نحنُ و الغرب المجلد 1

هوية الكتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

نحن والغرب[1]

مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي

إعداد وتحرير

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني

.الطبعه:الأولی 2017م-1438ه_

ص: 1

اشارة

هویه الکتاب

.الکتاب:

نحن والغرب.. مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي

.إعداد وتحرير :

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني

.الناشر:

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/العتبة العباسية المقدسة .

.الطبعه:الأولی 2017م-1438ه_

ص: 2

الفَهْرسُ

مدخل منهجي لمعرفة الغرب

مقدّمات تأسيسيّة في علم الاستغراب: لماذا الاستغراب

هاشم الميلاني...12

جدلية الأنا والآخر: مشروع الخطاب النقدي الاسلامي

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي...30

في إمكانية معرفة الغرب: ملاحظات منهجية

رضا داوري الأردكاني ...37

الاستغراب القسري في جدل التثاقف بين المركز والهوامش

نجلاء مكاوي...50

المركز والضواحي بصدد المطلق الحضاري في التاريخ العلماني الغربي

رضا داوري الأردكاني...75

العالم الإسلامي وعلم الاستغراب النقدي

أحمد كلاته ساداتي ...93

نقد الغرب في القارة الأفريقية (الدول العربية )

محمد عبده .. من نقد الذات إلى تجديد الفكر والخطاب الديني

ا.د. مصطفى النشار...117

قراءة الخطاب النقدي للغرب في الفكر العربي الحديث والمعاصر

محمد رشيد رضا أنموذجاً

د. صباح حمودي...145

ص: 3

مالك بن نبي .. من نقد الذات والآخر إلى بناء نظرية جديدة في البناء الحضاري

أ.د. مصطفى النشار...163

مفهوم الغرب وأسسه التكوينية في الفكر الحضاري عند مالك بن نبي

الدكتور الحاج دواق ...188

نقد الفكر الغربي في فكر الشيخ حسن البنا

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي ...208

«الآخر» في فكر سيد قطب

د. محمد شهید...225

محمد قطب ونقده للتنوير الغربي

أ.م. الدكتور ياسين حسين الويسي...242

محمد عزيز الحبابي : فلسفة إنسانية ومشروع نهضوي

د. أحمد بوعود ...263

عبد الوهاب المسيري ونقد التحيز للنموذج الغربي

د. غيضان السيد علي...278

الحداثة الغربية : درس معرفي أم خوف / قبول مرضي ؟

دراسة في فكر عبد الوهاب المسيري

عماد الدین محمد عويس عشماوي...303

منهجية الفاروقي في قراءة النموذج المعرفي الغربي

:دكتور حسان عبدالله حسان...355

ص: 4

نقد قيم الحوار مقاربة للمنهج النقدي عند طه عبد الرحمن

الباحث: طارق الفاطمي...392

جدلية الصراع والتدافع بين الشرق الاسلامي والغرب العلماني

في فكر الدكتور محمد عمارة

.م. م . محمد عبد المهدي سلمان الحلو...409

نقد الغرب في القارة الهنديّة

أَبو الأعلى المودودي ونقد مبادئ المدنية الغربية

د. غيضان السيد علي...427

قضية الإسلام والغرب عند الندوي

د. محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه ...450

مُحَمَّد إقبال وحوار الاسلام والغرب

أ.م.د. رائد جبار كاظم ...465

غاندي ومعضلة الغرب: قراءة في البديل الحضاري لظاهرة الاستعمار

د. مونيس بخضرة ...485

ص: 5

ص: 6

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 7

مقدمة المركز

في عملية تأسيس علم الاستغراب (أي النظرة الشرقية للغرب بما فيها من تحليل وتوصيف ونقد توجد حلقة مفقودة لم تلق اهتماماً من قبل الدارسين والباحثين، حيث بقيت مهجورة طيلة الفترة المعاصرة التي احتك فيها العالم الاسلامي بالغرب، وتلك الحلقة هي الاطلاع والوقوف على مشاريع علماء الامة الاسلامية ومفكريها خصوصاً والشرق عموماً في دراسة الغرب وتحليله ونقده وتفكيك تجلياته في واقعنا المعاش من قبل النخب.

هذه الحلقة المفقودة تعدّ محوراً رئيساً في عملية تأسيس علم الاستغراب؛ إذ تساهم في تطوير هذا المولود الجديد ونموّه، وتدفع عجلته إلى الامام، إذ الاطلاع على تجلي الغرب على الشرق عموماً والامة الاسلامية خصوصاً، وتلقي النخب الشرقيةوالاسلامية لهذا التجلي، وما أحدثه من تيارات ومدارس فكرية معرفية متنوعة، يجعلنا أمام كم هائل من الأعمال الفكرية والجهد العلمي، ويختصر لنا الطريق ويعطينا الادوات الكافية للقيام بهذه العملية، إذ من شاور الناس شاركهم في عقولهم.

هذا الكتاب جاء كخطوة اولى تلبية لهذه الحاجة، حيث اشترك فيه مجموعة من الباحثين لاظهار مشاريع علماء الامة الاسلامية وكيفية تلقيهم للغرب وتحليله ونقده، ونحن وإن لم نف بجميع الاعلام ولكن أشرنا إلى أبرزهم، رغم اعتقادنا بانّ المشروع بحاجة إلى تفصيل أكثر من خلال كتابات مستقلة تلقي الضوء على جميع ما أنتجه علماؤنا الأعلام في مؤلفاتهم وأبحاثهم حول الغرب وطرق الوقوف أمامه أو التواصل معه.

ونحن إذ نقدّم هذا الكتاب إلى المكتبة العربية والاسلامية، نقدم شكرنا وتقديرنا للاستاذ الدكتور عامر عبد زيد الوائلي حيث اهتم بمخاطبة الباحثين واعداد وتحرير

ص: 8

البحوث، كما نشكر الاستاذ الدكتور السيد ستار الاعرجي حيث شاركنا في مراجعة بعض البحوث وتسجيل ملاحظات قيّمة، وكذلك معهد العلوم والثقافة الاسلامية حيث سمح لنا بالاستفادة من بعض البحوث الفارسية وكذلك نشكر جميع من ساهم في تصحيح البحوث واخراجها وترجمتها.

وأخيراً نعتقد ان هذا العمل جهد بشري يعتريه ما يعتري البشر من السهو والنسيان.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الامين وآله الميامين.

النجف الاشرف

مدير المركز

هاشم الميلاني

شهر رمضان 1438 ه_

ص: 9

مدخل منهجي لمعرفة الغرب

اشارة

ص: 10

ص: 11

مقدمات تأسيسيّة في علم الاستغراب

هاشم الميلاني

هاشم الميلاني(1)

لماذا الاستغراب

إنّ الحضارات لا تتولّد ولا تتكوّن عن فراغ ،بل كل ولادة حضارية وانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى في تاريخ البشرية والحضارات وتعاقبها يسبقه تراكم معرفي وثقافي يمهد للانتقال والولادة الجديدة، وهذا التراكم المعرفي ينشأ من حركة دورانية بین الأنا والآخر أو قل :حركة ديالكتيكية وتفاعل إيجابي مستمر بين ما هو موجود عند ال_ (أنا) وعند ال_(آخر)، وبتلاقحهما وتفاعلهما المستمر تتولد حضارات جديدة. هذه الحالة السنة المستمرة في تعاقب الحضارات منذ بداياتها الأولى وإلى يومنا الحاضر. فانظر إلى الحضارة اليونانية ثمّ الإسلامية ثمّ الغربية لتقف على مدى الفعل والانفعال والتأثير والتأثر الموجود بينها . هذا من جهة.

ومن جهة ثانية فإننا قد دخلنا في سجال عميق مع الغرب منذ قرنين من الزمن أي إبان الغزو الفرنسي لمصر 1213 هجري / 1798 ميلادي) حيث وإن لم يكن أول احتكاك مباشر بين المسلمين والغربيين لكنه بالتاكيد كان بداية انطلاقة نحو التغريب والاستعمار الثقافي والسياسي. هذا السجال قد أسال حبرا كثيرا وسوّد أوراقا كثيرة وأنتج كتبا ومجلات وفيرة مختلفة، وانقسمت على اثره الساحة الإسلامية والوطن العربي إلى تيارات مختلفة يمكن تلخيصها في تيارين كبيرين:

ص: 12


1- مدير المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العراق، النجف الأشرف.

-التيار الاسلامي بما فيه المعتدل والاصولي والسلفي .

-التيار التغريبي بما فيه الليبرالي والقومي واليساري.

وكل واحد من هذين التيارين بما فيهما من تشعبات داخلية اتخذ موقفاخاصا تجاه الغرب.

ومن جهة ثالثة فان الغرب قد تجلى لنا بتجليات عدة:

1- التجلي السياسي

2 -التجلي الثقافي

3 -التجلي الفكري والمعرفي

4- التجلي التقني.

وفي مقام التعرف على الغرب وفهمه نقديا ومعرفيا لا بد من الفصل بين هذه التجليات ودراستها بمناهجها والياتها الخاصة، ويلزم عدم الخلط بينها، اذ يؤدي ذلك إلى الوقوع في هفوات معرفية ومنهجية كثيرة.

من هذا المنطلق ومن خلال الدعوة إلى بذل الجهد المعرفي والسعي نحو إعادة مجد الحضارة الإسلامية وإحيائها من جديد وتقديم بدائل معرفية ثقافية للزمن المتوحش الذي نعيشه اليوم، الذي ظهرت بوادره في الفترة المعاصرة من خلال كتابات أمثال صموئيل هنتغتون في التنظير والدعوة إلى صراع الحضارات وصدامها لاسيما الإسلامية والغربية وما أعقبته هذه الدعوة من أحداث عالمية دامية من قبيل أحداث 11 سبتمبر وظهور فرق مارقة أمثال القاعدة وداعش .من هذا المنطلق تكمن أهمية السعي نحو تأسيس مشروع معرفي يرنو إلى تحليل الغرب ونقده الوقت نفس، أو ما يسمى بعلم الاستغراب لتحصين الأنا وتحسينها، والخروج من الاستعمار المعرفي والثقافي الحديث الذي سيطر على كثير من النخب الفكرية العربية والإسلامية في

ص: 13

وضعنا الراهن، والوصول إلى بناء حضارة إسلامية متكاملة.

إنّ هذا المشروع وهذه العملية لتأسيس علم الاستغراب ليست بالأمر الهين لتتمّ وتنتهي خلال أيام بطباعة بعض الكتب أو الدراسات، بل هو مشروع تأسيسي ربما يمتد ويطول بقدر الفراغ والتخلف المعرفي والثقافي الذي شهدناه في عالمنا العربي والإسلامي، وهو بحاجة إلى مزيد من الصبر وبذل الجهد والإبداع الفكري والمعرفي لتكوين منظومة متكاملة ذات أهداف وآليات واضحة .

في هذه العجالة سنذكر أهم المفردات والموارد التي نحتاجها في تكوين هذه المنظومة وتأسيس علم الاستغراب ،ونشير إليها في ما يلي:

1. المصطلح :

الاستغراب، مصدر من باب الاستفعال بمعنى طلب الشيء، وإرادة التعرف عليه والمقصود منه هنا المعنى الاصطلاحي، أي :طلب الغرب بغية التعرف عليه.

ولا جدوى للدخول في المعنى اللغوي إذ يبعدنا عن المقصود.

ولا يخفى أنّ طلب الشيء وإرادة التعرف عليه يستلزم التجرد والموضوعية التامة ليتسنى الوقوف على الشيء من جميع جهاته إذ إنّ تدخل الحب والبغض يفسد المعرفة السليمة، ولكن بما أنّ اتّخاذ الموقف يتلو مرحلة المعرفة فمن الطبيعي أن يتخذ الإنسان موقفاً سلبياً أو إيجابياً في المرحلة الثانية.

وفي ما نحن بصدده فقد أنتج التعرف على الغرب في عالمنا العربي والإسلامي ثلاثة اتجاهات:

1 .الانبهار.

2. الرفض والعداء المطلق.

3. التعامل والتفاعل الإيجابي.

ص: 14

2. الغرب:

السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه في عملية تأسيس علم الاستغراب سيكون عن الغرب؛ ما هو الغرب وأين يقع؟!

عندما يطلق الغرب قد يراد منه عدة معان، وهذه المعاني لا تكون عرضية بل تقع طوليةومشككة، وهذه المعاني هي:

1. الغرب الجغرافي: وهو ما ترسمه الخطوط الجغرافية والخرائط العالمية لما يقع في جهة الغرب من آسيا وأفريقيا لتشمل بلدان أوروبا وأمريكا وكندا. هذه الحدود الجغرافية قد شكلت اليوم تحالفات سياسية كالحلف الأطلسي لتتخذ جبهة موحدة أمام الشرق الجغرافي والسياسي.

2. الغرب الثقافي: وهو ما أنتجه الغرب من ثقافة في عصوره المختلفة إلى أن انتهت إلى ثقافة العلمانية والليبرالية والفردانية والرأسمالية في جميع المجالات.

3. الغرب الحضاري: وهو المنظومة المعرفية والثقافية والسياسية والاقتصادية المتكاملة التي ولدت في الغرب الجغرافي إبان عصر التنوير واستمرت إلى يومنا الحاضر ،وتحاول أن تبسط سيطرتها على العالم كله وتلغي باقي الحضارات. ويمتد جغرافيا ليشمل أيضاً كندا ونيوزيلندا.

والذي نقصده في عملية علم الاستغراب التأسيسية هو الشق الأخير أي الغرب الحضاري الغرب كعقيدة وفن وفكر ومعرفة واقتصاد وسياسة و.... الغرب كمنظومة متكاملة رغم وجود التعدد واختلاف الآراء فيه.

وهذا لا يعني إلغاء باقي المعاني إذ إنّ الغرب الحضاري تولّد في أحضان الغرب الجغرافي والثقافي ، فهذه المعاني طولية وليست عرضية، وبهذا يصح التقابل الموجود في مقولة الغرب والإسلام من حيث المعنى والمحتوى إذ الإسلام كدين والغرب لحضارة يصح تقابلهما معنى، أما لو أردنا مجرد المعنى الجغرافي لأصبح المعنى

ص: 15

غريباً لا تناسق فيه، كما لو قلنا الشمال والإسلام أو الجنوب والإسلام.

الغرب كمصداق للحضارة يختلف جغرافياً بحسب الزمان، ففي مرحلة زمنية كانت الحضارة الغربية تعني الحضارة اليونانية، بينما اليوم تعني حضارة أوروبا وأمريكا،وقد يتقشّع المستقبل عن حضارات غربية تقع في مناطق جغرافية أخرى.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره البعض من أنّ «كلمة (غرب) في المرجعية العربية الإسلامية لم تكن تعني يوماً من الأيام وجود (آخر) يقع بالتحديد خارج بلاد الإسلام ولا ديناً و لاحضارة تمثل (الآخر) بالنسبة إلى الإسلام وإنما صارت هذه الكلمة تحمل بصورة ما هذه المعاني جميعها من خلال الترجمة من اللغات الأوروبية»(1) لا وجه له؛ لأنّ الآخر الغربي آنذاك كان يعتبر الحضارة اليونانية، ونحن لسنا من دعاة الوقوف على الكلمات والحروف بل نروم الوصول إلى المعاني والمحتوى من وراء الكلمات والحروف، فعدم استخدام كلمة (الغرب) في الأدبيات الإسلامية آنذاك لا يعني عدم وجود المحتوى والمعنى المتمثل بالحضارة اليونانية.

بقي شيء آخر يتعلق بثنائية الغرب - أوروبا، حيث حاول البعض وضع خطوط فارقة بينهما ودعا إلى رفع الالتباس الواقع في عدم التفرقة بين أوروبا والغرب (2).

وقد ذهب الدكتور حسن حنفي إلى أنّ لفظ أوروبي يدل على المعنى التاريخي الحضاري ، وليس على الواقع الجغرافي السياسي كما يدل على ذلك لفظ غربي. الغرب صفة للتراث وأوروبا صفة للوعي أو الشعور ،الغرب واقع وأوروبا ماهية، الغرب مادة وأوروبا صورة. الغرب لفظ سياسي يوضع عادةً في مقابل الشرق أما أوروبا لفظ فكري إلى حد ما، كما ذهب بالآخرة إلى أنّ اللفظين :غربي - أوروبي يستخدمان على البدل في العصور الحديثة(3).

ص: 16


1- محمد عابد الجابري الإسلام والغرب 13، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2009م).
2- محمد نور الدين أفايه المتخيل والتواصل : 130 ، دار المنتخب العربي، بيروت، 1993م)
3- حسن حنفي مقدمة في علم الاستغرب : 84 المؤسسة الجامعية، بيروت، 2006م)

3 .الاستغراب والتغريب:

هناك فرق بين الاستعمال اللغوي للكلمات وبين الاستعمال الاصطلاحي، حيث إِنّ الأوّل يدلّ على الاستعمال بحسب الوضع اللغوي ويُهتدى إليه من خلال قواميس اللغة أو تصريح الواضع. أما المعنى الاصطلاحي فيتجاوز المعنى اللغوي - رغم أنّه ربما لا يتقاطع معه -ليشمل المعنى المتفق عليه من قبل جهات مخصوصة في أي حقل معرفي خاص ولا يمكن الاهتداء إليه من خلال القواميس اللغوية الصرفة.

وهذا يظهر في استخدام كلمة (الاستغراب) حيث أطلقها البعض وأراد منها التغرب(1)، ولا ضير في ذلك طالما أنّ المصطلحات تستخدم بحسب التوافق بين شريحة فكرية مخصوصة، إذ إنّ باب الاستفعال - كما قلنا - بمعنى طلب الشيء، فيصح استعمال الاستغراب بكلا المعنيين، فهو تغرّب لأنه طلب للغرب وانبهار به، وهو استغراب بمعنى طلب التعرف على الغرب عرضاً ونقداً.

4 .الضرورة :

هل نحن بحاجة إلى هذا الحقل المعرفي، والقيام بمحاولات لتأسيس علم الاستغراب؟ ما الضرورة القاضية بذلك؟! ما الجدوى وراء تأسيس هذا العلم؟!

إذا أردنا أن نجمل القول في الضرورة فهي محاولة لزوم تعرف (الأنا) على (الآخر) والنفوذ في بناه الفكرية والمعرفية لتحديد الموقف السليم تجاهه في عملية إعادة بناء الحضارة الإسلامية. أما التفصيل فيتلخص ضمن النقاط التالية:

1.نعتقد أنّ ديننا خاتم الأديان، وأنّ الحضارة الإسلامية هي التي ستحكم العالم في المستقبل. هذا المعتقد يتعارض مع أسس الغرب ومبانيه ودعواه في السيطرة التامة على العالم، فيحاول زعزعة الوضع والحيلولة دون تحقق هذا المدعى. إذاً نحن بحاجة إلى التعرف على الغرب حق المعرفة للوقوف على أساليبه والإطلاع على مناهجه من أجل صد المخاطر وتحصين المجتمع أمام استلاب الهوية والغزو

ص: 17


1- كما هو الحال في كتاب (من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي) لطيب تيزيني، أو بحث (الاستشراق والاستغراب قراءة نقدية) لعلي نور الدين في مجلة شؤون الأوسط العدد 108 ص 100

العسكري المحتمل والثقافي المتحقق.

2 .قد أشرنا إلى أنّ الحضارات تتلاقح وتتفاعل في ما بينها، ونحن في مشروع إعادة بناء الحضارة الإسلامية لا بد من أن نتعرف على باقي الحضارات ومن أهمها الحضارة الغربية المعاصرة، ونستفيد من النتاج المعرفي التقني السليم الذي أنتجته البشرية لسد الفراغات وتحسين الحياة المعيشية والمعرفية.

3 .لزوم التخلّص من الاختراق والاستعمار الثقافي، ولا يتسنّى ذلك إلا بعد التعرف التام على الغرب والوقوف على نقاط القوة والضعف والمخططات والآليات المستخدمة من قبله قديماً وحديثاً.

4 .العالم اليوم - بفضل الثورة المعلوماتية والتقنية الجديدة - أصبح كقرية صغيرة، وفي هذه القرية لا بد من التفاعل مع الآخر وعدم الانفعال أمامه، ولا يتسنى ذلك إلا بالتعرف التام عليه.

5. التعرف على الآخر والتفاعل معه نداء من صميم الدين يفرضه علينا الواجب الديني للاقتباس والتزود من نقاط القوة (اطلب العلم ولو بالصين )(1)والوقوف على مكامن الخطر وعدم الوقوع في الفخ (العَالِم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2).

6 . قد أبتلى العالم الإسلامي، لا سيّما نخبه الفكرية، بالتغرب والانبهار أمام الغرب واستلاب الهوية، ولا يمكن التخلص من ذلك ومعالجة من هذه الأزمة إلا بالتعرف الموضوعي على الغرب، وتفكيك بناه وأسسه ومقوماته، إذ الانبهار فرع تصوّر التفوّق التام للآخر في جميع المجالات حيث إنّ«حب الشيء يعمي ويصم»، وهذه الصورة الخيالية سوف تتقشّع بعد تفكيك البنى والوقوف على نقاط القوة والضعف ولا يبقى مجال للانبهار، بل سوف ينتقل الإنسان من الانبهار إلى الموضوعية ويخرج من طور

استلاب الهوية.

ص: 18


1- ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله : 7/1 ،( دار الكتب العلمية، بيروت، 1398)؛ السيوطي، الجامع الصغير: 1/ 168 ح 1110، (دار الفكر، بيروت، 1981م)
2- الكليني، أصول الكافي /27/1 ، (دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363ش)

7. قد حوّل الغرب - بفضل تفوّقه - العالم إلى مركز وأطراف حيث إنّه هو المركز والآخر هو الطرف، وللخروج من هذا المأزق وقلب الطاولة لا بد من تأسيس علم الاستغراب، فإما أن نكون مراكز كلّنا أو أطرافاً كلّنا.

8 . وأخيراً الغرب واقع نعيشه حقيقة سرت في جميع مفاصل حياتنا، وذلك من خلال ما أحرزه من تقدم علمي ومعرفي وتقني، فلا بد من تحديد الموقف أمامه، هل نأخذه ككتلة واحدة وكما هو من دون تمييز بين الآليات والمناهج والمعتقدات والنتائج؟! أم يمكننا تفکیکه و غربلته ؟ أسئلة شغلت النخبة الإسلامية والعربية منذ أكثر من مائة وخمسين سنة. ولا يمكن الإجابة عنها إلا بسبر أغوار الغرب والتعرف التام عليه.

5 .الأهداف:

إنّ الدوافع الكامنة- في الضمير الواعي واللاواعي-تجاه أهداف تأسيس علم الاستغراب ، تختلف من شخص إلى آخر ومن تيار إلى آخر، فالإسلامي والقومي واليساري رغم اشتراكهم في نقد الغرب غير أن دوافعهم مختلفة. وباختلاف الدوافع تختلف المنطلقات أيضاً، فالإسلامي ينطلق في نقد الغرب من أسسه الدينية ومبانيه الفكرية المأخوذة من القرآن والسنة وتراثه الفكري والمعرفي، كما أنّ القومي ينطلق من منطلق الدفاع عن القومية والحفاظ على الهوية الجمعية والعرقية والقبلية لمجتمعه وأمته، والأمر نفسه يصدق على اليساري حيث ينتقد الغرب من منطلق الدفاع عن حقوق العمال ومكافحة الإمبريالية وتفوّق السوق وما شاكل، وكذلك الأمر في سائر المذاهب الفكرية والتيارات المعرفية المناهضة للغرب.

قد تكون بعض الأهداف مشتركة مع ما ذكر في الفقرة السابقة (الضرورة) ولكن مع هذا يمكن الإشارة إلى الأهداف التالية:

1. النفوذ في البنى الفكرية والمعرفية الغربية للوقوف على ما أدى إلى قوام الحضارة الغربية وكشف مبانيها ومقوماتها.

2. تفكيك الأسس والمباني وغربلتها للقيام بالتفاعل والتعامل الإيجابي معها

ص: 19

حيث يتم أخذ الإيجابي ورفض السلبي.

3 .القيام بمراجعة شاملة لتاريخ الغرب للوقوف على مخططاته طوال هذه الفترة لأخذ العبرة منها من جهة، ورسم طريقة التعامل مع الغرب المعاصر من جهة ثانية، إذ إنّ الغرب المعاصر امتداد للغرب الماضي، ولا يمكنه الخروج من ماضيه.

4 .كشف الفراغ المعرفي والخُلقي الموجود في الغرب جراء الابتعاد عن المعنى والدين.

5 . التخلّص من التغرب والانبهار أمام الغرب من خلال محاكمته والوقوف على نقاط ضعفه وأزماته.

6 . التحرر من الاستعمار الثقافي والهيمنة الغربية على جميع مفاصل حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية.

7. الاعتقاد بأنّ الغرب ليس مصدراً للمعرفة في جميع ما تحتاج إليه البشرية، بل هو أيضاً يشكو من أزمات كثيرة.

8 . خلق التوازن بين الأنا والآخر من خلال التفاعل الإيجابي وفتح باب الحوارمع الآخر،وتكوين الذهنية الإسلامية والعربية بحيث تتمكن من مساجلة الغرب ومحاكمته وأن تكون ندا له.

9. القضاء على المركزية الأوروبية وردّ الغرب إلى حدوده الطبيعية.

10. التحرّر من الخوف تجاه الغرب بعد اكتشاف حدوده وإثبات محدوديته.

11. قلب الطاولة وجعل الغرب مدروساً بعد أن كان دارساً.

12. الوقوف على الخلافات والتناقضات الكثيرة الموجودة في الغرب وبين العلماء أنفسهم، والعلم بأنّ الغرب ليس كتلة منسجمة واحدة وغير متناقضة. إذ إنّ البعض منا بعد أن يصل إلى الانبهار أمام الغرب ويتغرّب، يتصوّر أنّ ما وصل إليه الغرب في جميع مفاصل حياته مقدس وصحيح لا غبار عليه ولا يتطرّق إليه الخطأ ،

ص: 20

إنّ الوقوف على الخلافات الموجودة في الغرب يُبدّد هذا الوهم ويثبت بأن ما وصل إليه الغرب ليس أمراً نهائيّاً ومقدّساً.

13.وأخيراً تقديم حلول ومعالجات علمية وعملية منبثقة من الفطرة السليمة والوجدان الحي المعتمد على المبادئ الإنسانية والوحي الإلهي، لأزمات الغرب تلبية للوظيفة الإنسانية الملقاة على عاتقنا في مساعدة الآخر إذ الناس صنفان «إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق »(1).

6 .الآليات ومنهج العمل:

قد تتداخل هنا أيضاً بعض الآليات ومناهج العمل مع الأهداف، ومع هذا يمكن إيجاز القول فيها كالآتي:

1. هناك اتجاهات وطرائق مختلفة في دراسة الغرب، فتارةً ننظر إلى الغرب ككيان تاريخي نشأ في نقطة زمنية معينة وامتد على طول التاريخ، وتارةً أخرى ننظر إليه من زاوية المدارس والمذاهب الفكرية المختلفة التي نشأت فيه، وثالثة من خلال الرموز والعلماء والنخب الفكرية وما قدموه من مشاريع متنوعة، ورابعة من خلال تقسيمه إلى أدوار حيث تدرس كل دورة على حدة، وخامسة على دراسته على حسب الموضوع كالاقتصاد والسياسة والثقافة وهكذا. ولا يمكن الاستغناء عن هذه الاتجاهات في عملية تأسيس علم الاستغراب بل نحتاج إلى جميعها.

2. استخدام المناهج البحثية نفسها التي صاغها الغرب واستخدمها لدراسة الشرق أو دراسة سائر المواضيع المعرفية والعلمية من قبيل المنهج التاريخي، التحليلي الوصفي، الاستقرائي وهكذا.

3. اتخاذ الموضوعية والحياد العلمي :«وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا» (المائدة: 8)

ص: 21


1- الإمام أمير المؤمنين عليه السلام نهج البلاغة عهد مالك الأشتر

4. الاعتماد على المصادر الرئيسة الغربية بلغاتها الأصلية مهما أمكن، لما في بعض الترجمات من هفوات لا تغتفر.

5 .التواصل مع منتقدي الغرب شرقاً وغرباً؛ سواء الذين نشأوا في أحضان الغرب وغاضهم جبروته وسحقه للآخرين، أم دول أمريكا اللاتينية أم دول الشرق أمثال الصين وروسيا واليابان، ناهيك عن العالم الإسلامي والعربي بما فيه من أصولي ومعتدل وقومي ويساري.

6 . تصطبغ الدراسات المقدمة إما بتحليل ونقد أو مجرد وصف الظاهرة أو الموضوع أو الشخص أو الفكرة.

7. النظرة الشمولية إلى الغرب وعدم الاقتصار على حقل معرفي واحد فلا بد من أن يحتوي علم الاستغراب على جميع شؤون الغرب التاريخي والفلسفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والأخلاقي وغيرها من الموارد التي كونت الحضارة الغربية وتعد من مقوماتها الأساسية.

8 . القيام بعملية التصنيف والأرشفة إما بحسب البلد أو الموضوع أو الأشخاص أو المدارس والمذاهب أو الأدوار إذ إنّ نصف العلم تنظيمه.

9. الانطلاق من ثقافتنا وتراثنا وقيمنا الدينية والإنسانية.

10. في عملية الاقتباس من الغرب في ما هو إيجابي لا بد أن يكون عملنا تأسيسيّاً بمعنى عدم الاقتصار على الترجمة والنقل الصرف بل التأثير والتأثر المتقابل بأن نمزجه بثقافتنا ونضيف عليه أو ننقص منه بحسب الحاجة والمصلحة والبيئة التي نعيشها، وبهذا نتمكن من هندسة العلم المأخوذ ولي عنقه بما يتوافق مع قيمنا والتخلّص من التقليد والاقتباس الصرف.

11. دراسة مشاريع علماء الإسلام المعرفية في نقد الغرب والاستفادة منها في عملية تأسيس علم الاستغراب.

ص: 22

7. الفوائد والنتائج:

بعد أن يتمّ تأسيس علم الاستغراب ،ويتحوّل إلى مشروع في صميم وعي الأمة يكتب وينظر ويفكر فيه الصغير والكبير، يتوارثه الأبناء عن الآباء، والصغار عن الكبار، يمكن أن نجتني الفوائد التالية:

1. استرجاع الثقة بالنفس بعد ما تتمكن من فهم الغرب والدخول معه في سجالات علمية وتفاعل مستمر ومتكافئ .

2. الخروج من مركزيّة الغرب والتعامل معه معاملة الند للند، وجعله مدروساً بعد أن كان دارساً.

3 .الخروج من الانبهار أمام الغرب والتخلّص من حالة التغرب.

4 .الهندسة العكسية للاستشراق ودراسة الغرب للشرق، من خلال تأسيس علم يماثله، باسم الاستغراب يهدف إلى دراسة الغرب بكل موضوعية.

5. التعرف على خدع الغرب ومكره لا سيما في الجانب السياسي والإمبريالي من خلال الوقوف على تاريخه في المستعمرات وما أنتج من دمار واستلاب للهوية، ومن فرضِ لقيم الغرب بشتى الوسائل، وتقديم مصلحته على مصلحة الشعوب المستعمرة.

6 .إضافة علم جديد ممنهج إلى سائر العلوم التأسيسية التي تدرس في الجامعات

الإسلامية، وفتح مناخ جديد أمام الباحثين لخلق آثار رائدة ومبدعة.

7 .التخلص من التقليد الأعمى لعلوم ،الغرب، وعدم الاكتفاء بترجمة نتاج الغرب المعرفي من دون نقد وتمحيص وكأنه وحي منزل ومقدس.

8 .الهفوات والمخاطر :

كل أمر تأسيسي – لاسيما عند بداياته - لا يخلو من هفوات ومخاطر، إذ إنّه ما

ص: 23

دام في مرحلة التأسيس لا يعدو أن يكون تنظيرياً لم يدخل في مضمار السباق ولم يقيم بمحك العمل، إذ إنّ مقام النظر ما دام لم يتفاعل مع مقام العمل لن يُقوّم ولن تظهر مواقع خلله ،ونقصه وعليه فالتقييم النهائي لعملية تأسيس علم الاستغراب والوقوف على مواقع الخلل ونقاط الضعف بحاجة إلى مدة زمنية يتم فيها تطبيق هذا العلم على أرض الواقع.

ولكن مع هذا يمكننا في مقام التنظير رسم بعض الهفوات العامة التي ربما يقع فيها الباحث، نشير إلى أهمها في ما يلي:

1.الوقوع في مغالطة الوجه والكنه أو الجزء والكل، حيث يتم فيها أخذ الجزء مكان الكل والوجه مكان الكنه، بمعنى أن نأخذ جهة واحدة ونطاقاً واحداً من الغرب ونقتصر عليه ونزعم أنّه المقوّم الوحيد للغرب أو الحضارة الغربية، ونغفل عن باقي الجوانب التي كوّنت تلك الحضارة وهذا ما وقع فيه الدكتور حسن حنفي حيث اقتصر في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب )على الوعي الفلسفي الأوروبي وجعله أم العلوم الأخرى، فقال: «فالوعي الأوروبي بالنسبة لنا هو الوعي الفلسفي، فالفلسفة أم العلوم الوعي الأوروبي بالنسبة لنا فلسفي خالص ليس السياسي أو الاقتصادي.. الوعى الفلسفي هو أساس الوعي أساس الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالوعي الأوروبي لديّ يشير إلى منطقة الوعي الخالص الذي يحمل التصورات للعالم؛ هوأساساً الوعي الفلسفي أو الوعي النظري»(1).

وسبب ذلك هو كونه متخصصاً في الفلسفة، درس الوعي الأوروبي باعتباره ظاهرة فلسفية شكلاً ومضموناً، فليأت متخصصون آخرون ليدرسوا الغرب من وجهة نظر سائر التخصصات.

2. الاقتصار على الوصف دون الدخول إلى مرحلة التحليل والنقد والتأسيس ،فيصبح المستغرب مجرد ناقل لقصة الغرب ويكون أشبه بعلم التاريخ الذي يدرسه

ص: 24


1- حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب: 76

الدارسون في طيات دراساتهم الجامعية عن الدول المختلفة ومذاهبها الفكرية.

3 .عدم لحاظ البيئة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها الغرب، وتكوّن في أحضانها وترعرع في ظلّها، ومحاولة تطبيق بعض النماذج الغربية في واقعنا وبيئتنا وثقافتنا المتخالفة - ربما - مع تلك، لا سيما في عملية النقل والاقتباس الإيجابي.

4. الاقتصار على استمرار نقد الغرب دون محاولة العبور عن الغرب وهضمه وإعادة تأسيس الحضارة الإسلامية.

5. الغفلة عن خلفيات ناقدي الغرب من الغربيين إذ إنّ المنطلقات والخلفيات تختلف عند الناقدين للغرب، فهناك من ينتقد الغرب من منطلقات يسارية وماركسية ويجعل البدائل اشتراكية وهناك من ينتقد الغرب من منطلقات تقويمية بمعنى أنه ليس ناقداً للغرب بالمعنى الحقيقي بل ينتقد أزمة خاصة للتخلص منها بغية الوصول إلى تقويم الغرب لا تقييمه، وهناك من ينتقد الغرب من منطلقات إنسانية ويدعو إلى تغيير سياسات الغرب لأنّها توجب دمار البشرية والإنسانية.

ففي عملية تأسيس علم الاستغراب لا بد أولاً من الاستفادة من جميع هذه النقود، وثانياً الالتفات إلى المنطلقات والخلفيات لكل ناقد كي لا نقع في فخ النتائج والحلول المعطاة والتي ربما لا تتوافق مع مبادئنا وقيمنا، أو فخ الدعوة إلى تقويم الغرب واستمرار حياته من خلال نقد الغرب. وعلى سبيل المثال عندما يأتي هوسرل وينتقد الغرب في كتابه (أزمة العلوم الأوروبية ) فإنّه لا يريد بذلك إلا أن يخرج بنتيجة أخرى تصبّ في مصب الغرب نفسه، حيث أسس مذهب الظاهريات وهو لا يقلّ خللاً عما كان قبله وبحاجة إلى نقد وتحليل.

6 .عدم التمييز - في مقام الاقتباس - بين قيم الغرب التي صنعت الحضارة المعاصرة والتي تأسست على الانقطاع عن عالم الغيب وما وراء المادة، وبين الآليات والمناهج التي يمكن استخدامها دوماً وتكون خنثى - إن صح التعبير - لا تحمل

ص: 25

أي مبادئ وقيم.

7 .جعل الغرب كتلة شريرة واحدة ورفضه جملةً وتفصيلاً.

8 . جعل الغرب كتلة خيرة واحدة والانبهار أمامه وقبول جميع ما فيه.

9. الاستغراب والاستشراق:

هناك خلاف بين المفكرين في أنّ الاستغراب هل يمكن عده المعادل المعكوس

للاستشراق أو لا؟!

فقد ذهب الدكتور حسن حنفي إلى أنّ الاستغراب يعادل ويناظر الاستشراق، وانطلق من سؤال مركزي يقول : «إذا كان الغرب قد استطاع وضع الاستشراق، فلماذا لا يستطيع الشرق وضع الاستغراب؟ »(1)ومن خلال هذا التساؤل ينطلق ليقول:« الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل والنقيض من الاستشراق. فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب) يهدف علم الاستغراب إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر »(2) . وآلية فك هذه العقدة عنده تكون من خلال تحويل الغرب من ذات دارس إلى موضوع مدروس.

يقوم بسرد بعض الفوارق بين الاستغراب والاستشراق من قبيل:

1. أنّ الاستشراق كان منطلقاً من منطلق القوة والانتصار واستعمارنا، أما الاستغراب

يكون من باب الدفاع عن النفس.

2. اختلاف المناهج بينهما .

3. الاستشراق تغير شكله وورثته العلوم الإنسانية خاصة الأنثروبولوجيا الحضارية

ص: 26


1- مقدمة في علم الاستغراب: 48
2- م. ن: 23

وعلم اجتماع الثقافة، بينما الاستغراب ما زال بدائياً ولم يتطوّر.

4. الاستشراق لم يكن محايداً بينما الاستغراب أقرب إلى الحيادية نظراً لأنّه لا يبغي السيطرة والهيمنة بل يبغي التحرّر من أسر الآخر.

أما الدكتور رضا داوري أردكاني فيذهب إلى خلاف ذلك، وينفي هذا التناظر شكلاً ومضموناً ومنهجاً، فإنّه يرى من جهة أنّ هذا التناظر لم يرد في أي معجم وقاموس لغوي بحيث لم يُجعل الاستغراب مناظراً للاستشراق، ومن جهة ثانية وجود الخلاف البنيوي بينهما حيث إنّ الاستشراق هو نسبة خاصة بين الباحث وموضوع بحثه، بين الذات الدارس والموضوع المدروس ،في هذه النسبة يكون الدارس مهيمناً ومتسلّطاً على الموضوع المدروس ولم تكن له أيّ علقة معه، إذ ما دام لم يدخل الموضوع تحت تملك وتصرف وإحاطة الدارس التامة لا يمكن أن يكون موضوعاً مدروساً، وعليه فهذه العملية لم تتحقق في الاستغراب إذ لم نتمكن من جعل الغرب موضوعاً مدروساً لأنّه أولاً قد استولى علينا ولم يدخل تحت تصرفنا وأحاطنا وتملكنا، وثانياً إنّنا قد أصبحنا متعلقين بعلومه ومعطياته المعرفية بحيث لم نتمكن من جعله موضوعاً للدراسة حتى ننظر إليه نظرةً فوقيّة خارجية محايدة. (1)

ويقول أيضاً: «إذا أردنا أن نجعل الاستغراب مناظراً للاستشراق لا بد أن يكون الغرب قد انتهى وقته أو أوشك على الزوال»(2) .« إذا كان الاستشراق بمعنى تقريرودراسة آثار حضارة فقدت مستقبلها وانحبست في الماضي، فمن الصعب القيام بتأسيس علم على غراره باسم الاستغراب؛ لأنّ الغرب مضافاً إلى أنّه لم ينحبس في الماضي، قد أصبح قبلة لكثير من البشر في العالم، فمن يلهث وراء الغرب لا يمكن أن يكون مستغرباً»(3).

ومع هذا يرى الدكتور داوري أنّ الاستغراب ممكن فيما لو حلّ الشرقيون محل

ص: 27


1- رضا داوري اردکاني درباره غرب (حول الغرب) 33 ، 34 ، ،(هرمس، طهران، عام 1390ش)
2- م.ن: 36
3- م. ن: 44

الغرب إبان القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وكان وضع الغرب شبيهاً بوضع دول آسيا وأفريقيا في هذه القرون الأخيرة، بيد أن تحقق هذا الأمر لو لم يكن محالاً مستبعد جداً.

نعم ربما يهوي الغرب نحو الانحطاط ويتجدّد الشرق وتتفتح قرائح الفكر والعلم فيه ولكن ستتولد حينئذ نسبة جديدة لم تكن عكس نسبة الغرب الحالي مع باقي دول العالم، وعليه سوف لا ينظر الشرق حينئذ إلى الغرب بنفس سياق الاستشراق ومناهجه (1).

وأخيراً يرى الدكتور داوري أننا لو أردنا أن نفهم الاستغراب على غرار معنى الاستشراق فلابد من رعاية الضوابط التالية:

1 .الذي يحاول دراسة الغرب (المستغرب) لا بد أن يتحرّر من قيود الغرب ويرى نفسه منفكاً عنه.

2. لزوم الإحاطة بماهية التاريخ الغربي بكليته، وبما أنّ مفتاح ذلك الفلسفة والتقنية لا بد من معرفة الفلسفة والتقنية الجديدة ؛لا مجرد التعرف بل من خلال التعرف على نسبتهما مع العالم الجديد. لاسيما التأمل في نهاية الفلسفة الغربية وأوضاع ما بعد الحداثة.

يشترط في الوصول إلى الاستغراب ،النفوذ في فكر الغرب وآدابه وفنونه وتاريخه ومن موقع الإشراف من الأعلى، ومن خلال إدخالها في عالمنا الفكري بأن تكون تحت سيطرته.

3. لزوم التعرف التام على منشأ العلم والثقافة والحقوق والسياسة في العالم الجديد ، والوقوف على أدق معانيها، والتحرر منها وعدم الوقوع في أسرها.

4. لم يكن تكوين علم الاستغراب أمراً مستبعداً اليوم، لما يُطرح من توقف التجدّد

وتحجيمه.

5 .لا يصح للاستغراب أن يتبع مناهج المستشرقين لصعوبة ذلك وتعذره، ومن

ص: 28


1- م. ن: 46-45

رام ذلك سيكون نتاجه ناقصاً، إذ لازم ذلك أولاً تقديم دراسات تحقيقية في سياسة الغرب وآدابه وفنونه وفلسفته واقتصاده وثقافته، وهذا بحاجة إلى الإحاطة التامة بتلك العلوم والكتب الغربية المؤلّفة فيها. وثانياً يلزم - لتحقق ذلك - التحرّر من هيمنة الغرب والنظر إليه من الأعلى والخروج من عالمه، ولا يخفى صعوبة تحقق هذين الشرطين.

وختاماً فإنّ أفضل فلسفة تعيننا في الوقت الحاضر على الاستغراب هي مباحث ما بعد الحداثة كطريق للوصول إلى علم الاستغراب ،إذ إنّ مباحث ما بعد الحداثة شككت في مبادئ الغرب وأسسه، وهذا ما يفسح المجال لتأسيس علم الاستغراب(1).

10. الخاتمة:

هذه أهم المقدّمات التأسيسية لعلم الاستغراب لا بد من التوصل إليها من خلال ورشات عمل تخصصية وإقامة ندوات ومؤتمرات والاستعانة بالمختصين في مختلف الحقول المعرفية.

ولابد من التنويه مرّةً أخرى إلى أنّ علم الاستغراب لا يعني إطلاقاً القيام بمعاداة الغرب ورفضه جملةً وتفصيلاً، بل هو سجال فكري معرفي موضوعي مستمرلاسترجاع الأنا وتقويمها من جديد.

كما نتمنّى فتح مقاعد دراسية في الجامعات الإسلامية والعربية تختص بعلم الاستغراب وفقاً للآليات والأهداف التي مرّ ذكرها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وآله الطاهرين.

ص: 29


1- م.ن: 37-42

جدلية الأنا والآخر : مشروع الخطاب النقدي الاسلامي

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي(1)

أولاً: التحديد المفهومي:

في تحديد العلاقة مع الآخر من خلال توصيف «الغرب والإسلام» هي عبارة لا تبدو قديمة في تبيان تلك العلاقة مع الآخر فهي عبارة طارئة نقلت إليها بالترجمة الحرفية من اللغات الأوربية. ليس هناك في النصوص القديمة مثل هذا التعبير، أما النصوص الحديثة التي ترجع إلى بداية القرن الماضي على الأكثر فمن النادر جدا العثور فيها على هذا التقابل بين «الغرب» و «الإسلام». ذلك أن العبارة التي برزت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، في الخطاب العربي الإسلامي، هي عبارة «الإسلام والنصرانية» وذلك في إطار المقارنة بين موقف كل من الإسلام والمسيحية من العلم والعقل الخ .. (قارن مثلا: کتاب محمد عبده :( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية).

وهذا التحديد يلغي التوصيف العقائدي أما تحديد يأخذ تحديد الجهات مثل«الشرق والغرب »فهو توصيف ظهر حديثا مع الحداثة الغربية، على الرغم من أنّ التراث الديني استعمل توصيفات مماثلة كما جاء في القران الكريم ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب (البقرة177).

فإن اصطلاح «الغرب »Occident West أي الدول الغربية، والشرق»،Orient East بمعنى الدول الشرقية، وهما معاً مترجمان من اللغات الأوربية التي ميزت

ص: 30


1- استاذ الفلسفة الوسيطة"الاسلامية - المسيحية "، في قسم الفلسفة، في جامعة الكوفة

في هذا الأخير بين الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى، وذلك بحسب القرب والبعد عن أوربا.

فهذا التوصيف له مرام استشراقية غربية في تجزئة العالم الاسلامي ومنحه توصيفاً يتجاهل الهوية الجامعة سواء أكان إسلامياً أم عربياً . فهناك توصيف يراعي التميز بين الغرب كجهة موحدة مركزية ويقابلها شرق ويعمل على تصنيفه اذ تجلى هذا في(المعاجم الأوربية المعاصرة يتم التمييز بين« الغرب» occident كجهة جغرافية وبين« الغرب» Occident (بحرف O الكبير للدلالة على العلمية) مثل مصطلح جيو سياسي الذي يطلق على:

1) «جزء العالم القديم الذي يقع غرباً في الإمبراطورية الرومانية».

2 )أوربا الغربية والولايات المتحدة، وبكيفية عامة الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي.

3 )بلدان أوربا الغربية والولايات المتحدة تحديداً، وقد تختص بهذا المعنى كلمة (West Ouest بالفرنسية) ...(1).

وقد تأخذ هذه العلاقة مع الآخر بعداً غير واقعي بل تخيلياً اصطناعياً فهناك كثير من الصور النفسية اسقطها الآخر (الغرب) على الشرق الاسلامي هي مجردة من الحقيقة بل مختلقة اذ يرتبط اختراع الآخر؛ لأن الخطاب حول الآخر هو بالأساس يعد خطاباً حول الاختلاف .(فإن التساؤل فيه ضروري حول الأنا أيضاً، ذلك أن هذا الخطاب لا يقيم علاقة بين حدين متقابلين، وإنما علاقة بين آخر وأنا متكلمة عن هذا الآخر)(2). فإن تحديد العلاقة بين الأنا والآخر على الرغم من بعدها التاريخي والسياسي إلا إنها كانت علاقة غير مفكر بها تبدو مضمرة لكن الدراسات المعاصرة في مجال الخطاب هي من اتاحت لها الظهور من خلال بحثها في تلك العلاقة

ص: 31


1- محمد عابد الجابري الغرب والإسلام - 1- الأنا والآخر ... أو مسألة الغيرية، http://hekmah.org
2- الطاهر لبيب، صورة الآخر العربي ناظراً ومنظوراً اليه، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 1999م، ص 21

وارتباطها بالهوية والاختلاف من خلال البعد الظاهراتي الذي أخذ تحولاً يراعي الجوانب النفسية في كشف صورة الآخر، وهذا ما يمكن ملاحظته في (اختلاف بين السياقين الوسيط والحديث في العلاقة بين الأنا والأخر إنما يعكس اختلافاً جلياً في صورة الآخر في الثقافة العربية، وفي مجال الآخرية، فإن كان مجال الآخرية في السياق الحديث قد اختزل في الغرب وحده، فإن مجال الآخرية في السياق الوسيط كان متشعباً ومتعدداً وممتداً بامتداد المعلوم من العالم آنذاك)(1). فان التصور عن الآخر كما قلنا هو فعالية نفسية مثلما هی سياسية تحاول ان تمنح الآخر توصيفاً او تنميطاً وهو قد يكون سلبياً او ايجابياً، وعلى الرغم من انه قد يكون سلبياً وقد ظهرت كثير من الدراسات كشفت عن علاقة الغرب المستعمر بالآخر وهي دراسات تدخل في نطاق يهتم بدراسة الاستعمار الكولونيالي، وما يحمله من تنميطات هومي بابل Homi K.Bahah) فهو يرى أن المستعمر يميل إلى تنميط المستعمر من خلال وصفه بصفات ثابتة ومبالغ فيها،ويحرص على تكرارها، مثل وصف المستعمر بالوحشي والانحراف الجنسي(2). من هنا نستطيع الاستدلال على طبيعة العلاقة الغرب والإسلام بأن لها كثيراً من المضامين الايديولوجية والنفسية والوجدانية بل تركت أثرها في كثير من الصور النمطية في تصوير كل من الطرفين احدهما للآخر وهذا جزء من علاقة الصراع الطويلة بين الطرفين في أثناء العصر الوسيط وحقبة الاستعمار، شكلت حضوراً وراسباً عميقاً في الخطاب الجمعي بكل حمولاته المعنوية . اذ نستطيع ان نعرض إلى تحولات تلك العلاقة.

ثانياً: إن جدلية العلاقة بين الأنا والآخر:

من أجل تحليلها نجد أنها تحتوي على مضامين الأيديولوجية سواء أكانت صريحةً أم مضمرةً، إذ تكتنز علاقات تقوم على القوة، وبالآتي فإنه يقودنا إلى اكتشاف عنف رمزي؛ لأنه يحاول أن يفرض دلالات معينة على الآخر انطلاقاً من ادعائه شرعية ما،

ص: 32


1- نادر ،کاظم تمثلات الآخر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 2004م، ص
2- فاطمة حمد المزروعي، تمثلات الآخر في أدب قبل الإسلام هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1، ابوظبي،2007 م، ص49

يحاول من خلالها اخفاء او إضمارها علاقة القوة تلك، لكن تبقى تلك القوة تحمل

طابعاً رمزياً.

تولدت بأشكال متنوعة من قبل الآخر الذي فرض ثقافة ولغة بوصفها تحتكر معنى العلمي والحداثي وبالتالي الانساني بقيمة المعاصر، ولكي يكون الآخر غير الغربي من ضمن حدود المنظومة الانسانية العربية التي تدعي الكونية، لا بد أن يتكلم اللغة نفسها وينتمي إلى منظومة القيم الانسانية نفسها . فان هذه المعرفة التي تدعي الكونية هي يقينا محدودة الموقع وكل معرفة هي منشأة إنشاء فالمعرفة الاوروبية في العلوم :(الاجتماعية والإنسانية والطبيعية)وفي الآليات الفكرية لها موقع جغرافي كان يمثل مكان النشأة الخاص بها مرتبط بإشكالية أوروبية معرفة وإيديولوجيا إذ المعرفة الأوربية الاستعمارية بكل ملحقاتها التاريخية السياسية والأخلاقية فهي وليدة هذه القوالب الكونيالي للسلطة كما صور بورديو إن علاقة القوة هي التي تعين دائماً حدود فعل قوة الإقناع التي يمتلكها النفوذ الرمزي(1) . من هذه المقولة نجد أن المعرفة الغربية تمتلك منظومة عرفية للتصنيف الاجتماعي هي التي اخترعت النزعة الغربية كما تجلت بالاستشراق والتميز بين جنوب أوروبا عن مركزها وعلى مدى هذا التاريخ الطويل أعادت رسم خارطة العالم على أساس : (عالم أول وعالم ثان وعالم ثالث )أبان الحرب الباردة إن أماكن اللا- فكر( أي اماكن الأسطورة والأديان غير الغربية والفولكلور)، والمناطق والشعوب التي تنطوي على التخلف قد استفاقت اليوم من عملية التغريب التي طال أمدها بعد ان تم اختراعها بوصفها anthropos»، بوساطة موضع تلفظات عرف نفسه بنفسه باعتباره (humanitas)، والآن فإن هناك اتجاهاً خارج الفکرالغربي من العالم الثالث لم يعد يطالب بالاعتراف به من طرف اوروبا بإدراجه في الانسانية، وقد تنوعت الثقافات التي احتكرت التمثيل الكوني الانسانية وما بعدها بمجرد خطابات محلية من هنا تاتي ضرورة مراجعة نقدية للآخر ومعرفته، (فإنّ عمليّة التحكّم في المعرفة لن تُدعى إلى المساءلة. ومن أجل أن نضع التأسيس الحديث /الكولونيالي لعملية التحكّم في المعرفة ، موضع سؤال، من الضروري، أن

ص: 33


1- يبيو بورديو، العنف الرمزي، ترجمة، نظير جاهل المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1994م، ص 35

نركز على العارف بدلا من التركيز على الشيء المعروف. وذلك يعني أن نذهب إلى الافتراضات الحقيقية التي تشدّ موضع التلفّظات)(1).

أولاً: كانت التجربة الأسبانية أول لغة تحتكر الكونية وقد نزعت نزوعاً إلى نفي الآخر المسلم اذ إسبانيا (الكاثوليكية )الطامحة إلى الوحدة والنقاء الدينيين والمنطلقة إلى قيادة العالم النصراني، ما كانت لتسمح ببقاء المسلمين على دينهم، فبعد التخلص من اليهود، بدأت ماكنة القمع والتنصير و تفتيش الأرواح «الكاثوليكية تحول أنظارها إلى الأقلية الدينية والعرقية الأخرى على ارضها وشرعت فور غزو غرناطة إلى تنصيرها قسرياً، وهي العملية التي بدأها رجل الدين المتعصب ثيسنيروس في إقناع المسلمين بالتخلي عن دينهم واعتناق النصرانية، باستعمال الشدة والتعذيب والسجن لإجبار المسلمين على اعتناق النصرانية (2)، وقد ارتكبت الفظائع بحق المسلمين من محاكم تفتيش والتحول إلى المسيحية في ظل ضغط الكنيسة وقسوتها وعنفها الرمزي والجسدي يطارد العرب الموريسكية كان عنفاً رمزياً يقوم على محو الهوية الإسلامية وقد تجلى بأشكال متنوعة من منع اللغة العربية وكتابتها في وقت كانت بمثابة ميراث معنوي الحديث بالعربية كان يعني المخاطرة بجذب انتباه محاكم التفتيش) (3). وكان الختان ممنوعاً كعلامة تميز للهوية لهذا (كانت عقوبة الختان هي النفي الدائم وخسران جميع الممتلكات وبذلت جهود لتعقب اولئك الذين كانوا يقومون بعمليات الختان )(4) كانت تلك الاوضاع قد عكست موقفا غربياً عنيفاً وعصابياً تجاه الآخر.

ثانياً: أما في زمن الثقافة الانكليزية والفرنسية وعبر الانكليزية والفرنسية، والألمانية، فهما من شيد الحداثة الصلبة ومشاريع العلوم الانسانية والاستشراق

ص: 34


1- والنرد منيولو، العصيان المعرفي،التفكير المستقل ولحرية الدو كولونيالية، ترجمة فتحي المسكيني، موقع مؤمنون بلاحدود
2- ماثيوكار، الدين والدم إبادة شعب الأندلس، ترجمة مصطفى ،قاسم دار كلمة، ط1، ابوظبي، 2013م، ص
3- اندرو ،هوتيكروفت الكفار، تاريخ الصراع المسيحية والإسلام ، ترجمة قاسم عبده قاسم المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة 2006م، ص 256
4- المرجع نفسه، ص 262- 263

من أجل معرفة الآخر وإخضاعه وهنا يحث أن المعرفة التي تحتكر التمثيل العلمي والشرعية الانسانية والتي ارتبطت بعملية الهيمنة الكونيالية وتحضير الشعوب المتخلفة يظهر (إنّ الافتراض الأساسي هو أنّ العارف متورّط دوماً، على مستوى سياسة الجغرافيا وعلى مستوى سياسة الأجساد في صلب المعروف، على الرغم من أنّ الإيبستيمولوجيا الحديثة) غطرسة النقطة الصفر على سبيل المثال ( قد عملت على إلغاء الطرفين وخلقت صورة الملاحظ المتحلّل من أي رابط الباحث المحايد عن الحقيقة والموضوعية، الذي يتحكم في نفس الوقت، في قواعد الاختصاص ويضع نفسه أو نفسها في موقع متميّز من أجل التقييم والإملاء)(1)، وقد كانت المعرفة وبخاصة أصحاب النزعة الوضعية بذلوا جهودهم في اعتبار كل فلسفة تكاد تكون ميتافيزيقا ومنها مسائل القيم والحقيقة والجمالية وقضايا الفلسفة النظرية كقضيّة الله وخلود الروح واللانهائية وانقسام العالم ومعنى الحياة فكلها مسائل عدوها ضرباً من العبث مادامت لا تربطها أي اصرة في ميدان العلم فهي ليست من قبيل المسلمات التحليلية والتجريبية (2).

وكانت حركات المقاومة في العالم الثالث قد انخرطت في عصيان معرفي يعمل على فك ارتباط عن سحر الفكر الغربي عن الحداثة والمثل العليا للإنسانية في حقبة الاستعمار أو اليوم بوعود البنك الدولي ووعوده بالنمو الاقتصادي والازدهار في ظل اقتصاديات العولمة المتوحشة (3). بحيادية وموضوعية يثبت إدوارد سعيد أن الشعوب العربية والإسلامية ليست بما توصف به من ،تخلف بدلیل مقاومتها العجيبة ودحرها المستمر للاستعمار، ومع ما سبق كله لم يناد سعيد بمحاربة الغرب، أو كراهيته، وإنما يدعو إلى فهمه أولا، ثم مواجهته بما يكفل الحرية، والاستقلال للشعوب المستضعفة(4). فان معرفة الغرب هي الغاية التي يصل اليها خطابنا النقدي

ص: 35


1- والنرد. منيولو، العصيان المعرفي، التفكير المستقل ولحرية الدو كولونيالية، المرجع السابق
2- ميشيل ماركوفيتش ، العلم والايديولوجية، ترجمة، أحمد السطاتي منشورات الكلام السلسلة الثقافية : 1، 1973م، ص 13.
3- انظر والنرد. منيولو، العصيان المعرفي التفكير المستقل ولحرية الدو كولونيالية، المرجع السابق.
4- خالد سعيد أدوارد سعيد ناقدا الاستشراق المركز الحضاري لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، 2011م، ص 127.

هذا الاحتجاج تنوع في العالم الثالث وفي عالمنا جاء الاحتجاج الاسلامي ليمثل موقفاً نقدياً للآخر، فهو يستمد شرعيته من تراث اسلامي اذ ( يركز على المدلول الرسالي للحوار، فهو يعبر عن قيمة حضارية، إذ هو أسلوب الأنبياء والرسل في التبليغ والدعوة وبالتالي أحقية هذا التيار في تقديم الإسلام والحضارة الإسلامية للطرف الآخر». فعلى الغرب ... أن يحاول خوض الحوار مع أولئك الذين يمثلون بجدارة الفكر والثقافة الإسلاميين. أما المتغربون الذين هم في حقيقة الأمر تمثيل ناقص ومشوّه للغرب نفسه، فإن حوار الغرب معهم لا يشكل ديالوغاً و(حواراً ثنائيا)، ليس ذلك وحسب، بل إنه لا يشكل مونولوغاً و (مناجاة أحادية)، أيضا كما يؤكد على ذلك خاتمي وهو أحد أبرز رموز هذا التيار في حوار الحضارات(1). وقد اخذ هذا التيار موقفاً احتجاجياً اكثر جذرية في نقد الغرب وتبيان تناهي مقولاته التي تدعي الكلية والشمولية في حين هي تمثل نزوعاً للهيمنة على مصائر الشعوب ونهب خيراتها والعمل على افقارها.

جاء هذا الكتاب في توصيف حركة الاحتجاج والمقاومة لدى الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر إذ تم تناول فكر مجموعة كبيرة من مفكري التيار الاسلامي في هذا الكتاب سواءً في حقبة النهضة أم في التيار المعاصر إذ تم تناول الرؤية النقدية لدى هؤلاء المفكرين وتصوراتهم النقدية للفكر الغربي بروح تحليله وصفة تستلهم فهم الفكر الغربي ونقده من أجل فهم الآخر وإزالة التغريب الذي ترك أثره في كثير من الأجيال التي لم تنتبه إلى آليات الآخر في نفي الآخر والعمل على مواصلة أزماته : (الفكرية والمجتمعية والحضارية) على صعيد المنهج والرؤية .

ص: 36


1- الزهراء عاشور ، حوار الحضارات وإشكالية الأنا والآخر في الفكر العربي والإسلامي

في إمكانية معرفة الغرب : ملاحظات منهجية

رضا داوري الأردكاني

رضا داوري الأردكاني(1)

على الرغم من تداول مصطلح «الاستغراب»، فإنّ سبر معناه يثير الاستغراب؛ فقد ألفنا تعبيري «الاستشراق» و «المستشرق»، نتيجة انهمام مؤسسات متخصصة بهذين الحقلين في أوربا وأميركا منذ قرنين من الزمان.

في المقابل، غابت الدراسات في مجالي «الاستغراب» و«المستغرب». ولعلّ من النادر العثور على مصطلح «Oxidentalism) (الاستغراب )كمقابل لمصطلح «Orientalism» (الاستشراق) في أي معجم لغوي، وفي حال وجوده، فلا يشير إلى معنى« الاستغراب» المتوخى .

لم يكتسب «المستشرق» صفته تلك بمجرد إحاطته ببعض المعلومات حول الشرق، بل نشأ كلَّ من مصطلحي المستشرق» و «الاستشراق» نتيجة تحوّل «الشرق» موضوعاً لحقل معين من الدراسات والأبحاث.

ألم يكن ممكناً قيام بعض الشرقيين جغرافياً بالمبادرة للاطلاع على الغرب، ليصبحوا «مستغربين»؟

ص: 37


1- مفكّر وفيلسوف من إيران. ترجمة: علي فخر الإسلام.

ألم يدرس كثير من علماء الشرق وطلابه في الغرب، الأمر الذي سمح لهم بالاطلاع على الغرب؟

يدرس أطفالنا في كتبهم الدراسية تاريخ كلّ من أوربا وأميركا وجغرافيتهما، حتى أنّ العلوم التي تُدرَّس في الثانويات والجامعات،ليست في أغلبها سوى ترجمة لأعمال الغربيّين، ناهيك عمّا دوّنه المستشرقون الغربيون من تاريخ علومنا وفلسفتنا وفنوننا وآدابنا، لينحصر دورنا بترجمتها فحسب.

إذاً، لسنا غرباء عن الغرب، بل نعرفه بطريقة أو أخرى.

مع ذلك كله، لماذا نفتقر« للمستغربين»، ونفتقد فرعاً معرفياً يُعرف باسم «الاستغراب» حتى الآن؟

وبالتالي هل تختلف معرفتنا بالغرب ،عن معرفة المستشرقين بالشرق؟

إنّ هاتين المعرفتين متمايزتان تماماً؛ فمعرفة الغرب بالشرق هي معرفة استقصائية، أما المعرفة التي نمتلكها عن الغرب - كما يُعبر غابرييل مارسيل - فهي معرفة أوّليّةٌ ناقصة، تمثل مجموعة العلوم الرسمية التي تلقيناها من الغرب، لا تشكل إلا مجرد أخبار وصلتنا عنهم.

في المقابل، لم يأخذ المستشرقون شيئاً منّا، بل قاموا بدراسات في علومنا وثقافتنا وآدابنا ومعتقداتنا؛ جاعلين من تاريخنا موضوع بحثهم، متخذين مبدأ إعطاء الأولوية للمواضيع التي تخدم أغراضهم في الغلبة.

لقد حالت هيمنة الغرب دون تمكننا من اتخاذ الغرب موضوعاً لدراساتنا، نتيجة عجزنا عن تأطيره ضمن حدود قدرتنا، كما أن بدايات احتكاكنا بالغرب كشفت حاجتنا للعلوم والقوانين والتقاليد الغربية، ما حرمنا من مقاربة الغرب بنظرة موضوعية لانعدام القدرة أو المجال لدينا للقيام بذلك.

في هذا السياق، يبدو أننا بحاجة إلى تقديم قدرٍ من الإيضاح في هذا الخصوص،

ص: 38

من خلال التأكيد على أنّ «الاستغراب» يختلف كلّيّاً عن الإحاطة بعلوم العالم الحديث وآدابه وتقاليده؛ فلم يُصنف علماؤنا الأقدمون الذين أخذوا الطبّ والفلك والنجوم والفلسفة من اليونانيين وقاموا ببسطها في زمرة المتخصصين في «اليونانيات»، بل لم يُطلق عليهم هذا العنوان أصلاً .

ناهيك عن أننا لا نسبغ على أدباء الشرق وفلاسفته وعلماء الدين فيه لقب المستشرقين، وما إطلاق صفة المتخصصين في الإسلاميّات على علماء الإسلام إلا على سبيل التسامح ، لأنّ علماء الدين لا يحظون بذلك اللقب ما لم يؤمنوا بذلك الدين ويبلّغوا أحكامه، بينما ليس من الضروري أن يكون المتخصص ب_«الإسلاميات» معتقداً بذلك الدين ومتمسكاً به.

إذاً، يشكّل «الاستشراق» علاقةً خاصةً بين الباحث والمواضيع التي يدرسها، في نسبة بين« فاعل» المعرفة وموضوعها، والتي يُعبر عنها في لغة الفلسفة الأوروبيّة بالنسبة بين «Subject» (الفاعل) و «Object» (الموضوع)، دون وجود أي ميل لدى فاعل المعرفة نحو مفعولها، مكتفياً بوضعه أمامه حتى يتعرف عليه من خلال المناهج العلميّة المقرّرة، ليدخله في نطاق العلم.

ولا تشدّ سائر العلوم الحديثة عن تلك النسبة؛ بمعنى أنّ منهجية البحث تقتضي من الباحث مقاربة متعلق (بفتح اللام) بحثه بنظرة موضوعية تعتمد الحيادية؛ إذ يمكن لأديب وشاعر فارسي تناول شعر فارسي بهذه المنهجية ويكتب عملاً في تاريخ الأدب، دون التغاضي عن النسبة« ما وراء الموضوعية »التي تربطه بالشعر الفارسي، والتي تبتعد عن النظرة الحيادية؛ فيمكن للقارئ الفارسيّ للشعر الفارسي تناول أنواع الشعر وصوره بحثاً ودراسةً، دون أن يتأثر تذوّقه للشعر بمنهجية البحث، لأنّ تذوّق الشعر والاستئناس به ليسا إلا نتيجةَ ميله له؛ فالشاعر يهوى الشعر، دون أن يُعاب عليه ذلك، أو يُعترَضَ عليه بحجّة لزوم اتخاذ الحيادية سبيلاً في رؤيته الشعرية.

لطالما كان أدباؤنا وشعراؤنا متذوّقين للشعر ومستأنسين باللغة، ومع ذلك لم يظهر

ص: 39

ما يُسمّى بتاريخ الأدب الفارسي إلا في العصر الحديث؛ إذ تعود بواكير الكتابات في تاريخ الأدب الفارسي والفلسفة الإسلامية و... إلى أعمال المستشرقين التي حذا حذوها باحثونا وعلماؤنا فيما بعد، وقد تعاملت المدرسة الوضعية مع ذلك التقليد باعتباره أمراً مفروضاً وضرورياً مع ازدراء كلّ نسبة وطريق آخر سواه.

ويتجلى هذا الأمر بأوضح صورة في حقل الدين والعلوم الدينية؛ إذ يمكن لشخص ما أن يكون مؤرّخاً للأديان أو يمتلك معلومات واسعةً في أحكام دين ما أو عدة أديان، دونَ أن يعني ذلك اعتقاده بأي منها.

وكم من قادة روحيّين لم تمنع مكانتهم كعلماء في الدين ومبلّغين لأحكامه، من مقاربة الدين وفق نظرة موضوعية بحتة، لأنّ تلك الرؤية للدين لا تعدو أن تتعامل معه كمتعلق (بفتح اللام) لعلوم المستشرقين، بينما تختصر نسبة الناس للدين بتلك النسبة التي تربط المستشرقين بالثقافات والأديان الشرقية فحسب، في حالة تقيّد حراك البشر ضمن ساحة واحدة فقط للعلم الموضوعي وحدَه فيها الكلمة الفصل، في انعكاس لفئة مغلوب على أمرها أمام الغرب، دون إضفاء صفة «الاستغراب» عليها، حتّى ولو كانت ملمة بالعلوم الحديثة.

إنّ كلّ ما ذكرنا آنفاً لما يرفع الغموض عن موضوع البحث بعد؛ إذ لم نتبين الفرق بين

«الاستغراب» من جهة، والإحاطة بعلوم الغرب وثقافته من جهة أخرى؛ الأمر الذي يدعونا لتسليط الضوء على أقسام العلم تخفيفاً لحالة الإبهام.

في الوهلة الأولى، يمكن تقسيم العلم قسمين: أحدهما العلم الموضوعي الذي يحيط فيه العالم بالمعلوم ويتصرّف به، والآخر العلم الذي لا يشرف فيه العالم على المعلوم أويتحكّم به، بالرغم من عدم انفصاله عنه.

كما ينقسم العلم الأوّل الموضوعي بدوره إلى قسمين؛ أحدهما العلم بالأمور والأشياء التي تتصل بالعالم الموجود والمتجدّد، سواءً كانت تاريخيّةً أو ثقافيةً أو طبيعيةً، والآخر العلم بالأمور ذات العلاقة بعالم متشتت، لم يبلغنا منه سوى مجموعة

ص: 40

أخبار وآثار ،والذي يُعدّ الاستشراق من سنخه؛ فلو كان من المقرر التعامل مع

«الاستغراب» ك_«الاستشراق»، عندئذ يلزمنا انتظار نهاية العصر الغربي أو افتراض حالة يكون العصر الغربي قد بلغ فيها نهاياته.

علينا الأخذ بعين الاعتبار فكرة إعراض المستشرق عن الاهتمام بأي شيء لا يزال ينبض بالحياة في الشرق، فقد قام المستشرقون بدراسات مهمة في مجالات العرفان والفلسفة والكلام والأدب والسياسة و.... لكن لم نعثر على باحث مستشرق أنجز دراسات في علم أصول الفقه، ويعود السبب في ذلك، برأيي، إلى صعوبة نسبة علم أصول الفقه إلى الماضي، للجوء الفقهاء إليه في استنباط الأحكام، دون أن يعني كلامنا اعتبار كلّ من الفلسفة والعرفان والكلام والأدب ميّتةً عفا عليها الزمن، وأنّه لم يبقَ من العلوم الحيّة سوى أصول الفقه، لأنّ كافّة العلوم والمعارف حيّة، ولكنّ المستشرق ينسبها للماضي.

لايخفى أنّ هناك فلسفةً وكلاماً وعرفاناً وأدباً في الغرب أيضاً، لكل منها تاريخه الخاص ، فإذا بادر شخص غير غربي بالبحث في تاريخ آداب الغرب وفلسفته وكلامه، فلماذا لا نعتبره «مستغرباً»؟

بعبارة أخرى، إذا كان للمستشرقين أن يُجروا أبحاثهم ودراساتهم في تاريخ الشعوب

الشرقية وفلسفتها وآدابها ،وعلومها، حتّى يُعدّوا نتيجة ذلك في عداد المستشرقين فلماذا لا يمكن لنا - نحن الذين أخذنا بعلوم الغرب، ونعتبر أنفسنا وغيرنا في حاجة إليها - أن نُعَدَّ «مستغربين »من خلال القيام بدراسات في علوم الغرب وآدابه؟.

إنّنا، بتناولنا تاريخ فلسفة الغرب وكلامه وآدابه سنقوم بتجميل تاريخنا من خلال المعلومات التي نحصل عليها في هذه العملية، بينما يتّخذ المستشرق من ماضي الشرق مادةً لتاريخه، مضفياً على تاريخ الشرق وماضيه صبغةً غربية.

كان «بيرجسون» يقول، في سياق حديثه عن المعرفة العلمية والعقلية، بأنّ العقل يُسكّن الأشياء المتحركة والمتغيرة ذاتيّاً؛ إذ كان يرى بأنّ العقل الذي تبلور في مرحلة

ص: 41

تاريخ الغرب الحديث لايميّز حقيقة الموجود الذي يمثل عين الحياة والنشاط والسيرورة والصيرورة، بل يبحث عن صورة الأشياء الميّتة والجامدة.

إذا ك ان هذا الكلام منوطاً بقبول بعض مبادئ فلسفة «بيرجسون» وقواعدها، عندئذ يمكن تظهير صورة الموضوع بطريقة أخرى؛ إذ عندما ننظر إلى التاريخ وفق المنهجية الفيزيائية، فإنّ تاريخ البشر وماضيهم سيتبدّل إلى شيء فيزيائي خاضع لقوانين الفيزياء.

لقد كتب المستشرقون تاريخ الشرق من موقع التسلّط والهيمنة والغلبة؛ الأمر الذي يجعل من معرفتهم بالشرق مختلفةً كلّيّاً عن معرفتنا بالغرب ، بل لا مجال للمقارنة بينهما ، لأنّهم تمكنوا من اتخاذ الشرق موضوعاً لأبحاثهم ومعرفتهم، بينما لم تتعدَّ معرفتنا بالغرب شكلاً من أشكال المساهمة في تلك المعرفة؛ فالإحاطة بالعلم والتكنولوجيا الغربية يشكل نوعاً من المشاركة في التاريخ الغربي، ولا ينبغي الخلط بين هذا النوع من المعرفة و «الاستغراب».

لقد أخذت الأمم الشرقية، منذ قرون عديدة بعلوم الغرب وآدابه وفلسفته وتكنولوجيّته، دون أن يُعتَبروا «مستغربين»، بل لم يتعامل أحدٌ مع منهجيّتهم وسلوكهم فی هذا السبيل كنوع من «الاستغراب».

بناءً على ذلك، هل يمكن اعتبار «الاستغراب» مفهوماً مستحيلاً يحول دونَ تأسيس فرع بحثي تحت هذا العنوان؟

إنّ التمييز بين مصطلحي« الاستغراب» و «الاستشراق»، يعيننا على استعراض شروط تحققه - أي «الاستغراب» كما يلي:

1- ينبغي على من يتصدون لدراسة «الاستغراب» تحاشي الشعور بالتبعية للغرب والدونية تجاههم، من خلال الحفاظ على استقلاليتهم وحريتهم، أو تنمية حس التمايز بينهم والعالم الغربي كحد أدنى، رافضين التعامل مع الغرب كنموذج للكمال

ص: 42

المتوخى، أو باعتباره المعلم والموجّه، مكتفين بالنظر إليه كآخَرَ مختلف.

لقد نشأ الاستشراق في ظروف كان الغرب يعتبر نفسه قمّة العالم والمهيمن عليه.

إنّ مقاربة معرفة الغرب وأدبه كغاية المعرفة والأدب الإنسانيّين، أو التعامل معهما کانحراف عن مبادئ الأخلاق وأصول الدين تحول دون إمكانية تبلور «الاستغراب»، لتحوّل الغرب في هذه الحالة إلى شيء بعيد عن صورة الآخر.

فلو ابتعدت الدراسات التي ظهرت في الآونة الأخيرة واتسمت بالعبثية - حول وجود الغرب عن النزعات الأيديولوجية، لساهمت في تسليط الضوء على شروط إمكانية تحقق مشروع «الاستغراب».

لقد صادفنا خلال بحثنا جهات تنكر أيّ ماهيّة للغرب أو ذاتيّة له، مدعيةً أنّ ما بلغه الغرب من قدرة ومكانة ليس خاصاً به، بل يمكن، وينبغي للعالم كافةً أن يصل إلى تلك المرحلة.

إن تبني هذا القول صحيح نسبياً من إحدى الجهات؛ بمعنى أن يتصوّر مدعوه احتكار الغرب الجغرافي للعلم والتكنولوجيا ،عندئذ يحق لهم القول بأنّ كافة سكان العالم يمكنهم أن يأخذوا بذلك العلم الجديد، وسلوك سبيل التنمية العلمية والتكنولوجيّة، إلا أنّ محلّ النزاع ليس في القول بأنّ كلاً من العلم والتقنية الحديثة خاصة بمجموعة من البشر، بل يكمن في أنّ تاريخاً معيناً يحمل مبادئ خاصةً قد تبلور في الغرب، وبسط جناحه على كافة أرجاء العالم، محوّلاً تاريخ العالم إلى تاريخ عالمي ،واحد، وفي مثل هذا التاريخ الواحد كيف يمكننا تمييز الآخر وتحديد الخصوصيات؟

لا شكّ في أنّ من ينكرون وجود الغرب وكينونيته سيتعاملون بالضرورة مع

«الاستغراب» بلا مبالاة، وحتى لو برّروا لأنفسهم التعامل مع هذا الموضوع، فإنّهم يحصرونه في نطاق معرفة الغرب، والاطلاع على تاريخ الغربيين وجغرافيتهم وآدابهم وعلومهم.

ص: 43

أمّا أولئك الذين يقاربون الغرب تاريخاً عالميّاً، ذا ماهية ومزايا معيّنة، فإنّهم يجارون تلك الفئة من الغربيين الذين يتساءلون عن بدايات الغرب ومآلاته، ويسبرون حقيقة تاريخ الغرب في سبيل معرفته فهم بمعنى ما يتقبلون فكرة إمكانية تحقق «الاستغراب» لابسنخه الاستشراقي؛ فلا يتخذ المستغرب من الغرب موضوعاً لبحثه، بل يستوعب تاريخه في ضوء ماهيّته التي يبحث عنها ماهية في ضوء تاريخه.

يمثل هذا النوع من فهم تاريخ الغرب وماهيّته نوعاً من المعرفة الظاهراتية، التي تستلزم الاحتكاك بعالم الغرب وفهمه من الناحية التجريبية.

2 - يستلزم إطلاق مشروع« الاستغراب» استيعاب التاريخ الغربي بشكل عام، والذي ينحصر سبيل بلوغه في سبر فلسفته، ويتمظهر في تقنيته، ما يستدعي الإحاطة بكليهما (الفلسفة والتقنية الحديثتين)؛ إذ لم يعد كافياً في هذه العمليّة مجرد دراسة تلك الفلسفة في الجامعات وتأليف الكتب حول تاريخها وترجمتها وطبعها ونشرها وجمع المعلومات عن آخر الآراء والأفكار الفلسفيّة هناك، بل ينبغي التأمل فيها من خلال وعي النسبة بينها وبين العالم الحديث، لا سيّما عبر التفكير في نهاية الفلسفة الغربيّة وأحوال ما بعد الحداثة.

لا يولد «الاستغراب» بكتابة مقالة حول الثورة الفرنسيّة، أو ترجمة عمل أدبي فلسفي، لأنّ الشرط الأساس لتحققه يتمثل في القدرة على التغلغل في فكر الغرب وفنّه وتاريخه وترسيخ الأقدام فيها.

إن كتابة مقالة تناقش فلسفة فيلسوف وشعر شاعر من خلال جمع معلومات من هنا وهناك، تجسّد في أحسن الحالات اتباعاً لمنهج ودراسة جديدة، إلا أن يتمكن الباحث من إعادة قراءة الموضوع وتحديد موقعه في سياقه التاريخي؛ بمعنى أن ينظر إليه من موقع المشرف في إطلالة بانورامية.

قد نكتب مئات المقالات حول«سوفوكليس» و«أفلاطون» و«فيرجل»و «بوئيسيوس» و «سانت أوغستين »و «توماس مور» و «هيغل» و «غوته» و «نيتشه» و ...

ص: 44

إلا أنّ ذلك كلّه قد لا يكون كافياً لإضفاء صفة «الاستغراب »عليها؛ لأنّ أقصى ما يمكن أن تعكسه تلك المقالات إثبات شغفنا بكبار شعراء الغرب وأدبائه وفلاسفته ،وعلمائه بينما «المستغرب» الحقيقي هو ذلك الشخص القادر على إدخالهم في منظومتنا الفكرية.

قد يقال: ألم يكن نيكلسون مهتماً ولهان بالمولوي؟ ألم يصرف «ماسينيون» ردحاً من عمره في البحث حول أحوال «الحلاج» وآثاره؟

إنّ إطلاق «ماسينيون» عنوان «محنة الحلاج على كتابه أكبر دليل على تعلّقه بسيرة

«الحلاج».

لسنا في حاجة لسرد الأمثلة حتى نثبت ولع كبار المستشرقين بالأعمال التي أنجزوها؛ فقد كان بعضهم عاشقاً للشرق والشرقيين، دون أن ينسوا ما يربطهم بالتاريخ الغربي، بل إن كثيراً منهم صرّحوا أو لوّحوا بإيمانهم بوحدة التاريخ، وما جرى في الماضي سواءً في الشرق أو أي مكان آخر على الأرض لم يكن سوى مقدمة للتاريخ الغربي.

3 - مشروع «الاستغراب» رهن بمعرفة منشأ ومعنى كلٌّ من العلم الحديث والثقافة الحديثة والحقوق الحديثة والسياسة الحديثة، وطالما أطلقنا أحكامنا على العلم والسياسة و... بناءً على المشهور السائد من الآراء فلا يمكننا أن نكون «مستغربين»؛ فلا نتوقع من مؤيدي الديمقراطية الاشتراكيين، والفاشيين،والنازيين، و... أن ينتموا إلى تلك الفئة.

طبعاً، ليس على «المستغرب »أن يكون معارضاً لتلك النزعات جميعاً، بل عليه أن يكون متحرّراً منها، ولا تخلو تلك النزعة للاستقلالية من صعوبة مع ذلك، فإن تعسّر التحرّر من تقاليد الغرب الظاهرية من سياسة وحقوق وغيرها، لا يُقارن بمشقة التحرّر من هيمنة تقنية الغرب وفلسفته.

ص: 45

4-مع ذلك كلّه، فقد توافرت في الغرب ظروف يمكن في ضوئها تصوّر إيجاد مجال لبروز «الاستغراب»؛ إذ لم يعد مشروع «الاستغراب» اليوم نوعاً من الترف الذي لا لزوم له نتيجة ظهور أشخاص يدّعون بأنّ الحداثة قد وصلت إلى مرحلة من الجمود والتوسع الصوري والرسميّ، الأمر الذي قد يرسّخ في أذهاننا فكرة توقف التجدّد وجموده.

في المقابل، يمتاز الفكر «ما بعد الحداثوي بالرفض للتعامل مع كل جديد ما یمهد الأرضيّة للعودة إلى الشرق واقتباس كلمات مفكريه ومرشدي الفكر الروحي والمعنوي لإضاءة طريق المستقبل.

5 - ليس «الاستغراب» ردّة فعل على «الاستشراق»؛ فلا يمكن ل_«المستغرب». ولا ينبغي له تطبيق المنهجية الاستشراقية في معرفة الغرب، لأنّ استخدامها في الغرب شاق للغاية، لن يُفضي إلى شيء سوى تقديم تقرير ناقص عن موضوع الدراسة، كما حدث قبل مئتي عام في إيران، حين ظهرت مجموعة من الأشخاص الذين خاضوا تجربة كتابة تقارير حول سياسة بريطانيا وبعض الدول الأوربية.

إن سبر «الاستغراب» ودراسته في حاجة إلى القدرة على كتابة مقالة بحثية أو تأليف كتاب تحقيقي حول السياسة والأدب والفن والثقافة والاقتصاد والفلسفة في ،الغرب، ما يؤكد أهميّة ترجمة كافّة الأعمال الفلسفية والأدبية والسياسية والتاريخيّة الغربيّة المهمّة من ناحية، ويفرض على اللّغة أن تتمتّع بالمقدرة والحيوية اللازمتين تمهيداً لخلق هذا التحوّل التاريخي الكبير.

لا يعني«الاستغراب»الاكتفاء بمعرفة أمور في التاريخ والجغرافية والأدب والفلسفة الغربية؛ إذ لو كان الأمر كذلك، لما احتجنا للتفكير في إيجاد فرع علمي باسم«الاستغراب».

إنّ أطفالنا في المرحلتين الابتدائية والإعدادية يقرؤون تاريخ وجغرافية أوروبا وأمريكا، ويطالعون القصص الغربيّة ويطلعون على سير الشخصيات الغربية البارزة.

ص: 46

فضلاً عن مطالعة قرائنا ترجمات الكتب الأجنبية، ناهيك عن أن كثيراً من الأفلام والبرامج التلفزيونية التي نشاهدها هی من نتاج الغرب، كما أنّ ما نتعلمه في مدارسنا عن الغرب وما ينعكس في وسائل تواصلنا الاجتماعية عنه، لا تمكن مقارنته بما يعرضه الغربيون أنفسهم عن الشرق في كتبهم وإذاعاتهم وتلفزيوناتهم.

مع ذلك كلّه ، فإنّ للغربيين« مستشرقيهم» و «استشراقهم» ، بينما لانطلق اسم

« المستغرب» على علمائنا المُلِمّين بأوضاع الغرب وأحوالهم؛ إذ على سبيل المثال، لم نطلق صفة «المستغرب» على كل من «عبد اللطيف شوشتري» و«اعتصام الدين» و«أبي طالب الأصفهاني» و «آقا أحمد الكرمنشاهي» ، مع أنهم خاضوا غمار تجربة تقديم توصيف النظام السياسي في الغرب، وقاربوا سلوك الأوربيين السياسي في مناطق أخرى من العالم.

من غير المقبول الادّعاء بأنّ المستشرق يتناول دراسة الشرق باعتباره تاريخاً مضى بينما لا يمكن اعتبار الغرب موضوعاً ل_«الاستغراب» لأنه لم يلتحق بالماضي بعد؛ حيث يوجد اليوم مستشرقون يدرسون الأوضاع الجارية في كل من إيران والصين والهند ودول إسلاميّة وشرقيّة أخرى بصورة عامة.

يمثل المستشرقون بشكل عام انعكاساً لمظاهر الثقافة الغربيّة، فإنّ هناك مجموعةً منهم تنتمي للمرحلة النهائية والأخيرة من الاستشراق، ويمتاز أعضاؤها بالاهتمام بالأوضاع المعاصرة ويميلون غالباً إلى الاهتمام بالسياسة أكثر، وينشغلون بالتفكير في خلق تحوّل سياسي في الدول غير الغربية وتنتابهم حالات القلق من ظهور سیاسات مخالفة للغرب فيها.

فإذا كان مسموحاً للاستشراق أن يتناول الأوضاع الجارية وعدم الاكتفاء بدراسة الماضي، فلماذا لا يمكن تناول الاستغراب للأوضاع الجارية في الغرب؟

لا يخفى أنّ للغرب ماضياً يمكن دراسته، ولكن معرفته العميقة تحتاج إلى شروط منها، لزوم سبر ماهيّة ،الغرب، أو تقبّل ادعائه، كحد أدنى، بضرورة التعامل معه معه ککیان

ص: 47

ذي عنوان تاريخي مميّز يختلف عن التواريخ الأخرى ويفرض تأثيره على العالم كله.

في المقابل، لا يحتاج سكان العالم الغربي إلى «الاستغراب»، ما يفرض على من يسعى إلى إطلاق ذلك المشروع أن يكون من خارج ذلك العالم، علماً أنّ الخروج من هذا النطاق في عصرنا الحاضر أمر شاق للغاية؛ إذ كيف يمكن تصوّر اتخاذ الغرب موضوعاً للبحث طالما لم يتحرّر كلَّ من الرؤية والفكر والرأي والعقل والقلب والروح من قيوده؟

لقد علّم الغرب البشر ، طوال 400 عام ، كيفية النظر إلى الموجودات وانتخاب الطريق ومآله، متقمصاً خلالها دور دليل عمل وعلم، أو مدعياً الهداية والقيادة على الأقلّ، معتبراً نفسه تجسيداً للعلم والعقل معاً، فكيف يمكن التفكير بإنزاله من سدة العلم والسلطة بتلك البساطة، وتحديده في إطار حدودنا المعرفية؟

لقد حدّد الغرب بنفسه حدود الإدراك والمعرفة، ولا يمكن لمن يتواجد في إطار تلك الحدود تصوّر ما وراءها !

لا يمكن لمشروع «الاستغراب» أن يتحقق إلا بالتحرّر من الغرب عبر التحرّر التاريخي من عالمه والخروج منه؛ فلا يمكن اعتبار مجرّد المعارضة السياسية أو النقاش والجدل في المواضيع الثقافية والفلسفية دليلاً على التحرّر من الغرب، لأنّ كثيراً من سكان الغرب، بل حتى بعض حراكات ذلك العالم حالياً، تخالف بعض تلك السياسات، وتعكس آراء اجتماعية وفلسفيةً خاصةً بها.

إنّ التحرّر من الغرب لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال خلق حالة من الثورة في رؤية الناس ،ووجودهم وهذا لا يتم إلا من خلال إدراك ماهية الغرب، واستيعاب أصوله ومبادئه ، الأمر الذي لا يخلو من قدر من الألم والمشقة يعادل ما تحمله تلك الثورة معها من صعوبات، ولا يمكن بلوغها بمجرد البحث والدراسة.

قد يبادر البعض لتبرير بعض الفلسفات الغربيّة ورفض أخرى وفق معايير يعتبرونها

ص: 48

من المشهورات والمقبولات؛ علماً أنّ تلك المقاربات تسدّ الطريق أمام معرفة الغرب محوّلة العلم إلى حجاب مانع، يصيبنا بحالة يكون فيه العلم أشدَّ علينا من الجهل.

في الظروف الحالية، إن الفلسفة «ما بعد الحداثوية »هي الفلسفة الوحيدة التي يمكن لها، بشكل أو بآخر، أن تشكل سبيلاً لمعرفة الغرب، والتي تتميز بإخضاع كافة مبادئ الغرب ومرتكزاته للتشكيك والتساؤل بعيداً عن الجدل لإثبات قضيّة أو نفيها، ما يمهد الطريق لخلق بدايات التحرّر من غلَبَة الغرب وهيمنته ،كمنطلق لمعرفته بحق ؛ إذ يتصف الفكر ما بعد الحداثوي بالطريقيّة لا الموضوعية، الأمر الذي يجعل من تأييده أو معارضته مؤشراً على سوء الفهم، وإنّنا بحاجة إلى معرفة الغرب لأنّ فتح طريق المستقبل يتوقف على استيعاب وضع البشر بصبغته الغربية في العصر الحاضر.

ص: 49

الاستغراب القسري في جدل التثاقف بين المركز والهوامش

نجلاء مكاوي

نجلاء مكاوي (1)

استخدمت الثقافة الأوروبية عدة استراتيجيات، وهي تؤطر فكريا ما اعتقدته تفوقًا أوروبيًا على كافة الحضارات والثقافات، تضمنت التنظير لتلك الرؤية، وصياغة الخطاب الذي يبرر السيطرة الأوروبية على الثقافات الأخرى، من خلال تعميم القيم والممارسات الأوروبية على« الآخر» الذي اعتُبر وصُوِّر ذا قيم وثقافة أدنى، ويستوجب تقدمه الدوران في الفلك الثقافي الغربي.

وضعت النظرة للعالم في الوعي والثقافة الأوروبية أسس مفهوم المركزية الغربية، وما استتبعها من تجليات ثقافية، فوفقا للتصور الأوروبي المبني على نظرة ثنائية للعالم برابرة ومتحضرون فإن الغرب هو منتج القيم الإنسانية، والمحدد الوحيد المسار انتقال أي ثقافة من البربرية إلى المدنية وهي كل الثقافات غير الغربية، وواضع معايير التقدم والتخلف.

وقد ظهر مفهوم الغرب، تمخضًا عن الحقبة الطويلة التي يصطلح عليها بالعصر الوسيط، التي طورت جملة من العناصر الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية، فاندمجت لتشكل هوية أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة ظهر المفهوم بأبعاده الدلالية الأولية، التي تمثلت في تثبيت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية علي أنها ركائز أساسية تشكل هويته. وأدت هذه العملية إلي ولادة مفهوم

ص: 50


1- أستاذة جامعية وباحثة في الفكر السياسي الحديث - جمهورية مصر العربية.

المركزية الغربية، الذي تتجلى إشكاليته في أنه يؤسس وجهة نظر حول الغرب بناء على إعادة إنتاج مكونات تاريخية ،توافق رؤيته، معتبراً إياها جذورًا خاصة به،ومستحوذا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها. فيما تقصد المفهوم أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربيًّا ، دافعًا به إلى خارج الفلك التاريخي الذي أصبح الغرب مركزه، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يجهزه بما يحتاج إليه(1).

ساعدت عوامل عدة على تدشين وتثبيت الهوية الغربية الحديثة، ووضوح وتجلي مفهوم التمركز، فبجانب الثورة الفكرية والعلمية، وحلول العلمية العقلية محل الرسالة الدينية، ما كرس لتمركز «الأنا»عند الغرب، الذي صار رمزا للتحضر، بينما العالم الآخر هو رمز للتوحش والهمجية، بعد أن نابت ثنائية حيوية أوروبا / خمول العالم عن ثنائية الإيمان/ الكفر التقليدية ،أو ثنائية التمدن /التوحش، فإن بداية الإعلان عن الزمن الأوروبي، وتشكيل هوية محددة إعمالاً للمركزية الغربية جاءت مع الكشوف الجغرافية الكبرى، وعبور كولمبوس للمحيط الأطلسي عام 1492، حيث أقصيت أمريكا وتاريخها القديم، وطمست معالمها ابتداءً من تحديد تسمية تحتفي بالاتباعية للذات الغربية، هذه التسمية التي حاولت ممارسة الإقصاء بإخفاء هويتها الحقيقية وإخماد وطمس أصلها، فكان الإعلان عن هوية أوروبا الغربية وذاتها بقتل الآخر واستبعاده(2). واستمرت الآثار السياسية والثقافية لهذه الحملة كامنة في صميم الثقافة الغربية، ولعل أبرز تجلياتها نظرة الغرب الاستعلائية إلي نفسه والتي ترافقها النظرة الدونية للثقافات والشعوب غير الغربية، وقيمها، وثقافتها، والشعور بالتفوق لدى الذات الغربية. هذه النظرة التي تجلى تطورها فی كونها أضحت مبررًا عنصريًا بواجهة أخلاقية لتوسعات أوروبا الاستعمارية في بلاد من اعتبرتهم هوامش، مروجة خطاب المنوط بإخراجهم من الظلام والجهل

ص: 51


1- السيد ياسين ،المركزية الغربية وتجلياتها المعاصرة، أوراق ثقافية، الأهرام. http://www.ahram.org.eg/Archive/200116/8//WRIT3.HTM
2- غزلان هاشمي ، التحيز الأيديولوجي في التمثيلات الخطابية الغربية، مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، نوفمبر. http://www.dalilalkitab.net/?id=401.

وإلحاقهم بركب الحضارة، وإن كان باستخدام القوة، بكافة تمثلاتها.

ثمة منظومات فكرية صاغت أسس فكرة التمركز الأوروبي، وأصلت له من أجل صناعة صورة تشرعن للغربي إقصاءه للآخر وتهميشه وتجلت في نظريات أصلت للحضارة الأوروبية بادعاء النقاء، وعدم تأثرها بأي حضارة أخرى غير غربية، وانعدام القيمة والتأثير المطلق للحضارات الأخرى، وقد أشار الأنثروبولوجي الفرنسي، جيرار ليكريلك، إلى دور «النظريات التطورية»في رسم صورة عن حضارات متفرقة ومتأخرة تتقدمها أوروباوتشكل نموذجاً يمكن تتبع خطاه، فقد كان بناء تلك النظريات أحد الطرق التي حاولت أوروبا بواسطتها أن تفهم التنوع الثقافي في العالم الذي اعترفت به، إبان التوسع الاستعماري. ففي إطار مقاربة كهذه يمكن ترتيب المجموعات البشرية تبعًا لخط زمني طويل يمثل في الوقت نفسه سلمًا للتقدم، بحيث يظهر هذا الخط الإنسان وقد انتقل من حالة التوحش إلى البربرية، ثم إلى المرحلة المتحضرة. وإذا قدر لكل المجتمعات أن تتقدم تبعًا لهذا الخط، فإن بعضها كان أكثر« تقدما» من البعض الآخر، بعضها يقود السباق، وبعضها الآخر يشكل جزءًا من المتبارين، وثمة بعض ثالث يسير في ذيل المتبارين. وهنا، تحتل أوروبا وبشكل طبيعي، كليًّا، موقعًا يجعلها رأس الحضارة (إنها الحضارة بامتياز ) أما «الحضارات الأخرى» (الإسلام، الهند الصين) فقد كانت أكثر« تأخرا». وفي النهاية فإننا نصادف مجتمعات متوحشة أو «بدائية» لا حق لها بأن يطلق عليها صفة «المتحضرة»، وتاليا فإنه لا بد لها أن تكتفي بموقع صاحبة «ثقافات»(1).

الزعم الأوروبي بإمكانية تصنيف المجتمعات الإنسانية، والحضارات والثقافات الأخرى، تبعًا لتقدمها على سلم التقدم الثقافي والاجتماعي، الممثل في الحضارةوالحداثة ، الأوروبية، استند إلى مبادئ العقلانية والعلمانية، التي رسختها فلسفة الأنوار التي انطلقت في أوروبا في القرن الثامن عشر ، ومثلت مرجعًا تأسيسيًا للفكر الغربي الحديث، وشكلت منعطفاً تاريخياً تحكم في مجمل الإنتاج المعرفي الغربي

ص: 52


1- جيرار ليكريلك، العولمة الثقافية .. الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة دار الكتاب الجديد المتحدةبيروت، 2004. ص33

والعالمي، حيث أحدثت قطيعةً معرفيةً مع النسق المعرفي الذي كان سائدا غربا، كانت ضروريةً للخروج من أفق التخلف والدخول في مسالك النهضة، فعملت على تعمیم نموذجها باعتباره نموذجًا كونيًا يصلح في كل زمان ومكان؛ وتشكلت مركزية غربية عنصرية تمثلت باحتقار الثقافات والشعوب الأخرى، وخصوصا الشرقية منها، وبدت الممارسة الاستعمارية أكثر وضوحًا مما كانت تتخفى خلفه من المثل العليا للأنوار، فانقلب العقل إلى اللاعقل، والعدل والمساواة إلى الاستبداد، وزحفت أوروبا إلى العالم لفرض هيمنتها وسيطرتها بذرائع تحرير العالم وتمدينه، وفق أيديولوجيا الاستعمار(1).

الاستعلاء المعرفي

هنا تفترض النظرية التطورية أن الاختلافات بين الثقافات (أو بين الحضارات) هی اختلافات ناجمة، أساسًا، عن الموقف المتقدم نسبيا على طريق التقدم التقني الوحيد. إنه طريق واحد لا يمكن تحاشيه، فكانت عبارة «الخط الوحيد» عبارة تقرن بهذه المقاربة في أغلب الأحيان. حيث تقوم أوروبا بقيادة مباراة الحضارات، وفي إثرها يسير صف من الثقافات الصغيرة البدائية المعزولة والقديمة، والتي أصيبت بالتأخر التقني، وبالتالي الثقافي. فانعزال الحضارات الواحدة عن الأخرى، وهذا ما كان قاعدة طيلة التاريخ، قد آل إلى الانتهاء مع تشكل السوق العالمية، وتوسع الحضارة الحديثة، المولودة في أوروبا بشكل كوني. أما الحضارات الكبرى الأخرى سيكون بوسعها لاحقًا أن تتكيف مع الخطوط الكبرى لهذه الأخيرة. فيما يتهدد الفناء الحضارات الأخرى، خاصة لجهة خصوصيتها الثقافية (الدينية بوجه خاص)، ولجهة التأقلم مع الوضع التقني، أي أن الدخول في العالم الحديث -أو في الحضارة كما كان يقال -يمر باكتساب الشكل الثقافي الوحيد، وبامتلاك العلم والتقنية(2).

على ذلك، فالنمط الغربي هو الوحيد المتعين محاكاته لتطور المجتمعات،

ص: 53


1- حسن أبو هنية ، روح الأنوار" كأيديولوجيا استعمار والإصلاحية الإسلامية، التقرير. http://altagreer.com :2014/11/22
2- جيرار ليكريلك، مرجع سبق ذكره، ص 34

التي اعتبرتها أوروبا تحمل عناصر الثبات، ولا تسمح خصوصيتها بالتقدم، بينما الثقافة الأوروبية الحديثة تمتلك عناصر التطور المستمر، لذلك كان من الضروري أن يقسم العالم إلى مركز وهوامش ،مركز غربي من حقه التمدد والسيطرة لفرض نمطه،وهوامش تحتاج إلى التغيير والتحديث، بينما كانت تلك ذريعة للاستجابة إلى التحولات المرتبطة بالرأسمالية، وتلبية حاجات الغرب الاقتصادية، عبرالانطلاق بتوسيع مجاله الاقتصادي خارج نطاق القارة الأوروبية، في ذلك الجزء من العالم الذي اعتبر مجالاً مستحقًا للتمدد.

تجلت الأهداف المرتبطة بقاعدة النظام الرأسمالي، التي تحمل طابعه، والتي وقفت وراء تقسيم العالم إلى مركز وهوامش وعمل خطاب التمركز الغربي على إخفائها، في مسار عملية التحديث المدعاة من قبل الغرب للدول التي استعمرها ،واعتبر أنها بما تحمله من خصوصية سبب في عدم الاستجابة للحداثة، كمشروع فلسفي وتجربة تاريخية، فصُنفت مجتمعاتها بأنها «ممانعة» للتحديث، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية، حيث اتضح أن تحديث العالم ليس هدفًا غربيًّا، بقدر ما كان هدفًا خطابيًا لنزعة التمركز الغربي حول الذات، وفي القلب منها نسق الفكر الكولونيالي. فما سعى الغرب إلى تصديره للمجتمعات الأخرى إنما هوأشكال الحداثة الملونة ،كي تصبح هوامش فعالة، تعمل كأسواق مفتوحة لسلعه من دون إنتاج، وجمهور مستهلك لإعلامه من دون ثقافة. ومن تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى، وخوفه العميق من حداثة متونها، ولدت الإشكالية التي صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري، فحكم بعض المعايير مسارات تطوره الذاتي وتحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجي؛ حيث احتل الغرب بلادًا ووظف أصحابها، في خدمة مشاريعه، فظل البناء الفلسفي المعتمد لمشروعه الحضاري عاجزاً عن حمل مشروع كوني حقيقي(1).

تمثلت تناقضات أطروحة التمركز الثقافي الغربي ،في رفض أوروبا التنوع

ص: 54


1- صلاح سالم، العلاقات المصرية - الأميركية أسيرة الدين السياسي والمركزية الغربية، الحياة،لندن،2015/3/2.

البشري الثقافي، وادعائها امتلاك الحقيقة، موجهة بنزوع إمبريالي، مستند إلى أيديولوجيا التقدم والعقل والحرية، أسهم في تبلور تناقضاتها وأوجهها المتعددة، وفي تطبيق نظريات العلوم الإنسانية الحديثة على الآخر، هذا التطبيق الذي عبر بوضوح تام عن النزعة الاستعلائية لمرجعياته الفكرية، التي يجعلها الأوروبيون في المقدمة دائماً.وفي هذا السياق تعرض الباحث إدريس هاني في دراسته حول «نقد الإنتروبولوجيا والتمركز الأوروبي - حالة إفريقيا » إلى اصطدام هذه النظرة الغريبة للذات بحقيقة مرة تمثلت بالنموذج الأفريقي، في إطار المعطيات الأنتروبولوجية التي أُريد لها أن تُسخر في خدمة التمركز الأوروبي، لكنها انقلبت ضده، حيث غابت المصاديق الأنتروبولوجية في المجتمعات المدروسة، ومن ضمنها المجتمع الأفريقي .هذا المجتمع الذي يمتلك خصوصية الذوق وخصوصية الاتجاه، وبدلاً من أن تلتفت الأنتروبولوجيا إلى التراث الأفريقي، الذي يعبر عن الهموم والأفراح المشتركة بين الشعب الإفريقي وبين المجتمعات البشرية، راحت تؤكد على تفسيرات التجلي البدائي في العقل الإفريقي وانغلاقه، من خلال دراسة بعض المظاهر الأسطورية في هذا المجتمع (1).

تبين التركيب المتناقض للمشروع الثقافي الغربي، بالرغم من صنع أوروبا لنفسها أقنعة مكنتها من ممارسة الأدوار المتناقضة، ومع إعادة منظريها كتابة تاريخ الإنسانية انطلاقاً من طموحاتهم المتمثلة في مزيد من السيطرة على العالم، في صلب المشروع نفسه، وأطروحة التمركز الأوروبي، الذي وظف في الحرب الأيديولوجية الرامية إلى تعميم التفوق الغربي في مختلف أصعدة الحياة. هذه الأطروحة اقتضى بناؤها الخلط بين معطيات تنتمي إلى مجالات معرفية ،وأخرى ترتبط بالتوظيف الايديولوجي الرامي إلى إنجاز مهام سياسية وأيديولوجية محددة، وهنا إشارة إلى السوسيولوجيا الاستعمارية والأبحاث اللغوية، وأنثروبولوجيا الإثنيات، وغير ذلك من المجالات المعرفية التي تم فيها توظيف الآلية الأيديولوجية المتمركزة على الذات

ص: 55


1- إديس هاني، العرب والغرب.. أية علاقة .. أي رهان عرض :عبد الرحمن الوائلي، مجلة الكلمة، العدد 23 ربيع http://www.kalema.net/v1/?rpt=388art 1999

الغربية، كذات فاعلة في التاريخ بهدف ضمان استمرار فاعليتها بأكثر من وسيلة،ثم حماية مكتسباتها ومصالحها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والايديولوجية.(1)

هذه التناقضات التي تكشفت، مع تطور مشروع الحداثة، وتجلي ازدواجية المعايير في الأدوار التي مارستها الحضارة الغربية، بجانب المقاومة التي أبدتها الشعوب غير الأوربية، أطلقت النقاش حول نقد المركزية المعرفية الغربية، فالنزعة التحررية التي صاحبت عمليات مواجهة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، أبرزت عاملاً آخر ساهم في إضفاء النسبية على ايديولوجيا التمركز الثقافي الغربي. يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية والتاريخية للأمم والشعوب غير الأوروبية، فلم تعد الأحكام المعرفية العامة التي بلورها الفكر الغربي وبلورتها العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها، وتشكل نماذجها المعرفية والأبستمولوجية أحكاماً عامة ومطلقة، بل تم إضفاء كثير من النسبية عليها . فلا يمكن للمعارف السوسيولوجية والسيكولوجية أن تصبح كونية وعامة إلا بإدخال عناصر المتغيرات التي تنتمي إلى مجالات خارج محيط المركز الغربي(2) .

على المستوى الخطابي، أي العناصر المكونة للخطاب وآليات تطبيقاته، فقد قدمت تشخيصات للآخر الغربي، وقراءة لخطابه الكولونيالي، وكان من أهم من اشتغل في هذا المجال فرانز فانون وهومي بابا، وقد وصف الأخير خطابات المستعمر بأنها تتميز بتمثيلاتها الساحقة، وتصير إنشاء متخيلاً يقدم سرداً يقتنع بأنه ممثل للسكان التابعين. وكما وصفه بابا فالخطاب الكولونيالي هو جهاز يعمل على الاعتراف بالاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية، وإنكارها ووظيفته الاستراتيجية الغالبة هي خلق فضاء للشعوب التابعة بإنتاج معارف تمارس من خلال المراقبة ساعيًا إلى إقرار استراتيجية عن طريق إنتاج معارف بالمستعمر والمستعمر، التي تكوّن

ص: 56


1- كمال عبد اللطيف، نقد المركزية الثقافية الغربية، العربي، الكويت، عدد 439، 1 يونيو 1995: http://www.arabphilosophers.com
2- نفسه

نمطية مقولته ،لكنها تقدم تقويماً متناقضاً. فالقراءات المنمَّطة التي اتخذت شكلاً مقولباً وشبه ثابت ،لكن بصورة مختلطة ومجزأة عن تنوعات في التوصيف الذي ألصقه الآخر بالسكان الأصليين بواسطة سردياته، فهم أنماط دونية تستأهل التوجيه، وقبولها يرتبط بقابليتها للمعرفة، ووضعيتها التابعة، فجعل الأسود متوحشاً ومن أكلة لحوم البشر، لكنه أكثر خنوعاً. فالكائن الأسود هو تجسيد للجنسانية الهائجة، ومع ذلك فهو بريء كالطفل، إنه صوفي وبدائي وساذج، ومع ذلك، إنه الأكثر دنيوية(1).

لا يقر الخطاب الاستعماري بالمساواة، ولا يؤمن بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وتقوم فرضيته على ثنائية ضدية، كما يذهب الباحث العراقي، عبد الله إبراهيم، فالمستعمر ممثل الخير وسمو المقام والرفعة الأخلاقية والتقدم، أما المستعمر فمستودع للشر والانحطاط والدونية والتخلف ،ولا سبيل إلى لقاء بينهما إلا حينما يدرج المستعمر كتابع للمستعمر ، فربما جرى تعديل وضعه، لكنه لن يكتسب السوية البشرية الطبيعية، فيكون بذلك مثل العبد الذي يحاول تقليد سلوك سيده، لكنه لن يتبوأ رتبة السيادة، فعبوديته تبقى هي المانحة لقيمته. وكذلك الأمر في سوق التداول الاستعمارية، حيث تكون التبعية علامة امتثال بها تتحدد قيمة التابع(2).

جدلية التابع والمتبوع

لقد أراد الخطاب الاستعماري تملك الآخر، فلم يضعه في مستوى رتبته، إنما حجزه في رتبة التابع، فمارس بذلك نوعًا من الرغبة في التملك، وعدم الإقرار بها، إذ قام المبدأ الاستعماري على فكرة السيطرة على الآخرين بالقوة المعززة بالمراقبة والعزل، والأخذ بفكرة تفوق الطبائع والثقافات؛ فروج لمعرفة خدمت المصالح الاستعمارية، وسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمرة، فكان بذلك جزءًا من وسائل السيطرة عليها، لأنه وضعها في موقع أدنى من موقع الشعوب

ص: 57


1- ناجح المعموري، هومي بابا .. والنقد ما بعد الكولونيالي، الاتحاد، 2007/12/15 http://www.alittihad.ae/details.php?id=159194y=2007
2- عبد الله إبراهيم التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث http://mominoun.com :2014/7/8

المستعمرة. وانشق مضمونه إلى شقين: ظاهر ادعى الموضوعية، وقام بتحليل الأبنية الثقافية والاقتصادية والدينية لتلك المجتمعات ،بمناهج وصفية لا تنقصها الدقةالعلمية ، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمر روج لفكرة التبعية، ومؤداها ألا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصلية، إلا باستعارة التجربة الغربية في التقدم، وتبني خط تطورها التاريخي(1).

بالنسبة للشرق العربي والإسلامي، اتضح الخطاب الغربي المتمركز حول ذاته في الكتابات الاستشراقية التي قدمت صورة نمطية للشرق في المتخيل الغربي، فلم يستطع النشاط الاستشراقي التحرر من مضامينه الغربية في قراءاته، وانطلق المستشرق من أرضية ثقافته الخاصة ،بإسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم، ومن منطلقات الفكر الأوربي نفسه في مراحل تفوقه(2).

وفي هذا السياق تطرق إدوارد سعيد في كتابيه«الاستشراق»و«تعقيبات على الاستشراق» إلى أسس التفكير الغربي تجاه العرب والمسلمين، وبين أن الغرب تشكل وعيه تجاه الشرق على أساس الاستشراق، فذكر أن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ،ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية. واعتبر سعيد أن موطن الضعف الأساسي في خطاب الاستشراق هو التحيز الأيديولوجي الغربي ضد المسلمين، كانعكاس للإمبريالية الثقافية الأوروبية(3).

ص: 58


1- نفسه
2- غزلان هاشمي، مرجع سبق ذكره
3- اعتقد عدد من المفكرين العرب والغربيين أن إدوارد سعيد بالغ في نقده لخطاب الاستشراق، واعتبروا أن تفسير المشروع الاستشراقي في مجمله بأنه دراسات قامت على أساس المعرفة هي السلطة، وبالتالي فإن المستشرقين يبحثون عن معرفة الشعوب الشرقية من أجل الهيمنة عليها ، يبدو ناقصا ، فثمة دراسات لمستشرقين ركزت على الجانب المعرفي، وليس الاستعماري مثل المستشرقين الألمان. وأن هناك عددًا لا بأس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم بين قوة المتخيل وحدود المعرفة)، مثل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي كتب عن الحلاج ، والمستشرق الألماني تيودور نولدكه، الذي كتب عن تاريخ القرآن»، وإينياس جولدزيهر ويوليوس فلهاوزن وسلفستر ،دوساسي وسيلفان ليفي، وبيشيل وآماري، ولوكوك، وغيرهم. انظر: بسام عويضة صورة العربي في وسائل الإعلام الألمانية بعد الربيع العربي»، مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2014/2/3: http://mominoun.com

على ذلك، يمكن القول بأن الغرب روج لمعرفته عبر خطاب خدم أهدافه ومصالحه ، كرس صورة للآخر غير الغربي، وثقافته وعناصرها، تستدعي ضرورة الدوران في فلك التطور والمعرفة الغربيين، كمكونات للتجربة الغربية، التي اعتبرت النموذج الأوحد و الأمثل للتقدم الإنساني.

2- الثقافة في بنية نظام السوق :عولمة قسرية

ثمة خلاف حول مراحل تطور العولمة، ومدلول الكلمة من حيث النشأة والتشكُل، فإذا كان المصطلح حديثاً، فإن الظاهرة «كواقع عالمي» قديمة، ارتبطت بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ التي نزع معظمها باتجاه تأسيس«الطابع العالمي للثقافات والحضارات»، فأيّ حضارة منتصرة أو« قاهرة /غالبة»تختزن في داخلها نزوعا ، أو «مشروع نزوع »باتجاه العالمية والكونية في الدعوة إلى مبادئها، وأنساقها المعرفية الحضارية الخاصة بهدف تحويلها لحالة دعوتية سلوكية عامة. لكن هذا النزوع يصبح نوعًا من القهر والضغط والاستعمار، عندما تنطلق مفاعيله على شكل سلوك عدواني، ينزع للهيمنة والتسلط في فرض نمط وحيد أحادي على الآخر، على مستوى الفكر والثقافة وأساليب العمل والحياة(1) .

هناك من يربط، العولمة بعصر النهضة في أوروبا، ثم الثورة الصناعية، وما أدت إليه من نشأة الطبقة البرجوازية، وتطور النظام الرأسمالي، وحركة الاستعمار التي زادت حركة التجارة وتبادل السلع بهدف توفير الأسواق ومصادر المواد الخام، وتأمين طرق التجارة، وضمان استمرارية عملية التراكم اللازمة لتطور النظام الرأسمالي ، ثم أخذت مسارها التطوري مع تقدم وسائل التواصل والاتصال الحضارية، فقد كان ذلك التواصل ، والتفاعل البشري يتزايد ويتعمق من حين لآخر، حتى وصل حاليا إلى أعلى أشكاله وأنماطه ،من خلال هذا الكم الهائل المتدفق من وسائل الإعلام والتواصل، والتقنية الحديثة المعاصرة العابرة للحدود، والآفاق الكونية التي تأسست

ص: 59


1- نبيل علي صالح، مقاربة في المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي : تحدّيات الحاضر وآفاق المستقبل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2014/6/25: http://www.mominoun.com

على قاعدتي التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي، بآليات ومعايير معقدة تجعل من السوق العالمية ساحة مفتوحة لكل من يمتلك المال لشراء الأسهم والمستندات والمعلومات في دقائق معدودات(1).

ويعتبر الباحث المغربي، عبد اللطيف الخمسي أن تاريخ العولمة محكوم بتحولات عميقة قد ترجع إلى التحولات العميقة التي عرفتها رأسمالية القرن التاسع عشر، وحكمته فلسفة فرض نموذج واحد للمعرفة والتطور، وضعت لصالح هيمنة محددة، شكلت منطلقا خطيرًا على الصعيد المعرفي والتاريخي، تمثل في وضع حد فاصل بين شعوب متقدمة، عقلانية وأخرى بدائية،ما زالت تعيش المرحلة الميتافيزيقية، وبأن ليفي بريل هو خير معبر عن هذا المنطق في كتابه الشهير«العقل البدائي»،والذي يمكن اعتباره إنجيلاً لكل التصورات المدافعة عن عولمة قسرية، لا ترى أمامها إلا نظام السوق، وقيمة الربح. فخطاب العولمة الآن يجد سنده الكبير في الأنثروبولوجيا الاستعمارية المتمركزة حول العرق، وحول ثنائية شعوب بدائية/ شعوب عقلانية متحضرة. كما أن فلسفة هيجل باتت تشكل المنطلق الأساسي لأغلب منظري العولمة، وذلك استنادًا إلى أطروحة «نهاية التاريخ»، والعلاقة الدموية بين العبد والسيد، والصدام الحضاري، التي تشكل الخلفية الفلسفية لكل دعاة العولمة ، «ففلسفة هيجل التاريخية في ارتباط بأطروحة العولمة ليست سوى تبرير نظري لمشروعية هيمنة السيد العقلاني على الإنسان الشرقي الغارق في ضلالات الوهم والتعصب»(2).

ما يستهدفه نظام العولمة من إقرار وضمان سيطرة مطلقة للغرب الرأسمالي، وفرض أنماطه، وجد تأسيسا له في الفهم والتصور الغربي القائم على استخدام أي تمايزات ثقافية وعرقية لصالح العولمة، ثم في الليبرالية الجديدة، كعقيدة اقترنت بتمدد وتطور ظاهرة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.

ص: 60


1- وليد محمود عبد الناصر، الحالة الراهنة للعولمة ومسألة الهوية الثقافية، نبيل علي صالح، مرجع http://www.arabworldbooks.com/Articles/articles66.htm
2- عبد اللطيف الخمسي، الهوية الثقافية بين الخصوصية وخطاب

النيوليبرالية كظاهرة ايديولوجية

مع ظهور الليبرالية الجديدة، كمفهوم أيديولوجي، ظهرت مفاهيم واصطلاحات جديدة مرافقة للخطاب النيوليبرالي، ومؤسسة له، مثل المنافسة الحرة، وإحلال السوق محل الدولة، وفتح الأولى وزيادة مرونتها . فقد استخدم هذا الخطاب، ظاهرًا وضمنيًّا كلمة

«الحرية»، وبعض مفاهيم الليبرالية التقليدية، مثل أهمية الفرد، والحد من دور وتدخل مؤسسة الدولة، والسوق الحرة.

ومن بين مظاهر الفكر الليبرالي الجديد، وتأثيره على الأفراد، ظهور مواطن انعزالي، يتميز بدرجة عالية من البراغماتية، أو الذاتية، وينطلق سياسيا من وحي التسرع، ومحاولة ابتلاع الآخر، ماديًا واجتماعياً. فالليبرالية الجديدة تؤسس لمفهوم جديد حول الواقع الاجتماعي وتبعاته الاقتصادية، وكذلك حول النظريات الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية، بما في ذلك توسع هوة الخلل الداخلي التي تلقي بآثارها على حياة سكان هذه البلدان. وتتضح بين مواطني الغرب الذين يعيشون في ظل النظام الليبرالي الجديد في وضع، فيما يتمتع سكان المناطق القريبة من المركز بحياة أفضل من سكان المناطق الواقعة على الهامش. وتستغل الليبرالية الجديدة هذه الحالة، من وحي الصياغة الأيديولوجية من أجل توظيف الثروة المادية والأسواق الخارجية لصالح سكان المركز(1).

لم تقتصر اتجاهات العولمة على إزالة الحواجز بين الأسواق المالية، وتوسيع مبادلات السلع والتكنولوجيا والخدمات ورؤوس الأموال ووسائل الاتصال، بل لها اتجاه آخر تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية وأنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب، وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة، ذات بعد كوني شامل. فالسوق المعولمة ترفض اعتبار وجود خصائص وطبائع ثقافية أو سيكولوجية محلية، وبذلك فإن العولمة تقضي بميلاد نموذج جديد للتبادل له بعد كوني(2).

ص: 61


1- محمد المذكوري المعطاوي الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 2014/1/13: http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481
2- محمد المذكوري المعطاوي الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 2014/1/13

لقد ارتبط الحديث عن الثقافة في بنية نظام السوق العولمي، باستخدامها في التوظيف لبعده الاقتصادي، وما ترتب عليه اجتماعيًا، فأصبحت الثقافة سلعة، أجاد استخدامها واستغلال اختلافها وتبايناتها الشركات متعدية الجنسية، من أجل الترويج للسلع عابرة الحدود، ذلك الاستخدام الذي كرس الاختلاف، ووظفه تجاريا، من منطلق عنصري وتمييزي، يُبقي «المتخلف» متخلفا، حتى يُستثمر تخلفه، ويصب في صالح القائمين على السوق المفتوحة، والمروجين لها، وواضعي قوانيها. وبالتالي، أعادوا تعريف الثقافة وكل ،افتراضاتها، وارتباطاتها بالهوية والبيئة والجغرافيا، حتى تناسب تحديات نظام العولمة من تحولات اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية، بل تُسخَّر من أجل تلك التحولات.

في سعيه للترويج لمفاهيمه وسياساته الاقتصادية الرئيسة، روج الخطاب النيوليبرالي للثنائية ذاتها :الآخر المتخلف/ الغرب المتقدم، مُعزيًا تخلف الأول لأمور ملازمة ذاتية، منها الثقافة، فبجانب فشل الدولة في الإدارة، والافتقار للطاقة البشرية المؤهلة، وانعدام روح المبادرة، وحاجة الدول الصغرى للكبرى للتدخل ومؤسساتها، في رسم سياسات الدول الصغرى الاقتصادية؛ من أجل تطويرها، اعتبر ذلك الخطاب أن ثقافة الآخر المتخلف الفقير هي المسؤولة عن تخلفه، وأنه يتعين دعمه بواسطة «برامج مساعدة التنمية». هنا يصبح جزءًا من تعريف الثقافة، أنها إذا كانت عاملاً للتقدم، فمن الممكن أن تكون أيضًا عاملاً مضاداً له، أي سببًا في الفقر والتخلف والنتيجة المترتبة على هذا الطرح هي: نحن أغنياء لأن ثقافتنا تدفع وتشجع على ذلك، وهم فقراء، لأن ثقافتهم لا تسمح لهم بالتقدم، وعليه، فإذا كان الازدهار مرهونا بالثقافة، فالتخلف نتيجة لها أيضًا». أي أن الثقافة تحدد فرص التنمية أو التخلف فإذا ما أخذنا بهذا التحليل، فلا مجال للهروب من هذا المصير، والمحصلة النهائية التي تترتب عن ذلك هي أن الدول النامية لا مفر لها من العولمة. فجانب عولمة الاقتصاد وفتح أسواق الآخر ، تعدت ،مع الليبرالية الجديدة، حدود الاقتصاد والسياسة إلى عولمة ثقافة معينة، هي ثقافة الأنا، وبسطها على الآخر، لأنها

http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481

ص: 62

الوحيدة الكفيلة بالمبادرة والتقدم والازدهار والحرية(1).

موضعة الثقافة تلك في نظام العولمة تربط بين معارك العولمة الاقتصادية والسياسية من جهة، والثقافية من جهة أخرى، ولا تفصل بينها، فإذا كان ذلك النظام قائم على الاستغلال والهيمنة الاقتصادية، فإن تدمير، وابتلاع، واستضعاف ثقافة الآخر، وطمس تشكيلاته الثقافية، مقوم أساسي لفرض الهيمنة وتكريسها، كرأسمال رمزي يوظف لصالح رأسمال مالي. ويقوم بدور محدد، بجانب الدور الاقتصادي والسياسي، في عملية الانصهار القسري في النظام العالمي.

أما الجدل حول التجانس الثقافي والتنوع الثقافي، وتبني خطاب الاختلاف الثقافي لفتح مسارات جديدة للمجتمع العالمي، ولتشارك دول الشمال والجنوب في إنتاج ثقافة بديلة، والترويج لزوال فكرة المركز والهوامش، فيقتضي مقاربة لمفهوم الاختلاف لدى منظري العولمة، وتبعات التجانس المنشود على أساسه.

من منظور الغربيين، أصحاب مدرسة التنوع الثقافي للعولمة، فإن الاختلاف والاختلاط بين الثقافات يفترض مقاومة أفكار النقاء الثقافي، والثقافات الأصلية الموحدة، وزعزعة مفهوم الثقافة التقليدي الذي - من وجهة نظرهم - حبس الهوية الثقافية في دائرة العرق الحتمية، بوضعه حدودًا واضحةً أو «سياجًا وهميا» يحيط بكل ثقافة، وأن كل من يقعون داخل هذه الثقافة متفقون ومشتركون، في الوقت الذي تشير الدراسة والملاحظة إلي الاختلافات والانقسامات في أساليب الحياة. فتلك النظريات تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع الثقافي والاختلاط والتداخل الثقافي في عصر العولمة، وترفض نموذج المركز والأطراف، متجاهلة توزيع القوة والسلطة في النظام العالمي(2) .

تقول ماري تريز في قراءتها لخطاب ما بعد الحداثة، من منظور ما بعد كولونيالي، أن الفكر الما بعد حداثي، (الذي انبثق عنه خطاب العولمة)، ينزع إلى إذابة

ص: 63


1- محمد المذكوري المعطاوي، مرجع سبق ذكره
2- هديل غنيم، كيف يتطور مفهوم الثقافة استجابة لتحديات العولمة الديمقراطية، الأهرام، القاهرة، عدد 31، يوليو 2008من ص42-44

الاختلافات بتجاوز الحدود والهوامش، بوصفها حواجز مصطنعة، سوف تأتي بنتيجة عكسية. فتقبل الاختلاف في كافة أشكاله دون تمييز قد يفضي إلى تحويله إلى نموذج معمم في محاولة للتوصل إلى مفهوم للعالمية يتأسس على لاختلاف ، مما يعني تأكيده دون محاولة التعرف عليه، أو التداول معه. وفي تأكيد الاختلاف ما ينذر بعهد جديد من الكولونيالية المستترة، تتخفى وراء خطاب فكري معكاس الخطاب الكولونيالية، الذي اتخذ من نشر الحداثة الغربية ذريعة للفصل بين العالم المتمدين والآخر المتخلف لإضفاء صفة الشرعية على تطلعات الغرب الاستعمارية. ففي مواجهتها للحداثة الغربية بتوجهاتها الإمبريالية، وخطاب المركزية، عالجت ما بعد الحداثة الخطأ بمثله بخلق نظام عالمي جديد لمواجهة نظام عالمي سابق وكأنها تحارب الشمولية بمثيلتها. فبرغم إسهام حركة ما بعد الحداثة في تقويض بنى الحداثة السلطوية، إلا أنها ساعدت على إقامة عولمة شمولية بديلة، ينبغي نقضها بمؤازرة العناصر المقاومة لرأس المال(1).

لقد اقتضت خطة التجانس العالمي، أن تصبح شروط السوق مقياسًا معقولاً مُعدًا داخل أشكال الحياة في الأطراف، وآلية ذلك التدفق الثقافي، ونشر أنساق فكرية، وسلع ثقافية عابرة للقوميات، بل وهيمنتها عبر التكتلات الكبرى التي تضطلع بمهمة الثقافة في النظام العالمي، التي لا تهتم بجودة تلك السلع، ولكن بحجم ما تحققه من مصالح، وهذا بالضرورة يأتي على حساب الثقافات المحلية، فهذه السلع لا تعبأ بأي تمايزت ثقافية لسكان الأطراف« المستهلكين» لتلك الثقافة، المنتمية إلى أسس غربية في أساسها، والقادرة على الاختراق والتأثير بحكم امتلاك المركز مقومات تفوقها لجهة الإغراق الثقافي.

عن التصورات الخاصة بالمستقبل الثقافي في عالم اليوم، الذي يموج بالتفاعل والتبادل الثقافي المتواصل ، ليس فحسب من الزوايا الثقافية والاقتصادية، كما كان الحال في المرحلة الكولونيالية، وإنما أيضًا من زاوية بنائه الثقافي، العالم الذي لا

ص: 64


1- ماري تريز عبد المسيح، الثقافة القومية بين العالمية والعولمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة، 2009، ص 51،37،20،19،12،11

يشكل قرية عالمية تتسم بالمساواة، بل هو ليس سوى صرح مبني، بصرامة، دونما تناسق أو تماثل بين المركز والأطراف، يذهب أولف هانرز في تصوره لسيناريو تحقيق التجانس العالمي للثقافة إلى أنه يجري التصوير الخطابي للتهديد القاتل للإمبريالية الثقافية، باعتباره يضم ثقافة التكنولوجيا العالمية للمدن والعواصم، إضافة إلى المساندة التنظيمية القوية في مواجهة ثقافة شعبية صغيرة لا حول لها ولا قوة. ولكن

« الإمبريالية الثقافية»، كما أصبح واضحًا، تمتلك علاقات بالسوق تزيد عن علاقاتها بالإمبراطورية. ويعمل المحرك الرئيسي المزعوم لعملية التكرار البشري العام للاتساق في الرأسمالية الغربية السابقة على الدوام على إغراء مزيد من المجتمعات نحو الاعتماد على أهداب المجتمع الاستهلاكي، عالمي النطاق الآخذ في الاتساع .وتحقيق التجانس ينتج أساسًا عن طريق تدفق الثقافة كسلعة من المركز نحو الأطراف، ووفقًا لهذه الرؤية فإن الثقافة العالمية المتجانسة الوافدة، سوف تكون ،على وجه العموم، صيغة من الثقافة الغربية المعاصرة، وعندئذ سيظهر فقدان الثقافة المحلية بشكل متمايز عند الأطراف(1).

سيناريو «الفساد بالأطراف»..

بينما يقول هانرز بأن هناك سيناريو آخر يتعلق بالعملية الثقافية العالمية، ولكنه قابع في موضع خفي، ولا يخرج كثيراً للمنافسة مع سيناريو تحقيق التجانس العالمي، وهو سيناريو «الفساد بالأطراف»، إذ إن ما يصوره كمتتابعة متكررة دوريًا يقع أينما يمنح المركز مثله العليا، وأفضل معارفه ،مع وجود شكل مؤسسي،وأينما تتبنى الأطراف هذه المثل والمعارف ،ثم سرعان ما تقوم بإفسادها. يحدد هذا السيناريو لمن يقعون في المركز متى يتشاءمون بشأن دورهم في تحسين العالم، بل ويرتابون في الأطراف ويسخرون منها. ويتعلق الأمر بمركزية عرقية عميقة، إذ تفرض توزيعا غير عادل على الإطلاق للقوة والتأثير، وبذلك يأتي إنكار صحة وقيمة أي تشكيلات قائمة لدى الأطراف، وكانت مأخوذة في الأصل من المركز .وهنا تكمن قضية وجود قدر من

ص: 65


1- أولف هانرز سيناريوهات ثقافات الأطراف في الثقافة والعولمة والنظام العالمي، تحرير أنطوني كينج، ترجمة: شهرت العالم وهالة فؤاد ومحمد يحيى الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2005، ص 161_162

الاختلاف الثقافي، ولكنه اختلاف بین الثقافة وغير الثقافة ،بين الحضارة والهمجية(1).

أما عن الأدوات، وحتى تتوفر أسواق لاستهلاك منتجات العولمة المادية والرمزية، بصناعة وتعميم الشخصية الاستهلاكية، وتعميم نموذج موحد للقيم، متجاوز للخصوصية ومفكك لعناصرها، فقد تلازم إنتاج العولمة بإنتاج الصورة الخائلية، ولعب التقدم التقني وعلم المعلومات في تطوير النظم الخائلية مفضيًا بدوره إلى دعم الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعتمد بشكل أساسي على الخائلي لتطوره. وعلى خلاف رأس المال الصناعي، الذي اعتمد على إنتاجية العمل وتحولها إلى الإنتاج الكمي، يعمل رأس مال العولمة عبر دائرة السبرانية العابرة للأقطار، بفعل ضخ المعلومات الفورية عبر الشبكات الإليكترونية، مختصرًا المسافات. وصارت الصورة سلعة جاهزة للاستهلاك السريع وسهولة التداول لما تسهله من إمكانية التواصل عبر الحدود إلى أبعد المواقع. فسهل ذلك ظهور أنظمة سلطوية مغايرة للأنظمة الكولونيالية السابقة تعتمد إدارتها على الصورة الخائلية من جهة، والبنوك وشركات استثمار الأموال المتعدية للجنسيات من جهة أخرى، حيث يعد نظام البيع والتعامل عبر كروت الائتمان دربًا من البيع الخائلي، فهو بيع مُرْجَأُ السداد، مما يُعجل بتداول رأس المال. فالسداد المؤجل يساعدالرأسماليين على إعادة توظيف الأموال، ومن ثم تسديد ديونهم، وبهذا النظام يغدو تداول رأس المال عملية خائلية غير منتهية، ينمو فيها رأس المال كجسم بدون أعضاء في شبكة من أنظمة خائلية تنتمي إليها ثقافة الصورة المعولمة، فيتراكم رأس المال بمعدل تداول الأموال وتداول الصور، ومثلما يتولد المال عن المال تتولد الصور عن الصور(2).

كما أن الإعلام الجديد، الذي تزامن تطوره مع ظاهرة انتشار وتوسع العولمة، أسهم في تنامي قيم العولمة، التي توهم بامتلاك الحرية المطلقة في الاختيار والامتلاك الخصوصي للأشياء والأفكار، ولعب دورًا كبيرًا في تشجيع القيم الاستهلاكية. فالعولمة خلقت فيضًا من الخيارات، ولكنها أوجدت تقاربًا في التطلعات والقيم،

ص: 66


1- نفسه ص163.162
2- ماري تريز عبد المسيح مرجع سبق ذكره، ص 66 - 67

التي تركزت على رغبة الإنسان في التملك والاكتساب، وهو ما أصبح معروفًا في الخطاب السائد بالتنميط الثقافي، أي توحيد التطلعات والرؤى والقيم حتى الأحلام، حيث تصبح متشابهة لدى الجميع؛ فيتجه الفرد أكثر فأكثر إلى الفردانية، وهي قيمة تعتبر الفرد مركز الكون، ومرجعية ذاته، ويتم بالتالي إسقاط أي اعتبارات يؤمن بها المجتمع لفائدة قيم العولمة، وعلى الرغم من تصدير انطباع واهم بالحرية، عبر الإعلام الجديد، فإنها ليست مطلقة، فهي موجهة من طرف الشركات العملاقة متعدية الجنسية التي تهيمن على الإعلام الجديد، كغيره من أدوات التواصل والاتصال، وبالتالي فالمضامين، بل حتى أشكال تصميم وتقديم القنوات والمواقع والتطبيقات لیست محايدة من الناحية القيمية، بل تعكس مضامين قيمية متحيزة لقيم السوق، وموجهة نحو الاستهلاك والتسلية والترفيه، أكثر من البناء الفكري والتفكير النقدي(1).

لذلك، فاجتياح العولمة، وتأثيراتها على الثقافات المحلية، المرتبطة بسياقات العولمة الاقتصادية والسياسية وتبعاتها على دول الأطراف، وأفضت إليه تجربة التحديث الغربية التي سعت إلى إدماج الشعوب قسراً، إلى خلق ثنائيات فكرية تعمل على الإقصاء، وما أنتجته العولمة من تفاوت في مصادر المعرفة والعلم، كنتاج للتفاوت الاقتصادي، وسعيها أيضًا إلى فرض قيمها وتسليع الثقافة التي تحدد المنظومة أنها هي«الثقافة»،كل ذلك قد أفرز مقاومة متعددة الاتجاهات من بينها التشدد في التمسك بالخصوصية القومية، التي ازداد حولها الجدل، في إطار جدل الثقافة بين العولمة والخصوصية، والمحلي والعالمي .

3- اتجاهات المقاومة الثقافية( الخصوصية - الكونية - الخروج من الثنائيات)

دفعت مآلات الهيمنة المعرفية والفكرية الغربية، وما كشفت عنه من مظاهر تأزم هذا النموذج الغربي وتحيزاته ونسبيته، واستمرار عملية فرضه بصيغ استحدثتها العولمة، إلى ظهور حركات مقاومة، أعادت النظر في مبادئ مركزية المعرفة الغربية، ومشروع

ص: 67


1- محمد مصباح الإعلام الجديد : العولمة وتحدي خصخصة القيم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود. http://www.mominoun.com :2014/3/25

الحداثة، وقيمه، ووضعية الثقافة في منظومة العولمة .وتصاعد الجدل حول مفهوم الاختلاف الثقافي والحضاري، وضوابطه، ودوره، وآلیات مقاومة الهيمنة الغربية الثقافية، ما أفرز عدة اتجاهات في طبيعة وشكل تلك المقاومة في المجتمعات التي اعتبرت هوامش ، تنوعت أسسها ومنطلقاتها، وما قدمته من بدائل.

أنتج النموذج المعرفي والحضاري الغربي، الذي سعى إلى الهيمنة، حالة من الحداثة الشك واليأس في مبادئ عصر التنوير، ومشروع بجميع قيمه وأسسه التي قام عليها، بما في ذلك مقولات العقل والعلم والتقدم والتحرر، فبرغم ظاهر انتصار العقلانية ومبادئها، وما قادت إليه من غنى فكري، وتنوع معرفي، وتقدم علمي وتقني هائل، إلا أن هذا الانتصار قد انحرف عن مساره ، وأدى إلى نقيض مقصوده، ولا أدل على ذلك من أن هذه العقلانية التي بشَّرت الإنسان بعالم تسوده الطمأنينة والسعادة هی التي أدت إلى تدميره. (1).

لقد حملت بداية القرن العشرين علامات ضعف وتراجع الانتصار الثقافي الغربي، فتبع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بمثابة تمزق داخلي في قلب الحضارة الأوروبية، استعادة بعض المفكرين لوعيهم بحقيقة الاستعمار، وما عليه من وحشية، وما يعانيه من ضعف. وتولدت أفكار بدفع الشعور بضرورة فهم التاريخ الأوروبي على ضوء التاريخ العالمي في حركيته، وعلى ضوء رؤية كونية للإنسان، حيث الأوروبي، ومهما كانت عظمته الحاضرة أو الماضية، ليس إلا صورة من صور الإنسان، وحيث الغرب ليس إلا صورة ممكنة للحداثة. ويقول جيرار ليكريلك «على الحضارة الغربية أن تقابل بالحضارات الكبرى التي يشهدها التاريخ، فلا تعتبر الحضارة الأوروبية بمثابة الحضارة بامتياز، إلا إذا كان في ذلك بعض السذاجة والادعاء» (2).

ص: 68


1- علي صديقي الأزمة الفكرية العالمية : نحو نموذج معرفي توحيدي بديل مؤسسة مؤمنون بلا حدود http://www.mominoun.com :2015/4/17
2- جيرار ليكريلك ، مرجع سبق ذكره، ص 36 - 37

غواية الاستغراب

في المقابل، وفي مواجهة قوى إمبراطورية تريد إعادة تشكيل العالم، طبقاً لرؤاها ومصالحها، لجأت كثير من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة عارمة للحماية الذاتية. فأضيف إلى أسباب التنازع، كالأيديولوجيات المطلقة، والاستبداد، والاستغلال، والمصالح، تنازعات نتاج المركزيات الثقافية ،التي وجدت لها دعماً من أطراف التنازع، وبسبب غياب النقد الذي يجرد تلك المركزيات من غلوائها، في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلبت تصوراتها، واصطنعت لهادعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدت إلى زرع فكرة السمو والرفعة في الذات والدونية والانتقاص في الآخر، ومع أن كثيراً من أطراف العالم تداخلت في مصالحها، وثقافاتها، وأفكارها، لكن ضعف الفكر النقدي حال دون أن تتلاشى المركزيات الكبرى(1). التي أسست لمفهوم الخلاف ينحصر في كونه مرادفا للتميز والتفوق، أو العزلة والانقطاع.

على نقيض بعض المثقفين العرب، ومثلما حدث في معظم ما سمي «العالم الثالث»، الذين انبهروا بالغرب وشعاراته ،وحضارته، ولغته، وانعكست العقدة التاريخية لديهم في تبني ما قدمه من أفكار وتصورات ومناهج، دون اعتراف بنسبية ثقافته وتاريخيتها، ما دفع إلى الانصهار في الثقافة الاستعمارية التي استهدفت الثقافات المحلية، فإنه كثيرًا ما اقترن أدب المقاومة بالقومية المتطرفة، ونشأ خطاب أصولي متمسك بالجذور الثقافية المحلية، وارتفع صوت الخطاب القومي بمعانيه الثقافية والدينية. وتقول ماري تريز بأنها نزعة يمكن تفسيرها بوصفها آلية لتعريف الذات ،وتأكيدها، واعتبارها عنصرًا من عناصر المقاومة، لما هو دخيل عليها ويسعى لتهميشها. وفي مواجهة خطاب الهيمنة المتستر وراء مزاعم العولمة، الذي يعمل على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة في استهانته بالتاريخ المشترك للأمة لتحويل الاهتمام بحاضر تسيره قوانين السوق والتطلعات الاستهلاكية، تتجه بعض العناصر

ص: 69


1- عبد الله إبراهيم صدام أصوليات لا صدام حضارات الحياة، 2007/10/13

المحبطة إلى تخييل التراث والارتكان إلى أحد مصادره، لتأصيل جذوره، واقتطاع جزء من التاريخ لتأصيله، مما يستدعي وضع شروط لتفسيره ومن ثم تقنينه، ويأتي ذلك كرد فعل للمجتمع الاستهلاكي، الذي أسبغ كافة أنشطته بالطابع التجاري. فالخطاب الأصولي في خلقه للأسطورة، يسعى لتطهير الثقافة من النمط الاستهلاكي، بيد أنه يخفق في سعيه لأنه غالبًا ما يقيم نسقا معرفيًا يتعارض والدور الرئيسي للثقافة، حيث يعلي ثقافته على غيرها من الثقافات، ويكسبها الرفعة، ففي تطرفه لتأكيد الهوية وتنقيتها من الصورة الواهنة التي أضفاها الآخر عليها، يخلق الخطاب الأصولي لغة كولونيالية معكوسة تعمل على تهميش الآخر ، لتأكيد الذات، في محاولة منه لتأسيس مركزية جديدة مضادة(1).

وعن تأكيد القيم الثقافية، كجزء من تأكيد الذات ،يقول إيمانويل والرشتاين أنها كمقاومة ثقافية منظمة ومخططة، تماثل المقاومة السياسية، وتعد جزءا لا يتجزأ منها، فعند تعمّد تأكيد (أو إعادة تأكيد )قيم ثقافية بعينها كانت قد تعرضت للتجاهل أو الانتقاص من قدرها، من أجل الاحتجاج على فرض القيم الثقافية للأقوياء على حساب قيم الضعفاء «فإننا نعمل على تقوية الأضعف في نضاله السياسي داخل دولة معينة وداخل النظام العالمي ككل، ولكننا عندئذ نمارس ضغوطاً لإثبات صحة قيمنا المؤكدة (أو المعاد تأكيدها )من زاوية المعايير التي وضعها الأقوياء... فعندما يعمل القائمون على تخطيط المقاومة الثقافية على تأكيد ثقافة بعينها فإنهم في واقع الأمر (يعيدون)إضفاء الشرعية على مفهوم القيم العالمية، لذلك تشتمل المقاومة الثقافية على المأزق نفسه، كما هو حال المقاومة السياسية، التي تستخدم هياكل النظام من أجل معارضته، وهو ما يضفي شرعية جزئية على تلك الهياكل، وبذلك تقبل جزئيًا شروط النقاش كما حددتها القوى المهيمنة»(2) .

في المجتمعات العربية والإسلامية، لخص البحث عن الذات لتأكيدها، عبر

ص: 70


1- ماري تريز عبد المسيح مرجع سبق ذكره ص 31-28
2- إيمانويل والرشتين القومي والعالمي: هل يمكن أن توجد ثقافة عالمية؟ في الثقافة والعولمة والنظام العالمي، مرجع سبق ذكره، ص 150

تضخيمها والتمركز حولها، مفهوم ومنظور الخصوصية الثقافية لدى الأصوليين في مواجهة هيمنة الغرب، فالخطاب الأصولي استدعى التراث، واختزل الصراع الكوني في صراع ما بين الإسلام والكفر، وبأنها معركة تخوضها الهوية الإسلامية ضد التغريب، فتلخصت المواجهة الثقافية في ثنائية الهوية الإسلامية/التغريب، وارتكز مفهوم خصوصية الهوية الثقافية على ركائز ،عقدية وبالتالي منطلقات الصدام مع ،الغرب، فأضحى السلاح الوحيد هو التمسك بجوهر تلك الهوية، وأصالتها، والعودة إلى الجذور أي داخل إطار التراث وليس بالتحرر منه أثناء التفكير، أو تأسيس معرفة علمية لجهة فهم إشكاليات الحداثة وعلاقة التبعية بين المجتمعات التي خضعت وتخضع للهيمنة الغربية الرأسمالية وإشكالات وتعقدات الواقع العربي والإسلامي، ومن ضمنها أسباب التخلف الذاتية، بعيدًا عن استدعاء التقولب التراثي، وتغذية شعور مقابل بالتفوق، والانعزال والانزواء.

في مقاربته للأصولية الإسلامية، اعتبر عبد الله إبراهيم بأنها ليست في صدام مع الحضارة الغربية، بل مع الأصولية الغربية. فالحضارات بذاتها لا تتصارع؛ لأنها المكسب النهائي للعقل البشري، لكنها وهي تتفاعل في ما بينها، تنتج أصوليات راديكالية ناقمة وعنيفة هذه الأصوليات المغلقة على نفسها هي التي تتصادم، وليس الحضارات الكبرى، «فما نجده الآن ليس صراعاً بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، إنما هو نزاع عنيف بين أصولية إسلامية لها تفسيرها الضيق للدين، وبين مزيج من أصولية إمبريالية - أميركية ذات بطانة مسيحية، تقول بالتفسير نفسه، وإذا كانت الجماعات الجهادية والسلفية تمثل الطرف الأول فالمركزية الغربية، ومنها العولمة الاقتصادية والثقافية القائمة على الاحتكار والاستغلال والهيمنة بما في ذلك الأصولية المسيحية، التي نشطت في الفكر الديني خلال العقود الأخيرة تمثل الطرف الثاني، إذ يحاول كل طرف خلق مجال ثقافي وديني للتحيزات الخاصة به،فيمارس العنف باسم الحضارات التي ينتمي إليها ، لكن تلك الحاضنات الكبرى لا علاقة لها بصراعاتهم». وعليه، تبطل بعض جوانب فرضية صاموئيل هنتنغتون القائلة بصراع الحضارات، فالأصح هو أن جماعات راديكالية أصولية تؤجج العنف داخل

ص: 71

هذه الحضارة أو تلك ضد مجموعة مضادة. إذن، فنحن بإزاء صدام للأصوليات وليس للحضارات، وبعبارة أخرى هنالك نزاع بين قوى تريد فرض هوية كونية، وقوى إقليمية تدعي الحفاظ على الهويات الخاصة(1).

على صعيد آخر، وفي سياق أوسع، ففي مقابل الحركات التي تبنت نزعات الغلو الديني والتطرف القومي، وأنتجت أيدلوجيات توافرت فيها درجة عالية من الكراهية للآخر، فإن حركات أخرى أفرزت نقدًا تحليليا للتجربة الاستعمارية، وتمكنت من تفكيك ركائز الخطاب الاستعماري، فانبثقت «دراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية»، التي هدفت إلى إعادة النظر بالتركة الاستعمارية الثقافية في العالم، خارج المجال الغربي. وتشطت تلك الدراسات إلى فروع عدة؛ فشملت سائر المظاهر الثقافية من فنون وآداب وكتابة تاريخية. وظهرت على أنها رد فعل على تحيزات الخطاب الاستعماري، الذي اختزل الشعوب والثقافات غير الغربية إلى أنماط مضادة للتحديث، وعائقة للتطور، وقدم لها وصفًا يوافق مقولاته(2).

وسرعان ما تفرعت عن تلك الدراسات دراسات أخرى، سعت إلى إعادة الاعتبار للرؤى الأصلية، وفحص الظواهر الثقافية والدينية والعرقية، بعيدًا عن الإكراهات النظرية التي مارسها الخطاب الاستعماري. ثم ما لبثت دراسات ما بعد الكولونيالية أن تعمقت في سائر أنحاء العالم فشملت المرأة والجنوسة والأعراق، والتاريخ، والهوية، والمقاومة، والأقليات ومفهوم الأمة، وأساليب الهيمنة الثقافية، وأفرغت المنهجيات التقليدية من محتواها وأجهزت عليها، إذ ضخت أفكارًا جديدة، وتصورات مبتكرة تحليلها للظواهر الاجتماعية والثقافية. ولعل أبرز ما تمخضت عنه ظهور جماعات ناقدة، اندرجت في ما يصطلح عليه ب_«دراسات التابع»، التي أصبحت عابرة للقارات، وهدفت إلى نقد الخطاب الاستعماري وفرضياته واقتراح المناهج البديلة لدراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي وتفكيك المقولات الغربية في الآداب، والثقافات، والمناهج، وسحب الثقة العلمية والثقافية منها، عبر اقتراحات أخرى مغايرة

ص: 72


1- عبد الله إبراهيم صدام أصوليات لا صدام حضارات، مرجع سبق ذكره
2- عبد الله إبراهيم التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مرجع سبق ذكره

أكثر كفاءة، تعالج بها شؤون المجتمعات خارج المركز الغربي(1).

لقد استهدفت قراءة خطاب ما بعد الحداثة من منظور ما بعد كولونيالي، التوصل للغة نقدية تعمل على التخلص من الرواسب المتبقية من الماضي الإمبريالي، وقادرة على تعميق الوعي بالكولونيالية الجديدة المستترة في خطاب ما بعد الحداثة. فقد تناول نقاد ما بعد الكولونيالية - التي اعتبر الناقد الأسترالي، سايمون ديورنج، أنها ممثلة لحالة الشعوب والأمم والجماعات التي عانت من الاستعمار، وتريد تأكيد هويتها بعيدًا عن المفاهيم الأوروبية، التي تزعم العالمية، ولا تتبناها في واقع الأمر - قضية الاختلاف من منظور مغاير فالتعرف على الاختلاف بالنسبة لهم فيه سعي للتواصل عبر الثقافات، ويتركز سعيهم في قراءة التراث الثقافي من منظور يحترم الخصوصية، كما يرصد تفاعل تلك الخصوصية بالمؤثرات العالمية، فهو مسعى سياسي مغاير لموقف نقاد ما بعد الحداثة، في تناولهم للاختلاف تناولاً استطيقيا، أي ذريعة للتأمل السلبي، بدلاً من التفكير الإيجابي في كيفية تشييد معابر بين الثقافات(2).

إذن، فإن مشروع الكونية الثقافية، في شكله وصياغاته وإدارة الغرب له ،المستهدف الهيمنة والتوظيف من أجل مصالحه، قوبل بمقاومة متباينة الاتجاهات، فما بين تمركز مضاد، ومشروع يستبدل هيمنة بأخرى، ويقابل التعصب والعنصرية والاستعلاء بمثلها، بنزعة ماضوية ،تسلب أيّ ثقافة محلية القدرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة اليوم، لافتقادها أسلحة الخصم والرؤية الموضوعية، وإدراك أبعاد وطبيعة الصراع واتجاه آخر يسعى إلى تنقيح تاريخ العالم من المركزية بإعادة إنتاج الهويات التي انتزعت عنها ثقافاتها بفعل المستعمر، ويقدم نقدًا للمشروع الثقافي الغربي في مجمله واتجاه يرفض النزعة الأصولية، والتقوقع حول الذات، ونبذ الحداثة، ويدعو إلى القطيعة مع التراث مع نقد الحداثة، وعدم إغفال الذات، وعناصر تأزمها، بالركون إلى الخصوصية ، والانغلاق عليها.

ص: 73


1- نفسه
2- ماري تريز عبد المسيح، مرجع سبق ذكره، ص 12 - 13، 27 ، 37

بين هذا وذاك يستمر الجدل، وتتعقد خلافات اتجاهاته، ما أفرز تمردا على سياقات وأطر المواجهة التقليدية، تمثل في ضرورة الخروج من ثنائيات تراث /حداثة، خصوصية كونية المستعمر المستعمر، بخلق مساحة جديدة تكسر انغلاق دائرة المواجهات المتأزمة ، وتتأسس على المساءلة، حتى تكون مقاومة الهيمنة أكثر فاعلية.

الخروج من الثنائيات، وخلق هذه المساحة ضروري، ليس من أجل مواجهة الآخر القمعي فحسب، بل من أجل أن تتكشف فيه المواجهات الداخلية، أيضًا، المتمثلة في الانقسامات داخل الأمة الواحدة مساحة تقوم على تنمية العناصر المشتركة بين الثقافات،في المجالين المعرفي والاجتماعي، وتحقيق التواصل النقدي مع الذات والآخر، وفق جدل بين العقل والتاريخ على قاعدة الإبداع، حتى يمكن للهوية الثقافية أن تكون جزءًا من بناء ذات مستقلة، تستطيع مواجهة معارك الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وتقويض أطروحة كونية الثقافة الغربية، والتمركز العرقي والطبقي وتوجه المعرفة الأحادي لنظام العولمة.

ص: 74

المركز والضواحي بصدد المطلق الحضاري في التاريخ العلماني الغربي

رضا داوري الأردكاني

رضا داوري الأردكاني(1)

الهدف من اختيار عنوان المركز والضواحي الإشارة إلى أوضاع العالم المعاصر التاريخية والثقافية. هل العالم المعاصر عالم واحدٌ مركزه ثابت والمناطق الضواحي تابعة لهذا المركز ، مستفيدةٌ منه؟ إنّ عبارة المركز والضواحي أو المركز والاطراف مناسبة لمثل هذا الوضع، لأننا إن حسبنا مثلاً العالم المعاصر مجموعةً من الثقافاتِ المختلفة والمتباينة، تفقد عبارة المركز والضواحي معناها. من الواضح أنَّنا نقصد حين نقول المركز الغرب والتاريخ الغربي. هل تقع آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية في ضواحي الغرب؟ المركز والضواحي مفهومان متلازمان لا ينفصلان عن بعضهما. إذا وجدت الضواحي يجب أن يكون المركز موجودًا، وإذا كان هنالك مركز يجب أن يكون هنالك ضواح. انطلاقا من هذا الفهم فإنّ العالم الحالي هو الغرب طراً، ولا شيء خارج الغرب، والإختلاف والتفاوت على درجات من الشدّة والضُّعف. إنْ استخدمنا بدلاً من عبارة المركز والضواحي عبارة المتن والحاشية تتراخى العلاقة إلى حد ما بين أجزاء العالم، على الرغم من الإقرار بوحدة العالم، وذلك لأنّ المتن والحاشية غير متلازمين، أو على الأقل يمكن أن يكون المتن من غير حواش. إنما في كل الأحوال الحاشيةُ هي حاشية المتن، وسُمّيت كذلك نسبةً إليه وتبعا له. إِنْ نظرنا إلى العالم المعاصر نر نوعًا من التماثل والتشابه في أساليب العيش في جميع أنحاء الارض، فنظام الحياة وأنماط السلوك السائدة منذ أربعة قرون في أوروبا الغربية

ص: 75


1- مفكّر وفيلسوف من إيران- ترجمة د. دلال عباس

وأميركا الشمالية باتت معتمدةً إلى حد ما في جميع انحاء الدنيا منهجًا للحياة. أيمكننا انطلاقًا من هذه الملاحظة أن نعدّ أوروبا الغربيّة وأميركا الشمالية المركز أو المتن وبقية العالم الضواحي أو الحواشي ؟ إنّ لفظة الحاشية تعني أحيانًا ما هو خارج المتن أو الفرعي. إذًا إِنْ حسبنا المتن أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، ووضعنا بقية العالم في حاشيته، التفسير الممكن هو أن جوهر العالم هو المتن نفسه وبقية العالم شروح وإحالات وشواهد زائدةٌ على المتن. لكنّ العالَمَ غير المتطوّر إنما هو ظلُّ العالَمِ المتطوّر أكثر من كونه توضيحا أو تفسيراً لمتن هذا العالم، بعبارة أخرى إنّ العالم غير المتطوّر قد صُنعَ من فضلة عجنة العالم المتطوّر ، وهذان العالمان متشابهان، علما أنَّ الشية بينهما شَبَهُ ظاهري وعَرَضى.

لقد عُدَّتِ الحضارة الغربية في المخطط الأساسي للتاريخ الغربي وفي الإيديولوجيات الحديثة، وحتى في معظم فلسفات التاريخ، وفي بعض النظريات العلميّة ( نظرية تطوّر الأجناس، ونظريات التطوّر التاريخي والإجتماعي )الحضارة الأخيرة والحضارة المطلقة، ويجب أن تعم العالم كلَّه، وأنْ يدخل فيها البشر جميعًا. من رؤى القرن الثامن عشر عولمة التاريخ الغربي، وقد صدقت هذه الرؤيا إلى حدّ تجاهل مخاوف بعض بناة الحداثة أمثال «ديدرو »و «دوساد». وفي فلسفة القرن التاسع عشر وآدابه المزيد من الآثار التي تعبر بوضوح عن الشك والتردُّد، لكن هذه الآثار غير مرئية بوضوح، ويبدو أنَّها لم تترك أثراً في عجلة التاريخ الاوروبي، فآذان القرن التاسع عشر لم تسمع صوت نيتشه، ولم يدرك أحد إلا بعد وقت طويل أَنَّ نظرية اللاوعي التي طرحها فرويد لم تكن محضَ نظرية من نظريات علم النفس أو الطب النفسي، وإنما الإعلان عن أزمة في وجود الإنسان الذي كان قد أخذ على عاتقه مسؤولية صناعة التاريخ الحديث. لقد طرح فرويد تساؤلات حول الوجود الفاعل القائم بذاته للعلم والعمل، لكنّ هذه التساؤلات والابحاث الأهم والأكثر صراحةً التي أنجزت في النصف الأوّل من القرن العشرين، على الرغم من أنّها شککت نوعًا ما في مطلقيَّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، لم ترد فيها أي إشارة إلى منافسة الحضارات الأخرى( الماضية) للحضارة الغربية، حتى أنّ توينبي وشبينغلر

ص: 76

أيضًا اللذان أعلنا عن إقتراب أجل التاريخ الغربي وموته، لم يتكلما على حضارة أو حضارات في مواجهة الحضارة الغربية، لم يكن بإمكانهما بحث موضوع المركز والأطراف و المتن ،والحاشية، ففي نظرهما لا وجود إلا لحضارة واحدة حيّة ناشطة، والحضارات الاخرى ميتةٌ خامدة ساكنة. انطلاقا من فرضية السكون والموت هذه يمكننا الكلام على مُقترح المركز والأطراف بإمكان العالم الساكن الخامد أن يكون حاشيةً أو أطرافًا أو ضواحي للعالم الحيّ الناشط، وأن يستمد منه القوة والحياة، لكن حين نولي تواريخ أخرى غير التاريخ الغربي أهميَّةً، فإنَّ هذه التواريخ ليست حواشي المتنِ الغربي أو ضواحي المركز الغربي، بل هي تواريخ وحضارات مستقلة. متی نقولُ وكيف نقول أنَّ هنالك تاريخاً مستقلاً وحضارةً تستمدُّ منه الزخمَ والحيويّة وهل يوجد اليوم كما يقول بعضُ الكتاب السياسيين ما يُسمّى التاريخ الصيني أو التاريخ الياباني أو الروسي أو اللاتيني أو غيرها ؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب ذكر معيار لوجود تاريخي ما ولحياة ثقافة ما. لا ريب في أنَّ الثقافةَ الإسلامية ثقافةٌ عظيمة، وأنَّ ماضي الصين واليابان ماض بهي. لكن كم طوى تاريخ الصين واليابان من الحقب ؟ نقول بصراحة أكبر : ما هو الهدف الذي تريد أن تبلغه الصين واليابان؟ وإلى أين تريدان الوصول ؟ وما هو المآل الذي تبغيانه ؟ أتريدان أن تصبحا الصين واليابان؟ وهل الصين الآن غير صينيّة واليابان غير يابانية ؟ إنَّهما تريدان منافسة أميركا الشمالية وأوروبا الغربية في تطوير العلم والتقانة ومضاعفة القوَّة. كما أن البلدان غير المتطوّرة تسعى بدورها إلى التطوّر متخذةً انموذجًا لها وأسوةً البلدان الصناعيّة المتطوّرة أو السائرة على طريق التطوّر.

لغز التسمية

يمكننا أن نستنتج الآن أنَّ العالم كله موحدُ الهدف، وأنَّ العالم عالم واحد. الخلاف قائم حول تسمية هذا التاريخ ، لماذا نسميه التاريخ الغربي ( إنّ تاريخ أي أمةٍ يحدّده المستقبلُ الذي تضعه هذه الأمة نصب عينيها . وليكون هنالك مستقبل من الضروري تذكر الماضي. لكنَّ ماضي أي شعب من الشعوب سواءٌ تُذكَّرَ أو لم يُتَذَكَّر، لا يدلُّ

ص: 77

على طريق المستقبل ما لم يتجلّ في طريقة حياة الناس، وبهذا المعنى هو ليس تاريخ الأمّة ) . إنْ لم نعد تاريخ التطوّر والتحديث هو التاريخ الغربي، ما هو الاسم الذي نطلقه عليه ؟ البشر في أي تاريخ يولون لأنفسهم شأنا ومكانةً، ولديهم ضوابط ومعايير ومثل عليا ونماذج يحتذونها، ويسعون إلى جعل أقوالهم وأفعالهم مطابقةً لتلك المعايير، ويحاولون الاقتراب من مثلهم العليا . لم يرد مطلقًا في أيّ كتاب تاريخي أنَّ الصينيين في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد أو الإيرانيين في ذلك الزمان، كان لديهم برنامج تنمية اقتصادية وتقنيّة، وأنهم كانوا يسخرون إمكاناتهم وقدراتهم من أجل تنفيذ مثل هذا البرنامج. لقد ذكرتُ الصين مثلاً لأنّها بلد شيوعي، وحافظت على معظم تقاليدها الصينية، وقلّما قلّدت الغرب السياسي في المظاهر. مع هذا فإنّ ما يسير السياسة الصينية أو الثقافة الصينية اليوم هو برنامج التنمية. يقولون أن التنمية لا علاقة لهابالغرب ، لكنَّ العالم وصل إلى حيثُ يتوجب عليه أن يطوي طريق التنمية. من الممكن قبول هذه الجملة ، لكن هنالك نقطتان لا يجب تجاهلهما، وهما: أولاً: أنْ لا وجودَ في العالم لتواريخ متعدّدة، بل تاريخ واحد، هو التطوّر التقني، له صورة واحدة في جميع أنحاء العالم على الرَّغم من الفوارق التاريخية والثقافية والتقاليد القومية والوطنية وهذه الصورة الواحدة نوعا ما، تلغي الفوارق الظاهرية تدريجيًا أو تجعلها باهتة. أما النقطة الثانية (الأساسيّة أكثر) فهي: أنَّ تاريخ التنمية بدأ بطرح مبادئ وأفكار خاصة في أوروبا الغربية، على أساسها استقامت السياسة والاقتصاد وحتی الآداب. لم تكن التنمية جموحًا أو رغبةً أو فكرةً سطحية راودت شخصا أو أشخاصًا والآخرون يرونها ويقلدونها. لقد أصبحت فكرة التنمية ممكنةً حين ظهر إنسان جديد، رأى إلى نفسه موجوداً مختلفًا عن البشر السابقين، وأتى بفكر جديد، وبطرح جديد للحياة. لقد وجد هذا التفكيرُ المُنْشِئُ العلم والسياسة الجديدين في أوروبا في عصر النهضة، وهذا التطوّر رافقه انتقال مركز السلطة السياسية إلى أوروبا الغربية، التي أصبحتِ المركز والعالم كله الاطراف والضواحي .

مقترح المركز والاطراف بناءً على ما ذكرناه معناه أنَّ تاريخ العالم المعاصر تاريخ الذين تحدثوا أيضًا عن تاريخ عالمي، وأسسوا علم التاريخ (حتما التاريخ لم

ص: 78

ينوجد حينَ دُون التاريخ في الغرب، والأولى أنه لم ينوجد في الغرب الجديد)، كانوا يقصدون بعبارة «التاريخ العالمي »التاريخ الغربي، أي التاريخ الذي قرّر فيه الإنسان أن يتحكّم بكلِّ شيء وأن يُسخّر لنفسه كلَّ شيء. إن الكلام على ولادة بشر جدد في أوروبا في القرون الأربعة الأخيرة، تختلف نظرتهم إلى العالم وإلى ما فيه عن نظرة البشر السابقين، والكلام على أنّ العلم والتقانة والسياسة والنظام والعقل تختلف كلّها عما كانت عليه في العصور السابقة، ليس قضيّة معقدة. لكن هذه القضية البسيطة جدًّا لم يدركها بعض الفضلاء الذين يتعاطون الفكر الفلسفي. يقولون مثلاً أنّ تقبّل الغرب لا يحلّ أيّ معضلة. لكنْ إنْ افترضنا أنَّ طرح قضية ماهية الغرب لا يحلّ أي مشكلة، فإنَّ تجاهل طرح هذه القضيّة يحرمنا إمكانية طرح القضايا، أو الأصح أن نقول أن قضيّة عصرنا المهمة والأساسية هي قضية الغرب. يُقال أنّ في الغرب الجغرافي أمورًا جيّدة وأمورًا سيئة. في الغرب ولدت الديمقراطية وكذلك سيطرت الفاشية والنازية لمدّة وإن قصيرة. في الغرب علم وصلاح، وفيه أيضًا ظلم وفساد. أي سياسة هي السياسة الغربية ؟ الديمقراطية أم الاشتراكية؟ ولماذا يجب أن يُسمّى العلم والتقانة غربيين؟ يبدو الاعتراض مسوَّغاً على الأقل ظاهرياً بالنسبة إلى الذهن غير الفلسفي، والبعيد من الفلسفة. ففي الغرب أي في أوروبا وأميركا الشمالية مجموعة من الأفكار والأقوال والمعتقدات ومناهج العلم والعمل، وأنماط السلوك، مختلفة ومتناقضة. هل يجب أن تُعد هذه المجموعة الغربَ، أَمْ أَنَّ البعض منها يُذيّلُ عنوان الغرب؟ هذا السؤال والأسئلة المشابهة بشكل عام ناجمة عن نظرة وجودية. الوجودية وإن كانت صحيحة وصائبةً في موضعها (في العلم مثلاً)، تصل في الفلسفة إلى الإضطراب الفكري الغرب ليس مجموعةً واحدة، ولا يجب أيضاً أنْ يُعدَّ شيئاً من ضمن الأشياء الموجودة. يعترضون : إن كان من غير الممكن إطلاق اسم الغرب على أي شيء من الأشياء الموجودة في الغرب الجغرافي، وحتى على مجموع تلک الأشياء، فالغرب إذاً عدم .مبدئيًا يجب أن يكون هذا الاستدلال عائدا إلى أولئك الذين يعتقدون أنَّ الوجود عدم محض، لأنَّ الوجود ليس له أي مصداق في الخارج، وليس اسماً لأي شيء. الإنسان في رأيهم فرد غير مكلف، أقواله وأفعاله لايقيدها

ص: 79

أي قيد أو شرط من خارج ،فرديّته، وفي أي مكان وأيّ فرصة الأعمال كلّها بالنسبة إليه متماثلة، وبإمكانه أن يفعل ما يريد، وإنْ تكلَّم أحدٌ على الإمكانات والظروف، فهو في رأيهم معاد للحريّة وجبري المعتقد، لا سيّما إن سمعوا أنّ للناس دائماً عالماً يتحدّد فيه إلى حد ما الاتجاه العام لأعمالهم وتصرّفاتهم وأقوالهم يعتمدون هذا القول مستندًا ليقولوا :ألم نقل إنّهم جبريون، ويعدّون ذلك العالم هو المحدّد لسلوك الأشخاص وأقوالهم؟ والحجّة التي يوردونها هي : إن كان العالم هو الذي يوجه أقوال الناس وسلوكهم، وهناك عالم باسم العالم الغربي، لماذا لا يوجه هذا العالم أفعال الغربيين وأقوالهم وهم أحرار في التعبير عن الآراء المختلفة، ولديهم مثل والكثير من الإبداعات، أما الناس الذين لا رأي لهم والحياة التي يحيونها تقليدية، فما هو عالمهم وأين؟ وأولئك الذين تحكمهم أنظمة فاسدة ومستبدة، وأنظمة إدارية وثقافيةوتعليمية مضطربة ومتهالكة وعاجزة وغير منتجة في أي عالم أو عوالم يعيشون؟

لقد رسم العقل المنسجم مع كوجيتو ديكارت والعقلانية التي استوت على عودها بعد دیکارت في القرن التاسع عشر الحدود الجغرافية لرؤية الغرب الحداثوي وعمله. لو لم يكن هذا الفضاء موجودًا لما توسّع نطاق العلم والتقانة الجديدين. هذا الفضاء محدود أيضًا، وهو كذلك شرط الإمكان بالنسبة إلى العلم والتقانة، بحيث أنَّ المكانَ الخالي من هذا الفضاء لا نموّ فيه للعلم والتقانة ولا رسوخ. إنّ العالم الغربي هو هذه الظروف والإمكانات فإن نظرتم إلى هذه الظروف والإمكانات على أنها عدم (وهي عدم بتقدير ما )يمكنكم حينئذ حسبان الغرب والعالم الغربي عدما أيضًا. هذه الظروف والإمكانات ليست متاحة في كلّ الأمكنة بالمقدار نفسه. هل يمكن أن نفترض أن العالم الحالي عالم واحد، متاحة فيه الظروف لتحقق العلم والتقانة والسياسة الجديدة، وفي أطرافه وضواحيه الظروفُ والإمكانات غير متاحة كما يجب؟ مصدر هذه المشكلة الاعتقاد بأنّ العالم واحد لكن من أين وكيف ولماذا صار العالم واحدًا؟ قبل بداية العصر الحديث وحتى القرن التاسع عشر، قلما جرى الحديث عن عالم واحد، ولم يُنجز أي بحث عن العالم الذي تشكّلُ أوروبا أو الغرب مدارًا له.

ص: 80

إِنْ وُجد اليوم عالم واحد، أو ذكر ، فإنّه عالم قد توحّد حول محور الغرب. قبل أنْ يلتحق العالم كله بالتاريخ الغربي، ويتبنّى مبادئ التقدم والحرية، كانت هناك حضارات مختلفة ذات مبادئ ومثل عليا متفاوتة، وكان لكلِّ عالم قوله وسلوكه، وإنْ قامت بین هذه العوالم علاقة أو صلة ما، لا يتموضع أحدها في المركز والآخر(أو الآخرون) في الحاشية . فالعلاقات الثقافية التي قامت بين الصين والهند، أو بين الهند والإسلام والإسلام واليونان وأخيرا بين المعارف والعلوم الإسلامية وبين فلسفة القرون الوسطى المسيحيّة، كانت صلات بين ثقافتين متعادلتين إلى حد ما ومتوازيتين أنا في هذا البحث لن أتطرق إلى تلك العلاقات، وماذا أثمرت لكن بسهولة يمكن القول إن لم ينجم عن تلك الثقافات ثقافةُ فذة أخرى، ماذا يمكننا أن نتوقع من اختلاط الثقافة الغربية بالثقافات الأخرى اختلاطًا لم يقتصر على الدرجات والمستويات، ولم يكن حدثاً غير متوقع، قهريًا ولا إراديا، هل نتوقع تفتق يوم مشرق وتاريخ حي وناشط . كذلك فإنّ تبنّي طرح المركز والأطراف أو المركز والضواحي لا يحلّ المشكلة، لأنّ التاريخ الغربي لن يحتل المركز إلا في حال تفوّق على التواريخ والثقافات الأخرى، وهذه الثقافات بدورها لن ترضى بأن تكون أطرافا وضواحي وحواشي إلا حين تبتعد عن جوهرها الأصلي، وتتخلى عنه أو تنساه. هذا، يُقال في عصرنا كلام آخر حول هذا الموضوع، لا يمكن التغاضي ، كلامٌ، ملازم لنقد الحداثة. فهنالك حاليًا بصورة عامة مجموعتان من المفكرين تعملان على نقد الحداثة. مجموعة تنتقدها علها تنقى وتتخلّص من عيوبها فتدوم. بين هؤلاء اختلاف أيضاً، فبعضهم يكتفي بالانتقادات السطحية السياسية والبعض الآخر لا يستسيغ سيطرة وسائل الإعلام ،وسيطرة الثقافة الإعلاميّة. لكن الأكثر جديةً في تفكيرهم يقولون إن حقيقة الحداثه لم تظهر ولم تتحقق حتى الآن بالكامل. أي أن عقل القرن الثامن عشر لم يكن محض عقل آلي، وتحويل العقل إلى عقل الي انحراف. لذا يجب تدارك هذاالانحراف،والاستعداد لاستقبال عقل دقاته صدى الكلام المشترك والتفاهم. هنالك أخيراً مجموعة رابعة هي على الرغم من أنها غير يائسة من مستقبل الحداثة، لاتصدر عنها أفكار طوباوية، إنما تصف الحضارة الحديثة على نحو يوحي

ص: 81

أنها تريد أن تفسح مجالاً للتعدّدية في أحاديثنا الدينية وفي الإنجيل وفي الشعر الأوروبي الحديث، إنّ الخلاص يأتي من حيث أتى الخطر (وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال يأتي الفرج عند فناء الصبر).

نهاية الميتافيزيقا

لقد وصل علم ما بعد الطبيعة الغربي إلى نهايته، وطالت العدمية على نحو فاعل كلَّ الأمكنة وكلَّ الأشياء. في هذا العصر فقدت الحقيقةُ صفة الثبات والديمومة. في عصرنا الحقيقة حادثة من الحوادث، وفي هذا الوضع الحقيقة ليست في متناول أي شخص وأيّ سلطة. هذا الحدث جعل الحجاب الذي كان يستر الثقافات الأخرى أكثر رقّةً وشفافيةً، والهرمنطيقيا التأويلية المناسبة في الغرب لهلامية عصر ما بعد الطبيعة وطواعيته ربما أصبحت نوعًا من الذكرى في أطراف هذه الحضارة وحواشيها. إن وافقنا على هذا القول تصبح عبارة المركز والأطراف في غير مكانها أو غير مستساغة، إنما تبقى العلاقه بين المركز والأطراف مبهمة. إذا تذكرنا خطر الوقوع في فخ النفسانية (بسيكولوجيسم) يمكننا مقارنة الروح المعنوية للأوروبيين بالروح المعنوية لأهل الضواحي والأطراف، لا سيّما إن أخذنا في الحسبان تغير هذا الوضع في القرن العشرين لا سيما في عقوده الأخيرة نسبةً إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

لم تكن أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تعرف أكثر من عالمين وإنسانين العالم والإنسان اللذان يملكان تاريخا وحضارة والعالم والإنسان اللذان ينقصهما ذلك، ويجب أن يبلغاه . في ذلك الزمان لم يكن هنالك ذلك الزمان لم يكن هنالك وجود للمركز والأطراف، في ناحية كان يوجد عقل وصحوة ومعرفة، وفي الناحية الأخرى يوجد جهل وغفلة لدى الإنسان الشرقي والعالم الشرقي، اللذان كانا من متعلقات فكر الغرب وعمله. لكن في القرن العشرين، لا سيّما في اواسطه تغير الوضع إلى حد ما، عانت أوروبا من الفاشية والنازية والستالينية، والحروب المدمّرة واختبرت كذلك العدمية التي كان نيتشة ودستويوفسكي قد وصفا بها التاريخ الغربي، وما بعد الطبيعة انتهت بالمسار الروحي والمعنوي والفكري. في هذه الأثناء التي كان الغرب قد انصرف فيها عن

ص: 82

مطلقية تاريخه وحضارته كلّيًا، أو لم يعد مصرا عليها، تفتحت براعم مشاعر التعلّق بالثقافة والماضي التاريخيين في العالم القديم. مع هذين الحدثين المتوازيين تغيرت النسبةُ بين بين العالمين اللذين يسميان نامياً وغير نامٍ أو متقدمًا ومتخلفا، أي حين شاعت في كل الأمكنة عاداتُ الغرب وأسلوب الحياة الغربي، وأصبح الناس في جميع أنحاء الدنيا مستهلكين للبضائع الغربية، صار العالم في الظاهر غربيًّا كليا، وإذا كانت هنالك فوارق ففي درجات التنمية ومراتبها في هذا العالم الواحد ظاهريًا يمكن تسويغ تصوّر المركز والأطراف. مع ذلك يجب أن يكون بين المركز والضواحي نسبة ضرورية وعلاقة ذاتيّة. لكن نحن حتى وإن علمنا أنّ المركز هو أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وبقية مناطق العالم هي الأطراف والضواحي، لا نعلم المركز مركز ماذا، ولا نعلم بماذا تستفيد الأطراف منه إن كان المركز مركزاً سياسيًا أو اقتصاديًا فالفائدة الأكبر التي تصل إلى الضواحي منه هي السيطرة والظلم والسلب والنهب . أمّا إن كان المركز مركزا علميا وفكريا فيجب التأمل في كيفية انتشار هذه العلوم والأفكار والآداب من المركز إلى الأطراف. هل بالإمكان القول أنّ علاقة المركز بالأطراف ظلم واعتداء في السياسة والاقتصاد، وتربية وهدايةٌ في العلم والفكر؟ هذا الوضع المزدوج ظاهريًا دفع البعض إلى إنكار وحدة الغرب، رائيًا إليها مجموعة من الأمور المختلفة والمتباينة من الطبيعي أن يرفض هؤلاء أيضاً مُقترح المركز والأطراف لأنّ عيونهم ترى بمنظار التعدّديّة. لكنّ انتقال العلم والتفكير والأدب من المركز إلى الأطراف لا يتنافى وسياسة الغرب الثقافية والعلميّة. أوّلاً لأنّ التفكير غير قابل للتعليم والانتقال، فالعلم على الرغم من أنّه يُتعلّم يبقى في حدودِ المواضيع التي تدرس ما لم يستند إلى أسس التفكير . ثانيا : يهاجر الدارسون أصحاب المواهب من بلدان الأطراف إلى المركز، وهنالك يبدأون البحث والتحقيق. أما في الفلسفة والأدب فالوضع مختلف نوعا ما، إذ قلّما تُسمع حكاية أو شكوى عن هجرة الكتاب والفلاسفة من الحواشي إلى المركز. لا يعني ذلك أنّ الشعراء والكتاب والفلاسفة الآسيويين والأفارقة واللاتين لا يهاجرون إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. نحن نعرف اليوم كتابًا وفلاسفة أسماؤهم آسيوية وأفريقية وإسلامية، ويمكن العثور على معالم من الثقافة

ص: 83

واللغة والأفكار القديمة في آثارهم. لا يجب أن نقارن هؤلاء في انتسابهم إلى الغرب بالعلماء والباحثين، إذ ليس من الضروري أن يأنس العلماء أنساً تاما باللغة والثقافة الغربيتين، لكنَّ الكتاب والفلاسفة الذين هاجروا إلى الغرب وأنتجوا هنالك آثاراً، واشتهرت أسماؤهم، تربيتهم غربيّة، وحتى إذا أوردوا مواد فكرية وشعرية من لغةالآباء والأجداد في آثارهم، فأسوتهم الفكرية والفنية المفكرون والمبدعون الغربيون. هل يجب عدُّ هذا الأمر دليل ارتباط أوثق بين المركز والأطراف؟ نعم أو لا؟ إذا كان ذلك الكاتب القادم من جزر المارتينيك ويكتب القصة في فرنسا باللغة الفرنسية، أو ذلك المفكر الفلسطيني الأصل، الذي يعيش في أميركا يفكران بلغتهما الأم وكلَّ منهما له رأيه في ما يتعلق بقضايا قومه، والأهم من كلِّ ذلك، إذا كان إلى حد ما المظهر الأخلاقي والفكري لأمته، يمكن القول أنّ العلاقة بين المركز والأطراف باتت محكمةً وراسخة. إنما لا يمكن القول بمجرد أن يصل إيراني أو مصري في أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية إلى مقام علمي وثقافي رفيع، أنّ ذلك دليل على العلاقة الوثيقة التي تربط المركز بالأطراف. من بين المتنوّرين والكتاب والفلاسفة وعلماء الإجتماع الكبار المعاصرين ذوي الأصول الآسيوية والأفريقية كثيرون حملوا جنسية البلد المضيف، وأكثر من ذلك ارتبطوا بذلك المكان روحيّاً وخلقيًا . أما القول أنّهم يوردون في آثارهم مواضيع عن بلادهم وأمتهم فذلك لا أهمية له بحد ذاته، إنما يجب النظر بأي عين ومن أي زاوية يعالجون تلك المسائل. منذ حوالى المائة عام وعديد من العلماء والباحثين في التاريخ والأدب في البلدان الآسيوية والأفريقية، يتبعون مناهج البحث الاستشراقية. كان اتِّباع هذا المنهج دليلاً على العلاقة والنسبة الخاصة بين العالم الغربي والعالم القديم غير المتطوّر والمستعمَرَ مهما كانت هذه النسبة، لم تكن نسبة بين المركز والأطراف، لأنّ الأطراف ليس لها حيثية الأطراف إلا إن سميناها حواشي وأطرافًا قياسًا على أحياء الصفيح العشوائية في المدن الكبرى غير المنظمة في البلدان غير المتطوّرة.

ص: 84

مشكلة المثقف المستغرب

الفرضية في مُقترح المركز والأطراف هي (أو يجب أن تكون )أنّ هنالك ذهابًا وإيابًا من المركز إلى الأطراف ومن الأطراف إلى المركز، وأن تستوعب الأطراف روحية نقد الغرب، وأن تنظر من موضع عالمي لا يمكن مبدئيًا إلا أن يكون غربيًّا إلى الغرب وإلى جميع الحضارات والثقافات، وتكون حصيلة هذه النظرة المهمة الصعبة المتمثلة بأن يتبادل مفكرو الأطراف الأفكار والهموم مع المفكرين وأصحاب الرأي الغربيين، وكذلك إدراك قضايا قومهم ووطنهم . لكن كيف يكون هذا الأمر ممكنا؟ وهل اتباع فيلسوف غربي والنظر من خلال نظارته إلى قضايا بلدنا مختلف عن اتباع نظرة المستشرق ؟ الاختلاف هو في نوع العلاقة وكيفيتها. إذا كان المثقف في هذا العصر يكرّر كلام الفيلسوف الغربي تقليدًا، قطعا هو أدنى قدراً ومكانةً من متتبع التاريخ والأدب الذي كان منذ ثلاثين سنة يتبع في أبحاثه منهج المستشرقين. إنما يوجد اليوم في العالم غير المتطوّر تنويريون يعزفون هم والفلاسفة والمفكرون الغربيون اللحن عينه، ويقولون الكلام نفسه. والفلسفة المعاصرة اقتربت هي الأخرى إلى حد ما من التذكرة التاريخية، وتحوّلت إلى حيّز للتأمل في التاريخ الغربي. النقطة الأخرى هي مدى الحدّة الذي بلغته مشكلة التخلّف وعدم النمو، وإشتداد تيار عولمة الاقتصاد وتجارب الحياة وجميع شؤونها وأساليبها، والوجود الإنساني. في هذا الوضع لم يعد هنالك معنى لفصل هذا المكان عن ذاك المكان، وانتساب أمّة إلى عصر ما قبل الحداثة وأخرى إلى ما بعد الحداثة منذ خمسين عامًا كان المتنوّر فكرياً في مجتمعنا إذا قال أو كتب شيئًا من الفلسفة الغربية، يبقى ما يقوله ويكتبه في حدود المحاضرة الدراسية. أما اليوم فقضايا الفلسفة المعاصرة تنعكس أيضًا انعكاسًا واسعًا في الصحف. ربما لم يكن ما يُكتب حول التقليد والحداثة وما بعد الحداثة، وغير ذلك من القضايا الفلسفيّة معمّقا بمعظمه، لكن المهم أن قضيّة المستقبل قد طرحت، وكلّ الأقوام والشعوب في العالم مدعوة للتأمل والتفكر في أوضاعها. أنا لا أقول أنّ الآذان كلَّها صاغية لتسمع هذه الدعوة، حتى أن كثيرين من الذين يقولون أنّهم قد سمعوا الدّعوة ولبوا النداء، لا يعرفون من أين جاء النداء، ومن أي اتجاه،

ص: 85

وإلامَ يدعوهم كان الباحث الذي يتبع المنهج الإستشراقي، يعتقد أنّ الجميع يجب أنْ يسيروا في هذا الطريق. بعبارة أخرى، كان يؤمن أنّه يتبع المنهج العلمي ولم يكن يعد هذا المنهج تابعًا لأي ثقافة. حاليا تغير الوضع لم يعد المنهج البحثي للمستشرق منهجًا علميًا خالصًا. فقد تنبه أهل الرأي في جميع أنحاء العالم قليلاً أو كثيراً إلى أوضاعهم التاريخيّة، وأخضعت أصول التاريخ الغربي ومبادؤه وقيمه التي كان يُعتقد أنّها مطلقة للتساؤل . لم يعد أفقُ التاريخ الغربي واضحًا، فقد حُجب تدريجيا ويزداد قتامةً. مع ذلك تطوّرت الثقافة الغربية بسرعة هائلة، وعيون كلّ أهل الأرض وآذانهم تتابع هذه الثقافة السريعة التطوّر والانتشار. في هذا الوضع بات التحديث أمرًا إلزاميا، ولا يمكن غض النظر عنه وتجاهله. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الطرق معبدة وسالكة للحاق بركب الحداثة والتحديث. المشكلة هی أنّ البشر على الأقلّ في الظروف الراهنة لا سبيل أمامهم سوى سبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، وحين يَلجُونَهُ يجدون أنه غير معبد وغير سالك، وتعوزُهم الإمكانات الكافية لإزالة العقبات وتعبيد الطريق. هذه المسألة السهلة ظاهريًا تُفهم في حال انصبّ التفكير على وضع الغرب والعالم المتخلّف والنسبة بينهما . حاليًّا هنالك فريقان في البلدان غير المتطوّرة يتصدون للكتابة فريق معارض للغرب سياسيًا، وينظر تاليا إلى الثقافة والحضارة الغربيتين نظرةً سياسية، ويعلن معارضته ،لها ، ولا شأن له في ما يخص العلم والتقانة الجديدين من أين أتيا ، وكيف حصلَ الغرب هذه القوّة الحالية. لكن يُفهم من فحوى كلامهم أنّ الغرب يجسّد الكذب والخداع والتآمر ، وقد سخّر العالم بهذه الوسائل. إفراط هذا الفريق استوجب تفريط الفريق الآخر ، الفريق المفرط آذاه وأغضبه أن يرى بشرًا يقرنون العلم والحرية والرفاهية بالكذب والغش والخداع ، ويقولون إنها من معطيات الشيطان فتأهب للدفاع عن القيم الغربيّة، واصفًا أحيانًا الوضعَ القائم في الغرب بأنّه وضع مثالي أو قريب من المثال، ويمتدح العلم والحرية والعدالة، والبعض من هذا الفريق يتخيّل أنَّ هذا الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية، وأن العيوب والنواقص ستزول. وفي الواقع، يرى أنّ ليبرالية الديمقراطية الغربية هي الوضع الدائم للتاريخ. هذا الفريق ينظر أيضًا بمنظار سياسي إلى العالم وإلى أحواله، وإلى الثقافة والفكر،

ص: 86

ولكنْ أيَّا كان الأمر فإنّ هذا الفريق أكثر نجاحًا من الفريق الآخر في عمله، وكلامه أكثر قبولاً . فمن يُنكر حرية البشر وحقوقهم ولا يُقم وزنًا لرفاهية الناس وراحتهم، من الطبيعي أن لا يلقى كلامه آذانا صاغية. إنّ أحد المبادئ في السياسة وفي مخاطبة الناس بثّ الأمل في نفوس المخاطبين. ليس المقصود أنّ السياسيين يخادعون الناس، أو يجب أن يُخادعوا، إنما هم أنفسهم يجب أن يكون لديهم القليل أو الكثير من الأمل بالمستقبل، وأن يضعوا أمام أعين الناس طرحاً واضحاً نسبياً عن المستقبل القريب. يتبين أنّ هذا الفريق من السياسيين يلقى قبولاً أكبر لدى الناس. تُرى مَنْ مِنَ الفريقين على حق في هذا النزاع؟ ظاهريًا هذا السؤال لا معنى له ولا مسوّغ والبعض ربما بمجرد أن يسمعه أو يقرأه سيصرخ قائلاً أنْ لا إنسانَ سليم الفطرة يقول إنَّ الاستبداد أفضلُ من الديمقراطيَّة، والمرضَ أفضلُ من الصحة، والفقر أفضل من الغنى واختلال حبل الأمن أفضل من الأمن والأمان. إذا من أين أتى هذا البحث وما هو مسوّغه؟ فلو أن هنالك طرحًا عن عالم غير العالم الغربي أمام أعيننا، ربما انتفى هذا النزاع، ولم نكن مجبرين على المقابلة بين الحرية والاستبداد. لكن في العالم الراهن حيث انتشرت القيم الغربية قليلاً أو كثيراً في كلِّ مكان، ويتسع نطاق انتشارها بواسطة الحروب والقهر وأفقُ المستقبل كالح ومحجوب، لا يمكن تجاوز هذه المتضادات، وطالما أنّها موجودة فإنّ نفي أحدها إثبات لضدّه. لكن هل من الممكن برفض الديمقراطية الخروج من التاريخ الغربي؟ بعض المفكرين رأى أن تاريخ الحداثة يمكن أن يصل إلى نهايته كالتواريخ الماضية (التاريخ اليوناني مثلاً وتاريخ القرون الوسطى)، وأن يبدأ عصر جديد، وعلى هذا الأساس ستنوجد قيم وقواعد ومبادئ وعلاقات غير تلك الموجودة في العالم الراهن، وستكون هي السائدة والديمقراطية التي يعود نسبها إلى نظام الحداثة، ستكون أفضل صور الحكم في النظام الجديد لإثبات هذا القول، لدى أنصار الديمقراطية أدلتهم، وبإمكانهم أن يبينوا أن هنالك حكومات حتى اليوم، قد داست مبادئ الديمقراطية بأقدامها، وحتى إن كان ذلك باسم العدالة، فقد ضاعفت الظلم في العالم. لكن هل ستظل عجلة الزمان تدور على هذا المنوال؟ وهل سيبقى نظام الحداثة هو النظام الأبدي للحياة

ص: 87

البشريّة ؟ مهما كان الجواب عن هذا السؤال فإن الذين تربّوا على مبادئ الحداثة، وتفكيرهم محصور داخل حدودها من الصعب جداً أن يتخلّوا عن هذه المبادئ ويتطلعوا إلى فضاء آخر. لهذا السبب نرى أشخاصاً ربما بحسن نية ينسبون كلّ من لديه تساؤلات ومآخذ حول مبادئ النظام السياسي الغربي إلى الفاشية والنازية والستالينية. ليس من المستبعد كما يبدو، في إطار النظام الفكري والثقافي والتقني للعالم المعاصر، أن يُتهم من يفكر بمبادئ العلم بمعاداة العلم، وأن يُصَنَّفَ من يتجاوز ظاهر الديمقراطية إلى باطنها وحقيقتها في خانة أعداء الحرية، ولا عجب أنّ هذه العقلية شائعة في العالم غير المتطوّر. أشرنا من قبل إلى أنّ الفريق الأول يمكن أن يكون شديد الإعجاب والتعلّق بأحدث وسائل التقانة، مع ذلك لا ينتقد الغرب نقدًا بناءً، بل يركّز أكثر على عيوب الغرب وعلى الحداثة. أما كتاب الفريق الثاني فإنّهم يستسيغون صورة الحياة الغربية ونظامها السياسي ،ويرونها أحياناً مثالاً يُحتذى ، وإن عارضوا أحياناً بالعمل السياسي القوى الغربية، يسمون البحث في ماهية الديمقراطية والليبرالية نقيضا للحريّة وموالاة للاستبداد والفاشية، ويتحدّث أشخاص من الفريق الأوّل أحيانًا عن الحرية والديمقراطية بطريقة معيّنة كأنما يتحدثون عن جريمة أو فضيحة. في الفريق الثاني أيضاً أشخاص على النقيض من مبدإ الحرية الذي يحملون لواءه، يذكرون باحتقار حتى أسماء الفلسفات، فالتأويلية على ألسنتهم تتحوّل إلى مرض خطير أو قذارة أو نجاسة. هذا هو الوجه المشترك بين الفريق الأول والفريق الثاني فالدعوة إلى التحرّر والحرّية بتعصب لا تتوافق مع الفلسفة أيضاً، والتأويلية شأنها شأن أي فلسفة أخرى قابلة للنقد، لكن من يَرَ أنّ فسادها وبطلانَها أمر محتوم، ويجب تفنيدها ورفضها، ليس من أهل الفلسفة، ولا تربطه أي علاقة نسب أو قرابة بعالم الحرّيّة، وإنْ تكلّم على الحرية فكلامه ليس نابعاً من القلب، أي أنّ قلبه ولسانه ليسا على وفاق. لكن يتوجب علينا أن لا نحكم على أي بلد من البلدان انطلاقاً من آراء أهل الإفراط أو أهل التفريط فيه . الإشارة إلى هذه النقطة تهدف إلى إفساح المجال أمام سؤال جديد حول النسبة بين الأطراف والمركز. هل فهم المركز فهم عميق والأطراف فهمها سطحي وظاهري، وإذا عارضت المركز لا تعرف ماذا

ص: 88

تعارض؟ وما هو الأثر الذي تتركه معارضتها؟ يبدو أنّ المجموعات المعارضة والمقاومة لتسلّط القوى الغربيّة غير منتبهة أو غير مهتمة بمعرفة الطريق التي تنفذ منه القوّة والسيطرة لذا لا تفكّر بإقفال هذه الطريق، وربما ترى أيضاً أنها غير معنيّة بإقفالها، وقطعاً معارضتها في بعض الحالات قليلة التأثير أو لا تأثير لها.

الاستعلاء بما هو منهج وعقل

انطلاقاً مما قلناه، يمكن أن نفترض صورتين مثاليّتين للبشر، إحداهما صورة الغربيين الذي يعدّون مكانتهم ومهمتهم فتح العالم واحتلاله، يعرفون فضلاً عن عناصر قوتهم مواطنَ ضعفهم إلى حد ما، وبما أنّهم حتى هذه اللحظات يتطلعون إلى المستقبل، فهم لا يجهلون المشاكل التي تعترض طريقهم وقتامة أفق المستقبل. إلى جانب هؤلاء كم كبير من أهل أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، هم على الرغم من الخلافات السياسيه في ما بينهم حتى المعارضون منهم للغرب عيونهم مصوّبةٌ على مُنجزات الغرب،ويريدون الوصول إلى حيث وصل هؤلاء عادةً لا يعرفون إمكاناتهم وقدراتهم ونقاط ضعفهم ، ولا الطريق التي يجب أن يسلكوها ليحصلوا على ميزات النمو والتطوّر. هل يشكل هؤلاء أجزاء ضواحي الغرب؟ هؤلاء ليسوا بالمستوى نفسه حياتيا ومعيشيَّا، ومعتقداتهم مختلفة، وأنظمة الحكم في بلادهم مختلفة أيضًا، وآراؤهم في ما يتعلّق بالأنظمة السياسية القائمة في الغرب متناقضة كما رأينا. إذا نظرنا إلى هذه الضواحي والأطراف نظرةً سياسيةً سنرى بلادًا ليس بينها أي توافق وانسجام تقريبًا، وإذا كانت في الظاهر مستقلّة سياسيًا، فإنّ استقلالها لا يظهر كثيراً في مقاومة المركز والتصدي لهيمنته، وهو أشدّ بروزاً في خدش وجوه بعضهم البعض. حتما المركز أيضًا بالمنظار السياسي غير موحد ، لكن حين يحدث ما يمس مبادئ العالم الحديث وقواعده وأصوله تتقارب مواقفه. في هذه المواقف لايُحسب أهل آسيا وأفريقيا من الأطراف، لأن جماعات من أهل المركز ترى أنّ المناطق غير الغربية مقر الأفكار المخالفة للحضارة الغربية، وفيها ينشأ ليس فقط المعارضون للظلم المحيق بهم والآتي من الغرب، بل المعادون للحضارة الغربيّة ومبادئ الحرية وحقوق البشر.

ص: 89

لقد بدأ نقد الحضارة الغربية ومبادئ التاريخ الغربي في الغرب نفسه، وتعمق واشتدَّ في أوساط الغربيين، واهتم مستنيرو البلدان الأخرى بهذه الانتقادات، وربما جعلها عدد منهم مادة الحقد على الغرب. لكن أوّلاً عدد هؤلاء قليل، وثانيًا، هم لم يستمدوا حقدهم من جذور آبائهم وأجدادهم بل من عدميّة الغرب. حتما من هذه الأطراف نفسها ناسُ كُثر لا شأن لهم بمبادئ الحرية وحقوق البشر، أو أنّهم لا يولونها أهمّيّةً ، لكن من الممكن أن يقولوا إنّ القوى الغربيّة نفسها لا تطبّق المبادئ التي تدّعي حمايتها، هؤلاء ليسوامعارضي المبادئ التي اصطلح على تسميتها غربية، وإنْ صُنّفوا في حاشية الغرب أو أطرافه، يمكن أن يجدوا مسوّغا له.الفريق الأوّل كما أشرنا من قبل هو إن تأملنا بدقة اهتماماته وتجاوزنا أقواله وأفعاله، لا ينتمي إلى التاريخ الغربي. هؤلاء ليسوا من أهل الرأي، ولا يقترحون حلولاً لتجاوز المبادئ الغربية، كذلك لا يتخطون حدودَ مواجهة الغرب ومقاومته سياسيا . ما يميز هؤلاء من سائر الجماعات السياسية المعارضة للهيمنة الغربية هو عنفهم. وإذا كان لديهم فكر أو علم فهم يقصرون استخدامه على تدوين برامجهم وسياساتهم العنفية، وتنفيذ أعمال العنف. بعبارة أخرى مخالفتهم لمبادئ الحضارة الغربية مخالفة سطحية، لا تأثير لها، ويمكن أن تكون فقط أثراً من آثار الأزمة أو مَعْلَمًا من معالمها في العصر الحديث. النقطة الأهم أنّ أعمال العنف هذه، تخرج إلى حيّز التنفيذ بالأساليب التي وُضعت في الغرب، وبالأدوات التي صنعها الغرب وفي كلّ الأحوال، حين يستهدف أحد أعمال العنف إحدى القوى الغربية، لا يمكن أن نسمي ذلك أكثر من عداء ومحاربة لها، ولا شك أنّ الخلاف والصراع والحروب بين القوى السياسية الغربية والعالم غير المتطوّر، كانت قائمة منذ بداية التاريخ الاستعماري ولا تزال قائمةً، إنها حرب المظلوم على الظلم والظالم.

لا يجب هنا أن نتحدث عن مستقبل هذا الخلاف، وعما سيؤول إليه أمره في المستقبل، وما هي النتائج التي سيتسفر عنها، لكن يجب أن نعلم أنّ كلّ مسألة تُطرح في هذا الباب مناسبة لرأينا في ما يتعلّق بالغرب وبالعالم غير المتطوّر. المتفائل بالغرب يحكم على مستقبل العالم بنظرة تفاؤليّة، ومن يعتقد أنّ قوّة الغرب قد اعتراها

ص: 90

الاضطراب والوهن وأنها آيلة إلى الضعف يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة تشاؤمية.

فضلاً عن ذلك، الفكرةُ الشائعة في العالم غير المتطوّر إلى حد ما، لا سيّما بين المتنوّرين المتعلّمين لا تتوافق وفكرة وحدة العالم، وبناءً عليها كلُّ بلد قائم بذاته، وعلى الجميع أخذ ما هو جيّدٌ ولائقٌ والتخلي عن العيوب والمساوئ بالنسبة إلى أصحاب هذا التفكير مفهوم الشرق والغرب لا معنى مثمرا له. وهؤلاء يَعُدّون تلقائيًا مُقترَحَ المركز والأطراف أيضًا بلا معنى. يمكننا من زاوية معيّنة أن نصنف ضمن هذه الزمرة نفسها المجموعات السياسية المعارضة لها والمعارضة للغرب أيضًا. الآن هنالك مجموعتان لمفهوم الأطراف والمركز لا معنى لهما: مجموعة تعتقد أنّ الغرب يمكنه من خلال الحوار إدخال جميع الشعوب في العالم الغربي، ومجموعةٌ أخرى تميل إلى الإعتقاد أنَّ الغرب بإمكانه من خلال الحوار أن يتعلّم الكثير من الثقافات الأخرى، ويجب كذلك على العالم كله أن يتعلّم من الغرب. ربما يكون لكلمة الحوار مكان ملائم جدًا في كلام هذه المجموعة، لكن من غير المعلوم حقيقةً هو كيف يمكن أن يتحقق هذا الأمر، ومن هم المتنوّرون والمفكرون الذين يعبرون عنه. الخلاصة أنّ الأرضيّة الفكرية والمقترح المناسبان لعبارة المركز والضواحي هما في ما يلي: نحن نعيش في عالم واحد تحكمه مبادئ وقواعد واحدة، لكنّ علاقةأهل الأرض بهذه المبادئ والقواعد متفاوتة الدرجات، ولم تصبهم آثارها وفوائدها بالمستوى نفسه هذا العالم ليس موحد النسيج، لكن يجب أن يصبح كذلك. يجب على المركز أن يقبل الاختلاف (فهذا الاختلاف موجود في داخله أيضًا، وهو جزء من ماهيّته)، والأطرافُ يجب أن تنظر إلى المركز وهي مدركةً وضعها أطرافًا وضواحي ، أو بصراحة أكبر نقول إنَّ المتنوّرين والمفكرين والسياسيين في البلدان الأطراف يجب أن يشكلوا حالة من التبادل الروحي والفكري بين المركز والأطراف. هذه طوباوية أوائل القرن الحادي والعشرين. لقد بدأت الحداثة طوباويا، وفي القرن العشرين احتل الفكر غير الطوباوي مكان الفكر الطوباوي . هل يعود البشر من جديد إلى مرحلة الطروحات الطوباوية ؟ ما أعرفه أنا هو أنّ مصير العالم كله مرتبط ببعضه، وحتى إن لم نعط الغرب موقع المركز ومكانته، لا يمكننا أن ننكر أنّ كلّ ما يحلّ به،

ص: 91

وأي تغير يصيبه سيؤثر في الأمكنة الأخرى كلّها. لكنّ خرابه سيكون خرابا للعالم كلَّه. ليس من الضروري أن نفكر بالخراب الأفضل أن نفكر أن مراكز العلم والتفكير والحضارة انتقلت تاريخيًا طيلة العصور والقرون من مكان إلى آخر - علمًا أنّ أيّ مركز حضاري طيلة التاريخ لم يحظ بما يحظى به المركز الغربي من قوّة ونفوذ. في أوائل القرن العشرين نبّه بعضُ المفكرين ،الغرب، إلى أنّ مركزيته في خطر، ونصحوا أوروبا أن تتقي هذا الخطر الداهم. اليوم تغير الوضع إلى حد ما فما قاله هوسرل في النصف الأوّل من القرن العشرين حول أزمة أوروبا، لا يتكرّر على ألسنة الفلاسفة المعاصرين. لكن هنالك سياسات تريد بالعنف والشدّة والرعب أن تحافظ على مركزية القوة في الغرب (الغرب الذي يبدو أنّه يتجزأ، أو أن مركزا جديدًا يظهر في داخله)، لكنّ المركز مركز التفكير ، والسياسة لا تخلق تفكيراً، ولا تستطيع أن تقضي على التفكير. يجب أن تُصالح السياسة الفكر.

ص: 92

العالم الإسلامي وعلم الاستغراب النقدي

أحمد كلاته ساداتي

أحمد كلاته ساداتي (1)

الغرب كوجود اجتماعي وتاريخي (حدا أدنى) أو كبيئة ذات رؤى واستراتيجيات خاصة(حدا أقصى)، أمر واقع لا شكّ فيه. وهو بحاجة على نحو مستمر إلى أن يُعرف ويُدرس.والواقع أنّ كلَّ المجتمعات الإنسانية في العصر الحاضر قد تمّ اجتياحها، وهي سواء على الأصعدة الإنسانية المحدودة كالسلوك الفردي وأنماط العيش، أو على مستوى القضايا الكبرى الاقتصادية والثقافية، خاضعة كلُّها في عالم اليوم لسيطرة مفاهيم الغرب وإيديولوجيّته. هذه الإيديولوجيّة لها مفاهيمها وقيمها الخاصة، وتتميّز بعلم وجود خاص، وعلم معرفة خاص أيضًا. ولها تعريف مشخّص للإنسان. ولكشف مفاهيم هذه الإيديولوجيّة هنالك حاجة إلى علم منهجية خاص.

في خضم عدوانية الغرب الكاسحة في العصر الحاضر، فإنّ حوزة العلم والمعرفة هي الساحة التي تتحقق من خلالها مطامع الغرب وأهدافه، وهذا الموضوع هو الأكثر بروزاً في العصر الحديث. إنّ علوم الغرب قد وضعت جميع الحوزات العلمية، ابتداءً من العلوم الطبيعية والرياضيات وصولاً إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية بمختلف تشعباتهاوفروعها، تحت مظلتها الإيديولوجيّة. وبغض النظر عن المفاهيم التي تشكل المبادئ الأساسيّة لهذه العلوم من الواجب القول: أنّ هذا الاجتياح - اجتياح كامل بمختلف المعايير. وأحد أبرز محامل هذا الاجتياح علم الاستشراق». فعلمُ

ص: 93


1- باحث من إيران - استاذ علم الاجتماع، كلّيّة العلوم الطبية جامعة شيراز. تعريب د.دلال عبّاس: أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن الجامعةاللبنانية. البحث مستل من مجلة غرب شناسی بنیادی علم الاستغراب التأسيسي،الصادرة عن مركز بحوث العلوم الإنسانیۀ والدراسات الثقافیۀ ، السنۀ الخامسۀ ، العدد الأول ، ربیع وصیف العام 1393ش (2014م) ، ص79-61.

الاستشراق خطاب يسعى من خلال مسار علمي، وبصورة ممنهجة، إلى خلق شرق كنسي التوجه (الخطاب الأولي للاستشراق)، أو شرق يضع نفسه في خدمة الغرب (الخطاب الاستشراقي المتأخر والاستعماري). ومن المؤكّد أنّ هذين الهدفين كانا في العصور الوسطى أي منذ القرن السادس عشر الميلادي وما بعده، محور الحراك والتفكير الاستشراقيين بمعنى أن يكون الشرقُ شرقًا في خدمة الكنيسة والاستعمار.

من الطرق أو الاستراتيجيات المؤدية إلى كشف علم الاستشراق مفهوميًا ونظريا، وكشف غيره مما يُحاك في الغرب علمُ الاستغراب. هذا المبحث يرى إلى علم الاستغراب خطابًا مختلفًا مفهوميًا عن علم الاستشراق علة ذلك أيضًا أن مفهوم الاستشراق نشط في نطاق المباحث والنظريات الغربية. في حين أنّ المفكر غير الغربي إذا شاء أن يتعرّف الغرب، أو أكثر من ذلك إذا أراد أن يتصدّى لنقد الغرب، لا سيّما الفكر الغربي، يحتاج إلى أسس نظريّة وإلى منهجية مغايرة لمبادئ الاستشراق. ومن المؤكد أنّ الاستشراق سبيل من السبل المؤدّية إلى معرفة الغرب وعلاقته بالشرق.

إنّ مبدأ نقد الغرب وتقويمه يختلف في العالم الإسلامي على نحو خاص، عنه في البلدان الشرقية الأخرى ذات الإيديولوجيات المختلفة. ومن أسباب ذلك أيضًا سبب مرتبط بتميّز الرؤية الإسلاميّة إلى العالم أو الإيديولوجيا الإسلامية من الإيديولوجيا الغربيّة. ففضلاً عما يميّز «الشرق» بالمعنى العام من الغرب والفكر الغربي، فإنّ الإسلام والإيديولوجيا الإسلامية أكثر تجذرًا وحضورًا من المعتقدات الشرقيّة الأخرى كالهندوسية والكونفوشيوسية والبوذية، سواء كان ذلك بمعنى الدين كدين، أو بالمعنى الأشمل للعلم والمعرفة وسبب ذلك أيضًا الاختلاف الماهوي بين الإيديولوجيا الإسلامية التي هي في الأصل ومن حيث المبدإ غير علمانية، والإيديولوجيات والمعتقدات الأخرى التي تُظهر كما هو ملاحظ نوعًا من التساهل بالنسبة إلى العلمانية على الرّغم من عدم تصريحها بتبنيها رسميا. في الإسلام، استنادًا إلى كتابه المقدّس، أي القرآن الكريم، يمكن بصعوبة تعرف تفاسير العلمانية، بناءً على ذلك، هنالك شكلان من التضاد بين الشرق والغرب: تضاد عام كليّ، أي أنّ

ص: 94

الشرق شرقُ والغربَ غرب ، وتضاد خاص متعلّق بالمجالات المعرفية والإيديولوجيّة الرؤيويّة في العالم الإسلامي.

هذا المبحث يسعى إلى تقويم أبعاد علم الاستغراب وتحدياته في العالم الإسلامي. أما سؤال البحث فهو التالي: ما هي الأمور الأساسية التي تميّز الإسلام من الغرب؟ وما هي التحدّيات التي تواجه علم الاستغراب في الظروف الحالية؟ سيحاول هذا التحقيق أن يجيب عن هذين السؤالين متسلّحًا بالأدلة، وبعين ناقدة. أما الفرضيّة فهي أن علم الاستغراب في الإسلام مختلف عنه في الرؤى والإيديولوجيات الشرقية غير الإسلامية.

الغرب الإسلام والتناقضات البنيوية

إنّ الغرب بالمعنى المفهومي العام، بعيدًا من النطاق الجغرافي الخاص مجموعة بلدان، أو هو قسم من العالم. والغرب بهذا المعنى أبعد من الواقع التاريخي والاجتماعي؛ علماً أنّ الغرب بمنظار علم المعرفة، نمط تفكير تحقق في إطار تاريخي معين وفي نطاق جغرافي خاص، وهو على مستوى رفيع من التحليل، الذي يمكن أن يتمّ بغض النظر عن البيئات الجغرافية. الحد الأقصى الذي يمكن أن يُعطى لمعنى الغرب هو أنّه بنية مفهوميّة (Conceptual construct)، ناجمة عن الأوضاع والأحوال التاريخية والاجتماعية في القرون الخمسة الأخيرة، إنما تعود رؤيوياً وإيديولوجيا إلى المفاهيم الأدبية والفلسفيّة اليونانية. هذه البنية المفهومية تحتوي علومها الخاصة : علم الوجود وعلم المعرفة ، علم الإناسة وعلم القيم، وعلم المنهج. على هذا الأساس، الغرب هوية مفهومية بالفعل. هوية دالة ليس فقط على مفاهيم معرفيّة خاصة، أو بنية تاريخية خاصة، بل هي دالة على رؤية إلى العالم مختلفة. والحاضنة التي نمت فيها مفاهيمُ«الغرب» القيمية هي العلم والفكر الحديثان.

بناءً على ما تقدّم، إنّ الغرب بنيةٌ مفهوميّة التحَمَت بقيم التفكير الحديث، وحين يجري الكلام على الفكر الحديث إنما نقصد الفكر الغربي. وفي تقويم «إيمان،

ص: 95

وكلاته ساداتي»(1)، أخضعت خصوصيات الفكر الغربي للتقويم، لا سيما أصالة العينيّة والإدراك الحسي ، والنسبية، والفكر الإنساني المحور، والثنوية والعلمانية. أما شایغان (2)في تقويمه فقد رأى أنّ علم الغرب علمٌ عدواني، والدليل على ذلك اكتشاف البارود.فاكتشاف البارود في الصين منذ آلاف السنين، لم يؤد إلى اكتشاف القنبلة، في حين إنّ مثل هذا الاكتشاف في الغرب الحديث جُعلَ وسيلة للسيطرة على الغير. هذه الخصوصيات تجسّدت في الغرب فكرًا سلطوياً وعدوانيًّا، لا سيما في العصر الحديث.

إنّ طريقة مواجهة الغرب كحضارة لها سماتها الخاصة المذكورة آنفا، تختلف عن أسلوب المواجهة الذي اعتمدته الحضارات السابقة تجاه بعضها، فاليونان وإيران ومصر والهند والصين وبلاد ما بين النهرين تحاربت في مراحل تاريخية مختلفة، إنما بأسلوب مختلف وبشكل عام، كانت الحضارة الأدنى تسعى إلى اكتساب المعرفة من الحضارة الأرقى علميًّا ومعرفيًا وبنى اجتماعية. المثال المحسوس في هذا السياق هو المواجهة التي جرت بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية في العصر العبّاسي، ونشوء حركة الترجمة من اللغات الأجنبية، لا سيّما اليونانية، بالعربية. وما نتج عن ذلك من إيجاد الأرضيّة المعرفيّة اللازمة لانبعاث عصر سُمِّيَ بشكل عام عصر «الحضارة الإسلاميّة»(3) .

مع ذلك فإنّ أسلوب مواجهة الحضارة الغربية الحديثة لسائر الحضارات، لا سيّما العالم الإسلامي تختلف عن التوجهات والأساليب القديمة. فالحضارة الجديدة في الغرب ذات بنية عدوانية، ولها خطابها الخاص. هذه الحضارة على الرغم من أنّها انبنت على المفاهيم الأدبية والفلسفية اليونانية من ناحية، وعلى المسيحية العلمانية من ناحية ثانية، طرأعليها في العصر الحديث نوع من التحوّل التاريخي، أبرز وجوهه العدوانية والسيطرة. في هذا الخطاب كلّ ما هو غير غربي من مفاهيم ومقولات

ص: 96


1- إيمان وكلاته ساداتي، 1392 ش [2003م]
2- شايغان، 1386ش [2007م]
3- يجب أن نشير أنّ الأسس التي شُيّدت عليها الحضارة الإسلاميّة ه- تعاليم القرآن والسنة النبوية، التي حثت على طلب العلم. كانت العلوم اليونانية واجهة هذا البناء المعرفي للمسلمين، أما البناء الأساسي الذي تشكل فهو حضارة جديدة مختلفة.

ونظريّات يُعدّ غريبًا أجنبيًّا، منحطاً، ويتوجب أن يرتقي على النمط الغربي، وما أشار إليه إدوارد سعيد في رائعته الاستشراق يؤكد هذه المقولة(1). إنّه خطاب كل بنية غير غربيّة في داخله يجب أن تمُحْصَ وتحوّل إلى بنّى غربيّة. وعلى هذا الأساس يجب أن يتم تغريب كلّ شيء، ليس فقط حوزات العلوم والمعرفة، بل جميع مجالات الحياة الإنسانية من أبسط أنماط السلوك الإنساني وصولاً إلى البنى الاجتماعية والسياسية الكبرى هنا يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي: هل بالإمكان استخدام الأساليب والطرق التقليدية نفسها التي اعتمدتها الحضارات السابقة في مواجهة هذه الحضارة؟ بمنظار هذا البحث المواجهة بالطرق القديمة قاصرة وعاجزة عن المحافظة على الحضارات غير الغربيّة، وفوق ذلك، ستؤدّي إلى القضاء على مكوّنات هذه الحضارات وإذابتها في الحضارة الغربيّة. لقد وقف الغرب بما يحمل من ،صفات أبرزها عدوانيته في مواجهة الشرق،لا سيّما العالم الإسلامي ، وأبرز ميادين المواجهة في هذا الخضم هو الإسلام.

إنّ المواجهة بين الشرق والغرب كما أشرنا من قبل مواجهة بين إيديولوجيّتين أو رؤيتين إلى العالم. يرى افتخار زادة أنّ التناقض بين الشرق والغرب هو في الأصل تناقض بين فطرتين وبين إيديولوجيّتين، وبين ثقافتين وفكرين، وأخيراً وليس آخراً، إنّ غاية الكمال لدى كلَّ منهما مضادّة لغاية الكمال لدى الآخر»(2). على هذا الأساس هنالك تضاد بنيوي بين الشرق والغرب على جميع الأصعدة المتعلّقة بعلم الوجود، والمرتبطة بماهية الواقع ، وماهيّة الإنسان والهدف من الخلق، وما إلى ذلك. وقد أكّد عدد كبير من المحققين على أوجه التناقض المبدئية بين الإسلام والغرب على صعيد كل من علم الوجود وعلم المعرفة، وعلم القيم، وعلم الإناسة»(3)

ص: 97


1- Said، 1977
2- افتخار زادة 1376ش [1997م]، ص17
3- على سبيل المثال إيمان، وكلاته ساداتي، 1389 شألف [2010م]، و 1390 شب [2011م]؛ زاهد وكلاته ساداتي، 1391ش [2012م]؛ كلسني، 1388ش ]2009م]. ،Jafari ،1992 ،choudhury 1995 ،1997 ،1998 ، 2007 ،and 2010 . Sardar ، 1977 Kamali ،2004 . ،،

لنا

إيمان، وكلاته ساداتي (1)يريان أن لا إمكانية لوجدان نقطة مشتركة في المبادئ الأساسية لعلم المعرفة بين الفكر الغربي والإيديولوجيا الإسلامية، ونظراً لوجود تناقضات جدّيّة مستعصية في المفاهيم الأساسيّة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، لا يمكن ملاحظة أيّ باب مشترك بين هذين الخطابين الفكريين المختلفين الإسلام والغرب أُطُرهما مختلفة، والأطر المختلفة تعرض مفاهيم مختلفة ومتمايزة، وتقدّم تحليلات مختلفة عن المعطيات المتماثلة. إنّ متانة هذه الأطر المعرفية، التي تتضمّن بشكل أساسي مفاهيم وجوديّةً ، محكمة إلى حدّ أنّنا إن أردنا عرضَ المفاهيم الإلهيّة (2)في إطار مادّي، لن تكون المخرجات سوى استنباطات علمانية من المفاهيم اللاهوتية. على سبيل المثال في الإسلام يوجد مفهوم الحرية، والحرية من المفاهيم التي أكدت عليها شرعة حقوق الإنسان الحديثة في الغرب. مع ذلك، فإنّ الحرية في هاتين الرؤيتَين الفكريّتين تعبّر عن مفاهيم مختلفة والاختلاف المعنوي هنا سببه الاختلاف في الرؤى والأطر. يقول جعفري في مقارنته بين النظريتين الإسلامية والغربية حول مفهوم الحرية:

يقرّ الفكر الغربي الحرية الفرديّة المطلقة لبني البشر، في حين أن الحرية الفردية والحرية العامة على السواء في الفكر الديني الإسلامي وفي النظام القِيَميّ الإسلامي محدودة ومحصورة ضمن الحدود التي وضعتها الشريعة(3).

وصف شودوري أيضًا مبادئ الفكر الإسلامي وأصوله بأنّها مناقضة للفكر الغربي (4)، فهو يرى ان الفردانية (Individualism) ، والثنوية (Dualism) خاصیتان لا يمكن إنكارهما في الفكر الغربي، وهما مضادّتان للفكر الإسلامي؛ تثبت المعطيات التاريخيّة وجودَ صراع دائم في الحوزة العلمية (الاجتماعيّة)، أحد طرفيها الفردانية المنهجية (Methodology Individualist) المبنية على العدوانية الغربية المحور،

ص: 98


1- إيمان وكلاته ساداتي (1392ش [2013م]
2- جوادي الأملي، 1387ش [2008م]
3- Jafari 1992، p. 332333
4- Choudhury، 1995 1997 ، 1998، 2007 and 2010.

وفي الطرف الآخر الإيديولوجيا التوحيدية للواقع في إطار الإسلام. إنّ النظام في الغرب، تاريخيًا وبمعتقداته الوضعيّة، معتمد في استمراريته ومركزيته على عالم قد تفرد في حين أنّ الإسلام إيديولوجيا تامة متكاملة تنهل من ظواهر فعلية مبنية على التوافق العام، مع التأكيد على محورية العلم في بناء العالم والأنظمة الموجودة فيه(1).

لقد انتهى الأمر بالعلم الغربي إلى ظهور بعض الخصوصيات، كأصالة العينية، وتحوّل العلم إلى علم صُنعي( Man made) والمأزق المعرفي للعلم، والتعددية (Pluralism) والفوضوية (Anarchism). وعلى العكس من ذلك، في الإيديولوجيا التوحيديّة وعلم المعرفة التوحيدي (Tawhidy epistemology) ووحدانية العالم غائيّة الوجود والعلم هي الخاصية الذاتية للعلم وللمعرفة العلمية. فالعلم في الفكر الدينيّ لا ماهيّة بشرية له، وإنما هو مبني على القانون الإلهي( Divine law). في مثل هذه الرؤية تفقد كلٌّ من أزمة العلم المعرفية، والعلمانية الدنيوية (Secularism)، وأصالة العينية، والفوضوية مفهومها، وينظر الإنسان إلى ساحة العلم على نحو يجعله يدرك غاية الوجود ومعناه.

خطاب الاستشراق و «الإسلام» الذي يريده الغرب:

كما أشرنا من قبل الاستشراق مفهوم طرحه إدوارد سعيد منذ أربعة عقود. مرجعيّة هذا المفهوم خطاب توليفي علمي سياسي واجتماعي، تشكل في الغرب منذ سبعة قرون، لتوصيف الشرق، وبالأخص العالم الإسلامي على النحو الذي يريده الغرب. ويربط سعيد الاتجاهات الاستشراقية المتأخرة بالقضايا السياسية في العالم الغربي، يقول: سياسيا بذل الغرب أقصى جهوده ليقف في وجه الإسلام. ومن المؤكد أنّ القوميّة العربية كانت في الحرب العالمية الثانية حركةً أعلنت كرهها وعداءها للإمبريالية الغربية ؛وليصفّي حسابه معها وينتقم منها، كثّف جهوده لإبراز القضايا والمسائل التي تجعل الإسلام مقبولاً لديه(2).

ص: 99


1- Choudhury، 1998، p. 19
2- سعید 1361ش [1982م]، ص 54

الاستشراق ،خطاب العلم والقوّة. لقد بذل الغرب ورجال الكنيسة الجهود الحثيثة اعتمادًا على قوتهما، لتقديم المعرفة التي يرغبان بها عن الإسلام، لذلك بحثوا عن مواطن الاختلاف والتمييز:

إنّ جوهر الاستشراق بني على أساس الفصل والتمييز بين الشرق والغرب، أمّا مهمّة هذا التمييز فتثبيت سيادة الغرب وتفوقه على الشرق... الحقيقة أنّ الاستشراق أو نظريات الغربيين حول الشرق، كانت انعكاسًا لتحكّم الغرب وسيطرته على الشرق، ولطالما سهلت هذه السيطرة(1) .

على الرغم من أنّ موضوع الاستشراق بنظر زماني يعود تاريخه إلى ستة قرون قبل الميلاد(2)، لكنّ الاستشراق كنشاط منظم وعدائي يعود إلى العام 1933م، حين قرّر المجمع العلمي المسيحي في فيينا افتتحاح كرسي في كل جامعة من جامعات عواصم الغرب الكبرى لتعليم اللغات العربيّة واليونانية والعبرية، ليصبح بالإمكان التغلغل بين العرب، وتنصيرهم(3). يصوّر دسوقي أيضًا أربعة مراحل للاستشراق: 1) المرحلة الأولى بعد فتح المسلمين الأندلس، وازدهار الحياة العلمية في تلك الديار 2) المرحلة الثانية بعد الحروب الصليبية، حتى القرن الثامن عشر الميلادي؛ 3) المرحلة الثالثة من منتصف القرن الثامن عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ 4 )والمرحلة الرابعة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال مستمرة. وللمرحلة التي أعقبت الحروب الصليبية خصوصيتها (4) .

إنّ الشرق الذي اختلقه هذا الخطاب شكل موضوع بحث وتحقيق لعدد كبير من منتقدي الاستشراق، وبالأخص إدوارد سعيد الذي كان على رأس مفنّدي موضوع الاستشراق. يرى سعيد أنّ الاستشراق كما يدلّ تاريخه، قد بذل المساعي

ص: 100


1- م. ن ص 12 و 13
2- زماني، 1388ش [2009م]
3- مقدّمة عسكري خانقاه وفلادوند على كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، 1361ش [1982م]
4- دسوقي 1376ش [1997م] ، ص 612

الحثيثة ليحول التلقين والفرضيّات إلى حقائق لا جدال حولها»(1). هذه الإملاءات والفرضيّات موجّهةً بصورة عامة إلى العالم الإسلامي، لأنّ الاستشراق توليف خطابين هما: الخطاب المسيحيّ اليهودي والخطاب الاستعماريّ. إنّ بصمة الاستعمار في الاستشراق بارزة للأسباب والدوافع نفسها التي تحضر فيها الكنيسة» (2) . وعلى الرّغم من غلبة التوجه الاستعماري في مفهوم الاستشراق المتأخر، لكن مبادئه بشكل عام متسترة بالتوجهات الكنسيّة التبشيرية التي كانت تسعى إلى تنصير العالم الإسلامي:

يجد الباحث في تاريخ الاستشراق، انّ عليه أن يخطو أولى خطوات البحث من الكنيسة، فيعلم أنّ الجيل الأوّل من المستشرقين كان من الرهبان والقساوسة، ومن ثمَّ يصل إلى واقع مفاده أنّ بعض المستشرقين كانوا منذ البداية ولا يزالون من اللاهوتيين المسيحيين واليهود(3).

إنّ التبشير المسيحي والاستشراق تياران متكاملان ومتداخلان، لا يمكننا الفصل بينهما؛ فهذا يفتح الطريق بما يضعه في متناول الآخر من تحقيقات ومباحث ومعلومات، وذاك يقدّم الدعم بما يزرعه من شكّ في العقائد والأصول الإسلامية الأساسيّة، وفي الحياة العقائدية والأخلاقية للمسلمين، ليتمكن من نشر المسيحية في أوساطهم وتنصيرهم(4).

إنّ الاستشراق خطاب احتلّ حيّزاً واسعًا من النشاطات الإنسانية، من كتابة التاريخ وتدوينه إلى اللاهوت فالفنّ لا سيّما السينما، ومجموعةً من الطموحات العالمية التي سعت في أوج عزّها إلى تسخير كلّ شيء، وبالأخص ال_«غير» [الآخر]. في كلّ عمل من هذه الأعمال، بحسب أرضيّته بذلت المساعي الحثيثة لتقديم المسوّغات لتحقير الشرق وبالأخص الإسلام، وانتهاك حرمة الرموز الإسلامية، لا سيّما نبي الإسلام؟؛ زرع الشكَّ في وحيانية القرآن ومدح أنظمة سياسية محدّدة في التاريخ

ص: 101


1- سعيد، م.س، ص 78
2- افتخار زادة، م.س، ص 17
3- دسوقي، م.س، ص 61
4- م.ن، ص 179

الإسلامي، ومن ضمنها الحكم الأموي؛ تأسيس منابر في الجامعات الاوروبية باسم منبر العلوم الإسلامية التاريخيّة؛ تعزيز الصراع المذهبي، والتناقضات الداخلية في الإسلام؛ تشويه شخصية مسلمي الشرق الأوسط في العصر الحاضر؛ التجريح بجدوى المفاهيم المبدئيّة في الإسلام كالحجاب والجهاد؛ تقديم صورة عن الإسلام إرهابية ومناقضة للحضارة والمدنيّة؛ تعزيز تبعيّة النخب والعلماء المسلمين للعلوم التي ينتجها الغرب، والتي تعالج مختلف المواضيع الإسلامية، وغير ذلك... إِنّ خطاب الاستشراق محوره الكتابات التاريخية والفلسفية واللاهوتية، والرواية والقصة، والفن ولا سيما السينما(1).

الاستغراب وأبعاده

ني

يمكننا أن نعرف شكلين عامين للاستغراب : النقدي وغير النقدي. إذا تقرر أن يُنمّى علم الاستغراب ويُعزّز بصفته أحد فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، فالحاجة ماسة إلى التسليم بواقع مفاده أنّ الاستغراب يختلف موضوعًا وأسلوبًا عن الاستشراق، علمًا أنْ لا مجال لإنكار كون الاستشراق والاستغراب وجهين لعملة واحدة. فطرح خطاب الاستشراق مثلاً وتقويمه، يشكل جزءًا من موضوع الاستغراب. وحين يتم تعريف وتقويم الماهيّة العدوانية للغرب من الطبيعي أن تتوضّح من خلال هذا التعريف ماهيّة الغرب أيضًا. لهذا السبب يؤمن آهيسكا بالحوار والتفاعل بين الاستغراب والاستشراق. ففي كلا الاتجاهين يمكن طرح علاقات القوة السلطوية بموضوعات مثل «الأنا» و«الآخر»(2). مع ذلك، في الظروف والأوضاع الحالية، الاستشراق ماهيته

«عدائية»، والاستغراب ماهيّته «دفاعيّة» ، لذا يجب القول إنّ الاستغراب لا يمكنه ان يلجأ في تقويمه للغرب إلى الأساليب والأنماط الاستشراقية. من ناحية أخرى، وبناءً على المباحث المذكورة آنفا، والقائلة إنّ إيديولوجيا الشرق غير عدوانية الاستغراب يختلف عن الاستشراق معنى وتوجها.

ص: 102


1- سعيد، م.س؛ دسوقي، م . س مختار زادة م.س
2- آهيسكا 2010م

إن نحن عدنا إلى المصادر والنصوص العلميّة يمكننا العثور على تعريف عام للاستشراق أي خطاب العلم والسلطة الذي يسعى إلى تنظيم ديار الشرق الأسطورية على النسق الذي يريده؛ لكن في ما يتعلق بالاستغراب لا وجود لتعريف واضح لا لبس فيه. من بين الباحثين الشرقيين بذل كل من آهيسكا من تركيا وتوكلي طارقي من إيران، جهودًا لعرض نمط من الاستغراب في وطنه، نمط لا بد من أن يقدّم تعريفا للاستغراب. آهيسكا، في كتابه الذي تطرق فيه إلى تقويم الاستغراب في تركيا، عرف الاستغراب أنه أبعد من موضوع الاختيار من الحضارة الغربية، وأنه أبعد من المقاومة أو الثورة في مواجهة الغرب كما هو الحال في الشرق الأوسط . هو يرى «أنّ الاستغراب استراتيجيا ونهج وتكتيكات ذات اتجاهين خطابي وغير خطابي، يستخدمها «الشرقي» ردا على الغرب. بالنسبة إلى تركيا الاستغراب طريق للعودة إلى الأصالة، التي قضت عليها عملية التحديث، وهو في الوقت عينه مسعى لمواكبة التاريخ المعاصر(1).

بالنسبة إلى آهيسكا الاستغراب ليس فقط مرشدًا للسياسة بمعناها المحدود، بل هو المرشد لكم كبير من المواضيع بدءًا من تنشئة الأطفال، ومن العلاقات الأسرية وصولاً إلى الهُويّتين القوميّة والدينية، وفي أداء النخب كذلك من خلال بث البرامج الإذاعيّة(2). لذا فإنّ علم الاستغراب الذي يقصده آهيسكا إنما هو نوع من العودة إلى الذات بحذاء قوّة الغرب مالك العلم والتقانة الحديثين. أما توكلي طارقي فله نظرة مختلفة إلى موضوع الاستغراب في إيران. يمكن وصف نظريته بأنها غير نقدية كليًّا، تأتي في سياق عرض معرفة الإيرانيين بالغرب عرضًا ،وصفيّاً، كما أنّه استنادًا إلى مقالة كول(3) الاستغراب اللامرئي، وعلى مفهوم «العقلانية الغربيّة »لدى فيبر، تطرّق إلى تأريخ تعرّف الإيرانيين الغرب منذ بداية القرن الثامن عشر الميلادي، وما بعده؛ إنّها رؤية بشكل عام غير نقديّة للغرب(4) .

ص: 103


1- آهيسكا، م.س، ص 41
2- آهیسکا، م.س، ص 45
3- Cole، 1992
4- طارقي توكلي، 2001م

في التحقيق الذي أجراه سنوغراز حول موضوع البوذية والديانة الميجية في اليابان وعلاقة هذا الموضوع بالاستشراق والاستغراب، اعتمد مسبقا نهجًا يتراوح بين النقد والمسايرة ، وقدّم التعريف التالي للاستغراب:

«الاستغراب مصطلح يمكن استخدامه لوصف استعانة آسيا بالغرب؛ وهو مفهوم غيرمضاد للاستشراق »(1) .

وهو يقول بنوع من التساهل بالنسبة إلى الاستغراب في تقويمه له في بلاده:

إن إحدى مشكلات ظاهرة« الاستغراب »عدم التمييز بين القومية اليابانية وخطاب المستشرقين الغربيين بصدد البوذية (2). »

يتبين من فحوى الكلام أنّ الاستغراب لدى سنوغراز شكل آخر مختلف عن الاستغراب لدى آهيسكا وتوكلي طارقي. ويمكن عدُّ هذا النوع من الاستغراب شكلاً آخر من استغراب الغربيين أنفسهم. لا ينظر إلى الاستغراب بصفته عدوا وإنما بصفته بنية خاصة أنتجتها قرون خمسة من العمل الفكري. في هذا النوع من الاستغراب:

1- ليس هنالك من منحى خطابي بالنسبة إلى موضوع «الغرب» وإنما صدى للتوجّه الذي يجعل الغرب فيه ذاته موضوعًا ذاتيا، لا ليسيطر على موضوعه بل ليعرفه للآخرين.

2 إنّه توجه مبني بشكل عام على النرجسية(3)، ومسعى لتعريف الغرب بصفته مرشدًا للآخرين، يرشدهم إلى طرق العمل.

3 -الغرب هو المحور الذي تدور حوله الأمور المعرفية بأجمعها.

4 -ارتقى بنفسه من المستويات الفكرية إلى المستويات الإيديولوجية، ليصنع لنفسه مفاهيمها الإيديولوجيّة.

ص: 104


1- سنوغراز 2003م، ص 11
2- م . ن ، ص 275274
3- Narcissism

على العكس من هذا التوجه غير النقدي، أو الضئيل نقده، يُبرز فن الوجه النقدي للاستغراب، المبني على الأطر الفكرية لميشيل فوكو، والذي كان الأساس الذي ارتكز عليه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. يقول فن آخذا في الحسبان موضوعي الاستعمار والرأسماليّة في تعريف الاستغراب:

إنّ الاستغراب من خلال هذه الرؤية فضاء مفهومي وتاريخي، يؤلّف الخاصة حكايته عن الموضوع وحكايته الخاصة عن التاريخ هذه الحكاية يمكن أن تصبح هدفًا لعدائية،الحداثة ،وأن تتأثر بها على مستوى العالم، بسبب الرؤية إلى العالم بناءً على المخطط الذي وضعته الحداثة والاستعمار الأوروبي (1) .

يتبين بوضوح من خلال تعريف فن أنّ الاستغراب الذي يرمي إليه ليس أنموذجا من المعرفة النقدية للغرب بوصفه (أي الغرب) حيّزا مكانيًّا مختلفًا عن الشرق وإنما يتضمن نظرة نقدية إلى حد ما؛ نقد لعدوانية الاستعمار والحداثة. إنّ تقويم فن للاستغراب يأتي في سياق نظرة علم معرفيّة بالنسبة إلى تشكل الحداثة بصفتها عرقاً خاصا هو العلم/القوّة السلطوية. مع ذلك، على الرغم من أن رؤيته مبنية على الأسس الفكرية لفوكو، لكن ليس بمعنى اتخاذ موقف حيال الغرب. نوع من إثنلجة الحداثة بصفتها بنية ناجمة عن العلم/ القوّة السلطوية ومرتبطة بالرأسمالية والاستعمار(2).

إنّ هذا الخطاب ذا الرؤية النقدية للغرب، حين يوضع على بساط البحث في العالم الإسلامي ، يتحوّل إلى خطاب يتجاوز البنى الفوقية للموضوع، محاولاً دخول مستوياته التأسيسية والإيديولوجيّة. وكما أنّ الغرب في الاستغراب غير النقدي يصبح المحور الذي تدور حوله الأمور المعرفية بأجمعها في هذه الرؤية النقدية يعرف الغرب بوجهه الإيديولوجي، المضاد للمفاهيم الإسلاميّة، وتوضع السيطرة الغربية والعدوانية الغربية موضع النقد الجدّي، الذي لا يزال دون ريب في مرحلة تشكله الأوّليّة. حاليا هذه الرؤية موجودة إنما بشكل مبعثر، وعلى نحو لا يتيح تقديم تعريف

ص: 105


1- Venn، 2000. P. 2
2- Ibid

لها ضمن خطاب ما أو مقولة ما بصورة عامة تشكلت في القرن المنصرم أشكال من المقاومة في البلاد الإسلامية في مواجهة الغرب ابتداءً من مواقف السيد جمال الدين الأفغاني وأقرانه كالشيخ محمّد عبده ورشيد رضا، وسيد قطب، وصولاً إلى انتصار الثورة الإسلاميّة وما أعقبها من قضايا في العالم الإسلامي.

بناءً على هذا المذهب الفكري، الغرب، إيديولوجيًّا، معاد للمبادئ الإسلامية. لهذا السبب، يجب مقاومته لصون الهوية الإسلاميّة. على الرغم من فاعلية هذه الاستراتيجيا سياسيا، لكنّها في مجال العلم والمعرفة بحاجة إلى الأرضية الملائمة وإلى الإنتاج العلمي. من هذه الزاوية في نطاق العلم والمعرفة الاستغراب النقدي المبني على الأسس والمبادئ الإسلامية، إمّا أنّه لما يتشكل، وإما أنّه عالج القضية بالمفرق، ويفتقد إلى المعالجةالمعمّقة . إذا تقرّر تعريف الخطوط العريضة لهذا المذهب الاستغرابي أي الاستغراب النقدي في العالم الإسلامي، فالفرضيات التالية هي الأهم:

1 -«الغرب» موضوع يتجاوز الفكر المتعلّق بمنطقة جغرافية خاصة، إنما له مبادئه القيمية الخاصة.

2 - الغرب بنية قولية مناقضة ليس فقط للمفاهيم الإلهية والإسلامية، وإنما أيضًا، وفي الكثير من الحالات لديها، على العكس مما تدعيه، الكثير مما يُناقض المفاهيم الإنسانية.

3 - الإمبريالية بعد من أبعاد البنية الخطابية الغربية، متغلغلة في مختلف النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية .

4- المفاهيم الإسلامية أفضل من المفاهيم الغربية سُبُلَ حلٌّ للمسائل الإنسانية والاجتماعيّة ، وبالأخص العدالة.

5-لقد ابتُلي العالم الإسلامي مؤخرًا بنوع من الانذهال السياسي والفكري، ومن الضروري أن يتخلّص من هذا الوضع. ومما يحتاجه للخروج من هذا المأزق معرفة الغرب معرفةً صحيحة.

ص: 106

الاغتراب النقدي، المقاومة والتحدّيات:

من الممكن بشكل عام عدّ حركات المقاومة التي واجهت الغرب في القرن العشرين وليدة نوع من اللاوعي التاريخي والاجتماعي للتصدي للغرب، وهي من هذه الزاوية نوع من الاغتراب النقدي. هذا الادّعاء سببه أيضًا أنّ الخطاب المسيطر على هذه المقاومات لا يعرف الغرب رسميًّا، وإنما هو منتقد جدّي له. علمًا أنّ هذه المعرفة مرتبطة بسطح القضايا. تُعرَّف مقاومة الغرب ونقده في إطار الدفاع عن الهوية الوطنية والاقتصادية والإسلاميّة، ولكنّها تحتاج إلى ارتياد مباحث ممنهجة ومعمقة معرفيا .

انطلاقا من المباحث المطروحة آنفا، يمكن القول إنّ الاستغراب النقدي، نوعٌ من الاغتراب الخاص بالدول الإسلامية في الشرق الأوسط. هذا النوع من الاستغراب يبحث عن نوع من العودة إلى الذات ليتمكن من الخلاص من سيطرة الغرب الفكرية والثقافية. يعرف إدوارد سعيد الحركات التحرّريّة في الشرق وفي العالم الإسلامي بأنّها مقاومة للإمبريالية الغربية، يقول:

من ناحية أخرى إنّ حركات التحرر التي قامت في القرن العشرين في الشرق وفي البلاد الإسلاميّة، كما يقول أنور عبد الملك قضت فعليًّا وعمليا على أفكار المستشرقين ونظرياتهم ، وفضحت الإمبريالية الغربية (1).

إنّ الاستغراب النقدي في العالم الإسلامي، هو الحجر الأساس المعرفي لمثل هذه المقاومات؛ إنّه مقاومةٌ تتصدّى لأسس علم الوجود الغربي. فهنالك مواطن خلاف بنيوية بين الإسلام والغرب في العديد من المقولات، ومنها تعريف الواقع وقوامه، وتعريف الإنسان والهدف من خلقه، وهدف الخليقة، وغير ذلك. هذه الفروقات غير موجودة بين الحضارات الأخرى والغرب، وإن وُجدت ففي الحدّ الأدنى. إنّ مقاومة الدول غير الإسلامية للغرب تهدف بشكل عام إما إلى المحافظة على مصالحها الاقتصادية، أو إلى الدفاع عن هويتها الثقافية. أما مقاومة الإسلام

ص: 107


1- إدوارد سعيد، م.س، ص 15

للغرب. فتتضمن وجهًا إيديولوجيا وقيميَّا. وعلى هذا الأساس، لا يقتصر التناقض بين الإسلام والغرب على عدم الاعتراف بالقيم الغربية الأساسيّة، وإنما يذهب أبعد من ذلك، فهو على الضد منها بنيويا.

إنّ إدوارد سعيد يُعارض تشكل خطاب باسم الاستغراب، ويرى سبب ذلك فی حاجة الشرق إلى تعرّف الخطاب الاستشراقي، وعدوانيته، لتشكيل خطاب يسعى إلى خلق شرق آخر يُدعى الغرب:

أتمنّى قبل أيّ شيء آخر أن أبين لقرائي الأعزاء، أنّه لا يجب أن يحتل الاستغراب مكان الاستشراق( أي لا يجب جعل الاستغراب رداً على الاستشراق) فمَن كان في الماضي يحمل علامة «الشرقي» لن يعجبه هذا الفكر، وبما أنّه كان يُحسب شرقيًّا هو مستعد، وأكثر من الحدّ ، لدراسة «الشرقيّين»الجدد أي« الغربيين»الذين صنعهم وصقلهم بيديه. كأن معرفة الاستشراق معناها، كيف يمكن، وعلى أي نحو، أن ينجر مَن ضلّلته وأغوته هذه المعرفة، أو أي معرفة أخرى في أي مكان وفي أي زمان، نحو الابتذال والانحطاط. واليوم إمكانية هذا الانحطاط أشدّ ربما أكثر من أي وقت مضى(1).

ربما كان سبب معارضة إدوارد سعيد هو أنّ الاستشراق نفسَه يُعَدُّ بديلاً من ،الاستغراب، فحين يُعرف خطاب الاستشراق يُفهم مقدار كبير من ماهيّة الغرب.مع ذلك يبدو أنّ العالم الإسلاميّ على نحو خاص بحاجة إلى خطاب الاستغراب. خطاب تحليل موضوعه يفوق التحليلات الموجودة في الاستشراق.

من الواضح أنّ الاستغراب سيُتيحُ للعالم الإسلامي فرصة جديدة سيُعرف لنا ماهيّة،الغرب، وعلومه، لا سيّما علم الوجود وعلم المعرفة، ونهج ظاهرة تُدعى «الغرب». مع ذلك هنالك تحدّيات وعوائق تواجه الاستغراب في العالم الإسلامي بشكل خاص ؛ التحدّيات الأساسية في هذا المجال هي:

1- مكانة الاستغراب وأجواؤه اليوم تختلف عن ظروف الاستشراق في القرن الماضي.

ص: 108


1- سعيد، م.س، ص96

2 - التصدّي للغرب تصدّ لظاهرة مسلّحة بالعلوم والفنون، وبشكل خاص العلوم الإنسانيّة المعقدة، المنظر لها. لذا، فإنّ الغرب ظاهرة معقدة، هلامية ومتعدّدة الوجوه.

3 - العالم الإسلامي يواجهه فقر في التنظير ، وهذا الفقر النظري أدّى إلى أن يبقى الموقف المتخذ في مواجهة الغرب محصورًا في إطار المواضيع القيمية، بدلاً من أن يكون مبنيا على أسس نظرية مدوّنة، مرتكزة على مباحث علوم المعرفة والوجود والمنهج. ولا يمكن الشروع بتعرف الغرب، اعتمادًا على المواقف القيمية المحضة.

4- النظريات الجديدة في الغرب، عثرت على حيّز من الهلامية الفكرية، وهذه الهلامية معرفتها ليست بالأمر السهل إنّ استخدام الأنماط اللاخطية (Nonlinear) والمنطق المشوّش أو الضبابي (Fuzzy logic) والنظرية السلكية أو الخطية (String theory)، ونظرية التعقيد(Complexity)، ونظرية الفوضی(Chaos theory) فی التحليلات الاجتماعية، والأنماط المقولبة المبنيّة على هذه النظريات، قد أتاحت كلّها للغرب الفرصة كي يكون تعرّفه أمرًا صعبًا بالنسبة إلى العالم الإسلامي والشرق.

5 - الاستغراب كما أشرنا من قبل، مفهوم مختلف عن الاستشراق. فهو، قبل أن يكون عملاً عدائيا، عمل دفاعي بشكل عام للمحافظة على هويتنا وصونها، ولهذا الأمر سببان:

1) الغرب، أصالة، موضوع وظاهرة عدائية.

2 )عرف الشرقُ الغرب من موضع دوني (من حيث التنظير وتعرف المباحث العلم معرفية وما شابهها ...).

وهل بإمكان مَن هو في وضع متدن تعرّف عدوانيّة جموحة؟ الجواب عن هذا السؤال ليس سهلاً، أو هو على الأرجح جواب سلبي.

6 -إنّ أرضية الاستغراب النقدي الإسلامي، تختلف عن أرضية الاستشراق. ففي الوقت الراهن، حيث يتموضع العلم والمعرفة في الغرب وفي الفكر الغربي، يحتاج

ص: 109

الاستغراب النقدي إلى أنْ يُفصَلَ عن تلك الحاضنة، وإلى طرح أرضية مختلفة وحاضنة محلية، لتقديم خطاب مختلف عن العلم والفكر الغربيين الموجودين في الاستشراق فمعرفة الغرب تحتاج إلى معرفة أبعاده كلها ومن بينها الاستشراق. مع ذلک يجب أن يُفصل الاستغراب النقدي من حيث كونه مبنيا على مفاهيم قيميّة خاصة عن أرضيّة الاستشراق ذات المفاهيم القيمية الخاصة بها (العدوانية الغربية، والثقافة الغربيّة، وإيجاد أرضيّة مختلفة لطرح القضية ومنهج التحقيق، ووضع النظريات. هذه الأرضيّة من أهم احتياجاتها الأولية معرفة الغرب الوافية، بأبعاده كلّها ومن ضمنها الاستشراق.

طرح أفق جديد:

في عصرنا، الجهاد الفكري حاجة ملحة، لنصدّ بواسطته الاجتياح الكاسح الفكري والثقافي المتعدّد الألوان والأشكال لذواتنا ومجتمعاتنا. وهذه المسؤولية المهمة تقع على عواتق العلماء والمفكرين والباحثين المسلمين كي لا تكون على الأرض فتنة ويكون الدين كله لله(1). هذه المقالة ترى إلى الاستغراب النقدي موضوعًا معقدًا، وأهمّ المسائل المتعلقة به قضيّة معرفة الغرب معرفةً دقيقة. هذه المعرفة يجب أن تُحرف عن التعريف الجغرافي (مثل معرفة أميركا الشمالية أو الجنوبية أو الشرقية أو الغربية)، باتجاه معرفة الغرب بصفته أرضيّة معرفية خاصة . تغيير الاتجاه يتطلب تعرف النظريات الغربيّة في المجالات المختلفة من التأريخ والفلسفة إلى علم النفس وعلم الاجتماع والمنطق، وغير ذلك من العلوم، ومن ضمنها علم الاستشراق. إنّ الأفق الجديد البديل يتضمن الاستراتيجيات التالية لإيجاد استغراب نقدي في العالم الإسلامي:

1)- يجب أن يحافظ الاستغراب النقدي على ما لديه من أخلاق المقاومة المبنية على القيم الإسلاميّة، وفي الوقت عينه يجب أن يوجه اهتمامه إلى المستويات الأكثر تأصيلاً أي إلى علم معرفة المقاومة.

ص: 110


1- دسوقي، م.س، ص 227

2) من الضروري تعرّف الحاضنة الحالية للعلمانيّة التي يقوم علم المعرفة الغربي بإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة في داخلها.

3) -تعرف النظريات الغربية، من النظريات الكلاسيكية في العلوم المختلفة وصولاً إلى النظريات الجديدة.

4)-تعرّف النظريات الجديدة التي تؤكّد بشكل عام على الأنماط اللاخطيّة والهلامية، التي يصعب حتما تعرف أسسها العلم وجوديّة.

5) للاستغراب وجه إيجابي أيضًا، وهو، مبدئيًا، الإجابة عن سؤال: ما هو «الشرق» أي الإسلام والتراث الإسلامي، وما هي المسافة الفاصلة بينه وبين مثله وتطلعاته.

6)- الاستغراب النقدي في العالم الإسلامي يحتاج إلى عمل تنظيري معرفي واسع مصدره «نحن». ومع الأخذ في الحسبان الفقر في النظريات، نحن نحتاج إلى وضع نظريات في جميع فروع العلوم الإنسانية.

7)- العلم الغربي، لا سيّما علم الاستشراق يؤدّي دور عجل السامري، وحين نتمكن نحن من العثور على علم استغراب دقيق، لا نعود بحاجة لأن نتغدى من هذا العجل. لذا فإنّ أرضيّة الاستغراب النقدي تحتاج إلى مفاهيم خاصة بنا في ما يتعلق بعلم الوجود وعلم المعرفة وعلم الإناسة وعلم القِيَم، أي إلى «نظريات إسلامية» بشكل عام. إذًا علم الاستغراب تعوزه النظرية.

استنتاج

إنّ موضوع علم الاستغراب يواجه حاليا بالنسبة إلى أي حضارة، لا سيّما بالنسبة إلى الحضارة الإسلاميّة تحدّيًا وأصولية تُدعى العلمانية والغربية. إنّ الغرب بنية عدوانية هجومية نقلت عناصر هويتها إلى جميع مفاصل المجتمعات وعروقها، ومن ضمنها المجالات العلمية والمعرفية. فإذا اعتمدها الاستشراق، فإنّ تلك المواجهة لن تفضي إلى أي نتيجة، ولن تتمخض عن شيء، لأنّ الغرب كعجل السامري، الذي

ص: 111

أذهل الجميعَ سحر الجواهر التي صُنع منها، وحاجات هذا العالم الإنساني التي يلبّيها في الوقت الحاضر حاجات صنعيّة. وطالما أن المجتمعات كلها، ومن ضمنها المجتمعات الإسلامية، تتغذى من حليب هذا العجل ولحمه، فإنّ أيّ نظرية نقدية لن تفضي إلى أي نتيجة. لن يُحسَب الاستغراب في العالم الإسلامي هوية فكرية ومعرفية مستقلة، إلا حين يخرج من الشبكة الفضفاضة التي اصطاده الغرب بها، الشبكة المتعلقة والمرتبطة بها كل الأمور والشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لذا فإنّ الاستغراب النقدي يحتاج إلى شبكة مترابطة من المفاهيم والبنى الإنسانية والاجتماعية، بإمكانها أن تطرح من دون الحاجة إلى حلبي عجل السامري، بنيانًا معرفيا حديثًا ينافس الاستشراق؛ بعبارة أخرى يجب أن يكون الاستغراب النقدي مستقلاً في أموره كلها عن الغرب ليصبح قادرًا على أن يتعرف الغرب بصفته موجودًا مستقلاً وهويّة مستقلة لا يعني هذا حتمًا إنكار اكتشافات الغرب وإبداعاته العلمية والمعرفية. فالغرب له وجهان عامان شاملان، أحدهما الطبيعي، وجه العلم والمعرفة، والآخر وجهه الإيديولوجي. يجب أن يعرف الاستغراب الانتقادي وجوهَ الاختلاف في هذه الحالة سيتشكل طرح ابيستيمولوجي اسمه

« الاستغراب النقدي».

المصادر والمراجع :

-افتخار زادة محمود رضا،«مقدّمة عن خدمة الاستشراق وخيانته» مقالة منشورة فی سیر تاریخی اندیشه و ارزیابی شرق شناسى [المسار التاريخي للفكر الاستشراقي، وتقويمه]، طهران منشورات هزاران 1376ش [1997م].

- إيمان، محمد تقي، وأحمد كلاته ساداتي، منهجية العلوم الاجتماعية في الإسلام لمحة عن نظرية مسعود العالم تشودهاري، مقالة منشورة في مجلة روش شناسی علوم انسانی [منهجية العلوم الإنسانية]، قم: مركز بحوث الحوزة والجامعة، العدد 63، 139ش[2010م].

- إيمان، محمد تقي ، وأحمد كلاته ساداتي، «جولة في الإيديولوجيا والعلم»،

ص: 112

مقالة منشورة في مجلة معرفت فرهنگی و اجتماعی [المعرفة الثقافية والاجتماعية]، العدد 4، 1389ش [2010م].

-إيمان، محمد تقي، وأحمد كلاته ساداتي ،« دراسة تطبيقية حول مسؤولية العلوم الاجتماعية في الإسلام والغرب»، مقالة منشورة في مجلة روش شناسی علوم انسانی

[منهجيّة العلوم الإنسانيّة]،قم مركز بحوث الحوزة والجامعة، العدد 69، 1390ش[2011].

- إيمان، محمد تقي، وأحمد كلاته ساداتي، «منهجية العلوم الإنسانية لدى المفكرين المسلمين » (عرض نمط أنموذج من علم المنهج في العلوم الإسلامية)، قم مركز بحوث الحوزة والجامعة، 1392ش [2013م] .

-جوادي آملي، عبد الله، معرفت شناسی در قرآن [علم المعرفة في القرآن]، قم،منشورات إسراء، 1378ش [1999م].

-زاهد، سعيد، واحمد کلاته ساداتي،« أسلمة العلم لدى عطاس وفاروقي (دراسة تطبيقية)»، مجلة مطالعات معرفتی در دانشگاه اسلامی [ دراسات معرفية في الجامعة الإسلامية]، 1391ش [2012م]، العدد 50، ص 16.

-زماني محمد حسن آشنائی با استشراق و اسلام شناسی غربیان [تعرف الاستشراق وعلم معرفة الإسلام لدى الغربيين] ، قم ، 1388 ش [2009م]، منشورات المصطفى الدولية.

- دسوقي، محمد، سیر تاریخی و ارزیابی اندیشه شرق شناسي [المسار التاريخي للفكر الاستشراقي، وتقويمه]، ترجمه بالفارسية محمود افتخار زادة، طهران، منشورات هزاران.

- سعيد، إدوارد، شرق شناسی شرقی که آفریده غرب است [الاستشراق؛ الشرق الذي خلقه الغرب]، ترجمه بالفارسية أصغر عسكري خانقاه وحامد فولادوند،

ص: 113

طهران، 1361ش [2082م]، مؤسسة مطبوعات عطائي.

-شایگان ،داریوش،افسون زدگی جدید [خرافة الحياة الجديدة]، ترجمته بالفارسيّة فاطمة ولباني ،طهران 1386 ش [2007م] نشر وتحقيق فرزان روز.

-گلشني ،مهدي ،از علم سکولار تا علم دینی [من العلم العلماني إلى العلم الديني]، طهران، 1388ش [2009م]، مركز بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية.

Ahiska. M. (2010). Occidentalism in Turkey. questions- of Modernity and National Identity in Turkey Radio_Broadcasting، London: I. B. TaurisPublishers.

Choudhury. M. A (1995). The Epistemic Ontic Circular -

Continuity World View of Tawhidi Methodology in the Natural and Social Sciences' in M. A. Choudhury (ed.). The Epistemological Foundations of Islamic Economic, Social and Scientific order. Vol. 4. Ankara: Statistical. Economic and Social Research and Training Center for Islamic Countries.

(1997)؛Choudhury،M.A-

Money in Islam A Study in Islamic .

Political Economy، London and New York: Routledge.

Choudhury، M. A. (1998). Studies in Islamic Sciences- London: Macmillan.

Choudhury، M. A. (2006). Belief and knowledge -formation in the Tawhidi uperspace'. The Koranic Principle of Complementarities Applied to Social and Scientific Themes. Scienc and Epistemology in

.the Qur'an Lewiston، NY: The Mellen Press.

ص: 114

Choudhury, M. A. (2007). The Universal Paradigm and- Islam World- System Economy. Society. Ethics and Science. World Scientific Publishing Vo. Ltd. British Library Cataloguing in- Publication Data.

Cole J. R. (1992). Invisible Occidentalism: eighteenth -century -Indo- Persian constructions of the West. .Iranian Studies. No. 25.

Jafari M. F. (1992). Counseling Values and Objectives- A comparison of Western and Islamic Perspective'. A Paper was presented at National Seminar on Islamic Counseling Selangor, Malaysia. 17 December 1992. published in AJISS: Vol. 10. No. 3.

Kamali. M. H. (2003). Islam. Science and Rationality: A- .Brief Analysis' Islam Sciences Vol. 1, No. 1

Said. E. (1977). Orientalism. London: Penguin-

Sardar. Z. (1977). Science. Technology and- Development in the Muslim World. New Jersey: .Croom Helm. London: Humanities Press.

Snodgrass. J. (2003). Presenting Japanese Buddhis to the west. Orientalism.

Occidentalism and the Volumbian Exposition.- Chapel Hill: the University of North Carolina Press.

Tavakoli-Targhi. M. (2001). Refashioning Iran- Orientalism. Occidentalism and Histography, st Antony's Series. Oxford.

Venn C. (2000). Occidentalism. Modernity and Subjectivity. London: Sage Pub.

ص: 115

نقد الغرب في القارة الأفريقية (الدول العربية)

اشارة

ص: 116

محمد عبده .. من نقد الذات إلى تجديد الفكر والخطاب الديني

ا.د. مصطفى النشار

ا.د. مصطفى النشار(1)

حينما يكاد يخيم الظلام علي فكر المصريين ويمنعهم من رؤية الحقيقة فإن الله يقيض لهم طاقة نور تهديهم إلى الطريق المستقيم وتنتشلهم من عتمة الظلام إلى نور الحقيقية الوضاء.

وقد كان الإمام الشيخ محمد عبده هو طاقة النور التي فتحت أعين المصريين علي عصر جديد في الفكر والعقيدة معا؛ فهو الإمام المجدد في الخطاب والفكر الديني، كما هو ذلك الفيلسوف صاحب الموقف الفلسفي من كان ما في العصر من طريقة في التعليم اعتبرها عقيمة وغير مجدية، إلى نظام سياسي كرس التبعية وجثم علي صدر المصريين اعتبره نظاما استبداديا، إلى فهم مغلوط للقرآن اعتبره آفة المفسرين ورجال الأزهر ورجال الدين، فدعي إلى إعادة النظر فيه وقدم أمثلة علي هذا التجديد المنشود في تفسيره لبعض أجزاء القرآن وفي فتاواه الشهيرة، كما طالب بتطوير النظام التعليمي ليدخل فيه العلوم العصرية رياضية كانت أو طبيعية حيث أن القرآن دعى المؤمنين إلى اتخاذ العلم سلاحا للتقدم والعقل وسيلة للفهم الإبداع.

إنه الإمام المجدد، والفقيه المجتهد والفيلسوف الداعي للعقل والعلم ومدنية الدولة وقبل أن نتعرف علي هذه الوجوه المتعددة لمحمده عبده لنتساءل بداية عن

ص: 117


1- استاذ الفلسفة اليونانية من مصر

حياته وكيف تطور فكرة خلال هذه الحياه التي كانت قصيرة في عمر الزمن وان كانت عظيمة الأثر جليلة القدر عند كل من تعرف علي إنجازات صاحبها وبصماته التي لاتزال وستظل تفعل فعلها في كل من يطلع علي آثار صاحبها وأفكاره التجديدية التنويرية الملهمة.

أولا :حياة الإمام وتطوره الفكري (1):

ولد محمد عبده عام 1849م (1266ه_) لأسرة عريقة من أهالي محلة نصر بمركز شبرا خيت من مديرية البحيرة؛ فهو ابن عبده خير الله أحد أعيان هذه القرية ولأم ذات أصول عربية عريقة حيث تنسب إلى قبيلة بني عدي وتعود في نسبها إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ورغم أن أسرته لم تكن ثرية بمعايير ذلك الزمان، إلا أنها كانت مضرب الأمثال في الكرم والورع والشهامة.

ونستطيع أن ننظر إلى حياة الإمام علي أنها تطورت عبر عدة مراحل، أولها مرحلة النشأة والتلمذة، وثانيها مرحلة الأستاذية والانخراط في الحياة العامة وثالثها مرحلة التنقل والترحال ورابعها مرحلة الاستقرار بمصر والاشتغال بالمناصب الرسمية الكبرى.

أما المرحلة الأولي فتبدأ منذ نشأة الإمام في تلك الأسرة العريقة حيث أراد له والده منذ البداية تنشئة علمية فعلمه القراءة والكتابة في المنزل ثم انتقل إلى دار حفظ القرآن

(الكتاب) حتى أتم حفظه في عامين اثنين كما يروي لنا ذلك بنفسه في سيرته الذاتية، وبعد ذلك حملة والده للذهاب إلى طنطا ليكمل تعليمه في المسجد الأحمدي تحت رعاية أخوه لأمه وكان قد بلغ حوالي الثالثة عشرة من عمره؛ حيث يروي لنا هو أنه قد بدأ تعلمه في المسجد الأحمدي عام 1279 حيث تعلم في البداية

ص: 118


1- اعتمدنا في التأريخ لحياة الإمام محمد عبده علي: - مذكراته التي نشرت بالهيئة المصرية العامة للكتاب بمقدمة من طاهر الطناحي بالقاهرة 2011م. - السيد محمد رشید رضا تاريخ الأستاذ الإمام ، مطبعة المنار بمصر 1931م سعيد زايد الإمام محمد عبده المصلح والمجدد منشور بكتاب: الشيخ محمد عبده - بحوث ودراسات عن حياته وأفكاره، الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر تحت إشراف أ.د/ عاطف العراقي، القاهرة، 1995م.

فنون تجويد القرآن، ثم بدأ من عام 1281ه_ الجلوس في دروس العلم حيث تلقى شرح الكفراوي علي الأجرومية، وقضى في ذلك عام ونصف العام تعثر خلالها، أنه يقول حتى أنه لم يكن يفهم شيئا «الرداءة طريقة التعليم حيث كان المدرسون يفاجئونهم بمصطلحات نحوية أو فقهية لايفهمونها» .

مما ترتب عليه أنه أدركه اليأس من النجاح في هذا المجال وهرب عند أخواله مختفيا مدة ثلاثة شهور، ولما عثر عليه أخوه الشيخ مجاهد حاول أن يعيده إلى المسجدالأحمدي مرة أخرى ولكنه رفض وعاد إلى بلدته محلة نصر» علي نية ألا يعود أبدأ إلى طلب العلم، فقد قر في عزمه آنذاك أن يشتغل بملاحظة الزراعة كما كان يشتغل الكثير من أقربائه.

ولما عاد إلى قريته تزوج أملاً في الاستقرار في القرية، لكن والده أبى عليه ذلك وأصر علي أن يصطحبه أحد أقربائه الأشداء بعد أربعين يوما من زواجه علي صهوة حصان وشيعه بنفسه من محطة سكة حديد إيتاي البارود ليركب القطار المتجه إلى طنطا، لكنه تعلل لهذا المرافق بشدة الحر وطلب أن يستريحا ولما رفض طلب إليه أن يعود هو إلى القرية بصحبة الحصان وهو سيتجه إلى طنطا صبيحة اليوم التالي بعد أن يقضى الليلة مع أقربائه ببلدة غالب.

ولكن ما حدث أنه استقر هناك خمسة عشر يوما كاملة التقى خلالها بالشيخ درويش الذي حول اتجاهه إلى العلم مرة أخرى، فلقد جاءه الشيخ درويش هذا ومعه کتاب لأحد أساتذته من الصوفية وأعطاه إياه ليقرأه تمنع صاحبنا في قراءة ما فيه يومين ولما ألح عليه الشيخ درويش وأخذ يشرح له معانيه حتى استقر في نفسه أهمية العلم والتبحر فيه لأن هذا الكتاب الصوفي احتوي علي معارف الصوفية وحديثهم عن آداب السلوك وكيفية ترويض النفس على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل، ولما أتى اليوم الخامس كان قد قرر البعد عن الشطط وعاد مرة أخرى إلى حب المطالعة والفهم فسأل شيخه الشيخ درويش في اليوم السابع عن طريقتهم الصوفية، فقال طريقتنا الإسلام ، ولما تساءل صاحبنا أليس كل هؤلاء بمسلمين؟

ص: 119

رد الشيخ قائلا: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم ينازعون علي التافه من الأمور ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب!

ولما سمع صاحبنا هذا الكلام «كان - وكما يقول هو - كالنار التي أحرقت جميع ما لدي من المتاع القديم متاع الدعاوى الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون وان كنا في غمرة ساهية».

لقد كانت هذه الأيام أياما فارقة في حياة صاحبنا لدرجة أنها وجهته وجهة أخرى كان يتصور أنه لن يعود لها بعد، وجهة التعمق في المعرفة الدينية، فلقد أخرجه هذا الشيخ - كما يقول هو - من سجن الجهالة إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى أخلاق التوحيد ولقد عاد بعدها إلى طنطا والمسجد الأحمدى مرة أخرى ولكنها فيما يبدو كانت عودة مختلفة حيث وجد نفسه للمرة الأول يفهم ما يقرأ وما يسمع لدرجة أنه تحول إلى من يطالع لرفاقه الدروس ويشرح لهم المعاني.

وذات يوم وهو في غمرة ذلك رأي درويشا مجذوبا قال له قولة وجهته للدراسة في القاهرة، لقد قال له هذا الدرويش دون أن يعرف من هو «ما أحلي حلوى مصر البيضاء» ففهم من ذلك أنه عليه أن يتجه إلى القاهرة لاستكمال تعليمه بالأزهر الشريف، وقد كان حيث سافر إلى القاهرة في منتصف شوال من عام 1282ه_ حيث بدأ يتلقى العلم هناك علي أيدي أساتذة الأزهر وشيوخه مع المداومة علي العودة إلى قريته كل شهرين حيث كان يلتقي في أيامه بالقرية بالشيخ درويش فيتبادلا المعرفة والدرس معا، والطريف أن هذا الشيخ كثيرا ما سأل صاحبنا، «أما درست المنطق، أما درست الحساب، أما درست شيئا من مبادئ الهندسة ولما أخبره صاحبنا بأن هذا العلوم ليست معروفة في الأزهر قال له التمس هذه العلوم عند من يعرفها.

علي كل حال فقد كان صاحبنا قد أصاب في السنوات الثلاث التي قضاها في الأزهر إلى هذا الحين ثلاث سنوات حظا غير قليل في دراسة العلوم النقلية والعقلية وخاصة علي يد الشيخ درویش خضر السابق ذكره والشيخ محمد الرفاعي

ص: 120

والشيخ عليش والشيخ حسن الطويل الذي كان عالما حاد الذكاء عارفا بالرياضيات والهندسة والفلسفة القديمة ملما بمصطلحاتها والشيخ محمد بسيوني وغيره من العلماء واشتغل هو نفسه بدراسة علوم اللغة والفلسفة والمنطق والتوحيد ووجهته هذه الدراسات المستقلة وجهة اجتماعية وفكرية وإدارية ووطنية وسياسية جديدة وقد عظمها في نفسه حقا اللقاء بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي صاحبه في أول زيارة له لمصر سنة 1287ه_ وأخذ يتلقى عنه منذ ذلك الحين بعض العلوم الرياضية والفلسفية، وكم عاني من جراء ذلك هو وأستاذه جمال الدين من نقد وأقاويل تشكك في أهمية هذه العلوم ولما كان يعرض ذلك علي شيخه الأول الشيخ درويش في بلدته كان يشد من أزره قائلا له: ما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة.

وعلى كل حال فقد واصل صاحبنا دراسته في الأزهر تحت رعاية هؤلاء الشيوخ الأفاضل حتى حصل علي شهادة العالمية الأزهرية عام 1294ه_، وذلك بعد حوالي اثني عشر عاما من التحاقه بالدراسة فيه.

وهنا تبدأ المرحلة الثانية من حياة فيلسوفنا الفكرية حيث بدأ مرحلة الأستاذية من حياته عقب تخرجه وحصوله علي هذه الشهادة العالمية من الأزهر حيث انتقل من كرسي التلميذ إلى ممارسة دور الأستاذ وقد كانت دروسه في الجامع الأزهر تكتسب طابعاتجديد يا حيث علم فيها المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يقرأ علي تلاميذه تهذيب الأخلاق المسكويه في الوقت الذي كان يقرأ عليهم أيضا جانبا من تاريخ أوروبا حيث كان يدرس لهم كتاب فرانسوا جيزو تاريخ المدنية في أوروبا وفرنسا» الذي كان قد نقله إلى العربية حينئذ نعمة الله خوري تحت عنوان التحفة الأدبية في تاریخ تمدن الممالك الأوروبية».

وحينما عين مدرسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم حديثة النشأة حينذاك درس لطلابه مقدمة ابن خلدون كما ألقى من خلالها ومن خلال بعض المصادر الغريبة دروسا في فلسفة التاريخ لم يحفظها لنا التاريخ للأسف، وقد عين الإمام أيضا مدرسا في الألسن لكنه تخصص فيها في تدريس اللغة العربية والأدب العربي والثقافة الإسلامية.

ص: 121

وفي هذه المرحلة أيضا لم ينس الإمام المشاركة في الحياه الاجتماعية والسياسية حيث بدأ الكتابة لجريدة الأهرام منذ إنشائها عام 1876م، وكانت مقالاته كلها تتخذ طابعا إعلاميا وتنويرا واضحا حيث كانت من أوائل مقالاته فيها عن «الكتابة والقلم»، ومقال عن «المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني» ومقالا عن «العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية »إلى غير ذلك عن المقالات التي تحض جميعها علي التغيير واتخاذ العقل أساسا لحياة علمية واجتماعية سليمة.

وربما كانت هذه المقالات الصحفية هي مادعا رياض باشا رئيس النظار لاختياره لرئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية وهي التي كانت بمثابة نشرة رسمية لأخبار الدولة فحولها الشيخ الإمام إلى جريدة تكتب فيها المقالات الأدبية والاجتماعية حيث أنشأ فيها قسما غير رسمي لنشر هذه المقالات الإصلاحية التنويرية وشاركه فيها سعد زغلول والشيخ عبد الكريم سلمان وغيرهما، وقد نشر فيها هو نفسه مقالات ينتقد فيها أداء بعض أجهزة الحكم وخاصة الأجهزة المشرفة علي نظارة وزارة المعارف، وقد ترتب علي هذه المقالات النقدية لنظارة المعارف إنشاء المجلس الأعلى واختياره عضوا فيه. كما نشر فيها أيضا مقالات تهتم بنقد ما هو غير مستحب من أخلاق وعادات اجتماعية وسياسية ودينيةوتحدث كذلك عن ما يصلح لمصر من نظم للشورى السياسية.

وقد ازداد نشاط الشيخ محمد عبده في هذه الفترة حيث بدأ الكتابة لكل الصحف المعروفة آنذاك، والمشاركة في عشرات المجالس والاتصال بالهيئات المختلفة حكومية ومدنية، فكان شعلة من الناشط والممارسة للعمل والجدية في التعبير عن آرائه الإصلاحية والدفاع عنها، وكان بكل هذا النشاط الإصلاحي التنويري سببا من أسباب قيام الثورة العرابية. وحينما أدرك خصومه ذلك قدموه للمجاكمة معتبرين إياه من زعماء الثورة وكان نتيجة هذه المحاكمة أن قضى فى السجن ثلاثة شهور للتحقيق ثم صدر الحكم بنفيه ثلاث سنوات خارج مصر.

وهنا تبدأ المرحلة الثالثة من حياته؛ مرحلة التنقل والترحال، حيث بدأت هذه

ص: 122

المرحلة بالتوجه أولا إلى بيروت وكان ذلك عام 1883م، وكان عمره آنذاك حوالي أربعة وثلاثين عاما. وقد بدأ اثناء مقامة في بيروت بالتدريس في المدرسة السلطانية وبشرح أمهات الكتب مثل« نهج البلاغة» و «ديوان الحماسة» و«مقامات بديع الزمان»، كما قيل أنه ألقى بعض الدروس في المسجد العمري في تفسير القرآن الكريم علي نحو غير مسبوق.

وكذلك ألقى دروسا في التوحيد جمعت بعد ذلك في كتابه «رسالة التوحيد»، ثم ترجم رسالة الأفغاني «الردّ علي الدهريين »عن الفارسية وسرعان ما دعاه السيد جمال الدين الأفغاني إلى باريس. وهناك اشتركا معا في تأسيس أهم دورية عربية فی ذلك الزمان والمكان هي مجلة العروة الوثقى وقد كان لهذه المجلة تأثيرا واسعا في إنارة الأفكار مما أقلق الإنجليز والفرنسيين، وبالطبع فقد اختلفت كتابات الإمام في هذه المجلة عن كتاباته في «الوقائع» حيث شغل في الأولى بقضايا الإصلاح لكل العالم الإسلامي وحاول في مقالاته فيها الكشف عن الوجه الحقيقي الصافي للإسلام،ذلك الوجه الذي لايتعارض مطلقا المدنية ولا يعوق التقدم بل يحض عليهما ويدفع إليهما .

ومن باريس سافر الإمام إلى لندن وخطب في البرلمان الإنجليزي وهو يرتدي عمامته الشهيرة، كما التقى بالكثير من رجال الصحافة والإعلام والمثقفين وأوضح للجميع مدى كراهية المصريين للحكم الأجنبي وهدد بعدم دفع الضرائب من المصريين مما يجعل الحكم الأجنبي مستحيلا وأكد لهم أن العقيدة الإسلامية تحرم علي صاحبها الاستسلام للغير.

ولكن يبدو أن كل ذلك لم يكن فيه جدوى حيث ظل الاستعمار الإنجليزي موجودا دون أن يتزحزح، وبدأ الإنجليز في اضطهاده واضطهاد مجلة «العروة الوثقى» أيضا فتوقفت المجلة عن الصدور بعد ثمانية عشر عددا من أعدادها.

وقد أحبط ذلك كلا من جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده فسافر الأول

ص: 123

إلى فارس، ورجع الثاني إلى بيروت حيث واصل هناك ما كان قد بدأه من رسالته الإصلاحية وخلق حركة علمية راقية في بيروت؛ فجعل من بيئته ندوة للبحث العلمي والأدب، واتصل بالجرائد وكتب في جريدة «ثمرات الفنون» مقالات عديدة وبالطبع فلم يخلو الأمر وهو علي هذه الحالة من النشاط العلمي المكثف النشاط العلمي المكثف من حسد الحاسدين وكيد الكائدين مما أدي بالشيخ الإمام إلى ترك التدريس مضطرا.

وبعد أن قضى الإمام هذه السنوات الست في السفر والترحال مضطرا، عاد إلى مصر عام 1989، ليعاوده بنفس الهمة والنشاط دوره التنويري وليبدأ من هذا التاريخ المرحلة الأربعة من حياته الفكرية الخصبة مرحلة الاستقرار وتولي المناصب الرسمية بالبلاد، حيث أنه في نفس عام عودته عين قاضيا بمحكمة بنها وتدرج في سلك القضاء حتى أصبح في عام 1891 مستشارا بمحكمة الاستئناف. ويبدوأن تعيينه في هذه المناصب القضائية كان محاولة من الخديوي توفيق ابعاد الإمام عن المناصب القيادية في مجال العمل الأكاديمي حيث كان المفروض أن يعمل ناظرا لمدرسة دار العلوم أو حتى أستاذا فيها لأنه كان قد بدأ حياته العملية مدرسا فيها.

وما أن توفى الخديوي توفيق وتولي الأمر الخديوي عباس عام 1892 عاودته فرصة استعادة دوره التنويري وممارسة أعمال الإصلاح الديني وذلك لقربه من الخديوي الذي أعطاه صلاحيات واسعة مكنته من فرصة إصلاح الشعب الثلاث المتصلة بالدين وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية .

ولما بدأ من إصلاح الأزهر نجح في بعض الإصلاحات الشكلية فزاد رواتب المدرسين الشرعية ونظم أمور الجراية ومساكن الطلاب والإشراف الصحي عليهم لكنه حينما بدأ يتعرض لإصلاحات تتعلق بجوهر رسالة الأزهر من حيث تطوير المواد الدراسية وطرق التدريس بدأت المعارضة لجهوده وزادت العقبات في طريقه ،ولكن لم ييأس وظل يحاول إلى أن لاحت الفرصة ليصبح شيخا للأزهر لكن الخديوي فاجأه بتعيينه مفتيا للديار وكان ذلك عام 1899م وعين غيره شيخا للأزهر مما أضعف فرصه لإصلاح الأزهر كما كان يطمح إلى ذلك.

ص: 124

وعلي كل حال فلم يتوقف الشيخ الإمام عن محاولة ذلك عن طريق الحوار مرة والكتابة مرات وكم كان شديد الجرأة في التعبير عن آرائه في وجه الخديوي ومشايخ الأزهر ، فكان نتيجة ذلك أن حاربوه وكتبوا ضده التقارير السرية، وأشاعوا بين العامة کفره وزندقته، لكنه واجه كل ذلك بثبات مواصلا ما استطاعه من أسس الإصلاح سواء من خلال مشاركاته في المناصب الحكومية وصلته بدوائر صنع القرار أو من خلال جهود تطوعية قادها مثل تأسيسه وأخرين الجمعية الخيرية الإسلامية ورئاسته لها عام 1900م. كما أسس في ذاته الوقت جمعية إحياء العلوم العربية» التي قامت بتحقيق ونشر العديد من كتب التراث والمخطوطات التراثية.

ونظرا لأن فتاوى الإمام كانت ذات طبيعة ثورية ولم يكن يخشي فيها لومة لائم، كان من الطبيعي وحال الغالبية العظمي من الأزهريين حال الجمود والتقليد أن يهيجوا عليه ويهاجمونه، بل ويتأمرون عليه لدرجة أن لفقوا له صورة شمسية مع بعض نساء الإفرنج. وهكذا حورب بأحط الوسائل ليس من زملاء الأزهر فقط، بل وكذلك تآمر عليه الخديوي عباس حلمي كرد فعل طبيعي لجرأة الشيخ في الحق وتوجيهه الانتقادات إلى مواقفه.

وقد أدي كل ذلك إلى أن يفضل الشيخ محمد عبده الاستقالة من منصب المفتى ومن مجلس إدارة الأزهر عام 1905 واكتفى بالعمل في مجلس شورى القوانين ومجلس الأوقاف والجمعية الخيرية الإسلامية والمشاركة في امتحانات دار العلوم وإعداد مشروع مدرسة القضاء.

ولم تدم حياته عدة شهور بعد ذلك حيث ألم به مرض عضال أعيا الأطباء، وتوفي في الحادي عشر من يوليو عام 1905م عن نحو ستة وخمسين عاما وشيعت جنازته رسميا في الإسكندرية والقاهرة وكان مشهدا مهيبا دفن علي أثره بمدافن المجاورين وقد نعته كل الصحف العربية والسورية ووصفت بدقة مشهد وفاته وجنازته المهيبة. وقد رثته جريدة الشرق الغراء في عددها الصادر يوم الأربعاء من جمادي الأول عام 1323ه_ الموافق 12 يوليو تموز عام 1905 قائلة:

ص: 125

عليكم سلام الله ما ذكر اسمكم - وذلك بين الناس آخره النشر

فساوي قلوب الناس الحزن رزوه - كان صدر الناس في حزنه صدر

فإن أظلمت أرض الشام لحزنه - فلم يخل من ذاك الصعيد ولا مصر

ثانيا : رسالته الفكرية:

لقد حدد محمد عبده بنفسه رسالته الفكرية في ثلاث مهام رئيسية هي (1):

تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه لتتم حكمة الله في حفظ العالم الإنساني، وأنه علي هذا الوجه يعد صديقا للعلم باعثا علي البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترم الحقائق الثابتة مطالبا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.

إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد علي الكافة منشأ أو مترجما من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس.

التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب وما للشعب من حق العدالة علي الحكومة.

وقد أشرنا فيما سبق إلى جهود محمد عبده في إصلاح أساليب اللغة العربية وتطويرها من خلال تحريره لمجلات شتى وكتاباته الصحفية كذلك من خلال خطابه الفقهي وفتاواه الشهيرة وجهوده في إصلاح الأزهر ........ الخ.

أما فيما يخص جهوده السياسية فقد ألمحنا كذلك في سرد أحداث حياته إلى جرأته في الحق أمام الحكام والمسئولين وأنه لم يكن يخشي في الحق لومة لائم، كما

ص: 126


1- محمد عبده، مذكرات الإمام، تقديم طاهر الطناحي، 24-25

أنه كان حريصا طوال حياته علي المشاركة في صنع الوعي لدى الرأي العام في مصر بمعرفة حقوق الأفراد علي الحكومة والحاكم فهو بشر يخطئ ويصيب وأن رده عن الخطأ لا يكون إلا بنصح الأمة ومفكريها له بالقول وكم واجه الشيخ الإمام حكام عصره رغم أن «الاستبداد كان في عنفوانه والظلم قابض علي صولجانه ويد الظالم من حديد والناس كلهم عبيد له أي عبيد علي حد تعبيره.

ولعل ذلك هو ما حدا بالشيخ الإمام إلى القول في معرض مناقشاته الفكرية مع الفيلسوف الغربي الشهير رينان :« فإن شئت أن تقول إن السياسية تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من لفظ السياسة، ومن معني السياسة من كل حرف يلفظ من كلمة الرياسة ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس(1).

لقد كان محمد عبده إذن يكره السياسية وكل من ينتمون إليها، ومع ذلك فقد كان حريصا علي أن يوجهها في بلده قدر استطاعته لخدمة المصريين وصالح المسلمين

«ما استطاع إلى ذلك سبيلا» .

وعلي أية حال فإن نجاح محمد عبده في رسالته الإصلاحية لا يقاس بمدى ما حققه من نجاح في المسألتين الثانية والثالثة من مهامه الرئيسية التي قال أنه اضطلع بها، وإنما يقاس في اعتقادي بمدى نجاحه في المهمة الأولي الخاصة بتحرير الفكر الديني من التقليد والجمود.

وفي توضيح مدى ذلك النجاح ينبغي التمييز به جانبين من جوانب رسالته في هذا الإطار، أولهما الجانب النقدي الذي أرتكن علي تساؤل ظل يشغل الإمام طوال حياته وهو ما أسباب الجمود لدي المسلمين وما هي الأسباب الكامنة وراء هذا

ص: 127


1- محمد عبده الإسلام دين العلم والمدنية، تحقيق ودراسة د. محمد عاطف العراقي درا قباء للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة 1998، ص 164

التخلف والجمود الذي يعاني منه العالم بالإسلامي؟ وثانيهما التساؤل عن الأسس التي يمكن أن يبني الإصلاح الديني علي أساسها وكيف يمكن لأمة تمتلك هذا الدين العظيم أن يتجدد فكرها الديني وتنهض من كبوتها؟!.

والحقيقة أن ماقدمه محمد عبده في هذين الجانبين إنما يكشف عن عقلية فلسفية تجديدية، حيث أن طرحه لتلك التساؤلات كان ينم عن موقف فلسفي أصيل لديه وليس مجرد نزوع لأحد الأئمة إلى التجديد بأي حال وبأي شكل؛ فمحمد عبده قد تميز حقا بهذه العقلية الفلسفية النقدية التي تنزع إلى إعادة البناء ورسم طريق جديد للتقدم والنهوض . وقد أحسن أساتذتنا الأفاضل حينما نظروا إلى الإمام محمد عبده علي أنه

«رائد الفكر المصري الحديث وعلي أنه من بعث التفكر الفلسفي في مصر (1)».

ثالثا: الجانب النقدي من فلسفته الإصلاحية في تجديد الفكر الديني:

لقد كان محمد عبده مؤمناأ بأن النقد هو الوسيلة المثلى للإصلاح والتجديد حيث أنه به تكشف العيوب وتبدو النقائص ومواطن الضعف، وقد كتب في ذلك قائلا في إحدى مقالاته: إن الانتقاد نفثه من الروح الإلهي في صدور البشر، تظهر في مناطقهم سوقا للناقص من الكمال، وتنبيها يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب اللائمة تتنفس عنه القلوب لتقريع الناقصين في إهمالهم ورفع طلاب الكمال إلى منتهي ما يمكن لهم(2) .

ويبدو أن النقد كان من السمات العقلية الواضحة لمحمد عبده منذ حداثة سن ،وقد سبق أن أشرنا من سيرة حياته كيف أنه رفض الاستمرار في التعليم علي يد مدرسي المسجد الأحمدي في مطلع التحاقه بهم وانتقد طريقتهم في التعليم. لقد رفض من

ص: 128


1- أنظر : كتاب أستاذنا المرحوم د. عثمان أمين بعنوان محمد عبده - رائد الفكر المصري“، نشرة المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة .1996م وأيضا . مصطفى لبيب عبد الغني الإمام محمد عبده وبعث التفكير الفلسفي في مصر، ضمن كتابه نظرات في فكر الإمام محمد عبده، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 2010م
2- نقلا عن د. زينب عفيفي شاكر النزعة النقدية في فكر محمد عبده ضمن كتاب الشيخ محمد عبده الذي صدر بإشراف د. عاطف العراقي عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 1995 ، ص 173

البداية الأسلوب التلقيني الجامد الذي كانوا يستخدمونه مع التلاميذ وطلاب العلم. وقد لازمته هذه السمة النقدية طوال حياته دارسا ومعلما وكاتبا ومفسرا وصاحب وجهة نظر جديدة في الفتاوى الشرعية.

لقد ساعدته هذه الروح العقلية النقدية علي التمييز بين الإصلاح الحقيقي في منابعه الأصلية الصافية النقية، وبين الإسلام كما يعيشه ويتصوره المسلمون المعاصرون. إن المسلمين المعاصرين يعاب عليهم الكثير مما ليس في حقيقة إسلاما؛ «فما تراه الأن مما تسميه إسلاما هو ليس بإسلام وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها، ووصل الناس بما عرض علي دنيهم من البدع والخرافات إلى الجمود» (1).

أ-صور من الجمود نحتاج للتحرر منها:

وقد توقف محمد عبده كثيرا أمام هذا الجمود الذي أصاب الإسلام علي يد المسلمين وأخذ يعدد مظاهرة ويوضح مدى ما شكله من جناية جنت علي صحيح الدين وأفقدته قوة العقل الذي دعى إليه وسعة العلم الذي أمر أتباعه أن يحصلوه. ومن هذه الجنايات التي سببها الجمود في الدين مايلي:

1 - جناية الجمود علي اللغة العربية:

لقد اعتبر محمد عبده أن أخطر جناية لهذا الجمود علي الإسلام تبدأ بما حصل للغة العربية علي يد أهلها الذين قصروا في إجادتها لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين علي فهم الدين الفهم الصحيح ولا الحفاظ علي كتب الأولين من الفقهاء والأئمة لدرجة أن المرء إذا ما أراد الوصول إلى أحد هذا الكتب فكأنه- وعلي حد تعبير- الإمام« يطلب المصحف في بيت الزنديق ». إن ضياع آثار الأقدمين وعدم فهم ما كتبوا إذا ما وجدت كتابتهم، إنما يعني ببساطة أنه إذا ما تكلم أحد بلغة هؤلاء القوم وهي لغة ديننا وكتابنا المقدس لا يجد من يفهم ما يقول ؛ «وأي ضرر أعظم من عجز القائل

ص: 129


1- محمد عبده الإسلام دين العلم والمدينة سبق ذكره ص 167.

عن أن يصل بمعناه إلى العقول ؟!(1)». إن الجناية علي اللغة العربية وهي لغة القرآن ولغة الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، إنما هي جناية على فهم الدين الصحيح.

2 - جناية الجمود علي النظام والاجتماع:

كان الاختلاف في الفهم حول العقائد يعد فيما مضى من اختلاف الأشخاص في الرأي والنظر ولم يكن يفسد للود قضية لأن الأصل لدي الجميع واحد وهو القرآن وما صح من السنة النبوية، ولكن لما جاء« دور الجمود - دور السياسة – أخذ المتخالفون في التنطع وأخذت الصلات تتقطع وامتازت فرق وتألفت شيع، كل ذلك علي خلاف ما يدعو إليه «الدين وقد رد الإمام كل هذه التمييزات الوهمية إلى مسائل لفظية وضرب من الشهوات وضروب السياسات التي اشعلت نيران الحرب بين المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذا الفرقة التي يظن الناظر فيها الآن أنها لا دواء لها » (2) .

إنه الجمود الذي جعل كل منتمي لها إلى إحدى هذه الشيع يتجمد عند رأي شيوخها دون أن يتحلي بمرونة معرفة كل الآراء وكل وجهات النظر والمفاضلة بينها بما يوافق العقل وصحيح النقل.

3 - جناية الجمود علي الشريعة وأهلها:

وهذا الجمود - علي حد تعبير الإمام - في أحكام الشريعة «قد جر إلى عسر حمل الناس علي إهمالها؛ كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام سمحا تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق علي أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقى إليها، وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها»(3).

والحقيقة التي يراها الإمام واضحة هي أن الشريعة تتسع لكل المستجدات وأنها

ص: 130


1- المرجع نفسه، ص169
2- المرجع نفسه، ص 170
3- المرجع نفسه، ص 171

قابلة لأن تتطور بتطور الحاجات لكن ضيق أفق أهلها وعدم فهمهم الدقيق لها يجعلهم يضيقونها علي أنفسهم وأهليهم.

جناية الجمود علي العقيدة:

وبالطبع فإن هذا الجمود في العمل بالعقيدة يخلف جمودا في العقدية ذاتها، وهذا الجمود الأخير في رأي الإمام أشد ضررا ، وقد ترتب هذا وذاك علي أن الناس« نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا يجوز الأخذ فيه بالظن وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق بالرسالة وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة وفرض العبادات وهيآتها»(1).

وقد أكد الإمام علي «أن كل ما نراه من البدع المتجددة إنما منشؤه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما قال الأول- أي أول- بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإعمال العقل في العقائد علي خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنن الطاهرة» (2) .

جناية الجمود في النظم التعليمية:

وقد أشار الإمام إلى الجمود الذي ساد النظم التعليمية سواء في المدارس النظامية الحكومية أو الأهلية، وكذلك إلى الجمود في المدارس الأجنبية؛ فإن كان تلاميذ المدارس الأولي يتعلمون وفق نظام تقليدي لا يستطيع تحصينهم بصحيح الدين وإعمال العقل فإن تلاميذ المدارس الأجنبية يعانون من أنهم يتعلمون ما يمكن أن يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون ، إذ« تترك أفئدتهم فارغة خاوية من كل دافع أو زاجر ، اللهم إلا زاجرا عن خير أو دافعا إلى شر، مما يجعل إلههم هواهم وإمامهم شهوتهم» (3).

ص: 131


1- المرجع نفسه، ص174
2- المرجع نفسه، ص174-175
3- المرجع نفسه، ص 177

ب دعوات تجديدية آفتها التقليد:

ولعل صور الجمود التي حصرها الإمام فيما سبق قد انعكست على تحليله المحاولات الاجتهاد السابقة حيث وقف منها موقفا نقديا حيث اعتبر أن دعوة الإمام أبن تيميه لم تهتم إلا بالظاهر ظاهر النصوص رافضة أي تدخل للعقل، بل أنها رفضت من الأصل وجود مشكلة التأويل ولم تبحث لها عن حل(1).

كما رفض أيضا محاولة محمد عبد الوهاب لأنها رفضت التمدن عامة ودعت إلى إتباع السلف الصالح دينا ودنيا ولم تدرك أن الإتباع هنا يؤدي إلى الجمود والتخلف، لقد كان أصحاب هذه الدعوة أضيق أفقا من الدين ولم تلفت إلى الأصول التي قام عليها(2) .

لقد كان محمد عبده يري أن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في كتب الأولين، ويتساءل هل نوقف سير العالم لأجل هذه الكتب ؟! ويحمل فقهاء الأمة المتقاعسين عن مراعاة مصالح الناس وفقه الضرورة المسئولية أمام الله عن هذا التقاعس ويؤكد أنهم يجب عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان ويطبقوا عليها الأحكام بصورة يمكن للناس إتباعها(3).

ولم تكن الرؤى النقدية لمحمد عبده بقصد الرفض لآراء الآخرين واجتهاداتهم، بل علي العكس فقد كان يعتبر أن هذا النقد جاء بغرض تمحيص هذه الآراء وتقويمها، حيث كان يعتبر أنه« لولا النقد ما شب عالم عن نشأته ولا أمتد ملك عن منبته، أتري لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم أكانت تتسع دائرة العلم وتتجلى الحقائق للفهم ويعلم المحق من المبطل» (4).

والحقيقة أن أبرز ما ميز نزعة محمد عبده التجديدية هو هذه القدرة النقدية الفائقة التي جعلته يعمل عقله في كل ما حوله، وفي كل ما ينتجه من فتاوى وأراء حتى أصبح

ص: 132


1- د. زينب عفيفي شاكر نفس المرجع السابق، ص 178
2- المرجع نفسه
3- د. مصطفى لبيب، نظرات في فكر الإمام محمد عبده، سبق الإشارة إليه ص 96
4- نقلا عن نفس المرجع السابق، ص 97

بحق إمام المجددين في عصره وامتدت رسالته التجديدية بآثارها الإيجابية إلى وقتنا هذا، وستظل رؤيته التجديدية بلاشك ذات أثر باق ما بقى الإسلام دينا يؤمن الناس به وعقائد وشرائع يسعي بها الناس في الأرض لتحقيق التقدم والرقى. ولعل ذلك مايدعونا الآن لأن نتساءل عن الأسس بنى عليها محمد عبده تجديده؟.

رابعا: الجانب الإيجابي من فلسفة الإمام التجديدية للفكر الديني :

والحقيقة أن جوهر دعوة الإمام التجديدية يتمثل في ذلك الصفاء الذهني والنقاء العقائدي الذي جعله يعود إلى النظر في حقيقة الإسلام ويرده إلى أصوله الثابتة التي لاخلاف حولها شرعا وعقلا .

فهو يري بكل بساطة ووضوح«أن الإسلام في الحقيقة دعوتان؛ دعوة إلى الاعتقادبوجود الله وتوحيده ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلي الله عليه وآله وسلم»(1).

أ - الأصول الثمانية للنزعة التجديدية:

والنزعة التجديدية التي يتبناها الإمام تقتضي تجديد الفكر الديني عن طريق العودة إلى الأصول الحقيقية للإسلام والعمل بموجبها وقد عدد من هذه الأصول ثمانية هي(2).

النظر العقلي لتحصيل الإيمان حيث أن النظر العقلي هو وسيلة الإيمان الصحيح.

تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض حيث اتفق أهل الملة الإسلامية علي أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل وبقى في النقل طريقان؛ طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في عمله، وطريق تأويل النقل مع المحافظة علي قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.

ص: 133


1- محمد عبده الإسلام دين العلم والمدنية سبق ذكره، ص 127
2- أنظر : نفس المصدر السابق، ص 130-144

البعد عن التكفير حيث إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل

الإيمان من وجه واحد حمل علي الإيمان.

الاعتبار بسنن الله في الخلق، حيث أن لله في الأمم والأكوان سننا لا نتبدل، والسنن هي الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلي حسبها تكون الآثار وهي التي تسمي شرائع ونواميس.

قلب السلطة الدينية، فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد ولا سيطرة علي إيمانه، وليس لمسلم علي مسلم مهما علا كعبه في الإسلام علي آخر مهما انحطت منزلته إلا حق النصيحة والإرشاد ومن هذا فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه.

حماية الدعوة لمنع الفتنة، فرغم أن الدين الإسلامي دين جهادي إلا أن ذلك لا يعني أبدا كما يقول خصومه أنه دين قتل لأن القتال فيه إنما شرع لرد اعتداء المعتدين علي الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم. ولم يكن ذلك للإكراه علي الدين ولا للانتقام من مخالفيه إن القتل ليس من طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة، فالإسلام الحربي كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ثم يترك الناس وما كانوا عليه من الدين.

مودة المخالفين في العقيدة، وقد بدا ذلك في إباحة الإسلام للمسلم الزواج من الكتابية سواء كانت مسيحية أو يهودية ولم يفرق الإسلام في حقوق الزوجية.

الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وقد بدا ذلك في كل الأمور الدينية التي خففت بموجب الأمور الدنيوية؛ فالحياة في الإسلام مقدمة علي الدين حيث نهى الإسلام عن تقشف الزهادة وأعطي للصائم رخصا للإفطار وأباح للمسلم الزينة والتطيب ودعا للتوسط في الإنفاق. كما نهي عن الغلو في الدين في الوقت الذي دعا المسلم فيه إلى طلب كل ما يكسبه الرفعة وال والسؤدد والعزة والمجد وأكد علي أنه لا يتوفر لهم ذلك إلا بالعلم وطلبه في أي مكان ومن أي لسان.

ص: 134

وقد أفاض محمد عبده في بيان كيف أن تمسك المسلمون الأوائل بهذه الأصول والعمل بموجبها هو ما جعلهم سادة العالم وهو ما مكنهم من الإبداع في كل العلوم أدبية كانت أو عقلية أو كونية(1).

ب منهجه التجديدي في تفسير القرآن:

علي الرغم من أن الإمام لم يفسر القرآن كاملا، وإنما اقتصر علي تفسير سورة الفاتحة والأجزاء الخمسة الأولي منه، إلا أن ملامح عديدة تبدو من خلال ذلك لما اتبعه من رؤى تجديدية يمكن البناء عليها حتى يمكن الوصول إلى لب المعاني والمقصود الأسمي من الآيات القرآنية، حيث أن الإمام قد استنهض الهمة في تحرير الفكر من التقليدوجعل العقل هو أساس الإيمان والتفسير في أن معا. وقد استهدف من هذا التفسير أن يفهم القرآن علي أنه كتاب دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم في الدنيا والآخرة.

أما المنهج الذي استخدمه محمد عبده في تفسيره فهو يقوم علي عدة أسس منها(2):

فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة غير مكتف بقول فلان وفلان وعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، كما يراعي أن القرآن يفسر بعضه بعضا .

فهم الأساليب حيث ينبغي أن يكون للمفسر من علمها ما يمكنه من ممارسة الكلام البليغ والتفطن لنكته ومحاسنه الوقوف علي مراد المتكلم منه.

علم أحوال البشر حيث أن هذا الكتاب هو آخر الكتب السماوية فلابد للناظر فيه من أن يكون عالما بأحول البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشيء اختلاف أحوالهم من قوة وضعف وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر ويحتاج في هذا إلى معرفة

ص: 135


1- أنظر الكثير مما رواه محمد عبده عن تفاصيل في هذا الصدد في نفس المصدر السابق، ص145-158
2- أنظر هذه الأسس في د. مصطفى لبيب، نفس المرجع السابق، ص 50-52

الكثير من العلوم والفنون وأهمها التاريخ بأنواعه.

العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن.

العلم بسيرة النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل.

وقد ترتب علي التزام الإمام بهذه الأسس أن قدم تفسيرا عظيما مارس فيه حق الاجتهاد «مع ضرورة مراعاة الاتساق في عموم النص، ومراعاة طبيعة اللغة وسياق الكلام سواء علي مستوي أجزاء السورة القرآنية أو علي مستوي تتابع السور. وكان ذلك سبيله إلى بيان العلاقة بين المحكم والمتشابه» وإلى نقده للكثير من دعاوي النسخ وإلي إظهار كمال النص ومعقوليته المطلقة »(1).

كما كشف الإمام في تفسيره أن من خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مبينة أو قريبة منها مع كون الجميع في سياق موضوع واحد»(2).

كما أن من خواصه كذلك أن تري المقدس العام في الخاص وأن يرتفع من الجزئي إلى الكلي ومن الفرد إلى النوع الإنساني ومن الواقعة المحددة إلى المبدأ الذي تدل عليه. وبتطبيق ذلك على القصص القرآنى مثلا نجد أن العبرة المقصودة لاتتوقف علي الجزئيات وتعيينها طالما جاءت هذه القصص في اطار الموعظة الحسنة أو الاعتبار وليس لبيان التاريخ ولا للحمل علي الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند السابقين(3).

وعموما فقد ساهمت هذه الأسس التي استند عليها الإمام في تفسيره للقرآن في أن تصل اجتهاداته في فهم القرآن وتأويل بعض آياته حدا جعل تفسيره رغم أنه لم يكتمل تفسرا متميزا نجد فيه من فيوضات الاجتهاد مالم نجده في غيره(4).

ص: 136


1- المرجع نفسه، ص 52-53.
2- نقلا عن المرجع نفسه، ص 53.
3- المرجع نفسه، ص 53-54
4- أنظر عرض لبعض هذه الاجتهادات والفيوضات في تفسير الإمام في نفس المرجع السابق،ص54-86

ج -موقفه من قضايا الحجاب ومشروعية الفنون والآداب وتعدد الزوجات:

تتجلي جرأة الإمام محمد عبده في فتاواه الدينية التي تساير العصر وتتعرض لأدق قضاياه في ضوء ما وجد فيه مراعاة مصلحة الناس والأمة وربما جاء الكثير منها تحت أو وفق فقه الضرورة؛ فلقد كان الشيخ محمد عبده يعتبر أن الإفتاء سلطة مدنية وليس سلطة دينية لأنه لم يوجد في الإسلام تلك السلطة الدينية علي عقائد الناس وتقرير الأحكام بشأنها، بل تعد الفتوى مسألة خاصة بشئون الدنيا وما يستجد من أمورها، كل ما هنالك أن المفتى إنما يفتي مستندا علي النص الديني مع إعمال العقل في الاجتهاد مراعاة المصالح الناس المتجددة حسب مقتضيات العصر الذي يعيشون فيه.

ولما كانت قضية الفنون الجميلة من القضايا المهمة في حياة البشر في عصرنا، فقد أفتى الإمام ردا علي من يحرمون الفن في الإسلام بأن الدين الإسلامي يرحم ما يحرم في ذاته مثل الكذب والسرقة والقتل.. الخ. أما الضرورات التاريخية التي لزمت الابتعاد عن بعض الفنون الجميلة حماية للعقيدة فقد انتهت وبالتالي فقد زال سبب التحريم.

ومن هنا فقد نظر الإمام للفنون الجميلة نظرة متنورة واعتبرها وسيلة لرقى المشاعر وتهذيب الأرواح. وأنها مجرد وسيلة لتصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجسمانية وهذه الوسيلة تجعل المرء يقف مبهورا أمام عظمة الإنسان الذي خلقه الله وأودع فيه هذه الملكات. وقد أكد علي أن حكم الشرع علي كل هذه الفنون يتمثل فيما يلي: «أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لاخطر فيها علي الدين لا من وجه العقيدة ولا من وجه العمل». أما حديث الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم): أن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، فالمرجح في نظرة أنه جاء أيام الوثنية حيث كانت الصور تتخذ في ذلك العهد بشيئين الأول : اللهو والثاني : للتبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين والأول مما يبغضه الدين والثاني مما جاء الإسلام بمحوه، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان

ص: 137

تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات(1).

وقد تناول الشيخ محمد عبده أيضا مسألة حجاب المرأة بنفس القدر من الجرأة في الإجتهاد مستندا علي النص؛ وقد قال في ذلك لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصا تقضى بالحجاب علي ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين (ويقصد النقاب والعباءة التي تغطي النساء بالكامل والذي ما زال سائدا في بعض الدول الإسلامية)، لوجب علي اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهرة الأمر لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة»(2). وبعد أن بين أن منطق العقل يوضح استحالة تعامل المرأة وهي محجوبة في صناعة أو تجارة أو خدمة أو زراعة يقرر أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة علي الإسلام والباقية بعده .إن المشروع في الإسلام كما ورد في النص القرآني هو«ضرب الخمر علي الجيوب «كما في صريح الآية وليس في الآية وليس في ذلك شيء من التبرقع والانتقاب(3).

أما رأيه فی مسألة تعدد الزوجات فيعد مثلا ثالثا عني اجتهاده في الفتوى وجرأته في مخالفة ما جرت عليه العادة حيث اعتبر أن مسألة تعدد الزوجات عادة يجوز إبطالها وما ذلك إلا« لأن شرط التعدد هو التحقق من العدل»، وهذا الشرط مفقود حتما، فإن وجد في واحد في المليون فلا يصح أن يتخذ قاعدة ومتي غلب الفساد علي النفوس وصار من المرجح ألا يعدل الرجال في زوجاتهم جاز للحاكم أو لصاحب الدين أن يمنع التعدد صيانة للبيوت عن الفساد(4).

ص: 138


1- د. زينب عفيفي شاكر نفس المرجع السابق، ص184-185
2- نقلا عن المرجع السابق، ص 183
3- المرجع نفسه ص184
4- د. مصطفى لبيب، نفس المرجع السابق، ص 100

د- موقفه عن قضية الحرية الجبر والاختيار):

لقد تعرض محمد عبده لدراسة هذه القضية ،قضية حرية المرء واستقلاله الذاتي إزاء القدر في ثنايا أراء المستشرقين التي تنسب التأخر والجمود الذي عليه الناس في البلاد الإسلامية لما يؤمنون به من ضرورة الخضوع للقضاء والقدر الإلهي؛ فمن جانب يسلم محمد عبده بأن العامة من المسلمين قد اصطبغ تفكيرهم فعلا بالقدرية المأخوذة عن فكرة الجبر أو القضاء والقدر، لكنه من جانب آخر يري أن غالبية المفكرين المسلمين من جميع الفرق أقرب إلى القول بمذهب حرية الإنسان في الاختيار، وهو يري في «رسالة التوحيد» أن الإنسان يدرك أعماله الاختيارية ويزن عواقبها بعقله وينسب إليها القيم عن طريق إرادته ويقوم بها بدافع في نفسه .وأيا ما كان فإن الإنسان يعلم بالتجربة أن هناك قوة أعظم من نفسه هو مسئول أمامها، وعندما يقول القرآن «.. ما تصنعون»« وبما كسبت أيديكم »فإن قوله هذا يتضمن المسئولية ومن ثم الحرية اللازمة لأنه لن يكون ثمة عدل في اعتبار الإنسان مسئولا عن أعمال وأحوال تفرضها عليه إرادة أو قوة خارج نفسه. ويستدل الإمام علي هذا بمبدأ «المجاهدة» فقوله تعالى: ««وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا » (سورة العنكبوت آية 69) يبين أن هدى الله میسر لمن يجاهدون في سبيل الاهتداء إلى الحق والخير والصواب ،وكما أن الناس تحكمهم في حياتهم الاجتماعية قوانين الله الخلقية، وهم قادرون علي معرفة الشرائع الإلهية بالتدبر وعن طريق الوحي، فإنه إحرار حين يعملون بها أو يخرجون عليها كحريتهم في إطاعة القوانين الدنيوية أو عصيانها وإذا خرقوا القانون فهم معرضون في كلتا الحالتين لقضاء السلطة الأخلاقية وعقابها(1).

صحیح أن الله ينفذ مشيئته في الناس وفي الحياة عن طريق دفع الناس بعضهم ببعض، لكن في خضم هذا التدافع التاريخي يستطيع الإنسان أن يهتدي بالتجربة إلى الحق والصواب ،فلقد وهب الله الإنسان الحس والعقل وفيهما الكفاية ليستكشف

ص: 139


1- هارولد ب. سميث : مذهب الإسلام في الإنسان وآثر هذا المذهب في السياسة ،الاجتماعية والنظرية السياسة، منشور ضمن كتاب " الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة " جمع ومراجعة د. محمد خلف الله، تقديم د. حسین نصار، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 2012 ، م ص 71-72

بهما ما هو ضروري للمحافظة علي النفس وليميز الصواب من الخطأ وقد وهب الإنسان كذلك العاطفة والشعور اللذين يدفعان إدراكه العقلي ووهبه الإرادة الحرة ليتصرف فيما يصل إليه العقل الذي تغذيه العاطفة(1).

(ه_) رؤيته الإصلاحية في الأخلاق والسياسة:

لقد كان جل اهتمام محمد عبده بعد الإصلاح الديني اصلاح الأحوال الاجتماعية

والسياسية، وقد فطن إلى أن إصلاح الأخيرين لا يكون إلا بداية من الإصلاح الأخلاقي، وقد أقام رؤيته للإصلاح الأخلاقي علي مبدأ الجمع بين العلم والعمل (2) ؛ إذ من شأن إصلاح الأخلاق إصلاح النفوس والضمائر وإذا ما صلحت النفوس والضمائر صلحت العلاقات الاجتماعية بين الناس.

ويري محمد عبده أن أهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها العلاقات الاجتماعية بين الناس والتي تحقق الترابط والتضامن بينهم هي المحبة إذ من شأنها أن تشعر كل نفس أن بقاءها مرتبط ببقاء الكل، والكل منها بمنزلة بعض قواها المسخرة لمنافعها ودرء معناها فالمحبة عماد السلم ورسول السكينة إلى القلوب وهي الدافع لكل المتحابين علي العمل لمصلحة الآخر إن من شأن المحبة أن تكون حفاظا لنظام الأمم وروحها لبقائها(3).

إنه يعتقد اذن بأنه إذا سادت المحبة وحلت محل الأثرة، وانتفت الأنانية ازداد ترابط المجتمع وتضامن أفراده، وحلت الرحمة في القلوب بدلا من القسوة فيعطف غنيهم على فقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم ويوقر صغيرهم كبيرهم ويتماسك المجتمع ويترابط أفراده (4).

ص: 140


1- المرجع نفسه، ص 72
2- د. عبد الحميد درويش :النساج دراسات في الفكر العربي المعاصر (1) الواقعية الإسلامية في مواقف الدكتور يحى هويدي الفكرية، بدون دار نشر، بدون تاریخ، ص194
3- أنظر محمد عبده، رسالة التوحيد، دار المنار بمصر، الطبعة السابعة عشرة 1376ه_ ص 98
4- د. علي عبد الفتاح المغربي، الفكر الاجتماعي عند الإمام محمد عبده منشور ضمن كتاب الشيخ محمد عبده الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سبق الإشارة إليه، ص 119

إن سيادة الفضيلة والأخلاق بين الناس في نظر محمد عبده هي ما يزيد شعور الفرد بانتمائه إلى الجماعة ولعله يبذل ما في وسعه لزيادة وتحقيق السعادة والخير للجميع؛ يقول الامام: «إن الاتحاد ثمرة ذات فروع وأوراق وجذور الأخلاق هي الفاضلة وبغير المحبة لا تقوم للأخلاق قائمة فيجب أن تكون التربية الجديدة تربية غيرية مستنيرة بالمعنى الصحيح؛ فالعلم الحقيقي هو الذي يعلم الإنسان من هو ومن معه، فيتكون من ذلك شعور واحد وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد»(1).

وخلاصة القول أن مفكرنا يري ببساطة أن تقدم الأمم ورقيها إنما يقوم علي أساسين هما: العلم والأخلاق. أنظر إليه وهو يؤكد ذلك قائلا: «وهذان الأساسان الجليلان متلازمان في عالم الوجود متى سبق أحدهما إلى بلاد تبعه الآخر علي الأثر، ومتى فارق واحد منهما جهة تعلق الثاني بغباره، فلا يكاد يرفع قدمه أو يضعها إلا وصاحبه يرافقه ، بهذا ينبئنا التاريخ وتحدثنا سير الدول التي ارتفع بها منار العدل أو بزغت فيها شموس العلم كيف تمتعت بالنورين وطارت إلى أوج السعادة بهذين الجناحين ..»(2).

وبالطبع فإن الأمم لا ترتقي وتتقدم إلا عبر وجود نظام سياسي يؤسس لعلاقة جيدة بين الحكام والمحكومين ويفتح المجال أمام الجميع للإسهام في تقدم الأمة. ولذلك فقد كان ضمن اهتمامات محمد عبده للإصلاح السياسي. وقد قال عن ضرورة هذه العلاقة بين الحاكم والمحكومين «إن حاجة الرعية للحاكم لا تقل أبدا عن حاجته إليهم، وإذا كانت الرعية بمثابة الآلة للحاكم في تنفيذ مشاريعه فهي ليست ألة صماء بل أنها ذات إرادة وشعور وحين يختل الشعور وتفسد الإرادة فلا فائدة من إصدار القوانين والأحكام» (3).

ولقد استخدم محمد عبده أسلوب التدرج في تطبيق منهجه الإصلاحي السياسي

ص: 141


1- نقلا عن نفس المرجع السابق، ص 121
2- محمد عبده الأعمال الكاملة تحقيق ودراسة د.محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1972، ج 3، ص 25 -نقلا عن نفس المرجع السابق ص 127.
3- نقلا عن د. عبد الحميد درويش النساج، نفس المرجع السابق، ص195

حتى تكون الحياة السياسية متلائمة مع طبيعة المجتمع وتستمد قوانينها من مبادئ

الشورى والعدالة والمساواة وخاصة عند استخدام السلطة والقانون(1).

وقد أكد محمد عبده علي ذلك في مذكراته حينما اعتبر أنه كان معنيا في حياته بأنه كان من دعاة التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب، وما للشعب من حق العدالة علي الحكومة، إنه كان ممن دعوا الأمة المصرية إلى معرفة حقها علي حاكمها، فإن وجبت عليهم طاعته فهو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم وأنه لا يرده عن خطئه ولا يقف ضد طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول. وهو يعترف بأنه قدأصاب بعض النجاح في ذلك وأنه أخفق في كثير مما وجه إليه عزيمته (2).من أمور.

ولقد أدرك الإمام أهمية الاقتصاد بالنسبة إلى السياسة، واستقرار المجتمع فقال: «إن الاقتصاد هو فضيلة من فضائل الإنسانية الجليلة، بل هو من أهمها، مدحته جميع الشرائع وبينت فوائده ،وهو كغيره من الفضائل مركب من أمرين : بذل وإمساك وأعني أن الاقتصاد هو التوسط في الإنفاق»(3).

كما أدرك الفرق بين الإنتاج والاستهلاك باعتبارها أحد المقاييس الهامة في قياس مدى تمدن الأمة وتحضرها، فإذا كانت الأمة تنتج ما تستهلكه وتزيد عليه فهي متقدمة، وإذا كان العكس ووقفت عند مجرد الاستهلاك فهي متخلفة وأن لبست لباس العز الزائف. وهو يقول في ذلك:« إن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد القصور وتزيين الملابس وتحسين الأساس إلى غير ذلك من المصارف فإنما يكون على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب في إبراز المصنوعات الجميلة والمخترعات الجميلة التي تكسب صاحبها في قليل من الزمن ثروة واسعة وقدرا رفيعا، ولا يجيزون الإنفاق من رأس المال إلا إذا مست ضرورة لا محيص عنها، ومع ذلك فنفقاتهم هذه لا تتجاوز حد اللزوم ولا تخرج عن دائرة احتياجاتهم »(4).

ص: 142


1- المرجع نفسه
2- أنظر مذكرات الإمام، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، سبق الإشارة إليه، ص 25-26
3- محمد عبده : الأعمال الكاملة سبق الإشارة إليها، ج2، ص13
4- المرجع نفسه، ص 41

ولعل قائل يقول هنا : لقد ركز الإمام علي الاقتصاد باعتباره الأساس لقياس تمدن الأمم وتحضرها ، ولهذا القائل أقول انه لم يركز علي الاقتصاد إلا باعتباره ثمرة من ثمار التقدم المعرفي والعلمي في الأمم المتقدمة. أنظر إليه يقول في عبارة تكاد تجعله يعيش معنا الآن في عصر ما يسمي «قوة المعرفة» و «المعرفة قوة «عصر القرن الحادي والعشرين يقول الإمام منذ أكثر من مائة عامة : «إن التغالب في هذه الأوقات أصبح معظمه - إن لم أقل جميعه- تغالب الأفكار والآراء؛ فالأمة ذات البسطة في الأفكار والمهارة في المعارف هي الأقوى سلطانا والأقوم سياسة وهي الغالبة علي من سواها»(1).

وفي هذه العبارة ما فيها من تأكيد علي أن التنافس بين الأمم إنما يكون في الأساس تنافسا في كم ما تمتلكه هذه الأمة أو تلك من أفكار وعلوم جديدة حيث أن من يملك قوة المعرفة والفكر هو الأقوى سلطانا والأقوم سياسة.

ولا يظنن أحد أن محمد عبده هنا ينظر بعين الإعجاب والإعجاز للأمم الغربية المتقدمة التي تمتلك الأن ومنذ أيامه بالطبع قوة المعرفة وصناعة التقدم، فالحقيقة أنه لا يقول ذلك إلا ونصب عينيه تقدم وصلاح أحوال وطنه وبلده مصر، فإذا كان العلم أساس التقدم وكثرة الخيرات، فإنه يري أن مصر والمصريين لديهم إمكانية أن يصلوا إلى تحقيق هذا التقدم؛ إذ أن خصوبة أرض مصر واعتدال مناخها وتحمل أبنائها مكابدة العمل تعد عناصر يمكن أن تجعل من مصر دولة غنية «لا تفني كنوزها ولا تفرغ خزائها وأنها بما يأتي من الثمرات لقادرة علي حفظ ناموسها وتقوية شوكتها، بل أن تكون سلطتها مبسوطة إلى أقطار أخرى » (2) .

- نقلا عن: : د. سعيد مراد: نظرات في الإصلاح الاجتماعي عند الإمام محمد عبده، نشر ضمن كتاب "الشيخ محمد عبده الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سبق الإشارة إليه، ص 154.

-محمد عبده الأعمال الكاملة - ج 3، ص 41

-نقلا عن د. حامد طاهر : محمد عبده وأفكاره المستقبلية نشر ضمن كتاب " الشيخ محمد عبده الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، سبق ذكره، ص 96.

ص: 143


1- محمد عبده، الأعمال الكاملة - ج 3، ص 41. -نقلا عن : د. حامد طاهر محمد عبده وأفكاره المستقبلية، نشر ضمن كتاب " الشيخ محمد عبده الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، سبق ذكره، ص96.
2- المرجع نفسه

إذن ففي رأي محمد عبده، أن مصر تملك المقومات الطبيعية الأساسية للحصول علي الريادة والتقدم بما تملكه من ثروات مادية وبشرية ،كل ما هنالك إن علي المصريين - علي حد تعبير الإمام - أيضا إن يحسنوا «استعمال هذه الأسباب الجليلة.. ليوضع كل شيء في موضعه الطبيعي وتستعمل كل وسيلة لما يناسبها»(1). وهذا لا يتأتي إلا بالعلم الذي يؤدي امتلاكه وحسن تطبيقه إلى تجنب ضلال الآراء وسوء الاستعمال المقترنين دائما بالفقر والضعف والانحلال.

فهل إلى ذلك العلم من سبيل وهل إلى التقدم والرقي نحن سائرون أم أننا سنظل نرزح تحت نير سوء الفهم وسوء الاستخدام ومن ثم سنظل نشكو الفقر والضعف ؟!.

إن الإجابة علي هذه التساؤلات من شأننا نحن الآن، وإن كان قد مضى علي هذه التحذيرات والتفاؤلات التي أطلقها الإمام أكثر من مائة عام فإن علينا الأن وبعد مضي كل هذه السنوات ونحن لانزال نعاني من الفقر والضف، بأن نفيق وأن نواجه تقدم الآخرون بسلاح العلم وأن نحسن استغلال مالدينا من ثروات طبيعية وبشرية حتى يمكننا العودة إلى مصاف الأمم المتقدمة، الغنية بثرواتها وبعلومها وعلمائها ومفكريها.

إن علينا الآن أن نحسن التفكير في استخدام مالدينا من إمكانيات متسلحين بسلاحي التقدم عند الإمام وعند كل ذوي نظر وفكر: الأخلاق والعلم، أو العلم والأخلاق، ولا يهم أي منهم يتقدم علي الآخر لأنهما في سبيل التقدم الحضاري للأمم حدان متضايقان لا يغني أحدهما عن الآخر ولا يوجد أحدهما بدون الآخر.

ص: 144


1- د. حامد طاهر، نفس المرجع السابق، ص96

قراءة الخطاب النقدي للغرب في الفكر العربي الحديث والمعاصر محمد رشيد رضا أنموذجاً

د صباح حمودي

د صباح حمودي(1)

حياته:

الشيخ محمد رشید رضا (ت1354ه/1935م)(2)، احد رواد الوعي العربي، اذ يعد من الشخصيات الإصلاحية والتجديدية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فهو يمثل آخر حلقات مدرسة استاذه الشيخ محمد عبده (ت1323ه_/ 1905م) وحركة الإصلاح في الفكر العربي الحديث والمعاصر(3)، فقد ثابر على السير أكثر من سواه في الاتجاه الذي شقه له أستاذه، وغدا

ص: 145


1- استاذ الفلسفة المساعد قسم الفلسفة - كلية الآداب / الجامعة المستنصرية - العراق.
2- ولد الشيخ محمد رشيد رضا عام (1865) في (القلمون) قرب مدينة طرابلس في لبنان فكان ابوه شيخاً للقلمون واماماً لمسجدها، فعني بتربية ولده وتعليمه فهم من عائلة الأشراف التي كانت تتمتع بمكانة أدبية رفيعة، إذ كان يلقب (رضا) بكنية (الحُسيني) نسبة إلى جده الحسين عليه السلام، درس العلوم الدينية والحساب واللغة العربية في الكتاب، ثم في المدرسة الرشدية، وبعدها في المدرسة الوطنية، حيث درس اللغتين التركية والفارسية، فضلاً عن دراسة المنطق والرياضيات والفلسفة، هاجر إلى مصر وتأثر وأطلع على أفكار كل من جمال الدين الأفغاني الذي أسس صحيفة( العروة الوثقى)، وبمحمد عبده والتي من خلالها تنبه (رضا) إلى أمر انخراطه في الطريقة النقشبندية (الصوفية)، لكنه سرعان ما أخذ يشعر بخطر هذه الطريقة فتركها، ومن هنا أصبح ناشداً لحرية العمل واللسان والتعليم، فدافع عن الخلافة الإسلامية من خلال تفسيره لشروطها ومناحيها الفقهية والسياسية، فهاجم العثمانيين والانكليز وأخذ يؤكد على المخاطر الصهيونية وأطماعها في المنطقة كلها .للتفصيل يراجع: أيوب أبو ديه، موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر، ط1، وزارة الثقافة الأردنية، عمان ،2008م، ص 605 ، وأيضاً: محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، دار القلم، دمشق 1995، ص45.
3- ان الفكر العربي الحديث والمعاصر، قد تشعب إلى شعب واتجاهات عدة، اخذ كل اتجاه منها وجهة نظر تعبر عن رأيه في المجتمع والحضارة وشكل السلطة والعلاقة مع الغرب وكيفية المواءمة بين العروبة والاسلام وغيرها من الاشكاليات الاخرى، مثل النهضة وطرق النهوض بالأمة، علماً انه لا توجد هناك اشارات واضحة لتاريخية الفكر العربي الحديث والمعاصر، متى بدأ، وما حقبة، وهل يمكن تحديد مدياته الزمنية، اذ يتداخل (الفكر العربي الحديث) مع الفكر العربي المعاصر) تداخلاً واضحاً بخلاف تاريخية الفلسفة التي حدد مؤرخوها حقبها بدقة. يراجع حول تاريخية الفكر العربي الحديث والمعاصر : علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، ط2، المكتبة الاهلية للنشر والتوزيع بيروت 1978، ص35 وما بعدها وايضا: البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر بيروت ،1968 ص 131 وما بعدها.

منذ تلك اللحظة حتى مماته تلميذه الأمين على أفكاره واتجاهه، وحامي سمعته ومؤرخ حياته، وبحكم هذه التلمذة سار على طريقته لإنهاض الامة الاسلامية لتعيد مجدها وفقا للمتغيرات الآنية والمستقبلية،بمعنى ان الاحياء لا يعني عودة للقديم ،فهذا مستحيل، وانما هي صورة منتقاة نستقي من القديم جذوره واصوله ونستقبل من المعاصر احتياجاته ومتطلباته.

اذ مثلت حركته رد فعل متوازن للتحدي الذي يواجه العالم الإسلامي، فكان خصيماً للاستبداد وعدوا للطغيان وداعياً وواعياً مستنيراً يستجيب لصوت الضمير ويستوحي مبادئ الحق، ولهذا وجه نقداً حاداً للحكم المتسلط وللاستبداد في كل اشكاله، لأنه لا يتماشى مع الاخلاق والعادات الحميدة ولا مع ماضي العرب التاريخي ولا مع القرآن الكريم، ومن الواجب، بل من الممكن القضاء عليه، وبحكم كونه مفكراً ومعلماً دينياً وسياسياً من الدرجة الأولى، ومحترفاً للعمل فيه، الا أن مساهماته( النظرية والعملية) في هذا المجال لم تنل العناية الكافية من قبل المؤرخين العرب الذين أرخوا لحركات الإصلاح والنهضة، فضلاً عن أنه لا يمكن قراءة خطابه النقدي دون الرجوع إلى تاريخ الفكر البشري، كونه تاريخ (نقد) كما مثلته الحضارات قديماً وحديثاً، فهو اداة التحول والانتقال من مرحلة إلى اخرى، لأنه شرط للأبداع والابداع شرط التقدم والنهضة، من هنا اخذ النقد عند (رضا) يخترق الخطاب الديني والسياسي، ليعبر إلى مجالات اخرى مثل الادب والعلوم الانسانية والطبيعية، لأنه نسيج ضمني وغير مباشر بحيث يدخل في سياق تمفصل المضمون وعلى اختلاف مستوياته.

ونتيجة لهذا، لا يمكن الحديث عن مساهماته في الإصلاح والتجديد، دون إغفال التطورات السياسية والاجتماعية التي هجمت على الدولة العثمانية بعامة، والمشرق العربي بخاصة ،إذ تابع (رضا) انهيار الخلافة الإسلامية في الاستانه نتيجة الفساد السياسي والإداري الذي كان ينخر جسدها، فضلاً عن تراكم أعمال وأنشطة

ص: 146

حركة التنظيمات التركية المنادية للإصلاح والتغيير، والتي انتهى بها المطاف إلى إلغاء الخلافة بعد وصول الكماليين إلى السلطة في تركيا، وزد على ذلك الصراعات الفكرية التي نشبت بين دعاة التغريب من جهة ،والإصلاحيين المتشبثين بالتجديد والتغيير في إطار الأصالة الإسلامية من جهة أخرى، كل هذه المعطيات الموضوعية لا بد من استحضارها لمعرفة الحجم الحقيقي للمساهمات النقدية للشيخ محمد رشيد رضا ومنهجه في الإصلاح الديني والسياسي والنهضوي.

عليه، سيعتمد الباحث في بحثه هذا على المحاور الاتية: (النقد لغة واصطلاحاً، محمد رشيد رضا ورأيه في الاصلاح الديني موقفة النقدي من الغرب والاستعمار، ونقده للتغريب)، فضلاً عن الخاتمة مع أهم الاستنتاجات.

النقد لغةً واصطلاحاً

1-2- النقد لغة:

يقال : نقد الشيء نقداً: معناه نقره ليختبره أو ليميز جيده من رديئه، ويقال: نقد الطائر الفخ ،ونقدت رأسه بإصبعي ،ونقد الدراهم والدنانير وغيرهما نقداً، وتنقاداً: أي ميز جيدها من رديئها، وفلان ينقد الناس : أي يعيبهم ويغتابهم (1).

والنقد خلاف النسيئة، واخراج الزيف منها، ويقال ايضا: أنه قد نقدها وينقدها نقداً، وانتقدها ،وتنقدها، ونقده اياها نقداً: اعطاء فانتقدها أي قبضها(2).

2-02النقد اصطلاحاً:

النقد عند المحدثين هو التعليل، أي اظهار ما في الحديث من علة، وعلة الحديث هي التحريف، والناقد هو المعلل، ونقد الكلام بمعنى كشف عيوبه، بمعنى هو

ص: 147


1- صلاح الدين الهواري : المعجم الوسيط دار ومكتبة الهلال، بيروت (ب. ت)، ص1690 مادة (نقد).
2- ابن منظور لسان العرب، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، ط 1 ، ج 3 ، المجلد الثاني، بيروت ،2005، ص 3997 مادة (نقد) ويقارن : لويس معلوف ،المنجد المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1954 ، ص 905 مادة (نقد)

تقويم، وهو جزء من المنطق ويتعلق بالحكم، وبهذا المعنى يقال نقد المعرفة،ونقد العقل ، والنقد الادبي أو الفني الخ.. إذاً هو الفحص والتمحيص الدقيق الذي يهدف بيان ما في الاثر من عيوب أو محاسن ،والفكر النقدي هو الذي يدقق ويتفحص من غير تحيز ولا يقبل القول على علاته فيتجه بتساؤله إلى المضمون، ويسمى داخلياً، أو يتجه إلى الشكل ويسمى نقداً خارجياً أو ينبه إلى العيوب ويسمى نقداً سلبياً أو يبين المحاسن ويسمى نقداً ايجابياً(1).

اذ ان من خصوصيات التفكير الفلسفي سواء كان إسلامياً أم غربياً يتميز بكونه يتحدد من خلال (النقد) تجاه لحظته الزمنية وهو ما يجعله يتعارض مع ما هو سائد سواء في المجال المعرفي أم القيمي أم على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، فلا نجد أي فيلسوف عبر تاريخ الفلسفة ومهما كانت منظومته الفلسفية التي يؤكدها الا ومارس النقد على الفلسفة السابقة، أي نقد الفيلسوف اللاحق لسابقيه. اذ نجد ان الفلاسفة المسلمين نقد بعضهم بعضاً، فابن رشد نقد ابن سينا والغزالي، ونقد الاخير الفارابي وابن سينا وهكذا برع الفلاسفة المسلمون كما هو الحال عند اخوان الصفا وأبن سينا وصولاً إلى ابن رشد في نقدهم مناهج الجدل عند المتكلمين دفاعاً عن مناهج البرهان عندهم ، فضلاً عن نقد الفقهاء المنطق الأرسطي الصوري القديم كونه منطقاً عقيماً غير منتج وليس ذا فائدة، وهكذا نقد الفقهاء معظم المناهج العقلية والنقلية، وصولاً إلى ابن خلدون الذي نقد مناهج قدماء المؤرخين مبيناً أخطاءهم واستعمل منهج الملاحظة والمشاهدة والوصف التاريخي المباشر للأحداث(2) .

موقفه النقدي من الغرب والاستعمار

نجد ان (رضا) هنا قد ربط بين التصورات والمفاهيم الإسلامية من جهة، وبين إلمامه بواقع العصر ومشكلاته جيداً من جهة أخرى، إذ كان ذا باع طويل بسبب أسفاره

ص: 148


1- للتفصيلات يراجع : عبد المنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ط3، مكتبة مدبولي القاهرة 2000، ص 895
2- حسام الالوسى حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بغداد 1980، (القسم الثاني)، الفصل الأول، ويراجع أيضاً بحثنا اشكالية النقد في الخطاب الفلسفي العراقي المعاصر حسام الالوسي إنموذجا المؤتمر الفلسفي العاشر بيت الحكمة 2011، ص 174 وما بعدها

ومخالطته لعدد من علماء الغرب وفلاسفتهم، فتعرف على أفكارهم وطروحاتهم، فكانت له انتقادات وردود فعل عنيفة عليهم وبخاصة في(مجلة المنار)، فقد كان متصدياً ومقاوماً ومنتقداً للأفكار الهدامة المتمثلة بالاستعمار الغربي ودوره السلبي في المجتمعات (الاسلامية) بعامة (والعربية) بخاصة، رغم كل إمكانيات هذا الاستعمار ودهائه، الا انه لم يستطع ان ينفذ إلى داخل هذه المجتمعات، ولهذا اتجه (رضا) إلى التعبئة الروحية المتمثلة بالإصلاح عن طريق جعل الاسلام اساساً للتربية الوطنية، فكان لا بد لهذه التعبئة من ان تنقد الاخر وعناصره الفكرية والداعين والساعين له، اذ وجد ان هذا الاستعمار ادى إلى فقدان الاستقلال السياسي للامة العربية والى نهب ثرواتها الوطنية ومحاولته تهديد اللغة العربية ومحوها ، ولهذا تناول مسألة النفوذ الغربي وعدائهم للعروبة،وان أطماعهم هي السبب في انقسام الامة العربية إلى دول منفصلة بعد الحرب العالمية الأولى، وبذلك نرى ان هذا الازدواج في هذه التعبئة اخذ طابعا نظريا (سياسياً)، ومنهجياً عمليا ً(دينياً).

علماً ان (رضا) قد شاركه في الكتابة في هذه المجلة عدد من المفكرين الذين ينتمون إلى اقطار عربية مختلفة منهم على سبيل المثال لا الحصر: (عبدالمحسن الكاظمي، ومحمد روحي الخالدي، وشكيب ارسلان، والشيخ احمد الاسكندري ،والرافعي والمنفلوطي) وغيرهم من قادة الفكر والتوجيه في العالم الاسلامي، إذ أن هذه المجلة تأسست على نمط مجلة (العروة والوثقى) التي أسسها السيد جمال الدين الأفغاني (ت 1314ه_/ 1896م ) بالتنسيق مع تلميذه الشيخ محمد عبده عام (1885م)، بعد نفيهما من مصر من هنا ازداد اتصال (رضا) بهذه المجلة (العروة الوثقى) بعد ان وجهته إلى السعي نحو المقاومة والتحرير والاصلاح، ورسمت له منهجاً علمياً جديداً، وعرفته بأسباب الفساد والتفكك في بلاد الشرق، فضلاً عن انها فتحت له آفاقاً واسعة لم يكن يعرف عنها شيئاً، بحيث دفعت به إلى الطريق الطويل الذي سلكه قبله كبار المصلحين وقادة التحرير(1).

ص: 149


1- محمد رشيد رضا مجلة المنار ، ص ،11، ويقارن ألبرت حوراني، الفكر العربي في العصر النهضة، ص137

ونتيجة لكل هذا، استطاع (رضا) أن يتصل بجمال الدين الافغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق (السياسة)، فضلاً عن اتصاله بأستاذه محمد عبده الذي نادى ايضاً بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق (التربية والدين)، اذ كان (رضا) أشد تأثراً بأستاذه وبخاصة فيما يتعلق بالموقف من الاستعمار، غير أن أشد ما أثر في موقف (رضا) سلباً في بداية مشروعه النقدي - الإصلاحي هو توجيه أستاذه محمد عبده له نحو الجهاد من أجل( الإصلاح الديني والتربوي) دون (السياسي)، وفي الواقع فإن آراء عبده لم تكن لتشجع على ممارسة العمل السياسي على الإطلاق، وهذا ما يميز حركة عبده عن حركة جمال الدين الأفغاني(1) .

وهنا خرج (رضا) بعد ان تعرف على منهجي استاذيه بمنهج خاص به جعله يوائم بينهما، فنادى بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق( الدين والسياسة) معاً، من خلال إيقاظ الشعور الاجتماعي والتربوي والعلمي... الخ.

لذلك دعا علماء الأمة إلى القيام بواجباتهم، فرأى أن تنفير العرب من الترك هو مفسده، وان من يسعى إلى التفرقة بيننا وبينهم فهو عدو لنا ولهم، فعندما قام الاتحاديون الأتراك بالانقلاب على السلطان عبد الحميد عام (1908) أجبره على إعلان الدستور، هنا كان (رضا) مثل غيره من الزعماء والمفكرين العرب ممن قبلوا وأيدوا الانقلاب اعتقاداً منهم بأن إعلان الدستور هو بمثابة إطلالة عهد جديد تسوده ،الحرية، غير أنه لم يلبث في العام التالي أن أصيب بخيبة أمل شديدة من الاتحاديين على أثر زيارته للقسطنطينية، ولما تأكد من أن الاتحاديين الأتراك ماضون في سياستهم المتواطئة والمستبدة فأخذ يكشف أوراقهم ويبين خطر سياستهم لا على فلسطین ،فحسب، بل على الأمة الإسلامية كلها (2)، إذ تناول كيفية تواطؤ الاتحاديين مع الصهاينة لبيعهم أراضي السلطان عبد الحميد ومساعدتهم في الاستيلاء على فلسطين، ومن أجل مكافحة هذا المد (الصهيوني) ودرء خطره حدر من بيع الأراضي

ص: 150


1- محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ص 49 ويقارن عثمان أمين رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده، ص165.
2- البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ص272.

لليهود أو لغيرهم من الأجانب، ولهذا يقول «إنني اعتقد أن الذين باعوا أراضيهم لليهود لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله ولرسوله وللأمة كلها، كخيانة الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام وأهلها »(1) من هنا اقترح على العرب جمع قواهم كلها للدفاع عن الإسلام وتصحيح عقائدهم،فجمع بين العمل في ميدان الفكر الإسلامي وبين الإصلاح السياسي لمقاومة الصهيونيين بكل طرق المقاومة، كاشفاً عن وجه بعض القوى التي ظهرت آنذاك، والرامية إلى الاستعاضة عن الخلافة العثمانية بخلافة جديدة، معداً هذه الفكرة وحياً أجنبياً من شأنه أن يخدم المصالح الأجنبية العالمية التي تقف وراءه الحركة الصهيونية وبخاصة (انكلترا) التي لا تزال ممعنة في إرهاب عرب فلسطين وانتزاع وطنهم وإعطائه لليهود الصهاينة قسراً، لتجد لهؤلاء ملكاً قلب البلاد العربية يكون حاجزاً بين(مصر والحجاز وفلسطين)، مما يمنع قيام دولة عربية إسلامية قوية موحدة تقف في وجه الاستعمار الأوروبي(2).

علماً انه كان من الممكن وبحسب رأيه القبول بالخلافة العثمانية على أنها (خلافة

بالضرورة)، مع أنها لم تكن خلافة أصيلة، لأنها تفتقر إلى أحد الشروط الجوهرية للاجتهاد وهو عدم معرفتها اللغة العربية ،هذا من جانب، ومن جانب آخر وجدناه قد عاش في عصر كثر فيه الضعف والجمود الذي مس البلاد الاسلامية، فأخذت دول الاستعمار تتكالب عليها من كل جانب، حتى اذا ما هزمت الدول العثمانية في الحرب

العالمية الاولى، اخذت دول الاستعمار تنهشها وتتقاسم املاكها في البلاد العربية.

اذ عاصر (رضا) كل هذه المصائب وشاهدها بأم عينه فكان لا بد له كمقاوم ومصلح وسياسي ان يكون له مواقف مذكورة ضد المستعمرين، ومن هنا اخذ ينشر افكاره الاصلاحية على صفحات (المنار)، وذلك بما تسمح سلطات الاحتلال الانكليزي بنشره رغم الحرية النسبية التي وضعها الانكليز له، فكان هدفهم من ذلك هو اجتذاب المفكرين والمصلحين للعيش في مصر حتى يكونوا تحت مراقبتهم

ص: 151


1- محمد رشید :رضا الخلافة والامامة، ص7
2- المصدر نفسه، ص7

ويكتبوا في ظلهم (1)، ورغم عيشه المبكر في مصر الا انه لم يكن ذا اتصال كثير بهم، فهو لم يتصل بالإنكليز الا بشخص واحد وهو (متشل انس) الذي كان موظفاً بوزارة المالية المصرية، وقد مدحه (رضا) كثيرا وذكر انه كان اشد الانكليز استقلالاً في الفكر وحرية الرأي، فكانت له مذكرات سياسية ودينية معه من خلال عقد الصلة الذي أولفها لهم الشيخ محمد عبده (2).

وفي الواقع ان افكار (رضا) لم تكن بالطبع من الأمور التي يمكن الاستعمار السكوت عليها، ولذلك لم يكن الانكليز يطمئنون له رغم اقامته بينهم، ولهذا كانت رسائله البريدية موضع مراقبة شديدة وبخاصة اثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها(3)، وحينما يئس من الدولة العثمانية بعد تولي الاتحاديين الحكم وظهور مساوئهم، اخذ ينقدهم ويعمل ضدهم، فرأى من الافضل ان يثير عليهم الانكليز، ولكنه خاب امله بالفشل حين رأى انهم يعملون لهدم( العثمانيين والعرب) معاً .

هنا نلاحظ ان الانكليز فهموا هذا التغير من (رضا) فغضبوا عليه وفكروا في نفيه إلى

( مالطا ) ، ولكنهم عدلوا عن ذلك، لانهم رأوا ان ذلك يضر بهم اكثر من ان ينفعهم، فبقاؤه في مصر وتحت اعينهم اسلم لهم ، ولهذا تركوه، فأصبح عدواً للأتراك الاتحاديين والانكليز معاً(4).

رغم بقائه تحت مراقبتهم، الا انه واصل نقده ضدهم من خلال كتاباته الوطنية، اذ كانت له مواقف مشرفة خاصة في اخراج بعض المسلمين الذين كانوا معتقلين في سجونهم( بكفالة من قبله)، وحصل ذلك قبل ان يزداد غضبهم عليه(5)، علما ان هذه العلاقة السيئة بينهما قد ازدادت حين ظهرت معاهدة (سايكس بيكو )على السطح فعارضها بشدة وبقوة، واخذ يطعن بها وينقدها بسبب تعسف الانكليز وظلمهم

ص: 152


1- محمد رشيد :رضا مجلة المنار، ص97 ، ويقارن خالد الفهداوي، محمد رشید رضا (عصره، تحدياته، منهجه الاصلاحي)، ص 39
2- المصدر نفسه، ص 105
3- المصدر نفسه، ص 145 ، ويقارن وجيه كوثراني، مختارات سياسية، ص7.
4- المصدر نفسه، ص 337
5- المصدر نفسه، ص 391

للمسلمين، ونتيجة لذلك استمر من غير هوادة يكشف دسائسهم ومؤامراتهم، واخذ يذكر في مقالاته ان الشعوب الاسلامية والعربية ساعية إلى تحطيم (الاسد)، اذ ان جهاده ونقده لم يكن ضد الاستعمار الانكليزي فحسب، بل هاجم ونقد ايضاً كلاً من الاستعمار الايطالي عندما هاجم ليبيا، والاستعمار الفرنسي من خلال سياسته في المغرب العربي واحتلاله للشام (1) . ومن اجل مقاومة الغرب المستعمر نجده قدم ثلاثة خيارات من اجل النهضة والاصلاح الحضاري والسياسي وهي تقوم على ثلاث نقاط:

1--3محور الإصلاح الديني من اجل مواجهة الاخر:

بدءاً اقول ان (محمد رشيد رضا) قد كتب الكثير من المقالات والدراسات التي تهدف إلى النهوض بالأمة وتقويتها، اذ ركز اهتمامه إلى (الحكام والعلماء) لأنهم بمنزلة الروح والعقل المدبر للإنسان، لأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة، إذ يقول« إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من الرذائل فاشية في أمة، فأحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد، وعلى علمائها ومرشديها بالبدع والفساد والعكس بالعكس» (2)

ولهذا كان أشد الداعين إلى أن يكون الإصلاح الديني عن طريق (التربية والتعليم)،

كونه أحد رواده الذين حملوا راية( التجديدوالاجتهاد)، وهو بذلك يتفق مع استاذه محمد عبده في أهمية هذا الجانب، لان سعادة الامم بأعمالها، وكمال اعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف، من هنا حدد(رضا) العلوم التي يجب إدخالها في ميدان التربيةو التعليم لإصلاح شؤون الناس ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والمعرفة، ومن هذه العلوم :الفقه وأصول الدين والتاريخ والجغرافيا والاجتماع، والاقتصاد(3)، وغيرها. على اعتبار أن (التربية والتعليم) هما قضيتان مركزيتان في حركة النهضة الاسلامية.

ص: 153


1- المصدر نفسه، ص 480
2- محمد رشید رضا: الخلافة والإمامة العظمى، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة 1994، ص5.
3- خالد الفهداوي : محمد رشيد رضا (عصره، تحدياته منهجه الإصلاحي)، ط1، دار صفحات، دمشق 2007، ص 38 ، ويقارن: الاجتهاد والتجديد في التشريع الاسلامي ، تأليف لجنة من الاساتذة ،الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1973، ص 390

ونتيجة لذلك عني بقراءة القرآن الكريم وحفظه، فضلاً عن قراءته لبعض الكتب الصوفية وبخاصة كتاب (احياء علوم الدين )لابي حامد الغزالي، اذ تعلق به وحبب اليه التصوف، الا انه تركه وانصرف إلى تلاوة القرآن الكريم(1)، ولهذا يقول «رأيت في اثناء ذلك كثيراً من الامور الروحية الخارقة للعادة، كنت اتأول الكثير منها، وعجزت عن تأويل بعضها »(2)وفي موضع آخر يقول «ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على ان جميع وسائلهامشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حقق ذلك »(3). ولهذا السبب وجد من الضروري ان يقوم بواجبه النقدي الاصلاحي، الذي استقاه من قراءته للقرآن الكريم مستذكراً قوله تعالى: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ تَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ»

سورة الأعراف الآية (51).

نجده لم يكتف بدور الموعظ والموجه والناصح والناقد، وإنما نزل بنفسه إلى ميدان التعليم، فقرر دعوته إلى إصلاح التعليم ب_(العمل)، إذ حاول تطبيق ما يراه محققاً للآمال ، فأنشأ مدرسة أسماها (دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامي.

لذلك شرع من خلال مجلة (المنار) التي أصبحت منبراً للدعوة والإصلاح والتجديد، وأثراً عميقاً في الفكر الإسلامي، إذ أصدر العدد الأول لها عام (1898)، واستمر بإصدارها بانتظام شبه كامل حتى وفاته في مصر عام (1935)، ويمكن القول أن هذه المجلة كانت منذ تأسيسها بمثابة سجل لحياته(4)، فضلاً عن مجادلاته اللا متناهية والعنيفة في هجومها ودفاعها على السواء، التي من خلالها اخذ ينشر الأخبار التي كانت تأتيه من أطراف العالم الإسلامي، مبيناً آراءه في سياسات العالم والتي من

ص: 154


1- محمد رشید رضا مجلة المنار مشروع مفيد 1898 ، ص 9 :ويقارن احمد فهد الشوايكة محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية مكتبة عمار عمان 1989، ص187
2- محمد رشيد :رضا الخلافة والامامة، ص64
3- محمد رشيد :رضا الخلافة والامامة، ص64
4- البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ص275، وأيضاً: وجيه كوثراني، مختارات سياسية من مجلة (المنار) رشيد رضا، المقدمة، ط1، دار الطليعة بيروت 1980 ص 6 ويقارن محمد رشید رضا، مجلة المنار، ص10

خلالها هاجم الترف والاسراف، وحذر من الجهل والتخلف(1)، فظل قلمه يصول في(المنار) ويجول مرشداً المسلمين إلى النظر في سوء حالهم من خلال تذكيرهم بما فقدوه من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما اضاعوه من مجد ابائهم الأولين، فنادى بأن يعلموا ان قيمة الدين ليست في اسراره الروحانية فحسب، بل في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية(2) . فأخذ يؤكد على المحبة والتآلف بين الناس لا لتوكيد الفتنة والانقسام ،فكانت محاولاته انتقائية الطابع ذات أهداف اجتماعية - سياسية أراد من خلالها أن يوفق بين (العلم والدين) فربط التفسير بالمكتشفات العلمية الحديثة، كي يستمد كل طرف مشروعه من الطرف الآخر(3) .

2- -3 محور الاصلاح السياسي

وقد ترجم موقفه النقدي من الغرب على أرض الواقع من خلال الفعل السياسي اذ كان محمد رشيد رضا رغم كونه مفكراً( إسلامياً) وغيوراً على دينه، الا أنه كان (سياسياً) ومحترفاً للعمل فيه، فكان متعدد الجوانب والمواهب بحيث شغل نفسه بهموم أمته وقضاياها، فبعد أن توفي أستاذه الشيخ محمد عبده (ت1323ه/1905م)، كان (رضا) قد بلور بالفعل رؤية خاصة للإصلاح السياسي في الدولة العثمانية من خلال إقامة دولة إسلامية نموذجية فيها، ولهذا دعا إلى إقامة نظام سياسي إسلامي دستوري يلتزم بمبادئ الشورى والعدل والحرية، بحيث يشارك فيه الشعب ويلتزم فیه السلطان باستشارة زعماء الشعب وممثليه، بحيث تخضع الحكومة لمساءلتهم (4)، ولهذا السبب وضع رسالة في إحياء الخلافة على أساس إسلامي أصيل يتناسب مع حالة العالم الإسلامي في العصر الحديث(5)، إذ تناولت الرسالة موضوعين أحدهما

ص: 155


1- ينظر: محمد رشيد ،رضا الخلافة والامامة، ص5
2- محمد رشيد رضا :مجلة المنار، ص11 وللتفصيلات يراجع، عثمان آمين، رائد الفكر المصري الامام محمد عبده، ط2، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة ،1965 ، ص 166 وكذلك : ألبرت حوراني، الفكر العربي في العصر النهضة، ص 138.
3- البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 272 ويقارن :أيوب أبو ديه موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر،ص 606 وللتفصيلات يراجع وجيه كوثراني مختارات سياسية من مجلة (المنار)، ص5.
4- أحمد فهد الشوايكة محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية، ص188
5- محمد رشید رضا الخلافة والامامة، ص8

(نظري) والآخر (عملي)، فالنظري يعتبر أفضل ما كتب في النظرية الإسلامية للحكم من حيث التأصيل والتنظيم منذ الكتاب الذي وضعه الماوردي في (الأحكام السلطانية) في القرن الرابع الهجري، أما العملي فقد تناول المشاكل التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى والتي أثرت على مصير الخلافة(1)، ولهذا جاهد في إنشاء عدة تنظيمات سياسية دعا ن خلالها إلى إصلاح سياسي على أساس إسلامي في الدولة العثمانية، بمعنى أنه رأى أن النظام السياسي الفاسد في الدولة العثمانية هو الأولى بالإصلاح، لذلك فضل استخدام وسائل الإعلام وقيادة أنشطة سرية وغيرها لإنجاز هدفه هذا وإنجاحه، فضلاً عن أنه عمل مع رعايا بعض العثمانيين في مصر لإنشاء منظمة سرية باسم (جمعية الشورى العثمانية) التي ضمت ممثلين عن معظم الجماعات العرقية والدينية في الدولة العثمانية، إذ ترأس هذه الجمعية عام (1906)، فكانت نشطة في الدعوة إلى إصلاح الدولة العثمانية في مصر وبعض الدول الغربية(2)، وأكد أن الدولة العثمانية يجب أن تصبح وطناً لجميع الشعوب المنضوية تحت لوائها، بغض النظر عن أعراقها ودينها، ومن ثم يصبح لدى رعاياها هوية وطنية لا تتعلق بشخص حاكمها، بل تتمتع جميع شعوبها بحقوق وواجبات متساوية(3)، فكان يعتبر الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية، بالرغم من انتقاده لحكامها لعدم التزامهم بالمبادئ الإسلامية في الحكم (4).

إذاً، إن مفهوم الإصلاح والتجديد السياسي عنده هو مفهوم محوري، لأنه هو أحد أوجه التجديد في فكره ، لأن مفهوم (السياسة والإمامة) ارتباط متين بالسنن الربانية في المجتمعات والحكم 35 . فإن مصدر السلطة في الإسلام يعود للأمة عن طريق أهل (الحل والعقد) من ذوي العدل والكفاءة والحكمة المنتخبين شعبياً، ومن ثم يختارون من بينهم الأفضل للإمامة(5).

ص: 156


1- المصدر نفسه، ص 8 ويقارن:الماوردي، الأحكام السلطانية، طبعة الحلبي، القاهرة 1966، ص31
2- محمد رشید :رضا المصدر نفسه، ص 9
3- أحمد بن عبد الله السلمان محمد رشيد رضا ودعوة محمد عبد الوهاب (ب. (د) ، الكويت 1988، ص493
4- المصدر ،نفسه ص494
5- وجيه كوثراني: الدولة والخلافة في الخطاب العربي أبان الثورة الكمالية في تركيا، ط1، دار الطليعة، بيروت 1996 ، ص 104

خلاصة القول، إن (رضا) كان أكثر ما يؤكد عليه هو عودة الخلافة الإسلامية إلى ما كانت عليه في صدر الإسلام عن طريق الانتخاب، وهنا يقول: «إن الأتراك نقضوا هذا القانون، فلا بد من اعتزال هذا الأمر وإفساح المجال للناس لانتخاب الشخص القوي الحكيم المقتدر من بين أبناء الشعب العربي... ولكن إذا كان هناك شخص غاصب لمقام الخلافة بالقوة فطالما لم ينحرف عن الشريعة الإسلامية، يجب على المسلمين طاعته بحكم الضرورة لتجنب الفوضى والفتنة والاضطراب السياسي».

بناءاً على هذه الأحداث التاريخية سلك المسلمون في أمر السياسة والحكم بثلاثة اتجاهات مختلفة، الأول - ما يسمى بحزب الجمود والتقليد الفقهي، والثاني- حزب التقليد الإفرنجي، والثالث - هو حزب التجديد والإصلاح، وهذا الأخيرهو الذي ينتمي إليه الشيخ (رضا) وأخذ يضع له برنامجاً سياسياً(1)، إذ أن من أهم أنظمة العمل فيه تتركز على الآتي:

برنامج المدرسة التي تخرج منها الخلفاء والمجتهدون.

برنامج انتخاب الخليفة.

برنامج الديوان الإداري والمالي، ويضم هذا (مجلس الشورى، ومجلس الإفتاء، ومجلس تعيين الوزراء والقضاة والمثقفين ومجلس الدعوة)(2)وغيرها.

3--3 محور الاصلاح ورفض التغريب

1-3-3 شرع إلى التأسيس النظري للإسلام بوصفه ديناً يقوم بمجابهة انتشارحملات التبشير للمسيحية في العالم الإسلامي، ففي كتابه (الوحي المحمدي) الذي

ص: 157


1- وجيه كوثراني: الدولة والخلافة، ص 104
2- المصدر نفسه، ص 104

نقلت بعض فصوله إلى لغات عده ، اذ يرى (شكيب أرسلان) بحسب ما يقوله أيوب

أبو ديه، أنه كان موجهاً للأوربيين ليعلموا أدلة الإسلام على صحة الوحي المحمدي(1).

2-3-3- رغم انه كان يكره حياة الأوربيين الاجتماعية، فكان يعتقد أنه من الممكن لأوروبا أن تعتنق الإسلام لولا الكنيسة ورجال السياسة، هذا من جانب، ومن آخریری أن تخلف الإسلام نفسه داخلياً، إذ أن هذا السؤال قد طرحه قبله أستاذه محمد عبده، بأنه «لماذا البلدان الإسلامية متخلفة في كل ناحية من نواحي التمدن»(2)؟، ويجيب

(رضا) على هذا ،إن تعاليم الإسلام وقواعده الخلقية من شأنها إذا فهمت على حقيقتها من تحقيق الاصلاح، فالإسلام الحقيقي ينطوي على أمرين: الأول- (القول بالتوحيد)، والثاني-(الشورى في شؤون الدولة)، وبفضل (القرآن الكريم )ومبادئه الخلقيةالموضوعية يمكن بعثها من جديد(3) ، من خلال عودة المسلمين إلى كتابهم المقدس (القرآن الكريم)، كما في قوله تعالى:«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» سورة يوسف، آية (2).

3-3--3 يرى أنه من الضروري للإسلام أن يتحدى العالم الجديد، وان يقبل بالمدنية الجديدة بالمقدار الكافي لاستعادة قوته كما كانت دوماً، منسجماً مع تفكيره، ومنطقياً مع نفسه، إذ كان موقفه هذا مستنداً إلى أحد مبادئ الإسلام، وإن الجهاد لزام على المسلمين، لكنهم لا يستطيعون تأديته ما لم يصبحوا أقوياء، ولا يمكن ذلك ما الم يقتبسوا علوم الغرب وفنونه التقنية(4) ؛ لأن أوربا نفسها لم تتقدم إلا بفضل ما تعلمته من المسلمين في إسبانيا وغيرها.

3-3--4 يؤكد أن هزيمة العرب وتقسيم بلادهم وانكشاف زيف الوعود الغربية،

ص: 158


1- أيوب أبو ديه موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر ، ص607 ، وايضا : سعيد اسماعيل علي، «طريق النهضة عند محمد رشيد رضا، مجلة الهلال العدد (5) ، القاهرة 1990، ص42
2- البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 274 ، للتفصيلات يراجع عثمان أمين رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده، ص166
3- البرت حوراني : الفكر العربي، ص 275 ، ويقارن : إبراهيم خليل العلاف: تاريخ الفكر القومي العربي، دار الشؤون الثقافية، بغداد 2001، ص 112
4- علي حسين الجابري : فلسفة التاريخ في الفكر العربي المعاصر القسم الأول ، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1993، ص196

والاتجاه المغترب ودعواته العلمانية الملحدة التي أخذت تتصاعد مع سقوط فكرة الخلافة لتنفيذ البرنامج الصهيوني ضد العرب ومستقبلهم ونهضتهم(1). لهذا يراهن على العامل السياسي في تحريك التاريخ من جانب، ويرفض التعصب الديني والالحاد من جانب آخر.

5-3-3 ميز بين مسيحية الإنجيل الحقيقية (جوهر الحقيقة )التي تحثهم على الارتباط بالأهل، وبين مسيحية المتفرنجين الزائفة التي تخدم الأجنبي ومؤسساته وسياسته، بعد أن عزا تبرم المسيحيين (العرب) لا من الدين الإسلامي فحسب، بل من الساسة وسلوكهم المشين وجهلهم ومظالمهم .

6--3-3 يرى أن في مكونات التاريخ العربي ثمة قوانين وسنن حيوية يشهد عليها الواقع المعاشي ويعترف بها النص المقدس (القرآن الكريم )أبرزها: الصراع بين الأمم والشعوب، يراد به إظهار الطرف الذي ينحاز إلى الحق والعدل، ويتوج بانتصار المتقين والصالحين ممن منحهم الله الخلافة على هذه الأرض وسلبها من الفاسقين والظالمين. ونسبية الحقيقة التاريخية، هذا يعني لكل زمان شروطه ولكل مكان اشتراطاته، وهذا هو منطق التطور الذي علينا مراعاته، الذي به ارتقى الإسلام بالعمران وبفنون العرفان 49(2).

نستنتج من ذلك، أن هذه الشروط نابعة من صلب الأمة وظروفها، وحركتها لا تقود إلى النهضة إلا بالتمسك بالنبوة وتراث خلافة النبوة، فضلاً عن تضامن المسلمين واتحادهم والنهوض بهم كرافد نقصي من خلاله كل أسباب الضعف والانحطاط

ص: 159


1- علي حسين الجابري: فلسفة التاريخ، ص339 ، إذ أن خروج الدولة من العرب وطاعة الحكام الطغاة جعل التغلب : وسيلة السلطة، وشيوع العصبية المذهبية، والتساهل في شروط العلم، وسوء الظن بالتراث العربي الإسلامي، والقول بانتهاء دور المدنية الإسلامية، وخلود المدنية الغربية على علاتها بما فيها من تطرف ونزعة مادية وحروب وترف ،كل ذلك رافق تمجيد العامة لبرامج الحكومات المستبدة بسبب المحاباة والجهل، فسكتوا على استبداد الأجنبي الظالم، بسبب غياب الرأي الحصين وضعف الأخلاق والاستهانة بالإنسان عموماً، والمرأة على وجه الخصوص، كل هذا ناتج عن ضعف الإيمان الحقيقي بالإسلام مع أنه أعظم قوة معنوية يمكن أن (تحمي) مدينة الشرق (وتنقذ) مدينة الغرب، إذا ما نجحنا في غرس الفضيلة وروح الإيمان والعلم، بعد أن اضمحلت في عصرنا بسبب فساد الحكومات والحكام وغياب العلوم والتربية الصحيحة التي تحقق النهضة، للتفصيلات يراجع : محمد رشيد رضا، الخلافة والامامة، ص64 وما بعدها.
2- محمد رشيد :رضا الخلافة والامامة، ص 5 :ويقارن علي حسين الجابري فلسفة التاريخ، ص 297

والتخلف والاستبداد، حتى لو تطلب الأمر من الأمة الثورة لإصلاح شأنها، وبهذا تكون النهضة في التاريخ العربي فعلا ووعيا حرا داخليا ينشأ بفضل التفاعل الايجابي الشبكة العوامل الذاتية والموضوعية.

الخاتمة وأهم الاستنتاجات:

من خلال سير البحث توصل الباحث إلى عدة استنتاجات أهمها:

وجدنا ان التفكير الفلسفي سواء كان إسلامياً أم غربياً تميز بكونه يتحدد من خلال (النقد)، اذ لا نجد أي فيلسوف ومهما كانت منظومته الفلسفية التي يؤكدها الا ومارس النقد، أي نقد اللاحق لسابقيه.

أن الاصلاح الديني لديه هو اصلاح يتم بالإسلام وفي الاسلام، قائم على تهذيب الاخلاق، من هنا اخذ يوائم بين (العلم والدين) من خلال ربط الاخير بالمكتشفات العلمية الحديثة كي نواكب التطور ونضاهي الدول الاجنبية في درجة تقدمها وتطورها.

لاحظنا أن الشيخ محمد رشيد رضا، قد تميز عن أساتذته ومعاصريه من دعاة الإصلاح الإسلامي، فقد رأى منذ البداية بأولوية إقامة نظام إسلامي- سياسي دستوري يلتزم بمبادئ الشورى والعدل والحرية، بحيث يشارك فيها الشعب وممثليه.

لقد عاش (رضا) فترة عصيبة من حياة الأمة الإسلامية تغيرت فيها ملامحها السياسية والتي تمثلت بسقوط الدولة العثمانية، رغم ذلك فهو لم يقف مكتوف الأيدي حيال هذه الأزمات التي عصفت بالبلاد من دون اقتراح حلول، ومن هنا وضع برنامجاً فكرياً تربوياً سياسياً لفت من خلاله الانتباه إلى الآثام والمعاصي الناتجة عن ترك النظر في سنن الأرض والتي باتت أشد ضرراً على جسد الأمة العربية، اذ كثر فيها الضعف والجمود ، ولهذا أخذت دول الاستعمار تتكالب عليها والسيطرة على أملاكها، ومن هنا فقد كان منتقداً ومقاوماً شرساً لهم، فكانت له مواقف مشرفة ليس ضد الاستعمار الانكليزي فحسب، بل ضد تواطؤ الاتحاديين الاتراك وذلك لبيعهم الاراضي لليهود، واستمر من غير هوادة يكشف دسائسهم ومؤامراتهم حتى

ص: 160

وصل جهاده ونقده إلى الاستعمار الايطالي والفرنسي ، ومن أجل مكافحة هذا المد

(الصهيوني) ودرء خطره أخذ يحذر من بيع الاراضي لليهود أو لغيرهم من الاجانب، لان بيعها خيانة لله ولرسوله وللامة الاسلامية، فدعا العرب إلى جمع قواهم للدفاع عن الاسلام باعتبارهم أهل رسالة وأصالة ودين، كاشفا زيف الوعود الغربية، والاتجاه المغترب ودعواته إلى العلمانية الملحدة التي أخذت تتصاعد لتنفيذ البرنامج الصهيوني ضد العرب ومستقبلهم ونهضتهم.

لقد وقف (رضا) موقفاً حازماً من الاستبداد الذي تجذر لدى الأتراك، إذ يؤكد دائماً على أن السلطة مصدرها الأساس هو الشعب، ويكون ذلك عن طريق نوابها أهل الحل والعقد)، فلا شرعية لتوريث أو انقلاب على إرادة الشعب فالدولة التي تكون سياستها قائمة على العدل والحق فإنها بالتأكيد تؤول إليها وراثة الأرض، أما التي تقوم بالعكس فتزول والتاريخ خير شاهد على ذلك، فليس للحاكم خيار من هذا.

لاحظنا كذلك انه استطاع ان يتصل بجمال الدين الافغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق (السياسة)، فضلاً عن اتصاله بأستاذه محمد عبده الذي نادى ايضاً بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق( التربية والدين)، لان آراءه لم تكن تشجع على ممارسة العمل السياسي على الاطلاق وهذا خلاف واضح بين الافغاني وتلميذه عبده، في حين نجد ان (رضا) قد سار على منهجي استاذيه بمنهج خاص به بحيث جعله يوائم بينهما، فنادى بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق(الدين والسياسة) معاً، اذ يبين ان الدين ليس في اسراره الروحانية فحسب، بل في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية، اما السياسة فهي التي تصون الدين وتحفظ الدنيا، فضلاً عن انها تنشرالاخوة الانسانية.

من خلال سیر البحث وجدنا ان (رضا) قدم مشروعاً حضارياً إصلاحياً نهضوياً شاملاً منطلقاً من إيمانه بشمولية الاسلام، ولهذا اخذ يستجيب للتغير لدواعي العمران المدني ويعيد للعرب دورهم التاريخي بعد اهمالهم للتراث والعلم الحديث، بعد ان تخلفوا عن هذا الدور بحكم الاستبداد، ورأى انه لا سبيل لعلاج ذلك الا بمشروع

ص: 161

(الامة الوسط)، لذلك اخذ يراهن على العامل السياسي الذي من خلاله اخذ يرفض التعصب الديني والالحاد.

إذاً، فلا نهضة الا مع عقيدة صالحة من خلال تجاوز الجمود، فضلاً عن اصلاح الدولة وضمان وحدة القيادة وعدالة الحكومة، وبذلك تكون النهضة في التاريخ العربي فعلا ووعيا داخليا حتى تتمكن الامة من تحقيق تواصلها مع تراثها وعقيدتها وقيمها مع علوم العصر وروحه.

ص: 162

مالك بن نبي .. من نقد الذات والآخر إلى بناء نظرية جديدة في البناء الحضاري

أ.د. مصطفى النشار

أ.د. مصطفى النشار(1)

تمهيد

يحتل مالك بن نبي من فلاسفة العالمين العربي والإسلامي المحدثين والمعاصرين مكانة متميزة؛ لأنه كان أبرزهم اهتماما بفلسفة الحضارة والتاريخ المعاصرين ولاينافسه في ذلك إلا محمد اقبال، وتعدي اهتمامه بهذا المجال الحيوي التركيز على الدرس النظري إلى التركيز على كيفية استخدام مقولاته ونظرياته في وضع نظرية جديدة تكون جديدة بصورة النهضة إلى العالم الإسلامي من جديد.

وقد نجح إلى حد كبير في وضع هذه النظرية العامة في تفسير الحضارات وجعل نقطة البداية فيها هي الروح الدينية حيث اعتبر أن الفكرة الدينية هي الأساس في أي تغير حضاري ليس في الحضارة العربية الإسلامية وحدها، بل في كل الحضارات السابقة عليها واللاحقة لها. ومن ثم فقد بنى تحليلية لواقع العالم الإسلامي ودراسة طریق نهوضه من خلال هذه النظرية التي تستند على ثلاثة عناصر هي: الإنسان، التراب، الزمن. وكم كان أصيلاً أيضاً في تحليله للحضارات الإنسانية عموماً استناداً على هذه العناصر، وكم كان أصيلاً أيضاً في تحليلاته الجزئية لكل واحد من هذه العناصر ومحاولته من خلال هذه التحليلات خلق الدافعية لدى العرب والمسلمين

ص: 163


1- أستاذ الفلسفة اليونانية مصر

للعودة إلى الريادة الحضارية من جديد.

وقبل الخوض في التعرف على هذه النظرية البديعة وتحليلات صاحبها المبدعة

يجدر بنا أن نتساءل: من هو مالك بن نبي؟!

أولاً: حياته وتطوره الفكري (1):

إنه مالك بن عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي الذي ولد بمدينة تبسة التابعة لولاية قسنطينة شرق الجزائر، وكان ذلك في الأول من يناير عام 1905 الموافق 5 من ذي القعدة عام 1323ه_. وقد ولد لأب يعمل موظفاً بالقضاء الإسلامي. ومن ثم فقد ترعرع في أسرة محافظة متوسطة الحال حيث قيل أن والدته اضطرت للعمل بالحياكة وباعت أثاث منزلها لتستطيع الانفاق على تعليمه هو وأخوته. اما بلدة تبسة التي ولد فيها وقضى معظم طفولته بين أرجائها فكانت أقرب إلى البداوة منها إلى المدينة ومن ثم كان الحضور الفرنسي فيها قليلاً رغم أن الاحتلال الفرنسي كان جاثماً على الجزائر جميعها. وقد تلقى تعليمه الأولي في هذا الوسط الريفي الهادئ بعيداً عن المدن الكبيرة. وبالطبع فقد تلقى دروسه في المساجد ودرس القرآن الكريم وفي ذات الوقت التحق بمدرسة فرنسية حصل منها على الشهادة الابتدائية. ثم انتقل بعد ذلك إلى قسنطينة ليكمل تعليمه هناك.

والملاحظ على هذه النشأة أنها نشأة مزدوجة التأثير على فيلسوفنا حيث إن التعاليم العربية الإسلامية كانت قرينة التعاليم الغربية الفرنسية؟ ففي الوقت الذي تأثر فيه آنذاك بصديق له كان دائم الاستشهاد بآيات القرآن الكريم وكذلك بأنباء بلدته الذين اعتصموا بالإسلام ديناً وباللغة العربية لغة حتى لا تذوب هويتهم في هوية المستعمر، نجده قد تأثر كذلك بمعلمه الفرنسي «مارثان» الذي علمه تذوق اللغة والآداب الفرنسية.

ص: 164


1- انظر في حياة مالك بن نبي، الموسوعة الحرة Wikipedia وموقع binnabi.net وكذلك: د. راغب السرجاني: مالك نبي، فيلسوف الحضارة والنهضة،الموسوعة الحرة shaper way. ipg ص 2،1

وقيل أن ابن نبي قد طالع في هذه الفترة كتابين هامين كان لهما أكبر الأثر في حياته الفكرية بعد ذلك هما«الإفلاس المعنوي: هل هو للسياسة الغربية في الشرق؟»

«للشاعر الإسلامي أحمد محرم ، «ورسالة التوحيد«للإمام محمد عبده وقد اكتشف من خلالهما الكثير من أوضاع العالم الإسلامي. والى هذه الفترة أيضاً يرجع اهتمامه بكتابات عبد الرحمن الكواكبي وخاصة كتابه «أم القرى» وكذلك بكتابات عبد الحميد بن باديس والمجلة التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين برئاسته «مجلة الشهاب».

ولم يمنعه هذا الاهتمام بهؤلاء المفكرين الإسلاميين الكبار وكتاباتهم من الاهتمام في ذات الوقت بقراءة العديد من الكتابات الفرنسية للمفكرين الفرنسيين، وكذلك لم يمنعه ذلك من التردد على البعثات التبشيرية الانجليزية حيث تعرف على الإنجيل

وناقش هؤلاء المبشرين في أدق أفكارهم.

إن هذه النشأة مزدوجة الثقافات أثرت أبلغ الأثر في تكوين ابن نبي الفكري وجعلته يفكر لأول مرة في زيارة باريس وهو في العشرين من عمره ليبدأ مرحلة فكرية جديدة في حياته يمكن أن نطلق عليها مرحلة التنقل والسفر، ولما كان أبرز ما فيها هو استقراره فترة في باريس فيمكن أن نطلق عليها أيضاً المرحلة الباريسية حيث كان قد خاض تجربة سفر فاشلة إلى باريس قبل ذلك وكانت قصيرة الأمد عاد بعدها إلى مسقط رأسه حيث حاول الاهتداء إلى عمل يناسبه فعمل في محكمة فلو التي وصل إليها في مارس عام 1927م« ووفر له هذا العمل الاحتكاك المباشر بقضايا الشعب وفئاته البسيطة مما كان له كبير الأثر على تفتح عقله على حالة بلاده وحال البسطاء من شعبها في ظل الاحتلال. وقد استقال من هذا المنصب بعد حوالي عام من توليه أثر نزاع مع كاتب فرنسي لدى المحكمة المدنية، ولم يدم تردده طويلاً حال تفكيره في العودة إلى باريس حيث أعاد الكرة وسافر إليها عام 1930م لتطول سفرته هذه المرة حيث كان الهدف علمياً في الأساس، وقد حاول في البداية أن يدرس الحقوق بمعهد الدراسات الشرقية إلا أنه لم يسمح له بذلك حيث كان هذا النوع من

ص: 165

الدراسات الإنسانية الحقوقية غير مسموح به للجزائريين، ورغم تأثره الشديد بذلك إلا أنه تحول إلى الدراسات العلمية العملية حيث التحق بمدرسة اللاسلكي ليتخرج مساعد مهندس مما جعله متخصصاً في التكنولوجيا ومهتماً بها بعد ذلك، وكان تخرجه في هذه المدرسة عام 1925م.

وقد انغمس ابن نبي في هذه السنوات الدراسية العلمية في الحياة الفرنسية تماماً واختار الإقامة في باريس بدليل أنه تزوج من امرأة فرنسية أسلمت على يديه. وبدأ يوسع من علاقاته الفكرية والثقافية في باريس حيث التقى فيها بشكيب ارسلان - داعية العروبة والإسلام المعروف – كما التقى هناك أيضاً بغاندي الزعيم الهندي الشهير وصار له ذلك الحضور المميز في أوساط المغاربة والجزائريين حتى لقب آنذاك بزعيم الوحدة المغربية. كما استطاع أن يقيم جسور التواصل مع أبناء جاليات أخرى كانت تعاني هي الأخرى من الاحتلال.

والطريف أنه بعد هذه الرحلة الباريسية والإقامة الطويلة فيها حاول العودة إلى الجزائر والاستقرار فيها لكنه لم يوفق إلى ذلك حيث لفت انتباهه أن بلاده تحولت تحت يد الاحتلال من زراعة القمح إلى زراعة العنب التي تصنع منه الخمور للفرنسيين المحتلين ، ولم يعجبه ذلك وبدلاً من أن يكافح لمواجهته داخل البلاد، عاد إلى فرنسا مرة أخرى وكان ذلك في عام 1939م حيث تفرغ للعمل الفكري فعمل صحفياً في جريدة اللوموند وزاد اهتمامه بقضايا بلاده ومشكلات العالم الإسلامي وبدا ذلك بوضوح حينما بدأ يكتب سلسلة من المؤلفات المهمة مثل كتابه عن «الظاهرة القرآنية» عام 1946م ثم كتابه «شروط النهضة «عام 1949م الذي طرح فيه لأول مرة مفهوم القابلية للاستعمار، وكذلك كتابه «وجهة العالم الإسلامي» عام 1954م. ولما قامت الثورة الجزائرية المسلمة في ذلك العام تفاعل معها كثيراً. وفكر في الرحيل إلى القاهرة التي كانت في تلك الفترة تحتضن كل حركات التحرر الوطني وتتبنى كل قضايا التحرر وتدافع عن قيم العروبة والإسلام بكل ما أوتيت من قوة .ومن ثم كان قراره بالسفر إلى القاهرة ليستقر فيها عدة أعوام من عام 1956 حتى عام 1963. وهذه الفترة من حياته

ص: 166

يمكن أن نطلق عليها المرحلة القاهرية حيث اختلفت وتمايزت عن مراحل حياته السابقة، إذ أنه أتقن العربية وبدأ يحاضر بها في العديد من المعاهد والجامعات، وكم رحبت به المنتديات الفكرية للمفكرين والمثقفين المصريين والعرب بالقاهرة وتوالت أعماله الفكرية الجادة في القاهرة حيث أصدر أول كتاب باللغة العربية وبخط يده كتاب «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ثم كتاب «تأملات في المجتمع العربي» وكتاب «میلاد مجتمع» وكذلك كتاب «حديث البناء الجديد». كما كتب في تلك الأثناء عام 1957م كتاب« النجدة »الشعب الجزائري يباد» وكتاب« مشكلة الثقافة »عام 1958م. ولكل هذا النشاط الفكري المميز تم اختياره مستشاراً للمؤتمر الإسلامي بالقاهرة. وتأثرا بحركة التحرر الأفريقي التي كانت تقودها مصر في عهد جمال عبد الناصر كتب كتابه

«فكرة الافريقية الأسيوية عام 1956» .

أما المرحلة الأخيرة من حياته وهي ما يمكن أن نطلق عليها مرحلة الاستقرار بالجزائر والمزاوجة بين العمل الفكري والعمل الدعوي العملي فقد كان يطمح فيها إلى أن يرى أفكاره ذات تأثير على بني وطنه حيث أنه عاد إلى الجزائر بعد الاستقلال عام 1963م ليتولى العديد من المناصب العامة التي تركزت في حقل التعليم الذي كان يعتبره الأساس المتين لتكوين جيل جديد يحمل عبء النهضة والتقدم للوطن. فقد عين عام 1964م مديراً للتعليم العالي وقام بمهمته خير قيام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولم يتوقف عن الأعمال الفكرية النظرية حيث واصل سلسلة مؤلفاته المتميزة فكتب عام 1964م «آفاق جزائرية» و« انتاج المستشرقين »عام 1968م وكذك «الإسلام والديمقراطية» في العام نفسه. وبدأ كتابته مذكراته التي ظهر منها عام 1965م مذكراته «شاهد للقرن - الطفل».

ولما أتى العام 1967م استقال من مناصبه التنفيذية وفضل التفرغ للعمل الإسلامي والتوجيهي حيث ساهم بنشر المقالات المتتابعة في الصحف الجزائرية وخاصة في مجلة «الثورة الافريقية African revolution »التي خصها بمقالات عن تصوراته الفكرية لاشكاليات الثقافة والحضارة والمجتمع ، وقد نشرت هذه المقالات في

ص: 167

كتبه بعد ذلك. وقد كتب في الفترة نفسها كتباً مهمة منها «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» عام 1970م الذي عده البعض من أهم ما كتب باللغة العربية في القرن العشرين ،والجزء الثاني من مذكراته» مذكرات شاهد للقرن - الطالب» عام 1970 أيضاً. وفي عام 1972م نشر «المسلم في عالم الاقتصاد» و«بين الرشاد والنية» ومن أبرز ملامح هذه المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية، تلك الندوة الأسبوعية التي كان يعقدها في بيته والتي كان يحضرها الشباب المثقف وكذلك الكثير من العاملين في وزارة الأوقاف والشئون الدينية. وقد حث هؤلاء على مواصلة هذه الملتقيات النوعية لتوعية الأجيال الصاعدة بقضايا الأمة، وبناء عليه قامت الدولة بافتتاح مسجد بالجامعة المركزية. ويبدو أنه لشدة نجاح هذه الندوات واستمراريتها قررت الدولة تكريما لشخصه أن تحولها إلى ملتقى دائم للفكر الإسلامي يقام كل عام في الجزائر .

ولم يتوقف نشاط مالك بن نبي في هذه المرحلة عند حدود بلاده الجزائر، فقد قبل دعوة سورية لإلقاء محاضرة بسوريا عام 1972م. وقد اختار لها عنواناً موحياً هو« دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين». وقد اعتبرت هذه المحاضرة من قبل مؤرخيه أشبه بالوصية التي أوصى بها مالك بن نبي المسلمين قبل وفاته. وقد توفي مالك بن نبي بعد ذلك بحوالي عام حيث كانت وفاته يوم أكتوبر 1973م في الجزائر العاصمة بعد هذه الحياة الطويلة الحافلة بالعطاء الفكري والعمل الذي أسهم بشكل كبير في تدعيم حركة التنوير والتحرر العربيين على مدى أكثر من خمسين عاماً في القرن العشرين عانى فيها ما عانى مثل كل العرب من تبعات الاستعمار وعاصر حركات مقاومته كما شهد انكسارات العرب وانتصاراتهم فقد غادر مصر في عام 1967م وهو عام النكسة ومات في الجزائر بعد أن استمتع كغيره من العرب بسماع أخبار النصر الذي تحقق على يد الجيش المصري والجيوش العربية في السادس من أكتوبر عام 1973.

ثانياً: نظريته في البناء الحضاري:

إن قضية القضايا عند مالك بن نبي هي نهضة المسلمين والبحث عن كيفية هذه

ص: 168

النهضة وقبل ذلك عن معوقاتها منذ غروب شمسها بعد انتهاء عصر دولة الموحدين في الأندلس. لكن معالجة ابن نبي لهذه القضية إنما تأخذ منهجاً فكرياً أصيلاً كل الأصالة لأنه يربطها ويصل إليها عبر نظرية في البناء الحضاري هي من الأصالة والعمق بحيث ينبغي أن نتوقف عندها أولاً، ولعل السؤال الجوهري المبدئي فيها هو : ما الحضارة ؟!

إن تعريفه للحضارة ينبثق من رؤية ثابتة مؤداها أن الحضارة فكرة أو هي نتاج فكرة لكن هذه الفكرة ليست بعيدة عن المجال الحيوي الذي تنشأ فيه ؟ فقد عرف ابن نبي الحضارة في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» قائلاً: «إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ» (1)، كما عرفها في كتابه «شروط النهضة» قائلاً :« أن الحضارة مجموعة من من العلائق بين المجال الحيوي ( البيولوجي) حيث ينشأ ويتقوى هيكلها وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها(2) . ومن هاتين الزاويتين يعيد تعريف الحضارة بشكل أكثر شمولاً فيقول: «أنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره»(3) .

وينحل البناء الحضاري في رأيه إلى عناصر ثلاثة هي: الإنسان، والتراب، والوقت،

وهو يصيغها في معادلة أشبه بالمعادلات الرياضية هي:

حضارة = انسان + تراب + وقت(4).

وقبل أن يسارع أحدنا إلى نقد هذه المعادلة بقوله إن هذه العناصر الثلاثة متوفرة لدينا كما لدى الأمم الأخرى ومع ذلك فلا توجد الحضارة بمعناها الوثيق إلا لدى أحدها فقط فلماذا غابت عن الأمم الأخرى ؟!

ص: 169


1- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة د. بسام بركة ود. أحمد شعبو، دار الفكر المعاصر بلبنان ودار الفكر بسوريا، طبعة 2002م، ص41
2- مالك بن نبي: شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق، سوريا 1986م، ص 43
3- مالك بن نبي مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، سبق ذكره، ص42
4- مالك بن نبي شروط النهضة، سبق ذكره،ص 45

يجيبنا ابن نبي على هذا الاعتراض قائلاً: إن الماء نتاج للأيدروجين والاكسجين وبرغم هذا فهما لا يكونانه تلقائياً ! ولذا قيل إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقتضي تدخل ( ترتيب) ما بدونه لا تتم عملية تكون الماء. وبالمثل فإن هناك ما يطلق عليه ( مركب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض. ويرى مالك بن نبي أن هذا المركب حسب رؤيته وما يدل عليه التحليل التاريخي في رأيه - هو الدين، هو الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ(1).

إن الحضارة في رأيه« لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها «فهكذا كان الأمر في الحضارة الإسلامية وكذلك في الحضارة المسيحية ولعله «ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في

البوذية بذور الحضارة البوذية وفي البراهمية نواة الحضارة البراهمية»(2) .

وعلى ذلك فهو يعتقد أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه في أطوارها أطوار المدينة الإسلامية والمسيحية؛ إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها بعد أن تفقد الروح ثم العقل(3) .

إنه يؤمن اذن بدورانية التاريخ وبأن كل حضارة من الحضارات تمر بأطوار معينة من البناء إلى السقوط والانهيار، وهو يعتقد أن منحى السقوط الذي تغلقه عوامل نفسية أحط من مستوى الروح والعقل، وطالما أن الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح والعقل الفردية فهو في الطريق إلى الحضارة ونموها، حيث إن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة ما فيما وراء الشعور ،وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها لكي تعود بالإنسان إلى مستوى الحياه البدائية. وهو يضرب المثل هنا بالحضارة العربية الإسلامية، إذ كان أساسها أن الدين قد بعث في المسلم روحاً محركة للحضارة، فلم يلبث بعد مرحلة

ص: 170


1- نفسه ص45-46
2- نفسه ص 50
3- نفسه، ص 53

قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن، انساناً بدائياً(1).

وعلى ذلك فإن أي حضارة «تقع بين حدين اثنين هما: الميلاد والأفول... والمنحنى البياني لا يبدأ بالضرورة من النقطة الأولى في خط صاعد ليصل إلى النقطة الثانية في خط نازل وبينهما طور وسيط هو: «الأوج، وبين الطورين الأولين يوجد بالضرورة توازن معين يشير إلى تعاكس في الظاهرة، فطور الأفول النازل هو عكس طور النهضة الصاعدة وبين الطورين يوجد بالضرورة اكتمال معين هو طور انتشارالحضارة وتوسعها» (2).

إن الدورة الحضارية تتم إذن على هذا المنوال« إذ تبدأ حينما يدخل التاريخ فكرة دينية معينة، وتنتهي حينما تفتقد الروح نهائياً الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح. وقبل بدء دورة من الدورات الحضارية أو في بدايتها يكون الإنسان في حالة سابقة للحضارة، أما في نهاية الدورة فإن الإنسان يكون قد تفسخ حضارياً وسلبت منه الحضارة تماماً فيدخل هنا في عهد ما بعد الحضارة»(3).

وإذا كان هذا الإنسان هو في الأساس باني الحضارة وعلى يديه أيضاً تنتهي، فإنه بلا شك يعد العنصر الأهم في البناء الحضاري، فلكي توجد الحضارة لا بد من الإنسان القادر على استخدام العنصرين الآخرين التراب والوقت للوصول إلى الهدف:« بناء الحضارة والتفوق الحضاري. ولكي يؤثر الإنسان الفرد في تركيب التاريخ وصنع الحضارة فإنه يؤثر في مجتمعه ككل بثلاثة مؤثرات: أولاً : «بفكره وثقافته وثانياً :بالعمل وثالثا: برأس المال»(4) .

أما الثقافة فهي التي يكتسبها الفرد بصورة عملية من بيئته ومجتمعه إذ أن «الثقافة هي مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته

ص: 171


1- نفسه
2- نفسه ص 66
3- نفسه ص70
4- نفسه، ص 77

كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته». إن الثقافة إذن هي« المحيط الذي يعكس حضارة معينة

والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر»(1) . إن هذا التعريف للثقافة يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان الفرد وفلسفة الجماعة مع الأخذ في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر احدى الحضارات(2).

إن ثمة مركباً اجتماعياً للثقافة يتألف من أربعة عناصر يتخذ منها أي شعب دستوراً لحياته المثقفة أولا:ً عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية وثانيها :«عنصر الجمال لتكوين الذوق العام وثالثها :منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام ثم رابعاً: الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع أو الصناعة على حد تعبير ابن خلدون»(3) .

إن الثقافة بعناصرها الأربعة السابقة هي ما تشكل صورة الحياة في حضارة ما، وينبغي أن ندرك جيدا أن الحياه في أي مجتمع معين قبل أن تتأثر بالفنون والصناعات

(العنصر الرابع فيما سبق) أي بالجانب المادي أو الاقتصادي من الحضارة تتخذ اتجاهاً عاماً ولوناً شاملاً يجعلان جميع تفاصيلها مرتبطة بالمبدأ الأخلاقي وبذوق الجمال الشائعين في هذا المجتمع، ويمكن صياغة هذه العلاقة في صورة جبرية هكذا: مبدأ أخلاقي + ذوق جمالي = اتجاه حضارة(4) .

إذن تختلف الحضارات باختلاف التوجيه الثقافي للإنسان الصانع لهذه الحضارة أو تلك، إذ من الممكن أن تبدأ الحضارة بتوجيه أخلاقي معين أو بذوق جمالي معين وكلاهما سيتبع بالتأكيد حسب رؤية ابن نبي بفكرة دينية أو روحية معينة.

ص: 172


1- نفسه، ص 83
2- نفسه
3- نفسه. ص 87. وانظر تفاصيل هذه العناصر الأربعة في نفس المرجع، ص 88 وما بعدها
4- نفسه ص101

وبالطبع فإن التوجيه الثقافي لا بد أن يبدو في عمل الإنسان وهو العنصر الثاني من عناصر نظام الإنسان إذ أن« العمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي ورغم أنه ليس عنصراً اساسياً كالإنسان والأرض والتراب إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة»(1) . ومن ثم فلابد من توجيه العمل حيث تسير جهود الأفراد كلهم في اتجاه واحد بما في ذلك جهد الراعي والفلاح وصاحب الحرفة والتاجر والطالب والعالم والمرأة والمثقف حتى يضع كل واحد منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء الحضاري« إننا نعمل ما دمنا نعطي ونأخذ بصورة تؤثر في التاريخ، فتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئته الجديدة» (2).

ولا شك أن المال والثروة يشكلان عاملاً مهماً في البناء الاقتصادي والاجتماعي لأي حضارة بأوزان مختلفة حسب درجة التطور الحضاري.. وإذا كان اصطلاح الثروة سواء كانت متعلقة بالمواد الخام أم بناتج حركة التجارة كان معروفاً من قبل، فإن اصطلاح رأس المال الحديث عادة ما يكون منفصلاً عن صاحبه، إن الثروة مرتبطة بصاحبها أو بما يملك من مواد خام أو كائنات حية، أما رأس المال فهو في جوهره المال المتحرك الذي يتسع مجاله الاجتماعي والاقتصادي، والقضية بالنسبة لنا هنا هي قضية منهج يحدد بمقتضاه التخطيط الاقتصادي المناسب للبناء الحضاري، وأساس هذا التخطيط الاقتصادي الأمثل هو أنه «لا يكون فيه مكان لتركيز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة تستغل السواء الأكبر من الشعب، بل يجب أن يتوفر فيه إسهام الشعب مهما كان فقيراً وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد»(3)، وإذا تم توجيه الثروة ورأس المال على هذا النحو سيسير متضامناً مع توجيه الثقافة وتوجيه العمل ومن ثم يكون الفرد قد استكمل الشروط اللازمة لتشييد التيار الحضاري.

وإذا كان ذلك كله يخص الإنسان ومشكلاته في البناء الحضاري، فماذا عن التراب ؟!

ص: 173


1- نفسه ص106-107
2- نفسه ص107-108
3- نفسه، ص 113

إن التراب في اصطلاح مالك بن نبي يعني الأرض المليئة بالثروات التي يتوقف البناء الحضاري على قدرة الإنسان صانع الحضارة الجديدة على استخدامها وحسن توظيفها والاستفادة منها ، والتراب هو إذن أحد العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة فإذا ما توفر «المركب الديني»« التركيب هذه العناصر»(1) . والمشكلة عند ابن نبي هي كيف يحول الناس في أي حضارة الرمال إلى عامل بناء حضاري بتحويلها إلى أرض خصبة أو على الأقل الانتصار على الرمال بتحويلها إلى بيئة خضراء زراعية أو بالانتصار عليها بالاستفادة من الموارد الطبيعية الكائنة تحتها .إن انتصار الإنسان على نوائب الطبيعة وأهوالها - التي أخذ ابن نبي الرمال مثلاً عليها - إنما هو رسالة الإنسان الحضارية بعلمه وعمله عبر الجهود الفردية والجماعية.

إن هذه الجهود هي ما تجعلنا ننتصر على كل ما يخيفنا في الطبيعة ومن ثم نمهد

لصنع حضارة جديدة.

ولا شك إن عنصر الزمن بالنسبة للعنصرين السابقين في البناء الحضاري في غاية الأهمية، حيث أن استغلال الوقت الاستغلال الأمثل في العمل ومواجهة التحديات الحضارية مسألة في غاية الأهمية إذ« انه في ساعات الخطر في التاريخ، تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، إذا استيقظت ،ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب ،لا يقوم الوقت بالمال، كما ينتفي عنه معنى العدم «إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر »وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية، أي حينما يكون لازماً للمحافظة على البقاء أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة ويدركون قيمتها التي لا تعوض؛ ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم. وإنما الساعات نفسها، فيتحدثون حينئذ عن ساعات العمل، إنها العملة الوحيدة المطلقة التي لا تبطل ولا تسترد إذا ضاعت، إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع وأن يجدها المرء بعد ضياعها ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة ولا ان تستعيدها إذا مضت »(2)

ص: 174


1- نفسه ص 131
2- نفسه، ص 139-140

هكذا عبر ابن نبي عن ابن نبي عن أهمية الزمن والوقت بالنسبة لمن يصنعون الحضارة ، إن الحياة والتاريخ خاضعان للتوقيت والزمن ، وكلما كان الإنسان قادراً على استغلال الوقت في العمل الجاد وقادراً على اكتشاف التوقيت المناسب لبدء العمل أو إنهائه باتقان، كان انجازه الحضاري عظيماً وجديراً بالانتباه ،إن الاستخدام الأمثل للزمن له أمثلة عديدة رائعة مثل التجربة الألمانية التي انتصرت على ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي خلفت ألمانيا محطمة مدمرة لم يبق لها أي شيء تقيم عليه بناء نهضتها، ومع ذلك لما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل عام 1948 وكان آنذاك في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه، نجح خلال عشر سنوات في تحقيق المعجزة والعودة إلى الواجهة الاقتصادية للعالم، إن الشعب الألماني لم يكن يملك أنذاك إلا العناصرالثلاثة: الإنسان والتراب والأرض، وبهم صنع المعجزة الألمانية.

وكم كان ابن نبي بليغاً حينما أراد أن يحفزنا للصنيع نفسه بقوله : إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي، قيمة هذا الأمر»(1) .

ولكن لم يقل ابن نبي أي نظام تربوي يمكن أن يولد في الشعب العربي الإسلامي هذا الامر ، هذا في الوقت الذي يقرأون فيه صباح مساء القرآن الكريم الذي كثيراً ما أقسم فيه الله بالزمن وقيمته الوقت ،وفي الوقت الذي نبههم فيه بأن العمل المتقن الخالص لوجه الله هو فقط ما سيكون محل تقديره سبحانه وتعالى لهؤلاء المؤمنين به.

ثالثاً: مشكلات النهضة الحضارية للعالم الإسلامي:

وعموماً فإن السؤال الأهم هنا هو : إلى أي حد يمكن أن توظف هذه النظرية لمالك بن نبي في تفسير البناء الحضاري في تحليل واقع الحال عند العرب المسلمين ؟! ما عوائق النهضة لدينا ؟ وكيف يمكننا التغلب عليها ؟ !

ص: 175


1- نفسه، ص 140

في الحقيقة أن جوهر المشروع الفكري لمالك بن نبي يتمحور حول تلك التساؤلات ومحاولة الإجابة عليها؛ فقد انطلق مشروعه الفكري من فكرة محورية هي أن نهضة

أي مجتمع انما تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده. وعلى ذلك فإن إعادة بناء المجتمع الإسلامي الحديث لا بد أن ينطلق من الفكرة الدينية الأصيلة كأساس لأي تغيير اجتماعي. وقد عبرت الآية الكريمة« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»(الرعد آية 1) عن ذلك، وقد أخذ مالك بن نبي هذه الآية نقطة الارتكاز الأساسية في منظومته الفكرية (1)، لقد اعتبرها شرعة السماء غير نفسك تغير التاريخ(2).

إن مشكلة العالم الإسلامي في نظره ليست فيما يستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فيها قيم الجمال والأخلاق وما فيها أيضاً من خصائص تعتري كل شعب نائم»(3) .

وإذا قال بعضنا كما يتردد دوماً إن أسباب تخلفنا وجمودنا تكمن في ذلك الاستعمار الذي لم يترك أرضاً عربية إلا احتلها ونهب ثرواتها وربطها باقتصاده حتى بعد الاستقلال، فإن مالك بن نبي له وجهة نظر أصيلة ومختلفة في هذا الأمر؛ إذ أنه يعتبر أننا لم نستعمر إلا لأننا لدينا تلك «القابلية للاستعمار». إنه يرى أن من الجرأة أن نقرر« أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكن له في أرضها »(4).

إن كابوس الاستعمار لا يذهب عن أي شعب بكلمات خطابية أو أدبية «» إنما بتحول نفس يصبح معه الفرد شيئاً فشيئاً قادراً على القيام بوظيفته الاجتماعية جديراً بأن تحترم كرامته وحينئذ يرتفع عنه «القابلية للاستعمار ولن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائياً إلى الوضع الذي يرتضيه »(5) .

ص: 176


1- د. راغب السرجاني، نفس المرجع السابق، ص 2
2- مالك بن نبي نفس المرجع السابق، ص 34
3- نفسه
4- نفسه، ص 31
5- نفسه

إن التخلف الذي يعيشه المسلمون ينبع في الأساس من داخلهم ويعود إلى طبيعة تشکیل عقليتهم وشخصيتهم التي ترسبت فيها مفردات الثقافة السلبية، ولا حل لهذه المعضلة إلا بالتحول من مجتمع غير فعال إلى مجتمع فعال، وفاعلية أي مجتمع إنما تنطلق من فاعلية الإنسان، وقد كان مالك بن نبي يقول في ذلك أنه «إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ»(1).

والحقيقة أن ما يقف أمام حركة الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية إنما هو فكره المكبل بالكثير من القيود منها «أنه فكر خاضع لطغيان الشيء والشخص»(2) إذ يتمحور فكرنا حول أشخاص أو زعماء بعينهم أو حول وثن من الأوثان أو شيء من الأشياء، ولا يمكن أن يتحول الإنسان إلى كائن فعال بشكل إيجابي في التاريخ إلا إذا تمحور فكره حول الفكرة وليس حول هذا الشخص أو حول هذا الشيء. إن الأفكار في رأي ابن نبي هي المحركة للأشخاص ومن ثم للمجتمعات والتاريخ».

ولعل من تلك القيود أيضاً تلك الازدواجية اللغوية الذي يعاني منها المسلمون،فقد غرس العصر الاستعماري فيما غرس من الظواهر المتصلة بالهياكل الاقتصادية والاجتماعية والإدارية في البلاد المستعمرة ظاهرة خاصة هي ازدواجية اللغة التي تتعلق ببناه الثقافية والعقلية وبأفكاره(3). ولقد أحدثت هذه الازدواجية اللغوية انشقاقاً في العالم الثقافي للبلاد الإسلامية ليس فقط ذا طابع جمالي بل أيضاً ذو طابع أخلاقي وفلسفي(4) ، فلقد ترتب عليها ظهور طائفتين من النخبة؛ النخبة التي تتكلم العربية وتحاول استرداد أصولها الإسلامية، والنخبة التي تتكلم اللغة الأجنبية سواء كانت الفرنسية في الجزائر أم الانجليزية في مصر. وكل منهما كان مصيره الفشل حيث لم تنجح الطائفة الأولى في إرساء اتصال بين الروح العربية المعاصرة والتقاليد الأصلية للسلف الصالح لعدم وجود اتصال حقيقي بنماذجها المثالية. والطائفة الثانية لم

ص: 177


1- مصطفى عاشور، مالك بن نبي ... فيلسوف مشكلات الحضارة .www.ilamonline.net ، نقلاً عن د. راغب السرجاني، نفس المرجع السابق، ص 2
2- مالك بن نبي، مالك بن نبي مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 127
3- نفسه ص 137.
4- نفسه، ص 139

تستطع إرساء اتصال مع حضارة العصر لعدم فهمها لروحها العملية؛ فافتقاد الأفكار الأصيلة من ناحية وافتقاد الأفكار الفعالة من ناحية أخرى جعل هذه الشعوب تراوح مكانها ولا تتقدم(1).

وبالطبع فإن مالك بن نبي هنا إنما يلمح من خلال اشكالية ازدواجية اللغة إلى الإشكالية التي شغلت النخبة المثقفة العربية منذ بداية الحقبة الاستعمارية وحتى اليوم اشكالية الأصالة والمعاصرة، وهي في اعتقادي اشكالية مزيفة إذ كان يمكن الاستفادة من ازدواجية اللغة حيث أن اللغة الأجنبية التي أتت مع المستعمر ليست شراً كلها بل كان يمكن الاستفادة منها ببساطة في الإطلاع على منجزات العصر وكأداة لفهم الآخر ، ومن ثم كان من الممكن تلاشي ما ترتب على ثنائية اللغة من اشكاليات عوقت التقدم والنهضة التي كانت مأمولة في ظل التحدي الذي فرضه الاستعمار بتقدمه التقني والمادي لكن للأسف تغلبت النظرة الدونية واستسلم أهل البلاد المستعمرة لأنه كان لديها بحسب اصطلاح ابن نبي «القابلية للاستعمار!.

وعموماً فإن هذه الثنائية اللغوية والازدواجية الثقافية ليست هي فقط المشكلة وإنما المشكلة الأكبر التي عوقت ولا تزال تعوق التقدم والنهوض هي ازدواجية أو ثنائية أخرى أهم أشار إليها مالك بن نبي وهي ثنائية «الأفكار الميتة والأفكار المميتة» أما الفكرة الميتة فهي «الفكرة التي بها خذلت الأصول، وانحرفت عن مثلها الأعلى وليس لها جذور في العصارة الثقافية الأصلية «اما الفكرة المميتة فهي« الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعدما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي».(2) ويقصد مالك بن نبي بالفكرة الميتة تلك الأفكار التي ننقلها عن التراث دون وعي بأنها ليست هي بنت الجوهر الأصيل للحضارة العربية الإسلامية، كما أنها بخلعها من جذورها ومحاولة زراعتها في بيئة لم تعد هي بيئتها كما لم تكن هي كذلك بيئتها الأصلية إنما يعني أنها فكرة ماتت بانتزاعها من أصلها ومن منبتها الأصلي. وهي تتلاقى لديه في حاضرنا المعاصر بالأفكار المميتة التي هي

ص: 178


1- انظر: نفس المرجع، ص140-139
2- نفسه، ص 153

الأفكار الغربية المستوردة التي لا تتفق مع هويتنا ولا تتوافق مع جوهرنا الأصيل. وفي رأي بن نبي أن تلاقي الأفكار الميتة مع الأفكار المميتة إنما يمثل أحد العوائق الكبيرة أمام نهضة الأمة لأنه« ما أن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة التي لم يعد لها جذور في بوتقة الثقافة الأصيلة للعالم الإسلامي، حتى نصطدم بالأفكار المميتة التي خلفت في عالمها الثقافي الأصيل جذورها ووفدت إلى عالمنا»(1).

إن الحقيقة التي يلفت انتباهنا إليها ابن نبي هي أن المشكلة في العالم الإسلامي هي مشكلة أفكار؛ إذ أنه منذ انحطاطه ما بعد عصر الموحدين يواجه مشكلة أفكارلامشكلة وسائل؛ فتراثه الذي ورثه من عصور الحضارة الإسلامية غدا أفكارا ميتة، أما نماذجه الروحية التي تعود إلى العهد الأول فقد خانتها أفكاره الموضوعة التي خالفت النموذج المطبوع، الذي أرساه العصر الأول ، وحينما افتقد الإحاطة بمشاكله وولى وجهه شطر العالم الغربي، فإن أفكاره المقتولة بفعل الانحطاط قد استخدمت من الحضارة الغربية أفكاراً انبتت عن جذورها وامتصتها مع سمومها القاتلة، فلا هي ادركت نمط الحضارة الغربية في اندفاعه التطوري الفعال المستمد من أصالته المقيمة في حدودها الجغرافية، ولا هي أحيت نماذجها الأصلية في انبثاقها الروحي. وهكذا تضافرت أفكارها الموروثة الميتة والأفكار القاتلة المجتثة من جذورها الغربية لتنتقم من هذا العالم كما ينتقم جسر سيء ء البناء بالانهيار على من بناه»(2).

وخلاصة القول أن العقول العربية وقعت أسرى هذين النوعين من الأفكار وهما معاً يمثلان العائق الأكبر أمام اليقظة والنهوض إذ أن الأفكار الميتة تسكن العقول ولا تدفع حاملها إلى أي مجهود أو نشاط فهي معلومات عقيمة متوارثة تجمدت لدى حامليها ومن ثم كانت أحد أسباب انحطاط الخط البياني الحضاري للأمة الإسلامية، أما الأفكار المميتة فهي التي قتلت الإبداع في النفوس بما لها من قدرة خبيثة على الإخماد وكبح جماح العقول وكسر الهمم وهي التي خلقت في أبناء الأمة الاستسهال وساعدت في تغيب القدرة التحليلية في فهم المشكلات المعقدة رغم أنها في أصلها

ص: 179


1- نفسه ص149
2- مقدمة عمر مسقاوي للترجمة العربية لنفس المرجع السابق، ص 12-13

وعند أهلها تفعل عكس ذلك تماماً، كما أن الواقع في العالم الثقافي الغربي ليس كله مميتاً، فنحن لم نأخذ منه على حد تعبير مالك بن نبي إلا النفايات، الجزء المميت من

تلك الحضارة »(1).

والسؤال هو : لماذا تذهب النخبة المثقفة المسلمة بالضبط للبحث هناك عن هذه العناصر المميتة وليس عن العناصر الصانعة للنهضة والتقدم كما فعل اليابانيون والصينيون على سبيل المثال ؟!

والحقيقة أن ابن نبي لم يجد الاستثناء من هذه القاعدة العامة التي وقع في فخها معظم النخبة المسلمة ،لم يجده إلا لدى محمد إقبال إذ وجد أن «فكر اقبال جعل من ثقافته شغفاً، واستحق الاحترام لتجرده.. إنه بجهد شخصي أو لصدفة استثنائية استطاع أن يقضي على مخزون الأفكار الميتة التي وجدها في بيئته عند ولادته. ونجد فی عمله الاهتمام بتجديد أفكار بيئته عبر كتابه الذي ترك ثمرته للأجيال «إعادة بناء الفكر الإسلامي»(2).

إن المشكلة في رأي ابن نبي إذن ليست في التتلمذ على الحضارة الغربية «لأنه ومنذ عام 1860 تتلمذ المجتمعان الإسلامي والياباني في مدرسة الحضارة الغربية وبينما أصبحت اليابان قوة اقتصادية كبرى في العالم لأن الأفكار المميتة في الغرب لم تعد تصرفها عن طريقها فقد بقيت وفية لثقافتها، لتقاليدها ولماضيها بينما وجدنا ذلك في اليابان، وجدنا أنه بعد ما يقرب من قرنين من الزمان ورغم الجهود الحميدة التي بذلت في سبيل النهضة في العالم الإسلامي، نجده لا يزال مجتمعاً ذي نموذج متخلف»

(3).

إذن المشكلة التي نواجهها وتطرح نفسها علينا بقوة لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها !

إن صنع الحضارة إنما هو مرهون ببشر أصحاب فاعلية يتفاعلون مع الأفكار

ص: 180


1- مالك بن نبي نفس المرجع، ص 150
2- نفسه، ص 150-151
3- نفسه، ص151

بإيجابية، إن أهم شروط الفاعلية في نظر ابن نبي أن ينظر الإنسان إلى نفسه على أنه صانع التاريخ ومحركه ؛ فالتاريخ نتاج عمل وليس نتاج مقولات نظرية، ومشكلة المسلم اليوم أنه لا يفكر ليعمل، بل يفكر ليقول ويتكلم وقد أدى ذلك ولايزال إلى ضياع الاستفادة من العلم والمال والوقت في صنع حضارتنا الحديثة المنشودة.

رابعاً: الطريق إلى النهضة :

إن ادراك المشكلات السابقة وهي جميعاً مشكلات فكرية والوعي بها ربما يكون عند مالك بن نبي نقطة البداية في طريق الفعالية والحضارية، لكن أولى خطوات هذا الطريق عنده في اعتقادي هي مرة أخرى تغليب الفكرة على الشيء.

1) تغليب الأفكار على الأشياء:

إن المرحلة الحالية في العالم الإسلامي في نظر ابن نبي تتسم بطغيان الأشياء على الأفكار وذلك على أصعدة مختلفة؛ فعلى الصعيد النفسي والاخلاقي نجد أن الأشياء تمثل القمة في سلم القيم، وتتحول خلسة الأحكام النوعية إلى أحكام كمية دون أن يشعر أصحاب تلك الأحكام بانزلاقهم نحو الشيئية أي نحو تقويم الأمور بسلم الأشياء. فالموظف على سبيل المثال يعتمد في تحديد رتبته في الترتيب الإداري بعدد الأجهزة التي يستعملها أو لا يستعملها وليس بقدر العمل الجاد الذي يؤديه !

إن الشيئية تجر إلى هفوات كثيرة ذات مغزى وخاصة في مجال الأدب السياسي ! ففي كلمة تأييد لإحدى البلاد الإسلامية تقرأ عبارة «الحكومة وشعبها» فعكست هنا علاقة الملكية فبدلا من أن يكون للشعب حكومة أصبح للحكومة شعب وأضحى المالك مملوكاً !(1).

أما على الصعيد الاجتماعي فإن هذه النزعة الشيئية الكمية تولد مظاهر اجتماعية غير متوقعة، فمثلاً على باب إدارة من إدارات الحكومة نجد موظفاً يراقب الداخلين ويسجل أسماءهم. وإذا ما عدت إلى نفس الإدارة في اليوم التالي ترى أن التسجيل

ص: 181


1- مالك بن نبي مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 79

والموظف الذي يتولاه غير موجودين. وهكذا فالوظيفة قد ذهبت مع الموظف ! ونفس الشيء على الصعيد الفكري إذ نجد مؤلف أي كتاب لا يسأل عن أي بحث عالج وكيف تم معالجته دائماً، بل عن عدد الصفحات التي كتبها فيه(1)!

أما على الصعيد السياسي فقد تسللت الشيئية وطغيان الأشياء وخاصة في ميدان التخطيط ؛ فعندما يواجه بلد إسلامي ما مشكلة التخلف فهو يواجهها إما بالاستثمار الأجنبي وتلقي المعونات المالية أو بزيادة معدل الضرائب. كما يقع أفراد المجتمعات الإسلامية في حاضر العالم الإسلامي في خطر تجسيد المثل الأعلى في شخص وليس في فكره قد يحققها أي شخص يختار، وقد تسبب ذلك في الكثير من الضرر بالأفكار الإسلامية المتجسدة في أشخاص ليسوا في حقيقة الأمر أهلاً لحملها، فمن ذا الذي يستطيع تجسيد الأفكار دون أن يعرض المجتمع كله للخطر ؟! إن خطر التجسيد قد وضعه القرآن صراحة في الوعي الإسلامي حتى على شخص الرسول ذاته بقوله «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ »(آل عمران...144)

(2).

إن الأمة لن تتقدم إلا بتقديم الفكرة على الشيء وعلى الشخص أو على الأقل علينا أن ندرك« إن للعالم الثقافي ( والحضاري) بنية ديناميكية تتوافق مظاهرها المتتالية مع علاقات متغيرة بين العناصر الثلاثة الحركية: الأشياء والأشخاص والأفكار»(3)وإن اختلال التوازن في هذه العلاقة لصالح الشيء يولد الاضطراب ليس فقط في الدول المتخلفة وإنما أيضاً فى الدول المتقدمة.

إذن علينا إعادة التوازن بين الأفكار والأشياء والأشخاص بهذا الترتيب الذي يعطي الأولوية دائماً للفكرة على الشيء والشخص معاً.

(2) التوافق مع روح العصر مع الحفاظ على أصالة الأفكار:

ص: 182


1- نفسه، ص80-81
2- نفسه، ص 81-82
3- نفسه، ص 85

إن الإشكالية هنا كما صاغها ابن نبي تكمن في أن «فكرة أصيلة «لايعني ذلك فعاليتها الدائمة، وفكرة فعالة ليست بالضرورة صحيحة. والخلط بين هذين الوجهين يؤدي إلى أحكام خاطئة، وتلحق أشد الضرر في تاريخ الأمم حينما يصبح هذا الخلط في أيدي المتخصصين في الصراع الفكري وسيلة لاغتصاب الضمائر. إن الفكرة إما صحيحة أو باطلة، وحينما تكون صحيحة فإنها تحتفظ بأصالتها حتى آخرالزمان لكنها في المقابل يمكن أن تفقد فعاليتها وهي في طريقها حتى ولو كانت صحيحة، فلفاعلية الفكرة تاريخها الذي يبدأ مع لحظة دفعتها الأصيلة لتهز العالم أو يعتقد فيها كنقطة ارتكاز ضرورية لقلب ذلك العالم .وبصفة عامة فإن الفكرة تظل فعالة طالما أنها أثارت العواصف وشيدت شيئاً أو هدمته»(1).

والسؤال هو: أين نحن الآن في العالم الإسلامي من هذه الإشكالية؟!

إننا الآن في عصر الانتاجية؛ ذلك العصر الذي لا يكفي فيه أن نقول الصدق لنكون على حق ! فمنطق هذا العصر لا يكون اثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي، فالأفكار صحيحة إذا ضمنت النجاح(2)، إن هذه إشارة واضحة إلى سيادة المنطق البراجماتي الأمريكي على هذا العصر(3) حتى على الجانب الآخر من العالم الشرقي الشيوعي، فهذا هو ماوتسي تونج يقول هو الآخر: إن أفضل دليل على سلامة أفكارنا هو نجاحها في الإطار الاقتصادي(4).

إذن فليست المسألة في أن يقبل المجتمع الإسلامي أو يرفض الأسلوب العملي هذا أو ذلك، كما لا يكفي أن يعلن عن قدسية القيم الإسلامية، بل علينا أن نزود هذه القيم الأصيلة بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر والتكيف معه دون تقديم تنازلات إلى الدنيوي على حساب المقدس، فقط علينا – على حد تعبير ابن نبي – أن نحرر

ص: 183


1- نفسه، ص 102-103
2- نفسه، ص 111
3- راجع كتابنا : مدخل إلى الفلسفة في طبعاته المختلفة، الفقرة " رابعاً " من الفصل الرابع عن وليم جيمس والفعل البراجماتي
4- نقلاً عن مالك بن نبي نفس المرجع السابق، ص112

المقدس من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضي عليه. أي علينا العودة ببساطة إلى روح الإسلام الأصيلة نفسها، تلك الروح التي عبر عنها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) حال عودته من احدى الغزوات وسط شهر رمضان وكانت مشقة الصوم كبيرة على الصائمين، حينما عزا الفضل في الانتصار في تلك الغزوة إلى الذين أفطروا في ذلك اليوم.ونحن اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة للتذكير بهذا الهدى النبوي الذي يعطي في حالة معينة الأولوية لفضيلة الفعالية على فضيلة الأصالة.

فالمجتمع الإسلامي مدعو اليوم لأن يستعيد تقاليده العليا وقيمه الأصلية ومعها حسن الفعالية. ومن أجل أن يثبت العالم الاسلامي بمنطق العصر أن أفكاره صحيحة، لا توجد أمامه إلا طريقة واحدة هي اثبات قدرته على تأمين الخبز اليومي لكل فرد(1).

3) التخطيط الدافع للفعالية الاجتماعية:

كما كانت الأفكار أساس الديناميكية الاجتماعية وهي المحركة للأشخاص والأشياء معاً، فإن الفكر الذي يخطط للمستقبل ينبغي أن يركز على «خلق الشروط الدينا منيكية الاجتماعية ثم يحدد الوسائل التي ستتولى تسيير تلك الديناميكية الاجتماعية. وذلك لأننا - على حد تعبير ابن نبي - لا نستثمر ما نريد بل ما نستطيع ولا نستثمر بوسائل الغير إنما بالوسائل التي تقع بالفعل تحت أيدينا(2).

وهنا يكون السؤال : ما الوسائل المتوفرة حقيقة في بلد عند نقطة الصفر من انطلاقه؟!

لقد أجاب ابن نبي على هذا السؤال مسترشدا بالتجربتين الألمانية والصينية؛ فلقد بدأت ألمانيا في التحرك عام 1948م بخمسة وأربعين ماركا وهذا مبلغ تافه في الاستثمار، ولذا فقد كان استثمارهم الحقيقي في رأسمال الأفكار التي هي في رأس كل ألماني، في تصميم الشعب الألماني، وفي الأرض الألمانية التي كانت فقيرة

ص: 184


1- مالك بن نبي نفس المرجع، ص 112-113
2- نفسه، ص115

ومحتلة من الآخرين لكنها كانت السند اللازم لكل نشاط. وفي نفس الفترة أقلعت

الصين الشعبية في شروط أشد قساوة وبدمار أكبر خلفته الحرب وبغض النظر عن خيار الصين الأيديولوجي فقد أنشأت رأسمالها من الأفكار الأولية، وأن تجربتها في بيئة اجتماعية اقتصادية كبيرة الشبه بغالبية البلاد الإسلامية تلقي كثيراً من الضوء على الرسائل البدائية للإقلاع (1).

إن هذه الإمكانيات التي انطلقت منها الصين وهذه الإمكانيات تتوافر لأي أمة أو بلد في هذا المستوى الصفري هي:

أ) الزراعة وهي في حالة بدائية إلى حد ما.

ب) ما يتوفر لديه من مواد أولية في السوق وفي باطن الأرض.

ج) طاقة العمل أي الأيدي العاملة وما يمكن تحويله إلى ساعات عمل فعلية. ومن خلال هذه الإمكانيات البسيطة يمكن الانطلاق اقتصادياً على مرحلتين:

أ) مرحلة اقتصاد الكفاف

ب )مرحلة اقتصاد التطور - أي الإقلاع بمعنى الكلمة (2) .

وبناءاً على هذا وذاك، فإن المجتمع الإسلامي يستطيع في نظر مالك بن نبي أن

يستعيد فعاليته بأن يضع دفعة واحدة في أساس تخطيطه مسلمة مزدوجة:

أ )كل الأفواه يجب أن تجد قوتها

ب )جميع الأيدي يجب أن تعمل

وعندئذ سوف لا تكون أفكاره مثقلة بعدم الفعالية لأن كل الأيادي سائرة في

ص: 185


1- نفسه، ص 116
2- نفسه، ص 116، وانظر أيضاً، مالك بن نبي اقتصاد القوة والتنمية مقال بكتابه بين الرشاد والقيمة، دار الفكر بدمشق، سوريا، الطبعة الثانية 2002م، ص 186-188

تحريك عجلة ديناميتها الاجتماعية، والمدافعون عنه سيأخذون في اعتبارهم، أنه ليس المطلوب الدفاع عن أصالة الإسلام بل مجرد إعادة فعاليته إليه بتحريكهم قواه

الانتاجية(1).

وفي اعتقادي أنه ينبغي أن نسعى إلى زيادة مساحة الوعي بأهمية أن بأهمية أن يوجد بيننا من يفهم هذا المخطط البسيط وشديد الفعالية لمستقبل العالم الإسلامي إذا ما أراد المسلمون في أي بلد إسلامي إعادة الروح الإسلامية الأصيلة إلى الوجود. إنها تلك الروح الوثابة العاملة المحبة للعمل والاتقان فيه ، تلك الروح التي لا تقبل وجود عاطل أو جوعان إنها روح المشاركة في العمل والدفاع عن حق العامل في الحياة الكريمة. إن إعادة هذه الروح ليست عبر الكلمات والشعارات الرنانة التي صرنا نسمعها صباح مساء في كل أرجاء العالم الإسلامي، وإنما إعادتها عبر العمل الجاد والمتقن. إننا حقيقة لا نفتقد الأفكار بقدر ما نفتقد إدراك وامتلاك الكيفية التي تحولها إلى عمل خلاق يسد جوع الجوعى ويحافظ على كرامة الإنسان المسلم من الامتهان والتسول.

إن مالك بن نبي قدم لنا بتلك الكلمات البسيطة - بعد طول تنظير - خطة عملية للخروج من نفق الجمود الفكري والكسل العملي، فقط على كل منا حكاماً ومحكومين أن نؤمن بأن الإنسان الفرد هو صانع الحضارة والتقدم وسط بيئة اجتماعية داعمة وخلاقة، وأن الإنسان المسلم يمتلك من الطاقة الروحية ما يكفي لبدء العمل بشرط أن يكون ناتج هذا العمل توفير الطعام لكل الأفواه، وتوفير الحياة الكريمة لكل عامل يعمل هذا هو التحدي وعلى قدر استجابتنا يمكن أن نكون بعد أن أصبحنا اليوم وبعد أكثر من أربعين عاماً على وفاة مالك بن نبي أمة في مهب الريح مهددة بالتقسيم بل مهددة بالفناء.

فهل نعي أنه لم يعد أمامنا اليوم إلا الاستجابة لهذا التحدي الوجودي لأمة كانت في سابق عهدها رائدة الأمم وقائدة الدفع الحضاري للإنسانية، أتمنى أن نكون على وعي بأننا الآن في هذه اللحظة التي بلغ فيها التحدي ذروته ولم نعد

ص: 186


1- نفسه ،ص118

نملك رفاهية التردد، بل علينا فوراً ودون إبطاء مواجهة التحدي بالأفعال وليس بمجرد الأقوال والتغني بأمجاد ماض لم نكن نحن صانعيه، وكل ما علينا الآن أن نبرهن على أننا حقاً ورثته ولا نزال نحمل أمانته، ولا نزال قادرين على حمل هذه الأمانة بتحويل الأقوال إلى أفعال، والأفكار إلى خطط عملية لتحقيق التقدم لأمة هي«خيرأمة أخرجت للناس».

ص: 187

مفهوم الغرب وأسسه التكوينية في الفكر الحضاري عند مالك بن نبي

الدكتور الحاج دواق

الدكتور الحاج دواق(1)

مدخل:

إذا اندفع التاريخ تلقاء قدره، كشفت مساحة العالم عن أشكال حضارية مختلفة، دلّت على ألوان كثيرة من التدافعات بين شعوب الأرض وسكانها. ولأن من الحقائق الملازمة والمصوّرة لتطور أوضاع العالم وأحواله؛ تبرز أن الكيانات التاريخية الكبرى تقع بينها احتكاكات جمة بقصد إظهار المكنة الثقافية والجدوى الاجتماعية لما تحمله من قيم، فإنها ولابدَّ أن تميل إلى نوع من العمل في اتجاه كبت الأطراف المقابلة لتأبيد تسلطها على الأوضاع، وضمان مصالحها باستمرار في سياق استغلالات عميقة تستنزف الثروات والمقدّرات وقبلها الإنسان.

ولأن العلاقات الحضارية هي أعلى شكل ممكن من الصلات الوجودية في التاريخ، فإن لكل أمة أو شعب أو قوم أو دولة، نصيبه القليل أو الوافر من الإكراهات والضغوط من الأطراف الأخرى. وإذا أخذنا مثالا العالم الإسلامي، فإننا سنجده منذ بواكير تشكله الأولى قد مني بوابل من الضغوط التي قصدت القضاء على تجربته الحضارية وخنق عطاءاته الثقافية لعلة أو لأخرى خاصة من قبل أكبر التسلطات

ص: 188


1- قسم الفلسفة جامعة باتنة، الجزائر

المتاحة آنئذ من الروم والفرس، واستمر الحال في جدل انبساط و انقباض تاريخيين، مرة في صورة انكفاء ومدافعة، وأخرى خروج وامتداد.

ومع الوقت استطاع أن يحقق لنفسه انجازات نوعية واستثنائية بالنظر إلى عمره التاريخي وامكانياته الحضارية، لكن استمرار ذلك كان مرهونا بضرورة وجود وفرة عارمة من الإرادة الحضارية التي تتيح له المقدرة على توظيف الامكانات والمقدرات التي يحوزها. فخبا بريق الغاية التاريخية الكبرى وتراجعت الطاقات المعنوية التي أمدته لقرون طويلة، فترهلت أوصاله،ودخل في دوامة صراعات متوالية، تجليها البارز؛ التناحرات السياسة بين العائلات الحاكمة وباعثه الباطني فقدان المبرر النظري والفكري إزاء جدوى أن يستمر الإسلام في التاريخ، فانقلب الكل ضد الكل.

هذه الحال أسلمته في إطار منطق التداول الكوني بين التجارب الحضارية الكثيرة إلى أن يتولى زمامه غيره، خاصة لما قويت رغبة المتسلطين في الانتقام التاريخي واستعادة الجغرافيات المفقودة، وتلقين القوي السابق حضاريا درسا يجعله يقر بخطيئة إسقاط حضاراتهم في السابق. ومن أبرز التجارب التي مارست إكراهها وعنفها على العالم الإسلامي، الغرب، أو ما أنعته بالظاهرة الغربية. ومن أهم مفكرينا الذين تعاطوا فلسفيا معها المفكر الجزائري مالك بن نبي« رحمه الله »(1973م) واعتبار اختيارنا له في تناول بنية الظاهرة الغربية وتكوينها، أنه صاحب نظريات إزاءها، وحيث تعتبر من أهم المدونات الفكرية التي تعاطت معها معرفيا وعملت على سبر عمقها الرؤيوي وانعكاساتها المدوية على كل نطاقات التاريخ، وتقاطعاتها الدموية والاستغلالية للعالم الإسلامي.

فما هي الظاهرة الغربية عنده؟ومن أين نشأت واستلت مبررات تكونها وتطورها ومآلها؟ ما التجليات والأنماط الثقافية والحضارية لهذه الظاهرة؟ وكيف انعكست بحمولاتها على العالم والعالم الإسلامي؟ وما أبرز آثار ذلك؟

ص: 189

0 - 1 في التشكل التاريخي والبنية المفهومية للغرب:

مفهوم الغرب :

مصطلح الغرب the west يدل في خضم استخداماته الجمة، على استقراره دلاليا على جملة عناصر بالتأليف بينها تعطينا حقيقة معقولة بها نتصور ونملك ونفسر ونحكم على هذه الظاهرة التاريخية الممتدة. والغرب يدل في مستوى أول على موقع جغرافي من الأرض، قبال المناطق الأخرى كالشرق مثلا، أو يدل على نمط وحدوي من الخصائص التاريخية والاثنية والثقافية والحضارية عموما، والتي تشكل في مجموعها ملمح النقاء إزاء الأنماط المفارقة أو المختلفة، قوميا ولسانيا، وما إلى ذلك من معايير التفريق(1).

وهنا يكون الغرب هو الوحدة النسبية بين سكان أوروبا خاصة ومن انحدروا منها وتوزعوا في العالم، حيث يشتركون في الخلفية التاريخية ذات الأصول الإغريقية والرومانية والجرمانية أساسا، إضافة لبعض الاثنيات الصغيرة، وأعرافها من الفلسفة اليونانية والقانون الروماني، والديانتين المسيحية واليهودية، والتي تقطن جميعها منطقة غربية من الأرض وانفتحت على العالم الجديد (جديد حسبهم وهو من أقدم العوالم والأمم)أي الولايات المتحدة الأمريكية، وتبادلت بينها وأوروبا القيادة التاريخيةللمجموع المنعوت بالغرب (2).

و «... كانت الاستعمالات الأقدم (للغرب) أو نظائرها في اللغات الأخرى تشير ..... إلى اتجاه أو منطقة على خارطة سياسة معينة، مثل تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى غرب - شرق في أواسط القرن الثالث، وانقسام الكنيسة المسيحية إلى غربية وشرقية بدءا من القرن الحادي عشر ، والعالم الجديد للأمريكيتين منظورا إليهما من أوروبا أو المحيطات التي تقع إلى الغرب البعيد من المملكة الوسطى (في الصين) على أن التعبير الذي أكتسب طابعا عالميا عن (الغرب) لم يقع في الاستعمال العام إلا عبر

ص: 190


1- صمويل هنتنغتون الغرب متكرر وليس منفردا، القاهرة مركز الدراسات الاستراتيجية دت، ص 03 فما فوق
2- المرجع السابق، ص 03 فما فوق

القرنين المنصرمين بوصفه التكوين الرئيس في أوروبا الغربية التي صار ينظر إليها باعتبارها كلية الحضور في السيطرة الاستعمارية على عموم أرجاء العالم»(1)

تبدو المقاربة السالفة متراوحة بين معان متعددة للمصطلح، ومرد ذلك الأساس الذي شكل المنظور وبناه، فإذا اعتمدنا التاريخ ،وجدناه كيانات موحدة انفصلت الدواع سياسية أو دينية، فظهرت داخلها أجزاء بعضها يقع غرب المقر الرئيس السابق -أي العاصمة - وأخرى شرقه ،فكان الغرب للمقابل. أو يكون التعين تبعا للموقع الجغرافي للناظر من أدنى نقطة بالنسبة إليه إلى أقصاها، فيكون الغرب موقعا متبدلا باستمرار. لكن القار في هذا التوظيف؛ الإشارة إلى غرب الأرض دائما، أو مغرب الشمس ، وأدل مفهوم هنا أوروبا كلية ،كلية الحضور، بداعي الهيمنة والسيطرة والتخارج الذي مارسته بعيدا عن حدودها لتعميم نموذجها الحياتي على العالم، أو غربنة الآخرين، فتشكل الوعي الشقي إزاء الغرب، أي انطباع الناظرين باعتبارهم مجالا لتنفيذ الطموحات ،والآخر الناظر إليه بما هو نموذج نهائي يحتذى في إطار تحقيق يوتوبيا الخلاص العام.

الأسس التكوينية ومصادر التشكل:

«على أن المفهوم الذي يقول إن الأوربيين يمثلون نظاما يكاد يكون مختلفا للكائنات لم يكن مجرد نزعة للتركيز العرقي على الذات، لولا مجرد محصلة لنرجسية دفاعية، لقد جاء مستندا إلى منجزات عصر النهضة الأوروبية والثورة العلمية ومرحلة التنوير، ومن ثم جاء التشديد على المعرفة وعلى العقل ... وكذلك على القوة وعلى العقل. ولكن فيما كانت تلك المنجزات حديثة العهد، فقد كانوا يعودون بجذورها إلى عصور سبقت تكمن في هيكل الثقافة، وفي التراث الذي تناهى من الإغريق (أو الجرمان)، وفي الأنعم التي جاد بها الله عزّ وجل وأضفاها على شعب مختار، ثم إلى مقدم المسيحية..»

(2) إذن المفهوم تشکل عبر تراكمات تداخلت فيما بينها ولم تستقر

ص: 191


1- طوني بينت وآخرون: مفاتیح اصطلاحية جديدة، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة سعيد الفاغي، بيروت العربية للترجمة ط1، 2010، ص 523
2- جاك غودي: الشرق في الغرب، ترجمة محمد الخولي، بيروت المنظمة العربية للترجمة، ط01، 2008، ص 12

فوق بعضها كما الطبقات الجيولوجية، فلا يمكننا القول أن كل مرحلة ألغت سابقتها، بل رفدتها بأهم سماتها وميزاتها، وبتشابكها واستحالتها تكونت روح متقاربة المعالم أو موحدتها، يمكن وسمها بالغرب.

فإذا كانت الأصول هناك، فاستعادتها هنا، وبإصرار قاد إلى بناء روح مغامرة تواقة للعلم والمعرفة ،ومترجمة لذاتها في تقنية كبرى،سمحت لها بالسيطرة على الطبيعة ومن ثم على التاريخ ،في مزيج متنوع بخصائص تم الوعي بها بالتدريج.

«... ويؤكد بول فاليري Paula Valery أن ثلاثة تقاليد شكلت أوروبا[الغرب كما

في الكتاب ]:

المسيحية وبأكثر دقة الكاثوليكية في المجال الأخلاقي.

التأثير المستمر للقانون الروماني في مجالات القانون والسياسة والدولة.

التراث الإغريقي في مجال الفكر والفنون، ولماذا نفصل هذه التيارات عن مصادرها ؟ لأنه هكذا يتولد الإيهام بأن الغرب ما هو إلا بداية مطلقة (ليس قبله شيء)، وأنه ظهر كنبتة قد نمتنع عن تتبع جذورها، نبتة منعزلة ووحيدة من المعجزة التاريخية(1).

إذن؛ هي خصائص متكررة ذات سمة يشبه أن تكون قارة، مغرقة في تكريس مفهوم التكوين المنعزل، والتشكل الاستثنائي ضمن مزيج خاص، جمع العقل إلى الروح فالأخلاق، وقبلها الجغرافيا، التي ضمت اليونان وأطلت على المحيط الأطلسي، في البداية، ثم ذهبت إلى أطراف عوالم أخرى، صبغتها بلونها الثقافي الخاص، ما أدى إلى نمط من الخصوصية الفريدة في الظهور والتطور. سماها غارودي رحمه الله بالمعجزة التاريخية. و«رغم ذلك يحقق «الغرب» بوصفه بناء أسطوريا آثارا قوية حين يجمع إلى ذاته خصائص متنوعة ومتناقضة ... فهو كعنصر أسطوري ما زال ينظم طريقتنا التراتبية

ص: 192


1- روجيه غارودي: الإرهاب الغربي ترجمة داليا الطوخي وآخرون القاهرة : مكتبة الشروق الدولية، ط01، 2004، ج 01، ص 50

في إسناد مكان إلى شعوب ومؤسسات على الخريطة العالمية_التاريخية»(1).

يقودنا المعنى المتضمن في التعريف السالف إلى حقيقة أن الغرب ليس واحدا من حيث ما هو ، أي كحقيقة موضوعية ماثلة بشكل صلب ومتعينة كصخرة صلدة في صفحة العالم وشريط التاريخ، بل هو بوتقة انصهرت فيها معطيات مختلفة، بعضها جاء من الشرق، كما هو حال المسيحية، وأخرى من الغرب، كالقانون الروماني وقبله الفلسفة الإغريقية في عصريها الهليني والهلينستي. ثم إضافات العبقرية الحداثية وفتوح المعرفة وتطورات العلم ومنجزات التكنولوجيا وتأويلات الأيديولوجيا للتاريخ الكوني. كل هذا تدامج، فانبثقت عنه ظاهرة أدركت نفسها كيانا واحدا مقابل الآخرين

«...وهكذا يؤدي الغرب دورا أيديولوجيا في الرغبات التنظيمية للمجتمعات غير الغربية بقدر ما يؤديه في ما يسمى بالمجتمعات الغربية. وحتى الثمانينيات من القرن الماضي كان كثير من سكان بقية العالم يتخيلون أن الغرب هو المؤشر على مستقبلهم والهدف الذي ينبغي أن تتطور مجتمعاتهم نحوه...»(2) بالإضافة للمعنى المفهومي الذي قد يمنحه مصطلح الغرب فإنه يتيح شكلا من التحليل الإجرائي بتصنيف أنماط معيشة وأساليب حياة بالنظر إليه، وقد يتعدى الاعتبار المعرفي البحت في تصوير أجزاء العالم وتطوراته، إلى ناحية أيديولوجية تقوم على الدعوى إلى التبشير بنموذج الحياة الغربية بوصفها أعلى مثال ممكن لتطور الحضارات، أو بالنظر إليه كسقف متجاوز تغلب على التخلف وحقق التقدم المطلق . ولا يتركز تصور التقدم المطلق تصورا وضعيا إلا على التطور العلمي والتقني الذي يقيس قدرة الإنسان على الطبيعة وعلى أخيه الإنسان، ومن المهم أن تكون عصور البشرية قد أخذت اسمها من التقنيات المستعملة، عصر الحجر المنحوت ،الحجر المصقول، عصر البرونز، عصر الحديد...إلى عصر الآلة البخارية والكهرباء وعصر الطاقة النووية ...» (3)

ص: 193


1- طوني بنيت: مفاتيح اصطلاحية جديدة، مرجع سابق، ص 526.
2- المرجع السابق، ص 527
3- روجيه غارودي: حفارو القبور نداء جديد إلى الأحياء، ترجمة رانيا الهاشم، باريس بيروت: منشورات عويدات ،ط01، 1993، ص 79

يظهر أن نزوع السيطرة، والتسلط التقني بل كما سماها غارودي- الدكتاتورية التقنية، تعد لازمة تصورية في بناء مفهوم الغرب، فبعيدا عن التقدم اللانهائي في التاريخ، والممتد في المكان ،لا نجد لدلالة الغرب معنى كما حدده نقاده حتى من الفلاسفة الغربيين، فالمعرفة قوة في الأساس، ولا يؤشر على جدواها سوى استخدامها، والاستخدام ،يبدأ عند التكنولوجيات الرفيقة، وصولا عند الآليات الإعدامية في أدوات الحرب والتنافس في تطويرها.

إلى هذه النقطة نجدنا - تحليليا - أمام فوات مفهومي لا يسمح بتجميع مادة معرفية منضبطة وذات مقدرة تفسيرية عالية تشير إلى المصطلح - الغرب -«. . . وهذا المفهوم ذو الدلالات المتموجة، لم يمتثل أبدا للمعنى الجغرافي الذي يوحي به فقد راهن منذ البدء على المقاصد السياسية والدينية والثقافية، ومن ثمة ثبّت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز ،قارة تشكل أسس هويته... وتتجلى إشكالية هذا المفهوم من أنه تقصد أن يؤسس وجهة نظر حول- الغرب- بناء على إعادة إنتاج مكونات تاريخية توافق رؤيته معتبرا إياها جذورا خاصة به، ومستحوذا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها، إلى ذلك تقصد ذلك المفهوم أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربيا، دافعا به خارج الفلك التاريخي الذي أصبح -الغرب - مركزه...»

(1)

وهنا لا نعدم تقريرا مفاده أن الإشكالية التعريفية ليس منشؤها منطقيا غالبا، أي تنبعث من تداخلات التصورات والأحكام العقلية بمقدار ما تنبثق عن استعمالات خاصة ترجع إلى التدافعات والمعارك الاصطلاحية بين الثقافات المختلفة، لذلك تلقف الغرب ظاهرة متماوجة الدلالة بل متلاطمة، نظرا لما تسوقه من مادة ذات مصادر كثيرة ومختلفة، في بنائه ومفهمته والقار عندنا أن المعنى تشكل بتطورات كثيرة وتداخل عقول علمية وفكرية بل وأيديولوجية في تشكيله.

ص: 194


1- عبد الله إبراهيم :المركزية الغربية، إشكالية التكوين والتمركز حول الذات ،الدار البيضاء؛ المركز الثقافي، ط01، 1997، ص 13

وتبرز ميزة لافتة في تكوين معنى الغرب، وهي التشابك والتمازج الاستثنائي لمعطيات بعضها مادي جغرافي، والأخرى عسكرية سياسية اقتصادية، وقبلها جميعا ثقافية ودينية «ولم يكن حظ الحضارة المسيحية في نفوس أهلها وبنيها كحظ الحضارة الإسلامية، فقد نشأت المسيحية في وسط فيه الخليط من الديانات، والثقافات العبرية والرومانية واليونانية، فلم تُتح لها أن تدخل قلوب الناس وسط الزحام الفكري الثقافي لتؤثر فيها تأثيرا فعالا، ولم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوروبا، حيث وجدت النفوس شاغرة ، فتمكنت منها وبعثت فيها الروح الفعالة التي اندفعت بها لتكون حلقتها في سلسلة التاريخ... إلى مرحلة التوسع العقلي، التي انطبعت بطابع (ديكارت )والتوسع في البلاد الذي حققه (كريستوف كولومبوس) باكتشاف أمريكا [بتأثير] شروط خلقية وعقلية ضرورية للإنسان لكي يستطيع أن ينشئ ويبلغ حضارة...»(1).

ج- المكون المسيحي وطبيعة التشكل الحضاري للظاهرة الغربية:

يظهر أن التحليل الذي أوردناه فيما يخص المسيحية وحضارتها لا صلة له بمعنى الغرب وهو تفسير يختص بنشأة المسيحية وارتحالها، لكن الممعن فيه جيدا، يستنتج أن مالك بن نبي قد عبر عن أوروبا وحضارتها أي الغرب الأول، ثم المتطور فيما بعد، قد تلقفت المسيحية وحقنتها بروحها، والعكس منطبق، والتأمت مكوناتها الكثيرة ضمن روحانية أخلاقية خاصة دفعت بها إلى الوعي الذاتي المجتمع من قوة القبائل الجرمانية، وعبر قانون الرومان ،ووازعهم الإمبراطوري، وقيم المسيحية كلها، كوَّن ما نسميه الغرب.

ثم أضفى عليه ديكارت (1650 Descartes) عقلانية المنهج والفهم والتعقل العلميين، لما ابرز ضرورة المعركة العلمية المنهجية. وانبعثت عن فلسفته مغامرة فكرية كبيرة، انتهت إلى تشييد صرح العقل الفلسفي والعلمي الغربي، أي الغرب منظورا إليه من خلال تطور فكر فلاسفته وعلمائه، ثم بعض الاهتزازات التاريخية التي عبر عنها

ص: 195


1- مالك بن نبي شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين ،دمشق دار الفکر ط04، 1987 ن ص 61-62

فلاسفة الأفول والسقوط كما هو حال اشبنجلر (1936 Spengler) في مؤلفه المهم أفول الغرب، أو ألبرت شفيتزر (1965) Schweitzer) في فلسفة الحضارة.

فليست المساواة التحليلية، بين أوروبا في مرحلة ما من عمرها التاريخي، وبين المسيحية وامتداداتها الخاصة، خروجا عن مألوف الاتجاهات التحليلية التي درست تاريخ الحضارة، فالغرب/ أوروبا/ المسيحية، ثالوث مندمج وتركيبة فريدة في نمط علاقات أخرج للعالم هجينا متميزا، عد بوصف ما، الحضارة الأفضل التي عرفها الإنسان.

«عندما نتحدث عن الحضارة اليوم في معرض الثناء، فالذي نعنيه بالحضارة هو ذلك المجموع من الاعتقادات والعادات السائدة في أوروبا وفي أجزاء الكرة الأرضية التي يقطنها أناس من أصل أوروبي، وإذا توخينا من هذا التحديد بعض الغايات وجدناه مرادفا للعالم المسيحي، وإذا توخينا غايات أخرى غيرها وجدناه مرادفا للبلدان التي حسنتها الثورة الصناعية، ... استطاعت بفضل العلم التطبيقي... أن تفرض على الكرة الأرضية بكاملها سيطرتها ... هذه الحضارة هي إرثنا، ونحن ،ولربما العالم بكامله، مرتبطون بها ... »(1)

إذن؛ الغرب هو أوروبا الممتدة من اليونان بعادات خاصة، وتقاليد متوارثة، تم رفدها بالقيم المسيحية، وإعادة بنائها وتأويلها في عمليات متتالية بدأت مع عصر النهضة، ووصلت ذروة المعاودة الإنشائية في عصور الحداثة الكبرى وتقنياتها العلمية اللافتة. «ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتها، حيث كان (توماس الاكويني )ينقيها ..-ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية، ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس (أوغسطين) إلا مظهرا للتجديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراثا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية وأتى بعده (ديكارت) بالتجديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بُني على النهج التجريبي، والذي

ص: 196


1- جون هرمان راندال تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمه القاهرة المركز القومي للترجمة : ط01، 2013، ج 01 ، ص 51.

هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي»(1) يظهر المنوال الجدلي في تكون الغرب كظاهرة مستقلة في التاريخ، من الأداءات الواعية التي مارستها عبقريته، متمثلة في فلاسفته ومفكريه ولاهوتييه، حين عمدوا إلى فك الارتباط بين المنجزات المعرفية المنقولة من تراثات الغير، والروح الثاوية بين عناصرها تمهيدا للعملية الثقافية العميقة، التي تعيد تأليف ونسج تلك العناصر، ضمن صياغات خاصة تولد المعنى الجديد وتعمل على ضخه في أوصاله، والدفع به إلى الأطراف التاريخية القصوى في شكل النماذج اليوتوبية التي ستتصور مستقبل أوروبا والغرب، وهكذا كان ديكارت مدركا لما قام به الاكويني، فقام به، أحدهما سلبا والآخر إيجابا.

فالعمليات التأسيسية للمجتمعات غالبا ما تحتاج لمسوغات تمنح في هيئة فكرة متعالية ذات طابع ميتافيزيقي أو ديني، وقد تعطى في شكل تبريرات فلسفية أو دينية تتجه إلى مجالات تعريف الإنسان وتعيين دوره في التاريخ، وهذا ما قام به الغرب-وعلى رأسه أوروبا - حالما بنى«... مسوغاته التقليدية، المسوغات التي أعطت للشخصية الأوروبية في القرن التاسع عشر أقصى توترها، عندما كانت أوروبا تؤمن بالتقدم العلمي وبالحضارة وبالاستعمار رسالة حضارية، فكانت هذه المسوغات تحرك وتوجه كل الطاقات الاجتماعية، اليد والقلب والعقل في أوروبا، وتوحد صفوفها في العالم، إذ كان الأوروبي ينظر إلى التقدم العلمي ميزة يمتاز بها عقله، وإلى الحضارة على أنها فطرته، وإلى الاستعمار على أنه امتداد حضارته خارج أوروبا وقد كانت هذه الأشياء وعلى الأقل الشيئان الأولان منها. تحقق الإجماع في الداخل في حدود أوروبا والإعجاب في الخارج خارج حدودها»(2).

فالتوليفة الثقافية بمكونات التاريخ التي وضعت أمام أوروبا إمكانية أن تتكون وتتألف ككيان تاريخي ذي خصوصيات وسمات منحت لها مبرر الوجود في المقام

ص: 197


1- مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهین ،دمشق دار ،الفکر، ط04--1984 ص71
2- مالك بن نبي: تأملات، ترجمة ندوة مالك بن نبي، دمشق، دارالفکر،ط05،1991 ص 45

الأول، ثم الامتداد والمضي إلى الإعلان عن أعباء تاريخية خاصة، سواء كانت محقة أم مخطئة، إلا أنها حركت إرادتها وحشدت قواها للقيام بأدوار ومهام وسمتها بالرسالة التحضيرية للآخرين فالروح الاستعمارية جزء مكيف من طبيعة الغرب، لأنه يرى في الآخر أقل منه شأنا، وأضعف وضعا، ودعاه إلى مغادرة حدوده، لتعميم صورته الثقافية وطرازه الحياتي.

«وبقدر ما كان مجتمع غربي أوروبا يتحلل ويتفكك، بالمواد المتخلفة عن هذا التحلل ذاتها استطاعت المسيحية أن تبني المجتمع الجديد خطوة خطوة، وهو المجتمع الذي نطلق عليه هذه الأيام بالمجتمع الغربي... لقد خلف اختفاء الإمبراطورية الرومانية في الواقع جميع مكونات المجمع الروماني من أشخاص وأفكار وأشياء على حال من الفوضى كان من المحتم تنظيمها بطريقة أخرى وكانت الفكرة المسيحية هي التي استخرجت النسق الغربي من غضون الفوضى...»(1)فالغرب حسب التحرير السابق؛ هونسق قيمي أتاحته المسيحية بروحها المتوثبة إلى بناء تاريخ عالمي، رتب رمما حضارية سابقة، موروثة من اندثار الشكل السياسي لروما الإمبراطورية، وأعاد لحمها ضمن عمل شاق، كان نتيجته ظهور الغرب.

ونتيجة لتدخل الاعتبار المسيحي في تجميع الركام التاريخي السابق عن ارتحالها لأوروبا، تلملمت تلكم العناصر في إطاروحدة، وهنا نسأل: «هل تمثل أوروبا من هذه الناحية وحدة ثقافة خاصة ؟ بالطبع، إنها من زاوية معينة تجسد قدرا مشتركا وقد ارتسمت صورته في القرون الوسطى خاصة بفضل العلماء ولغتهم اللاتينية، دامت هذه الهوية على مر العصور،أثبتت الثقافة الأوروبية دعوتها العالمية عبر العقل الباروكي(القرن السابع عشر) وبواسطة عقل علمي فاعل من باريس إلى برلين، وحتى أبعد من ذلك، كما لا يجب نسيان الفلسفة ومساهمتها في تحقيق الأهداف العقلانية اللامتناهية، ولدت أوروبا في الشرق السامي، وفي أثينا الفلاسفة وتبدو شخصية ثقافية ذات مهمة

ص: 198


1- مالك بن نبي: ميلاد المجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين دمشق، دار الفکر ط03 1986، ص 60

عالمية ...»(1) يبدو أن النص الذي سقناه لإثبات المدلول المفهومي والتاريخي للغرب، يخالف السياق التحليلي الذي بنينا عليه استنتاجاتنا عند مالك بن نبي، فالأخير يشير إلى مركزية الوصل الذي قامت به المسيحية لأوروبا فغذتها بروح التجميع والنزوع العالمي، ثم نجدنا أمام عناصر كثيرة شكلتها وأوجدتها، أيعني ذلك أننا انسقنا خلف تناقض تفسيري لم ننتبه له ؟ لا نفهم ما فعله ابن نبي إلا بالرجوع إلى نظريته الكلية حول الحضارة، والتي تقوم على الفكرة الدينية كأساس رتق البناء التاريخي بلحمة حضارية واحدة متماسكة جعل الأوروبي/الغربي يشعر بالانتماء والهوية الواحدة قبال العالم، لذا صدرنا رؤيته لمعنى الغرب بقوله أن المسيحية مثلت الوخزة القيمية الأولى التي وحدت من تصارع بالأمس القريب. فلا الإسكندر المقدوني، ولا إمبراطورية روما تمكنت - رغم أسوارها وجيوشها - من بلوغ ذروة المادة التاريخية التي جمعت كل تلك الاثنيات واللغات والأعراق تحت مظلة واحدة.

«فلقد شكلت الفكرة المسيحية ( أنا ) الأوروبي أو ذاته، كما صاغت (منظر) أوروبا الذي نشهده مشهد في منتصف هذا القرن العشرين، ولا ريب أن الناظر المتطلع سوف يذوب دهشة من وحدة هذا المنظر ، والشخصية التي تعطيه الحياة وتحركه، فإن أوجه التشابه بين الأشخاص والأفكار والأشياء هناك تعد في الواقع في منتهى الوضوح. وبرغم هذا فإن تلك ظاهرة عامة»(2)هي في النهاية تبرز الكيان الحضاري والثقافي والسياسي والاقتصادي الذي تسمّى بأوروبا مبدأ الغرب الأول وقلبه.

ثانياً - أنماط الظاهرة الغربية وأشكالها الثقافية والحضارية:

انتهينا من السوق المفهومي للعناصر المختلفة التي كونت الغرب إلا أنه ظاهرة مركبة، وليست بسيطة، وأنها عميقة ممتدة إلى عمق الماضي الذي تواردت منه المواد التاريخية الأولى، ثم تألفت مع مكونات أخرى ، فأظهرت إلى العالم كيانا كبيرا بتجليات مختلفة حددت له نمطية خاصية، وقدمته في أشكال وبنيات يتسلط بعضها

ص: 199


1- جاكلين روس مغامرة الفكر الأوروبي، قصة الأفكار الغربية، ترجمة أمل ديبو، أبو ظبي : هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، ط01، 2011 ، ص 417
2- مالك بن نبي: ميلاد المجتمع، مصدر سابق، ص 61

أحيانا ويتأخر أخرى. وهكذا بدا الغرب في التاريخ لا«... باعتباره مجرد حوادث تتعاقب، دون ما ربط جدلي بينها، فإن هذه النظرة تؤدي إلى نتائج معينة، ليست هي التي تنتج عن نظرنا إليه، حينما نعده سيرا مطردا تترتب فيه الحوادث ترتيبا منطقيا كما تترتب عن الأسباب مسبباتها ...»(1) فالغرب إذن؛ كتاريخه أو كالتاريخ، بنية مضطردة. تطورت في مسار طويل، تداخلت أساسيات عديدة في دفعه إلى مصيره، بعد أن يكون في صيرورة وجدل مستمرين.

«إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، وبني هذا المجتمع طبقا للنموذج الأصلي لحضارته إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي يحدد سائر خصائصه التي تميره عن الثقافات والحضارات الأخرى، إن الفكرة المسيحية قد أخرجت أوروبة إلى مسرح التاريخ، ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقا من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها للعالم الإغريقي فتعرفت على سقراط باعث الأفكار، وأفلاطون المؤرخ لتلك الأفكار، وأرسطو مشترعها» (2) فما دمنا في سياق تحليل حضاري للظواهر التاريخية، يكون الغرب نتيجة رؤية كونية فسرت له العالم ومنحته مبرر وجوده في التاريخ، وكذا مسوغ بقائه واستمراره وكلما احتدم الواقع بتحدياته، التفت المجموع إلى النموذج الجذري/الأصلي، المركوز في خبايا هيكل الثقافة، وهو هنا دعامتان، إحداهما؛ تستقي من المسيحية الروح، والأخرى من اليونان شكل الروح وطريقة انتظامها، التي أتاحها مجموع مفكرين هم بمثابة الآباء المؤسسين، إلى جانب المسيح عليه السلام، وبولس، هناك سقراط وأفلاطون وأرسطو، كل بلمسته وإضافته. وبالتجاوب معهم جميعا نكون أمام الأفكار الكبرى التي شيدت صرح الغرب ورمت به إلى أتون المعترك التاريخي الغاص بالحضارات»... فنحن لا نستطيع – في اعتقادي- أن نحلم باكتساب الفهم الذاتي الضروري للتعامل مع مآزقنا الراهنة ما لم نبادر إلى استحضار

ص: 200


1- مالك بن نبي: : تأملات، مرجع سابق، ص130
2- مالك بن نبي: مرجع سابق، ص 41-42

المنابع الأعمق لعالمنا ونظرتنا العالمية الحاليين... »(1).

وكلما تم الكشف عن الأسس الأولى والجذور المتقادمة، كلما ظهرت المبررات المعقولة ، لما يحدث في التاريخ، فالحضارة في المحصلة التحليلية النهائية هي نتاج فكرة تم تمثلها بكيفية ما وشرع في نسج الحياة على منوالها التبريري والتعليلي، بل «إن المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائما بالأفكار الدافعة... فينبغي أن نلاحظ مع ذلك أن هذه القوى هي التي جعلت تلك المجتمعات تنبثق من العدم، ونشرتها على مسرح التاريخ حيث بقيت قائمة بقدر ما بقيت هذه القوى تدعمها »(2) ومع ميل مالك بن نبي إلى الفكرة الدينية كأساس أولي في عمليات الإنشاء أو الاستئناف التاريخيين، فهو يؤمن بعوامل أخرى قادت إلى ظهوره، لكن باعثها الجوهري هو الفكرة، بعيدا عن المضامين واختلافاتها«فهناك في الواقع علاقة جدلية بين الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في كافة مراحل التاريخ «(3)باعتبار الأخيرة صدى وانعكاساً لتأسيسات المفكرين وتنظيراتهم، وهنا نجد ضالتنا التحليلية في بسط الحقيقة الثقافية والتاريخية للغرب، من خلال أفكار فلاسفته ومؤرخيه.

«إن مصادر الحضارة الغربية جد قديمة ومتنوعة في آن، وهي ترتكز برأي على أقنوم من ثلاثة مفاهيم: المعرفة،الإنسان، التقنية في شكلها الحديث للثورة الصناعية» (4)فتشترك هذه الأسس الثلاثة في خلق بنية تاريخية ذات نمط متميز، منبثقة ودفاقة، حركية تؤمن بالإنسان ومركزية في العالم حتى ما يختص بمفهوم الإله/ الشخص/ أو الآلهة / الأشخاص، وخصوصية المعرفة المنبثقة عن عقله ومنطقه وطريقة تفكيره في العالم، وكيف يصبّ الأخير في قوالب منطق محدد، ثم ترجمته إلى نوع من التكميم الذي يسهل التحكم والسيطرة والاستخدام فنحن بإزاء نمطية تصوّر العالم

ص: 201


1- ريشارد تارناس: آلام العقل الغربي، فهم الأفكار التي صاغت نظرتنا إلى العالم، ترجمة فاضل ....، السعودية، مكتبة العبيكان، ط 01، 2010، ص 17
2- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو، دمشق دار الفكر، ط1992 ، 01 ، ص 48
3- مالك بن نبي: من أجل التغيير دمشق، دار الفكر، ط01، 1995، ص13
4- أندريه سينغفريد روح الشعوب، ترجمة عاطف الأولى، قطر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط01، 2015، ص 180، 13

على أنه فضاء كبير يمكن فهمه والتعرف إليه، وأيضا التحكم فيه، بواسطة التقنية التي لا يقف أمام تطورها واستخدامها شيء، وهي معطيات تراكمت عبر مكابدات تاريخية متطاولة غير أن نظراتنا العابرة ... جعلتنا ننظر إليه وكأن تاريخه قد ابتدأ من يوم التفتت إليه أنظارنا، فأعرناه بعض اهتمامنا في صورته الطارئة لا في جوهره ، وهذا شأن شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء، فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة لا نتصور هذه الصناعات والفنون بدونها. فهي في الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده من علوم وفنون »(1)

وعمق الصلة بين الجذور المعنوية الناشئة عن حمولة ثقافية، ذات مضامين معرفية خاصة، بررت للإنسان الغربي هويته، وعرفته أمام العالم، ومنحته الدفعات التاريخية المتوالية لكي يتمكن من بناء صرحه الحضاري، ورغم أن الأساس الأخلاقي هو القاعدة التي قامت عليها الأداءات الثقافية المختلفة من علوم وفنون وصناعات، إلا أننا لا نعدم وجودها في سياق التنظيرات الفلسفية والمعرفية المختلفة، التي تصورت إنسانا عارفا متحكما في العالم، وخلقت مسوغات مثلت له روابط التواصل مع أخيه الإنسان ومع الوجود.

وقد حدد روجيه غارودي 2012 Roger Garaudy مسلمات ثلاث إضافة للسابقة، من جهة كونها الدعائم الأولى التي بنت رؤية الغرب الحديث لله سبحانه، وللعالم والإنسان والحياة والتاريخ. وتتمثل في:

مسلمة ديكارت نجعل أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها»، طبيعة أخذت بوجهها الآلي إذ قامت مسلمته على علاقات تسيطر على طبيعة جردت من أي غاية خاصة.

ص: 202


1- مالك بن نبي: شروط النهضة، مصدر سابق، ص 95

- مسلمة هوبز الذي حدد العلاقات بين البشر« الإنسان ذئب يهاجم أخاه الإنسان» إنها علاقات منافسة في السوق ومواجهات بين الأفراد والجماعات، علاقة السيد بعبده، وهي «توازن الرعب »على مستوى قدراتنا النفسية الحالية.

- مسلمة مارلو الذي أعلن موت الرب «أيها الإنسان كن إلها بعقلك وسيد العناصر كلها »وهكذا يصبح ضعف البعد المفارق لدى الإنسان ورفضه أي قيمة مطلقة مقدسين(1).

تبدو المسلمات الآنفة متباعدة، كل منها ينتمي إلى سياق فلسفي خاص، إلا أن تحليلنا من خلال التطور الثقافي ومآلاته الحضارية الكبيرة يجعلنا نسلم بارتباطها الوثيق، حيث أن المواضعة الديكارتية عينت أفق الصلة الجذرية للإنسان بالعالم کله ، فنصبته سيدا عليه فوقه، وجعلت الطبيعة مضمار تسابق للتسلط على الأشياء والهيمنة على موادها . فديكارت«... أتى ... بالتحديد الإيجابي للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الذي بني عليه المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي» (2) فالمانح لثقة الظاهرة الغربية في نفسها، هو تعينها في التقدم بوصفه الحالة الثابتة في التاريخ،وكونه لن إلا بتحقق من معرفة توفر بالمنهج الناشئ عن مقدرة الإنسان وقدرته في التحكم في كل ما يحيط به.

وانعكست المسلمة الديكارتية الناظمة للصلة بالطبيعة، في فحوى التأسيس للاجتماع البشري والشروع من حقيقة تاريخية مفادها؛ أن الناس يتصارعون ويتبادلون الصلات فيما بينهم وفق تسديد طبيعي يقوم على الغلبة للأقوى، والجميع في توجس دائم من الجميع، وهو ما أعلنه هوبز لما كشف عن العمق العدواني للبشر، فإما أن تكون معتديا، أو ترد عدوانا، أو أن تلغى. وهذه قيمة عامة سبغت روح التنظيرات السياسية في الغرب وبررت من خلالها الأطروحات الفلسفية المختلفة مقولة العقد الاجتماعي. سواء من خلال الإقرار بالطبيعة الفاسدة ابتداء، أم بالتي ستفسد بعد

ص: 203


1- روجيه غارودي حفارو القبور، مرجع سابق، ص 78
2- مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، مصدر سابق، ص 71

حين، وهنا نجدنا أمام ثانية الأثافي. فالأولى ضبطت العلاقات الوجودية مع الطبيعة، والثانية الصلات الأخلاقية مع الناس، ثم يكتمل المشهد بإقصاء التعالي والمطلق، والدعوى إلى موت الإله ،الذي اضطرته الأسطورة اليونانية أن يكون بشرا أو شخصا ثم أكملت المسيحية الإنجاز الكبير، حالما سبغته بمعتقد مقدس. فدخل الإله في التاريخ ومنه لا يملك ،انعتاقا وحينها فقدت الثقافة الغربية كل صلة بالمتعاليات وارتبطت بالروح المادية والوازع التسلطي على الأشياء، خاصة وأن العلم قدر على رفدها بقوة هائلة تمثلت في التقنية متطوعة الكل، وسالبة الوعي، ومنقلبة على الإنسان ذاته.« كما ولو أن طبيعة الأوروبي الممتلئة بآدميته لا تدع مجالا للألوهية والباعث العميق لذلك موصول بثقافته ذات الجذور الطبيعية المحدودة في سياق تناولات ناشئة عن ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية»(1).

فالسمة العلموية والتقنية التي غلبت على الفكر الغربي لا تنفي وجود جيوب رفض واحتجاج فلسفي يدل على حضور مستويات أخرى في الثقافة الغربية، كالمثاليات المختلفة وكذا النزعات الروحانية، لكن المستبد بها، وما يقدمها في ميدان العرض الحضاري هو الطابع الحسي والتقني «ذلك أن أوربة كانت قبل (لوكراس) بوعده، وقبل (بلانك)وبعده الأرض المختارة للفكر الكمي ولوضعية(أوجسنت كونت)ومادية(ماركس). فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساساً إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل إلى المادية في شكليها :

التشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي.

والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي»(2)

تلك إذن أهم السمات الحضارية التي طغت على التجربة الحضارية الغربية، وكونتها، ودفعت بها إلى اكتساب الطابع الإمبراطوري ونزعة الامتداد على حساب كل شيء، الأرض- الطبيعة - حسب ديكارت، الإنسان- الذئب- تبعا لهوبز، الملطق

ص: 204


1- مالك بن نبي: شروط النهضة، مصدر سابق، ص 95
2- مالك بن نبي : المصدر سابق، ص 24

الإله/ الميت مع نتشه 1900 Friedrich Nietzscheم أو مارلو والتنافس في الغرب تجسيدا للقيم السابقة أدخل الإنسانية إلى عالم «مثقل بالعلم وبتقانته الإمبراطورية ،إنه يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب... إن روح القرن التاسع عشر التي ادعت تحقیق سعادة الإنسان بواسطة الآلات قد انتهت إلى إفلاس محزن، فلم يعد العالم ينتظر الخلاص على يد العلم ...» (1) حيث هو سبب مآسيها لتغوله، وتضخمه وقيامه كمطلق مواز لكل شيء، ومع أن ما سقناه من تحليل لمالك بن نبي يرجع لأواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، إلا أن جدواه التفسيرية لا تزال ماثلة، خاصة لشيوع روح الحرب الدائمة، وبث منطق الفرقة وتسخير مقدرات الإبداع في التسابق نحو التسلح، والاختبارات المهددة للوجود البشري، وبذلك يكتمل الثالوث القيمي من خير وحق وجمال،وتتجلى المعرفة المترجمة لحقيقة الوجود في مشهد تاريخي وحضاري ووجودي كبير، يثقل على صدر العالم بنموذج ذي سمات متينة، سميناه الغرب أو الظاهرة الغربية وقلبه أوروبا.

ألم نلمح قبلا إلى الأساس الديني لتكون الغرب من أساطير اليونان، إلى تحالف الإمبراطورية مع المسيحية، ومنها إلى استدماج العنصر اليهودي، ثم ها نحن الآن أمام إقرارات تفيد بعناصر أخرى وسمت الغرب وأظهرهته في مسحة علمية وتقنية مهيمنة ثقافيا وتاريخيا ؟

لم يغب ذلك مالك عن بن نبي، لما أبرز أنه من الوجهة التاريخية يتعين عليناملاحظة أن الأفكار (الماركسية) قد استخدمت لنموها واكتمالها كل البنية التحتية النفسانية والمفاهيمية المسيحية الذي حول إنجيل (يسوع المسيح )إلى إنجيل(لماركس) وجمع المطامح التواقة إلى( ملكوت الرب الإله)، إلى مطامع متشبثة (بالفردوس الأرضي)، فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما، وفي تشكيل إرادتها ...»(2) فالوظيفة

ص: 205


1- مالك بن نبي مشكلة ،الثقافة، مصدر سابق، ص 126-127
2- مالك بن نبي: القضايا الكبرى، بإشراف ندوة مالك بن نبي دمشق الجزائر دار الفكر الملكية للإعلام والنشر والتوزيع، ط01، 1991، 60-61

التعبوية والتجييشية تؤديها الأيديولوجيا والفكر كما يؤديها الدين. فالماركسية في النهاية هي بنية محفزة حاضة على الفعل، ودافعة للقيام بالأعمال التاريخية الاستثنائية، وباعثة على تأمل المستقبل البعيد من خلال الثورة على أوضاع الحاضر، كما هو الشأن تماما للعلموية ودعواها إلى التمسك بالمعرفة العلمية الوضعية والمادية ،الموصولة بالمنهج التجريبي الواقعي، المحكوم بالرؤية الطبيعية، واستخدامات التقنية.

وهكذا تكون أوروبا قد «... حسمت حالتها الخاصة منذ بضعة قرون، داخل الإطار المسيحي دون ريب، ولكن مع مبادرات في الميدان الفني، والأدبي والفلسفي، كانت تذهب إلى ما وراء المبدأ الإنجيلي. فقد تشكل الفكر الأوربي المعاصر في جو العقلانية الفرنسية، والجمالية الايطالية، ومع ذلك ففي كل مرة كانت تنتاب هذا الفكر استثارة أو تحد وافد من الخارج، كان يرجع من جديد إلى أصله المسيحي»(1)

تكمن الخلفية الرؤيوية للظاهرة الغربية في العمق الديني لطبيعة الفكرة ذاتها، حتى ولو انقذفت في اتجاه اللادينية المحضة، فالوازع الدفين المحرك لعجلة التاريخ الغربي؛ هو الأساطير المؤسسة في فجر الحضارة الإغريقية، ومنها إلى استمداد المسيحية واللمسة اليهودية، وفي حالات التوتر الكبرى التي تشعره بالتهديد، يلتفت إلى المعنى الديني ويستدعي الحالة اللاهوتية لمجابهة أعبائه وتخطي مشكلاته، سواء كانت فكرة دينية مباشرة أم شبيهتها أم بديلتها، وفي النهاية، اللبوس مختلف والمثوى واحد.

نتمنى أن تكون التحليلات السابقة قد استوفت بعض الخصائص الأركان التي بها وصف مالك بن نبي الظاهرة الغربية وبين أنماطها، ولكن هناك لازمة أساسية لا يفوتنا التنويه بأهميتها وهي: أن الغرب لم يكتمل دفعة واحدة، خاصة وأنه لا يزال ماضيا إلى قدره التاريخي، ثم لأن مركز الثقل فيه تبدل من جهة لأخرى، زيادة إلى مقدرته العالية الآن على استيعاب التنوع وتذويب الانتماءات المختلفة في صياغة مذهلة من الوجهة الحضارية، ومع ذلك يمكننا إجمال خصائصه وقضاياه الأساسية

ص: 206


1- المصدر السابق، ص 61.

في جملة ملامح تعد في كليتها «... الأفكار التي نظمت الغرب بالإنسان المرمي في العالم، الذي تهدد خصومة الأشياء يصوغ أفكارا تساعده على فهم الطبيعة وعلى السيطرة عليها. الإنسان، الإنسانوية، التاريخ، الشخص، الفرد. هذه التصنيفات الأساسية تنظم فكر الغرب. وأما العقل، والعلم، والطريقة، والجدلية، والنظام، والفوضى والخواء، والمفهوم، والطبيعة، والتقدم، والصيرورة فهي تعطي الثقافة الأوروبية معناها ، هذه الثقافة المتأثرة كما رأينا بالإرث اليوناني (الجدلية العقل...) وأيضا بالإرث المسيحي

(اللامتناهي...) كل هذه الأفكار نظرية، لكن ثمة أفكار تدير العمل الفردي والجماعي: الأخلاق، العدالة، المساواة، الكرامة، السعادة، الشخص، السياسة، الديمقراطية ... إنها مفاهيم تتمازج فيها الرؤية اليهودية- المسيحية والمذهب الطبيعي اليوناني وتؤسس للفكر الأوروبي. أخيرا إن فكرة الجميل، والجمال والذوق والجمالية... تذكرنا بأن الإنسان الأوربي هو ذلك الإنسان الجميل، الذي يطارد الجمال المولود في المدينة القديمة حيث الجمال علامة الخير»(1).

رغم الطول النسبي للنص السابق، إلا أنه لخص معروضات مالك بن نبي في وحدة تحليلية مهمة ولافتة، حيث أبرز امتن المبادئ والعوامل والمعطيات التي ألقت بالغرب في وجه العالم، وسمحت له بأن ينطلق في عمل تاريخي دؤوب، بدأ عند اليونانيين القدامى، ثم فقد قوته وإرادته لما يقارب الألف سنة، ثم عاود دورته الإنجازية من فجر النهضة، مستلهما كل تاريخه، بما فيه العصور الوسطى، وبنى حداثة بفتوح مذهلة قدمت للإنسان التفوق والظهور التاريخي الكبير، متخطيا حتى أعرق الإمبراطوريات وأقواها في التاريخ. لكن في الوقت عينه، أقحمه ضمن مآس غير مسبوقة، أظهرها ما ينعت بالاستعمار/ التدمير ، ثم الاستشراق، والاستنزاف المبرمج لثروات الآخرين /الأغيار.

ص: 207


1- جاكلين روس: المرجع السابق، ص 31-32

نقد الفكر الغربي في فكر الشيخ حسن البنا

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

أ.د. عامر عبد زيد الوائلي(1)

مقدمة

راهنية البحث: نود هنا أن ندخل في الإطار النظري لهذا البحث وهو جدلية الصراع بين الأنا والآخر الغربي الذي يتجسد كاستعمار يمارس هيمنته الكونيالية بكل عنفها على الإنسان والوجود من خلال ما أقامه من التثاقف الكونيالي وفرض منظومته الثقافية كمنتصر يفترض بالمهزوم أن يقلده في الثقافة وآليات الحكم على الآخر.

وقد كان العالم العربي والإسلامي قد عاش أشكالاً متنوعةً من الهيمنة وكانت ردود فعله متنوعة بین النقد وبين التقليد والتثاقف معه تقليدا واقتباسا للحداثة من أصحاب الاختلاف أو نفيا ونقدا من أصحاب الهوية أو الأصالة. فالتراث الإسلامي كان يمتلك إرثًا حضاريًا كبيرًا إذ كان الانتماء في ظل التجربة الإسلامية لا يقاس على أساس الدين، وإنما على أساس المسالمة والمحاربة، لأنّ الإسلام عدَّ أهل الأديان الأخرى المسالمين من أهل دار الإسلام؛ أي أنّ لهم حق المواطنة الكاملة.

على عكس ما يشيعه الغرب من أزمة الاقليات وغياب حقوق الاختلاف التي اتخذ منها وسيلة للتدخل في شؤون المنطقة وعمل على خلق الفرقة واشاع الصراعات العرقية من أجل أن يتخذ منها ذريعة للتدخل في شؤون العالم الإسلامي.

ص: 208


1- استاذ الفلسفة الوسيطة الاسلامية - المسيحية ، في قسم الفلسفة، في جامعة الكوفة

وكان التيار الإسلامي بكل أشكاله قد بحث العلاقة مع الآخر فتنوعت مواقفه فمنها من رضي التثاقف معه، ومنها من مارس نقدًا للغرب وكانت تلك النقود المرجعية المعنوية في المقاومة للخطاب الكونيالي التي خاضها المجاهدون لفترات طويلة في الجزائر ومصر والكثير من العالم الإسلامي كالهند.

إذ تبزغ راهنيته في مقاومة الكونيالية الغربية وما صاحبها في نظر التيار الإسلامي من غزو ثقافي وجدوا فيه بابًا من أبواب تقليد الغرب بالعادات والتقاليد وأشكال الثقافة التي تختلف مع ما ورثه العرب والمسلمون، من تراثهم وشريعتهم التي اتخذوا منها رأسمال رمزياً في مقاومة الخطاب الكونيالي من خلال تحليل العلاقة بين الآخر الغربي والذات وما أوجدوه من علاقات صراعيَّة بين العقل الغربي وعالمنا العربي الإسلامي.

فالبحث يتناول بالتحليل أفكار واحد من قادة الحركات الإسلامية هو الشيخ حسن البنا وما قدَّمه من فكر نقديّ للغرب وبيان مظاهر التغريب عنده وما وجد فيها من تأثير سلبي على الواقع الاجتماعي والسياسي بحسب تصوره النقدي إذ برز كصاحب موقف مدافع عن الهوية الإسلامية في مقابل من انتقده واتهمه من أصحاب الفكر التغريبي والعلماني، ونحن هنا نجده واحدًا من ممثلي الخطاب السلفي في نقوده التي اتسمت بالشمولية والجذريَّة مما جعله واحدًا من المرجعيات الإسلامية التي أثرت بعمق بالمشهد الإسلامي في وقته وبعده إلى اليوم في تصور العلاقة مع الآخر سواء كان : غربيًا، أم حداثيًا عربيًّا.

الأطروحة: لقد كانت هناك إشكالية صراع بين الغرب الكونيالي الذي اندفع إلى احتلال العالم العربي الإسلامي بكل قوة مما ساهم في ظهور ردة فعل لدى الآخر المسلم الذي كان في البداية يجد في الغرب تجربة حضارية بحث فيها مفكرو النهضة وعملوا على التثاقف الإيجابي معها. ولكنَّ الأمر اختلف حين تحول الغرب إلى قوة صادمة مدمّرة محتلة معادية عنصرية فكان لا بد لهذا الموقف أن يجعل الفكر الإسلامي يقف مليا بإزاء الغرب وهذا ما حدث مع الشيخ رشيد رضا.

ص: 209

فالغرب هنا تحول إلى قوة صدام يقوم على الهيمنة والإكراه مما جعل منه مشروعًا معاديًا استيطانيًا أعاق النهضة الاسلامية من خلال قوته الصلبة العسكرية أو من خلال قوته الناعمة من منتجات الحداثة وما صاحبتها من سلوكيات ومعتقدات وقيم تتعارض مع ما هو قار في العالم الإسلامي.

وكان لا بد من ظهور مفکرین مسلمين يمارسون خطاب المقاومة لهذا المد الكونيالي وكان الشيخ حسن البنا قد قدَّم مشروعًا سياسيا ودينيا يقاوم الاحتلال وقيمه ويقترح بديلاً له.

وهذه الروح المقاومة التي تتشبث باختلافها وتمايزها عن الآخر وتجد من الضرورة احياء هويتها والعمل على ترسيخ منظومتها الثقافية التي اننتجها الوجود الحي والمستقل.

بالتأكيد هذا يتطلب وجود رؤية مقاومة تعد المرجعية البديلة للحداثة الصلبة القادمة من الاستعمار الغربي، وتتمظهر هذه المقاومة برفض التغريب من الداخل وتعمل على مقاومة المحتل من الخارج.

المبحث الاول

المرجعية الفكرية في نقد الغرب

من أجل الحديث عن رؤيته النقدية لا بد أولا من الحديث عن المنظومة التي اتخذ منها مرجعيته في النظر إلى الآخر، لأن المرجعية لا بد من حاكميتها في الرؤية والمنهج اللذين كان لهما الأثر في النظر إلى الآخر وأثار الحداثة الغربية التي تسللت إلى المجتمع الإسلامي عامة والمصري خاصة، فالمشكلة هی الأخرى مرجعية حاكمة في الواقع الاجتماعي والسياسي، إذا نحن أمام مرجعيتين ولكل منهما رؤيتها ومنهجها في الحياة، فالنقد لدى الشيخ السلفي حسن البنا محكوم بموجهات مرجعية من ناحية ومن ناحية أخرى فإنَّ الآخر وما يمثله من اختلاف في الرؤية والمنهج سواء كان في الخارج أم في الداخل أم حركات وأحزاباً أم مؤسسات تم بناؤها على أساس

ص: 210

مرجعيّة غربيَّة وهو ما يعرف لدى التيار الإسلامي ب_ (التغريب او الغزو الثقافي).

أمَّا المنظومة التي تأثر بها وكان لها أثرها في تكوينه المعرفي والعقائدي أي السياسي، فهي ما يُعرف بتيارات الاسلام السياسي أو الفكر الإسلامي وهو مصطلح حديث الصياغة؛ ولكنَّه في مضمونه الفكري والعقدي ينتمي إلى تراث الاسلام من

حيث تناوله المعارف الإسلاميّة وعلوم القرآن والبحث الكلامي في الله وصفاته الخ(1)

فالفكر مثله مثل أي فكر لا بد من أن يخضع إلى تحولات تصاحب المتغيرات التي تطرأ على الحياة فيكون الفكر مسايراً لتلك التحولات التي تحتاج إلى تجديد في الوقت الذي تبقى فيه الاصول ثابتة؛ ولكنَّ التحولات في التلقي والتفسير والمعالجة للنصوص والأحكام والسنة، والقول بتجديدها أمر مرفوض مطلقا (2) .

ولكنَّ التحول المهم هو الفهم الحديث للتجديد الذي يتناسب وحاجة الأمة الذي أصبح (Modernization) استجابة من جانب الفكر لمتطلبات الواقع التي تتطلب المزيد من الضبط والتطبيق والالتزام (3) ومراعاة الضوابط الشرعية، من ناحية، ومن ناحية أخرى الحاجات والتحديات، ولعل مرجعية الشيح حسن البنا تتضمن هذا الأمر إذ تجاوزت المؤسسات الجامدة فجمع بين الرؤية السلفية التي ورثها عن أساتذته من قبيل محمد عبده ورشيد رضا الذين جمعوا بين الحاجات الراهنة في زمانهم وتجديد الحلول العملية (4) ولكنَّه كان أقرب إلى رشيد رضا (1282-1354 ه- 1935-1865م) الذي كان أميل إلى السلفية منه إلى التجديد. وأبرز ملامح هذا التجديد. ارتبطت ايضا بالضغوط الاستعمارية في الخارج وآثارها في الداخل لهذا ظهرت حركة أو ظاهرة (الصحوة الإسلامية)(5)، يمكن القول إن المفكرين والمصلحين الإسلاميين

ص: 211


1- انظر: محسن عبد الحميد تجديد الفكر الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 1996، ص41
2- انظر: المصدر نفسه، ص 97
3- انظر: طارق البشري الإسلام والعصر. ملامح فكرية وتاريخية مجلة المسلم المعاصر ، السنة 19، العددان (75-76) فبراير - يوليو 1995 ، ص 9.
4- انظر: محمد عابد الجابري وجهة نظر حول إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت، 1994، ص 42
5- الصحوة الإسلامية أو الصحوة هو مصطلح يشير إلى إحياء دين الإسلام من جديد أشهر صحوة في التاريخ الحديث بدأت تقريبا في عام 1970 وتتجلى في التقوى الدينية واعتماد الثقافة الإسلامية كاللباس المصطلحات، والفصل بين الجنسين، والتعبير والرقابة على وسائل الإعلام والإلتزام بالقيم والأخلاق من منظور الدين الإسلامي. كثيراً ما ترتبط الصحوة مع الحركة الإسلامية السياسية تحديداً دون الكثير من المجالات والتيار الإسلامي وغيرها من أشكال إعادة الأسلمة، في حين تمت صحوة أخرى اعتمدت العنف والتسلح منهجاً لها رافقه بعض التطرف الديني والهجوم على المدنيين والأهداف العسكرية من قبل الإسلاميين. انظر: الموسوعة الحرة.

جاهدوا في سعيهم لإصلاح الفكر الإسلامي وتجديده لمواجهة، التحديات الخارجية والداخلية، التي استهدفت الأمة الإسلامية في عقيدتها وهويتها وثقافتها الإسلامية، لكي يبرهنوا على أن الدين الإسلامي هو الأصلح لكل زمان ومكان، وأن له القدرة على تنظيم أمور الحياة للإنسانية جمعاء، ليكون هذا الفكر قادراً على مواجهة تحديات العصر، والتصدي للغزو الفكري، الذي يشنه المستعمرون ودوائرهم الثقافية على الإسلام ديناً وحضارة.

كان حسن البنا قد تأثر في تحولات رشيد رضا بعد أن كان الأخير قد تأثر بمشروع محمد عبده الإصلاحي، ولكنَّه غير موقفه وهذا يعود إلى سببين: أولهما ما شاهده من الغرب الذي تآمر على البلدان الاسلامية في زوال الخلافة الاسلامية التي ظنها في تركيا بسبب الغرب واحتلال الاراضي الاسلاميَّة في ليبيا وفلسطين وغيرها من ديار الإسلام، وفي مقابل ذلك تخاذل حكام المسلمين تجاه تلك التطورات وعدم اكتراثهم بها، فكل تلك العوامل جعلته يشعر بمسؤوليته الشرعية والإنسانية للقيام بواجب الإصلاح(1). ولكنَّه تأثر بالفكر الإخواني الوهابي وفكر ابن تيمية (661 728-ه_ 1261-1328م) . وكان لهذا أثره في مشروع البنا الإخواني إذ صرح «الشيخ حسن البنا» (1324-1368ه- 1909 - 1949م) بأنه قد تأثر بأفكار رشيد رضا قائلاً: «... نحن سلفيون من أتباع الشيخ رشيد رضا»،(2)ولكنَّه أكد أن دعوته على الرغم من سلفيتها (هي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بني الإنسان، وترمي إلى إسعادهم جميعًا لأنها إسلامية، والإسلام للناس كافة ليس لجنس دون جنس ولا لأمة دون أخرى.)(3)

ص: 212


1- حمد خروبات الإصلاح السياسي عند الشيخ محمد رشيد رضا، مجلة إسلامية المعرفة، العدد (26)، خريف 2001، ص 80
2- ينظر: السعيد الحركات الإسلامية، مصدر سابق، ص 9
3- مجموعة الرسائل، ص 275 ، ط دار البصائر.

قد كان مشروعه الاصلاحي يصطبغ بصبغة سياسية واجتماعية (إذ نراه قد أرسل الرسائل إلى الملك والحكومة ومجلس الأمن والسفراء وذلك لعلاج الخلل السياس الذي كانت تعاني منه الدولة والدول الإسلامية.

اما الجانب الاجتماعي فبين أثر التربية على الفرد والأمم واهتم بالمناهج التعليمية وقام بمحاربة الفساد الذي تقوم به الجمعيات الأهلية، واهتم بقضايا المرأة والأسرة (1)

و كان يمثل مشروعًا اسلاميًا حركيا يختلف عن المؤسسات الدينية التقليدية مثل الأزهر من ناحية ومن ناحية أخرى مختلف مع التيارات والأحزاب التغريبية أو المتأثرة بالغرب وموقفها من العلمانية التي وصفها رشيد رضا من قبل (بصفات مرذولة ك_ »المتفرنجة»و «الملاحدة»)(2) .

فان رشيد رضا هنا يهاجم امتدادات الغرب عبر المؤثرات الحداثية التي وصفها برؤية اقصائية سوف تؤثر بعمق بالمشهد الإسلامي الحركي عامة والاخوانية خاصة فان رشيد رضا كان يحمل مشروعاً يقوم على اصلاح حال المسلمين من خلال السلطة عبر إحياء مشروع الخلافة وإن دفعه هذا إلى نقد المؤسسات الإسلامية القائمة متهما اياها بالجمود وهذا ما تجلى في قول حسن البنا: ( الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من ركانه، ويعتمد على الإرشاد، وقديما قال الخليفة الثالث رضى الله عنه : »إن الله ليزرع بالسلطان ما لا يزرع بالقران« فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر )(3)لهذا انتهجوا موقفا وسطا بين التقليد والتفرنج، أي إنهم يحاولون تجاوز المؤسسات السياسية التي يضنون أنّها قائمة بالتأثر بالمحتل فهي متفرنجة ويهاجمون المؤسسات التقليدية كونها جامدة خاضعة إلى استبداد الحكام .فهم

ص: 213


1- أمين عبد العزيز جمعه الكتاب السادس من تراث الإمام حسن البناء المناسبات الإسلامية، البصائر، ط1، ص 193. ونظر مجموعة الرسائل، ص 777 ، ط دار التوزيع والنشر.
2- محمد جمال باروت، يثرب الجديدة الحركات الاسلامية الراهنة مؤسسة الريس للكتب والنشر، ط1، بيروت، 1994 ، ص 21.
3- حسن البنا مجموعة رسائل دار الدعوة، ط1، الإسكندرية، 2002، ص189.

بهذا يختلفون عن الطرفين. لكن الطرف الذي يتهم بالتفرنج هو موقف يعتمد على تصور إسلامي مختلف متمثل بعلي عبد الرزاق (1305 1386ه_ - 1888-1966م) «الإسلام وأصول الحكم» (1925) وعبد الحميد بن باديس (1307-1358ه_ - 1889- 1940م) وموقفه من إشكالية الحكم(1).

فكان لهؤلاء موقف مختلف من رشيد رضا وموقفه من الغرب والتغريب اذ يرى رشيد رضا أن علاقة الإسلام بالمجتمع عبر الدولة وأن الدولة تستمد شرعيتها من أهل الحل والعقد وأن الفرد ملزم أمام الدولة، التي يكون فيها أي الدولة الخليفة الذي يعتمد على التغلب والطبيعة القهرية للدولة، وان تنصيب الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد للإمام أو الخليفة واجب عليها شرعا تأثم كلها بتركه وتعد حياتها جاهلية مع فقده .(2) وهو هنا يعتمد على ميراث سني يرى أن الطريق إلى حماية الدين يأتي من خلال الخلافة(3) ولكنَّ حسن البنا اختلف عن استاذه خاصة وعن الميراث السني عامة باعتماده على منهج جديد أكثر واقعية ينتمي إلى الحركات الشعبوية الشمولية هو الدولة الاسلامية على الرغم من أنه أخذها عم رشيد رضا بعد تعديل تحولت فيه من خلافة : ممتنعة وطوباوية، إلى دولة إسلامية ممكنة وواقعية) (4).

المبحث الثاني

نقد الفكر الغربي

وهذه المرجعية هي المرجعية التي شكلت الأطر العامة لمقدمات الشيح حسن

ص: 214


1- موقف هؤلاء من القضية ذاتها اذ يرى علاقة الاسلام عبر الفرد وليس الدولة فالفرد مسؤول امام الله مسؤولية فردية يبشر بالإسلام عبر الاقناع والوعظ التي يشكل الفرد محورها وليس عبر الدولة بالإكراه ويرى عبد الحميد بن باديس أن وظيفة هذه المؤسسة تتحدد في تشكيل مرجعية دينية ادبية بحته للمسلمين بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخل الحكومة لا الحكومة الاسلامية ولا غيرها . انظر : محمد جمال باروت يثرب الجديدة، ص 20 وانظر بواسطته عبد الحميد بن باديس مختارات محمد عمارة له فى الاسلام والعروبة والعلمانية، ص 168
2- محمد جمال باروت يثرب الجديدة، ص 20 وانظر بواسطته محمد رشيد ،رضا الخلافة او الإمامة العظمى، مطبعة المنار، القاهرة، 1341 ، ه ، ص 6
3- علي أحمد الديري نصوص متوحشة : التكفير من ارثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية، مكتبة الفكر الجديد ط1، بيروت، 2015
4- عبد الإله بلقيزيز الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت، 2004، ص 144

البنا في نقد الغرب والتغريب في الداخل والمشروع الذي يقدمه بوصفه البديل عن كل هذا اذ نجده ينتقد الوضع القائم في العالم الاسلامي عامة ومصر خاصة في أيامه وما فيه من تغريب وابتعاد عن الإسلام.

نقد التاثير الغربي على المستوى الداخلي:

يناقش الاوضاع الداخلية في مصر من اسلامي كما تجلت لدية في مرجعياته الفكرية ويبدأ في مناقشة اهم قضية في الحراك الاسلامي باعتبارها المقولة الكلية نزولا إلى الجزئيات، انها قضية «الحكم» ويطرح سؤالاً : يتساءل فريق من الناس: هل في منهج

المسلمين أن يكونوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم ؟ ، وما وسيلتهم إلى ذلك ؟(1).

طبعا هذه الاسئلة كانت ولا تزال مهمة وحيوية وعلى اساسها يمكن تصنيف طبيعة الخطاب الاسلامي، ويقول: ولا أدع هؤلاء المتسائلين أيضاً في حيرة، ولا نبخل عليهم بالجواب.

فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه ، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في اول هذه الكلمة. وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على الإرشاد ، وقد جعل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) الحكم عروة من عرى الإسلام والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفرع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر. والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يقرر الأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره، فإن النتيجة الطبيعة أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد ونفخة في رماد كما يقولون.

فقد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا

ص: 215


1- حسن البنا، مجموعة رسائل، ص 186

من أهل التنفيذ إصغاءً لأوامر الله وتنفيذاً لأحكامه، وإيصالاً لآياته وأحاديث نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم) ، أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي والتنفيذي في وادٍ آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف... أن الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها من ينهض بهذا العبء، ولتطلب حكامها بحقوقها الإسلامية، وليعمل الإخوان المسلمون)(1)، فهو هنا يعطي تفعيلاً لما قاله رشيد رضا عبر المطالبة الجهادية باستلام السلطة والمطالبة بتنفيذ دول بناء الخلافة فهو يرفض أشكال الحكم المستعارة من الغرب ذات الطابع المتفرنج حسب وصف الشيخ رشيد رضا، وعلى هذا نجد موقف الشيخ حسن البنا يتجلى في موقفه من :

«نقد القوانين الوضعية «: في الوقت الذي يبين فيه موقفه من الثورة بالقول: (أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصرحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وسريع لهذه المشاكل فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح.) وانطلاقا من هذا الموقف نجد يبين موقفه من الدستور ويقول (يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر) ص 188 اما عن القوانين الوضعية (على ان هذه القوانين الوضعية كما تصدم الدين ونصوصه تصدم بالدستور الوضعي نفسه الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام، فكيف توفق بين هذين يا أولي اللباب ؟)(2)

نقد ظاهرة الأحزاب السياسية في مصر : كان البنا يبدو غير موفق في موقفه من ظاهرة الاحزاب كما يقول عبد الله النفيسي بقوله : (أرى أن البنا لم يوفق فيها، فهي

ص: 216


1- حسن البنا مجموعة رسائل نفس المصدر السابق، ص 187
2- المصدر السابق، ص 190

عدم تقبله الدائم للحزبية والاحزاب مما يعكس لديه غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر . يؤكد البنا في أكثر من رسالة وخطبه وحديث ومقالة ان الاخوان ليسوا حزبا من الاحزاب وان الاخوان ينكرون على الاحزاب حزبيتها ونقدي (أي (النفيسي) لهذا الامر ينصب على محورين:

نظري وعملي نظريا ما هو الحزب ؟) النظري من خلال تعريف الحزب اذ يعرف (ذو فرجه du verger )و ( إدموند بيرك E.Burke) و (جان بودان (J.Bodin) في موضوع الاحزاب كظاهرة من ظاهرات الاجتماع البشري السياسي اقول: يعرف هؤلاء الحزب ربما بألفاظ مختلفة لكنهم يجمعون على أن الحزب السياسي هو اتحاد بين مجموعة من الافراد بغرض العمل معا لتحقيق الصالح القومي وفقا لمبادئ خاصة متفق عليها جميعا».

اما العملي: الحزب كظاهرة طبيعية من ظواهر الاجتماع السياسي، اما رفض البنا للأحزاب بحجة ووجود أحزاب متنافسة بل ومتطاحنة لا يعني أن الحزب كظاهرة سياسية تقع في خانة السلبيات، أليس جماعة الأخوان حزبا؟ والجواب يبدو أن جماعة الأخوان في مصر لم تزل تحاول الخروج من هذا المأزق الذي كان نتيجة لخطأ كبير في اجتهاد البنا رحمه الله ) .(1)

إذ يشير« عبد الإله بلقيزيز« إلى ان نقد «حسن البنا للأحزاب ودورها التخريبي كما يعتقد يعود إلى نقطتين هما(أولها، اعتقاد البنا، بآثار ونتائج الحزبية في الاجتماع الوطني ، ويتعلق ثانيهما بما يعتقد أنه مجافاة من الحزبية لفكرة وحدة الأمة في الإسلام، وتهديد بالفتنة في نظامه.)(2).

اما «حسن البنا» فقد قال في هذا الموضوع (يعتقد الإخوان أن هذه الحزبية قد افسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم،

ص: 217


1- عبد الله فهد النفيسي الأخوان فى مصر: التجربة ،والخطأ ضمن كتاب جماعى عنوانه الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، اوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم عبد الله النفيسي، مكتبة مدبولي القاهرة، 1989، ص221-223.
2- عبد الإله بلقيزيز الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 141

ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر.)(1) وعن اليات الوصول إلى السلطة (اي الانتخابات )فهو وان كان لا يحرض على الثورة لكنه يراها قادمة بالضرورة كما مر بنا ولا يرى ان الحكام يمتلكون شرعية دينية، ولا يرى في القوانين الوضعية الا بديلاً عن الشريعة وعندما وصل إلى الانتخابا قال: (حسبنا ان نشير هنا إلى الانتخابات ،وهو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون الأمة ويقومون بتنفيذ دستورها وحمايته، وما جره هذا القانون على الأمة من خصومات وحزازات، وما أنتجه من أضرار يشهد بها الواقع الملموس)(2).

رؤيته حول الحياة البرلمانية : ( ويعتقدون أن النظام النيابي، بل حتى البرلمان، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر .) (3) ومن ثم يقدم البديل الذي استعاره مصر.) من استاذه الشيخ رشيد رضا وهو مقولة أهل الحل والعقد التي أشرنا إليها فيقول البنا فيها ويؤكد في المقابل على سلطة أهل الحل والعقد وهم: أولا: الفقهاء المجتهدون الذين يعتمدون على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.وثانيا :أهل الخبرة في الشؤون العامة .وثالثا: من لهم نوع من قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت وشيوخ القبائل(4). هذا على مستوى نقد التغريب أو أثر الغرب على الشرق داخليا.

من الملاحظات النقدية على موقف الشيخ حسن البنا هذا: إنَّ نقد المباني الدستورية والسياسية وتقييد إرادة الأمة بأهل الحل والعقد واتهام الأحزاب بالفساد والربط بين الدين والسياسة أثار ردوداً متنوعةً في المجتمع فمنهم من أشار إلى تناقض فكر الشيخ البنا ومحاولة الهيمنة على الحياة السياسية وإلحاق الأحزاب بالإخوان المسلمين كمنظمة سياسية دينية.( إلا أن دعوته إلى وجوب حل هذه الأحزاب لم تكن - البتة - من أجل مصلحة مصر، كما أوحى بذلك، بل من أجل إخلاء الساحة لحزب وحيد هو حركة «الإخوان المسلمين «، أو لتشكيل إطار سياسي

ص: 218


1- حسن البنا مجموعة رسائل، نفس المصدر السابق، ص194
2- حسن البنا مجموعة رسائل نفس المصدر السابق، ص 188
3- المصدر السابق، ص 197
4- المصدر السابق، ص 238

جامع يكون فيه للحركة مركز القيادة)(1) ولكن تلك النقود التي قدمها الشيخ حسن البنا إلى المؤسسات التغريبية مستوردة من الغرب لأنها مفارقة للفكر الاسلامي وتشجع على الانقسام الاجتماعي والفتنة كما هو قار في تاريخ الإسلام؛ مما قاد إلى استنتاج قدمه احد الباحثين في فكر الإخوان هو( اللامؤسسية) إذ يرى (إن هذا التركيز على المبادئ العريضة العامة، على الرغم من صحتها وأهميتها – يعتبر من العوامل المساعدة على ظهور اللامؤسسة، خاصة إذا بقيت الحركة واقفة عند هذه المبادئ ولم تتجاوزها تصلح للظرف المعين والزمان الذي نعيش فيه.)(2).

الخلافة هي الحل :

الخلاصة التي نخرج به هنا ان الشيخ كان يحارب التغريب في الفكر المعاصر وهو يتجلى في نقل واستنبات المفاهيم الغربية متمثلة بالقوانين الوضعية، والدستور، والانتخابات ورغم هذا فهو يدرك ان الثورة ليست هدفاً لكنها قادمة ازاء الانهيار والصدمات التي تواجها الحياة السياسية وما تكتنز من غموض دستوري وابتعاد عن الشريعة وغياب الحكام الذين يلتزمون بها.

وياتي العلاج بقوله : (أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله... والإخوان المسلمون المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع ذلك يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها ...)(3) .

أما موقفه من الاستعمار الغربي فيرى:

وبعد نقد التأثير الغربي من خلال حركة التغريب يمارس الشيخ حسن البنا نقد

ص: 219


1- عبد الإله بلقيزيز الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 142
2- بشير محمد الخضراء النمط النبوي - في القيادة السياسية.. و الديمقراطية مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، ،بیروت، 2005، ص 291
3- حسن البنا مجموعة رسائل نفس المصدر السابق ص 194

الغرب بشكل مباشر ويفضح تآمره على الأمة الاسلامية إذ يصف التلاعب الغربي بمصائر الشرق المسلم فهو يؤكد على موقفين: الأول تمثل بنقد الغرب ومقاومته اذ (أن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله هذه واحدة، والثاني أن الإسلام فرض على المسلمين أن يموتنوا أئمة في ديارهم، سادة في اوطانهم، ليس ذلك فحسب، بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم والاهتداء بأنوارهم الإسم التي اهتدوا بها من قبل.

هنا يعتقد الإخوان المسلمون أن كل دولة اعتدت وتعدت على أوطان الإسلام دولة ظالمة لا بد أن تكف عدوانها، ولا بد من أن يعد المسلمين أنفسهم ويعملوا متساندين على التخلص من نيرها .)(1) الثاني، تمثل الدعوة إلى الجهاد للعدوان وهذا ما قام به الإخوان في مصر عبر مقاومة المحتل او الحرب في فلسطين ضد الاحتلال والاستيطان . وقد بين البنا موقفه من القضية الفلسطينية بقوله: (إن انجلترا لا تزال تسئ إلى فلسطين، وتحاول أن تنقص من حقوق أهلها، وفلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها أرض الإسلام وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. ففلسطين دين على انجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقوقهم... ولنا حساب بعد ذلك مع انجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق، والتي يفرض الإسلام على أهلها وعلينا معهم أن نعمل لإنقاذها وخلاصها.)(2)أما فرنسا وهي القوة الثانية الاستعمارية وقتها التي قال فيها: ( أما فرنسا التي ادعت صدقة الإسلام حينا من الدهر فلها مع المسلمين حساب طويل، ولا ننسى لها هذا الموقف المخجل مع سورية الشقيقة، ولا ننسى لها موقفها في قضية المغرب الأقصى والظهير البربري.... وليس حسابنا مع إيطاليا بأقل من حسابنا مع فرنسا ،فطرابلس، طرابلس العربية المسلمة الجارة القريبة العزيزة، يعمل الدوتشي ورجاله في إفنائها وإبادة أهلها واستئصالها ومحو كل أثر للعروبة والإسلام منها.(3)

ص: 220


1- المصدر السابق، ص 201
2- المصدر السابق ص 202
3- حسن البنا مجموعة رسائل ، ص 202

مواقف تعبر عن موقف مقاوم جهادي لهذا كان خطابة احياء الجهاد، والمقاومة.

تأكيده على الخطاب الشمولي الوحدوي للمسلمين اذ يجد أنَّ الذين انتصروا لايختلفون عن الفاشيين الذين انهزموا فالهدف وغياب الأخلاق واحد وهذا ما يظهر في قوله :( لقد انتهت الحرب العالمية الثانية، التي قضت على العنصريات الحديثة في أوربا عنصرية النازية والفاشية، فرأينا بعدها الدول الاوربية الكبرى تسعى سعيا حثيثا إلى التجمع والتكتل ، باسم العنصريات تارة، والمصالح تارة اخرى).(1) ثم انه يدرك نقاط الضعف في العالم الاسلامي هي الفرقة والتقسيم لهذا يقول : ( نريد أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية وأضاعت وحدته المطامع الأوربية. ونحن لهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية ولا نسلم بهذه الاتفاقيات الدولية، التي تجعل من الوطن الإسلامي دولا ضعيفة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها.) (2) فرفض العهود الغربية القائمة على الهيمنة.

انه يؤكد أمراً اخر فيما يتعلق بالعلمنة «او فصل الدين عن السياسة فيقول بهذا الامر: ( فصل الدين عن سياسة الدولة العامة فصلاً تاماً. وذلك إن صح في الأمم الغربية فلا يصح أبداً في الأمم الإسلامية، لأن طبيعة التعاليم الإسلامية غير طبيعة تعاليم أي دين آخر، وسلطة رجال الدين المسلمين محصورة محدودة لا تملك تغيير الأوضاع ولا قلب النظم، مما جعل القواعد الأساسية في الإسلام على مر القرون، تساير العصور وتدعو إلى الرقي وتعضد العلم وتحمي العلماء .)(3)

البعد القيمي وأثره في النهضة الاسلامية : ثم انه يؤكد على نقده الجذري لتلك الثقافة وما تشيعه من مظاهر الخراب الأخلاقي والقيمي إذ إن أهم الظواهر التي لازمت الحضارة الغربية المادية التي أقصت الدين عن الحياة تتلخص في: الإلحاد

ص: 221


1- نفس المصدر السابق، ص 227
2- نفس المرجع ، ص 95
3- نفس المرجع، ص 80

والشك في الله وإنكار اليوم الآخر والوقوف عند حدود الكون المادي المحسوس والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز والمغريات والأثرة في الأفراد وفي الطبقات والشعوب والربا والتفنن في صوره،وتعميمه بين الدول والأفراد. وقد أنتجت هذه المظاهر المادية في المجتمع الأوروبي فساد النفوس وضعف الأخلاق والتراخي في محاربة الجرائم ، فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة واشتعلت الثورات المدمرة، وتناحرت الشعوب وتمزقت الدول، وأثبتت هذه المدنية الحديثةعجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني وإقرار الطمأنينة والسلام فيه وفشلت في إسعاد الناس على الرغم مما فتحته عليهم من حقائق العلم والمعرفة وما وفرت لهم من أسباب الغنى والثراء وما مكنته لدولها في الأرض من قوة وسلطان ولما يمض عليها قرن من الزمان(1) .

الحراك السياسي ودور الإخوان المسلمين فيه:

قد تكون هذه المرحلة هي امتحان لما سبق من افكار وخطب وتنظير بحق علاقة الجماعة وهي تحلي لفكر المؤسس وفي اخر ايام حياته قبل استشهاده وهي المرحلة الثالثة بین (1949-1945)، وهي تعد أخطر مرحلة مرت بالبنا والجماعة معا، بعد استكمالهم البنى التنظيمية للجماعة، وبعد انتهاء الحرب، ومن اهم الاحداث كانت اغتيال البنا مؤسس الجماعة في 2/12/ 1949، وكانت فترة 1945- 1949 فترة اضطراب سياسي واضح لدرجة أنه تعاقب على الحكم فيها -على قصرها - ثلاث وزارات .وكانت علاقة الاخوان بهذه الحكومات تتفاوت من حيث درجة المواجهة فقط، غير انها لم تكن بأي حال من الأحوال مستقرة، ففي مبادراتها كانت تعكس حركة في طور الصعود. واستطاع البنا - بسعته النفسية والشخصية - ان يثبت في تاريخ الجماعة بعض الأعراف والأصول التنظيمية والادارية(2). وقد كان للبنا دور في مواجهة الاستعمار والتظاهر ضد الاتفاقيات التي كبلت الشعب المصري، ودور في المقاومة المسلحة للاستيطان اليهودي في فلسطين واحداث

ص: 222


1- حسن البنا بين الامس واليوم 1450159
2- عبد الله فهد النفيسي، الأخوان في مصر : التجربة والخطأ، ص 216

الحرب هناك(لقد عرض البنا 1940 على خمسة اشخاص هم صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شربت وعبد العزيز احمد ومحمود عبد الحليم، انشاء (نظام خاص)، أي جهاز عسكري تواجه به الجماعة مسؤوليتها ازاء الانجليز في الداخل والصهاينة في فلسطين )(1) .

الخاتمة: «طبيعة معارضته للغرب»

إنَّ ما يظهر من خلال ما تطرقنا إليه أنَّ هناك موجهات متنوعة تقف خلف تصنيف نقد الشيخ حسن البنا للغرب وأبرزها هو العامل السياسي ولكن هناك عوامل دينيَّة وأخلاقيّة واجتماعيَّة حاضرة في خطابه الإسلامي الحركي.

وأبرز الموجهات السياسية كانت تلك التي ورثها من أستاذه رشيد رضا وهو يرصد العدوان الغربي الذي نقل كل الألم والمشقة إلى العالم الإسلامي ومساهمته في زوال المشروع السياسي الجامع كما تصوره الشيخ رشيد رضا للمسلمين هو مشروع الخلافة.

بالإضافة إلى تمزيق ديار المسلمين واحتلالها وزرع المستوطنات الغربية والصهيونية والفاشية في فلسطين وليبيا وغيرها من ديار الإسلام، ومما زاد الألم وعمَّق المأساة تخاذل الحكام المسلمين عن حماية أراضي الإسلام؛ لأنهم بالأساس صنيعة الاستعمار وألعوبة بيده بعد الاختراق الثقافي الذي مارسه الاستعمار قبل احتلاله المباشر للأرض.

مما جعل من الإصلاح مطلباً حيوياً في مواجهة التغريب والأطروحات العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة ومن هنا جاء الإصلاح على أسس سلفية يقوم على تقديم بديل يتفق مع روح الأمة هو «الحكومة الإسلامية« التي تعد البديل الموضوعي

لما هو قائم.

ونجد أنَّ هذا الطرح يبدو أكثر واقعية من طرح مفهوم الخلافة الذي طرحه

ص: 223


1- عبد الله فهد النفيسي، الأخوان في مصر التجربة والخطأ، ص 216. انظر: صلاح شادي، صفحات من التاريخ، ص 84

رشید رضا من قبل ومن جانب آخر وجد أن الدخول بالعملية السياسية والدستورية والمطالبة بالإصلاح التدريجي الذي تقوم على قبول الدستور القائم على جعل الاسلام دين الدولة ومصدر التشريع وصولا إلى قيام الحكومة الاسلامية التي تزيح الحياة الحزبية وتنقل تقرير المصير من يد الأمة إلى يد أهل الحل والعقد مستثمرا التجارب الاسلاميَّة في عهد الخلافة الراشدة.

أمَّا الجانب الاجتماعي والأخلاقي عنده فيتجلى في مقاومة مظاهر الانحراف وتطبيق الأحكام الشرعية عبر التربية الشبابية التي تحاول انشاء جيل يخلق قطيعة مع الأجيال القديمة فتحدث تحولاً اجتماعيًا وأخلاقيًا يقاومان الانحلال الأخلاقي والغزو الثقافي كما كان يتصوره. من خلال الدعوة السلفية التي كان يعتنقها، فهي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بني الإنسان، وترمي إلى إسعادهم جميعًا لأنها إسلاميَّة، والإسلام للناس كافة ليس لجنس دون جنس ولا لأمة دون أخرى.

ولكنَّ هناك نقاط ضعف تؤخذ عليه منها :

هيمنة النشاط السري الجهادي على الجماعة التي ضعفت عن المواجهة قادت إلى اغتياله.

وأيضا احتكاره القيادة وعدم إعداد القيادات البديلة مما أدى إلى إحداث إرباك كبير بعد اغتياله.

بالإضافة إلى انه جعل من الجماعة بديلاً عن الحياة السياسية وجعل من جماعة الحل والعقد بديلاً عن الأمة مما ساهم في غياب المؤسسات القانونية.

وتحول الجماعة إلى مؤسسة معارضة للأنظمة السياسية القائمة. وقد اختارت العمل العسكري بديلاً عن العمل السياسي المدني.

ص: 224

«الآخر» في فكر سيد قطب

د. محمد شهید

د. محمد شهید(1)

مقدمة:

يعتبر سيد قطب من أهم أقطاب الفكر الإسلامي في مرحلة امتدت إلى نهاية الستينيات. لكن اثر فكره بقي فعالا لفترة أطول امتدت إلى الآن؛ ولربما تأثيرها سيبقى لسنوات أخرى قادمة وقد تكون لأجيال متعددة. وقد يكون الإرث الفكري الذي خلفه الرجل وراء هذا الأمر. ذلك أن قراءة فكره وتأويله قد تناولته مدارس وحركات وجماعات من الداخل الإسلامي، فتلقته جهة بالقبول فتبنته ودافعت عنه، فى حين تلقته أخرى بالرفض فلفظته وتبرأت منه.

وهذا الاختلاف في تناول فكر سيد قطب وتراثه لم يحدث في العالم العربي والإسلامي فحسب، أي لم يكن هذا الاختلاف خارج الجماعة التي بقي ينظر لها وتتبنى فكره أي جماعة“ الإخوان المسلمون“؛ بل حصل هذا الاختلاف واحتدم حتى داخل الجماعة. وهو ما يمكن ملاحظته في الانتقادات أو المراجعات التي صدرت من يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي بخصوص الفكر الحركي بدرجة أولى.

وبذلك فسيد قطب، مع ثلة أخرى من المفكرين والدعاة الإسلاميين قليلة، يعتبر من أكثر الأعلام إثارة للجدل في الفكر الحركي والفكر الإسلامي عموما. وقد يكون أهم أسباب هذه الإثارة التي أحدثها فكره هو امتداد قلمه وعقله إلى مجالات متعددة من الثقافة الإسلامية. فقد كتب في التفسير في ظلال القرآن“. وللتفسير

ص: 225


1- جامعة محمد الأول ،وجدة، المغرب، دكتوراه في مقاصد الشريعة.

تداخل وتقاطع مع عدد كبير من العلوم أقلها الفقه الإسلامي وأصوله وعلم الكلام.. وهذه العلوم كما معروف عند أهل الاختصاص الاختلاف والتعدد والتنوع فيه هي السمة البارزة. كما كتب في الأدب بألوانه: نثرا وشعرا وقصة ورواية. وكتب في الفكر والثقافة وصنف كما برز في الفكر الدعوي والحركي.

وسيد قطب بهذا هو منظر من الطراز الكبير في الساحة الإسلامية، أحببنا أم كرهنا، يقرأ له الكثيرون ويدرسون كتاباته إلى الآن يتأثرون بها ويؤطرون بها لقاءاتهم واجتماعاتهم ومن ثم فهي تشكل لبنة أساسا في فكر وثقافة هؤلاء. يكتسي تتبع أرائه وقراءتها أهمية بالغة من اجل فهم ما يجري في الواقع المعاصر.

كما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن التفاعل مع فكر هذا الرجل لم يقتصر على الذات الإسلامية فقط. فقد تجاوز الأمر ذلك إلى التيارات الفكرية الأخرى في العالم العربي والإسلامي التي تنطلق من رؤية علمانية تخالف سيد قطب ولا تتقاطع

معه في نظرها. بالإضافة إلى ذلك فهو مجال للدراسة والبحث حتى عند “الآخر “ في الغرب بكل أطيافه باعتبار أن فكره يشكل الثقافة الأصلية والأساس لعديد من التيارات الإسلامية كما سبقت الإشارة.

وقد جرت عليه بعض أفكاره الجريئة الكثير من الهجوم والنقد اللاذع، حتى صار

[2]

بعض منها لصيقاً به؛ فقد استقبلت مفاهيم من قبيل "الجاهلية" (1)و"الحاكمية" (2)و"التصور الإسلامي"(3). . بردود فعل متباينة. فمن جهة استقبلت بحفاوة وإعجاب شديدين، ومن جهة أخرى قوبلت باستهجان ورفض كبيرين..

وقد عرف أيضا ببعض الأفكار التي قسمت الفكر الإسلامي إلى طرفين، من مثل تبنيه القول بان الاجتهاد الفقهي ليس أولوية بالنسبة للدعوة الإسلامية بل الأولوية القصوى تكون لبناء المجتمع الإسلامي أما البرامج والاجتهاد الفقهي فيكون بعد

ص: 226


1- سيد قطب : معالم في الطريق، دار الثقافة - الدار البيضاء - ط : 8، 1983، ص: 92-107
2- سيد قطب : "معالم في الطريق، ص: 108-115
3- سيد قطب: "مقومات التصور الإسلامي، دار الشروق - القاهرة - ط:3، 1988، ص:41-80

تأسيس المجتمع متأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي في نظره كان اهتمامه الأول ببناء المجتمع الإسلامي وان التشريعات والقوانين لم تنزل إلا في الفترة

المدنية(1).

"الآخر" في فكر سيد قطب

وبعيدا عن هذا الأخذ والرد في فكر سيد قطب، وبعيدا أيضا بين تبني هذا الفكر أو التخلي عنه؛ فإنه هذه الورقة الوقوف عند موقف سيد قطب من" الآخر".

يهم وبكلمة يهم هذه الدراسة متابعة تصور سيد قطب للمخالف للعقيدة والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية عموما. وإذا كان" الآخر" رسخ بشكل جلي في ذهن المسلمين والعرب بالغرب فانه قد تجلى في صور وأنماط متعددة عند سيد قطب سيتم متابعتها في الصفحات التالية.

في الفترة التي عاش فيها سيد قطب ( (1906-1966) لم يكن قد تبلور الصراع الفكري بين العالم الإسلامي والعالم الآخر في أعلى صوره وأوضح معالمه. لذلك يجد المتابع للآخر أو ما يسمى بالغرب في كتابات المفكرين الذي عاشوا هذه المرحلة وما قبلها غيابا أو شحا لهذه المصطلحات والتعابير . غير انه كانت مفاهيم ومصطلحات مستعملة ومتداولة بشكل كبير في الساحة الفكرية والثقافية في العالم العربي بالخصوص.

ومن هنا يمكن تفهم غياب مصطلح "الغرب" بحمولاته الفكرية والثقافية والحضارية، عند سید قطب بالخصوص، وكذلك المصطلحات المشابهة من قبيل "الآخر" التي تدل على المغاير للذات والمختلف عنها من حيث الفكر والثقافة والحضارة ونمط العيش. في مقابل ذلك ستنشط مصطلحات كانت سائدة ومعروفة آنذاك من قبيل "المستعمر" والصليبية" و"اليهود“ و" أهل الذمة" و"الرجل الأبيض".

كما لا ينبغي أن تغيب عنا أن هذه الفترة كانت فترة اشتدت فيها حدة الآلة العسكرية

ص: 227


1- سيد قطب : "معالم في الطريق، ص: 24-51.

الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي، مما سيؤجج الوضع ويحدث نوعا من الشرخ بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ومع هذا الهجوم العسكري الدموي العنيف الذي تمثل خاصة في الاستعمار بكل مآسيه وويلاته، فقد نشط هجوم آخر لا يقل عنه عنفا وباسا انه الغزو الثقافي والفكري في شتى ألوانه وضروبه. هذا الهجوم المزدوج اللون حشر الفكر التقليدي للأمة الذي تحمل لواءه الثقافة الإسلامية في الزاوية ليتقهقر للوراء في موقف ضعف وهوان. غير أن ثلة من المفكرين والدعاة والمصلحين سيتسلحون بما يسمونه "عزة الإسلام" والثقة في الدين الإسلامي ليشنوا هجوما مضادا ولو بوسائل ومناهج ضعيفة وتقنيات بدائية على هذا الفكر الدخيل وعلى الاستعمار الغاشم. وهو ما سيلحظ بشدة في طبيعة الأسلوب ربما" القوي" أو "المتشدد" أو" العنيف"(1) . عند سيد قطب وغيره من مفكري المرحلة..

وسيد قطب مفكر وداعية كباقي دعاة الإصلاح يهمه من بين ما يهمه بناء مجتمع يناسب تصوره وطموحه لكن دون إغفال المجتمع المحيط ومكونات الواقع الآخر. لذلك تعرض في مشروعه الفكري والحركي في مرات متعددة لبعض من هذه الهموم من خلال الحديث عن طبيعة المجتمع الإسلامي ومكوناته دون إغفال التعرض ل

"الآخر" سواء المعادي منه أم الصديق أم المحايد.

المجتمع الإسلامي مجتمع سلمي عالمي

ولمعرفة موقف سيد قطب من "الآخر" بكل ضروبه وتموقعاته سواء في داخل المجتمع الإسلامي أم في خارجه، فإنه من المفيد الوقوف على موقفه أو تصوره للسلم انطلاقا من التصور الإسلامي. فهو لا يترك فرصة إلا ويؤكد على سلمية الإسلام وإنسانيته مع ربطه بالمنظور الإسلامي الذي يسميه أصلا ب "التصور الإسلامي".

ذلك أن" فكرة السلام في الإسلام فكرة أصيلة عميقة، تتصل بالإنسان اتصالا وثيقا بطبيعته، وفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة التي ترجع إليها نظمه جميعا؛ وتلتقي عندها تشريعاته وتوجيهاته، وتجتمع إليه شرائعه وشعائره بشكل لا

ص: 228


1- هذه التعابير تقريبية فقط وليس بالمفهوم الغربي الذي يسم به الإسلام والمسلمين..

يخطر على بال الباحثين الدارسين أنفسهم لهذا الدين.. إلا أن يبلغوا بالبحث والدرس إلى الجذور العميقة البعيدة، ويتتبعوا امتدادها بالبحث والدرس إلى الجذور العميقةالبعيدة، ويتتبعوا امتدادها وتفرعها ،في يقظة وصبر وإحاطة...(1)

هذا المنطلق هو الذي يجعل من المجتمع الإسلامي، بكل مكوناته خصوصا في مناطق مليئة بالحساسيات الدينية والأقليات الاثنية والتنوعات المذهبية أيضا، مجتمعا منفتحاً بعيداً كل البعد عن العنصرية البغيضة والقومية المقيتة. فيؤكد ذلك حين يقول : "المجتمع الإسلامي مجتمع عالمي، بمعنى انه مجتمع غير عنصري ولا قومي ولا قائم على الحدود الجغرافية، فهو مجتمع مفتوح لجميع بني الإنسان، دون النظر إلى جنس أو لون أو لغة، بل دون نظر إلى دين أو عقيدة "(2)

وبذلك فالتصور الإسلامي ينشد السلم المؤسس على العدل انطلاقا من الشريعة الإسلامية الربانية المصدر وهو التصور الذي يهدف إلى تأسيس مجتمع بعيد من المنزلقات الطائفية والاثنية والمذهبية، مفتوح للبشر بغض النظر إلى لونهم أو لغتهم

أو عقيدتهم.

انطلاقا مما سبق سيتضح الإطار العام الذي يضع فيه سيد قطب" الآخر" في المجتمع الإسلامي وخارجه. فإذا كان السلم والمجتمع المنفتح هدفا للإسلام فإن قضايا أخرى تتطلب التوضيح والبيان في هذا الإطار ولعل من أهمها قضية دعوة "الآخر" إلى الإسلام وبالتحديد حرية الناس في الدخول إلى الإسلام من عدمه أو بالأخص قضية الإكراه في الدخول في الإسلام. وهي مسالة في غاية الأهمية في النظر إلى "الآخر" والتعامل معه.

3 .في إكراه" الآخر" على الدين:-

أثناء تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ

ص: 229


1- سید قطب : السلام العالمي والإسلام، دار الشروق - القاهرة - ط :12، 1993، ص: 13.
2- سید قطب : نحو مجتمع إسلامي، دار الثقافة - الدار البيضاء-ط:6، 1983، ص: 92

الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » [البقرة: 256]، يعلق سيد قطب قائلا: "وفي هذا المبدا يتجلى تکریم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أهم خصائص التحرر الإنساني..

إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق "الإنسان" التي يثبت له بها وصف "إنسان". فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.(1)

ف" الآخر" ، بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه، مطلوب من المسلمين أن يعرضوا المشروع الإسلامي عليه، وهذا حق من حقوقه؛ ورغم ربانية الإسلام واطلاقيته وشموليته وأفضليته على باقي الأديان وفق التصور الإسلامي- فإن الحرية والعدل هي المدخل إلى قلبه، وعقله وهي المفتاح الذي يمكنه من القبول أو الرفض. وعليه ف"إن الإسلام لم يشأ أن تكون وسيلته إلى حمل الناس على اعتناقه والإكراه في أية صورة من الصور، حتى القهر العقلي عن طريق المعجزة لم يكن وسيلة من وسائل الإسلام كما كان في الديانات قبله، من نحو الآيات التسع لموسى، والكلام في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى.. لقد شاء الإسلام أن يخاطب القوى المدركة في الإنسان، ويعتمد عليها في الاقتناع بالشريعة والعقيدة، وذلك جريا على نظرته الكلية في احترام هذا الإنسان وتكريمه (2).

فالإسلام يتبرأ من العنف ولا يقبل به وسيلة لدعوة الناس وإقناعهم بالدخول في دينه، فينبذ العنف والقهر الذي يولد نفورا وكراهية تكون مدخلا للنفاق وشراء الذمم وإشاعة فكر الحقد والتعصب .. ولذلك فالإسلام "لم يشأ.. أن يجعل القهر المادي

ص: 230


1- سيد قطب : "في ظلال القرآن"، دار الشروق، ط:9، 1980، 291/1.
2- سيد قطب: "نحو مجتمع إسلامي"، ص: 103

وسيلة للاقناع، أو لحمل الناس على اعتناقه بالإكراه، ولم يضق ذرعا باختلاف الناس

في المنهج والعقيدة، بل اعتبر هذا ضرورة من ضرورات الفطرة، وغرضا من أغراض الإرادة العليا والناس: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلفينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود : 118]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لَّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [المائدة: 48] .

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا

مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:99] ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ (البقرة: 252) .

فليست غاية المسلمين أن يكرهوا أحدا على اتباع الإسلام، إنما كل غايتهم أن تترك لهم حرية الدعوة وأن تترك للناس حرية الاعتقاد؛ فإذا تبين الرشد من الغي، فقدتركت الحرية للناس بعد هذا التبيين، وبطل الإكراه والقهر بنص القرآن(1).

في حرية اعتقاد "الآخر":

يعتبر الإسلام اعتناق الدين الإسلامي يتأسس أصلا على إخلاص النية والعبادة لله الواحد الأحد. وهذا المنطلق هو أرقى معاني التحرر من كل أدران التراب والترفع للسمو إلى صفاء الروح والسماء. وهذا التحرر لا معنى له إلا إذا تجسد في النفوس والعقول والقلوب؛ وهو ما لا يتحقق إلا بترك الناس أحرارا أمام اختياراتهم وقناعاتهم الدينية والاعتقادية. لذلك فالشريعة الإسلامية لا تلزم الناس بعقيدتها بل تفتح لهم وتيسر لهم سبل الاعتناق بالدليل والبرهان. ليس هذا فحسب، بل الإسلام" لا يريد حرية العبادة لأتباعه وحدهم ،إنما يقرر هذا الحق لأصحاب الديانات المخالفة، ويكلف المسلمين أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع ، ويأذن لهم في القتال تحت هذه الراية، راية ضمان حرية العبادة لجميع المتدينين... وبذلك يحقق أنه نظام عالمي حر،يستطيع الجميع أن يعيشوا في ظله آمنين ،متمتعين بحرياتهم الدينية على قدم المساواة مع المسلمين وبحماية المسلمين(2).

ص: 231


1- سيد قطب: "نحو مجتمع إسلامي، ص: 104
2- سيد قطب : نحو مجتمع إسلامي، ص: 106

لذلك يعلنها سيد قطب صراحة وبدون مواربة في دعوته إلى حرية الاعتقاد واختيار الدين الذي يختاره الناس دون إكراه أو إجبار حين يقول: "إننا ندعو إلى نظام، تستطيع جميع العقائد الدينية أن تعيش في ظله بحرية وعلى قدم المساواة، ويتحتم فيه على الدولة وعلى جماعة المسلمين، القيام بحماية حرية العقيدة، وحرية العبادة للجميع، وأن يلجأ غير المسلمين في أحوالهم الشخصية إلى دياناتهم كذلك؛ وإن يكون لجميع المواطنين فيه حقوق وتبعات متساوية، بدون تمييز .. وان يرتكز هذا كله ؛على عقيدة في الضمير؛ لا على مجرد التشريعات والنصوص؛ التي لا تكفي وحدها للتنفيذ السليم.

(1)

ويرتبط بحرية الاعتقاد مفهوم يثير نقاشا وجدلا كبيرين في الساحة الإعلامية داخليا وخارجيا، إنه مفهوم “الجهاد“ . لقد علق بالجهاد الكثير من المعاني والأحداث التي غیرت صورته سلبا وأعطت للآخر وجها قبيحا وذميما للإسلام والمسلمين. حيث برز إلى الوجود التكفير والتبديع والتفسيق وهو ما فتح المجال إلى الاقتتال تحت لافتة المقدس والتقديس . فتفلت الجماعات التكفيرية من عقالها لتحدث ضررا كبيرا وجرحا عميقاً في حائط الإسلام وصورته وهو ما يتطلب جهودا طويلة من اجل تلميع هذه الصورة ولأم الجرح الغائر.

يحاول سيد قطب، وان في زمان سابق على الوقت المعاصر، تقليل الأضرار وتلميع الصورة بالقول: "ومع الإذن للمسلمين بالقتال لتحقيق هذا الغرض، فإنهم أمروا ألا يعتدوا، وحددت لهم الأحوال التي يجب فيها القتال لتحقيق ذلك الغرض والتي فيها لا يجوز ، فهم مكلفون أن يقاتلوا من يقاتلونهم، ومن يفتنون فريقا منهم عن دينهم- والفتنة أشد من القتل لأنها اعتداء على اخص خصائص الإنسان، وهي حرية الوجدان،- وهم منهيون عن الاعتداء وعن قتال أعدائهم في الأمكنة والأزمنة التي يحرم فيها القتال إلا إذا بدأوهم بالقتال(2) فغاية الجهاد وهدفه ليس الاعتداء ونشر الفتنة بقدر ما يسعى إلى جعل عرض الدين أمام الآخر ليدخلوا فيه أو يتراجعوا

ص: 232


1- سید قطب : "دراسات إسلامية"، دار الشروق - بيروت - 1978، ص: 81
2- سيد قطب :" نحو مجتمع إسلامي"، ص: 106

عنه بدون ضغط أو إكراه،"وهنا نجد كذلك أن الغاية من هذه الحروب هي دفع العدوان بدون اعتداء، ودفع الفتنة عن الدين وترك الدين لله، والقاعدة العامة هي أن لا حرب إلا مع المحاربين ومع الطغاة الذين يصدون الناس عن دينهم ظالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين."(1)

كما يرى سيد قطب أن الضربات الاستباقية والوقائية حق للمسلمين لا يطعن في حسن تعاملهم مع الآخر إذا تطلب الأمر ذلك،" وهنالك فريق آخر يدعو الإسلام إلى حربهم حربا وقائية: أولئك الذين ينقضون معاهداتهم السلمية مع المسلمين، ويكررون هذا النقض، بحيث يبقى المسلمون في قلق من حياتهم في كل لحظة، فعلى المسلمين أن يعلموهم بنبذ ما بينهم وبينهم من معاهدات. ولكن حتى هؤلاء ليس للمسلمين عليهم من سبيل إذا هم آثروا السلم وجنحوا إليها واختاروها :

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةٌ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ » [الأنفال:55-162 ..(2)

كما أن هناك" راية أخرى يحارب تحتها الإسلام كما قلنا، راية حماية الضعفاء من الظلم ،والظلم كافة قياما بشريعة الله في العدالة الإنسانية بغير ما غاية سوى تحقيق كلمة الله في سبيل الله.« فَلْيُقَاتِلْ في سَبيل الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لا

ص: 233


1- سيد قطب :" نحو مجتمع إسلامي"، ص: 107
2- سید قطب : "نحو مجتمع إسلامي"، ص: 107-108

تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذه الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلَهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لنا من لَّدُنكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا » [النساء: 74-76] ..(1)

ليخلص في النهاية إلى ما يلي: "وإذن فهي الحرب كذلك لدفع الظلم والطغيان ،لا للإكراه على العقيدة، ولا كراهية للآخرين بسبب العقيدة، إنما هي الوسيلة العملية لدفع الظلم وإقامة العدل، وتحقيق الأمن وحماية الضعفاء(2).

ولما كان منشود المسلم في الآخرة هو الأجر والثواب الذي ينجيه من الآخرة، فإن المسلم العاقل الحكيم يعلم يقينا أنه "وفيما عدا تلك الإغراض التي استعرضنا، لا يحتسب الإسلام للمسلم أجرا في قتاله، ولا يقبل منه جهادا ليس سبيله..

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليرى فمن في سبيل الله؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (الشيخان).

وكلمة الله هي إحقاق الحق، ودفع الظلم، وحرية العقيدة .. (3).

في نقد "الآخر":

يقدم سيد قطب نقدا لاذعا للمجتمع الغربي، الذي يرى فيه تحقيق وتجسيم الابتعاد عن الهدي الرباني، فيقول : "والعاقل "الواعي"الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم. حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها تخبطا منكرا شنيعا .. يراها تخلع ثيابها وتمزقها كالمهووس !وتتشنج في حركاتها وتتخبط وتتلبط كالممسوس.. يراها تغير

ص: 234


1- سید قطب : "نحو مجتمع إسلامي"، ص: 108-109
2- سيد قطب :"نحو مجتمع إسلامي"، ص: 109
3- سيد قطب: "نحو مجتمع إسلامي"، ص: 109

أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، وفق أهواء بيوت الأزياء!.. يراها تصرخ من الألم، وتجري كالمطارد، وتضحك كالمجنون، وتعربد كالسكير، وتبحث عن لا شيء! وتجري وراء أخيلة! وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به یداها من أحجار وأوضار !

لعنة! لعنة كالتي تتحدث عنها الأساطير(1) !

ثم يضيف "إن هذه البشرية تعاني من الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب، وتهرب من واقعها النفسي بالأفيون والحشيش والمسكرات، وبالسرعة المجنونة، والمغامرات الحمقاء، و"بالتقاليع "السخيفة... وذلك بالرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسرة، والفراغ الكثير .. لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتضاعف كلها كلما تضاعف الرخاء المادي والتيسيرات الحضارية..

إن هذا الخواء المرير يطارد البشرية كالشبح الرعيب يطاردها فتهرب منه. ولكنها

تنتهي كذلك إلى خواء مرير(2) .

بالإضافة إلى هذا يزيح الستار عن ظاهرة غريبة تتعلق بالدين والتدين في الغرب.فيشير إلى ان "كثيرين ممن لم يعيشوا بعض الوقت في أوروبا وأمريكا– أو ممن عاشوا هناك ولكنهم لم يتعمقوا وراء الظواه - كثيرا ما تخدعهم كثرة الكنائس وانتشارها -وبخاصة في الولايات المتحدة حيث تقوم في البلد الصغير الذي لايتجاوز تعداده عشرة آلاف نسمة أكثر من عشرين كنيسة أحيانا.. وكثيرا ما تخدعهم كثرة مظاهر الاحتفالات الدينية والمراسم والأعياد الدينية.. وكثيرا ما تخدعهم كثرة الأحزاب التي تحمل أسماء “المسيحية“.. ثم كثيرا ما يخدعهم ما يكتبه ويذيعه رجال الدين من كتب ومقالات وبحوث وإذاعات في موضوعات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية البحتة أحيانا..

ص: 235


1- سید قطب :“ خصائص التصور الإسلامي ومقوماته“، دار الشروق - بيروت - ط : 7، 1980، ص : 92
2- سید قطب : هذا الدين“، دار الشروق - القاهرة - ط : 15، 2001 ، ص : 26

كثيرا ما يخدعهم هذا كله فيحسبون أن للدين شأنا في أوروبا وأمريكا. وان لرجال الدين أثرا في الحياة الاجتماعية هناك.. وهذه نظرة سطحية لا تدرك حقيقة ما هو واقع هناك (1).

وهو إذ يعرض لهذا الأمر ويصور فداحة الموقف وشدة الأزمة التي يعيشها الغرب، يريد أن ينبه إلى الغفور الرحيم الذي يفتح الأبواب أمام الناس جميعا ليدخلوا في كنفه. ذلك أن من رحمته تعالى أن جعل الناس ".. في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ؛ ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود ..والرضاء . . (2) .

والإسلام أصلا يراعي مصلحة الناس جلبا ويرد عنهم المفاسد درءا ليهنأ الناس ويسعدون في مجتمع يحفظ لهم حقوقهم ويوجههم نحو ما يفيدهم، ذلك أن الإسلام "هو الإسلام، إسلام القلب لله وحده بلا شريك، وهذا هو أساس العقيدة الذي لايتبدل، أما التشريع الذي ينظم حياة الجماعة فهو الذي يتطور في الرسالات الإلهية على أيدي الرسل، تبعا لمصلحة البشرية ودرجة نموها، وتطور إدراكها.. حتى إذا جاء عليها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كان قد احتضن الفكرة الأساسية في دین الله الواحد، واستبقى الصالح من المبادئ والتشريعات والنظم في الرسالات السابقة، وأكمل الناقص منها وأتمه : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا » [المائدة: 3] (3)

ورغم ما يمكن أن يثار من سوء فهم في هذا المجال فإن سيد قطب يعلن تقبل الإسلام للآخر والتعاون معه لضمان العيش المشترك والأمن والأمان في هذه الأرض.

ص: 236


1- سيد قطب : "الإسلام ومشكلات الحضارة"، دار الشروق - القاهرة - ط:11، 1992، ص: 82
2- سيد قطب : "في ظلال القرآن": 500/1
3- سيد قطب : "نحو مجتمع إسلامي"، ص: 110

فالإسلام "... وتمشيا مع نزعته العالمية، لا يبت الصلة بينه وبين من لا يؤمنون به ما داموا لا يحاربونه، ولا يمنعون دعوته أن تبلغ الناس، ولا يفسدون في الأرض، ولا يعتدون على الضعفاء؛ بل يفسح للداخلين في سلطانه مجال الحياة كاملا، ويفسح لمن لا سلطان له عليهم مجال التعاون العالمي في الخير والصلاح "(1).بل أكثر من ذلك جعل المساواة في الإنسانية من أسس العدالة الاجتماعية التي يسعى إلى تحقيقها الإسلام والثقافات الإنسانية المتعددة. فيقرر أن "هذه الأسس التي أقام عليها الإسلام العدالة الاجتماعية هي:

1 .التحرر الوجداني المطلق.

2. المساواة الإنسانية الكاملة.

3. التكافل الاجتماعي الوثيق "(2)

إن انفتاح الإسلام واستعداده للتعايش والتسامح لا يعني عدم قراءة الآخر بكل تلاوينه وفهمه عن كثب، وبالخصوص ما يسميه سيد قطب "بالصليبية العالمية" والصهيونية العالمية" لذلك يؤكد أن خصائص الإسلام وبالضبط الشمول والواقعية والهيمنة " .. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على( الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي). كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية .. وذلك كله كخطوة أولى، أو كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!(3)

ثم يربط بينهما وبين العلمانية حين يقول : "وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد (أتاتورك) - البطل !!! - في إلغاء الخلافة الإسلامية؛

ص: 237


1- سيد قطب :" نحو مجتمع إسلامي"، ص: 114
2- سيد قطب : "العدالة الاجتماعية في الإسلام" ، دار الثقافة - الدار البيضاء-ط: 8، 1983، ص:32
3- سيد قطب:"المستقبل لهذا الدين"، دار الشروق القاهرة-ص: 3

وفصل الدين عن الدولة ؛ وإعلانها دولة (علمانية) خالصة . عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار( الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي) التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي (المصدر الوحيد) للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه (الأحوال الشخصية ) ! (1)

كما يؤكد تحالف هذه القوى العالمية وتكالبها ،منفردة أو في جبهات، لمواجهة الصحوة الإسلامية أو ما اسماه ب “طلائع البعث الإسلامي“ حيث ”صاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا ومن هناك.(2)

ولا ينسى للكنيسة والمسيحية أخطاءها العلمية التي حولت مجرى التاريخ“ ثم كانت الطامة الكبرى، يوم وقفت الكنيسة بما تبنته من آراء“علمية“ خاطئة وخرافات وأساطير شائعة، واعتبرته جزءا من الدين والعقيدة.. يوم وقفت بهذا الغثاء في وجه المنهج العلمي التجريبي الذي تسرب من الجامعات الإسلامية إلى التلامذة الأوربيين، في وجه النتائج “العلمية“ الحقيقية التي أخذ هذا المنهج والتلامذة الأوربيون العلماء يصلون إليها .. وحرقت العلماء، وطاردتهم وأنكرت مناهجهم ونتائج تجاربهم جميعا“ .(3)

ليخلص في الأخير في نقده للغرب إلى نتيجة تبين في نظره حقيقة موقف الغرب من العالم الإسلامي:“إن الغرب الرأسمالي والاشتراكي سواء، يناصبنا العداء كله كتلة واحدة. وفي فلسطين شاهد من ذلك العداء الناصب قريب. وهو في الوقت ذاته

ص: 238


1- سيد قطب: "المستقبل لهذا الدين، ص: 3
2- سید قطب : "المستقبل لهذا الدين، ص: 3-4
3- سید قطب: الإسلام ومشكلات الحضارة، ص : 65

يسومنا الذل والخسف في تبجح ظاهر، ولا يخفض من نبرة الاستعلاء الفاجر إلا في أبان الهزيمة والانكسار“(1) .

ورغم شراسة“الغرب/ العدو“في نظره، ورغم إمكاناته المادية والعسكرية والتقنية والمالية الهائلة التي لا تترك المجال واسعا للمقارنة بينها وبين العالم العربي والإسلامي، فإنه يجدد التأكيد على قوة الإسلام والمسلمين وقدرتهم على مواجهة التحديات؛ فيقول : “ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين أضخم حقيقة، واصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج اكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. وإلى منهجه القويم للحياة. (2) فيكون الرجوع إلى الله والتوبة بداية التصحيح سواء بالنسبة للمسلمين أم بالنسبة إلى الآخر الذي يختلف معهم مهادنا أو محاربا.

والآخر/ العدو يعسر في نظره التفريق بين عناصره ومكوناته في مواجهتها وعداوتها للاسلام. وهنا“ يصعب الفصل بين عداء الصليبية للإسلام وعداء الاستعمار . فكلاهما يغذي الآخر ويسنده ويبرره. والإسلام عقيدة استعلاء تكافح الاستعمار حين تستيقظ في نفوس أصحابها، ورجعة الحكم إلى الإسلام توقظ هذه الروح بشدة، فتفسد على الاستعمار خطة الاستغلال والاستدلال“(3) (والرأسمالية : 98)

خاتمة:

يبقى سيد قطب دائما مفكرا مثيرا للكثير من ردود الفعل المتباينة. ذلك أن نصوصه وكتاباته استقبلت من طرف تيارات وجماعات متباينة التوجه. منها من رأت فيه الايجابي فالتقطته وطورته وسارت عليه، ومنها من أسقطت هذا الجانب فاتجهت

ص: 239


1- سيد قطب :“ معركة الإسلام والرأسمالية“، دار الشروق - بيروت-ط:7، 1980، ص: 30
2- سيد قطب : “المستقبل لهذا الدين“ ، ص : 4
3- سید قطب :“معركة الإسلام والرأسمالية“، ص: 98

رأسا إلى التوجه المناقض للايجابي فيه فتبنته. وهذا سبب وجود تيارات تكفيرية صدامية لم تستطع التمييز والنظر بعمق في كتاباته كما تعاملت بتطرف ربماغيرمسبوق حتى مع النص الشرعي .

لذلك لا بد من التمييز بين شخصيتين في نظرنا عند دراسة فكر سيد قطب خاصة في قراءته للآخر؛ فسيد قطب المفكر الداعية المنفتح هو غير سيد قطب المنظر للحركة الإسلامية.

فالأول يتبنى الإسلام بدون قيود وضوابط مسبقة تفرض نظرة علمية متوازنة يحضر فيها التوازن والانفتاح والتسامح والرحمة. ويظهر ذلك في تبنيه وعرضه للكثير من الأفكار والأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى بناء مجتمع أنساني منفتح على الثقافات والأجناس والأعراق الأخرى وليس المسلمة فقط كما يتوهم كثير من قصار النظر ودعاة التكفير والتطرف والعنف فيدعو إلى مجتمع أنساني تتحقق في حرية الاعتقاد والتسامح في النظر إلى الآخر والسلم ويحقق العدالة الاجتماعية ليعيش الجميع في حب وود متعايشين.

أما الثاني، فينضبط لقوالب جاهزة تدفعه إلى التشبث أكثر بالحركة الإسلامية والمجتمع الإسلامي بدرجة أكبر ؛ فيغيب المجتمع الإنساني وهدف الإسلام ومقصده الاسمى، ليفسح المجال للتضايق من الآخر والنظر إليه نظرة عداء وتناقض وليس نظرة صديق وتكامل. وهما ما التقطه العديد من الأغبياء والجهلة من التكفيريين المتطرفين.

وهنا لا يبدو أن سيد قطب تأثر في السجن ليكون أكثر تطرفا في مرحلة الاعتقال وما بعدها. ذلك أن“ في ظلال القرآن“ وهو بمثابة موسوعته التي بث فيها جل تفكيره كتب جزء منه إبان الاعتقال ومع ذلك فيه الكثير من ذلك فيه الكثير من التسامح والانفتاح والدعوة إلى السلم والأمن والأمان.

إن تراث سيد قطب يحتاج إلى دراسة علمية معرفية وغير ايديلوجية. لان جل من

ص: 240

درسه إما أبناء الحركة الإسلامية أو أبناء التيارات العلمانية بكل أطيافها. فيتصيد كل تيار ما يحتاج إلى دعم نظرته من فكره.

ومن أهم المواضيع هنا التي تحتاج إلى قراءة جديدة معرفية كما سبق نظرته إلى الآخر الذي يختلف معنا وسبل تحقيق المشترك الإنساني معه. وهذه مهمة تتطلب مخلصين ومجتهدين متسلحين بالأمانة والصدق والتجرد.

بيبلوغرافيا الدراسة:

سید قطب : “الإسلام ومشكلات الحضارة“، دار الشروق - القاهرة-ط:11، 1992.

سید قطب : “السلام العالمي والإسلام“ ، دار الشروق - القاهرة - ط : 12 ، 1993

سید قطب :“العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الثقافة - الدار البيضاء - ط : 8، 1983

سيد قطب : “المستقبل لهذا الدين“، دار الشروق - القاهرة

سید قطب :“خصائص التصور الإسلامي ومقوماته“، دار الشروق-بيروت-ط:7، 1980.

سید قطب:“ دراسات إسلامية“، دار الشروق - بيروت- 1978

سید قطب : “في ظلال القرآن“ ، دار الشروق، ط: 9، 1980

سيد قطب : “معالم في الطريق “، دار الثقافة - الدار البيضاء- ط : 8 ، 1983

سيد قطب : “معركة الإسلام والرأسمالية“، دار الشروق - بيروت-ط:7، 1980.

سید قطب :“ نحو مجتمع إسلامي“، دار الثقافة - الدار البيضاء-ط :6، 1983

سيد قطب : “هذا الدين“، دار الشروق - القاهرة - ط :15 ، 2001

سيد قطب: “مقومات التصور الإسلامي“، دار الشروق-القاهرة-ط: 3، 1988.

ص: 241

محمد قطب ونقده للتنوير الغربي

.أ.م. الدكتور ياسين حسين الويسي

.أ.م. الدكتور ياسين حسين الويسي(1)

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على امام الاولين والآخرين محمدوآله الطيبين الطاهرين وصحابته المنتجبين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين.

وبعد

فان هذه الامة قد تميزت بثلاث لم يتميز بها غيرها وهو«الانساب والإعراب والإسناد» فحديثها مسند، وكلامها معرب وفردها منسب، وما ذلك الا لحفظ حقوق

ابناء هذه الامة، وعلينا اليوم ان نحفظ حقوق مفكريها وما قدموه من علم وعمل، فنكون شهداء على الناس كما وصفنا تعالى في محكم التنزيل ويكون الرسول علينا شهيداً.

إن ما ندونه اليوم في حق مفكري الامة الاسلامية انما هو هو سفر يروي أعمالهم

للاجيال القادمة، فيتعلمون منه العبر، عسى ان يغير الله تعالى بهم حال هذه الامة.

ونظراً لأهمية هذا الموضوع واهمية الشخصية التي نحن بصددها وبصدد موقفه من التنوير الغربي كل ذلك كان سببا لاختياره عنواناً لبحثي الموسوم: «محمد قطب ونقده للتنوير الغربي» ولقد واجهتني صعوبة في التوفيق بين بعض الآراء للشيخ

ص: 242


1- أستاذ الفلسفة - كلية العلوم الإسلامية - جامعة بغداد

محمد قطب تبدو متناقضة ولكن حسبي انني اجتهدت في عرض النص المتناقض

وتركت للقارئ الكريم الحكم عليه.

فكانت مشكلة بحثي هي نقد التنوير الغربي في فكر محمد قطب،

فقدمت لبحثي هذا بمقدمة ومبحثين كان الأول في حياة الشيخ محمد قطب وثقافته، والمبحث الثاني: كان في نقده لصور التنوير الغربي، وقد ختمت بحثي بخاتمة تضمنت اهم النتائج التي توصلت اليها في هذا البحث. سائلاً الله تعالى العلي القدير ان يجعلنا هادين مهديين وان ينفعنا بعلمنا ويعلمنا ما لم نعلم. والحمد لله رب العالمين.

المبحث الأول: حياته وثقافته.

المطلب الأول: حياته.

اسمه ومولده محمد قطب ابراهيم حسين شاذلي، ولد في قرية موشا وهي احدى قرى محافظة اسيوط، بصعيد مصر، سنة 1919م...(1)لابوين كريمين متوسطي الحال ، يحملان سمات اهل الصعيد من سمرة في البشرة، وقسمات وجوههم تعكس بعض ما جبلت عليه فطرتهم من غيرة على العرض وطيب متأصل في اعماق النفس هذا فضلاً عن العاطفة الفياضة الجياشة التي تربطهم بشدة بهذا الدين القويم... قضى طفولته في هذه القرية وانطبعت في مخيلته صورها ومشاهدها، وتأثرت نفسه بمناظرها وتفتحت مشاعره واحاسيسه على جمالها وبهائها(2).

عاش الاستاذ المفكر محمد قطب حياته ينهل العلوم ويحصلها مما كان له أثر في تكوينه الفكري؛ فقد بدأ دراسته الابتدائية والثانوية في القاهرة، واستقرت الاسرة كلها

ص: 243


1- المجذوب، محمد علماء ومفكرون ،عرفتهم دار الشروق الرياض، ط4، 1992م، ص275
2- الخالدي، صلاح عبد الفتاح سلسلة اعلام ،المسلمين دار القلم ،دمشق ،ط1، 2000م، ص31، 64، بتصرف

هناك عند شقيقه سيد، بعد وفاة والده - رحمه الله - ثم التحق بجامعة القاهرة، حيث درس الانجليزية وآدابها، وتخرج عام 194م تابع دراسته بمعهد المعلمين، وحصل على دبلوم المعهد العالي للمعلمين في التربية وعلم النفس عام 1941م(1) .

وبعد حصوله على الدبلوم العالي عمل بوظائف عدة لفترات مختلفة. فقد عمل بالتدريس لمدة اربع سنوات بعدها عمل بإدارة الترجمة بوزارة المعارف بمصرلمدة خمس سنوات. ثم عاد وعمل بالتدريس مرة اخرى لمدة عامين كذلك عمل في دار الكتب المصرية، حيث اصبح مشرفاً على مشروع( الالف كتاب) الذي كان يقدم فيه للكتاب المهم بثمن زهيد (2). وبعد خروجه من السجن عام 1972م تعاقد مع جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة - جامعة ام القرى حالياً - وعمل فيها استاذاً في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة (3).

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: (ومما ينبغي الالتفات اليه ان الاستاذ الشيخ - محمد قطب - لم يحصل على درجة الدكتوراه، لكن اهليته العلمية جعلته في هذه المكانة العلمية السامقة بالجامعة .)(4)

كانت حياته عبارة عن عطاء فكري متواصل فقد درس واشرف الاستاذ محمد قطب على عدد كبير من العلماء والدعاة العاملين مثل: سفر الحوالي، محمد القحطاني علي العلياني علي الحربي، سعيد بن مسفر القحطاني..... الخ)(5)

ص: 244


1- المصدر نفسه، ص 59
2- السحار، سعيد جودة ، موسوعة اعلام الفكر العربي، مكتبة مصر ودار مصر للطباعة، ط1، 2003م ، ج 5، ص 106
3- القرضاوي، د. يوسف ابن القرية والكتاب سيرة ومسيرة، دار الشروق القاهرة، ط1، 2002م، ص 27
4- منير ،یاسر محمد قطب نبذة عن حياته ومنهجه الفكري والحضاري موقع طريق الاسلام الجديد 7 جمادى الأخرة، 1435ه_ 2014/4/7م.
5- سید قطب هو : سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي كاتب وأديب ومنظر اسلامي وعضو سابق في قسم الارشاد للاخوان المسلمين، ورئيس سابق لقسم نشر الدعوة في الجماعة ورئيس تحرير جريدة الاخوان المسلمين، ولد سنة 1906م، في قرية "موشا" وهي إحدى قرى محافظة اسيوط بها تلقى تعليمه الأولي وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بمدرسة المعلمين الأولية عبد العزيز بالقاهرة ونال شهادتها والتحق بدار العلوم وتخرج عام 1933م . عمل بوزارة المعارف بوظائف تربوية وإدارية- عام 1950م انضم إلى جماعة الاخوان المسلمين وخاض معهم نشاطهم السياسي ، وأعدم عام 1966م. ينظر الخالدي صلاح عبد الفتاح سيد قطب الاديب الناقد والداعية المجاهد والمفكر المفسر الرائد، دار القلم، دمشق - سوريا، ط1، 1421ه_ 2000م ، ص 27 و ص 185 و ص 254-255 .

لقد كتب الشيخ وألف في مجالات مختلفة وجمع بين التراث والمعاصرة، فناقش كثيراً من قضايا التراث بروح العصر، ومن جملة هذه القضايا، الدراسات التاريخية من القرآن الكريم ناظراً في ذلك نظرة المتفحص الذي يسرد احوال البلاد والعباد من خلال عرض النص المقدس وتحليله، مدافعاً عنه من شبهات المبطلين، وانه قرآن معجز، لا يأتون بمثله مهما كثرت مذاهبهم الفكرية، ولا يفوتنا ان نذكر ان الشيخ مر بمراحل ثلاث مهمة في حياته.

الاولى: هي مرحلة تأثره بشقيقه (سيد قطب)(1). وموقفه من السلطة.

والثانية: مرحلة بداية النشاط الفكري ومحنته وسجنه.

الثالثة:هي مرحلة سفره إلى السعودية واقامته بها حتى دخل في جو الدراسات الاكاديمية. وخاض مجالات علمية اخرى، فضلا عما ذكرنا وقد جادل العلمانيين ونقد المادية وبين خطرها. واكد على واقع الفن الاسلامي ومنهجه، ومن خلال التراكم المعرفي لديه من خلال دراسته في الدبلوم العالي بالمعهد العالي للمعلمين وحصوله على اجازة المعهد له في التربية وعلم النفس (2)، فعالج النفس البشرية من خلال دراساته، مقدماً رؤية الاسلام للعالم المعاصر، وامكانية تطبيق الشريعة، وكيفية دعوة الناس للاسلام وكيف ان الاسلام اخرج الناس من الجاهلية والظلمات ثم عادت الجاهلية إلى هذا العالم مركزاً على عصره الذي عاش فيه فسماها بجاهلية القرن العشرين، سيادة المفاهيم الخاطئة التي يجب ان تصحو، مبيناً اصالة العلوم والمعارف الاجتماعية في الاسلام، مقتبساً ذلك من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومطبقاً تلك المفاهيم على واقعنا المعاصر في ظل العولمة التي اجتاحت مجتمعاتنا الاسلامية مؤكداً على ان التطور قد لا يكون في التخلي عن ركائز الايمان بل في الثبات على العقيدة، مؤكداً على دور المرأة وقضية تحريرها من مفاهيم العبودية التي كانت سائدة في عصره، وصولاً إلى قضية التنوير في عالمنا الاسلامي ودعوة العقل إلى العودة معنا إلى تمحيص التراث وتبرئته مما لحقه من ادران الفكر

ص: 245


1- الخالدي سلسلة اعلام المسلمين، ص 59
2- سورة هود الآية (88)

المعادي الذي يتربص به وبنا، كان ولا يزال ليدعي ان تخلفنا سببه تراثنا وهي دعاوى باطلة. وظل المفكر محمد قطب هذا دأبه في جهاده الفكري حتى توفي سنة 2014م.

المطلب الثاني: ثقافته

تكمن ثقافة الشيخ الاستاذ محمد قطب من خلال مؤلفاته التي تركها، فضلا عن الخبرات التي اكتسبها من خلال دراسته ومشروعه الفكري، فقد كتب في مختلف الفنون وبالرغم من ان اجازته كانت في الآداب الانجليزية الا انه برع في الفكر الاسلامي ، وسوف نعرض لاهم مؤلفاته وجميعها مهمة حيث عالجت قضايا الامة

الاسلامية، ومن هذه الدراسات والكتب :

1 -دراسات قرآنية.

2- التأصيل الاسلامي للعلوم الاجتماعية.

3 - التطور والثبات في حياة البشرية.

4 - العلمانيون والاسلام.

5 - الانسان بين المادية والاسلام.

6 - المسلمون والعولمة.

7 - ركائز الايمان - 1997م.

8 - رؤية اسلامية لاحوال العالم المعاصر.

9 - حول تطبيق الشريعة.

10 - جاهلية القرن العشرين - 1974م.

11 - شبهات حول الاسلام.

ص: 246

12 - قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم.

13 - كيف ندعو الناس.

14 - لا يأتون بمثله.

15 - مذاهب فكرية معاصرة.

16 - مفاهيم ينبغي ان تصحح.

17 - كيف نكتب التاريخ.

18 - هل نحن مسلمون.

19 - هلم نخرج من ظلمات التيه.

20 - واقعنا المعاصر.

21 - منهج الفن الاسلامي.

22 - ماذا يعطي الاسلام للبشرية.

23 - دراسات في النفس الانسانية.

24 - قضية تحرير المرأة.

25 - قضية التنوير في العالم الاسلامي.

26 - منهج التربية الاسلامية، وهو في جزئين.

27 - مغالطات - 2006م.

28 - لا اله الا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.

ص: 247

29 - العلمانية .

30 - الطرف الآخر من البيت - رواية. 2005م.

31 - ابن بطوطة رحلة الخمسة والعشرين عاماً، 1995م. الفه مع سامي بجيرمي.

يعد الاستاذ المفكر محمد قطب رواد التربويين الاسلاميين اذ اكد على التربية الاسلامية وضرورتها من خلال وضعه الوسائل التربوية، من خلال كتابه مناهج التربية الاسلامية الذي ضمنه اصلاح النفس البشرية، والذي هو اساس لكل اصلاح وسوف نقوم بعرض مشروعه الفكري من خلال مؤلفاته ومجمل هذا المشروع يتلخص في

ثلاثة محاور رئيسة هي:

أولاً : اصلاح النفس.

ثانياً: اصلاح المجتمع.

ثالثاً: الاصلاح السياسي.

ومشروع الاصلاح العام يتمثل في قوله تعالى: [إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ] (1)وسنوجز القول في محاور الاصلاح الثلاثة:

أولاً : اصلاح النفس البشرية : ويركز فيه الاستاذ محمد قطب على التربية الاسلامية،

وهي تربية« القاعدة الصلبة» وهي حقيقة مفهوم لا اله الا الله والعمل بمقتضاها(2) .وكانت مؤلفاته بهذا الجانب تتمثل في المجالات الانسانية، الادب والشعر وقد عرف الادب الاسلامي بأنه: (تعبير جميل عن الكون والحياة والانسان، من خلال تصور الاسلام للكون والحياة والانسان) (3)في مجال علم النفس كتب دراسات في النفس الانسانية محاولاً بيان ان هذه العلوم نشأت في الغرب وفي جو مضاد للاسلام فينبغي

ص: 248


1- ينظر: المجذوب، علماء ومفكرون عرفتهم، ص 285
2- المصدر نفسه، ص 284 ، وكذلك ينظر : منهج الفن الاسلامي، ص6
3- المصدر نفسه، ص284 ، وكذلك محمد قطب دراسات في النفس الانسانية، ص4

التصدي لهذا الغزو الفكري(1).

ثانياً: اصلاح المجتمع، وتتمثل عملية اصلاحه للمجتمع من خلال كتبه التالية الاسلامي التأصيل للعلوم الاجتماعية، والتطور والثبات في الحياة البشرية، ونقده

العلمي للمجتمع الغربي من جهة ونقده للمجتمعات الاسلامية التي ابتعدت عن شرع الله، فكتب حول تطبيق الشريعة، وجاهلية القرن العشرين، وقضية تحرير المرأة، وقضية التنوير في العالم الاسلامي(2) مركزاً على شمولية العقائد الاسلامية التي تجمع بين الواقع وبين اصول العقيدة وثوابتها في تنسيق رائع.

ثالثاً: الاصلاح السياسي:وقاعدة هذا الاصلاح هي ان الحاكمية لله وهو بهذا متأثر بأخيه سيد قطب وابي الاعلى المودودي(3)، واساس هذه القاعدة التوحيد الذي ترتكز عليه جميع الاديان السماوية قبل ان يمسها شيء من التحريف..، وقد اثرت نظرته هذه في طلابه لاسيما منهم سفر الحوالي(4) .

المبحث الثاني: نقده لصور التنوير الغربي.

المطلب الاول: نقد للعلمانية والانسانية الغربية.

يبدأ الاستاذ محمد قطب نقداً للعلمانية بعد ان يسعى إلى ترجمتها فهو يرى ان (العلمانية هي الترجمة العربية لكلمة Secularism Seculorite) في الترجمات الاوربية. وهي ترجمة مضللة لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم، في حين هي في لغتها الاصلية لا صلة لها بالعلم بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيداً عن الدين، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة.)(5)

ص: 249


1- الخالدي سلسلة اعلام المسلمين، ص59، وما بعدها. وكذلك مؤلفات محمد قطب المذكورة اعلاه، وأيضاً المجذوب، علماء ومفكرون عرفتهم، ص 285
2- ينظر: ابو الاعلى المودودي، نظرية الاسلام السياسية، لاهور، ط1، 1387ه_ 1997م، ص 49
3- ينظر سفر الحوالي العلمانية دار الهجرة، الرياض، (د، ت)، ص647، 648
4- قطب محمد قضية التنوير في العالم الاسلامي، دار الشروق القاهرة، ط2، 1423ه_ 2002م، ص12.
5- قطب محمد مذاهب فكرية معاصرة، دار الشروق، القاهرة، ط10 ، 1422ه_ 2001م، ص445

ثم يذكر التعريف الذي اوردته دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة «Secularism»بأنها : ( حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها. ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر. ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت ال Secularism تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الانسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم بالانجازات الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة. وظل الاتجاه إلى ال_ Secularism يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية .)(1)

وبعد تعريف العلمانية من خلال المواضع المعرفية المعتمدة وبيان انها لا تمت للعلم بصلة، يعود الاستاذ محمد قطب إلى بيان لب العلمانية فيقول: إن (نبذ الدين وإقصاءه من الحياة العملية هو لب العلمانية.)(2) وحتى لا نكون مهملين لحركة التاريخ فإن ظهور العلمانية في أوروبا كان أمراً لا بد منه.

يقول محمد قطب :( وتبدو نشأة العلمانية في أوروبا أمراً منطقياً مع سيرالاحداث هناك ،اذا رجعنا إلى الظروف التي شرحناها...اي إلى عبث الكنيسة بدين الله المنزل، وتحريفه وتشويهه، وتقديمه للناس في صورة منفرة، من دون ان يكون عند الناس مرجع يرجعون اليه لتصحيح هذا العبث وارجاعه إلى اصوله الصحيحة كما هو الحال مع القرآن المحفوظ- بقدر الله ومشيئته- من كل عبث او تحريف خلال القرون.)(3) وهنا مبنى النقد الذي يقدمه محمد قطب للعلمانية في أوروبا ليس من باب محاسبة أوربا على( انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة... ولكن الذي يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التي حدثت عليها، والظروف التي احاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ما صارت اليه.

ص: 250


1- المصدر نفسه، ص 445 . وايضاً : 19.Encyc.Britanica،v.Ixp
2- المصدر نفسه، ص 446
3- قطب محمد مذاهب فكرية معاصرة ، ص 446

ونخطئ - من وجهة نظرنا الإسلامية -إن قلنا إن«العلمانية» حدثت فقط بعد النهضة. فالحقيقة -من وجهة النظر الاسلامية- ان الفصل بين الدين والحياة وقع مبكراً جداً في الحياة الاوربية، أو انه - إن شئت الدقة - قد وقع منذ اعتناق أوروبا المسيحية، لأن اوربا ... قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة ... ولم تحكم الشريعة شيئاً من حياة الناس في أوروبا الا الاحوال الشخصية فحسب، أي: انها لم تحكم الاحوال السياسية ولا الاحوال الاقتصادية ولا الاحوال الاجتماعية في جملتها.)(1) لذا فهي( لم تألف الصورة الحقيقية للدين ابداً في يوم من الايام انما الذي تقصده أوروبا حين تطلق هذه الكلمة هو ابعاد ما فهمته هي من معنى الدين عن واقع الحياة، متمثلاً في بعض المفاهيم الدينية، وفي تدخل«رجال الدين»باسم الدين في السياسةوالاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والادب والفن. وكل مجالات الحياة... وبعبارة اخرى نقول إن ما نبذته أوروبا حين اقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين... انما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الاوربية... فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا اقصاءاً كاملاً من الحياة.)(2) .

فاذا كان ذلك الاقصاء للكنيسة قد نجح في اوربا، فهو بعيد المنال بالنسبة لديننا لأنه هو الحياة. أما ( الإنسانية-والعالمية كما يدعونها احياناً- دعوى براقة، تظهر بين الحين والحين ، ثم تختفي لتعود من جديد!يا اخي كن انساني النزعة- وجه قلبك ومشاعرك للانسانية جمعاء... دع الدين جانباً فهو امر شخصي... علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب...لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين... فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين البشر...بين الاخوة الانسانية! تعال نصنع الخير للبشرية كلها غير ناظرين إلى جنس أو لون أو وطن أو دين.)(3)

ثم يوجه نقده إلى هذه الشعارات فيصفها بأنها :(دعوى براقة...يخيل اليك حيث تستمع اليها انها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التي تفرق بين البشر على

ص: 251


1- المصدر نفسه، ص 447
2- المصدر نفسه،ص447-448
3- قطب محمد مذاهب فكرية معاصرة، ص589

الارض. تدعوك لترفرف في عالم النور... تدعوك لتكون كبير القلب، واسع الأفق،كريم المشاعر..،تنظر بعين انسانية، وتفكر بفكر عالمي، وتعطي من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء، بدافع الحب الانساني الكبير.)(1)

هذه الشعارات لا تختلف عن عبارات الماسونية التي تقول :(«اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك الا ترى شبهاً بين هذه الدعوة وتلك؟ اما ترى انهما قریبتان بل شقيقتان؟... وادخل بلا عقيدة ... فهكذا يريدك الشياطين ليستعبدوك... ليسخروك لمصالحهم .)(2) وأما وجه المقارنة بينهما أي بين الماسونية ودعوى الانسانية يتضح في( الفارق أنه في تعبير الماسونية الخشن التوقع بوضع الدين جنباً إلى جنب مع النعال. لأن المقبل على الماسونية لا يقبل عليها الا وقد خلع دينه بالفعل أو اوشك على خلعه، فالكلمة الخشنة لا تؤذيه بل قد تكون منه موضع ترحيب! فهي كلمة للتوكيد. وقد تكون للتهديد. من بقيت في قلبه بقية خفيفة من بقايا الدين... فلينتبه وليخلعها قبل الدخول أما في دعوى الانسانية فالتعبير للترغيب والتحبيب، ومن ثم فهو مهذب لطيف يبتلعه من يبتلعه وهو مسرور ... ولكن هذا وذاك يدعوك في النهاية إلى ان تترك دينك وتواجه الحياة بلا دين )(3).

المطلب الثاني: نقد للشيوعية والالحاد الغربي.

إن اول نقد وجهه محمد قطب للشيوعية هو عدم اعتدادهم بعلم النفس ف_ (يؤمن الشيوعيون بادئ ذي بدء بأن علم النفس كلام فارغ... لأنه يقرر أن في النفس الانسانية نزعات« فطرية» يولد بها الانسان، وهذا يفتح الباب لمن يريد ان يقول ان حب الملكية نزعة فطرية في البشر اجمعين !ومن دون ذلك يصبح كل شيء سخافة من سخافات الرأسماليين. ولكنهم مع ذلك يحبون فرويد ويؤمنون به! ذلك انه يشبع شهوتهم تحطيم المقدسات كلها، وتلويثها، وتصويرها بأنها قيود ابتدعها المجتمع« الاقطاعي

ص: 252


1- المصدر نفسه، ص 589
2- المصدر نفسه، ص 589
3- المصدر نفسه، ص 591590. قطب، محمد الانسان بين المادية والاسلام، دار الشروق، القاهرة -مصر،ط12 ،1418 ه_ ، 1997م، ص 55

ثم الرأسمالي» لحماية ذاته، ولكنها في ذاتها شيء يستحق الاعتبار.)(1) لأن فرويد يُعد عاملاً مساعداً للفكرة الشيوعية حيث تأثر بدارون( وأنه نقل إلى علم النفس آراء دارون الخاصة بعلم الاحياء ونذكر هنا أن الشيوعيين كذلك قد تأثروا به في أكثر من ،موضع حتى لنستطيع أن نقول إنهم نقلوا إلى علم الاقتصاد وعلم الاجتماع تلك الآراء المستمدة من عالم الحيوان.

وكان أشد ما تأثروا به ثلاث نقط رئيسة. أولها : القول بالطبيعة من الله. وثانيها: القول بأن الكائنات الحية تتبع في تطورها خطاً«حتمياً» ينشأ من ضغط البيئة المادي الخارجية عن الكائن الحي، ومحاولة الكائنات أن تكيف حياتها مع البيئة... وثالثها النظرة المادية الحيوانية إلى الانسان، تلك النظرة التي تنفي الجوانب الروحية والمثل العليا، وتؤمن بعالم الجسد وحده ، وبالواقع الذي تدركه الحواس فحسب.)(2)

وهنا يناقش محمد قطب الشيوعية باعتبارها( التطور الاخير للحضارة المادية الاوربية ولم تكن شيئاً جديداً كما يريد دعاتها ان يفهموا الناس في الشرق والغرب)(3) اما اذا ما عُدنا إلى فرويد فإنه ساعدهم في هدم المقدس ( فإذا تحطمت المقدسات، وتلوثت صورتها في نفس الفرد، وفي نفس المجتمع نتيجة لذلك، فقد كسبت الشيوعية نصف المعركة. على الاقل! وهذا هو مصدر الاعجاب الشديد برجل لا يؤمن بكل لا يؤمنون)(4) ، وأهم ما جاءت به الشيوعية هو تأكيدها على الالحاد وهو ( بمعنى انكار وجود الله، والقول بأن الكون وُجد بلا خالق أو ان المادة أزلية ابدية، وهي الخالق والمخلوق في ذات الوقت- بدعة جديدة في الضلالة فيما احسب لم توجد من قبل في جاهليات التاريخ السابقة، ومن المؤكد على أي حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذي تمارسه الجاهلية المعاصرة، في أي فترة سابقة من فترات التاريخ) (5).

ص: 253


1- المصدر نفسه، ص55-56
2- المصدر نفسه، ص56
3- قطب محمد الانسان بين المادية والاسلام ص55
4- قطب ، محمد، مذاهب فكرية معاصرة، ص 605
5- ينظر المصدر نفسه، ص 605 بتصرف

فالنقد الذي يوجهه محمد قطب للشيوعية في انكارها لوجود الله هي مقولة لم تقل بها الجاهليات السابقة وإن من استدلَّ بالدهر بين الذين ذكرهم القرآن على انهم اصول للشيوعية والالحاد فهو غير مصيب في ذلك لأن هؤلاء انكروا البعث ولم يُنكروا الخالق ولم يقولوا بأن الطبيعة خالق ومخلوق في آن واحد.(1)لقد ارتبط الشيوعيون بالتجريبين من خلال فرويد و دارون وقد تعرض الاستاذ محمد قطب لنقد نظرية دارون لا من حيث كونها نظرية علمية ولكن من حيث ما خلفته من ايحاءات تكمن فيها مواضع الخطر. حيث يقول محمد قطب (ولن نتعرض هنا للوقائع العلمية التي تحتوي عليها النظرية ، انما نتعرض للفلسفة التي ادت إلى ظهورها وأثرت في تطبيقاتها فيما بعد. فهذه الفلسفة ليست واقعاً علمياً، ولاهي حقيقة موضوعية ثابتة» حتى تكون فوق مستوى النقاش ! إنما هي نزعة شخصية وزاوية نظر معينة يحاسب عليها صاحبها ولو ادت إلى كشف بعض الحقائق الجوهرية. ذلك انه ليست الحقيقة ذاتها هي التي تعمل حتى في ميدان العلم التجريبي كما يُخيل لكثير من الناس.

وانما الطريقة التي تعرض بها الحقيقة، والوجهة المقصودة منها، هي التي منحتها الاثر وترتب عليها النتائج، سواء في العلم اوفي المجتمع والحياة.)(2) إن الايحاءات التي جاءت مخبأة خلف هذه النظرية هي المقصودة من وراء النظرية (فنحن في الشرق خاصة يخدعنا هذا العنوان الضخم عنوان «العلم التجريبي» فنظن انه حقائق نهائية ثابتة، لا يُعتبر من يتصدى لمناقشتها الا جاهلاً او مخرفاً أو قد كان ينبغي أن نحترس في الايمان بالمعلومات «العلمية» حتى في العلوم البحتة كالرياضيات والطبيعة والكيمياء، ونحن نرى أن العلم ما يزال في طفولته، وما يزال كل يوم يصل إلى افاق جديدة فيلغي الغاء تاماً معلومات كان ينظر اليها بالأمس على أنها حقائق نهائية لا تقبل الجدل ولا تحتمل التأويل.)(3) ثم يستدل على ذلك بإبطال اينشتاين لقوانين نيوتن حيث يقول: (وليس العهد ببعيد حين قال اینشتاین: ان قوانین نیوتن

ص: 254


1- قطب ،محمد، الانسان بین المادية والاسلام، ص 2019
2- المصدر نفسه، ص 20
3- المصدر نفسه، ص 20

في الجاذبية لا تصلح للتطبيق ألا على سطح الكرة الارضية، ولكنها لا تصلح للكون لكبير. فهي اذن حقائق محلية صغيرة لا حقائق مطلقة وهي قابلة للنقض والتبديل حين تطبق «على الاتساع» واليوم تكتشف اسرار الذرة، فتنشأ حولها نظريات كثيرة في تفسير الكون والحياة كانت مجهولة من قبل، ويبدو بجانبها بعض ما كان يسمى «نظريات علمية نهائية» اقرب إلى الخرافات والاساطير . فاذا كان هذا في ميدان العلوم البحتة، التي تخضع خضوعاً كاملاً للتجربة العلمية، فأولى بنا إذن ان نكون اكثر احتراساً ونحن نتلقى نظريات علم النفس، او النظريات التي تتصل بمجاهيل لم يتح للعلم التجريبي ان ينفذ اليها حتى اليوم)(1).

المطلب الثالث: نقده للعقلانية والتنوير الغربي

يرى محمد قطب ان(العقلانية- بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود اوتحديد خصائصه مذهب قديم في البشرية، يبرز اشد ما يبرز في الفلسفة الاغريقية القديمة. ويمثله اشد ما يمثله سقراط وارسطو. ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الاغريقية- التي تمثل العقلانية قسماً بارزاً منها - تسيطر على الفكر الاوربي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافة جادة تكاد تكون مضادة لمجراه الاول الذي استغرق من تاريخ الفكر الاوربي قروناً عدة. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود انما صار هو الوحي _ كما تقدمه الكنيسة_ وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك، ومحاولة تقديمه في ثوب معقول . )(2) .

اذن فالعقلانية هي العودة لما قبل المسيحية فلقد( كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الانسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين «المسيحية» وكان يراد من المسيحية «

ص: 255


1- قطب محمد مذاهب فكرية معاصرة، ص 500
2- البهي د. محمد الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مكتبة وهبة، القاهرة، (د،ت)، ص 479

الكثلكة»وكانت الكثلكة تعبر عن «البابوية »والبابوية نظام كنسي ركز« السلطة العليا» باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير« الكتاب المقدس» على البابا واعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوّى في الاعتبار بين النص الكتاب المقدس وافهام الكنيسة الكاثوليكية)(1).

وقد وجه محمد قطب نقده إلى الفكر الأوربي انه يتنقل من جاهلية إلى جاهلية فيقول: ( وانما ظل الفكر الاوربي في الحقيقة يتنقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره .الحاضر. فمن الجاهلية الاغريقية والرومانية إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الإحياء، إلى جاهلية عصر «التنوير» إلى جاهلية الفلسفة الوضعية ... الى الجاهلية المعاصرة) (2) .

ثم يشرح ببيان جاهلية كل عصر في تتبع خط العقلانية في الفكر الاوربي فقد(كانت العقلانية الاغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، واعطائه حجماً مزيفاً اكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى «قضايا» تجريدية مهما يكن صفاؤها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته بحركته الموّارة الدائمة، بمقدار ما يختلف «القانون» الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي تبحث عنه... قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي، وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع او لا يقبله، أو يتماشى معه أو يخالفه! وكان اشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة«القضية الالوهية»و«قضية الكون المادي »وما بينهما من علاقة)(3) .

وتبدو قضية الالوهية والكون من اهم القضايا التي بين فيها محمد قطب انحرافات تلك الفلسفة العقلانية . ثم بين انتقال الفكر الاوربي من سيادة العقل إلى سيادة الدين

ص: 256


1- قطب محمد مذاهب فكرية معاصرة، ص 501
2- المصدر نفسه، ص 501-502
3- المصدر نفسه، ص 506

التي يفترض ان تكون انتقالة من الظلام إلى النور (ولكنه في الحقيقة دخل في ظلمات حالكة ليس فيها ذلك البريق الذي تميزت به الفلسفة الاغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقية لذلك البريق، وعن كونه هادياً أو مضللاًعن الطريق) (1). وفي الوقت الذي يلزم التزام العقل بالوحي واستمداده منه في المسائل التي لا يستطيع الوصول اليها ( لكن الكنيسة الاوربية افسدت ذلك كله بما ادخلته من التحريف على الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية على الارض)(2) .

ويصف قطب التحريف الذي اصاب الدين بأنه تخبط وجاهلية (حين قالت: ان الله ثالث ثلاثة أقانيم وان المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الاقانيم الثلاثة وانه ابن الله وفي الوقت ذاته اله وشريك لله في تدبير شؤون الكون)(3). والأهم من ذلك أنه ( حجر على العقل البشري ان يعمل وان يفكر - رغم وجود مناقضات لقضايا بديهية في العقل البشري ثم نشأت في الفكر الاوربي تلك «المسلّمات» أو العقائد المفروضة فرضاً التي لا يجوز مناقشتها «»Dogmas لا لأنها – في حقيقتها- من الامور التي ينبغي للعقل ان يسلم بها من دون مناقشة، ولكن لأنها ناقضة للعقل ومفروضة عليه فرضا من قبل رجال الدين الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون ان يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين ، يجوز فيهم كل شيء حتى اهدار الدم وازهاق الأرواح)(4).

ويذكر قطب في موضع آخر أن (هذا الدين بصورته التي قدمتها الكنيسة الاوربية، الذي صاحبه طغيان الكنيسة وحجرها على الارواح والعقول- لم يكن صالحاً للحياة، لا لأنه دين كما ظنت أوروبا - بجهالة - وهي تفر من طغيان الكنيسة، ولكن لأنه ذلك الدين المحرف...وليس العجب أن أوروبا ثارت على هذا الدين وتمردت عليه في نهاية الامر ، بل العجب أنها ظلت اثني عشر قرناً كاملة لا تحس بما في حياتها الدينية

ص: 257


1- المصدر نفسه، ص506
2- المصدر نفسه، ص 507
3- قطب محمد مذاهب فكرية معاصرة، ص 507 . وكذلك : ه_. ج ولز ، معالم تاريخ الانسانية، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، (دت) ، ج 3، ص 902-903
4- قطب ، محمد قصة التنوير في العالم الاسلامي، دار الشروق القاهرة، ط2، 1423ه_ 2002م، ص38

من انحراف خلال قرونها الوسطى المظلمة .)(1)

يقول قطب: (تلك قصة أوروبا مع الدين الذي عرفته ومارسته خلال قرونها الوسطى المظلمة، فحلّ بها ما حل من ظلام وتأخر وجهل وظلم وخرافة وانحسار (2).

ويرى ايضاً( ان الايجابيات- التي لحقت بقضايا التنوير في العالم الاسلامي-كان يمكن ان تكون اكثر كثيراً، والسلبيات اقل كثيراً لو لم تتخذ الحركة النهج الاوربي وتصر على انه هو الطريق الذي لا طريق غيره .)(3)

ويرى قطب ان الطامة الكبرى في حلقة التنوير في العالم الاسلامي أنها تتخذ (التقليد في محاربة التقليد! فلم يكن شيء مما انتجه التنويريين في مواجهة الاسلام اصيلاً، ولا صادراً من عند التنويرين انفسهم. فما كان من كتاباتهم ضد الدين في عمومه فهو ترجمة ركيكة لما قاله كتاب الغرب في الدين مع الفارق الذي اشرنا اليه انفا... وما كان من كتاباتهم ضد الاسلام بالذات فهو ترديد لما يقوله المستشرقون، حرفاً بحرف وافتراءً بافتراء فيرتكبون مرة اخرى حماقتين «عقلانيتين»: حماقة التقليد بغير بصيرة، وحماقة اخذ الحكم على الشيء من اعداء الشيء، الذين هم بداهة حكام غير امناء لأنهم اعداء)(4).

والحقيقة أن للأستاذ محمد قطب نقداً كثيراً على صور التفكير الغربي بما فيها الديمقراطية ونظرة المسيحية للإسلام وغير ذلك من الامور وانما اكتفينا بإيراد ما يخص صور التنوير في هذا الفكر ويمكن ان يخصص للموضوعات الاخرى بحث منفرد ودراسة تكون اكثر شمولية للقضايا التي تطرق اليها مفكرو الغرب لكل اتجاهاتهم. واخيراً نسأل الله الهداية والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم ووالاهم إلى يوم الدين.

ص: 258


1- المصدر نفسه، ص 39
2- المصدر نفسه، ص 88
3- قطب ، محمد، قصة التنوير في العالم الاسلامي، ص90
4- المصدر نفسه، ص 12

الخاتمة.

لقد تبين لنا من خلال ما كتبنا من ورقات الامور الآتية:-

1- اننا نكتب عن شخصية فذة ومفكر كبير في العالم الاسلامي المعاصر.

2 -ان هذا المفكر درس العلوم ودرسها وكتب والف عشرات الكتب في مجال الفكر الاسلامي. حتى استقر به المقام في جامعة الملك عبد العزيز – جامعة ام القرى حالياً - حتى وافاه الاجل.

3- ان هذا المفكر ينتمي إلى فكر الاخوان المسلمين الذي تولى زعامته في مصر

أخوه سيد قطب الذي اثر فيه ايما تأثير .

4- لقد تطرق الشيخ محمد قطب إلى نقد صور التنوير الغربي المتمثلة في العلمانية والانسانية الغربية، وكذلك نقد الشيوعية والالحاد والتجريبية الغربية، وايضا نقد العقلانية والتنوير الغربي.

5- اعتبر الشيخ العصور الوسطى عصوراً مظلمة في حين كانت تدرجا طبيعيا لتاريخ الفكر الانساني كما اشارت إلى ذلك الدراسات الحديثة.

6- قدم الشيخ منهجه المميز في نقد الفكر الغربي من خلال ايراد الحجج والاستشهاد بكتابات الكتاب الغربيين انفسهم.

7-نقد أولاً منهج التنويريين في قياس التنوير الغربي وتطبيقه على المجتمع الاسلامي والامة الاسلامية، موضحاً الفرق بين المجتمعين والظروف المحيطة بهما.

8- دافع الشيخ بكل ما اوتي من قوة عن الاسلام ضد التنويريين الا انه ربط مصير الاسلام بمصير الدولة العثمانية، والحقيقة ان الدولة العثمانية انتهت والاسلام لا يزال قائماً حتى يرث الله الارض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ص: 259

9- حاول الشيخ ان يفند كل ادعاءات التنويريين ويقسمهم إلى الاوائل والمتأخرين ويعد الاوائل مخلصين يعوزهم المنهج اما المتأخرون فيعدّهم اعداء الاسلام الذين يعلمون ما يعملون.

وأخيراً نسأل الله العلي القدير ان يجعل اعمالنا خالصة لوجهه الكريم انه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحابته المنتجبين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين.

ص: 260

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

ابو الاعلى المودودي، نظرية الاسلام السياسية، لاهور، ط1، 1387ه_ 1997م.

البهي، د. محمد الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي،مكتبة وهبة،القاهرة، (د،ت)،

الحوالي، سفر، العلمانية، دار الهجرة، الرياض، (د، ت).

الخالدي، صلاح عبد الفتاح، سلسلة اعلام المسلمین، دار القلم، دمشق، ط1، 2000م.

الخالدي صلاح عبد الفتاح، سيد قطب الاديب الناقد والداعية المجاهد والمفكر المفسر الرائد، دار القلم ، دمشق - سوريا، ط1، 1421ه_ 2000م،

السحار، سعيد جودة، موسوعة اعلام الفكر العربي، مكتبة مصر ودار مصر للطباعة، القاهرة، ط1، 2003م.

طه حسین، مستقبل الثقافة في مصر، طبعة القاهرة (د، ت).

القرضاوي، د. يوسف، ابن القرية والكتاب سيرة ومسيرة، دار الشروق، القاهرة ،ط1، 2002م.

قطب ،محمد، حول تطبيق الشريعة، مكتبة السنة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1998.

كيف ندعو الناس، دار الشروق القاهرة، ط1424 ، 3ه_ 2003 -م.

لا اله الا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، دار الشروق، القاهرة، 1423ه_ 2002-م.

قضية التنوير في العالم الاسلامي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2002م.

ص: 261

مفاهيم ينبغي ان تصحح، دار الشروق، القاهرة، ط8،1415ه-1994-م .

واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة، القاهر، 1986م.

مذاهب فكرية معاصرة، دار الشروق، القاهرة، ط10، 2008م.

الانسان بين المادية والاسلام، دار الشروق، القاهرة -مصر، ط12، 1418ه_، 1997م،

منهج الفن الاسلامي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1983م.

الكيلاني د. رعد شمس الدين الفكر الاسمى والتحديات المعاصرة، مكتب شمس الاندلس للطباعة والنشر، بغداد، ط1، 2016.

المجذوب، محمد، علماء ومفكرون عرفتهم، دار الشروق، الرياض، ط4 ، 1992م.

منير، ياس، محمد قطب نبذة عن حياته ومنهجه الفكري والحضاري موقع طريق الاسلام الجديد على شبكة الانترنت في 7 جمادى الأخرة، 1435ه_ 7/ 4/ 2014م.

ه_ ج ولز ، معالم تاريخ الانسانية، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، (د،ت).

ص: 262

محمد عزيز الحبابي : فلسفة إنسانية ومشروع نهضوي

د. أحمد بوعود

د. أحمد بوعود (1)

تعتبر الفلسفة كما يقول راكيتوف الخلاصة الروحية لعصرها، وبصفتها فلسفة العالم المعاصر هي منظومة معارف خاصة عن مكانة الإنسان في العالم، وعن موقفه من العالم المحيط»(2)؛ ذلك أن هناك قضايا في الواقع الإنساني ومشكلات تتطلب آفاقاً فكرية واسعة ونظرة واعية مبصرة للعالم ومكوناته وهذا ما تزعم الفلسفة تحقيقه. وفي هذا السياق يمكن أن ندرج اهتمام الفلسفة المعاصرة بالإنسان، ذاك الإنسان الذي بدأ يحس بالغربة في عالم هو من صنع الإنسان نفسه. وهكذا فإن السر وراء الاهتمام بالإنسان هو ضیاعه؛ فقد فَقَدَ هويته وكينونته وكرامته في ظل التقدم الصناعي والتكنولوجي والحروب المتتالية. من هنا تعالت الأصوات منادية بتأكيد حريته وكرامته وقيمته.

إن مفهوم الإنسان في الفلسفة المعاصرة تتجاذبه فلسفتان هما:

- الفلسفة الوجودية، وهي تطور لفلسفة الحياة، وخلالها كان الإلحاح القوي على حرية الإنسان واستقلال إرادته، وكذلك مسؤولية الإنسان عن أخيه الإنسان، رغم طبيعة العلاقة التي تجمع بينهما وهي علاقة التشييء الصراع. لكن، مع هذا كان هناك انقلاب على الدين والقيم والأخلاق، بل حتى كرامة الإنسان كما تتهم بذلك وجودية سارتر.

ص: 263


1- جامعة عبد المالك السعدي - المغرب
2- راكيتوف، أسس الفلسفة، ترجمة توفيق الدليمي (دار التقدم ، 1989، موسكو)، ص 11.

- الفلسفة الشخصانية، وهي التي لم تنف التي لم تنف عن الإنسان حريته واستقلال إرادته، بل أضافت إلى ذلك إثبات وكرامته وقيمته وأنه ليس شيئا بين الأشياء. وفي هذا رد على الوجودية بل إن الشخصانية لم تظهر إلا من أجل الجانب الديني الذي غيبته الوجودية.

لكن الجانب الديني في الفلسفة الشخصانية لم يكتمل إلا مع محمد عزيز الحبابي الذي نهل من القرآن والحديث ليثبت مفهوما للإنسان لا يوجد في الفلسفة الغربية. أو إن شئت فقل هو تطوير وتجاوز لما بناه مونييه. لقد أثبت الحبابي حرية الإنسان واستقلاله من خلال القرآن والحديث النبوي، كما حدد علاقة الإنسان بالآخر بعلاقة الشهادة، وهو مفهوم قرآني. وربما تكون هذه أهم ما يميز مفهوم الإنسان عند الحبابي عن غيره من الفلاسفة شخصانيين وغيرهم.

فَمن محمد عزيز الحبابي ؟ وما نظرته للإنسان؟ وقبل ذلك، ما نظرته للدين؟

مَن محمد عزيز الحبابي ؟

ولد محمد عزيز الحبابي في ديسمبر1922 بمدينة فاس، والتحق بالمسيد لحفظ القرآن الكريم قبل أن يلتحق بالتعليم الابتدائي، ثم بالمؤسسة الإعدادية مولاي إدريس المخصصة للدراسات العصرية المزدوجة وللتلاميذ اللامعين. هذه التربية طبعت شخصية الطفل وأصلت أفكاره وتصرفاته، ولم يفارقه طيلة حياته لكونها نابعة من ثقافة قوية ومن إيمان راسخ. هذا الأساس الإسلامي القوي شكل واحدا من الأساسين القويين لشخصية الحبابي.

وفي السوربون برز محمد عزیز الحبابي طالبا له فضول في المعرفة وباحثا استثنائيا

في مجال الفلسفة الذي لا يهدي نفسه لمحبيه من أول يوم. وهكذا، فإن الحبابي ، المشبع بالثقافة العربية وبالإسلام باعتبارهما خلقا اجتماعيا وممارسة دينية، تميز عن غيره منفتحا، وبدون استثناء، على التيارات الفكرية الكلاسيكية والحديثة، مدمجا بدون شرط مسبق الفلسفة الشرقية مع أسرار الحداثة. إن فكر الحبابي فكر نقدي لكنه

ص: 264

تواصلي، ويتجلى هذا في النماذج الفكرية التي تأثر بها: الشيخ محمد بن العربي العلوي ، والأستاذ محمد إبراهيم الكتاني، وأبوه عبد العزيز. كما نجد نماذج أخرى من قبيل غاستون باشلار ومارتن هيدجير وجون بول سارتر ...

كان الحبابي رحمه الله رجل ثقافتين استطاع الموازنة بينهما بشكل منقطع النظير؛ حيث لا نجد في شخصيته تشظيا بين الحداثة والتقاليد. وفي هذا السياق يمكن القول إن اللغة الفرنسية كانت بالنسبة للحبابي أداة للاندماج المادي ووسيلة إلى المعارف الأجنبية، بينما اللغة العربية هي اللغة الوطنية والهوية الثقافية ولغة الإسلام. وهذه الازدواجية جعلت منه كاتبا معروفا في الثقافتين الفرنسية والعربية.

وقبل أن يتوفى الحبابي يوم 23 غشت 1993 ترك إنتاجا فكريا يوحي لنا بفيلسوف واقعي حيث الأفكار لا تنفصل أبدا عن الأشخاص والأحداث، من كتابه «من الكائن إلى الشخص» إلى أطروحاته حول الغدية مرورا ب »من المنغلق إلى المنفتح» وصولا إلى الموقف الإسلامي من الحداثة.

-1 الدين في فلسفة الحبابي

يؤكد محمد عزيز الحبابي أن هناك حقائق غير عقلانية، منها الوحي. وهذه الحقيقة

«أكثر انتشارا مما هو عقلاني أو قابل للتعقلن »(1) . وهذا يتفق مع ما ذهب اليه باسكال حين قال: إن هناك حقائق يدركها القلب ويعجز عنها العقل، بل إن العقل يحتاج إليها لينطلق منها .

يعتبر الحبابي أن الوحي« بطبيعته ثورة» (2) ، وذلك لأن الثورة تغيير يتوخى الأفضل، وكذلك الوحي، فهو رسالة الأنبياء والرسل غايتها تغيير أحوال الناس والسمو بهم. إن الوحي يتجاوز الوضعيات الخاصة، يقلب كل مجاميع دواليب حياة الفرد(الماديةوالروحية) سعيا إلى الكلية الإنسانية. ورغم أن الوحي يقترن بإطار تاريخي، إلا أنه

ص: 265


1- Mohamed Aziz Lahbabi La Modernité.. Attitude Islamique. Cord. Fatima Jamai-Lahbabi. .(1ère éd. Faculté des Lettres et des Sciences Humaines، Rabat، 2014)، p. 72
2- نفسه.

يسعى إلى الكونية والشمولية.

يهدف الوحي حسب الحبابي إلى تطهير نفسي، وإلى استقامة الأهداف التي ترومها أفعالنا»(1). وهذا ما تقصد إليه الآية الكريمة: ﴿نَّ اللَّهَ لا يُغَيْرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ (الرعد: 11). من هنا، فإن هدف الدين هو السمو بالحياة والتطلع إلى وجود إنساني، بالطاعة لأخلاق متعالية والبحث عن الكمال بمواجهة تملك الغرائز.

إن هذه القوة التي من خلالها يصل الفرد إلى اكتشاف ذاتيته وشخصيته في العالم ،وفي جماعة الأشخاص، هي نفسها التي تجعله واعيا بعلاقاته وصلاته بالله. إن الوحي يأتي من الخارج لكي يعرفه بالربانية ويجعله مرتبطا بالمتعالي.

لكن، ما المتعالي أو المفارق؟

ليس كل شيء قابلا للتعريف في نظر الحبابي؛ فهناك أشياء لا يمكن تعريفها کالموت والأوليات الهندسية، والتعالي transcendance أيضا غير قابل للتعريف. إننا نعرف ما نريد تجربته، لكن على العكس من ذلك، فالتجارب الوجودية تعاش وتظهر بدون توضيح أو برهان. هكذا يريد الحبابي أن يجعل من التعالي والموت حقيقتين بديهيتين. ينطبق عليهما قول سورين كيركغارد الذي يرى أن البراهين لا تستخدم من أجل الوصول إلى إثبات الوجود، وإنما تستخدم من أجل استنتاج شيء من هذا الوجود، وأن البرهنة على وجود ما هو موجود يعتبر أوقح اعتداء وجعل ذاك الموجود مثار سخرية . يقول :« هل ستحاول البرهنة على وجود الملك بالإتيان بسلسلة من البراهين والحجج ؟ لا إن كنت جادا فإنك ستبرهن على وجود الملك بإذعانك وبنمط حياتك. وهكذا مع البرهنة على وجود الله، إنها لا تتم بالبراهين، ولكن بالعبادة» (2) .

ص: 266


1- نفسه 75ص
2- Soren kierkegard. Provocations..Spiritual writings of Kierkegard. (The Bruderhof Foundation. .Farmington، 2002) p. 76

أما العلم فإنه يبدو محدودا؛ إنه قادر على تحقيق الكثير، ولكن في نفس الوقت ما يجهله هو على قدر كبير من الأهمية. وجهل العلم وقصوره عن الإدراك لا يعني بأي حال من الأحوال عدم وجود المدرك. ويضرب هنا مثالا بالدالتوني daltonien فيقول : إذا كان الدالتوني غير قادر على التمييز بين الألوان ولا يرى بعضها، فهذا لا يمنع أن تكون هذه الألوان موجودة؛ فالعدم ليس شيئا لا يصل إلى إدراكنا وتمثلنا، بل العدم هو مطلقا ما لا يو يوجد»(1)

لتعريف الله، سبحانه وتعالى، ينطلق الحبابي من الآية الكريمة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور﴾ (النور: 35). لكنه يؤكد أن قول الإنسان: « يا إلهي» يأخذ معنى آخر، ويستشهد هنا بأبي حامد الغزالي الذي يقسم إقرار الناس بوحدانية الله تعالى إلى أربعة مستويات:

- الأول: إقرار بالشفتين، وهم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم

مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 167).

- الثاني: الاعتراف بوحدانية الله مع الاجتهاد في الطاعة وممارسة الشعائر الدينية.

وهذا هو شأن عامة المسلمين.

- الثالث: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وفي هذا المستوى توجد المعرفة اليقينية والمؤكدة.

- الرابع: وهو أعلى مستوى، يرى فيه المؤمنون وحدانية الله تعالى في جميع الظواهر، وهم العارفون.

ولمعرفة الله تعالى يرى الحبابي أن هناك طريقين:

ص: 267


1- Mohamed Aziz Lahbabi La Modernité.. Attitude Islamique، p. 77

الأول: التسليم بالوحي والرجوع إليه، وهذا هو مجال الإيمان.

الثاني: التسليم بواسطة العقل لتصديق معطيات الوحي (وذلك انطلاقا من الإيمان).

وهكذا يتبين أن العقل لا ينشئ إيمانا، وإنما يعززه ويصدقه. وهذا ما نجده في قصة إبراهيم عليه السلام حين طلب البرهان من ربه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن ليَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة: 260). إن الإيمان هبة ربانية؛ أي أن الله هو الذي يشرح قلوب المؤمنين ليؤمنوا .

ويقارن محمد عزيز الحبابي بين مهمة كل من الفلسفة والدين فيقول: «إذا كانت الفلسفة تعلمنا( أو تحاول أن تعلمنا) طريقة استخدام الحق في الاندهاش والتساؤل، فإن الدين يبحث في رسم مراحل معرفة الله السداد الدين الخالقنا »(1).

2 - الإنسان/ الشخص في فلسفة الحبابي

بداية يوضح الحبابي بأنه يفضل استخدام لفظ الشخص لسببين:

الأول : «لأنه مأخوذ من جذر اشتقت منه كلمة شخص التي توافق مفهوم «الذات»،

في معنييها السيكولوجي والمجتمعي»(2)

الثاني: «أن العبارات التي استعملت ،حتى الآن، للدلالة على الشخصانية، تظهر غير مطابقة وغير ملائمة. ف_« الفردية» من فرد individu، والفرد لا يتوفر على الوعي النفساني والمجتمعي الذي يتميز به الشخص. أما «الذاتية» فتطابق ال_«أنا»، وهو في

مستوى عميق من حيث السيكولوجيا، وضئيل من الناحية المجتمعية» (3) .

ثم يعرف الحبابي الشخص بأنه «قوة مبادرة واختيار ، يلتزم ويندمج، وينسجم،

ص: 268


1- نفسه ص 98
2- محمد عزيز الحبابي الشخصانية الإسلامية، دار المعارف، ،مصر ، ط2، د.ت) ص 5 (الهامش).
3- نفسه.

يشعر فيقبل أو يرفض؛ تلك هي الخصائص اللازمة للاعتراف بأن الشخص استقلال ذاتي»(1). لكن ماذا يعني أن للشخص استقلالا ذاتيا؟وما هي محددات الإنسان؟ وما طبيعة علاقته بالآخرين ؟

يلفت الحبابي انتباهنا إلى اهتمام المفكرين الإسلاميين بلفظة الإنسان، ويمثل لذلك بما رواه ابن حزم عن نزاع حصل بين من يدعي أن «إنسان» لا يطلق إلا على الجسد وحده( مثل أبي الهذيل العلاف)، وبين من يقول إنه يختص بالنفس وحدها (رأي إبراهيم النظام)، وبين من يرى أن «إنسان» يطلق على الوحدة التي تتألف من الجسد والنفس معا، حيث يؤكد ابن حزم في نهاية حديثه أن «إنسان» يطلق على الجسد،( ألا يبقى الميت إنسانا؟)،كما يدل على الروح لأنها نواة الحدث الشعورية والقدرات المختلفة والأمزجة. وأخيرا، يعبر، بإنسان، عن وحدة الجسد والروح؛ إذ إن كل واحد منهما يرتكز على الآخر(2) .

وينتقد ابن السبكي التعريف السائد لدى العلماء واللغويين، والذي يجعل «الإنسان هو هذه الجملة المصورة ذات الأبعاض والصور، وأنه الجسد المخصوص بهذه الصورة المخصوصة»(3). ويتساءل: هل يمكن أن نسمي جبريل عليه السلام حين جاء في صورة دحية الكلبي إنسانا ؟ أجابوا بأن الظاهر منه كان على صورة ظاهر الإنسان، ولم يكن باطنة حينئذ كباطن الإنسان - فلم يكن إنسانًا.

إن ابن السبكي يرى أن الإنسان ليس مجرد البدن ، بل «البدن المقوم بهذه الروح البشرية، وبهذا خرج جبريل في صورة دحية الكلبي؛ فإن الصورة لدحية، ومقومها جبريل حالة تشكله بها، وهذا شيء يقع»(4).

أما الحبابي فيعرف الإنسان بأنه «الكائن الذي قد بلغ تشخصنه درجة من النمو

ص: 269


1- نفسه ص 11
2- ينظر نفسه ص21.
3- ابن السبكي الأشباء والنظائر ، تحقيق عادل أحمد عبد الجواد وعلي محمد عوض ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1991-1411 ) 65/2
4- نفسه

تجعله، حينما يقوم بنشاط ما، يحقق نوايا ترمي إلى أبعد من الأشياء الفردية، إنه من الذات، تفهما للأوضاع وللوسائل التي يقتضيها الفعل الرامي إلى هدف معين. فالربط بين الأجزاء والمجموع، عمل يصدر عن وعي رابط دينامي، يبرز للعالم في نفس الحين الذي يظهر فيه الكائن ، ثم يفتتح وينمو مع الشخص في سيره نحو الإنسان»(1).

إن هذا التعريف يحدد الإنسان ويميزه عن غيره من الكائنات بالتشخصن الذي يعني الوعي والعقل والمسئولية والقصد. وهذه المميزات تجعل من الإنسان كائنا مسئوولاً عن أفعاله، كما أنها هي التي تحدد قيمته. من هنا فإن الإنسان في نظر الحبابي هو الكائن الذي كرمه الله ،وازداد كرامة بفضل ما سماه بالدين الجديد (الإسلام)، حيث أصبح يشعر بشخصيته. ويتجلى هذا التكريم في عدد من الآيات التي نزل بها القرآن الكريم. ومن مظاهر هذا التكريم سجود الملائكة له، بينما ينهاه الله عن أن يسجد أمام أي كان، ما عداه تعالى. وقد أوجب على الملائكة أن يسجدوا لله وللإنسان. كل هذا يجعل للإنسان قيمة لا تضاهى بين سائر الكائنات. بل إنه غاية في ذاته.

إن تكريم الإنسان هذا، وتميزه بالمسؤولية تلك، يجعلان منه كائنا شاهدا على الناس. وهذه الشهادة هي التي تحدد علاقته بالآخرين حسب الحبابي.

1- استقلال الشخص

أن يكون للشخص استقلال ذاتي يعني حسب الحبابي أن «لا وجود لنموذج إنساني أو لقالب يفرغ فيه جميع الأشخاص ليكونوا على نمط واحد؛ إذ لكل شخص وجهته وتطلعاته الخاصة، وهي منبع لا ينضب من العفوية والمبادهة»(2)، ويستشهد الحبابي هنا بقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلَّيهَا فَاسْتَبقُوا الْخَيرات ﴾ (البقرة: 148)، وقوله عزوجل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾

(الإسراء: 84).

ص: 270


1- محمد عزيز الحبابي من الكائن إلى الشخص، ص 68
2- ص 12

ليس هذا فحسب، بل إن الاستقلالية، وهي لب الشخصانية، تعني رفض الشخص الطاعة العمياء واعترافه بالقيمة العليا للعقل والفكر. كما تعني أن يكون حرا له القدرة على القبول والرفض. لكن هذه الحرية يحددها الحبابي فيما يلي:

1-« لا توجد الحرية، بصفة مطلقة مجردة، ونقصد أن الحرية الحق لا تكون لازمة، إن كل حرية تكون متعدية وإلا بقيت بدون محتوى»(1) .

2 -« لابد من تكاملية بين الحريات: أي أن كل حرية تستلزم حريات أخرى معنى أنه لا حقيقة لأية حرية إلا في مجموعة من الحريات تتكامل معها وتتكيف وتكمل بها» (2) .

3 - «لا تفهم أية حرية إلا إذا ارتكزت على معايير » (3) .

ويورد محمد عزيز الحبابي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:

«أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَولي؛ فَإِني لا أَدْرِي لَعَلَّي لا أَلْقَاكُم بَعْدَ يَومِي هَذَا في هَذَا المَوقِفِ، أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم إِلَى يَوْمِ تَلْقَونَ رَبَّكُم... وَإِنَّكُم سَتَلْقَونَ رَبَّكُم فَيَسْأَلُكُم عَنْ أَعْمَالِكُم ....»(4) ثم يقرر الحبابي أن الإسلام يعتبر كل كائن إنساني شخصا، ولا فرق بين العربي والعجمي، ولا اعتبارا للون أو اللغة أو العرق. وإنما الفرق الوحيد الذي يمكن اعتباره هو التمييز بين المؤمن وغير المؤمن.

إن الشخص في الإسلام يتحدد من جانبين: جانب بيولوجي، وجانب روحي. وهو ما عناه الحبابي بقوله : «إنني إرادة ،وامتحان لبواعث ما أريد، وتقرير، وذكرى، وبيئة .. إني كل هذا، من حيث أنا شخص وفي نفس الوقت، إني فعاليات بيولوجية، وتنفيذ.. من حيث أنا كائن. وزيادة على الشخص والكائن، وابتداء من اتصالهما الوثيق، يمكنني أن أكون إنسانا» (5) .

ص: 271


1- محمد عزيز الحبابي من الحريات إلى التحرر ، دار المعارف، مصر، 1972)، ص 20
2- نفسه
3- نفسه
4- رواه البخاري ومسلم
5- محمد عزيز الحبابي من الكائن إلى الشخص، دار المعارف، مصر، 1962)، ص 29

ويرجع الفضل في تجاوز ما هو بيولوجي، إلى هذا النفخ الإلهي الذي به تبدأ حياة روحية تسترسل في نموها حتى تصل إلى تفتحها الكامل عند الشهادة.

ب -الشهادة وعلاقة الأنا بالآخر

بخصوص علاقة الأنا بالآخر يؤكد الحبابي أن الأنا في الإسلام «معشري»(1)؛ ذلك أنه يتعرف بنفسه على ذاته، ويكون معرفة عنها، وفي الذات يتركز الوعي، إذ هي الكينونة الصميمة للفكر وهو يمارس العبادات والمعاملات، طبقا للفقه الإسلامي. ويوضح الحبابي أنه بالرغم من اختلاف الذوات فإنها تتحاب في الله وتتواصل في ما بينها عن طريق تلك المحبة. وهذا يعطي للعلاقات الإنسانية معنى أسمى.

ويستشهد الشخصاني الحبابي بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقرة: 143)، وذلك لكي يقرر أن المؤمن يشهد أمام العالم وأمام الآخرين. ويحدد هذه الشهادة من جانبين: الأول سيكولوجي والثاني سوسيولوجي:

- فمن الجانب السيكولوجي، «يترتب عن الشهادة تأسيس علاقة مع الآخر، مادام

الأنا والآخر يشتركان في أداء نفس الشهادة»(2).

- وأما من الجانب السوسيولوجي، فإن الشهادة تكتسب تشخصها وعيانها في تكليف وجودنا الشخصي وتصرفاتنا في مواجهة الآخر. على هذا الأساس، فالمؤمن جزء من

«النحن». إن إيمان بعض من الناس ينتصب في مقابل إلحاد الآخرين»(3).

ويوضح الحبابي كيف أن الإنسان يصير مؤهلا للحكم وتحمل الشهادة بمختلف أنواعها بمجرد ولوج عالم الإيمان وتوحيد خالقه. يقول :« فعندما ينطق المرء «أن لا إله إلا الله» يصبح مسلما، وبالتالي يشعر بأنه قادر على إصدار أحكام، وتحمل

ص: 272


1- محمد عزيز الحبابي الشخصانية الإسلامية ص 28
2- نفسه ص29
3- نفسه

الشهادة، يعني أنه قادر على استخدام عقله، واستثمار حريته واستقلاله الذاتي»(1). من هنا يتحمل الإنسان مسئوليته ومسئولية غيره. وهذا ما دفع الحبابي إلى تحديد ما سماه بالمنبع الفكر ولوجي للالتزام في الإسلام، والذي يعني أن جميع جميع المسلمين مدعوون للقيام بهذه المهام، فعلى كل مؤمن أن يتحمل مسئولية عواطفه، وأفكاره،

وتقديراته، وحتى نيته ومسئولية الأحكام التي يصدرها، ونتائج الأفعال التي تتحقق

بها تلك الأفكار والعواطف والأحكام» (2) . ويشترط الحبابي للقيام بالمسئولية العمل

بقلب طاهر ووعي واضح.

3 - حقوق الإنسان

لم تكن حقوق الإنسان مجالا للدراسة والبحث والنظر إلا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. إن اغتصاب الكرامة الإنسانية كان ولا يزال واحدة من مخجلات الإنسانية المعاصرة. إن العالم الثالث غير مساهم ولا راغب فيما يدور اليوم من حروب، ولكنه يعاني ويتحمل عواقبها الحمقاء.

يعرف الحبابي الحق بأنه ما كان منسجما مع قاعدة، أو هو ما يسمح به القانون.

وهكذا، فالقوانين تحتاج إلى أصل وأساس، وهذا الأساس هو نتيجة اتفاق وبرهنة عقلية على صوابية ما يخص الإنسان من حقوق طبيعية.

فی الإسلام، الحق هو الله سبحانه وتعالى ، وبالتالي «مقاومة حقوق الإنسان تعني تنصيب الإنسان نفسه خصما لله»(3). ورغم هذا الطابع، فإن الحق لا يهدى وإنما يجب السعي وراءه لانتزاعه، «وما ضاع حق وراءه طالب».

لكن، من هو الإنسان المقصود في عبارة «حقوق الإنسان»؟

يجيب الحبابي بأن الإنسان المقصود هنا هو في الغالب الفرد المنتمي لشعب لا

ص: 273


1- نفسه ص 43
2- نفسه ص46
3- نفسه ص 156

يعارض مصالح الدول العظمى الحامية لحقوق الإنسان»في عالم النفاق والهوان وقدسية القوى»(1).

إن أزمات اليوم تتجاوز قدرات اليمين واليسار معا إن الأحزاب الاشتراكية، كما الأحزاب الليبرالية ،في نظر الحبابي، لم تعرف، ولم تستطع أن توجد سياسة مناسبة للمشكلات المعاصرة. إنها لا تدرك كيف تحقق المساواة بين الشعوب ، فضلا عن تحقيقها بين مواطني البلد الواحد، ولا كيف تؤمن الحريات وتتطلع إلى الكوني والإنساني.

إن الديمقراطية الغربية تعيب بشكل كبير وبأعلى صوتها على دول العالم الثالث استهانتها بحقوق الإنسان. وهذا في نظر الحبابي صحيح، غير أنه ليس أقل صحة من كون الغرب يضيع كثيرا من المواد الغذائية ومواد أخرى ذات الأولوية للضرورة الإنسانية، بينما شعوب العالم الثالث يموت فيها الملايين سنويا بسبب الجوع. ويضيف بأنه «ليس فقط الانشطار بين الشمال والجنوب هو وحده الآخذ في التوسع، وإنما أيضا تقديس الدولة، ودول أعلى مقابل دول أدنى . وإن حق الفيتو في مجلس الأمن واحد من مظاهر هذا التقديس إن الدول نفسها تنصب نفسها أساتذة وسادة الكوكب الذين يجب على الآخرين الخضوع لهم»(2) .

ثم يميز الحبابي بين الحق والواجب فيذهب إلى أن واجبي ليس إلا حق الغير، لأني عندما أحافظ على حقوق الآخر فإنني أو في بواجباتي، والعكس صحيح. وهذا ما ينبه إليه المبدأ القرآني في كثير من آيات القرآن الكريم أوردها الحبابي منها قوله :تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾( آل عمران110)

إن القرآن الكريم، كما يؤكد الحبابي، يدعو إلى الانخراط الكامل، كأفراد وكأعضاء

ص: 274


1- محمد عزيز الحبابي المستقبلية والغدية ضمن أعمال ندوة الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر، (منشورات كلية الآداب، الرباط،1993) ص. 23
2- Mohamed Aziz Lahbabi La Modernité.. Attitude Islamique. p. 158

أمة إسلامية وأمة كونية. إنه انخراط أفقي وعمودي في نفس الوقت، ونقط التقاء هذين البعدين تمثل الوعي الأخلاقي.

4- بين مستقبل الإنسان وغده

بداية يميز محمد عزيز الحبابي بين المستقبلية والغدية بأن هذه الأخيرة «تؤمن بأن الإنسان يحمل دوما آمالا، ويؤمن بأن في استطاعته أن يصنع تاريخه ويكتبه بصيغة

يصنع المستقبل، متى توفرت بعض الشروط ، أي متى أزيحت الأنقاض عن الطريق»(1). أما المستقبلية فهي تحاول أن «تتنبأ بما سيكون عليه الغد القريب اقتصاديا وتقنيا، طبقا للمعطيات الحالية» (2)

تنطلق الغدية من افتراضات أساسية يحددها الحبابي في خمسة(3):

ا- وعي ذلك التناقض لاتخاذ مواقف للصراع ضده.

ب -تعميم توعية ضمائر الثالثيين دول العالم الثالث بما لا يسير سويا، في هذا العالم وبما يجر جرا نحو العواصف والمفاجآت الجهنمية.

ج- تقييم مقدار عمق الغرق وإظهار أن أغلبية الغارقين من الثالثيين.

د- تحريض انتباه عزم الثالثيين على ضرورة البحث عن شيء آخر بعالم آخر، مادام

الحاضر في عالم اليوم سيتركهم دون أن يمتلكوه.

ه_ أن تجعلهم يعانون التزاما موجها نحو القيم والمبادئ المشتركة بين مجموع الإنسانية (وهذا يقتضي رفض النماذج الموجودة اليوم، وقد انحرفت وفقدت مصداقيتها) وذلك هو المراد من القطيعة .

من هنا، فإن المستقبلية لا تعطي أحكاماً قيمة ولا أخلاقية، إنها فقط تتوقع في

ص: 275


1- محمد عزيز الحبابي، المستقبلية والغدية، ضمن أعمال ندوة الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر، ص. 15
2- نفسه
3- نفسه ص16

الأحوال والأوضاع ما يمكن أن يواكب التطور الاقتصادي والتقني، ولا تهمها كرامة الإنسان، بينما الغدية تبحث عن الشمولية، وتستلزم ذهنية جديدة، والتزاما يدفع دول العالم الثالث إلى القطيعة مع عالم القهر والاستبداد، غايتها أن تعيد للإنسان مركزيته في العالم.

وإذا كانت المستقبلية تقيس التقدم بأرقام ودخل وربح وخسارة، فإن الغدية تقيسه بمقياس الرقي الإنساني العام، فهي توجه أفعالنا انطلاقا من قيم أخلاقية شمولية. وهكذا فالتقدم من خلال الأول تقدم احتكاري خالص وخاص، بينما التقدم الثاني شامل وصلب ما تفتقده الإنسانية اليوم.

وخلاصة ما يرمي إليه محمد عزيز الحبابي من خلال الغدية« أن تغير عالم اليوم

ليحل محله عالم غد عالمي يسوده التعاون بصدق، وتكتمل فيه أبعاده كل إنسان، البعد المادي والوجداني والفكري والروحي. إن المستقبلية للبعض والغدية للجميع ، مقصد الغدية أن تحل الفضيلة محل النفاق »(1) .

إن هذا التصور ينسجم انسجاما كبيرا مع ما تدعو إليه مقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الإنسانية:التعارف والتعاون والتكامل، تحقيق الخلافة العامة للإنسان في الأرض، تحقيق السلام العالمي القائم على العدل، الحماية الدولية لحقوق الإنسان.

ص: 276


1- نفسه ص 20

خاتمه

إن فلسفة الحبابي فلسفة مشروع نهضوي يهم الإنسان بمختلف حيثياته، وللإنسانية جمعاء، همه في هذا كله أن يسود العالم الفضائل والأخلاق، ويخرج الإنسان من أنانيته التي يكاد أن يذوب فيها، وينتشل الضعيف من براثن القوي، سواء كان هذا القوي فردا أم جماعة. كما أنه يرجو أن يعاد الاعتبار لحقوق الإنسان وكرامته المهدورة، ويسود السلم . ولن يتم كل هذا إلا بإعادة النظر في الإنسان وموقع الصحيح في هذا الكون. كما أنه لم يغفل أبدا مهمة الدين الذي يهدف إلى تطهير هذا الإنسان من كل شوائب الأنانية والعنف والكراهية. كما أن هذا الدين حافز أيضا لاحترام حقوق الإنسان وحسن علاقته بالآخر. إنها فلسفة واقعية مثقلة بهموم التغيير والإصلاح تغيير الإنسان وواقعه.

ص: 277

عبد الوهاب المسيري و نقد التحيز للنموذج الغربي

د. غيضان السيد علي

د. غيضان السيد علي(1)

تمهيد

اهتم عبد الوهاب المسيري(2) في كافة مؤلفاته الموسوعية - عن اليهود

ص: 278


1- مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف جمهورية مصر العربية
2- عبد الوهاب محمد المسيري(أكتوبر 1938 - 3 يوليو 2008) مفكر مصري، ولد بمدينة دمنهور في مصر وتلقى تعليمه الأولي (الابتدائي والثانوي) في مقر نشأته. في عام 1955 التحق بقسم اللغة الإنجليزية كلية الآداب جامعة الإسكندرية وتخرج عام 1959 وعُين معيداً فيها عند تخرجه. سافر إلى الولايات المتحدة عام 1963 حيث حصل على الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك عام 1964، وعلى الدكتوراه من جامعة رتجرز بنيوجيرزي عام 1969. وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها جامعة الملك سعود (1983 -1988)، كما عمل أستاذا زائراً فى أكاديمية ناصر العسكرية، والجامعة الإسلامية العالمية (ماليزيا)، وعضو مجلس الخبراء في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (1970-1975)، ومستشارا ثقافيا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك (1975- 1979). كما كان عضو مجلس الأمناء في جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية ببليسبرج، بولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الاميركية ومن أهم أعماله المنشورة بالعربية: نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني في عام 1972، وجاء هذا الكتاب قبل 28 عاما من تأليف المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما لكتاب يحمل نفسه العنوان. لكن الفرق بين النظرتين أن رؤية فوكوياما تعتبر أن نهاية التاريخ تعني انتصار الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي، بينما يرى المسيري أن نهاية التاريخ فاشية اخترعتها الدول الغربية للسيطرة على العالم. موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية : رؤية نقدية 1975 العنصرية الصهيونية (1975) . اليهودية والصهيونية وإسرائيل : دراسة في انتشار وانحسار الرؤية الصهيونية للواقع (1975) مختارات من الشعر الرومانتيكي الإنجليزي : النصوص الأساسية وبعض الدراسات التاريخية والنقدية (1979). الفردوس الأرضي : دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية (1979). الأيديولوجية الصهيونية : دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة (جزءان، 1981). الغرب والعالم: تأليف كيفين رايلي (ترجمة بالاشتراك) (جزءان (1985). الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية دراسة فى الإدراك والكرامة (1987). افتتاحيات الهادئ تأليف ستيفن سوندايم وجون ويدمان ترجمة بالاشتراك (1988). الاستعمار الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية: دراسات في بعض المفاهيم الصهيونية والممارسات الإسرائيلية ( 1990 )هجرة اليهود السوفييت: منهج في الرصد وتحليل المعلومات (1990) . الأميرة والشاعر : قصة للأطفال .(1993) الجمعيات السرية في العالم (1993) . إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (تأليف وتحرير) (جزءان 1993) أسرار العقل الصهيوني: (1996). الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ : رؤية حضارية جديدة .(1997) . من هو اليهودي ؟ .(1997) . موسوعة تاريخ الصهيونية (ثلاثة أجزاء 1997) اليهود في عقل هؤلاء (1998). اليد الخفية دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية (1998). موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية : نموذج تفسيري جديد (ثمانية مجلدات، 1999). فكر حركة الاستنارة وتناقضاته .(1999) . قضية المرأة بين التحرر والتمركز حول الأنثى .(1999). نور والذئب الشهير بالمكار، (قصة للأطفال) (1999). سندريلا وزينب هانم خاتون (قصة للأطفال) (1999). رحلة إلى جزيرة الدويشة (قصة للأطفال) (2000). معركة كبيرة صغيرة، (قصة للأطفال) (2000). سر اختفاء الذئب الشهير بالمحتار، (قصة للأطفال) (2000). العلمانية تحت المجهر بالاشتراك مع الدكتور عزيز العظمة (2000) . رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار: سيرة غير ذاتية غير موضوعية .(2001) . الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى، (2001). الصهيونية والعنف من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى (2001). فلسطينيةً كانت ولم تزل الموضوعات الكامنة المتواترة في شعر المقاومة الفلسطيني .(2001). قصة خيالية جداً، قصة للأطفال) (2001). العالم من منظور غربي (2001). الجماعات الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد .(2001) . ما هي النهاية ؟ (قصة للأطفال) - بالاشتراك مع الدكتورة جيهان فاروق .(2001) قصص سريعة جداً قصة للأطفال) .(2001) . من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية أثر الانتفاضة على الكيان الإسرائيلي عدة طبعات 2002م). أغنيات إلى الأشياء الجميلة ديوان شعر للأطفال) (2002). انهيار إسرائيل من الداخل .(2002). الإنسان والحضارة والنماذج المركبة : دراسات نظرية وتطبيقية (2002). مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي: جذوره ومساره ومستقبله (2002). الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، (2002). اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود .(2002) . العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، (جزءان، 2002). أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية شبه ذاتية شبه موضوعية (2003). الحداثة وما بعد الحداثة بالاشتراك مع الدكتور فتحي التريكي (2003). البروتوكولات واليهودية والصهيونية 2003 . الموسوعة الموجزة، .(2003). توفي فجر يوم الخميس 29 جمادى الآخرة 1429 ه_ الموافق 3 يوليو/تموز 2008 بالقاهرة عن عمر يناهز السبعين عاما بعد صراع طويل مع مرض السرطان، ودفن في مدينة دمنهور مسقط رأسه.

واليهودية والصهيونية، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، والحداثة وما بعد الحداثة، والأيديولوجيا، والموضوعية والتحيز - بدراسة ونقد الفكر الغربي والحضارة الغربية بشكل عام من خلال محاولاته للوصول إلى الطريق الأمثل للمسار الصحيح للنهضة العربية المأمولة، فتوقف كثيراً عند النموذج الحضاري الغربي بما أنه النموذج الحضاري المسيطر والمهيمن في الوقت الراهن. وبما أن الغرب في نظر المسيري قد تحول - عند أصحاب المشاريع النهضوية العربية على اختلافها - من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى منبع ومصدر للفكر العالمي والإنساني الحديث، وأصبح اللحاق به هو الهدف الأسمى والغاية المنشودة؛ وذلك البساطة النموذج المعرفي العقلاني الغربي وجاذبيته ونتيجة كذلك لانتصارات الغرب المعرفية والعسكرية في كافة المجالات والجبهات لكنه – في الحقيقة- لم يتوقف هذا النموذج كمعظم المفكرين المعاصرين عند الوصف والتحليل والرصد والنقد والتنظير وبيان نقاط الضعف والقوة أو الرفض المجرد، بل تجاوز ذلك إلى تقديم نموذج جديد وبديل لهذا النموذج. ورأى أنه من الضروري مجابهة المسلمات والبديهيات التي باتت راسخة في العقل العربي من قبيل أن الغرب متقدم وأن قوته لا تقهر، وأننا متخلفون وأن ضعفنا واضح ونهائي(1) . ولذلك فإن منطلقات المسيري في

ص: 279


1- عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الجزء الأول، القاهرة، دار الشروق الطبعة الأولى، 1999، ص30

نقده للغرب هي في الأساس منطلقات معرفية علمية أيديولوجية؛ فهو لا يكتفي ببيان مناطق الضعف في النموذج المعرفي الغربي المهيمن على الوجدان البشري بصفة عامة والوجدان الإسلامي بصفة خاصة؛ بل إنه يتقدم بخطى شجاعة ناحية صياغة نموذج معرفي بديل يستفيد من العلم الغربي ومن كل العلوم والتجارب الإنسانية، وينطلق في الوقت ذاته من تراثنا حتى يمكن توليد معارف وعلوم جديدة نحقق بها امكانياتنا الابداعية. ومن ثم يرفض المسيري النموذج الغربي كنموذج حضاري وحيد يفوق كل النماذج الحضارية الأخرى لما فيه من تميز للصفات المادية على حساب الصفات المعنوية ؛ فطغيان النزعة المادية همش مركزية الإنسان أو اغتال إنسانيته وحوله إلى شيء مادي خاضع لحتميات المادة والطبيعة وقوانينها، مما أدى إلى نفي أي بعد آخر له، وعندما يتم تشيؤ الإنسان في أي حضارة فإن ذلك يعني أنه أصبح بلا معنى. أي أن الإنسان في هذا النموذج الغربي قد تبدلت مكانته بصورة كاملة؛ فمن جعل الإنسان الغاية الأخيرة للخليقة وأنسنة كل شيء من أجله حتى الإلهي المقدس إلى البنيوية التي أماتت الإنسان إلى ما بعد الحداثة التي أماتت المعنى الواحد والمطلق.

أولاً : نقد النموذج المعرفي الغربي عند المسيري

يرى المسيري أن انبهارنا بالغرب أدى إلى أننا أصبحنا غير قادرين على رؤيته رؤية نقدية، ويقرر حاجتنا الماسة إلى ضرورة الوصول إلى تلك الرؤية النقدية، لأن ذلك سيكون بمثابة خطوة أساسية نحو التحرر من التبعية الإدراكية. ومن ثم فإن النموذج الغربي ليس بلا سلبيات وليس هو النموذج الكامل الذي يجدي نفعاً في كل عصر وحين ولكنه نموذج بشري عادي يحمل من السلبيات ما يحمل من الايجابيات. فقام المسيري بتوجيه سهام النقد الابستمولوجي والاكسيولوجي للنموذج المعرفي الغربي مما يعني الخطوة السلبية الممهدة لرفضه قبل تقديم الخطوة الايجابية التي تتمثل في وضع نموذج بديل يتفادى كثيراً من تلك المساوئ ويكون أكثر نفعا للواقع العربي. وكان من أهم تلك المساوئ التي انتقدها المسيري يتمثل فيما يلي:

ص: 280

تشيو الإنسان

سحب النموذج المعرفي الغربي الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم مستقل يسمى عالم الأشياء المادية : الاقتصادية - السياسية - السلع. ويرى المسيري أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد الذي يتم فيه سحب الإنسان من ذاته من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء. إذ يسود منطق الأشياء على كل من الأشياء والإنسان ويسري قانون طبيعي مادي واحد على الإنسان والطبيعة(1) ، فوضعت الكثير من المصطلحات الوصف المجتمع الحديث وحال الإنسان فيه ، وكانت مصطلحات :الإغتراب - التشيؤ - الإنسان ذو البعد الواحد أنسب المصطلحات وأصلحها لوصف حاله ومآله(2).

وهذا يعد بحسب كانط اعتداء سافراً على كرامة الإنسان؛ إذا يفرق كانط بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، ويرى أن الفرق الحاسم أن الإنسان له كرامة وأن الأشياء لها ثمن فما له ثمن فمن الممكن أن يستبدل بشيء آخر مكافئ له؛ أما ما يعلو على كل ثمن، وما لا يسمح تبعا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له كرامة» (3) . وقد أطلق المسيري على هذه العملية اسم ترشيد الإنسان والترشيد هو عملية علمنة تعني إعادة صياغة المجتمع والإنسان على هدي القوانين العلمية المادية الصارمة الكامنة في المادة والمتجاوزة للإنسان. وكل هذا بهدف التحكم في المجتمع الإنساني حتى يمكن توظيف الإنسان على أكمل وجه أو إن شئت قل استغلاله على الوجه الأمثل كشيء له ثمن وليس كإنسان تحترم إنسانيته . ومن ثم يؤكد المسيري مرارا وتكرارا على أن «الإنسان ليس مادة صماء تعكس حركة المادة بشكل مباشر، حتمياً آلياً أبلها »(4) .

وهكذا يرى المسيري أنه يجب أن ندرك أن المشروع المعرفي الغربي يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في

ص: 281


1- عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ،دمشق، دار الفكر ، الطبعة الرابعة، 2010،ص130
2- عبدالوهاب المسيري عزيز العظمة العلمانية تحت المجهر ،دمشق، دار الفكر ، الطبعة الأولى، 2000 ص 30
3- ایمانویل ،کانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم عبدالغفار مكاوي القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965، ص81
4- عبدالوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ - رؤية حضارية جديدة، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 2001، ص 12

الكون، يكفر ليس بالإله الخالق فقط ولكن بالإنسان أيضاً، إذ يُعلن موت الإله ( كما جاء على لسان نيتشه) ثم موت الإنسان باعتباره كائناً متميزاً عن الطبيعة، ثم ينتهي به الأمر أن ينزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى.

سيادة المادية والتجرد من العواطف

إن أشد ما يأخذه المسيرى على النموذج الحضاري الغربي هو الامتثال التام الفرضيات العلم الحديث، الذي يحرص على الموضوعية والتجرد من العواطف وعلى الحياد وعدم الاكتراث بالغايات الأخلاقية والإنسانية، ويظهر هذا في الهجوم الشرس على الطبيعة البشرية كمفهوم مرجعي للعلوم الإنسانية، وهو ما ينمي في الإنسان المقدرة على الإنفصال عن المضمون الإنساني والأخلاقي لأي فعل يقوم به وعن أي آثام يقوم بارتكابها(1). كما يعمل على خلق ما يمكن تسميته عند المسيري ب_» ترشيد الإنسان الحديث» أي خلق إنسان متكيف حركي مرن ،واقعي هويته لا تتسم بالصلابة، يمكنه تغيير قيمه بعد إشعار قصير، بل ويمكنه إعادة بناء شخصيته بسرعة حتى يواكب التطور ويتبع آخرالصيحات والموضات ، ويساير الحركة المتسارعة للجميع والتي تكون عادة بلا هدف إنساني واضح(2) . كما تصبح المشاعر والأحاسيس مجردات شخصية ليس لها معنى إلا للحياة الخاصة للإنسان وعلى نحو ضيق للغاية؛ فلا مساحة لها في ظل النظرة الموضوعية المادية للإنسان الذي حول ذاته إلى موضوع ومن ثم يصبح إنسانا نمطيا يمكن التنبؤ برغباته والتخطيط المركزي لاحتياجاته وطموحاته. حيث يتطابق الإنسان الرشيد مع الإنسان الطبيعي (الجسدي -الجنسي -الغرائزي) فكلاهما إنسان واحدي ذو بعد واحد يتجاوز ما هو إنساني ويتجاوز أيضا كل الغائيات الإنسانية والأخلاقية.

نسبية الحقائق العلمية ونسبية الأخلاق

إذا كان العلم المادي ينظر إلى كل الأمور بنظرة نسبية، فنظراً لسيادة روح العلم

ص: 282


1- عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص 138
2- المصدر السابق، ص 139

المادي للنموذج الحضاري الغربي فإن ذلك قد أدى إلى ظهور نسبية مطلقة تؤدي إلى المساواة بين كل الأمور في جميع الوجوه وإلى تسويتها، وهذا يؤدي فيما يرى المسيري إلى ضمور الحس الخلقي وإلى تزايد المقدرة على الحكم على ما هو إنساني بمقاييس غير إنسانية(1). ومن ثم تصبح كل الأمور نسبية مادية متساوية مرنة خاضعة للحوسلة والتوظيف. وهنا تتساوى الحقائق الاحتمالية العلمية بالحقائق الدينية والأخلاقية المطلقة، فتنتفي كافة المطلقات لصالح الاحتمالية. وإن كان هذا يصب بلا شك في نزع فتيل التعصب من القلوب إلا إنه يلقي بظلال الشك والريبة في النفوس.

ويصبح مصدر الأخلاق ليس الإله أو الدين أو الغايات الإنسانية وإنما المجتمع أو العلم. فحين يصبح المجتمع مصدراً للأخلاق فإن كل مجتمع يخلق قيمه الاجتماعية التي تخدم مصالحه، وأن الإنسان يتحلى بالأخلاق نتيجة للتطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية فحسب. فتصبح الأخلاق هي اتباع الرأي المجرد للأغلبية وليس محاكمة هذا الرأي من منظور أخلاقي متعين. أما حينما يصبح العلم مصدرا للأخلاق فإن القوانين الأخلاقية تؤسس على هدي القوانين العلمية (المجردة) والحسابات الرياضية الرشيدة والوضعية، كما هو الحال في الفلسفات النفعية التي جعلت الأخلاق هي المنفعة واللذة وأصبح الهدف من الحياة هو البحث عنها وتعظيم الانتاج والدخل(2). ومن ثم تنهار القيم الأخلاقية الكبرى تحت أقدام المنفعة واللذة وتصبح إنسانية الإنسان وكرامته قابلة للتداول التجاري والنفعي. ومن ثم تصبح القضايا الأخلاقية قضايا معرفية ، فمشكلة الإباحية في الغرب هي عند المسيري قضية معرفية وليست أخلاقية فحسب؛ لأنها باتت جزء من الهجوم على الطبيعة البشرية وعلى قداسة الإنسان فالرؤية العلمانية الإمبريالية طبعت الإنسان ونظرت إليه باعتباره مادة صرفة، والاباحية هي تعبير عن الاتجاه نفسه فتجريد جسد الإنسان من ملابسه هو نوع من نزع القداسة عنه حتى يتحول الإنسان، خليفة الله في الأرض في الرؤى

ص: 283


1- المصدر السابق ص813
2- المصدر السابق، ص138

الدينية، ومركز الكون في الرؤى الإنسانية، إلى مجرد لحم يوظف ويستغل بحيث يصبح مصدراً للذة... فلا فارق بين السخرة في ألمانيا والبغاء في تايلاند (1).

أيديولوجية ما بعد الحداثة والموت العام

وجاءت أيديولوجية ما بعد الحداثة لتعلن حالة الموات العام فبعد أن أعلنت مرحلة موت الإله لأجل الإنسان ثم موت الإنسان وموت المعنى ونهاية التاريخ والأيديولوجية والأدب والفلسفة، فلا يسعنا سوى القول بأنها حالة الموات العام. وأيديولوجية ما بعد الحداثة هي أيديولوجية امبريالية تعبر عن عصر الاستهلاك وتعلن موت الإنسان بعد موت الإله، وتنكر وجود أي مركز، وتنفي أية مرجعية من أي نوع، فهي حرية كاملة وخضوع كامل لقانون الصدفة، وهي منظومة فلسفية تطهرت تماما من

الفلسفة والإنسان والمطلقات(2) . فهذه السيولة ( الفلسفية )هيا لسمة الأساسية للرؤية العلمانية في العصر الحديث، عصر الاستهلاكية العالمية. والتي تتمثل في الغياب التام لكافة المرجعيات، وهذا يعني غياب الأديان ودورها في حياة الإنسان، وتآكل الذات وفقدانها لحدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه لحدوده، وهيمنة النسبية المعرفية الأخلاقية من ثم استحالة الوصول إلى فكرة الكل، سواء كانت هي فكرة الإله أم الأخلاق المطلقة أم الطبيعة البشرية أساس الأنطولوجيا الغربية. كما يعني ذلك أيضا اختفاء العقل التركيبي وتظهر معلومات متناثرة (ذاكرة الكلمات المتقاطعة) لا يربطها رابط ، وتصبح تجاربنا بلا معنى وبلا عمق ويتحول التاريخ إلى مجرد لحظات جامدة، وزمن مسطح لا عمق له، ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل، وتتساوى تماما مثل تساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنه تزامن دون استمرارية، فثمة انقطاع كامل(3). وهكذا تحمل ما بعد الحداثة عدة معان أهمها نهاية التاريخ ونهاية للقيم الخلقية المتعارف عليها، وموت الإله وموت المعنى. وتحول الإنسان إلى مادة استعمالية،

ص: 284


1- المصدر السابق ص 145
2- المصدر السابق، ص 145
3- المصدر السابق، ص 168

وإلى كائن ذي بعد واحد تحركه الدوافع المادية وأهمها الدافع الاقتصادي والدافع الجنسي، ولذا فالمصالح الاقتصادية والبحث عن اللذة التي لا تتجاوز عالم المادة والحواس الخمس ولا تصل إلى عالم التطلعات والأسرار والأشواق والتاريخ المركب هي المحرك الأول والأخير لسلوكه، وهي المرجعية النهائية لوجوده.

العنصرية والامبريالية

يتسم النموذج الحضاري الغربي بعنصرية التفاوت أي وجود تفاوت ثقافي بين الأجناس، وبأن هذا التمايز له أساس (بيولوجي- بيئي - وراثي)والإقرار بتفوق الرجل الأبيض، وسبغ القداسة على الإنسان الغربي وعلى تاريخه وحضارته، ونزع القداسة وتغييبها عن الآخر غير الأوربي وعن تاريخه وحضارته بل يعتبر أن حضارة الآخر وتاريخه هو نقطة انحراف عن النقطة التي يتجه نحوها التاريخ العالمي. ولذلك يرى المسيري أن الظاهرة الصهيونية بعنفها المتزايد- في الحقيقة - ما هي إلا ظاهرة غربية عرقية امبريالية وليست ظاهرة يهودية فحسب كما يظن البعض.(1) ومن ثم يبرر المسيري كيف يتعامل الأوربي بعنصرية مقيتة مع الشعوب الأخرى؛ فيحاول أن يوقف عمليات التحديث في أي مكان آخر في العالم، ويقمع كل الثورات ليضمن تدفق العمالة والمواد الخام الرخيصة وليضمن وجود مجال حيوي يشكل امتداداً استراتيجيا واقتصاديا له، حتى يظل العالم الغربي، منتجا ومستهلكا، أما العالم الثالث فيظل متخلفا بدائيا ومستهلكا لبعض بضائع أوربا وأفكارها(2).

ومن ثم ينكر النموذج الحضاري الغربي تاريخ الآخر وإنسانيته، ولم يقبله إلا كمادة استعمالية. كما تكررت ممارسات النظام الامبريالي الدولي القديم بأشكال تتراوح بين درجات مختلفة من الحدة والتبلور في أنحاء آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولولا وعيه بأن هذا الشكل الامبريالي القديم ستكون خسارته فيه أكبر وستكلفه خسائر فادحة ما تخلى عنه ولكنه في الحقيقة لجأ إلى حروب أكثر خسة ونذالة

ص: 285


1- عبدالوهاب المسيري، الصهيونية والعنف - من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصي، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثانية 2002، ص5
2- عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص 170

وهي حروب الجيل الرابع بتفعيل سياسة الإغواء والإغراء للنخب الحاكمة وللشعوب على السواء وباسم البحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتفعيل الديمقراطية. ومن ثم فلم تستبعد الحضارة الغربية إبادة الآخر والتخلص منه دون رحمة ولا شفقة كما لوحظ ذلك في النازيةوالصهيونية.

استحالة المشروع المعرفي والحضاري الغربي

يرى المسيري أيضًا أنه يجب أن نعرف أن المشروع الغربي الذي يزعم إنه جاء السد كل الثغرات وللتوصل للقانون العام مشروع مستحيل من الناحيتين المعرفية والعلمية. فمن الناحية المعرفيةيفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان الطبيعي والاجتماعي وبساطة الدال اللغوي وبساطة المدلول الإنساني وبساطة العلاقة بينهما . وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن المجهول سيتم معرفته. وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملاً . وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي وسخيف. والملاحظ العابر للعالم سيدرك هذا تماما (1).

أزمة الحضارة الغربية الحديثة

كما يرى المسيري أن الحضارة الغربية قد دخلت مرحلة الأزمة، فقد تخلى كثير من علمائها ومفكريها عن تفاؤلهم بخصوص حضارتهم التي لم تشعر بالثقة الكاملة بنفسها كما كانت تفعل حتى نهاية القرن التاسع عشر، فقد فقدت كثيراً من إحساسها بمكانتها الخاصة في التاريخ ومركزيتها وعالميتها خاصة مع تصاعد أزمات هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الايدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته، وهي كلها أمور كان لا يتحدث عنها إلا الشعراء في شعرهم، والروائيون في رواياتهم ، والعلماء في دراستهم

ص: 286


1- عبدالوهاب المسيري العالم من منظور غربي القاهرة، دار الهلال سلسلة كتاب الهلال (602) فبراير 2001، ص215

العلمية الرصينة التي لا يقرؤها سوى غيرهم من العلماء، ولكنها مع نهاية الستينات أصبحت أخبارًا يومية تتناقلها الصحف والإذاعات والمجلات(1).

نماذجية الانحراف

أي أن النموذج الامبريالي الغربي عبر في نماذج واضحة وصريحة عن انحرافه وبدا وجهه الحقيقي قبيحاً يثير الاشمئزاز، وذلك من خلال هجمته الاستعمارية الشرسة على بلاد الشرق مغتصبا خيراتها ومستغلا لثرواتها أو من خلال حربيه العالميتين التي راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر أو إبادة الأوربيين للهنود الحمر في أمريكا أو غيرها من تدمير في أفغانستان والعراق والسودان والصومال ، ناهيك عن هذا التعاطف الكريه مع إسرائيل وهي تغتصب أرضاً وتشرد أهلها. فلم يحدث قط من أي نموذج حضاري يزعم لنفسه التحضر والرقي أن أباد الملايين بهذه المنهجية وهذا الرشد والحياد من قبل أو من بعد. الشيء نفسه من الممكن أن ينطبق على الصهيونية ، فهي تعبير عن نفس الرؤية المادية الإمبريالية التي تحول العالم والشر إلى مادة استعمالية وتوظفهم لصالح صاحب القوة (2) .

ثمن التقدم

ينطلق المسيري في هذه النقطة من محاولته تجاوز التحيزات للنموذج المعرفي الغربي على خلخلة قبضة مفهوم التقدم المادي من خلال ما أسماه حساب ثمن التقدم فمن الملاحظ أن عائد التقدم عاجل ومحسوس ويمكن قياسه بسهولة. أما ثمنه فهو أجل غير محسوس وغير مباشر ويصعب قياسه. كما يجب أن نلاحظ تداخل ثمرة التقدم مع ثمنه. وثمن التقدم باهظ جداً ومكلف يتمثل في المخدرات والإباحية وتآكل النظام الأسري، ناهيك عن طريقة التعامل مع المسنين، والأمراض النفسية، والتفكك الأسري، وتزايد العنف والجريمة بصورة لافتة، وتفشي الاغتراب بكل صوره ومعانيه وانتشار الفلسفات العدمية وفلسفات العنف والقوة والصراع

ص: 287


1- المصدر السابق، ص 220
2- المصدر السابق، ص 224

(الداروينية والنتشوية )وتزايد إنفاق الحكومة على التسليح، وأدوات الفتك، وظهور إمكانية تدمير الكرة الأرضية إما فجأة من خلال الأسلحة أو بالتدريج من خلال التلوث...الخ. الأمر الذي جعلت نسبة الانتحار في الغرب تفوق مثيلاتها في بقاع العالم المختلفة.

وهكذا بدا النموذج المعرفي الغربي الذي يدعي العقلانية والإنسانية عند المسيري هو نفسه الذي قدم مشروعا حضاريا يقوم في الأساس على التدمير والإبادة والنهب الإمبريالي، وظهر سلوكيا وفكريا في وحشية الداروينية والنيتشوية والأيديولوجيات العنصرية التي كانت السند المعنوي الحقيقي للغزو الامبريالي ولأسطورة تفوق العرق الابيض ، والتي كانت النازية إحدى ،إفرازاتها، ثم الصهيونية. كما ظهر جليا ذلك النزوع العام إلى عزل العلم عن عالم الأخلاق والقيم؛ حيث صارت العلوم ثم تطبيقاتها غاية في ذاتها بغض النظر عن أي ضابط عقلاني أو غاية أخلاقية أو إنسانية، وترتب على ذلك أن صارت تطبيقات العلم نفسها مجرد مشروعات اقتصادية ذات هدف ترشيدي استهلاكي غايته الوحيدة الربح والربح وحده. والنتيجة الحتمية لذلك أن صار الاستهلاك غاية الغايات(1) . ومن ثم يبدو هذا النموذج معاديا للإنسان وليس من أجل الإنسان وسعادته ورفاهيته كما يتوهم البعض.

ثانيًا: نقد التحيز للنموذج الغربي

يقرر المسيري أن قضية التحيز في المنهج والمصطلح هي إشكالية مهمة تواجه أي دارس في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولكنها تواجهنا في العالم الثالث بحدة. فنحن ننشأ في بيئة حضاريةوثقافية لها نماذجها الحضارية والمعرفية المختلفة النابعة من تراثنا الحضاري ومن واقعنا التاريخي. ولكننا نُواجه بنماذج أخرى تحاول أن تفرض نفسها على واقعنا وعلى وجداننا وفكرنا فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، ومع انتشار الإنسان الغربي التدريجي في أرجاء العالم من خلال التشكيل الاستعماري

ص: 288


1- هلال محمد الجهاد عين الحُرَّ: العلاقة بين الدال والمدلول ووحشية النموذج المعرفي الغربي دراسة في المشروع اللغوي لعبد الوهاب المسيري، مجلة أوراق فلسفية، العدد ،19 القاهرة 2008، ص 22-32

الغربي، وقيامه بتدويل نماذجه الحضارية والمعرفية الحديثة، بدأ أيضًا ما يسمى«الغزو الثقافي»، وهو ببساطة يعني محاولة الإنسان الغربي فرض نماذجه هذه على شعوب العالم. وهذه النماذج التي أثبتت نفعها في العالم الغربي في المجالات الاقتصادية والسياسية، لها أيضا جوانبها المظلمة والمدمرة في مجالات أخرى، وهذه النماذج ليس لها علاقة قوية بواقع شعوب العالم غير الغربي( أي الغالبية العظمى لشعوب الأرض). وهي لهذا السبب ليست قادرة على التفاعل مع هذا الواقع أو على الإسهام في تفسيره أو تغييره بل ويؤدي تبنيها أحيانا إلى تدميره.

بل إن الأمر الأكثر سوءاً- عند المسيري- أن هذه الحضارات الغربية قد أفرزت ما أسماه «الحضارة الاستهلاكية العالمية وهي حضارة نبعت من النموذج المعرفي المادي الغربي، ولكنها انفصلت عن جذورها وأصبحت لها حركيتها المستقلة، ولذلك تقوم بتقويض كل الأشكال الحضارية بما في ذلك الحضارة الغربية نفسها.

ولكن يجب علينا أن نقرر أنه لا يوجد مجتمع بدون تحيزات أو حتى إنسان بدون تحيزات، فكما أنّ لكل إنسان تحيزاته، فإن لكل مجتمع أيضا تحيزاته، ولكن ما حدث أن كثيراً من شعوب العالم بدأت تتخلى عن تحيزاتها النابعة من واقعها التاريخي والإنساني والوجودي وأصبحت تتبنى التحيزات الغربية ثم تحيزات هذه الحضارة الاستهلاكية العالمية، ثم بدأت تنظر لنفسها من وجهة نظر النموذج الغربي.

ويظل التحيز للنموذج الحضاري الغربي من أهم أشكال التحيز وأكثرها شيوعاً في العالم، فمن الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في القرن العشرين والواحد والعشرين أيضاً، أن النموذج الحضاري الغربي الحديث أصبح يشغل مكانًا مركزيًا في فكر ووجدان معظم المفكرين والشعوب بسبب انتصاراته المعرفية والعسكرية الواضحة في مجالات عديدة، والتي ترجمت نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس من جانب الإنسان الغربي، وإلى إيمانه بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصل إليه الإنسان، وإن كل التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح

ص: 289

لكل زمان ومكان، أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الراهن.

ومن الممكن أن نتحدث عن بداية «الغربنة» في العالم العربي والإسلامي، إذ يعد مجيء الحملة الفرنسية واحتلالها لمصر في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بداية المحاولات الغربية الرامية إلى تقطيع أوصال تركة الدولة العثمانية ووفاة خليفتها «الرجل المريض»، كما تعد أيضاً بداية الصدمة التي تلقتها الأمة الإسلامية التي بمجرد أن انتهت من القضاء على التتار والمغول والصليبيين إلا وراحت في سبات عميق وطويل، استيقظت منه على طلقات مدافع نابليون وحملته. كان المصريون يثورون ضد الحملة المحتلة ويقاومونها بكل ما أوتوا من قوة وبداخلهم إعجاب شديد بعلوم هؤلاء - المحتلين - العسكرية المتقدمة، وسلاحهم وعتادهم الذي لم يسمعوا بمثله من قبل، بل إن زيهم العسكري كان محط إعجاب شديد لما له من فوائد عملية كثيرة أكثر من«الجبةو

القفطان» اللذين يعيقان الحركة بشكل واضح.

وقد تبع هذا الغزو استيلاء الروس على الإمارات التركية في البحر الأسود، والانجليز على قبرص ثم على مصر، إلى أن تم تقسيم معظم العالم الإسلامي. لكن يمكن القول أن كل شعب تم استعماره ترك عند مواطنيه شيئين متناقضين إلى حد بعيد، الأولى كراهية شديدة لهذا العدو الغاصب المحتل الذي أهان الوطن واغتصب خيراته ودنّس ترابه، أما الثانية فهي إعجاب مبهر، بتقدم هذا الآخر الذي استطاع أن يقهر ،الأنا، ومن ثم تتملك الأنا محاولة التشبه به والرغبة في الوصول إلى ما وصل إليه. وقد راعني مثال ساقه الدكتور المسيري للتدليل على هذا الرأي، حيث يرى انه سأل فتاة اريترية، واريتريا كما هو معروف وقعت تحت الاحتلال الإيطالي، عن الشاب الذي تود الزواج منه فقالت : شاب إيطالي !(1) .

يتضح هذا أكثر ما يتضح في الفكر العلماني الليبرالي فهو فكر قد حدد «النهضة« ابتداءً بأنها نقل الفكر الغربي والنظريات الغربية بأمانة شديدة، وتقبل النموذج الحضاري الغربي بكل مزاياه وعيوبه وإعادة صياغة المجتمعات العربية الإسلامية

ص: 290


1- عبد الوهاب المسيري العالم من منظور غربي، ص 89

وسلوك أفرادها حتى تتفق مع المعايير التي يفترضها هذا النموذج. وقد عبر عن هذه النزعة ما يسمى جيل النهضة من الليبراليين أمثال : أحمد لطفي السيد، وسلامة موسى وشبلي شميل وغيرهم ومنهم من كان متطرفاً جداً في غربنته، فدعا إلى التفاهات الشكلية، أي دعا إلى أن نحذو حذوهم في الظاهر قبل الباطن، فنادى بارتداء القبعة وكتابة العربية بحروف لاتينية، ومنهم من كان أكثر تعقلاً وابتعادًا عن مثل هذه الأشياء الشكلية الصبيانية، ولكن أعضاء الفريقين، المتطرف منهم والمعتدل الصبياني منهم والناضج كانوا في نهاية الأمر دعاة تغريب وتحديث على طريقة أوربا(1).

حتى لو نظرنا إلى التيار الشيوعي الاشتراكي ( اليساري) العربي، فعلى الرغم من أن موقف اليساريين العرب موقف نقدي من الرأسمالية والليبرالية السياسية والاقتصادية الغربية إلا أنهم يصدرون عن تقبل مبدئي للنموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث الكامن. ولذا لا ينصرف النقد اليساري للحضارة الغربية إلا إلى جوانب التنظيم السياسي والاقتصادي ولا يمتد بأية حال إلى النموذج الحضاري أو المعرفي ذاته، فالمسالة بالنسبة لهم هي اللحاق بالغرب من خلال الطريق الاشتراكي (2).

ويطرح الدكتور المسيري في هذا السياق نقطة هامة جديرة بالاعتبار، حيث يرى أن النموذج الحضاري الغربي قد شهد شكلاً من أشكال التراجع في العالم العربي منذ الأربعينيات، ويتمثل هذا في ظهور حركات إسلامية مثل «الإخوان المسلمين» وغيرها من الجماعات الإسلامية التي خرجت من عباءة تلك الجماعة وأصبحت تنادي بقوة إلى تحويل القبلة الحضارية من الغرب إلى الشرق، أو النداء بالتحيز لنموذج إسلامي ذي أوجه مختلفة، تارة يأخذ شكلاً اجتماعياً إصلاحياً مع الإخوان المسلمين وتارة أخرى يأخذ شكلاً سلفياً وهابياً أكثر تشددًا .... الخ، أو في ظهور جماعة اشتراكية قومية مثل «مصر الفتاة »وفي تبلور الفكر القومي العربي، وقيام تنظيمات سياسية تحاول ترجمته إلى واقع. ومع أن كل هذه الحركات سواء في جناحها اليميني أم اليساري تفترض قصور النموذج الحضاري الغربي وتخشى مأزق الهوية العربية، وتهديد التراث القومي

ص: 291


1- المصدر السابق نفس الموضع
2- المصدر السابق، ص 90

والديني، يرى المسيري - وكأنه يسبح ضد التيار - بأنه بالرغم من أهمية تلك المحاولات في أنها تشكل تراجعاً عن النموذج الحضاري الغربي ومراجعة له ومحاولة الاقتراب من التراث، إلا أن الهدف المعلن وغير المعلن أحيانًا أخرى هو دائماً اللحاق بالغرب مع الحفاظ على هويتنا بقدر الإمكان على أن تتطور الهوية لتواكب العصر. ومن ثم يكون هذا التيار بجناحيه - من وجهة نظر المسيري- هو مجرد محاولة أخرى لتبني النموذج الغربي، ولكنه يأخذ هذه المرة شكل إعادة صياغة للهوية من الداخل على أسس غربية مع الحفاظ على هيئتها الخارجية العربية أو الإسلامية، ويعاد اكتشاف التراث من منظور غربي، بل ويعاد صياغته بأثر رجعي، فنكتشف أنّ الشورى هي الديمقراطية، وأن الأمة هي الدولة، وأن الربا هو الفائدة، وأن المعتزلة عقلانيون، وأن الجرجاني أسلوبي، وأن الفن الإسلامي تجريدي، وأن الاغتراب موجود في تراثنا في شعر الخوارج والصعاليك، وان الغزالي سبق ديكارت في الشك المنهجي الفلسفي وأن ابن خلدون اكتشف ما يزيد على ثلاثة أرباع المادية الجدلية، على حد قول أحد الأساتذة العرب الماركسيين، في محاضرة كان يدافع فيها عن التراث العربي. وإن ابن خلدون – حسب تصوره -كان ماركسيًا قبل ماركس، ومن هذه الماركسية الكامنة الناقصة التي تكتمل في ماركس نفسه يكتسب ابن خلدون شرعيته لا من تفكيره العربي الإسلامي، وإنما بمقدار اقترابه أو ابتعاده عن النموذج الحضاري الغربي، أي أن أهمية التراث العربي لا تعود لأهميته في حد ذاته(1). وهؤلاء هم من يطلق عليهم طه عبدالرحمن مقلدة المتأخرين؛ أي هؤلاء الذين يعملون على اسقاط المفاهيم الغربية المنقولة على المفاهيم الإسلامية المأصولة كأن يسقطوا مفهوم «العلمانية» على مفهوم العلم بالدنيا، ومفهوم «القطيعة» على مفهوم «الجَبّ» ومفهوم «الحرب الدينية» على مفهوم «الفتح» ؛ ويتوسلون في هذه الإسقاطات المختلفة بخطاب يريدون أن يكون له صبغة استدلالية عقلية، لكنهم يتعثرون على خلاف ما يظنون في القيام بشروطها، وهكذا يصيرون على التدريج إلى رد المفاهيم المأصولة إلى المفاهيم المنقولة؛ فينتهون بمحو خصوصية المفاهيم المأصولة(2).

ص: 292


1- المصدر السابق ص 91
2- طه عبد الرحمن، روح الحداثة - المدخل لتأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2006، ص 13

إذن فهؤلاء - من وجهة نظر المسيري - يتقبلون النموذج الحضاري الغربي (أو جوانب كثيرة منه) عن وعي وعن غير وعي؛ بل ويحولون هذا النموذج إلى المثال الذي يُحتذى والنقطة المرجعية الصامتة بحيث يصبح المشروع النهضوي الإسلامي بالنسبة لهم هو أيسر الطرق للحاق بالغرب. بل إن بعضهم يذهب إلى أنه يرى أن المشروع الإسلامي هو خير تطبيق للنموذج الغربي الذي يمكن تبنيه بعد إدخال التعديلات والتحسينات الزخرفية المختلفة مثل إضافة الصوم والصلاة واستبعاد اختلاط الجنسين وفرض الحجاب على المرأة وإصدار الفتاوى المختلفة بخصوص الفوائد التي تتحول من كونها حراماً لتصبح حلالاً ! ومرة أخرى يعاد اكتشاف الدين، فنكتشف أن الدين سبق العلم، ويتبارى المتبارون في إثبات أن الإسلام سبق العالم في منح المرأة حقوقها وفي نظم الإدارة الحديثة. وكل هذا يعني أن الإسلام يكتشف شرعيته بمقدار اقترابه من النموذج الحضاري الغربي. وبالتدريج، يتم تغريب النموذج الإسلامي بحيث يتفق مع النموذج الحضاري الغربي الحديث.

وعلى ذلك يصبح الاتجاه الغالب لكل المشروعات الحضارية اليمينية واليسارية على السواء هو الاتجاه نحو «الغربنة»، ويصبح الغرب هو المرجعية النهائية والمطلقة. ومن ثم يتحول الغرب من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى البقعة التي يخرج منها الفكر» العالمي» الحديث، وقد أضفى هذا شرعية هائلة على عملية اللحاق بأوربا. إذ أصبح العلم الغربي الذي يسعى المثقفون العرب والمسلمون إلى تحصيله علماً عالمياً حديثاً، وأصبح الرضوخ الفكري للغرب والتبعية الفكرية له من سمات التقدمية والتحرر والطريق الوحيد إلى الانتماء للعصر الحديث والعالمية. ونتيجة لهذا تحيز المثقفون العرب لهذا النموذج الحضاري الغربي الذي سيطر على كل نواحي الحياة، مما جعلهم يهملون تراثهم بل والتراث العالمي غیرالغربي، فقد ولوا وجوههم بالكلية شطر النموذج الحضاري الغربي حتى كادوا أن يفصلوا تماماً عن خصوصية مجتمعاتهم التي بدت ضائعة الهوية، وعن مرجعيتهم الحضارية والإسلامية والعربية.

ص: 293

ثالثاً : آليات تجاوز التحيز للنموذج الغربي

يؤكد المسيري على أن إدراكنا للتحيز لن يجعلنا نسقط في العدمية الفلسفية فنعلن انتهاء العلم والتاريخ ، إذ أنه يؤمن بضرورة مواكبة كل آليات تجاوز التحيز وصياغة نموذج معرفي بديل يستفيد من العلم الغربي ومن كل العلوم والتجارب الإنسانية، وينطلق في الوقت ذاته من تراثنا حتى يمكن توليد معارف وعلوم جديدة نحقق بها إمكانيتنا الإبداعية التي حبانا الله بها وكرمنا بها كبشر.

كما يرى أن جهودنا يجب ألا تكون تفكيكية وحسب تكتفي برصد تحيزات الآخر، بل يجب أن تصبح تأسيسية تطرح نموذجًا بديلاً. وإذا كان اكتشاف النموذج الكامن في خطاب الآخر عملية شاقة، فإن تطوير النموذج البديل أكثر صعوبة.

وهنا يضع المسيري يده على الجرح الذي يمثل الحقيقة المؤلمة، وهو ما أشار إليه الكثير من الباحثين من قبله، وهي أننا نتلقف التقليعات الفكرية والفلسفية الغربية بشغف من دون تمحيص النظر في طبيعة هذه التقليعات ومبررات نشوئها وغاياته. لقد تلقينا اتجاهات فكرية غربية مثل الوضعية المنطقية والوجودية والبنيوية وغيرها غير مدركين أن هذه الاتجاهات هي في جوهرها فلسفات مثالية لا عقلانية تعبر عن أزمة البورجوازية الامبريالية الغربية في مراحلها المختلفة وعن فقدانها مبررات وجودها التاريخي وأنها تتعارض جوهريًا مع مصالح أمة لما تدخل حضاريًا العصر الحديث (الأمة العربية). والنتيجة خلط واضطراب وإخفاء ما قبل علمية فكرنا الحديث وراء قشرة لامعة لكن رقيقة من المصطلحات الغربية الحديثة(1). وكأننا أشبه ما نكون بمريض يشتري دواء غالي الثمن لمرض لا يشتكي منه، بينما يترك بقية أمراضه بلا علاج أو دواء. ومن ثم يستوجب الأمر ضرورة وجود نموذج بديل لهذا النموذج الغربي الذي أصبح غير ملائم بالمرة لما تعانيه الأمة العربية من مشاكل حقيقية.

ويطرح المسيري خطوات أولية تزيد من مقدرتنا على تطوير النموذج البديل منها :

ص: 294


1- هشام غصيب العقل والثورة: جدل التحديث ضمن المجلد الرابع من الأعمال الكاملة لهشام غصيب، دار رواد الأردنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007، ص 265.

1- رفض تمجيد الذات

يرى المسيري أن النقد الكلي للنموذج الحضاري الغربي الحديث واكتشاف تحيزات لا تعني أن نقوم بتهنئة أنفسنا فليس الهدف إسباغ الشرعية على الوضع القائم في بلادنا، والتي لا تبعث كثيراً على الرضا، وإنما تأكيد فكرة أن استيراد هذا النموذج لن يفيدنا كثيراً في محاولتنا الإصلاح والتغيير. فحينما تحدث عن مزايا النموذج الحضاري الغربي الحديث، فإنما كان يتحدث في واقع الأمر - في الوقت ذاته- عن نقائص بلادنا وهي كثيرة ، ومن أهمها فشلنا في تطوير حداثة عربية إسلامية ندخل من خلالها القرن الحادي والعشرين دون أن نفقد هويتنا وتراثنا (1). وهي ما يسعى إليها مؤلف هذا الكتاب في فصله الختامي.

2- إدراك أثر الإمبريالية

يرى المسيري أن الامبريالية الغربية قد حطمت كثيراً من أبنيتنا الحضارية والثقافية والاجتماعية، وأنها قامت بنهب بقية العالم. وأنها لا تزال تتدخل في شئوننا من خلال أذرعها المختلفة ابتداءً من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وانتهاءً بمؤسسات هيئة الأمم المتحدة ومرورًا بالدولة الصهيونية. ودون هذا الإدراك سيدب اليأس في نفوسنا، ونبدأ في لوم الذات وجلدها، ويجب ألا نقف عند هذه النقطة، وأن ندرك أنها ليست نهائية، وإنه يمكن أن نلحق الهزائم بهذه القوة اللاعقلانية، كما حدث في فيتنام، وكما حدث لإسرائيل ممثلتها في المنطقة عام 1973، وأثناء الانتفاضة الفلسطينية، وأخيرا في لبنان فقوتهم ليست مطلقة(2)

3- إدراك الضعف الداخلي

ينبهنا المسيري إلى نقطة غاية في الأهمية، إذا لم يتم تجاوزها فإنها من الممكن أن تعوقنا كثيراً وهي يجب ألا ندعي بأن الغرب مسؤول عن كل ما حدث لنا، فعوامل

ص: 295


1- عبدالوهاب المسيري العالم من منظور غربي، ص 285
2- المصدر السابق، ص 286

الانهيار والتقكك كانت كامنة في مجتمعاتنا قبل مجيئه. ولذا بدلاً من الحديث عن الاستعمارفحسب، يجب أيضًا أن نتحدث عن القابلية للاستعمار على حد قول مالك بن نبي وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم(1).

4- ليست عودة للوراء

يرى المسيري إنه يجب أن ندرك أن محاولة التوصل لنموذج بديل ليست دعوة للعودة إلى الوراء، وإنما هي تأكيد أن النماذج الجاهزة المستوردة لا تصلح لنا وأنه لا بد من إعمال العقل والاجتهاد وأخذ أوضاعنا فى الاعتبار(2). وذلك لأن اللحظة الراهنة مختلفة تمامًا عن تلك التي أصبحت من الموروث الثقافي.. وعليه فإننا يجب أن نتساءل عن آليات الإصلاح الذاتية التي تمكننا من تقويم إخفاقات نعيشها، وجنوح وتطرف نعاني منهما، وفساد تسلل إلى كل مؤسساتنا ونواحي حياتنا، وعليه يصبح التفاعل مع مشكلات الواقع اعتمادًا على الذات الفاعلة هو الطريق الأصوب والنهج الصحيح؛ فالتبعية والتقليد واستيراد الأيديولوجيات ونقل التجارب لن يوصلنا إلى ما نبتغيه، فالكثير من مشكلاتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية أيضًا التي نعاني منها في واقعنا المعيش، ترجع إلى مفاهيم زائفة ومعتقدات ضالة، ومصطلحات مشوهة، ومعان مشوشة، ثم نقوم بعد ذلك بنقدمشخصات الهوية، ومراجعة الثابت منها والمتغير، فنعيد إحياء ما تبدل من مكارم أخلاقياتنا ومحاسن أذواقنا، وجميل خصالنا، ونتخلص من نقائضها بمنهجية تربوية تجمع بين العلم والدين في سياق واحد، وإذا ما نجحنا في ذلك، شرعنا في انتخاب الأنسب لطبائعنا وحاجياتنا من ثمرات العلم وتطبيقاته التي أنتجتها الأمم المتقدمة، فنعيد صياغتها ونصبغها بطابعنا، ونُعمل فيه النقد لنتمكن من تطويرها وتحديثها، ليكون لنا في ميدان الإبداع دلو وسهم(3) .

وختامًا نرى أنه المتتبع لأفكار المسيري في مجموعها سيكشف أن تحيزه ضد الغرب ليس تحيزاً ضد الإنسانية بعامة، وذلك أمر منطقي؛ لأن التحيز ضد نموذج

ص: 296


1- المصدر السابق، ص 286
2- المصدر السابق، ص 287
3- عصمت ،نصار رحلة الرجوع إلى الوراء، القاهرة، دار ،روافد الطبعة الأولى، ص 2015، ص 5.

حضاري معين لا يعني التحيز ضد باقي النماذج الحضارية، بل على العكس، فإنه يعني أن هذا النموذج لا يمثل كافة النماذج المعرفية والحضارية والإنسانية، وهذا هو ما يهدف إليه المسيري بشكل صريح في دراساته النقدية للتحيز للنموذج الغربي.

رابعا :منطلقات النموذج البديل قائمة على نقد النموذج الغربي

وقد رأى المسيري أن هذا النموذج البديل يقوم على منطلقات عشرة أساسية، يراها الباحث المدقق أنها تقوم أيضا على نقد النموذج الغربي، وتتمثل هذه المنطلقات فيما يلي:

يقين ليس بكامل واجتهاد مستمر : يتسم هذا العلم بأن نماذجه فضفاضة، وهو لا يطمح إلى أن يصل إلى قوانين صارمة أو إلى إجابات موضوعية نهائية وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شيء وتصل بالإنسان إلى نهاية التاريخ، ولا يحاول الوصول إلى الموضوعية والحيادية الكاملة كما هو متمثل في النموذج الغربي وإنما يستخدم مفهوم الاجتهاد الذي يرى أن المعرفة الكاملة مستحيلة، كما يرى أن المعرفة الموضوعية والحيادية مستحيلة، وكل المعارف نسبية ولا مطلق إلا الله المطلق(1).

عدم التحكم الكامل في الواقع هدف هذا العلم عند المسيري ليس التحكم الكامل في الواقع كما هو الحال في العلم الغربي أو تسخير كل ما في الكون لخدمة الإنسان فقط، ولكن يرى أن للكائنات الأخرى حقاً مثله في هذا الكون، فلن يحاول العلم البديل التحكم الامبريالي في العالم كما كان يتمنى الإنسان الغربي، وإنما سيحاول الاستفادة منه والاتزان معه واعماره والمحافظة عليه(2).

لا اختزال ولا تصفية للثنائيات: اذا كان العلم الغربي قد سعى إلى تصفية الثنائيات الموجودة في الوجود والمعرفة والأخلاق فإن العلم البديل يرى في تلك الثنائيات صدى للثنائية الكبرى ( ثنائية الخالق والمخلوق وثنائية الإنسان والطبيعة) ومن ثم فهي ثنائيات

ص: 297


1- المصدر السابق، ص 290
2- المصدر السابق، ص 291

غير قابلة للتصفية أو الاختزال، فالإنسان ووحداته الاجتماعية لا يمكن تصفيتها لصالح الدولة، والماضي لا يمكن اسقاطه أو تجاهله لصالح الحاضر(1) .... الخ .

رفض الواحدية السببية : يرفض هذا العلم البديل للنموذج الغربي الواحدية المادية أو الواحدية السببية أو أي من الواحديات الحتمية ولا يمكن استخدام المعطيات المادية كمقياس وحيد ويتيم لفهم كل الظواهر. ولكن سيحل مبدأ تعددية المؤثرات محل مبدأ أحادية المؤثرات في فهمنا وتفسيرنا وتنظيرنا حول الطبيعة والإنسان(2).

محاولة الوصول إلى نظرية شاملة : إذا كانت النظرية الكبرى في السياق الغربي تحاول الوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي والحلول الشاملة. فإن النموذج البديل يحاول الوصول إلى نظرية شاملة كاملة نعرف مسبقاً أنها لن تصل إلى التفسير النهائي ولا اليقين ،المطلق، فهي نظرية داخل حدود ما هو ممكن إنسانيا، لا تتم في إطار مادي واحدي يصفي ثنائية الإنسان والطبيعة. فالتفسير الشامل يظل حلما قائما يداعب خيال الإنسان ويغويه(3).

نموذج توليدي لا تراكمي: يرفض النموذج البديل لدى المسيري نموذج التراكم المعرفي حيث يرى أنه نموذج قد يصلح للتعامل مع بعض جوانب عالم الأشياء ولكنه لا يصلح للتعامل مع البشر. كما أن النموذج التراكمي يفترض نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر ويتقدم نحوها كل البشر وكأنها أمة واحدة، وهذا يتنافى مع العقل والواقع الذي يسلم بالتعدد. وذلك للتسليم لنموذج مغاير يؤمن بإنسانية مشتركة تستند إلى طاقة إنسانية كامنة في كل البشر تتولد منها أشكال حضارية متنوعة تفصل الإنسان عن الطبيعة وتميز أمة عن أخرى وفردا عن آخر(4).

الانطلاق من مقولة الإنسان: أي أن الإنسان يقف في مركز الكون والطبيعة

ص: 298


1- المصدر السابق، ص 292.
2- المصدر السابق، ص294
3- المصدر السابق ص 295
4- المصدر السابق، ص 296

باعتباره كائناً فريداً ومركباً، يتمتع بقدر من الاستقلال عن القوانين الطبيعية وبقدر من الحرية، يفكر في ذاته وفي غيره، وليس جزءا لا يتجزأ من الطبيعة، وإنما هو جزء يتجزأ منها، يوجد فيها ويعيش عليها ويتصل بها وينفصل عنها، وهو مركز الكون وسيد المخلوقات، وهو بذلك على صورة مخالفة لما عليه الإنسان ذو البعد المادي الواحد في النموذج الغربي فضلا عن موت الإله والإنسان والمعنى.

نموذج غير مادي يرفض هذا النموذج البديل ما يطرحه النموذج الغربي من مقولة مادية تفترض أن كل هذا أمر حدث بالصدفة من خلال عملية كيمائية، وهو ما يعني أن قانون الصدفة المادي هو القانون النهائي، ومن ثم فإن ثنائية الإنسان والطبيعة واهية يمكن تصفيتها فتسد كل الثغرات وتسود الوحدة والواحدية المادية إلى نموذج بديل يؤمن بوجود ما هو مادي وما هو روحي، يؤمن بإله خالق هو مركز الكون الموجود خارج المادة ، أقرب إلينا من حبل الوريد، ليس كمثله شيء. ووجود إنسان يستند في وجوده إلى وجود الله المفارق.

نموذج نابع من التراث: وتعد هذه أكثر النقاط جوهرية في النموذج البديل الذي يقدمه المسيري والذي يعتمد في الأساس على نقد النموذج الغربي، فيرى أن هذا النموذج البديل لا بد أن يكون نابعاً من تراثنا الذاتي، ويقصد بالتراث في هذا السياق مجمل التاريخ الحضاري الذي يتسع للإنجازات المادية والمعنوية للإنسان في هذه المنطقة، ويشمل كل ما هو مكتوب وصريح وما هو شفوي وكامن. ويستند ذلك في الأساس على القرآن والسنة، والفقه الإسلامي يشكل محاولة الأسلاف لفهم قواعد هذا النموذج المعرفي في بعده الديني، تماما كما أن كتابات المفكرين من مسلمين ومسيحين ويهود هي محاولة لفهمه في بُعده الحضاري وللإبداع داخل إطاره وانطلاقا منه. وذلك بتجديده بصفة دائمة ومستمرة وذلك لا يمنع الاستفادة بالمناهج البحثية الغربية في عمليات التجديد والتحديث، حيث يقول المسيري ولا بأس أن نستعير من حضارات الآخرين، إذ كيف يمكن أن يتسع أفقنا وندرك ما أبدعته يد الإنسان في

ص: 299

أماكن أخرى وفي أزمنة مغايرة »(1).. ومن ثم يكفل لنا هذا النموذج الحفاظ على الهوية واستقلال الخطاب الحضاري، وهما شرطا الابداع عند المسيري(2) .

فصل الحداثة عن الاستهلاكية ومفهوم التقدم المادي والفردية المطلقة: يرى المسيري أنه لا بد أن نتخلى عن مفهوم التقدم المادي الذي يجعل الهدف من الحياة هو الاستهلاك، والذي يجعل من أفق الإنسان لذته وسعادته فرديته المطلقة، فهذا التوجه الاستهلاكي هو الذي يدمر الإنسان والعالم ويجعل السلعة محور اهتمام الإنسان بدلا من أن تكون إنسانيتنا المشتركة هي محط اهتمامنا وارتباط الحداثة بالاستهلاكية والفردية المطلقة هو الذي يساعد على إشاعة النموذج المعرفي الغربي. وهو الذي أدخل العالم في هذا السياق المريع نحو الاستهلاك، وهو الذي يؤدي إلى هدم الخصوصيات(3).

خاتمة

هكذا لم يقتصر نقد عبدالوهاب المسيري للنموذج الحضاري الغربي على بيان سلبياته ومآزقه وأزماته التي كشفت عما آلت إليه حال هذا النموذج الطاغي والسائد من تغول المؤسسات: مؤسسة السوق ومؤسسة الاستهلاك، ومؤسسة البحوث، التي وجهت تفكير الفرد الغربي نحو التشيؤ المادي، ووضعت حدوداً صماء على آفاق عقله وحدت من حريته وجردته من إنسانيته ومن حسن معايشته للآخر، إلى تفشي مظاهر العنصرية وإبادة الآخر وإذلاله؛ والتوسع الامبريالي وهضم حق الشعوب وانتهاك الأرواح والأجساد.. واغراق الأرض بموجات الفساد التي تنوعت في التلوث البيئي، والانفجارات النووية، والتطهيرات العرقية، وعمولات السلاح، ،والإباحية ،والإيدز، ومدى نهب الشمال للجنوب، وظهور حركات عبثية لا عقلانية تناصب العقل العداء وتعلن بفرح وحبور تفكيك الإنسان ونهاية التاريخ، وسيطرة الشعور بالاغتراب حتى أصبح رمز الإنسان في النموذج الحضاري الغربي هي صورة

ص: 300


1- عبدالوهاب المسيري فكر حركة الاستنارة وتناقضاته القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1998،ص5
2- عبدالوهاب المسيري العالم من منظور غربي، ص 303.
3- المصدر السابق، ص 287

مطابقة لما كان عليه الإنسان في الأدب الحداثي، صورة سيزيف الذي يحيا حياة لا معنى لها، ومعها ظل الإنسان الغربي ينتظر جودو الذي لن يحضر ...الخ. بل عمل المسيري على تقديم رؤية خاصة ونموذج بديل للنموذج الغربي لا تفتعل قطيعة معرفية معه بل تستفيد من العلم الغربي ومن كل العلوم والمعارف والتجارب الإنسانية، وتنطلق في الوقت ذاته من تراثنا، حتى يتسنى لنا الاحتفاظ بهويتنا وخطابنا الحضاري فمن لا يحتفظ بهويته لا يمكنه أن يحتفظ باستقلاله وبمقدرته على المقاومة، وفي نهاية الأمر بقدرته على الإبداع.

المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

عبدالوهاب المسيري فكر حركة الاستنارة وتناقضاته القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1998.

عبدالوهاب المسيري موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الجزء الأول، القاهرة، دار الشروق الطبعة الأولى، 1999.

عبدالوهاب المسيري عزيز العظمة، العلمانية تحت المجهر، دمشق، دار الفكر الطبعة الأولى، 2000.

عبدالوهاب المسيري العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، سلسلة كتاب الهلال (602) فبراير 2001.

عبدالوهاب المسيري الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ - رؤية حضارية جديدة، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 2001.

عبدالوهاب المسيري الصهيونية والعنف من بداية الاستيطان إلى انتفاضة

ص: 301

الأقصي، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 2002.

عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ،دمشق دار الفكر، الطبعة الرابعة، 2010.

ثانيا: المراجع

ايمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم: عبدالغفار مكاوي، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965.

طه عبدالرحمن، روح الحداثة - المدخل لتأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء- المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2006.

عصمت نصار، رحلة الرجوع إلى الوراء، القاهرة، دار روافد، الطبعة الأولى، ص 2015.

هشام غصيب ،العقل والثورة جدل التحديث ضمن المجلد الرابع من الأعمال الكاملة لهشام غصيب، دار رواد الأردنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007.

هلال محمد الجهاد، عين الحُرَّ: العلاقة بين الدال والمدلول ووحشية النموذج المعرفي الغربي» دراسة في المشروع اللغوي لعبد الوهاب المسيري»، مجلة أوراق فلسفية، العدد ،19، القاهرة 2008.

ص: 302

الحداثة الغربية : درس معرفي أم خوف / قبول مرضى ؟ دراسة في فكر عبد الوهاب المسيري

عماد الدین محمد عويس عشماوي

مقدمة:

الغرب الغازي، والغرب الموقظ، صورتان متضادتان، تبادلتا السجال في عالمنا العربي الإسلامي، ما بين ناقد رافض، ومادح قابل ،طوال قرني المواجهة بين العالم العربي الإسلامي وأوروبا. وقد أنتجت حالة الاستقطاب الناتجة عنهما، ميراثاً سلبياً في التعامل مع الغرب، أدى إلى تعثرات كبيرة في فهمه،والقدرة على التعامل المتكافيء معه.

فقد أدى نقص الجهود الحقيقية، التي تدرس الغرب دراسة معرفية، تنتج تصورات علمية غير متعصبة له أو ضده إلى غياب تقليد علمي بالمعنى الدقيق للكلمة يختص في حقل الدراسات المتعلقة بالغرب، ويسهم في فهم صحيح ومتوازن لعلاقتنا به وكان من نتيجة ذلك، انتشار الصور النمطية، وردود الأفعال والتفسيرات السطحية، التي أدت جميعها إلى انتشار ظاهرة الخوف القبول المرضي للغرب، وهو ما نراه واضحاً في الصورة النخبوية والشعبية التي تتراوح بين الرفض العنيف أو القبول المتخاذل له على حد سواء.

ويعد عبد الوهاب المسيري، مساهمة استثنائية في هذه القضية، فقد ساعده تعمقه في أدبيات الفكر الغربي على الاشتباك العلمي مع الحضارة الغربية أخذاً ورداً، أنتج رؤية معرفية لدرس الحداثة، تحاول مراجعة وبناء علاقتنا مع الغرب من منظور جديد

ص: 303

وبمنهج وآليات مختلفة .

وقد تراوحت النظرة لرؤية المسيري للغرب بين الإيجابية والسلبية، فالبعض يراه داعية حوار نقدي على أرضية متكافئة، والبعض الآخر يراه وقع في فخ الخوف المرضي.

ومن هنا كانت رؤيته للحداثة ومنهجه وآلياته المقترحة في دراسة علاقات المسلمين بالغرب جديرة بدراسة تناقش هذه الرؤية وكيف يمكن تطويرها والبناء عليها في تحقيق علاقة إيجابية بين العالمين.

مفاهيم الدراسة

الحداثة :مشروع أوروبي للنهوض، قام على تغليب العقل على النص، وفصل الدين عن السياسة، وتغيير أنماط السلوك والعمل، وفرض صورة جديدة للإنسان مغايرة لأحوال العصور الوسطى المظلمة.

الخوف/ القبول المرضي: الحالة النفسية لكثير من الحالة النفسية لكثير من المسلمين الخائفة الغربية وتداعياتها على مجتمعاتنا، أو القابلة لها بشكل مرضي، دون أساس معرفي سليم.

الدرس المعرفي : دراسة العلاقات بين الغرب والإسلام على أسس معرفية، تفتش عن جوهر هذه العلاقات ،وتنطلق من نموذج تفسيري اجتهادي إسلامي، ينتج خطاب تحليلي جديد، يمكننا من بناء علاقة إيجابية بين العالمين.

الأيقنة: تجريد الظاهرة الإنسانية من طبيعتها التاريخية والزمنية وتحويلها إلى شيء فريد لا يمكن فهمه أو تفسيره من خارجه (1).

الديباجة : الظواهر ذات الطابع الإيديولوجي الحاد التي تصاحبها اعتذاريات مصقولة، تحاول فرض تفسير ما على حدث أو فعل بما يتفق مع مصلحتها وبما يمليه عليها موقعها (2)

ص: 304


1- سوازن حرفي، حوارات عبد الوهاب المسيريدمشق: دار الفكر، ط 1 ، ج4، 2009 م، ص 253
2- المسيري، عبد الوهاب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية القاهرة: دار الشروق، ط1، 1999م، ج1، ص 121-122.

تمهيد

الحداثة في رؤى المفكرين العرب في القرن العشرين

مقدمة :

الحداثة، مشروع غربي، قام على قاعدة الصراع بين المؤسستين الدينية والسياسية في أوروبا، مستهدفاً القطيعة مع أسس هذا المجتمع القائمة على: الدين الكنسي، والأعراف والتقاليد التي سادت في القرون الوسطى. والتي رأى مفكرو عصر التنوير، ضرورة الثورة عليها، وبناء أسس جديدة تدخل أوروبا التاريخ من جديد.

والحداثة، في قاموس أكسفورد تعني «المناهج الجديدة والاعتقاد في العلم، والتخطيط واشتهاء التماثل والنظام والتوازن والثقة في التقدم بلا حدود»(1)، وجوهر مشروعها ، يتمثل في مركزية العقل، ووضع الدين في دائرة الشخصي، والترشيد الاقتصادي والتصنيع، والديمقراطية السياسية والعقلانية في التنظيم الاجتماعي.

فالعقل لا الدين هو أساس الحياة الحداثية الجديدة، ف من» المستحيل أن نطلق كلمة» حديث» على مجتمع، يسعى قبل كل شيء، لأن ينتظم ويعمل طبقاً لوحي إلهي أو جوهر قومي»(2). لكن هذا لا يعني « أبداً القضاء على الدين، كما يفهم البعض عن خطأ حداثة أوروبا، فالدين في أوروبا لم ينته بعد انتصار الحداثة، وإنما تحول مفهومه وتعقلن وتجدد» .(3)

وتعد التجربة الغربية في التحديث، هي النموذج العملي للحداثة. فالتحديث قرين الحداثة، ولهذا فإن »القول بوجود الحداثة، من دون تحديث وسواسي قهري، إنما هو تناقض لا يختلف عن القول بوجود رياح لا تهب أو نهر لا يجري» .(4)

ص: 305


1- وهبة ،مراد الحداثة برؤية علمانية ، الديموقراطية، السنة الخامسة عشرة، العدد 582015م، ص.50
2- تورين ،آلان نقد الحداثة القاهرة : المجلس الأعلى للثقافة، 1997م، ص 40
3- صالح هاشم ، هل الحداثة معجزة أم أسطورة»، البياندبي، تاريخ الدخول 2016/10/16م، على الرابط التالي: http://www.albayan.ae/opinions/11796652977151.172910-25-05-2007-
4- باومان، زيجمونت، الحداثة السائلة، بيروت الشبكة العربية للأبحاث، ط1، 2016م، ص 30

ولكن مفهوم الحداثة ،الذي بلوره فلاسفة التنوير، أيضاً، يعد مشروعاً غير مكتمل(1)، فهذا المشروع لا يحدد لا ثقافة ولا مجتمع إنه يشعل الكفاح ضد المجتمع التقليدي، أكثر من كونه يلقي الضوء على آليات عمل مجتمع جديد» .(2)

ولذلك، ظل التباين في النظر إليها على أشده في الثقافة الغربية نفسها، حتى وصلنا اليوم لمرحلة ما بعد الحداثة، التي تعتبر بمثابة رفض لكثير من الأسس التي قامت عليها الحداثة ذاتها .(3)

الفكر العربي والحداثة:

ارتبطت الحداثة، في الفكر العربي، بمسألة التحديث المادي والنهوض الحضاري، ومحاولة إخراج العرب من دائرة التراجع التي عانوا منها قرون عدداً. فقد أنتج الصراع بين عالمي الإسلام والغرب منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم، حواراً فكرياً شاملاً بينهما، تخلله التقليد والاقتباس والاستلهام والتأويل والحوار والنقد، أي جميع أنواع الصلة التي يمكن أن ينسجها فكر مع آخر يؤثر فيه. (4)

وقد انقسم الفكر العربي في رؤيته للحداثة، إلى زوجين متباينين:

الزوج الأول، يمثله المفكرون الإسلاميون، وهم ينقسمون إلى فريقين: الأول يمثله المتشددون، الذين يرون أن الحداثة تتنافى مع الدين والأخلاق الإسلامية، وأنها ما جاءت لبلادنا إلا لتهدم كل ما هو إسلامي من دين ولغة وأدب وتراث(5). ولهذا، جاءت- عندهم- موسومة بكل السمات السيئة، ومحملة بكل المعاني المرفوضة. وهم يعتبرون

ص: 306


1- هابرماس، يورجن ، القول الفلسفي للحداثة : ترجمة فاطمة الجيوشيد مشق وزارة الثقافة، 1995م، ص5
2- ،تورين ،آلان نقد الحداثة، مرجع سابق، ص 40
3- للمزيد من النقاشات المعمقة حول الحداثة وما بعد الحداثة، راجع :المسيري عبد الوهاب الحداثة وما بعد الحداثة دمشق: دار الفكر 2003م ،رمان مارشال حداثة التخلف ترجمة فاضل جتكرنيقوسيا : مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ط 1 ، 1993م هارفي، ديفيد، حالة ما بعد الحداثة : ترجمة محمد شيا بيروت المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005م.
4- بلقزيز، عبد الإله من النهضة إلى الحداثة بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2009م، ص11-12.
5- محمد مسعد زياد الحداثة موقع اللغة العربية تاريخ الدخول 2016/10/16م ، على الرباط التالي: تاريخ الدخول 2016/10/16 http://www.drmosad.com/index130.htm

أن سدنة الحداثة في بلادنا انحرفوا عن كل ثوابت الأمة الدينية والثقافية، وأن حداثتهم حركة مضللة ساقطة، تدمر معتقدات الأمة، فهي : »اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية والعلمانية والماركسية، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة».(1)

والحداثة، لديهم، تدمر التراث وتقضي عليه، وتحرر الناس من إساره، وتطلقهم ليتحرروا ويمارسوا »إنسانيتهم »كما يمارسها الغرب، وأن الغرب قد نبذ الدين فلننبذ (نحن أيضاً) الدين(2).

والفريق الآخر، لا يرفض الحداثة، لكنه يراها منجزاً غربياً فيه المفيد وغير المفيد، وهم يدعون إلى إعادة ربط جوانبها المضيئة بثقافتنا العربية الإسلامية، دون السقوط في شراك ،شرورها، ويلحون على ضرورة إنجاز حداثة عربية نابعة من واقعنا ومعتقداتنا .

وينتقد هؤلاء الفكر العلماني العربي الذي يدعو إلى الحداثة؛ سواء كان ماركسياً أو ليبراليا، مشددين على أن معظمه يتسم بمنهجية تعتمد على إصدار الأحكام المتسرعة والإطلاقية عند تناول مجتمعاتنا أو تراثنا، لاسيما حين يعنون به الإسلام(3).

فالحداثيون العرب، يروجون لحداثة أقامت قطيعة معرفية مع الموروث الديني اللاهوتي، وأسست معالمها على الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني، والعقل والعلم والفلسفة والتجربة ، بدلاً من الله والدين واللاهوت (4).

بل إن كثيراً من دعاتها في العالم العربي، يرددون ما يقوله الغرب عن الحداثة الغربية، دون أن يطرحوا رأيهم ورؤيتهم في الموضوع، فيتبنون أفكار الحداثة دون أن يدرسوا ما يتلوها من نتائج(5).

ص: 307


1- المرجع السابق
2- قطب محمد مغالطاتالقاهرة دار الشروق، ط1، 2006م، ص 82
3- شفيق منير في الحداثة والخطاب الحداثيالدار البيضاء المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م، ص 11
4- عمارة محمد الاسلام والتحديات المعاصرة القاهرة نهضة مصر للنشر، ط1، 2010م، ص85
5- المسيري عبد الوهاب رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر القاهرة: دار الشروق، ط2، 2005م، ص 394

وعلى الرغم ،من أن غالب هؤلاء، يرون أنه» ليس ثمة صراعاً بين الغرب الإنسان والإسلام الإنسان بالمعنى الحاد، بل هناك مواقع إلتقاء ومواقع للخلاف، تماماً كما تختلف تقاليد بلد إسلامي عن تقاليد بلد إسلامي ،آخر، أو كما تختلف تقاليد بلد غربي عن تقاليد بلد غربي آخر »(1) . إلا أنهم ينعون على هؤلاء الحداثيين أنهم يستدعونط التطبيق الغربي» ، ويسعون وراءه، ويهملون الروح المولدة للفعل الحداثي الحقيقي، أي تمثل شروط روح الحداثة في الفعل، وبالتالي الإتيان بتطبيق جديد يتجاوز المنجز الغربي(2) .

والزوج الثاني، من المفكرين العرب المهمومين بالحداثة الغربية، هم»التنويريون» أو «العلمانيون»، وقد تجسد معنى الحداثة لديهم في العقلانية، والعلمانية، ونقد التراث.

وهم، أيضاً، ينقسمون في رؤيتهم للحداثة إلى فريقين.الأول،یری أن الحداثة هي مستقبلناولامستقبل لنا غيره ،حتى أن طه حسين أعتقد يوماً» أن ثقافة أوروبا، وفي مقدمتها فرنسا ستعيد إلى الذهن المصري كل قوته وخصبه»(3). ويعتبر مراد وهبة« الحداثة من ثمار التنوير، والتنوير يمكن إيجازه في مبدأ واحد هو سلطان العقل، فإذا كان التنوير ينطوي على العلمانية، فإن الحداثة علمانية بالضروري، ومعنى ذلك أن العلمانية هى أصل التنوير والحداثة.(4)

ويذهب جابر عصفور، إلى أن الحداثة تعني الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل : الذي هو نقيض النقل(5). او أن الحداثة ضد كل مشروع ينطوي على مطلقات يقينية(6) . ويشدد محمد أركون على أن النضال من أجل إدخال الحداثة، يشكل الحلقة الرئيسية لقوى التغيير في المجتمعات العربية، مطالباً بتجاوز التراث لأنه غير صالح

ص: 308


1- فضل الله، محمد حسین، صراع بين المستكبرين والمستضعفين، المنطلق الجديد، العدد الخامس 2002م، ص13
2- عبد الرحمن، طه، روح الحداثة الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي، ط2، 2009م، ص 18 وما بعدها
3- شلبي السيد أمين الغرب في كتابات المفكرين المصريين القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003م، ص 97
4- وهبة ،مراد » الحداثة برؤية علمانية، مرجع سابق، ص 52
5- عصفور، جابر هوامش على دفتر التنوير الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي ، ط1،1994م، ص95-96
6- المرجع السابق، ص 68-69

لبناء حداثة معاصرة (1).

فی حين نجد الفريق الثاني، ينهج نهج الاعتدال في رؤيته للحداثة، فمحمد عابد الجابري ، يرى أن «الحداثة تعني أولاً وقبل كل شيء حداثة المنهج وحداثة الرؤية . ف» ليست هناك حداثة مطلقة عالمية وكلية، وإنما هناك حداثات تختلف من وقت إلى آخر، وبعبارة أخرى الحداثة ظاهرة تاريخية، وهي ككل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها محدودة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور» .(2)

ويؤكد برهان غليون أن السؤال الجدي في علاقتنا بالحداثة ليس هل نأخذ بالحداثة أم نتركها، أو هل نصبغها بتراثنا أم لا نصبغها؟ ولكن كيف نصنع الحداثة، أو كيف نسيطر على دينامياتها الحقيقية المنتجة والمبدعة خاصة،أن«أيديولوجية الحداثة»،لا تعني الحداثة(3).

العرب والحوار مع الغرب:

أنتج الصراع على الحداثة، بين الإسلاميين والعلمانيين-المشبعين بالسياسة أكثر من المعرفة -تشكيل صورة نمطية عن الغرب في الثقافة العالمة والثقافة العامية تراوحت بين التبعية الكاملة والرفض الكامل ، وهما وجهان لعملة واحدة افترضت مركزية الغرب، وأنتجت علاقة مضطربة ،معه أثمرت مرحلة الغربوفوبيا التي نعيشها اليوم في مواجهة الإسلاموفوبيا التي يعيشها الغرب.

ففي غمرة إنشغالهم في تحديد :أي الفريقين أقوم طريقة في فهم الحداثة، ومن منهم له حق امتلاكها ،وبالتالي حق تعريفها واستخدامها والحكم عليها، لم يكن لدى غالبية التيارين، وقت كاف للتأمل العميق في مسألة الحوار مع الغرب، أو فهم تفكيره، أو كيف تكونت صورة الإسلام/الغرب السلبية في الوعي الجمعي الغربي/

ص: 309


1- شعلان عبد الوهاب، خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر»، المستقبل العربي، السنة السادسة والعشرون العدد 300 فبراير ،2004م، ص 48 وما بعدها.
2- الجابري، محمد عابد التراث والحداثة بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 199م، ص16
3- غليون برهان اغتيال العقلالقاهرة : مكتبة مدبولي، ط3، 1990م، ص 296

الإسلامي. فقد حال بينهما حاجز التحيز الأيديولوجي، فلم يستطيعا تأسيس رؤية معرفية لعلاقتنا مع الغرب.

ولهذا جاءت كل مقارباتهم للحوار مع الغرب، ردود وتفسيرات نمطية ، في مجابهة الصور النمطية الغربية عن الإسلام. وغابت الجهود الحقيقية والواجبة لدراسة الغرب وحداثته، وإنتاج تصور علمي عنه. وأنتجت وجهتي النظر هاتين، نظرة حولاء وجزئية للغرب وحداثته ألقت بظلالها على علاقة العالمين.

وإن أي مراجعة شجاعة ،لحصيلة مجادلاتنا حول الغرب وحداثته طيلة أكثر من قرن من الزمان، تؤكد أن هناك خللاً في علاقة مفكرينا بالغرب. فكلا الفريقين العلماني ،والإسلامي، يشتركان في شعور واحد هو كونهما ممزقين بين موقفين مستحيلين بنفس الدرجة عدمية الانغلاق وسطحية التخلي عن الهوية، وكلا الموقفين: استسلام ووقوع في شرك التبعية الفكرية أو تمجيد الذات.

فلا نحن تجنبنا أخطاء الحداثة والتحديث ولا نحن أيضاً تحصلنا مباهجهما، ذلك لأن المعرفة الحقة بالغرب وحداثته ،لم تكن هي أساس تعاملنا معه. ولتظل صورة الحداثة الغربية في أفكار وواقع المسلمين، بحاجة ماسة وواجبة إلى البعد المعرفي.

المبحث الأول

الحداثة في فكر عبد الوهاب المسيري

عندما تخرج المسيري في الجامعة، كان غالب جيله من المثقفين، يدور في إطار الحداثة الغربية، وكان الغرب هو المرجعية الصامتة لهم جميعاً(1). وكان المسيري، مثل كثيرين منهم يؤمن بالحداثة الغربية وعقلانيتها ويؤمن بمقدرة الإنسان على تغيير واقعه وعلى تجاوز ظروفه، فالإنسان كما تعلم من الاستنارة الغربية- إنسان عاقل، وهو مركز الكون. (2)

الحداثة الغربية

ص: 310


1- حرفي ،سوزان، حوارات عبد الوهاب المسيريد مشق: دار الفكر، ط 1 ، ج 3 ، 2009م ، ص 57
2- المسيري عبد الوهاب، الحداثة وما بعد الحداثة دمشق: دار الفكر، ط3، 2010م، ص 12

خرج المسيري من مصر للدراسة في أمريكا، حداثياً، ماركسياً مادياً أممياً(1). وعاد منها، وقد اكتشف أن الحضارة الغربية دخلت مرحلة جديدة، وأن الفكر الهيوماني الاستناري، الذي يمنح مركزية للإنسان، ويؤكد عقلانيته ومقدرته على تجاوز ذاته وبيئته صار سلفاً مضى، لحداثة عدمية لاعقلانية بازغة تعادي الإنسان(2). وكانت هذه المرحلة، بداية تغيير الصورة الإدراكية في رؤيته للحداثة.

التحولات:

عاد المسيري، إلى مصر في نهاية الستينيات، وبدأت أفكاره تتحول عن الماركسية، وبدأ موقفه المتحيز ضد الولايات المتحدة الأمريكية في الظهور، في نفس الوقت الذي بدأت فيه أزمة الحداثة الغربية تتضح ، سواء في الشرق أم الغرب، في حين كان بعض كبار مثقفي مصر، مازالوا يتبنون الرؤية الغربية الكاملة، مما دفعه لمراجعة مسيرة العرب والمسلمين مع الحداثة.(3)

وقد ساعدته إقامته في أمريكا، مرة ثانية، حتى نهاية السبيعينات، على إعادة النظر في رؤيته للحداثة، التي ربما تكون قد تأثرت في رحلته الأولى لها بماركسيته المادية. إلا أنه لم يعد من مراجعاته تلك سوى بتزايد شكوكه في جدوى النموذج المعرفي الغربي. وليخلص من تجربته تلك، أن المواجهة على المستوى المعرفي مع النموذج الغربي للحداثة تبلغ الغاية في الأهمية.(4)

وعبر مداولاته ، مع كثيرين من أهل الفكر والثقافة في مصر والعالم العربي، ممن أطلق عليهم»التراثيون الجدد»(5)، تبلورت رؤية المسيري الفكرية الجديدة، وتحول إلى تبني النموذج الإسلامي، وتحول الإسلام لديه من كونه مجرد عقيدة يؤمن بها،

ص: 311


1- عبد الحق أسامة إعداد أمة تقاوم حوارات في الفكر والسياسة القاهرة : دار القدس للنشر، ط2، 2001م، ص 242
2- المسيري عبد الوهاب رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص 205 والمسيري عبد الوهاب، الحداثة وما بعد ،الحداثة، مرجع سابق، ص.14
3- المسيري، عبد الوهاب رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، مرجع سابق، ص 444-449
4- عبد الحق أسامة إعداد أمة تقاوم، مرجع سابق، ص 242.
5- المسيري عبد الوهاب رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، مرجع سابق، ص450

إلى رؤية معرفية للكون، تعطي إجابات عن الأسئلة النهائية، ويمكن للإنسان أن يولد منها نماذج تحليلية ذات مقدرة تفسيرية عالية(1).

الدرس المعرفي ودوره في تحولات المسيري:

تغيرت رؤية المسيري المؤمنة بالحداثة، وتبدلت صورته الإدراكية للعديد من جوانبها، من خلال تبنيه الدرس المعرفي، بعيداً عن القبول/ الخوف المرضي منها. فلم يتم الانتقال من رؤية الحداثة العقلانية الانسانية إلى الحداثة الداروينية، ولم تحل النماذج التفسيرية المركبة محل النماذج التفسيرية المادية البسيطة دفعة واحدة، بل كانت عملية طويلة شاقة، استغرقت ربع قرن أدرك خلالها أهمية البعدالديني في حياة الإنسان، واقتنع بفشل النموذج المادي وحده في تفسير ظاهرة الإنسان.(2)

فالدولة الصهيونية، مثلاً، والتي لم تكن تمثل للمسيري إشكالية فكرية أو سياسية، حسب مرجعيته الماركسية الطبقية(3)، تبين له من خلال الدرس المعرفي، أنها ليست قضية لاجئين إنسانية، وإنما هي قضية سياسية استراتيجية لها أبعاد إنسانية.وأن الدولة الصهيونية نمط ، ينتمي إلى النمط الاستعماري الاستيطاني الإحلالي في العالم، وأنها دولة وظيفية، عبارة عن قاعدة سكانية عسكرية أقيمت في منطقة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للغرب لتخدم مصالحه. (4) .

كما أنه، أيضاً، لم يعد يفصل بين الحداثة الغربية من جهة، وبعض الظواهر السلبية المصاحبة لها مثل : الإمبريالية والنازية والصهيونية، والتي كان يصنفها على أنها ظواهر استثنائية، ومجرد انحراف عن الجوهر العقلاني الإنساني للحضارة الغربية الحديثة. وبدأ يرى الحداثة الغربية (والعقلانية الغربية) في علاقتهما بالإمبريالية، التيكانت تعيق التحديث في بلادنا .(5).

ص: 312


1- المسيري، عبد الوهاب المرجع سابق، ص542
2- المسيري، عبد الوهاب ال مرجع سابق، ص 277
3- حرفي، سوزان، حوارات عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ج4، ص 22
4- حرفي، سوزان المرجع سابق، ج 1، ص 22
5- المسيري، عبد الوهاب رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، مرجع سابق، ص 77

وعلى الرغم من التأكيد الدائم للمسيري، على أهمية إنجازات الحداثة ومنافعها التي» لا بد من استيعابها والاستفادة منها »، إلا أنه كان يشدد دوماً على ضرورة سعينا لتعديل مسارها حتى نتجنب المصير البائس الذي ينتظرنا .(1)

وقد استعان المسيري، في نقده للحداثة الغربية،» بالنقد المعرفي الغربي لها، وخصوصاً مدرسة فرانكفورت، الذي أبان عن كثير من مثالب هذه الحداثة المادية الأداتية» .(2)

الحداثة من منظور عربي إسلامي:

تبلورت رؤية المسيري للحداثة، وتعمق إدراكه لمدى تركيبيتها مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، وكان ولابد له أن يراها من منظور عربي، لا من منظور غربي. فقد رأى، أن الحداثة ليست مصطلحاً محدد المعنى والدلالة فالحداثة لها تاريخ وبنية؛ تختلف من مجتمع لآخر، ومن حقبة تاريخية لأخرى، بل إنها حداثات مختلفة وليست حداثة واحدة. وأن خطابها له حدوده وسقفه، وأنه ليس مجرد أسلوب، وإنما طريقة في الرؤية» .(3)

فالحداثة المعاصرة، لا يوجد فيها مطلق، وهي تنادي بأن كل الأمور نسبية، والمنظومة الداروينية هي المهيمنة عليها . وهي حداثة منفصلة عن القيمة، تستند إلى رؤية محددة للإنسان، وهذه الرؤية ليست رؤية إيديولوجية وحسب، وإنما هي رؤية معرفية فلسفية متكاملة .(4)

ولهذا رأي ضرورة إعادة تعريف الحداثة الشائع باعتبارها استخدام العقل والعلم والتقنية في التعامل مع الواقع ، لأنه تعريف يسقط البعد المعرفي، الكلي والنهائي مشدداً على ضرورة تعريفها بأنها»تبني العلم والتقنية المنفصلين عن القيمة».(5).

نحو حداثة جديدة:

ص: 313


1- المسيري، عبد الوهاب رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر ، مرجع سابق، ص218-219
2- المسيري، عبد الوهاب المرجع سابق، ص 73
3- المسيري، عبد الوهاب المرجع سابق، ص 73
4- حرفي، سوزان، حوارات عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ج 1، ص 73، ص 166
5- حرفي، سوزان المرجع السابق، ج1، ص 166

تقع رؤية المسيري للحداثة الغربية، وبالتالي رؤيته للعالم من حوله، في النقطة التي يتقاطع فيها المطلق مع النسبي، والتاريخي مع الكوني، والإنساني مع المادي(1). وهو، يدعو إلى حداثة جديدة تتبنى العلم والتقنية، ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ؛ حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، وتنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، وتعيش الحاضر دون أن تنكر التراث، وتحترم التعاقد ولا تنسى التراحم . (2)

شروط الدخول في حداثة جديدة:

يحدد المسيري، عدة شروط لازمة لتحقيق حداثة جديدة أهمها:

أن يكون نقدنا للحداثة الغربية، نقداً كلياً، ولا يقف عند المستوى الجزئي أو التطبيقي لها، بل لا بد من الحفر عن جذور رؤيتها المعرفية، حتى يمكننا بناء حداثة جديدة تتلافى أخطاء الحداثة المادية المهيمنة.(3)

الإيمان، بأنه لا يوجد مسار طبيعي وعالمي وحتمي واحد، تفرضه وتمثله الحداثة الغربية، وأن هناك إمكانية لمسار آخر ، ونموذج آخر يستند إلى منطلقات أخرى ويدور في أطر مختلفة.(4)

أن نعيد الغرب، إلى نسبيته وتاريخيته وزمنيته، بعد أن تحول إلى مطلق، يشغل مركز الكون، وذلك من خلال استعادة المنظور العالمي والتاريخي المقارن بحيث يصبح التشكيل الحضاري الغربي تشكيلاً حضارياً واحداً له خصوصيته وسماته وتاريخه.(5).

ضرورة الانفتاح على العالم والاستفادة من التراث الحضاري والثقافي والفكري للحضارات العريقة المختلفة، التي تملك زاداً معرفياً غزيراً في فهم الإنسان والمجتمع

ص: 314


1- حرفي، سوزان المرجع السابق، ج 1، ص 48
2- حرفی ،سوزان المرجع سابق، ج2، ص220
3- عبد الوهاب المسيري، العالم من منظور غربي القاهرة: دار الهلال، 2001م، ص208-209..
4- عبد الوهاب المسيري المرجع السابق، ص 208-209
5- عبد الوهاب المسيري إشكالية التحيز القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1996م، ص55

والطبيعة، لأنه سيؤدي إلى إصلاح التشوه المعرفي الذي لحق بنا بعد سنوات طويلة من الاستعمار الغربي، تم فيها ترسيخ فكرة مركزية الغرب.(1)

إدراك أن البعد المعرفي مرتبط بالبعد الديني، الذي هو شكل من أشكال البعد المعرفي ينصرف إلى بعض الأسئلة النهائية، مثل رؤية الإنسان للكون ولنفسه والهدف من وجوده، ومن ثم ضرورة فحص العلاقات الضمنية والصريحة بين المفاهيم العلمية والعقائد والمسلمات الكامنة فيها .(2)

كل هذه الشروط، تجعلنا في أمس الحاجة إلى استعادة البعد المعرفي، في فهمنا للحداثة الغربية، حتى نعرفها تعريفاً دقيقاً مركباً، يساعدنا في توليد المشروع الحداثي العربي والإسلامي، كجزء من المحاولة الإنسانية العامة التي تحاول تجاوز الحداثة الداروينية، المنفصلة عن القيمة . (3)

حداثة، تؤسس على الدرس معرفي بعيداً عن الخوف/ القبول المرضي للغرب وحداثته، وهو الأمر الذي ينقلنا لتناول منهج الدرس المعرفي للحداثة الغربية في المبحث التالي.

المبحث الثاني

منهج المسيري في رؤية الغرب

درس معرفي، أم خوف/قبول مرضي؟

أصبحت دراسة الآخر، مسألة حتمية في عالم اليوم، الذي يموج بصراعات المصالح، والتي تتخفى تحت ديباجات دينية أو ثقافية، والتي كلفت العالم الكثيرمن الدماء، ورسخت سوء فهم عميق بين الحضارات والأديان، معلنة الصراع بين أبناء

ص: 315


1- عبد الوهاب المسيري، المرجع سابق، ص 59
2- سوزان حرفي، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق ، ج 1، ص 328. تاريخ الدخول 2016/10/16 http://www.ahram.org.eg/Archive/20031/2//Writ1.htm 50
3- راجع قراءة كتاب هويتكروفت أندرو، تاريخ الكفار القاهرة المركز القومي للترجمة، ط1، 2014م في عشماوي عماد الدين، هويتكروفت أندرو، تاريخ الكفار ، أسطور، السنة الأولى، العدد الأول 2015م، ص 200 وما بعدها

آدم، وخير مثال على ذلك الصراع بين الإسلام والغرب.

فالمسلمون والغربيون -مثل باقي المجتمعات والحضارات- لهم رؤيتهم الكونية المتميزة، وتحيزاتهم النابعة من واقعهم التاريخي والإنساني والوجودي. إلا أن هذه الرؤى والتحيزات لا تعني القطيعة مع الآخرين أو انسداد آفاق الحوار مع باقي أبناء آدم.

والمراجع لتاريخ وطبيعة العلاقات بين العالمين، يجد مصداق ذلك، فعلى الرغم من أن بداياتها تميزت بالصراع والتنافس، بسبب ظروف لحظة اللقاء، إلا أن ما زادها تباعداً ووسمها بالخلاف كانت التحيزات المتراكمة الناتجة عن العلم الزائف والدعاية ،المهيجة، والمصالح الضيقة.

فهناك نقاط ما في الماضي والحاضر-إذا وضعنا أيدينا عليها-تمثل الأساس المنطقي للتنافر العميق بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وتوضح كم العنف والكراهية المتخلف عن هذا التنافر . من هذه النقاط، تحديداً، يبدأ إكتشاف تاريخ العلاقات المتوترة بين العالمين، لنضع أيدينا على كيفية اختلاط التاريخ بالأسطورة، والحقيقة بالخرافة، والمصالح بالمعتقدات في علاقات العالمين(1)، لتنتج لنا الخوف المتقابل الحاصل اليوم.

وقد لعبت مؤسسات الفكر والإعلام والثقافة جنباً إلى صراعات السياسة والمصالح -في الجانبين، دوراً محورياً في توتر هذه العلاقات، عبر ما أنتجته من دعايات مغرضة، ورؤى غير معرفية مغلوطة، عمقت أسباب سوء الفهم، لتجعل الإساءة والكراهية عقدة مزمنة.

فليس من الضروري أو الحتمي، استمرار الصراع وسوء الفهم والخوف المتبادل، كما تنحو الدعايات المنطلقة من السياسي المصلحي الاقتصادي والمحملة بديباجات دينية من قبل المتلاعبين بالأفكار والعواطف على الجانبين. فحقائق الحياة المعاشة وجوهر الحضارتين تشيران إلى عكس ما يثار في جانبي التحريض.

ص: 316


1- المسيري عبدالوهاب، فى أهمية الدرس المعرفي، إسلامية المعرفة، السنة الخامسة ، العدد 202000م، ص 109-110

ومن هذه الحقائق، ومن خلال نهج الدرس المعرفي، ينبع الأمل في مستقبل أفضل للعلاقة بينهما.

فا لدرس المعرفي، يحقق وعي كل حضارة بذاتها وهويتها، ووعيها للمجتمعات والحضارات من حولها على الوجه الصحيح، مما يهيىء المجال لعلاقات إيجابية، بعيداً عن الخوف أو القبول المرضي للآخر .

ما المعرفي؟

«المعرفي »عند المسيري، يعني الكلي والنهائي ، ويشمل «كل» الشيء في جوانبه كافة؛ ما يقع منها تحت حكم الحواس وما لا يقع، ويعني أقصى ما يبلغه الشيء، وغايته . فالمستوى المعرفي، هو ذلك المستوى الذي يتم فيه إدراك الحقيقة الكلية والنهائية الكامنة وراء ظاهرة أو نص ما من خلال بناء النموذج التحليلي(1) .

والنموذج التحليلي، هو بنية تصورية يجردها عقل الإنسان، ثم يرتبها وينسقها بحيث تصبح مترابطة ومماثلة للعلاقات الموجودة بين عناصر الواقع. فهو، عملية تجريدية تزيح التفاصيل التي يراها الباحث غير مهمة وتبقى السمات الأصلية الجوهرية للشيء، والتي تشكل في واقع الأمر إجابة النص أو الظاهرة على الأسئلة الكلية والنهائية حول الإنسان والإله والطبيعة .(2)

أهمية الدرس المعرفي(3)

يؤكد المسيري، أن الدرس المعرفي مهم في كل العصور ، لكنه صار أكثر أهمية اليوم نتيجة لأن واقعنا ليس من صنعنا، ومن ثم تطرح علينا أسئلة وقضايا جديدة تؤثر على وجودنا وثقافتنا وهويتنا إذا لم نتسلح بأرضية معرفية صلبة، في ظل حضارة مهيمنة، تساندها مراكز بحوث ضخمة وبآليات بحثية لم يشهد مثلها البشر من قبل.

ص: 317


1- المسيري، عبدالوهاب المرجع السابق، ص124-125
2- المسيري، عبدالوهاب المرجع السابق، ص124-125
3- حرفي، سوزان حوارات المسيري ، ج 3 ، مرجع سابق، ص21

الدرس المعرفي مدخلاً لفهم جديد للغرب والإسلام :

ينطلق المسيري، من الدرس المعرفي سبيلاً للفهم المتبادل بين عالمي الإسلام والغرب، مؤكداً أن محاولات النظر في الواقع، دون إدراك البعد المعرفي يخلق الوهم بأننا ننتج معارف ليست في حقيقتها سوى تناولاً سطحياً للأمور، يمكنه أن يملأ الفراغ ويريح النفوس، ويبدد الطاقة الإيجابية الإبداعية، ويخلق شعوراً زائفاً بالطمأنينة، لكنه لا يحقق ثمرة في فهم العلاقات بين العالمين في تاريخها وتطورها ونقاط التقائها وخطوط انقطاعها.

فالدرس المعرفي، يوفر عملية نقد شاملة للعالمين، تسهم في بناء الجسور الجديدة التي يمكن أن تصل بينهما، لأنه لا يقف عند المستوى الجزئي أو التطبيقي فيهما، لكنه ينصرف إلى مجمل البناء النظري للحضارتين فيمكننا من الانتقال للأبعاد الحقيقية لعلاقاتهما، ومن ثم يمكننا من التعرف على« العديد من العناصر داخل الحضارتين التي قد تساعد في تجاذبهما، وفي نفس الوقت قد تكون هي ذاتها عناصر طرد ...لأنها في الأغلب كانت عناصر توتر بينهما».(1)

النموذج الاجتهادي الجديد:

يعتقد المسيري، أن الدرس المعرفي للإسلام والغرب، من خلال تبني النموذج الاجتهادي الإسلامي المعرفي(2) ، ينتج مقولات تحليلية ذات مقدرة تفسيرية عالية للتعامل مع الذات والآخر ومنطلقاتهما ونموذجيهما المعرفيين اللذان يفسران بهما الأمور من حولهما، ورؤيتيهما للإله والأرض والذات والزمان والآخرة، ودوافعهما الإنسانية الأخلاقية. وتمنحنا رؤية موضوعية اجتهادية للذات وللآخر، تسهم في تمهيد السبيل لعلاقة إيجابية بينهما .

وهذا النموذج الاجتهادي، عملية معرفية مزدوجة ، نقوم فيها بتجريد نموذج الغرب

ص: 318


1- المسيري عبد الوهاب نحو نموذج تفسيري اجتهادي»، إسلامية المعرفة، السنة الرابعة، العدد السادس عشر ،1999م، ص 150 وما بعدها.
2- حرفي، سوزان حوارات المسيري ، ج 2، مرجع سابق، ص 68-69

وتجريد النموذج الإسلامي، ثم مقارنة الواحد بالآخر لفهم كليهما، ولفهم إجابتهما على الأسئلة الكلية النهائية، ثم تطبيق هذا النموذج على علاقتهما حتى نتمكن من:

إدراك دوافع العالمين، وعقائدهما وهويتهما، حسب منطقهما ودوافعهما.إدراك أن العداء أو السلام بينهما له تاريخ يمكن دراسته، وله أسباب ودوافع يمكن الكشف عنها والتعامل معها، مما يساعدنا في التفرقة بين الدعاية للفكر أو ضده وبنية الفكر، ومن ثم اكتشاف أسباب سوء الفهم(1).

التنبه إلى خطورة الاختراق المعرفي للهوية، عبر القبول/ الخوف المرضي، في ذات الوقت الذي يؤكد على المقدرة على الحوار مع الذات ومع الآخر من خلال الثقة في الذات.

التخلص من المخزون الإدراكي المشبع بالهزيمة أو بالمركزية المفرطة، ومن الاختزال والتبسيط المخل اللذان يتسببان في علاقة متوترة بين العالمين (2) .

اكتشاف عيوب طرقنا ووسائلنا وقبلها مناهجنا السابقة، في تناولنا لعلاقات العالمين . ويهدم ما كان يسمى وهو كثير - افتراضات تاريخية تقيلدية راسخة عن ذاتنا وعن الغرب، ويدلنا على صور تثبيت الأسطورة عن الآخر، عبر: اللغة وآلياتها، والدعاية وفنونها، والهيمنة وأدواتها والمصالح وتحكماتها، والتعصب ومنتجاته، حتى صار الخوف والكراهية هما سيدا الموقف في علاقات العالمين.

من الخوف / القبول المرضي إلى الدرس المعرفي:

:أولاً : نقد القبول المرضي للحداثة الغربية)

قام المسيري، بنقد مناهج الحداثيين العرب في فهم الغرب، مؤكداً أنه لم يلمح رؤية عربية حديثة جديدة لتاريخ الفلسفة الغربية نابعة من أرضيتنا الحقيقية الفلسفية،

ص: 319


1- حرفي، سوزان المرجع السابق ، ج 1، ص 268. http://www.moheet.com
2- حرفي، سوزان المرجع السابق، ج2، ص 141، ص 195-196، ص243. وراجع أيضا حوار مع المسيري على الرابط التالي تاريخ الدخول 2016/10/16 [3] المسيري ، عبد الوهاب، في أهمية الدرس المعرفي»، مرجع سابق، ص 118.

وكل ما لاحظه لم يكن سوى رؤى ماركسية وليبرالية نابعة من الأرضية الغربية؛ لكن لم يقف أحد الفلاسفة العرب على أرضيته الحقيقية الفلسفية، لا كما يراها الآخر وإنما كما نراها نحن ثم يحاول رؤية الغرب وحداثته.

فالخطاب الحداثي في العالم العربي والإسلامي، خطاب تبشيري وغير مدرك الجوانب الحداثةالمظلمة، ومشبع بمخزون إدراكي بالهزيمة يتحكم في رؤيته للغرب . حتى أن معظم دعاة الحداثة في العالم العربي تجاهلوا مثالبها، ولم يهتموا للأطروحات الغربية التي تتوجه لها بالنقد.

وهذا القبول المرضي للحداثة الغربية، أنتج معارف خاطئة، ومقولات التحليلية مقتصرة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لم تصل إلى المستويات المعرفية التي تتعامل مع المسلمات الكامنة في الفكر، والتي تشكل إجابة عن الأسئلة النهائية التي تواجه الإنسان في الكون، مما يجعلها عاجزة عن تحديد الهوية في مقابل الآخر، في ذات الوقت الذي تتخذ فيه شكلاً مرضياً متطرفاً في القبول بالآخر، مما يشكل خطراً على مسار العلاقة مع الغرب، حيث تحول من علاقة ندية وأخذ وعطاء إلى تبعية عمياء.

فهذا الخطاب ،من الناحية المعرفية، يعد عملية تبسيط وتسطيح للواقع المركب لإقناع الناس بما يطرحه من تصورات عن الغرب وحداثته؛ إما لطمأنتهم لجدوى تبنيها، أو لشحذ همتهم في الدفاع عنها قد تفيد في المدى القصير، لكن على المدى البعيد فإنها ستلحق بنا أبلغ الضرر.

وهذا الخطاب، ينطلق من القبول المرضي لميراث الفكر المعرفي الاستناري الذي يهمش المعرفي لحساب السياسي أو الاقتصادي، ويظل بعيداً عن البعد الكلي والنهائي المجرد. ويهيمن عليه قدر كبير من الاختزال، يجعله يفترض وجود استمرارية بين غرب الماضي والحاضر والمستقبل (1).

ص: 320


1- سوزان حرفي، حوارات المسيري، مرجع سابق ، ج 1 ، ص 228 ، ص 230 231 ، ص 261 ، ص 273؛ وسوزان، حرفي، 1، 231230، حوارات المسيري، مرجع سابق، ج 3 ، ص 93 ،وسوزان حرفي، حوارات المسيري، مرجع سابق، ج4، ص273-274 ،حرفي، سوزان، المرجع السابق ، ج 3 ، ص 57-60، ص73، ص95-97

وهو خطاب تبشيري كسول، يواجه الواقع بصيغ إدراكية بسيطة وبقوالب لفظية وصور نمطية جاهزة فيقول دائما»الغرب هو الحل»، بدلاً من الاجتهاد والبحث عن الأسباب واكتشاف العلاقات المتشابكة في الواقع، والتي تنشأ علاقة سوية معه.ولهذا يرفض المسيري هذا الخطاب، لأنه عقبة حقيقية في سبيل بناء علاقة إيجابية بين العالمين.

ثانياً: نقد الخوف المرضي من الحداثة الغربية(1)

ينتقد المسيري، الخطاب الإسلامي التقليدي، المنغمس في الخطاب التآمري في رؤيته للغرب، لأنه يشوه رؤيتنا له، مؤكداً أن هذا الخطاب، مثل سابقه العلماني، خطاب مشبع بالهزيمة التي تتحكم في مخزونه الإدراكي للغرب، وهو ما يعد من أهم مصادر سوء فهمه للحداثة.

ويعتقد المسيري ،أن غياب الأرضية المعرفية الصلبة في فهم الإسلام والغرب، يشكل خطورة كبيرة على العقل الإسلامي ذاته، مؤكداً أن الخوف المرضي من الغرب، هو نتاج محاولات النظر في الواقع دون إدراك البعد المعرفي، مما يخلق الوهم بأننا ننتج معرفة حقيقة بالإسلام وبالآخر، في حين أن هذا الخطاب من الناحية المعرفية، يعد عملية تبسيط وتسطيح للواقع المركب، لإقناع الناس بما يطرحون من تصورات عن الإسلام من ناحية والغرب وحداثته من ناحية أخرى؛ إما لتخويفهم أو لشحذ همتهم للصراع معه، قد تفيد في المدى القصير، لكن على المدى البعيد فإنها ستلحق بنا أبلغ الضرر.

فالرؤية السطحية، التي تكتفي بالسياسي والاقتصادي والتبشيري، وتستبعد المعرفي هي جزء من ميراث التقليد والجمود في تراثنا الإسلامي، حتى صارت الحداثة بالنسبة لكثير من الإسلاميين هي الحداثة الكافرة، أو هي أسلمة الحداثة - كما يحاول بعضهم- بعد أن تكتب عليها «بسم الله الرحمن الرحيم»، دون أي رؤية معرفية لما وراء التحديث وآثاره.

ص: 321


1- راجع الرابط التالي تاريخ الدخول 2016/10/17: http://www.aljazeera.net

وينعت المسيري، هذا الخطاب بالكسل، لأنه يميل إلى التبسيط والاختزال، ويواجه

الواقع بصيغ إدراكية بسيطة وبقوالب لفظية وصور نمطية جاهزة فيقولون دائما »الدين هو الحال»، بدلاً من البحث والاجتهاد عن الأسباب، واكتشاف العلاقات المتشابكة في الواقع.

ويرفض المسيري، كثيراً من المقولات الناتجة عن هذا النموذج التحليلي الفوتوغرافي، الذي يدعي، أن سبب العداء الغربي للمسلمين هو اللوبي الصهيوني واليهودية العالمية، التي تحرض الغرب ضدنا، أو أن الغرب لا يزال صليبياً يحاول تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين، لأنها كلها مقولات قاصرة عن تفسير ظاهرة في شمول وعمق التوتر المتصاعد في العلاقة بين الإسلام والغرب.

ثالثاً: الخوف المرضي في الغرب (1)

توجه المسيري، بالنقد لرؤية الغرب للإسلام والمسلمين، لأنها الوجه الآخر للخوف القبول المرضي عند المسلمين المؤدي لسوء الفهم والخوف المتقابل بين .العالمين. فقد اعترض على مفهوم الإسلاموفوبيا، لأنه يخرج الظاهرة من إطارها التاريخي إلى إطار نفسي، وبالتالي يفقدها أبعادها الزمنية والاجتماعية والتاريخية ويجعلها مستعصية على التفسير.

فعلاقة الجوار بين الحضارتين، ووضع الأديان الثلاثة في إطار التوحيد المتجاوز للطبيعة والتاريخ، ووجود الأقليات المسلمة الضخمة في الغرب، يمكن أن تكون عناصر تجاذب كما يمكن أن يكون عناصر أو تنافر وتوتر، حسب طريقة تناولنا لها وتعاملنا معها.

ويرفض المسيري ،أيضاً، ما يقال في الغرب عن حقد المسلمين على الغرب، بسبب الاستقرار السياسي والتقدم التكنولوجي والاقتصادي اللذين يتمتع بهما، أو إنهم (أي المسلمين وقعوا أسرى الماضي بدلاً من بذل الجهد اللازم ليلحقوا بركب الحداثة والتقدم، ولذا أخفقوا في تحديث مجتمعاتهم، الأمر الذي يزيد من عدائهم للغرب.

ص: 322


1- حرفي، سوزان حوارات المسيري، ج3، ص28

لكنه، يشدد على أن فشل الغرب في رصد الخطاب الإسلامي وتطوراته وأسبابه الصحيحة،جعل الصدام بين الإسلام والغرب على حالته الراهنة(1). ويعتبر الإسلاموفوبيا الصاعدة في الغرب اليوم، رد فعل للحداثة والعلمانية بصيغتهما المادية الشاملة التي نزعت القداسة عن العالم بأسره، وعجزت أن تزود الناس بأية أجوبة عن الأسئلة الكبرى الحقيقية في الحياة.(2) مؤكداً على أن كل هذه الأمور، تحتاج إلى درس معرفي وليس إلى خوف مرضي من الإسلام.

هل يدعو المسيري لكراهية الغرب؟

يعتقد الكثيرون، خطأ ، أن المسيري قد شن حملة شعواء على الحداثة الغربية، وأنه قد جانبه التوفيق في طريقة عرضه لمثالبها، وأنه مثقف نوستالجي يجترح معجزات النقد لكي يستعيد لحظته الذهبية، إذ يضفي على النقد وظيفة ماضوية تحيله إلى متكأ ومسوغ سلفي للرجوع نحو الإسلام الجوهراني المحددكهوية ثابتة متعالية على التاريخ(3).

وأنه، حاول القيام بمهمة تطهيرية للثقافة العربية والإسلامية من أوضار الغرب وشروره. وليس هذا وحسب، بل إن كتبه مخلوطة وسريعة استفادت منها الحركات الإسلامية المتطرفة في رفض الحداثة بشكل غير صحيح و مغرض(4) .

والبعض، ينتقد بعض تفسيراته التي تتخذ لها طابعاً مؤدلجاً وسياسياً، مثل رؤيته ل

«الحداثة الداروينية»، التي ترمي إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية توظف لصالح الأقوي مقابل الحداثة الانسانية(5).

والبعض الآخر، يذهب أنه سحب«الخطاب العقلي الأداتي» و«الخطاب

ص: 323


1- حرفي ،سوزان المرجع السابق ، ج 3 ، ص 27
2- الماجد ،نذیر علمانية المسيري وحداثة تورين الحياة اللندنية، على الرابط التالي تاريخ الدخول 2016/10/16 http://www.alhayat.com/
3- السيد رضوان عبد الوهاب المسيري ولعنة الغرب، على الرباط التالي: تاريخ الدخول2016/10/16 http://www.voltairenet.org/article157654.html
4- لجميل، سيار، المسيري : الرحيل الأخير ، على الرابط التالي: تاريخ الدخول 2016/10/16 http://sayyaraljamil.com/20081410/22/07/.html
5- يوسف، مجدي، من التداخل إلى التفاعل الحضاري القاهرة : دار الهلال،2001م،ص301

النقدي» في الفلسفة الغربية الحديثة، على التوجه العربي العقلاني النقدي، في مواجهة التسلط اللاعقلاني السلفي بكل رومانسيته اللاتاريخية وأحلامه الوردية.(1)

ويذهب آخر، إلى أن منهجه» قام على ثنائية جامدة بين العلمانية والرؤية الإسلامية، وقاده هذا المنهج إلى النتائج التي كان يريدها ( كشف نتائج الحداثة العلمانية بما فيها من استنارة مظلمة وعلمانية متوحشة يختفي فيها الإنسان والإله)، لكنه اصطدم بنتائجه عندما شرع في التوفيق بين الرؤية الإسلامية والعلمانية .(2)

وهذه الانتقادات وغيرها، يمكن التحاور معها. لكن أول ما يعاب عليها، أنها تتهم المسيري، بنفس ما وقعت فيه عند نقدها له، ففيها الكثير من التعجل والأحكام المسبقة والتأويلات غير المعرفية.

فالقارىء لأعمال المسيري، سيجد أنه فعلاً، قد نقد الحداثة بكل قوة، ولكن من منظور ينطلق من خوف حقيقي على الإنسانية من جوانبها المظلمة. فلم يرفض العقلانية ولا العقل، لكنه رفض العقلانية الأداتية والمادية الوثنية الكافرة بكل قيمة إيمانية أو إنسانية.(3)

وهو، لم يشن حملة شعواء على الثقافة والعقلانية الغربية، ولا يقول أنهما شر مطلق، وإنما يؤكد على أن«إنجازات الحضارة الغربية إنجازات عظيمة يمكن لكل البشر الإفادة منها، ولا يقلل أبداً من القيمة الإنسانية لهذه الإبداعات». موضحاً أن بروز الهجوم على المادية «والتسلع» و «التشيء» في كتاباته، يعود إلى أن التشيء قد سيطر العالم(4).

وخطاب المسيري، في نقد الحداثة، خطاب فكري معرفي وليس خطاباً شعبوياً

ص: 324


1- أبوجبر،حجاج ، هل يمكن أسلمة المعرفة؟»، موقع منتدى العلاقات العربية، على الرابط التالي، تاريخ الدخول 2016/10/16 http://fairforum.org
2- سوزان حرفي، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق ، ج 3 ، ص 26-28
3- راجع حوار نواف القديمي مع المسيري على الرابط التالي: تاريخ الدخول 2016/10/16 http://archive.aawsat.com
4- المرجع السابق مباشرة

سياسياً. فقد كان واعياً تماماً لضرورة التخلص من التبعية للفكر الغربي التي قطع فيها عالمنا الإسلامي شوطاً كبيراً، على نفس الدرجة التي كان مدركاً فيها أن مسألة بناء حداثتنا المنشودة على الأرض على جميع المستويات، تحتاج إلى تركيز أكبر من قبل مجددي الفكر الإسلامي، لأنها مازالت في بداياتها (1).

وليس ذنب المسيري، أن تستفيد منه الحركات المتشددة في نقدها للغرب، فما يدعو إليه واضح جداً، ويعتمد على مركزية الإنسان كإنسان في هذا الكون، فهو ليس لديه مشكلة مع العلمانية الجزئية، وإنما إشكاليته الرئيسية مع العلمانية الشاملة التي تسقط القيمة وتتمحور حول المادة.(2)

لقد حاول المسيري، السعي لتأسيس حداثة عربية إسلامية جديدة تستفيد من تجارب الآخرين ورؤاهم وأخطائهم أيضاً، لكنه لم يدع لكراهية الغرب أو هجاءه.

الدرس المعرفي والحوار مع الغرب:

يشدد المسيري، على أن دخولنا في حوار بناء بين عالمي الإسلام والغرب، ينفي الخوف المتقابل بينهما، يحتاج منا أن نصفي حسابنا مع العداء للحداثة والإسلام معاً. والدرس المعرفي، هو المقدمة الرئيسية اللازمة لذلك، ثم تأتي بعده باقي العوامل: السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها .

فالعالم، تسوده اليوم حضارة إنسانية واحدة، والغرب ليس كياناً واحداً، ولكنه به كثير من ألوان الطيف والتعدد السياسي والديني، وعنده تجارب معرفية حضارية ثرية يجب الاستفادة منها والبناء عليها . لهذا يجب ألا يتسم موقفنا منه بالقبول الكامل أو الرفض الكامل، ولكن يجب أن يقوم وفق معايير احترام المصالح المتبادلة والعدالة والمشترك الإنساني العام (3)

ص: 325


1- سوزان حرفي، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ج3، ص199-200
2- المرجع السابق، ص104
3- المرجع السابق، ص23، ص41

ويؤكد المسيري، أنه من خلال استعادة البعد المعرفي، سنتعرف على طبيعة الحداثة في تطورها التاريخي وجوانبها المضيئة والمظلمة معاً، وحقيقة الإسلام ومجتمعاته ومعتقداته ، لنكتشف أن الرؤى المقدمة من الجانبين، حتى الآن لا تعبر عن الغرب أو الإسلام، وإنما هي انعكاس لرؤى أصحاب المصالح، من أصحاب التوجهات الشعبوية السياسية أو الاقتصادية المصالحية، أو التقليدية الجامدة الرافضة للإسلام وللغرب على الجانبين.

والدرس المعرفي، سيوسع رؤيتنا لأسباب الخلاف والصراع العالمين، وبدلاً من تفسير الإسلام بحسبانه هرطقة مسيحية وانحراف عن الجوهر الديني الصحيح، وتفسير الإنجيل على أنه كتاب مقدس محرف، أو أن اليهود شعب الله المختار أو المسيحيون ملح الأرض ونور العالم، أو المسلمون خير أمة أخرجت للناس بالإطلاق في كل زمان ومكان، ستكون تفسيراتنا معرفية.(1)

الدرس المعرفي مدخل للفهم المتبادل :

يوفر الدرس المعرفي، معايير واضحة يمكن الإحتكام إليها، في بناء رؤية وفهم سليمين بين الإسلام والغرب تؤدي إلى :

إخراجنا من رؤية الغرب لذاته ،كمركز، ورؤيتنا له ك» قطب» ندور حوله سواء أحببناه أو كرهناه، ويعيده إلى حجمه الطبيعي كتشكيل حضاري إنساني ضمن تشكيلات كثيرة، يمكن فهمها والحوار معها . ويعيد رؤيتنا لهويتنا وذاتنا إلى حجمها الطبيعي، التي تنفي عنا الخوف المرضي أو تضخم الذات الذي يخفي عيوبها، فكلتا الرؤيتين مضطربتان وتؤديان إلى توليد التوتر والصراع.(2)

التأكيد على أن النزاع بين العالمين، هو صراع بين رؤيتين للعالم، تُعرف كل منهما المفاهيم بطريقة مختلفة، نتيجة لأسباب وسياقات مختلفة(3)، مما يرينا المشاكل

ص: 326


1- المرجع السابق، ص33، ص41
2- المرجع سابق، ص33
3- المرجع السابق، ص 60-61

بينهما في أبعادها الشاملة، وليس في جوانبها الدينية أو السياسية فقط، فنتعمق في جذورها التاريخية والاجتماعية، فيصبح السياسي والاقتصادي والتأويل الديني نتيجة وتتويج لرؤية معرفية شاملة . وهو الأمر الذي يسهم في إغناء فهمنا لواقع علاقات العالمين والتعامل معه قبل الحكم الأخلاقي عليه.

صياغة نقد على المستوى المعرفي، للنموذج الفكري الغربي ينبع من مقولاتنا التحليلية، يميز بين النموذج الفعال في المجتمعات الغربية الذي يحاول محو الذاكرة التاريخية، وبين النموذج الفردي الذي يدير الإنسان الغربي حياته من خلاله، حيث تقيم الذاكرة في وجدان الأفراد وتحركهم.

فهم حقيقي لجوهر الحداثة، ورؤيتها المعرفية، وغاياتها النهائية، باعتبارها الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، يؤدي لإنتاج خطاب جذري توليدي استكشافي لا يحاول التوفيق بين الحداثة والإسلام، ولا يشغل باله بالبحث عن نقط التقابل بينهما، ولكنه يحاول اكتشاف معالم المنظومة الغربية الحديثة (باعتبارها رؤية كاملة للكون) والإمساك بمفاتيحها مع الاحتفاظ بمسافة بينه وبينها (1).

عودة صحيحة للمنظومة الإسلامية، بكل قيمها وخصوصيتها الدينية والأخلاقية والحضارية، نستنبط منها ونستكشفها ونحاول تجريد نموذج معرفي منها، يمكننا من توليد إجابات على الإشكاليات التي تثيرها الحداثة، وعلى أية إشكاليات أخرى جديدة في علاقتنا بالغرب، تطرح» الإسلام رؤية معرفية شاملة للكون»، تمكننا التعامل مع كل من اليومي والمباشر والسياسي، والكلي والنهائي في علاقتهما .(2)

الدرس المعرفي يمكننا من تقديم خطاب جديد، ليس للمسلمين وحسب،« وانما لكل الناس» حلاً لمشاكل العالم الحديث، تماماً مثلما كان الخطاب الإسلامي أيام الرسول عليه الصلاة والسلام . (3)

ص: 327


1- المسيري عبد الوهاب، أهمية الدرس المعرفي»، مرجع سابق، ص 121 وما بعدها
2- سوزان حرفي، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ج3، ص68
3- سوزان حرفي، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ج 1، ص 90، ج 3 ص 114

إنتاج رؤى، تصدر عن مفاهيم الله الرحيم العادل رب العالمين، والعدل والمساواة في الإسلام، التي تؤمن بفكر التدافع، وأن العالم ليس في حالة جمود وانما حالة حركة. وأن التدافع ليس بالضرورة الصراع. ونحن لسنا بمفردنا في هذا العالم، مما يعني قبول التعايش مع الآخر، واكتشاف الرقعة المشتركة معه، وتوسع آفاق الإيمان الديني، التي تجعل للآخر مكانا في عالمنا(1) .

فمنهج الدرس المعرفي، هو المدخل الأكثر تفسيرية، في فهم علاقة الإسلام بالغرب، وهو أساس أي وسائل وأدوات نتخذها معينات لبناء جسور التواصل، وتنفي الخوف المتقابل بين العالمين كما سنبين في الفصل التالي .

المبحث الثالث

الدرس المعرفي في التطبيق

فقه التحيز، وعلم الأزمة، والحوار المتعدد

يعود الصراع والتنافس بين عالمي الإسلام والغرب، إلى لحظة التقاؤهما . فقد اقترن الإسلام في الوعي الجمعي الغربي، بمنظومة من التمثلات والصور الذهنية الحاضرة باستمرار في وسائل الإعلام وقنوات تشكيل الرأي العام، والمستوحاة من مسبقات جاهزة ،تغذيها مصالح الاقتصاد وأطماع السياسة وأعباء التاريخ، المستندة إلى مراكز الأبحاث والدراسات بكل إمكاناتها.

في ذات الوقت ،الذي تقترن فيه صورة الغرب في تصورات ووعي المسلمين الجمعي، بالاحتلال والانحلال والكفر والطغيان وفقدان القيم والمبادىء، والحقد على الإسلام والمسلمين، التي يزيدها عبء التاريخ، والرؤى المتطرفة والجامدة التي تنشرها الجماعات المتطرفة والمؤسسات الجامدة في عالمنا الإسلامي قتامة وسواداً.

ومع ذلك، فالمشكلة بين العالمين ليست في هذه الصور المنفرة على الجانبين،

ص: 328


1- سوزان حرفي، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ج3، ص24

ولا في عدم إمكانية التعايش بينهما ، ولكن في افتقاد الأسس المعرفية التي تمهد لهذا التعايش، في ظل استمرار الغرب كبيراً للمعتدين على عالم الإسلام، وبقاء التعصب والتقليد هو السمت المخيم على رؤية المسلمين للغرب.

الأسباب التي تؤدي إلى التوتر والصراع الغربي الإسلامي:

يرى المسيري، أن أهم العوامل تباعد بين العالمين الإسلامي والغربي هي :

التطرف في تحديد هوية الذات في مقابل الآخر. فالإنسان دائماً يحدد هويته في مقابل الآخر، وهذا أمر عادي وحتمي في معظم الأحوال. ولكنه إن أخذ شكلاً متطرفاً

فإنه يشكل خطراً، إذ أنه يمكن أن يتحول من إحساس كامن إلى صراع ساخن(1).

السياسيين والإعلاميين والمتطرفين الدينيين، الذين يؤججون نار العداوة بين العالمين.

التدخل العسكري الغربي في الدول العربية والإسلامية، أحد الأسباب التي أدت إلى وجود الغربوفوبيا المنتشرة اليوم بين المسلمين .(2)

العمليات الإرهابية التي تحدث في أوروبا، تجعل الغربيين يصابون بما بات يعرف بالإسلاموفوبيا.

رفض عدد من المسلمين المهاجرين ، لهوية المجتمعات الغربية ومبادئها الأثيرة، مما يزيد من الإسلاموفوبيا في الغرب.

الأقليات المسلمة الكبيرة في الغرب، التي تتسم بقدر كبير من التماسك الإثني والديني ، تعد مصدر قلق على هوية الغربيين من خلال هذا التماسك الذي يبدو غريباً في عالم معلمن تماماً.(3)

«التمركز حول الغرب»، يزيد التوتر بين العالمين، فالغرب قد تمركز حول ذاته

ص: 329


1- المرجع السابق، ص21
2- المرجع السابق، ص 25
3- المرجع السابق، ص 28

وجعل من نفسه مرجعية نهائية،ومعياراً يحكم به على كل الظواهر والحضارات الأخرى

، ونظرته لبقية العالم من منظور غربي محض(1) ، يزيد في تكريس الغربوفوبيا في عالم المسلمين.

نقاط التشابه بين العقيدتين الدينيتين الإسلامية والمسيحية في كثير من الأحيان،

قد تؤدي إلى التوتر بسبب سوء الفهم والتأويل .(2)

الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحكم الواقع وتوجهه، غلبت العناصر السلبية على العناصر الإيجابية في العلاقة بين العالمين. فالعالم الغربي (السياسي) لا يعادي الإسلام بشكل مطلق ، وإنما يعادي الإسلام المقاوم ، أما الإسلام المهادن المستسلم، فالعالم الغربي على استعداد أن يوظفه لحسابه ويتعاون معه.(3)

الحداثة الغربية الداروينية ، التي ترجمت نفسها إلى شره استهلاكي، وإلى تشكيل إمبريالي لا يشبع معتمداً على الطاقة التي يستهلكها كالحيوان الجائع، هي العنصر الحاسم الذي أجج الصراع بين العالمين(4).

نقاط التلاقي:

أهم نقاط التلاقي بين الإسلام والغرب، تتمثل في:

1- نقاط التشابه بين العقيدتين الدينيتين الإسلامية والمسيحية، تؤدي إلى التقارب والتفاعل، إن أحسن فهمها وتفسيرها وتوصيلها. فالعقيدة الإسلامية تشترك مع العقيدة المسيحية في الإيمان بإله متجاوز للطبيعة والتاريخ، وهو إله العالمين، كما أن الرؤية

الإسلامية والمسيحية تفترض المساواة بين البشر .(5)

ص: 330


1- المرجع السابق، ص22
2- المرجع السابق، ص 26
3- المرجع السابق، ص 27
4- المرجع السابق، ص 22-23
5- المرجع السابق، ص 21

2 -علاقات الجوار بين العالمين، فنحن نقتسم مع الغرب حدود البحر الأبيض المتوسط

، وثمة عناصر مشتركة وإيكولوجية مشتركة وحدود مشتركة أيضاً، مما يجعلها تصلح أساساً للتفاهم والحوار(1).

3 - وجود الأقليات المسلمة في الغرب، يمكن أن يكون جسراً بين العالمين، إذا أحسن التعامل معها (2).

آليات بناء علاقات إيجابية بين العالمين:

يؤكد المسيري، في طرحه لبناء علاقات إيجابية بين العالمين، واقتراح آليات تسهم في ذلك، على ضرورة اكتشاف النموذج الإدراكي المهيمن على رؤية كل من العالمين للآخر أولاً، ثم تحويله إلى نموذج تفسيري نستخدمه في تفسير سلوكهما. لأن كل نموذج منهما ، له بعده المعرفي ، ومعاييره الداخلية التي تتكون من : معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية والتي تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق ، وتزوده ببعده الغائي.

وقد أنجز المسيري، هذا التصور من خلال الدرس المعرفي، لامن خلال تقبل الأطروحات السائدة أو من خلال عملية رصد خارجية لأحداث لا معنى لها، تتم على الساحة، وإنما من خلال مراقبته لبشر لهم رؤية نماذج إدراكية)، تحدد استجاباتهم وتوقعاتهم وبالتالي سلوكهم (3).

ومن هنا اقترح الآليات التالية لبناء علاقة إيجابية بين العالمين.

أولاً: فقه التحيز

يؤكد المسيري، أن قضية التحيز هي أهم إشكالية في تناول العلاقات بين العالمين. فالمناهج وآلياتها التي يتم استخدامها في الوقت الحاضر في تناول

ص: 331


1- المرجع السابق، ص 25
2- المسيري، عبدالوهاب رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص 520
3- عشماوي عماد الدين جهود عبد الوهاب المسيري في بناء فقه التحيز ، بحث قيد النشر بدورية نماء، ص6

العلاقات بينهما، ليست محايدة تماماً، لكنها تعبر عن مجموعة من القيم التي تحدد مجال الرؤية ومسار العلاقة، وتقرر مسبقاً كثيراً من النتائج بينهما، ومن ثم فإن إدراك تحيزها، سيؤدي لكشف ماهو ذاتي أو مخصوص أو نسبي أو إقليمي فيما يتصوره كل عالم عن الآخر .(1)

ومن هنا أهمية فقه التحيز، في بناء علاقات إيجابية بين العالمين، تحررهما من معظم هذه التحيزات. ففقه التحيز، ليس مجرد تفكيك لمقولات النموذج المعرفي الذي يحكم علاقات العالمين، وكشف تحيزاتهما، لكنه، طموح لتأسيس مشروع بناء علم جديد يفتح باب الاجتهاد من جديد بخصوصها، له آلياته ومناهجه ومرجعيته.

وينطلق فقه التحيز، من نقطة ذاتية، تتعلق بإفصاح كل جانب من جانبي العلاقة عن تحيزاته الناتجة عن النموذج المعرفي الذي يتبناه، بشكل أكثر وضوحاً وتحديداً، وتجميعها، للتعرف على جوانب التحيز في المنهج وأدواته ومفاهيمه ومصطلحاته، لنصل إلى تعريف إشكالية التحيز، وتطوير حلول تؤدي إلى ظهور نموذج معرفي بديل، يسمح ببناء علاقة على أسس أقل تحيزاً وبالتالي أكثر إيجابية بين العالمين.

ويؤكد المسيري أن نجاحنا في بناء فقه التحيز يمكن أن يحوله إلى نموذج عالمي إنساني، يستند إلى معرفة وثيقة مركبة بالتشكيلات الحضارية في العالمين، وبكل خصوصياتها وتعرجاتها ونتوءاتها، تحاول أن تصل إلى أعلى درجات التجريد وأدق درجات التخصيص . (2)

مما يجعله إسهاماً حقيقيا في تشبيك أبناء العالمين، في نسيج اجتماعي ثقافي علمي متناغم، يطلق طاقاتهم في البحث والإبداع والبناء والتعارف، بدلاً من إهدارها في الإقصاء أو التهميش أو الاستغلال، أو بث الكراهية وترسيخ الخوف المتقابل.

وليس هذا وحسب، ولكن فقه التحيز ، يمكنه أن يخرج العالمين من جيتو تمجيد

ص: 332


1- المرجع السابق، ص8-9؛ وانظر أيضاً. المسيري، عبد الوهاب، إشكالية التحيز القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط، ج 11،1992م، ص12
2- حرفي، سوزان، حوارات المسيري، ج4، مرجع سابق، 67

الذات الحضارية، ويدعوهما إلى الاعتراف بفشلهما في تطوير علاقات بناءة، على الرغم من مرور قرون على لقاؤهما المشترك. وسيكشف لنا- أيضاً- أنه لا يوجد مجال للعداء بين المسلمين والمسيحيين، وهو أمر لا مبرر له إنسانياً ولا عقائدياً أو عملياً، فلا يوجد مشكلة مع الاختلاف، بل تبدأ المشكلة حينما يتحول الاختلاف إلى تقاتل نتيجة التعصب .(1)

خطوات دراسة التحيز في مجال العلاقات بين الإسلام والغرب(2)

دراسة مشكلة التحيز بين العالمين بشكل معرفي دقيق، دون إهمال المشاعر والوجدان والتصورات الخاصة التي يكونها كلا العالمين عن الآخر، منذ بداية علاقتهما التاريخية حتى اليوم.

استعراض النموذج المعرفي المتحيز ضد الإسلام أو الغرب، وإظهار مدى قصوره؛ سواء في تأكيد بعض العناصر على حساب العناصر الأخرى، أو فى استبعاد عناصر مركزية، نظراً لعدم اهتمام النموذج بها أو عدم إيمانه بها أو غرضه في تحميلها بما لا تحتمل.

تعريف النموذج المعرفي الجديد، لرؤية الإسلام والغرب» فقه التحيز»، وتطبيقه على الوضع الحالي للعلاقات بين العالمين، واقتراحاته الجديدة التي يضيفها في مجال مد الجسور بينهما .

عقد مقارنة بين القدرات التفسيرية والتنبؤية للنموذجين المعرفيين: القديم والجديد، لمعرفة أيهما أكثر أو أقل تفسيرية لعلاقات العالمين.

فقه التحيز وبناء علاقة بناءة بين الإسلام والغرب:

يمكننا، فقه التحيز ، من تفسير أسباب نجاح الخطابين الغربي والإسلامي المنتجين

ص: 333


1- عشماوي، عماد الدين جهود المسيري مرجع سابق، ص 17-18
2- حرفي، سوزان ، حوارات المسيري ، ج 4، مرجع سابق، ص 67

للخوف المتقابل بين العالمين في تمرير مفاهيمهما وتحيزاتهما، ويوضح لنا كيف أن هيمنة هذين الخطابين هي المسئولة عن كثير من ظواهر الكراهية السائدة بين العالمين من خلال ما يقومان به من:

استخدام مصطلحات دينية، ذات سياقات تاريخية زمنية محددة بصورة مغرضة( الجهاد والإرهاب مثلاً)، وتغليب عنصر المكان وإسقاط الزمان، واستخدام مصطلحات لها عدة معان مختلفة، وأيقنة بعض العبارات والظواهر والدول كأنها مطلقات لا يمكن مناقشتها ،مما ينقل صورة شائهة عن العالمين بين أبناء مجتمعاتهما (1).

إشاعة بعض الصور والصيغ اللفظية التي تختزل الواقع، مثل الغرب واحة الديموقراطية، التي تعني أن بلاد العرب المسلمين هي صحراء الاستبداد، أو أن الغرب هو أس شرور العالم، مما يوحي بصورة خاطئة ومنفرة عن الغرب، والتي تسهم في تشكيل الرأي العام بشكل خاطيء على الجانبين.(2)

التأرجح المستمر بين أعلى مستويات التعميم والتجريد وأدنى مستويات التخصيص، فحين يكون الحديث، مثلاً، عن اليهود، يتركز الخطاب على حق اليهود الأزلي في العودة إلى أرض الأجداد، أما إذا كان الحديث موجهاً للعرب فيكون الحديث عن ضرورة تناسي الماضي وقبول الأمر الواقع، وهو الأمر الذي ينتج غضباً في العالم الإسلامي، وتضليلاً بين شعوب الغرب عن حقيقة القضية الفلسطينة التي هي جزء أساسي في الخوف المتقابل بين العالمين(3).

الخلط المتعمد بين الدوال، فيتم الخلط بين مفردات مثل: عربي ومسلم وإرهابي،وإخفاء مرجعية المصطلحات وتجاهل الأصول التاريخية للظاهرة والسياق

ص: 334


1- المرجع السابق، ص67
2- المرجع السابق، ص 67
3- المرجع السابق، ص 67-68

التاريخي للمفاهيم والمصطلحات مثل المقاومة الإرهاب والإسلام(1)، وهو ما ينتج خوفاً متقابلاً لا محالة بين العالمين.

ثانياً: علم الأزمة

من أهم إسهامات المسيري، في بناء علاقة جيدة بين عالمي الإسلام والغرب، ما اقترحه من ضرورة وجود علم للأزمة، يدرس أزمة الحضارة الغربية في جميع أوجهها، من خلال إعادة تقييم جوانب نجاحها وفشلها، ودراسة الأزمات الناجمة عن تبني نموذجها المعرفي ، ورصد الموضوعات والقضايا والأشكال الأساسية لهذه الأزمة، كما عالجتها كافة التخصصات، ثم ربطها الواحدة بالأخرى، حتى نتمكن من الوصول إلى نموذج تحليلي تفسيري للحضارة الغربية، له مقدرة تحليلية وتفسيرية عالية تفيدنا في تجاوز أزمتها، وفي بناء علاقات صحية بين العالمين(2) .

ذلك أن علم الأزمة، سيؤكد لنا أن الغرب ليس مسيحياً، وإنما علماني ووثني، وهذه مسألة أساسية في فهمه والتعامل معه. فالهجوم على الإسلام يحدث يومياً في الغرب، لكن الهجوم على المسيحية، أيضاً، أكبر وأكبر، وسيوضح لنا أن الصراع الحادث اليوم بين العالمين، ليس صراعاً بين الإسلام والمسيحية، ولا بين الحضارتين الإسلامية والغربية، ولكنه صراع حضاري بين رؤيتين للعالم، تعرف كل منهما الصراع بطريقة مختلفة. (3).

وعلم الأزمة، سيؤكد على ضرورة أن تعيد الجماعات الإسلامية المختلفة النظر في أساليب عملها ،فاللجوء إلى العنف ضد الغرب أمر غير مجد، وأن اكتشاف القاعدة الأخلاقية المشتركة بين الأديان وللتحالف الاتجاهات الإنسانية في الغرب والتي ترفض الحداثة الداروينية، أفضل كثيراً من عنف مفرط لا يفيد إلا دعاة صراع الحضارات وملوك الدماء، التي تسيل على مذابح التخييلات الدينية الواهمة.

ص: 335


1- المسيري عبد الوهاب إشكالية التحيز ، ج 1 ، مرجع سابق، ص 51-52
2- حرفي ،سوزان حوارات المسيري ، ج 3 ، مرجع سابق، ص 31-34
3- المرجع السابق، ص 113

ومن ثم ضرورة قيام وكالة أنباء عربية متخصصة تعمد إلى رصد هذه الحضارة بعين موضوعية، بعيداً عن تأثير الإعلام الغربي(1).

فقه التحيز وعلم الأزمة يضعان أيدينا على كثير من جوانب أسباب الشرخ بين العالمين وأهمها:

أن العنصرية الغربية، ليست موجهة ضد العرب والمسلمين وشعوب العالم الثالث وحدهم ، وإنما تمتد لتشمل كثيراً من الأقليات في الغرب، كما هو الحال في الولايات المتحدة، وبخاصة الأمريكيون الأفارقة .(2)

أن الصورة النمطية للعربي، التي تظهره زير نساء وثرياً ينفق أمواله فيما لا يفيد، لا يفهم في التكنولوجيا ،خبيثاً لا يمكن الوثوق به، إلى آخر هذه الصفات العنصرية، وأن صورة الغربي النجس الكافر المعتدي المتآمر، هي من صنع مراكز الفكر والإعلام والدين المسيسة على الجانبين .(3)

عدم الحكم على أي نسق فكري، على أنه نسق فكري محض منغلق على ذاته، وإنما يجب أن نضع هذا الفكر في سياق تاريخي واجتماعي، أي ندرس العناصر الاقتصادية والمعنوية والحضارية التي أدت إلى ظهور هذا الفكر، والتي تفاعل معها هذا الفكر. كما يجب أن يدرس الفكر في سياق الممارسات التي يقوم بها حاملو هذا الفكر(4) .

أنه لا جدوى ولا موضوعية، في مجابهة الصور النمطية بردود وتفسيرات نمطية. والمفروض معالجة العوامل الكامنة خلف نشوء الإسلاموفوبيا أو الغربوفوبيا وذيوعها . فمثلاً ، إذا كان معلوماً أن الجهل بالإسلام والاستهداف المغرض لرموزه وتاريخه ومعتنقيه من أهم هذه العوامل، فإن ثمة أسباباً أخرى لا يتسنى تغيير الصور

ص: 336


1- المرجع السابق، ص 151
2- المسيري، عبد الوهاب رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص 225
3- حرفي، سوزان، حوارات المسيري ، ج 1، ص 255
4- مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ورقة الأرضية العلمية لمسابقة الشباب العربي الغرب والإسلام: الخوف المتقابل، 2016م، ص6

النمطية المسيئة للمسلمين إلا من خلال الوعي بها والعمل على تجاوزها ومعالجتها. وفي مقدمتها» اختطاف الإسلام» من طرف فئة تستغل الدين سياسياً، وفئات متطرفة تسهم بمواقفها وممارساتها في تثبيت الصورة الشائهة عنه في المجتمعات الغربية(1) .

أهمية أن نوجه ادراكنا لقضية الظلم وليس التعصب، عندما نتعامل مع المشاكل العالقة بين العالمين، لأن التعصب ضد الغرب الإسلام وقاعدته، سيرتد إلى نحورنا، لأن ذلك سيعمق رؤيتنا بشأن الغرب الإسلام، باتجاه الأقليات الأخرى في كلا المجتمعين، ثم ضد الآخر على وجه العموم، فيسود جو من التعصب والإرهاب.(2)

ثالثاً: الحوار المتعدد(3)

يعتقد المسيري، أن عبارة صراع الحضارات، ليست حقيقية. فالصراع ليس صراعاً بین حضارات، وإنما هو صراع حضاري، بين من يرون أن الاستهلاك هو الهدف من الوجود وأن من حق القوي أن يستهلك على حساب الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى هؤلاء الذين يرون أن الجنس البشري بأسره يجب أن يتكاتف ويتعاون حتى يمكننا أن نعيش في هذه الكرة الأرضية بمصادرها المحدودة، وأن نقيم مجتمعات مبنية على العدل، ونحقق قدراً من التوازن للإنسان، وهو ما تلتقي عليه الإنسانية الإسلامية مع الإنسانية الغربية.

ولهذا، اعتبر، أن الحوار أساسي في بناء علاقات إيجابية بين عالمي الإسلام والغرب، ولكن لهذا الحوار شروطاً وأسساً وأنواعاً لا بد من أخذها في الاعتبار، حتى تتحقق الأهداف المرجوة من وراءه.

وبناء على خبرته في التعامل مع الحداثة الغربية، ونموذجه المعرفي الذي طوره لفهم علاقات العالمين، أيقن أن ما هو مطروح من حوارات وأرضياتها، لا تسمح بتحقيق النتائج المفترض أن تأتي بها. فكل الحوارات المطروحة حالياً مع الغرب، تعد

ص: 337


1- حرفي، سوزان، حوارات المسيري، ج4، ص232
2- سوزان حرفي، حوارات المسيري، ج3، مرجع سابق، ص33-34
3- المرجع السابق، ص 45-47

نوعاً من الاستسلام، تترجم فيه موازين القوى المختلة بین العالمين(1)

ومن أجل ذلك، دعا إلى تبني الحوارات المتعددة المتكافئة، مؤكداً أن العالم سيكون أفضل مع هذه الحوارات المتعددة المستويات، مشدداً على ضرورة أن يفهم الطرفان الواحد منهما الآخر، ولابد أن يكون لدى كل طرف كم من المعلومات يمكنه أن يتنبأ بعض الشيء بظروف الآخر (2) ، وعدم ترك مفردات السلام والحوار في يد الغرب.(3)

وأكد المسيري، حاجتنا إلى ثلاثة أنواع من الحوارات هي:

الحوار الودي بين الأنداد(4)

وهو حوار بين طرفين، يعترف كل طرف بإنسانية الآخر وحقوقه وسيادته. والهدف منه، هو تسوية بعض الخلافات التفصيلية الجزئية. وهذه هي طبيعة الحوار الذي يدور بيننا وبين بعض القطاعات في الغرب التي ترفض الرؤية الحداثية الإمبريالية الداروينية.

الحوار النقدي(5)

وهو حوار يجري بين طرفين، حيث يوجه أحد الأطراف النقد للطرف الآخر ويبين له خلل موقفه ويدعم نقده بالحجج والبراهين، كما يحدث مثلاً، حينما نحاور الدول الأوروبية التي نختلف معها في بعض الأمور المبدئية. أو عندما نحاور أحد الأطراف الذي لا يعترف بإنسانينتا وحقوقنا وسيادتنا، كما هو الحال مع الصهاينة.

الحوار المسلح (6)

وهو ينطلق من تصور أن الشعوب التي تدور في إطار علماني استهلاكي لا تدرك

ص: 338


1- المرجع السابق، ص 124
2- المرجع السابق، ص 45
3- المرجع السابق، ص 46
4- المرجع السابق، ص 46
5- المرجع السابق، ص 47
6- المرجع السابق، ص 44

العالم إلا بحواسها الخمس، فلقد تم تغييبها ولا يمكن إيقاظها من خلال الإعلام وحده كما يتصور بعضهم، وإنما من خلال سياسة متكاملة، حيث نبعث لهم رسائل مسلحة عن طريق المقاومة المسلحة المستمرة، ويمكن إرسال رسائل شبه مسلحة مثل:التلويح بقطع البترول ونقل رؤوس الأموال العربية، كما يمكن تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك، ومنع مرور السفن الحربية من قناة السويس.

ويواكب هذا رسائل أخرى توضح وجهة نظرنا، مضمونها أنه يمكن، مثلاً، للشعب الأمريكي التعايش معنا إذ لايوجد مبرر للصراع أو المواجهة المسلحة، إذ يمكن توظيف رؤؤس الأموال الأمريكية في العالم العربي واستيراد السلع من الولايات المتحدة، على أن يتم ذلك في إطار التبادل العادل، كما يجب أن نؤكد أن المواجهة المسلحة لن تفيد إلا الاحتكارات والشركات الكبرى ومصانع السلاح والدولة الصهيونية.

ويؤكد المسيري، أن كل هذه الحوارات، تحتاج إلى الدرس المعرفي قبل الدخول إليه، فلابد أن يكون الحوار السياسي أو الثقافي أو الديني، نتيجة وتتويج لرؤية معرفية شاملة لا قبلها .

مؤتمرات الحوار الدينية (1)

يؤكد المسيري أن كثيراً من هذه المؤتمرات لا تعدو أن تكون مؤتمرات لتبادل التهاني ، ذات طابع دعائي، مشدداً على أن مؤتمرات الحوار الناجحة يجب أن تحدد: أولاً المشكلة، ونقاط الاحتكاك والتوتر بين أعضاء الديانات المختلفة، ودراسة مدى إمكانية تقليلها. فالحوار مع المسيحية الغربية، الذي ينادي المسيري بضرورته، لأنه له مردود جيد على العالم العربي والإسلامي، يجب أن ينطلق من الاعتراف بالاختلاف.

ص: 339


1- المسيري عبد الوهاب رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص.304.

ما ليس مجالاً للحوار الموسع(1)

يلح المسيري، على ضرورة أن نستبعد من دائرة الحوار الموسع الخلافات العقائدية. فعلى الرغم من أنها خلافات حقيقية، لكن لايفهمها البشر العاديون برغممعاركهم الدائمة حولها، ومن ثم يكون مكان مناقشتها في أقسام العقائد ومدارس اللاهوت، نقاشاً علمياً هادئاً، لا يتحول إلى مذابح لا عقلانية لا تفيد أحداً سوى أعداء الله والإنسان والأخلاق.

بعض تطبيقات نموذج المسيري المعرفي في تطوير علاقات الغرب والإسلام :

أولاً: الدعوة في الغرب(2)

يؤكد المسيري، أن أدراك الداعية المسلم في الغرب، نموذجه المعرفي الإسلامي ونموذج الآخر الذي يدعوه، وكيف يدرك الإله والأرض والذات والزمان والآخرة، وكيف يرى الدوافع الإنسانية الأخلاقية، ودراسته لنصوصه المقدسة ودوافعه، ستوصله للنموذج المعرفي الذي يحكم سلوكه ويفسر سلوكه، فيستطيع توصيل أفكاره إليه بشكل أفضل كثيراً مما يحدث الآن من مؤسسات وأفراد يخاطبون الغرب من خلال نموذج تفسيري خاطىء ومشوه في فهمه للإسلام والغرب معاً.

ثانياً: عن العنف الإسلامي وفائدته(3)

يرفض المسيري، مواجهة الغرب بنهج تنظيم القاعدة، مؤكداً أنها مسألة غير مثمرة وعائدها السلبي يفوق بمراحل عائدها الإيجابي والغرب يوظفها لصالحه. مؤكداً أن أحداث بضخامة أحداث 11 أيلول/سبتمبر،لا بد أن تترك أثرها في الخطاب الإسلامي والجماعات الإسلامية، بل في العالم بأسره، مما يوجب على الجماعات الإسلامية أن

تعيد النظر في أساليب عملها، فاللجوء إلى العنف أمر غير مجد.

ص: 340


1- المسيري، عبد الوهاب، في أهمية الدرس المعرفي»، مرجع سابق، ص122
2- حرفي، سوزان حوارات المسيري ، ج 3، مرجع سابق، ص 113
3- المرجع السابق، ص24 حرفي، سوزان، ج 2، ص 30.

ثالثاً: عن صورتنا التي يشوهها الصهاينة في الغرب(1)

يشدد المسيري، على أن ثمة دولاً غربية لا يوجد فيها يهود أساساً، ومع هذا تؤيد الدولة الصهيونية بشكل شبه مطلق، مشيراً إلى أن الدعم الغربي بسبب هيمنة العقل المادي- للدولة الصهيونية يتزايد بمقدار ما تحققه من مكاسب للعالم الغربي، وبما يذيعه الصهاينة من أفكار مغلوطة عن عالم المسلمين مستغلين الخلفيات التاريخية للعلاقات بين الإسلام والغرب، ومن ثم يكون فهم هذا كله معرفياً، سيؤسس لعلاقات بناءة مع الغرب، ويبطل دعايات الصهاينة المغرضة عن المسلمين التي تزيد عمق

الخلاف بين العالمين.

رابعاً: التصدي للإرهاب(2)

يتطلب التصدي للإرهاب-كما يؤكد المسيري البحث عن أسبابه ومعالجتها. فلابد من دراسة ظاهرة الإرهاب في سياقها الاجتماعي والتاريخي، وليس في سياقها الديني وحسب. ولابد من الإتفاق على تعريف الإرهاب، وطرح بعض الأسئلة تفسر لنا ظهور الإرهاب ومن ثم إمكانية التصدي له :

هل هناك علاقة بين ما يسمى الإرهاب وإحساس المسلمين أن العالم الغربي لا ينوي أن يحل مشكلة الصراع العربي الصهيوني بطريقة عادلة، وأنه يغض الطرف عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بشكل شبه يومي؟هل الإرهاب له علاقة بالتوس في الاستيطان في الضفة الغربية ؟ هل تصاعد الإرهاب أم تراجع بعد احتلال القوات الأمريكية لافغانستان والعراق؟ هل مقاومة الاحتلال الصهيوني إرهاب؟ ولماذا؟ لأن الإجابة على هذه الأسئلة ستساعدنا في فهم الكثير من أسباب التوترات بين العالمين.

ص: 341


1- حرفي، سوزان،، ج3، ص39
2- حرفي، سوزان، حوارات المسيري، ج2، ص45

خامساً: بناء تحالف بين العالمين(1)

يدعو المسيري، إلى اكتشاف القاعدة الأخلاقية المشتركة بين الأديان وللتحالف مع الاتجاهات الإنسانية في الغرب، التي تتمثل في حركات مناهضة العولمة وأحزاب الخضر وبعض الاتجاهات الإنسانية والفلسفية والتي ترفض الحداثة الداروينية. فالإنسانية الإسلامية التي تنطلق من رفض الواحدية المادية وتصر على ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة، وتصعد منها إلى ثنائية الخالق والمخلوق وكل الثنائيات الأخرى مثل ثنائية الأرض والسماء الجسد والروح الحلال والحرام، المقدس والمدنس(2)، تلتقي مع كثير من هذه التيارات في قيمها وطموحها لبناء حضارة إنسانية تقوم على العدل والتعاون.

قضية الرسوم الدانماركية كتطبيق عملي لفهم نموذج المسيري المعرفي لدراسة الحداثة الغربية وكيفية التعامل بين العالمين الإسلامي والغربي(3) .

يقول المسيري، أنه في مسألة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم قام العرب والمسلمون بالاحتجاج: حكومات وهيئات، وقامت المظاهرات، وطلب من الحكومة الدانماركية الاعتذار وهو جهاد مشكور، لكن كان يفترض أن يسبقه اجتهاد من خلال وضع هذه الواقعة داخل نمط ونسأل:

هل تسب الصحافة الرسول وتهاجم الإسلام وحده، أم أنهم يسبون كل الأديان؟ حيث نربط الجزء بالكل، فنكتشف أنهم يسبون المسيح والمسيحية أكثر مما يسبون الإسلام ورموزه؟ ونسأل مرة أخرى هل الأمر قاصر على الدانمارك فقط أم في الغرب كله ؟ سنكتشف أن سب الإسلام وكل الأديان مسألة شبه روتينية في العالم الغربي بأسره، فنخلص من هذا إلى نتائج مختلفة عما يقدم لنا، وندرك أن الإحساس بالمقدس قد اختفى في الغرب، وأن العداء ليس للإسلام ورسوله وحده، وإنما لكل ما هو متجاوز لسطح المادة ، وأن العداء للإسلام المقاوم للهيمنة الغربية.

ص: 342


1- حرفي، سوزان حوارات المسيري، ج1، مرجع سابق، ص 86
2- المرجع السابق، ص295-297
3- حرفي ،سوزان، حوارات المسيري، ج3، مرجع سابق، ص 26-27

كما سنجد أن علاقة الحكومة الدانماركية بالصحافة في بلادها مختلفة عن العلاقة بين حكوماتنا والصحافة في مجتمعاتنا، ولهذا يكون طلب الاعتذار مسألة غير منطقية، ونكتشف أن المواجهة ليست مع المسيحية إنما مع العلمانية الشاملة،ومع الأنظمة السياسية الغربية التي تدعم اسرائيل وليس مع الشعوب، فتكون استجابتنا بطريقة مختلفة، وتتحدد أولوياتنا على أساس ذلك.

وفي هذه الحالة كان يمكن مواجهة مسألة التصوير الساخر، محلياً عبر تحرك الجماعة المسلمة هناك في إطار القانون الذي يمنع إيذاء الشعور، على أن نصعد المقاومة للاستعمار وقاعدته في بلادنا الصهيونية عن طريق المقاطعة المنظمة، أما المظاهرات والحرق فهو لا يجدي سوى الخسارة.

نتائج وتوصيات الدراسة:

أولاً: أهم نتائج الدراسة

الدرس المعرفي يؤكد لنا أن العداء له تاريخ بين عالمي الإسلام والغرب، وليس شيئاً ميتافيزيقيا(1)، وأن الأبعاد المعرفية هي أبعاد أساسية لفهم ذلك.(2)

الدرس المعرفي، يخرجنا من جب المؤامرة التي تغلف علاقة الغرب بنا، بسريتها التي لا تقوم على منطق، ليدخلنا عالم المخططات الاستراتيجية التي تعبر عن المصالح كما يتصورها أصحابها. فالخطاب التآمري يشوه رؤيتنا للغرب، في حين أن الخطاب

التفسيري المركب من الأسباب الإنسانية والاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية (3) يمكننا من فهمه حسب منطقه وتفهم دوافعه دون إسقاط دوافعنا عليه.

الدرس المعرفي، سينتج تغييراً جذرياً في الرؤية الإعلامية الاختزالية لعلاقتنا مع الغرب. ويمكننا من التفرقة بين النماذج الغربية المختلفة في رؤيتها للعرب والإسلام

ص: 343


1- حرفي، سوزان حوارات المسيري، ج 1، مرجع سابق، ص229
2- المرجع السابق، 231-230
3- حرفي، سوزان حوارات المسيري، ج3، مرجع سابق، ص21

والمسلمين، فالبعض لديه إدراك لتنوع الشعوب (أوروبا مثلاً)، بعكس البعض الآخر

المنعزل (أمريكا) .(1)

الدرس المعرفي ، يؤكد لنا أن اكتشاف التشابه في الرؤية والمنظومات الأخلاقية، يمكن أن يؤدي إلى اكتشاف رقعة المشترك وتوسيعها كما يمكن أن يشكل أساساً لإبرام عقد اجتماعي دولي، يتم بمقتضاه تنظيم العلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي.(2)

أي خطاب تفسيري تحليل مركب، يطمح لفهم العلاقات بين الإسلام والغرب، لا بد أن يبدأ بأن ينفض عن نفسه غبار الهزيمة/ الثقة المفرطة في الذات، حتى يمكنه أن يرى الواقع كما هو في كل أبعاده السلبية والإيجابية، ولا يخضع لأي مقولات مسبقة يكون قد سربها له أصحاب المصالح، وهذا لن يتأتى إلا بأن يتبنى رؤية موضوعية اجتهادية وليس رؤية موضوعية متلقية .(3)

ثمة عناصر عديدة تدخل في تكوين الخريطة الإدراكية التي يكونها كل من أبناء المجتمعين الإسلامي والغربي عن الآخر ، أهمها الجهل، وغياب المعلومات والمصالح(4) . ومن ثم يجب الالتفات لتلك العوامل، لأنها جزء رئيسي في الخوف المتقابل بين العالمين.

لغة الحرب المقدسة بين العالمين، صارت وسيلة تعميق الخوف المتقابل على الجانبين، وصارت الإستجابة التي تولدها هي المراد من جانب المستغلين لها، ولم تعد تكبح جماحها حدود القيم والمعتقدات الحقيقية في الجانبين. فقد تطور مفهوم الإسلام في الغرب، ومفهوم الحداثة الغربية في العالم الإسلامي، ليتخذا معنيين متوازيين لا يلتقيان: الأول، بصفته العدو التاريخي الذي يخبو ويظهر بحسب

ص: 344


1- المرجع السابق، ص 66
2- حرفي، سوزان حوارات المسيري، ج 1، مرجع سابق، 266-269
3- المرجع السابق، ص266
4- http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?flag=1bk_no=58ID=1577 تاريخ الدخول 2016/10/16

أوضاع الغرب وصراعاته والآخر باعتباره : مرادفاً للشر الخالص الواجب الاحتراس من دنسه، أو الخير التام الواجب التمسح في أعتابه .وهو الأمر الذي يستدعي الدرس المعرفي ، القادر وحده على هدم هذه الصورة الإدراكية المشوهة لحقيقة العالمين.

في حوارنا العالمين في ظل الغربوفوبيا، أو الإسلاموفوبيا، لا بد أن ندرك طبيعة علاقة هاتين الظاهرتين وتجلياتهما المتمثلة فى العنفيات الناشئة عن داعش وجماعات العنف الإسلامي المتكئة على تفسيرات رجعية للدين، واليمين المتطرف الغربي الذي يتغذى من تراث مشوه عن الإسلام ونبيه ومجتمعاته، بالحداثة المادية غير الإنسانية التي يعيشها الغرب وحداثتنا الرثة التي تعيشها مجتمعاتنا، واللتان تنتجان الأفكار البائسة في ظل الظلم الاقتصادي الناجم عن عولمة الفقر التي تسد أفق الغد أمام ملايين من أبناء العالمين الباحثين عن عمل أو أمان، أو الهاربين في مراكب الموت إلى جنة أوروبا، أو الناقمين على قتلة يقتلونهم دون سبب حيث يجد هؤلاء جميعاً، أنفسهم وقد أصبحوا عالقين بين إسلاموفوبيا ترعبهم، وغربو فوبيا تدمرهم.

ثانياً: توصيات الدراسة

مؤسسة جديدة للحوار:

يحتاج النموذج المعرفي الاجتهادي، المستند إلى المرجعية الإسلامية والمنفتح على الرؤية الإنسانية الذي طرحه المسيري، إلى جماعية العمل ومؤسسيته، لإنجاز تراكم حقيقي في مجال تجاوز الخوف المتقابل بين العالمين الإسلامي والغربي، لأنه عملية متكاملة تتم على عدة مستويات من خلال الرصد والتصنيف والنقد التراكمي، حتى تتحدد الأنماط العامة الجديدة التي يتم مراكمة المعلومات في إطارها، والتي تكشف عن تحيزات كل نموذج(1) ، ومن ثم كيفية بناء علاقتهما على أسس متينة.

ولذلك، تعد عملية تدشين مؤسسة جديدة، تختص بمعالجة الشرخ الكبير في علاقات الإسلام بالغرب في شتى جوانبها، وتعمل على إحياء القيم الإنسانية

ص: 345


1- تاريخ الدخول 9302016/10/16-http://shamela.ws/browse.php/book

والدينية في نفوس أبناء العالمين، التي تؤهلهم لحمل أمانة التعارف بينهما، أمراً ملحاً

وضرورياً للغاية اليوم.

مؤسسة، تعمل كمركز للتفكير في الغرب الإسلام، تكون أداة عربية إسلامية، تساعدنا على فتح سبل الحوار القائم على الدرس المعرفي مع الغرب، المستعين بجميع قنوات الاتصال الممكنة من كلمة وصورة ومقابلة ونشاط مشترك.

أهم أهداف المؤسسة:

البحث في قضايا: العقيدة ،والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، ،والقانون، والبيئة من خلال منهج الدرس المعرفي، الذي يحقق الوحدة العضوية فيما بينها، لأن ذلك هو الأساس المتين الذي يمكننا من النظرة الشاملة، وتفسير مظاهر العلاقةبين الجانبين وكيفية تطويرها للأفضل.

التقريب بين العالمين، والتوافق فيما بينهما علي أسس للتعامل السليم، من المنظور الإنساني، القادر علي إطلاق قوي مجتمعاتهما في العمل المشترك، دون خوف/قبول مرضي، ونفي جو الريبة والشك المحيط بالإنسان في العالمين، من جراء فتنة السياسة والدين التي يشعلها المنتفعون على الجانبين.

العمل علي إعداد ميثاق ،تعاون يمهد لعلاقة طيبة جديدة، تحياها مجتمعات العالمين بعيداً عن جو الشقاق السائد الآن، وليتسنى للعلماء الشقاق السائد الآن، وليتسنى للعلماء في كافة المجالات- وعلي رأسهم علماء الدين والتربية والاجتماع التواصل مع أبناء العالمين، لبث الوعي الإيماني الإنساني الجديد، المؤدي لتحرير هذه المجتمعات من الخوف المتقابل المهيمن اليوم ، ونقلها إلى التعاون والفهم المتبادل.

الدوائر التي تخاطبها المؤسسة:

دائرة عالم المسلمين وعالم الغرب، لكن الدائرة الرئيسية هي دائرة عالم مجتمعات المسلمين، بداية، حتى ينشأ المسلم واعياً لمعنى شبكة العلاقات المتداخلة مع الغرب،

ص: 346

ووظيفتها ودورها في الحياة الطيبة له ولمجتمعه ولوطنه ولعالمه ولمهمات وظيفته الاستخلافية المنوط به القيام بها على الأرض، وعلى رأسها تحقيق التعارف بين الناس.

نشأة وإدارة المؤسسة:

قيام كيان جديد بهذا الحجم من الأهمية يرتهن عادة بتزامن عدة عوامل:

أولا: وجود مجموعة من الأفراد ؛ المؤمنين بالفكرة والمؤسسة، والتي تملكت عليهم كل مشاعرهم، من واقع ما قرأوه وعلموه علم اليقين، عن طبيعة العلاقات بين العالمين من توتر، وما رأوه عياناً بياناً وقرأوه أرقاماً واحصاءات، من الفشل المستمر للمداخل الحالية لمعالجة الشرخ الكبير بين العالمين.

ثانيا: مستوى دراية هؤلاء البناءون المنشئون، بالسوابق التاريخية والظروف الاجتماعية لنشأة العلاقات بين العالمين، والمراحل التي مرت بها، والتيارات التي تجاذبتهاوالمشاكل التي واجهتها لأن مستوى الدراية بهذه الأمور الفاصلة؛ تحدد مستوى قدرتنا على تحقيق نتائج جديدة اليوم.

ثالثا: تبني حكومة قوية قادرة الفكرة، وتوفير الموارد المادية اللازمة لها، والأجواء الهادئة الملائمة لنشأتها ونموها وتشغيلها وتطورها، بعيداً عن أي مكاسب مؤقتة من وراء هذا التبني، أو أي عقبات توضع في الطريق لإفشالها.

خاتمة

أن تعرف شيئاً عن مجتمع ما، ليس معناه أن تفهم ذلك المجتمع، إذ يمكن للمرء أن يعرف الكثير عن الآخرين، من غير أن يفهم عنهم إلا القليل. وعالمنا المنقسم على نحو خطير بسبب الفروق الدينية المصطنعة، مصداق واضح لهذه الحقيقة. فليست الكراهية بين عالمي الإسلام والغرب، مثلاً، معطى أبدياً، وليست فرضية صراع الحضارات بينهما صحيحة، إلا في عقول أتباع بن لادن والظواهري والبغدادي وبات

رور بتسون وجيري فالويل وبوش وترامب وتيلو سارازین وغيرهم من المتطرفين.

ص: 347

فالإسلاموفوبيا كما الغربوفوبيا، مرتبطتان بالإسلام السياسي، كما بالاستعمار والظلم والمصالح، وسوء الفهم المتعمد والدعايات المغرضة والتأويلات الفاسدة، صعوداً وهبوطاً(1).

وإذا كان من الصحيح أن كثيراً من المسلمين لديهم حنين لقوة ومجد ضائعين،يجعلهم يستمرون في ندب ماض لن يعود بدلاً من شق طريق إلى المستقبل، إلا أن ذلك أيضاً نتاج غرب ظالم غير متفهم لعقائد وطموحات المسلمين في حياة طيبة. ونفس الأمر لدى كثير من الغربيين الذين يعيشون حضارة في وضع ثقة، تجعلهم يخافون عدواً يريد أن يغزوهم ويحقق خلافة إسلامية في بلدانهم، وهذا أيضاً هو إرث ممارسات مشوهة ومفاهيم مغلوطة، يشيعها كثير من المتصدرين للحديث عن الإسلام بسوء نية في الغرب.

وإذا كان من الصحيح، أيضاً، أن كثيراً من المسلمين والغربيين قد سحبوا رصيد ثروتهم من الجهاد الحضاري، ليعيدوا استثمارها في المجال السياسي والعسكري متدثرين بمصالح سياسية اقتصادية أو بمقولات دينية غير صحيحة أو تم تأويلها بشكل خاطىء، فتسببوا في تشويه علاقتهما، فخسر العالمين كل إمكان لتلاق خلاق بناء في كل هذه المجالات مجتمعة.

فنحن، اليوم، بحاجة لظهور جيل جديد من المفكرين المسلمين والغربيين المتحررين من ثقل العبء التاريخي للعداوة بين العالمين، ليخوضوا معركتنا جميعاً من أجل مستقبلنا، وأن يجسدوا الوجه الحقيقي للإسلام والمسيحية، بعيداً عن التصورات الواهية والوهمية عن عدو لم يكن دائماً في حقيقته عدواً.

ولتكون علاقات العالمين الجديدة هي بداية البحث عن أمان وتعارف وتعاون،لاعلاقات خوف وتنافر وصراع، ولتنتهي الحقبة الرديئة التي طالت من علاقتهما، لتجمعهم أجنحة الإيمان بقضية عالم يعاني من أزمة شاملة، ويقاسي من الجوع

ص: 348


1- www.al-eman.com

الروحي، ويفتقد إلى مثل أعلى للأخوة الإنسانية.

وإذا كانت فكرة هذا البحث ومرافعته صحيحة، فإن البدء من المعرفي، سيمكننا من الإمساك بحقيقة علاقات العالمين، وصنع بناء جديد لها، حتى نخرج من تيه المداخل الشعبوية الدينية السياسية الاقتصادية المصلحية التي لم تزد هذه العلاقات إلا تباعداً.

ويعد خطاب المسيري، الذي حاولت الدراسة بيانه درس معرفي لأزمة عصرنا، التي تمثل الحداثة الغربية محورها. وهذا الدرس المعرفي، يعد مخرجاً ملائماً من جدل الإسلاموفوبيا والغربو فوبيا الزائف والصراعي الحادث على الجانبين الإسلامي والغربي، وبداية جيدة لحوار بناء بين العالمين.

فأزمة الحوار بين العالمين، تكمن في صلب الخطاب التحليلي: الإسلامي والغربي، الذي تم تسييه تماماً وتبسيطه ،وتسطيحه واختفت منه الأبعاد المعرفية والفلسفية، لصالح الرؤى الدينية المتطرفة والمصالح السياسية والاقتصادية الضيقة.

وإذا كانت وظيفة المثقف، كما يقول المسيري أن يطرح متتاليات جديدة على المجتمع، تهدف إلى إصلاحه وتعديل مساره، قد لا يمكنه هو نفسه أن يضعها موضع التطبيق، وأن يستمر في إنتاجها إلى أن تحين اللحظة، فتحمل أفكاره إحدى الطبقات أو إحدى الجماعات.

فهذا البحث يرى، أن هذه اللحظة قد حانت، وأن الوقت قد حل لبناء مؤسسة جديدة للحوار بين العالمين، تحقق ما طرحه المسيري من منهج، يسهم في جسر الهوة بين العالمين، ليختفي الخوف المتقابل، والتقاؤهما معاً على أرضية ثابتة، تمحو كل نقاط الظلام في تاريخهما المشترك الطويل من خلال الدرس المعرفي.

ص: 349

ثبت المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

القرآن الكريم

مؤلفات المسيري

المسيري، عبد الوهاب (تأليف وتحرير). إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد

(القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993، جزآن).

المسيري، عبد الوهاب. الإنسان والحضارة والنماذج المركبة : دراسات نظرية وتطبيقية (القاهرة: دار الهلال 2002م).

المسيري، عبد الوهاب . الحداثة وما بعد الحداثة بالإشتراك مع الدكتور فتحي التريكي (دمشق: دار الفكر 2003م).

المسيري، عبد الوهاب، الصهيونية والحضارة الغربية (القاهرة: دار الهلال 1994م).

المسيري، عبد الوهاب، العالم من منظور غربي (القاهرة: دار الهلال، 2001م).

المسيري، عبد الوهاب. العلمانية الجزئية والشاملة (القاهرة:دار الشروق، 2002م جزءان).

،المسيري عبد الوهاب العلمانية تحت المجهر بالإشتراك مع الدكتور عزيز العظمة

(دمشق: دار الفكر 2000م).

المسيري، عبد الوهاب. الفردوس الأرضي : دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية (بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979م).

المسيري، عبد الوهاب . الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان (دمشق: دار الفكر، 2002)

ص: 350

المسيري، عبد الوهاب. دراسات معرفية في الحداثة الغربية (القاهرة: دار الشروق، ط1، 2000م).

المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية - في البذور والجذور والثمر (القاهرة: دارالشروق، ط2، 2005م).

المسيري، عبد الوهاب . فكر حركة الاستنارة وتناقضاته (القاهرة: دار نهضة مصر، ط 1،1999م).

المسيري ،عبد الوهاب. قضية المرأة بين التحرر والتمركز حول الأنثى(القاهرة: دارنهضة مصر، ط1،1999م).

المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (القاهرة: دار الشروق، 1999م، المجلد الأول).

ثانيا: المراجع

إدالكوس، عبد الله، في نقد الخطاب الحداثي: عبد الوهاب المسيري ومنهجية النماذج ، (الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي، 2014م)

الراشد، حمد، دفاع عن العلمانية ضد المسيري،( بيروت: مدارك للنشر، 2011م)

الشيخ، ممدوح. عبد الوهاب المسيري (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2009م).

اللاذقاني، محيي الدين، آباء الحداثة العربية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م)

باومان، زيجمونت، الحداثة السائلة: ترجمة حجاج أبو جبر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1،2016م)

ص: 351

بلقزيز، عبد الإله، من النهضة إلى الحداثة ، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،

ط1، 2009م).

بیرمان ،مارشال، حداثة التخلف : ترجمة فاضل جتكر(نيقوسيا: مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ط1، 1993م)

تورين، آلان،نقد الحداثة: ترجمة أنور مغيث، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة،1997م).

حرفي، سوزان، حوارات عبد الوهاب المسيري (دمشق: دار الفكر، 2009م، أربعة أجزاء).

سيلاجيتش، عدنان، مفهوم أوروبا المسيحية للإسلام: ترجمة جمال الدين سيد محمد، (القاهرة : المركز القومي للترجمة، ط1، 2016م).

شفيق، منير، في الحداثة والخطاب الحداثي،( الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م).

شلبي، السيد أمين، الغرب في كتابات المفكرين المصريين (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003م).

شيهي، ستيفن، الإسلاموفوبيا : ترجمة فاطمة نصر،( القاهرة: سطور الجديدة، ط1،

2012)

عبد الحق، أسامة (إعداد) ، أمة تقاوم: حوارات في الفكر والسياسة (القاهرة: دار القدس للنشر، ط2، 2001م)

عبد الرحمن، طه، روح الحداثة( الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط2، 2009)

عصفور، جابر، هوامش على دفتر التنوير، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م).

ص: 352

عصفور، جابر، نحو ثقافة مغايرة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م)

عمارة، محمد، الإسلام والتحديات المعاصرة (القاهرة: دار نهضة مصر، ط1، 2010)

فایندر، ستيفان، خطاب ضد الإسلاموفوبيا: ترجمة رشيد بو طيب (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، ط1، 2016م)..

فيفر، جون الحرب الصليبية الثانية : ترجمة محمد هيثم نشواتي (الدوحة : منتدى

العلاقات العربية والدولية،2014م).

هارفي، ديفيد، حالة ما بعد الحداثة : ترجمة محمد شيا، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005م).

هنتر، شيرين (تحرير)، الإسلام: الدين الثاني في أوروبا:ترجمة أحمد الشيمي وآخر ،

(القاهرة المركز القومي للترجمة، ط1، 2016م)

يوسف، مجدي، من التداخل إلى التفاعل الحضاري (القاهرة: دار الهلال، 2001م).

ثالثاً: الدوريات والصحف

المسيري، عبد الوهاب،« نحو نموذج تفسيري اجتهادي»، إسلامية المعرفة، السنة

الرابعة، العدد 16(1999م)، ص131-155.

المسيري، عبدالوهاب، في أهمية الدرس المعرفي»، إسلامية المعرفة، السنة الخامسة، العدد 20(2000م)، ص 109-128.

شعلان، عبد الوهاب، «خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر»، المستقبل العربي، السنة السادسة والعشرون العدد 300(2004م)، ص47-65.

عزت، هبة رؤوف ، «حوار مع عبد الوهاب المسيري»، المسلم المعاصر، السنة

ص: 353

الرابعة والعشرون، العدد 94/93(1999م)، ص175 وما بعدها.

عزت، هبة رؤوف، الحداثة والسياسة : مأزق النظرية وأسئلة المستقبل»، الديموقراطية، السنة السادسة عشرة، العدد 64(2016م)، ص 10-17

فضل الله، محمد حسين،« صراع بين المستكبرين والمستضعفين»، المنطلق الجديد، العدد الخامس (2002م)، ص 9-20

وهبة، مراد، «الحداثة برؤية علمانية»، الديموقراطية، السنة الخامسة عشرة، العدد

58(2015م)، ص 50-52

ص: 354

منهجية الفاروقى في قراءة النموذج المعرفي الغربي

اشارة

منهجية الفاروقى في قراءة النموذج المعرفي الغربي(1)

ملخص الدراسة

دكتور :حسان عبدالله حسان

دكتور :حسان عبدالله حسان(2)

تسعى الدراسة إلى الكشف عن الوعي المنهجي للفاروقي في قراءته للنموذج المعرفي الغربي، وتحديد المنطلقات الفكرية لهذه القراءة المنهجية، والتعرف على الأدوات المنهجية التي استخدمها الفاروقي في هذه القراءة. وذلك بهدف استخلاص الخبرة المعرفية للفاروقي في النظر للنموذج المعرفي الغربي باعتبارها خبرة مضافة نحو التأسيس المعرفي الحضاري للأمة في نظرتها إلى الآخر وتحديد ضوابط التثاقف الحضاري معه، وذلك من خلال الاعتماد على منهجية تحليل النص «الفاروقي» في جوانبه المتعددة، واستخلاص أدواته المنهجية ومفاهيمه التحليلية التي قدمها في قراءته للنموذج المعرفي الغربي.

وتعالج الورقة المحاور التالية:

-الإطار المرجعي للفاروقي في رؤيته للنموذج الغربي.

- معالم منهجية الفاروقي في قراءة النموذج المعرفي الغربي.

ص: 355


1- بحث مقدم إلى مؤتمر "إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري الإسلامي المعاصر" نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع جامعة اليرموك - عمان الأردن 27-28 ذي الحجة 1432ه- 23-24 تشرين الثاني( نوفمبر) 2011
2- باحث وأكاديمي مصري جامعة دمياط

-بعض تجليات النموذج الغربي وتمثلاته.

وذلك بالإضافة إلى المدخل المنهجي الذي يتضمن تمهيداً معرفياً يوضح مكانة القراءة التي قدمها الفاروقي، والمجال الذي تنتمي إليه في الخارطة المعرفية للفكر الإصلاحي الإسلامي المعاصر. والدرس المعرفي المستفاد على مستوى تكوين العقلية البحثية المسلمة، وتصميم المفاهيم والتصورات حول الفكر الغربي، والمشروعات المعرفية الضرورية نحو درس النموذج المعرفي الغربي.

منهجية الدراسة وإطار المعالجة

تمهيد معرفي

-اتصل المسلمون بالغرب في العصور الإسلامية الباكرة، فعرفوا حضارته واستوعبوها، دون أن يتأثروا بها في تصوراتهم ورؤاهم الأساسية، وذلك بفضل القوة النفسية من ناحية وامتلاك القدرة المعرفية والمنهجية المستمدة من الرؤية الكلية المستقلة والمتفردة والتصور الحضاري الشامل من ناحية أخرى. ثم تجاوز المسلمون حضارة الغرب، وأسسوا حضارة عرفت في التاريخ الإسلامي ونسبت إلى عقيدتهم ودينهم وهى «الحضارة الإسلامية».

-ثم كان اللقاء الثاني على خوف من الغرب وفكره وعمله»، والذى تزامن مع التراجع الحضاري للعقل المسلم وإصابته بالجمود والذبول الفكري، وفقدانه لقوته النفسية وقدراته المعرفية والمنهجية الذاتية الدافعة - والذى تجاوز في خطورته فقدان مؤسسة الخلافة ذاتها - هذا مع بروز التفوق الغربي في مجال العلوم والاكتشافات العلمية، أو ما يمكن أن نسميه ب_ «الأرصدة المادية للحضارة»، وتزامن ذلك - أيضاً- بالاحتلال الغربي العسكري للعالم الإسلامي المفكك سياسياً وفكرياً، فكان «الاستدراج» الفكري والثقافي أداة ،الغالب والاستتباع حيلة المغلوب وحالته.

- تحرك العقل المسلم إزاء هذا الاتصال الثاني بالغرب حركتين: الأولى، حركة الخائف والمتوجس من« الانصهار» و «الذوبان» في نهر التفوق الغربي، وسارت

ص: 356

هذه الحركة في مسارين أساسيين، الأول :تمثل في اتجاه التعبئة والتحذير للعقل المسلم من «الاستلاب» و «الغزو الفكري والثقافي» و«التغريب» كما عند رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ومصطفى صبري وجلال آل أحمد والمسار الثاني، تبنى دعوة المقاومة» و «استعادة الهوية» في مقابل« الآخر« فظهرت في صورة ردود تحمل عناوين« الإسلام والمدنية» ،» الدين والعلم» كما عند محمد عبده ومصطفى الغلاييني وأحمد عزت باشا أو في دعوات تجديدية كما عند محمد إقبال، أما الحركة الثانية للعقل المسلم، فهي حركة يبدو فيها طابع« التسليم» بتفوق الحضارة الغربية وتفوق حضارته ونهضته، وسارت هذه الحركة - أيضاً - في مسارين : الأول، حاول التوفيق بين عناصر الذات الأصيلة وما أنتجه الفكر الغربي من نظريات واكتشافات تحت عنوان «التوفيق» بين منجزات هذه الحضارة وبين المبادئ الإسلامية كما عند الطهطاوي، أما المسار الثاني اتخذ من منهجية« النقل والاقتباس» طريقاً لاستعادة الدور والمكانة، وهو ما عرف بمسار« التغريب» ويظهر جلياً عند طه حسين وإسماعيل مظهر ونامق كمال ومدحت باشا ورضا خان.

- وفي النصف الثاني من القرن العشرين ظهر مسار آخر في تناول وقراءة الفكر الغربي، يقوم على الانطلاق من الذات، ومن استحضار القوة الدافعة الوجدانية، مع امتلاك المنهجية المعرفية الذاتية، وذلك بهدف تحقيق الاستيعاب القائم على التبصر والبصيرة الحضارية. ومن الذين أسسوا لهذه« المدرسة الحضارية» مرتضى مطهري ومحمد حسين الطباطبائى في« أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، ومحمد باقر الصدر في «فلسفتنا»و«الأسس المنطقية للاستقراء»، وعلى شريعتي في «العودة إلى الذات»، وعلى عزت بيجوفيتش في« الإسلام بين الشرق والغرب»، ومراد هوفمان في الإسلام كبديل ، وغيرهم ممن ساهموا في تأسيس قراءة معاصرة للفكر الغربي لا تقوم على

«الخوف» أو «التعبئة» أو «الاستلاب» أو «التلفيق»، بل تقوم على تأسيس منظور حضاري قائم على الانفتاح على الآخر واستيعابه، انطلاقاً من الثوابت الحضارية التي قامت عليها الشخصية المسلمة، واستهدافاً لاستعادة الدور والمكانة وفقاً لهذه الثوابت الحضارية.

ص: 357

-كما اهتم «الوعي الإسلامي» خلال العقدين الأخيرين بالنظر إلى النموذج المعرفي الغربي من خلال تأسيس آليات لدرسه ونقده لاسيما آليات إبراز «التحيز» المعرفي في هذا النموذج. وهو ما أشار إليه عبد الوهاب المسيرى في تقديمه لبحوث مؤتم«إشكالية التحيز»، والذى رصد فيه مجموعة من التحيزات في النموذج المعرفي الغربي منها : التحيز الطبيعي المادي على حساب الإنساني وغير المادي، تحيز للعام على حساب الخاص تحيز للمحسوس والمحدود وما يقاس والكمي على حساب غير المحسوس واللامحدود وما لا يقاس والكيفي، وتحيز للبسيط والواحدى والمتجانس على حساب المركب والتعددى

وإسماعيل راجي الفاروقي (1921-1986) ممن ينتمون إلى هذه المدرسة الحضارية في قراءة الفكر الغربي ونموذجه المعرفي قراءة تستند إلى استدعاء تلك القوة الوجدانية الدافعة، واستحضار أسس المنهجية المعرفية التوحيدية.

ويدعو الفاروقي في رؤيته الحضارية إلى التثاقف الحضاري مع الحضارات القائمة بصفة عامة ومع الغرب بصفة خاصة، انطلاقاً من الموقف الحضاري الإسلامي القادر على الانفتاح والاستيعاب ثم التجاوز في ظل ثوابته ورؤاه الأصيلة «...إن حضارتنا الإسلامية مفتوحة غير منغلقة. ولا شك أننا مكلفون بتحصيل العلم أنى وجد والاستفادة منه في تعزيز الأمة وتنمية مواردها وازدهارها. فقد حثنا الله تعالى على العلم وتلقيه وفضل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، وفرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، من المهد إلى اللحد. ودل على أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها. وما من دين ولا ثقافة في الدنيا رفعت شأن العلم والتعلم وحثت الناس على طلبه كما فعل الإسلام(1).

ويطرح - أيضاً - عدة شروط للتثاقف الحضاري مع الغرب لاسيما فيما يتعلق بدرس العلوم التي يتفوق فيها في اللحظة الحالية« ... أولها إتقان العلم والهيمنة عليه أي الإلمام التام والتفهم الكامل لكل ناحية من نواحيه. فالتعرف السطحي بالعلم

ص: 358


1- الفاروقي، إسماعيل حساب مع الجامعيين المسلم المعاصر، العدد 31،( مايو 1982)، ص49

لا يكفى ولا يغنى والاكتفاء به جرم. على المسلم الذي يطلب العلم عند الغرب أن ينفذ إلى كافة الحقول والمكامن ويحيط بتاريخ العلم ومنجزاته، ويدرك مناهجه النظرية ومسالكه العملية، ويعرف مشاكله وآماله حتى يقف على نشأته وحاجاته

وإمكانياته».(1)

- وتسعى الدراسة الحالية إلى الكشف عن الوعي المنهجي للفاروقي في قراءته للنموذج المعرفي الغربي،وتحديد المنطلقات الفكرية لهذه القراءة المنهجية،والتعرف على الأدوات المنهجية التي استخدمها الفاروقي في هذه القراءة. وذلك بهدف استخلاص الخبرة المعرفية للفاروقي في النظر للنموذج المعرفي الغربي باعتبارها خبرة مضافة نحو التأسيس المعرفي الحضاري للأمة، وذلك من خلال الاعتماد على منهجية تحليل النص عند الفاروقي» في جوانبه المتعددة، واستخلاص لأدواته المنهجية ومفاهيمه التحليلية التي قدمها في قراءته للنموذج المعرفي الغربي.

و بناءً على ما تقدم تحاول الدراسة الحالية الإجابة على ثلاثة أسئلة أساسية تتلاقى

مع عنوان الدراسة وأهدافه، وهى:

ما الإطار المرجعي الذى يستند إليه الفاروقي في نموذجه التفسيري ؟

ما الدوافع الحضارية للفاروقي في قراءة النموذج المعرفي الغربي؟

كيف قرأ الفاروقي النموذج المعرفي الغربي وأدواته المنهجية المستخدمة في هذه القراءة؟

محددات مفاهيمية

1- المنهجية

- لغة، المنهج أو المنهاج هو الطريق الواضح، وفي القرآن [ لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شرْعَةً وَمِنْهَاجًا ] {المائدة: 48} ، قال صاحب المفردات النهج الطريق الواضح، ونهج

ص: 359


1- المرجع نفسه، ص49

الأمر وأنهج: وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه(1). واصطلاحاً المنهاجية هي»علم بيان الطريق والوقوف على الخطوات... أو الوسائط والوسائل التي يتحقق بها الوصول إلى الغاية، على أفضل وأكمل ما تقتضيه الأصول والأحوال... والمنهجية مصدر لابتغاء الرشد... من خلال تحديد المراحل والتمييز بين المستويات والتحقق من علامات الاستدلال عند المفارق وإدراك مراجع الاتصال بحيث يمكن السالك من التزام جادة المسار وتعرف مناكب الاستدلال، فالمتابعة واللحاق .(2)

والمنهجية على هذا النحو تتفاعل مع عوامل أخرى في الإنسان تأثراً وتأثيراً، يشير ملكاوى إلى ثلاثة عناصر تؤثر في منهجية تفكير الإنسان ووعيه بالواقع «الأول هو المدركات القبلية المستقرة في ذهن الإنسان وتتمثل عادة بمجموعة المبادئ والقيم التي تتصل بالفطرة أو تأتى من النظم والظروف الاجتماعية، والثاني هو الأدوات التي يستخدمها والعمليات العقلية والشعورية وملكات الحدس والخيال والإرادة التي يمارسها، والثالث هو الحقائق الموضوعية المرتبطة بالواقع؟ أي خصائصه الكمية والكيفية، وعلاقاته بما حوله. ويتم التفاعل بين هذه العناصر في العقل الإنساني الذى يقوم بتنظيمها ضمن ما يسمى بالخبرة الإنسانية، وهذه الخبرة هي المضمون الذي يستخدمه الوعي لفهم الواقع الطبيعي والاجتماعي، وإدراك موضوعاته وظواهره، وتفسيرها وبيان دلالاتها وإمكانات توظيفها في الفهم والسلوك» . (3)

وهنا لا بد من الإشارة إلى التفاعل الذي تم بين الفاروقي والحضارة الغربية، حيث التقى بها في فترة مبكرة من حياته واهتم باستيعاب النموذج المعرفي الغربي في أصوله وفروعه، حيث درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم جامعة إنديانا، ثم جامعة هارفارد، ثم جامعة ماكجل بكندا، وجامعة شيكاغو، ثم جامعة سراكيوز وأخيراً جامعة تمبل بفلاديفيا . وقضى سنتين في كلية اللاهوت وتعرف عن قرب

ص: 360


1- الأصفهاني، الراغب.مفردات ألفاظ القرآن ، دمشق، دار القلم، 1992، ص825
2- أبو الفضل منى عبد المنعم نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، ص8
3- ملكاوي، فتحي حسن منهجية التكامل المعرفي.. مقدمات في المنهجية الإسلامية، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2011، ص 120

على الفكر الديني المسيحي في الغرب، وألف كتاب Christian Ethicsالأخلاق المسيحية هذا بالإضافة إلى دراسته التأصيلية ودرسه للإسلام والعلوم الشرعية في الأزهر الشريف (1954-1958) واستيعابه لعلوم الشريعة وفقهها، هذه العوامل مجتمعة شكلت فكر الفاروقي وعقله العلمي وأثرت بشكل واضح في تصوره الفكري ورؤيته الحضارية ومنهجيته وقراءته المعمقة للفكر الغربي وفلسفته وأصوله ومسلماته وجعلته أكثر اتصالاً ومعرفة بحقيقة ما يحمله النموذج المعرفي الغربي من قضايا وطروحات وتناقضات وإشكالات متباينة نعرض لبعض منها في هذه الدراسة من خلال وقوفنا على أدواته في التعامل مع النموذج الغربي.

وقد أثر ذلك التفاعل على التكوين العقلي والمنهجي للفاروقي حيث جمع بين بعدين رئيسين الأول: البعد الفلسفي، حيث حصل على درجة البكالوريوس فی الفلسفة عام

في من كلية الآداب والعلوم بالجامعة الأمريكية ببيروت، ثم حصل على ماجستير

«الفلسفة» عام 1949 من جامعة إنديانا ثم درجة الماجستير في «الفلسفة» أيضاً من جامعة هارفارد عام 1951. أما رسالته للدكتوراه فكانت بعنوان«نظرية الخير ، الجوانب الميتافيزيقية والقيم الابستمولوجية للقيم» حيث حصل بها على درجة الدكتوراه عام 1952 من جامعة إنديانا.

أما المكون الثاني لعقل الفاروقي فهو البعد الشرعي والذي تمتد جذوره إلى نشأته

(العائلية المسجد) ووالده ثم أراد أن يكون هذا التكوين الشرعي على علم ودراسة،فاتجه إلى مصر للحصول على دراسات ما بعد الدكتوراه في الأزهر لمدة أربع سنوات (1954 1958)حيث قام بدراسة العلوم الشرعية بطريقة مكثفة خلال هذه الفترة والتي ساهمت بشكل أساسي في تحديد رؤيته الفكرية التي جمعت بين ثلاثة رؤى أساسية استوعبها الفاروقي ورسم من خلالها تصوره الفكري الحضاري.

وفي ضوء هذا التكوين المنهجي المتعدد للفاروقي بين درسه المنهج الغربي، والمنهج الفلسفي التحليل التأملي، ومنهج الدراسات الشرعية الإسلامية، هذا بالإضافة إلى تمرسه في علم مقارنة الأديان ودراسته وتدريسه للعلوم اللاهوتية المسيحية. كل

ص: 361

هذه العناصر شكلت ما يمكن أن نطلق عليه في لفظه ومعناه «العقل الفاروقي» الذى انشغل بالهم الإسلامي من خلال أفق يتسم بالرحابة والتأمل الصادق والإنجازالإيجابي الملموس والبصيرة الحضارية.

وهذه الدراسة محاولة لتحليل بعض القواعد والأسس التي انطلق منها الفاروقي في قراءته للنموذج المعرفي الغربي، والأدوات المستخدمة في تلك القراءة، والتي نطلق عليها «المنهجية».

2- النموذج المعرفي Paradigm

- من خلال تتبع عام لدراسة توماس كون« بنية الثورات العلمية» في نسختها العربية نلاحظ استخدام كون مجموعة من التعبيرات الفلسفية للدلالة على مصطلح« النموذج المعرفي« أو كما سمي في طبعته العربية الأولى«النموذج الإرشادي« ومن أو هذه التعبيرات« التصور الذهني المسبق»، فهم العالم»، «التعميمات والمفاهيم»،« القيم والتصورات»، «التعميمات الرمزية»، ورغم أنه كما يذكر «كون» أنه استخدم أكثر من اثنين وعشرين معنى للدلالة على مفهوم« النموذج المعرفي» إلا أنه كان أكثراستخداماً لمعنيين رئيسين معبرين عنه«فهو من ناحية يعبر عن جماع المعتقدات والقيم المتعارف عليها والتقنيات المشتركة بين أعضاء مجتمع بذاته، ومن ناحية أخرى إلى عنصر منفصل في هذا المركب الجامع وهو الحلول الواقعية للألغاز».(1).

كما نجد أن ما قدمه كون حول مفهوم النموذج المعرفي يشير إلى: توافر إطار تفسيري عام لجماعة علمية محددة/ أو مجتمع علمي معين(2)، ويتضمن هذا الإطار التفسيري عدة عناصر أبرزها، المفاهيم، التعميمات الرمزية، والمستوى الميتافيزيقي( المسلمات)، والقيم، ويركز كون أيضاً على قيم التآلف والانسجام بين هذه العناصر

ص: 362


1- كون، توماس. بنية الثورات العلمية، ترجمة جلال شوقي . الكويت عالم المعرفة، العدد 168،ديسمبر 1992، ص 244
2- يتألف المجتمع العلمي/أوالجماعة العلمية الذي يقصدها كون من"مجموعة من الممارسين لتخصص علمي محدد. ويكونون قد مروا بمرحلة متماثلة من حيث التعليم والتنشئة المهنية... ويستوعبون خلال هذه العملية ذات الأدب التقني ويفيدون منها نفس الدرس ( انظر: المرجع نفسه، ص 246)

بعضها البعض داخل الحقل المعرفي لهذه الجماعة العلمية.

ويتداخل مفهوم«رؤية العالم»مع مفهوم النموذج المعرفي، وقد تتبع ملكاوى هذا المفهوم ونشأته عند« إيمانويل كانط (18041724م) و« وليلهام دلثاي» (1833-1911م) وغيرهم من المفكرين والفلاسفة، وتوصل إلى أن رؤية العالم هي» مجموعة من المفاهيم والمعتقدات والتصورات الإدراكية التي تمكننا من فهم الكون والحياة والإنسان والعلاقات القائمة بينهما»(1) ، من ناحية أخرى فإن« رؤية العالم» تساعد في عملية التحليل والتفسير للظواهر الإنسانية المختلفة باعتبارها وحدة تحليل كما «أنها تعيننا على تفسير التنافس بين النظريات والمبادئ العامة والخاصة ببعض المجالات المعرفية نتيجة توجهات المتخصصين والعلماء الذين يصوغون هذه النظريات والمبادئ» . (2)

- ويقترب من «النموذج المعرفي اصطلاح آخر هو« النظام المعرفي» Cognitive system، ويقع هذا الاصطلاح في ميدان علم اجتماع الثقافة، وعلم اجتماع المعرفة وفي علم النفس الاجتماعي، ويفترض نظرياً« أن لكل مجتمع ولكل شخص« نظاماً معرفياً» خاصاً به يتكون من مجموعات من عناصر المعرفة أو المعتقدات التي يستند إليها المجتمع أو الشخص في تعرفه على العالم من حوله وفي تعامله مع هذا العالم، أو التي تتكون منها (في حالة المعتقدات) عقيدته الكلية... ويتكون النظام المعرفي من: نظم معرفية جزئية تتشكل من تفاعل : المعلومات والمفاهيم والتصورات الذهنية لكي يتكون من هذه النظم الجزئية الفرعية في النهاية «النظام المعرفي» الكلى أو الشامل الذى يتميز به مجتمع أو فرد بعينه» .(3)

-واهتم عبد الوهاب المسيرى باصطلاح «النموذج المعرفي» وتحديد ماهيته وطرق تكوينه، وعناصر تشغيله، ومحتواه ومضمونه، ويعرف المسيرى النموذج بأنه بنية فكرية تصورية يجردها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل

ص: 363


1- ملكاوى، فتحي. رؤية العالم والعلوم الاجتماعية إسلامية المعرفة المعهد العالمي للفكر الإسلامي العدد 42-43، 2006، ص96
2- المرجع نفسه، ص 92
3- خشبة سامي مصطلحات فكرية، القاهرة، المكتبة الأكاديمية، 1994، ص 579

فيختار بعضها ثم يرتبها ترتيباً خاصاً، أو ينسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يقال عنها أحياناً «عضوية». أما «المعرفي» فيوصف بأنه«ما يتعامل مع الظاهرة من منظور(1) كلى ونهائي»(2).

- ويرى المسيري أن لكل نموذج بعده المعرفي أي أن خلف كل نموذج معاييره الداخلية التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي، وهى جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، وحلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق وما هو نسبى من منظوره. فهي باختصار مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التى تجيب على الأسئلة الكلية والنهائية (ما الهدف والغاية من الوجود في الكون؟ هل الإنسان مادة وحسب، أم مادة وروح؟ أين يوجد مركز الكون: كامناً فيه أم مفارقاً له ؟(3) .

والنموذج المعرفي وفقاً لما تقدم يحمل رؤى الإنسان الفيزيقية والميتافيزيقية، ونظامه القيمي وعلاقاته المعيارية، ومصادر تشكيل معرفته، وإطاره المرجعي، وهذا يجعل النموذج أداة تحليلية يمكن من خلالها إدراك جوهر الظاهرة وفروعها، ويساهم في عملية التفسير بصورة أساسية.

وتنقسم الدراسة الحالية إلى ثلاثة محاور بالإضافة إلى المدخل المنهجي والدرس المعرفي المستفاد والخاتمة- هما:

المحور الأول: الإطار المرجعي عند الفاروقي في قراءته للنموذج المعرفي الغربي.

المحور الثاني : معالم منهجية الفاروقي في قراءة النموذج المعرفي الغربي.

ص: 364


1- المسيرى عبد الوهاب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج1، القاهرة، دار الشروق، 1999، ص107.
2- المرجع نفسه، ص 122
3- المسيرى عبد الوهاب: العالم من منظور غربي كتاب الهلال العدد 602 ، القاهرة، فبراير 2001، ص20 - 21

المحور الثالث: بعض تجليات النموذج الغربي وتمثلاته.

المحور الأول: الإطار المرجعي عند الفاروقي

- كلمة «مرجعية» تعنى الفكرة الجوهرية التى تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التى لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها« فهي ميتافيزيقا النموذج». والمبدأ الواحد الذى تُرد إليه كل الأشياء وتنسب إليه ولا يرد هو أو ينسب إليها(1)

-وإسماعيل الفاروقي-موضوع -الدراسة ينتمي إلى أصحاب«المرجعية النهائيةالمتجاوزة والتي تستند إلى فكرة التوحيد للإله المنزه عن الشرك والمادة ،«وعن الطبيعة والتاريخ، الذي يحركهما، ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يرد إليهما. ووجوده هوضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تختزل ولن تلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الإمامة والاستخلاف».[2]

- والتوحيد عند الفاروقي هو رؤية عامة للحقيقة، وللواقع، وللعالم، وللمكان وللزمان، ولتاريخ الإنسانية ولمصيرها، ومن خلاله يفسر الأحداث والوقائع، ويستنبط نظام القيم والمعرفة والأخلاق، وتقوم هذه الرؤية التوحيدية» للفاروقي بدور المرجعية والأداة التحليلية في التفسير داخل الإطار الكلي، وتعتمد بدورها على عدة عناصر مفسرة هي:

أ- الثنائية : وهذا المبدأ يقسم (الكون) العالم إلى نوعين متمايزين «إله، ولا إله. خالق ومخلوقات. أما نظام الإله فهو قاصر على الله سبحانه وتعالى وحده. فهو وحده الرب السرمدي الذى لا بداية له ولا نهاية. وهو الخالق المتعالي، المتفرد على الدوام، بلا شبيه ولا شريك... ونظام الخالق مغاير تماماً وبشكل مطلق لنظام

ص: 365


1- المسيرى عبدالوهاب موسوعة اليهودية والصهيونية، ج 1، مرجع سابق، ص.54

المخلوقات، من حيث الكنه، والكينونة، ومن حيث الوجود والوظيفة. ومن المستحيل على الإطلاق أن ينصهر أحد هذين النظامين في الآخر، أو يحل فيه أو يختلط به، أو أن يتحد أحدهما بالآخر . فمن المحال أن يتحول الخالق إلى مخلوق، ولا أن يتسامى

المخلوق ليصير ويتجلى في صورة الخالق بأي منطق، ولا بأي شكل كان ظ(1)

ب- التصورية: وهو العنصر الثاني داخل الإطار التوحيدي الكلي الذى يتبناه الفاروقي، ويقصد به أن العلاقة بين نظامي الخالق والمخلوق فكرية تصورية في طبيعتها، وركيزة مرجعيتها في الإنسان هي ملكة الفهم. ويشمل الفهم بوصفه أداة للمعرفة، ومستودعاً لها كافة الوظائف المعرفية كالذاكرة والتخيل والملاحظة والحدس والإدراك ... وكل البشر فطروا على الفهم بدرجة تكفى لمعرفة المشيئة الإلهية بواحدة من طريقتين أو بكلتاهما : الوحي المنزل من عند الله تعالى، واستنباط تلك الإرادة من ملاحظة السنن الإلهية في الكون التى لا تتبدل ولا تتغير.(2)

ج) الغائية: ويقوم هذا المبدأ على اعتقاد غائية الكون وهو ضد العبثيةوالصدفيةو الفوضى ،بمعنى« أن الكون له غاية خلقه خالقه من أجلها..فالعالم كون مترابط ومنتظم ومتناغم ،لا تفاوت فيه ولا فطور تتحقق فيه إرادة خالقه على الدوام... هذا باستثناء الإنسان فيما يتعلق بالأوامر التكليفية الإلهية الموجهة إليه. فالعمل الإنساني الأخلاقي لا يتوافق بالضرورة مع الإرادة الإلهية لكونه في جوهره عملاً يرتكز على التدبر الحر الإرادي المقصود. أما الإنسان في بعده الجسدي فهو متكامل مع بقية المخلوقات، وخاضع للسنن التكوينية، وغير مختار في الاستجابة لمقتضياتها».(3)

د) القدرة الإنسانية وقابلية الطبيعة للتطويع: يرتبط هذا المبدأ بالحلقة الثانية في سلسلة الإطار التفسيري عند الفاروقي وهى الغائية، فإن سنن الله تعالى في الخلق، ومنطق الخلق يقتضى إمكانية تحقيق غايته في الزمان والمكان في هذه الحياة الدنيا،

ص: 366


1- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد مضامينه على الفكر والحياة ترجمة السيد عمر، القاهرة مدارات للنشر والتوزيع ، 2015م، ص 52
2- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد.. مضامينه على الفكر والحياة، مرجع سابق، ص 53
3- المرجع نفسه، ص 52

فيما بين الخلق واليوم الآخر. ولابد أن يكون الإنسان بوصفه فاعل الفعل الأخلاقي قادراً على تغيير ما بنفسه... وأن الخليقة لا بد وأن تكون طيعة وقابلة للتحول وللتغيير في جوهرها وهيكلها وشروطها وعلاقتها بالفعل الأخلاقي الإنساني كشرط لتضمين النموذج أو القصد الإنساني في الطبيعة، أو تجسيدها له... والخليقة بعمومها مؤهلة لتحقيق ما ينبغي أن يكون، أو بالأحرى تجسيد المثال الإلهي المطلق في حدود الاستطاعة في الفضاء المكاني والزماني الذى تعيش فيه الإنسانية على هذه الأرض»(1).

ه_) المسؤولية والمحاسبة: وهذا المبدأ هو نتيجة لما تقدم من تكليف الإنسان بتغير نفسه، والمجتمع والبيئة بما يتماشى مع الأمر الإلهي، وهو ما يتطلب أن يكون الإنسان حراً وقادراً على القيام بهذا التكليف، ويترتب على هذه المقدمات المسؤولية والحساب «فالالتزام الأخلاقي مستحيل دون المسؤولية والحساب... ومبدأ المحاسبة متأصل في طبيعة المعيارية نفسها، وهو مبدأ قرآني كلى يمثل الأساس الذي يقوم عليه النظام الأخلاقي الديني الإسلامي برمته» .(2)

ز) النموذج المعرفي التوحيدي والنظام الكوني: يوضح الفاروقي في هذا المبدأ علاقة بين التوحيد باعتباره رؤية تصورية ونظام معرفي بالحقيقة الاجتماعية والوجودية، وعلاقاته بالأشياء والإنسان، مبرزاً الارتباط بين النظام القيمي التوحيدي والظاهرة الطبيعية بخصائصها المادية والذي يتمثل في الضبط القيمي الذي يقدمه النموذج التوحيدي للظاهرة المادية، ويؤكد في هذا المجال المعرفي على حقيقتين كونيتين هما:(3)

أن الظاهرة الطبيعية حقيقية لا تنكر قط. لكنها ليست كل ما في الوجود. فالوجود ليس كله مادة محسوسة خاضعة لقوانين المعرفة الحسية/ هنالك ملكوت واسع من الظواهر المعنوية. فالقيم لا تحس ولكنها موجودة بوجود أقوى وأغنى من وجود

ص: 367


1- المرجع نفسه، ص 54
2- المرجع نفسه، ص 54
3- الفاروقي، إسماعيل. نحن والغرب»، المسلم المعاصر، العدد الحادي عشر(سبتمبر 1977)، ص32-33

الأشياء. فهي فاعلة محركة بينما الأشياء والطبيعة جامدة محركة. وليس صحيحاً أن المعرفة لا تعرف يقيناً. بل إن لها علماً لا يقل شأنه عن العلوم الطبيعية له ضوابطه ومنهجه، وله أحكامه وله تاريخ حافل طويل.

كما أن رغبات الإنسان لأحوج ظواهر الطبيعة إلى الانقياد بالقيم المعنوية لأنها أميلها إلى الطغيان، وإفساد نفسها بنفسها كلما تعدت الحدود التي ترسمها لها القيم.لذلك، يوجب التوحيد علينا أن نلجم رغباتنا بلجام القيم، وألا نشبعها إلا بعد التأكد من أن إشباعها المطلوب لا ينتهك قيمة ولا يتعدى حداً. فالشريعة ليست إلا تطبيق القيم على الظواهر الطبيعية. وهى حقة وصادقة مرتين مرة بالتنزيل ومرة بالفعل. فهي تعرف يقيناً، ولذلك هي خير معيار لكل شئ هذا في مقابل ما أدعته المسيحية أن الطبيعة شر كلها ليست السعادة في الإسلام سعادة إشباع رغبات بل سعادة تحقيق الذات كلها من رغبة طبيعية، وبشوق روحي. وهذا الانقياد للقيم لا ينطبق على الفرد فحسب، بل على الجماعة - أيضاً .... ولا سيطرة للإنسان على الطبيعة ولا تنافس عليها مع أخيه الإنسان. إنما استثمار للطبيعة بتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان وبالتواصي والتآخي والمعروف.

المحور الثاني: معالم منهجية الفاروقي في قراءة النموذج المعرفي الغربي

اعتمدنا في استخلاص هذه المعالم الأساسية في قراءة النموذج المعرفي الغربي عند الفاروقي على قراءة تحليلية للنص الفاروقي- المتوفر لدينا- متتبعين الآثار والأصول والتجليات التي طرحها في كتاباته، وقد اهتم بصورة أساسية بالظلال والتمثلات للنموذج الغربي مع تقديم نظرة تحليلية للمبادئ والقيم الحاكمة في هذا النموذج والتصورات الكلية له ومسلماته والتي نشير إليها في العناصر التالية.

:أولاً : السياقات الفكرية والاجتماعية لنشأة النموذج المعرفي الغربي -

أدرك الفاروقي العوامل الفكرية والاجتماعية التي أخرجت النموذج المعرفي الغربي إلى الوجود بوضعيته المادية على هذا النحو مبيناً دور الكنيسة المحوري

ص: 368

(السلبي) في هذه النشأة، والصراع بين التيارين المثالي والوضعي، حيث يرى الفاروقي «أن معتنقي المذهب العقلي في القرنين السابع عشر والثامن عشر قد أقاموا نظاماً عظيماً للفكر حاولوا بمقتضاه إعادة تأسيس الدعامة الأولى للثقافة الغربية والمسيحية على أساس عقلي. ولقد كان معظم الأوروبيين الغربيين ينظرون إلى الثورة الفرنسية على أنها الحركة الظاهرية التي أدت إلى تدعيم ذلك النظام وحاولت أن تضفي عليه الصبغة العالمية، ولقد كان فشلها اللاحق يمثل كلاً من العلة والمعلول لظهور مذهب النزوع إلى الشك الذى كان قد شن معركة قاسية على مدى قرون عديدة من قبل ضد سطوة الكنيسة. ولقد تم خوض تلك الحروب الطويلة القاسية في مجالات العلوم الطبيعية، وبصفة رئيسة علم الفلك وعلم الكون حيثما كان كل من الكنيسة، والكتاب المقدس، يعتنقان آراء تتعارض مع ملاحظات العلوم التجريبية؛ ولقد نجح ذلك النزوع إلى الشك في هدم المذاهب التى اعتنقتها الكنيسة حول الكون، وأيضاً النظم العقلية التي بالرغم من منطقيتها كانت لا تزال تؤمن بصحة المبادئ الرئيسة للمسيحية) .(1)

ومن ناحية أخرى تأثرت نظرة أوجست كونت الوضعية بالتطورات التي شهدها العقل الأوروبي لا سيما في فترة تراجع دور الكنيسة والاستبداد الديني حيث« شهد أوجست كونت تلك الفترة القصيرة التي سيطر فيها العقل باعتبارها الفترة التي نجحت فيها أوروبا في إنهاء الطغيان الفكري للكنيسة، ولكنه عندما كان يتطلع إلى المستقبل، كان يشعر بالتفاؤل ويستطيع أن يتنبأ بظهور فجر عصر جديد، عصر العلم الإيجابي، الذى يستطيع فيه الإنسان - بعد تحرره النهائي من كل الإيمان الساذج والأفكار الجازمة - أن يأخذ مكانه في العالم الذي يكون بدوره قد تحرر من الاثنين ومن ثم فإن الإنسان طبقاً ل-«كونت» يجب أن يطبق العلم لتنظيم حياته ذاتها، ومثلما طبق الطب على وجوده الفردي المادي، يجب أن يبتدئ في تطبيق العلوم الاجتماعية على سلوكه الاجتماعي وعلى سلوك الجماعة ككل، وطبقاً لأب العلوم الاجتماعية في

ص: 369


1- الفاروقي إسماعيل صياغة العلوم الاجتماعية صياغة الإسلامية، رسائل إسلامية المعرفة (5) المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، ص 8

الغرب، فإن العلوم الطبيعية تحوز على ميثودولوجيا الحقيقة التي لايمكن وضعها موضع الشك . ونظراً لأنه قد تم تطبيق تلك العلوم في النطاق المادي، فقد حان الوقت الآن لأن يمتد ذلك النجاح إلى نطاق العلاقات الإنسانية»(1).

والمرحلة الأخرى التي أثرت في تشكيل النموذج المعرفي الغربي من وجهة نظر

الفاروقي هو ما تعرض له العقل الغربي من صدمة في الحرب العالمية الأولى حيث »اصطدم الفكر الديني بالحرب العالمية الأولى، ودعا إلى الانسحاب والانعزال عن العالم ورأى الخلاص في القفزة العمياء إلى المسيح والسكون إليه وفيه وجودياً-وذلك حسبما رآه المفكر الديني الأول كيركجارد - ولكن عند صدمته بالحرب العالمية الثانية اضطر إلى التدخل...وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى ظهرت الدعوات التي تنادى بالتخلص من الدين ومن كل عنصر ما ورائي مطلق، إذ يكمن الشر والاستبداد في الماورائية والإطلاق بالذات». (2)

وفي الوقت نفسه انتشر الفكر الوضعي وظهر تحديه للمسائل الفلسفية بدعوى أن مسائل الفلسفة كلها مسائل لغوية تفتيتية لا جوهر لها سوى ما وضعه المتكلمون من معان ألصقوها بالكلمات التي يتفوهون بها، وبالفعل عم فكر إير وفيتجنشتاين جميع دوائر الفلسفة في العالم الغربي، فأصبحت الوضعية المجردة-أي التقنية- مدار الدراسة العلمي في الطبيعة وهدفه الأول والأخير ، والوضعية المنطقية مدار الدراسة في الفلسفة

وحقولها، وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأخيراً في الفكر الديني نفسه.(3)

ويرى الفاروقي أن أهم جوانب اتفاق الفكر الغربي مع المسيحية الأوروبية تتمثل في موضعين أساسيين هما «عزل العقل وإحلال الشعور مكانه كمنهج للمعرفة، ذلك أن العقل لا يسوغ التثليث والتجسيد وصلب الإله وموته وإعادته إلى الحياة وتخليص البشر بتعذيبه، إنما الشعور المسيحي يسوغ ذلك عند المسيحيين المؤمنين بهذه

ص: 370


1- المرجع نفسه، ص8-9
2- الفاروقي، إسماعيل. التحرك الفلسفي الإسلامي في العصر الحديث، المسلم المعاصر، العدد 39 ( مايو 1984، ص15
3- المرجع نفسه، ص 16

الأركان، وثانياً أن الخطيئة الأصلية وسقوط البشر أجمع بالضرورة الناتج عنها أفسد جبلة الإنسان بحيث أصبحت لا يرجى منها خير وعجزت بالكلية عن الإتيان به حتى لزم أن يتجسد الإله ويكفر عن الإنسان خطيئته ويحدث له خلاصة. وبالتالي فالزمان والمكان ؛ بل والخلق كله مفسود وساقط لا يستغرب من قيامه على تعارك جميع القوى والعناصر والمخلوقات التي يتألف منها بعضها مع بعض دون جدوى أو نهاية»(1).

وفي ضوء هذه العوامل والمؤثرات لا سيما المؤثر الديني نشأ الفكر التنويري الغربي في ظل هذه العوامل والمؤثرات مما أنتج ردود فعل معرفية قائمة على التمرد على العقل المعرفي الكنسي بالأساس، والانتقال إلى عقل جديد هو العقل النقدي، وفي الوقت نفسه تبلور النموذج المعرفي الغربي مستمداً أصوله من الفلسفة اليونانية والإغريقية لاسيما في نزعتهما المادية بعد حالة الفراغ الذي تسببت المسيحية في إيجاده خلال العصور الوسطى.

ثانياً: المسلمات الأساسية للنموذج المعرفي الغربي

حدد الفاروقي أبرز المسلمات التي يقوم عليها النموذج الغربي وهي النزعة الشكوكية مبيناً أبعادها المعرفية في العقل والتصور الفكري الكلي الذي يحمله التصور الغربي، ويرى بان هذه النزعة الشكيه هي ! الأساس المعرفي الذي ساهم في بناء كثير من القيم في النموذج الغربي بدءا من عصر التنوير الأوروبي، ويؤكد على مخاطر النزعة الشكوكية التي« تفاقمت بدرجة بالغة الخطورة في عالم اليوم عامة، وفى الغرب بوجه خاص. وباتت تلك النزعة هي المبدأ السائد في أوساط المتعلمين، فضلا عن شيوعها في أوساط العوام المحاكين للمثقفين في مجتمعاتهم. ويعود هذا الانتشار المشهود جزئياً إلى نجاح العلم بمفهومه الغربي، المنظور إليه على أنه بمثابة الانتصار المتواصل للعقل التجريبي على العقل الديني وروج الغرب تعريفاً للعقل الديني على أنه العقل الملتزم بتعاليم الكنيسة ورؤيتها. وفقدت الكنيسة في رأى التجريبيين حجيتها ومرجعيتها في تعليم الحقيقة من أمد طويل. بل إن

ص: 371


1- المرجع نفسه، ص 15

الكنيسة لم تكن يوماً ما أملاً لحيازة مثل تلك المرجعية والحجية»(1)ويقوم المذهب

الشكي على مجموعة من الافتراضات والاعتقادات المعرفية الأساسية هي:(2)

لا شئ يعرف حقيقة سوى الظواهر الطبيعية. وفى العلاقات الإنسانية الظاهرة الطبيعية هي الرغبة.

الظواهر الأخلاقية لا تُعرف حقيقة. فهي دائماً وأبداً مشكوك فيها لا تُعرف بشر حق ولا خير حق.

لا يجوز للإنسان أن يدعى أن سلوكاً ما خير من سلوك آخر إلا إذا أدى ذلك السلوك إلى إشباع رغبة من رغباته هو دون الآخرين.

ويربط الفاروقي بين نظرة المسيحية وتصورها لطبيعة الإنسان وبين تأصيلها للمذهب الشكي في مبحث الأخلاق الذي قام أصلاً ضد معتقداتها ومضامينها المعرفية وكانت سبباً في نموه وازدهاره حيث باركت المسيحية مذهب الشك الأخلاقي، وذلك باعتقادها أن الإنسان مخلوق ساقط بنيت جبلته على الإثم والعدوان والمنكر ، لا أصل ولا جدوى من اجتهاده وعمله فحياته كلها كتلة من الخطيئة والفجور، والمجتمع ليس إلا ميدان الشيطان أرادت المسيحية أن تبرهن على ألوهية المسيح فرأت أنه يلزم للاقتناع بعملية التخليص التي قام بها الإله بتجسمه في المسيح وصلبه أن يكون الإنسان عاجزاً عن تخليص نفسه بفعله. لذلك حطت من قدر الإنسان ونفت الأخلاق من سلوكه. فاتفقت مع مبدأ الشك بأن سلوك الإنسان لا حقيقة معنوية أو قيمية فيه»(3)

ورغم تأكيد الفاروقي على بعض الجوانب الايجابية لهذا المبدأ الأساسي( مبدأ الشك في النموذج الغربي مثل احترام الذات الإنسانية وحمايتها، وهو ما أدى إلى توثيق روابط الاجتماع الغربي وذلك للاتفاق على ضرورة التعاون من أجل إشباع

ص: 372


1- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد.. مضامينه على الفكر والحياة، مرجع سابق، ص.85
2- الفاروقي، إسماعيل. نحن والغرب»، المسلم المعاصر، العدد الحادي عشر، ص 22 سبتمبر 1977، ص22
3- الفاروقي، إسماعيل. نحن والغرب»، مرجع سابق، ص 23

رغبات الذات، إلا أن ذلك أدى في الوقت نفسه إلى مجموعة من الآثار السلبية التي تأصلت في الشخصية الغربية وأهمها :(1)

غلا الغرب في رعاية الذات الإنسانية وحمايتها بأن ألهها وجعلها وحدها الحقيقية، فأصبح إشباع رغباتها هو معيار الخير والشر.

عرف الغرب عصبيتين: عصبية القوم على الفرد وعصبية القوم على القوم أدت الأولى إلى انحسار الشخصية الفردية بضرورة تطبعها بطابع الجماعة إلى أن أصبحت التربية عندهم لا معنى لها سوى التشبيه الاجتماعي Socialization، التثقف الاجتماعي Acculturation التوحد الكيفي الاجتماعي Homogenization ، التكامل الاجتماعي Adjustment. - وأدت الثانية إلى استعمار الإنسان لأخيه الإنسان بالجملة أي بالملايين.

غلا الغرب في استغلاله للطبيعة. فبالرغم من ازدهار العلوم الطبيعية على كافة أنواعها وتقديم التقنية في خدمة الإنسان فإن تأليه الرغبات ومنع العنف ضد الزملاء النمور أدى إلى اغتصاب الإنسان للطبيعة، أي إلى استثمار الطبيعة وتطويع قواها لإشباع الرغبات دون وازع أخلاقي، دون معيار يعلو على الطبيعة والرغبات معاً ويخضعهما لقيمه وأوزانه. فكان تلويث الموارد الطبيعية ونهب الثروة الأرضية بلا حساب مما أدى بدوره إلى قلب توازن الطبيعة في كثير من الحقول.

والنزعة الشكية التي يشير إليها الفاروقي ليست خاصة بالفكر الغربي الحديث أوالمعاصر وإنما ترجع في جذورها إلى القرن الرابع قبل الميلاد والتي قامت في مواجهة تفسير الواقع عن طريق التأملات العقلية، كما ظهر عند السفسطائيين والذين جاؤوا من بعدهم من الشكاك الأول مثل بيرون، وإينسيديموس وكارنيادس وغيرهم، ثم ظهرت في الفلسفة الحديثة عند باسكال وهيوم وكانط والتي أرادت تقويض الإيمان الدينى بالمفهوم الكنسي.

ص: 373


1- الفاروقي، إسماعيل . نحن والغرب»، المسلم المعاصر، مرجع سابق، ص29

ثالثاً: نقد العلوم الاجتماعية الغربية وإدراك التحيز

شمل هذا النقد للعلوم الاجتماعية عدة جوانب لا سيما ما يتعلق بالمنهج ذاته الذي نادى منذ البدء بفصل العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية وهو ما أثر بوضوح على مكانة هذه العلوم من ناحية، وأحكامها ومناهجها من ناحية أخرى ثم تفريغها من المضامين الإيمانية بصورة تامة« ... وكانت النتيجة: هي استحواذ الحقائق الواقعية لكل مجتمع على المقدرة لتكوين المعايير الخاصة به. لقد أدى مبدأ الواقعية، ومن ثم الاستقلال الذاتي القيمي للحقائق الاجتماعية، ووضعها موضع الاختبار إلى التدهور الأخلاقي الحتمي للمجتمع. ومن ناحية أخرى، فإن منح الغرب العلوم الإنسانية مكاناً خارج نطاق العلم قد أعفى تلك العلوم من التشدد الخاص بالموضوعية، وبإنزالها إلى المرتبة الدنيا حتى لا تطالب بالموضوعية العلمية، أو حيث لا يمكن إحراز تلك الموضوعية ، أبداً ، فإنها قد أصبحت عرضة للهجمات من مذاهب النسبية، والتشكك ،والذاتية، مما ساعد على إبطال أثرها بصفة أكبر وإفساد قوة متضمناتها (أى الإيمان،

والعقيدة والأمل والخير والواجب، والجمال،...) في تقرير الحياة والتاريخ» (1).

كما اهتم الفاروقي أيضاً بنقد بعض الدعاوى التي طرحها النموذج المعرفي الغربي الخاصة بنتائج العلوم الاجتماعية الغربية لا سيما ما يتعلق بالموضوعية والمحايدة وهو التناقض الذي يقع فيه المنهج الاجتماعي الغربي ففي الوقت الذي يؤكد فيه نسبية الحقيقة الاجتماعية فإنه يؤكد من ناحية أخرى موضوعية وحيادية نتائج العلوم التي تختص بدراسة هذه الحقيقة عنده حيث يدعى الغرب أن علومه الاجتماعية تتسم بالصفة العلمية لأنها محايدة، وتتعمد تفادى الأحكام والتفصيلات الإنسانية، وتعامل الحقائق باعتبارها حقائق وتتركها تتحدث عن نفسها، ولكن ذلك يعد إدعاء غير ذي جدوى؛ فإنه ليس ثمة إدراك نظري لأية حقيقة بدون إدراك طبيعتها وعلاقتها القيمية، ومن ثم فإنه بدلاً من الامتناع عن تحليل الناحية القيمية الذي لا يمكن تطبيقه على أي حال، والسماح للاعتبارات القيمية أن تقرر الاستنتاجات

ص: 374


1- الفاروقي، إسماعيل. صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، مرجع سابق، ص 19

بطريقة سرية، سوف يتولى أحد العلماء الصادقين القيام بعمل جميع التحليلات بطريقة صريحة، ذلك العالم الذي لن يدعى أبداً التحدث عن المجتمع الإنساني في حين أنه في الحقيقة يعنى المجتمع الغربي، أو يدعى التحدث عن الدين في حين أنه في الحقيقة يعنى المسيحية، أو يدعى التحدث عن القوانين الاجتماعية والاقتصادية، في حين أنه في الحقيقة يعنى بعض الممارسات العامة للمجتمعات الغربية»(1)

ثم انتقد الفاروقي الاتجاه الذي أطلق دعوى«أن ما كان تطبيقه ممكناً بالنسبة للطبيعة قد تم افتراض إمكانية تطبيقه بالنسبة للإنسانية، أى بالنسبة لكل من الفرد والمجتمع، فإن كليهما يمثل الطبيعة، ويجب إخضاعها لنفس الأساليب، إن لم يكن لنفس قوانين فهمها » .(2)

وقد أدى ذلك الخطأ الجوهري في تعريف حقائق العلوم الاجتماعية والتعرف عليها إلى ظهور خطأ آخر هو أن أى شخص يقوم بالملاحظة يكون في إمكانه وضع القوانين التي تتحكم في الحقيقة الاجتماعية لو أنه اتبع القواعد العلمية بطريقة مدققة؛ ولكنه يجب ان يتأكد من إبطال أى نوع من التحيز الشخصي والامتناع عن إصدار أى حكم سابق، فالحقائق يجب أن تدرك لتتحدث عن نفسها. ولقد ساد الاعتقاد أنه بمقتضى ذلك التشدد لن تستطيع الحقائق إلا أن تكشف أسرارها وهكذا تصبح خاضعة للمعالجة العلمية .(3)

كما انتقد الفاروقي العلماء الغربيين في تأكيدهم على الموضوعية رغم تحيزهم الكامن في خطوات منهجيتهم ونتائجها« حيث كان العلماء الاجتماعيون الغربيون من الجرأة بحيث أعلنوا أن أبحاثهم تتسم بالموضوعية، ولكننا نعلم جيداً أنهم يدينون بالتحيز وأنها غير مكتملة، ... إن العقل الغربي، بالرغم من التقدم المفاجئ في علم القيم الفينومينولوجي، كان بعيداً عن الإدراك بأن فهم الأديان والحضارات والثقافات

ص: 375


1- المرجع نفسه، ص22
2- المرجع نفسه، ص13
3- المرجع نفسه، ص 13

الخاصة بالشعوب الأخرى يتطلب نوعاً من التحيز المضاد وتعاطفاً مع الحقائق لو أنه سيتم فهم تلك الحقائق على الإطلاق»(1)

ويؤكد الفاروقي على البعد الذاتي للباحث ودوره في إدراك الحقائق مما ينتفي معه صفة الموضوعية، ففيما يتعلق بإدراك القيم» نجد أن الشخص القائم بالملاحظة هوالذي يؤكد الحقائق أو يتعاطف معها بطريقة فعلية سواء أكان مؤيداً أم معارضاً، وإدراك القيم يعد في حد ذاته تقريراً لتلك القيم، أى أنه يحدث فقط عندما يتم تفهم القيم في واقع الحياة. وبعبارة أخرى، فإننا لا نستطيع القول أنه قد تم إدراك القيمة إلا إذا كانت قد حركت، أو أثرت أو أثارت عاطفة أو شعوراً في الشخص القائم بالملاحظة وفقاً لما تتطلب طبيعتها، ويعتبر إدراك القيم شيئاً مستحيلاً لو لم يتم إحداث ذلك التأثير من خلال قوتها المقررة أو إغرائها المؤثر، ولكن ذلك ليس من الممكن حدوثه بدون إعداد من قبل الشخص القائم بالملاحظة الذي سوف يمر بذلك التأثر، وبدون التعاطف الوجداني مع الشئ إن اتجاه الشخص القائم بالدراسة تجاه الحقائق موضع الدراسة يقرر نتيجة تلك الدراسة، وذلك هو السبب في أن الدراسات الإنسانية الخاصة بالرجل الغربي والتحليلات الاجتماعية للمجتمع الغربي التي يقوم بها العلماء الغربيون تتسم بالضرورة بالصفة «الغربية»، وليس من الممكن أن تكون نماذج تحتذى لتطبيق دراسات على المسلمين أو مجتمعاتهم.»(2)

وينتقد الفاروقي تشكل الذهن الغربي الذي يقوم على التعميم وإهمال الخصوصيات الثقافية والدينية والبعد الديني والأخلاقي على وجه الخصوص، وهي العناصر الأساسية المكونة للظاهرة الإنسانية حتى في أقل المجتمعات تحضراً« ... إن الطالب الغربي الذى يدرس طبيعة الإنسان والمجتمع لم يكن في حالة تجعله يدرك أنه ليس بالضرورة أن تكون جميع الحقائق المتعلقة بالسلوك الإنساني، قابلة للملاحظة عن طريق الحواس، ومن ثم خاضعة للقياس؛ فإن الظاهرة الإنسانية لا تتكون من عناصر «طبيعية» على وجه القصد، بل يتدخل فيها عناصر أخرى تنتمي إلى نظام

ص: 376


1- المرجع نفسه، ص14-15
2- الفاروقي، إسماعيل. صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، مرجع سابق، ص14

مختلف، أى النظام الأخلاقي الروحي، وتقررها إلى درجة فائقة؛ وتلك العناصر لا تعد بالضرورة بمثابة نتائج لازمة لعناصر الطبيعة أو قابلة للاستنتاج من تلك العناصر، وهى لا تتسم بالتماثل العالمي في الجماعات الإنسانية، بل إنها تعتمد على التقاليد والثقافة والدين، والأولويات الشخصية والجماعية التي ليس من الممكن أبداً وضع تعريف شامل لها، وبمقتضى كونها روحية، فإن تلك العناصر ليس من الممكن عزلها أو فصلها عن أصولها الطبيعية، وليس من الممكن أبداً إخضاعها للأسلوب القياسي الوحيد الذى يعرفه العلم، وهو الأسلوب الكمي».(1)

ويشير الفاروقي إلى تقسيم آخر وفصل بين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية في الغرب والذي ترتب عليه استبعاد جميع التقييمات في العلوم الاجتماعية من ناحية وهيمنة التأمل الذاتي على العلوم الإنسانية من ناحية أخرى «لقد فصل الغرب العلوم الإنسانية عن العلوم الاجتماعية بسبب الاعتبارات الميثودولوجية؛ ولقد نجح ذلك الفصل في استبعاد جميع التقييمات من العلوم الاجتماعية فيما عدا تلك التي تقوم على أساس غايات مقيدة، فإن الموضوعية (العلمية) لم تستطع إجازة تلك التقييمات ومن ثم صرفتها إلى العلوم الإنسانية التى أصبح اهتمامها وتطبيقها يتسم بالصفة الشخصية والفردية التامة، وذلك التطهير المتعمد للعلوم الاجتماعية من جميع اعتبارات القيم الجوهرية قد جعلها عرضة للتأثر بأي قوة تتعرض لها؛ وكانت النتيجة لذلك هي استحواذ الحقائق الواقعية لكل مجتمع على المقدرة لتكوين المعايير الخاصة به. لقد أدى مبدأ الواقعية ومن ثم الاستقلال الذاتي القيمي للحقائق الاجتماعية، ووضعها موضع الاختبار إلى التدهور الأخلاقي الحتمي للمجتمع(2) .

4- المنظور الحضاري المقارن

-انطلق الفاروقي في قراءته للنموذج المعرفي الغربي من منظور حضاري مقارن، وذلك من خلال إبراز أهم التباينات والاختلافات التي توجد بين عناصر ومكونات

ص: 377


1- المرجع نفسه، ص12
2- الفاروقي، إسماعيل. صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، مرجع سابق، ص19

النموذج المعرفي التوحيدي المنتمي إليه، والنموذج المعرفي الغربي.

- وفي أحد هذه العناصر المشكلة للنموذجين وهو موقفها من «الإنسان» يرى الفاروقي أن الإسلام يختلف جذرياً، أولا:ً مع الرؤية الإنسانية الإغريقية، التي تعترف بإنسانية المواطنين الأحرار، بينما تصنف العبيد في فئة أخرى أدنى من سابقتها. ويختلف الإسلام ثانياً مع الرؤية الإنسانية اليهودية بذات الدرجة، التي تسلم بوجود الصورة الإلهية في كل البشر بالفطرة ، ولكنها تفرق بينهم بالمولد والطبع معطية أبناءها وضعية مختارة... ويختلف الإسلام ثالثاً مع المسيحية التي تمايز بين البشر من حيث امتلاكهم جميعاً ناموساً طبيعياً وتدعي اختصاص أتباعها بناموس إلهي بحكم إيمانهم وتعميدهم، ويختلف الإسلام رابعاً وأخيراً، مع الرؤية الإنسانية العلمانية الأوروبية التي تستمد هويتها من الثقافة الأوروبية على سبيل الحصر، وتهبط بالأسيويين والأفارقة وغير الأوروبيين عامة، إلى أدنى من مستوى البشر. فلم يستطع حتى رائد التنوير كانط، المنادي بالعقل الخالص، أن يصل بعقلانيته إلى نهايتها المنطقية، وخصص وضعية أدنى للأسيويين والأفارقة». (1)

- أما رؤية الإسلام للإنسان التي يقدمها الفاروقي فتتلخص في ذلك التصور القرآني

الذي يقوم على المبادئ التالية:

-كل البشر سواسية (المساواة المطلقة للإنسانية (الحجرات: 13، الروم: 20 -22 الزمر: 9).

- تحرير الإنسان من الخطيئة: فالخطيئة الأولى لآدم عليه السلام لا تمتد أثرها على أبنائه، فضلاً عن أنها خالية من أى أثر كوني - أيضاً - ومن ثم فلا مكان لمفاهيم من قبيل« الخلاص اللاهوتي» لا يعرف الإسلام أى خلاص لاهوتي. فالخلاص في

منظوره مفهوم ديني غير مناسب.لا نظير له في المفردات الإسلامية والإنسان لايواجه أى مأزق يحتاج إلى تخليصه منه» .(2)

ص: 378


1- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد، مرجع سابق، ص 138
2- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد، مرجع سابق، ص140

وفي مثال آخر لاستخدام الفاروقي« المنظور الحضاري المقارن» كأحد الأدوات المهمة في منهجيته في قراءة النموذج المعرفي الغربي، يطرح الفاروقي «النظام الاجتماعي» وموقف الإسلام ،والمسيحية واليهودية منه، ويرى« أن الدعوة العيسوية الموجهة إلى داخل الإنسان مع خاصية الكراهية - غير السوية - للمادة التي تتسم بها الغنوصية، وتحول توجهها النقدي للسياسة القبلية اليهودية إلى إدانة كلية للدولة ذاتها، وللحياة السياسية برمتها ... وليس لدى المسيحية الآن نظرية للمجتمع، فإدانتها للزمان والمكان، وللعملية السياسية، وتحفظها بشأن كل الأنشطة الدنيوية، واعتبارها أن النظام الاجتماعي نفسه أمر ثانوي عديم الجدوى في عملية الخلاص، يحول بينها وبين أن تكون لها نظرية بهذا الصدد». (1)

أما النموذج الإسلامي فيستمد مرجعيته من التوحيد والإقرار بأن هناك غاية للخلق، وأن تلك الغاية هي تحقيق الأوامر الإلهية المتعلقة بهذا العالم الذي تتخذ منه الحياة البشرية مسرحاً لفعلها الإنساني الحر المسؤول« يقتضى ذلك من المسلم النظر إلى الحياة بزمانها ومكانها بعين الجد، لارتباط فلاحه أو خسرانه بتمثله للسنن الإلهية المتصلة بالزمان والمكان الذى يحيا فيه ..(2) ومن ثم يقوم النظام الاجتماعي في الإسلام على عدة مقومات منها : (3)

-الطابع العام الذى يحكم الحياة الإسلامية (أخلاقية النية).

- الحاجة إلى نسيج اجتماعي ملموس حقيقي للوجود.

-علاقية القيميات.

ويصل الفاروقي إلى وصف دقيق لشكل الأمة. كما تحددها النظرية الاجتماعية في الإسلام، بكونها (أى الأمة) بنية مدنية عضوية، متعاضدة، غير محدودة بأرض أو شعب، أو بثقافة، أو بعرق عالمية وكلية ومسؤولة في حياتها ككيان اعتباري

ص: 379


1- المرجع نفسه، ص 167
2- المرجع نفسه، ص 170
3- المرجع نفسه، ص 172-173

مشترك، وكذا في حياة كل فرد منها. وهى مقوم أساسي لا غنى عنه في تحقيق أى إنسان لسعادته في الحياة الدنيا وفي الآخرة».(1)

ويقدم الفاروقي في صورة أخرى مقارنة بين النموذجين التوحيدي والغربي المادي من حيث المنطلقات المعرفية الأساسية والكلية، فالنموذج التوحيدي ينطلق من مصدرية القيم في النظر إلى لطبيعة وهو ناتج عن مبدأ التسخير والاستخلاف، لذا فالفعل الإنساني مع الطبيعة هو« الاكتشاف»، بينما النموذج الغربي ينطلق من مصدرية الذات

«الرغبات والدوافع»وهو ما جعل عنوان الفعل الإنساني في الطبيعة هو« الإبداع«والذي بدوره يعتمد على» القهر والسطو والسيطرة» .

وهو ما جعل النموذج التوحيدي نموذجاً منفتحاً يؤمن بالانفتاح والتواصل انطلاقاً من أصالة مبدأ« التغيير الإيجابي». في مقابل الانغلاق والانعزال في النموذج الغربي الذي ينطلق من أصالة مبدأ« الصراع والشر» في الاجتماع الإنساني.

وفي مقارنة بين الميثودولوجيا الغربية والإسلامية يصل الفاروقي بعد مناقشة

للميثودولوجيا الغربية إلى عدة نتائج أهمها: أن العلوم الغربية تعد ناقصة وهو ما طرحه تحت عنوان« نقائص الميثودولوجيا الغربية»والتي أشرنا إليها في نقد العلوم الاجتماعية الغربية والنتيجة الثانية هي : ذاتية العلوم الغربية في مقابل دعاوى عالميتها، أما النتيجة الثالثة هي أن العلوم الاجتماعية الغربية تنتهك متطلباً حاسماً للميثودولوجيا الإسلامية، وهذا المطلب عند الفاروقي هو مبدأ وحدة الحقيقة-في مقابل تعددها في الميثودولوجيا الغربية - ويتناول الفاروقي هذا المبدأ ( مبدأ وحدة الحقيقة) في العناصر التالية:

1-يقرر ذلك المبدأ أن الحقيقة تعد شكلاً من أشكال الله وليس من الممكن فصلها عنه، وأن الحقيقة واحدة مثلما أن الله واحد فالحقيقة لا تشتق وجودها من الله الذى هو خالقها وسببها النهائي فحسب بل إنها تشتق معناها وقيمتها من إرادته

ص: 380


1- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد، مرجع سابق، ص182

التي تعد غايتها وغرضها النهائي، وتقاس فاعلية تلك الحقيقة بمقتضى تحقيقها أو عدم تحقيقها للقيمة. وفي الواقع فإن الحقيقة أصبحت تتسم بالفعالية حتى غدا من الممكن وصفها بأنها صياغة للإرادة الإلهية، ولذلك يجب دراستها في إطار تحقيق القيم وانتهاكها. وبمثل ذلك الأسلوب، فإن الحقيقة خارج هذا الإطار لا تعنى شيئاً على الإطلاق. ومن ثم، فمما لا أساس له من الصحة أن نحاول إقامة معرفة الحقيقة الإنسانية بطريقة منفصمة عما يجب أن تكون عليه تلك الحقيقة، ولذلك، فإن أى

بحث يتعلق بالإنسان، يجب أن يتضمن موقف تلك الدراسة إزاء الغايات .(1)

2 -وذلك المبدأ الخاص بالميثودولوجيا الإسلامية لا يتماثل مع المبدأ الذى يقر بوثاقة صلة الناحية الروحية، ولكنه يضيف إليه شيئاً يتميز بكونه إسلامياً، وهو المبدأ المتعلق بالأمة؛ ذلك المبدأ الذى يقر أنه ليس ثمة قيمة ومن ثم ليس ثمة أمر يتسم بالصفة الشخصية أو يتعلق بفرد واحد وإدراك القيم أو تحقيق القيم لا يتصل بالشعور الشخصي في لحظة معينة أو بالفرد وعلاقته الخاصة مع الله. إن الإسلام يؤكد أن وصايا الله، أو الأمر الأخلاقي يعد بالضرورة شيئاً خاصاً بالمجتمع، إنه بالضرورة يتصل بالنظام الاجتماعي في الأمة ولا يمكن أن يسود إلا بها؛ وذلك هو السبب في أن الإسلام لا يدين بأية فكرة تتعلق بالأخلاق أو التقوى الشخصية إلا إذا عرفها في إطار الأمة، وحتى في الصلاة التى تعد مواجهة شخصية للغاية مع الله وعبادته، فإن الإسلام قد أعلن أنها وسيلة لتحقيق الأوامر الأخلاقية المتعلقة بحب الغير وما يماثلها .(2)

3- إن الإسلام قد جعل قيمه متوقفة على تلك الأوامر، وذلك هو السبب الذي جعل الإسلام يحرم الأديرة والامتناع عن الزواج، ويترجم مثله الدينية والأخلاقية في الشريعة، أو القانون العام، ويربط وصاياه الأخلاقية بالمؤسسات العامة التي لا يمكن أن تزدهر إلا إذا كانت الدولة ذاتها إسلامية، ذلك هو مغزى تجاوز الإسلام لحدود الفضيلة المسيحية، وفي حين أن المسيحية قد عرفت الخلاص في إطار النية، أى

ص: 381


1- الفاروقي، إسماعيل صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، مرجع سابق، ص 16
2- المرجع نفسه، ص 17

الشعور الشخصي في لحظة معينة، فإن الإسلام قد عرفه في إطار العمل، أي الحياة العامة في إطار الزمان والمكان والمجتمع، وفى الحالة الأولى، كان الضمير هو الحكم النهائي على وجه الأرض ، أما في الحالة الأخيرة، فإن الحكم أصبح يتمثل في القانون العام ، والمحكمة العامة، والقوانين العامة، والثواب والعقاب بواسطة الله على مدى التاريخ. لقد صاغ الإسلام الإيمان بالأخرويات من أجل تدعيم ذلك الصرح التاريخي من الأفكار والقيم والقوانين والمؤسسات، وحتى المعرفة الإسلامية، ذاتها، أى معرفة إرادة الله كما هی واضحة في الوحي قد جعلها الإسلام ممكنة فقط في إطار المجهود الجماعي الدائم من خلال الإجماع والتواتر. وطبقاً للرأي الإسلامي.فإن الناحية الخاصة بعلم القيم والناحية الخاصة بالأمة يعتبران متكافئين وقابلين للتحويل ، وهما سوياً يكونان بعداً جوهرياً، وشرطاً لا بد منه للحقيقة، وليس من الممكن أن يكون ثمة معرفة لتلك الحقيقة بدون قيمة، وليس من الممكن أن تكون ثمة قيمة دينية أو أخلاقية إلا في إطار الأمة،» .(1)

المحور الثالث: بعض تجليات النموذج المعرفي الغربي وتمثلاته

ربط الفاروقي في قراءته للنموذج المعرفي الغربي بين الأصول المعرفية من جهة والتجليات الواقعة في المشهدين الفكري والاجتماعي من جهة أخرى وهو ما نتناوله هنا تحت عنوان تجليات النموذج المعرفي الغربي وتمثلاته، والتي تظهر بشكل أساسي مجال الأفكار والقيم والمذاهب الفلسفية المتعددة ذات الأصل المعرفي الواحد.

أولاً: في ميدان الأفكار والمذاهب الغربية

أشار الفاروقي إلى بعض تجليات النموذج المعرفي الغربي وتمثلاته المعرفية وظلاله الاجتماعية لا سيما في ميدان الأفكار والمذاهب الفكرية واهتم الفاروقي اهتماماً خاصاً - أيضاً - بتمثلات النموذج الغربي في ميدان الفن والاقتصاد. ففي ميدان

ص: 382


1- المرجع نفسه، ص 18

المذاهب الفكرية ربط بين ظهور المدارس الفكرية الغربية ومبدأ الشك، ويرى أن الغرب عرف ثلاثة أنظمة أقامها على أساس من مبدأ الشك:

1- الفوضوية : قامت في أول عهدها تحت تأثير المسيحية المباشر. فالمسيحية أبت أن تشرع للسلوك الاجتماعي وتركته للشيطان قيصر ، لأن الحياة الاجتماعية في نظرها، مقطوع منها وأبت أن تشرع للسلوك الفردي: لأنه ميدان الرغبة والرغبة شر في ذاتها فلا رأى للمسيحية إلا التنكر للرغبة ومحاربتها والانعزال عن الجماعة. وهذه الرهبانية التي ابتدعتها مثالاً للسلوك البشري. وترك السلوك الإنساني بلا شريعة دعوة إلى الفوضوية.(1)

2- الوجودية : أكدت الوجودية أن لا أمل يرجى من حياة الإنسان لأنها لا خير فيها. بل هي مليئة بالألم والحزن والأسى وتنتهي بموت أكيد وسعى الإنسان لن يرى لأنه كله غرور . فالوجود مأزق يجب التخلص منه ولا خلاص إلا بالارتماء في أحضان المسيح الإله المخلص... وإذا كان الدين خروجاً من مأزق الوجود، فلا حاجة للاعتناء بمأزق. ليذهب به القياصرة إلى حيث ألقت .(2)

3- الليبرالية : تقوم الليبرالية على الشك بأن علاقة الإنسان بالإنسان فيها حقيقة أخلاقية أو قيمية. فابتداء منه تعارض الليبرالية كل امتداد لتأثير الإنسان في الإنسان الأخر. فالإنسان ذات تحيا في رغباتها، ولا يدخلها مؤثر إلا هتكها. وكون الرغبة، أو الطبيعة الحقيقة الوحيدة، تأليه للرغبة لأنه ينفى وجود الحقيقة المعنوية أو العتموية التى هي وحدها القادرة على تطويع الحقيقة الطبيعية. فالموجود الذى لا وجود لغيره : إله في ملكوته . (3)

4- الشيوعية : تقوم الشيوعية كما قامت الليبرالية الانجلوسكسونية على مبدأ الشك، أي تأليه الرغبات بجعلها الحقيقة الوحيدة، وبالتالي، باعتبار الرغبات معياراً

ص: 383


1- الفاروقي إسماعيل . نحن والغرب»، مرجع سابق، ص 23
2- المرجع نفسه، ص24
3- المرجع نفسه، ص 24

نهائياً لكل ما هو خير وشر. إلا أنها تختلف عن الليبرالية بأنها لا تعترف برغبات الفرد إلا بقدر اعترافها برغبات الجماعة والجماعة عندها ليست القوم بل الطبقة. فالشيوعية نظام تجنيدي Requinentational بالضرورة لأن رغبة الطبقة عندها أولوية كبرى، لا تنسق رغبات الأفراد معها بل تُنقض وتُنكر، لذلك كان تصور علاقة الإنسان بالإنسان في الشيوعية : أن العامل زميل العامل أني وجد، وأنهما مجندان لخوض حرب ضرورية مع طبقة الرأسماليين المتسلطة، وأن حالة الصراع هذه : حالة دائمة إلى أن تُبيد الطبقةُ الطبقة الأخرى.(1)

5- العلمانية: أسست العلمانية قضيتها على الدعوة إلى عدم تقرير الشأن العام بقيم نابعة من الدين بدعوى أن الدين مصدر غير جدير بالثقة. وزعمت العلمانية أن هذا المصدر غير عقلاني وخرافي وقائم على الجزم بمقولات لا دليل عليها. ومن الممكن أن يتفهم المرء مثل هذه التهم حال توجيهها إلى المسيحية، أو على الأديان التى أسست مبادئها على عقائد لا دليل على صحتها أو إلى أديان تمر بمرحلة وهن معينة. إلا أن تلك التهم لا تتعلق من بعيد أو قريب بالأديان ذات العقائد المنسجمة مع الفطرة، أى التى تسلم بالصحة العامة للمعايير العقلية، ولا بالأديان التي تشهد صحوة إحياء تسعى من خلالها إلى التخلص من حالة الركود والوهن بالطرح العقلاني النقدي لمقولاتها على نحو يجسد قيماً إنسانية حقيقية.(2)

ثانياً: مجال علوم الإنسان، أما في علوم الإنسان وممارساته، فيقوم مبدأ الشك على اعتبار أن الرغبات الإنسانية - الفردية والاجتماعية - هي المعطيات الوحيدة ذلك أنها وحيدة في كونها مرئية محسوسة قابلة للفرز عما سواها، كما هي قابلة للقياس والتقييم الكمي. وعلى هذا المعطى كأساس ،يمكن للعلوم الإنسانية والاجتماعية أن تقوم كعلوم موضوعية . وليس الشك في تأكيد معطى ما ، إنما الشك في نفى أى فاعل آخر في تفسير الظواهر السلوكية. فالسلوك البشرى كان يفسر – قبل حركة الإصلاح الديني - بإرجاعه إلى المبادئ والقيم الصادرة عن الدين والثقافة، إلا أن حركة

ص: 384


1- المرجع نفسه، ص26
2- الفاروقي، إسماعيل.التوحيد..مضامينه على الفكر والحياة، مرجع سابق، ص169.

الإصلاح أودت بسلطة الكنيسة وتعاليمها وأبعدتها كل البعد عن السلوك الإنساني(1).

ثالثاً: نزعة تأليه الإنسان أنجبت الحضارة الإغريقية فلسفة إنسانية قوية تبناها الغرب واعتبرها نموذجاً يحتذى من عصر النهضة بيد أن تأسيس تلك الفلسفة الإنسانية الإغريقية على نزعة طبيعية مبالغ فيها أفضى بها إلى تأليه الإنسان، بل تأليه رذائله وهذا هو السر في أن الإغريقي لم يجد غضاضة في تصوير آلهته ككائنات يخدع كل منها الآخر ويتآمر ضده، ولا تتورع عن الزنا والسرقة وسفاح أولى القربى، والعدوان والغيرة والانتقام، وما شاكل ذلك من الأفعال الوحشية .(2)

رابعاً: في مجال الفن، حينما تحول مركز القوة المسيحية إلى العالم الهيليني فقدت المسيحية قدرتها على مواصلة الصراع ضد التجربة الجمالية الإغريقية، وأصبحت نفسها هيلينية بالطبع. ومع ذلك، فقد احتفظت ببعض أصولها السامية، ومن ثم كان الفن البيزنطي مرآة انعكس عليها كلا الطابعين الفكريين. فلقد كان الفنان البيزنطي غير مهتم بالتعبير عن الطبيعة الطابعة اللانهائية في الإنسان، وهذا قدر مؤكد في فنه فوعيه بالإلوهية المنزهة منعه من الانزلاق في أدنى خلط بين الحقيقة القدسية وبين الطبيعة ...ولكن هذه الأصالة السامية أصبحت ضعيفة خاصة بعد الاعتقاد بالتثليث وبعد أن لبست المسيحية ثوباً غنوصياً هيلينياً في مؤتمر نقيا. ومن ثم فإن الفنان[المسيحي] في بحثه عن الحقيقة المنزهة لم يقف عند حد معين... بينما رأى الوثني الإغريقي الإله في الفكرة الأولى الثابتة عن الإنسان والطبيعة، فإن المسيحي الهيليني رآه مباشرة، في صورة مؤسلبة -كاريكاتورية -للإنسان، وغير مباشرة، خلال لوحات روائية عن الإيمان، تلك اللوحات التي استخدم فيها البيزنطي الرموز والنصوص الدينية ، ليوحى للمشاهد – بطريقة كلامية منطقية -عن الفكرة الأولى في تلك اللوحة أو ذاك . لقد كان الفن الإغريقي في مجموعه حسياً... وكان الفن البيزنطي حسياً في جزء منه، ومنطقياً في جزئه الآخر. فالجانب الحسي منه، أى تصوير الإنسان والأشياء الطبيعية ، لم يعبر عن فكرة أولى مطلقاً، طالما أن الفنان لجأ إلى تعبيرات نمطية

ص: 385


1- الفاروقي، إسماعيل . التحرك الفلسفي الإسلامي الحديث، مرجع سابق، ص.13
2- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد .. مضامينه على الفكر والحياة، مرجع سابق، ص123

مؤسلبة تخالف الطبيعة .. ولهذا فإن الفن الديني المسيحي في بيزنطة قد تنازل عن

النصف الأهم من وظيفته للفهم المنطقي(1).

خامساً: في ميدان الاقتصاد، إن النموذج الغربي للتطور مبني على نظام الفائدة بأعلى درجاتها، ثم على الإنتاج فالاستهلاك، وذلك بالتالي يستلزم قدراً من الغش من خلال إعلانات مركزة مع بعض الإهمال في نوعية الإنتاج. إن النموذج الغربي للتنمية يعنى بالإنتاج الاقتصادي والاستهلاك بصفة مركزة واهتمامه بكيفية حياة الناس يكادلايوجد ؛ كون النموذج الغربي للتطور مهتماً بالفائدة فهو يميل غالباً لتركيز الثروة في أيدي القلة التى توظفها لمصلحتها المنافية لشروط العدالة الاجتماعية .(2)

سادساً:مبدأ النفعية في العلوم وانتشار النسبية المطلقة، أوجد التأكيد على الجانب النفعي للعلوم الطبيعية والتركيز على جنيها أوجد اتساع موارد التطبيق والتقنية اتساعاً شاسعاً لا ينكر فضله على البشر. لكنه أدى - أيضاً إلى انتشار النسبية التي سرعان ما تحالفت مع مخلفات الماضي الغربي حيال الطبيعة أى مخلفات عصر النهضة من أن الطبيعة يجب أن يقبض عليها ويناهض الإله بالتمكن منها رغم أنفه كما فعل بروميثيوس، ومخلفات المسيحية من أن الطبيعة، بل الخلق ،برمته ساقط لا خير فيه ولا خلاص. فأدى ذلك التحالف إلى ما نشاهده اليوم من نهب واغتصاب وتدمير للطبيعة مما أدى بدوره إلى اختلال توازنها وتهديدها بالقضاء على الإنسان والحياة.(3)

سابعاً: العلوم الاجتماعية، قامت العلوم الاجتماعية على مبدأ الشك في تأكيداته ومنفياته، معتقدة أن المرغوب إطلاقاً هو المرغوب فيه فعلاً، وأن ما بني على غير المرغوب فيه فعلاً ليس حقيقة بل أمنية تتمنى، وأن السبيل إلى معرفة الحقيقة السلوكية هو نفس السبيل إلى المعرفة الطبيعية، أى استقراء المحسوس وافتراض النظرية المفسرة له والمثبتة به. أما المحسوس فهو الرغبات الكامنة في تحركات

ص: 386


1- الفاروقي، إسماعيل. التوحيد والفن المسلم المعاصر ، العدد 24( ديسمبر 1980) ص188
2- الفاروقي، إسماعيل. الإسلام في القرن المقبل، المسلم المعاصر ، ع 38( إبريل 1984)، ص25
3- الفاروقي، إسماعيل. التحرك الفلسفي الإسلامي الحديث، مرجع سابق، ص.12

الإنسان المرئية الخاضعة للقياس الكمي. وأما العلوم الإنسانية فلا حقيقة فيها أصلاً فهي ليست علوماً بل آداباً تجمع ما يدور في قلب الإنسان وذهنه من تمنيات دون الاعتماد على الظواهر المحسوسة .(1)

ثامناً : الفردانية، على الصعيد الفردي دعت العلوم الاجتماعية الإنسان إلى الاعتماد على الذات وتقويتها لأنها منبع القيم المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده. وأصبحت الحرية في نظر الغرب كافة متساوية مع الممارسة التي لا تخضع لمبدأ أو قانون بل تصدر عن الإرادة الشخصية المجردة. ومن الفلاسفة الذين دعوا إلى تمركز الأخلاق حول«الأنا»نيتشه على أساس أن الوجود كله نزعة إلى القوة والسيطرة. أما شوبنهاور فأكد أن الوجود نزعة إلى الحياة والوجود والبقاء. ولحقتهما الوجودية العدمية على لسان سارتر وكامو تمجد الممارسة الحرة كأعلى ما يمكن أن يصبو إليه الوجود الإنساني.(2)

تاسعاً: في مجال المنهج، حقائق العلوم الطبيعية يتم التوصل إليها عن طريق

« البراهين» الناتجة عن التجربة فقط والتي تعتبر أساساً للنظرية التي تظل صحيحة طالما لم يتم دحضها عن طريق أى تجربة أخرى. وتعتبر النظرية بمثابة قانون طبيعي عندما تثبت صحتها من خلال التجارب والملاحظات المتكررة. لقد تضمنت تلك النظرية دعوة لجعل العالم بأجمعه شيئاً قابلاً للتفسير ، ولقد تم إرغام الطبيعة أخيراً على أن تفتح أبوابها فإن العلم قد أرغمها على ذلك بمقتضى تحقيقه في أسباب حدوث الظواهر ونتائجها ... وهكذا فإن العلوم الطبيعية تعد المفتاح لتحقيق السيطرة على الكون؛ وإن مقدرة تلك العلوم على فهم الأشياء تعد بصفة مباشرة مقدرة على التوجيه والسيطرة. ومن ثم فهي تعد قوة مثلما تعد سعادة. لقد استحوذت تلك الرؤية العلمية على الرجل الغربي وأطلقت طاقات هائلة لاستكشاف الطبيعة واستغلالها، وقد أثبتت المكاسب التي تم إحرازها وتحقيقها تلك الرؤية بما لا يترك مجالاً للشك، وجعلت العلم الطريق المؤكد لتحقيق الحياة المثالية. (3)

ص: 387


1- المرجع نفسه، ص 13.
2- المرجع نفسه، ص14
3- الفاروقي، إسماعيل. صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، مرجع سابق، ص 11

الدرس المعرفي المستفاد

من قراءة الفاروقي للنموذج المعرفي الغربي

الدرس الأول في هذه الدراسة : هو ذلك التكوين المنهجي المتميز لإسماعيل الفاروقي

، والذي استطاع أن يجمع فيه بين إدراك النموذج المعرفي الغربي من واقع الدرس والدراسة من ناحية ومن واقع الخبرة المعاشة من ناحية أخرى، وعل الرغم من معايشته لهذا النموذج إلا أنه لم يقع في أسره؛ بل نظر إليه نظرة نقدية من واقع نموذجه المعرفي التوحيدي الذي اتخذه ميزاناً يمكن أن يزن به أى نماذج أخرى. وهو ما يلفت الفاروقي نظرنا إليه بضرورة التكوين المنهجي للباحث المسلم إزاء العلم الغربي فمع تأكيده على انفتاح ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية على التراث والمنجزات العلمية البشرية، إلا أنه يحدد طبيعة هذا الانفتاح وشكله بأنه انفتاح واع لا انفتاح المنبهر المأسور وهذا الانفتاح الواعي يتطلب «... إتقان العلم والهيمنة عليه أى الإلمام التام والتفهم الكامل لكل ناحية من نواحيه فالتعرف السطحي بالعلم لا يكفى ولا يغنى والاكتفاء به جرم على المسلم الذى يطلب العلم عند الغرب أن ينفذ إلى كافة الحقول والمكامن ، ويحيط بتاريخ العلم ومنجزاته، ويدرك مناهجه النظرية ومسالكه العملية، ويعرف مشاكله وآماله حتى يقف على نشأته وحاجاته وإمكانياته... والتمكن منه والهيمنة الكاملة عليه»(1). ومن ناحية أخرى يتطلب أن يعي المسلم رسالته وذاته وينطلق منهما نحو الآخر، ويتحقق ذلك عن طريق الوعي بالتوحيد ومعطياته في الانسان والكون والحياة.

الدرس الثاني هو الحاجة إلى درس النموذج المعرفي الغربي لتفنيد المقولات التي أطلقها الغرب على نفسه وروج لها بقوة، واستقرت في أذهان بعض من وقعوا في أسر الوافد في الأمة المسلمة ،وأهم هذه المقولات هي« عالمية» الغرب و«مركزيته»الكونية

ص: 388


1- الفاروقي إسماعيل حساب مع الجامعيين»، المسلم المعاصر، العدد 31( يوليو 1982)، ص49ص32

و«حيادية علومه وموضوعيتها» ، ومطلقية طريق نهضته وتقدمه، و«أحادية» ميزان التأخر والتقدم كما صورها هو .. والقراءة المعمقة للنموذج الغربي وعناصره ومكوناته وتجلياته توضح بما لا يدع مجالاً للشك تهافت هذه المقولات وردها، وهذا ما جعل المسيري يقرر أن أى مشروع معرفي حضاري لا بد من أن يبدأ بنقد المشروع الغربي معرفياً وتفنيد مقولاته الفكرية وتفكيكها، وهو ما تعرض له الفاروقي في كتاباته لاسيما في سفره القيم التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة والتي اعتمد فيها على تفكيك النموذج المعرفي الغربي ورصده من منظور توحيدي ، ولهذا التفكيك دور مهم في التخلص من وهم النموذج المعرفي الغربي، وبناء الوعي بتهافته لافتقاره إلى ثابت، بل تحويل ما حقه أن يكون متغيراً إلى ثابت وما حقه أن يكون ثابتاً إلى متغير، في مقابل تميز البديل المعرفي الإسلامي بامتلاك نواة جامعة ناظمها التوحيد» .(1)

الدرس الثالث هو ما قدمه الفاروقي من إدراكه لمسألة«التحيز» في الفكر الغربي ونموذجه المعرفي، وهذا الوعي الذي تشكل لدى الفاروقي انتبه إليه لا حقاً بعض المفكرين وقدموا له جهودهم مثل عبدالوهاب المسيري - الذي دعا إلى تأسيس علم

التحيز - ورجال المعهد العالمي للفكر الإسلامي (2) ، ويرى السيد عمر أهمية إدراك التحيز في الوعي الإسلامي باعتباره الخطوة الأولى للتمكن من تجاوزه.. ومن شأن إدراك حتمية التحيز الوعي بأن كل سلوك إنساني يعبر عن نموذج معرفي كامن. واكتشاف النموذج الكامن لا يمكن أن يكون عملية فردية بل عملية جماعية تفاعلية متكاملة تتم على مستويات الرصد والتصنيف والنقد وبناء الأنماط مع ربط البعد المعرفي بالبعد الديني» .(3)

الدرس الرابع الذي قدمه الفاروقي هو الاهتمام بعلم اجتماع المعرفة عند درس وقراءة النموذج المعرفي الغربي، من خلال التعرف على السياقات الاجتماعية المختلفة التي أدت إلى نشأة هذا النموذج بعناصره المختلفة والمتناقضة أيضاً، وهو

ص: 389


1- عمر، السيد. صوب معايرة معرفية لمفهوم التحيز الثقافي من فكر المسيرى ومنى أبو الفضل، مرجع سابق، ص 29
2- انظر: - مجموعة من الباحثين إشكالية التحيز (جزآن)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، نقابة المهندسين (مصر)، 1995
3- عمر السيد. صوب معايرة معرفية لمفهوم التحيز الثقافي من فكر المسيرى ومنى أبو الفضل،مرجع سابق، ص.32

ما يسهم في تفسير كثير من مكونات ذلك النموذج وعناصره، فإبعاد الدين وتحديداً

(دين الكنيسة) كان ناتجاً عن ذلك الصراع الطويل بين( دين الكنيسة) وبين العقل الغربي، والذي انتهى بالقضاء ليس فقط على دين الكنيسة، ولكن على فكرة الدين ذاتها في الإنسان والحياة، كما يفسر أيضاً درس هذه السياقات غرق النموذج الغربي فی «حوسلة الطبيعة والإنسان والعقل، مع إلغاء النموذج العلماني الشامل لمفهوم الإله أو تهميشه، ونسف مفهوم الإنسان الكوني، وتوظيف ذلك لصالح ترسيخ مركزية الإنسان الغربي، وتحويله إلى مستغل لبقية البشر ولكل ما بالكون، وذلك بإحلال العقل الأداتي محل العقل النقدي».(1) في ضوء تغييب الدين والقيم الروحية، وهيمنة الوضعية التي يكمن وراءها نموذج مادي أحادي النظرة للإنسان والكون، والذي يعترف فقط بكل ما يخضع للحس والمشاهدة والتجربة، وينكر ما دون ذلك من ظواهر ترتبط بالمرجعية المتجاوزة.

الدرس الخامس : إذا كان النموذج المعرفي بنية تصورية يجردها العقل البشري، وأنه عبارة عن مجموعة من المعتقدات والفروض والمفاهيم والمسلمات، إلا أنه يبدو ملموساً في تجلياته وتمثلاته، لذا حرص الفاروقي على ذكر تمثلات النموذج المعرفي الغربي في الحياة العقلية والاجتماعية والاقتصادية الغربية، وهو ما يجعل العقل المسلم يقظاً وراء دعوات العالمية للمذاهب الفكرية والاجتماعية ومجالات الفنون المختلفة، لأنها في حقيقتها ليست إلا معبراً عن نموذج مادي له خصوصياته الاجتماعية والفكرية وأسسه الفلسفية؛ بل تكمن نتاجات ذلك النموذج - أيضاً - في مجالات العلوم الرياضية والطبيعية(2).

خاتمة

- وقفت المنهجية الإصلاحية الحديثة والمعاصرة أمام مفصلين فكريين شكلا رؤيتها لعملية الإصلاح الأول هو الدين، والثاني ،الغرب، ظهر ذلك عند محمد عبده،

ص: 390


1- المرجع نفسه، ص15
2- انظر حول التحيز في العلوم الطبيعية مجموعة من الباحثين إشكالية التحيز(جزآن)، الجزء الأول، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، نقابة المهندسين (مصر)، 1995، ص 363-514.

والأفغاني، وعلى شريعتي ومرتضى مطهري ومالك بن نبي، ومحمد باقر الصدروغيرهم من أصحاب الأفكار الإصلاحية، وهو ما شكل قناعة عقلية بضرورة بناء إطار تحليلي لدرس النموذج المعرفي الغربي ينطلق من الرؤية التوحيدية.

إن ما حاولت الدراسة طرحه بشكل أساسي ونذكره هنا هو أن عملية التأسيس الحضاري الإسلامي تتطلب التعرض للنموذج المعرفي الغربي ذاته ودرسه من منطلق توحيدي حضاري وتفكيك مقولاته الأساسية، ثم نقد القراءات الاستلابية التي تبنت الفكر الغربي، ولا يكون ذلك إلا بنقد جذور هذا الفكر وتمثلاته الأساسية وعناصره المكونة ومفاهيمه وتصوراته، حيث إن الارتهان الحاصل لدى قطاع من المثقفين المسلمين إلى الفكر الغربي وثقافته ونموذجه المعرفي، أو القطيعة الكاملة والرفض الكامل - دون التأمل والتشريحالفكري- في القطاع المقابل لهذه الفئة المستلَبة فكرياً، لا يؤسسان لمنظور حضاري متكامل وعلمي نحو الحضارة الغربية وتصوراتها الأساسية؛ لذا فإن العقل الإسلامي المعاصر في حاجة إلى نماذج معرفية أكثر منهجية وعلمية لتناول الفكر الغربي ونقد مقولاته وتقديم بدائل معرفية توحيدية.

وهذا لا يتحقق بالطبع إلا بتكوين عقلية بحثية مسلمة تتمتع بقدرات معرفية متميزة تستطيع أن تكون على دراية كاملة بالمناهج الأساسية في هذا الدرس، والعناصر المعرفية الأساسية لنموذجها التوحيدي الذي يمثل لها إطاراً مرجعياً وهوية معرفية ومدخلاً أساسياً للإصلاح المعرفي، وهو ما استطاع الفاروقي في جمعه بين: الدرس التوحيدي، والدرس الغربي، والدرس المنهجي الفلسفي التحليلي.

والله من وراء القصد

ص: 391

نقد قيم الحوار : مقاربة للمنهج النقدي عند طه عبد الرحمن

الباحث: طارق الفاطمي

الباحث: طارق الفاطمي (1)

أخذ السجال في جدلية الأخلاق والدين حيزاً كبيراً من الفكر الإنساني.. من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الحديثة مروراً بالفلسفة الإسلامية، غير أن مثل هذه الجدلية لم تخرج عن فرضيات ثلاث؛ «تبعية الأخلاق للدين» و«تبعية الدين (للأخلاق و استقلال الأخلاق عن الدين».

تبعية الأخلاق للدين

لقد تقرر في الفلسفة اليونانية أن الأخلاق تابعة للدين ولا تنفك عنه. وهو ما ذهب إليه كبار فلاسفة ولاهوتيي الغرب في ما بعد، وفي مقدمتهم القديس «أوغسطين»» والقديس«توماس الأكويني»، وذلك لأنها تتأسس عندهم على أصلين وهما:« الإيمان بالإله»و« إرادة الإله». فتقرر بمبدأ« الإيمان بالإله»أن لا أخلاق إلا بإيمان وأنه مصدرها وموجهها، فكانت الخصال الثلاث التي اعتبرت أمهات الفضائل: الإيمان، والرجاء والمحبة التي تفرعت عنها الفضائل الأخلاقية العقلية الأربعة: العفة والشجاعة والرَّوِيَّة (أو الحكمة) ، والعدل التي تأسست عليها فلسفة الأخلاق الغربية. وأهم الانتقادات التي وجهها طه عبد الرحمن لهذا المبدأ ليس في أصله لأن الأخلاق فى نظره لا يكون مصدرها إلا الدين، ولكن الأخلاق في العقيدة المسيحية وقعت في الاضطراب والتذبذب الذي سببه تعدد الآلهة في الفكر العقدي الكنسي،

ص: 392


1- باحث، وأستاذ في الدراسات الإسلامية، المملكة المغربية.

والتجسيم وأنسنة الإله التي حصلت في العقيدة المسيحية. وهو يقارنها بالأخلاق التي مصدرها مصدر واحد وإله متفرد بالجلال والجمال والكمال ما يسميه طه عبد الرحمن العقلانية التوحيدية(1).

أما أصل «إرادة الإله» فقد أنتج ضرورة الالتزام بالأوامر والنواهي، أو ما عرف بنظرية «الأمر الإلهي» ، مع كل الاعتراضات التي قدّمت عليها وأشهرها السؤال في الخير والشر، وهل إدراكهما عقلي أم غيبي مرتبط بإرادة الإله (2)؟

وهو أحد أوجه الجدل الذي ورثته الفلسفة الإسلامية، وانقسمت حياله الفرق الكلامية في المسألة التي عرفت في كتب الكلام والأصول بالتحسين والتقبيح العقليين. ومن الانتقادات التي يوجهها د. طه للفلسفة الإسلامية والفقهاء والأصوليين خاصة، وقوعها في إسقاطين أحدهما ترجمة الخصال الأربع في الفلسفة اليونانية إلى لفظ «الفضائل» مع ما يحمله هذا اللفظ في اللغة العربية من الإيحاء بالكماليات التي تبقى اختياراً لا يصل إلى حد الضرورة والهوية، وقوة الارتباط بالوجود والكينونة الإنسانية(3). وفهم الفقهاء والأصوليون« مكارم الأخلاق» التي ذكرت في الحديث(4) على أنّها لا تكون إلا في المرتبة الأخيرة من المقاصد التي تسمى تحسينية أو كمالية في حين أن ارتباط الأخلاق بالدين وتبعيتها له تقتضي أن تكون في المقام الأول من المقاصد الضرورية التي تتعلق بحفظ الدين لأنها أساسه ومدار أحكامه وشعائره ،عليها كما تنص عليه الأدلة الشرعية(5) .

تبعية الدين للأخلاق

تفرعت دعوى تبعية الدين للأخلاق في الفلسفة الحديثة على القول ب_ «مبدأ

ص: 393


1- سؤال الأخلاق (ص 33 -34)
2- تفاصيل المواقف والآراء في شأن هذه النظرية في كتاب (Divine Commands and Morality
3- سؤال الأخلاق (ص 53 - 54)
4- «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» ، أخرجه الإمام مالك في الموطأ بلفظ حسن الأخلاق» (2 / 904) في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، أحمد في المسند (51314)، وفي لفظ آخر مكارم الأخلاق وسنده قوي
5- سؤال الأخلاق (ص 5150)

الإرادة الخيرة للإنسان» أو الإرادة الحسنة أو تسمى أيضاً الإرادة الطيبة، الذي أقام عليه إيمانويل كانط» صرح نظريته الأخلاقية المتميزة(1).

تتلخص دعوى «كانط» في كون الإرادة الخيرة متسامية في ذاتها لأنها مصدر الواجب الذي يجب أن يلتزمه كل فرد دون طمع في ثواب أو خوف من عقاب لأن الذي يمليه ويفرضه هو« العقل الخالص» الذي يمكن من الجمع بين الفضيلة والسعادة في تصور كانط الموصل إلى« الخير الأسمى»، فيكون بذلك الإنسان هو نفسه مصدر الأخلاق لا قوة أو إرداة أخرى فوقية أو خارجة عنه تتصف بالكمال المطلق. وحسب قو«كانط»: «تبدو الأخلاق غير محتاجة إلى فكرة كائن مختلف وأعلى من الإنسان لكي يعرف هذا الإنسان واجبه ولا إلى سبب غير القانون نفسه لكي يتبعه (...)، فإذن بالنسبة للأخلاق، فليست تحتاج مطلقاً إلى الدين، بل تكتفي بذاتها بفضل العقل الخالص العملي»(2)

هكذا فبفضل مبدإ الإرادة الخيرة، يجد «كانط» أن صرح الأخلاق في غنى عن أن يقام على قاعدة« الإيمان بالإله» أو« إرادته المطلقة» كما هو الحال في الفلسفة اليونانية، ولكن تستتبع الأخلاق الدين كما يستتبع الأصل الفرع، ذلك ان العقل الذي تنضبط به هذه الإرادة والذي يأمر بطاعة الواجب، يتطلع إلى تحقيق الجمع بين الفضيلة التي تصحب أداء الواجب، وبين السعادة التي لا تصحب بالصرورة الفضيلة.

ويعترض د. طه عبد الرحمن على هذا الطرح بأنه إنما أعاد صياغة الأخلاق الدينية

بسلوكه طريقتين : طريق المبادلة وطريق المقايسة.

فتجد أنه استبدال مفاهيم معهودة في النظرية الأخلاقية الدينية بمفاهيم ومقولات أخرى غير معهودة؛ فعوض مفهوم الإيمان بمفهوم العقل، ومفهوم الإرادة الإلهية بمفهوم الإرادة الإنسانية، ومفهوم الإحسان المطلق للإله بمفهوم الحسن المطلق للإرادة، ومفهوم التنزيه بمفهوم التجريد، ومفهوم محبة الإله بمفهوم احترام القانون،

ص: 394


1- أسس ميتافيزيقا الأخلاق، كانط دار النهضة العربية 1970م، بيروت لبنان
2- KANT، EP-23؛ .LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA SIMPL E RESON.

ومفهوم التشريع الإلهي للغير بمفهوم التشريع الإنساني للذات ومفهوم النعيم بمفهوم الخير الأسمى(1).

وتجد أنّه يقدر أحكام نظريته الأخلاق على مثال أحكام الأخلاق الدينية، فيقيس أحكام الدين المنزل على أخلاق الدين المجرد، فإذا كان في الأولى اللإله هو مصدر التشريع فإنّ العقل في الثانية هو مصدر القوانين وكما أن الإله في الأولى منزه عن العلل والمصالح الذاتية في وضع تشريعاته للبشر، كذلك العقل الخالص متجرد عن كل البواعث والأغراض في وضع شريعته الإنسانية...(2)

فيتحول بذلك في نظر طه عبد الرحمن الأصل إلى فرع، فبدل أن يكون الدين تابعاً للأخلاق في نظر كانط تجده يتحول إلى الأصل الذي تأسست عليه نظرية الأخلاق التي عرف بها.

استقلال الأخلاق عن الدين

ذهب« دافيد هيوم» رائد دعوة فصل الأخلاق عن الدين واستقلالها عنه إلى تأسيس نظريته في الأخلاق على مبدأ «لا وجوب من الوجود» التي فصلها في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية»(3) . إنّ الأحكام الدينية أحكام خبرية لا تعد أن تكون إخباراً عن المغيبات، والأخلاق من طبيعة أخرى غير الخبر، فلا يصح استنتاج الأخلاق من أحكام الدين.

ويعتبر «هيوم» أن الأحكام الدينية غير صالحة لأن تؤسس الأحكام الأخلاقية سعيا منه إلى هدم كل الأنساق الأخلاقية في عصره (القرن 18م)، مدعياً أن الأخلاق مصدرها الوجدان الإنساني أو ما سماه الحدس الخلقي في الإنسان، أما الإرادة الإلهية والعقل فلا يمكن أن يكونا مصدراً لمعرفة الخير والشر.

ص: 395


1- سؤال الأخلاق (ص 39)
2- المصدر نفسه
3- HUME، D: A treatise of human nature، Oxford، Clarendon Press

ويعترض د. طه عبد الرحمن على هذا الطرح بأنّ حقيقة الدين أشبه بالمؤسسة منه بالنظرية، فهو مجموع أحكام ومعايير تحدد كيفيات العمل من أجل تلبية حاجات معينة، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يتضمن الدين إلى جانب الأقوال التي تخبر عن الموجودات، حسية كانت أو غيبية، أقوالاً وجوبية تحدد العلاقات بين هذه الموجودات جلبا للمنفعة ودفعا للمضرة، والأقوال الوجوبية التي تجلب النفع وتدفع الضرر لا تعدو أن تكون أقوالاً أخلاقية فيلزم أن يكون الدين أخلاقياً بقدر ما هو إخباري(1).

والاعتراض الثاني أنّ ما يسميه «هيوم» الحدس الخلقي لا يعد أن يكون الفطرة السليمة التي خلقها الله في الإنسان والتي تنطبق عليها صفات التلقائية والجمالية والعملية، التي جاء الدين لصيانتها وإحيائها وإبرازها(2).

نقد الخطاب الفلسفي المعاصر المؤسس للحوار الحضاري:

قبل طرح البدائل الفكرية والفلسفية انكب الفيلسوف المفكر طه عبد الرحمن على قراءة ناقدة للمنظومة الأخلاقية التي تعد الخلفية النظرية والبراديغم الموجه للحوار العالمي المعاصر، التي رسمها بالأخلاق «الكليّة وأنتجت على المستوى النظري أخلاق الواجب مع إيمانويل كانط، وأخلاق المنفعة مع «جيريمي بنتهام» و«جون مل» (3) . وأجمل قصور هذه الأخلاق عن توجيه الإنسانية وبناء مستقبلها وعدم تأهلها لتوصف بالعالمية إلى ثلاثة أسباب أولا لأنها أخلاق عقلية نظرية مجردة تتنافى مع الفطرة الإنسانية وتناقضها في كثير من الأحيان وتتحول إلى مثالية غير مجربة. وثانيا، ل أنّها أخلاق أحادية فردية ليست محل إجماع وتوافق، إذ لم يتبناها غير الفيلسوف الذي نظّر لها وأنتجها وثالثًا، لأنها أخلاق علمانية تنبذ الدين وتتعالى عنه في زعم أصحابها، ما يجعل المجتمعات المتدينة ترفضها لأنها تناقض منظوماتها الأخلاقية الدينية.

ص: 396


1- سؤال الأخلاق (ص (44).
2- نفسه (ص 46)
3- سؤال العمل (ص 111

لهذه الأسباب تكون الأخلاق المؤطرة للحوار العالمي غير ناجعة، ولا ينتظر منها أن تكون الأرضية التي تجمع الإنسانية، بل لهذه المواصفات تكون أخلاقاً تعسفية تلغي مكونات كبيرة في العالم ما يفسر اتجاهها إلى العنف والهيمنة والسيطرة والقوة.

أمّا الأخلاق العالمية التي يؤهلها د. طه لأن تقود الإنسانية وتوجهها فهي أخلاق عملية مجربة، ومصادرها متعددة تستوعب وتؤلّف، ذات توجه ديني يجمع ولا يفرق.

ما يؤهل المنظومة الأخلاقية للأمة الإسلامية لأن تكوّن أخلاقاً عالمية، لما ينطبق

عليها من تلك المواصفات والخصائص لأن تقود العالم وتوجه أخلاقه، ويكون الحوار المتمثل لهذه الأخلاق والمتشرب لها والمعبر عنها الأداة التي تُبلّغ لتبلغ مداها وتصل الآفاق المقدّرة لها .

الحاجة إلى الحوار الأخلاقي العالمي

لقد انتهت المنظومة العالمية إلى أهمية الحوار ومركزيته في تحقيق التواصل والسلام بين الشعوب والأمم حول العالم، ما جعلها تنتهي إلى تنظيم مؤتمرات حوار الأديان، والحرص على الإعلانات العالمية لهذه المؤتمرات لتكون الإطار النظري والتطبيقي للمنظومة الأخلاقية العالمية، وتطرح نفسها بديلاً عن الأخلاق العلمانية التي تؤطر هذه المنظومة العالمية الأخلاقية المعاصرة في أفق اقتراح حلول لأزمات أربع يعيشها العالم في عصرنا أزمة اقتصادية تتفاقم وما فتئت تداعياتها تهدد العالم بانهيار للأخلاق والقيم، وأزمة بيئة لا مخرج منها إلا بتبني قيم وأخلاق موحدة، وأزمة سياسية تهدد العالم بمزيد من الدمار والاستغلال والاستبداد، وأزمة اجتماعية تهدد بانهيار البنيات الاجتماعية وفي مقدمها الأسرة ومكانة المرأة.

ويكتسي« الإعلان من أجل أخلاق عالمية في منظور د. طه عبد الرحمن أهميته من جهتين؛ أولها زيادة وعي الديانات بأهمية الحوار والحاجة إليه. وثانيها أن الديانات ما تزال قادرة على قيادة العالم والتنظير لمستقبله في ضوء الأخلاق الدينية،

ص: 397

واقتراح حلول ناجعة وفعالة للأزمات التي يعيشها(1) .

يتأسس نقد الدكتور طه عبد الرحمن للإعلان العالمي الأخلاقي، وتوصيات مؤتمرات حوار الأديان على تساؤلين أساسيين، وهما يشكلان في نفس الوقت الهدفين اللذين يجب أن تحققهما هذه التجمعات التي يعد انعاقدها انتصاراً وشهوداً للأخلاقية الدينية، كما أن احترام شروطه ومعاييره تعد مؤشرات نجاحها أو فشلها، ومحدد فاصل في قدرتها على الدفاع عن منظومتها الأخلاقية وجعلها عالمية.

أما التساؤل الأول فمفاده هل هذا الإعلان يجعل الدين يتمكن في العالم؟، والثاني هل يحقق الإعلان للخُلقية التقدم في العالم؟

ويخلص د. طه أن الإعلان العالمي أخل بالشرط الأول في التمكن للدين في مظاهر أربع حذف التأسيس على الدين ومبادئه ومقاصده ومصادر معرفته. وحذف اسم «الإله»، وحذف الإيمان من سلم القيم الأخلاقية، وحذف العمل الديني الذي هو طريق اكتساب هذه القيم الأخلاقية ومرقاة لتثبيتها وترسيخها في النفوس.

أما الإخلال بشرط التقدم الخُلقي فيتلخص في ثلاثة مظاهر: أما الأول فيتجلى في أن الإعلان لا يقدر على تحقيق السلام العالمي، باعتباره قيمة إنسانية كبرى، إذ قصر الإعلان الحوار والسلام على أتباع الديانات وأقصى عدداً من المكنونات وتناسى أن الدين أداة في أغلب الأحيان ينفعل ولا يفعل في الحياة العامة وتدبير المؤسسات، ولا سلام إلا باستيعاب كل الأطراف التي يشكل أتباع الديانات في العالم جزء منها.

وأما المظهر الثاني من مظاهر الإخلال بالتقدم الخلقي اقتصار الإعلان على الحد الأدنى من الأخلاق، بتركيزه على الأخلاق والقيم المشتركة بين الأديان، فوقع في تناقض الحد الأدنى من الأخلاق الذي لا يصل إلى مستوى الحد الأنى في أقل دين من الديانات مع أن المفترض الأخذ بأفضل الأخلاق من كل دين ومراعاة التفاضل والتفاوت الواقع بين الأديان، لتحقيق التقدم الخلقي حتى ترقى إلى مستوى الأخلاق العالمية.

ص: 398


1- سؤال العمل ص 119، 120

وأما المظهر الثالث فهو افتقاره إلى الركن الأساس في جميع الأديان وهو «الإيمان)»، فغياب هذا الركن، وغلبة الطابع الحسي الذي يروم إرضاء غير المؤمنين، جعل الإعلان بعيداً عن التقدم الخلقي المنشود للحوار. فإنكار «ثقافة الإيمان»(1) بتعبير د. طه عبد الرحمن تعطيل للروح التي تسمو بأخلاق الإنسان إلى أخلاق منزلة من عالم أخر فوقه، يجعل الإعلان لا يعدو أن يكون حساب مصالح.

التقدم الخُلقي أساساً للحوار الحضاري

التقدم الخُلقي المفقود في« الإعلان من أجل أخلاق عالمية»، جعله وغيره من الإعلانات، لا يرقى لأن يكون مرجعاً للأخلاق العالمية التي ينبني عليها الحوار الحضاري، ما جعل د. طه عبد الرحمن يضع أربعة معايير أساس بالإضافة إلى القيم الإنسانية الكونية المأخوذة من الدين التي نص عليها الميثاق العالمي والمتمثلة في

«التضامن» و«التسامح»، و«المسالمة»، و«المساواة». ذلك لأنه افتقد إلى التنصيص على مصدرين للقيم الأخلاقية العالمية وهما «الإيمان» و «العمل».

والمعايير الأربعة (2)يجب أن تتوفر في دين واحد حتى ييستوفي مقومات التقدم الخلقي العالمي، وفي مقدمتها: معيار الوعي بالصلة بين الدين والتخلق ذلك بالربط بين العمل الديني والسلوك الخلقي، ما يعني أن زيادة العمل الديني والإقبال على أدائه بشروطه ينعكس أثره الإيجابي على الخلق والسلوك.

والمعيار الثاني المتمثل في الأخذ بالتوجيهات الأخلاقية الضرورية على الأقل الخمسة ولم ينص الإعلان إلا على أربعة منها . والمعيار الثالث الذي يمثله التوسع الأخلاقي حيث تشمل المعاملة الإنسانية جوانب مهمة من الممارسة الأخلاقية.

وتستوعب أكبر قدر من المعاملات الإنسانية وتدخلها في منظومتها الأخلاقية.

والمعيار الرابع المتمثل في التفاضل الأخلاقي، حيث تكون المنظومة الأخلاقية

ص: 399


1- سؤال العمل ( ص (132)
2- سؤال العمل ( ص (135)

العالمية يمثلها الطور المتقدم من الأخلاق الإنسانية إذ هي تراكم كما تتراكم التجارب والمعارف الأنسانية، فإنّ طور الاكتمال لن يكون إلا مع الدين الخاتم. ما عبر عنه قوله

صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وفي رواية «صالح الأخلاق»(1) .

وقد أصل الدكتور طه عبد الرحمن لهذه المعايير في كتابه روح الدين، في فصل العمل الديني وممارسة التشهيد، وميّز ودقق وأصل عدداً من القيم والأخلاق المشتركة في مقدمتها التسامح والتفاضل الديني وحرية الاعتقاد، التي تأسس للحوار ومنطلقاته النظرية.

وبتطبيق هذه المعايير على الدين الإسلامي يجد المتأمل أنه الأكثر تمثيلا وشمولاً واستيعاباً لهذه المعايير، والدين الأتم والأكمل لقيادة وتوجيه الأخلاق العالمية، وذلك مصداق قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ ليَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلَفُونَ» [المائدة: 48] . إذ الدين الخاتم يوافق طور الاكتمال البشري على المستوى الخلقي والإيماني والعملي، ما يؤهله لأن يكون المرجعية والدعوة التي يقبلها العالم وتلبي حاجاته في المجالات المختلفة. ما يجعل الهيمنة بمفهومها الأخلاقي القرآني أساس ومرجعية الحوار الحضاري.

جدلية الحوار والاختلاف

خلق الله تعالى الكون على أسس وقوانين وسنن ثابتة بثها في ثنايا آيات الذكرالحكيم ،وأصل هذه القواعد ترجع إلى حقيقة مفادها «وحدانية الخالق واختلاف المخلوق،وينتج عن هذه الحقيقة المطردة أصلان جعلهما الدكتور طه عبد الرحمن مدار فكره والمرجعية النظرية في تصوره لقواعد الحوار وسننه.

ص: 400


1- أخرجه الأمام أحمد في المسند (14/ 513) وغيره وهو صحيح

أما الأصل الأول فهو التعدد لا الانفراد، إذ لا حوار إلا بين اثنين فأكثر، وهو ما يحيل على التنوع البشري والتعدد الإنساني، ويجعل الحوار ضرورة وحاجة للحياة، قال تعالى: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ »(1)، ما يرقى بالحوار إلى مستوى الرسالة والأمانة وأساس الاستخلاف الذي جعله الله تعالى مهمة الإنسان في الأرض.

وأما الأصل الثاني فهو الاختلاف لا الاتفاق، وهو أحد القوانين السننية الكبرى التي شيد الله تعالى عليها أساس هذا الكون، وعلّق عليها استمرار الإنسانية وتشييد صرح حضاراتها، وجعلها شرط الاستقرار والأمن العالمي، قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (2)، وقد ذهب جلّ المفسرين للقول بأنّ الله تعالى إنما خلق الناس للاختلاف في مصائرهم وتوجهاتهم واختياراتهم وعقائدهم(3) ، وأن الاختلاف أصل وسنة فُطرت البشرية عليها.

وقد جمع الدكتور طه عبد الرحمن هذه الحقائق المؤسسة للمرجعية النظرية للحوار الحضاري في قاعدتين: «الأصل في الكلام الحوار»(4)، و«الأصل في الحوار الاختلاف» (5). وجعلها الأساس الفكري والفلسفي الذي يجب أن تقوم عليه ثقافة الحوار الحضاري بين الأفراد والجماعات.

أثبت الدكتور طه عبد الرحمن أن الحوار يقضي تعدد الذوات المتحاورة، وأن تعدد الذوات يعني اختلافها، والاختلاف مع التعدد أمر سنني مستمر في البشرية. ويعترض على هذه النتيجة بما يمكن أن يكون تمثلا وصورة ذهنية نمطية تذهب إلى أن التعدد لا يكون داخل الجماعة لأنها تعني الاتفاق واللُّحمة، والاختلاف يحيل

ص: 401


1- سورة الحجرات 13
2- سورة هود 118-119
3- يرجع إلى اختلاف الأقوال وترجيح شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان (15/ 537)
4- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 27).
5- المرجع نفسه (ص 28)

إلى المنازعة والفرقة وهي تناقضات وتقابلات يصعب الجمع العقلي والواقعي بينها ؟

العلاقات الحضارية تنطبق عليها كل المواصفات السابقة، فالاعتراضات على الحوار التي قدمها د. طه عبد الرحمن هي التي أنتجت تصورات ونظريات الخلاف والتدافع في العلاقات الحضارية في تفسير ماضيها وواقعها، وتوقع واستشراف مستقبلها، كنظرية صراع الحضارات. ما أحال العالم إلى حلبة لاستعراض القوة والتسارع نحو السيطرة والهيمنة، ما أجج العنف في أنحاء العالم وزعزع الاستقرار والسلام.

والعالم المعاصر يتشوف إلى تنظير تنتج عنه ممارسة وقيم كونية تنقذه من دوامة العنف والعنف المضاد والصراع للبقاء، وهاجس التنافس للسيطرة، وتعصمه من الكدر والضنك، وتضمن له الراحة والطمأنينة النفسية والاستقرار الاجتماعي، وفوق كل ذلك تملأ الفراغ الروحي الذي خلفه الفكر المادي.

الحوار النقدي

يقترح الدكتور طه عبد الرحمن ليتقبل العقل هذه الإشكالات والتعارضات الظاهرية السابقة، ما اصطلح عليه بالحوار النقدي، أو الحوار العقلي، أو الحوار ،الإقناعي أو الحوار الاعتراضي. وهو حوار أصيل في الحضارة والفكر الإسلامي، لأن أصل قواعده مستمد من القرآن الكريم، فوسمه المسلمون ب_«المناظرة».وعرفه بالقول:«هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو -قل الاعتراضات-التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على الرأي - أو قل دعوى - الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معًا »(1) . ويكون بذلك الإطار النظري المستوعب للاختلاف في جميع أبعاده وتجلياته، سواء كان بين الجماعة الواحدة أو المجتمعات المختلفة، سواء كان دافعه مذهبيًا طائفيًا أو حضاريًا فكرانيًا .

الحوار النقدي في فكر الدكتور طه عبد الرحمن حوار حضاري، باعثه الأخلاق والقيم التي تجمع الإنسانية وتوحد وجهتها، وتقلص هوة الخلاف بينها، لأنه ينبني

ص: 402


1- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 33).

على إيمان عميق بالاختلاف وقبول الآخر، لذا فقد جعله ينافي مزالق ثلاثة : العنف(1) والخلاف (2) والفرقة(3) .

يهدف تأسيس قواعد الحوار على أرضية الحوار النقدي الإقناعي إلى ترسيخ القبول بالآخر المخالف، وتشجيع حرية الرأي المبني على أسس استدلالية مقنعة لا مجرد التشهي أو التقليد وذلك باعتماد الإقناع بالحجة وصحة الاستدلال، والنظر في مناسبته للمجال والحقل المعرفي والموقف الحواري، وطبيعة المحاور، واعتماد الإذعان للصواب في حال ظهور الحق تفاديا لآفتي العنف المادي الجسدي واللفظي، والعنف الرمزي باللجوء إلى الحسم. وبذلك يكون الحوار الإقناعي أسمى مراتب الفكر والتواصل الحضاري.

ينطلق الحوار الحضاري من أرضية مشتركة ليجعل من مقاصده الحفاظ على المشترك الإنساني من المعارف التي تمثلها الوقائع المشتركة في التاريخ الإنساني، والقيم المشتركة التي توحد قناعات الأقوام، وتحفظ مصالحهم وتضبط أحوالهم، والأدلة المشتركة التي تسمح بتبادل الأفكار والتعبير عن القناعات واستمرار جسور الحوار وتفعيل قنواته.

الحوار الاختلافي بين الأمم والحضارات والأقوام، يدعو إلى الاجتهاد وتطوير الملكات والبحث عن حلول وإبداع طرق جديدة وملائمة للاستدلال، وأدوات ،الإقناع، ما يدفع إلى توليد الأفكار، ولأن الاختلاف بين الأقوام والحضارات المختلفة يكون أشد فإنّه ينشط الحركة الفكرية، فيكون أدعى إلى التفلسف بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن(4) .

عندما يصير الاختلاف قناعة ترسخ معها احترام الحرية والحفاظ على المشترك،

ص: 403


1- نفسه ص (33)
2- نفسه (ص 36)
3- نفسه (ص 35)
4- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 47)

وبنبذ أفات الحوار السابقة( العنف والخلاف والفرقة) يعوض الحوار والتكامل منطق الهيمنة والسيطرة والقهر والسلطة، حيث يكون الحوار الإقناعي أداة للتكامل الإنساني بحيث يحرص كل قوم على حفظ المشترك القيمي والمعرفي والمصلحي، وتسعى كل أمة إلى الإسهام في هذا التكامل من منظورها الفلسفي في أفق ما وصفه د. طه عبد الرحمن« بالميثاق الفلسفي»(1) على غرار« الميثاق الاجتماعي» الذي يتنازل فيه كل طرف عن وعي وطواعية عن بعض حقوقه واحترام واجباته في سبيل حفظ مصالح الجماعة وتحقيقاً لتكاملها.

المفاهيم الإسلامية الموجهة للحوار الحضاري

إن تأثيل المفاهيم أحد مرتكزات القوة في الخطاب الفكري والفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن فنقده للخطاب الفلسفي المعاصر ، والمفاهيم التي أنتجها والتي لها حمولة فكرية، وأبعاد تطبيقية تتنافى في أغلب الأحيان مع مقاصد الدين الإسلامي الذي استدل على أنّه المؤهل لأن يمثل الأخلاق العالمية من بين الأديان العالمية، والتوجهات الفكرية المعاصرة، كما بينت في المبحث السابق.

فإنّ نظريته في الحوار تتأسس على مفاهيم أهمها مفهوم المؤاخاة الذي يعوض مفهوم المواطنة الذي أنشأته النظرية الليبرالية والنظرية الجماعانية، ويرتقي بها لتواجه تحديات عالم اليوم(2) . والمؤاخاة في منظوره امتداد لمبدأين مبدأ الإخلاص الذي يهبها الإتصال ومبدأ الأمة الذي يهبها الانفتاح.

مفهوم الإخلاص

الإخلاص يعطي المواطنة الاتصال بين الممارسة الواقعية والأصل الذي يستمد منه، فيرى أن حقوق الغير واجبات إلهية، ولهذا المفهوم بعدين يعدّهما د. طه ركنين أساسيين لتوسيع مفهوم المواطنة، أما الركن الأول فهو «دوام التجرد من أسباب

ص: 404


1- نفسه (ص 47)
2- روح الحداثة (ص 230)

الظلم »، وأما الركن الثاني فهو «دوام التوجه إلى المتجلي بالحق»(1) فيجد أن تواصله وحواره وصلته بالآخر عبادة وله بها أجر أو وزر ، فيحرص على حسن الصلة ومراعاة أمر الله فيها، وقد يتنازل عن بعض حقوقه ارتفاعاً بنفسه عن شرورها وأنانيتها. فهو دائم المراقبة لتصرفاته ما يمنح الغير الشعور بالطمأنينة والعدل.

مفهوم الأمة

إن مفهوم الأمة الذي يزيد على مفهوم المواطنة القدرة على الانفتاح والاستيعاب لأنها تتحقق بركنين آخرين هما:«التحقق بالماهية الأخلاقية»، و«تحصيل القدرة على إبداع الأخلاق»(2)، بحيث يصير ميزان التفاضل بين الناس التفاوت في تحصيل الأخلاق والتحقق بها وتمثلها، فتنقل الأمة من مرتبة الامتثال والخضوع للأوامر والنواهي، إلى مرتبة المعاني الجمالية في الامتثال الطوعي بالأخلاق، فتتحول القيم السلوكية إلى مقاصد معرفية في خدمة الإنسانية ومنها إلى مرتبة إبداع الأخلاق والتفنن في تطبيقها على مجالات الحياة المختلفة وتصير الموجهة للتصرفات الفردية والجماعية المتنوعة.

مفهوم المؤاخاة

مفهوم الإخلاص المتصل، ومفهوم الأمة المنفتحة، والأركان الأربعة التي تتأسس

عليها هذه المفاهيم، التي بمجموعها تشكل مفهوم «المؤاخاة»، الذي يمنح الأمة

الإسلامية القدرة على الانفتاح والقدرة على استيعاب التحولات ومواجهة التحديات العالمية، والمهيمنة التي غايتها نشر« أخلاق عالمية»، تستوعب الإنسانية وتحقق سعادتها.

بهذه الأبعاد الإنسانية الكونية تتأسس ثقافة الحوار، فشتان بين الحوار الذي يحمل الخير للإنسانية، ويحرص على سعادتها الممتدة في الدنيا والآخرة، وبين حوار غايته رعاية مصالح مادية، وتوازنات إقليمية ودولية، وإرضاء الفئات المنتازعة والمفترقة. فهو

ص: 405


1- نفسه (ص 224-223 )
2- نفسه (ص 227)

لا يضمن أن تنحرف إلى المزالق الثلاث التي تنسف الحوار العنف والخلاف والفرقة.

يؤصل د. طه عبد الرحمن ثقافة الحوار بين الشعوب والأمم والأقوام والطوائف والديانات المختلفة، على ثلاثة أسس وهي التي عدها الأحداث الكبرى الفاصلة في تاريخ الاكتمال الإنساني والتقدم الخُلقي البشري، أولها الميثاق الأول الذي قال فيه الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» [الأعراف: 172] ، حيث يخوّل تمثل أخلاق هذا الميثاق والالتزام بعهده ربط العقل بالشرع فيتحول من طور« التجريد» إلى طور« التسديد». وثانيهما حدث شق الصدر الشريف للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم فيرتبط العقل بالقلب، وثالثها حدث تحويل القبلة الذي يخوّل العقل الارتباط بالحس(1).

التطبيقات الأربع للحوار الحضاري

التطبيق الأول:

اتخاذ الميثاق الأول والأخلاق الإنسانية المشتركة والخطاب الالهي الموحد للأمم والأقوام أرضية لجمع الإنسانية على خطاب وقيم وأخلاق مشتركة موحدة، ووجهة واحدة.

التطبيق الثاني:

الإنسان النموذج المتمثل في شخص النبي الذي اصطفاه ربه بین خلقه وطهر قلبه في مرحلة اكتمال البشرية ليكون القدوة والأسوة التي تصلح لمخاطبة العالم. ما يستوجب التعريف بأخلاقه وسيرته لتكون محور المشروع الأخلاقي العالمي.

التطبيق الثالث:

الإنسان المؤهل للحوار مع العالم ومخاطبته، هو الذي تمكن من الجمع بين

ص: 406


1- سؤال الأخلاق (ص 164-157)

العقل والشرع في فكره، وعقله مسدد بمقاصد الشريعة، والمتحقق بالأخلاق المطهرة من العوائق والعوالق . ولا يكون له ذلك إلا بأخلاق متجذرة صارت له سجية وطبعاً، مع صلاح الباطن وسلامة القلب.

التطبيق الرابع:

أخلاق القبلة عند فقدان الوجهة بتوحيد العالم وانتهاء الحدود، حيث تحتاج الإنسانية إلى توجه مادي يحولها إلى توجه معنوي أخلاقي، لأن التوجه إلى القبلة المادية يورث بالتبع تحصيل وتمثل الأخلاق المعنوية الموحدة للإنسانية، والملبية لحاجاتها الحسية فينقاد بذلك العقل ويصير تبعاً للحس.

المراجع والمصادر العربية

القرآن الكريم.

أسس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط ، دار النهضة العربية 1970م، بيروت لبنان.

جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، الطبري (ت 310ه_)، تحقيق أحمد محمد شاكر، نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة (1420 ه_ / 2000 م).

الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثانية 2006م.

روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ،المغرب، الطبعة الأولى 2006م.

سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ،المغرب، الطبعة الأولى 2000م.

سؤال العمل، بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، مركز الثقافي العربي،

ص: 407

الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2012م.

مسند أحمد، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 ه_)، حققه: شعيب

الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون تحت إشراف د عبد الله بن عبد المحسن التركي،

نشرته مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة (1421 ه_ / 2001 م).

المراجع الأجنبية:

HUMANE، D: A treatise of human nature، Oxford Clarendon Press.

KANT. E LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA SIMPLE

RESON. Librairie philosophique، J. vrin، Paris. 1968

HELM. P: Divine Commands and Morality. Oxford University

Press. Oxford 1981 .

ص: 408

جدلية الصراع والتدافع بين الشرق الاسلامي والغرب العلماني في فكر الدكتور محمد عمارة

.م.م محمد عبد المهدي سلمان الحلو

.م.م محمد عبد المهدي سلمان الحلو(1)

- مجموعة كبيرة من المصطلحات المتقابلة التي تزين فكر المفكر الكبير محمد عمارة وكتاباته، وهذه الثنائيات المتجاورة مع بعضها تعبر عن نسيج فكري محكم في منجزه الابداعي، تتبلور من خلال استعمالاته لها ،وتداوله لهذه المصطلحات: (داخلي -خارجي تخلف - تقدم استقلال - تبعية عالمية - عولمة، تنوير - تزوير، الولاء- البراء، الوحي - الكون، الدين - الدولة، الموروث - الوافد، التدافع – الصراع) .

-هذه المصطلحات المتقابلة والمتصارعة والمتدافعة فيما بينها، تشكل بحق صراعاً حضارياً ومعركة للمصطلحات؛ لكن معركة المصطلحات في هذه الدراسة المتصورة هنا، تختلف عن معركة المصطلحات التي وضعها الدكتور عمارة في عنوان (1) مؤلفه

«معركة المصطلحات» ( ) ، فهو حاول ان يميز وان يضع فوارق مفصلية بين عدد من المصطلحات المتداولة والمشتركة بين العالمين الشرقي الاسلامي والغربي مما يشكل خلطا عند استخدام المصطلح الواحد في غير معناه المقصود الموضوع له في الحضارة الغربية والغرض من التمييز وضع القارئ على مستوى عال من الوضوح والدقة والمفهومية عند استخدامه للمصطلح والتمييز بين معناه اسلاميا او غربيا حين استخدامه في موارد الفكر او في موارد الكلمة، من قبيل مصطلحات

ص: 409


1- عمارة، محمد معركة المصطلحات بين الغرب والاسلام نهضة مصر، مصر، بلا طبعة ولا تاريخ وللدكتورعمارة مجموعة اخرى من الكتب التي عالج فيها الفارق والاختلاف بين المصطلحات ردا على مقولة لا مشاحة في المصطلحات، اذ اثبت ان هناك مشاحة و ان هناک مشاحۀ و ان هناک اختلافا بین المصطلحات التی نحتاج إلی تثبیتها و معرفتها بالدقۀ لا زالۀ اللبس الحاصل بینها و بین المفاهیم المختلفۀ و المستخدمۀ فی الحضارتین الاسلامیۀ و الغربیۀ : و من هذه الکتب : ازالۀ الشبهات عن المعانی المصطلحات ، دار الاسلام، القاهرۀ - مصر ، الطبعۀ الاولی ، 2009، و کتاب : الوسیط فی المذاهب و المصطلحات الاسلامیۀ ، نهضۀ مصر، مصر، بدون طبعۀ و لا تاریخ.

العلمانية والعالمية والاصولية والتشريع والحرية والحكم....

-وما نقصده بهذا المقال من معركة المصطلحات هو انعكاس المعركة الفكرية على ارض الواقع المعاش لتعود مرة اخرى إلى عالم الفكر وتبيان جدلية العلاقة بين الشرق الاسلامي المُستعمر، والمتأثر بالوافد الجديد، وبين الغرب العلماني الذي استطاع ان

يفرق بين الحكومة - الشريعة، وبين الدين - الدولة في العالم الاسلامي، يوم استطاع الغرب منتصرا ان يحطم الخلافة (الرمز ) التي لم يكن لها (فعل) في الواقع الإسلامي (1).

-انه البناء الفكري لتصوير العلاقة بين الحضارات (صدام وصراع) او (تحرك وتدافع) من خلال بيانه لإشكالية هذه المصطلحات في واقع الامة، واثرها على الصراع الاسلامي - الغربي في مساحة الواقع ليضع بذلك مشروعه الفكري كمعالجة وحل لهذه الازمة، باعتبار ان الاسلام هو الحل(2) ، وصولا إلى الاستقلال الحضاري المشروع الذي يؤمن بالتمايز الحضاري حقيقة واقعية تعطي لكل حضارة من الحضارات المختلفة خصوصيتها، والتي يجب ان يميز فيها بين كل ما هو (عام)، وكل ما هو (خاص)، وحتى لا تفقد الامة توازنها وتضيع بين مصطلحات ( القوة - العقل السيف - القلم المادة - الفكر )(3) .

-ان مقولتي( الصراع والتدافع) ابرز مقولتين تبين الجدلية الفكرية بين العالمين الاسلامي (الشرق) والعلماني (الغرب) ، ف_ ( الصراع) يمثل (القطب الواحد، العلمانية، العولمة، الوافد الديمقراطية، التأويل)، و(التدافع)يعني: (التعددية العالمية،الالهية، الموروث، الشورى، النص)، انها رؤية غربية، ورؤية نقدية بينها المفكر عمارة.

الصراع والتدافع:

- يَعدّ عمارة ( التماس الحضاري) حالة صحية وايجابية، وانها لا محالة قائمة

ص: 410


1- عمارة، محمد الاسلام بين التنوير والتزوير دار الشروق القاهرة - مصر، الطبعة الثانية، 2002،ص 39
2- عمارة، محمد ، هل الاسلام هو الحل ، لماذا وكيف ؟، دار الشروق القاهرة - مصر، الطبعة الثانية، 1998
3- عمارة، محمد، الاستقلال الحضاري نهضة مصر، القاهرة - مصر، الطبعة الاولى، 2007، ص .28, 122

بين الحضارات وبقوة، واساس هذا التماس هو التمايز الحضاري القائم، وهنا يميز عمارة بين ثلاثة مصطلحات داخل مفهوم التماس لتحقيق (تفاعل حضاري)يميز بين ( التمايز ،الانغلاق الالغاء)، فالتماس حقيقة موضوعية تؤكدها وجود سمات وخصائص متمايزة فيما بين الحضارات المتعددة، تصبغها بشخصيتها القوية وتاريخها العريق، فلأبناء هذه الحضارات علاقات مختلفة في المفاهيم المركزية( الله الانسان الفرد الجماعة الدين الدولة)، والتاريخ لم يشهد تمانعا من الاتصال او التفاعل بين هذه الحضارات، فلا يوجد سبب يمنع من التقاء هذه الحضارات بما يشكل عاملا صحيا داعما لهذا التمايز ، وليس الغاء له، تخرج الحضارة به من الكمون والوجود بالقوة إلى الظهور والوجود بالفعل، لكن علاقة حضارتنا الاسلامية الراهنة (الانا الحاضرة )تشكل ازمة في الفكر الاسلامي المعاصر لها عمقها التاريخي مع (الاخر الحضاري) المهيمن عالميا .(1)

-بدأت هذه الازمة بوجهها السافر، يوم شهدت الحضارة الغربية انسجاما واضحا بعد انشقاق دام لا كثر من سبعين سنة، بين قطبي الحضارة الغربية (الليبرالية الرأسمالية) و(الشمولية - الشيوعية)، حين سقط الاتحاد السوفيتي سنة 1991، عزز هذا السقوط موقف الليبرالية - الرأسمالية، التي حددت موقفها بوضوح اتجاه الحضارات الاخرى، والتي أكدها همنغتون في كتابه ( صدام الحضرات) وقسمها إلى ثمان حضارات (الغربية، الكونفوشيوسية، اليابانية الاسلامية الهندية، الارثوذكسية السلافية، الامريكية اللاتينية الافريقية )وكان نصيب الحضارة الاسلامية هو الاوفر حظا من هذا التحديد، ترجع تاريخية هذا الصراع إلى القرن السابع الميلادي قرن بدأ الدعوة إلى الاسلام وظهوره، زمن البعثة النبوية وانطلاق الاسلام حضارة عالمية، فالصراع الحضاري هو من قاد إلى فكرة (العولمة)، والتي كانت (العلمانية) سبيلها والقائد اليها، بما يحقق (مركزية حضارية)، وحدوية عامة ، ترفض الآخر وتفرض القوة والهيمنة على العالم وتلغي الشريك والتمييز الحضاري والثقافي وصولا إلى عولمة وكوكبة وكوننة تخضع للغرب المهيمن(2) .

ص: 411


1- نفس المصدر، ص 187-189. وايضا عمارة ، محمد، ازمة الفكر الاسلامي المعاصر، دار الشرق الاوسط، مصر، بدون طبعة ولا تاريخ، ص 38.
2- - عمارة، محمد الحضارات العالمية تدافع ام صراع ؟ ، نهضة مصر القهرة - مصر ، الطبعة الأولى، 1998، ص 7-17وايضا بين العالمية الاسلامية والعولمة الغربية، مكتبة الامام البخاري، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 2009، ص 5-6

- ومن موقف اسلامي نقدي، يرفض عمارة، الصراع الحضاري الذي يقوده الغرب، وينطلق نحو التدافع منهج الاسلام والقرآن الكريم في التعامل مع الآخر ، اشخاصا وحضارات فعمارة يرفض :« الفلسفة الصراع في علاقات الحضارات ومع تزكيتنا لمنهاج الاسلام في التدافع والتسابق بين الحضارات على طريق التقدم»(1) ، منعا للانغلاق في الحضارة الاسلامية، ودفعا للعداء من قبل الغرب، ف_ (الصراع) - قرآنيا - يعني ان يصرع الطرف الاخر ويلحق به حالة (الفناء)، انطلاقا من قوله تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ . لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْل خاوية» الحاقة /7 وهو مرفوض قرآنيا، اما الدفع والتدافع الذي يؤسس عليه عمارة علاقات الحضارات والتوازن الاجتماعي، فهو يعني التحريك من درجة إلى درجة اعلى مما يؤدي إلى تصحيح العلاقة بين الاطراف المتعددة، من هنا يبدو الفارق واضحا بين صراع يؤدي إلى الفناء، وبين دفع يؤدي إلى التحريك ليصل إلى درجة( الولي الحميم) انطلاقا من قوله تعالى: « وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ » فصلت /34،« فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضَّل عَلَى الْعَالَمِينَ» البقرة/251، «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٌّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ » الحج /40، وهذا هو السبيل الاسلامي:« فالتدافع الحضاري الذي هو حراك وتنافس وتسابق يحافظ على التعددية، ويتوسط بين الصراع السكون هو فلسفة الاسلام وسبيل حضارتنا الاسلامية في العلاقات»(2) ، وفلسفة التدافع هذه ليس مجرد فكر اسلامي يخضع للاجتهادات، بل هو ثابت اسلامي(3) .

ص: 412


1- الحضارات العالمية تدافع ام صراع مصدر سابق، ص 8
2- معركة المصطلحات، مصدر سابق، ص 11.
3- الحضارات العالمية تدافع ام صراع مصدر سابق 2018

العالمية العلمانية - العالمية الاسلامية:

- العلمانية Secularism مصطلح غربي يترجم إلى معنى الدنيوي او العالمي والواقعي، والذي يعني به فصل السماء عن الارض، بما يقع مقابلا للمقدس، أي الديني الكهنوتي النائب عن السماء، المحتكر للسلطة الالهية والمالك لكل مفاتحها بجعله سلطان الدنيا وقداسة كسلطان الدين ،وقداسه بما يحول المتغيرات الدنيوية ثوابت مقدسة يحكم بها المتغيرات العلمية والقانونية والاجتماعية بثوابت الدين(1) .

- ومن هذا التعريف الذي قدمه عمارة للعلمانية تبين ان الاتجاه العلماني يرفض كل ما هو مقدس كهنوتي، ويرفض النظر بكتاب الوحي، وينظر إلى الكون بكتاب الكون فقط، فالعلمانية تعمل على فصل كل ما هو فوقي سماوي عن كل ما هو ارضي سفلي، وتبعد الروح عن مسار الحياة الواقعية للانسان تتيح للعقل والتجربة مسؤولية تدبير الانسان لنفسه في الارض، انطلاقا من واقع معاش تعدّه مصدرا وحيدا للفكر والممارسة الدنيوية في الميادين المختلفة( الاجتماع والاقتصاد والتعليم والاعلام) بعيدا عن كل الرؤى الوحيانية المقدسة، والعلمانية ردة فعل قوية ضد الاتجاه اللاهوتي الكنسي، المصطلح عليه بنظرية السيفين Theory Of Two Swords والتي جمعت فيها الكنيسة بين السيف الروحي - السلطة الدينية، وبين السيف الزمني – السلطة المدنية للدولة، ويبعد بذلك العلمانية سيف السلطة الدينية (الروحي)، وتبقي السيف الزمني

(المدنية)، تاركةً الثورة العلمانية الحياة الروحية خالصة للكنيسة، مستمسكة لادارة شؤون الحياة بالعقل والتجربة رافضة للدين اللاهوتي، فكل ما هو في الارض لا يحتاج إلى رعاية الهية وقوى خفية فالعلمانية : «هي جعل المرجعية في تدبير العالم انسانية خالصة ومن داخل العالم، دونما تدخل شريعة سماوية هي وحي من الله المفارق لهذا العالم (2).

- ويرجع عمارة سبب انتشار العلمانية في أوروبا إلى التصور المسيحي للعلاقة القائمة بين الدين والدولة ومن خلال مقولة دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فهي

ص: 413


1- معركة المصطلحات، مصدر سابق، ص 23
2- المصدر السابق ص 23-25 وكذلك عمارة محمد الاسلام والسياسة الرد على شبهات العلمانيين مكتبة الشروق الدولية، مصر، الطبعة الأولى، 2008، ص 36-37

شريعة - المسيحية - روحية لا تقدم حلا لواقع المجتمع ولا نظام الدولة، ومما أسهم في توسع العلمانية الموروث الغربي اليوناني من خلال تركيزه على فكرة المنفعة باعتبارها معيارا اساسيا بعيدا عن اخلاقيات الاديان والشريعة السماوية مما ساعد على ايجاد القانون الوضعي للعلمانية(1) ، وأسهمت العلمانية بدورها في نشر فكرة العولمة بين الحضارات المختلفة مختزلة للكل في (مركزية حضارية) واحدة.

-ينقد عمارة فكرة العلمانية القائمة على ثلاثية صراعية، وضعها كل من ميكافيللي وهيجل ودارون فميكافيللي تقوم فلسفته السياسية على التحلل من الاخلاق اعتمادا على فلسفة القوة والصراع والنفعية، وفلسفة هيجل تعتمد على الصراع بين الفكرة ونقيضها ونقيض النقيض، وفلسفة التاريخ عنده هي علاقة صراع بين العصور، ويعتمد اصل الانواع الذي ألفه دارون على فكرة البقاء للأقوى والاصلح، والدمار والاندثار والفناء للاضعف (2).

-ومن هنا، فما تواجهه الامة الاسلامية من التحديات القادمة من الغرب ومن العلمانية، هو ليس تناقضا واختلافا في الرؤى، وانما هو صراع يمثل قطبه الاول التيارات والاتجاهات المختلفة والممثلة للامة ويمثل قطبه الاخر الهيمنة الغربية(3) .

- وفي معرض نقده للعلمانية، يؤكد عمارة ان نظرية العلمانية فضلا عن اعتمادها على الاصلين السابقين، تقوم على تصور ارسطو لنطاق عمل الذات الالهية الذي يدعمه التفكير الكنسي المسيحي ويقرّ به من ان عمل الذات الالهية هو الخلق فقط من دون التدبير او الرعاية، وهو ذات التصور العلماني الفارق بين الالهي الروحي - الدين والمعتمد في ازدهار العمران الانساني على( العقل - التجربة) فقط، والانسان هو المتكفل بكل شيء، في حين ان التصور الاسلامي للذات الالهية يختلف عن ذلك تماما، فالذات الالهية لها الخلق ولها التدبير والرعاية ايضا : «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مِّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ

ص: 414


1- الاسلام والسياسة الرد على شبهات العلمانيين، مصدر سابق، ص 25
2- العالمية الاسلامية والعولمة الغربية، مصدر سابق، ص 19
3- عمارة، محمد الحوار بين الاسلاميين والعلمانيين نهضة مصر، مصر، بدون طبعة ولا تاريخ، ص 10.

اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكَّلُونَ» الزمر /38، فهو خالق كل شيء ومدبر كل شيء، وهو سبحانه المستأثر بالخلق والامر ، وهما الايجاد والتدبير ، وهو المستخلف للانسان بالشورى ليقيم العمران الانساني، بما يمتلك الانسان من ارادة وقدرة واستطاعة وعزم يحتاج اليها في عملية اقامة العمران(1).

- فالعلمانية التي يراها الغرب نموذجا عالميا يحقق لها العولمة والكوننة، تعتمد على نزعته المركزية المعبرة عن نموذجة الحضاري والمعتمد على اقصاء الاخر الحضاري عن طريق ادامة الصراع ونشر روح الاستئصال للبنى التحتية - كما يعبر عمارة - للموروث الفكري الحضاري للحضارات المختلفة (2)

- فالعلمانية باختصار نموذج مركزي وحدوي يعتمد على العقل، ويرفض السماءوالتشريع الالهي، ويقصي الآخر، على وفق الثقافة التي تتميز بها عن ثقافة بقية الحضارات، لكن العالمية التي يريدها الاسلام، كما يصورها عمارة، من منظور قرآني، تختلف جذريا عن العالمية العلمانية الغربية، فهي محكمة للذات الالهية في الخلق والرعاية والتدبيرويعطي لنا تعريفا مميزا يؤكد فيه صفات وميزات مثالية تخلق واقعاً تعددياً، فهي: نزعة انسانية، وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات، والتلاقح بین الثقافات والمقارنة بين الانساق الفكرية، والتعاون والتساند والتكافل والتعارف بين الامم والشعوب والدول ترى العالم منتدى حضارات، بينها مساحة كبيرة من المشترك الانساني العام ولكل منها هوية ثقافية تتميز بها ، ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وامنية لا بد من مراعاتها، في اطار توازن المصالح، وليس توازن القوى بين هذه الامم والحضارات»(3).

- ومن خلال هذا التعريف، تبين لنا الفارق الشاسع بين العالميتين، فهنا نزعة انسانية، وهنا تفاعل وتلاقح وتعاون وتساند و تكامل بين مساحات كبيرة تحتفظ كل منها بهويتها ومصلحتها الوطنية والقومية في اطار توازن المصالح، وليس توازن القوى.

ص: 415


1- معركة المصطلحات، مصدر سابق، ص 31-34 ، وايضا الاسلام بين التنوير والتزوير، مصدر سابق، ص 25
2- بين العالمية الاسلامية والعلمانية الغربية، مصدر سابق، ص 14-17
3- المصدر السابق، ص 11

- فالعالمية الاسلامية ترفض الانفراد بالعالم، وتهتم بالتدافع والتسابق من اجل الرقي والتقدم، الذي يحقق التعددية الحضارية - رافضا للفردية والمركزية - والتنوع الثقافي والاختلاف بينها - الحضارات - وهذا التنوع والتمايز يرفض الانغلاق على الذات، او الغاء الآخر حضاريا :« فالعالمية الاسلامية هي تنوع وتعارف وتعايش وتدافع وتسابق في اطار الوحدة الانسانية، والمشترك الانساني العام، اما العولمة الغربية فإنها صراع وتفتيت وفوضى - يسمونها خلاقة، في اطار الهيمنة الغربية، التي تريد صب العالم في القالب الحضاري الغربي دون سواه »(1)

التنوير والتزوير:

-فكرة التمايز التي دعا اليها عمارة لعلاقة اساسية بين الحضارات المختلفة، عدّتها الحضارة الغربية مجرد اكذوبة فالحضارة انما بدأت في الغرب – ارض اليونان اصالة، وانتهت بارض أوروبا الحديثة اصالة ايضا وما زالت مستمرة، اما الحضارة الاسلامية فلا حظ لها من الاصالة، وحظها انها تبعية ناقلة للحضارة الغربية، كما تعتقد العلمانية الاوربية ذلك في تصوراتها رفضا للآخر الحضاري، وتهميشا له، وتصور العلمانية هذا للحضارة الاسلامية دعا كثيراً من المهتمين بالشأن الثقافي والفكري للامة وتردي اوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فضلا عن الانبهار بالمدنية الاوربية الحديثة، دعت كثيراً من المهتمين بالشأن الثقافي والفكري، إلى ان يكونوا دعاة للأوربية والتغريب تحت شعار (التنوير)، ومن خلال تحديد العلاقة بين (الموروث والوافد)(2)

- تتجلى العلاقة للوافد الغربي مع الموروث الشائع في المناطق التي استولى عليها الغرب واحتلها، بتحويل الموروث القومي الوطني لها إلى مسخ حضاري، وتحويل كل هذه الحضارات إلى هامش حضاري، تحقيقا للتبعية الحضارية، فتكون درعا وهامشا لهذه الحضارة الوافدة، وان يكون العقل (العربي الاسلامي) عقلا تابعا للغرب، وان تكون الثروات والخيرات الممتدة نهبا للقادم الجديد، وهذا جراء الاحتكاك العنيف للحضارة الغربية مع الحضارات الاخرى(3)

ص: 416


1- نفس المصدر، ص 11-13.66
2- الاستقلال الحضاري، مصدر سابق، ص 11
3- نفس المصدر، 127-129

- ولتحديد الموقف من الوافد، والموقف من الموروث، يضع عمارة معيارا لذلك الموقف، وهو المحافظة على الثوابت الحضارية بما يسلم على هوية الامة، تلك الهوية التي حاول دعاة التنوير سلخها ومسخها كما حاول الغرب (1).

-يميز عمارة بين نوعين من الوافد، الوافد الذي كان قادما من اليونان والممتزج بالحضارة الاسلامية، والذي هضمته الحضارة الاسلامية ووظفته بما يخدم مصلحتها بالدفاع عن عقيدتها ووجودها من ان تمر بمرحلة (التراجع والاستضعاف) التي مثلتها حال الامة مع الوافد الاوربي الحديث، والذي لم تتمكن الامة من تميز وفرز النافع من الضار فيه(2).

لذلك انقسمت الامة تجاه هذا الوافد إلى مجموعة اتجاهات: رافضةً له ومؤكدة على التمسك بالتراث وهو الاتجاه السلفي النصي، واتجاه رافض للتراث جملة وتفصيلا، وداعيا إلى التغريب والتنوير، واتجاه ثالث يدعو إلى المحافظة على التراث، والاخذ بما هو نافع ومفيد من الوافد، وبما يحفظ للامة هويتها واستقلالها الحضاري، وبما يمثل فكرة التدافع الجوهرية في منظومة عمارة الفكرية، وهو التيار الوسط النابع من الوسطية الاسلامية الداعي لها، وهو تيار التجديد الديني او الجامعة الاسلامية التي لا يدعي عمارة انتسابه اليها فهو شرف لا يدعيه واتهام لا يدفعه(3).

ما هو التنوير ؟

التنوير Enlightenment مصلح لم يكن له معنى كما هو شائع اليوم في عالمنا، وفي الحياة الفكرية والثقافية الاسلامية والعربية - كما يرى عمارة، باعتبار ان التنوير حركة فلسفية ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو فلسفة تعتمد في بنائها الفكري على العقل والاستقلال بالرأي، وتؤمن باثر الاخلاق، وتقوم على فكرة التقدم، والتحرر من السلطة والتقاليد (4) .

ص: 417


1- نفس المصدر، ص 170
2- الاسلام بين التنوير والتزوير، مصدر سابق، ص 6
3- الاستقلال الحضاري، مصدر سابق، ص 22
4- الاسلام بين التثوير والتزوير، مصدر سابق، ص 19.

- ويفرق عمارة بين فكرة التنوير الغربي كما عرفت عند الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي، باعتبارها حركة احياء حضاري لا ديني، تحل العقل والعلم والفلسفة محل الله والوحي والدين وبين فكرة التنوير الاسلامي التي يدعو لها عمارة ويتبناها، فالتنوير العلماني يحاول ان يقيم اسس المعرفة لكتاب الكون على العقل والتجرية، ويبعد فكرة الوحي عن مصادر المعرفة والعلم مجال التنوير الغربي المحسوس والمعقول فقط، من دون ان تكون وسطية او علاقة بين الدين والعقل(1).

- ان وجود تثوير غربي بما يملك من سمات تحدد هويته، لا يمنع من وجهة نظر مفكرنا ان يكون هناك تنويرا اسلامي تتجدد مضامينه ومحتوياته على وفق الهوية الاسلامية، فالله سبحانه نور: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحُ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرب اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» النور 35 ، والقرآن نور:« فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» التغابن ، 8 ، والاسلام نور:« اللَّهُ وَلَيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجَهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مَّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» البقرة /257 ، والرسل نور: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورُ وكِتَابٌ مُّبِينٌ» المائدة /15، والحكمة نور، فهو تنوير يؤمن بالله والرسل والدين والقرآن بما يشكل معرفة تنويرية متميزة : فنحن اذن امام تنوير اسلامي متميز لتميز الاسلام ونسقه الفكري، وتطور حضارته انه ثمرة اسلامية خالصة وخاصة وليس كالتنوير الغربي، رد فعل ناقص وناقض للدين »(2)

-فالتنوير الاسلامي لايقف عند حدود المحسوس والمعقول، فهو ينطلق باتجاه المطلق ، يؤمن بالدين والوحي، ويعدّ الوحي مصدرا من مصادر المعرفة، ويرفض ان يتعارضا معا، فالمعرفة الاسلامية تقوم على العقل والنقل والتجريب والوجدان، ويقيم علاقة واضحة بين الدين والدولة وفق نظام الاستحلاف والحاكمية، وهو لا يفصل

ص: 418


1- المصدر السابق، ص223-225
2- نفس المصدر، 26-27

الدين عن الدولة، ولا يسلم مقدرات كتاب الكون إلى الانسان فقط، بل هو يجمع بين ثنائيات متفرقة : دنيا ودين المادة والروح الفرد والمجموع الذات والآخر(1).

- ويؤكد عمارة ان الرفض للتنوير الذي يجعل الانسان بدلامن الله لا يعني انه يريد ان يجعل الله بدلا من الانسان وانما هنا تظهر الوسطية الاسلامية وموقفها بالجمع بين الايمان بوجود الله تعالى وبوجود الانسان والعلاقة القائمة بينهما، على وفق نظام الاستحلاف لاقامة العمران الإنساني، هذا من جانب، من جانب آخر، انه لا يريد ان يحل الوحي والنقل بدلا من العقل والتجربة، بل لا بد من استخدام العقل والنقل في معرفة كتاب الكون وكتاب الوجود، وهو - التنوير الاسلامي، لا يقاطع معرفيا الموروث الديني او يحله بدلا من التقدم والتطور، وانما يجعل التجديد الديني هو الجامع بين هذه العناصر المختلفة (2).

- وبهذا يستطيع وبرؤية نقدية من خلال التمييز بين التنوير الاسلامي والتنوير الغربي، ان يميز ايضا بين التنوير الذي دعا اليه بعض المهتمين بالشأن الثقافي للامة

خلال احلال العلمانية بمفاهيمها التنويرية المعتمدة على العقل بدلا من الوحي، واعتبار مصدر المعرفة المحسوس والمعقول، ورفض المطلق، فهذه كلها مجرد شعارات لاتتلائم والعالمية الاسلامية، وهي مشكلة كما يعبر عنها: «ولذلك يبدو شذوذ الدعوة إلى العلمانية في الواقع الاسلامي، باعتبارها دعوة إلى حل ليست له مشكلة في عالم الاسلام»(3) .

-ان دعوة العلمانية وسحبها إلى العالم الاسلامي تزويرا وليس تنويرا كما يرى عمارة ذلك، ومن التزوير ايضا ان تنسب دعاوى التنوير بالمعنى الغربي إلى دعاة الوسطية الاسلامية والتجديد الديني امثال الطهطاوي والافغاني وعبده، وهم براء من هذه الدعاوى(4) .

ص: 419


1- نفس المصدر، ص 225-226
2- نفس المصدر، ص 275-276.
3- الاسلام والسياسة والرد على شبهات العلمانيين، مصدر سابق، ص 29(والنص السالف كلمة تقديمية للشيخ جاد الحق على جاد الحق)
4- الاسلام بين التنوير والتزوير، مصدر سابق، ص 227-275

- ان التنوير الحقيقي بما يحافظ على الموروث الاسلامي ويحافظ على هوية الامة، والموروث ليس هو الذي له مدى متباعد وضارب في عمق تاريخ الامة، بما حملت من تيارات واتجاهات واحزاب وفرق بينها توافقات او تناقضات وتوترات فليس كل هذه الاتجاهات وما حملت من فكر هو الموروث الحقيقي ، ان الموروث الحقيقي هو الثوابت التي تحافظ على عناصر الهوية الثقافية باعتبارها ثوابت خالدة، كالعروبة واللغة والتدين والقيم والوسطية الاسلامية، فاللغة العربية خالدة بخلود القرآن، وهي صامدة امام كل التحديات الاستعمارية ومحاولات السلخ في الامة العربية الاسلامية، من محاولات استبدالها بلغة المستعمر ، والتدين هو ليس ممارسة الشعائر الخاصة وانما هو جوهر ثابت حقيقي واصيل، والقيم الاخلاقية الثابتة غير المتغيرة التي تحافظ على الاخلاق السامية ونظام الاسرة والوسطية الاسلامية الجامعة لكل صنوف الخير ، باعتبار ان امتنا الامة الوسط، والوسطية ليست الوسطية الارسطية التي يقع فيه الشيء عند نقطة وسط بين طرفي اليمين واليسار، بل هي تأليف المختلفات بين العقل والنقل الجسد والروح الدنيا والآخرة، الفرد والجماعة، الوسطية الاسلامية روح الحضارة الاسلامية وهويتها التي تجعل منها بهذه الصفات او العناصر المكونة لهويتها روح مؤمنة ترفض المادية والعلمانية الغربية، وتحافظ على وجودها بتدافع ثوابتها مع موجات الصراع والأنا الفردية الغربية(1).

الديمقراطية والحاكمية:

- ومن جراء التنوير والحملات التنويرية ،الاوربية نشأ الصراع السياسي حول نظام الخلافة والشورى السياسي القائم في الاسلام بوصفه منهجاً للحكم، وبين نظام الحكم الاوروبي الذي يدعي الديمقراطية، وموقف الصراع بين الشورى والديمقراطية جاء من خلال الاتجاهات والاحزاب الفكرية التي تبنت التغريب ومقولاته، ومنها الديمقراطية، مما جعل التساؤل القائم: هل ان الشورى والديمقراطية تتطابق فيما بينها ؟ ام لا يوجد بينهما تطابق ؟ (2)

ص: 420


1- المصدر السابق ص 276.
2- عمارة، محمد، في النظام السياسي الاسلامي، مكتبة الامام البخاري، القاهرة - مصر ، الطبعة الأولى،2009، ص73.

-يرى عمارة من خلال الايمان بالتماس الحضاري، ونتيجة للتدافع، بانه لا مانع

من تعدد انظمة الحكم في المجتمع الانساني، فلا فرق بين الشورى وبين الديمقراطية ما دام ان كل واحدة منها تسعى إلى تحقيق مقاصد، وتفجر طاقات لخلق الانسان وابداعه، وعليه يبين عمارة الفرق بين الديمقراطية والشورى فلسفة وآليات، ليخرج بذلك بحكم واضح بين يوضح العلاقة بينهما ، فمع كون الديمقراطية نظاما سياسيا واجتماعيا اوربيا عرفته اليونان القديمة، واخذ هذا النظام بالتطور في أوروبا الحديثة، من خلال تحديد العلاقة بين ابناء المجتمع الواحد في مباديء الحرية وحقوق الانسان والوطنية، باعتبار ان الشعب هو مصدر السلطات، وصاحب السيادة، وتتحق آلية الديمقراطية من خلال المجلس النيابي القائم نتيجة لتعذر الديمقراطية بصورة مباشرة، في حين ان نظام الشورى كنظام سياسي، للحكم والادارة الاسلامي اقره النبي - صلى الله عليه وآله -وسلم في المسائل التي لم يرد فيها نص وحكم صريح، فيعتمد على الشورى والتشاور مع بقية المسلمين في انتزاع الامر منهم، من دون مجرد التطوع، وهذه فلسفة نظام الحكم الاسلامي وآلياته : «السيادة والنظام والسلطة والسلطان امارة الانسان في الاسرة في المجتمع وفي الدولة»(1).

- واذا كانت العلمانية والعولمة الغربية تقف على طرفي نقيض مع العالمية الاسلامية(2)، فالاسلام والغرب ليسا على طرفي نقيض في مسألة الديمقراطية بالاطلاق كما يحاول ان يصوره بعضهم ،بأن يجعل احدهما في قبالة الآخر، ولا التسوية او التكامل قائما بينها، فهناك كما يرى عمارة:« مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما»(3)

فكلٌ من الشورى والديمقراطية من ناحية آلياتها تجارب وخبرات انسانية، يفرضها الواقع على وفق ظروف الحكم زمانيا ومكانيا، وما تختلف به الديمقراطية وتمتاز عن الشورى هي مصدر السيادة، فالسيادة والسلطة في النظم الديمقراطية للشعب وللامة، اما في الشورى فمصدر السيادة هو التشريع الالهي، والسلطة فيها للانسان، وفي اطار ما تحدده الشريعة له من نصوص وقواعد تخول له القدرة في الاجتهاد وفي المسائل

ص: 421


1- المصدر السابق، ص 53
2- بين العالمية الاسلامية والعلمانية الغربة، مصدر سابق، ص 11
3- في النظام السياسي الاسلامي، مصدر سابق، ص 75

التي لم يصرح فيها بنص ذي حكم واضح(1).

- ومن هنا يرى عمارة ان الحاكمية الالهية مصدر السيادة، وهذا لايعني الغاء الحاكمية البشرية -مصدر السلطة ونستطيع القول ان الحاكمية البشرية في طول الحاكمية الالهية وليس بعرضها فهي حاكمية تستند وتعتمد على نصوص التشريع الالهي، وهذا يقتضي التعددية والتنوع في الاجتهادات والأحكام(2).

- وهذه التعددية حالة صحية، تختلف عن الديمقراطية الغربية التي تريد ان تفرض سيادتها على الحضارات الأخرى بما يحقق لها حالة من الفناء تجاهها، وان تكون انظمة الحكم واحدة مركزية حالها حال انظمة الحكم الاوربية الديمقراطية، تحيقا للعولمة الغربية، وهي ما تنافي الخصوصية والهوية والذاتية لكل حضارة، فالحضارة الاسلامية تؤمن بالتعددية وسيلة للتدافع ، ووسيلة لإصدار الأحكام، ومصدرا ثقافيا.

التعددية والغاء الآخر:

- يعرف عمارة التعددية : بانها تنوع مؤسس على تمييز وخصوصية ، وهي لا يمكن ان توجد او تتصور الا في اطار الوحدة والجامع لها، ولذلك فمن غير الصحيح ان نطلق التعددية على التشرذم، او ان تطلق على الواحدية التي لا أجزاء لها، ولكل تعددية وحدة جامعة من دونها لا يمكن قيام التنوع ولا التمايز، والتعددية على مراتب وطبقات، يحدها ما يصطلح عليه عمارة (الجامع - الربط) الذي يجمع ويوحد اجزاءها، كتعددية الحضارات والقوميات المؤسسة على ما يعنيها من شرائع وقوانين ومناهج وفلسفات(3).

- والتعددية التي ينظر اليها عمارة ليست خيارا انسانيا او سياسيا، بل هي من السنن الالهية التي سنها الله تعالى، في الفكر والخلق والابداع، والغرض منها تحقيق الاجتماع الانساني للوصول إلى مبتغاه بعد معرفة ما يصلح المجتمع ويضره (4).

ص: 422


1- المصدر السابق، ص 75-76
2- معركة المصطلحات، مصدر سابق، ص75.
3- هل الاسلام هو الحل : لماذا وكيف؟ مصدر سابق، ص 50.
4- عمارة، محمد، التفسير الماركسي للاسلام ، مصدر سابق، ص 11

-وتبرز هذه السنة الالهية اكثر فيما يعرضه عمارة من ان التنوع سنة الهية، يصطلح عليها ب_ ( حكمة الخلق)، وهو يدعو إلى الوعي بهذه الحقيقة، وبكل ما تحمل من ابعاد وتجليات في الثقافة الاسلامية، وهي سنة توجبها مقولة الدفع التي تُعد من مقومات الفكر الاسلامي في فكر مفكرنا، والتعددية سنة جارية في الكون وفي الانسان وفي الحيوان، فالانسان يختلف عن الانسان في لونه وجنسه وقوميته ،ولغته كما تختلف الحضارات بعضها عن بعض بلغتها وفلسفتها وقوانينها وتشريعها، فضلا عن ان التعدد قائم ايضا في الفكر الذي قسم إلى مدارس ومذاهب وفرق وتيارات وقائم في المجتمع المقسم إلى طبقات وشرائح ووظائف ومهن: «وكون الاسلام دين الجماعة لا يلغي تميز الفرد ولا تمايز الطبقات، وانما تميز التعددية في التصور الاسلامي بالجامع الذي يجمع فرقاءها، والاصول التي توحد جماعتها وتياراتها ومذاهبها وطبقاتها، فلا هي الوحدة التي لا تعدد فيها، ولا التعددية التي لا جامع لاجزائها»(1).

- فالتعددية سنة الهية ترفض بالقطع الغاء الآخر على اساس مبدأ الصراع، تعدّ ان البديل لهذا الصراع هو التدافع بما يحقق حراكاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً من دون صراع يصرع الآخرين، ويلغي التعددية(2).

- ومن التدافع ما عرف عن موقف عمارة تجاه الكتابات والضجة التي احدثها الكاتب المصري نصر حامد ابو زيد، وصدر قرار محكمة مصر بالتفريق بينه وبين زوجته بعد اعلانها ارتداده ،لكن التدافع الموسوم هنا لم يكن تدافعا مع الغرب الحضاري، بل كان مع شطرها الآخر وهو الماركسية الشيوعية، حين طلب عمارة بعدم مواجهة الفكر بالقوة او بالقانون، لان الفكر لا يواجه الا بالفكر، وقضية ابو زيد قضية فكرية يبقى مجالها الارحب هو الحوار الفكري، وهذا من اختصاص الباحثين والمفكرين، لاسيما وان الاسلام سنته الالهية التعدد والتي هي ليس خيارا انسانيا او سیاسيا(3).

ص: 423


1- المصدر السابق، ص 51-52 ، وايضا عمارة محمد النموذج الثقافي، نهضة مصر ، مصر بدون طبعة ولاتاريخ ص 26
2- الحضارات العالمية تدافع ام صراع، مصدر سابق، ص 18-20
3- التفسير الماركسي للإسلام ومصدر سابق، ص 43

- ومن هنا نجد ان النقد لم يكن بشكل مباشر للماركسية الشيوعية التي خبرها عمارة درسا وقراءة وشخصيات، لكن النقد موجه هنا ضد الماركسية المتخذ في تفسيرالاسلام من قبل دعاة التنوير - ابو زيد -والذي لا يمانع عمارة من ان يتخذ المنهج الذي يحلو له ويعتنق ما يرى انه الصحيح، ايمانا منه بالتعدد وحرية الرأي، لكن الاعتراض على المقولات المنهجية التي فسر بها الاسلام على أساس القاعدة الماركسية (نظرية البناء الفوقي والقاعدة المادية)، والتي تعدّ المادة والواقع الاقتصادي والاجتماعي والفسيولوجي هي الاساس في كل الوان الفكر، وهي نظرية اعتمدها ابو زيد في كتابه مفهوم النص : دراسة في علوم القران(1)

النقد والموقف من الماركسية:

- تعتمد الماركسية على مبدأ اساسي وهو ان المادة مستكفية بنفسها، مستغنية عن خالق لها، هي بذلك تجعل المادة بديلا ل_ (الله) الذي تعدّه خرافة، وان فكرة الالوهية انما هي فكرة تطرأ على الشعوب حال شعورها بلحظات ضعف، واعتماد الماركسية على المادة يسري حتى في تفسير العالم والخلق والوجود والمصير والتاريخ واللغة بل حتى احلام الانسان ومشاعره(2) .

والمادية الجدلية تجعل الفكر نتاج المادة الاعلى، وهو عملية يتم بواسطتها انعكاس العالم الموضوعي بما فيه من مفاهيم واحكام، وكذلك النظريات، فالفكر يعكس الواقع المادي بهدف تحويله إلى نتاج اجتماعي، فالمادة والواقع الاقتصادي هي القاعدة التي يتشكل فيها ويخرج عنها ويصدر منها الفكر والمفاهيم في الاحكام والديانات(3)

- وبذلك يجعل ابو زيد على وفق النظرية المتقدمة( القرآن والنبوة والوحي والعقيدة والشريعة) مادة للتحليل الماركسي تعتمد على الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاش في عصر الرسالة لتفسيرها بوصفها مظاهر قائمة بنفسها، وباعتبار ان كل

ص: 424


1- المصدر السابق، ص 35-37
2- نفس المصدر، ص 34
3- نفس المصدر، ص 35

الآفاق المعرفية للجماعة تاريخيا تحكمها هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية اعتمادا على النظرة في اعلاه.

- ويرى عمارة ان اعتبار المادة هي الاساس وهي مستكفية بنفسها، ومستغنية عن خالقها، فهذه النصوص شاهدة على العداء للاسلام بين الماركسية والدين، ويعتبر ان الاتهام الذي يوجهه ابو زيد إلى الخطاب الديني كونه يقصي المادية ويشير اليها بالالحاد ، ان هذا اتهام للدين ذاته وليس للخطاب الديني، وان سبب هذا العداء هو ليس نظريتها في التغيير او الوعي الانسانی ،وان اساس العداء هو نظرية الماركسية في التغيير الماركسي للعالم، والوعي الماركسي وموقفها الذي تفسر به كل شيء على اساس الملكية والمسألة الاقتصادية وموقفها من الحرية وحقوق الانسان(1) .

-لذا يجعل عمارة من الماركسية الحاملة للالحاد والمستخدمة له وسيلة تسيطر بها على الحكومات والشعوب، يجعل من سقوطها انتصارا للمؤمنين، بل نصرا منه تعالى (2).

-بهذا المنهج هذه النظرة يحاول عمارة ان ينظر إلى الغرب ويشخص اسباب العداء والمنهج الذي يقوم عليه وصولا إلى مشروعة في الاستقلال الحضاري القائم على الحفاظ على اللغة كاساس لهذه الهوية الاسلامية والوسطية الاسلامية والتدين والتعامل مع الحضارات الاخرى باسلوب التدافع ايمانا منه بالتعددية.

ص: 425


1- المصدر السابق ص 39
2- بين العالمية الاسلامية والعولمة الدينية، مصدر سابق، ص 5.

نقد الغرب في القارة الهندية

اشارة

ص: 426

أَبُو الأَعلى المودودي و نقد مبادئ المدنيَّة الغربيَّة

د. غيضان السيد علي

د. غيضان السيد علي(1)

تمهيد

إِنَّ المُتأَمِلَ في مُصنفات المفكر الباكستاني أبي الأعلى المودودي (1903-1979م) والتي بلغت إزاء سَبعين مُصَنفًا مَا بين كتاب ورسالة، يجد أنَّ جُلَّها تدور حول نقد مبادئ الفكر الغربي في كافة صوره الحضارية المدنيّة والسياسية، والاقتصادية والفكرية، وشؤون الحكم والإدارة بل وحياة الأسرة والفرد والمجتمع. وتضعها في تقابل مع مبادئ الإسلام التي غفل عنها العالم نتيجة الضعف والوهن الذي انتاب العالم الإسلامي، وانهزامه أمام الغَلَبَة المعنوية والمادية للحضارة الغربية. حيث ينطلق المودودي في نقده هذا من منطلقات دينية محضة؛ إذ يرى أن مجتمعات الحضارة الغربية قد أقصت الدين من حياتها تمامًا فصارت حضارةً بلا دين وبطبيعة الحال وبحكم التبعية - بلا أخلاق أيضًا. الأمر الذي يظهر جليًا من نقده لرواد الحضارة الغربية وعلمائها في معظم كتاباته، ورؤيته لهم في أنهم انطلقوا من نقطة الإلحاد والماديّة؛ فرأوا هذا الكون من حيث إنّه لا خالق له ولا إله. ونظروا إلى الأنفس والآفاق زاعمين أنَّ الحقيقة كلها منحصرة فيما يحسه المرء أو يشاهده من حقائق ماديّة ملموسة. وأنَّه لا شيء من وراء هذا الظاهر المرئي، فلا وجود هنالك لجانب آخر غيبي روحي يتمثل في الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب، وأنهم (علماء الغرب وفلاسفته) درسوا قانون الفطرة وفهموه بوسائل التجربة والقياس، لكنّهم

ص: 427


1- مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف، جمهورية مصر العربية.

لم يتمكنوا من أن يصلوا من هذا الطريق إلى واضع ذلك القانون. لتظلّ الحضارة الغربية بكل منجزاتها لدى المودودي حضارة علم مجرد من كل قيمة، علم أساسه مادي وغايته ماديّة، الأمر الذي يعكس معه صراعات وأزمات وحروباً وكوارث تزيد من مآسي العالم ومحنه بدلاً من أن تأخذ بيده إلى السعادة والرفاهية. وقد خَصَصَ المودودي كتابين من أهم كتبه لنقد الفكر الغربي، وهما: «الإسلام والمدنية الحديثة»، و«نحن والحضارة الغربية».

بادئ ذي بدء يضع المودودي المبادئ الإسلاميَّة في مقابل المبادئ الغربية، ويرى أنَّ الهدف الأسمى الذي يجب التوجه إليه من الجميع هو الإيمان الراسخ بجملة المبادئ الإسلاميّة الأصيلة إيمانًا عميقًا عن قناعة وإخلاص وتطبيقها تطبيقا صحيحًا في الأقوال والأعمال وكافة شؤون الحياة، حتى يمكن إعطاء صورة حية ونموذجيةللإسلام تعيد سيرته الأولى، فإذا قام هذا المجتمع وقوي ساعده واشتد أزره فإنه سيقوض دعائم الإلحاد والماديّة التي بُنْيَتْ عليها الحياة الحاضرة في شتى شعبها الخلقيّة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية باسم المدنية، ليقيم على أنقاضها صرح الإسلام الشامخ الذي يرسى قواعده على توحيد الله عز وجل وكمال العبودية لله في امتثال أمره ونهيه ومن ثم جاء نقد المودودي للغرب من هذه الزاوية.

حيث يسلم المودودي - منذ البداية بأن مبادئ المدنيّة الغربية الحديثة وما نجم عنها من أنظمة الحياة الإنسانية هي مبادئ فاسدة منحرفة، ومن سوء الحظ أنه لا توجد رقعة إسلاميّة واحدة مستقلة تمام الاستقلال من الوجهتين المادية والمعنوية، فالبلاد التي تحررت سياسيًا لم يتحرر أهلها من ربقة العبودية الفكرية، فهم لا يفكرون إلا بعقول غربية ولا يبصرون إلا بأعين غربية... الخ، وقد رسخ في قرارة أنفسهم أنَّ الحق هو ما عند أهل الغرب حق والباطل ما يعدونه هم باطلاً(1). فخضع المسلمون لسلطة تلك الحضارة الغربية كما خضعت لها أمم شتى، فالجميع في الشرق أو الغرب قد نكب بأن سيطرت عليه تلك الحضارة الماديّة الخالصة(2). ومن ثم رأى

ص: 428


1- -أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1987، ص11
2- المصدر السابق، ص 41

المودودي أن سيادة مبادئ المدنيّة الغربية هي التي جرَّت على العالم ما جرته من العواقب الوخيمة، وويلات الثبور والدمار ، وسوف تتجرع الإنسانية غصص شرورها ومآسيها، وتعاني من الكثير من الآثار السيئة والنتائج البشعة ما دامت تسير في ركابها وتتبع خطواتها. فما يُشاهد اليوم من فظائع هذه المدنيَّة الحديثة في أنحاء العالم، أهون بكثير مما ينتظر - إن قدر للبشريّة البقاء - العالم في المستقبل، من فظائع تكون أشد فظاعة وأنكى ألماً بصورة لا يمكن تصورها(1).

إذن فالأنا الإسلامية- كما يرى المودودي- لم تكن بمعزل عن هذا العالم الذي دنسته المدنيّة الغربية؛ لأننا جزء منه، ويرى أنه قد تأثر نفر من أبناء الشرق بمظاهر تلك المدنية وافتتن بفلسفتها، ووقع في أسرها وأصبح من عبيدها، فلم يعد الشعور بفساد مبادئها وسوء عاقبتها كافيًا لأن نكون بمنجاة منها، ولذلك كان من الضروري لدى أبي الأعلى أن نعمل جاهدين للتخلص من نظام هذه المدنيّة وتحرير الذات من ربقة قادتها من الغربيين وأتباعهم، وإلا سقطنا جميعًا في الهوة السحيقة التي تقود المدنية الغربيّة العالم نحوها. وليس هناك من سبيل لتفادي ذلك سوى الإسلام واتباع الهدي الإلهي الذي كرَّم الله به الإنسانيَّة على لسان أنبيائه ورسله؛ لتقوم حياة جديدة على المبادئ القويمة التي شرعها الله لعباده ورضيها لهم دينا(2). تلك الدعوة المودوديّة التي ما زالت تجد لها الكثير من المرددين في شتى ربوع العالم الإسلامي؛ والتي تقول : إن جوهر الاستقلال عن سيطرة الغزوة الاستعمارية الحديثة لم يتحقق ،بعد رغم ارتفاع أعلام الاستقلال السياسي وتسليم السلطة للعنصر الوطني واكتساب عضوية الأمم المتحدة.. فما زالت الهيمنة الفكرية والحضارية التي زرعها المستعمر الغربي ترعاها اليوم النخبة الوطنية المتغربة.. ومن ثم تكمن أهمية ظاهرة«الصحوة الإسلامية» كتيار حضاري يقوم على الرفض للهيمنة الغربية للوصول إلى بر الأمان المتمثل في النجاة من« المسخ التغريبي» ودعاة التغريب (3). ولا شك أن المودودي

ص: 429


1- أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنية الحديثة منشورات منبر التوحيد والجهاد، ص 1. على الرابط الإلكتروني التالي: 2015/pdf_477.html/10/http://mktba22.blogspot.com.eg
2- المصدر السابق، ص 2
3- محمد عمارة بين العلمانية والسلطة الدينية ، القاهرة بيروت، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1988، ص6.

من أبرز دعاة الصحوة الإسلامية وأحد باعثيها.

حيث يرفض المودودي قواعد ومبادئ المدنية الغربية الحديثة من علمانية وقومية وديمقراطية، ويؤكد على أنها تموج بالانحطاط القيمي وينبع منها الفساد والشر؛ فالحياة الاجتماعية الحاضرة تقوم على مبادئ الزيغ والضلال. والنظريات الغربيّة الخاطئة والأفكار الهدامة هي التي تسود أنحاء العالم، وأنظمة التعليم ووسائل التوجيه والإعلام تنضح بالشر، وتثير الغرائز وتهتك الفضيلة، وتقتل الأخلاق، وتدعو إلى الإباحيّة والتحلل، حيث سيطرت على العقول الآداب الماجنة، والصحافة الفاجرة والإذاعات اللاهية والأفلام الخليعة والنظام الاقتصادي الذي يتحكم في معيشة الناس نظام منحرف فاسد، لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين الحلال والحرام. والسلطة القانونية التي توجه المدينة وتُسَخَّر امكانياتها تستوحي تصوراتها للأخلاق والتمدن من المبادئ المادية البحتة. وأزمة شؤون العالم ومصادر سلطاته ومراكز قياداته في يد الزعماء الملاحدة الذين يقودون الجماعات الإنسانية إلى الهاوية وإلى المصير الجهنمي ليجني الوبال والخراب ومن هنا يرى المودودي أنه بات مُستَوجبًا على الذات مقاومة هذه النظم بعزم حديدي لا يعرف الوهن لإنقاذ العالم كله ثم أنفسنا من ذلك المصير الجهنمي الذي تجره على الإنسانية تلك النظم الغربية الفاسدة.(1) ويؤكد ضرورة العودة إلى« جوهر الإسلام الحضاري»وتطهير الأرض من أدناس قيادة الكفرة الفجرة وسيادتهم التي هي منشأ جميع الكوارث والنكبات التي مني بها الجنس البشري، وإقامة نظام الإمامة الصالحة الراشدة التي هي غاية الدين الحقيقية(2) والتي تقوم على الحاكمية لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحًا يبين أنَّ الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك.

ومن ثمَّ يرى المودودي أن مبادئ المدنيّة الحديثة التي يقوم عليها النظام الحالي

ص: 430


1- المصدر السابق، ص 3
2- أبو الأعلى المودودي، الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 1980، ص 6، 12.

في الغرب، وهي العلمانيّة والقوميّة والديمقراطية، تستوجب نقدها وبيان تهافتها وفسادها وتوضيح ذلك لجمهور المسلمين؛ حتى تتوقف المجتمعات الإسلامية عن تقليدها والأخذ بها أو اتباعها ليس هذا فحسب بل عمل على تقديم بدائل عمليّة لهذه المبادئ، اعتقد هو في صلاحيتها وسدادها. وقد تناول مبادئ المدنيّة الغربيّة الثلاثة بالتحليل والنقد على النحو التالي:

أولاً: العلمانيّة أو اللادينية Secularism

يعرف المودودي العلمانية بأنها «عزل الدين عن الحياة الاجتماعية للأفراد» (1). وهذا يعني أن العلمانية - لديه - ترى أن العقيدة الدينية والهدي السماوي وما يتبع ذلك من اتباع الدين وطاعة الله والوقوف عند حدود شرعه، لا يجب الالتزام بها إلا في حياة الأفراد الشخصية، أما ما عدا ذلك من شؤون العالم في حياة الناس، فإنه يجب أن يُعَالج على أساس الماديّة البحتة، وفق رغبات البشر ووجهات نظرهم وميولهم دون مراعاة الحياة، وقد نشأت العلمانية نتيجة لرد الفعل الذي أصيب به الغربيون من كراهية اللاهوت الذي افتعله الكهنة في الديانة المسيحية، حيث وقف هؤلاء حجر عثرة أمام الفكر الواعي الذي يهيم بحثًا وراء الحقيقة، وحاربوا كل عقل متحرر مستنير ، فصنعوا لأنفسهم بهذا الموقف أغلال مهانتهم ، ولم يلبث الأمر طويلاً حتى تحول العداء لفكرة اللاهوت إلى نظرية هي حجر مستقلة .. وأصبحت هذه النظرية . الأساس في المدنية الغربية (2).

فالمودودي يرى أن العقيدة التي تدين بها المدنية الحديثة هي أن« الدين صلة بين العبد وربه» ولا مجال له خارج تلك العلاقة الضيقة جدًا، ولا يمكن أن يكون لهذا الدين أي سلطة على شؤون العالم الدنيوية تتحكم في مقدراته. فكافة شؤون الحياة التي لا حصر لها إنما تعتمد على المعارف الإنسانية المكتسبة ولا سؤال خارج ذلك عما إذا كان الله قد شرّع للإنسانية في هذا السبيل شيئًا من المبادئ والأسس أم لا؟

ص: 431


1- أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنية الحديثة، ص 5
2- المصدر نفسه

بل أصبح مثل هذا السؤال رجعيّة وتخلفًا. وليت الأمر توقف عند هذا الحد فالتحرر من سلطة الله والدين في مجال الحياة الاجتماعية قد أصاب الحياة التعبدية الفردية، مما أدى إلى الاستهانة بالدين في الحياة الشخصية وتمزقت الصلة الفردية بالله إربا إربا، وانفصمت من عرى الدين انفصامًا كاملاً، وخاصة عند هؤلاء الذين يتولون قيادة المدنية الحديثة(1) .

ومن ثم يقرر المودودي أنَّ فكرة قصر العلاقة بين الإله والإنسان على حياة الفرد الخاصة وتستبعد هذه العلاقة من الحياة الاجتماعية فكرة فارغة غير ذات موضوع حتى تكون مجالاً للتعقل والتفكير ؛ فالعلاقة بين الإله والإنسان لا تتعدى أحد أمرين بأي حال من الأحوال أحدهما: أن يكون الله هو خالق الإنسان وخالق الكون وموجدهما وسيدهما وحاكمهما. وثانيهما: ألا يكون الله كذلك. فإذا كان الثاني فمن الخطل والحمق أن نعبد كائنا لا تربطنا به أي علاقة ولا يستطيع أن يفعل لأجلنا شيئًا. أما إذا كان الافتراض الأول فليس من المعقول أن تقتصر أحكام الله وتشريعاته على حياة الفرد الخاصة ولكن يجب أن تشمل كافة أموره في الحياة الفردية والاجتماعية. وإذا ادعى إنسان أنَّ الله هو الذي قصر سلطته وعلاقته بالإنسان على حياة الفرد الخاصة فهذا أمر لا دليل عليه. أما إذا كان الإنسان هو الذي ابتكر هذا الاستقلال فأبعدالسلطة الإلهية عن الحياة الاجتماعية، فإنّه بذلك يكون قد أعلن عصيانه وتمرد على خالقه وسيده وحاكمه(2). وكيف يمكن أن يقرّ كل إنسان بالعبودية لله والانصياع لتعاليمه، وإذا اجتمع مع غيره وكونوا مجتمعا تنكروا لعبوديتهم لله واستبعدوا دينه من حياتهم، إذ ليس أن يُذعن كل جزء من أجزاء المجموع على حدة العبودية لله، فإذا تكونت من الأجزاء كلها وحدة مجتمعة أصبحت خارجة عن هذه العبوديّة، ولا يقول بهذا إلا من أصيب بالجنون. فإذا لم يبق للإله المعبود دور في كل شؤون حياتنا الكبيرة والصغيرة فبأي معنى تكون العبادة.

ثم ينتقل من الاعتراضات العقلية إلى الاعتراضات العملية، فيرى أنَّ أي انقطاع

ص: 432


1- المصدر السابق، ص7
2- المصدر السابق، ص 12

في علاقة الإنسان بالله يوازيها توثيق الصلة بالشيطان، كما إنه لا يمكن أن نحصر العبادة في حياة الفرد الخاصة فقط؛ لأنّ الإنسان كائن اجتماعي، وحياته في كافة مراحلها حياة اجتماعية ومن ثم يقرر أن من يتبنى العلمانية ويتخذها نظام حياته ينحدر بنفسه إلى الهاوية، ويصير عبدًا لرغباته وشهواته وأهوائه، متحررًا من كل قيد سواء كان فردًا، أم جماعة أم أمة، أم مجموعة أمم. ومن ثم يكون بديل العلمانية عند المودودي هو مبدأ التسليم ومعناه« أن نعتقد بأن الله هو خالقنا وسيدنا وحاكمنا، وخالق العالم وسيده وحاكمه فينبغي أن نقيم حياتنا وفق أوامره وتشريعاته، إذ لا غنى لنا عنها ، لا في نطاق حياتنا الفردية، ولا في كل مظاهر حياتنا الاجتماعية بكافة صورها»(1). أي التسليم بحاكمية الله، والحاكمية عند المودودي تعني «السلطة العليا والسلطة المطلقة على حسب ما يصطلح عليه اليوم في علم السياسة» (2)(2). وهي تعني ب_ «تطهير الإسلام من أدناس الجاهلية، وجلاء ديباجته حتى يشرق كالشمس ليس دونها غمام»(3). أي أن «الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإنَّ حكم سواه موهوب وممنوح، وإنّ الإنسان لا حظ له من الحاكمية إطلاقاً ... وخلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تُعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه، لأنَّ عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته.. فليس لأي فرد ذرة من سلطات الحكم.. وأي شخص أو جماعة يدّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي ، الذي تدبر كل السلطات فيه ذات واحدة لاریب سادر في الإفك والبهتان.. فالله ليس مجرد خالق فقط، حاكم كذلك وآمر، وهو قد خلق الخلق، ولم يهب أحدًا حق تنفيذ حكمه فيهم»(4).

ومن ذاك العرض النقدي للعلمانية الغربية عند المودودي نجد أنه وقع في تعميمات أوقعته في أخطاء عديدة فضلاً عن السطحية التي جعلته يبني نتائج على

ص: 433


1- المصدر السابق، ص 20
2- أبو الأعلى المودودي تدوين الدستور الإسلامي: مؤسسة الرسالة، 1980، ص 18
3- أبو الأعلى المودودي: موجز تاريخ تجديد الدين ،وإحيائه، لبنان، دار الفكر الحديث الطبعة الثانية، 1967، ص .166
4- أبو الأعلى المودودي: الحكومة الإسلامية، ترجمة أحمد إدريس، طبعة القاهرة، 1977، ص 73

مقدمات لا تنتجها بالضرورة. يمكن عرضها فيما يلي:

استخدم المودودي لفظة العلمانية (بكسر العين) وهذا خطأ بين؛ لأنّ العلمانية بفتح العين لا بكسرها؛ لأنها منسوبة إلى العالم وليست إلى العلم.ذلك لأنها مشتقة من كلمة (secularism) التي تعني الدنيا أو العالم الآني. بل من هذا المصطلح اللغوي شاع المعنى المتداول للكلمة. حيث تعني كلمة (secularism) العالم الدنيوي أو الآني في مقابل العالم الآخر والغيبي والديني. ومن ثم فهمها المودودي وغيره على أنّها فصل الدين عن الدولة (فقط) . أما العلمانية (بكسر العين) فلا أصل لها ولا يجوز العودة بها إلى العلم كمصدر اشتقاقي في اللغة، ولو فرضنا أنها منسوبة للعلم لكانت النسبة «العلمية» وهي غير ذلك. كما يكون المعنى الاصطلاحي غيرمتسق مع المدلول اللغوي؛ لأنّه في هذا الحالة سيكون معناها إدخال منجزات العلم الطبيعي في المجتمع وتسيير حياته وجعلها أكثر غنى وبهجة وراحة بما يوفره له العلم الطبيعي من ثمرات في المأكل والملبس والمسكن والمواصلات وأجهزة الاتصال وتبادل الأفكار وغير ذلك. وأنّه من السخف بمكان تسمية مجتمع دون غیره بأنه علماني لأنه يستخدم العلم في تسيير أموره الحياتية بما يوفره له العلم من منجزات في شتى الحقول والمجالات. كما أنّه من الوضوح بمكان أن أشد الدول والمؤسسات الدينية تزمتا - لا تمانع لأسباب دينية في تنظيم ادارتها وشؤونها المالية والاقتصادية على أسس علمية وإلا فعلينا أن نسمي الفاتيكان دولة علمانية لهذا السبب. وهكذا تكون العلمانية من العالم وليست من العلم بفتح العين وليس بكسرها، هو المصطلح الذي يُنسب على غير قياس إلى العالم والمعنى به ما يقابل (روحية - إكليركية - كهنوتية) أو ما يقابل دينية بوجه عام(1).

إن تعريف المودودي للعلمانية بأنها «عزل الدين عن الحياة الاجتماعية للأفراد» هو تعريف يبدو سطحيًا وساذجا بدرجة كبيرة؛ حيث إنّه يُشَكل اختزالاً وتبسيطاً الظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم، فهذه الرؤية

ص: 434


1- أنظر مهدي شمس الدين العلمانية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 11983 ص 128-125

تتجاهل أنَّ ثمة عناصر علمنة كثيرة موجودة في النفس البشرية، وثمة اجراءات علمانية زمنية (متجاوزة الأخلاق) توجد في كل المجتمعات؛ ومن ثم فالعلمانية كامنة في كل المجتمعات، وليس مجرد مجموعة من الأفكار المستوردة أو الممارسات الواضحة، وإنما هي عملية عميقة، رغم أنّها قد تكون غير واعية(1).

إن هذا التعريف الذي يقدمه المودودي والذي يقدّم العلمانية على أنها فكرة ثابتة، هو الأمر الذي يصفه عبدالوهاب المسيري بالفكرة الساذجة إلى أقصى حد، فالعلمانية في الواقع متتالية مركبة غير محددة المعالم مجهولة الحلقات، تأخذ أشكالاً مختلفة باختلاف الزمان والمكان ليس لها وجود خارج واقع اجتماعي حضاري محدد له خصوصيته(2) . ويتابعه في ذلك عزيز العظمة ويصفه بأنه «تقرير أيديولوجي سطحي يتسم عمومًا بافتراض العلمانية شأنا معلومًا، قابلاً للتلخيص والحصر في جملة من السمات العامة، كفصل الدين عن السياسة، والتحرر من إسار المنظور الديني في النظر إلى تنظيم الحياة الاجتماعية والشخصية والعقلية، وفصل الدين عن مجال العموم المدني. كما يُقال - تقريرا - أن العلمانية شأن نشأ عن صراع الدين والدولة في أوربا، وإنَّ انتشارها في الوطن العربي إنما جاء بصفته أمرًا مستوردا من تاريخ آخر اتصل بتاريخنا عبر علاقة سيطرة وقهر ويترتب على ذلك جميعًا رصد الحضور والغياب، وممارسة النفي والإثبات في محاولة لإقامة مقارنة تاريخية بين وضعين متفارقين منفصلين انفصال الجواهر المفردة بعضها عن البعض» (3). كما يرفض مراد وهبة تعريف العلمانية بأنها« فصل الدين عن الدولة» كما تخيله المودودي؛ لأن هذا الفصل معلول للعلمانيّة، أما علة الفصل فهو التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق وهو تعريفه للعلمانية (4). وهو النقد الذي يوجهه محمد عمارة لنظام «الحاكمية لله» عند المودودي؛

ص: 435


1- عبدالوهاب المسيري -عزيز العظمة العلمانية تحت المجهر بيروت دمشق/ دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى ، 2000 ، ص 20
2- المرجع السابق، ص 24
3- المرجع السابق، ص 24
4- مراد وهبة المعجم الفلسفي، القاهرة، دا قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998، ص 468-469

حيث يأخذ عليه أنه وضع سلطة جماهير الأمة نقيضا لسلطة الله، وقد نسي أن الحديث في الفكر الإسلامي عن« حق الله» إنما يعني«حق المجتمع» وأن القول بأن« المال مال الله» معناه أن «المال مال الأمة والمجتمع» ومن ثم فإنَّ الحديث عن «حكم الله وسلطانه» إنما يعني في السياسة،«حكم الأمة وسلطانها» بحكم «خلافة« الإنسان عن الله في عمارة الأرض، وما يلزم لذلك من إقامة الدولة، التي يحكم فيها الإنسان كخليفة عن الله.. فلا تناقض هنا بين أن يكون الحكم لله وبين أن تكون السلطة السياسية والحكم في المجتمع الإسلامي لجماهير المسلمين. كما يؤكد هذا القول أنّ كل الذين قالوا بنظرية« الحاكمية لله» استشهدوا بما لا يشهد لهم؛ حيث إنهم اشتقوا «حاكمية الله» من مصطلح «الحكم» ظنًا منهم بأنه قد جاء في الإسلام للدلالة على النظام السياسي والسلطة السياسية العليا في المجتمع في حين إنّ أغلب الاستخدامات القرآنية لهذا المصطلح واردة بمعنى» القضاء»والفصل في المنازعات ،وبمعنى«الحكمة» أي الفقه والعلم والنظر العقلي! ولا علاقة لها بالخلافة أو الإمامة أو ما نسميه نظام الحكم في أدبنا السياسي الحديث(1).

وفي رأيي إنَّ أكبر نقد من الممكن أن يوجه للمودودي هنا هو تصوره للعلمانية الغربية على أنها صورة واحدة وليست صورًا متعددة؛ فهناك بالطبع- معان متعددة للعلمانية تبناها أكثر من فريق اتصف بالعلمانيّة، فهناك عَلمانية ماركس المضادة للدين تمامًا والتي تمثلها مقولته الشهيرة: نحن لم يخلقنا الله بل نحن الذين خلقناه»،كما أن هناك العلمانية الأوربية وهي تلك التي تبيح التدين في المجال الخاص أما في المجال العام فإنها تمنعه وتحرمه، وهي علمانية تخاف الدين وتخشاه. أما النوع الثالث من العلمانية فهي تلك العلمانية الليبرالية الأنجلو ساكسونية وهي علمانية محايدة لا تفرق بين المجال العام والخاص فأنت حر في كل تصرفاتك واعتقاداتك ما لم تضر بالآخرين. هذا فضلاً عن العلمانية في صورتها العربية التي لها خصوصية مغايرة لدلالة المصطلح ومفهومه وأبعاده المعرفية والعقدية في الثقافة الغربية.

ص: 436


1- محمد عمارة بين العلمانية والسلطة الدينية، ص 34-35

ثانيًا: القومية Nationalism

يرى المودودي أن القومية هي اللعنة الثانية التي أصابت بها المدنية الغربية الحديثة هذا العالم. فهي الدعامة الثانية التي تقوم عليها تلك المدنية، والقومية في اللغة من القوم وهم «الجماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها. وقوم الرجل: أقاربه وعصبته ومن يكونون بمنزلتهم تبعًا له... والقومي: من يؤمن بوجوب معاونته لقومه ومساندتهم على جلب المنفعة ودفع المضرة ... والقوميّة : صلة اجتماعية وجدانية تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والمنافع، وقد تنتهي بالتضامن والتعاون إلى الوحدة كالقومية العربية» (1)

يقرر المودودي أنَّ القومية تأسست في أوربا للتحرر من قهر السلطتين الروحيةوالزمانية ، السلطة الروحية متمثلة في الكنيسة، والزمنية متمثلة في قياصرة الامبراطورية، فإنّ هاتين السلطتين قد فرضتا الحكم التعسفي لأمد طويل، وتلاعبتا بمقدرات البلاد حتى تدهورت وأصبحت في حالة يرثى لها، ووضع لا تحسد عليه. ولكنها ما نجحت في استرداد حقوقها المنهوبة من قبل الكنيسة وقياصرة الامبراطورية حتى تحولت من مرحلة لأخرى حتى صارت هدفًا ، بل غدت معبودة من دون الله الذي استبعدته العلمانية الغربية من قبل عن شؤون الحياة (2) .

والجدير بالذكر إنّ المودودي لم ينكر على القومية أن تكون جنسيةNationality فهي أمر قطري لا يعارض، كما لا يعارضها أيضًا إذا أريد بها انتصار الفرد لشعبه أو حب الفرد لشعبه والانحياز إليه، شريطة ألا يكون انتصارًا يستهدف تحطيم الشعوب الأخرى، ولا حبًا عصبيًا أعمى يجعل الفرد يحتقر الشعوب الأخرى، أو انحيازا للذات في الحق والباطل على السواء. كما لا يعترض المودودي أن يكون هدف القومية هو الاستقلال القومي، فمن حق كل شعب أن يقوم بأمره، ويتولى بنفسه تدبير شؤون بلاده(3) .

ص: 437


1- المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، القاهرة، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم، 2005،ص521
2- ابو الاعلى المودودي الإسلام والمدنية الحديثة، ص 7.
3- المصدر السابق، ص 15

ومن ثم فإنّ أهم ما يأخذه المودودي على القومية الغربية هو أن تضع ذاتها ومصالحها ورغباتها الخاصة فوق جميع الناس ومصالحهم ورغباتهم، وأن يصبح الحق عندها ما كان محققًا لمطالبها واتجاهاتها ورفعة شأنها ولو كان ذلك بظلم الآخرين وإذلال نفوسهم(1) .

إذن يصبح الخطأ الأكبر في القومية هو مبدأها الذي يقول:» الحق هو الذي يلائم المبادئ القومية والباطل هو الذي لا يلائمها» أي أن تصبح القومية هي الهدف والغاية، هي المشرّعة والمقيمة لما هو حق ولما هو باطل، فتصبح الفضيلة ما يحقق مصالح الأمة وتساير رغباتها ولو كانت لحمتها الكذب والتزوير والخيانة،وسداها الظلم والعدوان أو أي جريمة أخرى مما يعد في الدين والأخلاق ذنبًا لا يغتفر. كما يصبح الشر كل ما يضر مصالح الأمة ويسيء إليها حتى لو كان في حقيقته من أسس واجبات الحق والعدل والصدق وسائر ما يعتبر لدى الدين والإنسانية فضائل خلقية. ومن ثم تصبح أمثال تلك المصطلحات مألوفة في القومية:» الويل للمغلوب- الغاية تبرر الوسيلة لا مكان للضعيف تحت الشمس- قتل شعب آمن قضية فيها نظر - اكذب حتى يصدق الناس الاستعمار والوصاية والحماية والانتداب»(2). كما إنه يرى أنّ الدولة القومية تعطي للأقليات حق تقلد القيادة والمناصب العليا، وتقصرها على أبناء جنسها، ولا تخالف ذلك إلا من باب التكلف والرياء، بل تسعى جاهدة إما أن تذوب هذه الأقليات في الأغلبية أو أن تقضي عليها بالطرق الظالمة من قتل وسلب ونفي أو تنزلهم منزلة المنبوذين(3).

ومن هنا يقترح يقترح المودودي« مبدأ العالمية» بديلاً عن مبدأ القومية في المدنية

الغربية، ويعني بهذا المبدأ أن نظام الحياة القائم على التسليم والخضوع لله في كل شؤونه لا يجب أن يكون بداخله أي تمييز بين أفراد أمته بالجنس أو الأرض أو اللون أو اللغة ولا تبرز في ظله الأنانية والكبرياء والاستعلاء والعصبيات القومية العمياء.

ص: 438


1- المصدر انفسه
2- المصدر السابق، ص15
3- أبو الأعلى المودودي حقوق أهل الذمة، كتاب المختار، د.ت ص 8-9

ويقوم على مبادئ العقيدة الثابتة لا على مبادئ القومية وأن تفتح أبوابها لكل من يتقبل هذه المبادئ ويعتنقها. وهكذا ينضم المودودي لأنصار العالمية المتحمسين الذين ما زالوا يعتقدون أو يأملون في أن القوميات آخذة في الأفول، وأن فكرة الحكومة العالمية قد أصبحت في الواقع أكبر من مجرد حلم يراود أخيلة أصحاب النظريات

والمثل.

صح على نقد المودودي للقومية الغربيّة بعض الملاحظات الظاهرة والغالبة على تصوره، ومنها:

إن المودودي لا ينقد القومية كصورة عامة بقدر ما ينقد القوميات المتطرفة؛ كتلك التي تضع ذاتها ومصالحها ورغباتها الخاصة فوق جميع الناس ومصالحهم ورغباتهم، أو تلك التي تبحث عن منفعتها الخاصة ولو على حساب الآخرين، والتي تنكل بالمهزوم وتنتقم منه، وتتسلح بالكذب والتزوير والخيانة، وتلجأ إلى تحقيق ذلك بالاستعمار والوصاية والحماية والانتداب.

إن نظرة المودودي للقومية في صورتها المتطرفة كانت بمثابة رد فعل على ذلك لذلك الصراع الذي احتدم في ذلك الوقت بين النظرية القومية الهندية الجارفة Indian National Congress والتي كان يدعو إليها المؤتمر الوطني الهندي ونظرية القومية الإسلامية المتطرفة التي لا تفرق بين الإسلام الحقيقي والإسلام الجغرافي والتي كانت تقوم بالدعوة لها الرابطة الإسلامية Muslim League فأراد المودودي أن يفض الاشتباك بالقول في تهافت القومية. كما كان موقفه المناهض للقومية ناتجا أيضًا من كراهية المودودي الشخصية للقوميات الغربية المتمثلة في القومية الانجليزية المستعمرة لوطنه، والتي جاءت للهند والمسلمون هم السادة المتحكمون في أمورها، فأذلوهم ووضعوا الهندوس فوقهم، وحولوا المسلمين إلى أقليات مضطهدة.

وهي النقطة الأهم في نقد المودودي للقومية الغربية؛ حيث التأكيد على نقدها وبيان تهافتها حتى لا تصبح مثالاً وقدوة للأمم المسلمة - المغلوبة أمام الأمم الغربية

ص: 439

معنويًا وسياسيًا - وهي في طريقها للنهوض . فكما قال ابن خلدون المغلوب دائماً مؤلعًا بتقليد الغالب». لأن المودودي لا يريد للأمم الإسلامية أن تسير في طريق آخر غير طريق« دار الإسلام» تلك الدار التي تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله، فهذا -عنده - هو معنى الوطن اللائق بالإنسان والجنسية عقيدة ومنهاج حياة، وهذه هي الآصرة اللائقة بالآدميين. فعصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة.

إن نظرية القوميّة الغربية تقوم بالارتكاز على عملية العلمنة التي رفضها المودودي من قبل؛ فبدلاً من أن يكون الدين هو الأصل الذي يجمع الناس حوله، فلا تمايز بين الطبقات ولا امتيازات خاصة تأتي من جهة الحياة الاجتماعية، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ، يُصبح الفكر القومي ووحدة الفكر واللغة والأمل والمصالح المشتركة هي التي تجمع الناس وتوحد بينهم. فالمودودي يريد أن يزيل كل الروابط والوشائج حتى لا يبقي إلا على رابطة الدين.

تبدو فكرة العالمية عند المودودي فكرة يوتوبية خالصة، إذ كيف تقوم العالمية؟ وكيف يأتلف العالم في وحدة واحدة؟ وما هي الآلية السياسية لتحقيق ذلك؟ صحيح أن ثمة حركات عالمية في أماكن متفرقة من العالم المعمور تنشد الوصول إلى العالمية بعيدًا عن أحاسيس القومية والتعصب لها، لكنها ترى في تبادل الثقافات المختلفة بين الأمم، وانتشار العلوم والتكنولوجيا، وامتداد الثورات الصناعية، والقانون الدولي ما من شأنه أن يضعف القوميات ويدعم الاتجاه نحو العالمية(1). بل إن الاعتقاد القوي لدينا أنه لا عالمية بدون قوميات فالقومية لازمة للعالمية لزوم الأصل للفرع والجزء للكل.

ثالثًا: الديمقراطية أو الشعب مصدر السلطات Democracy

يقر المودودي مبتدأ بمزايا الديمقراطية - وهو أمر له دلالاته - من حيث إنها نشأت

ص: 440


1- عبدالفتاح العدوي، القومية والعالمية في النظرية السياسية ، مجلة الفكر المعاصر، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، العدد السابع عشر، يوليو 1966، ص 82

في أول أمرها في عهد الاقطاع بأوربا في محاولة للتمرد على سلطة الاقطاعيين لإنقاذ جماهير الشعوب من مخالبهم. كما إنها كانت بمثابة الحماية من فرض فرد أو أسرة أو طبقة لإرادتها على الملايين واستخدامهم لتحقيق المطامع الخاصة والأنانية الشخصية. كما إنها تُشعر كل شعب في كل بلد بأنه سيد نفسه وحاكمها(1).

ولكن المودودي يرى أنّ الديمقراطية انحرفت- فيما بعد-عن مسارها الصحيح فأطلقت العنان لكل أمة لتحقيق رغباتها كما تشاء هذه الرغبات التي تمثل رأي الأكثرية، لا رأي أفراد الأمة جميعًا وليس هناك من ضابط يضبط هذه الرغبات. فقوانين البلاد ومبادئها وأنظمتها في الأخلاق أو المدنية أو الاجتماع أو السياسة، تأخذ صفة الحق وتصير صحيحة ما دامت تؤيد رغبات أكثرية الأمة، وتصير خطأ ما دامت تجافي هذه الرغبات التي تتبع أهواء النفوس وتميل معها. ولهذه الأكثرية أن تسن من القوانين ما تشاء وتلغي ما تشاء، وعلى الحكومة التي تمثلها أن تركز جميع امكانياتها لتحقيق الأماني القومية. حيث يصبح ما ساير أهواء الأغلبية خيرا وحقا وعدلاً ولو كان في الواقع شرًا وباطلاً وظلمًا وكل ما جانب تلك الأهواء. ومن الطبيعي في ظل هذه الديمقراطية أن تتلاعب الأكثرية بالقوانين والأنظمة، فتغير فيها وفق الأهواء والرغبات لا وفق قواعد الحق الثابتة التي لا تخضع لتبديل أو تغيير (2).

وبناء على تلك الرؤية فإن الديمقراطية تعني تأليه الإنسان أو حاكمية الجماهير في مقابل إفراد الحاكمية لله وحده ومن ثم فلا مفر من مبدأ سيادة الله وخلافة المؤمنين بديلاً عن مبدأ سيادة الشعب أو حاكميته بل يرى في هذه الديمقراطية نوعا من الشرك بالله تعالى؛ حيث يقول» : إن الذين يرون ما وضعه رجل أو طائفة من الناس من قانون أو شرعة أو رسم هو قانون شرعي من غير أن يستند إلى أمر من الله تعالى، فهم يشركون ذلك الشارع بالله تعالى في الألوهية»(3) . فالأساس الذي ارتكزت عليه

ص: 441


1- أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنية الحديثة، ص 9
2- المصدر السابق، ص 9-10
3- أبو الأعلى المودودي، المصطلحات الأربعة في القرآن تعريب محمد كاظم سباق، الكويت، دار القلم، الطبعة الخامسة، 1971 ، ص 22

دعامة النظرية السياسية في الإسلام أن تنزع جميع سلطات(Powers) الأمر والتشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر مثله فيطيعوه، أو ليسن قانونًا لهم فينقادوا له ويتبعوه، فإن ذلك أمر مختص بالله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره(1) . وعلى هذا الأساس ينتقد المودودي بشدة الذين يرددون عبارة« الإسلام دين ديمقراطي»، فشتان الفارق بين الإسلام والديمقراطية بمعناها الغربي. والجدير بالذكر إنه رغم نقده اللاذع للذين يريدون لصق الديمقراطية بالإسلام، حيث يقول« فلمرض في نفوسهم وضعف في عقليتهم يريدون أن يثبتوا في الإسلام كل ما يرونه قد راج في أسواق العالم المتحضر»(2) . وبالرغم من ذلك تحدث هو عن الديمقراطية الإسلامية التي تقوم على مبدأ الحاكمية لله وحده.

إذن يسعى المودودي لنقد الديمقراطية الغربية، كي يضع بديلاً عنها مما يُسمى ب_

«الديمقراطية الإسلامية» التي تأخذ بايجابيات الديمقراطية الغربية وتنبذ عيوبها،فتؤمن هذه الديمقراطية بنيابة الشعب أو استخلافه في ظل سيادة الله بديلاً عن حاكمية الجماهير، وتؤكد المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص وتحافظ على كافة الحريات سواء حرية التعبير أم القول أم العمل وتمنع التمايز القائم على الجنس أو الطبقة أو مكان الولادة كما يتم فيها انتخاب الخليفة أو الأمير أو الرئيس وفق رأي الجماهير وبإرادتهم الحرة كما يتم فيها انتخاب أهل الحل والعقد والشورى كذلك، وهم الذين لهم الحق المطلق في نقد تصرفات الحكام ومحاسبتهم. ولكنها في الوقت نفسه ترفض حاكمية الجماهير ومبدأ الأكثرية لصالح حاكمية الله.

إذن فالمودودي يرى بأن وجه الخلاف بين الديمقراطية الغربية والديمقراطية الإسلامية هو سيادة مبدأ الأكثرية الذي لا يعرف حدودًا ولا ثوابت سوى ما ترضاه الأكثرية وهذا ما يعرض الأمم للكوارث والفتن والصراعات. فالديمقراطية الإسلامية مرتبطة بالشريعة الإسلامية التي فرضها الله تعالى حيث المبادئ الخلقية والأحكام القانونية والحدود المفروضة وهي ثابتة ودائمة لا تقبل التغيير أو التبديل وعلى أهل

ص: 442


1- أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام السياسية، الطبعة الثالثة، دار الفكر، 1967، ص27
2- المصدر السابق، ص 5.

الحل والعقد أن يجتهدوا في سن القوانين التي تحقق مصلحة الأمة بالمشورة المتبادلة فيما لم يرد به نص شرعي إلا إنها يجب أن تكون منسجمة مع الإطار العام لأسس الشريعة الإلهية وتوجيهاتها، وأن تكون متفقة في نصها وروحها مع القواعد الشريعة الثابتة التي أوصى الله بها(1) . وهذه هي« الحاكمية لله» أو مبدأ«سيادة الإله» التي يقرها المودودي بديلاً للديمقراطية الغربية. ومن ثم يكون الله تعالى عند المودودي هو صاحب السلطة العليا، وهو المنشئ للأحكام والقانون يُسنّ بإرادته ومشيئته هو نفسه، والأفراد ليس لهم بإزائه حق من الحقوق وكل من له شيء من الحقوق منهم،فإنما هي منحة جاد بها عليه حاكمه، وكل حق يسلبه هذا الحاكم ينعدم بنفسه، لأنه لا ينشأ كل حق فطري إلا لأن الشارع قد أنشأه(2).

وبعد هذا العرض يمكننا الوقوف على بعض الملاحظات النقدية على رؤية المودودي الرافضة للديمقراطية الغربية، ونعرضها كالتالي:

إذا كان المودودي يؤكد أنه في ظلّ الديمقراطية الغربية يمكن أن تتلاعب الأكثرية بالقوانين والأنظمة، فتغير فيها وفق الأهواء والرغبات، وبناءً على رأي الأكثرية يمكنها أن تحلل ما هو محرّم وتحرّم ما هو محلل. فلا مرجعية سوى رأي الأكثرية وهذا بالطبع رأي يجافي حقيقة الديمقراطية إلى حد بعيد؛ لأنّ الحكومات الديمقراطية مقيدة أخلاقيًا بالعمل لصالح الأمة. فالمبادئ الأخلاقية قيد لا سبيل إلى إنكاره على سيادة القانون؛ لأن القول بإمكانية هذا الإنكار إن هو إلا قول بأن القوانين يمكن أو يجوز أن تصدر اعتباطاً لمساندة الانحرافات الخلقية كاللصوصية، والقتل والزنا، والتبذل العلني... إلى آخره. وبالطبع، فإن هذا القيد الأخلاقي لا يمثل ما هو كائن، بل ما ينبغي أن يكون وليس يطعن في فاعلية هذا القيد أنه توجد حالات ينفك فيها، ويضيع أثره (3) .

ص: 443


1- أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنية الحديثة، ص25
2- أبو الأعلى المودودي تدوين الدستور الإسلامي، ص 18-19
3- عبدالفتاح حسنين العدوي، الديمقراطية وفكرة الدولة، الطبعة الثانية، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011، ص 25

إنَّ الديمقراطية في أي مكان في العالم لا يمكنها أن تتجاهل معتقدات وعادات وتقاليد الشعوب، وهذا ما يفسر اختلاف القوانين من بلد إلى بلد، حيث نرى أن إرادة الشعب وعاداته تفرض نفسها بطريقة أو بأخرى، على الهيئات التشريعية، وتلقي بظلالها على القوانين التي تصدرها ومن ذلك ما نجده في معظم دساتير البلاد الإسلامية من مواد تنص على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع. فكيف تبدو الديمقراطية- كما يقول المودودي- مخالفة للإسلام ومقاومة لروحه، ومحاربة لمبادئه الأساسية، ولكل جزء من أجزائه، ولا انسجام بينهما في أمر مهما كان تافها؛ لأنهما على طرفي نقيض؟!

%

أما ما يخص كلمته التي وجهها للمسلمين في نهاية كتاب«الإسلام والمدينة الحديثة» التي قال فيها: «وإني أقول للمسلمين بصراحة إنَّ الديمقراطية القومية العلمانية تعارض ما تعتنقونه من دين وعقيدة، وإذا استسلمتم لها فكأنكم تركتم كتاب الله وراء ظهوركم وإذا ساهمتم في إقامتها أو إبقائها فستكونون بذلك قد خنتم رسولكم الذي أرسله الله إليكم. وإذا قمتم لرفع لوائها فكأنكم رفعتم لواء العصيان لربكم»(1). فإنني أرى أن هذا النص لا يمكن تفسيره بعيدًا عن الظرف التاريخي الذي قيل في إطاره؛ حيث كان المسلمون أقليّة في شبه القارة الهندية لا تتعدى نسبتهم 25% من السكان، وكانت الديمقراطية العلمانية في ذلك الوقت ستأتي إما بسلطة الاستعمار الانجليزي او السلطة الهندوكية التي لا يشك المودودي في كفرهما معا، ولن تأتي أبدا في صالح الأقلية المسلمة، فكان من الطبيعي أن يتخذ المودودي هذا الموقف المتشدد من الديمقراطية. والدليل على ذلك أنه في باكستان ذات الأغلبية المسلمة تغير موقف المودودي من الديمقراطية، وأسهم بنفسه في الانتخابات النيابية؛ لأنّ الديمقراطية هنا ستكون محكومة بحدود الشريعة الإسلامية وثوابتها ومقاصدها، وبدأ المودودي في هذا الواقع الجديد يتحدث عن «الديمقراطية الإسلامية»، ويتغنى متباهيًا وفخوراً ب_« ديمقراطيتنا العريقة»، وأكد أنّه ليس هناك عاقل يعارض هذه الديمقراطية(2).

ص: 444


1- أبو الاعلى المودودي الإسلام والمدنية الحديثة، ص 26
2- حاتم صادق، أبو الأعلى المودودي الاب الروحي للجماعات الإسلامية مجلة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة القصور الثقافة، القاهرة، العدد 289 أكتوبر 2014، ص 40 وأنظر أيضًا غيضان السيد على العدالة والديمقراطية بين المودودي وسيد قطب مجلة يتفكرون العدد العاشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث الرباط والمغرب 2017 ، ص 197 وأيضًا محمد سليمان التغيير السياسي عند المودودي 5/4 على الرابط الالكتروني: http://alasr.me/articles/view/4854

خاتمة

هكذا رام المودودي تقويض دعائم المدنيّة الغربية الحديثة: العلمانية، القومية، الديمقراطية. والتي يعتبرها الغرب روح الحياة المعاصرة والصورة المثلى لأي تنظيم حضاري أو تنظيم اجتماعي ولكنَّ المودودي يقرّ بأنّ هذه المبادئ الثلاثة مبادئ خاطئة فاسدة، بل يعتقد بأنها منبع الشرور والمصائب والمآسي التي تعاني البشرية من جرائها اليوم ما تعانيه؛ فإبعاد السلطة الإلهية عن حياة الفرد الاجتماعية وشؤونه كلها ليس إلا إعلان العصيان والتمرد على الله الخالق. ومن ثم يرى ضرورة أن تضع الأمة الإسلامية - التي لم تتحرر بعد من ربقة الاستعمار الغربي معنويًا على الأقل - مبدأ التسليم لله وطاعته بديلاً عن العلمانية. وأن تضع مبدأ الإنسانية العالمية بديلاً لتلك القوميّة التي تضع ذاتها ومصالحها ورغباتها الخاصة فوق جميع الناس ومصالحهم ورغباتهم، والحق عندها ما لبى مصالحها ولو كان بظلم الآخرين وإذلال نفوسهم أو نفيهم أو قتلهم. كما تضع مبدأ سيادة الله وخلافة المؤمنين بديلاً عن الديمقراطية التي تعني سيادة الشعب أو حاكمية الجماهير فالديمقراطية- عند المودودي- تعني الشرك بالله وتأليه الإنسان، ولذلك لا مفر أمام المسلم أن يحتمي بحاكمية الله، ففيها النجاة في الدنيا والآخرة.

وقد بينا خلال ثنايا هذا البحث أهم المآخذ التي وقع فيها المودودي؛ فإذا كان أبو

الأعلى قد نظر إلى العلمانية على أنها حررت الناس من عبادة الله وطاعته وخشيته ومن الضوابط الخلقية الثابتة، وألقت حبلهم على غاربهم، وجعلتهم عبيدا لأنفسهم غير مسئولين أمام أحد. فقد بينا كيف أنه تناول مفهوم العلمانية بشيء من التبسيط المخلّ؛ حيث اقتصر معناه على فصل الدين عن الحياة الاجتماعية للأفراد وتغاضى عن المعاني الأخرى للعلمانية، كما وقفنا وقفة نقدية مع موقف المودودي من القومية

ص: 445

الغربية على إنها قدمت للبشرية جرعة كبيرة من خمر الأنانية والكبرياء والاستعلاء واحتقار الآخرين، ودعا إلى العالمية التي لم يقدم لنا آلياتها فبدت كفكرة يوتوبية لا يمكن تحقيقها في الواقع بأي حال من الأحوال، رغم أن المودودي ليس صاحب مشروع نظري وإنما هو صاحب مشروع عملي، ولذلك بدت العالمية في مقابل القومية مجرد طرح نظري يبدو كنشاز في مشروع المودودي الفكري. أما الديمقراطية والتي قدمها المودودي على أنها قد أجلست الإنسان على عرش التأليه وحولت له جميع

سلطات التشريع التشريع والتقنين له ليحل محلها الحاكمية تفاديًا لعبث الديمقراطية بالقوانين بلا حد ولا قيد، ونسي أن الديمقراطية مقيدة بالقيد الأخلاقي، وبعادات كل قطر وتقاليده، كما أنه يمكنها أن تستند على مبادئ الدين وتجعل منها المصدر الرئيس للتشريع كما هو الحال في العديد من البلاد الإسلامية الديمقراطية. كما أن الحاكمية ذاتها والتي تعد الفكرة المحورية في فكر المودودي كله، فكرة لم ترد أبدًا بشكل مباشر لا في القرآن ولا في صحيح ! النبوية .كما أن الآيات التي ورد فيها مصطلح« الحكم» الذي اشتقت منه« الحاكمية» لم تشر كتب التفسير إلى أنها تعني النظام السياسي والإمامة والخلافة بل الفصل في المنازعات والعلم وإعمال العقل.

وهكذا نكون قد قدمنا صورة واضحة حول نقد المودودي لقواعد المدنية الغربية وأحطنا القارئ علمًا بما له وما عليه.

ص: 446

أهم المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

أبو الأعلى المودودي: موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، لبنان، دار الفكر الحديث، الطبعة الثانية 1967.

أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام السياسية، الطبعة الثالثة، دار الفكر، 1967.

أبو الأعلى المودودي، المصطلحات الأربعة في القرآن، تعريب محمد كاظم سباق، الكويت، دار القلم، الطبعة الخامسة، 1971.

أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلامية، ترجمة أحمد إدريس، طبعة القاهرة، 1977

أبو الأعلى المودودي، تدوين الدستور الإسلامي: مؤسسة الرسالة، 1980.

أبو الأعلى المودودي، الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 1980.

أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1987.

أبو الأعلى المودودي، حقوق أهل الذمة، كتاب المختار، د.ت.

المراجع

عبدالفتاح حسنين العدوي الديمقراطية وفكرة الدولة، الطبعة الثانية، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011.

ص: 447

عبدالوهاب المسيري- عزيز العظمة، العلمانية تحت المجهر، بيروت- دمشق/ دار الفكر المعاصر ، الطبعة الأولى، 2000.

محمد عمارة، بين العلمانية والسلطة الدينية ، القاهرة/بيروت، دار الشروق، الطبعة

الأولى، 1988.

مهدي شمس الدين ،العلمانية ،بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1983.

المعاجم والقواميس والمجلات

المعجم الوجيز ، مجمع اللغة العربية ، القاهرة، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم،

2005 .

حاتم صادق، أبو الأعلى المودودي الاب الروحي للجماعات الإسلامية، مجلة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، العدد 289 أكتوبر 2014.

عبد الفتاح العدوي، القومية والعالمية في النظرية السياسية، مجلة الفكر المعاصر،القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة العدد السابع عشر، يوليو 1966 .

غيضان السيد علي، العلمانية كعلاج للاحتقان الديني ودعوة لإنقاذ البشر، مقال بمجلة الثقافة الجديدة، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد (299) أغسطس 2015 .

غيضان السيد على، العدالة والديمقراطية بين المودودي وسيد قطب، مجلة يتفكرون، العدد العاشر، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط والمغرب 2017.

مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة، دا قباء للطباعة والنشر والتوزيع 1998.

ص: 448

مواقع الانترنت

أبو الأعلى المودودي، الإسلام والمدنية الحديثة، منشورات منبر التوحيد والجهاد،

على الرابط الإلكتروني التالي :2015/http://mktba22.blogspot.com.eg/10/

pdf_477.html

محمد سليمان التغيير السياسي عند المودودي 5/4 ، على الرابط الالكتروني:

http://alasr.me/articles/view/4854

ص: 449

قضية الإسلام والغرب عند الندوي

د. محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه

د. محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه (1)

أولا:ً الاتجاه الفكري العام عند الندوي:

تحتل قضية الإسلام والغرب دورًاً مركزيا في الاتجاه الفكري العام عند الندوي، حيث إنها كانت تشغل باله في العديد من كتاباته من نحو: أحاديث صريحة في ،أمريكا، الإسلام والغرب، الإسلام في عالم متغير، الحضارة الغربية الوافدة، الصراع بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية المسلمون تجاه الحضارة الغربية حديث مع الغرب، وغيرها من الكتب التي تناولت هذه القضية بشيء من العمق والتحليل الشديدين، غير أنه من الخطأ النظر إلى أن فكر الندوي ينحصر في هذه القضية فقط، إذ إن المتأمل لفكره يجده يتناول العديد من القضايا الفكرية التي تهم العالم الإسلامي في جوانب متعددة، كان يحاول من خلالها أن يرسم طريقًا واضحًا للمسلمين يمكنهم السير فيه رجاء غاية منشودة، وهي التحاق العالم الإسلامي بركب التقدم على أسس من التمسك بالعقيدة الإسلامية التي تدعو إلى العلم والعمل النظر والتطبيق ومن ثم كانت اتجاه الندوي الفكري ينبني على مجموعة كبيرة من الجهود الفكرية التي كان يحاول من خلالها ربط الدين بالحضارة ، وهي الجهود التي تكشف عنه عدة محاور:

ص: 450


1- محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه المحاضر بجامعة القاهرة - فرع الخرطوم.

الأول، محور بيان جوهر الإسلام وفضله.

الثاني، محور الدفاع عن الإسلام.

الثالث، محور الأعلام الإسلامية.

الرابع ، محور الإسلام والغرب.

قضية الإسلام والغرب عند الندوي

إلا أنه كان يولي قضية الإسلام والحضارة الإنسانية أهمية كبيرة، لشعوره بأهميتها وجديتها، وقد أسس فكرته عن الموضوع تأسيسا قويًا صالحًا للدراسة والبحث، وإن كان قد غلب عليه في دراسته الطابع الارتجالي الذي يميل إلى استعراض الموضوع استعراضًا تفصيليًا في العديد من مؤلفاته، وقد دعي للحديث عن هذا الموضوع في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب التابع لوزارة الإعلام في الكويت، في الوقت الذي دعي فيه أيضًا من قبل الأمانة العامة للمؤتمر الرابع للسيرة والسنة المحمدية، بالأزهر الشريف للحديث عن أثر الرسالة الإسلامية في الحضارة الإنسانية(1).

إن الندوي كان يرى أن العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي واجهوا مشكلة غاية في التعقد والدقة والخطورة، وتباينوا حول الموقف الذي ينبغي أن يتخذ تجاهها، باعتبار أن تلك المواقف تحدد مظهرا من مظاهر مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب، وتلك المشكلة كانت مشكلة استفحال الحضارة الغربية الفتية الدافقة بالحياة والنشاط، والطموح والقوة والانتشار والاستيلاء، ومن ثم فقد رسم لنا الندوي ثلاثة من المسارات في علاقة الإسلام بالغرب وحضارته التي بدأنا في الشعور بها في القرن التاسع عشر الميلادي، بعد أن أخذت الحملات الحربية الغربية تتوالى على الشرق رغبة في استنزاف خيراته، وهذه المسارات تحدد مواقف المسلمين الحضارة من الغربية ومن الغرب نفسه، إذ كان هناك ثلاثة مواقف يستطيع العالم الإسلامي أن يقفها أمام هذه القاطرة، وهي على النحو الآتي:

ص: 451


1- انظر الندوي الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية، ط القاهرة، دار الصحوة للنشر، الطبعة الأولى، 1986م، ص 6، 7

:أولاً: الموقف السلبي:

وهو الموقف الذي يرفض هذه الحضارة بكل ما جاءت به ويقف منها موقف المعارض الرافض الثائر على معطياتها أو موقف المعتزل المحايد، الذي لا يقتبس منها شيئًا، ولا يسمح بدخول علم من العلوم التي كان للأوروبيين فيها التفوق والاختصاص، ولا ينتفع بتجارب الغرب في مجالات الطبيعة والكيمياء والرياضيات وعلم الميكانيكا، ولا يستورد شيئًا من الآلات والصنائع والأجهزة، وأدوات الحرب والبضائع ومرافق الحياة(1). وقد نقد الندوي موقف هذا الفريق نقدًا شديدًا، تحت منطلقات طبعية شرعية، لأنه يرى أن هذا الموقف ينتج عنه التخلف الشديد عن ركب الحياة، ويقطع صلة هذا الجزء عن باقي العالم، ويكون كجزيرة منقطعة لا مناعة لها ولا قيمة والبر لا مكان فيه للجزرالمنقطعة المعزولة، ولا حرب مع الطبيعة البشرية، ومنطق الحوادث والحقائق، فضلاً عن أن هذا الموقف السلبي يعبر عن ضيق في العقل، وتعطيل للقوى الفطرية، وجناية على الإسلام وسوء تفسير للدين الذي يحث على النظر في الكون وإعمال العقل، واقتباس الصالح النافع أيًا كان مصدره، ولو حاول قطر من الأقطار أن يطبق عينه وسمعه عن تحدي هذه الحضارة الصارخة، أو أن يرفضها رفضًا باتًا، ووصمم في أن يعيش في عزلة عن العالم المعاصر، منطويًا على نفسه، لما استطاع ذلك، ولواجه ثورات لا آخر لها، وعصيانًا وتمرداً في الداخل،لأنه يعارض الفطرة الإنسانية الوثابة الطموح، الولوعة بالجديد، الطالبة للمزيد الطامحة دائماً إلى المجد والقوة والتجديد، ويعارض كذلك السنن الكونية وطبائع الأشياء، ولو فعل ذلك قطر من الأقطار لتسربت هذه الحضارة إلى أسر هذا القطر وبيوته، كما يتسرب الماء في القرية أو المدينة إذا أحاط بها السيل من كل جانب،وطغى عليها الفيضان.»(2)

ومن ثم فإن الندوي يقف موقف الرافض لمثل هذا الموقف الذي يخالف الشرع والعقل وطبائع الأمور، وهذا يدل دلالة قوية على أنه لم يكن من أولئك النفر

ص: 452


1- انظر الندوي الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، ط لبنان، دار الندوة للتوزيع، الثانية، 1986م، ص 13
2- انظر الندوي السابق ص ،13 ،14 وانظر موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية، ط الهند المجمع العلمي الإسلامي، 1963م، ص 11، وما بعدها

الرافضين لكل ما أتى به الغرب، بل كان يقدر منجزات هذه الحضارة في جانبها العلمي والتكنولوجي بما قدمته من خدمات جليلة للإنسانية، ومن هنا فقد كان يرى أنه بالإرادة والتصميم في أي قطر من الأقطار نستطيع التمييز والاختيار من الغرب وحضارته ما يفيدنا ونصرف عن كواهلنا ما ليس له ثمرة.

ثانيًا - موقف الاستسلام:

وهو موقف الاستسلام والتقليد والخضوع الكامل، أو ما يمكن تسميته موقف التقدمية والتغريب، ويصفه الندوي بانه موقف المقلد المتحمس، والتلميذ البار الصغير الذي لم يبلغ بعد سن التمييز، ومن ثم فقد رفض الندوي أن يقبل العالم الإسلامي أو جزء منه هذه الحضارة الغربية بحذافيرها، كأن يقبلها بعقائدها الأساسية، ومناهجها الفكرية وفلسفاتها المادية ونظمها الاقتصادية والسياسية، ويحاول تطبيقها في الأقطار العربية برمتها، لأن معنى ذلك تغريب هذه الأقطار، ونزع هويتها، وغزو فكري نرتضيه لأنفسنا بزعم مواكبة التطور والتقدم(1).

ثالثًا - موقف المشارك:

وهو الذي يتبناه الندوي، وهذا الموقف يقوم على أن نستفيد من الغرب وأن نأخذ من علومه ما تفتقر إليه أمتنا الإسلامية، وما ينفع عمليا، خاصة العلوم التجريبية والتطبيقية، كما أن هذا الموقف عنده ينبني على الالتزام بهذه الاستفادة من الغرب شريطة أن ننفض عن كل ما نأخذه من الغرب غبار القرون المظلمة وعصر الثورةعلى الدين، مع الأخذ بالعلوم المفيدة المجردة من الإلحاد والعداء للدين ومجردة من النتائج الخاطئة، مع تطعيم ذلك بالإيمان بخالق الكون ومدبره. ويلخص الندوي موقفه الإيجابي الذي يرى وجوب التزام المسلمين به تجاه الغرب وحضارته بل يرى صاحبه عبقريًا عصاميًا قائلاً: «العبقري العصامي الذي لا ينظر إلى الغرب كإمام وزعيم ،خالد وإلى نفسه كمقلد وتلميذ ،دائم إنما ينظر إلى الغرب كزميل سبق، وكقرين تفوق في بعض العلوم المادية والمعاشية، فيأخذ منه ما فاته من التجارب

ص: 453


1- انظر الندوي حديث مع الغرب، ط دار الرشاد، الأولى، 1967م، ص 8، 9.

ويفيض عليه بدوره ما سعد به من تراث النبوة، ويعتقد أنه إن كان في حاجة إلى أن يتعلم من الغرب كثيراً، فالغرب في حاجة إلى أن يتعلم منه كثيراً، وربما كان ما يتعلمه الغرب منه أفضل مما يتعلمه هو من الغرب، ويحاول أن ينهج -بذكائه وجمعه حسنات الغرب والشرق وقوى الروحانية والمادية - منهجًا جديدًا يجدر بالغرب تقليده وتقديره، ويضيف إلى المدارس الفكرية والمناهج الحضارية مدرسة جديدة تستحق كل عناية ودراسة وتقليد واتباع»(1) نفهم من ذلك أن الموقف الذي يريده في العلاقة بين الإسلام والغرب هو موقف الند للند، موقف المشارك الفعال في صناعة العالم من حوله، الذي لا يرى في نفسه أنه أقل من غيره الغربي في الفكر والقدرة على إنجاز الأعمال التي تأخذ بيد البشرية إلى التقدم والرخاء، موقف التكامل الذي فيه أكمل ما لدي من نقص عن طريق الغرب، ويكمل الغرب ما لديه من نقص عن طريقي أنا ومن خلال الاستعانة بي، وهذا ما يمكن تسميته بالاقتباس المتبادل أو الاستفادة المتبادلة، وليست قضية الاقتباس بين الحضارات عند الندوي بالأمر غير الطبيعي؛ إذ إن كل الحضارات في كل زمان ومكان تقوم وتزدهر وتتوسع وتترقى، فقد تسنح لأمم وشعوب فرصة لتوجيه المجتمع وتنظيم الحياة، وتذليل عقباتها وتسهيل معيشتها ، ثم تأتي أمم ومجتمعات فتستفيد من هذه التجارب، وتقتبس من هذه المنجزات والمعطيات للعلم البشري(2).

ثانيا - نقد الفكر الغربي:

لقد كان الندوي ينطلق في نقده للغرب من قاعدة كان يراها لازمة قوامها أن الحضارة الغربية حضارة ملوثة لا طهارة فيها، وكونها أيضًا قديمة لا جديد فيها(3)، ورغم أن هذه الفكرة من الخطورة بمكان كونها في الظاهر تغمط الحضارة الغربية حقها وفضلها على الإنسانية، إلا أنها تبين ما كانت تقوم عليه من ميكانيكية، فقد

ص: 454


1- الندوي الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، ص233.
2- انظر الندوي، المسلمون تجاه الحضارة الغربية، ط جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1987م، ص 9
3- انظر مثلاً الندوي بين العالم وجزيرة العرب القاهرة، مطبعة دار الكتاب العربي 1951م ص .24 والندوي أيضًا كتاب أوروبا أمريكا إسرائيل، ط الهند المجمع الإسلامي العلمي، 1997م، ص 6 وما بعدها.

كان الندوي يراها «مادية محضة، لا هدف منها الآن قد أصبحت كالبعير المجتر، الذي يجتر ما في بطنه، ما هنالك شيء جديد هذه الحضارة الغربية قد قالت كلمتها الأخيرة قبل ،زمن الآن تعيش على امتدادها تعيش على ما حققت من انتصارات ومن فتوح في المجال الحضاري والصناعي والتكنالوجي، لا شيء جديد، لا رسالة لها للإنسانية، إنها فى الحقيقة لا تفكر في مستقبل الإنسان إنها الآن تعيش لنفسها فقط»(1) فالحضارة الغربية لا تزال تحتل مكانة كبيرة على الصعيد المادي، إلا أنها تفتقر تمامًا للجانب الروحي؛ إذ تفتقد بدون شك إعلاء القيم الروحية والأخلاقية، فإذا كان لدى الغرب حضارة مادية في أعلى مستوياته، فإن الحضارة الروحية لديه تصل إلى أدنى مستوياتها، بل إن الحضارة الغربية عند الندوي لم تكن لتورث إيمانًا، بل هي بالأحرى عنده كانت تورث الكآبة والسآمة؛ بسبب هذا الطابع المادي الذي تنطوي عليه، وهذا ما يفسر لماذا تزداد موجات الانتحار في العالم الغربي، مع ازدياد التقدم الحضاري المادي.

وإذا كان الندوي لا يخفي اندهاشه وإعجابه بالتقدم الغربي المادي، معتبرا ذلك نعمة من الله تعالى، وإن كانت نعمة أورثت أهل هذه البلدان شقاء في جانب الإيمان العقدي والروحي والأخلاقي، فإن ذلك لم يمنعه من الدعوة إلى ضرورة دراسة روح هذه الحضارة المادية والتعمق في دراستها، والمقارنة بين محاسنها ومساوئها، والتأكيد على المجالات التي يمكن الاستفادة منها، والمجالات الأخرى التي يجب الابتعاد عنها ونبذها، ومن ثم وجدناه يقول في تأكيد على أهمية الاستعانة بالجوانب الإيجابية فى الحضارة الغربية قائلاً :« يجب أن نتتلمذ على أساتذة هذه الحضارة وعلى أساتذة هذه الجامعات في هذه المجالات، ولكن ما هي المجالات التي يجب أن نتجنبها ونفر منها ، ونزهد فيها ونستهين بها ونحقرها، إنما هي مجال العقيدة، مجال الإيمان، مجال الروح، ومجال الإيمان، مجال الشخصية مجال معرفة قيمة الإنسان، مجال الهدف الصحيح، مجال القيم والمثل الفاضلة مجال الإيمان بالغيب، مجال

ص: 455


1- الندوي، أحاديث صريحة في أمريكا، بيروت، ط مؤسسة الرسالة، الأولى، 1978م، ص 29، 30.

الشعائر الإسلامية»(1) ومن ثم فقد كان موقفه ليس موقف المغالي ولا موقف المنكر، وإنما كان موقفه من الحضارة الغربية موقفًا وسطاً، لا إلى هذا ولا إلى ذاك، فقد كان أمامها على مستوى عال وليس على مستوى منخفض يقدس هذه الحضارة، ويمجدها ويبالغ في إطرائها، فلم يكن هذا موقفه، وإنما موقفه كان موقف المسلم المعتز بدينه، المؤمن بالقرآن، موقف المسلم الحامل لتاريخ مشرق كان فيه الإسلام قائدًا للبشرية. ومن ثم لم نر في أي كتاب من كتب الندوي دعوة إلى القطيعة مع الحضارة الغربية في الجوانب الإيجابية منها، بل إنه على سبيل المثال مثلاً كان ينكر على بعض المسلمين تحريمهم جواز العيش في البلاد الغربية بدعوى أن حضارتهم وثقافتهم وعقيدتهم تخالف حضارتنا وثقافتنا وعقيدتنا، ومن ثم فلا مانع عنده من العيش في الغرب ولكن بقيم الإسلام، ولا مانع عنده من أن يأتيه دراساً متعلما، ومن ثم فلم يكن من دعاة التقوقع والانكفاء على الذات تجاه الحضارة الغربية، وإنما الاستفادة من إيجابياتها قدر الإمكان.

بل لقد كانت من أهداف الندوي في داسة الغرب وحضارته والتواصل مع تلك المدنية التي أفرزتها سبر أغوارها؛ لإدراك مواطن الإفلاس والإخفاق فيها، بحيث يعول الندوي على هؤلاء في نقل ما عرفوه عن الحضارة الغربية إلى أبناء جلدتهم من الشرق؛ ليكشفوا لهم سر هذه الحضارة، وليزيلوا هذه الثقة الزائدة التي يحملونها لهذه الحضارة، وذلك التقديس الذي يحولونه لها، حتى يبثوا الثقة فيهم بأنهم من الممكن أن يقودوا كمسلمين زمام الحضارة المبنية على مادة وليس مادة وروح فقط كما صنع الغرب (2) ، فقد كان يعتبر ذلك محطة مهمة لإعادة الثقة في المسلمين بصلاحية الإسلام وبصلاحية العلوم الإسلامية، وبخلود الرسالة الإسلامية، حتى يقولوا لهم لقد أدركنا الحضارة الغربية وعشناها ورأينا كيف أنها حضارة جوفاء بالاستناد إلى المادة دون الروح، وإن كنا نرى أن هذه التوجه الذي ذهب إليه الندوي كان الهدف منه إعداد جيل من المتمسكين بالثقافة العربية والهوية الدينية كحائط

ص: 456


1- الندوي، أحاديث صريحة مع أمريكا، ص 38
2- انظر الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ط المنصورة ، مكتبة الإيمان، 1945م، ص 168

سد أمام موجات التغريب التي يقودها العديد من المثقفين العرب الذي تعلموا في الجامعات الغربية وغرهم زخرفها وبريقها المادي، دون أن يفطنوا إلى ما وراءها من التدني الروحي والأخلاقي، حتى أنهم عدوا الغرب كما يقول الندوي كالسماء وهم على الأرض، وكأنه قمة جبل وهم يتطلعون إليها كما يتطلع طفل صغير، وقد وقف في سفح الجبل، فهو ينظر إلى قمة الجبل كأنها السماء العالية(1).

ثالثا - الأسس التي انطلق منها في نقد الفكر الغربي.

الأول - الأساس العقدي:

لا شك أن الدين عند الندوي يتماشى مع الحياة الديناميكية جنبًا إلى جنب في الوقت الذي يعمل فيه أيضًا حارسًا عليها وحاميًا لها من جانب آخر، ومن ثم وجب عليه مهمة المراقبة والضبط أيضًا، والدين عند الندوي - في التحليل الأخير وصي على المدنية والحضارة الغربية، والوصي ليس من مهمته أن يدعم كل ما يفعله القاصر الموضوع تحت وصايته، أو أن يؤيد كل ميوله الجيدة منها والسيئة، أو أن يصادق بخاتم الموافقة على كل شيء يسعى إليه، بل إن الدين عنده يمتلك خاتمًا واحدًا ويدًا واحدة وليس من شأنه أن يلصق طابعه على أي وثيقة، بل يجب عليه أن يميز ويختار، فهو يفحص الوثيقة أولاً ثم يصدر حكمه، فإن وجد فيها خطأ أو ضررًا حاول الدين أن يتركها برفق أو بقوة إذا اقتضى الأمر ذلك(2) ، وهذا هو حال الدين من الحضارة الغربية عند الندوي ، إذ يرى ضرورة مقاومة الأخطار الناتجة عنها تحت دوافع دينية.

ومن ثم يمكن القول إن الندوي كان ينقد الفكر الغربي والحضارة الغربية بالأساس دفاعًا عن العقيدة الإسلامية، ذلك أنه كان یری أن الحضارة الغربية أنتجت مجموعة من القيم المخالفة لقيم الإسلام السمح في قيمه وتوجهاته، ولذا كان تحذيره مما أسميناه الجانب السلبي في الحضارة الغربية، فالقيم المادية بما انطوت عليه من تقدم تكنولوجي وصناعي أحدثت في النفوس رتابة وسآمة وكآبة أدت بدورها إلى شيوع

ص: 457


1- انظر الندوي أحاديث صريحة في أمريكا، ص 40، 41.
2- انظر الندوي الإسلام في عالم متغير نقله للعربية على عثمان ط مؤسسة الكتاب، دمشق، الأولى، 1978م، ص 9

الانتحار في مجتمعات توفرت لها كل سبل الحياة المادية، كونها صنعت منه آلة تنفذ دون أي تأسيس أخلاقي أو عقدي يمكن أن يوفر له الأمان الروحي والطمأنينة النفسية.

ومن جهة أخرى كان يرى أن هذه الحضارة التي اتسمت بالمادية بالاعتماد على المحسوس المشاهد، وانكار الحقائق الغيبية وما وراء هذه الحياة، أنها اتخذت المادية والرقي الحضاري صنما يعبد ومثلاً أعلى يقتدى والغاية الأخيرة والنهائية، والمثل الكامل والمقصد الأسمى، ومن ثم كانت سمة الحضارة الغربية عنده هو الاعتماد الزائد على البهرجة والطلاء الكذاب، والشغف والولوع الزائد بالزينة والمظاهر الجوفاء والاستهانة بالحقيقة الدينية، وهذا يفسر لنا لماذا سمى الحضارة الغربية بالحضارة الزائفة حينًا والحضارة الراعنة حيناً آخر والحضارة المتطرفة المغالية أحيانًا كثيرة. ومن ثم وجدناه يكيف سورة الكهف في ذلك الإطار الفكري الذي يرتئيه هو .

ولذا وجدنا الندوي يخلع بعض الآيات القرآنية على الواقع الحضاري المعيش ناقدًا المادية التي هو عليها، من ذلك مثلاً آية :« واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا» (الكهف) وفي ضوء تحليل الندوي لهذه الآية نفهم أنه كان يخشى على الإسلام أن لا يستقر في قلوب أتباعه بفعل المدنية الحديثة والحضارة المادية التي تقوم عليها ، ذاهبًا إلى أن القرآن الكتاب المعجز الخالد، وأنه يحدد الطريق في كل عصر ولكل عصر، وفي كل دور من أدوار الحياة، ولكل جيل، وأنه المرآة الوضيئة الصافية، التي ينظر فيها الأفراد والأمم، وتنظر فيها الأجيال البشرية كلها ، والخلاصة فإنه الكتاب الذي فيه الحديث عن كل دور من أدوار الحياة، ولكل جيل من أجيال البشرية، وفيه التوجيه والإرشاد والقيادة لهذه الأجيال، وأنه مجموع سور ناطقة حية دائمة. (1)

إذن البعد العقدي في نقد الندوي للحضارة الغربية ظاهر بشدة، وهو البعد الذي نراه ذا تأثير شديد في كل القضايا الفكرية التي تناولها بالدراسة والتحليل والنقد، ففي

ص: 458


1- الندوي، أحاديث صريحة في أمريكا، ص 43، 44.

دراسته لعلاقة الإسلام بالغرب تراه يقف موقف الريبة من هذه الحضارة المادية - وهو لا يرفض منجزاتها – ولكن يرفضها باعتبارها ملهية عن القيم الأخلاقية والروحية التي نادت بها الديانات السماوية عامة، والإسلام خاصة، ويكفي تدليلاً على البعد العقدي في موقف الندوي هنا أننا نجده يرتكز على سورة الكهف باعتبارها في نظره السورة التي تصف هذا العصر وصفا دقيقًا، وتصف هذه الحضارة التي اتسمت بالمادية بالاعتماد على المحسوس المشاهد وإنكار الحقائق الغيبية وما وراء هذه الحياة، معتقدًا أن هذه الحضارة الغربية اتخذت المادية والرقي صنما ومثلا أعلى والغاية الأخيرة والنهائية والمثل الكامل والمقصد الأسمى، ومن الواضح أنه يعول في ذلك على افتتاحية سورة الكهف التي يقول فيها ربنا تعالي: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا» (1) وغيرها من الآيات التي تزخر بها السورة، من ذلك مثلاً قوله تعالى في ختام السورة نفسها:« قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا»، وقد استوقف الندوي جزء الآية التي تقول (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)، ومن ثم يقول مؤولاً هذه الآية، وهو التأويل الذي يكشف عن الجانب العقدي وأثره في رأي الندوي من الحضارة الغربية: امتاز قادة هذه الحضارة والذين يملكون زمامها اليوم والذين اختطفوها ورسموها بأنهم كانوا على حسن ظن بأنهم على خير، وكانوا يعتقدون في كل دور من أدوار رقي هذه الحضارة وتقدمها أنهم يحسنون صنعا، إنهم يسيئون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، إنهم يهدمون ويعتقدون أنهم يبنون ، إنهم يخربون ويعتقدون أنهم يشكلون ويكونون إنهم يفسدون ويعتقدون أنهم يحسنون إلى الإنسانية والبشرية»(2)

والحقيقة أن قضية التأويل عند الندوي على الرغم من عدم احتلالها حيزا كبيراً في فكره فإنها تستحق أن تفرد لها دراسة مصغرة أو بحث باعتبار أنه يتبنى تفسير

ص: 459


1- سورة الكهف آية 1
2- الندوي، أحاديث صريحة في أمريكا، ص 45

بعض الآيات القرآنية تفسيراً يسقطها على الواقع الحضاري المعيش، بحيث يجعل من الواقع مفسرًا لبعض الآيات القرآنية ومسترشدًا بها في آن واحد، وهذا كله دليل حي على أن السبب العقدي كان السبب الجوهري في موقف الندوي من الغرب والحضارة الغربية.

الثاني – الأساس العقلي الخلقي:

ويعتبر هذا الأساس من الأسس التي انطلق منها الندوي لنقد الغرب وحضارته ومدنيته الحديثة، وإن كنا نعتقد أنه كأساس يتوارى خلف الأساس أو السبب السابق وهو السبب العقدي، إذ من الملاحظ أن كل آراء الندوي وأفكاره المتعلقة بالحضارة الغربية تشي بأنه كان يرى في الحضارة الغربية ميلاً واضحًا إلى المادية المفرطة وما تتبعه من البحث الدائم عن الشهوات والملذات، أي البحث الدائم عن متطلبات الجسد وغرائزه دون أن تراعي متطلبات النفس والقلب معا، ومن ثم فهي صرفت الإنسان عن التخلق بالأخلاق والقيم الروحية التي دعت إليها الأديان السماوية، فكان مما يؤلم له ألا يجد إنسانًا في ظل هذه المدنية الغربية يحمل في صدره قلبًا خفاقا، أو يتحرك ألماً لما يموج به العالم من شرور(1).

الثالث - أساس الهوية والخصوصية:

فكانت مسألة الهوية تتحكم كثيراً في موقف الندوي من الغرب والحضارة الغربية، حيث كان يرى أن هذه الحضارة في جانب منها، جاءت لتقضي على بعض مظاهر الخصوصية ومكونات الهوية الإسلامية، إلا أنه إحقاقا للحق فقد كان ينظر للاحتلال الغربي للشرق كأحد مظاهر الحضارة الغربية، مع أن الأمر ليس كذلك، من ثم لم يكن ليفرق بينه وبين الغرب أو الحضارة الغربية، ومن ثم وسم الغرب والحضارة الغربية بكل الخطايا التي التصقت بالاحتلال الغربي للبلاد الإسلامية، فقد كانت هذه القضية - قضية الغرب ودوره في الاحتلال - أحد الأسباب الرئيسة إن لم تكن أهمها

ص: 460


1- انظر تفصيلاً الندوي، دور الأمة الإسلامية في إنقاذ البشرية، ط الهند المجمع الإسلامي العلمي، الأولى، 1992،ص 19،18

التي جعلت الندوي ينظر إلى الغرب نظرة أقرب إلى الرفض منه إلى القبول، خاصة وأن هذا الاحتلال الغربي قد ترتب عليه العديد من الأخطار التي أحاطت بالدول الإسلامية، والتي تمثلت في جعل اللغة الأجنبية بديلاً للغة العربية، وهمشت دور الدين في المجتمع المسلم، وحاولت طبع الشعوب بثقافتها، ويمكن أن نمثل لذلك عند الندوي بقضية الاحتلال الغربي للهند، «فقد مرت الهند – كما مرت الأقطار الإسلامية الأخرى التي منيت بالحكم الغربي، الأجنبي وسيطرة الحضارة الغربية، ونظام التعليم الغربي - بمرحلة انتقالية دقيقة عميقة، هي من نتائج الوقوع في حكم أجنبي قوي قاهر ، وتدق هذه المرحلة وتتعقد حين ترافق هذا الحكم انهزامية، يعبر عنها في علم النفس الحديث بمركب النقص، وشعور زائد بتفوق الفريق الحاكم، حضاريًا واجتماعيًا، وعقليًا وخلقيًا، هنالك يتحقق ما عبر عنه فيلسوف التاريخ ونابغة العرب والمسلمين العلامة ابن خلدون بقوله : (المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب، في شعاره ،وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده)»(1).

وهذا كان حال جميع البلاد الإسلامية المحتلة من قبل الاحتلال الإنجليزي والفرنسي وغيرهما، عصر الاحتلال السياسي والثقافي، كان هذا الاحتلال في ظني هو تعبير عن إحدى مراحل الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، ذلك الصراع الذي كان لصالح الأخيرة، نظرًا لقدرة الغرب المحتل على فك أواصر الرابطة الإسلامية، وعدم استناد الأولى على حكومات قوية ومجتمعات واعية وإرادة سياسية نافذة، كما كانت لدى الغرب.

الرابع - اختلال المعايير الدولية:

انتقد الندوي اختلال المعايير الغربية، ومن ثم ضرب مثالاً لذلك بمنظمة الأمم المتحدة ، حيث يرى أن هناك العديد من الأسماء الفارغة، أو الأسماء التي ليس لها مسمى، ومن ثم كانت نظرته للأمم المتحدة، فقد كان يسير في هذا الاتجاه مقتفيًا أثر شكيب أرسلان، الذي كان يرى أن الأمم المتحدة بحر كبحر العروض، بحر ولا ماء،

ص: 461


1- الندوي الحضارة الغربية الوافدة وأثرها في الجيل ،المثققف ط ،القاهرة دار الصحوة، الأولى، 1985م، ص 6.

وهو تعبير استعمله الندوي لبيان حالة الحنق من الجور الغربي نحو الشرق، وعدم الإنصاف الذي يظهر منه في القضايا شديدة الصلة بالمجتمعات الإسلامية(1)، ومن ثم كان يرى ضرورة أن يقوم المسلمون من سباتهم العميق حتى يستطيعوا أن تكون لهم كلمة تسهم في إشاعة العدل في العالم، وذلك لصالح الإنسانية كلها(2).

رابعًا - الأسس الواجب التعامل بها مع الغرب:

كان یری أن الأساس الأول الذي يجب أن نرتكز عليه في التعامل مع الغرب هو

التمسك بصحيح بصحيح الإسلام قرآنا وسنة، فكان موقف الندوي هنا إزاء الحضارة الغربية التمسك بأخلاقيات المسلمين الأوائل في التعبد باعتباره الحصن الحصين ضد

موجات المادية التي أورثتها الحضارة الحديثة.

الأمر الآخر يتلخص في ضرورة الاستفادة من منجزات الحضارة الغربية على كافة الأصعدة: التجريبية والعلمية والفكرية دون الروحية منها، خاصة أنها الأصعدة التي نفتقر نحن إليها في بلادنا الإسلامية، ولأننا في بلاد الشرق ما أحوجنا إلى أن نسير في ركب الحضارة، ونحن ملتزمون بما تضمنه الإسلام من دعوة للفكر والنظر العقلي ،

والتفكير الإيجابي.

بید أننا ونحن بصدد الاستفادة من الغرب وحضارته علينا ألا نقف موقف التلميذ الذي كل همه أن يقلد أستاذه، أو موقف المعجب الذي يفتقد إلى التأثير الإيجابي، حيث يدعوه إعجابه إلى الزهو بما في أيدي الآخر دون أن يكون مشاركا له بإيجابية فيما ينزع إليه، مع التأكيد على أن العلوم والمعارف والحضارة سلسلة متصلة من جهود الإنسانية جمعاء، كل أمة تسهم فيها بنصيب، ومن ثم فإن الحضارة الغربية لم تكن بلا جذور، حيث إن جذورها العلوم والمعارف التي أسهمت بها الأمم بحضاراتها المختلفة.

ص: 462


1- انظر الندوي، أحاديث صريحة في أمريكا، بيروت، ط مؤسسة الرسالة، الأولى، 1978م، ص 21
2- الندوي مسئولية الأمة الإسلامية أمام الأمم والعلم، ط الهند المجمع الإسلامي العلمي، الأولى، 1998م، ص 18

تبتني قضية الإسلام والغرب عند الندوي على أساس تتطلبه العلاقة المستقبلية بينهما، وهو أساس الحوار مع الآخر، فلم يكن مطلقًا يطلب الجور على الغرب، أو بث الكراهية نحوه- وإن كان يكره بعض مظاهر الحضارة الغربية ذاتها -وإنما كان يأمل في تواصل مأمول بين الإسلام والغرب أساسه الشراكة الفاعلة في صناعة العالم من حولنا لصالح الإنسانية.

المصادر والمراجع:

الندوي، أحاديث صريحة في أمريكا، بيروت، ط مؤسسة الرسالة، الأولى، 1978م.

الندوي، الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية، ط القاهرة، دار الصحوة للنشر، الطبعة الأولى 1986م.

الندوي، الإسلام في عالم متغير نقله للعربية على عثمان، ط مؤسسة الكتاب، دمشق، الأولى، 1978م.

الندوي، أوروبا أمريكا إسرائيل، ط الهند، المجمع الإسلامي العلمي، 1997م.

الندوي، بين العالم وجزيرة العرب، القاهرة، مطبعة دار الكتاب العربي، 1951م.

الندوي، حديث مع الغرب، ط دار الرشاد، الأولى، 1967م.

الندوي، الحضارة الغربية الوافدة وأثرها في الجيل المثققف، ط القاهرة، دار الصحوة، الأولى، 1985م.

الندوي، دور الأمة الإسلامية في إنقاذ البشرية، ط الهند، المجمع الإسلامي العلمي، الأولى، 1992.

الندوي الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، ط لبنان، دار الندوة للتوزيع، الثانية، 1986م.

ص: 463

الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ط المنصورة، مكتبة الإيمان، 1945م.

الندوي، مسئولية الأمة الإسلامية أمام الأمم والعلم، ط الهند، المجمع الإسلامي العلمي ، الأولى، 1998م.

الندوي، المسلمون تجاه الحضارة الغربية، ط جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1987م.

موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ط الهند المجمع العلمي الإسلامي، 1963م.

ص: 464

مُحَمَّد إقبال و حوار الاسلام والغرب

أ.م.د. رائد جبار كاظم

أ.م.د. رائد جبار كاظم (1)

المقدمة:

لقد أفرز وحفز الواقع العربي والاسلامي السيء روح الثورة لدى مجموعة من المفكرين والادباء والعلماء العرب والمسلمين للثورة على واقعهم المتردي، فأرادوا أصلاح مجتمعاتهم وشعوبهم وتحسين ظروفهم، واللحاق بركب الشعوب والدول المتقدمة، اقتصادياً وسياسياً وحضارياً وعلمياً، ومواجهة السيطرة الغربية الاستعمارية والحركات الفكرية المتطرفة والتي تحارب كل تطور وتقدم، وهذا ما تجسد في الحركات السلفية المتطرفة، التي واجهت الغرب بأسلحة الرفض والحرب والعنف، دون إيجاد صلة او حوار او توفيق بين الاسلام والغرب، في مقابل ذلك وجد طرف أو فريق آخر من المفكرين يحاولون مواجهة الجانب السلبي من الحضارة الغربية والاخذ بالجانب الايجابي منها، وأحد هؤلاء المفكرين ممن أعجب بالغرب من جهة ورفضه من جهة أخرى، هو المفكر الاسلامي المعاصر محمد اقبال (1877_1938).

لقد شعر محمد اقبال بدوره الفكري ومسؤوليته الكبرى في احياء واصلاحه وتوجيهه الفرد المسلم نحو النجاح والتقدم وابعاده عن كل ما هو سلبي في الحياة وتوجيه فكره ونفسه لكل ما يعلي من بناء شخصيته وعقله، ومحاولة الكشف عن كل ما يتفق من الحضارة الغربية مع الشرع والدين الاسلامي وطرح ما يتناقض معها

ص: 465


1- الجامعة المستنصرية - كلية الآداب - قسم الفلسفة

جانباً، كي يستفيد الانسان المسلم من كل ما هو جديد، ومحاربة ورفض الزيف والانحراف في وعي الانسان المسلم وبناء شخصيته، سواء في افكار بعض الحركات الاسلامية ذات التوجه الصوفي السلبي، أو التي تقاوم التجديد وتحاربه، أم في ماهو موجود في الحضارة الغربية مما لا يتفق مع الدين الاسلامي(1) .

سعى اقبال إلى تقديم بنية جديدة لكيفية بناء الانسان المسلم في فكره وشخصيته وواقعه، من خلال الوسطية في الفكر والحياة والمجتمع، والتوازن ما بين الجانب المادي والجانب الروحي، وأن لا نتطرف في روحانيتنا أو في ماديتنا، أو تقديم حاجات الجسد على حاجات الروح، ففي ذلك يخرج الانسان عن طبيعته التي خلقه الله عليها .

كما اراد اقبال أن يعيد القيمة الفكرية والانسانية العظمى للاسلام والمسلمين، في توجيه الناس للجانب النير والمشرق من الحضارة الاسلامية، وأن لايستسلموا الحركات التطرف والكسل والجمود والتواكل التي ينشرها البعض، وأن تقدم الغرب انما هو تقدم مادي ينقصه الجانب الروحي، ولو أن المسلمين وفقوا بين الجانب الروحي والمادي، لأصبحوا سادة الامم وقادتها وهذا لن يكون الا بمحاربة كل خرافة وجمود سائد في المجتمع الاسلامي.

وقد كان اقبال الابن البار والمتنور للحضارة الاسلامية، ولكن بالتحاور والتوافق والاتصال مع ماهو جديد وايجابي وانساني مما جاء في الحضارة الغربية الجديدة، التي تأثرت بالحضارة العربية والاسلامية، ومنجزها العلمي، والفكري، والادبي النير، والفوز والنجاح انما يكتب لمن يجيد التعامل مع تلك الفنون والعلوم وتوظيفها في أحسن صورة، ولن نلحق بركب العالم والتقدم ما لم نوجه أنفسنا ومجتمعاتنا بالجديد والمفيد من الحضارة الغربية التي فرضت نفسها على العالم أجمع، ولكن لا ننسى أصولنا الفكرية وجذورنا وتاريخنا وهويتنا، فنحن نقتبس من الغرب ما يجعلنا نقترب من النجاح والتقدم أكثر فأكثر .

ص: 466


1- أحمد معوض. العلامة محمد اقبال حياته وآثاره الهيئة المصرية العامة للكتاب. مصر 1980

اطروحة البحث:

نحاول في هذا البحث بيان دور محمد اقبال كأبرز محاور بين الشرق والاسلام والغرب، وموقفه النقدي في الحضارتين :الاسلامية، والغربية معا، وبيان صفات الاتفاق، والافتراق بين الحضارتين، مع بيان رؤية اقبال للغرب :من حيث فلسفاته، وأفكاره، ومنجزاته، وبيان مدى الاستفادة منه من عدمه، من أجل التحاور الانساني، والتواصل والتعارف بين الحضارات والثقافات.

واذا كان الأديب العالمي جوته (1749- 1832م) قد تأثر بالحضارة الشرقيةوالاسلامية، وكان محاوراً رائداً بين حضارتين، والذي وصل به المقام إلى تأليف ديوانه الذي أطلق عليه( الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، كما أسماه عبد الرحمن بدوي في ترجمته للديوان.

فأن محمد اقبال كان رائد الحوار، والاتصال، والفكر، والثقافة، والادب بين الشرق والغرب، ولعمق فكره الروحي والشرقي والاسلامي تأثر به جمع كبير من الكتاب والمفكرين والدارسين، سواء في الشرق أم في الغرب، وقد مثل إقبال روح الحوار والتلاقح خير تمثيل، وهذا ما جعله مقبولاً ومعروفاً في الكثير من الاوساط الفكرية والثقافية والأدبية العالمية والعربية والاسلامية، شأنه شأن جوته ودانتي والرومي وابن عربي. وهذا ما تجلى بشكل واضح في دوواينه الشعرية التسعة، التي كانت بحق مناراً يحتذى في معرفة فكر اقبال وفلسفته ورسالته الانسانية التي تنبع من القرآن الكريم ومن الاسلام المحمدي السليم الذي لا لبس فيه ولا تشويه.

ونتمنى أن يشكل هذا البحث اضافة بسيطة للقارىء في بيان موقف محمد اقبال الفكري من الاسلام والغرب، ونحن اليوم أحوج ما نكون من أي وقت آخر للتحاور والتواصل بين الافكار والفلسفات والثقافات العالمية وفق فكر وثقافة حوار الحضارات وتواصلها وتعارفها، بدلاً عن أشاعة منطق صدام الحضارات والثقافات وصراعها الذي أوصل شعوب العالم ومجتمعاته إلى أسوأ حال، من العنف والاقتتال والتكفير، دون أدنى أصغاء إلى صوت العقل والانسانية والوجدان السليم.

ص: 467

أولاً: الاسلام والغرب في فكر محمد اقبال

حياته

لمحمد اقبال (1877-1938) المفكر والشاعر الهندي الباكستاني المسلم دور وأثر ومكانة كبيرة على الساحة الفكرية والأدبية والفلسفية عربياً واسلامياً وعالمياً، لما في فكره من حيوية وفاعلية وشعرية وانسانية، تركت أثرها الكبير على الكثيرين، وقد نال أعجاب الكثير من مختلف شرائح المجتمع والثقافات والمكونات الفكرية والثقافية والاجتماعية، كونه يفكر بصورة انسانية نبيلة تهدف إلى احياء الانسان وبناء ذاته بناءً سليماً يجسد دوره الكبير في صناعة الحياة وبناء الوجود وعمران المجتمعات، ودليل عمق فكره وفلسفته وأدبه ما كتب عنه من دراسات ومؤلفات ،وبحوث بمختلف اللغات والثقافات والأفكار، ليُعد أحد رموز الفكر الانساني، وهذا ما اتضح من خلال فلسفته التجديدية الانسانية (فلسفة الذات) التي تُعد خارطة طريق للانسان في صناعة حياته ورقي وجوده.

لقد شغلت فكرة الاصلاح والتغيير والتجديد فكر اقبال كثيراً وعمل على طرح وتشريح مشكلة تخلف الانسان المسلم، الذي كان يحمل مشعل التنوير والثقافة والعلم، واستطاع المفكر العربي والمسلم أن يقدم الكثير من العلوم والفنون والمنتج المعرفي والحضاري في حقبته الزمنية، والذي شكل عامل تقدم وقوة فيما بعد لظهور النهضة في أوربا، عندما تقهقهر الانسان المسلم إلى الوراء وفقد بوصلة الطريق، وغاب نجمه ليسطع نجم الغرب، بعد أن تخلى الثاني عن الفكر الثيلوجي والميثلوجي ليقع فيه الأول ويغرق فيه دون خروج أو مخلص ينتشله مما هو فيه من حال مزر وضلال الفكر والاحوال والسياسة والمجتمع.

موقفه النقد للواقع الاسلامي:

في كتابه المهم والجديد في طرحه ومنهجه (تجديد التفكير الديني في الاسلام) يسعى محمد اقبال لبيان معالم صورة التفكير الجديدة والسليمة التي يجب على

ص: 468

الانسان المسلم اتباعها للخلاص من حالة الذل والهوان والتخلف والخرافة التي يعيشها من جهة، ولأتباع البعض للفكر الغربي والانسياق له من جهة أخرى، واعطاء صورة جديدة لفلسفة اسلامية معاصرة تواكب المعاصر والجديد من المناهج الافكار، على أن يكون منسجماً مع تاريخ الانسان المسلم وفكره وقرآنه ومعتقداته الروحية التي صنعت الحضارة والمعجزات والتي كانت سبباً بعد ذلك في صناعة الحضارة الغربية وتأثر روادها بالمنجز الحضاري العربي والاسلامي.

يسعى اقبال في كل ما يكتب، من مؤلفات وبحوث ودوواين شعرية وكتابات نثرية، إلى عودة الانسان المسلم إلى دوره الريادي في صناعة الحياة ومحاربة الكسل والجمود والتخلف المحدق به من كل جانب، وكذلك مواجهة الانبهار الكبير الذي يكنه البعض للحضارة الغربية، فالغرب المادي فيه من السلبيات الشيء الكثير، لانه غارق في ماديته ومطلقاً للروحانية، والامر نفسه قد حصل مع تطرف الانسان المسلم في روحانيته وشيوع الحركات الصوفية المتطرفة التي جعلت الانسان في غيبوبة دائمة لا يستطيع التحرك ابداً ، ف_ ( الإنسان العصري وقد أعشاه نشاطه العقلي كف عن توجيه روحه إلى الحياة الروحانية الكاملة أي إلى حياة روحية تتغلغل في أعماق النفس، وهو في حلبة الفكر في صراع صريح مع نفسه، وهو في مضمار الحياة الاقتصادية والسياسية في كفاح صريح مع غيره، وهو يجد نفسه غير قادر على كبح إثرته الجارفة، وحبه للمال حبا طاغيا يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة، وقد استغرق في الواقع أي في مصدر الحس الظاهر للعيان، فأصبح مقطوع الصلات بأعماق وجوده، تلك الأعماق التي يسبر غورها بعد، وأخف الأضرار التي أعقبت فلسفته المادية هي ذلك الشلل الذي اعترى نشاطه) . 1

موقفه الناقد للغرب:

ينتقد اقبال مثالية أوربا والافكار المجردة في أي حضارة وتاريخ وفلسفة، لأنها افكار لا تحاكي الواقع وتغيره وتعالجه ، بل تزيده بعداً وأزمة وسكوناً، وقد جاء الدين ليحارب ذلك النمط من الافكار وليواكب حياة الانسان على هذه الارض كما يرى اقبال،( ان

ص: 469

التفكير المجرد لم يؤثر في الناس الا قليلاً، في حين ان الدين استطاع دائماً أن ينهض بالافراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها وينقلهم من حال إلى حال(1).

وفيما يخص موقفه من مثالية أوروبا يقول اقبال: (إن مثالية أوربا لم تكن أبداً من العوامل الحية المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتاً ضالة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف التسامح، وكل همها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني أن أوربا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان)

ثانيا : التجديد الفكري لديه:

ولو سألنا اقبالاً ماهي الحلول التي يمكن تقديمها لعلاج معاناة البشرية المعاصرة

ومشكلاتها فهو يقول: ان الانسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: (2)

1- تأويل الكون تأويلاً روحياً.

2- تحرير روح الفرد.

3- وضع مبادىء اساسية ذات اهمية عالمية توجه تطور المجتمع الانساني على اساس روحي.

ويعترف اقبال بأن هناك بعض التوجهات في أوروبا نحو تلك الفلسفة الروحية وبصورتها المثالية، ولكنها غارقة بالعقل المحض والافراط في توجيهه لحياة الانسان، دون الالتفات إلى قيمة الدين وأهميته وجذوته التي هي من تدفع الانسان نحو الايمان والعشق واشعال الحياة وأعطائها قيمة عالية مرتبطة فيما بعد هذه الحياة الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة كما قيل في الحديث الشريف.

لقد اكتشف اقبال من خلال التجربة والدراسة والتاريخ الفرق بين الحضارتين

ص: 470


1- جيلالي بو بكر شروط الإصلاح والتجديد في فلسفة محمد إقبال ضمن اعمال مؤتمر محمد إقبال وجهوده في الإصلاح والتجديد الفكري.موقع الضياء للمؤتمرات على شبكةالانترنيت
2- حسن حنفي محمد اقبال فيلسوف الذاتية . ط 1 . دار المدار الاسلامي. لبنان - بيروت. 2009

الاسلامية ،والغربية ولكل واحدة خصائصها وصفاتها ومنطقها الذي يميزها عن الاخرى

، ولعل اطلاع الكثير من العلماء والمفكرين الغربيين على علوم علماء الاسلام وفنونهم هو الذي حفزهم لاقتفاء آثارهم ونظرياتهم ونقل علومهم وفنونهم، وبالتالي هو الذي صنع حضارتهم الجديدة وولادة عصر النهضة ومنجزاته الخالدة.

ومثلما كانت الحضارة العربية والاسلامية ومنجزاتها ومنهجها العلمي حافزاً ومشعلاً مهماً ومؤثراً لنقل الغرب من حال إلى حال، من عصر ظلام إلى عصر النور، لا بد من الاتصال بالحضارة الغربية بما ينسجم وأصول ديننا وثقافتنا الاسلامية، لأن التقوقع على الذات دون الاحتكاك والاتصال مع الآخرين يعد عقدة نفسية واجتماعية وفكرية سيئة، ويشكل التواصل عصباً حيوياً في ادامة الفكر والحياة والوجود، ولكن بشرط الحصانة الذاتية والحفاظ على النفس والمجتمع من كل انحراف وانجراف.

نجد ان القرآن الكريم هو المصدر الرئيس الذي استقى اقبال منه فكره الاصلاحي والتجديدي، ومما كسبه من الحضارة الهندية الروحية العريقة ومن الفكر الغربي السليم، وهذا ما حدا بأحد الباحثين إلى القول بأن : ( في فكر اقبال نجد التوازن والاعتدال هما ما يميزان فكره النقدي، بحيث يأخذ من الفكر القديم ومن الفكر الحديث ما هو مؤسس على قوة الأساس وسلامة الدليل، ويقتبس المفاهيم والتصورات والمناهج التي يرى فيها جوانب الحقيقة الملائمة لذات الإسلام وروح القرآن فيكشف عنها ويكشف عن القيّم الذاتية للإسلام ، ويبدي رأيه بكل حرية وجرأة ووضوح فلا يتعصب لتعاليم دينه ولا يرفض الرأي الآخر، ولا يقبل الرأي الآخر دون نقد وتمحيص ). ؛ لأنه يرفض التقليد الاعمى والاقتباس التام، دون نقد أو تمحيص، سواء من الماضي الاسلامي أم الحاضر الغربي، ولابد أن يتعامل الانسان مع واقعه ولحظته بأدوات معقولة ومقبولة تؤدي إلى نجاحه وتقدمه، وأن لا ننكفىء على التقديس والاقتباس المفرط، وأن تكون لنا أدواتنا الذاتية الخاصة بنا شأننا شأن الشعوب والامم والحضارت الاخرى في العالم، وفي القرآن الكريم الشيء الكثير مما يدعونا إلى التقدم والعمل والنجاح، ولكن نحتاج إلى وعي متكامل وتجديد وروح

ص: 471

تشرق على الذات كما تشرق الشمس على الوجود.

ثالثا: أوجه الأتفاق والأفتراق بين الحضارتين الاسلامية والغربية:

لقد شكل هذا الموضوع أهمية كبرى في فكر اقبال وفلسفته وشعره، وأصبح على دراية ومعرفة كبيرة بصفات كل من الشرق والغرب وخصائصها وعوالمها ومعالمها وأبعادها، وأخذ يدرسهما دراسة معمقة ليبين الفرق والعلاقة بينهما، فهو أبن الشرق وروحانيته من جهة الهند موطنه، ومن جهة الاسلام ديانته، اللذان شكلا مصدراً وشعاعاً كبيراً يستقي منه اقبال علمه ومعرفته وحكمته وتصوفه، وكان اقبال قد تعرف على الغرب ايضاً من خلال اساتذته في جامعة الحكومة في الهند من المستشرقين او من خلال دراسته في أوربا، في بريطانيا وألمانيا، وسفره ورحلاته بين بلدان اوربية أخرى، فقد أطلع على فلسفات الغرب وفلاسفته ورواده من جهة، وأقترب من شعوبهم وعاش معهم من جهة أخرى، وأصبح على دراية ومعرفة بعلومهم وفكرهم من جهة، وعاداتهم وتقاليدهم من جهة أخرى. ومن خلال ذلك تبين لاقبال الفرق بين الشرق والغرب والحضارة الاسلامية والحضارة الغربية، وراح يردد ذلك في كتاباته وقصائده وخطبه ومحاضراته.

لقد تعمق اقبال بصورة كبيرة في دراسة كلا الحضارتين وأخذ يغوص في بواطن كل حضارة واعماقها، ليكشف حقيقتها ويقف على ايجابها وسلبها، وما تقوى الانسان والمجتمع وما تضعفهما، لأن غاية فكر اقبال وفلسفته هي بناء الانسان بناءاً قويماً سليماً يدفعه نحو العمل والحركة والتقدم، رافضاً كل حركات ودعوات الجمود والاستكانة والتواكل والعودة الجامدة نحو الماضي؛ لاستعادة الماضي الذهبي للمسلمين واستحضاره في الواقع الاسلامي الجديد، وهناك من يرفض تلك الدعوات وينبذ الماضي والدين نبذاً كبيراً وقد هام في رؤى الغرب وافكاره وفلسفاته، وانبهر بالمنجز الفكري والحضاري الكبير للغرب ومغازلته وتطليقه للمنجز الحضاري العربي والاسلامي ومتبعاً للمنهج العلمي والتجريبي الغربي ناسياً أمراً مهماً جداً

ص: 472

وفي غاية الاهمية وهو : ( ان مولد الاسلام ... هو مولد العقل الاستدلالي(1) و ( الزعم ان أوربا هي التي استحدثت المنهج التجريبي زعم خاطىء )(2) و ( قد كانت أوربا بطيئة نوعاً ما في ادراك الاصل الاسلامي لمنهجها العلمي، وأخيراً جاء الاعتراف بهذه الحقيقة)(3)، وبهذا يكون قد عمل على نقد القول والفكرة العالقة في اذهان الكثير من المستشرقين والمستغربين التي تقول بأن الفكر العربي والاسلامي فكر تابع ومقلد ليست فيه أية أصالة وتجديد وخاصة الفكر اليوناني، بفلسفته وعلومه وفنونه، قد شكلت صورة الثقافة الاسلامية وفكرها وهذا قول يرفضه اقبال جملة وتفصيلا، لأنه ينتقص من الحضارة العربية والاسلامية ويؤكد تبعيتها وعدم استقلالها وفرادتها واصالتها بين الحضارات والثقافات وهذا زعم خاطىء بنظر اقبال عمل على ابطاله بالحجة والدليل(4) .

بالمقابل نجد ان إقبالاً عمل على نقد كل من الانسان الاوربي والانسان المسلم، الانسان المسلم قد سحره علم الغرب وعقلانيته وتجريبيته، ونسي أنه كان رائداً هذا المجال،وأن سحر الغرب وجاذبيته ليست دائمة وعديمة الروح والشوق والعشق والعاطفة ، وهذا ما جعل كثيراً من المفكرين والادباء الاوربيين يدركون حقيقة هذا الامر، وراحوا يفتشون عن حضارة فيها من الجانب الانساني والروحي والعاطفي ما يشبع رغبتهم، وقد وجدوا ذلك في حضارات الشرق من هندية وفارسية وصينية واسلامية، وتأثر رواد من الفكر الاوربي بذلك وأعلنوا تأثرهم وولاءهم الروحي للشرق، وقد أوضح اقبال ذلك في دوواوينه الشعرية امثال (بيام مشرق) و(ضرب الكليم)، ففي الديوان الاول الذي كتبه جواباً على ديوان الاديب والمفكر الالماني جوته (المؤلف الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) الذي بين فيه جوته ان الغرب قد ضاق من روحانيته الضعيفة الباردة ويتطلع إلى الاقتباس من الشرق، حيث ( كان جوته يرى صورته في نغمات بلبل شيراز ، وكان يخطر له بين الحين والحين أن روحه

ص: 473


1- حسن حنفي. محمد اقبال فيلسوف الذاتية. ط1 . دار المدار الاسلامي. لبنان - بيروت. 2009.
2- حميد مجيد هدو اقبال الشاعر والفيلسوف والانسان. ط1 مطبعة الغري الحديثة العراق - النجف. 1963.
3- رائد جبار كاظم فلسفة الذات في فكر محمد اقبال ط1 دار نینوی سوريا - دمشق. 2009.
4- عبد الوهاب عزام محمد اقبال حياته وفلسفته وشعره. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. مصر. 2014

لبست صورة حافظ، فعاشت في بلاد الشرق ... ثم جوته مدين في أفكاره لغير حافظ، للشيخ عطار وسعدي والفردوسي، وللأدب الاسلامي عامة)(1) ففي هذا الديوان ذكر اقبال من الشعر مافيه من القضايا الاخلاقية والسياسية والفلسفية والصوفية، مبيناً أثر الشرق في الغرب، ومتخذاً من ألمانيا أنموذجاً لذلك، حيث يقول: («بيام مشرق»الذي كتب بعد«الديوان الغربي» بمئة سنة فلست في حاجة إلى الإبانة عنه، فسيرى الناظرون فيه بأنفسهم أن أكثر ما يرمي اليه هو النظر في الحقائق الاخلاقية، والدينية، والمذهبية، التي تتصل بالتربية الباطنية في الافراد والامم . ولا ريب أن في ألمانيا قبل مئة سنة وأحوال الشرق الحاضرة تشابهاً ما، ولكن الحقيقة أن الاضطراب الباطن في أمم العالم الذي لا نستطيع تقدير خطره لأننا متأثرون به هو مقدمة انقلاب حضاري وروحاني عظيم جدا)(2).

وقد يذم اقبال استخدام الغرب للعقل بصورة كبيرة وتطليقه للروح والوجدان وقوة العاطفة، لأنها جزء مهم من حياة الانسان على هذه الارض، وقد اكد اقبال أن القرآن الكريم أكد على قوة الجانب الروحي والباطني في تحقيق التغيير والحيوية في الحياة الانسانية، وهذا ما جعل الشرق والشرق الاسلامي تحديداً أن يكون رائداً في هذا المجال، عسى أن لا يغادر هذه الصفة وأن لا ينخدع بمظاهر الغرب العقلية البراقة، التي انبنت على أسس مادية بحتة . فيقول اقبال في أبيات يبين فيها قيمة الروح والعشق وتفوقهما على العقل (3):

العقل يحرق عالماً *في جلوة منه تغير

لكنه بالعشق يعرف *كيف في الدنيا يسي__ر

العشق في الارواح يخلق* كل لون أو يثي__ر

ص: 474


1- محمد اقبال ديوان الأسرار والرموز. نقله للعربية عن الفارسية عبد الوهاب عزام ضمن ديوان اقبال المجموعة الشعرية الكاملة . ج 1 . اعداد سيد عبد الماجد الغوري . ط 3 . دار ابن كثير .دمشق - بيروت. 2007
2- محمد إقبال تجديد التفكير الديني في الإسلام تر عباس محمود دار آسیا. بيروت 1985.
3- محمد اقبال. ديوان رسالة المشرق. ج1. ضمن ديوان اقبال الاعمال الشعرية الكاملة. المقدمة. اعداد سيد عبد الماجد الغوري. ط3 . دار ابن كثير . دمشق - بيروت. 2007

أني لأذكر راقصاً *ذا الح_رف أو هو بي يدور

بالعشق ترتاح القلوب* وأنه فيها سعي__ر

ما كل معنى ينطوي *في اللفظ، كم معنى يثور

أنصت لقلبك ساعة *فلعلما يدنو العسي__ر

أما في ديوان اقبال (ضرب الكليم) فأنه يثور على العصر بما فيه من ثقافات وسياسات وفلسفات وآراء مشوهة وتهدد الوجود الانساني على وجه الارض، وكما يقول (عبد الوهاب عزام) في مقدمة ترجمته للديوان أن إقبالاً ارسلها رسالة مدوية الشعوب العالم أجمع، ورسالة اقبال في هذا الديوان احتجاج دائم على هذه الفتن التي تموج بها الحضارة الغربية، والتي يذهب موجها بشباب الامة الاسلامية كما يذهب السيل بالغثاء، وضرب الكليم هو ايذان هذه الحضارة بالحرب. في هذه الأبيات يحذر فيها العالم من حضارة الغرب وماديتها، وغلوها وأفراطها في ممارسة العقل ومغادرتها للروح والوجدان، اسماها( الحضارة الغربية) يقول فيها(1):

أرى تثقيف إفرنج * فساد القلب والنظر

فروحُ حضارة لهمُ * خلت من عفة الوطر

اذا ما الروح جانبها * جمال الصفو والطُّهر

فأين جمال وجدان * ولطفُ الذوق والفكر

وفي أبيات لاقبال يصف فيها روح( العصر الحاضر) اسماها بهذا الاسم، قال فيها(2):

ص: 475


1- محمد اقبال دیوان ضرب الكليم تر عبد الوهاب عزام ضمن دیوان اقبال ج2 . اعداد سيد عبد الماجد الغوري. ط3 دار ابن کثیر دمشق - بيروت. 2007.
2- محمد اقبال ديوان والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق. نقله للعربية عن الفارسية أحمد الغازي وصاغه شعراً صاوي شعلان المصري ديوان اقبال المجموعة الشعرية الكاملة . ج 2 . اعداد سيد عبد الماجد الغوري. ط3. دار ابن كثير . دمشق - بيروت. 2007.

فأين يُصيب المرءُ ناضجَ فكرة * وأجواء هذا العصر لا تُنضج الثمر

مدارس فيها كل عقل محرر * ولكن بها الافكار عقد قد انتش_ر

أطاحت بعشق الغرب أفكار ملحد * وعبَّد عقل الشرق فوضى من الفكر

ويصل المقام باقبال للثورة والانقلاب على جميع الاخطاء والاخطار المحدقة بالعالم والحياة والانسان في كل مكان، يعلنها ثورة على (سياسات المشرق والمغرب) كما يسميه في الفصل الخامس من ديوانه (ضرب الكليم)بقصيدة (انقلاب) التي يقول فيها (1):

أبمشرق أو مغرب * نار الحياة ونورها ؟

فهنا تموت ذواتها * وهناك ماتَ ضميرها

وأرى القلوب لثورة * ملء البلاد زفيرها

فلعل دنياك القديمة* للمات مسيره___ا

هكذا نرى تلك الفلسفة النقدية الكبيرة التي يمارسها اقبال تجاه المشرق والمغرب وتجاه الاسلام والمسلمين أيضاً، أنه صوت الحق على كل زيف وباطل، أنه لا يخشى من تعرية الامور وكشفها مهما كانت شرقاً أو غرباً، أن هدفه الكبير هو احياء الذات الانسانية في كل زمان ومكان أنه يرفض ويحارب كل الافكار والفلسفات والعقائد التي تميت الانسان وتسحقه وتجعل منه عبداً مجبراً ومسيراً وأسيراً، ففي عناق القلب والفكر ومسيرهما جنباً إلى جنب نجاح الانسان وتفوقه وتألقه.

رابعا: أصراع بين الشرق والغرب أم حوار ؟:

اقبال يطرح نفسه كمصلح و مجدد انساني عالمي يرغب بخلق عالم ومجتمع

ص: 476


1- محمد علي النقوي. الاتجاه الغربي من منظار اجتماعي تر عبد الكريم محمود رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية ايران - طهران. 1418 1997.

انساني نبيل مبني على اسس علمية ودينية وفلسفية انسانية، تبني الانسان وترتقي به، ليحقق رسالته الكونية العظيمة على هذه الارض،من إعمار وتنمية وتعايش بمحبة وسلام ووئام، وفق نظام سياسي واجتماعي ينشد الخير والسعادة والحياة للجميع دون فرق بين انسان ،وآخر وهذا لن يكون الا وفق فلسفة ونظام يعتمد الحوار والتواصل بين جميع الثقافات في هذا العالم في مشرق الارض ومغربها، فهذا وحده كفيل بتحقيق تلك الرسالة الانسانية العظمى على هذه الارض.

في ديوانه (والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق ؟) يقدم لنا اقبال تجربة جديدة وواعية من فكره وفلسفته وشعره،وفيه يحاول اقبال توجيه الشرق لاستعادة دوره في الحياة

والتاريخ والحضارة كما كان سابقاً هذا من جهة، ومن جهة أخرى وبأسلوب تذكيري وحماسي يريد اقبال تفجير الذات الشرقية والمسلمة بتذكيرها بالغرب كيف كان بالأمس وكيف أصبح اليوم، وما كان للغرب أن يكون لولا احتكاكه واتصاله بالشرق والعرب والمسلمين اذ كانت نهضته مستمدة من تلك الحضارة الاسلامية العريقة، وهذا ما نجده مبثوثاً في كل أشعار اقبال وأقواله وكتاباته التي تؤكد على قيمة الحوار والتواصل، دون العمل على تضييع الذات وتذويبها في الآخر ومنجزه الفكري والمعرفي. ف_ ( الشرق هو الذي هدى الغرب إلى التقدم والرقي العالي، والا فقد كان أهل الغرب متخلفين عنا في كل ناحية من نواحي المدنية والحضارة، وحين كانت أوربة غارقة في لجة من التعصب والجهل والحروب الداخلية الدامية، كنا - أهل الشرق - في أرقى منزلة من منازل العلم والفن والمدنية والحضارة. وهذا هو الشرق الذي هذب الامم الغربية بمختلف الفنون والعلوم والكيمياء، والطب وغيرها.)

إن اقبالاً انتبه إلى فكرة في غاية الاهمية أراد توجيه الأنظار اليها وهي فكرة إصلاح فكر الإنسان المسلم ،وهي تعد جوهر فكره وفلسفته التجديدية، وأساس فلسفة اقبال في الذات وبنائها وأصلاحها، وفكرة الاصلاح كانت الشغل الشاغل لمفكري عصر اليقظة العربية منذ رفاعة الطهطاوي والأفغاني والتونسي وعبدة وشبلي شميل والى ما بعدهم من حركات فكرية وأصلاحية سواء من أصحاب الاتجاه الديني

ص: 477

أم أصحاب الأتجاه العلماني أم أصحاب الاتجاه التوفيقي، وهذا ما تدل عليه كتابات رواد هذه الأتجاهات في الفكر العربي والاسلامي وأفكارهم. وتلخص هذه الإشكالية تساؤل المفكر العربي شكيب أرسلان (1869 - 1946) الذي طرحه سؤالاً وأجاب عليه في كتابه (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) والذي كان بحثاً مهماً وتساؤلاً للأجيال في اثبات الهوية وتأكيد الذات في مقابل الآخر متمثلاً بالغرب الذي تقدم في الحاضر رغم ماضيه المتخلف. هذا ما تناوله جميع المفكرين العرب والمسلمين بالبحث والتحليل لبيان الأسباب ومحاولة وضع العلاج الناجع من أجل الاصلاح والتغيير للنهوض بالواقع العربي والاسلامي، وهذا ما عمل عليه اقبال أيضاً في مشروعه الفكري والفلسفي، ودعوة الانسان المسلم لاستعادة دوره والشعور بالمسؤولية والرجوع إلى اسس الشريعة الاسلامية وأصولها وسيرة الرسول الأكرم (صلی الله علیه وآله وسلم) وأخلاق القرآن ومنجزات الحضارة العربية الاسلامية، ولكن ليس هذا ،بمفرده وانما بمعية ما موجود من منجزات ومناهج وعلوم متقدمة في الحاضر؛ ليكون الانسان المسلم على تماس بالواقع وتحدياته وإشكالياته، لا أن يكون هو في واد والواقع في واد آخر.

وفي قصيدة له عنوانها (دمعة على افتراق الشعب في شبه القارة الهندية يتألم فيها على حالة التمزق والتشرذم التي يعيشها أبناء الهند بمختلف تنوعاتهم واختلافاتهم، وهذه هي سياسة (فرق تسد)التي أنتهجها الاستعمار الانكليزي والاحتلال الغربي في سياسته مع الشعوب لزرع الفتنة والتفرقة بينهم، ووصول المستعمر إلى تحقيق رغباته وطموحه في السيطرة على الشعوب ومقدراتهم وثرواتهم، وهذا لن يكون الا باشاعة سياسة التفرقة والصراع والحروب الدينية والقومية والعرقية بين مكونات الشعب، يقول اقبال محذراً ابناء بلده من تلك الفتن:

وكم فتن تمادى الغرب فيها * وأحكم حولها السحر المبينا

فما أبقى على الكفار كفراً * ولا أبقى لأهل الدين دين__ا

ص: 478

وأغطش ليلها الداجي ظلاماً * فما تدري الشراب من السراب

هي الغمرات ما منها نجاة*ولا حل بغير الأنق الأنقلاب

لا يقبل اقبال بذوبان الانسان المسلم ذوباناً تاماً في حضارة الآخر (الغرب) لأن هذا يعد موتاً وقتلاً ونفياً للذات (الأنا) ، وانبهار الكثير بالغرب وإنكارهم لذاتهم جعل الناس في تراخ وميوعة وذوبان، أدت إلى ضياع الانسان وانحلال المجتمع؛ لأنه عالج نفسه بدواء أجنبي لاينفعه ولا يداوي ،مرضه لأنه إن صلح للغرب لايصلح للشرق وروحانيته الكبرى وتاريخه العريق.

فضلاً عن

ذلك فإن دعوات الكثير من المفكرين والسياسيين للتغريب أضر كثيراً بالانسان والمجتمع المسلم، وهذا الامر تقف وراءه أسباب ودوافع شخصية وسياسية وأيديولوجية تريد اضاعة الانسان والمجتمع وإغراقه في بحر الظلمات والتخلف والاعتماد على الغير، وقد نجحت الكثير من الحركات والافكار في تحقيق مآربهم الذاتية والمصلحية في خدمة المشروع الاجنبي والاطاحة بالمشاريع الاستقلالية الذاتية والوطنية لكثير من المجتمعات، وهذا ما عمل اقبال على تفنيده في فلسفته(فلسفة الذات) التي كرس لها كل فكره وشعره وحياته، تلك الفلسفة التي أراد من ورائها توجيه الفرد والمجتمع المسلم والشرقي إلى إستعادة دوره في صناعة الحياة وقيادة الوجود، وقد خصص ديوانه بالفارسية (أسرار خودي ورموز بيخودي) والذي يعني بالعربية( الأسرار والرموز: أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات)، هذا الديوان الذي جعل فيه اقبال ملخص فلسفته في الذات وبين علاقتها بالآخر، ودعا الانسان المسلم للتحرر من كل دعوات التغريب والعبودية والاذلال والخلاص من سطوة وأستبداد كل متجبر ،وظالم، فالذات لها كبرياء وطاقة وقامة وقيمة كالجبال عندما تكون سيدة نفسها، وخلاف ذلك فقد تقع في شرك العبودية والأسر والذل عندما تبيع وتضيع وتفني ذاتها في الآخر، ففي هذا الديوان ناقش اقبال قضية علاقة الشرق بالغرب والانسان المسلم بالغرب، كما أن جوهر فلسفة اقبال تقوم على التشجيع على العمل وترك السكون والتواكل والكسل الذي تبثه أفكار صوفية وجبرية انتشرت في

ص: 479

المجتمعات الاسلامية لا تقل أهمية عن خطورة العامل السياسي الذي يدفع الذات للخراب والخمول والموت، يقول اقبال:( أرى أن هدف الانسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها، وعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته يقرب من الهدف... الحياة رقي مستمر، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، وحقيقتها أن تخلق دائماً مطالب ومثلاً جديدة، وقد خلقت من أجل اتساعها ورقيها آلات كالحواس الخمس والقوة المدركة لتقهر بها العقبات والمشقات، وأشد العقبات في سبيل الحياة المادة أو الطبيعة، ولكن المادة ليست شراً كما يقول حكماء ،الإشراق، بل تععين الذات على الرقي، فأن قوى الذات الخفية تتجلى في مصادمة هذه العقبات). وقد توسعنا في دراسة الموضوع بشكل مفصل في كتاب مستقل عنوانه (فلسفة الذات في فكر محمد اقبال).

لقد شكلت قضية الشرق والغرب، والإسلام والغرب قضية مفصلية في التاريخ والفكر المعاصر، وقد تم تناولها من قبل مستشرقين وباحثين وكتاب أجانب توسعوا في دراساتهم للموضوع، كما تم الرد عليهم من قبل كتاب ومفكرين عرب ومسلمين، وأصبح الموضوع ذا أبعاد مختلفة ومتعددة بحسب دوافع الكاتب والمفكر وأتجاهاته وميوله وأيديولوجيته وطبيعة فكره ومعتقداته، فالبعض اتخذ طابع الحوار الهادىء المتزن، والبعض الآخر أخذ صورة وشكل الصراع والنزاع بين الاثنين، ومما يؤسف له جداً أن يصل الأمر إلى حالة الصراع والصدام، كما في نظرية (صدام الحضارات )للمفكر السياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون (1927 - 2008) وأصبحت أيدلوجية سائدة للغرب تجاه الحضارات الأخرى وتجاه الإسلام والمسلمين تحديداً، دون اعتماد منطق وفكر حوار الحضارات وتواصلها وتعارفها الذي دعا له العديد من المفكرين وفي هذا العصر الذي نعيشه نأسف لسيادة نزعة الصراع والنزاع والخلاف على المستوى العالمي والعربي والاسلامي، وأصبحت سياسة وفكراً ومنطقاً جرّ الويلات والتطرف والعنف والكراهية والنزعة التدميرية على المستوى العالمي بين الشعوب.

ص: 480

خاتمة :

ليس بغريب أو جديد تلك النظرة والفكرة التوفيقية التي قدمها محمد اقبال في فكره وفلسفته وأدبه، عن واقع الاسلام والغرب والعلاقة بين الاثنين قديماً وحديثاً، فقد سبقه في ذلك مجموعة من المفكرين في دعوتهم تلك، أمثال رفاعة الطهطاوي (1873-1801م) وجمال الدين الافغاني ( 1838 - 1897م) ومحمد عبده (1849 1905م) وأصبح اقبال وهؤلاء من رواد الفكر التوفيقي في الفكر الاسلامي الحديث، ويعدون امتداداً لرواد الفكر والفلسفة الاسلامية السابقين أمثال الكندي والفارابي وابن رشد وغيرهم ممن دعوا للتوفيق بين الفلسفة والدين، أو بين الاسلام والفلسفة اليونانية، وهذا الرأي التوفيقي من قبل المفكرين المسلمين ومنهم اقبال أعزوه إلى مجموعة أسباب منها :

1- أنهم قد أدركوا تخلف مجتمعاتهم وتراجعها ونكوصها وتقهقرها ولابد من احداث نقلة في فكرهم وتغيير مستوى معرفتهم ووعيهم ، وهذا لن يكون الا باتباع مناهج فكرية وعلمية وفلسفية متقدمة تدفعهم نحو الأمام.

2 -هناك رغبة في التجديد والإصلاح لدى بعض المفكرين المسلمين، لتحسين أوضاع مجتمعاتهم واحوالها، وهذا برأيهم لن يكون الا بالتواصل والتحاور مع الحضارات والشعوب والثقافات المتحضرة ، وليس في هذا عيب على أن لا يتضارب مع الشريعة الاسلامية.

3- أرى أن هناك مجاملة من قبل المفكرين لعامة الناس والتوافق مع رغباتهم في طرح رأيهم التوفيقي هذا ، وكسب أكثر عدد ممكن منهم نحو التجديد والتغيير والاصلاح، وبذلك يضمنوا جمهوراً أوسع ويحققون رغباتهم ونشر فكرهم بأسلوب وطريق أسلم، خوفاً من اعداء التجديد من اصحاب النزعة السلفية والماضي ورواد

التراث.

4- أجد أن لدى التوفيقيين من المفكرين رغبة كبيرة للاستفادة من تجارب الآخرين،

ص: 481

ولكنهم يطرحون فكرهم بخشية وخوف من المجتمع، ولذلك يدعون للتوفيق لغرض الاطمئنان وتمرير مشاريعهم بسلامة وسلاسة كي لا يثيروا العامة عليهم، لأن سلطة الجماهير العاطفية قوية ومؤثرة. كما أنهم فئة ينحازون للتقليد والمحافظة أكثر من التجديد، ولذلك اقتفى رواد التجديد والتوفيق طريق الوسطية لرضا الجمهور والعوام.

5 -هناك رؤية اعتدنا عليها من قبل الكثير من المفكرين العرب والمسلمين وهي افتخارهم بالنزعة الروحانية السائدة في فكرهم، ونقدهم الشديد لمادية الغرب، وهذا ناتج عن تحيز شرقي وعربي واسلامي لثقافتهم وفكرهم ويحسبونه شيئاً ايجابياً، وما يمر به الغرب من مادية انما هو حالة سلبية ينبغي الانتباه لها وتصويبها، ولكنني أرى أن فشل العرب والمسلمين مادياً وتكنلوجياً وعلمياً جعلهم يفتخرون بروحانيتهم التي وصل الأمر فيها إلى الأفراط في التخلي عن الواقع والعيش في أبراج عاجية فيها من احلام اليقظة الشيء الكثير ، وهذا ما انتبه إلى تشخيصه محمد إقبال في نقده للتصوف الاسلامي والحركات الروحانية المفرطة في الشرق والاسلام، ولكنه رأى أيضاً ان روحانية الغرب باردة ليست كروحانية الشرق، وهذا ما جعل الكثير من المفكرين الغرب يقتفون أثر الشرق في روحانيته وعاطفيته، وكان اقبال ينشد التوازن في الجانب الروحي والمادي، وأن الاسلام كدين لا يحارب الدنيا والحياة المادية، بل يوفق بين الاثنين، ويتخذ طريق الوسطية في ذلك.

6- أن رؤية اقبال للغرب ليست عدائية كما يحملها البعض، فالاستعمار الغربي و سیاسته شيء والغرب بناسه وحضارته وعلومه وفنونه شيء آخر، ولذلك علينا أن نأخذ من حضارة الغرب وعلومه ومناهجه ما نحتاج اليه لتحسين واقعنا ورقي حياتنا، كما أخذ الغرب من العرب والاسلام الكثير من حضارتهم.

7- علاقة اقبال بكثير من المستشرقين والاساتذة الأوربيين، ودراسته في أوربا جعلته يتعرف على الغرب وحضارته، وان يتأثر بالجو الثقافي والمعرفي والحضاري الغربي، ولكنه ما يزال يكن الرفض والبغض لسياسة الغرب وحماقاته الاستعمارية والحربية التي يفعلها بشعوب العالم. كما أنه لم يترك البعد الشرقي والاسلامي في

ص: 482

مصادر فکره و معرفته وفلسفته.

8 -حلم اقبال الكبير تجسد في رغبته الكبرى بتحقيق انسانية مشتركة تقوم على التوازن الروحي والمادي وتلبية حاجات الروح والجسد، واتخاذ طريق الوسطية في السلوك والحياة. وهذا ما قدمه بفلسفة كاملة لها أبعادعا وأصولها ومعالمها في

فلسفته (فلسفة الذات).

9- لم يؤكد اقبال في فكره على فكرة الصراع والتنافس بين الحضارات والثقافات

وانما أكد على لغة الحوار والتواصل والتعارف منطلقاً في رؤيته تلك من القرآن

الكريم وسلوك النبي الأكرم وخلقه وتاريخ حياته ومنهج الدين الاسلامي الحنيف.

10- رؤية اقبال وفكرته التي أوضحناها في هذا البحث تصلح أن تكون دراسة مستقلة ومميزة واسعة للباحثين والدارسين، فيها الشيء الكثير والكبير لبيان وجهة نظر اقبال في موضوع الاسلام والغرب وحضارتهما، وأثرهما على الساحة العالمية، قدمنا شيئاً بسيطاً له في هذا المجال عسى أن يكون حافزاً لنا لتقديم دراسة بهذا الشأن أو من قبل الباحثين الكرام.

مصادر البحث:

1-أحمد معوض. العلامة محمد اقبال حياته وآثاره. الهيئة المصرية العامة للكتاب.مصر. 1980.

2 -جيلالي بو بكر شروط الإصلاح والتجديد في فلسفة محمد إقبال. ضمن اعمال مؤتمر محمد إقبال وجهوده في الإصلاح والتجديد الفكري. موقع الضياء للمؤتمرات على شبكة الانترنيت.

3 - حسن حنفي. محمد اقبال فيلسوف الذاتية. ط1. دار المدار الاسلامي. لبنان - بيروت. 2009.

4 - حميد مجيد هدو. اقبال الشاعر والفيلسوف والانسان. ط1. مطبعة الغري

ص: 483

الحديثة العراق - النجف . 1963.

5 -رائد جبار كاظم فلسفة الذات في فكر محمد اقبال. ط.1 دار نينوى. سوريا-دمشق. 2009.

6 - عبد الوهاب عزام محمد اقبال حياته وفلسفته وشعره. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. مصر . 2014.

7- محمد اقبال ديوان الأسرار والرموز. نقله للعربية عن الفارسية عبد الوهاب عزام. ضمن ديوان اقبال المجموعة الشعرية الكاملة .. ج 1 . اعداد سيد عبد الماجد .الغوري. ط3. دار ابن كثير . دمشق - بيروت. 2007.

8 - محمد إقبال. تجديد التفكير الديني في الإسلام.تر: عباس محمود. دار آسیا. بيروت . 1985.

9 -محمد اقبال. ديوان رسالة المشرق.ج1.ضمن دیوان اقبال الاعمال الشعرية الكاملة. المقدمة اعداد سيد عبد الماجد الغوري. ط 3 . دار ابن كثير دمشق - بيروت. 2007.

10- محمد اقبال .ديوان ضرب الكليم . تر : عبد الوهاب عزام. ضمن دیوان اقبال.

ج 2. اعداد سيد عبد الماجد الغوري . ط 3 . دار ابن كثير . دمشق - بيروت. 2007.

11-محمد اقبال ديوان والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق. نقله للعربية عن الفارسية أحمد الغازي وصاغه شعراً صاوي شعلان المصري ديوان اقبال المجموعة الشعرية الكاملة.. ج 2 اعداد سيد عبد الماجد الغوري. ط3. دار ابن كثير. دمشق -بيروت.2007.

12 - محمد علي النقوي. الاتجاه الغربي من منظار اجتماعي. تر : عبد الكريم محمود رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية ايران - طهران. 1418- 1997.

ص: 484

غاندي ومعضلة الغرب : قراءة في البديل الحضاري لظاهرة الاستعمار

د. مونيس بخضرة

د. مونيس بخضرة(1)

يعد الماهاتما غاندي(1869-1948)رفقة كل من وآوربندو سري (1872-1950) والأديب طاغور والفيلسوف در کرشنن ،سرفبلي من كبار النخبة المثقفة التي سطعت في الساحة الثقافية في الهند المعاصرة، كان تأثيرهم على توجه الوعي الهندي حاسما وبليغا، بما أنهم استطاعوا أن يجعل الفعل الثقافي الهندي مسموعا في العالم، ولعل المهاتما غاندي لهو أعظم شخصية أنجبها الهند خلال القرنين الأخيرين من تاريخها، وهذا يعود لعدة اعتبارات، منها ، أن غاندي استطاع أن يصنع من شخصيته وسيرته أيقونة فريدة من نوعها تخص التسامح والمحبة واللاعنف والصفح والتواضع وغيرها من قيم الإنسانية الرفيعة، وأيضا في طريقة تعامله مع قضايا عصره الشائكة، والتي أرجعها كلها الغطرسة الذات وتزمت الأنانية والمغالاة في التمسك بمغريات الحياة، وهو بتجاربه الشخصية يقدم بدائل حضارية تتسم بالبساطة في معالجة هذه المشاكل، كما أنه بفكره ومواقفه من شتى قضايا مجتمعه وعصره، تمكن من تقديم جاهزية المجتمع الهندي للسلام والتسامح ، رغم أن هذه القيم مغروسة في عمق التراث الهندي وفي تاريخها.

ص: 485


1- باحث وأكاديمي جزائري، حاصل على الدكتواره في الفلسفة، جامعة تلمسان - الجزائر.

استطاع غاندي بفكره السلس الذي في مجمله كان ناتجاً عن أفعال ومحطات

مرّ بها في حياته، وهذا ما أعطى لفكره بعدا إجرائيا اتسم في كثير من نقاطه بالوقائية والفاعلية، إضافة إلى أسلوب عيشه الذي انخرط ثقافيا مع نواميس الطبيعة وتماهى مع

العنصر الكلي للوجود ، وهذا يظهر مدى صلابة شخصية غاندي ودقة رسمه المسيرة حياته بما يتماشى مع صالح الإنسان من خلال تأطيره للكثير من التجمعات ونضاله لأجل قضايا الإنسان العادلة سواء في الهند أم خارجها، ومع صالح الطبيعة، الذي يظهر في احترامه الشديد للكائنات الحية مهما كان نوعها، وأيضا في نظامه الغذائي الخاص. وهي كلها مزايا كانت كافية في جعله شخصية محورية على عدة أصعدة في المجتمع الهندي المعاصر.

غاندي: سيرة وحياة

ولد المهاتما غاندي أي الروح العظيمة، في بورباندي في الهند من عائلة سياسية

في ولاية هندية صغيرة في غرب الهند تدعي (كثياوار) سنة 1869، وكان والده رئيس

الوزراء في مقاطعته، عرف عنه الصدق والعفة والنزاهة في مهامه في المعاملات المالية بحيث لم يترك بعد وفاته إلا القليل من المال لأولاده، وهي خصال تعلمها غاندي من أبيه جعلته صادقا وصلبا كما تعلم من أمه الورع والتقوى والإيمان، وعرف عن غاندي أنه كان نحيف الجسم طيلة حياته ، التحق بالمدرسة في مسقط رأسه ولم يظهر تفوقا كبيرا فيها. وبعد عودته إلى بلاده أصبح قائدا لحركة الاستقلال، وكان على قناعة بأن الاستقلال إن لم يكن له معنى يدون تحول أخلاقي واجتماعي جذري فلا فائدة منه، وقد أطلق برنامجا شاملا للتجديد القومي. وعليه أعلن الحرب على الكثير من

الممارسات الاجتماعية القبيحة وخصوصا الملموسة، وقد أضفى على الهندوسية

نشاطا حيويا وتوجها اجتماعيا اقتبسه من الأديان والعادات والثقافات، وأصبح مثالا

ص: 486

ملهما للإيمان الشامل الحقيقي والحوار فيما بين الحضارات وتأكيداً منه على أن السبب كان في الغالب العجز في الحياة السياسية، وأن العنف كان محملا بالنتائج

الرهيبة وعرضة إلى تضخيم العواقب بصورة مثيرة وقد طور توجها جديدا ( اللاعنف )متضمنا التحول الأخلاقي للخصم عن طريق جراحة الروح كما وصفه(1).

تزوج غاندي على عادة الهنود وهو في الثالثة عشرة وكانت زوجته أصغر سنا منه، ثم سافر إلى لندن ونال منها شهادة المحاماة سنة 1891 ثم عاد إلى الهند، وشرع بممارسة المحاماة، إلا أنه وجد في نفسه عجزا كبيرا عن قيامه بهذه الحرفة، وفي سنة 1893 طلبه بعض التجار الهنود في إفريقية الجنوبية لكي يدافع عنهم في قضايا نزاعية مع بعض الشركات هناك، فسافر وأدى مهمته بشكل غير متوقع، وقد مكث في إفريقية الجنوبية حوالي 20 سنة ترأس خلالها جمعية الصليب الأحمر لمعالجة الجرحى في حرب البوير) والإنجليز، وأنشأ مستشفى لعلاج الجرحى والمصابين هناك(2).

عرف عن غاندي شغفه الكبير بفكر «تولستوي» إلى درجة أنه أنشأ في جمهورية

إفريقية الجنوبية مزرعة تحمل اسم (مزرعة تولستوي) يتعاون فيها العمال على العمل والخدمة، وقد ظهر تأثير «تولستوي» على غاندي في تشجيعه على الانفتاح على دراسة المسيحية، وقد أخذ على نفسه الدفاع عن حقوق العمال وخصوصا الفلاحين

وعمال المصانع واضعا جملة ضوابط تنظم العاملين والفلاحين وفق بنودها ومنها:

-أن لا يلتجئ العمال إلى العنف والبطش

ص: 487


1- روبرت بنيويك فيليب جرين موسوعة المفكرين السياسيين فى القرن العشرين ترجمة مصطفى محمود، المشروع القومي للترجمة، ط1،2010 ص 164
2- سلامة موسى غاندي والحركة الهندية هنداوي، القاهرة، 1912، ص 43.

- أن لا يؤذوا العمال الغرباء الذين يلتحقون بالمصانع لأول مرة

-أن لا يعتمدوا على الصدقة وقت إضرابهم

- أن يصمدوا ويعملوا أي عمل آخر شريف يعيشون منه أثناء مدة الإضراب

بفکره ،استطاع غاندي أن يجعل من الأمة الهندية اجتماعا على طلب الاستقلال ومكافحة الاستعمار، ولكنه وجد بعد أربعين سنة من الجهاد أن التقاليد تذل الهند

أكثر مما يذلها الانجليز وحجر عثر أمام تقدمه، وهو عندما يصوم من أجل المنبوذين يحاول أن يؤلف إجماعا آخر لمحو النجاسة من ثقافة الهند والهند كما يرى غاندي

تنهض عندما تمحو كل ما له صلة بالتقاليد المذلة والمستعمر لن يحترم الهند حتى

يحترمها أبناؤها، فيتساوى فيها الرجال والنساء والمنبوذون والمقبولون، والأغنياء

والفقراء وجميع الطوائف.

وقد رأى غاندي في أفكار ملهمه تولستوي أنها مبادئ تحتاج لممارسة يومية حتى تخرج من الإطار النظري إلى الإطار العملي، ورأى أيضا أن هذه الممارسة تحتاج إلى نظر جديد للدنيا، وإلى تربية للأخلاق، تحتاج إلى اعتكاف عن المدن وإنكفاف عن مطامعها كما تحتاج إلى حسم للشهوات، ولذلك كله دعا طائفة من مواطنيه وأسس

وإياهم (عزبة تولستوي).

يقر غاندي في مذكراته أنه كان تحت تأثير كتابين مهمين، الأول هو كتاب(تولستوي) مملكة الله في داخلك وكتاب روسكين حتى هذا الأخير» اللذين تركا أثرا بالغا على نفسه وتوجهه المعرفي، فتولستوي أقنع غاندي بأن الموعظة على الجبل تمثل التعاليم الجوهرية في المسيحية وهي تعاليم تخص دحر الكراهية

ص: 488

بالحب،والشر باللامقاومة.

أما كتاب روسكين فقد أثر في غاندي في فكرة تمجيده للعمل اليدوي، وعزز فيه تعاليم (غيتا) التي تؤكد أن الحياة الأسمى هي حياة الخدمة، وساعده ليرى أن تحقق كل من الفرد والمجتمع يبلغ بالعمل الذي يختاره الفرد والعمل عند روسكين يشكل رابطاً طبيعياً بين طبقات المجتمع، وهو رباط تتوجب صياغته يمنح الهند الوحدة في

جهودها لنيل الحرية(1).

خاض غاندي تجربة شخصية فريدة من نوعها، فبتصميمه على أن يصبح مثاليا يمكن لأي إنسان أن يتحكم في كل أحاسيسه ورغباته، فقهر حب الطعام وحتى الجوع والغضب والطمع وحب الملكية والغيرة وما إلى ذلك إلى درجة أنه كان يشعر بالغثيان من أي شيء وضيع ومنذ ذلك الحين باشر القيام بتجارب جريئة في التحكم في الغريزة الجنسية، ورفض حياة العزوبة المغروسة في التقاليد، وصار عاريا وسط النساء

حتى يصل إلى البراءة المطلقة والشجاعة الأخلاقية.

تأسس الفكر الأخلاقي والسياسي لغاندي على نوع بسيط نسبيا من الميتافيزيقا، فهو يرى أن الكون ينظمه فكر أعلى أو مبدأ أسمى يسميه (بساتيا) أي (الحقيقة) وكامتياز تقليدي (الله) لقد كان موجودا في كل المخلوقات الحية وعلى رأسها الإنسان على صورة النفس الواعية بالذات أو الروح.

ولما كان البشر يتشاركون في الحقيقة الإلهية فقد كانوا جميعا في النهاية أحدا، فهم لم يكونوا فقط متساوين بل هم متطابقون ،وبهذه الكيفية فقد كان الحب الصورةالصحيحة الوحيدة للعلاقة فيما بينهم فهو الناموس للكائنات جميعها .

ص: 489


1- المرجع نفسه، ص48

ويتضمن الحب الايجابي العناية والاهتمام بالآخرين والإخلاص الكلي لقضية مسح كل دمعة من كل عين ويتضمن الحب سلبيا (أهمسا) أو اللاعنف، وعليه يمكن القول أن فكر غاندي الاجتماعي والسياسي كله جاء لتفعيل المعاني المتضمنة مبدأ الحب والإخلاص والوفاء(1).

نحن وغاندي

ظهرت متانة أخلاق غاندي في التغلب على فرديته ونكران ذاته وقهر أنانيته، وبذلك نحن قريبون منه فكل من يملك أخلاق الإنسانية فهو إنسان، أخلاق يخص بها فئة ما، بل للبشرية كلها بغية حماية البشرية المعذبة التي يأخذها نزوع نحو التحرر والكرامة والسلام. لقد بلغ من أنانية هذا الرجل أنه كان يبدو للكثيرين من طبيعة متميزة وأنه يختلف عن سائر الناس وكأنه واحد من الأنبياء، وقد قالت فيه (انديرا غاندي) في رأيي أن غاندي لم يكن مجموعة من الآراء والتعاليم الجافة، بل رجلا يشع حياة، رجلا يحرص على أن يذكرنا بأرفع مستويات الأخلاق التي يستطيع الإنسان أن يبلغها، هذا الرجل الذي كان للإنسانية في أصالته ونضاله ولشعبه ولوطنه، وكان للهندوس وللمسلمين كما كان للصعاليك والمنبوذين والفقراء وكان أخيرا للشرق البائس وشعوبه المتلهفة للحرية (2) .

غاندي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال النصف الأول من القرن العشرين كان له حيز كبير في ملحمة الكفاح العربي، كما كان للعرب في تفكيره منزلة عالية. وقد ذكر «فنسنت» أحد كتاب سيرة غاندي قائلا إن لغاندي طوال حياته غريزة وفطرة وصديقا للمسلمين وقد قال مرة في جنوب إفريقيا قبل عودته إلى الهند

ص: 490


1- غاندي السيرة الذاتية، كلمات عربية للترجمة والنشر ، ط 1 2008 ، القاهرة ، ص 353.
2- روبرت بنيويك فيليب :جرين: موسوعة المفكرين السياسيين في القرن العشرين، مرجع سابق، ص.165

بزمن طويل إن الاختيار النهائي ل (سيتهارتا) أو (أهمسا) (اللاعنف) سيكون من أجل الوحدة الهندوسية- الإسلامية، وكما كان غاندي شديد الاهتمام بمسألة الخلافة الإسلامية التي شغلت العرب والمسلمين لسنين طويلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكانت في الوقت نفسه معقد محادثات بين الهندوس والمسلمين، حتى إن غاندي نفسه توجه إلى دلهي عام 1919 لحضور المؤتمر الإسلامي الذي دعي رسميا إلى حضوره، فقد بدت آنذاك رغبة المسلمين شديدة في الحصول على تأييد غاندي

وسائر الهندوس(1).

كما أنه أيضا أظهر احتراما شديداً للقرآن بما أنه كتاب المسلمين الأساسي وقد تكلم عن نبي العرب (محمد) في مناسبات عديدة وفي خطب كثيرة، فقد خطب جموع المتخاصمين بتفاؤل وثقة كبيرة : إني أقول لكم إن النور قد سطع ولسوف يهدينا إلى الطريق المستقيم إن الرسل يعيشون ويموتون ولكن رسالاتهم كثيرا ما تثمر ، فكم كان عدد أتباع بوذا حين مات، وكم كان أتباع محمد لقد عاشت تعاليمهما بعد موتهما، لأن عقيدتهما تقوم على الحق الأبدي(2).

غاندي مجابها للغرب

في تعامله مع الغرب اتخذ المهاتما غاندي مسافة ثابتة طيلة حياته تجاهه، بما أن الغرب في نظره مارس ولا يزال يمارس استلاب حضارات وشعوب كثيرة بفعل الاستعمار وحركات الاستيطان، الأمر الذي جعله يردّد في كثير من المواقف والآراء التي حملتها خطبه استهجانه الشديد لنوعية الأساليب التي يعتمدها الغرب في تعامله مع شعوب المعمورة، والتي هي في مجملها أساليب تتعارض مع القيم الإنسانية كما

ص: 491


1- مجلة (ثقافة الهند): غاندي في الأدب العربي الحديث ( عمر الدقاق) ص59
2- المرجع نفسه، ص 61.

أنها تتعارض مع القيم التي يدعيها في برامجه الاجتماعية والسياسية والتنموية، وهي النقطة التي جعلت من غاندي يبقى ملحا على ضرورة محاورته وفهم آلياته من دون

التسليم بها مباشرة دون فحص ونقد.

إن مجابهة غاندي لطرائق الغرب في تعامله مع الشعوب والتي تتسم بالذرائعية والمصلحة، تأتي من أجل فضح أطماعه المبيتة التي غالبا ما يخفيها تحت مشاريع

حضارية وخيرية، والتي اعتبرها غاندي تنقص من قيمة الإنسان الحر وتهدد وجوده

الطبيعي وتجعله تابعا في عيشه وفكره له وهذا يتنافى تماما مع الخلقة البشرية التي جبل عليها الإنسان منذ آلاف السنين. وأيضا من أجل كشف ألاعيب الغرب مع باقي المجتمعات التي استعمرها باسم تحضيرها وتمدينها وتنميتها، وتجفيفها من مواطن الوحشية والتي كانت شعارا بارزا في القرن التاسع عشر في أوربا، وهو شعار تأسف عليه غاندي كثيرا، خاصة عندما تبنته جهات علمية من أفراد ومؤسسات بهدف غزو العالم.

إن جلّ الملاحظات والمواقف التي حصلها غاندي عن الغرب لم تأتِ من مخيلة تنمّ عن تخوف وحذر شديد من الغرب من دون أساس، وإنما حصلها عن تجارب شخصية عايشها في لندن التي فيها تعرّف على معالم برودة الإنسان الغربي وابتعاده عن العلاقات الإنسانية الحارة التي يتميز بها الإنسان الشرقي وأيضا جمعها من خلال معايشته لموجة الاستعمار الحديث سواء في إفريقيا أم آسيا، والتي بسببها زار عدة مستعمرات في جنوب إفريقيا، ووقف على وحشية الاستعمار تجاه الشعوب ومدى فضاعة الاستلاب الذي مارسه عليها، وهي كلها كانت بمثابة دوافع دفعت بغاندي إلى ضرورة تطهير المجتمعات من الاستعمار ومناداته بأهمية التحرر واحترام الشعوب مهما كانت ثقافاتها ولغاتها وعاداتها،

ص: 492

وهي مطالب تحمّل غاندي عناء الأسفار التي قام بها للمستعمرات غربا وشرقا لاشعار الناس بخطورة الاستعمار على الكيانات الثقافية والاقتصادية، والتي عرفت استجابة كبيرة من قبل الشعوب المستعمرة، إذ كثير منها قد تبنّت تعاليمه وجعلت من خطبه خطبا رسمية تدرس للأجيال الصاعدة، وبحق كانت جهوده قد جعلت من غاندي أيقونة للتحرّر والسلام والتعايش.

إن ما يلفت النظر في طريقة تعامل غاندي مع الغرب المستعمر ، هو أنها لم تكن تعتمد مبدأ المعاملة بالمثل وانتهاج القوة والمجابهة المادية المشحونة بالعنف والقسوة كما فعل الغرب مع الشعوب، وإنما انتهاج لغة الحوار بمختلف أنواعه السياسي والثقافي في مطالبته بالحرية، وهو هنا يقدم للعالم أسلوبا جديدا في المطالبة بالحقوق يعتمد على التحاور والتعايش كلغة للحرية بديلة عن لغة العنف والصراع، التي طالما تشكلت في تاريخ النزاعات بين البشر، وهي لغة اعتبرها غاندي لا تكون في كل الأحوال لصالح الإنسان بما أنها تتنافى مع طبيعة روحه وعقله، وأيضا بما أنها مدمرة في الأساس لمعنى الإنسان، ويمكن إجمال مطالبه هذه على أنها كانت بمثابة أدوات جديدة اعتمدها غاندي في معاملته للغرب تتسم بالحكمة وبالجدة والرزانة كونها أدوات اعتبرها غاندي قادرة على ترميم التشققات الحاصلة التشققات الحاصلة بين مكونات العالم الحديث، زيادة على أنها قادرة على بناء السلم العالمي واستمراره.

يرى غاندي أن من واجب كل أمة منكوبة بالاستعمار الغربي أن تنتفع بتجارب الأمم الأخرى التي سبق لها وأن عاشت مثل هذه النكبة، والهند كابدت الاستعمار البريطاني أكثر من غيرها من الشعوب وذاقت ويلاته ونزيفه، فيجب علينا كما يلح غاندي على دراسة كل الطرق والوسائل التي اتخذتها في مجابهتها لظاهرة الاستعمار .

ص: 493

محور مقاومة الهند تظهر في شخص غاندي ذاته (الغاندية) وفي طريقة عيشه، بما أن فكره في الهند تحوّل مع مرور الوقت إلى مذهب وطريقة وفلسفة واضحة للتحرر ومنازعة الاستعمار ، ومبادئ وطنية معينة، ومع كثرة إنتاج غاندي الثوري الذي

يصعب حصره ، من حيث الكم والكيف، الذي مكّن من تصنيفه إلى صنفين:

1 دعوة إلى الاستقلال النفسي والذاتي والاعتماد على القوة الروحية وما يتبعها من تقشف وتنسك ، وليست المقاومة السلبية إلا جزءا من هذه الدعوة، لأن الشخص

المقاوم يجب أن يقابل الحبس والمصادرة والإهانة بقلب جرئ وشجاعة ونفس بشوش استنادا إلى ما في نفسه من مدخر القوة الروحية واعتمادا على أن ما يقع به هو السبيل خلاص الهند.

2 دعوة غاندي الملحة للاستقلال الاقتصادي بتشجيع الهنود على العمل ومواكبة

التحولات الاقتصادية لمواجهة هيمنة الغرب وتقليص الهوة الحضارية بينهم وبينه بما أنها هي سر تواجد الاستعمار في ديارهم، وهي دعوة انتهت إلى مقاطعة البضائع

الانجليزية بعامة، والامتناع عن التفاعل معها ومع رموزه مهما كانت، ويرمي غاندي من هذه الدعوة إلى تزويد العامل الهندي بعمل ما حتى يعود عليه بالكسب وشحنه بالحماسة على أهمية العمل المحلي، وقطع الطريق على المستعمر مصدر أرباحه التي تعود عليه بالفائدة والتي اعتبرها غاندي هي شريان استمراره وقوته، ولقد وظف غاندي في مقاومته هذه فلسفة التنسك والزهد والصبر والقناعة بما هو موجود، والتي ترى الحياة برؤية سلبية خاصة وأن فقه التنسك متجدّر في السلوك والثقافة الهندية منذ آلاف السنين هو متشكل في عمق التراث الهندي في شقيه المادي والمعنوي،ومن العبث لذلك أن نطالب أمتنا بمقاومة الاستعمار بالتقشف والقناعة، وقد يجوز لنا هنا كما يقول غاندي أن ننسب روح النسك الشائع في الهند الآن كله أو بعضه إلى

ص: 494

الفاقة والقحط منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم. فقد جعلت من ضرورات العيش فضيلة ومن الحرمان الطبيعي نسكا دينيا، وفي الطبيعة الإنسانية ما يدفعها إلى التنسك والزهد والعزوف عن المادة والمغريات وهي كلها مزايا خاصة بالشعب الهندي قد تساعده على مواجهة المستعمر، وانكفاء النفس على نفسها حين تنشد السعادة والهناء في الداخل بدلا من نشدانها لهما في الخارج. أما الدعوة الثانية، والمتمثلة في أن يكون من وسائل مكافحة الاستعمار ومواجهته هو تحقيق الاستقلال الاقتصادي والانفراد ،به وخلق السدود التي تحميه من دون تدخل المستعمر فيه، فهذا الذي يجب أن نأخذه عن غاندي ونعمل به عندما تحدث عن الكرامة الإنسان الاقتصادية ترفع رؤوسهم وتجرئهم على الإقدام والإقبال على الحياة(1).

يرى غاندي أن لا شيء يهدم الاستعمار مثل الصناعة الوطنية والمحلية والخبرة الذاتية، وليس هناك مجهود أصح وأسلم وأبقى مع الأيام في مكافحة الاستعمار من المجهود الاقتصادي، وذلك أنه متى أثرت الأمة واعتمدت على نفسها في التجارة والصناعة أمكنها أن تعلم نفسها وأن تجعل الأجنبي غريبا وتائها في بلادها. ونظرا لتمسك غاندي بالعمل اليدوي والشعبي جعل من مغزل النسيج رمز الكفاح الاقتصادي في الهند ورمزا للتحرر والانفراد، حتى يذكر الهنود بما يلبس وبالتجارة والأثاث والتزيين والغذاء.

عرف غاندي بدفاعه المستميت عن كل ما هو إنساني، إذ ينزع نزعة عالمية في تناوله لقضايا الهند بما فيها البشرية جمعاء، لأن قضية كل أمة مهضومة في نظره هي قضية جميع الأمم المنهكة في العالم، فما يهتدي إليه المناضل في إحداها يعم سائرها ويتفشى في جميع أقطار العالم، وكما قال فرح أنطون» أثناء تناوله هذه

ص: 495


1- المرجع نفسه، ص62

الفكرة أن الوطنية السامية الصادقة هي نفسها أساس للعالمية. لأننا عندما نخلص للوطن ونجاهد من أجل تحريره نعثر ونحن في سبيل الجهاد على مبادئ سامية تخدم العالم والإنسانية جميعا(1).

والملاحظ أن غاندي في كفاحه للاستعمار الغربي لم ينس أن يكافح الاستبداد القومي، وذلك لأنه يستوي عنده، خاصة عندما يقع الظلم من الهندوكيين على المنبوذين وعلى أبناء جلدتهم أو ما يقع من الانجليز على الهنود عامة، فهو لم يدع دعوته لمكافحة الانجليز مثلا، بل لمكافحة استبدادهم، وهو بذلك لم يسكت سواء كان هذا الاستبداد صادرا من الانجليزي أم الهنود، وقد وقف وقفته الأخيرة من أجل الكرامة الإنسانية بمساواة المنبوذين بالهندوكيين مواقف جعلته بطلا للإنسانية بحق.

وعليه نقول أن الأمة التي تكافح الاستعمار لا يمكنها أن تخلص في هذا الكفاح

وتجلب عطف العالم عليها حتى تكون دعوتها لنفسها دعوة للإنسانية كله ومكافحته للاستبداد بأنواعه المختلفة سواء كان اجتماعيا أم سياسيا، بل هي لن تنجح في مكافحة الاستعمار الأجنبي إلا إذا كرهته وعندئذ تنظر من خلاله إلى أنه نوع واحد

من الاستبداد(2).

كان أبغض شيء لدى غاندي هو حماس بعض شباب الهند لمقاومة السلام بالسلاح واستخدام العنف، بينما كان غاندي يرى أنه من الممكن أن يصيب بريطانيا في مقتل لو استخدم معها الأسلوب البعيد كل البعد عن أي مظهر من مظاهر العنف. وعليه نادى بالمطالب الآتية:عدم التعاون مع المستعمر في كل النواحي الاقتصادية والثقافية وغيرها ،ومحاربة الآلة، لأنها تستعبد الإنسان وتقضي على اليد العاملة،

ص: 496


1- سلامة موسى غاندي والحركة الهندية، مرجع سابق، ص 50
2- المرجع نفسه ص 51

ومحاربة الجسد في الحدود التي لا غنى عنه فيها والسيطرة على الروح.

يقول غاندي : ليست العبرة بمن يحكم ولكن بكيفية الحكم. وهو يطالب بالإفادة من مزايا الانجليز والمفيد من عملهم وهو لا يكره الانجليز وإن كان يكره نسوتهم (1).

اعتبر كثيرون غاندي وعي الهند الكبير الصافي الذي كان يتوكأ على عصا من أغصان الأشجار ويقتني مغزلا يغزل به قماشا ليستره وعنزة تعطيه اللبن الذي يقتات به، وقد زود ذهنه بالعلوم والمعارف وغذى نفسه بالحكمة الإنسانية والإرادة والتواضع والإيمان، وعرفت حياته بالبساطة وكان قليل الغضب مترفعاً عن هفوات الناس والانتقام منهم أو مشاجرتهم.

أكد غاندي بتعاليمه وتصرفاته ومواقفه أن يقيم حضارة القيم وثقة الإنسان بنفسه والاعتماد عليها واحترامه لأي عمل يقوم به عكس ما كرسته موجات الاستعمار،والأمر الذي جعل من معظم جهوده تصب لصالح الدفاع عن المنبوذين والمضطهدين والمظلومين والمستعمرين والتي دفعته لمقاومة الحكومة الاستعمارية البريطانية بالطرق السلمية والامتناع عن العنف، فناضل الانجليز بلا حقد ودون كراهية لهم (المقاومة السلبية) لذلك حصل للهند على استقلالها وحقق الجلاء(2) .

يعتبر غاندي القدرة على الاستيعاب والتنسيق التي لازمت الروح الهندية وميزتها

خلال العصور المختلفة التي مرت بها أنها قوة دافعة لنهضة الهنود ووضعها على سكة

الحضارة والتقدم وتحريرها من الاستعمار دفعة واحدة، حيث لم يكن من مفر للهند الحديثة إلا أن تصبح مركزا لتفاعل القوى والعوامل المتعددة ومركزا حضاريا مشعا

ص: 497


1- المرجع نفسه، ص 54.
2- يوسف سعيد: عظماء من العالم ، غاندي، المركز العربي الحديث، القاهرة، ص 32

بتراثها الضخم وتنوع تقاليدها ودياناتها وأعرافها المتسامحة، وقد تسنى لها بفضل العلم تغيير الأوضاع والأحوال القديمة وإن كانت هذه الأوضاع جنبت الهند في السابق كثيرا من المتاعب لانعزالها جغرافيا ووقوعها في إحدى زوايا القارة الأوربية الأسيوية، وحينما ظهر الأوربيون على مسرح السياسة الهندية كان الصراع القائم في أوجه بين القوى المختلفة فيها، وتشكل طقوس العبادة التي كان يمارسها رجال الدين والصوفيون محاولة للتأليف والتوفيق في اتجاه معين، فيما شكل التخفيف من وطأة القيود الناشئة من نظام الطبقات نفس المحاولات في اتجاه آخر(1).

يرى غاندي أن الطبيعة الهندية كلما اصطدمت بغارة جديدة ذات طابع استعماري، سواء كانت عنصرية أم فكرية إلا وازدادت مرونة وتفاعلا، ولعل هذا ما يفسر مقدرتها على أن تستوعب في عملية تنسيق واحدة عددا كبيرا من المذاهب والمعتقدات والعادات ووجهات النظر المختلفة، رغم أن تأثير الغرب عليها اختلف من جهات مهمة عن تأثيرات الغارات السابقة التي تعرضت لها. وكانت الأفكار والمؤسسات التي تسربت إليها قبل دخول الأوربيين قد جاءتها عن طريق الشعوب التي قدمت إليها للاستيطان فيها، ومع ان هؤلاء وقفوا موقف المعارضة من كثير من العناصر التي جابهتهم في الهند، إلا أن مقاومتهم هذه سرعان ما خفت ووهنت تحت تأثير غزارة سكان الهند وقوة واستمرار ورسوخ تقاليدهم وعاداتهم، وقد أحدث دخول هذه الشعوب بعض التغير في الهند، انصهرت هذه الشعوب في عمق المجتمع الهندي بما فيهم المسلمون، ومع مجيء الأوربيين إلى الهند، بعث فيها أحوالا جديدة. ولم يرو من هؤلاء الأوربيين أنهم كانوا يعتزمون استيطان البلاد ومع ذلك كان بعضهم قد بهرته روعة الحضارة الهندية، ولكن سرعان ما حصنوا أنفسهم ضد تأثيراتها وبقوا

ص: 498


1- همايون كبير، التراث الهندي من العصر آري إلى العصر الحديث، ترجمة ذكر عب الرحمن كلمة المركز الثقافي الهندي، ط 1 2010 ، ص212

بمحض إرادتهم دخلاء كأجانب ، وآثروا أن ينظموا حياتهم على النظم المعروفة في بلادهم، وكانت هذه أول مرة تصطدم فيها الهند بحضارة آثرت العزلة والانطواء، وفي

حين أن الأوربيين كانوا على استعداد ليقدموا ويعطوا دون أن يأخذوا وينقلوا غاندي. فالهنود من ناحيتهم ورغم أنهم لم يهدفوا للتأثير على أحد إلا أنهم كانوا ينفرون من أي محاولة للتأثير عليهم، وكأن حضارتين مغلقتين ومختلفتين تماما قد ظهرتا على التربة الهندية(1) .

نهاية الاستعمار: غاندي وتجربة التعايش الثقافي

عرف غاندي كيف يتخلص من ضغط الاستعمار على المجتمعات المضطهدة ومن الأحقاد المغروسة في النفس البشرية، عندما استهلك كل حياته مناديا بتجربة التعايش والحوار وتقبل الآخر من دون عنوان، وهي تجربة كانت بمثابة البديل الحضاري عن تاريخ العنف والقسوة والمواجهة الجنونية، تجربة أهلته لأن يكون في مصاف الفلاسفة وحكماء العصر، ولأن يكون أحد المراجع الأساسية للسلم العالمي ولشمولية المحبة.

تسربت مع مرور الزمن أفكار وطرق جديدة إلى بلاد الهند، أثرت في الفكر الفلسفي فيها، تكرست عبر إعادة قراءة الفكر الهندي الذي يحتوي على مخزون ضخم من التراث والتقاليد وبتأويل مواقف التقليد الفلسفي بطرق شتى، ومنها التأثير الغربي الحديث الذي أثار استجابة فكرية فاعلة لدى المفكرين الهنود لتجديد وتحديث النشاط الفلسفى خلال القرنين الأخيرين.

من هذا الثراء ظهر غاندي الذي جمع القيم التقليدية (لأهمسا) (اللا- إيذاء)

ص: 499


1- المرجع نفسه، ص 115

وستيا(الحقيقة) كأساس للفعل والفكر السياسي والاجتماعي وكأساس للإصلاح الاجتماعي، وفلسفته هي رؤية جديدة لمذهب(كرما-دارما) أو النظام الأخلاقي، وقد تأثرت بالفكر المسيحي والفكر الغربي وتشكلت عبر انخراطه في الأحداث السياسية

التي عاصرها في شبه القارة الهندية(1) .

لا أحد ساهم أكثر من غاندي في خلق هند حديثة ومستقلة، فقد كان يتمتع بشعبية جارفة والكثير قد اتبع تعاليمه في السياسة والحياة، وتمكن من جعل شريحة كبيرة

من الناس يرتبطون بالحركة الوطنية وحركة الإصلاح التي تنشد الطهارة والبساطة الشخصية، وإصراره على تبني الأخلاق الصارمة المؤسسة على حب الآخرين، كما أنه نصح السياسيين والقادة على أهمية البحث في المشاعر الحقيقية للهند في قراها

ومعابدها، فرأى أن القرى رغم بؤسها وتخلفها فهي حاملة لواء الهند الحديثة (2).

اعتبر غاندي النظام الأخلاقي للكون بعدا أساسيا ومكونا للحقيقة الأبدية، نكتشفه عبر المساهمة في مجريات الوجود اليومي، حيث تقوم فلسفته على مسلمتين أساسيتين صارتا ركنا أساسيا للعائلة والمجتمع الهندي وهما: «لا شيء أعلى من الحقيقة» وهي مسلمة موجودة في نص (رغ فيدا) قبل ثلاثة آلاف سنة، وهو نص اعتبر الفعل القياسي للوجود (ريتا) هو حقيقته. أما المسلمة الثانية هي أهمسا(اللا- إيذاء الحب) وهي الفضيلة الأسمى والتي تمثل أساس الحكمة الأخلاقية التي شكلت التقليد الهندي لعصور طويلة، والمجتمع الجياني الذي نشأ فيه غاندي تميز بحرصه الصارم على مبدأ أهمسا. يقول غاندي: يجب أن نميز بين المرء وأعماله، ففي حين يستوجب العمل الصالح الاستحسان والعمل السيئ الازدراء، دائما ما

ص: 500


1- جون م كولر الفلسفات الأسيوية تر نصير فليح المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2013 ، ص351.
2- المرجع نفسه، ص 352

يستحق صاحب تلك الأعمال-سواء الصالحة أم الشريرة- الاحترام أو الشفقة(1).

فمع سهولة استيعاب القاعدة التي تقول ابغض الخطيئة وليس مقترفها نادرا ما نجد من يعمل بها، وذلك هو السبب وراء انتشار سم الكراهية في أنحاء العالم كما يرى غاندي.

وظف غاندي مبدأ (ثبات الحقيقة) كوسيلة للمقاومة الفاعلة، ولكن غير العنيفة ضد الحكم البريطاني، فقد آمن أن هزم الشرير لا يكون إلا عن طريق الحب والصدق، إلا أن توظيف الحب والصدق في مواجهة الشر يعد تحديا كبيرا في مواجهة شرور العالم.

يعتقد غاندي، أن دحر المصاعب هو تحدي جميع الكائنات بما أنها كلها مشتملة على الحقيقة ومتحركة بسلطتها، وهذه الصعوبة يقول عنها غاندي قد أقرتها «أوبنشد إيشا» في أبيات شعرية، ومنها : كل هذا، كل ما يتحرك ويتغير في هذا العالم المتغير مغلف «بالرب فالتمسك الصارم بالحقيقة المتجلية في القانون الإلهي للوجود يعني العمل حسب طبيعة وغاية الشخص الخاصة بتناغم مع طبيعة وغاية الكائنات الأخرى جميعا(2).

اكتشف غاندي في مراحل أولى أن التمسك بالحقيقة لايسمح بتسليط العنف على الخصم، وبدل ذلك يتوجب صد الإنسان عن الخطأ بالصبر يعني المعاناة- الذاتية. وهذا سبب استحالة تمسك الإنسان بالحقيقة أو تزكيته بواسطتها عند تسليطه المعاناة على الخصم، فبواسطة تبين معاناة الآخرين والعمل دون عنف يمكن إدراك الحقيقة في سياق الفعل. ورغم إقرار غاندي بحضور الحقيقة المولدة للوجود في كل

ص: 501


1- المرجع نفسه، ص352.
2- جون م كولر الفلسفات الأسيوية، مرجع سابق، ص354

كائن، أقر أيضا بأنها معماة بالجهل والرذيلة، وبالتالي يكون التطهير الذاتي والتفكير النقدي أمورا مطلوبة لإدراك الحقيقة الباطنية.

الحقيقة السامية في نظر غاندي هي الله المقيم في كل الكائنات، والحب عنده هو و القوة المحركة لجميع الكائنات الحب هو (أهمسا) عند غاندي وهي كلمة مقترنة ب

(اللا - إيذاء) والحب يشير عنده إلى التعاطف والخدمة اللا- أنانية للغير، وهذا الذي

جعل من غاندي شخصاً يؤمن بالسلام واللاعنف، فالعنف يعبر عن الخوف والغضب

والضعف هو الذي يولد العنف، والحب يولد الحب ، وهو ما جعل غاندي مقتنعا بأن

الحب هو مدخل لكل نجاح.

أما «البراهما شاريا» فيقصد بها ( التحكم في شهوات النفس) وهي طريقة اعتمدها في بناء شخصيته على الطريقة التي تتناسب ومعتقداته وفلسفته، فقد آمن بقوة بفكرة

الزوجة الواحدة والتي اعتمدها في زواجه حيث ظل مخلصا لزوجته، بما انه اعتبر الإخلاص لزوجته الواحد جزء من الحقيقة. يقول غاندي والآن وصلنا للمرحلة التي بدأت أفكر فيها بجدية في أخذ عهد «البراهما شاريا» (التحكم في شهوات النفس) لقد آمنت بشدة بفكرة الزواج بامرأة واحدة منذ أن تزوجت وبقيت مخلصا لزوجتي نظرا لأنه جزء من ولعي بالحقيقة، لكنني بدأت إدرك في جنوب إفريقيا أهمية الالتزام

بالبراهما شاريا حتى مع زوجتي(1).

وفي إطار برنامج «البراهما شاريا» امتنع غاندي عن إنجاب الأطفال حتى يجنب نفسه أتعاب الاعتناء بهم الذي رآه يتعارض مع خدمة العامة، الأمر الذي جعله يفترق عن الأسرة في« جوهانسبرج» حتى يتفرغ للعمل الثوري.

ص: 502


1- غاندي : قصة تجاربي مع الحقيقة: ترجمة محمد إبراهيم السيد، كلمات عربية ، ط12008 مصر، ص228

تعد المدة التي قضاها غاندي أثناء الثورة بالمرحلة المهمة في حياته، كونها مثلت عهدا للمطالبة بالحرية والحقيقية، وأيضا رغم أنها المرحلة التي غرق فيها غاندي في دوامة الشك والريبة وتقلب المزاج خاصة بعهده الذي رفعه على عاتقه إن كان يحققه أم لا، وخلالها أدرك أن الإنسان يغرق في الفتن إذا ما رفض أن يتخذ على نفسه العهد، وأن التزام الإنسان بالعهد ما هو إلا رحلة من الانغماس في الشهوات إلى الزواج الأحادي الحقيقي (فمن يقول أنا أؤمن بمحاولة تغيير نفسي، لكنني لا أريد أن ألزم نفسي بأي عهد) هو ذو عقلية ضعيفة ويظهر رغبة ماكرة في تجنب الالتزام بالعهد وإلا فأين تكمن الصعوبة في اتخاذ القرار النهائي؟ يتساءل غاندي(1).

يقول غاندي شارحا «البراهما شاريا»: يتملكني شعور بالسعادة والدهشة عندما أنظر إلى العشرين سنة التي التزمت فيها بالعهد، فلقد بدأ التزامي الناجح بقدر ما بالحكم في شهوات نفسي سنة 1901 لكن الحرية والسعادة اللتين شعرت بهما بعد أن أخذت العهد لم أشعر بهما قبل عام 1906 ، فقبل أخذي للعهد كنت عرضة للوقوع الإغواء في أية لحظة، أما الآن فالعهد يقف درعا ثابتا ضد الإغواء. تجلت قوة «البراهما شاريا» أمامي أكثر يوما بعد يوم(2).

وإذا كان أحد يظن أن« البراهما شاريا» هي سعادة دائمة، فهو لم يكن بالأمر الهين

على غاندي وهو يدرك مدى مشقة الالتزام بمثل ذلك العهد، الذي شبهه بمنزلة السير

على حد السيف الذي يستلزم الحذر الدائم.

وتعد السيطرة على شهوة الطعام في نظر غاندي أولى العوامل الأساسية للحفاظ على العهد، وبالفعل، السيطرة الكاملة على شهوة الطعام تجعل الالتزام بالعهد

ص: 503


1- المصدر نفسه، ص 229.
2- المصدر نفسه، ص213

أسهل بكثير ، الأمر الذي جعله يتبع حمية غذائية بسيطة للغاية بما ينسجم مع فلسفة

«البراهما شاريا».

يعتبر الصيام عاملا خارجيا مساعدا« للبراهما شريا» مثل الانتقاء وفرض القيود الغذائية، إن الحواس من القوة بمكان حتى أنه لا يمكن السيطرة عليها بتطويقها من جميع الجهات ومن أعلاها وأسفلها. فالصوم يعتبره غاندي يؤتي ثماره فقط عندما يتعاون العقل مع الجسد الجائع، ويقصد بذلك أن يعزف العقل عن الأشياء التي يعزف عنها الجسد، فغاندي يعتبر العقل هو أساس جميع الشهوات، وعهد «البراهما شاريا » يعني السيطرة على الحواس فكرا وقولا وفعلا كان يزداد أهمية لغاندي مع مرور الوقت، فليس هناك حد لاحتمالات نكران الذات وهكذا الحال« للبراهما شاريا».

فمن المستحيل تحقيق «البراهما شاريا» ببذل جهود محدودة، فيرى كثيرون ضرورة أن يظل« البراهما شاريا » مجرد فكرة ، فالطامح للالتزام بالبراهما شاريا على علم دائم بنقاط ضعفه ويبحث عن الشهوات الباقية في أعماق قلبه، لا يكتمل «البراهما شاريا» ما دام التفكير لا يخضع لسيطرة الإرادة الكاملة.

إن التفكير اللاإرادي يتعلق بالعقل، ومن ثم فالسيطرة على التفكير تعني السيطرة على العقل وهو الأمر الأكثر صعوبة من صد الرياح كما وصفه غاندي، بيد أن الإيمان بالإله يجعل السيطرة على العقل ممكنة ولا تعني صعوبة السيطرة على العقل استحالة، فالسيطرة على العقل تعد أسمى الغايات ولذا فلا عجب من أنه يجب بذل كل عزيز وغال من أجل تحقيق تلك الغاية(1).

لم يدرك غاندي أن تحقيق« البراهما شرايا» لا تتأتى بالجهد البشري إلا بعد أن عاد

ص: 504


1- المصدر نفسه، ص233

إلى الهند من بلاد المهجر، لكن يجب أن أعجل بذكر الفصل الذي يتناول كفاحي الآن يقول غاندي، ويجب أيضا أن أوضح أنه على من يرغب في الانتظام «بالبراهما شاريا» لكي يدرك الإله يجب عليه أن لا ييأس، وإلا تقل ثقته بالإله عن ثقته بمجهوداته.

يقول غاندي: إن الأشياء الحسية تنصرف عن الروح المعتدلة مختلفة اللذة، وتختفي اللذة أيضا مع إدراك الحقيقة الأسمى) فاسم الإله ورحمته هما آخر ملتجأ لمن يطمح في التوحد مع الإله(1).

إذا ، أدوات البحث عن الحقيقة بسيطة بقدر ما هي عسيرة، وقد تكون متعذرة كل التعذر على الشخص المتغطرس، وأن متلمس الحقيقة يجب أن يكون أكثر تواضعا

من التراب على حد تعبير غاندي، إن العالم يسحق التراب تحت قدميه ولكن الباحث عن الحقيقة يجب أن يذل نفسه بحيث يكون في مقدور التراب نفسه أن يسحقه، وعندئذ فحسب يكتب له أن يلمح الحقيقة، وإن المسيحية والإسلام يؤيدان ذلك أيضا تأييدا كبيرا. يقول غاندي أنا اليوم اعتبر« بهاغافات» كتابا قادرا على إثارة الحرارة الدينية ولقد قرأته في اللغة «الكوجاراتية» في متعة عارمة، ولكني حين سمعت أجزاء من الأصل يتلوها البانديت مادان موهان مالافییا خلال صومي الذي استمر واحدا

وعشرين يوما وددت لو سمعته في طفولتي من هذا الرجل المتفاني فيه، لكي يكون في ميسوري أن أنشأ على الإعجاب به(2) .

أبدى غاندي احتراما كبيرا للعقائد والأديان، إذ آمن بنظرية المعلم الديني الهندوسية وأهميتها في تحقق الكمال الروحي، معتقدا أن ثمة قدراً كبيراً من الصدق في العقيدة القائلة بأن المعرفة الحقيقية مستحيلة من غير (غورو)، والمعلم الناقص

ص: 505


1- المصدر نفسه، ص 233
2- حمد الشقيري: رحلتي مع غاندي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1 2011، ص18

قد يرتضي في الشؤون الدنيوية ولكن الأمر ليس كذلك في الشؤون الدينية. إن العالم الكامل في نظر غاندي هو وحده الذي يستحق التتويج معلما دينيا، وإذن، فينبغي أن يكون ثمة سعي غير منقطع نحو الكمال، لأن المرء يفوز« بالغورو«الذي يستحقه. إن

السعي اللانهائي نحو الكمال هو حق من حقوق كل إنسان، وإن ذلك السعي ينطوي على مكافأته الخاصة، أما الباقي فهو في يد الله حسب غاندي، فيقول: ان كانت هذه هي المسيحية النصرانية كما يعترف بها جميع المسيحيين فليس في استطاعتي أن أقبلها، أنا لا ألتمس الخلاص من نتائج خطيئتي، أنا ألتمس الخلاص من الخطيئة نفسها، أو بالأحرى من فكرة الخطيئة نفسها، وإلى أن أبلغ هذه الغاية فسوف أرضى بحياة القلق، كانت مصاعبي أعمق من ذلك، فقد كنت عاجزا عن الإيمان بأن يسوع كان ابن الله المجسد الوحيد، وعن الاعتقاد بأن من آمن به وحده هو الذي سينعم بالحياة السرمدية، فإذا كان من الجائز أن يكون لله أبناء فنحن جميعا أبناؤه، وإذا كان

يسوع مثل الله أو الله نفسه فعندئذ يكون جميع الناس مثل الله. إن عقلي لم يمكن مستعدا للإيمان حرفيا بأن يسوع كفر بموته وبدمه عن خطايا العالم(1).

وفق هذا التصور، تذهب النصرانية في نظر غاندي إلى أن للبشر وحدهم من دون سائر المخلوقات الحية ،أرواحا ، فإذا ما ماتت تلك المخلوقات كان الموت بالنسبة إليها فناء كاملا.

يرى غاندي أن آفاق الإنسانية واسعة وأغوارها عميقة ومداها من الزمن بعيد، وحق على كل إنسان أن يذرع هذه الأفاق، وأن يسبر هذه الأغوار وأن يبسط الرجاء على هذا المدى البعيد، لا لأنه يعلم سيرة هذا الإنسان وحسب ولا لأنه يحيط بتاريخ هذه الأمة وكفى، ولكن لأنه يحقق معناه ويبلغ به کماله كلما عرف غاية من الغايات التي تنتهي

ص: 506


1- المرجع نفسه، ص 35

إليها طاقة الإنسان، وليس أعون له على ذلك من سير العظماء لأنهم يتماثلون ويتناقضون، ويعرضون لنا ألوانا من القدرة وأنماطا من الفطرة وكلهم بعد ذلك على خلق عظيم.

قال «طاغور» في محاضراته التي ألقاها على الأمريكيين عن القومية في العالم : أنه لما كانت مشكلاتنا في الهند داخلية أصبح تاريخنا تاريخ معالجة أخلاقية دائمة، ولم یکن تاريخ قوة منظمة للدفاع أو الهجوم، وما كانت العالمية الغامضة التي لا لون لها ولا الوثنية العارمة التي تتراءى في عبادة الأمة لنفسها لتكون هي الغاية القصوى الذي يسعى إليها تاريخ بني الإنسان(1).

وفي هذا يقول محمود عباس العقاد: وكأنما أراد هذا الشاعر أن يقول بهذا الكلام أن الهند حيث بدأت حيث تنتهي أمم أخرى،لأن كفاح القومية سينتهي لامحالة إلى تعميم الآداب الإنسانية أو إلى حل المشكلات الأخلاقية وهي المشكلات التي فرضت على الهند بحكم حالتها الخاصة ومنذ.هي

وغاندي يفهم وطنه كما يفهمه« طاغور» ويشعر به على هذا النحو من الشعور، فكان يقارن بين السوراج أو الاستقلال وبين(الأهمسا)أو ضبط النفس ومقاومة العنف بالحسنى فيقول: إن الأهمسا مقدمة على السوراج لأنها هي الاستقلال الصحيح، ويريد بذلك غاية الاستقلال خلاص البلاد من الحكومة الأجنبية، ولكن الإنسان قد يحكم بلده ولا يحكم نفسه ولا يفلت من طغيان شهواته أو أهوائه وإنما كان حكم النفس هو الاستقلال جد الاستقلال (2)

وفي مناقشته لسؤال الحرية والكرامة ركّز غاندي على ضرورة تطهير القلب

ص: 507


1- عباس محمود العقاد: روع عظيم المهاتما غاندي، شركة فن الطباعة الإسكندرية 1999، ص14
2- المرجع نفسه، ص 15

كشرط أساس لخدمة الآخرين عكس مساعيه الشخصية في ضبط النفس والإصلاح الاجتماعي، فقد آمن من الطفولة بأن العدالة والكرامة الإنسانية لا يمكن نيلها إلا

عن طرق ثبات الحقيقة والحب، بالإضافة إلى تطهير الذات والتضحية، وهي كلها

قيم متجذرة في المثل العليا الهندية والتحررو (موكشا) هو إحداها، وعليه كان زهده جزءً من توجهه الفكري والثقافي وأداة للنضال لبلوغ الحرية والكرامة والانعتاق من

الجهل والرغبات الساجنة للنفس في العبودية فضلا عن التحرر من الاضطهاد السياسي ومحاربة المعاناة، بما أن الكرامة تتطلب حياة روحية صافية لنيل الحقوق والاحترام.

يقول غاندي: كانت جوهانسبرج معقل الضباط الآسيويين، ولاحظت أن هؤلاء الضباط كانوا يضطهدون الهنود والصينيين وغيرهم بدلا من حمايتهم، وكانت تأتيني شكاوى يومية نصها ( إنهم لا يقبلون من لهم الحق في العودة للبلاد، في حين يجري تهريب من لا يحق لهم العودة مقابل 10 جنيه إسترليني، يجب أن تعالج هذا الأمر، وإلا فمن سيعالجه) وقد شاركتهم هذا الشعور ، فإن لم أنجح في القضاء على هذه الكارثة سيكون وجودي في الترانسفال عديم القيمة(1).

تمثل (الأهميمسا) في فكر غاندي قمة ما توصل إليه وأساس البحث عن الحقيقة، حيث أدرك أن البحث عن الحقيقة يكون عديم القيمة إذا لم يعتمد على «الأهيمسا» كأساس له فمن الطبيعي أن تقاوم نظاما ما وتهاجمه، لكن عندما تقاوم واضع ذلك النظام وتهاجمه تكون كمن يقاوم نفسه ويهاجمها، فجميعنا نحمل الصفات السيئة وجميعا خلقنا إله واحد، ولذلك فالتقوى إلهية بداخلنا مطلقة. إن ازدراء إنسان واحد يعني ازدراء تلك القوى الإلهية، ومن ثم ذلك لا يضر ذلك الإنسان وحده، بل العالم أجمع.

ص: 508


1- غاندي، السيرة الذاتية، مصدر سابق، ص299.

اعتبر غاندي الدولة أداة لإنتاج العنف بمختلف صوره وأنماطه، فهي تمثله بشكل مكثف، فهي تتحدث بلغة الإجبار والنسق الموحد، واستنزاف روح المبادرة والتعاون الذاتي في الموضوعات التي تجردها من إنسانيتها، ولكن لما كان الرجال لم يتطوروا أخلاقيا ولم يقدروا على أن يتصرفوا بطريقة مسؤولة اجتماعية فقد كانت الدولةضرورية. وكما تصور غاندي، فإن مجتمع اللاعنف يتشكل فيدراليا ويتكون من مجتمعات قروية صغيرة ذات حكم ذاتي نسبيا، وتعتمد بشكل كبير على الضغط الأخلاقي والاجتماعي، وتكون الشرطة بصفة أساسية من العمال المجتمعين الذين يتمتعون بالثقة وبتأييد المجتمع المحلي ويعتمدون على الإقناع الأخلاقي والرأي العام الفرض القانون. فالجريمة تعامل باعتبارها مرضا لا يحتاج إلى عقاب بل إلى علاج وفهم، كما أن الجيش النظامي لم يكن ضروريا أيضا، حيث يمكن الاعتماد على أناس محددين لرفع شعار المقاومة السلمية ضد الغزاة والموت عوضا أن يفقدوا حريتهم(1).

ولم تكن المناقشة العقلية بالنسبة لغاندي مجرد تبادل الحجج بل هي عملية لتعميق الوعي وتبادله وتوسيع العوامل الفكرية والأخلاقية لعالم المرء وحينها تكون في حالة أفضل لها.

إن مجتمع اللاعنف يكون ملتزما ب (السارفودايا) أي النمو والنهوض بالمواطنين، أما الملكية الخاصة فهي تنكر الهوية أو الواحدية لكل الرجال وهي ليست أخلاقية، فعند غاندي كانت خطيئة ضد الإنسانية أن تمتلك ثروة زائدة عن حاجتك بينما الآخرون غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، ولما كانت مؤسسات الملكية الخاصة موجودة بالفعل والرجال متصلون بها فقد اقترح بأنه يجب على الأغنياء أن يأخذوا فقط ما يحتاجون وأن يتركوا الباقي تحت وصاية المجتمع.

ص: 509


1- روبرت بنيويك فيليب جرين: موسوعة المفكرين السياسيين في القرن العشرين، مرجع سابق، ص 166.

ويتضح مما سبق، أن تأثير فكر غاندي على شعبه كان كبيرا وعلى الرغم من أنه لم يجد أحدا يقبل أفكاره إلا أنها لم ترفض نهائيا، وقد كان البعض منجذبين إلى تركيزه على اللامركزية السياسية والاقتصادية، والبعض على إصراره على الحرية الفردية والتكامل الأخلاقي ووحدة الوسائل، وقد أعجب كثير بطريقة (ساتياجراها) و( الأهمسا) فى المقاومة السلبية وفاعليتها السياسية.

استطاعت «الأهيمسا» أن تجعل من غاندي قديسا وطوعت له تلك القوة التي صنع بها ما لم يصنعه زعيم من الزعماء في تاريخ بلاده، فهي اتجاه لحب السلامة عن طريق المسالمة، الأهمسا تنفي الخوف وتنفي الكراهية فلا خوف ولا كراهية بل شجاعة ومحبة وقد قال غاندي غير مرة : أنه يفضل العنف على الجبن والفرار من الخطر، قال ذلك في إبان الفتنة الهندية سنة 1920، وقال أنه يفعل العنف ألف مرة على مسخ النوع برذيلة الجبن والفرار، ومن كان لا يبالي أن يقتل ويقتل فهو خير ممن يفر من النزال، طفالأهمسا» هي ترك العنف شعورا بالقوة وليس ترك العنف شعورا بالعجز والضعف عن المقاومة(1).

في الوقت الذي قام فيه غاندي بالدعوة إلى الاستسلام واجتناب المقاومة العنيفة، كانت أوربا غارقة في ثقافة القوة والقسوة أو دين القوة كما سماه أتباعه ومروجوه. وكانت الدعوة إلى دين القوة تنبعث من جانب الفلاسفة والمفكرين الغربيين كما تنبعث من جانب الساسة وقادة الجماهير فانتشرت النازية والفاشية في أوربا الوسطى وقام لها أنصار في البلاد التي تزعزعت فيها مبادئ الديمقراطية أو عجزت فيها الديمقراطية عن حل مشكلاتها وتعزيز الرجاء في تحقيق مثلها العليا، وانتقل صدى« الأهمسا» إلى أوربا، فوصل إليها في أوانه وتأثر بها بعض كتابها على

ص: 510


1- عباس محمود العقاد: روع ،عظيم المهاتما غاندي، مرجع سابق، ص94

طريقة الغربيين في كل دعوة وهي عرضها على العقل من جانب البحث والعلم غير مكتفين بالبشارة الروحية أو المواعظ الدينية على طريقة دعاة «الأهمسا» من الهنود، ومن بين أهم الكتب التي كتبت عن «الأهمسا» في أوربا هو: كتاب ريتشارد جريح صاحب كتاب (قوة اللاعنف أو المسالمة).

وفي النهاية نقول كما قال عباس محمود العقاد: أن بداهة الهند عرفت أين تضع غاندي من أمته ولم تضعه موضع الزعامة السياسية، ولا موضع القيادة الاجتماعية ولكنها وضعته موضع الأبوة المحبوبة التي يحق لها أن تطاع وينتظر منها أن تغفر

بعض العصيان.

ص: 511

هذا الكتاب

دعوة إلى بذل الجهد المعرفي والسعي نحو إعادة الإحياء الحضاري الإسلامي، وتقديم بدائل معرفيّة وثقافية لزمن ظهرت بوادره في الفترة المعاصرة من خلال التنظير لصراع الحضارات وما أعقب ذلك من أحداث عالمية دامية. تكمن أهمية هذا المسعى في التأسيس لمسار معرفي يرنو إلى تحليل الغرب ونقده، وهو مسعى يدخل في نطاق ما يطلق عليه إجمالاً علم «الاستغراب»، وغايته تحصين الذات الحضارية والخروج من هيمنة الاستعمار المعرفي والثقافي الحديث الذي يلقي بظلاله على مساحة واسعة من البيئات الفكرية في العالمين العربي والإسلامي .

المركد الأهالي للدراسات الاستر الحيم

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 512

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.