وقد تمثل هذا الشرخ بظهور العالم الحديث وعليه لم يكن من الممكن الحديث عن النزعة التقليدية إلا في حضن النتائج الفكرية للغرب الحديث. ومن هنا فإن جهود النزعة التقليدية تشبه جهود غراب يسعى إلى مواجهة المخالب الحادة للعُقاب المتمثل بالفكر الغربي. إن هذه المسألة تبين الاختلاف والتفاوت الرئيس بين أمثال هنري كوربان والسيد حسين نصر؛ ولذلك لم تكن النزعة التقليدية لدى أمثال السيد حسين نصر متصفة بالأصالة أبداً. يثبت ذلك افتقاره إلى الرؤية التاريخية وعدم ذهابه إلى أبعد من نقد الأسس الغربية. وبعبارة أخرى: إن الاختلاف بين السيد حسين نصر وهنري كوربان كالاختلاف بين القروي الشرقي والمدني الغربي، ومن هنا كان السيد هنري كوربان يرى أن شفاء الجروح يكمن في ذات نصل الحداثة، في حين يذهب أمثال السيد حسين نصر إلى القيام بجهود طائشة للبحث عن العلاج في أعماق الماضي وذلك من خلال استعمال الأدوات البدائية والتقليدية البالية.

ص: 584


1- مع التذكير بأن السيد جواد الطباطبائي يرى النزعة التقليدية ظاهرة عقيمة وأنها منتهية الصلاحية، في حين يذهب الدكتور نصر الله بور جوادي-رغم خلفيته ذات النزعة التقليدية - مؤخراً إلى تكريس جهوده في إبطال مدعيات النزعة التقليدية

فيما يتعلق بهذا النقد لا بد من الالتفات إلى أن الادعاء القائل بأن الابتعاد عن العالم التقليدي بسبب ظهور العالم الحديث هو الذي يمهد الأرضية إلى التفكير في عموم النزعة التقليدية، وإن لم يكن خاطئاً، بيد أن هذا لا يعني أن فهم العالم متخذ من علة إدراكه بالضرورة، إذ يمكن الالتفات إلى ذلك العالم بعد إدراك العالم مورد البحث بشكل باطني ومن الداخل. أما القول بأن تضميد جراح الحداثة هل يمكن أن يكون كامناً في ذات الحداثة أم لا ؟ فهو يتوقف على تحليل هذه الجراح ذاتها، وبالمناسبة فإننا ما دمنا نعد التحول من الداخل بوصفه تحولا أساسياً، لا يكون الكلام الذي نقوله شططاً، بيد أن هذا لا يتنافى مع الاستعانة بالخارج. بعبارة أخرى: يمكن لنا أن لا نعد أبحاث أمثال السيد هنري كوربان مجرد إعادة لقراءة العالم التقليدي بأسلوب حديث، بل هي فضلا عن ذلك تمثل الاستعانة بباطن العالم الحديث القائم على تراث العالم التقليدي.

3 - إن النزعة التقليدية بالنسبة إلى الشرقيين تمثل استغراباً مضاعفاً. إذ إن التقلييدين

المحليين إنما يترجمون فقط، وإن هذه العودة منهم إلى السنة تمثل بينهم نوعا من المحاربة العملية ضد النزعة التقليدية؛ إذ لم تحدث النزعة التقليدية في جغرافيتنا الفكرية والثقافية، وإنما هي تمثل مجرد تقليد من الخارج. وتعود مضاعفتها إلى أنهم أنفسهم لا يدركون أنهم إنما يقلدون النزعة التقليدية المنبثقة من الغرب.

يبدو أن هذا الإشكال يفترض وجود جدار عازل على نحو دائم بين جميع الأشخاص الذين يعيشون في العالم الحداثوي وجميع أولئك الذين يعيشون في العوالم التقليدية، بحيث لا توجد أي إمكانية لأي فهم أو إدراك قائم على الدراسة والحوار المتبادل. في مثل هذا الانتقادات بدلاً من دراسة نصوص الأحكام والقضايا، نشاهد أحكاماً مسبقة ومسارات معدة سلفاً بعيداً عن أي مجال لملاحظة ما يقوله الطرف الآخر.

4 - إن النزعة التقليدية أو بعبارة أخرى( التمحور حول السنن)، عندما تكون في موقف النصح والإرشاد - كما صنع السيد حسين نصر في كتابه (الشباب المسلم

ص: 585

والعالم المتجدد - تكون في الحقيقة قد اتخذت منحى أيديولوجياً، وهذا الأمر في غاية الخطورة. بعبارة أخرى: عندما تتجلى النزعة التقليدية على الصعيد العملي، تنتج الأصولية ذاتها التي هي مزيج من النزعة التقليدية والماركسية - اللينينية. ويمكن القول إن النزعة التقليدية التامة في امتزاجها بنزعة تغيير العالم، لن تنتج غير الإرهاب والنعف والدمار.

إن إشكال هذا الكلام يكمن في أنه يُعدّ - على ما يبدو - كل مخالفة واعتراض على العالم الحديث إذا كان ينطوي على موقف من هذا الطرف ولم يكن منحازاً إلى ما بعد الحداثة، بل حتى إذا أراد أن يقلل من موقف الانفعال تجاه الغرب بمقدار خردلة، ويقدم رؤية إيجابية، يجب الدفع به ناحية الاتهام بممارسة العنف والإرهاب والأصولية وكأن العالم الحداثوي لم يشهد أي عنف وإرهاب واستعمار أبداً. فإذا كان هذا هو شكل نقد العالم التقليدي عند المنحى الإيجابي، بحيث يتم اتهام النزعة التقليدية تلقائياً بمثل هذه الأمور، أمكن لنا في المقابل أن ندعي أن الإرهاب والعنف والاستعمار بمختلف أشكاله وليداً ذاتياً للنظام الحداثوي. إن الاتهامات المسبقة الموجهة ضد العالم التقليدي عندما تروم الحصول على استقلالية ولو في الحد الأدنى بالمقارنة إلى العالم الحديث، ستكون بضاعة شائعة وبعيدة كل البعد عن مناهج البحث الميداني والسعي إلى إثبات كيفية إقامة هذه النسب في العلوم الغربية.

حجة الإسلام منصور مهدوي : لقد عمد سماحته في كتاب له تحت عنوان (تقييم النزعة التقليدية) إلى دراسة النزعة التقليدية بشكل عام، مع بيان اختلاف تقريراتها، وفي بحث مستقل قام ضمن عرض تقرير عن مفهوم التغريب عند السيد حسين نصر بتقييم رؤية السيد نصر في هذا الشأن، وكان من بين أهم ما أشار له في هذا الإطار، الأمور الآتية:

1 - إن نقد أصحاب النزعة التقليدية بغية إحداث التغييرات الجوهرية في الغرب لايحدث مثل هذا التغيير، بل إن هذا النقد في العلم والعمل يؤدي إلى تقوية الغرب.

إن هذا الكلام غير مقبول؛ إذ على الرغم من أن السيد حسين نصر يتحدّث

ص: 586

بوضوح عن تقهقر الحضارة التي دعا إليها (فاوست)، والانحطاط الفعّال أو إحالة مجمل التفكير الفلسفي لدى الغرب إلى مسار خاطئ، لا يمكن إقامة أي مؤيد على هذا المدعى ولو من الناحية النظرية في الحد الأدنى. أما البحث في منهج السيد حسين نصر وما إذا كان يؤدي إلى تقوية الغرب أم لا ؟ فهو بحث آخر. والمهم هو أنه لا بد من الالتفات إلى أن السيد حسين نصر لم يعرف نفسه بوصفه محللاً من الطراز الأول بحيث يعمل على التنبيه إلى الأخطاء الاستراتيجية أو المنهجية والتخطيطية للغرب، وأن يعمل الغرب على تصحيح أخطائه للوصول إلى الأهداف ذاتها بشكل دقيق انطلاقاً من سماعه لهذه التوجيهات، بل إن كل ما يهدف إليه السيد حسين نصر بكلامه هو نقد الماهية الجديدة للغرب، وبطبيعة الحال لو أن الغرب عمد إلى إحداث تغييرات جذرية بسبب هذا الكلام لا ينبغي قراءة ذلك على هامش الغرب المنتمي إلى عصر النهضة. إن هذا الانتقاد إنما يثير العجب أكثر عندما يدعى أن السيد حسين نصر قد أشار إلى هذا المعنى من دون أن يبين المدعي الموضع الذي أشار فيه السيد حسین نصر إلى مثل هذا الأمر !

2 - لما كانت المسائل التي تحظى بنقد أمثال السيد حسين نصر هي في الحدّ الأقصى من قبيل: الإفلاس الاجتماعي للغرب، أو تدمير البيئة، ونادراً ما يتحدّث عن سقوط الحياة الإنسانية وجائحة القضاء على الدين في العالم المعاصر، يجب القول: إن هذا الكلام ينطوي على سطحية وضيق في الأفق، وكأنه يحاول أن يعمل على حل الأزمة البيئية لدى الغرب من خلال العرفان الإسلامي.

إن هذا الإشكال غير وارد؛ ذلك لأن الحد الأدنى من التقرير الوارد في هذا الكلام حول صيرورة وضع الدين في الغرب الحديث مقروناً بالإحالات، يبين بوضوح أن محق الدين من وجهة نظر السيد حسين نصر قد حظي بالاهتمام بمعنى غني للغاية إذ إنه لم ينظر إلى محق الدين من زاوية إزاحة الدين عن ساحة الحياة العامة فقط، وإنما يسحب الأمر إلى مسار محق الدين إلى الاستحالة التي حدثت في الدين نفسه.وفضلا عن ذلك فإنه في البحث عن نمط الحياة الغربية التي تم تنظيمها على شكل

ص: 587

التخلي عن الدين قد بين أبعاداً علمية عن هذا التخلي عن الدين. أما ما قيل في مقام التعريض والنظر إلى توظيف السيد حسين نصر للعرفان الإسلامي بشأن أزمة البيئة في الغرب، فهو كلام مبهم؛ فلو كان المراد منه السؤال عن السبب الذي دعا السيد حسين نصر إلى العثور على معنى غني للبيئة من خلال التمسك بالعرفان الإسلامي وعدّ البيئة آية من الآيات الإلهية التي يجب أن لا يتم قهرها والتغلب عليها من قبل النزعة الاستحواذية والسلطوية للإنسان في الغرب الحديث، فلا غبار عليه. أما إذا كان المراد منه هو أنه قد تم توظيف العرفان الإسلامي ليقدم للغرب برنامجاً عملياً لحل أزمة البيئة، فهو كلام باطل؛ ذلك لأن السيد حسين نصر لم يكن بصدد تقديم خطة عملية، وإنما كلامه ناظر إلى الماهيات والغايات وتلك الآراء الأساسية التي أفرزت مجمل البيئة الغربية الجديدة، ثم إن ذكر صفة الغرب لأزمة البيئة لا يقلل شيئاً من بلية عموميتها بالنسبة إلى الشرق والغرب، مع الاعتراف بأن المتسبب الرئيس بهذه الأزمة هو الغرب. من هنا يبدو أن النقد الذي يبديه السيد حسين نصر لا يمكن وصفه بضيق الأفق، بل هو بالنسبة إلى الغرب مقوّض لدعائمه. نعم، يمكن القول: لماذا قام السيد حسين نصر بكل هذا التركيز على بحث مسألة البيئة، وخصص في الحد الأدنى كتابين من كتبه لهذا الأمر بشكل وآخر ؟ وقد ورد الجواب عن ذلك في ضمن حدیث بشأن سبب التأكيد على الطبيعة في دراسة السيد حسين نصر للنزعة التغريبية.

3 - يذهب السيد حسين نصر إلى الاعتقاد بأن العلم مجرد وسيلة، ومن هنا يتم التأكيد في النزعة التقليدية على عدم تقديس العلم الجديد، ولكن هذا لا وجه له. وقد استشهد لكون العلم مجرّد وسيلة بأن أستاذ ابن سينا المسلم في الطب كان مسيحياً، وإن ملاك الإسلامية هو القول بأن كل علم يكون مورد حاجة المجتمع الإسلامي، ويمكنه هداية المجتمع الإسلامي في إطار الوصول إلى أهدافه، هو علم إسلامي.

يبدو أن هذه الرؤية لا تحمل أي تصور عن امتزاج العلم بالفرضيات العلمية التي من شأنها تغيير ماهية العلوم، ثم إن تلبية الحاجة يمكنها أن تتحقق من قنوات متعددة، كما هو الحال بالنسبة إلى تعدد كيفية رؤية الطب التقليدي والطب الكيميائي

ص: 588

الحديث إلى الجسم، وإن تلبية حاجاته متعددة أيضاً؛ ومن هنا سيكون السؤال عن الصحة أو التطابق مع المعايير الذاتية بالنسبة إلى هاتين الرؤيتين المختلفتين، معقولاً بشكل كامل ويبدو أن الثورة الإسلامية الإيرانية بعد انتصارها قد واجهت أسئلة جادة بشأن ماهية العلم الجديد، ومن هنا فإن المواقف العامة من قبل بعض المفكرين التي كان لها ما يبررها قبل الثورة، لا يمكن عدها شاهداً على صحة المدعى؛ إذ إن أكثر المفكرين المسلمين والمؤيدين للثورة يتماهون حالياً بشكل واضح مع بحث إمكان العلم الديني في دائرة العلوم التجريبية.

4 - إن قسوة الجانب السلبي من أفكار السيد حسين نصر، وغياب أو شح التوصيات والنصائح الإيجابية للخروج من الوضع الراهن، يمثل مشكلة أخرى في النشاط الفكري للسيد حسين نصر.

إن هذا الإشكال لا يقتصر إيراده على آراء السید حسین نصر فقط، إنما هذا الأمر يصدق حتى على بعض نحل معرفة الغرب الأخرى أيضاً، فهي تذهب بشكل عام إلى القول بأن المعرفة التامة والعميقة بالوضع الذي نحن فيه يشكل مقدمة للخروج، ومن هنا فإن السؤال عن الطريق إلى الخروج قبل أن نعرف الوضع الذي نحن عليه حالياً يمثل نوعاً من السذاجة والسطحية الفكرية وفي المقابل فإن الذي يورد هذا الانتقاد نفسه إما أن لا يمتلك هذه الإجابة التي يطالب الآخرين بها، أو أنه يعمد إلى تقليل صورة المسألة، ويتماهى مع الغرب في بعض المساحات تحت ذريعة أن طريقة الحل واحدة، كما نجد تقرير ذلك في مورد النظر إلى العلم الحديث بوصفه وسيلة في الانتقاد المتقدّم.

آخرون: هناك غير واحد من المفكرين الذين تحدثوا بشأن آراء السيد حسين نصروأفكاره، بيد أن هذه المقالة لا تتسع لمناقشتهم بأجمعهم. ومع ذلك هناك نقاط اشتراك بين أشخاص من أمثال حجة الإسلام عبد الحسين خسروبناه وأمثال الأستاذ مجيد محمدي،(1) وتتمثل هذه النقطة في غياب القسم الاجتماعي في آراء السيد حسين نصر.

ص: 589


1- حيث أشار الأستاذ عبد الحسين خسروبناه إلى هذه النقطة في كتابه (جريانهاي فكري إيران معاصر)، وأشار لها

وبطبيعة الحال فإن الزاوية والمباني الانتقادية لهما تختلف عن بعضهما بالمرة، بيد أن هذا الانتقاد في شكلة المشترك يبدو وارداً وصحيحاً، لا من حيث إننا لا نرى أي اهتمام في أعمال السيد حسين نصر إلى المسائل الاجتماعية - من قبيل الاهتمام بمسائل ،المرأة، ونمط الحياة وما سوى ذلك مما يمكن الاستشهاد به بسهولة - وإنما أولاً: إن هذه الاهتمامات قد تبلورت في إطار الاتجاهات التحليلية المبنائية، ولا تحتوي على أي مناورة على مستوى ذات الظاهرة الاجتماعية. وثانياً: قلما نجد ذلك عنده مثل هذا الاهتمام بالقياس إلى الأجزاء والموارد الأخرى التي يركز النظر عليها.

خلاصة واستنتاج

مضافاً إلى وجود بعض المباني التي تتمّ الاستفادة منها وتوظيفها في كثير من الموضوعات الأساسية وتحيل أحداث العالم الغربي، نشاهد في دراسات السيد حسين نصر للغرب حضوراً للقضايا التفصيلية في مختلف عرصات الحياة البشرية. وعلى الرغم من أنه يدرس مسارات العالم الغربي من خلال تحليله الأوضاع الفكرية في الغرب ضمن الحقول المعرفية والفلسفية، إلا أنه في الوقت نفسه لا يغفل عن تقرير الأمور الأكثر واقعية وعينية والتأكيد عليها من قبيل : الفن ونمط الحياة أيضاً. ويمكن القول بأن السيد حسين نصر يبحث ظاهرة الإنسان الغربي ضمن الواقع الوجودي للانفصال والابتعاد عن مركز الوجود الذي هو الله سبحانه وتعالى، وفي امتدادات ولوازم هذه الأوضاع الوجودية - التي تمثل نسيجاً متشابكاً ومعقداً من التحولات العينية والفكرية والحياتية حتى بالنسبة إلى القوى المتقابلة - في مختلف الموضوعات ابتداء من المعرفة إلى كيفية الحياة. ومن بين أهم المباني التي يعتمدها سماحته البحث عن جذور التحولات الجديدة في صلب السنن المسيحية، ومتابعة الضحالة المتكررة في فهم سلسلة مراتب الواقعية في مختلف الموضوعات، وفاعلية وتأثير الحقيقة القاهرة التي تجاهلها الإنسان الغربي ويرى سماحته في انفصال الفلسفة عن الدين، وابتعاد العقل عن الوحي، عاملاً هاماً في هذا الإطار. كما يجد (1)

ص: 590


1- الأستاذ مجيد محمدي في كتابه (دين شناسي معاصر).

الفن - بسبب اشتماله على ناحية أوسع من دائرة الفكر - مؤثراً في ظهور العالم الجديد وتبلوره. ويعرف فهم الإنسان الجديد لذاته - بوصفه كائناً مادياً أو آلة فاعلة - ناشئاً من بعد الإنسان ذاته عن الله سبحانه وتعالى. ويضيف قائلاً إن نبذ الغرب الحديث للدين لا يمثل نهاية مسار النزعة الدنيوية، بل تم تحويل الدين في العالم الغربي إلى صورة تناسب مع العالم الجديد ويشكل على علم الغرب من حيث إنه يقلل مجموع الواقعية ويتنزل بها إلى مرتبة كمية لا تمثل إلا واحدة من مراتب الواقع وأوصافه. ويواصل تتبعه لوضع المعاش الجديد للغربيين في امتداد ذلك الانفصال والابتعاد عن المركز، راصداً بذلك بعض الأدلة على ذلك من قبيل : الحياة المتسارعة، والبحث عن اللذة والانفلات الجنسي والنزعة المعنوية الراهنة المختلقة، والكشف المجدد للجسد، وما يترتب على ذلك كله من التداعيات والتبعات إنه يرى الغرب في حالة انهيار، وإن ما يحدث في الغرب مؤخراً على المستوى الفكري (من قبيل: أفكار ما بعد الحداثة) لا يمثل - من وجهة نظره - إلا امتداداً عينياً ومنطقياً لما كان عليه الوضع السابق في مرحلة عصر النهضة (وهو بذلك يشبه الطير المذبوح الذي يبقى سائراً على قدميه حتى بعد انفصال رأسه عن جسده.)(1) ويرى أن طريق نجاة الغرب يكمن في استفادته من السنن الحيوية الراهنة ولا سيما في الإسلام بوصفه واسطة العقد بين الشرق والغرب، ولا يرى في الغرب أي إطار يمكنه أن يعيد الغرب إلى المركز ويضمن لهذه العودة الترابط والانتظام، إلا إذا تم إحياء المسيحية من طريق الإسلام.

إن تنوّع أفكار السيد حسين نصر وتأثيرها قد أثار اهتماماً جاداً من قبل سائر المفكرين ونقد تصوراته، حيث يتنوع هذا الاهتمام من التماهي النسبي مع معرفته للغرب من قبل أمثال محمد لغنهاوزن ومنصور مهدي - بالالتفات إلى التصريح بنقاط قوة العالم الحديث وضعفه - إلى المعارضة والمخالفة الشديدة من قبل أمثال: السيد جواد الطباطبائي، تحت ذريعة عدم فهمه للعالم الحديث وعلى الرغم من أن معرفة الغرب من قبل السيد حسين نصر مبثوثة في مختلف أعماله ومؤلفاته، بيد أنه يقدم فيها منظومة متناغمة وتفصيلية في وصف تحولات الغرب في مختلف المجالات،

ص: 591


1- انظر: السید حسین ،نصر معرفت جاودان (المعرفة الخالدة)، ج 2، ص 174.

بيد أنه مع ذلك حيث تمتد بداياته في الأصرار على مباني النزعة التقليدية، فقد عرض هذا المدخل إلى مشكلة تمثلت بالمواجهة العملية المباشرة مع نصوص أحكام معرفة الغرب من قبله؛ ذلك لأن النزعة التقليدية عرضة لنقد الكثير من الناقدين من مختلف الزاويا. إن السؤال الرئيس الذي لم يحظ بالإجابة التفصيلية في المعرفة الغربية لدى السيد حسين نصر - رغم إمكان العثور على إشارة بعض المسائل في بابها (1)- يكمن في طريقة تأسيس العالم والعصر الحديث في صلب السنن المصابة نفسها بمعضلات رئيسة وجوهرية. وفي الأساس فإن التعاطي الإيجابي للسيد حسين نصر مع العالم الحديث مفقود إلى حد كبير كما هو الحال بالنسبة إلى كثير من المعارف الغربية لدى الآخرين في إظهار النماذج والأمثلة التأسيسية التي تتحدى مجمل الأنظمة الغربية. وهو حتى فيما يتعلق بتحولات الثورة الإسلامية يعيش هاجس الحذر من أن تنطوي الجهود الحاصلة على شكل إصلاح العالم الحديث تحت راية النزعة التقليدية بشكل غير مطلوب، وفي الوقت نفسه لا يمكن المحيص عنه.(2) وعلى الرغم من أنه قد تحدث في بعض كتاباته عن طبيعية انتساب العرفان الإسلامي مع عالم السياسة عن طريق أمثلة من قبيل: قيادة الثورة الإسلامية الإيرانية ؟ ، أو رؤيته إيران مشتملة على ظرفيات أساسية للاضطلاع بالدور الفاعل في مواجهة العالم الحديث،(3) إلا أن هذا المقدار من الإشارات - في الوقت الذي نسعى إلى العثور على إجابات تفصيلية عن الدين والسنن في الدائرة الاجتماعية والحضارية - لا يبدو كافياً.

ص: 592


1- انظر مثلاً : المصدر أعلاه، ج 2، ص 144 - 146، و150، 167، 175.
2- انظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 213.
3- انظر: المصدر أعلاه، ج 1، ص 393.

المنهج النقدي عند إدوارد سعيد بنحو زحزحته فلسفة" الاستشراق "

الباحث معروفي العيد

(1)

تمهید:

الاستشراق(2) اتجاه فكري يعنى بدراسة حضارة الأمم الشرقية بصفة عامة وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة وقد كان مقتصرا في بداية ظهوره على دراسة الإسلام واللغة العربية، ثم اتسع ليشمل دراسة الشرق كله بلغاته وتقاليده وآدابه.

فالمستشرقون هم علماء الغرب الذين اعتنوا بدراسة الإسلام واللغة العربية، ولغات الشرق وأديانه وآدابه.

ص: 593


1- باحث في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة جامعة الجزائر 2
2- الاستشراق : orientalisme : مشتقة من كلمة شرق والشرق هو نقطة الأفق التي تطلع فيها الشمس في بدء الربيع والخريف وبالتوسع: جهة الأفق التي تطلع منها الشمس على مدار الأيام . انظر : Dictionnaire encyclopédique Larousse. Editions Francaisses inc. Licencié quant aux droits d'auteur et usager Inscrit des marques .pour le canada، 1980.P651 لغة: من الواضح أن كلمة الاستشراق مشتقة من مادة شرق ويقال «شرقت الشمس شرقاً وشروقاً إذا طلعت» أنظر: ابن منظور، لسان العرب، ج03، دار لسان العرب، بیروت، د(ط)، د(س)، ص 249. والجدير بالذكر أن الكلمة التي ، نبحث عن مفهومها اللغوي لم ترد في المعاجم العربية، غير أن هذا لا يمنع من الوصول إلى معناها الحقيقي استنادا إلى قواعد الصرف وعلم الاشتقاق، حيث يبدو أن معنى استشرق أدخل نفسه في أهل الشرق وصار منهم. اصطلاحا: هو اصطلاح ابتدعته أوروبا لكل أرض وراء حدودها شرقا إلى اليابان، بيد أن المصطلح بدأ يتزحزح عبر القرون ليقتصر في مفهومه العام والغامض أيضا على الشرق الأوسط وما في هذا الشرق من أديان (عدا النصرانية لأن الفكر الأوروبي لا يحب ربطها بالشرق) وثقافات أو حضارات مختلفة». أنظر أحمد سمايلوقتس، فلسفة الاستشراق، دار الفكر العربي للنشر، القاهرة، د(ط)، 1997، ص .20

ويعمل الغرب على أن يكون العلم كله غربياً، ولا يريد لغير الغربي أن يكون غربيا، لأنه يعتقد أنه ليس بإمكانه أن يكون كذلك . ويريد غير الغربي أن يكون غربيا، لكنه يعمل ألا يكون كذلك.

لقد بدأت اهتمامات الغرب بالشرق قديما باعتباره يشكل الإطار الاستراتيجي سياسيا واقتصاديا منذ صراع الإغريق والفرس، إلا أن هذه الاهتمامات لم تتحول ولم تتبلور معرفيا إلا في القرون الوسطى، وقد ظهر نتيجة هذه الاهتمامات مفهوم الاستشراق في أواخر القرن السابع عشر بعد أن تراكمت الدراسات الغربية التي جعلت موضوعها موضوع الشرق الذي يمثل جغرافيا الأقاليم التي تنتمي إلى القارات غير الأوروبية، أو كما كان يسمى العالم القديم : أسيا وإفريقيا.

لقد كان هذا المصطلح يعني ذلك البحث الذي يسعى إلى دراسة الشرق وتفهمه أما من حيث الدلالة المفهومية فهو خطاب، أو إنشاء لكنه خطاب لا يعكس حقائق أو وقائع، بل يصور تمثلات أو ألوانا من التمثيل حيث تتخفى القوة والمؤسسة والمصلحة، إنه خلق جديد للآخر، أو إعادة إنتاج له على صعيد التصور والتمثيل، مما يجعل من الاستشراق موضوع معرفة. يكشف من خلاله عن العناصر المتخفية بنية العقل الغربي، لذلك نحاول في هذه الدراسة كشف البنى الأساسية التي أنتجت الخطاب الاستشراقي في الثقافة الغربية وفهمها وحليلها العناصر التي حاولت وتحاول أن تعولم الثقافة الغربية بإنتاجها المتواصل، وتكرس آليات الهيمنة والقوة والتمركز لدفع الثقافة الغربية نحو العولمة الثقافية التي كان الاستشراق خطابها المؤسس. إن هذه الدراسة ليست محاكمة لثقافة ما، وإنما هي مناقشة لسؤال يحتاج إلى دراسات متعددة الاختصاص في العلوم الإنسانية المعاصرة.

وإن الاستشراق ليس متجانسا على النحو الذي يسمح لنا بإطلاق أحكام كلية معه، أو

ص: 594

ضده، كما أنه لا يتيح دراسة كمه الهائل، ما لم يتعين المشترك في لسان حال مستشرقين لم يجمعوا كلهم على ما ترجّح وصفه في مكتوبهم عن الشرقيين المنفعلين بمؤدى فعل الآخر بهم، فكانت صور الاستشراق بمثابة مشهد لانعكاس واقع الشرق وإحالته إلى شيء في منظور المستشرقين الذين كشفوا بهذه العملية عن رأيهم بنا، ليتضح موقفنا من رأيهم عبر ردود أوضحت مدى استلاب باحثينا إلى ماحدده الآخر. الاستشراق لنا، أكان هذا بالسخط على ما اختلقه بعض المستشرقين من إفتراءات، أم بتقدير المجهود العلمي للبعض الآخر ، ففي كلتا الحالتين ثمة أثر وتأثير بنيوي للاستشراق على منطلقات لرد عليه عند مختلف اتجاهات الفكر العربي المعاصر.

1- مفهوم الاستشراق عند ادوارد سعيد

وفي هذا السياق، يمكن القول بأن كتاب إدوارد سعيد )(1) («الإستشراق الصادر عام 1978 ، والمترجم إلى العديد من اللغات العالمية، يبرز بوصفه أحد المنتجات الفكرية العالمية بالغة الأهمية، والتي تصدت بالبحث والتحليل لشرح وتفسير المواقف المختلفة للغرب تجاه الشرق بعامة، والثقافة العربية والإسلامية بخاصة.

يعتبر إدوارد سعيد الاستشراق هو أسلوب التفكير المستند إلى التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب، أي أن الفكرة المحورية عنده تستند إلى فهم هذه البنية الممثلة عن الشرق من قبل الغرب وتحليلها وتفكيكها. وفي سبيل التمكن من هذه ،البنية، وتفكيكها ، فإن إدوارد سعيد يتناول العديد من أصحاب التخصصات والأنشطة

ص: 595


1- إدوارد وديع سعيد كاتب وناقد ومفكر سياسي، ولد في القدس في الأول من نوفمبر سنة 1935 لأبوين فلسطينيين كانا يعيشان مع أولادهما أولادهما بين القدس والقاهرة لطبيعة عمل الوالد، ووافته المنية سنة 2004. لقد عاش سعيد حياة صعبة، كان لها تأثير كبير في معالم إدوارد سعيد المفكر والناقد والأديب والموسيقي، ومن بين الانشقاقات التي قسمت شخصية سعيد افتقاره للاستقرار، وشعوره الدائم بأنه خارج المكان. لقد عاش سعيد المنفى واقتلاعه من أرضه أثرا بالغا على الصعيد الوجودي السيكولوجي، فقد كان يتملكه إحساس بأنه في غير مكانه لأن المنفى كما يقول سعيد: يقع في منطقة وسطى، فلا هو يمثل تلاؤماً كاملا مع المكان الجديد، ولا هو متحرر تماما من المكان القديم. انظر إدوارد سعيد خارج المكان تر فواز الطرابلسي، دار الآداب للنشر، بيروت، ط01، 2000، ص 358

التي تدخل تحت مظلة هذا النشاط الواسع والعريض مثل الشعراء، والروائيين، والفلاسفة ،والمنظرين السياسيين، والإداريين الاستعماريين الذين يبنون أعمالهم وأنشطتهم على هذا التمييز المسبق بين ما هو شرقي وما هو غربي.

ويرى سعيد وجود ثلاثة معان للاستشراق المعنى الأكاديمي، والمعنى الخيالي، والمعنى الخاص بهيمنة الغرب على الشرق، أي بالاستشراق بوصفه معرفة ملازمة للقوة الغربية وهيمنتها الاستعمارية وفي هذا السياق يعتمد سعيد على كتابي فوكو، أركيولوجيا المعرفة والنظام والعقاب في تأسيس تحليل للخطاب الاستشراقي، وفهم أبعاده الاستعمارية المرتبطة بالقوة المادية وأشكالها الرمزية الاستعمارية، فالهدف الرئيس عند سعيد هنا هو تحليل الاستشراق كخطاب، بحيث يمكن من خلال هذا التحليل معرفة الكيفية التي استطاعت من خلالها الثقافة الغربية أن تنتج وتستهلك وتؤبد وتقمع وتشكل وتمثل الشرق سياسيا، وسوسيولوجيا وعسكريا وإيديولوجيا، وعلميا وتخيليا في فترة ما بعد التنوير أي بمعنى أن الاستشراق عند إدوارد سعيد هو دراسة آليات إنتاج المعرفة الأوروبية عن الشرق وعلاقة المعرفة بمشاريع الهيمنة الثقافية والسياسية الأوروبية.

مَثَلَ الاستشراق إذن أهم مواضيع النقد في تجربة إدوارد سعيد الفكرية بل لا نحسب أننا نجانب الصواب إذا أقررنا بأن سعيداً ما كان ليحظى بما حظي به من احتفال نقدي ما فتئت مجالاته تتسع حتى بعد وفاته، لولا مواقفه من هذا الفرع الثقافي الذي تتجاوز أهميته حدود الثقافة الغربية إلى غيرها من الثقافات الشرقية والإنسانية عموما.فالاستشراق بما هو منتج ثقافي غربي في مناهجه وأدواته ومقاصده، شرقي في مواضيعه واهتماماته ومشاغله يعد بلا ريب قضية مركزية من قضايا الحضارة الإنسانية المعاصرة لأنه على صلة وثيقة بعلاقة حضارات مافتئت

ص: 596

تتنافس وتتصارع وتتبادل الاتهامات منذ القرن التاسع عشر بل منذ القرون الوسطى، وإزاء هذه المكانة التي يحتلها الاستشراق في أكثر من ثقافة قومية من ثقافات الغرب والشرق على السواء، كان نقد سعيد له ومازال يثير الجدل ويحفز الباحثين في كل مكان على الإدلاء بدلائهم في المسألة.

ومن ثم فإن الإشكالية الرئيسة التي تنبني عليها هذه الدراسة تتجلى في ما مدى تجليات الدراسات النقدية التي أفرزتها العقلية الغربية من خلال توظيف الخطاب الاستشراقي ؟وما أثر هذا في فكر إدوارد سعيد من خلال تفكيكه وزعزعته للخطاب الاستشراقي؟

-1- ادوارد سعيد ردح ازدواجية «الاستعمار والخطاب الاستشراقي»

إن إحساس إدوارد سعيد بهشاشة واقع الثقافة العربية إزاء الاعتداء الأجنبي، والتي وقف المثقفون إزاءها عاجزين عن تقديم البديل. ورغم أنه( ربما من قبيل التواضع )يضع نفسه مع المثقفين العرب الذين يقفون حيارى إزاء الوضع المتردي، إلا أنه كمايوضح الاستشراق وغيره فيما بعد كان يحمل في قرارة نفسه ليس روح المبادرة فحسب بل مشروعها الذي أتى ثماره فيما بعد.

لم ينكر إدوارد سعيد على المثقفين العرب وعيهم بالمشكلة ولكنه يبين تجنبهم الخوض في معرفة الذات العاجزة ، وتمنعهم عن تقديم البديل. ومن هذا يمكن لنا أن نتصور البذرة التي منها نجمت فكرة الاستشراق، وهي الحاجة إلى دراسة لمظاهر اليقظة العربية غير معتمدين على المنجزات الأوروبية، وهذا بالفعل ما أنجزه إدوارد سعيد في الاستشراق، إذ انه بين بوضوح أن المنجزات الأوروبية أو ما نسميه أحيانا

ص: 597

الأدوات التي استخدمها الغرب في تمثيل الشرق هي أدوات صالحة في حد ذاتها، ولكنها سخرت لخدمة أغراض الاستعمار ولتمثيل الشرق بصورة موجهة مغرضة. ولا يفوتنا أن نذكر أن إدوارد سعيد ظل محافظا طيلة حياته على هذا المنظور لأدوات الغرب الثقافية، محصنا نفسه ضد الانبهار بها والنظر إليها على أنها منجزات ثقافية حاول الغرب أن يسوقها على أنها مقدسة لا تقبل المساءلة لقوتها وهيمنتها الشرعيتين وما على المغلوب في هذه الحالة إلا السير في ركب الغالب.

يعرفنا هذا المنطلق الرئيس لإدوارد سعيد على موقفه الصلب تجاه الاستعمار، إذ أنه أيقن منذ البداية أن الاستعمار غير قابل للقسمة لا على اثنين ولا على أي رقم آخر .

معروف أن الاستشراق بوصفه نطاقا من الفكر والخبرة، يشتمل على العديد من الأوجه المتداخلة أولها تلك العلاقة التاريخية والثقافية المتغيرة بين أوروبا وآسيا، والتي ترجع في التاريخ إلى 4000 عام، وثانيها، ذلك الفرع العلمي الذي بدأ في الغرب منذ أوائل القرن التاسع عشر، وراح يتخصص المرء على أساسه في دراسة الثقافات والتراثات الشرقية المختلفة، وثالثها، تلك الافتراضات الأيديولوجية والصور والاستيهامات المتعلقة بمنطقة من العالم تدعى الشرق. والقاسم المشترك بين أوجه الاستشراق الثلاثة هذه هو ذلك الخط الذي يفصل الغرب عن الشرق، والذي لا يمثل واقعة من وقائع الطبيعة بقدر ما يمثل واقعة من نتاج البشر، والتي سميت بالجغرافيا التخيلية.

وضمن هذا الإطار درس إدوارد سعيد الخطاب الأوروبي حول الشرق خاصة البريطاني منه والفرنسي منذ القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين، فالعلماء الغربيون، والرحالة، والسياسيون الذين كتبوا عن الشرق ، أو درسوه أو درسوه اعتبرهم سعيد «مستشرقين»، والذي أنتجوه خطابا استشراقيا وعلى هذا النحو قدم سعيد

ص: 598

ثلاثة تعريفات للاستشراق يعتمد بعضها على بعض : الأول منها أكاديمي وهو قوله: فكل من يدرس الشرق، أو يكتب عنه أو يبحثه (...) سواء في سماته العامة أم الخاصة فهو مستشرق، وما تفعله هي أو يفعله هو استشراق والتعريف الثاني: أسلوب من الفكر مستند على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق ومعظم الأحيان الغرب والتعريف الثالث: أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، وإعادة هيكلته، وامتلاك السلطة عليه»(1) ، وهكذا نجد سعيداً قدم ثلاثة تعاريف للاستشراق الأول والأسهل يعرف الاستشراق كدرس أكاديمي للشرق من قِبَل العلماء الغربيين مستعملا مفهوم فوكو الذائع للسلطة/ المعرفة.

ويقدم أيضا سعيد قائمة من ثلاثة أصناف للمستشرقين، أولها الكاتب الذي ذهب إلى الشرق لتزويد الاستشراق المحترف بمادة علمية أو «الذي يعتبر إقامته نوعا من الملاحظة العلمية »(2)، ويؤكد سعيد بأن الرحالة البريطاني إدوارد ويليام لين في كتابه وصف عادات المصريين المعاصرين وأنماط حياتهم يعتبر أوضح مثال على هذا الصنف من المستشرقين والصنف الثاني لدى سعيد هو الكاتب الذي يبدأ بنفس الهدف، ولكن اهتماماته الفردية تسيطر على عمله، ويعتبر سعيد الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتن في كتابه الحج إلى المدينة، ومكة مثالا جيدا لهذا الصنف. أما الصنف الأخير من المستشرقين فهو الكاتب الذي يرحل إلى الشرق لإرضاء رغبة، لذا فإن نصه مبني على جماليات شخصية »(3)، ويمثل له سعيد بالرحالة الفرنسي جیراردي نرفال في كتابه رحلة إلى الشرق. وهكذا يتوضح مع إدوارد سعيد أن الغرب يؤيد أنماط القوالب الجاهزة للتطور والبربرية هجمية، تقدم بدائي، رئيسي /تابع

ص: 599


1- إدوارد سعيد الاستشراق تر : محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط01، 2006، ص 45.
2- إعجاز أحمد إدوارد سعيد الاستشراق وما بعده تر ثائر ديب، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، سورية، ط01، 2004 ص .152
3- إدوارد سعيد القلم والسيف تر: توفيق الأسدي دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط01، 1998، ص 23

عقلاني ضال وهكذا تتهاوى جميعا في ازدواجية عظمى بين النفس والآخر» (1).

استشرق الغرب الشرق من خلال حقول المعرفة بالشرق، والنتيجة أن الغرب أصبح يمارس من خلال هذه المعرفة قوته وهيمنته على الشرق كراع غربي نشط يعرف ويسيطر -أو يسيطر لأنه يعرف على رعية شرقية مستكينة، وهذا النشاط المعرفي هو أسوأ أنواع الاستشراق، إذ يصبح الاستشراق وظيفة يستخدمها الآخرون كعدسة أو كتركيب من خلاله يرى الغرب شرقه تاريخيا، ليوجهه ويسيطر عليه بالطريقة التي يراها مناسبة له، أما الركيزة الهامة الأخرى للاستشراق التي تتمتع بقيمة هائلة في التأثير فهي الخيال، لقد صاغ المستشرقون صورة الشرق بخيال جعل هذه الصورة تبدو وكأنها تمثيل أو انعكاس خفي للواقع ، وكان لهذه الممارسة أكبر الأثر في تسويق الاستشراق من خلال مصداقية الخيال المعهود»(2) ، فالذي يقرأ ما كتبه المستشرقون عن الشرق يقع تحت تأثير الخيال، ومن ثم يصدق الصورة، وفي أغلب الأحيان ينظر إليها وكأنها تمثل الواقع وتعكسه وبهذا يبدع المستشرقون صورة تبدو ماثلة أو ممثلة لواقع هو في حقيقة الأمر ليس كذلك ، وهكذا يصبح التمثيل والواقع وكأنها مثلا زمان وغير منفصلين.

ويذكر إدوارد سعيد في مقدمة الاستشراق أنه يعرف الاستشراق معتمدا على ما وجده مفيدا من وصف لفكرة الخطاب عند فوكو كما ترد في «حفرية المعرفة» و«النظام والعقاب»، ويضيف إدوارد سعيد قائلا «أن الجدل الذي يقوم حول فكرة الاستشراق

بدون فحص للاستشراق كخطاب لا يمكن المرء من فهم النظام الهائل الذي نظمته الحضارة الأوروبية، واستطاعت من خلاله أن تدير دفة الهيمنة على الآخر، بل وتخرج

ص: 600


1- على بن ابراهيم النملة صناعة الكراهية بين الثقافات وأثر الاستشراق فى افتعالها، دار الفكر للنشر، دمشق، ط01 ،2008 ، ص 44.
2- إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق، ص 56.

علينا بصورة فيها السيناريو السياسي والاجتماعي والحزبي والإيديولوجي والعلمي والخيالي خلال فترة ما بعد التنوير»(1) .

و خطاب فوكو غربي استطاع إدوارد سعيد بثقافته الغربية الواسعة، وبفهمه سبيل استخدام الخطاب عند فوكو الذي يعترف بفضله في موقع آخر من الاستشراق، أن يلج إلى أعماق الاستشراق ، «ويرى كيف استشرق الغرب الشرق من خلال ما يسميه فوكو التوظيف الميكانيكي للقوة، وما يصفه أحيانا بالاخضاع الحقيقي الذي تولده بطريقة ميكانيكية علاقة وهمية»(2) ، لقد صنع الغرب بذلك صورة جعل العالم بأكمله يصدقها على أنها المرجعية التي تمثله، دون أن يكون لها نصيب من الصحة، وأصبحت هذه الصورة تدخل في نفس النظام العشري الذي ذكره فوكو : الشرق يتصف بالجنون مثلا، لأنه ليس كالغرب العاقل ، الشرق شاذ لأنه ليس عاديا مثل ما هو الحال عند الغرب، الشرق مريض لأنه ليس كالغرب معافى وهكذا.

وهنا يطور إدوارد سعيد خطاب فوكو بطريقة ذكية تعتمد على خلفية وظروف الشرق،يقول إدوارد سعيد «مادام الشرق على هذا الحال، لأنه ليس غربا، فالغرب أيضا على هذا الحال، لأنه ليس شرقا. وما دامت صورة الشرق هذه خيالية وهمية فصورة الغرب لا يمكن أن تكون غير ذلك، ولا يشفع لها المنطق الضد أن تكون صورتها مختلفة عن صورة الشرق على الأقل في تساويها معها في كونها خيالية وهمية»(3)، وهكذا من الواضح أن إدوارد سعيد قد أخذ من فوكو إطار الخطاب أو شكله وليس محتواه وكان إدوارد سعيد يرى بما أن الصورة التي استشرقها المستشرقون غير واقعية وغير ممثلة للشرق ، فهي حتما غير صحيحة، فعندما يبين الخطاب أن الشرق ليس

ص: 601


1- إدوارد سعيد، الاستشراق، المصدر نفسه، ص142.
2- محمد أركون وآخرون الاستشراق بین دعاته و معارضيه، تر هاشم صالح دار الساقي للنشر، ط01، 1994، ص76.
3- إدوارد سعيد تعقیبات على الاستشراق تر صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط01، 1996، ص 81.

كما استشرقه المستشرقون، فهذا يعني خطابيا أن الغرب أيضا ليس كما استغرب نفسه أصلا، والحصيلة أن صورة الغرب عن نفسه تصبح خيالية وهمية أو كاذبة مثلها مثل الصورة التي صنعها بنفسه عن الشرق. وأكثر من ذلك إذا أخذنا بالمعادلة التي نشأت منها صورة الاستشراق وهي أن الغرب عكس الشرق، وأن الشرق عكس الغرب، فإن الغرب يصبح عكس العكس، أي أن الفكرة أو الصورة الخيالية الوهمية ترتد على صاحبها الغربي مادام هو المصدر في جميع الحالات.

ومن هذا كله نجد أن إدوارد سعيد أدرك كيف أن الغرب ينظر إلى منجزاته الثقافية بوصفها مقدسة تكتسب فوقيتها من قوتها التنويرية الكهنوتية، وكيف أن منجزات العرب إنما هي دونية قابلة للاستهلاك، وفي جملة واحدة يضع إدوارد سعيد حجر الأساس لكتابه «الاستشراق» قبل عدة سنوات من إنجازه حين يقول: والنقطة الرئيسة التي أود الوصول إليها هي أن الغرب نظر إلى العرب كشيء للاستهلاك، فقد جعل الغرب من العرب مادة تستهلكها الثقافة العدائية النهمة»(1)، هذا هو الاستشراق في سطور قليلة.

وهكذا ومن هذا كله نجد أن دراسة إدوارد سعيد تسعى بدورها إلى التنقيب عن أصول النظرة الغربية إلى الشرق، وإلى تعرية النفي الذي مارسه الغربي على الشرقي، والذي كان من نتائجه استبعاد هذا الأخير من دائرة الرقي والتقدم وإقصاؤه إلى عالم التخلف والانحطاط وبالفعل، فقد أراد إدوارد سعيد أن يكتب أثريات الاستشراق على غرار أثريات المعرفة الإنسانية عند فوكو وبالاستناد إلى منهجها، محاولا أن ينزع الأغلفة التي تغلق رؤية الغرب إلى الشرق، وأن يتقصى جذور النظرة التي يتحدث بها الأوروبيون عن العرب والمسلمين، أي أراد أن يذهب إلى أبعد مما تقوله لغة هذا العلم

ص: 602


1- إدوارد سعيد، مقالات وحوارات تقديم محمد شاهين المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط01، 2004، ص 13.

الذي سمي استشراقا، محاولا فضح أقاويلها بتبيان ما تنطوي عليه من أوهام الذاتية.

و الاستشراق ليس نسقا فكريا مستقلا عن بنية العقل الغربي، وإنما هو من صميم رؤيته للكون والتاريخ والإنسان حيث أن المشروع الثقافي الغربي بمقدار ما كان يحمل من عنف وقوة في اتجاه السيطرة والهيمنة على الكون والطبيعة السيطرة التي تجلت في التطور العلمي والتكنولوجي بمقدار ما كان يحتكر السيطرة على التاريخ والمجتمع ،والثقافة هذا الاحتكار الذي يظهر في العلوم التي أنتجها هذا المشروع للهيمنة على الشعوب الشرقية كالأثنولوجيا(1) والأنثروبولوجيا والاستشراق التي يحكمها ثابت واحد هو مركزية العقل الغربي وتعاليه، حيث لا تأخذ الأثنولوجيا أبعادها الخاصة إلا داخل السيادة التاريخية المكبوتة دوما مع أنها حاضرة باستمرار في الفكر الغربي التصادمية مع سائر الثقافات ومع ذاته»(2)، هذا المكبوت و الذي يتجلى في الاستشراق الذي يفصح عن إرادة الهيمنة في العقل الغربي معرفيا، كما أفصح عنها الاستعمار سياسيا واقتصاديا. إن ما يقوله أي سياسي في الغرب عن السياسة الاستعمارية لا يمكن أن يخرج عن نطاق الخطاب الاستشراقي الذي يطمح إلى عولمة الثقافة الغربية.

فنجد خطاب وزير المستعمرات البريطاني بلفور الذي ألقاه أمام مجلس العموم البريطاني لا يختلف عما قد يقوله أي مستشرق أو فيلسوف مثل هيغل حيث أنه يقول قبل كل شيء أنظر إلى حقائق القضية، إن الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات... لأنها تمتلك مزايا خاصة... ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكمله فيما يسمى بشكل عام المشرق دون أن تجد أثرا

ص: 603


1- الاثنولوجيا Ethnology : فرع من فروع الانثروپولوجيا، بصفة عامة تتعرف بأنها علم دراسة الإنسان ككائن ثقافي وبأنها الدراسة المقارنة للثقافة . [ أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ج 01، مرجع سابق، ص 356.]
2- ميشال فوكو، الكلمات والأشياء تر: مجموعة من الباحثين العرب تقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء العربي للنشر، الدار البيضاء، د(ط)، 1990، ص .10

لحكم الذات على الإطلاق كل القرون العظيمة التي مرت على الشرقيين... انقضت في ظل الطغيان، ظل الحكم المطلق»(1). إن هذا الخطاب يحمل فكرتين الأولى هي تفوق الذات الغربية تاريخيا، والثانية قابلية الشرقيين للخضوع والسيطرة لعدم قدرتهم على حكم أنفسهم، وهذا نفس ما عبر عنه هيغل في التاريخ الشرقي، كما أن هذه الرؤية تستمر في رؤية ماركس للشرق الذي يقول عن الشرقيين إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم ، ينبغي أن يمثلوا»(2). وبهذا يكون الاستعمار رسالة تمدينية للشعوب غير المتمدنة التي يحولها النظام الرأسمالي الاستعماري من تشكيلات لا رأسمالية إلى تشكيلة رأسمالية، وهذا انطلاقا من اعتقاده بعالمية النظام الرأسمالي. إن أفكار ماركس الإنسانوية لا تختلف عن أفكار عصر الأنوار الوضعية التي أنتجت الاستعمار، حيث أنه في الوقت الذي يقول عن هجوم جيوش القيصر على بولونيا «إن شعبا يضطهد شعوبا أخرى لا يمكن أن يكون حرا»(3) ، مما يبين أن ماركس لم يتخلص من هيغليته ومن المركزية الأوروبية التي أطرت رؤيته الفلسفية للتاريخ الأوروبي الذي هو التاريخ العالمي، لذا فهو نموذج التقدم الذي يجب أن تؤول إليه جميع المجتمعات الإنسانية، ولو على حساب القيم الإنسانية التي يطمح إليها النموذج الاشتراكي في الخطاب الماركسي. وهذا انطلاقا من الرؤية الغائية لحركة التاريخ، أي أن التغير والتطور التاريخي لا يحدث وفق إرادة واعية وإنما وفق حتمية تاريخية ليس للأفراد سلطة عليها إلا من حيث هم عناصر في عملية.

ترسخ منهج إدوارد سعيد عبر الاندماج في الماركسية التقليدية القديمة مع تيار الممارسة النقدية في تحليل الخطاب لفهم العلاقة بين الإمبريالية والثقافة، أدى

ص: 604


1- إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة، تر نائلة قليقلي حجازي دار الآداب للنشر، بيروت، ط01، 2008، ص 16.
2- إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة، مصدر سابق، ص 35.
3- مشال نوفل المركزية الأوروبية وعلاقة الشرق بالغرب في الفكر الماركسي مجلة الفكر العربي، تصدر عن معهد الإنماء العربي، بيروت، العدد 31، 1983، ص 177.

به ذلك إلى مناقشة الحسابات الحقيقية للتاريخ لأنها الوحيدة التي تقدم نتائج للإستراتيجيات الثقافية والتي وجّهت إلى استبقاء المكسب السلطوي( أو النفوذ) والمادة في إلقاء وجهة النظر محددة على الثقافة والتواريخ ومن هنا يتضح تأثر إدوارد سعيد العميق برفض إيديولوجيا الهيمنة ووضع الضرورات السياسية للمجتمع موضع التساؤل، في ذلك يعتمد سعيد خاصة على ميشال فوكو، وأنطونيو جرامشي ونعوم تشومسكي. و هكذا فالنتيجة المبتغاة من قبل إدوارد سعيد أملت عليه تقصي ظاهرة الاستشراق« لا بوصفها فائضا مفاجئا لمعرفة موضوعية حول الشرق، بل بوصفها طقماً من البنى الموروثة من الماضي»(1)، ما يعني أنها ظاهرة موروثة لجهة تكريسها مفردات ومصطلحات ضمن بنية أذابت فيها المركب بالأصيل لتجعل من نفسها علما منزها عن مقتضى الشك بأساسها البنيوي، علما بأن هذا هو حال كل الكتابات المتعلقة بالعلوم الإنسانية، فالتوليف (2)هو عنصر رئيس في لعبة الكتابة لا في مضمار الاستشراق فحسب، إنما في كل ميادين الوصف التحليلي، وبالأخص في أنتروبولوجيا العلوم الاجتماعية التي تنطوي على كم من التراكم لموروثات لا نقوى عليها إلا بالاعتراف بأننا دوما من أبناء أباء الأمس، أو أنّ ما نتعلمه هو من اشتقاقات الوعي المنصرم (الماضي).

لربما قصد سعيد بالقول إن أسلوب الاستشراق منذ البدء كان يقوم على إعادة التركيب وعلى التكرار » (3)، البعد التأليفي في المكتوب الاستشراقي، فأراد بنا فهم ما

ص: 605


1- إدوارد سعيد الاستشراق، المصدر سابق، ص 144.
2- التوليف أو التركيب أو المونتاج في الترجمات الحرفية Montage أي تركيب أو رفع شيء على آخر، هو فن اختيار وترتيب المشاهد وطولها الزمني على الشاشة، بحيث تتحول إلى رسالة محددة المعنى. [ أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية ، ج 02، مرجع سابق، ص 64.]
3- إدوارد سعيد الاستشراق، مصدر سابق، ص145.

يتقصده الاستشراق عبر فبركة وتوليف ليسا بمثل وظيفة أيّة كتابة تتضمن توليفاً ضمن

سياق مكتوبها، لا في غائية مقصودها .

فمن هذه الزاوية أعار سعيد استشراق سلفستر دوساسي وارنست رينان مثلا اهتماما بالغا لكونهما دعما الفكر الاستشراقي بآلية جعلت من الشرق مختبرا التطبيقات المنهج الفيلولوجي (فقه اللغة) فغدا الشرق موجودا بقوة في«الحضور البلاغي لكتابة ساسي التي تحمل دائما لهجة صوت يتحدث، فإن الإنسان لا يشعر بقلم يكتب بقدر ما يشعر بصوت ينطق ».(1)صحيح هو القول، إنّ الشرق لا يوجد على النحو الذي أنتجته بلاغة المكتوب أو المنطوق بلسان ساسي المحكوم بتهمة ترتيب وتنظيم المنقول عن الشرق كمادة لتعليم طالبي المعرفة، أو الشغوفين لإدراك هذه الغرابة الشرقية الموجودة إزاء الألفة الغربية إلا أنه ليس صحيحا القول «إنّ التحويرات أو تأويلات المنطوق الساسي هي حكر على لغة المكتوب الاستشراقي، أو هي سمة من سمات الفكر الغربي، إذ إنّ عدسةالمنقول عن الشرق لا يمكن أن تعكس الصورة بمرآة مجردة عن تدخلات الناظر إلى الواقع بوجوده لا بذاته، إنما بذواتنا المتشابكة فيها أسبقية المعطيات التي تتداخل مع ما تحصل من معلومات تتأثر هي بأسبقية المترسخ دوما »(2).

هدف سعيد يتفق مع ما قاله كريستوفر نوريس«وهو إظهار الطبيعة المزيفة الكاذبةالمجمل ما يمرر على أنه حكمة أكاديمية غربية حيال التاريخ العربي، فهو لا يكتفي بتقديم نوع من السردية المناهضة الاختيارية - التي يحدث أن تتوافق مع برنامج عمل يساري ليبرالي قائم يُعنى بالحوار الثقافي»(3) ، هذا يعني أنه يرمي إلى الرد على مجمل

ص: 606


1- إدوارد سعيد المثقف والسلطة، تر : محمد عناني رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط01 ، 200 ،ص41
2- ندیم نجدي، أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد-حسن حنفي-عبد الله العروي، مرجع سابق، ص 116.
3- كريستوفر نوريس نظرية لا نقدية تر عابد اسماعيل دار الكنوز الأدبية، بيروت، د(ط)، 1999، ص 204.

أطروحات المستشرقين، بإظهارها كما لو أنّها تنتمي إلى فضاء يتوحد فيه وصف قديم الرحالة مع ما يتفسّره تحليل المناهج الجديدة للأكاديميين الذين اكتسبوا حججهم لا من الوقائع بل من قدرتهم البلاغية على إقناع جمهورهم بحقائق صالحة لتعبئة ما فيها من الحقائق ما يكفي لإظهار زيف ما يختلقونه كما لو أنه حقيقة مطلقة.

لقد اتبع سعيد السبل التي تمكنه من التقاط وشائج الصلة بين النظرة الأوروبية والسيطرة الأوروبية ليحد العلاقة بين الشقين علاقة سبب بمسبّب، أي ان هذه السيطرة هي نتيجة تلك النظرة التي أمست من بديهيات صورة الشرق المنمطة على نحو لايقوى على مخالفته حتى ماركس المنظر للصراع الطبقي، والداعي للتحرر الأممي.

لقد تضافرت كل العوامل المؤدية إلى تدعيم الاستشراق بسيطرة أوروبية على معظم أقطار المشرق العربي الخارج لتوه من سيطرة الحكم العثماني الذي أنهك أوضاعه بعلة تخلف الشرق عن مجريات تطور الغرب المتقدم قرونا طويلة، دأب الغربيون خلالها على معاينة أوضاعهم المتردية ما دفع بالأوروبيين إلى تخصيص علم الاستشراق كوسيلة لدراسة شرقنا الحاضر بالقياس إلى ماضي شرقهم المليء بأساطير وحكايا حية في تراثهم الذهني، غير أننا لسنا في معرض الفصل التام بين الطرفين الاستشراق والاستعمار في علاقة تفاعلهما الجدلي الواضح بما لا يدعو إلى الشك، مع أن الاستشراق كان سبّاقا في السيطرة على وعي الأوروبيين قبل أن يترجموه في أدائهم السياسي سيطرة مباشرة على الشرق في مطلع القرن العشرين.

و هنا عرج إدوارد سعيد في بحثه على التفتيش عن أواصر العلاقة بين الثابت والمتحرك في صيرورة الاستشراق الحديث، ليجد أن الثابت في مضمونه الخفي عصي على التبدل والتحول بحسب مقتضى حركة التطور التاريخي للغرب، فمثلما كان الاستشراق نتيجة اعتبارات تكونُن - الذهنية أو العقلية الذاتية في الغرب،

ص: 607

كذلك هو أيضا نتيجة للعلاقات والروابط التاريخية بين الشرق والغرب، «لذا كان لابد من

أن يتحول الاستشراق ويتبدل بنتيجة أي خلل يطرأ على عوامل تشكله، لكن تماسكه وتمتنن من (متن مواقعه تعود ربما إلى ارتباطه العضوي بنتيجة التفاوت التاريخي في العلاقات والروابط الأقوى من أن يتعثر بمؤدى تفكرهم الذي تطور إلى حدّ نشأت معه مفارقة الاختلال بين موقف الغرب الحديث من قضاياه، وموقفه من قضايا الآخر»(1).

عاملان اثنان احتلا الحيّز الأكبر في تحليل سعيد تمثلا بقضيتي النفط العربي واحتلال فلسطين، ومع أنهما قضيتان منفصلتان بالنسبة للغرب، إلا أنهما مدمجتان بصورة العربي الضعيف العاجز عن إدارة نفسه بنفسه،« فمن موقع الغرب القوي القادر على إعطاء كل ذي حق حقه، أمست مقدرات النفط العربي في عهدة المركز الغربي فقط لكونه مركزاً في تحديد ما يجب أن يمتلكه الآخر العربي غير الكفء في إدارة بلدانه وخيراتها، تلك المحتاجة إلى إنعاش حضاري يجب تصديره احتلالا إسرائيليا لفلسطين»(2) ، فاللغة الاستشراقية ساعدت في إقناع شعوب الغرب بإجراءات سیاسته غير المنصفة تجاه شعوب المنطقة العربية، إذ أن التعبئة الإيديولوجية للوعى الأوروبي المدجن من قبل مؤسساته، لم تعد تقتصر على استصدار كتب الرحالة والمستشرقين بعدما أصبحت وسائل الإعلام الدعائي متطورة إلى حد اعتمادها تقنيات الأفلام والتلفاز لتصوير الآخر بلغة أكثر مباشرة في توصيف العربي المسلم بكونه بدويا في صحراء قاحلة وخالية من كل أسباب تحضّر الغرب الإنساني، «وما نشاهده اليوم في وسائل الإعلام المرئي والمسموع يختزل المشهد الذي آل إليه

ص: 608


1- ندیم نجدي، أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد حسن حنفي عبد الله العروي، مرجع سابق، ص 142.
2- إدوارد سعيد غزة- أريحا : سلام أمريكي ، تقديم : محمد حسين هيكل دار المستقبل العربي للنشر، القاهرة، ط01، 1994، ص 16-17.

الاستشراق التقليدي، بمفاعيله الراهنة على المجتمع الغربي المتقدم في تقنياته، وفي استجدائه لمناهج بحث جديدة لم تكن متوفرة في عهود معرفته السابقة للشرق»(1).

إن تعقيدات العلاقة في انتقال الغرب من طور استعماري إلى طور إمبريالي آخر، يُستدل عليها من خلال مدوّناتهم المتمثلة في مراكز أبحاثهم عن كيفية نقل الحضارة الغربية إلى الشرق المتخلف، وقد تركزت جلّ أبحاثهم لا حول قيمة الشرق ذاته، إنما حول ما يجب إتباعه من طرق نافعة لتثقيف وأنسنة الشرقيين، باعتبارهم خارج دائرة الحضارة القائمة على معايير غربيتهم ، وعلاوة على تطورهم المعرفي إن إزالة الاستعمار المباشر فرض على أنتروبولوجييهم الاعتراف بحقيقة وجود تمايز جدي بين حضارات لا يجوز الحكم عليها من منطلق معياري صرف بعدما تم دحض النزعة الإثنية المركزية (2)وهي النزعة التي تتلخص بموقف من يعتقد أن نمط حياته أفضل من الأنماط الأخرى»(3).

هكذا، وجد سعيد تداخلا متأصلا في امتيازات الثقافة الغربية المنبثة في أكساد مؤلفة دمغت وعيهم بتكبر استشراقي مع خاصية إيمانهم بأحقية الوصاية على من دونهم مستوى عبر السيطرة المباشرة وغير المباشرة على شعوب ريفية تحتاج برأيهم إلى تمدين ،حضاري، حتى إذا ما استلب الغرب شيئا من مقدرات الشعوب الفقيرة فما هو إلا لتعزيز مدنيتهم الأولى بأهميتها لهم ولنا.

و أكمل إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية» ما كان قد بدأه في «الاستشراق» بتقصي إنشاءات الغرب المتواضعة بوضوح في الاستشراق التقليدي، فتمكن بذلك

ص: 609


1- إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، تر : فواز طرابلسي، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، ط01، 2005، ص 27.
2- الإثنية المركزية : الحكم المسبق الذي لا يحكم قيميا على ثقافة أخرى إلا انطلاقا من ثقافته الخاصة. [ نديم نجدي، أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد حسن حنفي - عبد الله العروي، مرجع سابق، ص 153.]
3- جيرار لكلرك، الأنتروبولوجيا والاستعمار تر جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت، د(ط)، 1990، ص 152.

من الإمساك بخيط الثقافة الغربية الجامعة بين المباشرة في خطاب بلفور، واللامباشرة في المنحى الأدبي لرواية «كيلينغ» مثلا، خالصا إلى أن التعبير عن مدى التواشج بين وضوح الأول وغموض الثاني مُضْمَر في ذهنية استعلائية اتسقت فيها رسومات الرحالة الغربيين، مع ما وصفته كتاباتهم التي تجسدت على أرض الواقع في استعمار إمبريالي واضح كعين الشمس إلا أن المسألة هذه لا تتبين في التبويب إياه الذي يعمل على ترتيب علاقة معقدة إلى حدّ استلزم من سعيد جهدا مركزاً لتفكيك أواصرها بمقاربة وشائجها، وهذا هو بالضبط ما تمحورت حوله شروحاته- تحليلاته التي سعت قدر الإمكان إلى استنباش التشابكات والتداخلات المطمورة تحت أحكامها علينا، وأحكامها علة ما حكموه علينا بمثل ما جاء في الفقرة التالية« فإن الصراعات المتنوعة على السيطرة بين الدول، والقوميات والمجموعات العرقية، والأقاليم، والكيانات الثقافية قد قامت بالتحكم التلاعبي بالرأي والإنشاء وتضخيمها، وبإنتاج التمثيلات العقائدية الإعلامية واستهلاكها، وتبسيط أمور بالغة التعقيد والتشابك وتقليصها إلى متداولات بسيطة يسهل توظيفها واستغلالها في خدمة سياسات الدولة، وقد أدى المثقفون في هذا دورا مهما، لم يبلغ في رأيي درجة أكثر حسماً وتعريضاً للشبهة ومساسا للكرامة مما بلغه تقاطع التجربة والثقافة الذي هو ميراث الإمبريالية»(1).

-2 صناعة الثقاف الأوربي وخدعة الاستشراق:

يحاول إدوارد سعيد أن يوضح لنا مدى ترابط الثقافة بالإمبريالية في حين يدعو إلى أنه لا يدين الثقافة الغربية أو الرواية الغربية، وإنما هي علاقة حتمية بين الثقافة والإمبريالية لا يمكن فصلها، وهذا ما عبر عنه بقوله: «لست أسعى إلى القول بأن الرواية أو الثقافة بالمعنى الواسع قد سبّبت الإمبريالية، بل إن الرواية من حيث هي مصنّع ثقافي من مصنعات المجتمع الطبقوسطي، والإمبريالية غير قابلين للحضور

ص: 610


1- .Edward W. said، culture and Imperialisme، Op.cit. p 150

بالبال منفصلتين إحداهما عن الأخرى .... فالرواية شكل ثقافي اشتمالي تدميجي شبه موسوعي، وفيها أمران: آلية للحبكة بالغة التقنين، ونظام كامل من الإحالة الاجتماعية،

يعتمد على مؤسسات المجتمع الطبقوسطي القائمة على سلطتها وقوتها»(1).

حسنا فعل سعيد حينما أشار إلى أن العلاقة بين الثقافة والإمبريالية ليست سببية على وجه التحديد، إنما هي علاقة تواشج وتداخل لا تنفصل فيها ثقافة الغرب عن إمبرياليته، وهذا من شأنه أن يحمل الثقافة شيئا من المسؤولية عما يجري في السياسة.

و هكذا مثلت الإمبريالية والاستعمار الأداة الفعالة التي استعملها الغرب من أجل إخضاع العرب وتعميق مظاهر ضعفهم وتأكيد أنهم لا يصلحون إلا أن يكونوا الأداة التي يمكن تشكيلها وفق أهواء الغرب وطموحاته لذلك «فليست الإمبريالية وليس الاستعمار مجرد فعل بسيط فكل منهما مدعم ومعزز بل وربما كان أيضا مفروضا من قبل تشکیلات عقائدية مهيبة تشمل مفاهيم فحواها أن بعض البقاع والشعوب تطلب وتتضرع أن تخضع للسيطرة، ولا يعني للسيطرة» (2) ، ولا يعني هذا الإقرار تأكيدا لإرادة الغرب المتواصلة في الهيمنة بقدر ما هو نقل لواقع علاقة الغرب بالعرب اللامتكافئة والتي أقيمت على مبدأ القوة والسيطرة، والتي خلفت نتائج مازالت تتحكم في حياة العرب ومصيرهم.

ويجادل إدوارد سعيد بأن الاستشراق أنتج وجهة نظر عدائية حول الشرقيين والمسلمين العرب، ويعتقد« بأن الإسلام كان لأوروبا، صدمة دائمة»(3)، وهو يحاول دعم هذه الفكرة بعدة أمثلة من الكتابات الغربية، ويشير على سبيل المثال إلى أن -اللورد كرومر - في كتابه مصر الحديثة - يصور الشرقيين والعرب على أنهم سذج، مجردون من الطاقة والمبادرة، ومجبولون على التملق المفرط، والخداع، والقسوة

ص: 611


1- إدوارد سعيد الثقافة والمقاومة، تر:علاء الدين أبو زينة، دار الآداب للنشر، لبنان، ط01، 2006،ص.13
2- .Edward W. said، culture and Imprialisme، Op.cit، P 80
3- إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق، ص 59.

على الحيوانات، والكذب، ويصفهم بأنهم «خاملون ومريبون، طباعهم تختلف كليا عن طباع العرق الأنجلوسكسوني»(1) ، وينقل إدوارد سعيد عن -نورمال دانيال- في کتابه- الإسلام والغرب- أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ينظر إليه في الغرب بأنه نبي الوحي الكاذب، وقد أصبح في عيون الغربيين مثالا« للفجور، والفسق، والشذوذ، وأنه منظومة كاملة من الخيانات المختلفة »(2)، ويؤكد سعيد أيضا بأن القرآن لم يسلم من الهجوم العدائي للكتاب الغربيين، فتوماس كارلايل- يصف القرآن بأنه خليط مشوش ،مضجر، خام، فج، تكرار لا نهائي إسهاب ممل، تعقيد، وباختصار هو خام، ركيك، غباء لا يحتمل» (3) .

ويمضي سعيد بجدله هذا قدما ليؤكد أن صورة العربي ظلت مشوهة حتى في الوقت الراهن، ففي الأفلام الغربية الحديثة، يظهر العربي إما كداعر أو إرهابي وتظهره أفلام

هوليود شهوانيا، وساديا، وغادرا بالفطرة، وتاجر عبيد، وسائق جمال، ولئيما متقلبا، فهذه بعض الأدوار العربية التقليدية في السينما، كما يرى إدوارد سعيد «وقد تلقت دعما من المستشرقين الأكادميين الذين أصبحت صنعتهم دراسة الشرق الأوسط»(4)، ويرى إدوارد سعيد بأن العدواة الغربية تجاه الشرق لم تقف عند هذا المستوى، فالسمة الأكثر شذوذا هي ما يعتقده بعض المستشرقين من أن العربية كلغة خطرة إيديولوجيا. ويستشهد على هذا بمقالة كتبها - إي شاوبي- حول تأثير اللغة العربية على نفسيات وعقليات العرب. مثل هذه الصور والأفكار حول الإسلام والعرب كما يؤكد إدوارد سعيد «أصبحت مرفاً متكاملا من تقاليد الدراسات الشرقية طوال القرن التاسع عشر وأصبحت بشكل

ص: 612


1- إدوارد سعيد خيانة المثقفين تر أسعد الحسين دار نينوي للدراسات والنشر والتوزيع، سورية دمشق، د(ط)، ، 2011ص19
2- إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق، ص62.
3- المصدر نفسه ص .152
4- المصدر نفسه، ص 288.

تدريجي مكوّنا أساسيا لمعظم العمل الاستشراقي، للأجيال اللاحقة»(1).

ویرى إدوارد سعيد أن فهم الإسلام لدى الغرب انطوى على محاولة تحويل تنوعه إلى جوهر وحداني غير قابل للتطوّر. وقلب أصالته إلى نسخة منحطة من الثقافة المسيحية ومسخ شعوبه إلى كاريكاتورات مثيرة للرعب. ومثل أية سلعة ناجحة رائجة، كان الشرق المصنّع ممنوعا من التبدّل. وإذا حدث ودخل جزء من تاريخه في تناقض مع خصائص السلعة كما رسمها المستشرقون، فإن هذا الجزء سيقمع ويُبطل ويُلغى. وكتب سعيد «التاريخ والاقتصاد والسياسة ليست على أي قدر من الأهمية هنا الإسلام هو الإسلام، والشرق هو الشرق ».(2)

3 -قيمة وآراء سعيد حول الوعي الأوربي بهاجس التأثير الاستشراقي:

و من هذا يكون تقييم إدوارد سعيد لثقافة الغرب واستشراقه قد بين شيئا مما حصل وما سيحصل، ما لم تستدرك مفاعيل الصور النمطية عن العرب والمسلمين، بكونهم يشكلون كياناً غرائبياً، لا يشمله تسامح الغرب، ولا حتى هو محسوب ضمن القيم الإنسانية (الغربهم) الذي يتعامل مع وضعية الشعوب البائسة، على أنها من طبيعة وجودها المتجوهر عندنا في إسلام متخلف عن مسيحية ليبيراليته وديمقراطيته ، فهذا من شأنه أن يوتر العلاقة المبنية على افتراءات أيديولوجية تعطي لازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا المتشابهة مشروعية متأصلة في تلك النظرة التي تتصور أنّ ما يصح عليهم، لا يصح علينا.

لقد نجح إدوارد سعيد إلى حدّ ما في تفكيك وشائج العلاقة المركبة بين ثقافة

ص: 613


1- Edward W.said، Beginnings: Intention and method. granta books، London، 1997، P 381
2- إدوارد سعيد صور المثقف تر: غسان ،غصن مر منى ،أنيس دار النهار للنشر، بيروت، د(ط)، 1996، ص50

الغرب الاستشراقية، ومواقفه العملانية في سياسته الاستعلائية أو الاستكبارية الجارية بمؤدَّى فهمهم الثقافي المشوّه عن الأمم الشرقية، حتى إنّه ذهب في نقده الاستشراق إلى إظهار غموض الالتئام المكتنف بين فواصل السياسة عن الأدب أو الفلسفة، في إيديولوجيا تجنَّب ذكر مُصطلحها ، بطريقة تستدعي الاستفهام عن الأسباب التي حدت به إلى الابتعاد عن استعمال مفهوم الإيديولوجيا كمفهوم متكامل يلبي معنى ما أراده، أو ما تقصد في ما أشار إليه أكثر من مرة، وفي أكثر من موضع.

و في هذا السياق لا يجوز للعرب والفكر العربي التجاهل، بل ينبغي تحديد موقف فكري من النداءات التي ترفع راية حوار الحضارات، أو ما سمي تحالف الحضارات. إن هذه المحاولات الفكرية، على أهميتها ، تعكس التصدع الذي لحق بالعلاقة بين الشرق والغرب وانسداد التواصل الذي عمقه نداء مقابل، يدعو إلى نهاية التاريخ وصدام الحضارات.

إن من ينتمي إلى ذلك التيار الفكري الذي يؤمن بوحدة التاريخ العالمي ووحدة الحضارة الإنسانية، قد لا يقف عند هذا التقابل المفتعل بين الحضارة الواحدة التي أسهمت جميع الشعوب في بناء صرحها على امتداد التاريخ. وهذه الحضارة الإنسانية تعكس الإنتاج الثقافي والإسهامات والإبداعات المتنوعة لمختلف الشعوب، فهي ليست حكرا على شعب من الشعوب بهذا المعنى فإن ما نسميه الثقافة العالمية، هي تمثل مجموع الثقافات الإنسانية المشتركة بعبارة أخرى إننا أمام حضارة واحدة شاركت في صنعها ثقافات متعددة كلها أسهمت في هذا التراكم الحضاري الإنساني الذي يمثل قاسما مشتركا بين جميع الشعوب.

ص: 614

المصادر والمراجع :

أ / بالعربية

- 1 إدوارد سعيد، خارج المكان تر فواز الطرابلسي، دار الآداب للنشر، بيروت، 2000 ط01

-2 إدوارد سعيد الاستشراق تر : محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 01ط.2006

-3إد وارد سعيد، الاستشراق وما بعده تر ثائر ،دیب ورد للطباعة والنشر والتوزيع، سورية، ط01، 2004.

-4 إدوارد سعيد، القلم والسيف تر توفيق الأسدي دار كنعان للدراساتوالنشر ،دمشق ،ط01، 1998.

-5 إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق تر صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط01، 1996،

-6 إدوارد سعيد صور المثقف تر غسان ،غصن مر منى أنيس دار النهار للنشر، بیروت، د(ط)، 1996،

-7 إدوارد سعيد، خيانة المثقفين تر أسعد الحسین دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سورية دمشق، د(ط)، 2011

ب / بالفرنسية

Edward W.said. Beginnings: Intention and method. granta books. ج 381 London، 1997، P

ص: 615

ج - المراجع بالعربية:

1 -على بن ابراهيم النملة صناعة الكراهية بين الثقافات وأثر الاستشراق في افتعالها، دار الفكر للنشر ، دمشق، ط01 2008

2- جيرار لكلرك، الأنتروبولوجيا والاستعمار، تر جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت، د(ط)، 1990

3- ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، تر : مجموعة من الباحثين العرب تقديم: مطاع ،صفدي، مركز الإنماء العربي للنشر، الدار البيضاء، د(ط)، 1990.

-4 محمد أركون وآخرون، الاستشراق بين دعاته ومعارضیه تر هاشم صالح دار الساقي للنشر، ط01 ، 1994

ص: 616

هذا الكتاب

دعوة إلى بذل الجهد المعرفي والسعي نحو إعادة الإحياء الحضاري الإسلامي، وتقديم بدائل معرفيّة وثقافية لزمن ظهرت بوادره في الفترة المعاصرة من خلال التنظير لصراع الحضارات وما أعقب ذلك من أحداث عالمية دامية.

تكمن أهمية هذا المسعى في التأسيس لمسار معرفي يرنو إلى تحليل الغرب ونقده وهو مسعى يدخل في نطاق ما يطلق عليه إجمالاً علم «الاستغراب»، وغايته تحصين الذات الحضارية والخروج من هيمنة الاستعمار المعرفي والثقافي الحديث الذي يلقي بظلاله على مساحة واسعة من البيئات الفكرية في العالمين العربي والإسلامي.

المرة الالماني الدراسات الاستر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 617

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.