المکاسب المجلد 1

هویة الکتاب

کِتَابُ المَکاسِب

للشیخ الأعظم الشیخ مرتضی الأنصاری قدس سره

1214ه - 1281 م

تحقیق و تعلیق : السّید محمّد کلانتر

المجلدات 17 ج

منشورات مؤسسة النور للمطبوعات - بیروت - لبنان

ص: 1

اشارة

ص: 2

کتاب المکاسب

للشیخ الأعظم الشیخ مرتضی الأنصاری قدس سره

1214ه - 1281 م

تحقیق و تعلیق : السّید محمّد کلانتر

الجزء الأول

منشورات مؤسسة النور للمطبوعات

بیروت - لبنان

ص: 3

جمیع الحقوق محفوظةالطبعة الأولی

1427ه-2006م

مؤسسة النور للمطبوعات

بیروت - شارع المطار - قرب کلیة الهندسة ص.ب - 11/8645

ص: 4

* مقدمة التحقيق

الإهداء

سيدي... أبا صالح

هذه جهودي بين يديك متواضعة بذلتها في سبيل خدمة الدين الحنيف

في سبيل تخليد فقه (أئمة أهل البيت) آباؤك و أجدادك الطاهرون عليهم الصلاة و السلام. في سبيل إحياء تراثنا العلمي الأصيل أهديها أليك... يا حافظ الشريعة. يا من يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا، فأنت أولى بها ممن سواك. و لا أراها متناسية و ذلك المقام الرفيع.

و أراني مقصرا و قاصرا. غير أن الهدايا على مقدار مهديها.

فتفضل علي يا سيدي عجل اللّه تعالى لك الفرج بالقبول، فإنه غاية المأمول.

عبدك الراجي

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

شكر و تقدير

حينما قمت بطباعة (اللمعة الدمشقية) و تصحيح هذا السفر الجليل و التعليق عليه: لم أقصد بعملي هذا سوى خدمة الدين الاسلامي الحنيف و عرضا لصفحات ناصعة عن (الفقه الجعفري).

و بعد الإخراج الى عالم الوجود بتلك الطباعة الأنيقة البديعة شاكرين اللّه عز و جل على هذه الموفقية الكاملة فقد وقع الكتاب و للّه الحمد موقع القبول و الإعجاب من رواد العلم و طلابه، و لا سيما الأعلام منهم، و على رأس هؤلاء الأفذاذ و في طليعتهم سماحة شيخنا الوالد آية اللّه (الشيخ مرتضى آل ياسين) دام ظله فقد اتحفنا بكلمته القيمة الثمينة تلك الكلمة التي جاءت مشرفة و قد تلقيناها بكل إعزاز و إكبار و إجلال و زينا بها الجزء الثالث من (اللمعة الدمشقية) من طبعتنا الحديثة.

و كان من جملة ما تفضل به سماحته علينا في الكتاب و أمرنا به:

معالجة الكتب الدراسية بمثل ما عالجنا (اللمعة الدمشقية).

فشاء اللّه عز و جل أن يحقق أمنية شيخنا المعظم دام فضله و علاه على يد ولده البار فقمت امتثالا لما أمرني بهذا العبء الثقيل فقد تم الجزء الأول من (المكاسب) بعد عناء شديد خلال ثلاثة أعوام متتالية فقدمناه

ص: 7

الى الطباعة فخرج بحمد اللّه تعالى كزميله السابق كتاب (اللمعة الدمشقية) و قد فاق وفاق شاكرين سماحة شيخنا الوالد على هذا الإفضال، و هذا اللطف الجميل. و نقدر هذه الالتفاتة الكريمة.

ثم تفضل علينا سماحته بكلمة أثمن و أثمن من زميلتها حول المكاسب فزينا بها الجزء الأول من الكتاب.

و أخيرا فأملنا الوطيد، و رجاؤنا الأكيد من سماحته دام ظله أن يجعلنا دوما تحت إرشاداته، و يتحفنا بوصاياه البالغة. و أكرم من أب رءوف.

24 محرم الحرام/ 1393

السيد محمد كلانتر

ص: 8

التقريظ للاستاذ مرتضى آل ياسين رحمه الله

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

عزيزي العلاّمة الحجة السيّد محمد كلانتر دام تأييده ابعث أليك بتحيّاتى الطيّبة راجيا من المولى جلّ شأنه ان يمدك بعونه و يجعلك فى حصنه انه العليّ القدير

و بعد فما أشدّ اغتباطى بهذا الجهود الجديد الّذي آثرتموه بجهودكم المنتجة غبّ انتهائكم من مجهودكم الأول إيثارا لمكاسب العلم التى لا يهدف إليها الاّ المتاجرون مع اللّه تعالى فى تجارة لن تبور طمعا فى ربحها الآجل و تحقيقا لنفعها العاجل المضمون عبر الأجيال و القرون و إنّى بصفتى واحدا من ابناء العلم أجدنى مدينا لكم بالشكر و الشكر الجزيل على ما عانيتم و ما زلتم تعاتون من جهود مضنية فى سبيل العلم و اهله و لا شك فى انّ المعنيين بدراسة هذا الكتاب الوحيد فى بابه سوف لا يضنّون بتثمين جهودكم تثمينا ينبع من شهورهم بزنة هذه الجهود التى هيّئت لهم اكبر المعونة على دراسة هذا الكتاب و استيعاب فوائده و مقاصده و اين كتاب ياترى احقّ بالعناية و الرعاية من هذا الكتاب الجليل الّذي لم يسبق و لم يلحق بمثيل فجزاكم اللّه عن مؤلفه الامام المرتضى خير الجزاء و لكم من دارسيه و مدرسيه اجزل الشكر و الثناء و السلام عليكم و رحمة اللّه بركاته.

6 /رجب 1390

مرتضى آل ياسين

ص: 9

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

«رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» .

القرآن الكريم

ص: 10

المقدّمة

ص: 11

ص: 12

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

كنت عند اشتغالي بالكتاب و دراسته لدى أساتذتي المعروفين ألمس فيه أنه أكبر دعامة لبناء صرح الاجتهاد الحديث. و معرضا خصبا لدراسة أساليب الاستدلال الفقهي الحاضر.

فقد أنتج شيخنا (الأعظم الأنصاري) طريقة بديعة عميقة في الاستدلال خاصة به، لا تشبه طريقة القدماء المشتملة على البساطة بأي حال من الأحوال حيث عدل عن طريقة الاقتناع البدائي بفحوى الأدلة الاجتهادية الى طريقة الاستدلال المتعمق، و الأخذ بأطراف الأدلة المترامية، و دراسة متفرقاتها و جمعها، ليتخلص من التناقض الذي وقع فيه غيره ممن اكتفى بالظاهر المجرد، و الأمر الذي قد حاز معه (قصب السبق) الأوفى في طريقة هذه البديعة بما أعجب معاصريه، كما أعجز من بعده من الاستزادة عليه حتى عاد الكثيرون منهم معترفين بنبوغه و تفوقه في هذا المضمار.

و الخلاصة: أن كتابه هذا أصبح و لا يزال محط أنظار العلماء، كما أن البلوغ الى مطاوي مطالبه الدقيقة صار محكما للمشتغلين يختبر به بلوغهم درجة الاجتهاد. و من ثم فقد عكف روّاد العلم و الفضيلة على دراسته و استخراج درره و لئاليه، متسابقين متباهين

غير أن هذا الكتاب و لا يزال معقّدا التعبير في أكثر مواضعه نظرا للدقة في المعنى، و العمق في مضامينه هنا و هناك فاستدعى مثل هذا الغموض التوضيح و البيان.

ص: 13

و لذلك دعت الضرورة الى دراسة الكتاب، و مداولته مع أهل الفن و الخبرة بغية تمكّن الاستفادة منه بأفضل صورة، و أوضح طريقة.

نعم كانت أمنيتي منذ بدء عهدي بالكتاب معالجة هذه الناحية الخطيرة من هذا السفر الثمين، و حل أكبر مشكلة كانت و لا يزال طلاب العلوم الدينية يواجهونها في حياتهم الدراسية الاجتهادية.

أجل: كانت هذه الأمنية في نفسي تؤلمني كلّما فكرّت في طريقة توصلني الى هذا الهدف النبيل الذي هو في نفس الوقت خطير جدا حتى سهّل اللّه عز و جل و له الشكر على ما أنعم أخيرا لي بعض الأمور فعلفت على دراسة الكتاب دراسة عميقة ليست كسوابقها.

بل أعمق و أعمق بكثير مدونا عصارة أفكاري و شواردها حول مواضع الكتاب بأرقام الهوامش، سواء التوضيحية منها أم التحليلية حتى صارت بحمد اللّه تعالى بعد جهدنا و مجهودنا لمّة نفيسة جاهزة للإفادة و الاستفادة و مهيئة للعرض و الإخراج لروّاد الكتاب من طلاب العلوم الشرعية الساعين للاختصاص في الدراسات الفقهية و الأصولية.

هذا!! و لا أكتمك أيها القارئ العزيز إني تركت في سبيل هذه الخدمة الجليلة العظيمة جل أشغالي مع أهميتها القصوى بالنسبة لي، و سعيت بكل ما في وسعي من جهد و طاقة، و صرفتها بغية الكمال، بالرغم من علي باستحالته، اذ لا كمال لأيّ موجود يتصف بالإمكان، حيث إنه خاص بذات ذي الجلال الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال.

بل الشوق دفعني في السعي.

و جريا على القاعدة القائلة: (لا يترك الميسور بالمعسور) على أن هذا لا يمنعني من أن أؤكد رجائي الى إخواني الأعزاء، و زملائي الأجلاء

ص: 14

في ارشادي الى مواقع الاشتباه، و سأبقى شاكرا لهم هذا الفضل و الإحسان طيلة الحياة.

ثم لا يخفى ما يتطلب هذا العمل من الجهد في سبيل تحقيق أصل الكتاب و تقويم نصه، و مقابلته مع عدة نسخ، و تطبيق أحاديثه على المصادر

و لا سيما و الطباعات السابقة جلها أو كلها مشحونة بأغلاط و أخطاء هي كثيرا ما تغير وجه المراد منها، بل حتى في ألفاظ الروايات الواردة عن (الأئمة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و هذا أمر عسير مجهد عثرنا عليه بعد جهد جهيد، و تدقيق عميق يلاحظه كل من قرأ هذا الكتاب فقد وفقنا اللّه عز و جل عليه فصححنا نسخة طبق الأصل تلكم الأخطاء حتى عاد الكتاب واضح العبارة، وافي البيان، مشروح المراد، بين المقصود.

و لست مبالغا لو قلت: إن جملة واحدة من عبارات الكتاب ربما استدعت منا صرف أيام و ليالي متتالية بلغت ثلاثين يوما لأجل التدقيق و التحقيق حولها، و استخراج فحواها، ثم تثبيت النتاج بصورة واضحة في الهامش الأمر الذي يجلب عناية القراء و المطالعين بدقة فيأخذونها بعين الاعتبار، و لا يستهينون ما بذل بشأنها من تحقيق و توضيح.

و يكفي اثباتا لهذه الدعوى مراجعة سائر النسخ المطبوعة جمعاء، و مقارنتها مع طبعتنا هذه، و إن كان ذلك لا يخفى على ذوي النهى و الفضيلة.

و أراني مقصرا في تقديري مساعي سيدنا الوالد صاحب النفس الزكية حجة الاسلام و المسلمين (السيد محمد صادق الصدر) دامت بركاته و عمت إفاضاته، حيث أتعب نفسه الشريفة في مؤازرتي بهذا المضمار فجزاه اللّه خير الجزاء.

هذا!! و من الناحية المنهجية فقد جزأنا الكتاب الى اثني عشر

ص: 15

أو أربعة عشر جزء. تسهيلا لطلبة العلم و رواده في تناوله، و استصحابه لمعاهد الدرس و التحضير، جاعلين الشرح في أسفل الصفحة معلما بأرقام مرتبة على أسلوب طبعتنا (اللمعة الدمشقية).

و أخيرا فإن رجائي إزاء هذا العمل الجليل، و الخدمة الدينية الكبرى:

هو القبول لدى شعلة - و كلهم شموعها - مذهب (أهل البيت) (الإمام جعفر بن محمد الصادق) عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين المعصومين أفضل التحية و السلام.

السيد محمد كلانتر

الجمعة. 4 رجب 1391 ه

ص: 16

كلمة حول الشيخ الأنصاري

لا يسعني المجال أن أشرح حياة (شيخنا الأعظم الأنصاري) قدس اللّه نفسه الزكية...

و ليس باستطاعتي أن أستوفي ترجمته، أو أوفي حقه بما يليق و مكانته لأن اشتغالي بإدارة (جامعة النجف الدينية) - العامرة حتى ظهور (الحجة البالغة) عجل اللّه تعالى له الفرج، و سهل له المخرج - التي تستدعي بذل الفكر الجاد في إدارة شئونها، و لا سيما الأزمة المالية التي أعيش فيها، مضافا الى ما أعانيه من بعض الأمراض المؤلمة التي حرمتني الوقت الكافي، لتصفح سيرته الحافلة بكل ما تعتز به الإنسانية، علما و ورعا و تحرّجا في الدين.

لهذا و ذاك!! فإني استميح من روحانيته المقدسة العفو و العذر من القصور، أو الخلل في هذه الدراسة المتواضعة، حيث أخذت بالمثل السائر:

(ما لا يدرك كله لا يترك جله)

و في المأثور:

(لا يترك الميسور بالمعسور)

و اني بكل اعتزاز و فخر أقدم هذه الدراسة و هي من أثمن ما أتمناه في حياتي الفانية، راجيا أن تسلط بعض الأضواء على حياة (شيخنا الأعظم) الذي قل نظيره في الأجيال الماضية، و القرون الغابرة: من علمائنا الأبرار و فقهائنا العظام.

و أملي: أن يكون فيها رضا اللّه عز و جل، و إعلاء لكلمته العليا

ص: 17

و خدمة خالصة للعلم و رواده، و حافزا للأساتذة و الباحثين على البحث و التنقيب عن حياة (شيخنا الأعظم)، و غيره من علمائنا الفطاحل عطر اللّه مراقدهم.

كما آمل أن تكون لي ذكرى بعد وفاتي، لعلّني أكون ممن عناهم (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله بقوله: (اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح، أو علم ينتفع به الناس).

ص: 18

حياة الشيخ الأنصاري

اشارة

كان (شيخنا الأعظم الأنصاري) نادرة الدهر، و نابعة العصر و مثالا حيا للعلم و العمل، و نبراسا يقتدى به في الاجتهاد، و مرآة جلية للورع و التقوى، و صورة صادقة للأخلاق المحمدية السامية، و مدرسة نموذجية للتربية الاسلامية العالية، و الذي استضاء بنور علمه كل عالم، و لاذ بكنفه كل فاضل، و لا تزال الهيئة العلمية الدينية في (النجف الأشرف) و غيرها في بقية البقاع العلمية الامامية تتغذى بتراثه العلمي في (الفقه و الأصول) منذ أن نبغ و جاء الى الوجود.

ولادته:

ولد طاب ثراه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام 1214 في مدينة (دزفول)(1) من أبوين كريمين أصيلين في الرفعة و الشرف عريقين في الفضل و الأدب.

ص: 19


1- بكسر الدال: كلمة فارسية مركبة من كلمتين و هما: (دز) بمعنى القلعة، و فول معرب (بل) بالباء الفارسية بمعنى الجسر، اي قلعة الجسر ثم سميت المدينة باسم الجسر. و هي مدينة بهيجة ذات نهر كبير يجري من جانبها و عليه جسر ضخم في غاية الاتقان يعد من عجائب الأبنية في دوره. و المدينة هذه واقعة على أرض مسطحة واسعة الجوانب تعد من الإقليم الثالث، هواؤها حار، و ماؤها عذب، و لها نواحي خضرة و فيها بساتين كثيرة ذات فواكه متنوعة. من الرازنج و الأترج، و الليمون بقسميه: الحامض. و الحلو، و لالنكي، و فيها أراضي زراعية يزرع فيها الحنطة و الشعير و الباقلاء، من النوع الجيد الممتاز، و في الوقت الحاضر توجد بها فواكه أخرى. و قد أصبحت هذه المدينة من المدن الواسعة الكبيرة الراقية ذات شوارع و ساحات وسيعة، و كانت و لا تزال من المدن العلمية الشهيرة و فيها المدارس الدينية من القسم الداخلي يسكنها طلاب العلم و رواده. و قد أنجبت هذه المدينة علماء أماجد، و فضلاء فطاحل أصبحوا من أساطين العلم و ركائزه كصاحب المقابيس و شيخنا الأنصاري، و أمثالهما عشرات الأعلام ممن يطول بنا المقام لو ذكرناهم. و كان فيها رجال من أهل السير و السلوك و العرفان الشامخ الرفيع منهم (السيد صدر الدين الموسوي) من بني أعمامنا، و له أيادي شاسعة في هذا الميدان. و أسرة الشيخ استوطنت هذه المدينة منذ عهد قديم، و قسم من هذه الأسرة تسكن في (أهواز و أصفهان، و طهران). و لا تزال فيها الأعلام منهم آية اللّه السيد النبوي الذي هو من أسرة (سادات گوشه) و من بني أعمامنا.

اسمه و اسم أبيه و نسبه:

(الشيخ مرتضى ابن الشيخ محمد أمين الأنصاري)(1).

ص: 20


1- لانتهاء نسبه الشريف الى الصحابي الشهير (جابر بن عبد اللّه) الأنصاري السلمي الخزرجي. أليك موجز من حياته: كنيته: قيل أبو عبد الرحمن، و قيل: أبو عبد اللّه، و قيل: أبو محمد. كان هذا الصحابي الجليل من قدامى صحابة (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله و من أجلائهم، و ممن اختص (بأهل البيت) صلوات اللّه عليهم، و كان من حوارى (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام و خواصه، و كان ممن يفضله على غيره، و شهد معه وقعة (صفين). و شهد غزوة بدر، و قيل: لم يشهد، و شهد غزوات أخرى مع (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله. أدرك جابر (الامام محمد الباقر) عليه السلام و له معه حديث حسن ذكره في (أعيان الشيعة). الجزء 15. ص 174. أليك نصه. قال استاذ العلماء (فخر المحققين الخواجا نصير الدين الطوسى) ما تعريبه: ذهب (الامام محمد الباقر) عليه السلام الى دار جابر بعد أن ابتلى بالضعف و الكبر فسأله عن حاله. فقال: أنا في حال الكبر أحب إليّ من الشباب، و المرض أحب إليّ من الصحة، و الموت أحب إليّ من الحياة. فقال (الامام الباقر) عليه السلام: أما أنا فأحب إليّ الحالة التي يختارها اللّه لي من الشباب و الكبر و المرض و العافية و الحياة و الموت. فلما سمع جابر ذلك أخذ يد الامام عليه السلام فقبلها ثم قال: صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم، فإنه قال: ستدرك ولدا من أولادي اسمه اسمي يبقر العلوم كما يبقر الثور الأرض. كان جابر صريح الولاء (لأهل البيت) عليهم السلام، و شديد الانقطاع إليهم، و كان ينادي بحب علي عليه السلام و يتظاهر به. و كان يتكئ على عصاه و يدور في سكك المدينة و زقاقها و يقول: معاشر الناس أدبوا أولادكم على حب (علي بن أبي طالب) فمن أبى فلينظر في شأن أمه. أدرك جابر (الامام الباقر) عليه السلام كما ذكرنا فبلّغه سلام (جده رسول اللّه) صلى اللّه عليه و آله حينما قال له: يا جابر إنك تدرك (محمد بن علي) فأقرأه مني السلام. و سأل جابر (الامام الباقر) عليه السلام أن يضمن له الشفاعة يوم القيامة فضمن عليه السلام له الشفاعة. و كان جابر من أجلاء المفسرين. و جابر هذا قد صنع وليمة (لرسول اللّه) صلى اللّه عليه و آله يوم حفر الخندق فدعا فيها (رسول اللّه) صلى اللّه عليه و آله فجاء مع أصحابه فأكلوا عن آخرهم. و جابر أول من زار (الامام أبا عبد اللّه الحسين) عليه السلام في يوم الأربعين (1). يوم الأربعين هو مناسبة مرور أربعين يوما على مصرع (سيد الشهداء) ريحانة (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله، و قد قتل صلوات اللّه و سلامه عليه يوم عاشورا العاشر من المحرم الحرام عام 61 فيصادف يوم أربعينه في اليوم العشرين من صفر. جاء جابر من المدينة المنورة قاصدا (كربلاء) لزيارة قبر (الحسين) توفي في (المدينة المنورة) عام 73 بعد عمر جاوز التسعين و قيل إنه آخر صحابي مات. صلى عليه امير المدينة. عليه السلام في السنة الأولى فورد (كربلاء) في مثل هذا اليوم فاغتسل بالفرات و جاء الى القبر الطاهر فدنا إليه و وقع عليه فخر مغشيا فرش عليه الماء فأفاق، ثم قال: يا حسين فبكى ثم قال كلماته المروية في الكتب. و في مثل هذا اليوم في كل عام تأتي الشيعة من أصقاع العراق و البلاد المجاورة لها، و من البلدان الشيعية النائية: الى (كربلاء المقدسة) لزيارة المرقد الطاهر حسب الأحاديث الواردة عن (أهل البيت) في فضيلة زيارته عليه السلام في هذا اليوم. و قد عدت زيارته من علامات المؤمن. قال (الامام الحسن العسكري) عليه السلام: علامة المؤمن خمس: صلاة احدى و خمسين، و زيارة الأربعين، و التختم باليمين، و تعفير الجبين و الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم. راجع (وسائل الشيعة). الجزء 10. ص 373. الباب 56 من أبواب المزار. الحديث 1. و الجزء 3. ص 42. الباب 13 من أبواب الفرائض. الحديث 29. و في الآونة الأخيرة لم تتجاوز مائة سنة أخذت الشيعة تحتفل لتخليد ذكرى هذا اليوم احتفالات هامة فتأتي (كربلاء) بمواكبها من شرق العراق و غربها و قد جاوزت المئات و نفوسها تبلغ نصف مليون و أكثر و تضرب الخيام و الفسطاط، ثم تأخذ في الخروج من ليلة الأربعين الى آخر يومه من مقرها الى الصحن الشريف و معها منتسبوها و هم لاطمون على الصدور، و تصرف المبالغ الباهظة لأجل اقامة الشعائر الإلهية من غير حساب، حيث إن (الحسين) عليه السلام أراق دمه و دم ولده و أصحابه في سبيل ابقاء الدين، و احياء كلمة اللّه العليا فتخليد ذكرى هذا اليوم بهذا الشكل تعظيم للشعائر: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اَللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ ». لكن!! يا حبذا لو كانت هذه المواكب تأتي بصورة منظمة تحت إشراف لفيف من المرشدين العالمين، و عقلاء كاملين من أهل الفضيلة و الثقافة، و ممن يهمه أمر المجتمع الاسلامي و الانساني فيرشدون هؤلاء المجتمع الذين يجتمعون في كل عام: الى التعاليم الاسلامية، و الأحكام الإلهية من البداية الى النهاية ببيان سلس، و كلام عذب، ليتخلقوا بالخلق الفاضل

ص: 21

ص: 22

ص: 23

والده:

أما والده العظيم (الشيخ محمد أمين الأنصاري): فقد كان من أجلة العلماء العاملين، المروجين للدين الحنيف توفي بمرض الطاعون عام 1248 خارج مدينة (دزفول) فشيع جثمانه تشييعا حضره كافة الطبقات و دفن في مكان يعرف اليوم ب: (كاشفية)(1).

ص: 24


1- لاتخاذ العالم الرباني، و العارف الإلهي السيد الشريف (السيد صدر الدين الموسوي) گوشه: هذا المكان معبدا و مصلى له. كان هذا السيد العظيم أحد أعلام العلم و أقطاب العرفان، و من أسرة السادة الشريفة الشهيرة ب: (سادات گوشه) القاطنين في (دزفول) منذ عهد قديم يرجع الى القرن الخامس الهجري حينما ارتحلوا من (المدينة المنورة) و جاءوا الى (العراق)، ثم الى (ايران) و هم و (سادات كلانتر) بنو عمومة، فان (سادات كلانتر) من أولاد (السيد رشيد الدين) و هم من أولاد (السيد صدر الدين الكبير). و للسيد بالإضافة الى مقاماته العلمية: توغله في العرفان الشامخ الرفيع و قد ألف فيه كتبا نظما و نثرا، و له كتب علمية قيمة أخرى بعضها مطبوع. انتقل الى الرفيق الأعلى ليلة 15 شعبان المعظم. عام 1258 و حمل نعشه الطاهر الى (كربلاء المشرفة) و دفن هناك.

والدته

أما والدته العظيمة: فهي بنت العلامة الجليل (الشيخ يعقوب) الأنصاري.

و كانت هذه المرأة الصالحة المؤمنة عابدة تقية، مواظبة على القيام بجميع العبادات من الفرائض و النوافل، مكبة على صلاة الليل و لم تفتها من نافلته ركعة واحدة حتى أخريات حياتها.

قيل: إنها بلغت من الورع و صلابة الإيمان مقاما كانت تؤثر الانصياع للشرع الشريف في كل بادرة من بوادر حياتها.

هذا و قد نقلت عنها بوادر كثيرة تدل على عمق إيمانها.

أليك بادرتين منها:

(الأولى): أنها لم ترضع هذا المولود المبارك طيلة إرضاعها له إلا و هي متطهرة.

(الثانية): أنه كان لشيخنا الأعظم اخ اسمه (الشيخ منصور) من اهل العلم و الفضيلة و كان فقير الحال - كما هي شيمة العلماء - كثير العيال فرقّت عليه والدته فاخبرت ولدها الاكبر شيخنا الأعظم حين أن ألقت الرئاسة الامامية مقاليدها إليه، و اصبح زعيما مطلقا في الأصقاع الشيعية فدعته لمساعدته بأكثر من الرواتب الجارية على روّاد العلم و طلابه التي كان يجريها عليهم (شيخنا الأعظم) حسب احتياجاتهم.

فقالت مخاطبة له: إن أخاك ضعيف الحال، كثير العيال و راتبه المقرر لا يسد مصاريفه اليومية و انت تراه بهذه الحالة و الأموال تحت

ص: 25

تصرفك، و تتمكن من إعطائه اكثر مما تعطي الآخرين.

فلما سمع (شيخنا الأعظم) مقالة أمه ناولها مفاتيح الغرفة التي فيها الأموال قائلا لها بلهجة المؤمن الذي لم يخضع لمنطق العاطفة:

هاك يا أماه مفاتيح الغرفة و افتحيها و خذي من الدراهم البيض، و الدنانير الصفر ما شئت، و ما يكفي ولدك الفقير على أن اكون أنا في حل، و تتحملين انت تبعاته و مسئولياته.

يا أماه إن هذه الأموال التي ترينها مجتمعة عندي هي حقوق الفقراء، و ذوى الحاجات توزع عليهم على حد سواء فكلهم فيها سواسية كأسنان المشط لا تمييز بين أحد و آخر.

يا أماه إن كان لك في الغد جواب عن الزيادة التي تأخذ فيها لولدك فاعملي ما شئت، فإن ورائك حسابا دقيقا فما ذا تصنعين ؟

فزعت الوالدة من هذه الكلمات، و سرت رعدة الخوف من اللّه عز و جل في جميع أوصالها، و علمت أن لها يوما عسيرا، و حسابا دقيقا لا يشابه عالم المادة و الشهوات فرفضت المفاتيح و سلمتها الى ولدها، و تابت الى اللّه تبارك و تعالى من تلك المبادرة التي لم تتدبر عواقبها في بداية الامر و تناست بؤس ولدها الفقير و إملاقه. و اعتذرت منه.

عجبا!! إن المرأة ذات العواطف، مليئة الحنان بأولادها، فهي تبذل كل ما لها من الجهود في سبيل تمشية امور أولادها، و ترفيههم و ترقيهم في المجتمع مهما بلغ الامر، و لا يوقف عن عزمها اي شيء فكيف سلّمت المفاتيح الى ولدها حين أن سمعت مقالة شيخنا البار بأمه ؟

نعم: الامر هكذا، لكن الذي دعاها الى التسليم: هو إيمانها باللّه العزيز، و يقينها بيوم الحساب.

فهنيئا لهذه المرأة المؤمنة التي شعرت في الحال باليوم العسير، و الحساب

ص: 26

الدقيق، و المسئولية الصعبة الخطرة حتى رجعت عما طالبت، و لم تدنس ثوبها بالسحت و الأوساخ، و حطام الدنيا الدنيّة التي تتكالب عليها طلابها.

و بهذه الروح الطاهرة، و الملكات الفاضلة انجبت (شيخنا الأعظم) الذي هو عملاق الفقه و الأصول في الإسلام.

فقد عكف على كتبه و مصنفاته و تحقيقاته كل من نشأ من بعده من علمائنا الأعلام، و فقهائنا العظام الى عصرنا الحاضر، و الأعصار الآتية فهم عيال عليه، و مغترفون من منهله العذب.

و لتكن هذه المرأة المؤمنة الصالحة مثالا صالحا لنسائنا اليوم التي خرجن عن كل قيد، و تركن كل شيء، و نسين يوم المعاد، و كأنهن يقلن بكل صراحة و استهتار: لا جنة و لا نار، و اذا مات الانسان فقد فات فلا حساب و لا كتاب و لا عقاب.

جده لامّه

هو العالم الجليل، (الشيخ يعقوب) الأنصاري رحمه اللّه.

نال من الفضل مرتبة سامية، و درجة عالية، حتى قيل في حقه:

(ما بقي فن إلا و هو خطيبه، و لا غصن إلا و هو عندليبه).

عمه

العالم الفاضل. و الكامل البارع (الشيخ حسين الأنصاري) رحمه اللّه.

نشأته العلمية

نشأ شيخنا في أحضان هذه الأسرة الكريمة التي جمعت بين العلم و العمل و الفضل و الأدب نشأة دينية صحيحة علمية، أعتني به منذ نعومة أظفاره

ص: 27

عناية دقيقة. في تربيته و تعليمه روعي فيهما الجانب الديني و الأخلاقي رعاية بالغة.

و لم يختلط في حياته الفردية و الاجتماعية الا مع أسرته الطاهرة و المقربين إليهم.

فيوما بصحبة ابيه، و حينا بملازمة عمه و اخيه، و تارة بمعية بعض الأخيار.

إلى أن اكتمل رشده، و استقام عوده، و اشتد ساعده، و ظفر بنصيب وافر من العلم، و صار محط الأنظار، و ذاع صيته في الأقطار.

فبدأ في توجيه نفسه بنفسه حسبما يراه صالحا لشأنه، مبالغا في كسب رضا والديه، رغم ما كان يتمتع به من المقام السامي.

و ليست هذه المبالغة و المواظبة في طاعة والديه بعد بلوغه و رشده، و ارتفاع قدره و علو شأنه إلا من آثار تلك التربية الصحيحة التي تلقاها عنهما.

(بيئته):

و البيئة الرشيدة الصالحة احد المقومات للكيان التربوي التي تمد الشخص بالسلوك الحسن، و قد كانت البيئة التي عاش فيها (شيخنا الأعظم) من البيئات الإسلامية الراقية.

و من الطبيعي أن للبيئة و النشأة أثرهما الخاص في سلوك الإنسان و سعادته و شقاوته.

و كم شاهدنا في هذه الفترة القليلة من عمرنا القصير في هذه الظروف المشئومة التي نحن نعيش فيها: جملة من الأحداث المتفاوتة المتباينة التي تركت آثارا سيئة على بعض الأسر و البيوتات، نتيجة للتربية الفاسدة

ص: 28

(دراساته البدائية):

قرأ القرآن الكريم و ختمه على حفّاظه المشهورين في مسقط رأسه، ثم اخذ في تعلم الكتابة و القراءة و أصول الحساب لدى أساتذة الفن، و مهرة الوقت حتى استوفى منها نصيبها، ثم وجه هممه العالية نحو العلوم العربية من النحو و الصرف و البلاغة و العروض بالإضافة الى العلوم العقلية من المنطق و الكلام فاكب عليها و اتقنها فاصبح ذا ملكة يقتدر بها من استخراج قواعدها، و تطبيقها على صغرياتها فبلغ بذلك مرتبة سامية، و درجة عالية و نال فيها أسمى الدرجات فصار من المتضلعين بها، و كتاباه: (الرسائل و المكاسب) اكبرا شاهد على إحاطته بالقواعد العربية، و القوانين المنطقية و الكلامية.

ثم شرع في الأصول و الفقه و لمّا يكمل العقد الثاني من عمره المبارك فاخذ في دراستهما دراسة تفهم و تعمق فحضر بحث بعض الأفاضل من علماء بلدته، فاستفاد منهم حتى نال مرتبة سامية يشار إليه بالبيان. و الوصول الى هذه الدرجة الرفيعة. و هذا يدل على نبوغه المبكر.

و كان جل استفاداته في هذين العلمين على عمه الجليل الفقيه:

(الشيخ حسين الأنصاري) الذي كان من أعلام أسرته، و من أفذاذ بلدته.

أنهى (شيخنا الأعظم) دروسه العالية في الفقه و الأصول على هذا العم النبيل، و بلغ فيهما الدرجة الراقية، و ظهرت له المقدرة العلمية.

لكنه يروم البلوغ الى أقصى مراحلهما، و أسمى مراتبهما كي يصبح مجتهدا مطلقا، و محققا تحريرا، و مدرسا منطيقا فعزم على الرحيل و التغرب عن الأهل و الأولاد و الأوطان في سبيل الوصول الى هدفه الأسنى.

ص: 29

(أسفار شيخنا الأنصاري):

اشارة

(لشيخنا الأعظم) رحلات داخل (ايران) و خارجها فلنشرع بأسفاره الى خارج (ايران).

(السفرة الاولى: العراق)

سافر (شيخنا الأنصاري) بخدمة والده الجليل عام 1232 و هو في (العقد الثاني) من عمره المبارك و قد بلغ 18 عاما: لزيارة مراقد (اهل البيت) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

خرجا من وطنهما و جاءا حتى وردا (كربلاء المشرفة).

كانت (كربلاء) بفضل بركة (الاستاذ الوحيد البهبهاني) احدى المدن العلمية الشيعية الشهيرة، و ثانية العواصم الإسلامية في معاهدها الجبارة المضاهية (للنجف الاشرف) في تقدمها العلمي. و سيرها الدراسي إن لم تفقها. و كانت مكتظة بالفطاحل، و مشحونة بالنوابغ (كالاستاذ الوحيد البهبهاني، و الشيخ يوسف البحراني، و صاحب الرياض، و صاحب الضوابط، و السيد المجاهد، و شريف العلماء)، و أمثال هؤلاء الأساطين الذين ازدهر بهم الدهر، و ابتسم بوجودهم العصر.

تشرف الشيخ بخدمة والده لزيارة (السيد المجاهد) حيث كان زعيم الحوزة العلمية، بالإضافة الى وصية عم الشيخ لهذه الزيارة فوردا مجلس درسه العامر و كان حافلا بالأفاضل فجلس والد الشيخ صدر المجلس قريبا من السيد بامر منه، و جلس (شيخنا الأنصاري) آخره بمقتضى عمره، و ادبه فبعد أن رحّب السيد المجاهد بوالد الشيخ ترحيبا حارا عاد السيد على بحثه الذي كان في جوانب صلاة الجمعة حرمة و وجوبا في (عصر الغيبة)

ص: 30

عجل اللّه تعالى لصاحبها الفرج. ثم الوجوب عيني أو تخييري فدار الكلام نفيا و إثباتا، و طال الحديث و النقاش الى أن ذهب السيد الى الحرمة و اذا (بشيخنا الأنصاري) الذي كان كله سكوت و إصغاء في جميع المجالات و النقاشات أفاد بالوجوب، و اخذ يفيض من الأدلة النقليّة ما أبهر السيد و الحاضرين و أعجبهم حتى مال السيد الى الوجوب بعد أن انهته تحقيقاته العلمية القيمة الى الحرمة.

ثم اخذ في تفنيد هذه المقدمات، و اتى بمقدمات اخرى أدل و أمتن من الأولى على حرمة صلاة الجمعة فازداد تعجب (السيد المجاهد) و الحاضرين، و لا سيما (شيخنا الأنصاري) في العقد الثاني من عمره المبارك و لم يكمل العشرين و قد بلغ ثمانية عشر سنة و هو محيط بجوانب المسألة.

سأل (السيد المجاهد): من هذا الشاب ؟.

فاجاب والده الجليل: إنه ولدى فرحب (السيد) به ترحيب أب عطوف حنون، ثم عقب ذلك الحنان بقوله: اقر اللّه به عينك، ثم قال له: امض الى وطنك بعد أن قضيت وطرا من زيارتك، ودع ولدك هنا للاشتغال و إنهاء دراساته، فإني ارى فيه النبوغ و الوصول الى أسنى مكانة علمية.

و قد حقق اللّه تعالى هذه الفراسة من (السيد المجاهد) في حق (شيخنا الأنصاري) و لم يطل العهد به.

امتثل والد الشيخ ما امره السيد فذهب الى شأنه و ترك ولده في (كربلاء) ليستفيد من غزارة علم السيد، و مناهله العذبة الفياضة فاكب على دراساته ليلا و نهارا بحضوره معهد درسي (السيد المجاهد، و الأستاذ شريف العلماء) حيث كانا زعيمى الحوزة العلمية، إلا أن الاول أشخص و أبرز و له المرجعية العليا فاستمر الحضور الى أربعة أعوام فاستفاد من نمير منهلهما العذب

ص: 31

حتى ظهرت فيه مقدرته العلمية، و مواهبه الفذة. و كانت هذه المواهب تزداد يوما فيوما و الشيخ لازم الاستاذين ملازمة الظل حتى حدثت في (كربلاء) أيام الوالي (داود باشا)(1) فتن و اضطرابات، و دامت هذه المعارك فاضطر العلماء و الفضلاء و الطلاب و اكثر أهالي كربلاء الى المغادرة و الذهاب الى (كاظمين) فكان الشيخ ممن هاجر مع المهاجرين فحل في مدينة الكاظمين.

ص: 32


1- هذه الحادثة تسمى حادثة (ميرآخور) نسبة الى قائد الحملة (سليمان ميرآخور): و هي فارسية مركبة من كلمتين احداهما: (مير) و هو الرئيس. و ثانيتهما: (آخور) و هو الاصطبل. اي رئيس الاصطبل حيث كان سليمان اميرا على اصطبل الحكومة العثمانية في العراق. أليك خلاصة الحادثة بعد أن اغتال (داود باشا) (الوزير سعيد باشا) الوالي على العراق و قتله عام 1234: طمع في استقلال (العراق) لضعف الحكومة العثمانية فرتب جيشا مسلحا حتى استولى على (بغداد) بالعنف و الإرهاب فاصبح واليا عليها فاستتبت له الأمور، ثم استعمل الشدة و القسوة مع أهالي (بغداد) فوضع السيف فيهم فازعجهم و اقلقهم ثم طمع في بقية البلدان العراقية فبسط سطوته و صولته عليها، و لا سيما على (العتبات المقدسة) و الحلة فكاتب أهل الحلة فاجابوه و هم كارهون ولايته فارسل نحوهم جيشا فدخلوا المدينة فجعلوا أعزة أهلها أذلة فقتلوا النفوس، و خرّبوا الدور، و قطعوا الأشجار و النخيل، و هدموا سور المدينة. كان العامل الوحيد في تسلط (داود باشا) على البلاد: إحداث الفتن بين أهالي كل مدينة اخذها لكي يتمكن من السيادة عليها و قد قيل: (فرق تسد) فلما فتح الحلة القى الخلاف بينهم فتم له الاستيلاء عليها بذلك. ثم أرسل (صالح آغا الأندروني) قائم مقاما على (النجف الاشرف) (و فتح اللّه خان) متصرفا على (كربلاء)، ثم اصدر فرمانا اي (مرسوما) بنقابة السيد حسين بن مرتضى آل دراج لأشراف (كربلاء) و أبقى سدانة الروضة المقدسة الحسينية بيد سادنها القديم (السيد محمد علي ابن عباس) آل طعمة، و أبقى سدانة (الروضة المطهرة العباسية) بيد (السيد سلطان بن ثابت) آل ثابت، ثم ارسل خمسمائة جندي لحماية (كربلاء)، إلا أن متصرف اللواء أساء السلوك مع أهالي كربلاء و جرح عواطفهم. و تحدى شعورهم الديني فاخذ من الصحن الشريف ساحة اختصها له و لحاميته ملعبا لهم، مستخفا بالروضة المقدسة، ثم دخل في الإيوان الذهبي بحذائه و لم يجرأ احد على منعه، ثم جعل جواسيس على أهالي كربلاء كانوا يدخلون الدور للتجسس فينهبون ما في الدور فكرر العمل منهم فكثرت الاعتداءات حتى ضاق صدر الأهالي من أعمالهم الهمجية فشكوا و معهم أهالي الحلة و الكاظمية: الى (داود باشا)، و بلغت استغاثاتهم إليه تترى واحدة تلو اخرى. لكن الوالي الجر كسي الذي كان من المماليك و من أهل (تفليس) لم يعتن. و لا أصغى إليهم. و لم يهتم لامرهم، فاخذ النقيب و حاميته بالاعتدءات أشد و اكثر منها في الأول، و قد بلغ من اعتداءاتهم أنهم تعرضوا لاحد أنجال (الملك القاجاري) الذي جاء لزيارة المرقد الطاهر من (ايران) فسلبوا منه جميع ما معه من الأموال و التحف و المجوهرات فاطلع (عبد المجيد خان) الخليفة العثماني على الحادثة فامر حالا بإعدام هؤلاء الأشقياء. لكن المتصرف لم ينفذ الحكم فطلب النقيب و سادن الروضة من المتصرف تسليم الأشقياء و العصاة، و تنفيذ حكم الإعدام بحقهم فرفض المتصرف تسليمهم إليهم فكتب الى (داود باشا) و سعى في حق النقيب و السادن، فاخذ الوالي جانب المتصرف و اتفقا على القضاء على النقيب و السادن. اطلع أهالي (كربلاء) على ما اضمره الوالي و المتصرف للنقيب و السادن فقامت قيامتهم، و ثار الرأي العام في القضاء على المتصرف ففكروا في الانتقام منه فدعوا المتصرف الى وليمة طعام خارج المدينة في احد بساتينها في يوم معين فجاء المتصرف مع جنوده و حاميته و هم مدججون بالسلاح و العتاد، علتهم الخيلاء و الكبرياء، و نشوة الغرور، فنزل المتولي من جواده فجلس في المكان المعد له، ثم جيء بالطعام فاشتغل بالاكل فحمل عليه ثلاثون رجلا من أهالي كربلاء ببنادقهم فاصيب برصاصتين، و اخوه برصاصة فوقعا جريحين على الارض فاخرج المتصرف سيفه فاراد أن يحمل عليهم فلم يمهلوه فحمل عليه رجل فقطع راسه و راس اخيه فاخذ الأهالي راسيهما يطوفون بهما في زقاق كربلاء و أسواقها و شوارعها، فاخذ الجيش في الفرار فذهب قسم منهم الى (بغداد) و اختفي القسم الآخر، و وصل الخبر الى (داود باشا) فارسل رسولا الى (علماء كربلاء) يخبرهم بمغادرتها، لأنه يريد الانتقام من أهاليها و يجعل عاليها سافلها. أساء الخبر العلماء، لأنهم كانوا عالمين أن (داود باشا) سيرتكب ذلك لو اتيحت له الفرص، و ساعدته الظروف بفتح (كربلاء) كما فعل بأهالي (الحلة) فاجتمع العلماء بالفور في دار المرحوم (السيد محمد مهدي الشهرستاني) و استقر رأيهم على ارسال وفد من العلماء الى (داود باشا) للمفاوضة معه و يراسهم (السيد محمد مهدي القزويني) و (الشيخ موسى كاشف الغطاء) فذهبوا الى (بغداد) و اجتمعوا مع (الوالي) فجرت المفاوضات و تم الصلح بينه و بين (الكربلائيّين) بمساعدة الوزير (محمد العجمي) و مساندته، ثم طلب (السيد القزويني) من الوالي سدانة (الروضة المقدسة الحسينية) للسيد (محمد علي آل طعمة) فوافق على ذلك، ثم عين الوالي (على افندي) حاكما على (كربلاء) و فرض على أهاليها بدفع 35000 قران من الفضة ضريبة سنويا، ثم جعل (سادن الروضة) معاونا للحاكم في تمشية أموره و تسييرها، ثم خلع الوالي على سادن (الروضة المقدسة) ب: لقب (چلبي). فكل هذا الشغب و الاضطرابات مما دعت مهاجرة العلماء و الفضلاء و الأهالي من (كربلاء). و كان (شيخنا الأعظم) من المهاجرين الذين خرجوا من كربلاء و ذهبوا الى كاظمين فلم يطل العهد به من المكث هناك حتى جاء بعض الزوار من أهالي مدينته لزيارة العتبات المقدسة، حيث إن الشيعة تزور قبور أئمتهم الأطهار المعصومين في مناسبات زمنية فزاروا العتبات المقدسة عدى (كربلاء)، للاغتشاشات و الفتن الموجودة فيها من قبل (داود باشا) و بعد الزيارة تشرفوا لزيارة (شيخنا الأنصاري) فالتمسوا منه الرجوع الى وطنه فاستجاب دعوتهم و ذهب معهم، و كان الشيخ معززا مكرما طيلة السفر الى أن ورد مسقط راسه. حل الشيخ في بلده (دزفول) و بقي ما يقرب من سنتين مشتغلا بالتدريس و التحقيق، اداء رسالته الخالدة فادى ما كان واجبا عليه.

ص: 33

ص: 34

(السفرة الثانية العراق):

و بعد أن قضى (شيخنا الاعظم) سنتين في مسقط راسه مشتغلا بالبحث و التدريس عاد الى (كربلاء) للاستفادة من زعيم حوزتها العلمية (الاستاذ شريف العلماء) فدخل (كربلاء) بعد معاناة مشاق السفر،

ص: 35

و مرارة الطريق.

ثم بعد التشرف (بالحرم المقدس الحسيني) على مشرفه آلاف الثناء و التحية حضر معهد بحث استاذه (شريف العلماء) فلازمه ملازمة الظل فلم يفارقه حتى استفاد من نمير منهله العذب غاية ما يمكن.

كان (شيخنا الأعظم) ملازما لبحث استاذه فظفر بانشودته الضالة خلال عام واحد يتردد عليه.

ثم عزم (شيخنا الأعظم) بعد بقائه في كربلاء سنة كاملة:

على زيارة مرقد مولانا (امير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام و الانتهال من نمير تلك (المدينة العلمية الجبارة) فدخل (النجف الأشرف) فتشرف لزيارة المرقد العلوي الطاهر، ثم حضر معهد درس فقيه الشيعة (الشيخ موسى كاشف الغطاء) المعبر عنه ب: (المصلح بين الدولتين)(1)

ص: 36


1- وجه تلقيب الشيخ موسى كاشف الغطاء ب: (المصلح بين الدولتين): أنه في أيام (سعيد باشا) الوالي على (بغداد) حدث بين الحكومتين (الإيرانية و العثمانية) حادث سبب إثارة الحرب بينهما. أليك خلاصة الحادث. جاء لفيف من (الايرانيين) لزيارة مراقد (العتبات المقدسة) حسب طقوسهم الدينية، و تقاليدهم المذهبية فلما دخلوا (العراق) حمل عليهم عسكر الأتراك فقتلوا جماعة منهم، و نهبوا أموالهم و أموال الآخرين الذين لم يقتلوا فرجع الباقون الى (كرمانشاه) و كان الوالي عليها (محمد علي ميرزا) نجل (الملك فتحعلي شاه) القاجار، حيث كان هو الوالي على كردستان الايرانية و لرستان، من قبل والده فرجع الباقون من محل الحادث و ذهبوا الى محل الشهزاده و هم يبكون و يصرخون و معهم نسائهم و حرائرهم. سأل الشهزاده عن سبب بكائهم فاخبروه بما أصابهم في الطريق من جند العثمانيين فاستشاط غضبا و زاد تعجبا و قال: يا عجبا نحن تركنا العثمانيين عما فعلوا معنا و عفونا عنهم و هم بعد على جهلهم و ظلمهم و نحن أجدر بالبدءة في التعدي، و أحرى بالإساءة معهم، فهيأ من ساعته جيشا لمحاربة الأتراك. و كانت هذه المعارك لبدامية دوما بين الحكومتين. سمع الوالي بذلك فاعدّ جيشا عرمرما لمحاربة الشهزاده فتوجه نحو خانقين، و توجه الشهزاده نحو خانقين فاشتعلت نيران الحرب بين الجيشين قريبا من خانقين و كان النصر للشهزاده، و أسر من الجيش العثماني و فيهم داود افندي الجركسي الذي صار واليا على بغداد بعد قتل واليها (سعيد باشا) ولي نعمته الذي سمي بعد ذلك داود باشا. اضطرب (سعيد باشا) الوالي و أهالي بغداد، خوفا من مجيء الشهزاده الى بغداد، و وقوع الحرب بينهما فلم يريدا إلا الاستنجاد (بالشيخ موسى) فاستنجد به فكتب هو و أهالي بغداد إليه يطلبون منه الاصلاح بين الدولتين. وردت الكتب على الشيخ فلبى دعوتهم و مسئولهم، حقنا للدماء فكتب الى الملك (فتحعلي شاه القاجار)، والى (الشهزاده) فارسل الكتابين إليهما مع ابن عمه الشيخ موسى الخضر فجاء الشيخ الى ايران و سلم الكتابين فوقعا موضع تقدير و تجليل فجرى الصلح بين الدولتين، فامر الشهزاده بزحف الجيش، و رجع الشيخ مع الممثل الوالي فرحين مسرورين و معهما التحف و الهدايا الثمينة، كما أن الوالي ارسل هدايا و تحف كثيرة للشهزاده و الملك بصحبة الشيخ و الممثل الدبلوماسي. فهذه الخدمة الانسانية لقب شيخنا الفقيه ب: المصلح بين الدولتين. راجع العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية للفقيد الراحل آية اللّه الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء.

ص: 37

فوجده بحرا زاخرا متلاطما دفاقا في الفقه، بصيرا بقوانينه، عالما بمبانيه فاستفاد منه سنة كاملة، أو اكثر، ثم عزم على مغادرة العراق فخرج حتى جاء الى مسقط راسه فحل فيها.

(السفرة الثالثة ربوع ايران):

اشارة

لم يكتف (الشيخ الأنصاري) بما استفاده من بحوثه الفقهية و الأصولية في (النجف الأشرف و كربلاء المشرفة) من أعلامهما و لم يقتصر على معلوماته هذه فحسب فهو يروم الوصول الى الهدف الاسمي فعزم على مغادرة مسقط راسه، و كانت الغاية من سفره هذا التطواف في أصقاع ايران، و التجوال في ربوعها، ليطلع على الحركة العلمية في تلك البلاد، و يجتمع مع رجالات العلم الذين اشتهروا فيها، للاستطلاع على مقامهم العلمي حتى لو كان هناك من يمكن الاستفادة منه لاستفاد كما استفاد من بحوث أفذاذ (النجف و كربلاء) و آرائهم القيمة.

لم يوقف عزمه و ارادته شيء عن سفرته هذه سوى رضى والدته الكريمة التي كانت مقدرة و مكرمة عند الشيخ غاية التقدير و الإكرام، و الشيخ يعلم أن والدته لا ترضى بسفره لو سمعت، حيث فارقته ستة أعوام في سفرتيه الى (العراق) ففكر في كيفية إرضائها فعرض عليها سفره و أنه قاصد خراسان لزيارة الامام الثامن (ابي الحسن الرضا) عليه السلام، فاطلعت والدته الحنون على سفر ولدها البار فأظهرت عدم رضاها بذلك، لعدم

ص: 38

تمكنها من مفارقته ثالثة.

و كان (شيخنا الأعظم) يطلب ضالته، و يسعى جاهدا لتحقيقها فاصر على السفر، و أحلت الأم الحنون على البقاء، لكن الشيخ لم ينثني عن عزمه فحاول إقناعها و إرضائها فاستعمل شتى الوسائل بكل ما لديه من الإمكانيات فلم تقنع و لم ترض فاصرت على بقائه عندها فطال الإلحاح من الشيخ، و كثر الإصرار من الأم، و دام الإلحاح و الإصرار أياما و أسابيع حتى اتفقا اخيرا على إيكال امرهما الى الاستخارة(1) التي هي الطريقة الوحيدة في حل كل مهمة فعزما عليها ب: (القرآن المجيد).

أخذ (الشيخ المصحف الشريف) ناويا ما اراده فقرأ المأثور ثم فتحه و اذا في يمين الصفحة المباركة: (وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ) (2). القصص: الآية 8.

فرح (شيخنا الأعظم) من موافقة الاستخارة لسفره و سر بذلك

ص: 39


1- مصدر باب الاستفعال من استخار يستخير. و معناه: طلب الخير من اللّه العزيز: و هو من متفردات الشيعة الامامية عند ما تكون لهم مهمة لم يعلموا بصلاحها و فسادها، و العقل متحير عندها، لعدم إحاطته بجميع جوانب المصالح و المفاسد: يستخيرون اللّه جل جلاله، لعلمه بالأمور و إحاطته بالمصالح و المفاسد.
2- إن اللّه تبارك و تعالى يحكي (لرسوله الأعظم) صلى اللّه عليه و آله عن نبيه (موسى) عليه السلام بعد أن وضعته أمه فخافت عليه من فراعنة وقتها و أنهم يقتلونه فاوحى إليها بطريق الإلهام و القذف في قلبها: أن لا تخافي منهم من القتل، فاذا خفت عليه القتل فألقيه في البحر و هو النيل و لا تخافي عليه الضيعة، و لا تحزني من فراقه إنا رادوه أليك بالقريب العاجل، و نجعله من الأنبياء و المرسلين.

سرورا بالغا، ثم فسر الآية الكريمة لوالدته الحنون فسكنت روعتها و فرحت بهذه البشارة.

و تفاءلت بالخير و الموفقية الكاملة لولدها من سفره هذا، فإن الآية الكريمة بشرت بمستقبل مشرق (لشيخنا الأعظم)، و قد تحققت هذه البشارة و أصبح (شيخنا الأنصاري) مرجعا دينيا، و زعيما علميا و قائدا روحيا بعد أن القت الزعامة الدينية مقاليدها إليه، و مؤلفا عظيما حيث خلف كتبا عكف عليها و لا يزال رواد العلم و طلابه: و منها هذا الكتاب الذي بأيدينا و نوضحه لك، و نعلق عليه.

استعد شيخنا للسفر فخطر بباله أن يصحب معه أخاه، و عرض الفكرة على اخيه (الشيخ منصور) فاستقبلها بالسرور و الشعف، فاستخار له (بالمصحف) الشريف، و اذا بالآية الكريمة: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ القصص: الآية 39.

أنس (شيخنا الانصاري) بهذه البشارة فاستعد للسفر فخرج مع اخيه من مسقط راسهما متوكلين على اللّه العزيز، قاصدين مدينة (بروجرد) حيث كان فيها احد الأعلام النوابغ، فقطعا تلك الطرق الوعرة، و الجبال الشامخات الناطحات ذات صعود و نزول و التواءات: و هي جبال (لرستان) كل ذلك للحصول على هدفه الاسمي، فبعد العناء دخلا مدينة (بروجرد)(1)

ص: 40


1- بضم الباء مدينة جميلة فرهة من مدن (ايران) ماؤها عذب، و هواؤها رطب، تعد من الإقليم الرابع، واقعة على أرض مسطحة، جوانبها وسيعة، و فيها أسواق و شوارع بديعة، و على سكانها لمحة من الجمال الطبيعي و هم من اهل الحال، و أصحاب الكمال، و فيها بساتين و حدائق كأنها (إرم) ذات العماد، و لها أراضي زراعية إنتاجها حسن جدا، و فيها الصناعات اليدوية البديعة و منها صناعة الورشو على أقسامها، و تعد هذه -

و حلا في مدرستها الدينية(1).

ص: 41


1- - الصناعة وحيدة فيها. و قد اصبحت هذه المدينة ببركة رجال الدين و رواد العلم احد المراكز العلمية الصغيرة في دورها، و لا تزال كذلك. و قد انجبت هذه المدينة رجالا و نوابغ سجلت أسماؤهم في صفحات التاريخ، و في طليعتهم (العلامة السيد بحر العلوم)، و في عصرنا زعيم الطائفة المرحوم (السيد آغا حسين الطباطبائي البروجردي) طاب ثراه صاحب المآثر العلمية، و الآثار العمرانية الخالدة. (منها): مدارسه الدينية في (النجف الأشرف و كربلاء و كرمانشاه) من القسم الداخلي. و منها: مساجده الشامخات في (زاهدان و طهران). و منها: (مسجده الأعظم) في (قم) الذي هو من أعظم المساجد و الذي يضاهي (المسجد الاقصى، و المسجد النبوي) في ضخامته و بنايته الشامخة العالية، و الذي تقام فيه الصلاة خمسة أوقات، و تدرس فيه الدروس الدينية، و تلقى فيه المواعظ و الارشادات و المسائل طيلة السنة. تشد إليها الرجال، و تهافت عليها ذوو الفضل من شتى بلاد (ايران). انتقل الى جوار ربه الكريم عام 1270-1271 في مدينة (بروجرد) و دفن بها.

حط الشيخ و اخوه رحلهما في المدرسة، و بعد يومين زار الشيخ اسد اللّه زعيم الحوزة العلمية في (بروجرد) (شيخنا الأنصاري) و اخاه في المدرسة فتصافحا و تعانقا، ثم دار بينهما الترحيب.

كانت الزيارة مجردة عن البحوث العلمية فلم يقف (الشيخ البروجردي) على مدى علمية (شيخنا الأنصاري)، و لم يكن على معرفة سابقة به فطلب من الشيخ بقائه في (بروجرد)، ليكون مدرسا لولده في مدرسته فاحس الشيخ بذلك فقال لاخيه: أين كتابات دروسك التي القيتها عليك في الطريق هاتها و قدمها للشيخ فجاء بها في ساعته و قدمها للشيخ البروجردي فاخذها و طالعها فاطلع على مدى مقام (شيخنا الأنصاري) العلمي فندم عما قاله للشيخ و اعتذر، ثم اخذهما الى داره و بقيا عنده ثلاثون يوما معززين مكرمين.

ثم عزما على المغادرة و خرجا من عنده قاصدين مدينة (اصفهان)(1)

ص: 42


1- بكسر الهمزة و سكون الصاد و ضم الفاء معرب (سپاهان): و هي كلمة فارسية مركبة من كلمتين و هما: (سپاه) بمعنى الجيش. و (هان) بمعنى المكان اي مكان الجيش حيث كانت ثكنة لاحدى الفرق الجيشية الكبرى (لملوك الفرس) الساسانيين. كانت هذه المدينة الجبارة تعد و لا تزال ثالثة المدن العلمية الاسلامية من حيث أهمية مركزيتها الثقافية. بل هي من أكبر معاهدها، و من أعظم عواصم الأدب الكبرى منذ الفتح الاسلامي، و اعتناق مواطينها للدين الحنيف، و حفلت هذه المدينة بأعظم الرجال، و نوابغ الأعلام. جاء في معجم البلدان ج 1. ص 273: (و خرج من اصبهان من العلماء و الأئمة في كل فن ما لم يخرج من مدينة من المدن:... و قد فشا فيها الخراب في هذا الوقت و قبله في نواحيها، لكثرة الفتن و التعصب بين الشافعية و الحنفية، و الحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الاخرى و أحرقتها و خربتها لا يأخذهم من ذلك إل و لا ذمة!). و لنعطيك نموذجا من تلك الفتن المدمرة نورد موجز ما اشار إليه ابن ابي الحديد الشافعي في شرح نهج البلاغة. قال في ج 8 ص 237 عند كلامه على خروج التتر، و تدميرهم البلاد الاسلامية و قد عاش في تلك الكارثة العظمى و عاصرها: (و لم يبق لهم إلا اصبهان، فإنهم نزلوا عليها مرارا سنة سبع و عشرين و ستمائة و حاربهم اهلها، و قتل من الفريقين مقتلة عظيمة و لم يبلغوا منها غرضا. حتى اختلف اهل اصبهان في سنة 633 و هم طائفتان: حنفية. و شافعية و بينهم حروب متصلة، و عصبية ظاهرة. فخرج قوم من أصحاب الشافعي الى من يجاورهم و يتاخمهم من ممالك التتار فقالوا لهم: اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم!... فنزلوا على اصفهان في سنة ثلاث و ثلاثين المذكورة و حصروها فاختلف سيفا الشافعية و الحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم، و فتحت أبواب المدينة فتحها الشافعية! على عهد بينهم و بين التتر أن يقتلوا الحنفية و يعفوا عن الشافعية، فلما دخلوا البلاد بدءوا بالشافعية فقتلوهم قتلا ذريعا و لم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائر الناس و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى و نهبوا الأموال، ثم أضرموا النار فاحرقوا (أصبهان) حتى صارت تلولا من الرماد) انتهى. و قد ساعد على أهمية هذه المدينة عوامل تاريخية و جغرافية ليس هنا محل ذكرها، و قد عظمت منزلتها الدينية عند (الطائفة الامامية) منذ أن حلت فيها: (الدولة الصفوية) و اتخذتها عاصمة لهم فهي من اغنى المراكز الثقافية العالية الراقية، و منها صدرت الدورات العلمية و أعظمها: (حلية الأولياء): (المعجم الكبير للطبراني): (بحار الأنوار): في علوم (أهل البيت الأطهار). هذه الموسوعة الجبارة التي تعد من أعظم الكتب الاسلامية المؤلفة لحد الآن، و الحاوية لشتى علومها فبالأحرى أن يقال لها: (دائرة المعارف) و قد انجبت هذه المدينة الجبارة المئات من الأفذاذ أمثال (شيخنا البهائي) الذي بفضله نشرت على العالم تعاليمه القيمة، و إرشاداته الثمينة هذه آثاره الخالدة، و خرائطه الجبارة التي تبهر العقول، و التي تشع على الدهور يأتي شرح حياته في أعلام المكاسب. و هذا مولانا (الشيخ عبد اللّه التستري) مؤسس الحوزة العلمية في (اصبهان)، و صاحب المدرسة المعروفة فيها باسمه. و هذا المجلسي الاول، و المجلسي الثاني مؤلف البحار و عشرات الكتب. و هذه مساجدها الشامخة: (مسجد شاه، مسجد الشيخ لطف اللّه المسجد الجامع، مسجد السيد) و غيرها من عشرات المساجد. و هذه مدارسها العالية كأنها صرح ممرد من قوارير: (المدرسة السلطانية. مدرسة الصدر. مدرسة نادر شاه. مدرسة ملا عبد اللّه. مدرسة باقلعه، و غيرها من المدارس الدينية. و هذه بناياتها التاريخية الأثرية التي امتازت بهندستها، و التي تدهش العقول. كل هذه بفضل بركة (الدولة الصفوية) و ملوكها الذين لهم (القدح المعلى) في تأييد المذهب. و إليهم يرجع الفضل الاكبر في نشره و تشجيع العلم و التأليف، و تعظيم الشعائر، و تشييد الجوامع، و تخليد المآثر و بناية المدارس، و تشجيع العلم و رواده، و ترويج العلماء و تكريمهم و تقديمهم على كافة الطبقات، و إعطائهم مشيخة الاسلام، و مناصب الوزارة و المصاهرة معهم، و غير هذه مما يعلي شأنهم في المجتمع.

ص: 43

ص: 44

حط الشيخ و اخوه رحلهما في احدى الخانات المعدة للقادم و المسافر و كان الزعيم الديني و العلمي في (اصبهان) يوم ذاك: الفقيه العظيم السيد الشريف السيد محمد باقر الشفتي الملقب ب: (حجة الاسلام الرشتي)(1)

ص: 45


1- كان هذا السيد الجليل من مفاخر علماء الشيعة و نوابغها. أنهى دراساته البدائية و المتوسطة و قسما من الفقه و الأصول الراقي في (اصبهان)، ثم غادرها قاصدا (العتبات المقدسة) لإنهاء دراساته العالية لدى أساطين العلم، و جهابذة الفضل فحل في (كربلاء) فتتلمذ على (الاستاذ الاكبر الوحيد البهبهاني) فاستفاد من علمه الجم، و من بحره المتلاطم، ثم بعد وفاته تتلمذ على السيد بحر العلوم و صاحب الرياض و كاشف الغطاء حتى برع في الفقه و الأصول. و كان (سيدنا المترجم) له القدح المعلى في الحكمة و الفلسفة و الكلام و الحديث و الرجال و الرياضة، و الهندسة و العلوم الغريبة. و الخلاصة: أنه كان مثالا للفضيلة. ثم إن للسيد ميزة خاصة على بقية رجالات الدين في عصره: و هو تصلبه في تنفيذ أحكام الدين، و اقامة الحدود الشرعية على الجناة و المجرمين كان (سيدنا المترجم) كثير العبادة، ملتزما بالنوافل، مترنما بالأدعية و الأذكار، قائما في الأسحار، يناجي ربه في آناء الليل و أطراف النهار. له مؤلفات نافعة جيدة ليس هنا محل ذكرها. لبى نداء ربه الجليل فانتقل الى الرفيق الأعلى عام 1260 في (اصبهان) و دفن هناك في مقبرة هيأها لنفسه و هي بجنب مسجده المعروف باسمه (مسجد السيد).

كانت غاية (شيخنا الأنصاري) من سفره الى (اصبهان):

هو الوقوف على مدى علمية (السيد)، و كان للسيد معهد درس فحضره (شيخنا الأنصاري) متنكرا و الحفل مكتظ بالأفاضل، مملو بالفطاحل و السيد يلقي عليهم البحوث الفقهية و الأصولية، و كان البحث في جوانب مسألة فقهية غامضة فدار الحديث بينهم، و كثر القيل و القال فيها و كل أفاد حسب معلوماته، ثم أفاد السيد و أورد شبهة على مباني المسألة و مداركها و أراد الجواب من أفاضل حوزته.

لم يوفق أحد للجواب و السيد مطرق راسه و يريد منهم الجواب و الحل.

كان (شيخنا الأنصاري) آخذا جانب السكوت و الإصغاء الى كلمات السيد و تلامذته فالتفت الى أحد الجالسين بجنبه الذي كان من أهل الفضيلة بهدوء و وقار من غير أن يلفت أنظار الآخرين فقال: هذا جواب اشكال السيد، ثم شرع في الجواب حسب رايه الصائب، و الرجل الفاضل يصغي إليه بإمعان فاستحسنه منه فخرج (شيخنا الأنصاري) من فوره من المجلس ثم أخذ الرجل الفاضل يقرر جواب الشيخ (للسيد الاستاذ) فأصغى السيد الى الجواب الى أن أنهاه فأعجبه و تعجب منه فسأل التلميذ: من أين لك هذا الجواب ؟

حيث إن السيد يعلم أن الجواب فوق مستوى ذلك التلميذ فلم يبين التلميذ حقيقة الامر، فأصر السيد و أراد منه حقيقة الامر.

لم ير التلميذ بدا إلا الاعتراف بالواقع فحكى واقع الامر فسأل السيد عن اسم الرجل فقال التلميذ: ما سألته، فالتفت السيد بذهنه الوقاد أن الجواب صدر من ناحية الشيخ، لاشتهاره بالفضيلة و المقدرة العلمية عند السيد

ص: 46

و الأوساط العلمية فأمر السيد بعض أصحابه بالفحص عنه في الفور فذهب من ساعته ليسأل عن المجيب و اذا هو بالمكان الذي وصفناه لك آنفا فجاء فاخبر السيد فقال السيد له: اذهب و أخبره بذهابنا إليه في هذا اليوم فذهب و أخبره بذلك فاعتذر الشيخ عن تشريف السيد قائلا: إن السيد من حقه أن يزار، لأنه زعيم ديني و علمي له مكانته السامية في الاجتماع.

جاء الرسول فاخبر السيد بمقالة الشيخ و ما جرى بينهما.

فقال السيد: الواجب علينا زيارته فجاء مع لمة من تلامذته الأفاضل و اذا بالشيخ و اخيه متوجهان الى دار السيد فالتقيا في الزقاق، و تعانقا في الطريق حسب الدستور الاسلامي، حيث إن المقرر فيه عند ما يجتمع الأخوان أن يتعانقا و يتصافحا، ثم تبادلت بينهما كلمات الترحيب و التحبيب فاعتذر الشيخ قائلا: إن وظيفتنا زيارتكم و التشرف بخدمتكم، فاجاب السيد إن الواجب علينا زيارتكم.

اجل!! هكذا كان شأن رجال الدين و زعمائه الأخيار، فإنهم لا يرون لأنفسهم ميزة خاصة على الآخرين مهما بلغوا من المقام، و نالوا من الجاه و لعمر الحق: إن هؤلاء هم المعنيون في قول الامام الصادق عليه السلام:

(من كان من الفقهاء حافظا لدينه، صائنا لنفسه، مخالفا لهواه، مطيعا لامر مولاه فللعوام أن يقلدوه):

و لعمرك: إنهم كانوا مخالفين لهواهم، مطيعين لامر مولاهم، فهذه و تلك نالوا المراتب السامية، و الدرجات العالية، و الرئاسة الإلهية.

إن (السيد) زعيم ديني و علمي و له مكانته المرموقة في الأوساط العلمية، و السلطات الزمنية، و المجتمعات الدينية فمن حقه أن يزار.

و (الشيخ) قادم، و لكل قادم كرامة، و من جملة إكرامه:

إعزازه بأن يزار، بالإضافة الى أن زيارته إدخال السرور في قلبه و هو

ص: 47

من المستحبات الأكيدة و قد حث عليه الشرع فالسيد ادّى وظيفته الشرعية و الشيخ أتى بالواجب العرفي فكل جاء ليزور صاحبه.

اضف الى ذلك: أن كل واحد منهما لا يرى لنفسه ميزة حتى يزار أولا، ثم يرد عليه الزيارة.

و هذا هو نكران الذات.

اخذ السيد الشيخ و اخاه الى داره ليحلاّ ضيفين عنده فاحسن ضيافتهما فبقيا عنده شهرا كاملا فاستمرت المحاورات العلمية، و البحوث الفقهية بين (السيد و الشيخ) ليل و نهار طوال أيام إقامته عند (السيد) و كانا يخوضان في المسائل الأصولية و الفقهية، و دام البحث بينهما.

كان (السيد) معجبا بآراء الشيخ الرصينة، و بكثرة إحاطته و طول باعه فألف بالمحاورات فيما بينهم، و أنس به فرغب في بقاء (الشيخ) عنده فسأله عن سبب مجيئه.

فقال: قاصدا زيارتكم، فقال (السيد): هلا بقيتم هنا.

فقال (الشيخ): إن لنا دويرة في بلدتنا لا بدّ لنا من الرجوع إليها.

فاجاب (السيد): إننا نتمكن من تهيئة دار لكم هنا.

فقال (الشيخ): إن الوالدة بالانتظار و لو اردنا البقاء في (ايران) لاخترنا (اصفهان).

كان الشيخ و اخوه في دار السيد و في ضيافته مكرمين معززين شهرا كاملا، ثم عزما على مغادرة (أصبهان) فخرجا منها قاصدين مدينة (كاشان).

كانت الغاية من سفر (شيخنا الأنصاري) الى هذه المدينة:

الاستطلاع على مدى علمية (المولى النراقي)(1) الذي كانت له الشهرة العلمية في أوساطها في الأصقاع الشيعية.

ص: 48


1- هو الفقيه الأعظم، و الفيلسوف الأكبر، و الحكيم المتأله، موسوعة الفضائل أحد أقطاب العلم و أساطينه في القرن الثالث عشر: (المولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي) أعلى اللّه درجاتهم، و رفع في الخلد مقامهم. ولد في قرية (نراق) من قرى (كاشان). و كاشان احدى مدن (ايران) واقعة بين (قم و أصفهان) كانت و لا تزال من المدن العظام في (ايران)، و كانت عامرة أيام (الدولة الصفوية) أكثر مما هي الآن و قد بلغت من عمرانها أن عدت من أهم بلاد ايران و كان فيها المعامل اليدوية المدهشة للعقول. منها: معمل الحرير الذي يعد إنتاجه من أجود الحرير العالمي و كان يحمل الى البلاد. و منها: معمل السجاد و سجاده من أرقى نوع السجاد الايراني و قد بلغ من جودته أن الطبقات العالية و المتوسطة تلج بذكره و تقول: (السجاد الكاشاني) و من عجيب أمر هذه المدينة أنه لا يوجد فيها بطال كلهم من أهل الحرف و الذوق. لهم أعمال يدوية أخرى منها: (صناعة الصفر) فإنهم يصنعون منه الظروف و الأواني البديعة قل نظيرها في بقية البلدان. و جوانب هذه المدينة مفتوحة و فواكهها من النوع الجيد و لا سيما البطيخ و الرمان و التين و العنب. أنجبت هذه المدينة أعلاما و أفذاذا ممن رجالات العلم كمولانا النراقي و أبيه، و مولانا الفيض الكاشاني صاحب المؤلفات القيمة. تأتي الإشارة الى حياته عند ما يذكر عنه الشيخ أقوالا في التنجيم، و غير هؤلاء الجهابذة. دراساته البدائية: أخذ أوليات دراساته في مسقط رأسه، ثم شرع في العلوم العربية من الصرف و النحو و الفصاحة و البلاغة هناك حتى أنهاها و برع فيها. ثم أخذ في المنطق و الرياضيات و الهيئة و الفلكيات لدى أساتذتها المعروفين من مهرة العصر فبلغ فيها مرتبة رفيعة، و درجة عالية قل نظيره في أقرانه و هو في حداثة من العمر. ثم بدأ في الفقه و الأصول، و الحكمة و الكلام و الفلسفة عند والده العظيم صاحب المآثر الخالدة، و المؤلفات النافعة علامة زمانه الذي هو أحد (المهادى الأربعة من الأعلام): (المولى محمد مهدي النراقي و السيد محمد مهدي بحر العلوم، و السيد محمد مهدي الشهرستاني و الميرزا مهدي الخراساني): فأكمل دراساته العالية لدى هذا العملاق و أنهاها حتى ظهرت فيه مقدرته العلمية، و بلغ مرتبة رفيعة. لكن الشاب الطموح يروم أمنى المراتب، و أعلى المعارج، حيث إن منهوم العلم لا يشبع مهما بلغ و وصل فعزم على مغادرة بلاده، و الرحيل الى العراق للاستفادة من أعلام عاصمة العلم و أساطين (الجامعة الكبرى) (في النجف الأشرف)، حيث كانت المعهد الأعلى للدراسات العالية منذ أن اتخذها (شيخ الطائفة) عاصمة لها فجاء حتى دخل (النجف الأشرف) و بعد التشرف (بالحرم المطهر العلوي): حضر معهد درس الفقيه الأعظم (الشيخ جعفر كاشف الغطاء، و العلامة السيد بحر العلوم) فاستفاد من منهليهما العذب الفياض مدة تشرفه هناك حتى نال مرتبة عظيمة في الفقه و الأصول، ثم ذهب الى كربلاء المشرفة) التي كانت ثانية العواصم العلمية بعد أن أوجد حركتها (الأستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني) فحضر مجلس (الأستاذ الأكبر، و السيد ميرزا مهدي الشهرستاني) و استفاد منهما حتى بلغ مرتبة قيل له بعد أساتذته: إنه (أحد أقطاب العلم) الذين يشار إليهم فرجع الى بلاده و حلّ في (كاشان) فاجتمع عنده الأفاضل فاستفادوا من نمير منهله العذب. كان (للمولى النراقي) بالإضافة إلى علمي الفقه و الأصول باع طويل في الحكمة و الفلسفة الإلهية و الرياضيات و الفلك و الأدب و الشعر. و له الاطلاع الواسع في الأديان. و خلاصة القول: أنه كان مثالا للعلم، و مرآة كاملة للفضيلة، و أصبح مفخرة من مفاخر الطائفة، و عبقريا من عباقرها. تلامذته: ربى بدوره تلامذة أفذاذا يفتخر الدهر بهم و يكفيه فخرا: أن (شيخنا الأنصاري) أحد تلكم النوابغ، و لا يسعنا المقام ذكر أسمائهم فنكتفي بهذا التلميذ العملاق (الشيخ الأنصاري) عند ذكر أساتذته. مؤلفاته: (للمولى النراقي) مصنفات جيدة قيمة قد استفاد منها الفطاحل و لا يزال علماء الطائفة عاكفين عليها. «منها»: (مستند الشيعة) في أحكام الشريعة و كتابه هذا يعطينا دروسا كاملة عن مدى تبحره في الأحكام، و تسلطه على فروع المسائل و مداركها، و غزارة علمه، و طول باعه. «و منها»: (عوائد الأيام) و الكتاب هذا عديم النظير في بابه و موضوعه، بل ليس له مثيل عند علمائنا الأعلام مع كثرة تصانيفهم و تآليفهم. «و منها»: (سيف الأمة). و الكتاب هذا رد على الرجل المسيحي (بادري) الذي دخل بذي رجال الدين، ثم حضر المعاهد العلمية التي تتشكل في المدارس الدينية و المساجد و طال حضوره زمنا لا يقل عن عشرة أعوام، و كانت الغاية من حضوره الحلقات الدراسية: الاستفادة من المعارف الاسلامية لعله يتمكن من الرد على الإسلام، ثم بعد أن قضى وطره خرج عن زي رجال الدين و رجع إلى دينه السابق و زيه كما كان عليهما من قبل فسود أوراقا أورد فيها بزعمه الباطل طعونا في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه. فالكتاب هذا رد على ذاك الطعن المزعوم. و لعمر الحق: (إن المولى النراقي) قد أتعب نفسه الشريفة بتأليفه هذا الكتاب النفيس فقد جمع من المصادر المهمة من كتب اليهود و النصارى الشيء الكثير لموضوع بحثه حتى رده بأسلوب بديع، و بكلام سلس رصين فشكر اللّه سعيه، و أجزل مثوبته. «و منها»: أسرار الحج. «و منها»: أساس الأحكام. «و منها»: عين الأصول. «و منها»: مفتاح الأحكام. «و منها»: الخزائن على غرار مشكلات العلوم لوالده العظيم و الكتاب هذا كمخلاة شيخنا البهائي. «و منها»: رسالة في مبحث اجتماع الأمر و النهي. «و منها»: معراج السعادة على غرار (جامع السعادات) لوالده العظيم في علم الأخلاق. و قد وفقنا اللّه تعالى لتصحيح (جامع السعادات) و التعليق عليه و طباعته طباعة أنيقة على الطراز الحديث ذات أسلوب بديع في ثلاثة أجزاء متناسقة، و عليه مقدمة نفيسة جدا لزميلنا المكرم العلامة الحجة (الشيخ محمد رضا المظفر) أعلى اللّه مقامه عميد كلية الفقه و مؤسسها. و قد طبع إلى الآن خمس مرات نفدت نسخها، و سيطبع إن شاء اللّه أكثر من عشرات المرات. و أما كتاب (معراج السعادة) فقد طبع عشرات المرات و هو باللغة الفارسية يبحث عن علم الأخلاق، و هو مؤلّف عظيم في بابه فقد رتب المؤلف فيه جميع المواضيع التي تخص تزكية النفس و تصفيتها، و ذكر في قبال كل فضيلة ما يضادها من الرذائل، و بين علاجها و طرق مكافحتها و قد وقع الكتاب موضع إقبال و اهتمام (الأمة المسلمة الإيرانية) و من يتكلم بلغتهم لتأثيره العميق في النفس الأمّارة و تهذيبها، و سوقها إلى الأخلاق الفاضلة و المثل العالية، و الملكات الحسنة، و إماتة ميولها السبعية، و مشتهياتها الحيوانية و تسلم عنانها، و التسلط على زمامها لأن النفس لامّارة بالسوء إلا ما رحم ربي. فقد أثر الكتاب على كثيرين ممن درسوه، و هذبوا أنفسهم و أصبحوا يمثلون الأخلاق الفاضلة و هم قدوة للآخرين. و ممن أثر الكتاب فيه أثرا عميقا صديقنا المكرم الأخ في اللّه صاحب هذه المؤسسة الإنسانية الخالدة: (جامعة النجف الدينية) التي أنفق على إنشائها بهذا الشكل الرائع الجميل كأنها صرح ممرد من قوارير من خالص ماله الحلال من غير ملل و لا سأم قربة لوجهه الكريم المقدس لا يبتغي سوى رحمته الواسعة. و قد انجبت هذه المؤسسة و للّه الحمد منذ افتتاحها عام 1382 ليلة (مبعث الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله إلى ليلتنا هذه ليلة السبت الثالث من المحرم الحرام 1392: عشرات الأفاضل من مختلف البلاد و رجعوا إلى بلادهم للإرشاد و التوجيه الصحيح، و قد وفقوا بحمد اللّه لذلك. هذا بالإضافة الى نشرها العشرات من الكتب النافعة أخلاقا، فقها أصولا، تفسيرا. هذه دورتها الثمينة: (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) في عشرة أجزاء بالطبع الحسن الجميل المزينة بالتعاليق و الشروح. هذه دورتها القيمة: (المكاسب) الذي بأيدينا و سيخرج قريبا إلى عالم الوجود إن شاء اللّه تعالى. نعم أشاد هذا المحسن الغيور المؤمن باللّه هذا الصرح الشامخ في سبيل إعلاء كلمة اللّه و إحياء شريعة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله فحسب كما قال شخصه الكريم دام توفيقه و فضله: إني بنيت هذه المؤسسة سوف يخرج منها من يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: كذا، و قال: كذا و قال: كذا. عود على بدء: و (للمولى النراقي) كتب اخرى تركنا ذكرها خوفا من الإطالة و الخروج عن الموضوع. وفاته: لبى نداء ربه الجليل وافدا على مولاه الكريم ليلة الأحد الثالث و العشرين من ربيع الثاني عام 1245 بمرض الوباء، و حمل جثمانه الطاهر بعد اقامة الفواتح الى (النجف الأشرف) فدفن في الصحن الشريف خلف (القبر المقدس العلوي) بجنب والده العظيم في الإيوان المواجه (للباب الطوسي) تقريبا. كرامة ظاهرة: يقول أحد تلامذة (المولى النراقي) و هو صادق في مقالته: صادف نقل الجثمان الطاهر للاستاذ أيام الحر الشديد و من شدة الحر نزلنا في بعض المنازل للاستراحة فاخذني القلق الزائد، و الارتباك المدهش، خوفا من تفسخ الجثمان و تعفنه، ثم انتشار الرائحة الكريهة. و لكن: و ما حيلة المضطر إلا ركوبها:؟ ثم أخذنا في السير حتى جئنا (النجف الأشرف) و بعد حفر القبر و اخراج الجثمان من التابوت لم نشم إلا الرائحة الطيبة المعطرة، و الجثمان الطاهر كأنه لميت من ساعته. مع أن حمل الجثمان من (كاشان) الى (النجف الأشرف) قد استغرق زمنا جاوز الشهر الواحد. و هناك حكاية أخرى وقعت في عصرنا نقلها لي بعض الثقات و هي: أن (الحكومة العراقية) أخذت في عمارة أسس الرواق المطهر بعد أن تضعضعت و أشرفت على الخراب فحفروها شيئا فشيئا و بنوها بالحديد و الاسمنت و الطابوق المستخرج الى أن وصل البناء قرب مدفن (المولى النراقي و والده العظيم) فحفروه و اذا بجثتين رطبتين وجدتا تحت الصخرة التي فوقهما و عليها اسمهما كأنهما ماتا من يومهما و أقبرا من ساعتهما و لم يبدوا عليهما أي تغير و فسخ. فسبحان القادر على كل شيء. أجل: هكذا يصنع اللّه جل و علا بعباده الصالحين الأبرار المخلصين الأخيار كما صنع بأصحاب الكهف.

ص: 49

ص: 50

ص: 51

ص: 52

ص: 53

ص: 54

ص: 55

ورود الشيخ معهد درس المولى النراقي

ورد الشيخ و أخوه مدينة (كاشان) بعد تجرع الطريق، و معاناة السفر، و حلا في احدى مدارسها العلمية الدينية فلم يطل العهد (بشيخنا الأنصاري) في المدرسة حتى زار (المولى النراقي) حيث كان شغفا لزيارته.

دخل (الشيخ) على (المولى النراقي) في معهد درسه الشريف فعرّفه نفسه فأكرمه (المولى) و عظمه غاية الاكرام و التعظيم.

كان (المولى النراقي) حينما ورد عليه الشيخ يبحث عن إحدى المسائل الفقهية الغامضة فبعد الترحيب عاد فيها كما بدأ و الشيخ قد أخذ جانب السكوت.

لكنه مصغ الى كلماته بدقة و إمعان فوجد ضالته عند (المولى النراقي) فأخذا في البحث عن المسائل المتنوعة فقها و أصولا، و فلسفة و كلاما و دار الحديث بينهما، و خاضا فيها و الشيخ أنس بها حتى طال الكلام و كثر النقاش، و دام الحوار بينهما ساعات «و المولى النراقي» يفيض على الشيخ، و ينحدر منه الفقه و العلم كالسيل و الشيخ كله سكوت و إصغاء بدقة و إمعان، مستفيدا من بحره الفياض، و علمه الزخار.

و قد عرفت أن الغاية من تجوال الشيخ في ربوع «ايران»: هو الاستطلاع على الحركة العلمية عند رجالاتها الذين اشتهروا في تلك الأصقاع

ص: 56

فعند ما تشرف بخدمة هذا العالم الإلهي، و العارف الرباني و وجد ضالته عنده و رأى مؤهلات الاستفادة فيه موجودة فمن الطبيعي أن يحط رحله و يختار المقام عنده ليستفيد من نمير منهله العذب الفياض.

بقي الشيخ في (كاشان) أربعة أعوام مستفيدا من نمير منهل استاذه (المولى النراقي) متواليا و لم يفته يوم واحد أيام دراسته حتى استكمل مدته و استوفى طعمته.

و لعمر الحق قد استفاد من علمية هذا العملاق: ما لم يستفد ممن قبله و من هنا يعلم مدى تبحر الاستاذ في العلوم و غزارته في الفقه و الأصول فإن (شيخنا الأنصاري) بعد تتلمذه على الاستاذين (السيد المجاهد و شريف العلماء)، و بلوغه أسنى مراتب الاجتهاد حل في (كاشان) ليرتوي من هذا البحر الزخار المتلاطم عند ما وجد ضالته.

و هذا دليل على أعلمية (المولى النراقي) من الاستاذين.

و أما في العرفان الإلهي فقد كان حامل لوائه و كان ذا حظ وافر فيه فقد بلغ قمته.

عزم الشيخ بعد أن بلغ أقصى مناه على مغادرة (كاشان) فاستجاز أستاذه العظيم فشق ذلك على الأستاذ، لأنه به، و بمحاضراته العلمية.

و (لشيخنا الأنصاري) مواهب إلهية لأجلها كان يقدره أستاذه و يصعب عليه مفارقته.

و قد بلغ من تقدير الاستاذ لهذا التلميذ أن قال في حقه كلمته القيمة الثمينة: و لقد شاهدت في جميع أسفاري أكثر من خمسين مجتهدا مسلّم الاجتهاد فلم أر أحدا منهم (كالشيخ الأنصاري) في غزارة علمه، و كثرة فضله، و طول باعه.

لم ير (الأستاذ) بدا من أن يجيز تلميذه في المغادرة فأجاز له

ص: 57

ثم استجاز (شيخنا الأنصاري) من استاذه العظيم في رواية الأحاديث المروية عن (العترة الطاهرة)، حيث جرت عادة رجال العلم و روّاده منذ عهد قديم بعد وصولهم إلى أسنى مراتب الاجتهاد: الاجتهاد الذي يحصل به ملكة الاستنباط، و قوة الاستخراج: أنهم يجاز لهم من قبل أساتذتهم بشهادات في استنباط الأحكام، و رواية الأخبار الشريفة المدونة في الكتب الأربعة (الكافي، من لا يحضره الفقيه، التهذيب، الاستبصار) و غيرها من الكتب المعتبرة عند الامامية، كما أن في عصرنا الحاضر تلامذة الجامعات في عواصم البلاد العالمية، و لا سيما الجامعات الكبرى بعد وصولهم الى دراساتهم، و اختصاصهم بعلم من العلوم: يأخذون الشهادات من الجامعة التي يدرسون فيها، و تسمى هذه الشهادة ب: (شهادة دكتورا، پرفسور الاستاذ).

أجاز (المولى النراقي) لتلميذه البار البالغ أسنى مراتب الاجتهاد اجازة وافية كاملة قل نظيرها، حتى أن هذه الإجازة تعد لدى التحقيق و التدقيق من أعظم الإجازات و الشهادات.

و نحن نورد نص الاجازة حرفيا لدواع هناك.

و لعلك أيها القارئ النبيل تلتفت إليها بذهنك الوقاد و هي:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم) الحمد للّه الذي نور قلوبنا بأنوار المعرفة و الدراية، و أوضح لنا سبيل الرشد و الهداية.

و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا محمد منقذ الأمة من الضلالة و الغواية صلاة لا غاية لها، و لا نهاية.

و على آله المعصومين الذين كملت بهم دائرة الولاية، و بقائمهم قامت القيامة.

ص: 58

و بعد فيقول المحتاج إلى عفو ربه الباقي (أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي)، بصّره اللّه بعيوب نفسه و جعل غده خيرا من يومه، و يومه خيرا من أمسه:

إن من منن اللّه سبحانه على العباد: أن سهّل لهم سبيل الرشاد و أبان لهم طريق السداد، فجعل لحفظ دينه و إحكامه علماء مستحفظين لشرائعه و أحكامه حتى صار يتلقف الخلف عن السلف ما استودعوا من علوم (أهل بيت العصمة) و الشرف، حفظا لها من الضياع و التلف.

فكم من متغرب عن وطنه لطلب العلى، و نازح عن سكنه و مسكنه لنيل المنى، و رحلة قد جاب البلاد و تلقى من أفواه الشيوخ ما بلغهم من مشايخهم عن سادات العباد فلله درهم، إذ عرفوا من قدر العلم ما عرفوا، و صرفوا إليه من وجوه هممهم ما صرفوا.

و كان ممن جد في الطلب، و بذل الجهد في هذا المطلب، و فاز بالحظ الأوفر الأسنى، و حظى بالنصيب المتكاثر الأهنى، مع ذهن ثاقب و فهم صائب، و تحقيق دقيق، و درك غائر رشيق، و مع الورع و التقوى و التمسك بتلك العروة الوثقى البارع النبيل، و المهذب الأصيل، و الفاضل الكامل و العالم العامل حاوي المكارم و المناقب، و الفائز بأسنى المواهب، الألمعي المؤيد و السالك من طرق الكمال الأسد، ذو الفضل و النهى، و العلم و الحجى.

(الشيخ مرتضى ابن الشيخ محمد أمين الأنصاري التستري)، أيده اللّه بتأييده، و جعله من كمّل عبيده، و زاد اللّه في علمه و تقاه و حياه بما يرضيه و يرضاه، و استجازني بعد ما تردّد إليّ ، و قرأ عليّ و تبينت فضيلته لديّ .

و لما كان أيده اللّه سبحانه لذلك أهلا، و إنجاح مسئوله فرضا فاجزت له لا نفلا أسعد اللّه جده، و ضاعف كده وجده، أن يروي

ص: 59

عني كتاب (نهج البلاغة) في خطب (أمير المؤمنين) و (الصحيفة السجادية) في أدعية (سيد الساجدين) عليهما أفضل صلاة المصلين و (الكتب الأربعة) التي عليها المدار في تلك الأعصار (الكافي و الفقيه و التهذيب و الاستبصار) و (الكتب الثلاثة) الجامعة المتفرقات الأخبار (الوافي و الوسائل و بحار الأنوار)، و سائر كتب الحديث و التفسير و الفقه و الاستدلال و اللغة و النحو و الأصول و الرجال، و مصنفات علماء العترة أعلى اللّه مراتبهم في فراديس الجنة.

و كذا مصنفات والدي القمقام، رفع اللّه درجاته في دار السلام و ما برز مني و جرى به قلمي في التصنيف، و أفرغ عني في قالب التأليف فليرو عني جميع ذلك كيف شاء و أحب، و لمن أراد و طلب بالطرق المتصلة الى (أهل بيت العصمة) و علماء الفرقة.

فمنها: ما أخبرني به قراءة و سماعا و إجازة: الشيخ الأعظم و الأستاذ الأفخم الامام الهمام، و البحر القمقام، مكمل المعارف، و من أذعنت بفضله الخصوم، أليم المتلاطم الأمواج، الذي ملاء ذكر مفاخره جميع الفجاج العالم العابد، و العارف الزاهد، عمدة المجتهدين و أفضل المتأخرين، بل المتقدمين والدي و أستاذي مولانا (محمد مهدي بن أبي ذر النراقي) مولدا و الكاشاني رئاسة و مسكنا، و النجفي التجاء و مدفنا.

صاحب المؤلفات الوافرة و المصنفات الفاخرة، عن مشايخه الكرام و أساتيذه العظام السبعة، الذين هم في البلاد بمنزلة الكواكب السبعة في السبع الشداد:

و هم الشيخ المحدث الفاضل، و الحبر العالم العامل (الشيخ يوسف البحراني).

ص: 60

و الشيخ المجتهد المحقق، و الأستاذ المعتمد المدقق، جم الفضائل و المفاخر (آقا محمد باقر البهبهاني).

و الشيخ الفقيه الكامل، و المحدث النبيه الفاضل، الشيخ (محمد مهدي الفتوني) العاملي النجفي.

و المولى الدين التقي مولانا (محمد جعفر الكاشاني) البيدكلي.

و العالم الفاضل الرباني مولانا (محمد اسماعيل المازندراني) الأصبهاني.

و النحرير المؤيد الألمعي مولانا (محمد مهدي الهرندي) الأصبهاني.

و الفقيه الجامع المدقق، علامة الزمان، الحاج (الشيخ محمد بن الحاج محمد زمان) الكاشاني البوشابادي الأصفهاني.

أفاض اللّه عليهم شآبيب الرحمة و الغفران، و أسكنهم فراديس الجنان بطرقهم المتصلة الى رئيس المحدثين، و شيخ الاسلام و المسلمين مولانا (محمد باقر بن محمد تقي المجلسي).

أو الى ممهد قواعد الدين و مقدام المجتهدين الشيخ زين الدين الشهير ب: (الشهيد الثاني).

أو الى الشيخ الامام الهمام، العلامة (الشيخ علي بن عبد العالي) الكركي الشهير ب: (المحقق الثاني).

أو الى الامام الأعظم، و النحرير العظيم الأجل الأكمل (الشيخ شمس الدين محمد بن مكي العاملي) الشهير ب: (الشهيد الأول) طاب اللّه ثراهم، و جعل الجنة مثواهم.

و منها ما أخبرني به قراءة و سماعا و اجازة استاذي الأعظم، و شيخي المعظم، البحر المتلاطم الأمواج، الذي ملأ ذكر مفاخره جميع الفجاج ذو النور الزاهر و الفضل الباهر، و النسب الطاهر و الحسب الظاهر، و المقام الرفيع و الشأن المنيع، العالم العابد الزاهد الأوحدي، شيخنا و أستاذنا

ص: 61

(السيد محمد مهدي بن السيد مرتضى الطباطبائي النجفي) قدس اللّه نفسه الزكية، عن مشايخه العظام الفضلاء الأجلاء، (الآقا محمد باقر البهبهاني).

و الشيخ يوسف البحراني).

(و الشيخ مهدي الفتوني) المتقدم ذكرهم، و الفاضلين الكاملين (السيد حسين القزويني) و (المولى عبد النبي اليزدي) عن (المحدث المجلسي).

و منها ما أخبرني به اجازة، شيخي العالم العلم العلامة، و المجتهد الكامل الفهامة، قدوة المجتهدين و شمس فلك المعالي و الفقه و الدين الألمعي اللوذعي السيد السند (السيد علي بن محمد علي الطباطبائي الحائري) قدس اللّه تربته، و رفع في جنان الخلد رتبته عن خاله العلام (آقا محمد باقر البهبهاني) المتقدم ألقابه الشريفة.

و منها: ما أخبرني به اجازة الشيخ الفقيه و العالم النبيه، السيد الجليل، و المهذب النبيل، ذو الأخلاق الرضية، و الأوصاف المرضية كهف الأنام و ملجأ الخاص و العام (الميرزا محمد مهدي ابن أبي القاسم الشهرستاني) - نور اللّه مرقده - عن مشايخه الكرام (الآقا محمد باقر البهبهاني)، و (الشيخ يوسف البحراني)، و (الشيخ محمد مهدي الفتوني) المتقدم ذكرهم.

و منها: ما أخبرني به اجازة شيخ مشايخ عصره، و أفقه فقهاء دهره الشيخ الأعظم و البحر المعظم، الأجل الأكمل (الشيخ محمد جعفر النجفي) روّح اللّه روحه، و كثر في عالم القدس فتوحه: عن شيخيه الكاملين (الآقا محمد باقر البهبهاني، و السيد محمد مهدي الطباطبائي) المتقدم ذكرهما بطرقهم المشار إليها المتصلة الى (المحدث المجلسي) رحمه اللّه.

أو (الشهيد الثاني، أو (الشيخ علي الكركي)، أو (الشهيد الأول)

ص: 62

المتصلة طرق أولهم الى أحد الفضلاء الثلاثة المتعقب ذكرهم له.

أو الى الشيخ الأجل الأكمل الأعظم جمال الملة و الحق، و آية اللّه في العالمين (أبي منصور الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي)، الشهير ب: (العلامة الحلي) نور اللّه مرقده.

و المتصلة طرق ثانيهم إلى أحد الشيخين الكاملين المتعقب له.

و المتصلة طرق ثالثهم إلى الرابع.

أو (إلى العلامة الحلي) المتعقب ذكره له. و المتصلة طرق الرابع الى العلامة أيضا.

أو إلى أحد المشايخ العظام، الشيخ الأجل الأعظم، شيخ الطائفة و رئيسهم (الشيخ أبي جعفر الطوسي) رحمه اللّه.

و الشيخ المفخم المعظم الامام الهمام المكرم، رئيس الشيعة و أستاذهم و مرجعهم و سنادهم (الشيخ محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد).

و الشيخ العالم العامل الكامل الصدوق (الشيخ أبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين بن بابويه القمي).

و المتصلة طرق العلامة إلى أحد المشايخ العظام المتأخر ذكرهم، المتصلة طرقهم بالأئمة الأخيار، و المعصومين الأطهار عليهم صلوات الملك الغفار.

و أعلى طرقي ما أرويه عن الوالد العلم العلامة، عن الشيخ يوسف المتقدم.

عن المولى الفاضل مولانا محمد بن فرج الشهير ب: (ملا رفيعا الجيلاني).

عن (المولى المحدث المجلسي) عن والده النقي التقي، عن الشيخ المعمر البهي (الشيخ أبي البركات الواعظ الأصفهاني).

عن (المحقق الكركي)، عن محمد بن داود، عن (الشيخ (ضياء الدين) عن والده (الشهيد الأول)، عن الشيخ (جلال الدين حسن) عن الشيخ

ص: 63

(نجم الدين أبي القاسم الشهير ب: المحقق) عن السيد فخار، عن الشيخ (أبي الفضل شاذان بن جبرائيل القمي)، عن (الشيخ أبي عبد اللّه الدورستي)، عن (شيخنا المفيد عن الصدوق).

و أعلى طرق الصدوق إلى الامام الهمام (جعفر بن محمد الصادق) عليه السلام: ما رواه عن أبيه، عن (عبد اللّه بن جعفر الحميري) عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، عن (الامام بالحق أبي عبد اللّه) عليه السلام.

و قد أجزت له جعله اللّه من المقربين الأبرار، و حشره مع الأئمة الأطهار رواية جميع ما ذكر عن مشايخي الكرام العظام، الذين هم آبائي الروحانيون، جزاهم اللّه عني و عن العلم و أهله أحسن الجزاء.

و أشترط عليه أيده اللّه بتأييده، ما اشترط عليّ مشايخي العظام من التثبت في القول و العمل، ليطمئن من الوقوع في مهاوي العثرة و الزلل و سلوك سبيل الاحتياط المنجي عند المرور على الصراط.

و أن لا ينساني من الدعاء عند الخلوات و شرائف الأوقات، و يتفقدني في مظان الاستجابات.

و حرر ذلك بيمناه الداثرة، أوتي بها كتابه في الآخرة (أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر القمي النراقي)، أصلا، الكاشاني مسكنا في شهر شوال المكرم من شهور سنة أربع و أربعين بعد المائتين و الألف من الهجرة على هاجرها السلام و التحية...

ص: 64

هذه صورة الإجازة الصادرة عن (المولى النراقي) في حق أعظم تلميذ من تلامذته علما و ورعا.

و أنت ترى أيها القارئ النبيل مدى تعظيم الأستاذ تلميذه في إجازته هذه، و أنه كيف أثنى عليه و قدره بتلك العبارات الجميلة التي تدل على نبوغ الشيخ و عبقريته و غزارة علمه، و تفوقه على أقرانه، و هو القائل في مجالات أخرى:

و لقد شاهدت في جميع أسفاري أكثر من خمسين مجتهدا مسلم الاجتهاد و لم أر أحدا منهم (كالشيخ الأنصاري) في غزارة علمه، و كثرة فضله، و طول باعه.

صدرت هذه الكلمات من هذا العالم الفذ الإلهي في حق هذا العبقري الذي نال هذه المرتبة السامية الرفيعة بحق و استحقاق.

و إنما ذكرناها بطولها ليطلع القارئ الكريم على حقائق الأمور، و يحيط علما على الأوضاع الراهنة في تلك العصور، و ليعلم أن الأوساط العلمية في المراكز الشيعية منذ تأسيسها إلى زمن (شيخنا الأنصاري):

كانت ذات حقائق و واقعيات، و تعطي كل شخص من العلماء و الفضلاء نصيبه المفروض حسب معلوماته العلمية، و إن زود العالم بوثيقة و شهادة فإنما كانت طبق مستواه العلمي و العملي، و كانت الألفاظ الصادرة بحقه في إجازته له مطابقة للواقع، من دون أن تكون فيها مبالغة و مجازفة.

و الخلاصة: أن المقاييس كانت محفوظة مهما بلغ المستجيز، و مهما كانت مكانته الشخصية، أو البيتية فكانت الألقاب محصورة تصاغ في قوالبها لا مبذولة كدورنا هذا الذي أصبحت الألفاظ فيه ألفاظا جوفاء.

غادر (شيخنا الأنصاري) مدينة (كاشان) بعد أن أجاز له (أستاذه الأعظم) بالخروج منها، و بعد أن أتحفه بالاجازة الروايتية:

ص: 65

و هي إجازة نقل الأحاديث الشريفة بطرقه المتصلة إلى (أئمة أهل البيت) عليهم الصلاة و السلام.

و قد يظن بعض من لا خبرة له عن الواقع أن أستاذ الشيخ (المولى النراقي) لم يجز الشيخ إجازة اجتهاد و إنما أجازه إجازة رواية فحسب كما هي صريحة بذلك.

لكنه غفل عن حقيقة الحال، حيث إن الشيخ كان غنيا عن ذلك و هو أجل من أن يحتاج إلى إجازة الاجتهاد، كيف و قد بلغ منه قمته.

بالإضافة إلى أن (المولى النراقي) في إجازته هذه يصرح باجتهاده بقوله: و فاز بالحظ الأوفر الأسنى، و بقوله في مجالات اخرى:

و قد شاهدت في جميع أسفاري خمسين مجتهدا مسلم الاجتهاد فلم أر أحدا منهم كالشيخ الأنصاري في غزارة علمه، و كثرة فضله، و طول باعه.

أو بعد هذا التصريح و الاعتراف بأعلمية الشيخ عن خمسين مجتهدا مسلم الاجتهاد: يحتاج الشيخ إلى إجازة الاجتهاد؟.

لست أدري أي إجازة تكون أعظم و أصرح من هذه الكلمات في اجتهاد العالم الديني حتى يحتاج إلى أخذها كتبا.

أخذ الشيخ الاجازة مفتخرا بها، لكونها إجازة نقل الأحاديث الشريفة و لا يزال هذه شيمة العلماء و رجال الدين في أخذهم الاجازة الروايتية.

خروج الشيخ الى مدينة خراسان

خرج الشيخ و بخدمته أخوه قاصدين مدينة (خراسان)(1) للتشرف

ص: 66


1- هي إحدى (محافظات إيران) و تعد من أكبرها و أوسعها و أهمها من شتى جوانبها: جغرافيا و سياسيا و اقتصاديا. كانت هذه المحافظة قبل الاسلام من المراكز الحساسة يعتني بشأنها ملوك الفرس الأقدمين و لا سيما الساسانيين منهم. و لهذه المحافظة أقضية و نواحي كثيرة جاوزت العشرات. ليست مدينة (خراسان) ذات أهمية سياسية و دينية فحسب، بل و ذات أهمية كبرى من النواحي الأدبية و العلمية و التمدن الاسلامي قديما و حديثا. فقد أصبحت هذه المدينة العظيمة الجبارة ببركة (الامام الثامن) من بعد تشريفه لها من أعظم المعاهد الاسلامية الكبرى، و المراكز العلمية العظمى ففي الحقيقة تعد هذه المدينة من أهم (محافظات إيران)، بل تعد قلبها و لها أثرها الخاص في نفوس المسلمين بصورة عامة، و في نفوس (الشيعة الامامية) بصورة خاصة، لأنهم يرونها مدفن بضعة (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله، و ثامن أئمتهم فتؤمها الشيعة من أصقاع (إيران) و من الدول المسلمة المجاورة لها و النائية عنها، و تتهافت لزيارته عليه السلام و لن تجد الحرم المقدس فارغا من الزوار لا في الليل، و لا في النهار. و خلاصة الكلام أن هذه المدينة المقدسة تعد من أعظم المدن الثقافية الاسلامية منذ أن شرفها الامام الثامن (أبو الحسن الرضا) عليه السلام حينما دعاه (المأمون) سابع خلفاء العباسين لولاية العهد. و لا تزال هذه المدينة فيها الحركة العلمية الثقافية الدينية و فيها المراجع الدينيون و جم غفير من رجال الدين. اهتم (ملوك الصفويين) بعمارة هذه العتبة المقدسة اهتماما بليغا فصرفوا عليها المبالغ الباهظة و قد جاوزت الملايين فجاءوا بمهندسين و معمارين و فنانين في شتى الفنون فأخذوا في تعمير المرقد الطاهر بهندسة دقيقة فنية و استعملوا معها الذوق الحسن الجميل فبنوا حرما و أروقة واسعة عالية شاهقة ضخمة على أحسن طراز و زينوها بزخارف بديعة ثمينة نفيسة من الكاشي المعرق و الزجاج بأشكال بديعة هندسية مطعّمة بالذهب الخالص، و عليها الآيات الكريمة، و الأحاديث الشريفة. و فوق المرقد الطاهر القبة العالية قد كسيت بالطابوق الذهبي من خالص أموال الملك (الشاه عباس) الصفوي. و للمرقد الطاهر صحنان وسيعان بديعان يحتوي كل واحد منهما على طابقين على طراز الصحن الطاهر (العلوي) صلوات اللّه عليه و فيهما غرف جميلة زينت طوارمها بالقاشي الجميل و الرخام البديع، و في الطوارم أشكال جميلة من الزجاج. و يجري في وسط الصحن الكبير نهر ماء في الليل و النهار يأتي من فوق المدينة و يدخل في آخرها. و قدموا للعتبة المقدسة من الأحجار الكريمة و الأشياء النفيسة من الذهب و الفرش مما يدهش العقول. و على أثرهم اهتم (ملوك إيران) بعد سقوط (الدولة الصفوية) من (الأفشارية و الزندية و القاجارية) بالعتبة المقدسة. ثم أخذوا في عمارة المدينة فشيدوا لها الجوامع و المدارس العلمية الدينية لرجال الدين و قد أصبحت هذه المدارس مكتظة برواد العلم و طلابه و كلها من القسم الداخلي و أوقفوا لها الأملاك الطائلة كما أنهم أوقفوا على العتبة المقدسة القرى الكثيرة العامرة، و الأراضي الزراعية، و المحلات التجارية فأصبحت وارداتها بالإضافة إلى المجوهرات النفيسة التي أهداها الملوك للعتبة المقدسة: هو الرصيد الوحيد في إيران. و قد جنت على هذه (العتبة المقدسة) بصورة خاصة، و على المدينة بصورة عامة: يد الظلم و العدوان فشنت عليها غارات و غارات فأغار على الحرم الطاهر و المواطنين الكرام النواصب اللئام، و زنادقة الكفار من (قياصرة روسيا). هذه حملة الأتراك التي هي من أهم الحوادث الدامية و المفجعة و على رأسهم الكافر الوحشي (جنكيز التتار) فقد أهلك الحرث و النسل فأخذ في القتل و النهب و الهدم و التخريب ما تقشعر منه الأبدان. لقد بالغ هذا الوحشي الوثني في إراقة دماء سكان هذه المحافظة و إبادتهم عن آخرهم و لم يقتنع بذلك حتى أمر بقتل الحيوانات، و قلع الأشجار، و هدم الدور و البنايات و جعل المدينة و سائر مدنها أطلالا و جنادل كما فعل بسائر المدن الاسلامية جمعاء. هذه حملة حفيد (جنكيز هولاكو) و هذه إن لم تكن أكثر من حملة جده الوحشي لم يكن بأقل منها فلقد قضى هذا الوحشي على المدن الاسلامية (و لا سيما مدينة بغداد). هذه حملة (شيبك خان و عبد المؤمن خان) الأوزبكيين. و خلاصة القول في هذه الحملة التي تسمى ب: (الحملة الأوزبكية) أن المدينة المقدسة لاقت من هؤلاء القساة الطغاة من الحروب و المعارك الدامية ما ترتعش من كتابتها الأيدي عند ما يأخذ الكاتب القلم و يريد أن يكتب عن حملة هؤلاء الوحوش. و يكفيك في عظم المصاب ما يصفه شاعر تلك البلاد (أنوري) و في فضاعة الواقعة في قصيدته الفارسية التي ألقاها. يقول في بيت من القصيدة ما معناه: إنك لن تجد شخصا سارا فرحا إلا عند الموت، و لن تجد بنتا باكرة إلا في رحم أمها. و هذه حملة أفغان بقيادة (محمود الأفغان) التي قضت على بلاد خراسان (و ملوك الصفوية). و هذه حملة (روسيا القيصرية) التي دخل بجيشها الكافر الحرم الطاهر بأحذيتهم، و أطلقوا النيران على القبر المقدس و اللائذين بضريحه الطاهر فقتلوا النفوس الأبرياء، و أجروا الدماء في الحرم، و نهبوا ما فيه. و هذه الحملة الأخيرة في عصرنا الحاضر التي ذهبت فيها ضحايا كثيرة بصورة مخزية مشجية، و التي سببت القضاء على حوزتها العلمية و روادها و التي سببت غلق مدارسها العلمية الدينية. و إلى هذه الحملات و الغارات أشار صاحب القبر المقدس (الامام الثامن) عليه السلام بقوله: و قبر بطوس يا لها من مصيبة ألحّت على الأحشاء بالزفرات إلى الحشر حتى يبعث اللّه قائما يفرج عنّا الغم و الكربات هذان البيتان قالهما عليه السلام عند ما أنشأ شاعر (أهل البيت) (دعبل الخزاعي) رضوان اللّه تبارك و تعالى عليه بمحضر الامام عليه السلام: قصيدته التائية الخالدة. هذا الشاعر العظيم الذي طالما كان يحمل خشبته على كتفه ليصلب عليها، و هو القائل: لي خمسون عاما أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك. أليك بعض القصيدة. قبور بكوفان و أخرى بطيبة و أخرى بفخ نا لها صلواتي و أخرى بأرض الجوزجان محلها و قبر بباخمرا لدى الغربات و قبر ببغداد لنفس زكيّة تضمنها الرحمن في الغرفات قبور بجنب النهر من أرض كربلاء معرسهم فها بشط فرات لما قرأ دعبل قصيدته فقال له الامام عليه السلام بعد أن أنشد البيتين: ألحقهما بقصيدتك. فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر من ؟. قال الامام عليه السلام: هو قبري. و بالرغم من ذلك كله فقد جعل اللّه عز و جل كيدهم في نحورهم و أباد ملكهم، و شتت شملهم، و أخذهم أخذ عزيز مقتدر فجعلهم أيادي سبا، و طرائق قددا، فأعاد مجدها الغابر و هم في جهنم خالدون. هذه مدارسها الدينية أصبحت مليئة برواد العلم و حملة الكتاب و حفاظه و هذه حوزتها العلمية و قد جاوز عدد طلابها الآلاف. كانت للعتبة المقدسة مكتبة ضخمة جدا جاوز عددها الآلاف نهبتها الأيادي الأثيمة، و أحرفت ما تبقى منها. و في الوقت الحاضر لها مكتبة فخمة عظيمة جدا بلغ عدد كتبها خمسين ألف مجلد و فيها من النفائس الخطية ما لا توجد في المكتبات الاسلامية. و كان بوسع هؤلاء الذين يديرون إدارة المكتبة و شئونها: أن يبتاعوا في كل سنة عددا كثيرا من الكتب: الخطية و المطبوعة في كل عام لا يقل عن خمسة آلاف مجلد من بداية تأسيسها إلى عامنا هذا عام 1393 فيبلغ عدد الكتب في خلال هذه المدة و هو خمسون عاما تقريبا: مائتان و خمسون ألف مجلد، مع ما لهذه العتبة المقدسة من الواردات السنوية من أوقافها و ما أكثرها. و قد ساعد في ترتيب هذه المكتبة و تنظيمها في الآونة الأخيرة زميلنا المكرم الفاضل السيد عبد العزيز الطباطبائي حفيد المرحوم (السيد الطباطبائي اليزدي) قدس سره. و في سفري إلى إيران عام 1390 و تشرفي بالعتبة المقدسة بصحبته زرت المكتبة و كان مديرها رجلا فاضلا أديبا من أسرة شريفة تعارفنا معه فرأينا من المصاحف الكريمة الخطية و الكتب النفيسة ما يدهش العقول. ثم بعد التجوال في الأماكن المعدة للمصاحف الكريمة، و الكتب النفيسة و القفائس الخاصة المهيأة لها: ذهبنا إلى غرفة المدير و جلسنا عنده و طال جلوسنا و دار الحديث بيننا و بينه حول الكتب الثمينة النهيبة التي نهبها أعداء الاسلام من البلدان الاسلامية، و التي أحرقتها و لا سيما من محافظة خراسان و بالأخص المدينة المقدسة. و قد أنجبت هذه المحافظة بصورة عامة، و مدينة (خراسان) بصورة خاصة المئات من الأعلام النوابغ خدموا العلم و الدين و لغة الضاد على إختلاف طبقاتهم. هذا تراثهم الخالد ملئت الآفاق، و هذه كتبهم النافعة أصبحت زينة المكتبات لا تجد بلدة اسلامية حتى البلاد الأجنبية تخلو من مصنفاتهم و لا يستغني أي عالم سنيا كان أم شيعيا من مؤلفاتهم فترى العلوم بأنواعها قد زهت على يد علمائها فهم بين فقهاء و أصوليين، و محدثين و مفسرين و حكماء و فلاسفة، و بلغاء و أدباء و شعراء، و أطباء و مؤرخين و رياضيين. هذا (شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي) المؤسس للحوزة العلمية الدينية في (النجف الأشرف) منذ أن حل فيها بعد وقوع الحوادث في (بغداد) بين (السنة و الشيعة) و هروبه منها فقد وضع (شيخ الطائفة) حجرها الأساسي، و بنى مجدها و كيانها حتى أصبحت هذه المدينة المقدسة ببركة هذا العملاق إحدى الجامعات الاسلامية و التي تعد من أكبر المعاهد العلمية الدينية و فيها المدارس الشامخات و لا تزال معمورة و ستبقى عامرة حتى ظهور (الحجة البالغة) عجل اللّه تعالى لصاحبها الفرج و تشد إليها الرحال من أصقاع البلاد. و كفى لهذه الجامعة فخرا أن أنجبت لحد اليوم الآلاف من أعاظم العلماء، و أساطين الفقهاء ازدان بهم الدهر، و ابتسم بهم العصر. و من هذه الجامعة انتشرت علوم الطائفة الامامية بشتى أنواعها إلى الأصقاع الشيعية، و تعتبر العاصمة للمرجعية الكبرى إلى يومنا هذا. هذه كتب (شيخ الطائفة) الثمينة، و هذه مصنفاته القيمة فقها و أصولا و رجالا و حديثا و تفسيرا، و التي لم تخل أية مكتبة من مكتبات الطائفة الامامية، بل و لا المكتبات الاسلامية منها فقد عكف عليها الأعلام منذ أن جاءت إلى عالم الوجود. و هذا نابغة الزمان، و مفخرة الأيام أستاذ الحكماء و مروج علم النجوم و الأفلاك (الخواجا نصير الدين الطوسي) صاحب الآراء المتبعة، و التصانيف القيمة الذي قال في حقه المؤرخ الشهير (جرجي زيدان) و لقد زها العلم على يد هذا الفارسي كأنه قبس منير في ظلمة مدلهمّة. و هو أول من وضع مرصدا في البلاد الاسلامية في مدينة (مراغة) من بلاد (آذربايجان)، و جمع فيها من الأعلام من أنحاء البلاد. و كانت له مكتبة ضخمة فيها من أنفس الكتب جاوز عددها أربعمائة ألف مجلد. و هذا أستاذ الحكماء، و معلم الأطباء (ابن سيناء) الذي بكتبه وجدت الحركة العلمية الطبية، و بفضلها أسست الكليات و الجامعات في البلاد الغربية و الشرقية. هذا (ابن سيناء) الذي اتفق مؤرخو الفلسفة أنه ألمع اسم في تاريخ العلم، و أكبر فيلسوف من فلاسفة المسلمين الذين برزوا في الفلسفة و الطبيعيات و الطب. هذا (ابن سيناء) الذي طار اسمه و ذاع صيته في الشرق و الغرب و استفادا من كتبه على السواء. هذا (ابن سيناء) الذي ترجمت كتبه باللغة اللاتينية و غيرها عشرات المرات. هذا (ابن سيناء) الذي أذعن بآرائه الفلسفية، و نظرياته الطبية الأوساط العلمية. هذا (ابن سيناء) الذي سيطرت آراؤه على المفكرين و الفلاسفة. و خلاصة الكلام أن (ابن سيناء) فيلسوف منهجي، و صاحب مدرسة فلسفية. ذات نظريات معينة. و طبيب عبقري اكتشف جوانبا كثيرة من العلوم الطبية. و منطقي كبير كشف عن آراء (أرسطو) المنطقية و هذبها. و رياضي فلكي و طبيعي له آثار قيمة فيها. و سياسي تولى الوزارة أيام الملك (شمس الدولة البويهي). هذا (ابن سيناء الذي بتأثير مدرسته الفكرية اقتدى الفلاسفة المتأخرون (كالمحقق الطوسي و السيد الداماد و صدر الدين الشيرازي) الذي هو أول من قال: ب: أصالة الوجود. هذا كتابه (القانون) و قد أصبح من الكتب الرسمية الدراسية في المعاهد العلمية الغربية و مرجعا هاما لطلاب الطب في (جامعات اوربا) الى وقت متأخر. و هذا الشاعر الكبير، و الفيلسوف العظيم (عمر الخيام) صاحب الآراء و النظريات في النجوم و الفلك. له الديوان المعروف المترجم بالعربية و الانكليزية و الفرنسية و الألمانية. و هذا علامة الآفاق: (السيد مير حامد حسين النيسابوري) صاحب (العبقات) هذه الموسوعة العظيمة الجبارة التي ألفت في حديث (الغدير)، و التي لم يؤلف مثلها و هي في مجلدات ضخام. و هذا (أبو حنيفة) رئيس المذهب الحنفي، و شيخ المذاهب الأربع الذي قلده أكثر من ثلاث مائة مليون مسلم سني في أنحاء البلاد، و الذي يفتخر به (اخواننا السنة) و قالوا في حقه: (الامام الأعظم). و هذا (البخاري و الترمذي و النسائي و محمد بن مسلم) أصحاب الصحاح الست التي دارت عليها علوم (إخواننا السنة). و هذا (أبو حامد الغزالي) صاحب مدرسة الفلسفة، و التصوف و مؤلف (إحياء العلوم) و عشرات الكتب. و هذا (الزمخشري) صاحب التفسير العظيم. و هذا (الحاكم النيسابوري) صاحب المستدرك. و هذا (البيهقي) مؤلف التاريخ الكبير. و هذا (السكاكي و التفتازاني) مؤلفا علم الفصاحة و البلاغة و العروض و غيرهم من الفطاحل و النوابغ الذين أصبحوا أساطين العلم و ركائزه، بهم و بعلومهم تدور رحى العلوم الاسلامية.

ص: 67

ص: 68

ص: 69

ص: 70

ص: 71

ص: 72

ص: 73

ص: 74

بزيارة مرقد الامام الثامن (أبي الحسن الرضا) عليه السلام فرحلا حتى تشرفا بزيارته فبقيا هناك أربعة أشهر مستفيضين من فيوضات تلك العتبة المقدسة على مشرفها آلاف الثناء و التحية.

لم يذكر أحد لنا أن الشيخ في سفرته هذه إلى (خراسان) تتلمذ

ص: 75

على أحد من علمائها، كما أنه لم يسجل من كتب تاريخ حياته أنه باحث أو ناظر مع علمائها.

و لعله ذاكر معهم، لكنه خفي على باحثي حياته و لم يصل إلينا.

رجوع الشيخ من خراسان إلى وطنه

غادر الشيخ و أخوه (خراسان) قاصدين الرجوع إلى وطنهما فخرجا منها فجاءا حتى دخلا (طهران) عاصمة إيران أيام (السلطان محمد شاة) القاجاري فحلا في مدرسة (مادر شاه) أم الملك، و بقيا أياما قلائل ثم غادرا (طهران) و ذهبا إلى مسقط رأسهما بعد أن جالا في ربوع (إيران) خمسة أعوام.

اطلع المواطنون الكرام من أهل مدينته على مجيء الشيخ فاستعدوا لاستقباله بتهيئة الوسائل اللائقة بمقامه العلمي و الروحي فنصبوا الخيم و الفسطاط خارج المدينة لكل طبقة فسطاطا خاصا.

جاءهم الخبر بوصول الشيخ يوم كذا فخرجوا بمختلف طبقاتهم و على رأسهم العلماء الأعلام لاستقباله و هم ينتظرون مقدمه الشريف و إذا بشيخنا الأعظم متوجه نحوهم فأحاط المستقبلون بزعيمهم الديني و أبيهم الروحي و كلهم شغف و سرور فنزل الشيخ في لفيف من عشاقه و محبيه بكل تبجيل و تكريم.

رحب (الشيخ) بالمستقبلين و دعا لهم دعاء حسنا، و أثنى عليهم ثناء جميلا بليغا، مع الشكر الجزيل.

ثم ترجل و أخوه و في صحبتهما المستقبلون إلى المدينة فحلا في دارهما و بعد هنيئة تشرف بخدمة الام الحنون الوالدة الطاهرة فقبل يديها حسب عادته المألوفة.

بقي (الشيخ) في وطنه مشغولا بالبحث و التدريس، و حل القضايا

ص: 76

و فصلها، و الاهتمام بالوظائف الشرعية كما هي رسالة رجال الدين فقام بالأمر أحسن قيام.

كان (الشيخ) بعد رجوعه من (خراسان)، و خلال توقفه في وطنه مورد حفاوة الطبقات الروحية، و إكرام الشخصيات الدينية، و إعزاز مختلف الأصناف من المواطنين العارفين بحقه.

ثم اجتمع عنده لفيف من الأفاضل الأماجد ليستفيدوا من نمير منهله العذب فأفاض عليهم من علمه الغزير، و فضله الكثير بفكره الصائب، و ذهنه الوقاد فاستفادوا من شتى جوانبه: علما و ورعا و خلقا و أدبا.

أصبح (الشيخ) وحيدا في التدريس و لا سيما بعد وفاة الفقيه الجليل (الشيخ محسن) شقيق المحقق العظيم فقيه عصره (الشيخ أسد اللّه الدزفولي) صاحب المقابيس جد (أسرة أسد اللّه) (فربى بدوره القصير جيلا من رجالات الدين في مسقط رأسه.

بالإضافة إلى اشتغاله بالتأليف و التصنيف و أداء رسالته الخالدة فقام في هذه المدة الوجيزة خير قيام.

كان الشيخ مكبا على التدريس و البحث و التنقيب إلى أن عزم على الرحيل و مغادرة وطنه، و مجاورة (النجف الأشرف) فغادر دزفول عام 1249 قاصدا (مدينة العلم) بخدمة والدته الحنون، و بخدمته عائلته الكريمة.

و حول مغادرة (الشيخ) وطنه، و مجاورة (النجف الأشرف) قصص و حكايات تروى كل يفسره حسب ذوقه.

و نحن نذكر حكايتين منها:

(إحداهما): إلى الأسطورة أقرب، و إلى الخرافة أنسب.

(ثانيتهما): إلى الواقع أصوب.

إليك الأولى ؟

ص: 77

قال بعض: إنه وقع نزاع و تخاصم بين رجلين من مواطني مدينة (دزفول) فتحاكما عند (الشيخ)، حيث هو المرجع الوحيد في فصل القضايا و حلها فتشرفا بخدمته، و حكيا له الواقع فأمرهما بالذهاب و أن يأتيا صباحا فذهبا و أتيا حسب الوقت الذي قرره الشيخ لهما.

ثم توسط أحد رجال المدينة البارزين لأحد المتنازعين، حيث كانت القرابة النسبية تربط بينهما: عند (شيخنا الأعظم) فكتب له كتابا يوصيه فيه، و يؤكد على الشيخ مراعات جانبه.

وصل الكتاب إلى (الشيخ) ففتحه و قرأه فتأثر منه تأثرا شديدا و هو يخاطب نفسه.

عجبا إن أحكام اللّه أصبحت ألعوبة بأيدي رجالات البلد و متنفذيها حتى أصبحوا يتوسطون فيها. و يطلبون منا أن نحكم حسب إرادتهم و ميولهم و نترك حكم اللّه فاستشاط غضبا و من أثر الكتاب عزم على الرحيل، و مغادرة المدينة نهائيا فخرج ليلا و معه الوالدة الحنون، و العائلة الكريمة متنكرا من دون أن يخبر أحدا من أبناء بلدته.

أخذ (الشيخ) في السير ليلا حتى دخل مدينة (تستر) متنكرا.

و في الصباح اطلع المواطنون الكرام على مغادرة (الشيخ) ليلا حيث انتشر الخبر سريعا فأخذوا يسألون عن السبب حتى علموا بذلك فجاءوا خلفه من ساعته ليرجعوه إلى وطنه فدخلوا مدينة (تستر) فتشرفوا بخدمته و أرادوا منه الرجوع فأبى و اعتذر فالتمسوا منه ثانيا فأبى، فألحوا عليه ثالثا فقابلهم بمثل ما قابلهم به أولا، ثم أصروا عليه رابعا، حيث هو زعيمهم الديني، و الأب الروحي، و المصلح الأكبر فاعتذر، ثم ألحوا عليه إلحاحا شديدا و هو يأبى و يعتذر.

لم ير القوم نتيجة لإلحاحهم و إصرارهم فرجعوا من خدمته (بخفي حنين)

ص: 78

و الدموع تسكب و هم يصرخون كالمرأة الثكلى.

هذه خلاصة (الحكاية الأولى).

و أنت ترى أيها القارئ النبيل: عدم انسجامها مع المنطق و العقل و الواقع، إذ كل مدينة لا تخلو من صالح و طالح، و فاسق و فاجر حتى مدينة (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله التي هي مهبط الوحي، و مركز التنزيل، فكل مدينة فيها الأسر و البيوتات و الرجال و الشخصيات لهم ميول و اتجاهات كل منهم يريد تنفيذها حسب متطلباته، سواء أ كان المسئول من رجال الدين أم الدولة.

بل هناك قضايا أغرب من هذه، و للتوسع فيها راجع كتب السير و التواريخ تجد صحة ما قلناه.

فلو بنينا على مغادرة البلاد لوجود هؤلاء المتنفذين، و لأمثال هذه القضايا البسيطة لم يبق حجر على حجر، و لأدت البلاد إلى انهيار خلقي أكثر مما يحدث و هم في البلاد، فاللازم على (شيخنا الأنصاري) و زملائه الكرام، و بقية رجال الدين الذين أوجب اللّه عليهم تبليغ الأحكام و تهذيب الأخلاق: الثبات و المقاومة حتى يتمكنوا من إصلاح المفسدين و إرشاد العوام، و توجيههم نحو الخير توجيها صحيحا.

فمغادرتهم البلاد، و تسليمها إلى هؤلاء الجهال و الفساق فرار عن مسئوليتهم الخطيرة المتوجهة إليهم. فتكون مغادرتهم في الحقيقة و الواقع هربا عن الوظائف الشرعية، و تعطيلا للأحكام الإلهية، و هو مستبعد من أمثال هؤلاء العظام الذين هم المثل العليا في التقوى و الصلاح، و التضحية و الارشاد.

إذا فهذه الحكاية إلى الأسطورة أقرب.

ص: 79

الحكاية الثانية:

قال بعض: إن السبب الذي دعا (شيخنا الأعظم) لمغادرة وطنه المألوف، و مجاورة (النجف الأشرف): هي الاستفادة الكاملة من جهابذة علمائها الأفذاذ، و نوابغها الأعلام الذين هم أساطين العلم و عليهم بنيت ركائزه، حيث كان (شيخنا الأعظم) كثير الولع بالاحاطة البالغة على المباني الفقهية و الأصولية من مصدرها، و لذا كان كلما يسمع عن شخصية علمية فذة في صقع من الأصقاع الشيعية الذي يمكن الوصول إليه: يشد الرحال نحوه، ليستفيد منه إن كان أهلا للإفادة، و إلا تركه من غير أن يشعر بذلك، أو يلتفت ذلك العالم بما قصده الشيخ كما عرفت في رحلاته و أسفاره فغادر (شيخنا الأعظم) بلاده بهذه الغاية التي هي غاية مهمة ليس فوقها غاية أخرى لمنهوم العلم، و لا سيما (شيخنا الأنصاري).

فهذه الحكاية هي القريبة للصواب.

دخل (شيخنا الأنصاري) (النجف الأشرف) عام 1249 و كان العلمان الفقيهان (الشيخ علي) كاشف الغطاء، (و الشيخ محمد حسن) صاحب الجواهر زعيمي الحوزة العلمية، غير أن الأول منهما هو المتفرد في المرجعية الكبرى و أمر التقليد.

حضر (شيخنا الأنصاري) معهد بحث هذا العملاق العظيم و اختص به، لغزارة علمه، و تبحره في الفقه و مبانيه، حيث كان يكشف القناع عن غوامض الأسرار، و يحقق لتلامذته مشكلات المسائل، و ينثر الدر و الجوهر على يدي مجتنيهما.

استفاد الشيخ من درس هذا الفقيه العظيم خمسة أعوام من عام 1249 إلى عام 1254 و هي سنة وفاة (الشيخ علي كاشف الغطاء) فبلغ

ص: 80

(شيخنا المترجم) أسنى درجة الاجتهاد، و أعلى قمة الاستنباط فأصبح غنيا عن الكل.

الاجتهاد:

اشارة

و لما انجر الكلام بنا إلى (الاجتهاد) فلا بأس بالاشارة الإجمالية إلى معناه لغة و اصطلاحا، و إلى أقسامه، ثم ذكر التقليد و المقلد فنقول و على اللّه التوفيق.

أما لغة (فالاجتهاد) مصدر باب الافتعال من اجتهد يجتهد.

و معناه: مزاولة العمل و مدارسته إن كان مشتقا من الجهد بالفتح أو استفراغ الطاقة، و بذل الوسع في عمل إن كان مشتقا من الجهد بالضم، و بهذه المناسبة يقال لمن بلغ مرتبة سامية، و درجة رفيعة: المجتهد حيث يستفرغ طاقته، و يبذل جهده في سبيل تحصيل ملكة الاستنباط.

و أما اصطلاحا أي في لسان أهل الشرع و المتشرعة فإنه مختص و معين لخصوص الملكة التي بها يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية الفرعية و يستفرغ الوسع لاستخراج كل حكم فرعي من أصله فهي المدار و القطب و المناط في تحقق الاجتهاد ليس إلا، سواء أ كان معها فعلية الاستنباط أم لا.

و هذه الملكة هي قوة تحصل بعد القدرة الكاملة، و الإحاطة البالغة على جميع منابع الأحكام، و مدارك الاجتهاد من علم اللغة و الصرف، و النحو و المعاني و البيان، و المنطق و الكلام، و التفسير و الحديث و الرجال، و علم الأصول الذي لا غنى عنه بشيء منه، إذ هو الأصل في الفقه.

(و كل الصيد في جوف الفراء)، و قليل من علم الحساب و الهيئة و الهندسة، بالإضافة إلى ما ذكرناه من علم الفقه.

و كل هذه العلوم بقدر الحاجة و الضرورة. لأن الأصل في هذه

ص: 81

المقامات: هو لطف الذوق، و صفاء القريحة، و هي منحة إلهية من قبل اللّه عز و جل فهي غرائز يهبها الباري عز اسمه لمن يشاء من عباده:

(العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء)، و إلا لهذه العلوم مراحل شاسعة، و أودية واسعة لا ساحل لها، فإن الانسان كلما ازداد أنسا بها و مزاولة: ازداد تضلعا و رسوخا في معرفة الخواص و المزايا منها.

فالملكة إنما تحصل للمجتهد بعد طي هذه العلوم فبها يقتدر من الاجتهاد في الفروع و استنباطها، و ردها إلى أصولها توسط الامارات و الأصول المعتبرة شرعا في جميع الأحكام من أول (الطهارات) إلى آخر الحدود و الديات من دون فرق بين باب منها، و باب آخر.

أقسام الاجتهاد:

الاجتهاد على قسمين:

مطلق.

و متجزي.

(فالأول): هي القدرة على استنباط جميع الأحكام الشرعية الفرعية في جميع الأبواب الفقهية من الطهارات، و العبادات، و المعاملات، و العقود و الايقاعات بواسطة تلك الملكة، و القوة القدسية.

(الثاني): يطلق على من اقتدر من الاجتهاد في بعض الأحكام الشرعية، و استنباط جزء منها كالعبادات مثلا، و ذلك بواسطة الملكة أيضا.

(أما الأول) فيصح له الاجتهاد في الأحكام، و الفتوى في مهام الأمور الدينية، و يجوز للآخرين الرجوع إليه و تقليده.

بحكم العقل، حيث يحكم برجوع الجاهل الى العالم في جميع المراتب

ص: 82

من دون اختصاص بجاهل دون آخر، و بعالم دون آخر، و بدور دون دور آخر. بل في جميع الأدوار.

و بحكم النقل كما في قوله عليه السلام: إنه حجتي عليكم.

و يشترط في هذا المجتهد المطلق الذي يجوز تقليده، و يصح للآخرين الرجوع إليه بالإضافة الى ما ذكرناه من العلوم: البوع و العقل و الذكورة و الإيمان و العدالة.

(و أما الثاني): و هو المجتهد المتجزي فلا يجوز للآخرين تقليده لعدم إحاطته باستنباط جميع الأحكام، و استخراج كل حكم فرعي من أصله.

نعم يجوز له العمل فيما اجتهد و استنبط، و عليه التقليد فيما عجز عن الاجتهاد فيه.

هذا بناء على القول بإمكان التجزي في الاجتهاد كما هو مذهب المتأخرين و من سبقهم الى عصر (شيخنا الأنصاري) و هو الحق، حيث إن الاجتهاد من الأمور الاضافية و النسبية فهو ذو مراتب و درجات فيمكن للشخص الحصول التام بعد الممارسة و المزاولة في العلوم الشرعية على باب من أبواب الفقه بفروعه الكاملة فيحصل له قوة قوية جبارة التي يعبر عنها ب:

(الملكة) فبها يتمكن من الاجتهاد في فروع هذا الباب خاصة و استنباطها فهو كالطبيب الخاص الذي له الحذاقة التامة بجزء من البدن كاختصاصه بالعين، أو القلب، أو الصدر، أو الرئة، أو الفم، أو الأسنان فهذا الطبيب قد حصلت له قوة جبارة المعبر عنها ب: (الملكة) عندنا بعد الممارسة و المزاولة في علم الطب حتى أصبح اخصائيا بالقلب مثلا، و ليس له اختصاص في العين، أو الصدر.

نعم هناك طبيب حاذق له الاحاطة الكاملة بجميع البدن فهو اخصائي

ص: 83

في جميع الشئون المرتبطة بالبدن فهو كالمجتهد المطلق الذي أصبح ذو قوة جبارة قوية يتمكن بها من الحصول على جميع أبواب الفقه.

و قد أثبت العلم الحديث أقساما للمجتهدين:

(الأول): المجتهد في الأحكام الشخصية.

(الثاني): المجتهد في القوانين المدنية و له الأهمية الكبرى.

(الثالث): المجتهد في القوانين الجزائية.

(الرابع): المجتهد في القوانين الدولية العامة، أو الخاصة.

(الخامس): المجتهد في القوانين الدولية.

كما أثبت علماء الحديث أيضا أن الاجتهاد المطلق في جميع هذه المراحل محال، أو قريب منه.

و أما على القول بامتناع التجزي في الاجتهاد فليس للمتصف به مجال للاجتهاد في باب خاص و عليه التقليد.

بيان ذلك: أن الملكة الحاصلة للشخص في بعض الأحكام: هي عين الملكة الحاصلة له على الكل.

ضرورة اتحاد المبادي و استواء نسبتها الى الكل، لأن أصول الفقه و قواعده الموضوعة لتحصيل ملكة الاستنباط تستوي فيها جميع أبواب الفقه من بداية الطهارات الى نهاية الحدود و الديات من دون فرق بينها فيكاد يستحيل حصول ملكة الاجتهاد في كتاب الطهارة مثلا إلا بعد الحصول و الوقوف على جميع القواعد الممهدة للاستنباط و الاستخراج فكيف يعقل التجزئة و التفرقة بينها، لأن معرفة تلك الأصول و القواعد المقررة في ذلك الفن إما لفظية أو عقلية، و بعد الوقوف عليها جميعا.

فإما أن تحصل له ملكة الاستنباط في جميع الأحكام، أو لا تحصل

ص: 84

له في شيء من الفقه، و التفكيك في المسبب مع اتحاد السبب لا وجه له و هذه الكبرى الكلية مسلمة لا شبهة فيها.

لكن الكلام في تطبيقها على صغرياتها.

و ما قيل في امتناع التجزي: ببساطة الملكة، و أنها غير صالحة للتجزي: فضعيف جدا، بداهة صلاحية الملكة على بساطتها للشدة و الضعف، و السعة و الضيق.

فالوجه في الامتناع ما ذكرناه من وحدة السبب المقتضي لوحدة المسبب، و اطراده في أمثاله.

نعم لا ريب في تحقيق التجزي، و وقوعه في مقام فعلية الاستنباط و استحالة حصوله دفعة واحدة في جميع أبواب الفقه.

لكن هذه الاستحالة غير مانعة عن تحقق الاجتهاد حتى فيمن لم يستنبط و لو حكما واحدا.

لا يقال: إنه يستحيل عادة حصول اجتهاد مطلق للانسان إن لم يكن مسبوقا بالتجزي فإنه يلزم حينئذ الطفرة و قد ثبت استحالتها.

فإنه يقال: إنه ليس من قبيل الطفرة في شيء، بل هو من قبيل قطع المسافة بنقل الأقدام، و تتابع الخطوات للوصول الى المنزل، فإنها هي المعدات للدخول و إن حصل هو دفعة واحدة.

لكن حصوله بعد تلك المعدات.

فكذلك حصول ملكة الاجتهاد المطلق فإنها و إن حصلت دفعة واحدة إلا أن حصولها بعد تلك المزاولة و الممارسة التي هيأت النفس لقبول ذلك الفيض الإلهي، و الملكة القدسية، لأن الملكة ذات مراتب فلا يطلق الاجتهاد المطلق إلا على المرتبة العليا منها فأين هذا من الطفرة ؟

ثم إن الاجتهاد لا يختص بعلم دون آخر، بل يجري في جميع العلوم

ص: 85

و الصناعات، فان الاجتهاد فيها: هو بذل الطاقة البشرية في تحصيل الفن المطلوب. و هذا يحصل في جميع العلوم.

هذا مجمل الكلام في الاجتهاد.

أما التقليد

فله اطلاقان لغة: و هو وضع القلادة في العنق و منه تقليد البعير، تقليد السيف، تقليد المصحف الكريم.

و بهذه المناسبة يقال للهدي: و تقليده:

و شرعا: و هو الأخذ بقول المجتهد و رأيه في الشرعيات فروعا متدينا به، بلا مطالبة دليل.

هذا معنى التقليد لغة و شرعا.

و أما رجوع الجاهل الى العالم في الجملة فمن ضروريات البشر و فطرياتهم الأولية في أكثر أمورهم، و لو لا ذلك للزم كون كل انسان عالما بكل شيء، و لا يكون جاهلا بشيء و هو من المستحيلات الأولية، إلا في شأن الباري عز و جل، فأصل التقليد في الجملة من البديهيات الأولية و من الأمور الفطرية التي جرت عليه سنة اللّه جل شأنه، و لا تبديل لسنة اللّه عز و جل، و لا يلزم فيه التقليد، و إلا لزم الدور أو التسلسل و كلاهما باطلان كما قرر في محله.

و لا الاجتهاد من الكتاب أو السنة، للزوم انسداد باب العلم على العامي العاجز عن الاجتهاد من الكتاب و السنة فرجوع العامي الى العالم و تقليده عنه قد ثبت في الشرعيات بالأدلة الأربعة.

أما الكتاب فقوله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ »(1).

بناء على أن المراد من أهل الذكر: هم العلماء.

ص: 86


1- النحل: الآية 43.

و قوله تعالى: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (1)

بناء على أن وجوب إنذار المنذرين بالكسر يدل على وجوب قبول المنذرين بالفتح بطريق أولى.

و أما السنة فطوائف:

منها: ارجاع (الأئمة من أهل البيت) صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين إلى أفراد من أصحابهم كمحمد بن مسلم و يونس بن عبد الرحمن و أضرابهم.

و منها: عمومات قولهم عليهم الصلاة و السلام: إنه حجتي عليكم.

و منها: عموم قوله عليه السلام: فللعوام أن يقلدوه.

و أما الاجماع فكاد أن يكون الأمر فوق ذلك الى حد يكون من ضروريات الدين.

و أما العقل: فلأن وجوب تحصيل الواقع على كل مكلف بالعلم أو العلمي يستلزم العسر و الحرج، بل اختلال في النظام.

و كذلك العمل بالاحتياط أيضا موجب للعسر و الحرج و اختلال النظام فيتعين الرجوع الى العالم.

ثم إن كل ما قلناه في الاجتهاد و المجتهد، و التقليد و المقلد بناء على رأي (الامامية الاثني عشرية) من أن للّه عز و جل في كل واقعة من الوقائع، و حادثة من الحوادث حتى أرش الخدش حكما من الأحكام الخمسة الوجوب، أو الندب، أو الحرمة، أو الكراهة، أو الاباحة إذ ما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون الا و للّه عز و جل فيه حكم من تلك الأحكام.

ص: 87


1- التوبة: الآية 123.

و كذا العقود و الإيقاعات فقد ورد فيهما من الشرع حكم من الصحة أو الفساد، و كل هذه الأحكام مودعة من اللّه عز اسمه عند نبيه خاتم الأنبياء صلى اللّه عليه و آله بطريق الوحي، و الإلهام، ثم بيّن صلى اللّه عليه و آله كثيرا من هذه الأحكام للناس، و لا سيما لأصحابه الحافين به و الطائفين كل يوم بعرش حضوره.

نعم هناك أحكام لم توجد الدواعي و البواعث لبثها و بيانها، لعدم الحاجة إليها، و الابتلاء بها، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها فحكمة التدرج في التبليغ اقتضت بيان قسم من الأحكام، و كتمان جملة منها.

لكنه صلى اللّه عليه و آله أودعها عند (أوصيائه الأطهار) كل وصي يودعها عند وصيه حتى ينشره في الوقت المناسب لبثها حسب الحكمة و المصلحة من عام مخصص، أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين فكثيرا ما يذكر صلى اللّه عليه و آله عاما ثم بعد برهة من الزمن يذكر مخصصه، و لربما لم يذكر المخصص أصلا، لحكمة اقتضت ذلك فأودعه عند أوصيائه، ليذكروه عند ما اقتضت الحكمة لنشره.

و هناك أسباب أخرى غير ما ذكرناه دعت إلى اخفاء قسم من الأحكام و عدم بيان المخصص، و المقيد، و المبين. خذ لذلك مثالا:

إن الأحاديث الصادرة عن (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله في حياته الشريفة قد اختلف الصحابة في فهمها، لاختلاف مراتب فهمهم و قريحتهم الذاتية كما قال عز من قائل: انزل من السّماء ماء فسالت أودية بقدرها. فالماء نزل في وقت واحد على نسق واحد، لكن الأودية و الغدران حسب سعتها و ضيقها جرى الماء فيها فكل واد و غدير أخذ مقدار ظرفيته و استعداده من الماء المنزل من السماء.

و قد يسمع الصحابي من النبي صلى اللّه عليه و آله حكما في واقعة

ص: 88

و يسمع الآخر في تلك الواقعة حكما آخر مخالفا للحكم الأول لخصوصية في أحدهما المقتضية لتضاد الحكمين من غير التفات الآخر لهذه الخصوصية أو كان ملتفتا إليها، لكنه غفل عنها فلم ينقلها مع الحديث الذي سمعه عن النبي صلى اللّه عليه و آله فحصل التعارض و التنافي و التغاير في الأحاديث ظاهرا دون الواقع فبهذا و ذاك احتاج الناس الى الاجتهاد و النظر في الأحكام حتى نفس الأصحاب الذين كان لهم شرف الحضور فكانوا يجتهدون فيها و يفتون فيما اجتهدوا فيه حسب رأيهم و نظرهم.

و كل ما نقلناه في هذا الباب بناء على أن باب الاجتهاد كان مفتوحا من زمن النبوة الى عصر الصحابة، و الى عصرنا هذا.

نعم يختلف الاجتهاد في عصر النبوة و الصحابة و عصرنا هذا، حيث كان في العصر الأول خفيف المئونة سهل التناول، لقرب عهد الصحابة بعهد النبوة، و كثرة القرائن، و إمكان السؤال المفيد للعلم القاطع.

بخلاف عصرنا هذا، فإنه يحتاج الى مئونة زائدة.

أيها القارئ النبيل هذه لمحة خاطفة موجزة عن (الاجتهاد و المجتهد و التقليد و المقلد) تلوناها عليك، لتكون بصيرا في ذلك، و تعرف موجز القول في (الاجتهاد و التقليد).

أساتذة الشيخ:

اشارة

من البديهي أن لكل طالب علم ديني كبقية طلاب العلوم الأخرى:

دراسات بدائية، و دراسات نهائية بها يتوصل إلى أسنى المراتب، و أسمى المعارج من طلبة أي العلوم كان.

و مما لا شك فيه أن (شيخنا الأعظم) كان أحد طلاب هذه العلوم و روادها فسيرته كسيرتهم. فله دراسات أولية، و دراسات ختامية.

ص: 89

فلنشرع الآن في هاتين المرحلتين:

(الأولى): دراساته البدائية و نعني بهذه الدراسات: المقدمات الأولية الوسطى بعد الفراغ عن علوم اللغة و الأدب، و علم البلاغة و المنطق.

(الاستاذ الأول): عمه العلامة الجليل (الشيخ حسين) الأنصاري

(الاستاذ الأول): عمه العلامة الجليل (الشيخ حسين) الأنصاري(1)

فقد استفاد الشيخ جل دراساته البدائية من عمه الجليل.

أليك موجز حياته:

كان هذا الفقيه النبيل من تلامذة الفقيه العظيم الأصولي الكبير (السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض).

حضر أبحاث السيد في (كربلاء) فاستفاد من غزارة علمه، و نمير منهله حتى بلغ مرتبة رفيعة سامية من الاجتهاد فرجع الى وطنه المألوف فصار مرجعا دينيا فتصدى للإفتاء و القضاء، فبذهنه الوقاد، و عقله الجبار قام بالأمور أحسن قيام.

كان له حوزة بحث اجتمع فيها الأفاضل، و التف حوله الفطاحل فاستفادوا من غزارة علمه، و طول باعه و منهم (شيخنا الأنصاري) فقد استفاد أوليات دراساته من هذا العم الجليل فنال منه شطرا وافرا من الفقه و الأصول حتى ركز عليهما دعائهما.

لبّى نداء ربه الكريم عام 1253.

(الأستاذ الثاني): الفقيه الكبير (السيد محمد المجاهد) نجل (السيد علي صاحب الرياض).

و قد عرفت في ص 30 أن الشيخ في سفرته الأولى عند ما جاء الى (العراق) و تشرف بزيارة مرقد (الامام أبي عبد اللّه الحسين) عليه السلام تشرف

ص: 90


1- كان هذا الرجل من أبرز رجالات أسرته الكريمة، و أشهر من نبغ من هذا البيت الرفيع و قد أشرنا إليه في ص 29.

بخدمة والده لزيارة السيد في معهد درسه، و كان المجلس مكتظا بالأفاضل الفطاحل و الحوار و النقاش كان في جوانب صلاة الجمعة فأمر (السيد المجاهد) والد الشيخ بإبقاء ولده في كربلاء حين رأى منه النبوغ و المواهب فبقي الشيخ متتلمذا عنده الى أربعة أعوام حتى وقعت حادثة (داود باشا) التي ذكرناها في ص 32-35 فاضطر العلماء الى مغادرة كربلاء و منهم الشيخ فاستفاد الشيخ من علميته الجبارة الى أن بلغ مرتبة الاجتهاد.

كان السيد المجاهد أكبر أنجال (السيد صاحب الرياض) و من أسباط الأستاذ الأكبر (الوحيد البهبهاني).

حضر (السيد المجاهد) أبحاث السيد والده العظيم: الفقه و الأصول حتى نال جل المواضيع الهامة فيهما فبرزت مقدرته العلمية فنال ما نال.

يعد (السيد المجاهد) من الرعيل الأول في الفقه و الأصول، و له الرئاسة و المرجعية الكبرى.

و (للسيد المجاهد) بالإضافة الى مراتبه العلمية ملكات فاضلة و له في العبادة و الزهد جانب عظيم.

كان (السيد المجاهد) في (كربلاء) مسقط رأسه الى أن وقعت حادثة الوهابية(1) تلك الحادثة الدامية بكثرة ما تضمنت القتل و النهب و الدمار، و إراقة دماء الأبرار و الأعلام و الأخيار.

هاجر (السيد المجاهد) بعد وقوع الحادث (كربلاء) و سافر الى (ايران) فحل في اصفهان ثم بعد أيام تشرف لزيارة مرقد (الامام الثامن) عليه السلام في خراسان، ثم رجع الى أصفهان و حط رحله فيها الى أن جاءه نعي وفاة والده العظيم.

أصبح (السيد المجاهد) من الأعلام البارزين في (اصبهان).

ص: 91


1- أليك خلاصة الحادثة الدامية: ظهر في (البلاد الحجازية) رجل اسمه (محمد بن عبد الوهاب ابن سليمان التميمي) كان من أعراب نجد فنشأ و ترعر حتى أخذ في بداية عمره عن علماء (مكة و المدينة) و كانوا يتفرسون فيه الضلال و الإضلال كما أن والده كان يتفرس فيه ذلك، و يحذر الناس منه. ثم جاء الى (البصرة) فأقام فيها فتتلمذ على الشيخ (محمد مهدي البصري) و بقي هناك محصلا للعلوم ثم ذهب الى الحجاز فآل أمره الى اتباع الهوى، و الاغترار بالأباطيل و المنى فاخترع مذهبا خارجا عن فرق الاسلام بناه على أنقاض ما أسسه (ابن تيمية) الحرانى. و كانت بداية ظهوره عام 1143، لكن اشتهر أمره عام 1150 فاظهر العقيدة الزائفة في (نجد و قراها). و مما جاء به و اخترعه: تحريم الاكرام بالموتى حتى (الأنبياء و الأئمة) عليهم السلام فاظهر مذهبه فاجتمع حوله خلق كثير من أعراب تلك البلاد و نواحيها فتبعوه. كانت أصول دعواه مبنية على التوحيد، و ترك الشرك باللّه، و تحريم البناء على القبور و زيارتها، و لمسها و تقبيلها، و تحريم الصلاة عندها: و هو يريد مراقد (أئمة أهل البيت). تلكم المراقد المشرفة التي شرفها اللّه عز و جل بقوله عز من قائل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ . و من جملة ما أتى به و أفتى بذلك: وجوب هدم القبور و الأبنية القائمة عليها، و وجوب متابعة من شهر بالسيف من هذه الفئة الفتية و أن رأيه متبع حسب مقتضيات الزمن، و متطلبات الظروف، و أنه لا عبرة بقول الميت أبدا، لأن الحي أشرف منه مهما بلغ الميت. وفد بلغت به الجرأة حتى قال كلمته الشيعة: (عصاى خير من محمد، فإنها تنفع و محمد لا ينفع). اشتهر هذا المذهب ب: (المذهب الوهابي) باسم أبيه. و المذهب هذا مخالف للمذاهب الاسلامية الأخرى و يكفر فرق المسلمين و ينبزونهم بالشرك و الإلحاد. جاء هذا المبدع الجديد الى (عبد العزيز) شيخ أعراب نجد و كان حنبليا فأظهر له مذهبه فتبعه و اعتنق مذهبه. (شنشنة أعرفها من أخزم): كان الهدف الوحيد من وجوب هدم القبور: هدم قبور (الأئمة من أهل البيت) في العراق و الحجاز. جاء ابن عبد الوهاب مع (عبد العزيز السعود) الذي قوى إمارته من طريق الدين باتباعه (محمد بن عبد الوهاب). كما أن (ابن عبد الوهاب) قوى مذهبه و دعوته من طريق السيف باتباع (عبد العزيز السعود) له و انتصاره به: مع جيشه قاصدين (المدينة المنورة) حتى أتوا البقيع فهدموا القبور، و نهبوا ما في الحرم من الذخائر، ثم نهبوا النفائس (الحرم النبوي الطاهر) ثم ارتكبوا الجرائم و المآثم في المدينة ثم رجعوا الى موطنهم فبنوا في (نجد) حصنا سموه: (الدرعية) فقوي أمره شيئا فشيئا. ثم قصد الاستيلاء على (النجف الاشرف) فهجمها مرة بعد اخرى فلم يتوفق فرجعوا على أعقابهم خائبين خاسرين. ثم جاء (سعود بن عبد العزيز) بايعاز من أبيه مع جيشه الجرار و قد بلغ عددهم اثني عشر الفا قاصدين مهاجمة (كربلاء). جاء المهاجمون حتى وصلوا سور المدينة ليلا فأخذوا في ثقب ثغرة من ثغور سورها حتى تمكنوا من الدخول فدخلوها صبيحة يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام 1216، و قد ذهب جل أهاليها الى (النجف الأشرف) لزيارة مرقد (الامام أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام بمناسبة زيارة الغدير، لمكانة هذا اليوم عند (الشيعة الامامية)، حيث نصب في مثل هذا اليوم عام حجة الوداع (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله (عليا) صلوات اللّه عليه للإمرة و الولاية: بأمر من اللّه عز و جل في قوله عز من قائل: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ المائدة: الآية 67. دخل المهاجم بجيشه (كربلاء) فجأة و على حين غفلة من أهلها فدهش الأهالي من كثرة الجيوش و استعدادهم فاخذوا في الفرار و هم حيارى. أخذ المهاجم في القتل و إراقة الدماء في طريقهم و أسرفوا حتى دخلوا الحرم المقدس فقتلوا كل من كان في الحرم الطاهر و لائذا به، و كانوا أكثر من خمسين رجلا و امرأة ثم بدءوا بأعمال تخريبية من هدم الأسس و الجدران، و قلع المرايا و الزجاج و الزخارف، ثم أحرقوا الصندوق المطهر جرأة على انتهاك حرمة (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله، و كأنهم لم يسمعوا قول اللّه عز و جل: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ » فهتكوا حرمة الرسول بأعمالهم الوحشية: من قتلهم اللاجئين بقبر (الحسين) عليه السلام سيد شباب أهل الجنة، و خامس أهل الكساء. لم يكتف المهاجم بذلك فأخذ في نهب النفائس و المجوهرات و السجاد الفاخر و المعلقات الثمينة، و الشمعدانات و قلع الأبواب المرصعة بالأحجار الكريمة، ثم خرج من الحرم فاخذ في قتل من كان في الصحن الشريف و قد جاوز عددهم خمسمائة شخص. ثم خرجوا من الصحن فأخذوا في قتل أهل المدينة المقدسة فعاثوا فيها فقتلوا فيها قتلا فضيعا كأنما لم يكن في قلوبهم رقة و رحمة فجعلوا سيوفهم في رقاب المؤمنين الأبرار و لم يرحموا طفلا صغيرا، و لا شيخا كبيرا، و لا مريضا زمنا، و لا مسجى و هو يعانق الموت إلا قتلوه و لم يرقبوا للمؤمنين إلا و لا ذمة. أباح المهاجمون القتل الفضيع في أهالي المدينة المقدسة ستة ساعات و قد جاوز عدد القتلى الآلاف، و بلغ عدد الجرحى عشرة آلاف. لم يقتنع العدو بقتل هؤلاء حتى جعل سيفه في رقاب العلماء حملة الكتاب و السنة، و في رقاب حفاظ القرآن الكريم، و السادات من ذرية الرسول و منهم (سادن الروضة الحسينية) متقصدين قتله. ثم قصدوا دار السيد (صاحب الرياض) والد سيدنا المترجم الذي كان من الأعلام، و من أشخص رجالات الشيعة لقتله، و قتل عائلته برمتهم. اطلع السيد على نواياهم السيئة فأخرج حالا عياله و أطفاله من داره و أرسلهم الى خارج المدينة في مكان بعيد مأمون عن أذاهم و كيدهم، و بقي هو و طفل رضيع له قد نسي أخذه معهم، لكثرة القلق و الخوف الواردين على أهل المدينة بصورة عامة، و على عائلة السيد بصورة خاصة. صعد السيد و معه طفله الرضيع الى الطابق الفوقاني و كان فيه حزمة حطب فاختفى السيد مع طفله تحت هذه الحزمة. دخل العدو دار السيد مهاجما فنهبوا ما فيها من كل شيء ثم جعلوا يجوسون الغرف و الزوايا من الدار و هم يريدون ضالتهم و هو السيد و ينادون بصوت عال: أين مير علي أين مير علي أين مير علي ففتشوا الدار عاليها سافلها، فلم يعثروا على ضالتهم، ثم صعدوا الطابق الفوقاني فلم يجدوا إلا حزمة الحطب فجعلوا يفتشون عنه و نقلوا بعض الحطب من مكان و يجعلونه في مكان آخر و السيد و طفله الرضيع تحت حزمة الحطب فأعمى اللّه أعينهم عن رؤية السيد و طفله. و من عجيب الأمر أن الطفل الرضيع لم يبك و لم يصرخ في خلال هذه المدة التي جاس العدو الدار من عاليها الى سافلها و من طبيعة الطفل البكاء و الصراخ. نعم هذه الأفعال نتيجة تجرد الانسان عن المثل الانسانية، و النواميس الأخلاقية، فإن الانسان اذا مات ضميره انتزعت الرقة و الرأفة و الشفقة و الرحمة و العطف و الحنان عن قلبه فينكر جميع القيم الانسانية فيصبح هو و السبع الضاري على حد سواء، إلا أنه من ذوات الأربع، و هو مستقيم القامة، ماش على قدميه. و لربما يكون أضر و أخطر و أفتك منه. أيها القارئ النبيل هذه عملية ارتكبها هؤلاء الذين يدعون التوحيد و يظهرون الاسلام بطائفة كبيرة من المسلمين من أهم الطوائف الاسلامية و هم لائذون بقبر (الحسين سبط الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله الذي أراق دمه في سبيل إحياء دين جده و هو حي يرزق عند اللّه و قد قال العزيز جل جلاله: «وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ ». آل عمران: الآية 169. و تلك عملية (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله مع المشركين في جميع غزواته و فتوحاته في حق النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و الأعرج و الأعمى حتى في حق الحيوانات و الأشجار. كان صلى اللّه عليه و آله حينما يفتح يصدر بيانا رسميا يقول فيه و يؤكد: لا يتعرض أحد من المسلمين الفاتحين أحدا من المذكورين، و كان يهتم بشأنهم، و يبالغ في الحفاظ عليهم. أيها القارئ النبيل جرد نفسك عن النعرات الطائفية و قارن بين فعله صلى اللّه عليه و آله، و بين فعلهم ثم أحكم و أنصف و إن شئت فقل: و اللّه ما هي إلا ثارات بدر و حنين كما قال ابن الزبعرى: يا غراب البين أسمعت فقل إنما تندب شيئا قد فعل إن للخير و للشر مدى و كلا ذلك وجه و قبل و كما قال يزيد بن معاوية: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل لست من خندف إن لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل و كما قال أيضا: نعب الغراب فقلت: صح أو لا تصح فلقد قضيت من الغريم ديوني ما ذا فعل محمد حتى ينتقم منه ابن معاوية ابن آكلة الأكباد. و ما ذا كانت ديونه حتى يقضيها ابن معاوية منه. كانت هذه الحادثة أيام (علي باشا) و كان الحاكم على (كربلاء) يوم ذاك (عمر آغا) و هو رجل من النواصب يبغض (أهل البيت) و شيعتهم و قد تواطأ مع هؤلاء المهاجمين سرا قبل مجيئهم، و لما قربت فلولهم و دخلوا المدينة غادر (كربلاء) و لم يستعمل شيئا لحماية المدينة المقدسة و مقابلة العدو، و ذهب الى الهندية.

ص: 92

ص: 93

ص: 94

ص: 95

ص: 96

ص: 97

فصار مرجعا دينيا، و زعيما روحيا، و بعد أيام قلائل اجتمع عنده الأفاضل، و التف لديه الفطاحل فاستفادوا من منهله العذب، لسلاسة بيانه، و طلاقة لسانه.

كان يفسر المطالب الغامضة، و المسائل الدقيقة باسلوب حسن بديع يسهل على الطالب فهمها و أخذها فلأجله حضر معهده الشريف جميع الأعلام

بقي (السيد المجاهد) في (اصفهان) ثلاثة عشر عاما زعيما دينيا و علميا الى أن جاءه نعي وفاة والده العظيم في كربلاء عام 1232 فغادر اصفهان قاصدا كربلاء فحل فيها مرجعا عاما، و زعيما علميا فذاع صيته في الأصقاع الشيعية، و اشتهرت مكانته العلمية في الأوساط الثقافية حتى تفرد في الزعامتين. الزعامة الدينية، و الزعامة العلمية.

ربي (السيد المجاهد) بدوره تلامذة أفاضل، و علماء نوابغ أمثال (الأستاذ شريف العلماء، و ملا صالح المازندراني، و شيخنا الأعظم) و غيرهم ممن ازدان الدهر بهم.

ناهيك هذا العملاق العظيم، و العبقري الكبير (الشيخ الأنصاري) الذي عكف على مصنفاته كل من أتى بعده.

مؤلفات السيد المجاهد:

(للسيد المجاهد) مؤلفات ثمينة، و مصنفات قيمة. أليك أسماء آثاره العلمية.

1 - (المناهل) في الفقه: و هو كتاب عظيم نافع جدا، جامع للأدلة و الأقوال، حاو للفروع و الآراء.

قيل: لم يكتب مثله في الفقه.

2 - (الوسائل) في الأصول.

3 - (المصابيح) في الفقه.

ص: 98

4 - (الإصلاح) في الفقه.

5 - (جامع العبائر) هذا الكتاب مشتمل على عبارات كتب الفقهاء الراجعة الى المباحث الفقهية.

6 - (الأغلاط المشهورة) و هذا الكتاب كثير نفعه، حيث اشتمل على الأغلاط المشهورة عند الناس و قد صححها السيد بكتابه هذا بالأدلة القاطعة.

7 - (حجية الشهرة) في الأصول.

8 - (حجية المظنة) في الأصول.

9 - (الاستصحاب) في الأصول.

10 - (جامع المسائل) في الفقه.

11 - (إصلاح العمل) في العبادات.

و للسيد آثار علمية أخرى تركنا ذكرها خوف الإطالة.

وفاته:

لبى دعوة ربه الكريم في ايران بعد رجوعه من الحرب الفاشلة عام 1242 و بقي جثمانه هناك ثم نقل الى كربلاء و دفن في مقبرتهم الخاصة الواقعة في السوق المعبر عنه ب: (سوق الحرمين).

(الأستاذ الثالث): (شريف العلماء المازندراني).

قد استفاد (شيخنا الأنصاري) من غزارة علم هذا الفقيه الجبار عند سفرته الأولى، و الثانية الى العراق، و لا سيما في سفرته الثانية التي بقي فيها سنتان سنة في (كربلاء)، و سنة في (النجف الأشرف) متتلمذا عند فقيه العصر (الشيخ موسى كاشف الغطاء).

كان (الأستاذ شريف العلماء) من فحول الفقهاء، و من محققي علم الأصول، و من نوابغ الدهر، و نوادر العصر، له جزالة الكلام، و سرعة

ص: 99

الانتقال، و طلاقة اللسان، و عذوبة البيان، و الغلبة على الأقران في المسائل الفقهية و الأصولية و الكلامية، و له المهارة الخارقة في الجدل و المحاضرات.

ما ناظر أحدا إلا غلبه، و لا باحث فقيها في مسألة إلا فاقه.

و الخلاصة: أنه كان آية في الذكاء، و شعلة وهّاجة في البيان و التحقيق، قل نظيره في أقرانه مع صغر عمره.

كان للأستاذ شريف العلماء مجلسان للتدريس:

مجلس للأفاضل الأعلام الذين لم يبلغوا المراتب السامية.

و مجلس للفطاحل الذين نالوا أسمى الدرجات، و أسنى المراتب أمثال (سعيد العلماء المازندراني، و شيخنا الأنصاري، و صاحب الضوابط و ملا آغا الدربندي، و ملا اسماعيل اليزدي).

و في الحقيقة المجلس الأول لمن بلغ بداية الاجتهاد، و المجلس الثاني لمن أنهى الاجتهاد و بلغ قمته.

كان الأستاذ من تلامذة (السيد المجاهد، و صاحب الرياض) ثم استقل بالتدريس و الإفادة.

اهتم (شريف العلماء) بتربية الأفاضل، و بالغ في ذلك، و أفنى حياته الغالية في هذا الصدد حتى أنجب رجالا فطاحل، و علماء نوابغ مر ذكرهم آنفا.

لم يهتم (شريف العلماء) بعد اهتمامه بتربية الأفاضل: بالتأليف و التصنيف، و لذا لم يخلف لنا تأليفا مع غزارة علمه، و كثرة إحاطته بالمسائل الفقهية و الأصولية. و الكلامية.

نعم له كتاب واحد ألفه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه من مباحث علم أصول الفقه.

انتقل (الأستاذ شريف العلماء) الى الرفيق الأعلى، و جاورت روحه

ص: 100

أرواح السعداء بمرض الطاعون عام 1245 في (كربلاء)، و هو في العقد الخامس من عمره المبارك.

شيع جثمانه الطاهر بتشييع عظيم شارك فيه جميع الطبقات، و دفن في سرداب بيته الخاص، و قبره هناك معروف يزار فرضوان اللّه تبارك و تعالى عليه.

(الأستاذ الرابع): المحقق العظيم، الفقيه النحرير، (المولى أحمد النراقي)

الذي مر شرح حياته في صحيفة 48-58.

و قد ذكرنا أن الشيخ في جولته إلى ربوع ايران بقي في (كاشان) متتلمذا على المولى النراقي أربعة أعوام بعد أن تتلمذ على العلمين الفقيهين الأستاذين: (السيد المجاهد و شريف العلماء) خمسة أعوام، و كانا آيتين في الفقه و الأصول، و مبانيهما، و كانا محوري التحقيق و التدقيق في الحوزة العلمية (بكربلاء).

خرج الشيخ من (كربلاء) و هو مجتهد قد بلغ مراتب الاجتهاد أسماها فحضوره لدى هذا العملاق العظيم، و تتلمذه عليه أربعة أعوام دليل على تبحره في العلوم، و تعمقه في المباني الفقهية و الأصولية، و أنه بحر زخار تنفجر منه ينابيع العلوم.

و على أعلميته من العلمين المذكورين، فحضوره عنده كان حضور استفادة و استذادة، و لم يكن (شيخنا الأنصاري) مجاملا، و لا مرائيا و لا طالبا لحطام الدنيا حتى يقال: كان حضوره لأجل هذه الغايات.

و أنت ترى أن الشيخ في جولته الى البلاد المذكورة قد اجتمع مع شخصيات فذة لهم شهرتهم الخاصة في المجتمع الاسلامي، و الأوساط العلمية و باحث معهم و ناظرهم.

لكنه لم يبق عندهم و لم يستفد منهم سوى ما استفاده من هذا العملاق.

ص: 101

هذا ما أذهب إليه و أعتقده، و لكل رأيه و عقيدته

(الأستاذ الخامس): فقيه عصره، و نابغة الزمن (الشيخ موسى كاشف الغطاء).

و قد مضى في شرح حياة الشيخ ص 36: أن (شيخنا الأنصاري) تتلمذ عليه في رحلته الثانية الى (العراق) ما يقرب من سنة كاملة، أو أكثر بعد أن رجع من كربلاء و بقي في (النجف الأشرف) مستفيدا من منهله العذب فلا نعيده عليك راجع هناك.

(الأستاذ السادس): فقيه العصر (الشيخ علي كاشف الغطاء)

استقل بالبحث و التدريس و التقليد بعد وفاة أخيه فحضر معهد بحثه الأعلام و استفادوا من غزارة علمه فلم يزل يكشف لهم من غامضات الأسرار و الحجب، و ينثر عليهم من فوق أعواده، و يحقق لهم مشكلات يعجز عن الوصول إليها أولو التحقيق.

و ممن استفاد من نمير منهله العذب (شيخنا الأنصاري) فحضر مجلس درسه الميمون من عام تشرفه (بالنجف الأشرف) و هي سنة 1249 - الى عام وفاة الأستاذ و هي سنة 1254 فكانت مدة استفادته منه خمسة أعوام.

فهؤلاء الأعلام الست الذين كانوا من مفاخر الدهر، و نوابغ العصر و أساطين العلم هم أساتذة (شيخنا الأنصاري) بدوا و ختاما.

و لم أر من صرح باستاذ غيرهم للشيخ و أنه تتلمذ عليه، حتى أن زميلنا المكرم حفيد أخ (الشيخ الأعظم) الذي كتب عن حياة عمه الجليل في كتابه: (زندگانى و شخصيت شيخ مرتضى أنصاري) لم يذكر سوى ما ذكرناه لك، مع أن المؤلف قد أسهب في حياة الشيخ، و لم أهتد لحد التاريخ الى من يدلني على غيرهم، و سألت بعض الأفاضل من رجالات الحوزة العلمية في (النجف الأشرف) فلم يفيدوا أكثر مما ذكرنا.

ص: 102

نعم هناك بعض الأقوال حول تتلمذ الشيخ لدى فقيه العصر العالم الرباني (الشيخ محمد حسن) صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه الشريف.

و قد اختلفت كيفية النقل المذكور.

قيل: كان يحضر للاستفادة.

و قيل: كان يحضر متيمنا و متبركا بمجلس درسه الشريف، بعيدا عن حلقة الدرس، مكتفيا بسماع صوت الشيخ و همهمته الشريفة، و لهذا التباعد عن محفل الدرس ظن بعض تلامذة (الشيخ صاحب الجواهر) أنه مستعط فقير الحال يحضر للحصول على دريهمات.

و قال بعض الآخرين من تلامذته: إنه ذو فضل، فوقع النزاع بين تلامذة (الشيخ صاحب الجواهر) حول (الشيخ الأنصاري) فاستقر رأيهم على اختباره و امتحانه حتى ينكشف القناع.

و من حسن الصدف أن (الشيخ صاحب الجواهر) كان بحثه في تعارض الأخبار، و تضاربها في موضوع واحد، و هذه الأخبار تسمى ب: (الأخبار العلاجية)، و التي جمع بينها (شيخ الطائفة) بالجمع التبرعي و بعض بالمرجحات السندية، أو الخارجية، أو الجهتية، و جرت مباحثات حول المسألة فأنهى (الشيخ صاحب الجواهر) رأيه الى تقديم أدلة الأجزاء و الشرائط على أدلة إطلاق أصل الواجب.

فهنا وجد تلامذة (الشيخ صاحب الجواهر) ضالتهم فقالوا لا بد من اختبار الشيخ عن سر تقديم أدلة الأجزاء على أدلة إطلاق أصل الواجب.

فوقع انتخاب هذا الاختبار على (المحقق الرشتي) صاحب (بدائع الأفكار) و أنه يباشر الامتحان.

(جاء المحقق الرشتي) نحو (الشيخ الأنصاري) و هو يريد اختبار و لم يجتمع لحد ذلك اليوم مع (شيخنا الأنصاري) فسأله عن المسألة المبحوث

ص: 103

عنها في اليوم الماضي، و عن سر تقديم (الشيخ صاحب الجواهر) أدلة إطلاق الأجزاء و الشرائط على أدلة إطلاق أصل الواجب.

فاجاب (الشيخ الأنصاري): السر في ذلك هي الحكومة، حيث إن إطلاق دليل الجزئية حاكم على اطلاق دليل الواجب، فهو حاكم و ذاك محكوم.

فتعجب (المحقق الرشتي) لما قرعت هذه الكلمة: (الحكومة) سمعه، و أدهشه الجواب، لبعدها عن الأذهان، بالإضافة الى أنها لم تسمع لحد ذلك اليوم من العلماء القدامى الذين صنفوا في الأصول (كشيخ الطائفة، و العلامة الحلي، و صاحب المعالم، و شيخنا البهائي، و الميرزا القمي و الشيخ محمد تقي الاصفهاني، و صاحب الضوابط): هذه الكلمة و لا ذكروها في كتبهم.

علم (المحقق الرشتي) أن المختبر و الممتحن بالفتح ذو فضل غزير لا يقاس به الآخرون من تلامذة (الشيخ صاحب الجواهر).

فسأل (المحقق الرشتي) عن (الشيخ) عن معنى الحكومة و عن الحاكم و المحكوم.

فأجاب الشيخ: أن معرفة معنى الحكومة و الحاكم و المحكوم يحتاج الى بحث يستغرق ستة أشهر حتى يتبين لكم معنى الحكومة و الحاكم و المحكوم و لا يمكنني و لا يسعني في هذه العجالة إفهام هذا البحث العميق.

و لا يخفى على ذوي الدراية أن موضوعا واحدا يحتاج الى دراسة ستة أشهر فيه نوع من الأهمية البالغة.

اعترف (المحقق الرشتي) للشيخ بمقامه العلمي الرفيع بعد هذه البحوث سؤالا و جوابا، و تيقن أن منطقه فوق مستوى منطق الآخرين.

و من هنا ابتدأت علاقة (المحقق الرشتي) (بالشيخ الأنصاري)

ص: 104

علاقة التلميذ بالأستاذ فلازمه ملازمة الظل فحضر بحوثه الفقهية و الأصولية فاستفاد من منهله العذب استفادة كاملة حتى أصبح من مبرزي تلامذته و من مرموقي حوزته.

و لما انجر بنا الكلام الى (الحكومة) لا بأس بالاشارة الى تلقيب الشيخ ب: (المبتكر) الذي يعنون به: أنه المبتكر للحكومة.

فنقول: إن من يطلق كلمة المبتكر على الشيخ: يريد بذلك أن كلمة (الحكومة) في بحث الفقه و الأصول كلما توجد في كتب المتأخرين من الفقهاء و الأصوليين فهي من مبتكرات (الشيخ الأنصاري) و المؤسس لها، و الفاتح بها بابا جديدا في الأسلوب الاستدلالي، و لإن نشأ هذا الاصطلاح في عصره من قبل غيره كما يظهر من التعبير بالحكومة و الورود في (جواهر الكلام): فإنه لم يكن بهذا التحديد و السعة اللذين انتهى بهما (الشيخ الأنصاري).

و على ما ينقل عنه كان يصرح بعدم غفلة الأساطين من الفقهاء المتقدمين عن مغزى ما كان يقصده هو، و ان لم يصرحوا بهذه الكلمة في بحوثهم الفقهية، و لم يبحثوا هذا الموضوع، أي موضوع الحكومة فيها.

لكنهم أشاروا إليه، و أفادوا ما أفاده الشيخ، و لم أعثر - لحد الآن:

و هي الساعة الرابعة من ليلة الاثنين الخامس من جمادي الأولى عام 1392 و أنا جالس في غرفة ادارتي في (جامعة النجف الدينية) و القلم بيدي أكتب حياة (شيخنا الأنصاري) و قد استولى الانهيار على أعصابي:

على من سبق الشيخ من فقهائنا الأكابر أن يبحث عن الموضوع بهذا التحديد و السعة فبحق يقال: إن هذا البحث من مبتكرات الشيخ و خصائصه.

(عود على بدء):

كان الكلام حول تتلمذ (الشيخ الأنصاري) على (الشيخ صاحب الجواهر)

ص: 105

فسألت الأفاضل عن مدى صحة هذا الانتساب فلم أهتد الى ذلك.

نعم أفاد زميلنا المكرم الصديق الوفي الحجة (الشيخ محمد تقي) الجواهري الأستاذ في (جامعة النجف الدينية) حفظه اللّه تعالى و أيده: أن هناك بعض القرائن تدل على صحة هذا الانتساب: و هو تعبير (الشيخ) عن (صاحب الجواهر) ب: (شيخنا المعاصر) في قوله في كتاب (المكاسب) في باب بيع العبد المملوك الكافر: و كذا الفطري على الأقوى بل الظاهر أنه لا خلاف فيه من هذه الجهة. الى أن يقول:

و لعل من جوز بيعه بنى على قبول توبته، و تبعه على ذلك (شيخنا المعاصر)(1).

ثم عقب الزميل المعظم بقوله: إن هذا التعبير لا يطلق إلا على من كان استاذا لمن عبر عنه. هذا ما أفاده شيخنا الزميل دامت إفاضاته.

و أنت ترى أيها القارئ الكريم أن التعبير المذكور شائع الاستعمال يؤتى به للتجليل و التكريم و التعظيم عن الشخص المعبر عنه كما يقال: قال سيدنا الأستاذ: قال شيخنا الأستاذ. قال سيدنا المعاصر قال شيخنا المعاصر مع أن القائل لم يتتلمذ عليه.

و نحن بدورنا الحاضر نعبر عن الأعلام الموجودين: قال السيد الأستاذ قال الشيخ الأستاذ قال شيخنا المعاصر مع العلم بأننا لم نتلمذ على السيد الأستاذ و الشيخ الاستاذ يوما واحدا، كل ذلك في سبيل تعظيم مقامه العلمي ليس إلا.

و هذه التعابير كانت مبذولة منذ عهد قديم، و ليست جديدة الاستعمال فتعبير الشيخ عن (الشيخ صاحب الجواهر) (بشيخنا المعاصر) لا يكون دليلا على صحة الانتساب المذكور.

ص: 106


1- راجع الجزء 1 من (المكاسب) من طبعتنا الحديثة ص 123-124.

نعم من هاهنا و هناك أحطنا علما أن الشيخ كان يحضر معهد درس (شيخنا صاحب الجواهر) أعلى اللّه مقامه حضور تجليل و تبجيل، و تكريم و تعظيم، حيث إن (شيخنا صاحب الجواهر) أعلى اللّه مقامه، و رفع في الخلد مكانه بالإضافة الى زعامتيه: العلمية. و المرجعية الكبرى: كان مثال الورع و التقوى، و كان من المعنيين بقوله تعالى: «إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ » فيحضر (الشيخ الأنصاري) معهد درسه الشريف لتلكم الفضائل متيمنا و متبركا بتلك النفسية التي قل نظيرها.

الى هنا نطوي الكلام عن أساتذة الشيخ.

(شيوخ اجازة الشيخ):

اشارة

المجيزون للشيخ عدد كثير لا يسع المجال لذكرهم فنكتفي بالأعلام منهم الذين كانت لهم الشهرة العلمية و الزمنية.

و قبل الخوض في ذكرهم نشرح معنى الإجازة و أقسامها لنحيط القارئ الكريم علما بها.

فنقول: الإجازة مصدر باب الإفعال من أجاز يجيز و زان أقام يقيم إقامة. و معناه لغة: الإذن و الترخيص في الشيء. يقال: أجاز زيدا لعمرو أي أذن له في الأمر الكذائي.

و يقال: أجاز لفلان أي رخص له في الشيء الفلاني.

هذا معنى الإجازة لغة.

(و أما أقسام الإجازة) فإثنان:

(الأول): اجازة اجتهاد.

(الثاني): اجازة رواية.

أما (الأول) فهو: اعطاء المجتهد المطلق الجامع لشرائط الاجتهاد و الاستنباط: الإذن في تفريغ الوسع لاستنباط الأحكام الفرعية الشرعية

ص: 107

طبق الأدلة الأربعة: الكتاب. السنة. الإجماع. العقل المعبر عنها بالدليل الاجتهادي: لمن بلغ مرتبة سامية رفيعة في الاجتهاد يتمكن بها من استنباط الأحكام الشرعية الفرعية.

و قد مضى شرح هذا الاجتهاد بقسميه: المطلق. و التجزي حينما ذكرنا الاجتهاد في الدراسات النهائية للطالب الديني التي يبلغ بها أسنى مراتب الاجتهاد، و أعلى قمة الاستنباط من ص 81-86.

و أما (الثاني) فهو: إعطاء من كان مجازا في نقل الأحاديث الشريفة المروية عن (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله، و الأئمة من (أهل البيت) المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين: شخصا آخر الإجازة في نقل الأحاديث المذكورة عنه بنفس الإجازة التي حازها، أي يأذن المجيز لهذا المستجيز نقل الرواية عنه إما لفظا، أو كتابة بأن يقول له: أنت مأذون في نقل الرواية عني، أو يكتب له ذلك.

أو يجيزه في نقل الأحاديث المدونة في الكتب المؤلفة في الأحاديث الشريفة مثل (الكافي. من لا يحضره الفقيه. التهذيب. الاستبصار. وسائل الشيعة بحار الأنوار الوافي مستدرك الوسائل) و بقية الكتب المؤلفة في هذا الباب.

و كذا يجيز له في نقل الأحاديث المدونة في كتب (إخواننا السنة) مثل (الصحاح الست)، و الكتب المؤلفة الأخرى بطرقهم المتصلة الى مشايخهم.

ثم إن القسم الثاني من الإجازة لا يعتبر فيه أن يكون المجيز مجتهدا جامعا لشرائط الاجتهاد، بل يكفي فيه أن يكون ذا مرتبة سامية في العلم.

نعم لا بدّ في المجيز أن يكون مجازا عن الغير في نقل الأحاديث المروية عن (الرسول الأعظم، و أهل البيت) صلوات اللّه عليه و عليهم حتى يصح له أن يجيز للآخرين.

ص: 108

هذا معنى الإجازة و أقسامها.

و للإجازة بالمعنى الثاني فوائد كثيرة ذكرها المتأخرون في كتبهم الحديثية لا يناسب المقام ذكرها.

راجع كتب الاجازة: البحار. مستدرك وسائل الشيعة. الذريعة.

الجزء الأول.

و أما الأعلام من مشايخ اجازة الشيخ فإليك أسماءهم.
(الأول): (السيد صدر الدين الموسوي العاملي)

السيد السند نابغة عصره. و نارة دهره الفقيه الكبير (السيد صدر الدين الموسوي العاملي) جد الأسرة الشريفة: (آل الصدر) القاطنين في (العراق - و ايران) و منهم سيدنا (السيد محمد صادق الصدر) امام الجماعة في (جامعة النجف الدينية).

أجاز هذا السيد الشريف (شيخنا الأنصاري) اجازة كافية كاملة لا يحتمل المقام ذكرها.

(الثاني): المولى الجليل (أحمد بن محمد مهدي) النراقي طاب ثراه.

أجاز هذا المولى الجليل (شيخنا الأنصاري) اجازة بليغة وافية.

كاملة. مر ذكرها من أولها الى آخرها في ص 58-64.

(الثالث): الفقيه العظيم (الشيخ محمد سعيد القراجه داغي)

الشهير ب: (صدتوماني) أعلى اللّه مقامه.

كان هذا المولى الجليل من مشاهير فقهائنا الكرام. تتلمذ على الأستاذ الأكبر (الوحيد البهبهاني، و العلامة السيد الطباطبائي بحر العلوم).

أجاز هذا المولى الجليل (شيخنا الأنصاري) اجازة عالية وافية مشتملة على فوائد جمة لا يسع المقام ذكرها.

كان (شيخنا الأنصاري) يعتز بهذه الإجازة، و يفتخر بها، و يعلن عنها في مجالس التدريس، و البحوث العلمية.

ص: 109

هؤلاء الأعلام الثلاثة هم مشايخ اجازة الشيخ، و له مشايخ آخرون في الاجازة تركنا أسماءهم خوف الإطالة و الخروج عن الموضوع.

(زعامة الشيخ):

اشارة

و ستعرف قريبا أن الشيخ بعد وفاة فقيه الطائفة (الشيخ صاحب الجواهر) أعلى اللّه مقامه أصبح زعيما دينيا، و مرجعا كبيرا حيث ألقت مقاليدها إليه فصفى له الجو، و خلا له الأمر.

و نحن قبل الشروع في زعامته نذكر لك على سبيل الاختصار شيئا عن المرجعية الكبرى عند (الطائفة الإمامية) لتكون بصيرا بها.

(المرجعية الكبرى):

هي قيادة الأمة الإسلامية في جميع شئونها و مجالاتها الروحية و الاجتماعية و السياسية في مفهومها الإسلامي، لا في مفهومها المتداول عند الساسة الغاشمين التي تحكي عن واقع الخديعة و المكر و الحيلة و الشيطنة التي لا عهد لها بالورع، و لا مساس لها بالتقوى، و لا صلة لها بأي معنى انساني نبيل و الرجل الإلهي يعلم هذه الوسائل و الحيل بعين ما يعلمها أولئك الغاشمون.

لكنه لم يستعملها، خوفا من الباري عز و جل، و من تبعاتها المترتبة عليها عاجلا و آجلا قال (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام:

و اللّه ما معاوية بأدهى مني و لكنّه يغدر و يفجر، و لو لا كراهيّة الغدر لكنت أدهى النّاس(1).

إن المرجعة الكبرى عند (الشيعة الإمامية) تشتمل على جوانب التشريع، و القضاء، و الإفتاء، و الحكم بما أنزل اللّه، و التوجيه، و الإرشاد لعموم المسلمين.

و من ثم فإن المجتمع الاسلامي خاضع لجميع توجيهات مركز القيادة

ص: 110


1- نهج البلاغة. الجزء 2. ص 180 شرح للأستاذ محمد عبده.

الإسلامية العليا المنصوص عليه من قبل الشارع المقدس نصا واضحا.

إما بالخصوص كما في (الرسول الأعظم) و خلفائه الاثني عشر صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم أجمعين.

و إما بالعموم كما في فقهاء عصر (الغيبة الكبرى) فقد جاء النص المشهور:

(من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه).

و لهذه المرجعية الكبرى، و الزعامة الدينية العليا: التدخل في جميع أطوار شئون الأمة الاسلامية من غير استثناء، نظرا لأنها القوة العليا لتنفيذ جميع أحكام الدين، و المسيطرة على الأوضاع الاجتماعية.

و بما أن أحكام الدين شاملة لكافة مراحل الحياة، و جميع أوضاعها السياسية و الاقتصادية، و الاجتماعية، فان المرجع الديني الأعلى هو المتكفل لمراعاة هذه الشئون و الأمور بحذافيرها.

و من الطبيعي أن ذلك إنما يكون في حدود قدرته التنفيذية.

هذه هي المرجعية الصحيحة الاسلامية عند الامامية، بل و عند الأمة الاسلامية جمعاء.

و لذلك كانت مرادفة للقيادة العامة.

و هي بهذا المعنى كانت مفهومة عند طبقات الأمة الاسلامية منذ الصدر الأول الاسلامي، فكان المسلمون يراجعون قادتهم الدينيين في جميع شئون حياتهم المادية، و الروحية، و الاجتماعية، و السياسية.

ثم إن المرجعية العليا، و الزعامة الروحية الكبرى كانت متجسدة في شخص (الأئمة الأطهار) من (أهل البيت) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

ص: 111

و هم صلوات اللّه و سلامه عليهم كانوا يعينون مراجع الامة الاسلامية في أطراف البلاد و أنحائها، فكانوا بين فقهاء يفتون الناس بما أنزل اللّه.

و بين قضاة عدول يرجع المسلمون إليهم في حل خصوماتهم.

و بين وكلاء لقبض الحقوق الشرعية و صرفها في وجوهها الشرعية.

و لو لا النص الخاص بشأنهم لم يراجع أحد من المؤمنين إليهم.

هذا في عصر حضورهم صلوات اللّه و سلامه عليهم.

و أما (في عصر الغيبة) عجل اللّه لصاحبها الفرج، فإنه ينقسم الى قسمين:

عصر (الغيبة الصغرى) و مدتها سبعون عاما و كان (للحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى له الفرج في هذه المدة نواب و سفراء وسيطين بينه، و بين شيعته في أخذ معالم دينهم، و عرض الحوادث الواقعة عليه.

و قد جاء المرسوم الخاص من ناحيته الشريفة عجل اللّه له الفرج باسم أربعة من هؤلاء السفراء، و الإرجاع إليهم.

(الأول): (عثمان بن سعيد العمري)(1) الاسدي(2)العسكري(3).

نصبه أولا (الامام أبو الحسن الهادي) عليه السلام.

ص: 112


1- بفتح العين و سكون الميم و كسر آراء: نسبة الى جده (عمرو).
2- نسبة الى بني أسد حي من أحياء العرب الشهيرة: و هم الذين دفنوا الأجساد الطاهرة في (كربلاء) بعد أن طحنت ضلوعها خيل العداء بحوافرها.
3- محلة من محلات (سامراء) سكتها عسكر (المعتصم العباسي) فسميت باسمهم.

و بعده (الامام أبو محمد الحسن العسكري) عليه السلام وكيلا على الشيعة الامامية.

قال له (الامام الحسن العسكري): انك الوكيل و الثقة المأمون على مال اللّه.

و قد حضر غسل (الامام الحسن العسكري) عليه السلام و تولى أمور تجهيزه.

كانت التوقيعات الشريفة من ناحية (الحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى له الفرج في الحوادث الواقعة للشيعة الامامية، و في الجواب عن أسئلتهم المتوجهة إليه صلوات اللّه و سلامه عليه: تخرج على يده يوصلها إليهم.

توفى رضوان اللّه عليه في (بغداد) و دفن هناك، و قبره في سوق الميدان قرب (السراي) مزار معروف و مشهور و بجنبه مسجد تقام فيه الصلاة.

(الثاني): من النواب: (أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد الأسدي) رضوان اللّه عليه فقام بالأمر و النيابة و السفارة بعد وفاة والده العظيم، و هو الوسيط بين (الحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى فرجه، و بين الشيعة الامامية في أمورهم و شئونهم، و الحوادث الواقعة لهم.

خرج المرسوم الشريف من الناحية المقدسة بقيامه مقام والده العظيم.

أليك نصه:

«إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، تسليما لأمره، و رضا بقضائه».

عاش أبوك سعيدا، و مات سعيدا فرحمه اللّه و ألحقه بأوليائه و مواليه عليهم السلام، أجزل اللّه لك الثواب، و أحسن العزاء، و رزئت و رزئنا و أوحشك فراقه و أوحشنا فستره اللّه في منقلبه.

ص: 113

كان من كمال سعادته أن رزقه اللّه ولدا مثلك يخلفه من بعده، و يقوم مقامه بأمره.

و كانت الشيعة ترجع إليه في مهام الأمور، و التوقيعات الشريفة على يده تخرج من الناحية المقدسة في الحوادث الواقعة و الجواب عن الأسئلة المتوجهة من الشيعة إليه على النحو الذي تخرج على يد أبيه.

تولى أمر الشيعة في حياة أبيه، ثم قام بالأمر مستقلا و متفردا زهاء خمسين عاما و كانت الأموال و الحقوق الشرعية تحمل من قبلهم إليه.

توفى رضوان اللّه تبارك و تعالى عليه عام 304 في (بغداد)، و دفن هناك، و قبره مزار معروف مشهور في (ساحة الخلاني)، و بجنب قبره مكتبة مهمة شهيرة ب: (مكتبة الخلاني) يراجعها المطالعون أسسها زميلنا المعظم العلامة الجليل (السيد محمد الحيدري) دام توفيقه.

(الثالث من السفراء و النواب): (أبو القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحتر النوبختي) رضوان اللّه عليه.

قام بأمر السفارة بوصية من (أبي جعفر محمد بن عثمان العمري الأسدي) بأمر من (الحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى فرجه.

كان هو الوسيط بين الشيعة، و بينه صلوات اللّه عليه، و كانت التوقيعات الشريفة في الحوادث الواقعة على يده تخرج، و جواب المسائل الواردة من قبل الشيعة الى (الحجة المنتظر) بيده تعطى لهم.

قال (أبو جعفر محمد بن عثمان العمري) قبل موته لجماعة من الشيعة و قد اجتمعوا عنده يسألونه عمن يكون مكانه إذا حضر أمر اللّه.

فقال: هذا (أبو القاسم الحسين بن روح) يقوم مقامي، و السفير بينكم و بين صاحب الأمر و الوكيل له، و الثقة الأمين فارجعوا إليه في أموركم و عولوا عليه في مهامكم فبذلك أمرت و قد بلّغت.

ص: 114

و كان جليل القدر و الشأن عند السنة و الشيعة، كما كان عظيم الشأن عند الخلفاء و الوزراء، و كان ذا عقل نير، و كياسة نادرة.

توفى في (بغداد) عام 306 و دفن هناك، و قبره في محلة (النوبختية) مزار معروف و يعرف المكان ب: (سوق الشورجة).

(الرابع من السفراء و النواب): (أبو الحسن علي بن محمد السمري) رضوان اللّه عليه.

قام بالأمر و السفارة و النيابة بوصية من (أبي القاسم الحسين بن روح)

خرج من الناحية المقدسة على يد السفير الثالث توقيع شريف (للسمري) أليك نصه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

يا علي بن محمد السمري عظّم اللّه أجر إخوانك فيك فإنّك ميت ما بينك و بينهم غير ستة أيّام فاجمع أمرك، و لا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة، و لا ظهور إلا بعد إذن اللّه تعالى ذكره، و ذلك بعد طول الأمد، و قسوة القلوب و امتلاء الأرض جورا. الى آخر التوقيع الشريف.

توفى في النصف من شعبان المعظم سنة 329 و قبره في (بغداد) في سوق بياعي الأقمشة و الكماليات المعروف ب: (سوق السراي) رضوان اللّه تبارك و تعالى عليه.

و أما (عصر الغيبة الكبرى) فقد جاء فيه مرسوم عام من ناحية (الأئمة الأطهار) صلوات اللّه عليهم باسم الفقهاء العدول الذين هم حجج اللّه عنهم على الناس في دورهم.

و لا تزال (الامامية) من ذلك العهد لحد الآن يراجعون علمائهم الفقهاء في فهم الأحكام، و أخذ الدستور في سلوكهم الفردي و الاجتماعي

ص: 115

و يكون هذا الدستور الكلي، و النظام العام الصادر من العلماء في حقهم حجة شرعية فيما بينهم، و بين اللّه عز و جل.

فالعلماء هم الرصيد لهم في جميع الحوادث الواقعة في الأحكام الشرعية و لهم تقدم الحقوق المالية التي فرضها اللّه في كتابه العزيز عليهم بقوله عز من قائل: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ » (1).

و هذه الحقوق كانت تقدم الى (الأئمة الأطهار) عليهم الصلاة في عهدهم اذا كان الوصول إليهم ممكنا، أو الى وكلائهم لو لم يتمكنوا من ذلك فيوزعون هذه الحقوق على مواردها المعينة التي جاء في كتابه العزيز.

هذه لمحة خاطفة عن الزعامة الدينية العامة، و المرجعية العليا للشيعة الامامية منذ أن صارت و جاءت الى الوجود.

(زعامة الشيخ الأنصاري):

قد علمت أن الزعامة العلمية، و الرئاسة الدينية كانت لفقيه العصر (الشيخ موسى كاشف الغطاء) الى عام وفاته 1256، ثم استقل بالبحث و التدريس و الزعامة الدينية أخوه الفقيه الكبير (الشيخ حسن) صاحب أنوار الفقاهة الى أن أجاب دعوة ربه الكريم، ثم انتقلت الزعامة الى فقيه الطائفة (الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر) أعلى اللّه مقامه من عام 1262 الى عام 1266 و هي سنة وفاته فأصبح و له الزعامتان: العلمية. و الدينية على (الطائفة الامامية) فكان هو الوحيد فيهما فقام بهما أحسن قيام الى أن اختار اللّه عز و جل له الرحيل الى جنة عدن فبدت بوادره في ملامحه فعلم رجال الحل و العقد الساهرون على مصالح الأمة الاسلامية: أن الشيخ سينتقل الى الرفيق الأعلى فتبقى الأمة بلا زعيم فلا بد لهم من زعيم يدير شئونهم

ص: 116


1- الانفال: الآية 41.

كما عرفت في المرجعية عند الأمة الاسلامية جمعاء، و بالأخص عند (الشيعة الامامية) فاخذ القوم يفكرون في جوانب الزعامة و المرجعية فقاموا و قعدوا حتى اتفقت كلمتهم، و اجتمعت آرائهم على نجل الشيخ الفقيه (الشيخ عبد الحسين) الجواهري رحمه اللّه، حيث اجتمعت مؤهلات الزعامة فيه علما و ورعا و إدارة فمن أثرها رتبوا لجنة علمية في دار (شيخنا صاحب الجواهر) ليدار الحديث فيها في المسائل الفقهية و الأصولية التي كانت محور الاجتهاد و الاستنباط.

أجل هذه شيمة رجال الدين و علمائه منذ وصولهم الى المراتب السامية و الدرجات العالية.

انتخب القوم لفيفا من العلماء الأعلام لدخولهم في تلك اللجنة فاجتمعوا فيها عدا (شيخنا الأنصاري) لم يحضر فيها، فاخذوا في البحث و التحقيق حول المسائل.

هذه كانت ظاهرة الحال من تشكيل اللجنة العلمية في دار (الشيخ صاحب الجواهر).

لكن وراء هذه الظاهرة غاية أخرى و هي المقصودة من تشكيلها، و تلك الغاية ترشيح (الشيخ صاحب الجواهر) ولده للزعامة و الرئاسة.

علم (الشيخ صاحب الجواهر) قدس اللّه روحه بذهنه الوقاد و روحيته الطاهرة المتصلة مع العالم العلوي: بما أضمره القوم من تشكيل اللجنة.

لكنه لم يتكلم بشيء يخالف آرائهم الى أن قرب رحيله الى الفردوس الأعلى بين ساعة و أخرى، و القوم ينتظرون غايتهم التي لأجلها شكلت اللجنة و كان أملهم الوطيد: أن الشيخ سوف لا يفضل و لا يقدم على نجله في الزعامة و المرجعية أحدا، و لا يرتضي عنه بدلا.

ص: 117

و اذا (بشيخنا صاحب الجواهر) يسأل من أعضاء اللجنة و يقول بلهجة المؤمن البار: أين بقية العلماء؟.

أجابه رجال الحل و العقد: لم يبق منهم من لم يحضر.

فقال الشيخ ثانيا بلهجته: نعم هناك من لم يحضر فأجاب القوم ثانيا بمثل مقالتهم أولا.

فهنا صرح الشيخ باسم ذلك البعض فقال: أين ملا مرتضى ؟ عليّ به.

طرق أسماع القوم اسم (ملا مرتضى) فأسقط في أيديهم، لأنهم علموا إرادة الشيخ.

حاول القوم شتى المحاولات لعلهم يقنعون الشيخ لترشيح ولده فلم تنتج، لأنه كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف، و لا تميله العواطف فلم ير القوم بدا إلا و أن يخبروا (ملا مرتضى) بمقالة (الشيخ صاحب الجواهر)

ذهب القوم يسألون عن (ملا مرتضى) فاخبروا أنه في (الحرم المقدس العلوي)، أو في (مسجد سهيل): و هو (مسجد سهلة) ذهب هناك يدعو اللّه لشفاء (الشيخ صاحب الجواهر) فأتوا به فدخلوا على (الشيخ صاحب الجواهر) هذا العالم الرباني الإلهي الخبير المحنك فسلم على الشيخ و على الحضار، و خص الشيخ بالتحية فرد الشيخ عليه جواب السلام و هو فرح مبتهج منبسط منشرح من لقياه، ثم قربه إليه و أجلسه عنده و هو مسجى على فراش الموت فاخذ يده و وضعها على صدره قائلا بلهجة عبد شكور: الآن طاب لي الموت، الآن ساغ لي الرحيل.

ثم خاطب الجمهور و قال: (هذا مرجعكم من بعدي)، ثم عقب كلامه مخاطبا (الشيخ الأنصاري): قلل من احتياطاتك يا شيخ فإن الشريعة سمحة سهلة، حيث كان (شيخنا الأنصاري) كثير الاحتياط في المسائل الشرعية.

ص: 118

انتقل (شيخنا الورع التقي) الى الرفيق الأعلى، و ورد ضيفا على مولاه الكريم و هو يحمل تلك الروحية الطاهرة، و النفسية السليمة، عاريا عن كل الميول و المشتهيات، مؤديا ما كان عليه من الأمانة الإلهية.

الى صاحبها و أهلها حسب وظيفته الشرعية.

أيها القارئ الكريم انظر عند هذه اللحظة الأخيرة من الحياة النزيهة التي عاشها علماؤنا الأبرار حياة طاهرة بريئة عن الأدناس و النزعات المادية و الأرضية الواطئة و الميول النفسية الرذيلة.

هذا زعيم الطائفة الأكبر في آخر لحظات حياته يفكر في مصير الزعامة الدينية الكبرى بعد مماته، فهو لا يفكر في ذويه و أولاده و قرابته و لا في حاشيته و المتقربين إليه.

و إنما يفكر في المصلحة العامة التي تعم المجتمع الاسلامي بما أنه زعيم محنك قدير، و خبير مضطلع بصير، عارف بالأمور، ينظر بنظارته البعيدة فيختار الأصلح و الأعدل و الأعلم و الأعرف بالأمور و هو (شيخنا الأنصاري).

فلا تأخذه في اللّه لومة لائم في هذا الاختيار الكريم، و لا يصرفه حب الذات و الأولاد و الأسرة، و من يلوذ به و يتقرب إليه عما يرضي اللّه تعالى و ينفع الناس، بل يتنازل عن كل نزعة من النزعات مادية و غيرها جاعلا فريضة أداء الأمانة نصب عينيه بكل إخلاص و إيمان.

و من الطبيعي أن الانسان ميّال الى الجاه، و حب الرئاسة و الزعامة.

هذه الزعامات التي يفدي في سبيل الحصول عليها الأعز و الأنفس و في بقائها، و يتلقفها الذراري و الأولاد يدا بيد، و يتنازع عليها، و تراق الدماء لأجلها حتى قال الوالد لولده الذي هو بعضه أو كله: لو نازعتني في الملك لأخذت الذي فيه عيناك.

ص: 119

و قد ورد في الخبر عن (المعصوم) عليه السلام: أن آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الجاه.

فالزعيم الديني الكبير، و الأب الروحي العظيم يضحي في سبيل المصلحة العامة التي فيها رضى اللّه تعالى بكل غال و نفيس من أهل و عشيرة و صحابة و قرابة.

هذه هي التضحية الكبرى التي قدمها علماؤنا الأبرار، و زعماؤنا الأخيار طوال التاريخ، و مدى الدهر للمجتمع الاسلامي.

فللّه درهم من أهل شرف و كرامة، و إخلاص و إيمان رضوان اللّه تبارك و تعالى عليهم، و على روح (شيخنا صاحب الجواهر).

بطبيعة الحال أصبح (شيخنا الأنصاري) زعيما للطائفة الإمامية بعد النص المذكور من (شيخنا صاحب الجواهر).

فرحت الطائفة بهذا القائد الديني و الأب الروحي فرحبت به و أصبحت تنتظر تسلمه مقاليد الرئاسة و شئون الزعامة.

و إذا (بشيخنا الأنصاري) معرض عن هذا المقام الشامخ الرفيع قائلا: لست أهلا للزعامة الدينية.

فتعجبت الطائفة من سماع هذه الكلمة التي قرعت آذانهم و هم يقولون: (ما عدا عما بدا).

أجل: إن الكلمة عجيبة في بابها، حيث إن (شيخنا صاحب الجواهر) بعد العلم بمؤهلات الزعامة في (شيخنا الأنصاري) قال: (هذا مرجعكم من بعدي) (و شيخنا صاحب الجواهر) رجل خبير بصير عارف بالأمور لا يفعل عبثا، و لا يترك أمرهم سدى.

أصبحت الطائفة بعد كلمة الشيخ: لست أهلا للتقليد في حيرة من أمر التقليد.

ص: 120

إن حب الاستطلاع على الأشياء و أسرارها من الغرائز الطبيعية في البشر فهذا الحب دعا الطائفة على الوقوف على سبب إعراض الشيخ عن مرجعية التقليد فسألت الشيخ عن سر ذلك و سببه.

فأجاب: أن تقليد الأعلم حسب نظري و اجتهادي واجب، و لربما هناك من هو أعلم مني فيجب تقليده.

ازداد تعجب الطائفة من سماع كلمة: و لربما هناك من هو أعلم مني حيث إن (الشيخ صاحب الجواهر) البحر الزخار العالم الإلهي صرح بأعلميته عن الموجودين، بالإضافة الى اشتهاره في الأوساط العلمية الشيعية بتفوقه على الأعلام في عصره علما عملا زهدا و لا سيما بعد صراحة استاذه العظيم (الشيخ النراقي) بقوله: و لقد شاهدت في جميع أسفاري كلها الى آخر ما قاله.

فسئلت من تعني ؟

فاجاب كان يحضر معنا في معهد درس (الأستاذ شريف العلماء) في كربلاء أحد الزملاء اسمه (سعيد العلماء) المازندراني(1) و كان أدق مني في فهم البحوث الفقهية، و الاستطلاع على المسائل الأصولية و مبانيها فقد فاز درجة الاجتهاد، و حاز على أسمى مراتبه و ذهب الى (ايران)

ص: 121


1- كان هذا العالم الجليل من بلاد (مازندران) احدى محافظات (ايران) اسمه (ملا محمد سعيد) جاء الى العراق فحل (مدينة كربلاء) للاستفادة من معهد درس (الأستاذ شريف العلماء) بعد أن أنهى دراساته البدائية هناك فحضر درس (الأستاذ) حتى بلغ مراتب الاجتهاد و أسماها فرجع الى بلاده بعد تلقيبه باللقب السامي: (سعيد العلماء) فحل بلاده و لم يطل العهد به حتى أصبح زعيما دينيا بيده أزمة الأمور رتقها و فتقها يحكم و يفصل و هو الوحيد في فصل القضايا. كان لهذا العالم الجليل بالإضافة الى مكانته الاجتماعية: ميزة أخرى عن الأعلام الآخرين: و هو قربه عند مليك العصر (ناصر الدين شاه القاجاري) فاصبح موضع تجليله و تعظيمه و تكريمه و قد نال منه حظا وافرا. و هذا هو سر تفوقه على أقرانه: الناس على دين ملوكهم. انتقن الى جوار ربه الكريم و وفد ضيفا على مولاه عام 1270.

لم تقتنع الطائفة بمقالة الشيخ فأصرت على تقليده فأبى و لم يقبل فرجعت مصرة ثانية و ثالثة و هو يأبى أشد الإباء حتى اضطر الى مراسلة زميله يخبره عن الحال فدارت المراسلات فيما بينهم فكتب الشيخ الى زميله (سعيد العلماء) ما مضمونه:

قد علمت نبأ وفاة (الشيخ صاحب الجواهر) فاصبحت الطائفة في حيرة من أمر التقليد و قد راجعتني فيه فابيت، حيث أرى وجوب تقليد الأعلم و أعتقد فيك حسب معلوماتي عنك حين كنت تحضر معنا بحث (الأستاذ شريف العلماء) أنك الأعلم فالواجب على الطائفة تقليدك.

وصل الكتاب الى (سعيد العلماء) ففتحه و قرأه فاجاب بما حاصله ورد عليّ الكتاب و اطلعت على ما حواه.

أجل الأمر كما تفضلتم و ذكرتم و كنت أعلم و أدق حينما كنت هناك و مشغولا بالدراسات.

لكن هناك شيء ميزك عني: و هو استمرارك في الاشتغال بالبحث و التدريس، و التأليف و التصنيف، و تركي البحوث و الدروس، لاشتغالي بمهام الأمور من حل القضايا و فصلها فأنت أعلم مني فالواجب على الطائفة تقليدك، و تسلمك أمور الزعامة و المرجعية.

ورد الكتاب على (شيخنا الأنصاري) فقرأه و بكى، لعظم الموقف و كثرة المسئولية فما رأى بدا و حيلة إلا القبول فتشرف بساعته الى

ص: 122

(الحرم المقدس العلوي) فاستغاث الى المولى القدير و أقسمه بصاحب القبر المقدس أن يحفظه من الزلل، و يثبته على جوانب المزلق، و يعينه على القيام بالواجب

و هناك حكاية تروى حول تقبل الشيخ الزعامة الدينية. أليك نصها.

نقل لي الثقة الأمين شيخنا المكرم (الشيخ محمد حسن الجواهري) حفظه اللّه تعالى عمن يثق به عن الفقيه المرحوم (الشيخ جعفر البديري) طاب ثراه عن السيد نائب سادن الروضة المطهرة: أنه في ليلة من الليالي حسب عادته كان في الحرم الطاهر قبل الفجر لانارته و اذا بالبكاء و العويل من جانب الرجلين فتعجب المرحوم الرفيعي من هذا البكاء، بالإضافة الى أن الوقت ليس مألوفا لتشرف الزائرين.

جاء السيد النائب ليطلع على حقيقة الحال فرأى (الشيخ الأنصاري) واضعا وجهه على الضريح المقدس و يخاطب الامام عليه الصلاة و السلام بلسانه الدارج و هو يبكي بكاء الثكلى و يقول ما مضمونه: سيدي أبا الحسن مولاي أمير المؤمنين إن الموقف خطير جدا أريد منك أن تحفظني من الزلل و إلا هربت من هذه المسئولية.

نعم هكذا كان موقف علمائنا الأبرار، و زعمائنا الأخيار عند تسلمهم أمور الزعامة و المرجعية الكبرى، لعلمهم بعظم الموقف، و كثرة تبعاته و تطلباته، بالإضافة الى أن ورائهم يوما عسيرا، و حسابا دقيقا، فهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى «إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ » (1).

(و بعد اللّتيّا و الّتي) أصبح الشيخ زعيما دينيا ألقت الزعامة مقاليدها إليه فله الزعامتان:

(الزعامة الدينية المرجعية الكبرى):

(و الزعامة العلمية الدراسية):

ص: 123


1- فاطر: الآية.

تصدى للأولى بعد وفاة فقيه الطائفة (الشيخ صاحب الجواهر) مباشرة من عام 1266 - الى عام 1281 سنة وفاة (شيخنا الأنصاري) فأصبح وحيدا فيها قلدته (الطائفة الامامية) من شرق البلاد و غربها التي تحل فيهما (الشيعة الاثنا عشرية)، و الحقوق الشرعية ترد عليه من (الأصقاع الشيعية) من كل مكان، و لا سيما من ايران، و بلاد باكو و قوقاز و نخجوان و ايروان و لنكران و ساليان قبل قضاء (الشيوعية) على هذه البلاد السليبة التي سلبتها (روسيا المعاندة) للاسلام من ايران، و التي كانت ثرية بمعادنها و غاباتها و مياهها و مزارعها و صنائعها، و إنتاجاتها اليدوية و التي كانت تطفح بآبار النفط.

بالإضافة الى الهدايا التي كانت تقدم للمراجع الدينيين، و على رأسهم (شيخنا الأنصاري).

كانت هذه الحقوق الشرعية، و الهدايا الثمينة تأتي للشيخ و هو يضعها في زاوية من زوايا البيت طريحة فيها، اذ ليست في عصره قاصات حديدية و بنوك حكومية تودع الأموال فيها، و ليس عند الشيخ من يخاف منه نهبها

كانت هذه الأموال الطريحة التي تأتي من البلاد البعيدة و هي حق (الامام المنتظر) عجل اللّه تعالى له الفرج و حق الآخرين توزع على رواد العلم و المستحقين و ذوي الحاجات بين حين و آن بكل عطف و حنان: و عدل و انصاف.

فقد كان الطالب الديني، أو بائس الحال يأتي عند (الشيخ) فيأخذ من هذه الأموال الطريحة: مقدار ما يقضي به حاجته، و يسد به خلته من الضروريات البيتية، حذرا من تبعات الزائد لو بقي عنده فيحاسب عليه يوم القيامة.

و يصرف الزائد منها في سبل الخير و المشاريع الانسانية التي حث عليها

ص: 124

الشارع المقدس كبناء المساجد، و تشييد المدارس، و الرباطات، و الجسور و تزويج العزاب، و تجهيز الموتى من فقراء المسلمين، و فك الأسرى منهم و عتق العبيد و الإماء، و ما شابه هذه الأمور.

و هذه الحقوق الشرعية هي ضرائب أرباح التجارات التي فرضها اللّه تعالى على عباده بشروطها الخاصة المدونة في (الكتب الفقهية الامامية).

قال عز من قائل: وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ (1).

فالمسلم اذا غنم من كسبه و ربح يخرج خمس ماله حسب الآية الكريمة بالشروط المقررة في الكتب الفقهية، ثم يقدم نصفه في عصر الغيبة الكبرى (للفقهاء الامامية) الجامعين لشرائط الافتاء، و هذا النصف هو سهم اللّه و سهم الرسول و سهم ذوي القربى كما عرفت في الآية الشريفة.

و أما النصف الآخر و هو سهم اليتامى و المساكين و ابن السبيل يعطى لمن انتسب الى (هاشم بن عبد مناف) من طرف الأب، حسب الشروط المذكورة في كتاب الخمس في (الكتب الفقهية الإمامية) كما عرفت في الآية الشريفة.

(الزعامة العلمية):

و قد عرفت في حياة الفقيه (الشيخ علي كاشف الغطاء) استاذه السادس: أن (شيخنا الأنصاري) بعد هذا الأستاذ العظيم استقل بالتدريس لكنه لم يكن وحيدا في الدراسة العالية لوجود (شيخنا صاحب الجواهر) حيث كانت الزعامتان منحصرتين في شخصه الكريم فكان هو المتصدي لهما فلما لبى دعوة ربه الجليل أصبح (الشيخ الأنصاري) وحيدا في الزعامة العلمية الدراسية فكان قطب رحاها ينحدر عنه السيل فاكب على معهد

ص: 125


1- الأنفال: الآية 43.

درسه الشريف أكثر من ألف تلميذ من فطاحل العلماء فاعتنى بهم عناية زائدة فأفاض عليهم من بحره الزخار المتلاطم فبر زمن حوزة درسه الشريف أكثر من خمسمائة مجتهد مسلم الاجتهاد أصبحوا أفذاذا ازدان بهم الدهر و افتخر بهم العصر، ملئت كتبهم الآفاق، و نشرت كلماتهم في الأصقاع

كان (شيخنا الأنصاري) يملي على هؤلاء الفحول الفقه و الأصول و يحقق لهم غوامض مسائلهما، و يكشف لهم دقائق رموزهما.

و قد بالغ (شيخنا الأنصاري) في تربية العلماء و الفضلاء، و جاهد جهادا عظيما حتى تمكن بدوره أن يقدم الى المجتمع أمثال السيد الشيرازي و المحقق الرشتي، و الآشتياني، و الممقاني، و المحقق الخراساني، و النهاوندي و مئات من أضرابهم.

كان (شيخنا الأعظم) مع ما له من المقامين الشامخين الخطيرين الخطرين: الزعامة الدينية، و الزعامة العلمية: مكبا على البحث و التدريس و التأليف و التصنيف، و أجوبة المسائل الواردة عليه، و مراجعة العلماء و رواد العلم، بالإضافة الى أدائه الفرائض، و اتيانه النوافل حتى الزيارات المسنونة: زيارات (الحسين) عليه الصلاة و السلام فقد كان يزوره سلام اللّه عليه في كل مناسبة من المناسبات التي حث عليها (الأئمة الأطهار) فلم ير خلال تصديه الزعامتين غافلا مما ذكرناه لك.

و قد نقل أنه كان يداوم على قراءة ألفية (ابن مالك) عن حفظه لكي لا ينساها، ليبقى ملما بالقواعد العربية.

كانت أمور الزعامتين كلها قائمة بشخصه الكريم من دون مساعد و معاون، و هذه كلها تتنافى و الزعامتين.

و لعمر الحق: إن (شيخنا الأنصاري) كان من أعاجيب الدهر و عباقرة عصره، و مفاخر دهره، و من فلتات الطبيعة و شواذها فقد جمع

ص: 126

بين الأضداد، اذ تراه مدرسا في الحوزة حاملا ثقلها و عبأها على ظهره و هو يفيض عليهم كالسيل كأن ليس له عمل سوى الدراسة.

و تراه يدير شئون المرجعية الكبرى فيأخذ الحقوق و يقسمها على مستحقيها و يصرف الباقي في المشاريع الخيرية و سبلها بغير مساعد و معين، مع ما لهذه العملية الجبارة الشاقة من استفراغ الوقت.

و تراه يجيب عن الاستفتاءات الواردة عليه من أصقاع البلاد.

و تراه يراجع العلماء، و رواد العلم، و يعود المرضى، و في الوقت نفسه تراه يؤلف الكتب هذه الكتب الثمينة التي عكف عليها الفطاحل و أصبحت منذ أن برزت من قلمه الشريف الى يومنا هذا، و الى الأجيال الآتية: من الكتب الدراسية الرسمية فهي الوحيدة في بابها لم يسبقه الأوائل في الاتيان بمثلها، و كل من جاء بعده فمن علمه استفاد، و من بحر فيضه اغترف.

و تراه بالإضافة الى هذه كلها: عابدا ناسكا خاشعا متواضعا، خائفا من خشية اللّه، زاهدا قانعا بالقليل من حطام الدنيا، يأكل الجشب، و يلبس الخشن.

و تراه مكبا على النوافل كأن ليس له شغل عداها.

أجل: إن هذه الأمور يتنافى بعضها مع بعض.

فهذه الموفقية الجبارة ليست إلا عناية إلهية يخص بها من يشاء من عباده الأبرار، المصطفين الأخيار، و هو القائل جل شأنه: و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا.

فسبحان من أعطى له هذه الملكة الملكوتية، و النفسية القدسية.

ص: 127

(زهد الشيخ و تورعه):

دامت الزعامتان (للشيخ) خمسة عشر عاما أي من عام 1266 الى عام 1281 و هي سنة وفاته و صفى له الجوا فلم تشغل باله زخارف الدنيا: لا زبرجها، و لا نقودها، لا صفراؤها و لا بيضاؤها، و لم يغتر بإقبال الناس و تهافتهم عليه، فقد كان يعيش في الدنيا كالمسافر عاش عيشة بسيطة فكان غاية البساطة فلو يمثّل الزهد و الورع لم يتعداه فكان الرقم القياسي فيهما، فقد اقتدى بسيرة إمامه و مولاه (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام فإنه قد اكتفى من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه، فاخذ نموذجا من أعماله صلوات اللّه و سلامه عليه حتى لا يكون بينه، و بين مولاه التباين الكلي، حيث لا يمكن لأحد: الاقتداء به الاقتداء الكامل التام و هو القائل: «ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفة و سداد»(1).

و هناك حكايات تروى، و قصص تحكى حول زهد الشيخ و تورعه الشديد، و كيفية تصرفه في الحقوق الشرعية قد بلغت حد التواتر المعنوي لا نرى لإنكارها موجبا، فلو أردنا ذكرها بأجمعها لطال بنا المقام، و لخرجنا عن الموضوع.

لكن طبقا للقاعدة المعروفة: (ما لا يدرك كله لا يترك جله و الميسور لا يترك بالمعسور): نذكر حكايات ثلاث، جلاء للنفس، و صفاء للقلب.

(الحكاية الأولى): كانت عائلة الشيخ في دور زعامته التي بلغت قمتها و الأموال الطائلة بين يديه: في أزمة شديدة من العيش، حيث كان الشيخ قد قرر لهم مقدارا معينا من المصاريف اليومية و المبلغ لا يكفي بحاجات البيت فاشتكت عند أحد رجال الدين الذين له منزلة عند الشيخ:

ص: 128


1- نهج البلاغة. الجزء 3 ص 70 شرح الأستاذ محمد عبده.

من قلة المقرر، و استدعت منه أن يتكلم معه لعله يزيد على المقرر شيئا قليلا ليتمكنوا عن القيام بواجبات البيت.

جاء الوسيط عند الشيخ و قص عليه و طلب منه أن يوسع، و يدر عليهم شيئا قليلا عما قرر لهم.

ذهب الوسيط و لم يسمع من الشيخ جوابا لا نفيا و لا اثباتا، حيث إن الشيخ كالجبل لا تحركه العواصف.

و في الغد جاء الشيخ الى الدار و قال لعائلته: اغسلي ثوبي ثم اجمعي لي الأوساخ في مكان معين فغسلت الثوب، و جمعت الأوساخ و جاء (الشيخ) فأخبرته بما فعلت.

فقال (الشيخ) لها: هاتها فجاء بها فقال (الشيخ) لها: اشربي هذه الأوساخ.

فقالت: و كيف لي بذلك، فإنها أوساخ و أقذار تشمئز منها النفس و ينفر منها الطبع.

فقال (الشيخ) إن هذه الأموال المكدسة عندي كهذه فهي أوساخ لأنها حقوق الفقراء لا يسوغ لي أن أتصرف فيها أكثر مما قررت لكم أنتم و الفقراء في هذا الفيء على حد سواء لا ميزة لكم عليهم.

أجل: هكذا كان يصنع (الشيخ) مع الأهل و العيال و المتقربين إليه و من يلوذ به فهم عنده كسائر المسلمين لا يرى لهم فضيلة على الآخرين إلا بالعلم و التقوى.

(الحكاية الثانية): إن أحد مقلديه و المتفانين فيه أهدى له عباءة شتوية ثمينة وحيدة في نوعها من حيث الجنس و اللون و الحياكة.

و قيل: (فروة) و كانت قيمتها ذاك اليوم تعادل ثلاثين دينارا عراقيا.

و بعد زيارة المرقد الطاهر تشرف بخدمة (الشيخ) و معه العباءة فبعد

ص: 129

تقبيل يديه الكريمتين قدمها للشيخ و وضعها على كتفيه و ذهب، ثم جاء في اليوم الثاني للصلاة خلفه فوجد الشيخ لابسا العباءة السابقة تلك العبادة التي لا تليق بمقام الزعامة العامة فسأل الشيخ عن العباءة فقال: بعتها و اشتريت بثمنها عددا من العباء.

قيل: كانت اثني عشر و وزعتها على المستحقين الذين لا يملكون عباءة شتوية في هذا الشتاء.

فقال التاجر: يا مولاي إن العباءة كانت لك و جئت بها أليك لتلبسها شخصك الكريم، لا لتبيعها و تشتري بثمنها كمية من العباءات و تفرقها على مستحقيها.

فقال الشيخ: إن ضميري لا يقبل بذلك.

(الحكاية الثالثة): إن رجلا من مقلديه قدم له مبلغا من خالص ماله لشراء دار له يسكنها ليستريح من اجارة الدار و تنقله كل عام من مكان الى مكان ثم ذهب الى (الحج).

أخذ الشيخ الدراهم و الدنانير من الرجل المحسن فبنى (مسجدا) في محلة الحويش الصغير احدى محلات (النجف الأشرف) و لا يزال المسجد أحد المساجد العامرة بالبحوث العلمية للمراجع الدينيين و الصلوات اليومية ليلا و نهارا، و بإقامة القراءات الحسينية أيام عاشوراء، و إقامة مجالس الفواتح و يسمى هذا المسجد ب: (مسجد الترك) في زماننا هذا حيث إن الترك يقيمون فيه أيام عاشوراء المآتم الحسينية منذ زمن طويل.

و قد جددت بناية هذا المسجد من قبل تجار (النجف الأشرف) المحسنين وفقهم اللّه تعالى، و هدمت بنايته القديمة من أساس.

و قال الخطيب المصقع، و الشاعر المفلق (الشيخ محمد علي اليعقوبي) رحمه اللّه في تاريخ تجديد بناية المسجد:

ص: 130

ذا مسجد أسسه المرتضى *** و قام في توطيد أركانه

و اليوم قد جدّده معشر *** حظوا من اللّه برضوانه

على الهدى أجدد أرخ (كما *** على التقى تأسيس بنيانه)

1361 ه

ثم جاء الباذل من (مكة المكرمة) فسأل الشيخ عن الدار فقال:

نعم اشتريت فجاء به و أراه المسجد.

فقال: يا مولاي قدمت المبلغ لشراء الدار، لا لبناية المسجد.

فقال الشيخ: و أية دار أحسن من هذا المكان المقدس الذي يعبد فيه اللّه عز و جل و يقدس، و نحن عما قليل نمضي و نترك الدنيا بما فيها و الدار ثم تنتقل للآخرين.

و لكن هذا باق و ثابت لا ينتقل و لا يوهب، و لا يباع و لا يشترى فسر الرجل التاجر من هذا العمل الانساني الإلهي و ازداد ايمانا بالشيخ.

(تلامذة الشيخ):

اشارة

ليس بوسعنا و هذه العجالة و كثرة الأشغال أن نستوفي تلامذة (الشيخ) إحصاء بعد أن جاوز عددهم الألف، و بلغ الذين نالوا أسنى مرتبة الاجتهاد، و أعلى درجة الاستنباط: خمسمائة مجتهد مطلق مسلم الاجتهاد و الاستنباط، فاستيعابهم يحتاج الى زمن طويل، و فراغ واسع كثير فنكتفي بذكر المشهورين منهم الذين ذاع صيتهم في الآفاق، و ملئت كتبهم و مصنفاتهم الأصقاع، و خلفوا لنا تراثهم الخالد.

فلنبدأ متبركا و متيمنا بذكر أول تلميذ له الذي أصبح بعد وفاة (الشيخ الأعظم) أكبر زعيم ديني (للشيعة الامامية) من أنجال حيدرة و البتول صلوات اللّه و سلامه عليهما: و هو (السيد المجدد الشيرازي)

ص: 131

(الأول): (السيد المجدد الشيرازي):

هو نابغة الزمان و أشهر تلامذة الشيخ على الاطلاق، و سيدهم في عصره (السيد ميرزا محمد حسن الحسيني الشيرازي).

ولد في مدينة (شيراز) إحدى محافظات (ايران) يوم الخامس عشر من جمادي الأولى عام 1230.

كان موجهه الأول، و المشرف على تربيته و دراساته خاله السيد ميرزا حسين الموسوي الشيرازي.

بدأ بالتعلم و لم يتجاوز السابعة من عمره فأتقن القراءة و الكتابة و لم يكمل العقد الأول.

ثم أخذ في العلوم العربية و أكملها حتى صار من المرموقين فيها و هو في الثالث عشر من سني عمره.

ثم اتجه الى دراسة الفقه و الأصول بهمة لا يعرف الكلل و الملل حتى أتقنهما، و بلغ فيهما مرتبة رفيعة.

ثم توجه عام 1248 لحضور بحث الأعلام من علماء الأمة في (اصفهان) التي كانت و لا تزال احدى العواصم العلمية الاسلامية في (ايران).

فحضر بحث علامتها (الشيخ محمد تقي الأصفهاني) صاحب الحاشية على المعالم، وجد الأسرة المعروفين في اصفهان ب: (مسجد شاهي) فبقي مواصلا دراسته عنده حتى توفي الشيخ محمد تقي.

ثم اختص بالعلامة الجليل (السيد حسن) البيدآبادي الشهير ب:

(المدرس) و استفاد من بحثه حتى ظهرت فيه مقدرته العلمية، و أجازه اجازة وافية كاملة.

ثم حضر بحث المحقق (الشيخ محمد ابراهيم) الكرباسي جد الأسرة الكرباسية المنتشرة (في العراق، و ايران) فاستفاد من علمه الغزير حتى أصبح ممن يشار إليه بالبنان، و بعد هذه المراجل استقل بالتدريس

ص: 132

وعد من الأفاضل في (أصفهان)، و تخرج من حوزة بحثه جماعة من الأفاضل

بقي (السيد المجدد الشيرازي) في (اصفهان) أكثر من عشر سنين، ثم عزم على الرحيل، و مغادرة ايران، للتشرف بزيارة العتبات المقدسة، و للحضور على علمائها المبرزين في مدينة العلم و معهد الدراسات الاسلامية (النجف الأشرف) فغادر (ايران) و دخل (العراق) عام 1259، فحضر بحث الفقيهين الشهيرين: (الشيخ حسن كاشف الغطاء) صاحب أنوار الفقاهة، (و الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر).

فاستفاد من علمهما الجم حتى وافاهما الأجل فاختص ببحث (الشيخ الأعظم الأنصاري)، و لازمه ملازمة الظل، و رعاه الشيخ رعاية خاصة، و اعتنى به عناية تامة بعد أن ترسم فيه النبوغ، فكان الشيخ يفضله على طلابه، و يصرح باجتهاده، و سمو فكره، فكان أحد الأعلام الأفاضل من مجموع حضار معهد الشيخ على كثرتهم. فبقي (السيد المجدد الشيرازي) ملازما لبحث الشيخ حتى عد من حواريه، و كانت جل استفاداته منه الى ان ارتحل الشيخ الى عالم الآخرة عام 1281.

فوزعت المرجعية في (الطائفة الامامية) بعد وفاة الشيخ بين العلمين الشهيرين: (السيد المجدد الشيرازي) (و السيد الكوه كمري التبريزي) فكل أخذ منها نصيبه. و نال السيد المجدد منها نصيبه الأوفر. ثم توفى (السيد الكوه كمري) عام 1299، فتفرد (السيد المجدد الشيرازي) بالمرجعية، حيث انقادت له (الطائفة الامامية) في مختلف أصقاع البلاد الشيعية.

و في عام 1288 تشرف بزيارة (البيت الحرام)، لأداء فريضة الحج في أحسن حال، فنوى أن يقيم في (المدينة المنورة) مجاورا قبر (الرسول و الآل) صلى اللّه عليه و آله فلم تتم له الرغبة، ثم حاول

ص: 133

أن يجاور قبر (الامام أبي الحسن الرضا) عليه السلام فلم تتيسر له الأمور.

و في عام 1291 قصد زيارة مرقد (سيد الشهداء) عليه الصلاة و السلام لزيارة النصف من شعبان، و من هناك يذهب الى (سامراء) لزيارة مرقد (الامامين) عليهما السلام، و السكنى هناك.

لكن الغاية و الحقيقة من سفره هذا: الابتعاد عن (النجف الأشرف) و عن الزعامة فيها، لأمر جرى بينه و بين احدى الشخصيات الشهيرة في (النجف الأشرف). لا أرى لنقله مناسبا و الأمر مشهور يعرفه كل من اطلع على حياة هذا السيد الجليل.

خرج (السيد المجدد الشيرازي) من (النجف الأشرف) قاصدا زيارة (الحسين) عليه السلام.

لكنه يروم مغادرة المدينة قاصدا الاقامة في (سامراء) من غير أن يظهر ذلك لأحد.

دخل مدينة (سامراء) آخر يوم من شعبان عام 1291 فنوى الإقامة فيها عشرة أيام ليصوم نهار شهر (رمضان المبارك)، و يتشرف بزيارة الحرم المطهر في الليل، لئلا يخلو الحرم الطاهر في شهر رمضان المبارك حيث كان يغلق الحرم بعد فريضة العشاء اذا لم يتشرف بزيارته أمثال (سيدنا المترجم)، لقلة الشيعة هناك، و كانوا يعدون بالأنامل.

مضى شهر (رمضان المبارك) و سيدنا المترجم في (سامراء) و تلامذته ينتظرون مقدمه الشريف و هم جاهلون عن حقيقة الحال.

ذهبت أيام و ليال و السيد في (سامراء) الى أن طال الأمد فكتب إليه بعض الخواص من تلامذته يستفسره عن سبب تأخره فعند ذلك أبدى لهم رأيه، و أخبرهم بعزمه على سكنى (سامراء).

و على أثر ذلك الحق به خواص أصحابه، و المبرزون من تلامذته

ص: 134

(كالعلامة النوري، و المولى فتح اللّه، و الشيخ فضل اللّه النوري) شهيد (الحكومة الدستورية) المشروطة على يد (يفرم خان الأرمني).

ثم بعد انتشار النبأ أخذ طلاب الحوزة في (النجف الأشرف) و أعلامها في الذهاب الى (سامراء) شيئا فشيئا حتى بلغ عدد المهاجرين الآلاف فأصبحت (سامراء) التي كانت قرية صغيرة، و ناحية تابعة ل:

قضاء (دجيل) يقصدها الزائرون من البلاد الاسلامية لزيارة مرقد (الامامين العسكريين) فحسب عاصمة علمية كبيرة من أكبر العواصم العلمية الشيعية، و من أعظم المعاهد الدراسية بفضل هذا الزعيم الديني فعمرت (سامراء) ببركة الوافدين إليها، فصارت مكتظة برجال الدين و نوابغ العلماء كالسيد حسن الصدر، و السيد اسماعيل الصدر، و السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، و السيد محمد الاصفهاني، و السيد ميرزا اسماعيل الشيرازي ابن عم السيد المجدد الشيرازي، و المحقق الخراساني، و الحاج محمد حسن كبه، و أضراب هؤلاء الأعلام الذين ملئوا الآفاق علما و آثارا.

فلما رأى (السيد الشيرازي) كثرة الوافدين الى (سامراء) بنى لهم مدرستين، و لا تزالا قائمتين يسكنهما طلاب الدين و تسمى باسم (مدرسة الامام الشيرازي)، و بنى للمعيلين من الأعلام الأفاضل دورا كثيرة لسكنى عوائلهم فيها، و سميت تلك الدور ب: (الباغجة).

أجل أصبحت (سامراء) ذات أهمية علمية كبرى تشد إليها الرحال من كل صقع و مكان، فصارت في مدة قصيرة كعبة الوفاد، و مطاف الرواد فنشطت الحركة العلمية بفضل (السيد المجدد الشيرازي) بالإضافة الى الحركة الأدبية.

كان (السيد المجدد الشيرازي) يحب الشعر، و يحرض الأدباء بانشاده، و يعطي الصلات و الجوائز لمن يقرض الشعر، و من أجله قصده

ص: 135

الشعراء المفلقون و على رأسهم الشاعر الشهير العصامي (السيد حيدر الحلي) قدس اللّه روحه، و العلامة الجليل (السيد ميرزا اسماعيل) ابن عم سيدنا المترجم، و والد المرحوم (السيد ميرزا عبد الهادي الشيرازي).

فكان رحمه اللّه بالإضافة الى مراتبه العلمية التي بلغ أسناها يقرض الشعر جيدا و أشعاره مزدوج بالعرفان الشامخ، و من أشعاره:

(القصيدة الميلادية) التي قالها في ميلاد (الامام أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام في اليوم الثالث عشر من شهر رجب الأصب.

و هذه القصيدة العصماء التي هي من أروع القصائد، و التي قيلت في حق الامام عليه السلام ألقيت في (سامراء) في حفل كريم يضم جمعا غفيرا من العلماء الفطاحل، و الشعراء الأفاضل و على رأسهم (السيد المجدد الشيرازي)، فلما ألقيت و قرأت استحسنها (السيد الشيرازي) و الحاضرون معجبون بها.

قيل: إن (السيد المجدد الشيرازي) من كثرة شغفه بالقصيدة و افتتانه بها لما ألقيت في المجلس قام و قعد واضعا يديه على رأسه و هو يقول: اي و اللّه اي و اللّه.

و أنا في دوري و لا أزال شغوفا بالقصيدة هذه و قد حفظتها.

و في محاضراتي التاريخية التي القيها في كل أسبوع على طلاب جامعتنا (جامعة النجف الدينية) القيتها عليهم، و رغبتهم بقراءتها و حفظها، و جعلت لكل من يحفظها و يليقها على زملائه في قاعة المحاضرات جائزة و قد حفظها عدد كثير و ألقوها بنفس المكان و فازوا بالجائزة المقررة لهم.

و من كثرة حبي بها أذكرها عن آخرها.

أليك القصيدة:

رغد العيش فزده رغدا *** بسلاف منك تشفي سقمي

ص: 136

طرب الصب على وصل الحبيب *** و هنا العيش على بعد الرقيب

فني من أكؤس الراح النصيب *** و أتني توما بها لا مفردا

فالهنا كل الهنا في التوأم

آتني الصهباء نارا ذائبة *** كلّلتها قبسات لاهبة

و اسقنيها و الندامى قاطبة *** فلعمري إنها ري الصدا

لفؤاد بالتصابي مضرم

ما أحيلى الراح من كف الملاح *** هي روح هي روح هي راح

فأدرها في غدو و رواح *** كذكاء تتجلى صر خدا

رصّعتها حبب كالأنجم

حبذا آناء أنس أقبلت *** أدركت نفسي بها ما أملت

وضعت أم العلى ما حملت *** طاب أصلا و تعالى محتدا

مالكا ثقل ولاء الأمم

آنست نفسي من الكعبة نور *** مثل ما آنس موسى نار طور

يوم غشّى الملأ الأعلى سرور *** قرع السمع نداء كندا

شاطئ الوادي طوى من حرم

ولدت شمس الضحى بدر التمام *** فانجلت عنا دياجير الظلام

ناد: يا بشرا كم هذا غلام *** وجهه فلقة بدر يهتدى

بسنا أنواره في الظلم

هذه فاطمة بنت أسد *** أقبلت تحمل لاهوت الأبد

فاسجدوا ذلا له فيمن سجد *** فله الأملاك خرت سجدا

اذ تجلى نوره في آدم

كشف الستر عن الحق المبين *** و تجلى وجه رب العالمين

ص: 137

و بدا مصباح مشكاة اليقين *** و بدت مشرقة شمس الهدى

فانجلى ليل الضلال المظلم

نسخ التأبيد من نفي ترى *** فأرانا وجهه ربّ الورى

ليت موسى كان فينا فيرى *** ما تمناه بطور مجهدا

فانثنى عنه بكفي معدم

هل درت أم العلى ما وضعت *** أم درت ثدي الهدى ما أرضعت

أم درت كف النهى ما رفعت *** أم درى رب الحجى ما ولدا

جلّ معناه فلمّا يعلم

سيد فاق علا كلّ الأنام *** كان اذ لا كائن و هو امام

شرّف اللّه به البيت الحرام *** حين اضحى لعلاه مولدا

فوطى تربته بالقدم

إن يكن يجعل للّه البنون *** و تعالى اللّه عما يصفون

فوليد البيت أحرى أن يكون *** لولي البيت حقا ولدا

لا عزيز لا و لا ابن مريم

هو بعد المصطفى خير الورى *** من ذرى العرش الى تحت الثرى

قد كست علياءه أم القرى *** غرة تحمي حماها أبدا

حيث لا يدنوه من لم يحرم

سبق الكون جميعا في الوجود *** و طوى عالم غيب و شهود

كل ما في الكون من يمناه جود *** إذ هو الكائن للّه يدا

و يد اللّه مدر الأنعم

سيد حازت به الفضل مضر *** بفخار فسما كل البشر

وجهه في فلك العليا قمر *** فبه لا بالنجوم يهتدى

نحو مغناه لنيل المغنم

ص: 138

هو بدر و ذراريه بدور *** عقمت عن مثلهم أم الدهور

كعبة الوفاد في كل الشهور *** فاز من نحو فناها وفدا

بمطاف منه أو مستلم

ورثوا العلياء قدما من قصي *** و نزار ثم فهر و لؤيّ

لا يبارى حيهم قط بحي *** و هم أزكى البرايا محتدا

و إليهم كل فخر ينتمي

أيها المرجى لقاه في الممات *** كل موت فيه لقياك حياة

ليتما عجل لي ما هو آت *** علّني ألقى حياتي في الردى

فائزا منه بأوفى النعم

كان (السيد المجدد الشيرازي) من حسنات الدهر، و من مفاخر الطائفة الامامية قل نظيره في الأوائل و الأواخر، و كان ذا عقلية جبارة و كان شعلة وهاجة في الذكاء، محنكا بأمور الدنيا، بصيرا بها، خبيرا بادارتها، عارفا بكيفية ادارة شئونها كأنما ولد و عاش في الدنيا مرتين.

فجاء مرة للتعلم و الارتحال.

و أخرى لتطبيق ما تعلم.

و الى هذا المعنى يشير الشاعر الفارسي (سعدي الشيرازي):

مرد هنر هنربيشه را *** عمر دو بايست در اين روزگار

تا بيكى تجربه آموختن *** با دگرى تجربه آرد بكار

أي أن الرجل الكيس العاقل صاحب المهنة و الصناعة لا بدّ له من الحياة في هذه الدنيا مرتين.

مرة لاكتساب التجارب.

و أخرى لإعمال التجارب.

و كفى في عقليته الجبارة مواقفه المشهورة في (سامراء) نجاه أعداء

ص: 139

الدين، حيث أرادوا التدخل في شئون الطائفتين، طمعا منهم في الاستيلاء على بلاد الاسلام لا شفقة منهم على الشيعة، أو اخواننا السنة.

و لا يسعنا المقام لذكر القضايا الواقعة في دور زعامته فنحيل الأمر الى ما كتبه الأعلام في حياة (سيدنا المجدد الشيرازي).

و لم أبالغ لو قلت: إنه لم يأت لحد التاريخ في رجالات الشيعة الامامية من رجال الدين، و الذين تصدوا لهذا المنصب الخطر الخطير، مع تلك الظروف الحرجة التي عاش فيها (السيد المجدد الشيرازي): من يضاهي هذا الزعيم المحنك الخبير البصير و موقفه مع (السيد جمال الدين) معروف و مشهور.

و له موقف خاص حول تحريم (التنباك التبغ) بعد اعطاء امتيازاته من قبل سلطان الوقت (ناصر الدين شاه القاجار) الى (الحكومة البريطانية) و الموقف هذا أشهر من أن يذكر.

ألّف تلميذه المحقق (الشيخ حسن الكربلائي التستري) رسالة كبيرة حول موضوع تحريم (التنباك) باللغة (الفارسية) في غاية البداعة و الرصانة و بسط القول فيه، و شرحه شرحا وافيا حافلا للموضوع بدوا و ختاما فرغ من تأليفه عام 1310.

و لبعض أصحاب (سامراء) و الخصيصين (للسيد المجدد الشيرازي) مبالغات كثيرة حول تحريم (التنباك) حتى قال بعضهم: إن تحريمه كان بأمر من (الامام الحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى فرجه الشريف.

و حيث إنا لم نؤمن بذلك أصلا تركنا ذكره، و نحيل أمره الى القراء الكرام و هم الحاكمون في الموضوع نفيا و إثباتا.

(مدى علمية السيد المجدد الشيرازي):

و أما غزارة علمه و تحقيقه فحدث عن البحر و لا حرج و يوقفك

ص: 140

على شيء منه ما نشره تلامذته الذين هم أساطين العلم و الدين: من نظرياته و آرائه في العلوم في بطون الدفاتر.

لم يخلف (السيد المجدد الشيرازي) لنا من آثاره العلمية شيئا و لو كتيبا صغيرا مع غزارة علمه، و دقة نظره، و كثرة تحقيقه في المسائل الأصولية و الفقهية، و له ابتكارات خاصة في المسائل الهامة الأصولية و الفقهية و إليه ينتسب مبحث الترتب، و اللباس المشكوك.

قيل: إنه سئل (السيد المجدد الشيرازي) عن سبب ذلك.

فأجاب: بعد (الرسائل و المكاسب) لا ينبغي لأحد تأليف كتاب في الفقه و الأصول و لذا أمر بإلقاء كل ما كتبه من بحوثه العلمية، و آرائه القيمة و نظرياته الصائبة في نهر دجلة (سامراء).

نعم هناك تقريرات لبعض تلامذته المحققين من دروسه الملقاة عليهم خلال توقفه في (سامراء).

إليك أسماء من كتبوا تقريراته:

(الأول): للمحقق المدقق الشيخ (أسد اللّه الزنجاني) طاب ثراه و هو بخطه الجيد جدا.

(الثاني): له أيضا و بخطه النفيس جدا.

(الثالث): للمحقق النحرير و المدقق الشهير (السيد محمد الأصفهاني الطباطبائي) في الزكاة.

و هذه خطية أيضا نفيسة جدا و هذه الكتب الثلاثة موجودة في مكتبتنا مكتبة (جامعة النجف الدينية) أهداها مع كتب أخرى ثمينة نجله الجليل العلامة المرحوم الشيخ ميرزا علي الزنجاني طاب ثراه في عام 1391 و أثبتناها في فهرس المكتبة و سجلناها باسم المرحومين تغمدهما الله برحمته.

(الرابع): للمحقق (الشيخ حسن الكربلائي التستري) صاحب

ص: 141

الرسالة الدخانية التي أشرنا إليها. هذا ما اطلعنا عليه من تقريرات بحثه الشريف.

و لعل هناك تقريرات أخرى عند بعض تلاميذه لم تصل إلينا و ذهبت مع ما ذهب من الكتب المخطوطة الأخرى النفيسة، أو هي في مكتبات الغرب قد بيعت أو نهبت.

(آثاره العمرانية):

قد عرفت في حياة (السيد المترجم: أنه بنى مدرستين في (سامراء) لطلاب العلم و رواده بعد أن اكتظت بالعلماء، و لا تزالا قائمتين تسميان باسمه.

و بنى سوقا كبيرا لمواطني (سامراء) بعد أن ازدحمت بالنفوس.

و له الجسر الذي بناه على نهر دجلة (سامراء) و وصل به ضفتي دجلة، صرف عليه عشرة آلاف ليرة ذهبية عثمانية عام 1306.

(وفاته):

لبى (السيد المجدد الشيرازي) دعوة ربه الكريم يوم الرابع و العشرين من شعبان المعظم سنة 1312 و هي نهاية حياته الشريفة التي قضاها في سبيل إعلاء كلمة الدين فرضوان اللّه تبارك و تعالى عليه.

كان لوفاته رنة حزن و أسى عميقة في نفوس المسلمين عامة، و الطائفة الامامية خاصة.

شيع جثمانه الشريف حملا على الرءوس و الأعناق من سامراء الى مثواه الأخير (النجف الأشرف) و دفن في مقبرته الخاصة جنب باب الصحن الشريف (باب الطوسي) على يمين الخارج من الصحن الشريف.

و كان يستقبل جثمانه الطاهر في كل مدينة و قرية من أهاليها المسلمين الغيارى بكل إعزاز و إكرام.

ص: 142

(الثاني): من تلامذة الشيخ (الشيخ جعفر) نجل المرحوم (الملا حسين التستري).

اشارة

كان فقيها عظيما، و محدثا جليلا، و خطيبا بارعا، و واعظا متعظا

ولد في مدينة (تستر) من أبوين كريمين.

غادر مسقط رأسه متوجها نحو (النجف الأشرف) في عنفوان شبابه لأجل التلمذ على علمائها الأعلام، و أساتذتها الكرام بعد إنهاء دراساته البدائية لدى أعلام مدينة (تستر).

حل في (النجف الأشرف)، و تتلمذ على الفقيهين (الشيخ راضي النجفي، و الشيخ الأنصاري) الى أن ظهرت مقدرته العلمية، و بلغ مرتبة سامية و درجة رفيعة في الاجتهاد حتى صار من مشاهير العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، و اعترف بفضله و قابليته زملاؤه الكرام من معهد درس استاذيه.

استقل بالتدريس و التأليف بعد وفاة أستاذه (الشيخ الأنصاري) ثم أخذ في الوعظ و الارشاد بكل اخلاص و ايمان.

فكان يرقى المنبر في (الصحن الشريف العلوي) في شهر (رمضان المبارك) المصادف أيام تموز قبل تسعين عاما عند باب الطوسى و يجتمع تحت منبره مئات النفوس، لسماع بحثه و وعظه من مختلف الطبقات و كان لكلامه تأثير عميق في النفوس، و كان مسيطرا عليها و على أفكار الناس و أفئدتهم.

و المعروف عنه: أنه لم يكن يعظ بشيء دون أن يطبقه على نفسه من قبل حتى يكون تأثيره على الناس آكد على قاعدة:

إن الكلام اذا خرج من القلب دخل في القلب، و اذا خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان.

ص: 143

(أسفاره):

سافر الى (ايران) عام 1302 قاصدا زيارة مرقد الامام الثامن (أبي الحسن الرضا) عليه السلام، و بعد تشرفه و رجوعه الى عاصمة البلاد (طهران) أقام الجماعة في (مسجد الشاه) فحضر صلاته أهالي العاصمة برمتهم من مختلف الطبقات فكانوا يتسارعون و يتسابقون في المسجد للصلاة خلفه، ثم بعد الصلاة يرقى المنبر موجها و مرشدا بكل صراحة و وضوح.

و مما يحكى عنه حول وعظه و إرشاده، و مدى تأثيره في النفوس:

أنه رقى المنبر يوما في (طهران) في (مسجد الشاه) و المسجد مكتظ بمختلف الطبقات حتى من رجال الدولة، و قواد الجيش، و الشخصيات البارزة من البلاط.

فقال: أيها الناس إن الأولين و الآخرين قالوا: عليكم بالتوحيد.

و أنا أقول: عليكم بالشرك فتعجب الناس من سماع هذه الكلمة الغريبة التي قرعت آذانهم، حيث لم يسمعوا مثل هذه الكلمة من رجال الدين و ممثليه.

ثم قال بعد هنيئة: أيها الناس إن لم تكن أعمالكم الصادرة في الليل و النهار للّه عز و جل فعلى الأقل أشركوه فيها، و لا تجعلوا كلها للسمعة و الرياء

علم الحضار مقصود الشيخ و ما أراده من كلمته: عليكم بالشرك.

أثرت هذه الموعظة البالغة في نفوس الناس و أخذت مفعولها سريعا

نعم: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فانها اذا خرجت من القلب أثّرت على القلب، و اذا خرج من الفم لا يتعداه.

أخذ (السلطان ناصر الدين شاه القاجاري) في اعزاز الشيخ و تجليله و تبجيله و تكريمه بعد أن تشرف بخدمته و رأى منه الحقيقة و الواقعية فاعتنى به عناية بالغة.

ص: 144

(مؤلفاته):

(لشيخنا التستري) مؤلفات ثمينة، و مصنفات جيدة في الفقه و الأصول، و المنبر (الحسيني) عليه الصلاة و السلام.

له رسالة في الفقه في العبادات، و المعاملات تسمى ب: (مجمع المسائل) في مقدمتها رسالة صغيرة في (أصول الدين) بقلم سلس، و بيان عذب و الرسالة فارسية طبعت في مدينة (بروجرد) و عليها حواشي المرحوم (السيد الطباطبائي البروجردي) أعلى اللّه مقامه و هي موجودة في مكتبتنا (مكتبة جامعة النجف الدينية).

و له كتاب نفيس في مقتل (سيد الشهداء) عليه الصلاة و السلام يسمى ب: (الخصائص الحسينية).

و الكتاب هذا عديم النظير في موضوعه يذكر فيه أسرار الشهادة و القضايا الواقعة في (الطف). و قد رتب الكتاب على مجالس يذكر فيها خروج (الحسين) عليه الصلاة و السلام من البداية الى يوم استشهاده و مصرعه. طبع الكتاب أربع مرات.

انتقل (شيخنا التستري) الى الرفيق الأعلى بعد رجوعه من (ايران) قاصدا (النجف الأشرف) في قرية (كرند) ليلة العشرين من صفر المظفر عام 1303، و حمل جثمانه الطاهر على الرءوس و الأكتاف من هناك حتى مثواه الأخير (النجف الأشرف)، و دفن في الصحن المطهر في الحجرة المتصلة ب: (ساباط الصحن) الطرف الأيمن من الداخل من (باب الطوسي) رضوان اللّه تبارك و تعالى عليه.

و المعروف أن في ليلة وفاته تناثرت النجوم.

و (لشيخنا التستري) أولاد و أحفاد في مدينة (تستر) جلهم كانوا علماء أفاضل.

ص: 145

و نجله الجليل (الشيخ محمد كاظم) كان من تلامذة (المحقق الخراساني) و من مراجع التقليد.

و حفيده العلامة (الشيخ محمد تقي) من الأفاضل له تآليف قيمة:

منها: كتاب قضاء (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام.

و منها: (قاموس الرجال) في أحد عشر جزء. و كتب بخطه رسالة في جواز السهو على (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله، تأييدا لما ذهب إليه (شيخنا الصدوق)، وردا على ما أفاده (شيخنا المفيد) في رد (الصدوق) و طبع بالأفسيت و ألحقه بالجزء الحادي عشر من كتابه (قاموس الرجال).

ليته لم يكتب و لم يطبع.

(الثالث من تلامذة الشيخ): المحقق المدقق (الشيخ ميرزا حبيب اللّه الرشتي).

كانت ولادته في قرية (رانكوى) من قرى (گيلان) التابعة لمحافظة (جيلان اى رشت) عام 1234.

كان والده (ميرزا علي خان) من أهالي مدينة (قوجان) التابعة ل: محافظة (خراسان)، و من المزارعين المثرين المعروفين بالورع و الصلاح، فاعتنى به عناية زائدة فاعدّ له العدة في نشأته و تربيته تربية صالحة صحيحة دينية فتعلم القرآن و الكتابة و الإنشاء الفارسي في وقت قصير عند معلمه الخاص الذي هيأه له والده.

كان هذا المعلم يغذيه المعرفة، و يبعث فيه روح الفضيلة و الرشاد و الإنسانية أثناء تعليمه له الكتب العربية و الفارسية.

فاستفاد هذا الشاب الطموح خلال مدة تعلمه من هذا الأستاذ الطاهر فوائد علمية جمة بالإضافة الى الفوائد الخلقية.

ص: 146

برز (شيخنا المترجم) في العلوم العربية على يد هذا الأستاذ حتى أصبح من اللامعين فيها و عند ما رأى الوالد نبوغ ولده، و تورعه و صلاحه مالت نفسه الكريمة أن يدخله في زي رجال الدين، شوقا منه الى العلوم الإسلامية فبعثه الى مدينة (قزوين) التي كانت و لا تزال احدى المدن العلمية القديمة و فيها مدارس شامخة هيأت لرجال الدين و رواد العلم من قبل المحسنين الأخيار. و قد انجبت هذه المدينة منذ الفتح الاسلامي علماء. فقهاء محدثين مؤرخين. لغويين. جغرافيين. راجع كتب التاريخ.

و قبل مغادرته مدينة (كيلان) زوّجه والده فهيأ له جميع اللوازم البيتية: من أثاث و نقود، فغادر بلاده و رحل الى (قزوين) و تتلمذ على يد العالم الفاضل (الميرزا عبد الكريم الايرواني) في الفقه و الأصول بعد أن قضى و طرا منهما في مدينته، فاخذ في النبوغ يوما فيوما حتى برزت فيه مقدرته العلمية فبلغ المراتب السامية في الفقه و الأصول و هو في العقد الثالث من سني عمره المبارك.

ثم استجاز والده للذهاب الى كعبة الوفاد، و محط الرحال، مدينة العلم المعهد الاسلامي الكبير (النجف الأشرف) فاجاز له فجاء مع العائلة نحو (العراق) فحل في (النجف الأشرف) فتتلمذ على فقيه العصر:

(الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر).

ثم على (الشيخ الأنصاري) بعد أن اختبره في محفل درس (الشيخ صاحب الجواهر) عند ما تعرض لمسألة تعارض الأخبار في موضوع واحد، و سر تقديم (الشيخ صاحب الجواهر) بعضها على بعض، و جواب (الشيخ الأعظم) أنه من باب الحكومة، و قد مضى شرح ذلك في ص 104

فاختص (بالشيخ الأنصاري)، و لازمه ملازمة الظل فلم يترك درسه

ص: 147

و بحثه أيام حياة (الشيخ)، و لم يفته درس واحد من جميع دروس أستاذه العظيم، و صرح بذلك أثناء بحوثه بعد وفاة استاذه.

بلغ (شيخنا المترجم) مرتبة رفيعة في الاجتهاد.

كان (شيخنا المترجم) مستفيدا من غزارة علم أستاذه، الى أن فرق بينهما (غراب البين).

استقل (شيخنا المترجم) بالتدريس و البحث و التحقيق و لا سيما بعد وفاة زميله الكريم (السيد حسين الكوه كمري) التبريزي الآتي ذكره فأصبح زعيم الحوزة العلمية في (النجف الأشرف). فكان القائد الوحيد لها بعد ارتحال (السيد المجدد الشيرازي) الى (سامراء) لا يعارضه أحد في مجالات العلم و التدريس، بل كان هو المزاحم الأول لزميله (السيد المجدد الشيرازي) في التدريس فانتهى له دور التحقيق و التدقيق فربى تلامذة أفاضل، و علماء أماجد.

كان معهد درسه الشريف حافلا بالعلماء فابتعد كل البعد عن الزعامة و المرجعية و التقليد و كان يتجنب هذه الأمور كلما يعرض عليه أمر التقليد فصرف همته العالية نحو التدريس و التأليف بكل عناية و تمحيص، و لذلك ترك لنا تراثا خالدا تدل على مبلغ ما كان عليه من علو الإدراك، و سمو المعرفة و دقة الفهم.

كان (شيخنا المترجم) على جانب عظيم من الورع و التقوى، و يكفي في ذلك: أنه لما جاء نبأ وفاة والده غادر (العراق) قاصدا (ايران) للحصول على فريضته: من تركة والده الطائلة.

فدخل مدينته، و مسقط رأسه بعد السنين المتطاولة فرأى صراع إخوته فيما بينهم على التركة فآثر الرجوع الى (النجف الأشرف) من دون أن يأخذ فلسا واحدا منهم.

ص: 148

كان (شيخنا المترجم) يعيش خلال تشرفه في (النجف الأشرف) من والده، و لا يقبل درهما و لا دينارا من أحد.

(فشيخنا المترجم) جمع بين مرتبتي العلم و العمل.

(آثاره العلمية):

(لشيخنا المترجم) مؤلفات ثمينة نافعة:

منها: بدائع الأفكار في علم الأصول.

منها: رسالة في الغصب في الفقه.

و هناك حكايات تنقل حول بساطة (شيخنا المترجم)، و حيث لا نؤمن بها تركنا ذكرها. فهي الى الأساطير أقرب.

كانت نهاية حياته الغالية التي قضاها في البحث و التدريس و التأليف في اليوم الرابع عشر من جمادى الثانية عام 1312 قبل وفاة زميله المكرم (السيد المجدد الشيرازي) ب: شهرين. و دفن بمقبرته الخاصة على يسار الداخل الى (الصحن الشريف) من باب السوق الكبير المتصلة بمقبرة فقيه (أهل البيت) المرحوم (السيد أبو الحسن الأصفهاني).

(الرابع من تلامذة الشيخ): الفقيه الكبير: (السيد حسين الكوه كمري) التبريزي.

ولد (سيدنا المترجم) في قرية (كوه كمر) من قرى (تبريز) في محافظة (آذربايجان) في بيت عز و كرم، و أصالة و شرف.

و من هذه الدوحة الطاهرة المرحوم (السيد محمد الحجة) المرجع الديني السابق في (قم) من بني عمومة السيد المترجم.

قرأ القرآن الكريم و الإنشاء العربي و الفارسي في مسقط رأسه، ثم شرع في العلوم العربية و المنطق لدى أساتذة قريته فنال فيها نصيبا وافرا.

ثم أخذ في الفقه و الأصول فقصد مدينة (تبريز) حيث كانت

ص: 149

و لا تزال احدى المدن العلمية و قد أنجبت علماء أفاضل فغادر قريته فحل في (تبريز) فتتلمذ على يد علامتها الشهير (الميرزا أحمد امام الجمعة) و ولده (الميرزا لطف علي): السطوح فأكملها و أتقنها حتى بلغ مرتبة سامية، و درجة عالية رفيعة فيهما فعد من الأفاضل يشار إليه بالبنان.

ثم عزم على مغادرة (ايران) قاصدا (العتبات المقدسة) فجاء و حل في (كربلاء) يوم أن كانت مكتظة بالفطاحل و النوابغ فتتلمذ على الأعلام (كالأستاذ شريف العلماء المازندراني، و السيد ابراهيم القزويني صاحب الضوابط، و الشيخ محمد حسين الأصفهاني صاحب الفصول) فاستفاد من بحوثهم حتى ظهرت فيه مقدرته العلمية.

ثم توجه نحو (النجف الأشرف) للاستفادة من معهد العلمين الفقيهين (الشيخ علي كاشف الغطاء، و الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر) فحضر بحثهما فاختص (بشيخنا الأعظم الأنصاري)، و صار من حواريه بعد أن كانت حوزه درسه حافلة بالأفاضل الأعلام، فلازمه ملازمة الظل فكانت جل استفاداته منه، فأصبح من مبرزي تلامذته يشار إليه بالبنان.

و (لسيدنا المترحم) موقف مشرف مع (الشيخ الأعظم) تنبئ عن علو نفسه، و سمو خلقه، و طهارة ضميره.

و خلاصة الموقف: أن (السيد المترجم) كان له بحث في (الجامع الهندي) مشتملا على الأفاضل الأعلام.

و كان (لشيخنا الأعظم) معهد درس في نفس المكان. فسأل (السيد المترجم) يوما عن تلامذته: من هذا الباحث ؟

فقيل له: (الشيخ مرتضى الأنصاري) فاصغى الى بحثه و مقالته فوجده ذا تحقيقات عميقة، و مطالب دقيقة فطوى الكتاب و قال لتلامذته:

تعالوا معي نحضر بحث هذا الشيخ فذهب نحو محفل درسه و جلس، فلما

ص: 150

رأوا ذلك ذهبوا معه و جلسوا مصغين لبحث هذا الشيخ العظيم مع استاذهم الروحاني المقدس مع هن و هن في نفوس بعض تلامذته فبقي السيد مستفيدا من بحث الشيخ الى أن وافاه الأجل، نعم هكذا كان رجال الدين.

استقل السيد بالتدريس و البحث، و انحصرت الدراسة به، و بزميله (المحقق الرشتي) بعد أن غادر (السيد المجدد الشيرازي) (النجف الأشرف) و تشرف (بسامراء).

و من خصائص (السيد المترجم) أن حياته كلها كانت دراسة و بحثا حتى في العطلات المتعارفة عند رواد العلم في (النجف الأشرف).

تخرج من محفل درسه الشريف عدد كثير من الأفاضل الأعلام حملوا مشعل التدريس و التحقيق بعده:

و بعد وفاة الشيخ الأعظم رجع أهالي (آذربايجان) و من يتكلم باللغة التركية في الأصقاع الشيعية في أمر التقليد الى هذا السيد الجليل فنال حظا وافرا من المرجعية الدينية.

و لسيدنا المترجم آثار علمية. منها: تقريرات بحث شيخه الأعظم و لم تطبع من آثاره إلا رسالته العملية التي وضعها لمقلديه.

قيل السبب في ذلك: رداءة خطه جدا، حيث لا يقرأ، و لا يمكن لأحد قراءة خطه.

ابتلى السيد المترجم أخريات حياته بمرض (الزمانة) فأقعده في داره و لم يتمكن من الخروج، ثم اشتد به المرض حتى منعه عن التدريس.

أخبر (السلطان ناصر الدين شاه القاجاري) بمرض السيد فأرسل بعثة طبية من أطبائه إليه و أكد عليهم معالجته فجاءوا الى (النجف الأشرف) فباشروه، و بذلوا غاية الجهد في المباشرة و المعالجة.

و لكن و هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟.

ص: 151

انتقل السيد الشريف الى دار البقاء و لحق بأجداده الطاهرين يوم الثالث و العشرين من رجب المرجب عام 1299 و دفن في داره الخاصة الواقعة في محلة العمارة قرب (مسجد الشيخ صاحب الجواهر).

و قبره لا يزال معروفا و مشهورا.

(الخامس من تلامذة الشيخ): الفقيه النبيل: (الشيخ محمد حسن) المامقانى نجل المرحوم الشيخ عبد اللّه

ولد (شيخنا المترجم) عام 1238 في مدينة (مامقان) احدى مدن (آذربايجان) التابعة (لإيران) قديما قبل أن تسلبها (روسيا) الطاغية من (ايران) في عام 1228 الهجري.

جاء به والده عام ولادته الى (كربلاء)، حيث كانت معهدا دراسيا كما عرفت.

بقي الوالد الجليل في (كربلاء) مشتغلا بدراسته فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى توفى فيها بمرض الطاعون عام 1246 فتكفل تربية (شيخنا المترجم) العلامة الشهير (الشيخ محمد حسين الأصفهاني) صاحب الفصول بوصية من والده فكان تحت رعايته حتى عام 1255 و هي سنة وفاة (صاحب الفصول) و التحاق روحه بالرفيق الأعلى فتوجه (شيخنا المترجم) الى (النجف الأشرف) لإكمال دراساته الأولية التي بدأ بها في (كربلاء) على بعض أفاضلها.

فحل في (النجف الأشرف) مشتغلا بالدراسة حتى عام 1258، ثم رجع الى مسقط رأسه (مامقان)، و فيها أخذ يتجول في بعض المدن متطلعا و باحثا حتى عاد الى (النجف الأشرف) ثانية عام 1270 و التحق ببحث درس (السيد الكوه كمري) في الأصول، و الشيخ راضي النجفي و الشيخ حسن كاشف الغطاء في الفقه فاستفاد من هؤلاء الفطاحل الأعاظم و لا سيما من (السيد الكوه كمري) حتى عد من أفاضل تلامذة بحثه

ص: 152

و كتب تقريرات بحوثه كلها و قد بلغت ثمانية مجلدات سماها: (بشرى الوصول الى علم الأصول).

وقعت التقريرات موضع إعجاب العلماء الأفاضل و قد استنسخت مرارا و اعتمد عليها المجتهدون و المدرسون، و هذا يكشف عن مدى علمية (شيخنا المترجم) التي وصل إليها.

ثم التحق (شيخنا المترجم) بمحفل درس الشيخ الأعظم و اختص به و استفاد منه غاية ما يمكن استفادة التلميذ من استاذه خلال السنوات الأخيرة. أي من عام 1273 - الى عام وفاة استاذه 1281.

و كان (شيخنا المترجم) على جانب عظيم من الورع و التقشف الأمر الذي أبعده عن البهرجة، و زينة الحياة الدنيا، و التصرف بالأموال التي كانت ترد عليه من شتى الأقطار: في غير مواردها الشرعية، و مصارفها المعينة المحدودة.

ترك (شيخنا المترجم) مؤلفات جليلة نافعة أهمها حاشيته على (المكاسب) المسماة ب: (غاية الآمال).

كانت نهاية عمره الشريف في اليوم التاسع من المحرم الحرام عام 1323 و دفن في داره في محلة العمارة، و قبره هناك معروف.

(السادس من تلامذة الشيخ): الشيخ المحقق المدقق (المولى محمد كاظم الخراساني).

ولد (شيخنا المترجم) عام 1255 في مدينة (خراسان) احدى محافظات (ايران) و التي هي من أهمها.

كان والده العلامة (الشيخ حسين من أهالي (هرات) التي كانت من أهم مدن (خراسان): من الأفاضل.

هاجر والد (شيخنا المترجم) من مدينته قاصدا (خراسان) فحل

ص: 153

فيها مستوطنا بها، اشتغل (شيخنا المترجم) في طلب العلم فاعتنى به والده عناية زائدة، و أحاطه برعاية كاملة فتولى دراساته الأولية بنفسه فكان هو الموجه الأول لطلبة العلم، و شوقه نحو دراسات العلوم الاسلامية فنال قسطا وافرا من العلوم العربية و الميزان، و شطرا من الفقه و أصوله لدى والده الجليل.

ثم توجه عام 1277 - الى (بيهق القديمة) (و سبزوار) الحالية احدى مدن (خراسان) التي كانت من المراكز العلمية، و لا تزال. و فيها المدارس الدينية، و كانت من المدن المهمة قبل حملة الكافر الوحشي (جنگيز التتار) لعنه اللّه تعالى عدد أنفاس الخلائق: على البلاد الإسلامية فحل فيها و بقي سنة كاملة يتتلمذ لدى العارف الرباني، و الحكيم الإلهي (الميرزا هادي السبزواري) صاحب المنظومة المعروفة في الحكمة فاستفاد من بحثه، ثم رجع الى (خراسان) فبقى فيها مدة مستفيدا من أعلامها

ثم توجه نحو (طهران) عاصمة (ايران) لتحصيل الحكمة و الفلسفة التي كان لهما سوق رائج في العاصمة و لهما رواد و طلاب فمكث فيها سنة كاملة مستفيدا من بحث علامتها الشهير: (المولى حسين الخوئي). فنال مرتبة رفيعة فيهما.

ثم توجه نحو معهد العلوم الإسلامية: (النجف الأشرف) للاستفادة من زعيم الحوزة (الشيخ الأعظم) فحل في (النجف الأشرف)، و بعد الاستقرار حضر بحث (الشيخ الأنصاري)، و انضم الى تلامذته و كان بحثه الشريف حول حجية الظنون الخاصة، و منها: (الخبر الواحد) فاستمر على الاستفادة منه: الى أن انتقل شيخه الأستاذ الى جوار ربه الكريم، و وفد على ربه الجليل، و كانت مدة استفادته منه: ما يقرب من أربع سنين، و رغم قصر هذه المدة فقد كانت استفاداته منه فيها عظيمة

ص: 154

جدا تدل على مقدرة علمية في شخصية الأستاذ، و نبوغ لامع في ذهن التلميذ.

ثم واصل دراساته على أبرز تلامذة (الشيخ الأعظم) (السيد المجدد الشيرازي) بعد مهاجرته (النجف الأشرف) و السكنى في (سامراء) فاقتبس من علمه العزير، و نال منه مرتبة سامية في الدراسة و التحصيل.

ثم استقل (شيخنا المترجم) بعد وفاة العلمين الفقيهين (السيد المجدد الشيرازي، و المحقق الرشتي) بالبحث و التدريس فاجتمعت حوله عدة من الأفاضل الفطاحل فأفاض عليهم من علمه الغزير، ثم ازداد تلاميذه الى أن جاوز عددهم الآلاف، فكان هو الوحيد و المحور في البحث و التدريس و كان له بيان عذب، و كلام سلس في إلقاء محاضراته و بحوثه على تلامذته.

و قد أنجب محفل بحثه الشريف علماء فطاحل ازدان بهم الدهر.

اشتهر (شيخنا المحقق الخراساني) بالأصول حتى عدت محاضراته و تحقيقاته فيه من النوع الراقي.

و كتابه (كفاية الأصول): يغنيك عن الإثناء عليه، و يعطيك درسا كاملا عن مدى تبحره في علم الأصول، فقد تعرض لهذا الكتاب لأهمية: نوابغ هذا العلم و أقطابه، و علقت عليه شروح كثيرة تعد بالعشرات.

و (للمحقق الخراساني) فعاليات أخرى بالإضافة الى نشاطاته العلمية الجبارة.

منها: موقفه إلهام تجاه الانقلاب الحكم الإداري في (ايران)، و الذي أدى الى تشكيل (حكومة دستورية)، أي (حكومة مشروطة) و قد أصبحت هذه الحكومة الفتية ذات أنظمة و قوانين و أحكام خاصة تسمى ب:

(قانون أساسي مجلس شورى ملى ايران).

ص: 155

و بعد هذا الانقلاب و النصر و الغلبة للحزب (الحكومة الدستورية الفتية) خالف مليك ايران (محمد علي شاه) القاجاري الحكومة الدستورية، و أمر الجيش بضرب المجلس و رجاله فثار عليه الحزب حتى ألجأه الى الفرار فهرب و التجأ الى (السفارة الروسية) فتحصن هناك فخلعه نواب المجلس النيابي حالا عن الملوكية بحجة أنه لا يحق للمليك أن يلتجأ الى سفارة أجنبية و عين ولده (أحمد شاه) مكانه و هو طفل صغير و جعلوا أحد رجال الأسرة المالكة من الشخصيات اللامعة من بني أعمام الملك الجديد (عضد السلطنة) وصيا على العرش.

و من نشاطاته: تأسيسه (المدرسة العلوية) في (النجف الأشرف)

و من نشاطاته: نشره الثقافة العامة بمختلف صورها و أشكالها الأمر الذي أدى الى وضع حد لتصرفات حكام (ايران) في (العهد القاجاري) المعبر عنهم ب: (حكام الاستبداد).

و من نشاطاته: موقفه المشرف مع حكومة روسيا القيصرية الطاغية عند اعتدائها على بلاد (ايران) الشرقية، و مهاجمتها مدينة (خراسان) المقدسة الآمنة، و دخولهم الحرم الشريف، و قتلهم الزوار الوافدين ببنادقهم و رشاشاتهم بقسوة شديدة في إثرها أبرق المترجم تلك البرقية الهامة التي كان لها صداها في العالم، و البرقية تشتمل على ثمانمائة كلمة أبرقها الى (نيقلا) نفسه يهدده و يطلب منه بسحب جيشه عن (ايران) و تخلية البلاد التي احتلتها و البلاد هذه كانت مطمعا (للحكومة الروسية)، دوما و تتربص الدوائر عليها دائرة السوء لفصلها.

استلم (نيقلا) البرقية فأمر بانسحاب جيشه عن (ايران) من فوره خوفا

ص: 156

من صدور الفتوى بالجهاد من هذا القائد الديني للمسلمين فتقع الحرب بين الحكومتين.

و من نشاطاته: برقيته الى (السلطان عبد الحميد خان) و التي أدت الى خلعه، و انقلاب الحكم في بلاده الى (الحكم الدستوري).

و (للمحقق الخراساني موقف آخر خلاصته: أنه بعد استقرار الأمن في (ايران) و تشكيل (المجلس النيابي) في (طهران)، و اجتماع (النواب) في المجلس بدت اختلافات فيما بينهم حول القوانين التي وضعوها (للحكومة الدستورية) فعلم شيخنا المحقق بذلك و عرف مغزاها فعزم الى مغادرة (العراق) و الذهاب الى (ايران) للاطلاع على الأوضاع فأعلن بالسفر في اليوم المعين.

لكن المنية عاجلته فمات وقت الفجر بالسكتة القلبية، فشاءت الأقدار أن تقضي على حياة شيخنا المحقق في ظروف تمس الحاجة إليه، فكم للّه عز و جل من إشاءات و ارادات هو أعلم بسرها و حكمتها، و مصالحها و مفاسدها لا تصل إليها عقولنا القاصرة: و هو القائل عز من قائل:

«إني أعلم ما لا تعلمون».

(آثاره العلمية):

لشيخنا المحقق الخراساني: مؤلفات نافعة:

منها: كفاية الأصول في جزءين:

(الأول): في مباحث الألفاظ.

(الثاني): في الأدلة العقلية و الأصول العملية.

و قد عرفت أن الكتاب عظيم في بابه، قليل النظير في أسلوبه و قد علق عليه تعاليق قيمة و شروح جيدة تعد بالعشرات:

منها: شرحنا عليه في خمسة أجزاء المسمى ب: (دراسات في أصول الفقه)

ص: 157

و قد طبع من شرحنا جزءان. الجزء 1-2، و خرجا الى عالم الوجود، و أصبحا و للّه الحمد موضع إعجاب رواد العلم و طلابه و تناولتهما أيدي الأفاضل.

و سوف نطبع إن شاء اللّه تعالى في القريب العاجل بقية الأجزاء و نقدمها الى القراء الكرام.

و منها: تعليقته على الرسائل.

و منها: تعليقته على المكاسب.

و منها: رسالة في الفقه: (اللمعات النيرة).

كل هذه مطبوعة موجودة لدى رواد العلم.

انتقل (شيخنا المحقق الخراساني) الى رحمة ربه الكريم و انطوت حياته الغالية في صبيحة يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة الحرام (يوم الغدير) عام 1329، و دفن في مقبرته الخاصة في (الصحن الشريف) على يسار الداخل من باب السوق الكبير جنب زميله (المحقق الرشتي)

(السابع من تلامذة الشيخ): المحقق الشهير (الميرزا محمد حسن الآشتياني).

ولد شيخنا المترجم في قصبة (آشتيان) من ضواحي (طهران) عام 1248. و كان فيها نشأته البدائية. فتعلم القراءة و الكتابة هناك الى أن أنهاها و لم يكمل الثالث عشر من سني عمره.

ثم توجه نحو (بروجرد) لدراسة العلوم العربية، حيث كانت احدى المدن العلمية فتتلمذ على أساتذتها حتى أتقنها، و برع فيها، و نال حظا وافرا منها.

ثم شرع في الفقه و الأصول حتى أكمل السطوح و أنهاها، و بلغ فيها مرتبة سامية، و درجة عالية راقية.

ص: 158

ثم توجه نحو (النجف الأشرف) للاستفادة من أساتذتها الأفذاذ و الارتواء من منهلهم العذب.

فحل في (النجف الأشرف)، و بعد الاستقرار التحق بمحفل بحث (الشيخ الأعظم الأنصاري) فلازمه و اختص به حتى عد من أجلاء تلامذته، و مشاهير مقرري بحثه الى أن وافى استاذه الأجل.

و لم يطل العهد به بعد وفاة استاذه العظيم حتى غادر (النجف الأشرف) قاصدا (طهران)، و ما أن حل فيها حتى أصبح زعيمها الأوحد، حيث أدار شئونها، و دبر أمورها بحكمة.

كان (شيخنا المترجم) مهابا عند الحكومة و رجالها تقدره السلطات الزمنية غاية التقدير، و كان (السلطان ناصر الدين شاه القاجاري) يكبره و يجلله و يرعاه.

كان (شيخنا المترجم) يعد في الرعيل الأول من رجالات الدين في (ايران)، و لا سيما عاصمتها (طهران)، و كان له شأن و مكانة عند كافة الطبقات، و بالأخص عند (الدولة القاجارية).

و كانت الهيئة العلمية بمختلف طبقاتها: من علمائها، و أئمة جماعتها و وعاظها، و مدرسيها تهابه و تقدره.

و له الحظ الأوفى، و السهم الأوفر، و القدح المعلّى في تنفيذ الحكم بتحريم التنباك، و إلغاء الامتيازات الدخانية من (السيد المجدد الشيرازي) و في الحقيقة هو المؤثر الأول، و لولاه لم يحكم (السيد المجدد الشيرازي) بذلك و بعد هذا الحكم ارتفع شأنه و ذاع صيته حتى أصبح هو الوحيد في أصقاع (ايران) على الأغلب.

و لأولاده و أحفاده مكانتهم شعبا و حكومة حتى في عصرنا الحاضر إن هذا لشيء عجيب.

ص: 159

(لشيخنا المترجم) مؤلفات نافعة:

(منها): حاشيته على الرسائل المسماة ب: بحر الفوائد في حاشية الرسائل.

(و منها): كتاب القضاء مبسوط مستوفى.

(و منها تقريرات بحث أستاذه الأعظم (الشيخ الأنصاري).

انتقل الى دار البقاء و الخلود عام 1319 حمل جثمانه الى (النجف الأشرف) و دفن عند زميله الفقيه العظيم (الشيخ جعفر التستري) تحت الساباط على يمين الداخل من (باب الطوسي).

(الثامن من تلامذة الشيخ): الأصولي التحرير، أشهر مقرري بحث أستاذه (الشيخ الأنصاري) (الميرزا أبو القاسم كلانتر)

نجل المرحوم محمد علي خان النوري الطهراني

ولد (شيخنا المترجم) في (طهران) عام 1236 و بها نشأ و تعلم القراءة و الكتابة.

ثم توجه لطلب العلوم الدينية فنال منها قسطا غير يسير، ثم توجه الى (أصبهان) ثالثة العواصم العلمية الإسلامية لطلب العلم مع عمه فبقي هناك يطلب العلم فوفق لاستيعاب المقدمات و الدراسات الأولية فضبطها بذكائه المفرط، و حافظته العجيبة.

ثم قصد (النجف الأشرف) لاستفادة العلوم فمكث فيها مدة غير طويلة فغادرها لأسباب ليس هنا محل ذكرها، قاصدا (طهران).

ورد العاصمة فاستمر في دراسته على أعلامها في مدرسة (خان المروي) و هي احدى المدارس العلمية الدينية التي بنيت لرواد العلم و طلابها و لا تزال يسكنها طلبة العلوم الدينية، و لها أوقاف خاصة هامة يشرف عليها حفيد الميرزا الآشتياني: العلامة الحاج ميرزا باقر الآشتياني.

ص: 160

استفاد (شيخنا المترجم) من العلامة الجليل الشيخ عبد اللّه الزنوزي و بقية أعلام العاصمة.

كان الشيخ الزنوزي ذا اطلاع واسع في الحكمة و الفلسفة، بل كان خصيصا فيهما، و له منهما القدح المعلى.

أخذ (شيخنا المترجم) من هذا الحكيم الإلهي نصيبه الأوفر حتى ظهرت فيه مقدرته العلمية.

ثم تتلمذ على العلامة الجليل (الشيخ جعفر الكرمانشاهي) في الفقه و الأصول.

ثم غادر (ايران) قاصدا (العتبات المقدسة) فحل في (كربلاء) فحضر بحث الفقيه (صاحب الضوابط) فاستفاد من محفل بحثه مدة من الزمن حتى بلغ مرتبة رفيعة، و درجة سامية.

ثم غادر (العراق) قاصدا (ايران) فمكث فيها أياما قلائل فرجع الى (العراق) قاصدا مدينة العلم (النجف الأشرف) فحل فيها زمنا طويلا بلغ عشرين سنة، فحضر محفل بحث (الشيخ الأعظم) و لازمه ملازمة الظل فاستفاد من بحثه الشريف، و نهل من منهله العذب حتى أصبح من أعلام مجلس درسه، و فضلاء حوزته، و مشاهير مقرري بحوثه فقها و أصولا

له تحقيقات أنيقة، و بيانات رشيقة.

و كتابه (مطارح الأنظار) في تقريرات بحث (أستاذه الأعظم) أكبر شاهد، و أصدق دليل على تبحره في علم الأصول، و تضلعه في قواعده حيث استوعب فيه جميع بحوث أستاذه لم تفته كلمة واحدة من البداية الى النهاية، و من كتابه هذا استفاد بعض الأعلام، و أدرج مطالبه الهامة في كتابه، مؤيدا نظرياته.

رجع (شيخنا المترجم) الى (طهران) فحل فيها عام 1277 للقيام

ص: 161

بالوظائف الشرعية فقام بها أحسن ما يتطلبه المقام.

أصبح (شيخنا المترجم) مدرسا في (طهران) لا يضاهيه أحد في الدراسة، و إلقاء المحاضرات و البحوث.

كان له محفل بحث يحضره الأفاضل و الأعلام يلقي عليهم نتائج أفكاره الراقية التي استفادها من استاذه الأعظم فتخرج عليه جمع غفير ازدهرت بهم العاصمة.

و (لشيخنا المترجم) آثار علمية نفيسة تدل على طول باعه، و غزارة علمه، و كثرة عقله، و سمو أدبه.

و (لشيخنا المترجم) أحفاد في (طهران) من أهل العلم و الفضيلة يعرفون أخيرا ب: (الميثمي).

كانت آخر حياته الغالية التي كانت مليئة بالفضائل، و حافلة بالمكارم في (طهران) بنفس اليوم و الشهر الذي ولد فيه و هو اليوم (الثالث) من ربيع الأول عام 1292 و دفن في صحن (السيد عبد العظيم الحسني) عليه السلام المعروف هناك ب: (شاه عبد العظيم) في مقبرة المفسر الشهير:

(الشيخ أبو الفتوح الرازي الخزرجي).

و (كلانتر) كلمة فارسية بحتة مركبة من كلمتين: (كلان) بمعنى العظيم و الكبير.

و (تر) بمعنى أفعل التفضيل و المقصود منه الرجل العظيم الكبير الذي له الرئاسة و الزعامة، حيث كان جده لأمه زعيم المدينة.

(العاشر من تلامذة الشيخ): الأصولي البارع، المحقق الناقد (الشيخ هادي الطهراني).

ولد (شيخنا المترجم) في مدينة (طهران) عاصمة (ايران) يوم العشرين من شهر اللّه الأعظم عام 1253.

ص: 162

تعلم القراءة و الكتابة هناك، ثم شرع في العلوم العربية، و المنطق و سافر لهذه الغاية الى (أصفهان)، فهناك تعلم الدراسات الأولية على أساتذتها المشهورين فاكملها حتى تبرز فيها.

ثم توجه نحو دراسة الفقه و الأصول فاستفاد من بحوث علمائها الأفذاذ القديرين الذين يشار إليهم بالبنان، و على رأس هؤلاء الفطاحل الفقيه الجليل الجامع بين المعقول و المنقول (السيد حسن المدرس).

و العلامة الشهير (السيد محمد الشهشهاني) حتى ظهرت فيهما مقدرته العلمية فبلغ مرتبة سامية.

ثم غادر (أصفهان) قاصدا مسقط رأسه (طهران) فحل فيها و بقي أياما قلائل.

ثم ذهب الى مدينة العلم (النجف الأشرف) للاستفادة من محفل درس الأستاذ (الأعظم الشيخ الأنصاري) فحضر بحثه الشريف، و استفاد منه حتى أصبح من تلامذته البارزين اللامعين.

ثم عاد الى وطنه و لم يطل العهد به إلا و قد رجع الى (العراق) فحل في (كربلاء) فحضر معهد بحث العلامة (الشيخ عبد الحسين الطهراني شيخ العراقين).

ثم رجع الى وطنه فبقي أياما قلائل.

ثم عاد الى (العراق) فحل في (النجف الأشرف) مستفيدا من محفل درس (الشيخ الأعظم الأنصاري) الى أن وافى استاذه الأجل.

و بعد هذه الأسفار و الرحلات في طلب العلم، و تتلمذه على الأعلام و لا سيما (شيخنا الأعظم): صلب عوده، و اشتد عظمه، و برز نضجه فاستقل بالتدريس و التأليف فصار مجلس بحثه مجموعة الأفاضل يتنافس عليه الفطاحل، يموج بطلاب العلم و رواده.

ص: 163

كان (شيخنا المترجم) ذا نبوغ ذاتي اشتهر به شهرة عظيمة في الأوساط العلمية فذاع صيته.

و أظن و إن كان الظن لا يغني من الحق شيئا: أن هذه الشهرة العلمية في أوساطها هي التي سببت إثارة موجة من الشكوك ضده، و بث الدعايات حوله فقيل في حقه: ما قيل.

ربى (شيخنا) بدوره رغم تلك الدعايات تلامذة فضلاء مستفيدين من آرائه القيمة، و أفكاره الجيدة، معجبين بها، مقدرين لها.

(لشيخنا المترجم) آثار علمية بعضها مطبوع.

(منها): تعليقته على (الرسائل).

كانت آخر حياته الثمينة يوم العاشر من شوال المكرم عام 1321 في (طهران)، و حمل جثمانه الى (النجف الأشرف) و دفن في الصحن الشريف في احدى الحجرات الجنوبية قرب (الباب السلطاني).

(الحادى عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه الورع: (الشيخ محمد طه نجف).

ولد (شيخنا المترجم) عام 1241 في مدينة (النجف الأشرف) في بيت فضل و شرف.

نشأ (شيخنا المترجم) نشأة صحيحة اسلامية على يد والده العلامة الجليل (الشيخ مهدي نجف).

تعلم القراءة و الكتابة في (النجف الأشرف).

ثم شرع في العلوم العربية و المنطق على أحد أساتذتها البارعين:

(العلامة الشيخ عبد الرضا الطفيلي) حتى فاز بها.

ثم أخذ في الفقه و الأصول البدائي فتتلمذ على خاله العلامة (الشيخ جواد نجف)، و على العلامة (الشيخ محسن خنفر) فأكملهما، و برع فيهما

ص: 164

ثم شرع في دراسة الفقه الراقي، و الأصول العالي فتتلمذ على المحقق الفقيه (السيد حسين الكوه كمري) الذي مضى شرح حياته في ص 149-152 فنال فيهما درجة عالية.

و بعد هذا اختص (بشيخنا الأعظم) فاستفاد منه استفادة كاملة حتى بلغ مراتب الاجتهاد، و صار من الأعلام المشهورين يشار إليه بالبنان

كان (شيخنا المترجم) متفوقا في الفقه و الأصول رغم كونه متعدد الجوانب.

له الاطلاع الواسع في الحديث و الرجال، و الأدب و الشعر، فكان فيها ذا معرفة كاملة.

استقل في التدريس و صار من الرعيل الأول، مضافا الى مرجعيته في الفتيا و التقليد فكان له منهما الحظ الأوفر.

و كان (شيخنا المترجم) على جانب من الصبر، و التقوى و الخلق العالي.

لشيخنا المترجم آثار علمية في الفقه، و الأصول.

و له تعاليق و شروح على بعض الكتب، و أشهر مؤلفاته: كتابه في علم الرجال المسمى ب: (إتقان المقال في علم الرجال).

و قد اعتنى بهذا الكتاب حتى عند ما فقد البصر فخرج كتابا كثير الفائدة

تخرج من معهد بحثه الشريف جمع من العلماء، و رجال المعرفة.

كان آخر حياته يوم الثالث عشر من شوال عام 1323، و دفن في الصحن الشريف في مقبرتهم الخاصة بجنب أستاذه (الشيخ الأنصاري) في غرفة مستقلة.

(الثاني عشر من تلامذة الشيخ): المحقق الأصولي (الميرزا عبد الرحيم) النهاوندي.

ص: 165

ولد (شيخنا المترجم) عام 1237 في مدينة (نهاوند) احدى مدن (ايران) التي وقعت فيها المعركة الدامية بين المسلمين، و جيوش الفرس حتى كان النصر النهائي للمسلمين، و يقال لهذا النصر: (فتح الفتوح) حيث انتهت الحرب الى غلبة المسلمين على أكثرية بلاد ايران، و الى فرار (يزدجرد) آخر الملوك الساسانيين.

أصله من (شيراز) انتقل الى (نهاوند) جده لأبيه (الحاج ميرزا محمد علي) بعد صدور مرسوم ملكي من قبل (السلطان محمد شاه القاجاري) بتعينه حاكما على (نهاوند) فاستوطن هناك، و اتخذ هذه المدينة مقرا له فولد شيخنا المترجم و والده في (نهاوند) فاشتهر ب: (النهاوندي).

اعتنى جده و والده بتربيته. فنشأ شيخنا المترجم نشأة صحيحة دينية

قرأ القرآن المجيد، و تعلم الكتابة في مسقط رأسه فاتقنهما.

ثم مالت نفسه الى تعلم العلوم العربية و المنطق فقرأها على أساتذتها حتى أكملها فصار من البارزين فيها.

و رغبة (شيخنا المترجم) الى الدراسات الاسلامية الصحيحة دليل على أصالة تربيته، و تشبعه بروح العقيدة الصحيحة.

و قد مضى في حياة الشيخ في ص 28 أن للبيئة، و التربية و النشأة أثرها العظيم في سعادة الانسان و شقائه.

ثم شرع في دراسة الفقه و الأصول للبدائية لدى أفاضل (نهاوند) فأكملهما فنال فيهما مرتبة رفيعة سامية.

و بعد هذه المراحل توجه نحو (النجف الأشرف) للاستفادة من معهد بحث (شيخنا الأعظم) فحضر بحث (الشيخ الأنصاري) و واظب عليه و داوم فلم يفته درس من بحوثه فبرز و نبغ حتى صار من أعلام تلامذته و أفذاذ خريجي مدرسته، و كان مورد عناية (الشيخ الأعظم).

ص: 166

استقل (شيخنا المترجم) بالبحث و التدريس بعد وفاة (أستاذه الأعظم) فاجتمع حوله جمع غفير من الأفاضل فأفاض عليهم من تحقيقاته الرشيقة حتى خرج من معهد بحثه عدد غير يسير من رجال العلم.

غادر (شيخنا المترجم) (العراق) عام 1289. قاصدا (ايران) فاختار (طهران) عاصمتها موطنا، و بعد أيام قلائل توجه الى خراسان لزيارة مرقد (الامام الثامن) عليه السلام فتشرف هناك سنة كاملة ثم عاد الى (طهران) و كان مورد تقدير و تقديس و حفاوة بالغة من عامة الناس.

شرع في البحث و التدريس في (مدرسة خان مروي) كما أقام الجماعة فيها.

ربّى شيخنا المترجم خلال فترة اقامته في (طهران) و هي اثنا عشر عاما عددا كثيرا من الأفاضل.

ترك (شيخنا المحقق) آثار علمية فقد اكثرها، و ضاع جلها.

كان آخر حياته الشريفة في العشرة الأولى من ربيع الثاني عام 1304، في (طهران).

حمل جثمانه الى (النجف الأشرف) و دفن في وادي السلام على طريق (النجف و الكوفة) تجاه (كلية الفقه) بنايتها الجديدة.

كان على قبره صخرة مكتوب عليها اسمه.

هدم قبره و سوي مع الأرض بعد توسيع الشارع العام.

(الثالث عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه الاخلاقي (الآخوند ملا حسين قلي) الهمداني.

ولد (شيخنا المترجم) عام 1239 في قرية (شوند) من قرى (همدان).

كانت نشأته البدائية، و قراءاته الأولية هناك.

ص: 167

ثم أرسله والده الى (طهران) لدراسة المقدمات و السطوح، حيث كانت بعد أن اتخذها (ملوك قاجار) عاصمة لملكهم: من المدن العلمية الراقية، و فيها المدارس الدينية الشامخة من القسم الداخلي بنيت لرجال العلم و رواده، و لا تزال يسكنها طلاب العلم من رجال الدين.

و لهذه المدارس أوقاف خاصة تصرف أرباحها على طلابها، و في سائر شئونها اللازمة.

شرع (شيخنا المترجم) في المقدمات و السطوح حتى أكملها و أنهاهما فصار من البارزين فيها.

ثم أخذ في الفقه و الأصول الراقي فتتلمذ على العلامة (الشيخ عبد الحسين الطهراني شيخ العراقين) مدة من الزمن فاستفاد من علمه الغزير.

ثم غادر (طهران) قاصدا (سبزوار) للاستفادة من معهد بحث الحكيم الإلهي (الحاج ميرزا هادي السبزواري) صاحب المنظومة في الحكمة الإلهيات و الطبيعيات فقرأ عليه قسما وافرا من الحكمة، ثم رجع الى مسقط رأسه (شوند).

كان (شيخنا المترجم) خلال هذه الأسفار طالبا مجدا متتبعا مدركا بشكل يثير الإعجاب و التنبؤ بمستقبل زاهر.

لم يطل العهد بشيخنا المترجم في (شوند) حتى غادرها قاصدا (النجف الأشرف)، و الالتحاق بمعهد بحث (الشيخ الأعظم) فحل فيها، و بعد أيام قلائل حضر درسه فاستفاد من بحوثه القيمة فلازمه ملازمة الظل حتى تسنى له أن يكتب من تقريرات بحوثه الفقهية و الأصولية الشيء الكثير كما أنه واصل دراساته الأخلاقية، و الكمالات النفسانية لدى استاذها الشهير (السيد علي التستري) أعلى اللّه مقامه.

كان (شيخنا المترجم) ناهلا من بحر علوم استاذه الى أن التحق

ص: 168

الأستاذ بالرفيق الأعلى، فاستغنى و لم يلحق بعد ببحث أي علم من الأعلام و اكتفى بما استوعبته ذاكرته، و تقريراته.

كان شيخنا المترجم مبتعدا عن عالم المرجعية و التقليد و لتصدي الفتيا معرضا عنها، عزوفا عن بهارجها، مفضلا الانزواء و الابتعاد عن مخاطرها

و كانت داره مقصد الخواص من أهل العلم و الفضيلة، و طلابه الأفذاذ

و مصدر بحوث تقريراته الخاصة المستفادة من (أستاذه الأعظم) مضافا الى تدريب جملة من فضلاء الحوزة، و تهذيب أخلاقهم و هم الدين أصبحوا من فرسان هذه الحلبة و ميدانها، حيث كان مثالا عاليا في الأخلاق الفاضلة، فادوا الرسالة بما أملاه عليهم بما اقتضته الأمانة العلمية، و شرف الانسانية في هذا السبيل.

كانت آخر حياته الغالية في (كربلاء) عند زيارته مرقد الامام الشهيد أبي عبد اللّه الحسين عليه الصلاة و السلام يوم الثامن و العشرين من شعبان المعظم عام 1311، و دفن هناك في الصحن الشريف.

(الرابع عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه الجليل (الحاج ميرزا حسين الخليلي) الطهراني.

ولد شيخنا المترجم في (النجف الاشرف) عام 1230 في بيت فضيلة و شرف.

تعلم القرآن المجيد و الكتابة فيها، ثم أخذ في دراسة العلوم العربية و المنطق على والده العلامة (الحاج ميرزا خليل) جد الأسرة الخليلية في (العراق و ايران)، ثم على أخيه العالم (الحاج ميرزا علي الطهراني) حتى أكملها و أنهاها و برز فيها.

ثم شرع في الفقه و الأصول البدائي فاتقنهما، و برع فيهما و صار من اللامعين.

ص: 169

ثم حضر معهد بحث الشيخ الفقيه (صاحب الجواهر) فاستفاد من علمه الزاخر الى أن ارتحل الى الرفيق الأعلى.

ثم حضر بحت (الشيخ الأعظم) و لازمه مستفيدا من أبحاثه القيمة حتى لبى الأستاذ دعوة ربه الكريم.

و بعد هذا استقل بالتدريس و التحقيق مدة غير يسيرة.

كان بحث (شيخنا المترجم) من الأبحاث الفقهية البحتة المعروفة بالفقه المجرد فكان فيه مثال الأستاذ البارع المفكر الموجه.

كان ذا احاطة واسعة بالفروع الفقهية، و كان له عذوبة الكلام و سلامة البيان في التدريس حضر بحثه عدد كثير فاستفادوا منه، و تخرجوا من حوزة درسه.

كان (شيخنا المترجم) و زميلاه (المحقق الخراساني، و الشيخ عبد اللّه المازندراني) واضعو الحجر الأساسي لتأسيس الحكم الدستوري في ايران.

و له القدح المعلى في هذا الانقلاب، و تثبيت أركانه فكان ينظم المجالس و الحفلات في مدرسته (مدرسة الخليلي).

كان (شيخنا المترجم) أشد زميليه حماسة في هذه النهضة فهو الغارس بذرتها، و المفتى بوجوبها.

لكن المنية عاجلته و اختطفته فاقتطف ثمارها زميله (المحقق الخراساني) بعد أن أينعت، و نضجت ثمارها، و حان قطافها، ففتح (المجلس الشورى) في ايران باسم المحقق الخراساني.

(لشيخنا المترجم) مؤلفات في الفقه و الأصول و الرجال كلها مخطوطة و له (ذريعة الوداد في منتخب نجاة العباد) طبعت مرارا.

كانت نهاية حياته في مسجد السهلة يوم الجمعة العاشر من شوال

ص: 170

عام 1326 عن عمر جاوز التسعين، و حمل جثمانه من المسجد الى مثواه الأخير (النجف الأشرف) على الأكتاف مشيا، و دفن في مقبرته الخاصة المهيأة لنفسه قبل موته، و المقبرة متصلة بمدرسته الواقعة في محلة العمارة على رأس عقد السلام الشهيرة ب: «مدرسة الخليلي».

(الخامس عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه النبيل (الشيخ عبد الحسين) نجل الفقيه الأكبر (الشيخ صاحب الجواهر).

ولد (شيخنا المترجم) في (النجف الأشرف)، و ترعرع في رحابها الطاهر.

تعلم القرآن المجيد، و الكتابة فيها.

ثم عكف على دراسة العلوم العربية و الدينية على اختلاف أنواعها و مراتبها حتى أحرز مرتبة سامية، و مركزا خطيرا له شأن فى الأوساط العلمية

ثم حضر معهد بحث (الشيخ الأنصاري) فاستفاد منه حتى صار من مشاهير تلامذته.

كان (شيخنا المترجم) متجملا بمزايا غراء، و قيم روحية سامية ارتفعت به الى قمة العظمة، و ذروة المجد و السؤدد، لاجلها كان مورد تجليل أستاذه الأعظم و تكريمه.

انتهت إليه رئاسة بيته بعد وفاة والده العظيم.

و له نوايا طاهرة تدل على سلامة نفسه من جملتها: القيام باتمام عمل والده العظيم في ايصال الماء من الكوفة الى (النجف الأشرف) عن طريق النهر الذي أمر والده بحفره، و قد بذل السعي و الجهد في هذا السبيل و تم قسم منه على يده.

ص: 171

لكن المنية عاجلته فاختطفته فتوقف هذا العمل الانساني، و تلاشى ذلك المشروع الحيوي بموته.

انتقل (شيخنا المترجم) الى دار البقاء ليلة احدى و عشرين من جمادى الأولى عام 1373، و دفن في مقبرتهم الخاصة بجنب والده الراحل الطاهر (الشيخ صاحب الجواهر).

(السادس عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه الكامل، الأديب الفاضل (الشيخ ابراهيم بن صادق العاملي)

ولد (شيخنا المترجم) في قرية (الطيبة) من قرى (جبل عامل) للجمهورية اللبنانية عام 1221.

تعلم القراءة و الكتابة في مسقط رأسه، ثم أخذ في دراسة العلوم العربية فقرأها حتى برع فيها، و أصبح على عهد والده شاعرا أديبا.

ثم شرع في دراسة في الفقه الأصول، و بقية العلوم: الاسلامية بعد وفاة والده عام 1252.

ثم هاجر الى معهد العلوم الاسلامية (النجف الأشرف) عام 1253 فحضر بحث العلامة الجليل الشيخ حسن كاشف الغطاء، و الشيخ محمد كاشف الغطاء و الشيخ مهدي كاشف الغطاء فبلغ في الفقه و الأصول مرتبة سامية.

ثم تتلمذ على (شيخنا الأنصاري) فصار على جانب عظيم في الفقه و الأصول فعلا صيته، و تقدمت سمعته، و ظهرت مقدرته العلمية.

ثم رجع الى بلاده جبل عامل ليقوم بواجبه الديني في الدعوة و التوجيه

ص: 172

و الارشاد فنال هناك من الاحترام و التقديس حدا عاليا قل نظيره في أقرانه من معاصريه.

لكن المنية لم تمهله بعد رجوعه الى وطنه إلا قليلا فاختطفته سريعا فتوفى عام 1283، و دفن بالنبطية.

ترك (شيخنا المترجم) آثار فقهية و أدبية.

(السابع عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه العامل، و الزاهد العابد الفاضل الشربياني.

ولد (شيخنا المترجم) عام 1248 في مدينة (شرابيان) من أعمال (آذربايجان).

قرأ القرآن الكريم و تعلم الكتابة هناك فاتقنهما، ثم توجه لدراسة العلوم العربية و الأدبية فاتمها فبلغ منها حظا وافرا، و بعد هذه المراحل غادر وطنه قاصدا (تبريز) لمواصلة دراساته العالية يوم أن كانت (تبريز) و لا تزال احدى المدن العلمية في (ايران)، فيها مدارس دينية لطلاب العلم و رواده فتتلمذ على أساتذتها الأفذاذ في الفقه و الأصول حتى برز فيهما و يشار إليه بالبنان.

ثم غادر (تبريز) عام 1273 قاصدا (العراق) للتلمذ على أعلام (مدينة العلم النجف الأشرف) و فحول علمائها، و كبار أساتذتها، فالتحق بحوزة بحث (شيخنا الأنصاري) فحضر بحثه الشريف و واصل دراسته و لازمه ملازمة الظل، و لم يتركه حتى ارتحل (أستاذه الأعظم) الى الرفيق الأعلى.

ص: 173

أصبح (شيخنا المترجم) من أفاضل طلاب معهد أستاذه الأعظم و بعد وفاة (السيد الكوه كمري) استقل بالبحث و التدريس، و أصبح مرجعا للشيعة في التقليد و الفتيا.

كان (شيخنا المترجم) مورد عناية (ملوك ايران و البلاط العثماني) و لا سيما الثاني حيث كانوا يحترمونه غاية الاحترام، و قد أجيز له أن يتكلم كل يوم مع الخليفة العثماني بأربعين كلمة مجانا.

كانت آخر حياته الشريفة يوم الجمعة السابع عشر من شهر اللّه الأعظم وقت الفجر عام 1322 في (النجف الأشرف) و دفن في مقبرته الخاصة في الحجرة الملاصقة (بالصاباط) خلف الرواق الشمالي.

و هناك حكاية مشهورة إليك خلاصتها في عام 1375 الهجري أمرت (الحكومة العراقية) بترميم الحرم المطهر العلوي، و الرواق الشريف و الغرف المتصلة بالرواق، و من جملة الغرف مدفن شيخنا المترجم فحين ذاك و جدوا جثته الطاهرة سليمة طرية كأنها دفنت في يومها من دون تغير.

له آثار علمية. منها: حاشيته على الرسائل و المكاسب، و له كتاب في الصلاة، و رسالة عملية لمقلديه.

(الثامن عشر من تلامذة الشيخ): الفقيه الورع (الشيخ آغا حسن النجم آبادي).

حضر (شيخنا المترجم) معهد بحث (الشيخ الأنصاري) مدة من الزمن و لم يفارقه أيام تشرفه في (النجف الأشرف) حتى صار من أجلاء تلامذته.

ص: 174

أصبح (شيخنا المترجم) من الفقهاء الكبار، مضافا إلى أنه كان بجانب عظيم من الورع و التقوى.

و يكفي شاهدا على ذلك: أنه رجع إليه الناس في التقليد بعد وفاة (الشيخ الأنصاري) فرفضه و ابتعد عن مخاطره، و أرجعهم الى (السيد المجدد الشيرازي).

لشيخنا المترجم آثار فقهية كلها مخطوطة.

كانت آخر حياته في (النجف الأشرف) عام 1282 - و دفن فيها و هناك تلامذة آخرون و ما أكثرهم لا يسع المقام لذكرهم.

(مدى علمية شيخنا الأعظم):

لا يشك أحد من علمائنا الأبرار و فقهائنا الكرام ممن أتوا بعد (شيخنا الأنصاري) أنه كان غزير العلم، طويل الباع، دقيق الفكر، عميق النظر، عظيم الضبط، واسع الاطلاع، سريع الانتقال، قليل الخطأ ذا احاطة واسعة بالمسائل الفقهية و الأصولية، واقفا على رموزها و مزاياها، عالما بمبادئ الفروع و أحكامها، عارفا بكيفية دخوله فيها و خروجه منها، يصدق عليه المثل الساري:

(هو ابن بجدتها)

تراه يأخذ في المسألة فقهية و أصولية فيحللها تحليلا علميا، و يناقشها نقاشا دقيقا بذكر مقدمات متينة، و مبادي رصينة بآرائه القيمة، و أفكاره الجيدة، و يركزها في الأذهان ببيان عذب، و كلام سلس، بجمل موجزة غير مخل و لا ممل، يخال الطالب أنها سليمة عن كل نقص، و صحيحة من كل عيب.

ص: 175

ثم يأخذ في النقاش العلمي حول تلك المقدمات فيفندها بآراء جديدة أسد و أمتن من الأولى، فيأتي بالأدلة على متانة هذه المقدمات و صحتها و يثبت للمسألة خلاف ما أثبته لها أولا، مؤيدا رأيه الجديد بأقوال الآخرين

ثم يشرع في هدم هذه المقدمات التى بنى عليها المسألة، و يؤيدها بأقوال الآخرين، و يناقش تلك المقدمات مناقشة دقيقة فيأتي بمطالب رصينة لا تشابه الأولى و الثانية فيخوض فيها، و يجول يمنة و يسرة، مستشهدا بالآيات و الأخبار، و مؤيدا بكلمات الأعلام من الفقهاء و اللغويين فيتراءى للباحث فيها أن الإشكال قد ارتفع بحذافيره، لأن هذه المقدمات الجديدة هي الصغرى الكبرى من الشكل الأول فهي بديهية الانتاج.

و اذا به يهدمها، و يؤسس مباني جديدة أخرى فيأتي بمقدمات الى الواقع أقرب، مستدلا أيضا بالآيات و الأخبار يذكرهما واحدة بعد أخرى كأنما دماغه الجبار (دماغ الكتروني) وضع للاستدلال بالآيات و الأخبار، و نقل الأقوال و الإجماعات الى أن يتجاوز الهدم و البناء، و النقض و الإبرام: الآحاد.

و لمزيد الاطلاع نحيطك علما.

خذ لذلك مثالا نموذجيا.

يقول فى النوع الثاني مما يحرم التكسب به لتحريم ما يقصد به:

و هو على أقسام:

(الأول): ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلا الحرام.

منها: هياكل العبادة.

ص: 176

(الثاني): ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة.

و هو (تارة) على وجه يرجع الى بذل المال في مقابل المنفعة المحرمة (و أخرى) على وجه يكون الحرام هو الداعي الى المعاوضة لا غير فهنا مسائل ثلاث.

(الأولى): بيع العنب على أن يعمل خمرا، و الخشب على أن يصنع صنما أو صليبا.

(الثانية): يحرم المعاوضة على الجارية المغنية.

(الثالثة): يحرم بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمرا.

يأخذ الشيخ في المسألة، و يأتى بأدلة المثبتين، ثم يناقشها فيأتي بأدلة النافين فيعارضها بما هو أقوى منها، و لا سيما (المسألة الثالثة): و هو بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمرا، فيحقق تحقيقا دقيقا أنيقا، ثم يدخل في الإعانة و أقسامها، و مفهومها.

و ستأتي الاشارة إليها و الى أقسامها.

ثم يشرع في النقص و الإبرام و ايراد ما أفاده (المحقق الأردبيلي) في هذا المقام، و بالأخص ما ذكره حول الإعانة: من أنه لا بدّ في تحققه خارجا من أحد الأمرين لا محالة على سبيل منع الخلو.

إما القصد، و إما الصدق العرفي.

ثم يأخذ في التعليق على ما أفاده (المحقق الأردبيلي) و يناقشه، فيوافقه ثم يخالفه.

كل هذه المناقشات، و الموافقات، و المخالفات مع أدلتها، و الأقوال التي قيلت فيها.

ص: 177

أليك مثالا آخر.

يخوض الشيخ في السحر فيشرح معناه اللغوي و موارد استعمالاته و أقسامه، و الاشارة الى مصدره، و حقيقته، و تأثيره، و الفرق بينه و بين المعجزة، و بينها و بين الشعبذة كما شرحناه مفصلا، و علقنا عليه تعاليق كثيرة و أشبعنا الكلام فيه، و ستقف عليها إن شاء اللّه في الجزء الثاني.

إليك مثالا آخر.

يأخذ الشيخ في مسألة الغناء فيقول: لا خلاف في حرمته في الجملة ثم يذكر الأخبار الدالة على حرمته، و ينقل عن الإيضاح دعوى تواترها

ثم يشرع في نقاشها و خدشها و يقول: إن الأخبار المذكورة قسم منها يدل على كون الغناء من مقولة الكلام.

و قسم منها يدل على أنه من مقولة الصوت.

ثم يؤيد هذا النقاش و الخدشة بأحاديث أخرى بعضها دال على أنه من مقولة الكلام.

ثم يذكر حقيقة الغناء و مفهومه من تعاريف اللغويين، و من تعاريف الفقهاء، و الجمع بين التعريفين.

ثم يقول: هل الغناء مجرد ترجيع الصوت و إن لم يكن مطربا أو الترجيع مع الإطراب و هي الكيفية الحاصلة للانسان المخرجة له عن الحالة الطبيعية و التوازنية كما شرحناه شرحا وافيا و ستقف عليه ان شاء اللّه.

ثم يذكر ما أفاده (صاحب الحدائق، و المحقق الكاشانى، و المحدث الأسترآبادي) و النقاش معهم.

ثم يذكر ما أفاده (المحقق الكاشانى) في الجمع بين الأخبار المتضاربة الواردة في الغناء جوازا و منعا: بحمل المانع منها على الفرد الشائع من الغناء في العصرين: (الأموي و العباسي).

و الجواز منها على الفرد الغير الشائع في العصرين.

ص: 178

ثم يذكر ما فيه من خروج المراثي عن الغناء بعروض الشبهة فيها من حيث أصل الحكم تارة، و من حيث الموضوع أخرى، و من حيث اختصاص الحكم ببعض أفراد الموضوع، لا جميعها ثالثة فيأخذ (شيخنا الأعظم) في المسألة و يحللها تحليلا علميا، و يناقشها نقاشا دقيقا يزيل الشبهة بحذافيرها، سواء أ كانت في الحكم أم في الموضوع أم ببعض أفراد الموضوع فيعطي المسألة حقها، و يخرج عن عهدتها.

ثم يذكر موارد استثناء الغناء و أنه جائز في بعض الموارد في الشرع و أن خروج هذه الموارد هل هو خروج موضوعي، أو حكمي ؟

ثم يذكر الأخبار الواردة في جواز قراءة القرآن الكريم بالصوت الحسن، ثم يذكر الأخبار الواردة في النهي عن مطلق الغناء، سواء أ كان في القرآن أم في غيره.

ثم يجمع بين هاتين الطائفتين.

خذ لذلك مثالا آخر:

يقول (شيخنا الأعظم) في المسألة الرابعة عشر في (الغيبة):

إنها حرام بالأدلة الأربعة فيذكرها، ثم يشرح الغيبة إعلالا، فيقول:

إنه اسم مصدر لاغتاب، و المصدر الاغتياب، و بالفتح مصدر غاب.

ثم يذكر ما ورد عن أهل اللغة في تعريف الغيبة، و ما أفاده الفقهاء في تحديدها و تعريفها.

ثم يقارن بين التعريفين فيذكر الأخبار الواردة في تعريف الغيبة.

ثم يذكر موضوع النزاع في الغيبة هل هي الغيبة المجردة عن قصد الانتقاص، أم لا بدّ في حرمتها من قصد الانتقاص ؟

ثم يذكر أن المراد من العيب هل الجلي، أم الخفي ؟

و هل المحرم كلاهما، أو الخفي منهما؟

ص: 179

ثم يذكر أن المراد من الذكر في تعريف الغيبة هل الذكر باللسان كما هو المنصرف منه، أو مطلق الذكر، فيختار أن المراد مطلق الذكر فيؤيد مختاره بالأخبار.

ثم يأخذ في كفارة الغيبة الماحية لأثرها و هو العقاب الأخروي فيشبع الكلام فيها.

ثم يذكر موارد جواز الغيبة و استثنائها الى آخر ما يذكره في هذه المسألة.

خذ لذلك مثالا آخر: يدخل في تعريف البيع لغة و يقول: إنه مبادلة مال بمال، ثم يستشهد بكلام (صاحب المنير) ثم يستظهر اختصاص المعوض بالعين و يؤيده باستقرار اصطلاح الفقهاء، ثم يستدرك ذلك بقوله:

نعم ربما يستعمل في كلمات بعضهم في نقل غيرها، ثم يستظهر الاستدراك المذكور من كثير من الأخبار، و يذكر قسما منها.

ثم يقول: أما العوض فلا اشكال في كونها منفعة و يستشهد على ذلك بمواضع من (القواعد و التذكرة و جامع المقاصد) ثم يقول: و لا يبعد عدم الخلاف فيه، ثم يستدرك عدم البعد بقوله: نعم نسب الى بعض:

الخلاف فيه، ثم يذكر وجها لهذا الاستدراك بقوله: و لعله لما اشتهر في كلامهم من أن البيع نقل الأعيان، ثم يستظهر الوجه المذكور بقوله:

و الظاهر ارادتهم بيان البيع نظير قولهم: إن الإجارة لنقل المنافع.

ثم يدخل في عمل الحر، ثم يذكر الحقوق الأخرى فيقسمها على قسمين ثم يقول: و لا ينتقض ببيع الدين على من هو عليه.

ثم يفرق بين الحق و الملك، ثم يستظهر عدم وجود حقيقة شرعية و لا متشرعية في البيع، ثم يذكر اختلاف الفقهاء في تعريف البيع فينقل عن المبسوط و التذكرة ما عرف البيع به.

ص: 180

ثم يقول: في هذا التعريف مسامحة، ثم يؤيد هذه المسامحة بقوله:

و حيث إن في هذا التعريف مسامحة واضحة: عدل آخرون الى تعريفه:

بالإيجاب و القبول الدالين على الانتقال.

ثم استشكل على هذا التعريف و قال: إن البيع لما كان من مقولة المعنى، دون اللفظ المجرد، أو بشرط قصد المعنى: عدل جامع المقاصد عن تعريفه و قال: إن البيع هو نقل العين بالصيغة المخصوصة.

ثم أورد على تعريف جامع المقاصد: بأن النقل بالصيغة أيضا لا يعقل انشاؤه بالصيغة.

هذا بالإضافة الى أن النقل ليس مرادفا للبيع، و لذا صرح في التذكرة بأن ايجاب البيع لا يقع بلفظ نقلت، و جعل النقل من الكنايات.

ثم قال: و لا يندفع الاشكال الوارد على تعريف صاحب جامع المقاصد بأن المراد من البيع نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة، لأنه إن أريد بالصيغة خصوص بعت لزم الدور، و إن أريد بها ما يشمل ملكت وجب الاقتصار على مجرد التمليك و النقل.

ثم قال: و الأولى في تعريف البيع أن يقال: إن البيع إنشاء تمليك عين بمال.

ثم قال: و لا يرد على هذا التعريف شيء من الايرادات الواردة على التعريف السابق.

ثم قال: نعم يبقى على هذا التعريف أمور:

ثم ذكر تلك الأمور واحدا بعد آخر بقوله: منها و منها و منها و منها و منها، مع ذكر الجواب عن كل واحد من هذه الأمور.

ثم ذكر حقيقة المصالحة في الجواب عن الاشكال الخامس الوارد على تعريفه البيع: بأنه إنشاء تمليك عين بمال.

ص: 181

ثم ذكر الفرق بين المصالحة و التمليك: بأن طلب المصالحة من الخصم لا يكون اقرارا له، بخلاف طلب التمليك من الخصم، فإنه اقرار له.

ثم ذكر ما أفاده (الشيخ الكبير كاشف الغطاء) في موارد استعمالات البيع بالمعنى الذي عرفه (الشيخ الأنصاري) و قد أنهاها الى ثلاثة.

ثم أخذ في الاشكال على هذه الموارد المستعمل فيها لفظ البيع واحدا بعد آخر: و هكذا أسهب الكلام فيه، و في جميع أبواب الكتاب من البداية الى النهاية: من الكذب، و الولاية و أقسامها، و جواز أخذ الأجرة على الواجبات، و عدم جوازه، و جوائز السلطان، و الخراج، و المقاسمة و البيع، و المعاطات، و بيع الفضولي و أقسامه، و ما أفاده المحقق المدقق (الشيخ أسد اللّه التستري) من الاشكالات الواردة على بيع الفضولي و ما أجاب عنها (شيخنا الأعظم)، ثم ما أفاده حول الخيارات و أقسامها

أيها القارئ الكريم امعن النظر في جميع هذه المسائل، و طالعها مطالعة تفهيم و تفهم، و دارسها دراسة تحليل و تفكر: فإنك لتجد (شيخنا الأعظم) وحيدا في بابه، فريدا فيما أتى به، لم يسبقه الأولون، و لم يلحقه الآخرون فسبحان من أعطاه هذه العقلية الجبارة.

و يكفيك في غزارة علميته الجبارة: أنه لقب ب: (المؤسس).

أليك وجه تلقيبه بهذا اللقب السامي.

كنت عند اشتغالي بدراسة الكتابين: (المكاسب و الرسائل) كثيرا ما كان يطرق سمعي كلمة: (المؤسس) من أساتذتي الكرام و غيرهم من أساتذة علمي الأصول و الفقه و هم يعنون بذلك (شيخنا الأنصاري) فسألت هؤلاء الأساتذة و الآخرين عن سبب هذا التلقيب السامي الرفيع و المناسبة التي استدعت هذا الامتياز و التبجيل (بشيخنا الأنصاري) في حين

ص: 182

أن هناك فقهاء أكابر، و أصوليين أعاظم سبقوا (شيخنا المترجم) في التأليف و التصنيف في علمي الفقه و الأصول (كشيخ الطائفة و العلامة و ولده فخر المحققين، و الشيخ البهائي، و صاحب المعالم، و صاحب القوانين و صاحب الفصول، و صاحب الضوابط، و صاحب الحاشية على المعالم و في طليعة هؤلاء الأعلام الأفذاذ الأستاذ الأكبر (الوحيد البهبهاني) الذي بث الأصول في كربلاء، و لولاه لكان المسلك الأخباري مسيطرا على البلاد و متفشيا و منتشرا فيها، و (شريف العلماء المازندرانى، و صاحب الرياض و المولى النراقي، و الفقيه الأعظم الشيخ جعفر كاشف الغطاء) و من شاكلهم

فهناك جهود صرفت في تنقيح هذه القواعد، و ليال سهرت في تحرير هذه الضوابط، قبل أن يجلل (شيخنا الأنصاري) ساحة الحياة، و عرصة الوجود، و ينورها بوجوده الكريم، و قبل قدومه الى هذه الديار، و تشرفه بالعتبات المقدسة، و قبل تتلمذه لدى جهابذة الفن. و أساتذة العلم.

فما الذي دعا اختصاص (شيخنا الأنصاري) بهذا اللقب السامي و تسميته بهذه السمة الرفيعة ؟

ثم سألت سيدنا الأستاذ (السيد البجنوردي) دام ظله فأفاد ما حاصله

إن السر الوحيد في ذلك، و السبب الذي دعا تلقيب (الشيخ الأنصاري) بهذا اللقلب السامي: أن البحوث و مقدماتها: من أصول و غيره و إن كانت قد هذبتها أقلام و هي نتائج أفكار و أفهام من ذي قبل.

لكنها لم تكن ذات أساليب فنية حديثة، و لم يكن سير الاستدلال منتهجا نهجه الطبيعي.

و كانت الأفكار الثمينة مبعثرة على صفحات خطتها أقلام كريمة كعقد (لؤلؤ منتظم) انتشرت لآليه الوضّاءة في ظلمة ليل ديجور.

ثم جاء (شيخنا الأعظم الأنصاري) في مثل هذه الظروف فكرّس

ص: 183

جهوده في نظم هذه اللئالي و ترتيبها في أحسن ترتيب، و تنضيدها على أكمل تنضيد، و تهذيبها على أجمل تهذيب، فتناول القواعد العلمية، و أفرغها في قوالب حكمية، و عرضها بأساليب رصينة، و زاد عليها أكثر من الزيادة و بذل جهوده في تمحيصها و تنقيحها، لتخرج من بوتقة التمحيص برّاقة لمّاعة ذات بياض ناصع لألاء.

و الخلاصة: أن (شيخنا الأعظم) كان آية من آيات اللّه الباهرة و معجزة بشرية في عالم التفكير و الإنتاجات الفكرية البديعة، كان لا يركز فكره في موضوع من المواضيع العلمية إلا و قد أفرغه في قالب قشيب و استخرج من مطاوي أبحاثه الأعاجيب، فلم يدع فكرة إلا و هو كان صائغها

فإن كانت لها سابقة نقّحها و هذّبها و زاد عليها و طرح حشوها حتى يخيل أنها شيء جديد، و لا غرو في ذلك بعد أن كانت الفكرة في المباحث الفقهية و الأصولية مبعثرة مشوهة مكدرة قبل ذلك، و قد أصبحت لمّاعة ناصعة بيضاء مشرقة في (مختبر شيخنا الأعظم) الفكري.

و الغريب أن (شيخنا الأعظم) أتى من بنات فكره: بالشيء الكثير مما لم تكن لها سابقة في عالم الوجود، فأتى بها و أبدعها بفكرته الصائبة و عمق نظرته الراسخة بما قد بهر به العقول، و عجز عنه الفحول: من أساطين الفكر في عالمي الفقه و الأصول.

و قد أصبح فهم مراد (شيخنا الأعظم) دليلا على النبوغ: الأمر الذي يدل على عظم أفكاره الصائبة في تهذيب القواعد العلمية، و تحرير المسائل الفقهية و الأصولية، و تفريغها في قوالب متينة رصينة قد لا تشبه أوضاعها السابقة.

و محصل الكلام: أن (لشيخنا الأعظم) الفضل الكبير، و اليد البيضاء في هذا الترتيب و التنظيم و التنقيح، و التفريغ.

ص: 184

فبهذه المناسبة يقال لشيخنا الأعظم: المؤسس، المرتب، المنظم.

و لعمر الحق: إنه لجدير أن يلقب بهذه الألقاب السامية، و السمات العالية.

و كفاه فخرا: أن آرائه و نظرياته في علم الفقه و الأصول: هو المتبع في المعاهد العلمية الشيعية، و كلماته هو المحور في الحلقات الدراسية الى يومنا هذا، و ستبقى محورا ما دامت الحوزات العلمية باقية إن شاء اللّه تعالى.

(آثاره العلمية):

لشيخنا الأعظم مؤلفات كثيرة، و مصنفات ثمينة لا يهمنا ذكرها حيث لا يزيد ذلك في تعظيمه، و لا تركها يوجب تنقيصه.

بل المهم و الذي نحن بصدده ذكر كتابين من مؤلفاته الذين هما وحيدان في بابهما، خطيران في موضوعهما.

و هما: (المكاسب، و الرسائل)، حيث ذكر في الأول عصارة الفقه، و شوارد الأقوال و الآراء من أهل المذاهب الخمسة، و أهل الفتوى فقها استدلاليا.

و ذكر في الثاني عصارة الأصول، و زبدة الأقوال و الآراء فيها.

بالإضافة الى تأسيس قواعد جديدة رصينة متينة كل ذلك بصب المطالب الغامضة، و العناوين الفقهية و الأصولية الهامة، في قوالب ألفاظها العذبة الرصينة المناسبة لها، و التي أتى بها ببنات فكره الشيء الكثير مما لم تكن لها سابقة في عالم الوجود، مما قد بهر به العقول، و عجز عنه الفحول: من أساطين الفكر في عالمي الفقه و الأصول.

أجل: إنهما وحيدان في بابهما منذ خرجا من قلمه الشريف و هو عام 1275 الى عصرنا هذا و هو عام 1393، حيث عكف عليهما العلماء الأفاضل

ص: 185

و الفقهاء الأماجد الذين ازدان بهم الدهر، و ازدهر بهم العصر درسا و بحثا و تدريسا.

و لعظمهما علق عليهما النوابغ من الفقهاء الأكابر، و الأصوليين الأماجد ممن هو آية في التحقيق، و علم في التدقيق: التعاليق القيمة، و الحواشي الثمينة التي جاوزت العشرات.

نعم: إنهما وحيدان خطيران، حيث صارا مدار الاجتهاد، و مناط الاستنباط، و قد أصبحا من الكتب الدراسية الرسمية منذ ظهرا الى عالم الوجود يتناولهما الطلاب جيلا بعد جيل بكل إعزاز و إكرام، و اجلال و إكبار، و يعتنون بهما عناية زائدة: دراسة و بحثا و تدريسا، و تراهم لا يدرسونهما عند كل أحد، بل لدى أساتذة مختصين بهما، عارفين برموزهما عالمين بما حواه الكتابان.

و يكفيك في عظم الكتابين: أن طلابهما لهم ميزة خاصة على سائر طلاب الحوزات العلمية.

و نحن عند وضعنا نظاما خاصا ل: (جامعة النجف الدينية) عند افتتاحها، و تقسيم المراحل الدراسية فيها الى أربعة مراحل:

(المرحلة الأولى): الصرف و النحو.

(المرحلة الثانية): المنطق و المعاني و البيان.

(المرحلة الثالثة): المعالم و القوانين و اللمعة و الشرائع.

(المرحلة الرابعة): المكاسب و الرسائل و الكفاية: جعلنا لكل مرحلة من هذه المراحل راتبا معينا:

و جعلنا للمرحلة الثانية أكثر ما للمرحلة الأولى، و هكذا للثالثة أكثر ما للثانية.

و جعلنا للمرحلة الرابعة أكثر ما للمراحل الثلاث بأجمعها، حيث

ص: 186

إن الكتابين يقربان الطالب للوصول الى مراتب الاجتهاد، لأنهما مفتاح بابه، و المدخل الرئيسي الوحيد له. فلطلابهما ميزة خاصة على بقية الطلاب

و لا يخفى أن هذا البذل و العطاء كان في الدور الذي كنا في رغد من العيش في يوم كان باني (جامعة النجف الدينية) و الباذل عليها المحسن الكبير (الحاج محمد تقي اتفاق) حفظه اللّه تعالى يدر عليها شهريا من خالص ماله.

لا في مثل هذه الأيام التي نعيش فيها و نحن في أزمة مالية شديدة حيث أصيب الباذل الشريف في الآونة الأخيرة بنكبة مالية منذ ستة أعوام

نسأل اللّه عز و جل بفضله وجوده و كرمه أن يفرج عنه، و عن كل مكروب بالقريب العاجل ان شاء اللّه تعالى.

و كثيرا ما كان يدور الحديث بيني و بين أساتذتي عند اشتغالي بدراسة الكتابين: عن عظمهما، و عظم مصنفهما الجليل فيقول أحدهم: و هو المرحوم (السيد علي القوجاني) طاب ثراه: إن فهم ما أدرجه (الشيخ الأنصاري) في الكتابين لصعب جدا، ليس بوسع كل أحد الوقوف على مطالبهما الغامضة.

و يقول الثاني منهم و هو المرحوم سيدنا الأستاذ (السيد يحيى اليزدي) المدرسي أعلى اللّه مقامه: ليس بإمكان أحد أن يأتي مثل الكتابين، و يصنف على منهاجهما، و لن تلد أم الدهر شيخا أنصاريا ثانيا و الدهر لضنين حتى يؤلف مثل الكتابين.

و أفاد رحمه اللّه أن بعض الأكابر من الأعلام الذي هو آية في التحقيق كثيرا ما كان يقول: إن الاعتراض على مطالب الكتابين دليل على عجز المعترض عن دركها، و عن الوصول الى مغزى مراد الشيخ و مقصوده.

و قال سيدنا الأستاذ (السيد الشاهرودي) دام ظله حين كنت أحضر

ص: 187

معهد بحثه الشريف في الفقه و الأصول صباحا و ليلا في (جامع الأنصاري):

فهم عبارات (المكاسب و الرسائل) يحتاج الى مطالعات دقيقة عميقة و مباحث كثيرة كل ذلك بعد الفراغ عن المقدمات الأولية، و الوصول إليها

و قال سيدنا الأستاذ (السيد ميرزا عبد الهادي الشيرازي) أعلى اللّه مقامه حين كنت أحضر معهد درسه الميمون صباحا في مقبرة (السيد المجدد الشيرازي) بداية نبوغه و طلوعه.

و في (جامع الأنصاري) أخيرا: هيهات أن يأتي الزمان بمثل (شيخنا الأنصاري) ليؤلف كتابا مثل (المكاسب و الرسائل).

و قال (العلامة النوري) أعلى اللّه مقامه في كتابه.

(مستدرك وسائل الشيعة). المجلد 3. ص 392: ما هذا لفظه:

و قد عكف على كتبه و مؤلفاته و تحقيقاته كل من نشأ بعده من العلماء الأعلام، و الفقهاء الكرام الذين صرفوا هممهم، و بذلوا مجهودهم، و حبسوا أفكارهم فيها و عليها، و هم بعد ذلك معترفون بالعجز عن بلوغ مرامه فضلا عن الوصول الى مقامه جزاه اللّه تعالى عن الاسلام و المسلمين خير جزاء المحسنين.

و لنختم الكلام حول كتاب (المكاسب) ما أفاده شيخنا المعظم (الشيخ مرتضى آل يسن) دام ظله في كلمته القيمة التي زين بها الجزء الأول من الكتاب. أليك نصها:

و أي كتاب يا ترى أحق بالعناية و الرعاية من هذا الكتاب الجليل الذي لم سبق و لم يلحق بمثيل.

و أما ما قيل في حق (شيخنا الأنصاري) و عظمته فكثير جدا لا يسع المقام لذكرها فلنكتف بما أفاده صديقنا الوفي الراحل العظيم العلامة الجليل الحجة (الشيخ محمد رضا المظفر) أعلى اللّه مقامه.

ص: 188

في مقدمة (جامع السعادات) ص 1:

و كفاه فخرا. أي (المولى أحمد النراقي) أن الشيخ أحد تلامذته و أنه أحد أساتذته.

هذا مع أن (المولى النراقي) أحد أقطاب العلم و العلماء في القرن الثالث عشر، و كان من مفاخر الشيعة الامامية، صاحب الآراء القيمة و التصانيف الجيدة النافعة انتهى ما أفاده.

و ما أظن أن صديقنا الراحل (الشيخ المظفر) يكون مغاليا في أقواله و كتاباته يوما ما.

فالكلمات هذه سواء أ كانت حول شخصية (الشيخ الأنصاري) أم حول مؤلفاته: تدل على عظمة الشيخ و جلالة قدره، و سمو تفكيره و علو مقامه.

و (لشيخنا الأعظم) تأليفات أخرى كلها قيمة نافعة، فيها تحقيقات أنيقة، و تدقيقات رشيقة، و مباني علمية تدل على احاطته الكاملة و تبحره في المسائل الأصولية و الفقهية، و غيرها.

إليك أسماء كتبه الأخرى:

رسالة في التقية ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في الرضاع ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في القضاء عن الميت ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في المواسعة و المضايقة ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في العدالة ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في المصاهرة ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

ص: 189

رسالة في قاعدة لا ضرر و لا ضرار ملحقة ب: المكاسب مطبوعة

رسالة في الخمس

رسالة في الزكاة

رسالة في الصلاة

رسالة في الخلل في الصلاة

رسالة في الارث

رسالة في التيمم

رسالة في قاعدة التسامح في أدلة السنن

مناسك الحج

حاشية على مبحث الاستصحاب من كتاب القوانين

حاشية على ترجمة نجاة العباد

حاشية على حاشية بغية الطالب(1)

كتاب الطهارة(2)

كتاب في علم الرجال(3)

أصول الفقه(4)

رسالة في الرد على من قال بأن الأخبار قطعية الصدور

رسالة في القرعة

رسالة في المتعة ردا على من حرمها.

حواشي متفرقة على العوائد لاستاذه النراقي.

ص: 190


1- بغية الطالب للشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء، و حاشية البلغة لولده الأكبر الفقيه المتبحر الشيخ موسى.
2- طبع هذا الكتاب مكررا.
3- الكتاب موجود في خزانة مكتبة الامام الرضا عليه السلام.
4- يقول صاحب الذريعة في المجلد 2. ص 210: الكتاب موجود في مكتبة آية اللّه المجدد الشيرازي في مدرسته بسامراء.

ملكات (شيخنا الأنصاري) الفاضلة:

كان (شيخنا الأنصاري) يتحلى بصفات فاضلة قل نظيرها في غيره و في الحقيقة لو كانت تمثل في عصره لما عدت شخصه الكريم.

و هناك حكايات تروى حول أخلاقه الكريمة جاوزت العشرات ليس مجال لذكرها بعد أن أحطنا القارئ النبيل علما بأدبه المتواضع عند ذكر حياته.

أيها القارئ النبيل أمعن النظر في جميع مسائل الكتاب (المكاسب) و ما برز من قلمه الشريف في جميع مؤلفاته و مصنفاته بما فيها من الأقوال و الآراء، و النقاش و الحوار، و النقض و الإبرام، و الهدم و البناء: فإنك لن تجد من (شيخنا الأنصاري) إساءة أدب الى صاحب القول و الرأي و إن كان رأيه مخالفا للمشهور، أو لرأيه مهما بلغ الرأي.

سواء أ كان القول و الرأي لعالم شيعي أم سني.

نعم يوجد في (المكاسب) من بدايته الى نهايته موضعان يقول (شيخنا الأنصاري) فيهما:

بعض من لا خبرة له من طلبة زماننا.

بعض من يدعي التحصيل، من دون أن يصرح باسمهما.

أما الموضع الأول. إليك نص عبارته:

(المسألة الثالثة عشر) في الغناء، و أما الثاني فهو الاشتباه في الموضوع ما ظهر من بعض من لا خبرة له من طلبة زماننا تقليدا لمن سبقه من أعياننا:

من منع صدق الغناء في المرائي.

ص: 191

و أما الموضع الثاني فليس ببالي حتى أذكره، و لعلي اطلع عليه أثناء التصحيح و نشير إليه إن شاء اللّه.

و هذا شيء عجيب، فانك لو صفحت الكتب المؤلفة في المواضيع المتعددة من أي فرقة و طائفة كان مؤلفوها: لوجدت الحملات و الهجمات بعضهم على بعض هذا يطعن ذاك، و ذاك يطعن هذا.

و أعجب من ذلك كله أنك لن تجد فيما ألفه (شيخنا الأنصاري) و لا سيما (المكاسب و الرسائل) رأيا خاصا حول احدى المسائل التى ذكرها و ناقشها مع كثرة الحوار و النقاش في جوانب مسائل الكتاب.

ثم إن كان له رأي، أو ميول تجاه أحد الأقوال و الآراء أفاده بلفظ:

الأقوى. الأولى. الأحوط. الأنسب. الذي ينبغي أن يقال، من غير جزم و بت.

كل هذه تدل على سمو نفسه الكريمة، و تربيته الصحيحة التربية الاسلامية التي ربي عليها (شيخنا الأنصاري)، و ملكاته الفاضلة.

فلله دره، و عليه أجره و مثوبته، و رحم اللّه والديه برحمته الواسعة و أسكنه و أسكنهما فسيح جنته.

نعم هكذا تكون حياة العظماء، فإنها مدارس حية يجب أن تتخذ منها الدروس، و تستوحى منها العضات و العبر، و تستنتج منها المناهج الوضاءة للسير على ضوئها، و الاستنارة بنورها.

إن للماضين من علمائنا تاريخا مجيدا تجد فيه كثيرا من النقاط الهامة سببت الاعتزاز لنا، و يجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، و نضعها أمامنا و أمام النشء الجديد حتى يكون له نبراسا يستضيء منه، و يعمل به.

و من المؤسف جدا أن شبابنا المثقف الذين قضوا، أو يقضون سني حياتهم في الدراسة في المدارس و الكليات و الجامعات: لا يعرفون عن حياة عظمائهم

ص: 192

الذين خدموا الدين بأرواحهم و أقلامهم و مهجهم الشيء القليل.

أجل يعرفون عن علماء الغرب أكثر مما يعرفونه عن عباقرة الاسلام الذين عاشوا في وطنه.

و مما يزيدني أسفا أن الأغلب من أبناء زماننا لا يعرفون عن تاريخ حياة منقذ البشر (رسول الانسانية) صلى اللّه عليه و آله شيئا، لا عن سيرته و سريرته، و لا عن أعماله و أحكامه، و لا عن غزواته و سرياته.

أما آن لهؤلاء الشباب، و لأوليائهم اليقظة عن نومتهم هذه.

(المحشون على المكاسب و الرسائل):

و على ضوء ما ذكرناه في حياة الشيخ في ص 177-182 فقد اتضح لك مدى علمية (شيخنا الأعظم) و غزارتها، و ان كل ما برز من قلمه الشريف الى عالم التدوين فقد وقع محط أنظار الفطاحل، و مستقى أفكار الأعاظم: من أعلامنا اللامعين في الفقه و الأصول، فقد كرسوا جهودهم الجبارة لفهم مطالبه الغامضة، و إدراك مسائله المشكلة، و حل عقده الرصينة.

و لن تراني مبالغا لو قلت: إن القدامى من علمائنا الأعلام الذين ألفوا في الفقه و الأصول: لم تكن كتبهم بمثابة كتب (الشيخ) من حيث الدقة و المتانة، و الجودة و الغزارة لو أمعنت النظر، و رجعت البصر، و أجلت الفكر، و جردت نفسك عن العواطف، و إن أبيت.

فهذه كتب القدامى، و هذه كتب (شيخنا الأعظم) فاجعلها بين يديك، و طالعها بدقة و إمعان، ثم قارن بينها و بينها، ثم اجعل شخصك حكما نرضى بحكومتك.

و عسى أن يخيل للقارىء الكريم أن كلمتي هذه جرت على عادة بعض الكتاب في مبالغاتهم في من يترجمون له.

ص: 193

لكنني أقول كلمتي هذه و أودعها للأجيال الآتية، ليشهدوا على صدق مقالتى.

و لست متفردا في مقالتي هذه هاؤم اقرءوا كلمات النوابغ من الأعلام من الذين يبعثهم اللّه لتجديد المذهب ممن تأخر عنه: بين يديك طالعها بامعان فتجدها شاهد صدق على صحة ما ادعيناه.

ثم إن عظم الكتابين و لا سيما المكاسب هو الذي دعا الشخصيات اللامعة الذين يضن بهم الزمان إلا في الفترات المتقطعة: أن يعلقوا عليهما تعاليقهم القيمة، و آراءهم الصائبة، و نظرياتهم الرصينة.

و المعلقون على (المكاسب) كثيرون لا يمكننا إحصاءهم. لكننا نذكر اللامعين منهم في الفقه و الأصول:

(الأول): (المحقق الرشتي).

مضى شرح حياته في ص 146-148.

له تعليقة على (المكاسب) مطبوعة سماها: غاية الآمال.

(الثاني): المحقق المامقاني،

و قد سبقت ترجمته في ص 152-153 له تعليقة على (المكاسب) مطبوعة.

(الثالث): الفقيه الكبير و المحقق العظيم مولانا (الحاج آغا رضا الهمداني)

تتلمذ هذا العالم الرباني على (السيد المجدد الشيرازي) فاستفاد من نمير منهده العذب حتى بلغ قمة الاجتهاد، و وصل الى ذروة الاستنباط ثم رجع الى (النجف الأشرف) فاستقل بالتدريس فحضر بحثه الشريف الأعلام فأفاض عليهم ببيان عذب و كلام سلس حتى ربى بدوره نوابغ، ثم بعد وفاة أستاذه (السيد المجدد الشيرازي) صارت له المرجعية في التقليد الى حد ما.

له آثار خالدة تدل على غزارة علمه، و طول باعه، و كثرة احاطته

ص: 194

بالمسائل الفقهية و الأصولية أصبحت في تناول أيدي الأعلام لا يستغني منها المجتهد.

منها: مصباح الفقيه في شرح شرايع الاسلام خرج منه الى عالم الوجود: كتاب الصلاة. كتاب الطهارة. كتاب الخمس. كتاب الزكاة فقد أبدع المصنف في هذه الكتب في صب المطالب في قوالبها الرصينة المتينة قل نظيره في الكتب الفقهية المطولة فلله دره.

و منها: حاشيته على (المكاسب) مطبوعة، ابتلى أخريات حياته المليئة بالفضائل بمرض السل فذهب الى سامراء فانتقل الى جوار ربه الكريم يوم 28 صفر عام 1326 و دفن في (الرواق المطهر من مرقد العسكريين) صلوات اللّه عليهما في الجهة الشرقية عليه رضوان اللّه تبارك و تعالى.

(الرابع): فقيه العلويين (السيد محمد كاظم الطباطبائي) اليزدي

تتلمذ (سيدنا المترجم) على (السيد المجدد الشيرازي) حتى بلغ من مرتبة الاجتهاد أسناها، و وصل من مدارج الاستنباط أعلاها.

كان آية نادرة في الفقه، و بحرا متلاطما في فروعه، له معهد درس مشحون بالأفاضل، مكتظ بالنوابغ انجبت حوزة بحثه الشريف عشرات الفطاحل فربى بدوره علماء أماجد، و فضلاء أكابر.

اصبح و له الزعامتان:

الزعامة المرجعية قلدته الطائفة الامامية من شرق البلاد الشيعية و غربها.

و الزعامة العلمية فانحصرت الحوزة العلمية في (النجف الأشرف) في شخصه الكريم فهو الممثل لها يحضرها الفحول من الفقهاء.

له موقف مشهور ضد الانقلاب الدستوري في (ايران) حاز الرقم القياسي في الجانب السلبي.

له مؤلفات قيمة جيدة:

ص: 195

منها: (العروة الوثقى) و هي موسوعة فقهية عظيمة تشتمل على العبادات و المعاملات، و فروع عباداتها أكثر من فروع معاملاتها.

و كتابه هذا يدل على غزارة علمه و أنه بحر متلاطم، و من عظمه علق عليه اللامعون من الأعلام، و النابغون من المراجع الأفذاذ، و لا يزال يعلق عليه: و هو في تناول أيدي المجتهدين، و قد طبع عشرات المرات.

و منها: حاشيته على (المكاسب) مطبوعة.

و له مدرستان ضخمتان من القسم الداخلي مشهورتان باسمه:

(مدرسة السيد الكبرى. و مدرسة السيد الصغرى).

بنيت الأولى في حياته: و هي واقعة في محلة الحويش، و بنايتها ضخمة عالية جدا: و هي من القسم الداخلي.

و بنيت الثانية بعد وفاته على يد نجله العلامة السيد أسد اللّه الطباطبائي اليزدي: و هي واقعة في محلة العمارة.

انتقل الى ربه الكريم بعد عمر جاوز التسعين يوم 27 رجب المرجب عام 1337 و دفن في احدى حجرات الصحن الشريف قرب (باب الطوسي).

(الخامس): الفقيه النبيل (الميرزا محمد تقي الشيرازي)

صاحب الثورة العراقية آلت المرجعية العليا في التقليد إليه بعد وفاة المرحوم (السيد الطباطبائي اليزدي).

تتلمذ في الدراسات العالية على الفقيه العظيم (المولى فاضل الأردكاني) ثم ذهب مع زميله المحقق (السيد محمد الاصفهاني الطباطبائي) الى سامراء فتتلمذا على (السيد المجدد الشيرازي) فبلغ الاجتهاد المطلق، و بعد وفاة سيده الأستاذ جاء الى (كربلاء) فاستوطنها و من هناك انبثقت الثورة العراقية

له تعليقة على (المكاسب) مطبوعة.

لبى نداء ربه الكريم عام 1338 في كربلاء و دفن في الصحن الشريف.

ص: 196

(السادس): المجاهد العظيم المحقق الشهير (الشيخ محمد جواد البلاغي)

من اسرة عريقة شريفة نجفية ولد في النجف الأشرف عام 1282.

و تتلمذ على نوابغ عصره: (الشيخ محمد طه نجف، و الشيخ آغا رضا الهمداني، و المحقق الخراساني، و السيد محمد الهندي، و الميرزا محمد تقي الشيرازي) حتى نال درجة الاجتهاد، و بلغ مرتبة الاستنباط، و صار من نوابغ الدهر و حسنات العصر، و ممن خدموا العلم و الدين بقلمهم الشريف.

له الأيادي البيضاء على الأمة الاسلامية جمعاء بردوده على النصارى و أهل الملل و النحل و الأديان.

و محصل الكلام: أنه كان عديم النظير في (القرن الرابع عشر) و كتابه الرحلة المدرسية في ثلاثة أجزاء يعطيك دروسا كاملة عن مدى غزارة علمه، و طول باعه، و كثرة تضلعه في الأديان، و كان عارفا باللسان العبري. طبع الكتاب مرتان. و ترجم باللغة الفارسية.

و له مؤلفات ثمينة أخرى نافعة جدا.

منها: آلاء الرحمن في تفسير القرآن طبع منه مجلد واحد.

و منها: الهدى الى دين المصطفى في مجلدين طبعا في صيدا.

و منها: أنوار الهدى في الرد على الماديين.

و منها: نصائح الهدى و الدين في الرد على البهائية.

و منها: رسالة التوحيد و التثليث.

و منها: أعاجيب الأكاذيب.

و منها: التعليقة على (المكاسب) مطبوعة:

و لشيخنا المترجم مجاهدات عظيمة في إعلاء كلمة الاسلام أبدى البطولة فيها فيشكر على ذلك ببقاء الاسلام.

لبى دعوة ربه الكريم، و التحق بالرفيق الأعلى بعد عمر جاوز

ص: 197

السبعين يوم 22 شعبان المعظم عام 1352 في (النجف الأشرف) و دفن في احدى حجرات الصحن الشريف في الجنوب الغربي رضوان اللّه عليه.

(السابع): المحقق الخراساني له تعليقة على الرسائل، و تعليقة على المكاسب

و قد تقدمت ترجمته في ص 153-158.

(الثامن): الفقيه الأصولي و الحكيم الإلهي (الشيخ محمد حسين الأصفهاني).

تتلمذ في الدراسات العالية على (المحقق الخراساني) 13 عاما و اختص به الى أن توفى، و تتلمذ على العلامة المحقق (السيد محمد الاصفهاني) و بعد وفاة أستاذه الخراساني استقل بالتدريس فحضر عليه كثير من مشاهير علمائنا المعاصرين الذين استقلوا بعده بالتدريس و هم من أعلام العصر، و مراجع الدهر.

كان (شيخنا المترجم) من زمرة النوابغ القلائل الذين يضن بهم الزمان، و من الشخصيات اللامعة في الفقه و الأصول فقد كرس أيامه لكل مكرمة، و كان له في الفلسفة القدح المعلى، تتلمذ في الفلسفة على الفيلسوف الشهير الحكيم العارف (الميرزا محمد باقر الاصطهباناتي).

له كتب مفصلة.

(منها): شرحه على الكفاية و قد طبع في جزءين.

(و منها): منظومة في الفلسفة العالية تسمى: تحفة الحكيم مطبوعة.

(و منها): تعليقته على (المكاسب) مطبوعة في مجلدين.

(و منها): ارجوزة في مدح النبي و الآل و مراثيهم عليه و عليهم الصلاة و السلام.

انتقل الى جوار ربه الكريم بالموت الفجأة فجر الخامس من شهر ذي الحجة الحرام عام 1361 مأسوفا على تلك الشعلة الوهاجة.

و دفن في الغرفة المتصلة بالمأذنة الشمالية.

ص: 198

(التاسع): الفقيه المتكلم. الأصولي البارع المرحوم (الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء) طاب ثراه.

اشارة

كان (شيخنا المترجم) من هبات الدهر، و حسنات القدرة، له اطلاع دقيق واسع بمختلف العلوم الاسلامية و العربية.

(ميلاده):

ولد في (النجف الأشرف) عام 1294 في بيت علم و شرف و مجد و كرم.

(أسرته):

ينحدر من أسرة عريقة في مجدها العلمي، أصيلة في شرفها الروحي ينتهي نسبه الشريف الى صاحب (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام و حواريه و خواصه من أصحابه (مالك الأشتر النخعي) رضوان اللّه عليه الذي قال في حقه مولاه: كان لي كما كنت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فهو ابن علي صاحب (الحصون المنيعة) ابن محمد الرضا ابن الفقيه العظيم المصلح بين الدولتين الشيخ موسى نجل الشيخ الكبير الفقيه الأكبر (الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء) قدس اللّه أسرارهم.

(دراساته):

أخذ أوليات دراساته في (النجف الأشرف) فأنهاها حتى أصبح من الأفاضل المرموقين، ثم شرع في الفقه و الأصول لدى أستاذتهما فتتلمذ على أساطين العلم كالمحقق الخراسانى، و السيد الطباطبائي اليزدي، و الفقيه العظيم الحاج آغا رضا الهمدانى، و الأصولي البارع الميرزا أحمد الشيرازي فاستفاد من هؤلاء الأعلام طيلة ملازمته لهم غاية ما يمكن للتلميذ الاستفادة من أستاذه فصار من أعلام الفقه و الأصول.

ثم أخذ في الحكمة و الفلسفة المتعالية فتتلمذ على جهابذتهما كالفيلسوف

ص: 199

الكبير الميرزا محمد باقر الإصطهباناتى، و الحكيم المتأله الشيخ علي محمد النجف آبادي فاستفاد من نمير منهلهما العذب حتى بلغت مقدرته العلمية فيهما.

كان (شيخنا المترجم) موضع تقدير أساتذته و تجليلهم و تكريمهم لما يجدون فيه من النبوغ المبكر، و العلم الغزير على حداثة سنه.

و هذا هو الذي سبب اعتماد (السيد الطباطبائي اليزدي) عليه فكان موضع ثقته في المسائل الفقهية حتى أصبح هو المشرف عليها.

كانت حياة (شيخنا المترجم) مليئة بالمكارم و الفضائل فحياته كلها عمل دائب مستمر في جميع مجالاتها، لا تراه فارغا منها فدرّس و ألّف و ردّ و خطب و جاهد و سافر.

(لشيخنا المترجم) مواقف مشهورة ذات دوي هائل و له فيها كلمات لا يستطيع انسان غيره أن يقولها، أو يحررها في تلك المواقف الحرجة هو قائلها لا غير.

(لشيخنا المترجم) رحلات كثيرة خارج العراق:

منها: رحلته الى (الديار المصرية) قبل الحرب العالمية الأولى فدخل القاهرة و مكث فيها تسعة أشهر فلازم (الأزهر الشريف) فكتب و حاضر و فسر، ثم عرج على أقطار بلاد الشام فبقي هناك فترة طويلة مفيدا و مستفيدا فيها.

و منها: الى (فلسطين) و له الكلمة القيمة الخالدة حين رقى المنبر في (المسجد الأقصى الشريف) بعد أن أمّ المسلمين في الصلاة و اقتدى به المسلمون برمتهم.

قال: بني الاسلام على دعامتين: كلمة التوحيد. و توحيد الكلمة ثم أخذ في الخطابة فكشف عن كل ما يدبر ضد المسلمين.

و منها: رحلاته الى (ايران) أكثر من مرة.

ص: 200

(آثاره العلمية):
اشارة

(لشيخنا المترجم) آثار خالدة نافعة جدا فقد خلف لنا تراثا ثمينة ليس بوسع كل أحد أن ينسج على منوالها.

هذا شرحه المهم (للعروة الوثقى) لاستاذه (السيد اليزدي) و كان يلقيه في محاضراته اليومية على طلابه الذين يحيطون به تحت منبره في معهد درسه الشريف.

هذه حاشيته على (المكاسب) و هي عندنا.

و هذان الكتابان لا يزالان مخطوطين و محفوظين في خزانة كتبه الموجودة في مكتبته الخاصة التي أوقفها في حياته على مدرسته العلمية و هي و المدرسة تحت ادارة و اشراف و تولية نجله الشريف الشاب المهذب الموفق الأخ في اللّه (الشيخ شريف) كاشف الغطاء حفظه اللّه تعالى و أيده لما يحب و يرضى و هو أهل لذلك.

و هذا: تحرير المجلة كتاب فقهي عظيم في خمس مجلدات وضعه ردا و مناقشة على كتاب (مجلة الأحكام) التي هي في الفقه الاسلامي و كان يدرس في كلية الحقوق العراقية.

و في هذا الكتاب تظهر شخصية هذا العالم الفقيه المتبحر، و الجهبذ الفذ المتتبع، و من هذا الكتاب يظهر لك آراؤه السديدة، و نظرياته الصائبة.

و هذا الكتاب مطبوع و قد نفدت نسخها.

و هذا كتابه: الفردوس الأعلى.

و هذا كتابه: أصل الشيعة و أصولها.

و قد طبع الكتاب أكثر من مرة، و ترجم بلغات متعددة.

و قد خدم شيخنا الراحل بكتابه هذا (الطائفة الامامية) قل نظيره في الأوائل، و له أيادي بيضاء على الطائفة.

ص: 201

و هذا كتابه: الدين و الاسلام في ثلاثة أجزاء طبع منها جزءان، و الثالث مخطوطة.

و هذا كتابه: الإنجيل و التوضيح جزءان يناقش فيهما الإنجيل.

و هذه: المراجعات الريحانية في ثلاثة أجزاء طبع منها جزءان و الثالث مخطوط.

الأول: من هذه الأجزاء مساجلات علمية على مستوى رفيع بين (شيخنا الراحل)، و الأستاذ (أمين الريحاني).

و الثاني منها رد على المؤرخ الشهير (جرجي زيدان) على كتابه:

(تاريخ آداب اللغة العربية) الذي صدر في أربع مجلدات.

و الثالث منها رد على الدكتور (طه حسين) في نظرياته و آرائه و مفترياته...

و هذا كتابه: (المثل العليا في الاسلام لا بحمدون).

و هذا كتابه: (الأرض و التربة الحسينية) و هو جواب عن السؤال الذي وجه إليه حول سجود (الطائفة الامامية) على التربة الحسينية.

و الكتاب هذا و ان كان صغيرا في حجمه، لكنه جليل في موضوعه وحيد في بابه فقد كشف (شيخنا الراحل) القناع عن هذه العويصة المشكلة التي طال ما كان الناس يحملون على الطائفة حملاتهم و هجماتهم غفلة عن حقيقة الحال.

(لفت نظر):

قد يظن بعض من لا خبرة له و لا تتبع: أن (شيخنا الراحل) كان أديبا خطيبا فحسب، و أنه ليس بفقيه.

و هذا ظن فاسد ليست الغاية منه إلا النيل من كرامة (الحسين)

ص: 202

هذا البحر الزاخر الذي لم يكرر الزمن شخصية في الأعصر المتأخرة علما و همة و سداد رأى منه.

و أظن أن هذا جهل منه، أو تجاهل.

و الثاني أولى عند أهل البصرة.

(وفاته):

التحق بالرفيق الأعلى عام 1373 عند ما قصد ايران للاصطياف في مصيف كرند، فحل هناك فوافاه الأجل فحمل جثمانه الشريف الى (النجف الأشرف) و دفن في مقبرته الخاصة التي أعدها لنفسه قبل وفاته في قلب الوادي و وفد على ربه الكريم.

كان لنبأ وفاته أثر عميق في نفوس المسلمين و الأوساط العلمية و الأندية الأدبية.

(العاشر): المحقق الفقيه الشيخ موسى الخونساري طاب ثراه.

كان (شيخنا المترجم) أحد الأعلام في (النجف الأشرف) و كان ممن يرجى له الزعامة الدينية لو لا أن المنية عاجلته و سبقته.

كان (شيخنا المترجم) من تلامذة (المحقق النائيني) و من خواصه و حواريه و قد حضر أبحاثه و دروسه و لازمه ملازمة الظل حتى أصبح من المجتهدين المرموقين و ذا منزلة رفيعة عنده.

كان له حوزة درس يحضر فيها الأفاضل فربى بدوره فضلاء أماجد جاوز عددهم العشرات.

له حاشية على المكاسب سماها: منية الطالب في حاشية المكاسب كلها تقرير بحوث درس استاذه (المحقق النائيني).

و حاشيته هذه من أحسن الشروح و أغناها و قد جعلها في جزءين:

الأول من المكاسب المحرمة حتى شروط المتعاقدين. و الثاني من الخيارات

ص: 203

الى آخر قاعدة لا ضرر الملحقة بالمكاسب، و قد طبع الجزءان أصبح الكتاب موضع اهتمام الأعلام.

انتقل الى ربه الكريم عام 1363 في (النجف الأشرف) و دفن في الصحن الشريف في احدى حجراته بجنب استاذه (المحقق النائيني) رحمة اللّه تعالى عليه و عليه.

(الحادي عشر): المحقق البارع الفقيه الكامل (الشيخ ميرزا فتاح) التبريزي الشهير ب: (شهيدي) قدس سره.

كان (شيخنا المترجم) من مواليد عام 1296 ولد في مدينة (تبريز) في بيت علم و فضل.

كان والده من الأعلام و الشخصيات الدينية العلمية البارزة هناك يلقب ب: شيخ الاسلام.

أخذ أوليات دراساته في (تبريز) ثم شرع في السطوح المتوسطة فأنهاها حتى برز فيها و ظهرت مقدرته العلمية.

ثم عزم على الرحيل الى (العراق) للاستفادة من فطاحل معهد مدينة العلم (النجف الأشرف) فجاء فحل فيها فحضر مجلس درس العلمين:

(السيد الطباطبائي اليزدي، و المحقق الخراساني) لدى الأول الفقه، و الثاني الأصول الى أن وافاهما الأجل، ثم اختص بفقيه (أهل البيت السيد أبي الحسن الاصفهاني) قدس سره فلازمه ملازمة الظل فاستفاد من نمير منهله العذب حتى بلغ مرتبة رفيعة من الاجتهاد، و درجة سامية من الاستنباط و أصبح يشار إليه بالبنان، و صار من حوارى استاذه الأعظم و ذا منزلة شامخة عالية عنده، و كان سيده الأستاذ يعتني به عناية زائدة بالغة، و من اعتنائه البالغ له أرسله الى بلاده ليكون المرجع فيها.

ص: 204

كان (لشيخنا المترجم) مجلس درس في (النجف الأشرف) يحضره الأفاضل و كان الأكثر منهم من طلاب العرب، يلقي عليهم محاضراته باللغة العربية، فاستفادوا من أبحاثه القيمة.

رجع (شيخنا المترجم) الى وطنه فحل في (تبريز) عام 1360 محترما مجللا، و له فيها زعامة التدريس و المرجعية.

له مؤلفات ثمينة نافعة:

(منها): شرحه على المكاسب في جزءين مطبوعين سماه:

(هداية الطالب الى أسرار المكاسب).

و هذا الشرح تعليقي كبقية الشروح على الكتاب.

أصبح الشرح هذا في متناول أيدي الأفاضل أكثر من زملائه.

انتقل الى جوار ربه الكريم في مدينة (تبريز) عام 1372 و دفن هناك رضوان اللّه عليه.

(الثانى عشر): الفقيه البارع الحاج ميرزه على الايروانى طاب ثراه.

كان (شيخنا المترجم) من الأعلام و قد سبق سبقا بعيدا في العلوم بأفكاره الناضجة، و آراءه الناجعة، و زبدة المخض، و لباب التفكير.

قرأ (الرسائل و المكاسب) على المدرس الشهير (الشيخ حسن) التويسركاني فأنهاهما و أتقنهما، و اذ شارف الفراغ من السطوح طفق يختلف الى أندية الدروس العالية خارجا لدى العلمين (السيد الطباطبائي) اليزدي و المحقق الخراسانى، الفقه عند الأول، و الأصول عند الثانى. ثم اختص بالثانى فيهما فقرأ الأصول دورة كاملة، و دورة اخرى الى آخر الاستصحاب

ثم استفاد منه كتبا فقهية.

ص: 205

و بعد وفاته اندفع الى المذاكرة مع جماعة من الأفاضل لم يكن استفادته منها أقل من تتلمذه على أساطين العلم.

ثم هبط ردحا من الزمن الى (الكاظمية) فحضر فيها درس العلامة (السيد ابراهيم الدرودي) الخراسانى من تلامذة (السيد المجدد الشيرازي)

كانت (لشيخنا المترجم) حوزة بحث في السطوح العالية برهة من الزمن، ثم تركها نهائيا فعاد يلقي دروسه على طلابه في الفقه و الأصول خارجا فباحث فيهما دورات كاملة غير مرة، و لا سيما في الأصول.

(لشيخنا المترجم) مؤلفات نافعة كثيرة:

(منها): شرحه على كفاية الأصول في جزءين.

(منها): حاشيته على (المكاسب) مطبوعة.

انتقل (شيخنا المترجم) الى رحمة ربه الكريم عصر الجمعة ثاني عشر ربيع الأول عام 1354 في كربلاء ثم نقل جثمانه الى (النجف الأشرف) فدفن في احدى حجرات الصحن الشريف على يسار الداخل من باب السوق الكبير.

(الثالث عشر): فقيه العصر و زعيم الطائفة المرحوم (السيد محسن الحكيم) قدس سره.

(ميلاده):

ولد في (النجف الأشرف) عام 1306 في بيت علم و شرف و مجد و حسب.

(نسبه):

ينتهي نسبه الشريف الى (الامام السبط أبى محمد الحسن المجتبى) عليه السلام الامام الثانى للطائفة الامامية بواسطة السيد ابراهيم طباطبا جد (السادة الطباطبائية) القاطنة في (العراق و ايران).

و لهذه الأسرة الشريفة: (السادة الطباطبائية) رجال من الأعلام

ص: 206

و الأفذاذ. ناهيك (السيد بحر العلوم، و صاحب الرياض، و السيد المجاهد و السيد اليزدي، و السيد البروجردي، و سيدنا المترجم)، و عشرات النوابغ من الأساطين الذين كانوا من حسنات الدهر، و مفاخر العصر، و بيت الحكيم و بيت بحر العلوم ينتمون الى السيد مراد شاه الساكن في قرية زوارة من قرى اصفهان قبل أربعة قرون، و هذه القرية مليئة بالسادة الطباطبائية حتى قيل لا يوجد فيها غيرهم، و لا تزال مسكنهم، و منها هاجروا الى (اصفهان و بروجرد و آذربايجان و كربلاء و النجف الأشرف).

(أسرته):

ينتمي (سيدنا المترجم) الى (بيت الحكيم) البيت الذي له الشرف بخدامة العتبة المقدسة: (الروضة الحيدرية) ثلاثمائة عام منذ أن جاء جدهم الأعلى (السيد مير علي الطباطبائي) الحكيم بصحبة (الشاه عباس الصفوي) الى (العراق) لزيارة العتبات المقدسة.

كان السيد مير علي الطباطبائي طبيبا خاصا (للشاه الصفوي) و يسمى الطبيب الخاص في البلاط الملكي الايراني في العصور الغابرة: (حكيم باشى).

كان هذا اللقب يعين بإرادة ملكية من البلاط الملكي لمن يكون طبيبا خاصا للملك.

جاء المير علي الطباطبائي الحكيم جد سيدنا المترجم بصحبة (الشاه الصفوي) الى (النجف الأشرف) لزيارة المرقد الطاهر مرقد جده (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام و معه حاشية البلاط، و العلماء و الوزراء.

بقي (الشاه الصفوي) متشرفا بزيارة جده (أمير المؤمنين) مستفيضا من بركات تلك العتبة المقدسة أياما و ليال الى أن عزم على الرحيل الى بلاده و عاصمة ملكه (أصفهان).

رأى (الشاه الصفوي) أن مدينة العلم و معهد الدراسات الكبرى

ص: 207

خالية عن الطبيب المباشر لمرض أهاليها الكرام فآثر على حياته و صحته صحة قاطني مدينة جده فامر ببقاء السيد مير علي الطباطبائي الحكيم في (النجف الأشرف) ليكون طبيبا لأهاليها: بالإضافة الى خدامته (للروضة الحيدرية) ما دام في الحياة فخلعه بهذا المنصب السامي الرفيع فأصدر له (فرمانا) بذلك، حيث كانت هذه الوظيفة الشريفة تعين بالفرامين من الملوك و العظماء.

و رأيت في أحد الكتب المطبوعة لم يحضرني اسم الكتاب الآن:

أن (الشاه الصفوي) قال له: حكيم باشى در نجف أشرف باش اى ابق في (النجف الأشرف).

كان الجد الأعلى (لسيدنا المترحم) متشرفا بخدامة (الروضة الطاهرة) الى أن وافاه الأجل، ثم انتقلت هذه الخدامة الى ولده و أعقابه، و لديهم فرامين من قبل الملوك الصفوية، و لا تزال موجودة في بيت الحكيم.

(أوليات دراساته):

شرع (سيدنا المترجم) بعد قراءة القرآن الكريم في العلوم العربية و المنطق و قسم من الأصول كالقوانين و المعالم، و قسم من الفقه كالشرائع و اللمعة الدمشقية لدى أخيه الجليل العلامة السيد محمود رحمه اللّه، حيث كان هو الموجه الأول و المرشد له، ثم شرع في السطوح المتوسطة فتتلمذ في الرسائل على العلامة الشيخ صادق الجواهري فأنهاها فظهرت فيها مقدرته العلمية، ثم حضر معهد بحث (المحقق الخراساني) قبل وفاته بثلاثة أعوام ثم تتلمذ على الأصولي البارع (الشيخ آقا ضياء العراقي) دورتين كاملتين فاستفاد من أبحاثه الأصولية فائدة تامة فكتب دورة كاملة من محاضراته و دراساته الملقاة على تلامذته، و في الحقيقة كانت جل استفاداته من هذا المحقق الأصولي.

ص: 208

ثم تتلمذ على الفقيه الجليل (الشيخ علي الجواهري) في الفقه خمسة أعوام مكبا على الاستفادة من نمير منهله العذب، و بعد وفاته حضر معهد بحث المحقق الشهير (الميرزا النائيني) و كانت محاضراته في الفقه في الخيارات فاستفاد منه فائدة جمة.

أصبح (سيدنا المترجم) بعد دراساته و تتلمذه على هؤلاء الأعلام الأفذاذ طيلة هذه الأعوام من البارزين اللامعين يبدو عليه النبوغ، و يتفرس فيه العبقرية.

أخذ (سيدنا المترجم) في البحث و التدريس، و التأليف و التصنيف فكانت له حوزة بحث يحضره الأفاضل دامت الدراسة له الى أخريات حياته فكان يلقي عليهم المسائل الفقهية و الأصولية ببيان عذب، و كلام سلس فاستفاد رواد العلم و عشاقه من محاضراته و بحوثه القيمة.

أمّ (سيدنا المترجم) بلفيف من المؤمنين في الصحن الشريف بعد وفاة (العلامة النائينى) عام 1355 في مكانه يوم وفاته لصلاة المغرب و العشاء فاقتدى به خواصه و محبوه و من له صلة دينية به.

و من هنا أخذ (سيدنا المترجم) في الظهور يوما فيوما فاصبح و له الشهرة العلمية و القدسية في الحوزة العلمية في (النجف الأشرف) و في بقية الحوزات العلمية.

كانت الزعامة الدينية و المرجعية الكبرى للطائفة الامامية لفقيه (أهل البيت السيد أبي الحسن الاصفهاني) قدس سره و قد أصبح متفردا فيها و مثلت في شخصه الكريم و قد بلغ حدا حتى قال شيخنا الفقيه الراحل (الشيخ محمد رضا آل ياسين) طاب ثراه في حقه: دخل اسم (السيد الأصفهاني) في جميع الدور و البيوت الشيعية كدخول اسم (الامام جعفر الصادق)

ص: 209

عليهما السلام(1).

التحق (السيد الاصفهاني) بالرفيق الأعلى، و جاورت روحه الطاهرة أرواح السعداء فوزعت المرجعية بين أعلام الطائفة فكان لكل منهم نصيبه المفروض، غير أن (السيد البروجردي) حظى بالسهم الأوفر.

لبى (السيد البروجردي) دعوة ربه الكريم و ورد ضيفا على مولاه الجليل: (تلك الأيّام نداولها بين النّاس) فوزعت المرجعية كسابقتها بين رجال الطائفة فكان لسيدنا المترجم الحظ الأعلى.

دامت الزعامة (لسيدنا المترجم) أعواما فقام بها أحسن قيام، و أدار شئونها خير ادارة. كل ذلك بعقليته الجبارة، و فكره الصائب، و ذوقه السليم، وسعة الصدر التي هي آلة الرئاسة كما قال (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام: آلة الرئاسة سعة الصدر.

(آثاره العلمية):

(لسيدنا المترجم) آثار علمية هامة خالدة نافعة جدا.

(منها): شرحه على (العروة الوثقى) للسيد الطباطبائي) اليزدي المسمى ب: (مستمسك العروة).

و شرحه هذا يعطيك درسا كاملا عن مدى تبحر مؤلفه العظيم، و غزارة علمه، و طول باعه، و كثرة اطلاعه، و احاطته الكاملة على المباني الفقهية.

و قد جاء (سيدنا المترجم) في شرحه هذا ببيان سلس، و كلام عذب، مراعيا فيه جانب الإطناب الممل، و الإيجاز المخل، و قد أصبح موضع إعجاب الأعلام الأفذاذ، و في متناول أيدي الأفاضل الكرام، و لكثرة رواده و عشاقه طبع لحد الآن ثلاث مرات.

ص: 210


1- نقل لنا هذا النص سيدنا الثقة الأمين الجليل (السيد محمد صادق الصدر) امام الجماعة في (جامعة النجف).

طبع الكتاب في أربعة عشر جزء طباعة انيقة حسنة.

(و منها): حقائق الأصول في شرح كفاية الأصول في جزءين و قد طبع الجزءان.

(و منها): منهج الفقاهة في شرح المكاسب في جزءين، طبع الجزء الأول، و الثاني مخطوط.

و (لسيدنا المترجم) مؤلفات أخرى لا يسع المقام لذكرها.

و (لسيدنا المترجم) مشاريع هامة أخرى.

(منها): مدرسته الخالدة المسماة ب: (مدرسة دار الحكمة) بنيت هذه المدرسة على طراز حسن جميل و هندسة بديعة، و صرفت عليها المبالغ الباهظة، أشرف على بنايتها المهندسون و المعمارون، و لفيف من التجار و من له خبرة بالبناء.

و المدرسة هذه ذات طوابق ثلاث شامخة البناء، و قد أصبحت مليئة بالأفاضل، مكتظة برواد العلم.

و هي من القسم الداخلي و تحت إشراف زميلنا المكرم الفاضل المبجل (السيد محمد رضا الحكيم) فقام بإدارتها أحسن قيام حفظه اللّه تعالى و حفظ به هذا المشروع الانسانى الى ظهور (الحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى له الفرج.

و (منها): مكتبته العامة: المكتبة التي أصبحت مليئة بالكتب النفيسة الثمينة: الخطية و المطبوعة.

و هذه المكتبة تحتوي على دورات نفيسة تربو على ثلاثين ألف مجلد عدا المخطوطات.

زودت هذه المكتبة بالكتب العلمية و الثقافية و لها جناح خاص للمطالعين و فيها وسائل الراحة لهم و للمؤلفين فهي من المكتبات الواسعة النطاق.

ص: 211

و لهذه المكتبة فروع كثيرة في أنحاء العراق، و لكل واحد منها اسم:

فرع مكتبة (آية اللّه الحكيم).

و حظت هذه المكتبة بنسخة خطية نفيسة من جواهر الكلام (لشيخنا صاحب الجواهر) قدس اللّه روحه الطاهرة بخط يديه الكريمتين.

(وفاته):

انتقل الى جوار ربه الكريم، و وفد ضيفا على مولاه الجليل مساء يوم الاثنين 26 ربيع الأول عام 1390 في بغداد، و نقل جثمانه الطاهر على طريق كربلاء الى (النجف الأشرف) بتشييع مهيب، و دفن في مثواه الأخير الذي هيأه لنفسه في حياته و هو بجنب مكتبته.

و لمقبرته بابان: باب على دورة الصحن الشريف، و باب على الجامع الهندي رحمه اللّه برحمته الواسعة،

(وفاة شيخنا الأنصاري):

لقد وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة.

التحق (شيخنا الأنصاري) بالرفيق الأعلى: و اتصلت روحه مع أرواح السعداء.

ارتحل (شيخنا الأنصاري) الى عالم البقاء، و وفد ضيفا على مولاه الكريم ملبيا دعوة ربه الجليل: يٰا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبٰادِي وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي.

فارق (شيخنا الأنصاري) هذه الدنيا الدنية ليلة الثامن عشر من جمادى الثانية عام 1281، و بموته اندك البنيان الشامخ المرصوص، و الطود الاشم، و سكن ذاك القلب العظيم، و العقلية الجبارة، و خمد صوت العلم المدوّي، و اطفئت شعلة الفقه و الأصول الوهاجة، أطفئ السراج المنير

ص: 212

الذي كان ينير بعلمه المعهد الدراسي لمدينة العلم، و المعاهد العلمية الشيعية الكبرى.

مات (شيخنا الأنصاري) و بموته طويت تلك الراية العالية التي كانت تخفق على طلاب العلم و الدين، تلك الراية التي استمرت على الخفوق في سماء المجد و العظمة، تلك الراية التي تطاول السماء فخرا مدة تربو على ثلاثين سنة، تلك الراية التي لها المرجعية الكبرى، و الزعامة العظمى تلك الراية التي عليها المعول في حل المشكلات العلمية، تلك الراية التي يستظل بظلالها رواد العلم و الحقيقة.

انتقل (شيخنا الأنصاري) الى جنة عدن بمرض الإسهال فلما حضرته الوفاة و بدت فيه بوادر الرحيل بين آونة و أخرى وجه نحو القبلة فانحرف بنفسه عنها، ثم وجه نحوها ثانية فحول عنها. ثم وجه ثالثة فانحرف عنها فتعجب الحضار من عمل (شيخنا الأنصاري): لأنهم يعتقدون فيه بالإضافة الى علمه و مقامه الشامخ: أنه من الأولياء، و من المصطفين الأخيار فانحرافه عن القبلة حالة الاحتضار مع وجوب الاستقبال يتنافى و تلك المرتبة فلما ذا ينحرف ؟

لم يفت (الشيخ الأنصاري) و هو صاحب تلك الذهنية الوقادة، و الروحية الطاهرة، مع أنه في أخريات لحظات حياته، و في حالة الاحتضار:

ما يجول في أذهان الحاضرين.

فقال مخاطبا لهم: كل منا يعمل بتكليفه انتم مكلفون بتوجيهي نحو القبلة، و أنا مكلف بالانحراف عنها، حيث إني مبتلى بالإسهال فلا يجوز للمؤمن استقبال القبلة و هو في تلك الحالة.

ما مضت دقائق و ثوينات و روح (شيخنا الأنصاري) ترفرف في الجنان و جاورت أرواح السعداء.

ص: 213

خرج (شيخنا الأنصاري) من الدنيا نقي الثوب عن حطامها لم يدنسه بشيء من زخارفها و زبرجها.

خلف (شيخنا الأنصاري) تركة تعادل قيمتها ثلاثة دنانير من (العملة العراقية).

لم تمر على وفاة (شيخنا الأنصاري) دقائق إلا و قد سرى الحزن و البكاء و العويل بين سكان مدينة العلم و معهدها الأكبر على اختلاف طبقاتهم فدخلوا داره مهرعين مسرعين.

أخرج الجثمان الظاهر جثمان أبلته العبادة من داره على رءوس رواد العلم و أبنائه البار كلهم عويل و بكاء فغسل و كفن و صلي عليه و جدد به العهد مع مولاه، ثم أقبر في مثواه الأخير بجوار مولاه (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام في الحجرة المتصلة بباب القبلة على يسار الداخل في الصحن الشريف.

قام رجل من بيت شرف و كرم بفاتحة تتناسب و شخصية الشيخ ستة أيام بلياليها في (النجف الأشرف).

اذيع نبأ وفاة (شيخنا الأنصاري) في الأصقاع الشيعية ذاك النبأ المؤلم الذي اهتز لهوله كل أحد فخيم على البلاد السكوت، و أصيبت برجة عنيفة فعاد صخبها الى سكون، و ضجيجها الى هدو، و حركتها الى وقوف و نشاطها الى عكوف، و ابتسامها الى وجوم، و بشرها الى عبوس.

اقيمت الفواتح في البلاد كلها من شتى طبقاتهم على روحه الطاهرة دامت أياما و أسابيع.

قيلت مراثي كثيرة في وفاة (الشيخ الأنصاري) جاوزت العشرات بالعربية و الفارسية: لا يسع المقام لذكرها انتخبنا منها ثلاثة أبيات قالها المرحوم (الشيخ محمد علي كمونة) جد أسرة كمونة كربلاء.

ص: 214

ما قيل في وفات تاريخ الشيخ الانصاري

إليك الأبيات:

لو لم يكن سلمان خير زاهد *** لقلت سلمان بزهده اقتدى

من الصلاح وجهه كأنه *** وجه الصباح بهجة اذا بدا

من المعزي أحمدا بالمرتضى *** بالمرتضى من المعزي أحمدا

و ما قيل في مادة تاريخ وفاته أكثر. أليك المنتخب منها:

مذ توفى المرتضى رب الورى *** و بكى الدين عليه أسفا

قلت: إن اللّه قد أسكنه *** من جنان الخلد أرخ (غرفا)

1281

أيها القارئ النبيل:

الى هنا نطوي الكلام عن حياة (الشيخ الأنصاري) بدوا و ختاما.

و لعلنا و فينا و للّه الحمد بعض ما كان يجب علينا عن حياة هذا الراحل العظيم من شتى جوانبها.

و قد فرغت من تسويد هذه الأسطر ليلة السبت السابع عشر من ربيع المولود عام 1393 في غرفة ادارة (جامعة النجف الدينية) في الساعة الرابعة من الليل حامدين اللّه و شاكرين له على هذه الموفقية

السيّد محمّد كلانتر

ص: 215

ما قيل في تاريخ شروع المكاسب

تفضل علينا سيدنا الأجل الشاعر المفلق الحسيب النسيب صديقنا الوفي (السيد محمد الحسينى الحلي) دام فضله و علاه بأبيات في تاريخ البداية في شرح المكاسب.

كم لنشر النوى قاس *** يت خطوبا و متاعب

فعلى جامعة العلم *** شعاع الحق لاهب

و بشرح اللمعة الغراء *** فيض الفضل ساكب

و لهذي خطوة فيها *** الى القمة واثب

لذوي التحقيق أرخ

طاب توضيح المكاسب

1390

و تفضل علينا ولدنا العزيز و قرة عيننا النبيل الشيخ حسن المصري اللبناني أحد طلاب (جامعة النجف الدينية) و لا يزال فيها حفظه اللّه تعالى و وفقه لما يحب و يرضى: بأبيات في تاريخ الكتاب. أليك تمامها:

سطّرت للآتين أحرف حكمة *** نوّرت للأجيال دربا شاحبا

خلّدت للتاريخ علما زاكيا *** أورثت للأبناء نورا لاحبا

من (لمعة) خدمت شريعة أحمد *** أو روضة غنّاء تفتن راهبا

أو (جامع جمع السعادة) و الهنا *** و علا بأخلاق ففاق كواكبا

فيها (دراسات) تكامل عقدها *** درا تضيء المشرقين مواهبا

و جواهرا علقتها بمحرم *** فزهى الربيع الخصب عسجد ساكبا

إذ ذاك طرا للمكاسب أرخوا *** (بزغ الهدى يعلو فجاز مكاسبا)

1390 ه

ص: 216

مصادر البحث

زندگانى و شخصيت (شيخ مرتضى أنصاري): للشيخ مرتضى أنصاري ذكرى (الشيخ الأنصاري): للشيخ محمد علي الطبسي

مجلة النجف: السيد هادي فياض

بحار الأنوار: للمجلسي

أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين

روضات الجنات: للسيد محمد باقر الخونساري

سفينة البحار: للشيخ عباس القمي

الكنى و الالقاب: للشيخ عباس القمي

الذريعة: للشيخ آغابزرك الطهراني

مدينة الحسين: للسيد محمد حسن آل طعمة

تاريخ كربلاء: للسيد عبد الجواد الكليدار

بستان السياحة: للشيروانى

دليل خراسان: الدكتور علي شريعتي

أعلام الزركلى: للزركلي

الامام السيد أبو الحسن: بقلم أحد الأفاضل

مقدمة الجواهر: للشيخ المظفر

مقدمة جامع السعادات: للشيخ المظفر

شهداء الفضيلة: للشيخ الأميني

الامام الحكيم: للسيد أحمد الحسينى

تاريخ آداب اللغة العربية: لجرجي زيدان

ص: 217

تاريخ اصفهان: للجابري

شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد

العبقات العنبرية: للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء

ماضي النجف و حاضرها: للشيخ جعفر محبوبة

المصلح المجاهد: عبد الرحيم محمد علي

مالك الأشتر: للسيد محمد تقي الحكيم

نهج البلاغة:

ص: 218

المکاسب

نويسنده: انصاری، مرتضی بن محمدامین

محقق: کلانتر، محمد

تعداد جلد:17

زبان: عربی

ناشر: منشورات دارالنجف الدینیة - مطبعة الآداب

سال نشر:1214-1281 هجری قمری

ص: 1

المکاسب

نويسنده: انصاری، مرتضی بن محمدامین

ص: 2

حقوق طبع هذا الکتاب الشریف محفوظة

ل: جامعة النجف الدینية

تم الکتاب تحقیقاً و تصحیحاً

بقلم : السیّد محمّد کلانتر،عمید جامعة النجف الدینية

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

و ينبغي أولا التيمن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الضابطة للمكاسب

اشارة

في المكاسب (1).

و ينبغي أولا التيمن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الضابطة للمكاسب، من حيث الحل و الحرمة:

فنقول - مستعينا باللّه تعالى -: روى في الوسائل (2)

++++++++++

(1) جمع مكسب: وزان مفعل من الكسب.

إما مصدر ميمي بمعنى الكسب، كالمقتل بمعنى القتل.

و إما اسم مكان: لمحل الكسب و التجارة.

و الأول: و هو المعنى المصدري الميمي ليق بمراد الفقيه و العلم، حيث إن الفقيه من شأنه البحث عن أفعال المكلفين، دون الأعيان الخارجية، فإنها متعلقات أفعالهم و هي خارجة عن موضوع البحث.

و معنى الكسب: المعاوضة على الشيء بالربح و الفائدة.

(2) مؤلف شريف، و مصنف عظيم في أحاديث (أهل البيت) عليهم صلوات اللّه و سلامه أجمعين، يشتمل على مدارك فقه (الشيعة الامامية):

من أول الطهارات إلى آخر الحدود و الديات.

أخذت هذه الأحاديث من الكتب الأربعة: (الكافي... من لا يحضره الفقيه... التهذيب... الاستبصار). و سائر الكتب المعتمدة التي تربو على مائة و ثمانين كتابا، مع ذكر الأسانيد و أسماء الكتب في مقدمة الكتاب.

ص: 7

..........

++++++++++

- هذا المؤلف الشريف الذي حوى تمام أحاديث الأحكام من أول الطهارات إلى آخر الحدود و الديات كالبحر لا يساجل، و لمؤلفه فضل كبير. و أيادي بيضاء على (الطائفة الامامية) بتأليفه هذه الموسوعة العظيمة الشريفة فجزاه اللّه عن الاسلام و أهله خير ما يجزى العاملون.

1 - طبع الكتاب في (ايران) على الحجر أكثر من مرة في ثلاث مجلدات ضخام بالقطع الكبير.

2 - و طبع أخيرا و ليس آخرا في (طهران) في عشرين جزء مع تعليقات تحت إشراف لجنة من أفاضل الحوزة العلمية ب: (قم) و على رأسهم فضيلة العلامة زميلنا المكرم (الميرزا عبد الرحيم الرباني) الشيرازي دام فضله و علاه.

و الكتاب خرج بحمد اللّه من الطبع على طراز حسن جميل، و اسلوب رائع بديع. و قد أصبح في متناول أيدي رواد العلم و طلابها يستفيدون منه و أراحوا النفوس من مطالعة الطباعة القديمة فجزى اللّه الكريم:

المعلق، و المصحح، و الناشر، و الساعي، و الطابع، عن الاسلام و أهله خير ما يجزي العاملين.

و لما كان الكتاب موسوعة عظيمة، حافلة بجميع أسانيد الفقه، من أول الطهارات إلى آخر الحدود و الديات: كان أملنا وطيدا بهؤلاء الأفاضل الأماجد الذين اتعبوا نفوسهم الشريفة، و كرسوا جهودهم الثمينة، و صرفوا أوقاتهم الغالية في سبيل إخراج هذه الموسوعة العظيمة الجبارة إلى عالم الوجود، بهذا الشكل الحسن الجميل: ببذل جهود أكثر حول الكتاب تحقيقا و تعليقا، حيث إنه مشتمل على أحاديث حمة، بعضها غامض و صعب جدا لا يمكن غض النظر عنه، و ابقاؤه على ما هو عليه، و لا سيما -

ص: 8

..........

++++++++++

- نحن في ظروف تتطلب الدقة في مثل هذه التحقيقات و التعليقات.

كما فعلنا ذلك في (اللمعة الدمشقية)، حين أقدمنا على طباعتها و التعليق عليها، و في (المكاسب) هذه التي ستقف على موارد كثيرة من جوانبها التي علقنا عليها.

ثم إن بعض المفردات من بعض الأحاديث يحتاج إلى توضيح أكثر و تفسير أعمق لو بقي على ما هو عليه لاختل المعنى في مفاهيم ألفاظ الحديث و أفاد خلاف ما أراده الإمام عليه السلام كما ستعرف ذلك أثناء التعليق على (المكاسب)، و سنشير إلى تلك المواضيع إن شاء اللّه.

و من المؤسف جدا أن هؤلاء الأفاضل الكرام الذين تحملوا المشاق في سبيل إخراج هذه الموسوعة الهامة التي تدور عليها (رحى الشيعة الامامية) في الأحكام الفقهية إلى عالم الوجود بالشكل الذي وصفناه لم يمعنوا النظر الدقيق حول أحاديث الكتاب التي تتطلب التوضيح و التفسير، بل إما أنهم جعلوها على علاتها من دون أي تحقيق و تفسير كما كان الأمر قبل ذلك.

أو علقوا عليها تعليقا بسيطا لا يشفي العليل، و لا يروي الغليل.

هذا من ناحية.

و من ناحية أخرى: اننا أثناء تصحيحنا (اللمعة الدمشقية)، و هذا الكتاب الذي بأيدينا: و هو (المكاسب) في إخراج أحاديثهما، و عرضها على (الوسائل): راينا اخلالا في الحديث لا ينسجم معناه مع المراد مما أفادوه في الكتابين.

فعرضناه على مصادره و اذا بالاختلاف الفاحش بين المصادر، و بين المنقول في الوسائل، و سنشير إلى تلك الموارد إن شاء اللّه حرفيا حتى يطلع -

ص: 9

..........

++++++++++

- القارئ الكريم.

فبهذا و ذاك نرجو من هؤلاء الأفاضل الأماجد - الذين خدموا العلم و الدين بإخراج هذه الموسوعة الجبارة إلى عالم الوجود، و لهم أيادي مشكورة ممدوحة تجاه (الشيعة الامامية) - إعادة طباعتها من جديد و إحياء هذا التراث الخالد العظيم، مع تحقيقاتهم القيمة، و شروحهم الثمينة و إبداء آرائهم و نظرياتهم الغالية حول بعض الأحاديث و ما أكثره.

كما أننا نؤكد رجاءنا من هؤلاء الأفاضل الذين يجاهدون في إحياء المشاريع الدينية التي بأيديهم، أو بأيدي آخرين من الكتب التي هي من امهات الكتب الشيعية و أصولها، و التي أصبحت تدور عليها رحى الدراسة (الامامية): أن يعلقوا عليها تعليقا وافيا ان لم تطبع لحد الآن.

أو طبعت لكنها من غير تحقيق و تدقيق، أو حققت لكنها تحقيق يسير: اعادة طباعتها ثانية.

ثم رجائي منهم أن يرشدوا اولئك الذين قاموا بطباعة تلك الكتب النفيسة، أو في صدد طباعتها إلى النقاط التي ذكرناها، و لا سيما عرض الأحاديث على مصادرها حرفيا و تطبيقها معها.

كما أني أرجو ممن يتصدى لطباعة هذه الكتب أن لا يكون هدفه منها: (التجارة الدنيوية) التي تبور.

بل هدفه الاسمي: التجارة الأخروية التي لن تبور. و اللّه هو الموفق و المؤيد و المعين.

إليك نموذجا من تلك الأحاديث التي يستدل الشيخ بها اشارة في عدم الانتفاع بالميتة و أجزائها التي تحلها الحياة من ذي النفس السائلة:

إليك نص عبارة الشيخ في (المكاسب).

ص: 10

..........

++++++++++

- قال في المسألة الخامسة من المسائل الثمان في «النوع الأول» في الاكتساب بالأعيان النجسة:

(الخامسة: يحرم المعاوضة على الميتة، و أجزائها التي تحلها الحياة من ذي النفس السائلة على المعروف من مذهب الأصحاب.

و في (التذكرة) - كما عن المنتهى و التنقيح -: الاجماع عليه.

و عن (رهن الخلاف): الإجماع على عدم ملكيتها.

و يدل عليه مضافا إلى ما تقدم من الأخبار: ما دل على أن الميتة لا ينتفع بها). انتهى كلام الشيخ.

و المراد من (ما الموصولة) في قوله: ما دل: الحديث المروي عن (الفتح بن يزيد الجرجاني) عن (أبي الحسن) عليه السلام الذي استدل به الشيخ: على عدم جواز الانتفاع بالميتة و أجزائها التي تحلها الحياة.

قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا.

فكتب عليه السلام: لا ينتفع من الميتة بإهاب(1) و لا عصب(2)، و كل ما كان من السخال الصوف إن جز، و الشعر و الوبر و الإنفحة(3) و القرن، و لا يتعدى إلى غيرها إن شاء اللّه.ة.

ص: 11


1- بكسر الهمزة و الهاء وزان كتاب.
2- بفتح العين و الصاد: هي الأطناب و العروق المنتشرة في البدن المتصل بعضها ببعض تكون مصدرا للحركة و الحس في بدن الانسان بقدرة الباري عز و جل.
3- بكسر الهمزة و سكون النون و فتح الفاء و الحاء: شيء يستخرج من بطن الجدي قبل أن يطعم غير اللبن فيعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن و هو المعروف عند العامة: بالمجبنة.

..........

++++++++++

- هذا نص الحديث المروي في (وسائل الشيعة) الجزء 16 ص 448 الباب 33 الحديث 1.

فالواو في «و كلّ ما كان من السخال» إن جعلناها عاطفة على المجرور في قوله عليه السلام: بإهاب و لا عصب فسد المعنى، حيث يلزم اتحاد الحكم: و هو عدم جواز الانتفاع بالميتة و أجزائها في المعطوف: و هي الأشياء المذكورة، و في المعطوف عليه و هو الإهاب و العصب.

فيكون المعنى هكذا: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب، و لا بهذه الأشياء، مع أن الأمر ليس كذلك، حيث ان الإمام عليه السلام في مقام إعطاء حكم جديد للمعطوف: و هو جواز الانتفاع بهذه الأشياء من الصوف و الشعر، و الوبر، و الإنفحة، و القرن، و أن هذه الأشياء مما ينتفع بها و ليس حكمها حكم المعطوف عليه في عدم الانتفاع بها:

و القرينة على ذلك صراحة قوله عليه السلام: و لا يتعدى إلى غيرها أي لا يتعدى جواز الانتفاع من هذه الأشياء إلى غيرها من بقية أجزاء الميتة فالواو استينافية، لا عاطفة حتى يتوهم الاتحاد فيجري الفساد.

ثم إن مما يزيد في الطين بلة: عدم اعراب صحيح لكلمة (الصوف) لأنه إن جعلنا الصوف منصوبة خبرا لكان اختل المعنى، حيث يكون هكذا

و كل ما كان من السخال: الصوف فالجملة غير مستقيمة المعنى.

و إن جعلناها مرفوعة لا يدرى سبب رفعها هل على الابتداء؟ أو على الخبر؟.

فان كان على الخبر للمبتدإ المقدم: و هو قوله: (و كل ما كان):

لا ينسجم المعنى كما ترى.

و إن كان على الابتداء بقي بلا خبر.

ص: 12

..........

++++++++++

- ثم إن كلمة: (و كل ما كان) مرفوعة على الابتداء تحتاج إلى الخبر بناء على جعل الواو استينافية فأين الخبر؟

فهذه و تلك مما جعلتنا نشك في كون تمام ألفاظ الحديث صادرة عن الامام عليه السلام فراجعنا (الوسائل) ثانيا فرأينا الحديث مرويا عن (الكافي، و التهذيب و الاستبصار) فطبقناه عليها فوجدنا مطابقة (الوسائل) مع (الكافي و الاستبصار)، إلا في كلمة (من الجارة) حيث إنها موجودة في الكتابين داخلة على كلمة (الصوف)، و ليست موجودة في (الوسائل)، مع أنها لازمة كما عرفت.

ثم طبقنا الحديث على (التهذيب) فرأينا الاختلاف الواضح بين الوسائل، و بينه فاطمأن القلب، و سكن الفؤاد. إليك نص الحديث.

عن (الفتح بن يزيد الجرجاني) عن (أبي الحسن) عليه السلام.

قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا.

فكتب عليه السلام: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب، و كل ما كان من السخال من الصوف - إن جز - و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن:

ينتفع بها، و لا يتعدى إلى غيرها إن شاء اللّه.

راجع التهذيب الطبعة الثانية طباعة (النجف الأشرف) الجزء 9 ص 76 الحديث 58.

فالحديث هنا مشتمل على كلمة (من الجارة) التي هي بيان (لما الموصولة) في قوله عليه السلام: و كل ما كان، و وجودها لازم لكلمة (الصوف)، إذ لو لاها لاختل المعنى و الإعراب كما عرفت.

و كذلك مشتمل على جملة: (ينتفع بها) و هي لازمة أيضا، لأنها مرفوعة محلا خبر للمبتدإ المقدم و هو قوله: (و كل ما كان)، إذ لو لم تكن -

ص: 13

..........

++++++++++

- موجودة بقي المبتدأ بلا خبر، حيث إن الواو استينافية، و لا يصح جعلها عاطفة، لفساد المعنى كما عرفت.

فعلى ضوء ما ذكرنا تحصل: أن الواو هنا استينافية، لا عاطفة، للزوم الفساد المذكور كما نبهنا عليه.

ثم إن كلمة (و كل ما) في أغلب النسخ مكتوبة متصلة، أي هكذا (و كلما)، و الصحيح أن تكتب منفصلة كما اثبتناه لك، لأن «ما» هنا موصولة و مضاف إليه، لكلمة (كل) التي يراد منها العموم، و ليست جزء للكلمة كما في قولنا، كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا فهذا الحديث أحد الأحاديث التي لم تفسر، و لم يعلق عليها.

و سيمر عليك و ما أكثر هذه الأحاديث أثناء التعليق على (المكاسب) ما فسرناه من الأحاديث، و طبقناها على المصادر المنقول عنها، و سنشير الى تلك الأحاديث حرفيا ان شاء اللّه.

3 - و طبع (الكتاب) في (القاهرة) على الحروف في دار العهد الجديد للطباعة كامل مصباح.

على نفقة الشريف فضيلة السيد مرتضى الكشميري، صاحب (مكتبة النجاح) (في النجف الأشرف).

و قد خرج منه لحد الآن خمسة أجزاء.

و على الكتاب مقدمة للاستاذ (محمد عبد المنعم الخفاجي)، الاستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر: أحببت أن أذكر شطرا منها، ليكون القارئ الكريم على بصيرة من عظم الكتاب.

إليك نموذجا منها.

و الكتاب و مستدركه في أصول مصادر (فقه الامامية): و هو -

ص: 14

..........

++++++++++

- مرجع خصب نافع غاية النفع في الوقوف على أسرار التشريع، و دقائق الأحكام، و جوامع السنن.

و مذهب (الامام جعفر بن محمد الصادق) عليه السلام هو أحد المذاهب الفقهية الموروثة، و إليه ترجع الشيعة الامامية في أحكامها، و فقه تشريعها.

و يعتمد المذهب الشيعي على رواية الأئمة عن الرسول صلوات اللّه و سلامه عليه: من الذين رووا الحديث النبوي، و فهموا اشاراته، و عدّوا رواة عن جدهم الأعظم صلى اللّه عليه و آله لأحكام الشريعة، و أسرار الدين، و يجمع الشيعة الامامية بذلك على فقه واحد: هو فقه أئمتهم المأخوذ من الكتاب و السنة.

و انما سمي (بالفقه الجعفري)، لأن «الامام جعفر الصادق» وجد مجالا أكبر و أوسع لنشر فقهه، و دوّن عنه تلاميذه أصولا في الفقه فعن «الامام جعفر بن محمد» يأخذون.

و الجزء الأول من كتاب (وسائل الشيعة)، يبحث في مقدمة العبادات، و في الطهارة، و كيفية الوضوء في استقصاء و دقة و عمق و احاطة، و تحليل و تفصيل، و سوف تليه أجزاء عديدة في سائر أبواب الفقه الشيعي و أحكامه.

و هذا الفقه يتلاقى مع المذاهب الأربعة في كثير، و يختلف عنها في قليل.

و من مثل هذا الاختلاف: اشتراط (الامامية)، شاهدين عدلين في وقوع الطلاق فلا يقع بدونهما.

لقوله تعالى: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (1)2.

ص: 15


1- الطلاق: الآية 2.

و الحدائق (1) عن الحسن بن علي بن شعبة،

++++++++++

- و هم لا يوقعون طلاق الثلاث بلفظ واحد، أو تتابعا في مجلس واحد، و لا ينعقد عندهم الطلاق بالحلف.

و من مثل الاختلاف أيضا زواج المتعة حيث يحله الشيعة، و يحرمه غيرهم، و يعتمد الشيعة على قوله تعالى: «فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » (1).

على أن الذي يجيزه (الشيعة الامامية) من هذا الزواج: هو زواج المرأة الخالية من الموانع الشرعية، و يلزم فيه عقد و مهر، و يترتب عليه ميراث الولد، و عدة الزوجة بانقضاء المدة، أو الانفصال.

انتهى موضع الحاجة.

أما المؤلف فيأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(1) (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة)

كل ما يقال في حق الكتاب فهو كواصف الشمس.

(و صفات ضوء الشمس تذهب باطلا).

و مختصر القول: أن الكتاب موسوعة فقهية، و مجموعة عظيمة، و مدونة كبيرة، من أجل الموسوعات، و أكبر المجموعات، حافلة بمهام المسائل، طافحة بأمهات الدلائل، مليئة بالآراء و الأقوال، حاوية بالأحاديث و الأخبار، جامعة للفرائض و السنن و الآداب، محتشدة بالفروع و الأحكام

فهو جامع مبسوط لم يعمل مثله في بابه في كتب الأصحاب.

ألف الكتاب ليستغني طلاب العلم و رواده عن كتب الفقه و الحديث و الاستدلال كما قال مؤلفه في مقدمات الكتاب:

و يكفيك في عظم الكتاب ما اثنى عليه الأعلام الأفذاذ.

قال المحقق الفذ العلامة الحبر (الحجة الاميني) رحمه اللّه في كتابه -2.

ص: 16


1- النساء: الآية 22.

..........

++++++++++

- شهداء الفضيلة ص 316: و كتابه الحدائق الدائر السائر بين الفقهاء ينم عن غزارة علم مؤلفه، و تضلعه في العلوم، و تبحره في الفقه و الحديث كما يشف كتابه (لؤلؤة البحرين) عن سعة اطلاعه على أحوال الرجال

و قال (المحقق الخونساري) في روضات الجنات المجلد 2 ص 341 342: الحدائق الناضرة من التصانيف الفاخرة الباهرة التي تلذ بمطالعتها النفس، و تقر بملاحظتها العين.

و قال (المحدث القمي) في كتابه (الفوائد الرضوية) من ص 713 إلى ص 716 في حق المؤلف و كتابه: صاحب التصانيف الرائعة النافعة الجامعة التي احسنها كتاب: (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) و هو كتاب جليل في الغاية، كثير النفع.

و قال مترجم حياة (شيخنا الراحل) في مقدمة (الطبعة الأولى):

و من حملة ما افرغه في قالب التصنيف، و ألفه في غاية الإحكام و الترصيف:

هو كتاب (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة): و هو لعمري كتاب حوى ما لم يحوه كتاب، و مؤلف جمع ما لم يجر في خطاب، فصل المسائل فتفصل، و طول الدلائل فتطول، فكم فيها من أزهار نكات تزرى على زهر الروض المطلول، و أنوار أبحاث يخجل عندها نور الربيع.

الى ان يقول: فهو كتاب جامع للأدلة و الأقوال، حاو للفروع الكثيرة. حسن الترتيب، يشتمل على أبحاث لطيفة، و مسائل شريفة.

طبع هذا السفر الجليل في (ايران) على الحجر في ست مجلدات ضخام

و طبع اخيرا و ليس آخرا إن شاء اللّه في (النجف الأشرف) على الحروف طباعة أنيقة جميلة ذات روعة و جمال في (مطبعة النجف).

و عليه تعليقات قيمة نفيسة لزميلنا المكرم فضيلة العلامة المفضال الحجة -

ص: 17

حديث تحف العقول

في كتاب تحف العقول (1) عن مولانا الصادق صلوات اللّه و سلامه عليه حيث سئل عن معايش العباد فقال: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب (2)

++++++++++

- (الشيخ محمد تقي الإيرواني) دامت فضائله و بركاته على نفقة محب الخير و الفضيلة (الشيخ علي الآخوندي) وفقه اللّه لما يحب و يرضى في خمسة و عشرين جزءا.

صدر منه الى الأسواق لحد الآن خمسة عشر جزءا، و سيخرج الباقي ان شاء اللّه بالقريب العاجل.

أما المؤلف فيأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(1) (تحف العقول من آل الرسول) صلى اللّه عليه و عليهم أجمعين كتاب نفيس جليل مبسوط، كثير الفائدة، اعتمد عليه الأصحاب رضوان اللّه عليهم، و الكتاب مشتمل على جمل وافية من الأحاديث (النبوية و أئمة أهل البيت)، و مواعظهم الشافية، و النصائح الإلهية البالغة.

طبع الكتاب أخيرا في (طهران) عام 1376 على الحروف طباعة أنيقة بديعة عليها تعاليق قيمة نفيسة من زميلنا المكرم الأخ (علي أكبر الغفاري) أصبحت موضع إعجاب الأفاضل وفقه اللّه تعالى لما يحب و يرضى.

و أما المؤلف فيأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(2) طبقنا الحديث على (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 54 الى ص 58 الباب 2 من أبواب جواز التكسب بالمباحات الحديث 1.

و على (الحدائق الناضرة) فرأينا فرقا شاسعا بين المذكور هنا و بين المصدرين، ثم طبقناه على مصدره الأصلي (تحف العقول) فوجدنا الاختلاف فيه أكثر فأكثر.

و ذكر موارد الاختلاف حرفيا في الهوامش يوجب فصلا طويلا بين التعاليق، و مطالب الكتاب، و لربما أدى ذكرها الى صفحات، و تركها و ابقاؤها على ما هي عليه يتنافى و ما بنينا عليه من عرض الأحاديث -

ص: 18

..........

++++++++++

- المذكورة في الكتب الدراسية، و بقية الكتب التي يراد طباعتها:

على مصادرها و تطبيقها عليها، و التعليق عليها إن كانت محتاجة إليه: فانحصر العلاج بذكر الحديث الشريف بداية و نهاية عن مصدره الأصلي. ليكون القارئ النبيل بصيرا بموارد الاختلاف.

بالإضافة الى فوائد جمة في ذكر الحديث الشريف.

و قبل ذكر الحديث الشريف عن مصدره الاصلي (تحف العقول) لا بدّ من الفات أنظار قرائنا الكرام الى نقاط هامة في جوانب الحديث ليكونوا على بصيرة بالاشكالات الواردة عليه، ثم نشرع في الجواب عنها.

أليك تلك النقاط.

(الاولى): أن الحديث أصبح موضع نزاع و نقاش بين الفقهاء من حيث الصحة و السقم، لكونه ضعيف السند بالارسال، و لا سيما أنه مروي بلفظ سأله سائل فلم يدر من السائل، و من المسئول.

(الثانية): أن الحديث لم يذكر في (الكتب الأربعة): (الكافي.

من لا يحضره الفقيه. التهذيب. الاستبصار) مع أن المؤلف كان معاصرا (لشيخنا الصدوق).

و بالإضافة الى أن (الشيخ الصدوق) لم يرو عنه. كما أن المؤلف لم يرو عنه أيضا.

فهذا و ذاك مما يوجب الشك في صحة الحديث.

(الثالثة): أن الحديث مشتمل على اضطراب في التعبير، و تشويش في الضمير، و قلق في التذكير و التأنيث، حيث ذكر فيه التذكير موضع التأنيث، و التأنيث موضع التذكير، و الجمع مكان المفرد، و المفرد موضع الجمع، و (من) الموضوعة للعاقل مستعملة مكان (ما) الموضوعة -

ص: 19

..........

++++++++++

- لغير ذوي العقول، و بالعكس، و تكرر معنى واحد في جمل متعددة.

كل هذه الأمور موجبة للإخلال في الفصاحة و البلاغة الموجب للشك في صدور تمام ألفاظ الحديث عن الامام عليه السلام، لاستبعاد كون مثل هذا الحديث المشتمل على ذلك الخلل صادرا عمن هو مصدر الفصاحة و البلاغة و معدنهما، و الذي لغته تابعة للغة القرآن الكريم، هذا القرآن الذي أعجز الانس و الجن عن اتيان آية بمثلها (وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) : الإسراء: الآية 88.

(الرابعة): أن الحديث مع ضعف سنده لإرساله كيف جعله شيخنا الأعظم في مختلف فروع مسائل كتابه (المكاسب) من أوله الى آخره مصدرا لها، حتى جعله كقاعدة كلية لتلك الفروع و المسائل و كبرى لتلك الصغريات، و يتمسك به فيها، مع عدم صلاحيته للحجبة و الاستدلال به رأسا كما هو مذهب سيدنا الأستاذ (السيد الخوئي) دام ظله:

من ترك الحديث الضعيف المرسل، و ان عمل به المشهور، نظرا الى أن الشهرة لا تكون حجة، لا مستندا للحكم، و لا جابرا للضعف، و لا مرجحا للمتعارضين.

هذه هي النقاط الأربع الحساسة المتوجهة نحو الحديث، و التي أوجبت الشك في صدور كله عن الامام عليه السلام، و لا سيما الثلاثة الاول.

و أليك الجواب عن الاولى، و الثالثة، و الرابعة.

(أما الجواب عن الاولى) فنقول: إن القدامى من علمائنا الأعلام الى زمان (شيخ الطائفة) و ما بعده عدا (شيخنا الشهيد الثاني):

يرون العمل بالخبر الضعيف، و أنه حجة اذا عمل به المشهور، و يعبر عنه: ب (الشهرة العملية) التي وقعت محل النزاع في كونها جابرة -

ص: 20

..........

++++++++++

- لضعف الرواية أم لا.

و معنى العمل بالشهرة: استناد القدماء بالحديث الضعيف و جعله مدركا للحكم الإلهي من دون ان يكون هناك مدرك آخر غيره

لكننا نقول: وافى لنا الجزم به بهذا اللون.

هذا في الشهرة العملية.

و أما الشهرة الفتوائية و الروايتية فلا كلام في عدم انجبار الرواية الضعيفة بهما، لأن رواة الحديث الضعيف و إن كانوا كثيرين لا ترفع عنه الضعف، و مجرد مطابقة الفتوى لمضمون الحديث الضعيف لا تصلح جبرا.

(أما الجواب عن الثالثة) فنقول: إن الاضطراب الواقع في التعبير و التشويش الموجود في الضمير نشأ عن نقل الراوى الحديث بالمعنى، حيث لم يسجل ألفاظه حرفيا. و نفس تعابيره في مجلس التخاطب، و إنما أثبت ما حوته ذهنيته الوقادة من المطالب الملقاة عليه بعد مفارقته مجلس الامام عليه السلام، و من ثم وقع التشويش المذكور في الضمائر، و الاضطراب في التعبير في مقام التعبير، و نقل الحديث، و لا سيما و الحديث مطول و مذيل لا يمكن ضبط ألفاظه حرفيا.

إن قلت: أ ليس هناك أحاديث مطوّلة، و خطب مذيلة، و أدعية مفصلة كدعاء كميل، و الصحيفة السجادية على منشئها آلاف التحية، و دعاء الصباح، و دعاء عرفة، و أدعية أخرى مأثورة، و ما أكثرها:

و هذه خطب (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام في النهج، و خطب اخرى أثبتها الرواة بنفس التعابير، و بعين الألفاظ الواردة عن الامام عليه السلام، من غير تشويش في الألفاظ و تغيير في المعنى.

قلت: نعم الامر كما تقول.

ص: 21

..........

++++++++++

- لكن قرائح الناس حسب فطرتهم الذاتية، و خلقتهم الأولية مختلفة فهناك ذوو القريحة الوقادة، و الذهنية القوية الوهّاجة كانوا يحفظون الحديث و الأدعية و الخطب و القصائد بألفاظها اذا ألقيت عليهم مرة واحدة فكان يملي تلك الأحاديث، و الخطب، و الأدعية و القصائد الملقاة عليه بعد ذلك بنفس التعبير، و بتلك الألفاظ كأن ذهنه (مسجلة اتوماتيكية) و من بين هؤلاء الأفذاذ و على رأسهم (عبد اللّه بن عباس) حبر الامة خريّت هذه الصناعة فانه كان يملي كل ما يخطبه (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام، و كلما يخطب، و يرقى المنبر و لم تفته كلمة واحدة منها و له كلمته المشهورة: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون (أمير المؤمنين) عليه السلام بلغ منه حيث اراد

و خلاصة القصة: أن (أمير المؤمنين) عليه السلام قام خطيبا في (مسجد الكوفة) فألقى خطبته المشهورة (الخطبة الشقشقية) و حين بلوغه عليه الصلاة و السلام: (و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فجعل ينظر فيه فلما فرغ من قراءته قال له ابن عباس:

يا أمير المؤمنين لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت.

فقال عليه الصلاة و السلام:

هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت.

راجع نهج البلاغة المجلد الاول ص 68 شرح ابن ابي الحديد طباعة دار العربية الكبرى ب: (مصر) عام 1329.

(أما الجواب عن الرابعة).

فنقول: إن (الشيخ الاعظم الانصاري) لم يستدل بهذا الحديث -

ص: 22

..........

++++++++++

- فيما استدل به كدليل أساسي مستقل للمسألة، و إنما أخذ منه تأييدا في الأكثر

و لا شك أن الخبر الضعيف يصلح تأييدا و إن لم يصلح دليلا.

على أن المواضع التي تمسك بها الشيخ من هذا الحديث في الأكثر تكون مؤيدة بنصوص معتبرة عامة، أو خاصة فصارت تلك النصوص كالقرينة على صحة صدور هذه الرواية، أو جملة منها إن لم تكن دليلا على صحة جميع جمل الحديث.

ثم إن الشيخ ممن يرى حجية الخبر الضعيف إذا عمل به المشهور من العلماء، لأن عملهم هذا يجبر ما في الحديث من ضعف، نظرا إلى أن حجية الخبر منوطة بالسيرة العقلائية التي تعتمد على كل خبر محفوف بقرائن الصدق و الاعتماد.

(و أما الجواب عن الثانية) فلم أوفق له لحد الآن، حيث إن الحديث لم يوجد في الكتب الاربعة، و لم يرو (شيخنا الصدوق) عنه مع كونه معاصرا له، و هو لم يرو عنه.

و كذلك بقية الأعلام الذين كانوا في عصره، أو جاءوا بعده بقليل لم يرووا الحديث عنه، و لم يذكروه في كتبهم.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في الذب عن الحديث، و الدفاع عن حريمه و عن الايرادات الواردة عليه حسب معلوماتنا القاصرة.

و أما الحديث الشريف فمنقول في (تحف العقول) طباعة (طهران) عام 1373 من ص 331 إلى ص 338.

أليك نصه:

جوابه عليه السلام عن جهات معايش العباد، و وجوه إخراج الأموال:

سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب -

ص: 23

..........

++++++++++

- و التعامل بينهم، و وجوه النفقات ؟.

فقال عليه السلام: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات من المعاملات.

فقال له: أكل هؤلاء الأربعة حلال، أو كلها حرام، أو بعضها حلال، و بعضها حرام.

فقال عليه السلام: قد يكون في هؤلاء الأجناس الأربعة حلال من جهة، و حرام من جهة.

و هذه الأجناس مسميات معروفات الجهات.

فأول هذه الجهات الأربعة: الولاية، و تولية بعضهم على بعض فأول ولاية: الولاة، و ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.

ثم (التجارة) في جميع البيع و الشراء بعضهم من بعض.

ثم (الصناعات) في جميع صنوفها.

ثم (الإجارات) في كل ما يحتاج إليهم من الاجارات.

و كل هذه الصنوف تكون حلالا من جهة، و حراما من جهة.

و الفرض من اللّه على العباد في هذه المعاملات: الدخول في جهات الحلال منها، و العمل بذلك الحلال، و اجتناب الجهات الحرام فيها.

تفسير معنى الولاية.

و هي (جهتان):

(فاحدى الجهتين) من الولاية: ولاية ولاة العدل الذين أمر اللّه بولايتهم، و توليتهم على الناس، و ولاية ولاته، و ولاة ولاته إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.

ص: 24

..........

++++++++++

- (و الجهة الأخرى) من الولاية: ولاية ولاة الجور، و ولاة ولاته إلى أدناهم بابا من الأبواب التي هو وال عليه.

فوجه الحلال من الولاية: ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته، و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته، و ولاة ولاته بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل بلا زيادة فيما انزل اللّه به، و لا نقصان منه، و لا تحريف لقوله، و لا تعد لأمره إلى غيره فاذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له، و العمل معه، و معونته في ولايته، و تقويته: حلال محلل و حلال الكسب معهم.

و ذلك: أن في ولاية والي العدل، و ولاته إحياء كل حق، و كل عدل، و إماتة كل جور و فساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه و المعين له على ولايته ساعية الى طاعة اللّه، مقويا لدينه.

و أما وجه الحرام من الولاية: فولاية الوالي الجائر، و ولاية ولاته الرئيس منهم، و اتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه، و العمل له، و الكسب معه بجهة الولاية لهم: حرام و محرم، معذب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأن كل شيء من جهة المئونة معصية كبيرة من الكبائر.

و ذلك: إن في ولاية الوالي الجائر: دروس(1) الحق كله و إحياء الباطل كله، و إظهار الظلم و الجور و الفساد، و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و المؤمنين، و هدم المساجد، و تبديل سنة اللّه و شرائعه فلذلك حرم العمل معهم، و معونتهم، و الكسب معهم، إلا بجهة الضرورة

نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.ه.

ص: 25


1- مصدر درس يدرس: أي عفا و نمحى و ذهب أثره.

..........

++++++++++

- و أما تفسير التجارات في جميع البيوع، و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع مما لا يجوز له.

و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه مما لا يجوز له فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد، و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره مما يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون، و يملكون.

و يستعبدون من جهة ملكهم، و يجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه و شراؤه، و إمساكه، و استعماله و هبته و عاريته.

و أما وجوه الحرام من البيع و الشراء، و كل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله و شربه، أو كسبه أو نكاحه، أو ملكه أو إمساكه، أو هبته أو عاريته.

أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد: نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد.

أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شيء من وجوه النجس.

فهذا كله حرام و محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله، و شربه و لبسه، و ملكه و إمساكه و التقلب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد فجميع تقلبه في ذلك حرام.

و كذا كل بيع ملهو به، و كل منهي عنه مما يتقرب به لغير اللّه أو يقوى به الكفر، و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب -

ص: 26

..........

++++++++++

- من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم: حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته، و جميع التقلب فيه، إلا في حال تدعو الضرورة إلى ذلك.

(و أما تفسير الاجارات):

فاجارة الانسان نفسه، أو ما يملك، أو يلي أمره من قرابته أو دابته، أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الاجارات أن يؤجر نفسه أو داره أو أرضه، أو شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع.

أو العمل بنفسه و ولده و مملوكه، أو أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي، أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يؤجر نفسه، أو ولده أو قرابته، أو ملكه أو وكيله في اجارته، لأنهم وكلاء الأجير من عنده ليس هم بولاة الوالي.

نظير الحمال الذي يحمل شيئا بشيء معلوم إلى موضع معلوم فيجعل ذلك الشيء الذي يجوز له حمله بنفسه، أو بملكه، أو دابته، أو يؤاجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه، أو بمملوكه أو قرابته، أو بأجير من قبله.

فهذه وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان الناس ملكا أو سوقة، أو كافرا، أو مؤمنا فحلال إجارته، و حلال كسبه من هذه الوجوه.

فأما وجوه الحرام من وجوه الاجارة. نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه، أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه. أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا -

ص: 27

..........

++++++++++

- أو قتل النفس بغير حل، أو عمل التصاوير و الأصنام و المزامير، و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدم، أو شيء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه من غير جهة الاجارة فيه.

و كل أمر منهي عنه من جهة من الجهات فمحرم على الانسان اجارة نفسه فيه أو له، أو شيء منه أو له، إلا لمنفعة من استأجرته كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه، أو أذى غيره و ما أشبه ذلك.

و الفرق بين معنى الولاية و الإجارة، و إن كان كلاهما يعملان بأجر:

أن معنى الولاية أن يلي الانسان لوالي الولاة، أو لولاة الولاة فيلي أمر غيره في التولية عليه، و تسليطه، و جواز أمره و نهيه، و قيامه مقام الوالي إلى الرئيس، أو مقام و كلائه في أمره، و توكيده في معونته، و تسديد ولايته، و إن كان أدناهم ولاية فهو وال على من هو وال عليه يجري مجرى الولاة الكبار الذين يلون ولاية الناس في قتلهم من قتلوا، و إظهار الجور و الفساد.

و أما معنى الاجارة فعلى ما فسرنا من اجارة الانسان نفسه، أو ما يملكه من قبل أن يؤاجر لشيء من غيره فهو يملك يمينه، لأنه لا يلي أمر نفسه و أمر ما يملك قبل أن يؤاجره ممن هو آجره.

و الوالي لا يملك من أمور الناس شيئا، إلا بعد ما يلي أمورهم و يملك توليتهم، و كل من آجر نفسه، أو آجر ما يملك نفسه، أو يلي أمره من كافر، أو مؤمن، أو ملك، أو سوقة على ما فسرنا مما تجوز الاجارة فيه فحلال فعله و كسبه.

ص: 28

..........

++++++++++

- (و أما تفسير الصناعات):

فكل ما يتعلم العباد، أو يعلمون غيرهم من صنوف الصناعات مثل الكتابة و الحساب، و التجارة و الصياغة. و السراجة و البناء، و الحياكة و القصارة و الخياطة، و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد التي منها منافعهم، و بها قوامهم، و فيها بلغة جميع حوائجهم. فحلال فعله و تعليمه، و العمل به و فيه لنفسه، أو لغيره.

و ان كانت تلك الصناعة، و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد، و وجوه المعاصي، و يكون معونة على الحق و الباطل: فلا بأس بصناعته و تعليمه: نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد من تقوية معونة ولاة ولاة الجور.

و كذلك السكين و السيف و الرمح و القوس، و غير ذلك من وجوه الآلة التي قد تصرف الى جهات الصلاح، و جهات الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما: فلا بأس بتعليمه و تعلمه، و أخذ الأجر عليه و فيه، و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، و محرم عليهم فيه تصريفه الى جهات الفساد و المضار: فليس على العالم و المتعلم اثم و لا وزر، لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم، و قوامهم به و بقائهم، و انما الإثم و الوزر على المتصرف بها في وجوه الفساد و الحرام.

و ذلك إنما حرم اللّه الصناعة التي حرام هي كلها التي يجيء منها الفساد محضا: نظير البرابط و المزامير، و الشطرنج.

و كل ملهو به و الصلبان و الأصنام، و ما أشبه ذلك من صناعات أشربة الحرام، و ما يكون منه و فيه الفساد محضا، و لا يكون فيه و لا منه شيء من وجوه الصلاح: فحرام تعليمه و تعلمه و العمل به، و أخذ الأجر عليه -

ص: 29

..........

++++++++++

- و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلها، إلا أن تكون صناعة قد تنصرف الى جهات المنافع.

و إن كان قد يتصرف بها و يتناول بها وجها من وجوه المعاصي فلعله لما فيه من الصلاح: حلّ تعلمه و تعليمه و العمل به، و يحرم على من صرفه الى غير وجه الحق و الصلاح.

فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد، و تعليمهم في جميع وجوه اكتسابهم وجوه اخراج الأموال و إنفاقها.

أما الوجوه التي فيها إخراج الأموال في جميع وجوه الحلال المفترض عليهم وجوه النوافل كلها: فأربعة و عشرون وجها.

منها: سبعة وجوه على خاصة نفسه، و خمسة وجوه على من تلزمه نفسه، و ثلاثة وجوه مما تلزمه فيها من وجوه الدين.

و خمسة وجوه مما تلزمه فيها من وجوه الصلات.

و أربعة أوجه مما تلزمه فيها النفقة من وجوه اصطناع المعروف.

فأما الوجوه التي تلزمه فيها النفقة على خاصة نفسه: فهي مطعمه و مشربه و ملبسه و منكحه و مخدمه، و عطاؤه فيما يحتاج إليه من الإجراء على حرمة متاعه، أو حمله أو حفظه.

و معنى يحتاج إليه: من نحو منزله، أو آلة من الآلات يستعين بها على حوائجه.

و أما الوجوه الخمس التي تجب عليه النفقة لمن تلزمه نفسه: فعلى ولده و والديه و امرأته و مملوكه لازم له ذلك في حال العسر و اليسر.

و أما الوجوه الثلاثة المفروضة من وجوه الدين: فالزكاة المفروضة الواجبة في كل عام، و الحج المفروض، و الجهاد في إبّانه و زمانه.

ص: 30

..........

++++++++++

- و أما الوجوه الخمس من وجوه الصلات و النوافل: فصلة من فوقه و صلة القرابة، و صلة المؤمنين، و التنفل في وجوه الصدقة و البر و العتق.

و أما الوجوه الأربع: فقضاء الدين، و العارية، و القرض، و إقراء الضيف: واجبات في السنة

(ما يحل للانسان أكله):

فأما ما يحل و يجوز للانسان أكله مما أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية.

صنف منها جميع الحب كله من الحنطة و الشعير و الأرز و الحمص و غير ذلك من صنوف الحب و السماسم و غيرها. كل شيء من الحب مما يكون فيه غذاء الانسان في بدنه و قوته فحلال أكله.

و كل شيء تكون فيه المضرة على الانسان في أكله فحرام أكله، إلا في حال الضرورة.

و الصنف الثاني مما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثمار كلها مما يكون فيه غذاء للانسان و منفعة له و قوته به: فحلال أكله و ما كان فيه المضرة على الانسان في أكله فحرام أكله.

و الصنف الثالث جميع صنوف البقول و النبات، و كل شيء تنبت الأرض من البقول كلها مما فيه منافع الانسان، و غذاء له: فحلال أكله.

و ما كان من صنوف البقول. فما فيه المضرة على الانسان في أكله نظير بقول السموم القاتلة، و نظير الدفلي(1)، و غير ذلك من صنوف -ر.

ص: 31


1- بكسر الدال، و سكون الفاء، و فتح اللام: هو نبت زهره اعتيادي كالورد الأحمر.

..........

++++++++++

- السم القاتل فحرام أكله.

و أما ما يحل أكله من لحوم الحيوان فلحوم البقر و الغنم و الإبل و ما يحل منه من لحوم الوحوش، و كل ما ليس فيه ناب، و لا مخلب

و ما يحل من أكل لحوم الطير كلها، ما كانت له قانصة: فحلال أكله.

و ما لم يكن له قانصة فحرام أكله، و لا بأس بأكل صنوف الجراد.

و أما ما يجوز أكله من البيض فكل ما اختلف طرفاه فحلال أكله و ما استوى طرفاه فحرام أكله.

و ما يجوز أكله من صيد البحر من صنوف السمك: ما كان له قشور فحلال أكله، و ما لم يكن له قشور فحرام أكله.

و ما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها: فما لا يغير العقل كثيره فلا بأس بشربه.

و كل شيء منها يغير العقل كثيره فالقليل منه حرام.

و ما يجوز من اللباس.

فكلما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه، و الصلاة فيه، و كل شيء يحل لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه، و صوفه و شعره و وبره.

و إن كان الصوف و الشعر و الريش و الوبر من الميتة، و غير الميتة ذكيا فلا بأس بلبس ذلك، و الصلاة فيه.

و كل شيء يكون غذاء الانسان في مطعمه و مشربه، أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه و لا السجود، إلا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولا، فاذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلا في حال ضرورة.

أما ما يجوز من المناكح فأربعة وجوه. نكاح بميراث، و نكاح -

ص: 32

أربع جهات (1) و يكون فيها (2) حلال من جهة، و حرام من جهة.

فأول هذه الجهات الأربع الولاية (3) ثم التجارة (4) ثم الصناعات (5) ثم الإجارات (6).

++++++++++

- بغير ميراث، و نكاح اليمين، و نكاح بتحليل من المحلّل له من ملك من يملك.

و أما ما يجوز من الملك، و الخدمة فستة وجوه: ملك الغنيمة، و ملك الشراء، و ملك الميراث، و ملك الهبة، و ملك العارية، و ملك الأجر.

فهذه وجوه ما يحل، و ما لا يجوز للانسان انفاق ماله، و إخراجه بجهة الحلال في وجوهه، و ما يجوز فيه التصرف و التقلب من وجوه الفريضة و النافلة.

(1) أي أربعة أقسام: الولاية، التجارة، الصناعة، الإجارة.

(2) أي في هذه الأقسام الأربعة المذكورة.

(3) بكسر الواو و فتحها و هي الإجارة و السلطنة، و منها قوله تعالى: «هُنٰالِكَ اَلْوَلاٰيَةُ لِلّٰهِ » (1).

(4) و هو البيع و الشراء لغرض الربح و المنفعة.

(5) جمع صناعة بكسر الصاد و فتحها: و هو العلم الحاصل بمزاولة العمل كالخياطة، و الكتابة، و النجارة و الصياغة، و البناية، و ما شاكل ذلك مما يكون في فعله نفع للمجتمع.

و المراد من الصناعة هنا: مزاولة العمل نفسه، لا العلم الحاصل منه المعبر عنه بالملكة و الاقتدار على العمل، أو القوة القاهرة.

(6) جمع اجارة: و هو تمليك المنفعة من المؤجر، و تملك المنفعة من المستأجر بعوض معين معلوم.

و إنما جيئت الاجارة بلفظ الجمع، لتعدد الأعيان المستأجرة فيها -4.

ص: 33


1- الكهف: الآية 44.

و الفرض من اللّه تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال، و العمل بذلك، و اجتناب جهات الحرام منها.

فاحدى (1) الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل (2) الذين أمر اللّه بولايتهم على الناس.

و الجهة (3) الأخرى ولاية ولاة الجور (4) فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل، و ولاية ولاته (5) بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة و نقيصة (6) فالولاية له، و العمل معه، و معونته و تقويته حلال محلّل.

و أما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الحائر، و ولاية ولاته

++++++++++

- كما يقال: البيوع باعتبار تعدد الأعيان المبيعة.

(1) أي جهة الحلال من الولاية.

(2) و هم (أهل البيت) عليهم الصلاة و السلام: «الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا»(1).

و قد أمر اللّه عز و جل بذلك في قوله: «أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ » (2).

(3) و هي جهة الحرام من الولاية.

(4) بأن يكون الانسان واليا من قبل ولاة الجور و الظلم.

(5) بأن يكون واليا عن الوالي المنصوب من قبل (الإمام المعصوم) عليه السلام.

(6) بأن يقوم الوالي، أو والي الوالي بالجهة التي عيّنها من فوقه كما لو عيّن الإمام عليه السلام له جباية الأموال، أو القضاء و الحكم بين الناس، أو الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، أو إقامة صلاة الجماعة و الجمعة، أو حاكما على مدينة، أو قطر، أو أميرا على جيش.8.

ص: 34


1- النساء: الآية 59.
2- النساء: الآية 58.

و العمل لهم (1) و الكسب لهم (2) بجهة الولاية معهم حرام محرم معذب فاعل ذلك على قليل من فعله، أو كثير، لأن كل شيء من جهة المعونة (3) له معصية كبيرة من الكبائر.

و ذلك (4) أن في ولاية والي الجائر دروس (5) الحق كله، و إحياء الباطل كله، و إظهار الظلم و الجور و الفساد، و إبطال الكتب، و قتل الأنبياء، و هدم المساجد، و تبديل سنة اللّه و شرائعه (6) فلذلك (7) حرم العمل معهم و معونتهم، و الكسب معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة

++++++++++

(1) من الأعمال السالفة الذكر.

(2) أي كسب المال لمصالحهم إما بالتجارة، أو الجباية، أو غير ذلك.

و الباء في بجهة الولاية معهم: ظرفية، أي المحرم ما لو كان في هذه الجهة، فالكسب و العمل يكون حراما أيضا.

فهذه الجملة متفرعة على الولاية المحرمة.

(3) أي للوالي الجائر، أو والي الوالي الجائر.

(4) تعليل للولاية المحرمة.

(5) مصدر درس يدرس درسا. وزان نصر ينصر نصرا و معناه: الاضمحلال و الاندراس.

(6) جمع شريعة و هي السنة، و المراد بها ما شرّع اللّه لعباده من السنن و الأحكام.

(7) تعليل لحرمة ولاية الوالي الجائر، و والي الوالي الجائر. أي و لأجل أن ولاية والي الجائر مستلزمة لهذه الإضرار و المفاسد من اندراس الحق، و إحياء الباطل كله، و إظهار الظلم و الجور، و غير ذلك: يحرم التصدي لمثل هذه الولاية.

و لا يخفى: أن اتصاف الوالي الجائر، أو والي واليه بالصفات -

ص: 35

إلى الدم و الميتة (1).

و أما تفسير التجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع مما لا يجوز له، و كذلك المشتري (2) الذي يجوز له شراؤه مما لا يجوز فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد، و قوامهم (3) به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيرها مما يأكلون و يشربون و يلبسون، و ينكحون، و يملكون و يستعملون من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها، و كل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كله حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.

و أما وجوه الحرام من البيع و الشراء فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله، و شربه، أو كسبه، أو نكاحه، أو ملكه

++++++++++

- المذكورة غير مستلزم لاتصافه بها اتصافا كليا فعليا، بل يكفي اتصافه بها اتصافا جزئيا، فحينئذ يكون شريكا مع الوالي الجائر في المظالم.

نعم تصديه لهذا المنصب موجب لاتصافه بتلك الصفات كليا.

(1) أي إذا اضطر إلى ولاية الجائر فانه يجتهد جهده في أن يعمل بالشرع، و لا يخالفه ما أمكن.

كذلك إذا اضطر إلى أكل الميتة، أو الدم فانه ينبغي أن يكتفي منهما بما يسد الرمق، و يدفع غائلة الجوع، أو يدفع الهلاك عن نفسه أو عمن يتصل به.

(2) الظاهر أنه بصيغة الفاعل بقرينة قوله عليه السلام: يجوز للبائع.

(3) بالرفع عطفا على قوله عليه السلام: «مما هو غذاء للعباد» أي مما هو قوام للعباد. فيكون من عطف العام على الخاص، لإفادة التعميم في المطلوب.

ص: 36

أو إمساكه، أو هبته، أو عاريته، أو شيء (1) يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا، أو بيع الميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر أو شيء من وجوه النجس، فهذا كله حرام محرّم، لأن ذلك كله منهي عن أكله و شربه، و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلب (2) فيه فجميع تقلبه في ذلك حرام.

و كذلك كل مبيع ملهوّ به (3)، و كل منهي عنه مما يتقرب به لغير اللّه عز و جل، أو يقوى به الكفر و الشرك (5) في جميع وجوه المعاصي (6) أو باب يوهن به الحق (7) فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه، و ملكه و هبته، و عاريته، و جميع التقلب فيه (8) إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك (9).

++++++++++

(1) بالجر عطفا على المضاف إليه في قوله عليه السلام: «فكل أمر»، أي فكل شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد فهو حرام و منهي عنه.

(2) أي الاستعمالات في ذلك الشيء.

(3) كآلات القمار و الشطرنج.

(4) كاتخاذ الدور و الأماكن للعبادة الباطلة لغير ذاته المقدسة.

(5) كبيع السلاح لأعداء الدين.

(6) أي أية معصية كانت.

(7) تفسير لما سبق من الجمل.

(8) أي جميع استعمالاته.

(9) أي إلى استعمالاته و التقلب فيه.

ص: 37

و أما تفسير الإجارات (4) (*) فاجارة الانسان نفسه، أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته (1) أو دابته أو ثوبه (2) بوجه الحلال من جهات الإجارات أن (3) يؤجر نفسه، أو داره، أو أرضه، أو شيئا يملكه فيما

++++++++++

أي الإجارات المحللة بقرينة قوله عليه السلام فيما يأتي: و أما وجوه الحرام من وجوه الاجارة.

(1) بيان للجملة الأخيرة: و هو قوله عليه السلام: (أو يلي أمره) فهو من قبيل اللف و النشر الغير المرتب، لأن المناسب أن يؤتى بالمثال للجملة الأولى و هو قوله عليه السلام: (أو ما يملك) ثم الاتيان بالجملة الأخيرة و هو قوله عليه السلام: (أو يلي أمره) و هذا دليل نقل الحديث بالمعنى.

(2) الدابة و الثوب مجروران عطفا على مدخول (من الجارة) أي من دابته و ثوبه فهما بيانان للجملة الأولى في قوله عليه السلام: (أو ما يملك) أي يؤجر الانسان ما يملكه كالدابة و الثوب، و غيرهما.

ثم إن اجارة الانسان قرابته، أو ما يملكه على قسمين:

(الأول): اجارته لهم بعقد واحد.

(الثاني): اجارة كل واحد منهما بعقد مستقل و على حدة.

(3) في (الوسائل و الحدائق و تحف العقول) أن يؤجر كما هنا و أغلب نسخ الكتاب.

لكن في بعض نسخ (المكاسب) و بعض شروحها (أو يؤجر) حتى قال (الشيخ المامقاني) رحمه اللّه في تعليقته على المكاسب في هذا المقام: إن أو هنا بمعنى الواو، و أن الجملة معطوفة على الاسم الصريح في قوله عليه السلام: اجارة الانسان نفسه، أو داره، أو أرضه.

ثم إن معنى هذه الجملة إلى آخر قوله عليه السلام: أو مملوكه أو أجيره قد استفيد من الجملة السابقة عليها: و هو قوله عليه السلام:

ص: 38

ينتفع به من وجوه المنافع، أو العمل بنفسه (1)، و ولده و مملوكه و أجيره من غير أن يكون (2) وكيلا للوالي، أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يؤجر (3) نفسه، أو ولده (4)، أو قرابته (5)، أو ملكه

++++++++++

- فاجارة الانسان نفسه، أو ما يملك، أو يلي أمره من قرابته، أو دابته أو ثوبه فالتكرار دليل نقل الحديث بالمعنى، كما ذكرناه لك في النقاط الأربعة المذكورة في بداية الحديث.

(1) العمل بنفسه أعم من أن يكون الانسان هو المباشر للعمل، أو غيره مباشرا له.

(2) يحتمل أن يكون اسم كان (المستأجر).

و يحتمل أن يكون اسمها (المؤجر) أي من غير أن يكون المستأجر أو المؤجر وكيلا عن الوالي الجائر.

(3) هذه الجملة: يؤجر نفسه تفسير لقوله عليه السلام: فلا بأس أن يكون أجيرا، أي يؤجر الانسان نفسه مباشرة، أو تسبيبا.

(4) بضم الواو و سكون اللام و ضم الدال: جمع ولد بفتح الواو و اللام: يراد منه: الصبي الذي لم يبلغ الحلم.

و كذا المراد من ولد الولد: الصغار منهم حتى يجوز للأب، أو الجد اجارة ابنه، أو حفيده.

(5) بفتح القاف: هم أقرباء الرجل ممن له التصدي في الايجار عنهم بولاية، أو وصاية إذا كانوا صغارا، أو وكالة.

و لا يخفى عدم صحة اجارة الانسان أقربائه إلا إذا كان وليا عليهم أو وصيا، أو وكيلا عنهم كما عرفت، لعدم تسلطه عليهم.

ثم ان تفسير الأقرباء بولد الرجل خلاف ظاهر الحديث، حيث قد تقدم ذكر ولد الرجل آنفا كما عرفت في الهامش 4، فلا معنى لتكرارهم -

ص: 39

أو وكيله (1)، في اجارته، لأنهم (2) وكلاء الأجير،

++++++++++

- ثانيا، و التكرار هذا قرينة على أن الحديث منقول بالمعنى كما ادعيناه في الدفاع عن الايرادات الواردة على الحديث.

(1) بنصب وكيله فهو عطف على قوله عليه السلام: أن يؤجر نفسه.

و المراد من الوكيل: من يقوم بالعمل من موكله، أي يؤجر الانسان موكله الذي وكله في الإجارة بالوكالة عنه.

(2) هذه الجملة: (لأنهم وكلاء الأجير) من الجمل المعقدة المحتاجة الى التفسير و قد فسرها المحشّون و المعلقون على الكتاب تفاسير مختلفة أليك تفسيرها حسب الإمكان.

اطلاق الوكلاء على هؤلاء المذكورين و فيهم من هو تحت ملكه أو ولايته: من عبيد أو أولاد: اطلاق توسعي فالمراد من التعليل المذكور:

لأنهم وكلاء الأجير: أن هنا فرقا بين من يقوم بالعمل الاجاري من باب أنه فرد من أفراد ولاة أهل الجور، أو من المنصوبين عنهم فيه.

و بين الرجل الأجنبي في العمل بأجرة معينة من دون أن يكون واليا أو منصوبا عن السلطان، أو يكون في زمرتهم كهؤلاء المذكورين الذين يقومون بالعمل من قبل انسان فلهذا الانسان القيام بالعمل مباشرة أو توكيلا للغير، أو ولاية على الغير.

و يعبر عن هذا الانسان القائم بالعمل مباشرة، أو توكيلا للغير:

ب: المقاول، أو المتعهد في اللسان الدارج، و في عصرنا الحاضر.

و المقاول هذا يتقبل الأعمال الكبيرة: من بناية الدور، و تعبيد الطرق و مد الجسور، و تبليط الشوارع و الأزقة، و مد الأنابيب و الكهرباء مع المواد و العمل، أو العمل فقط تحت شروط و قيود و تعهدات رسمية:

من حيث المواد و البناء و العمل كما و كيفا.

ص: 40

من (1) عنده، ليس هم بولاة الوالي (2) نظير الحمال الذي يحمل شيئا

++++++++++

- فالحاصل: أن الامام عليه السلام في مقام اعطاء السائل درسا كاملا من هذه الاجارة، حيث إنه عليه السلام يقصد من هذه الجملة: لأنهم وكلاء الأجير من عنده: الشخص المقاول، أو المتعهد الذي يتقبل عملا بالمقاولة و التعهد، أو فقل ب: القنطرات بالاجارة لنفسه، أو لأحد المذكورين من المستأجر الذي يقال له: المقاول له، أو المتعهّد له، ثم يوكّل هؤلاء المذكورين في إنجاز العمل الذي تقبّله لأن يقوم به بشخصه أو أحد المذكورين و لو فضولة، لعلمه بأنهم لا يرفضون العمل الذي تقبّله لهم.

(1) بكسر الميم حرف جر و (عند) بمعنى قبل، و معنى العبارة أن هؤلاء المذكورين يكونون وكلاء الأجير من قبله كما عرفت شرحه في الهامش 2 ص 40.

(2) الظاهر أن هذه الجملة: (ليسوا هم بولاة الوالي) مرفوعة محلا خبر ثان لقوله عليه السلام: (لأنهم وكلاء الأجير)، أي و لأن هؤلاء المذكورين ليسوا بولاة الوالي الجائر، بل وكلاء الأجير الذي يقال له: المقاول، أو المتعهد.

و يحتمل أن تكون الجملة منصوبة محلا على أن تكون حالا لضمير الجمع في (لأنهم) أي حال كون هؤلاء المذكورين ليسوا بولاة والي الجور.

و يحتمل أن تكون الجملة مرفوعة محلا صفة لضمير الجمع في (لأنهم).

و جعل هذه الجملة مرفوعة، أو منصوبة محلا دليل على أن المراد من الأجير في قوله عليه السلام: لأنهم وكلاء الأجير: هو المقاول او المتعهد.

و إنما أتى عليه السلام بهذه الجملة: (ليسوا هم بولاة الوالي) -

ص: 41

معلوما بشيء معلوم (1)، فيجعل (2) ذلك الشيء الذي يجوز له حمله بنفسه، أو بملكه (3)، أو دابته، أو يؤاجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه، أو بمملوكه، أو قرابته، أو بأجير من قبله (4) فهذه وجوه من وجوه الاجارات حلالا لمن كان من الناس ملكا، أو سوقة (5) أو كافرا أو مؤمنا فحلال اجارته، و حلال كسبه من هذه الوجوه.

فأما وجوه الحرام من وجوه الاجارة نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله، أو شربه (6) أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء (7) أو حفظه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا (8)، أو فى قتل النفس

++++++++++

- حتى لا يتخيل أن الأجير من قبل الوالي الجائر و هم وكلاء هذا الوالي و لذا قال عليه السلام: (لأنهم وكلاء الأجير من عنده).

(1) أي بمبلغ معلوم كدينار مثلا.

(2) في (تحف العقول، و الوسائل و المكاسب) و بقية المصادر التي بأيدينا (فيجعل)، و الظاهر أن الصواب: (فيحمل).

(3) كما اذا كانت له سيارة، أو طيارة، و ان أمكن ادخالهما في الدابة

(4) أي يكون الانسان وكيلا في اجارة الغير. فالغير الذي هو الموكل أجير، و الوكيل مؤجر من قبل هذا الغير.

(5) بضم السين و سكون الواو، و فتح القاف: الرعية، و من كان دون الملك.

(6) أو لبسه كما إذا كان الملبوس من الحرير الخالص للرجال أو جلد الميتة.

(7) أي الشيء المحرم أكله، أو شربه.

(8) أي من دون أن يكون في هدمها مصلحة، فلو كان في الهدم مصلحة كتجديد بنائه، أو توسيعه، أو إخراج المنافذ الصحية له -

ص: 42

بغير حق (1) أو عمل التصاوير (2) و الأصنام، و المزامير (3) و البرابط (4) و الخمر (5) و الخنازير (6) و الميتة (7) و الدم (8)، أو شيء (9) من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه من غير جهة الاجارة فيه.

++++++++++

- فلا حرمة فيه.

(1) بخلاف ما إذا كان القتل بحق كالقصاص، فانه لا حرمة فيه

(2) أي عمل التصاوير المحرمة كصناعة تماثيل ذوات الأرواح.

(3) بفتح الميم جمع مزمار بكسر الميم و سكون الزاى: آلة غناء يزمر بها.

و المراد من عمل المزامير صناعتها و استعمالها.

(4) بفتح الباء جمع بربط، بفتح الباء و سكون الراء وزان جعفر:

آلة غناء يضرب بها.

و المراد من عمل البرابط: صناعتها و استعمالها.

(5) بأن يؤجر نفسه لعمله و ايجاده، و شربه، و بيعه.

(6) بفتح الخاء جمع خنزير بكسره بأن يؤجر نفسه لبيعها، أو أكلها.

(7) بأن يؤجر نفسه لبيع الميتة و أكلها.

(8) بأن يؤجر نفسه لبيع الدم و أكله.

و لا يخفى أن الخنازير و الميتة و الدم معطوفات على التصاوير في قوله عليه السلام: أو عمل التصاوير، أي يؤاجر نفسه لعمل هذه الأمور.

(9) بالجر عطفا على مدخول (في الجارة) في قوله عليه السلام:

أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد، أي يؤاجر نفسه في شيء من وجوه الفساد، كشرب البول النجس، أو أكل مال الغير الذي كان الأكل و الشرب عليه محرما قبل اجارة نفسه لهذا العمل، لأن حرمته ذاتية.

و هذا معنى قوله عليه السلام: كان محرما عليه من غير جهة الاجارة.

ص: 43

و كلّ (1) أمر منهي عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الانسان اجارة نفسه فيه (2)، أو له (3)، أو شيء منه (4)، أو له (5)

++++++++++

(1) بالرفع مبتدأ خبره (فمحرم عليه) و الواو استئنافية و دخول الفاء على الخبر هنا لأجل كون المبتدأ في معنى الشرط و إنما أتى عليه السلام بهذه الجملة المستأنفة، لعدم استفادة حرمة الاجارة على المحرمات من جميع الجهات. من الجملة السابقة.

و معناها: أن اجارة الانسان نفسه لايجاد محرم في الخارج كشرب الخمر مثلا تكون محرمة.

(2) أي في هذا الأمر المنهي عنه من جهة من الجهات.

(3) أي لأجل غرض ايجاد المنهي عنه في الخارج كما لو آجر نفسه لحمل العنب بشرط أن يجعله خمرا.

فنفس الاجارة واقعة على الفعل المباح و هو حمل العنب.

لكن الغاية المترتبة عليها: و هو جعل العنب خمرا محرمة فالاجارة تكون محرمة أيضا بسبب تلك الغاية.

(4) بجر شيء عطفا على مدخول (في الجارة) في قوله عليه السلام:

اجارة نفسه فيه. فالمعنى: أنه يحرم على الانسان اجارة نفسه في ايجاد بعض المنهي عنه كما في (عامل المطبعة) فإنه يرتب الحروف للكتب المفيدة التي لا تضر بالدين.

و يرتب الحروف للكتب المضلة و المضرة للدين فاجارة نفسه لهذا القسم من ترتيب الحروف حرام.

(5) أي لغرض ايجاد الحرام.

فتمام هذه الأقسام من الاجارات، سواء أ كان فيها ايجاد تمام المنهي عنه أم بعضه، و سواء أ كان الغرض من الاجارة ترتب تمام المنهي عنه -

ص: 44

إلا (1) لمنفعة من استأجرته كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها (2) عن أذاه (3)، أو أذى غيره، و ما أشبه ذلك إلى أن قال: و كل من آجر نفسه، أو ما يملك، أو يلي أمره من كافر، أو مؤمن، أو ملك أو سوقة على ما فسرناه مما تجوز الاجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.

و أما تفسير الصناعات فكل ما يتعلم العباد، أو يعلّمون غيرهم من أصناف الصناعات مثل الكتابة و الحساب، و التجارة و الصياغة و البناء و الحياكة و السراجة (4) و القصارة (5) و الخياطة، و صنعة (6) صنوف التصاوير

++++++++++

- أم بعضه: حرام.

هذه غاية ما يمكن في توجيه هذه الجملة من الحديث الشريف.

(1) استثناء من قوله عليه السلام: فمحرم على الانسان اجارة نفسه فيه، أو له، أو شيء منه، أو له.

فالمعنى: أن الاجارة اذا كانت لمنفعة مباحة للمستأجر نفسه، أو لغيره فانها جائزة لا محالة كما مثل لها بحمل الميتة لدفع أذاها عن نفسه، أو غيره

(2) أي يبعدها حتى لا يتأذى هو، أو غيره منها.

(3) المصدر مضاف إلى الفاعل، أي من تأذي شخصه.

(4) بكسر السين و تخفيف الراء: حرفة السراج، اي من يصنع السرج للفرس و البغل و الحمير.

(5) بكسر القاف و تخفيف الصاد: حرفة القصار، اي من يبيّض الثياب و ينقيها من الأوساخ، و هو بياض خاص كما في عصرنا الحاضر حيث يبيضون ثيابهم بمسحوق خاص بعد غسلها، و ازالة الوساخة عنها.

(6) بالجر عطفا على المضاف إليه في قوله عليه السلام: مثل الكتابة اي و مثل صنعة أقسام التصاوير.

ص: 45

ما لم تكن (1) مثل (2) الروحاني، و أنواع (3) صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد منها منافعهم، و بها قوامهم (4) و فيها بلغة (5) جميع حوائجهم فحلال فعله و تعليمه و العمل به (6) و فيه (7) لنفسه (8)، او لغيره و ان كانت تلك الصناعة، و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي، و تكون معونة على الحق و الباطل (9) فلا بأس بصناعته

++++++++++

(1) اي التصاوير.

(2) بضم الميم و الثاء: جمع مثال، وزان سرج و سراج، و حجب و حجاب، فهو منصوب، بناء على أنه خبر لكان في قوله عليه السلام:

لم تكن.

و المراد من المثل: الهياكل التي تمثل ذوات الأرواح كالحيوانات و الحشرات.

و المعنى: انه يجوز تعليم صنعة التصاوير اذا لم تكن على نحو التماثيل.

(3) بالجر عطفا على المضاف إليه في قوله عليه السلام: مثل الكتابة اي و مثل أنواع صنوف الآلات.

(4) كآلات الكتابة و الطباعة و النجارة و البناية، و أثاث البيت.

(5) بضم الباء و سكون اللام و فتح الغين بمعنى الكفاية من العيش.

و المراد منها هنا: مقدار الكفاية من الحوائج الضرورية البيتية.

(6) اي استعمال تلك الآلة.

(7) اي ايجاد تلك الآلة تسبيبا، أو مباشرة.

(8) الجار و المجرور متعلق بقوله عليه السلام: فحلال أي فحلال فعله و تعليمه، و العمل به لغيره.

(9) أما الحق فكاستعمال السكين مثلا في الحوائج الضرورية الحياتية و أما الباطل فكاستعماله في قتل الانسان ظلما.

ص: 46

و تقلبه (1) نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد تقوية و معونة (2) لولاة الجور.

و كذلك السكين (3) و السيف و الرمح و القوس، و غير ذلك من وجوه الآلات التي تصرف الى وجوه الصلاح، و جهات الفساد و تكون آلة و معونة عليهما (4) فلا بأس بتعليمه و تعلمه، و اخذ الأجر عليه و العمل به (5) و فيه (6) لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق (7) و محرّم عليهم تصريفه الى جهات الفساد و المضار فليس على العالم، و لا المتعلم إثم و لا وزر، لما فيه (8) من الرجحان في منافع جهات صلاحهم، و قوامهم و بقائهم، و انما الإثم و الوزر على المتصرف فيه في جهات الفساد و الحرام

++++++++++

(1) مرجع الضمير في صناعته و تقلبه: (فاعل تلك الصناعة، و تلك الآلة) فالمصدر مضاف الى فاعله، اي فلا بأس بصناعة الانسان هذه الآلة التي قد يستعان بها على وجوه الفساد و المعاصي.

و كذا لا بأس باستعمال الانسان هذه الآلة أيضا.

(2) تقوية و معونة منصوبتان على المفعول لأجله، اي نظير الكتابة التي تكون لغرض تقوية الجور، و معونتها على الفساد.

(3) اي و كذلك لا بأس باستعمال السيف و السكين و أمثالهما مما يستعمل للفساد تارة، و للصلاح اخرى.

(4) اي على الفساد و الصلاح كما علمت آنفا.

(5) اي استعمال تلك الآلة التي قد يستعان بها على الحرام.

(6) اي ايجاد تلك الآلة في الخارج تسبيبا، أو مباشرة.

(7) اي سواء أ كان مسلما أم كافرا.

(8) تعليل لعدم وجود الإثم و المعصية لمن يتعلم صنعة الآلة، أو يستعملها أو يعلّم الغير.

ص: 47

و ذلك (4) (*) انما حرم اللّه الصناعة التي هي حرام كلها التي يجيء منها الفساد محضا (1) نظير البرابط و المزامير و الشطرنج (2)، و كل ملهو به و الصلبان (3) و الأصنام (5) (*)، و ما اشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام

++++++++++

(*) تعليل ثان لعدم وجود الإثم و الوزر في تعلم تلك الآلة، و تعليم الغير.

(1) اي ليس فيها أية جهة من جهات الصلاح.

(2) بكسر الشين و فتحها، و الكسر اكثر، بناء على تعريبه: كلمة فارسية معربة (شش رنگ) اي ذات الوان ستة، لأن هذا اللعب له ستة اصناف من القطع التي يلعب بها، فكل قطعة لها لون خاص، و اسم مخصوص

أليك اسماءها:

(الأول): الشاه و هو الملك.

(الثاني): الفرزان. و هي الملكة.

(الثالث): الفيل و هو الحيوان المعروف.

(الرابع): الفرس و هو الحيوان المعروف.

(الخامس): الرخ طائر كبير و همي: جمعه رخاخ: و هي القطعة من قطع الشطرنج.

(السادس): البيذق هو الماشي راجلا و منه بيذق الشطرنج.

(3) بضم الصاد و سكون اللام: جمع (صليب): و هو هيكل مربع يكون على شكل خطين متقاطعين اتخذه النصارى رمزا و شعارا لهم لأنهم يزعمون أنها الخشبة التي صلب عليها (عيسى بن مريم) عليهما السلام هكذا شكله: +.

(*) بفتح الهمزة جمع (صنم) و هو الذي يصنع من الحجر او الصفر مصورا.

ص: 48

و ما يكون منه و فيه (1) الفساد محضا، و لا يكون منه، و لا فيه شيء من وجوه الصلاح: فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به، و أخذ الأجرة عليه و جميع التقلب (2) فيه من جميع وجوه الحركات، إلا أن يكون (3) صناعة قد تصرف إلى جهة المنافع، و ان كان قد يتصرف فيها و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي فلعلة ما فيه من الصلاح حل تعلّمه و تعليمه، و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحق و الصلاح.

فهذا تفسير بيان وجوه اكتساب معايش العباد، و تعلمهم في وجوه اكتسابهم الى آخر الحديث المنقول عن تحف العقول المشار إليه في ص 23 الى 33.

و حكاه (4) غير واحد عن رسالة المحكم،

++++++++++

- بخلاف الوثن فإنه يصنع من الخشب، أو الحجر، أو الفضة أو الذهب غير مصوّر.

(1) الفرق بين الأول: و هو (ما يكون منه الفساد محضا).

و بين الثاني: و هو (ما يكون فيه الفساد محضا):

هو أن الأول منشأ للفساد و مقدمة له، و ليس في وجوده الفساد.

و أن الثاني علة تامة للفساد، و في وجوده الفساد.

مثال الأول: (السينما و التلفزيون) فإنهما منشئان للفساد، و مقدمتان له، و ليس في وجودهما الفساد.

مثال الثاني: (الخمر و الأصنام و الأفلام الخلاعية) فإن فيها الفساد و أنها علة تامة له.

(2) أي جميع استعمالاته

(3) أي ذلك الشيء.

(4) أي حكى حديث تحف العقول كثير من الأعلام.

ص: 49

و المتشابه (1) للسيد قدس سره.

فقه الرضا

و في الفقه (2) المنسوب إلى مولانا الرضا صلوات اللّه.

++++++++++(1) هذه الرسالة (لعلم الهدى السيد المرتضى) أعلى اللّه مقامه ذكرها الاستاذ (رشيد الصفار) في مقدمة (ديوان المرتضى) ص 120 بقوله: رسالة في المحكم و المتشابه منقول من تفسير النعماني.

و ذكرها أيضا (صاحب الحدائق) في (لؤلؤة البحرين) ص 322

و ذكرها (العلامة المجلسي) في (بحار الأنوار في مجلد القرآن)

و ذكرها (صاحب الذريعة إلى تصانيف الشيعة) في الجزء 4 ص 120

و ذكرها (العلامة النوري) في (مستدرك وسائل الشيعة) المجلد 3 ص 120.

و كل هؤلاء الأعلام يذكرون الكتاب عن (تفسير النعماني) عند شرح حياته.

و الكتاب طبع (بإيران) الطبعة الحجرية سنة 1312.

أما المؤلف فيأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(2) (فقه الرضا):

اختلفت الآراء و الأقوال حول الكتاب في صحة انتسابه إلى الإمام الرضا عليه السلام، و نفيه عنه:

1 - ذهب العلامة المجلسي، و والده العظيم(1)، و السيد بحر العلوم -

ص: 50


1- بحار الأنوار الطبعة الحديثة: الجزء الأول ص 11-12. بل قيل: إن المجلسيين أظهرا الكتاب، و لم يكن قبل ذلك أثر منه.

..........

++++++++++

- و الفاضل الهندي و صاحب الحدائق: و صاحب الرياض، و الوحيد البهبهاني: إلى صحة الانتساب، و أنه من منشئاته عليه السلام.

و قد حقق شيخنا النوري في مستدرك وسائل الشيعة: المجلد 3 ص 336-361 تحقيقا مسهبا، و أثبت صحة الانتساب إليه عليه السلام.

2 - ذهب صاحب الوسائل، و صاحب تحفة الأبرار، و صاحب الفصول، و صاحب الروضات، إلى أن المؤلّف مجهول.

3 - و ذهب صاحب رياض العلماء، - و ينقل هذا الرأي عن شيخه الاستاذ - و السيد حسين القزويني: إلى أنه رسالة علي بن موسى بن بابويه القمي (والد الصدوق) إلى ولده، و انتسابه إلى الرضا عليه السلام نشأ من اشتراك اسمه مع اسم الإمام عليه السلام(1).

4 - و أخيرا ذهب المحقق البارع سيدنا السيد حسن الصدر إلى عدم صحة الانتساب، و ألّف في ذلك رسالة مستقلة سمّاها: فصل القضاء في الكتاب المشتهر ب: فقه الرضا.

و أثبت أن الكتاب هو نفس كتاب «التكليف» لمحمد بن علي الشلمغاني - الذي وردت التوقيعات الشريفة من الناحية المقدسة بلعنه -

و دليله على ذلك ملخصا: أن الشلمغاني قد تفرد بنقل أحاديث لم توجد في أي كتاب من كتب الحديث، و لأجل ذلك حينما عرض كتابه «التكليف» إلى باب الحجة أبي القاسم حسين بن روح النوبختي، قال في حقه: إن أحاديثه صحيحة إلا موضعين أو ثلاثة منها.39

ص: 51


1- اعتمدنا في نقل هؤلاء الأعلام على: «المستدرك: المجلد 3 ص 336-339

و سلامه عليه (1).

اعلم يرحمك اللّه أن كل مأمور به (2) على العباد، و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره مما يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون، و يملكون و يستعملون فهذا كله حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته.

و كل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه بوجه الفساد مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش، و لحوم السباع و الخمر، و ما أشبه ذلك فحرام ضار للجسم (3) انتهى.

حديث دعائم الإسلام

و عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن مولانا الصادق عليه السلام إن الحلال من البيوع كلما كان حلالا من المأكول و المشروب، و غير ذلك مما هو قوام للناس، و يباح لهم الانتفاع، و ما كان محرما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه (4) انتهى.

++++++++++

- و قد عثر سيدنا السيد الصدر على هذه المواضع الثلاثة - في باب الشهادات و تحديد الكر، و إجزاء غسل الرجلين في الوضوء عند نسيان المسح - في الكتاب المشتهر ب: فقه الرضا، و استنتج من ذلك كله أن الكتاب هو نفس كتاب «التكليف» للشلمغاني.

(1) راجع (مستدرك الوسائل)، الجزء 2، ص 425، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به. الحديث 1.

(2) في المصدر: مما هو منّ .

(3) في المصدر: و فساد للنفس.

(4) راجع (دعائم الإسلام)، الجزء 2، طبعة (مصر) سنة 1385، تحقيق (آصف بن علي أصغر فيضي) ص 18، رقم الحديث 23.

ص: 52

النبوي المشهور

و في النبوي المشهور إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه (1).

إذا عرفت ما تلوناه، و جعلته في بالك متدبرا لمدلولاته.

++++++++++

- لكن المذكور هنا مخالف مع مصدره.

إليك نص الحديث المذكور هناك:

عن (جعفر بن محمد) عليهما السلام أنه قال: الحلال من البيوع كل ما هو حلال من المأكول و المشروب، و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به.

و ما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه، و لا شراءه.

و أما دعائم الإسلام فموسوعة في الأحاديث المأثورة عن (أئمة أهل البيت) عليهم الصلاة و السلام في معرفة الحلال و الحرام، و القضايا و الأحكام في الفقه (الشيعي الامامي).

و كل ما في الكتاب من الأحاديث مطابقة لما في الكتب الأربعة (الكافي من لا يحضره الفقيه، التهذيب، الاستبصار).

الّف الكتاب أيام (الدولة الفاطمية) بمصر، و نال مصنفه بذلك مرتبة سامية رفيعة عندهم، و حاز شهرة عظيمة في شرق البلاد و غربها.

كان المصنف شيعيا اماميا فأظهر الحق تحت ستار التقية، و كانت السلطة المذهبية للإسماعيلية في تلك الديار، حيث كانت ملوك الفاطميين معتنقين للمذهب.

اعتمد علماء (الطائفة الإمامية) على الكتاب و أثنوا عليه، و على مؤلفه ثناء بليغا.

و طبع الكتاب أولا في عام 1370 بمصر مع مقدمة محتوية على حياة المؤلف بقلم (الدكتور محمد كامل حسين).

(1) (مستدرك وسائل الشيعة). المجلد 2، ص 427. الباب 6.

الحديث 8.

ص: 53

أقسام المكاسب

اشارة

فنقول: قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب إلى محرم و مكروه و مباح (1)، مهملين (2) للمستحب و الواجب، بناء على عدم وجودهما في المكاسب، مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة و الرعي مما ندب إليه الشرع (3)، و للواجب بالصناعة،

++++++++++

(1) أي مكسب حرام، و مكسب مكروه، و مكسب مباح.

(2) حال للفقهاء المستفاد من قوله قدس اللّه روحه: و قد جرت عادة غير واحد.

(3) أليك الأحاديث الواردة في الزراعة عن يزيد بن هارون الواسطي قال: سألت (جعفر بن محمد) عليهما السلام عن الفلاحين.

فقال: هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه، و ما في الأعمال شيء أحب إلى اللّه من الزراعة، و ما بعث اللّه نبيا إلاّ زرّاعا، إلا ادريس عليه السلام فإنه كان خياطا.

الوسائل طبعة (طهران) سنة 1382. الجزء 12. ص 25 الحديث 3.

و عن سيابة عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام قال: سأله رجل فقال له: جعلت فداك اسمع قوما يقولون: إن الزراعة مكروهة.

فقال له: ازرعوا و أغرسوا فلا و اللّه ما عمل الناس عملا أحل و لا أطيب منه الى آخر الحديث.

نفس المصدر. الجزء 13، ص 193، الحديث 1.

و الأخبار الواردة في استحباب الزراعة كثيرة راجع نفس المصدر تجد هناك بابا مستقلا فيه.

و أما الأخبار الواردة في استحباب الرعي، إليك بعضها:

عن محمد بن عطية قال: سمعت (أبا عبد اللّه) عليه السلام يقول:

إن الله عز و جل أحبّ لأنبيائه من الأعمال: الحرث. و الرعي، لئلا -

ص: 54

الواجبة (1) كفاية خصوصا إذا تعذر قيام الغير به (2) فتأمل (3).

و معنى حرمة الاكتساب حرمة النقل و الانتقال (4) بقصد ترتب

++++++++++

- يكرهوا شيئا من قطر السماء.

البحار: الطبعة القديمة للمرحوم الحاج محمد حسين أمين الضرب الجزء 23 ص 19. الباب 10.

و عن عقبة عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام قال: ما بعث اللّه نبيا قط حتى يسترعيه الغنم، و يعلّمه بذلك رعيه الناس.

نفس المصدر. الجزء 5. ص 18.

و قال صلى اللّه عليه و آله: ما من نبي إلا و قد رعى الغنم.

قيل: و أنت يا رسول اللّه ؟ قال: و أنا.

نفس المصدر. الجزء 14. ص 683. باب أحوال الأنعام.

(1) كالواجبات الكفائية التي تتوقف عليها حياة البشر.

(2) أي بالواجب فحينئذ يجب على المكلف القيام بتلك الصناعة.

(3) اشارة الى إمكان الخدشة في تمثيل الواجب من المكاسب:

بالواجبات الكفائية، لأنها حينئذ واجبات بالعناوين الثانوية، و كلامنا إنما هو في الواجب الذاتي، و لا مثال له في المكاسب.

اللهم إلا في مثل الولاية للإمام عليه السلام.

و يحتمل أن يكون اشارة الى إمكان الخدشة في استحباب الزراعة و الرعي، لأن استحبابهما انما يصح لو كان لأجل التكسب و التعيش بهما و هو ممنوع، لاحتمال كون الاستحباب لأجل الرفاهية و التوفير على الناس و الرفق على البهائم، و الرخص في أسعار الزراعة.

(4) أي نقل المكلف العين الى غيره، سواء أ كان بقصد البيع أم الهبة أم غيرهما، و الانتقال من لوازم النقل فهو مطاوع لصيغة النقل -

ص: 55

الأثر المحرم (1)

و أما حرمة أكل المال في مقابلها (2) فهو متفرع على فساد البيع لأنه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي و ان قلنا بعدم التحريم (3) لأن ظاهر أدلة تحريم بيع مثل الخمر منصرف الى ما لو أراد ترتيب الآثار المحرمة (4)، أما لو قصد الأثر المحلل فلا دليل على تحريم المعاملة إلا (5) من حيث التشريع.

فالاكتساب المحرم أنواع

اشارة

و كيف كان فالاكتساب المحرم أنواع، نذكر كلا منها في طي مسائل.

++++++++++

- مثل الكسر و الانكسار فاذا حرم النقل لا يحصل الانتقال و ان قصده المكلف(1) لا توجد هذه الكلمة في أغلب النسخ: و الظاهر زيادتها، لعدم اختلال المعنى على تقدير عدم وجودها، لأنك عرفت أن الأثر و هو النقل و الانتقال لا يترتبان بعد الحكم بحرمة الاكتساب.

(2) أي في مقابل الأعيان التي قصد نقلها على الوجه المحرم.

(3) أي بعدم تحريم النقل من يد الى يد اخرى.

و لا يخفى: أن عدم تحريم النقل انما هو في بعض الموارد، لا في كلها كما اذا لم يقصد المشتري من شراء الخمر الشرب، بل يقصد الإتلاف أو المداواة.

(4) مثل الشرب، أو الإشراب.

(5) الظاهر: أن (الشيخ) رحمه اللّه ناظر الى أن مثل هذه المعاملة لا تكون محرمة ذاتا، لعدم الدليل عليها.

نعم إنها مشكوكة من حيث إمضاء الشارع لها فإسنادها إليه تشريع محرم، و داخل في قوله عز من قائل: «قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ » (1).

ص: 56


1- يونس: الآية 59.

النوع الأول الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني

اشارة

الأول (1) الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني،

فيه مسائل ثمان
اشارة

و فيه (2) مسائل ثمان.

المسألة الأولى يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم بلا خلاف
اشارة

(الأولى). (3) يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم بلا خلاف ظاهر، لحرمته (4)، و نجاسته (5)، و عدم (6)، الانتفاع به منفعة محللة مقصودة فيما عدا (7) بعض أفراده، كبول الإبل

++++++++++

(1) صفة للنوع، أي النوع الأول الاكتساب بالأعيان النجسة سواء أ كانت نجاستها ذاتية أم عرضية.

(2) أي و في النوع الأول.

(3) أي المسألة الأولى من المسائل الثمان.

(4) تعليل لحرمة المعاوضة على بول غير مأكول اللحم، و مرجع الضمير: الشرب.

(5) بالجر عطفا على مدخول (لام الجارة) أي و لنجاسة بول غير مأكول اللحم، فهو دليل ثان لحرمة المعاوضة على هذا البول.

(6) بالجر عطفا على مدخول (لام الجارة) أيضا، أي و لعدم وجود الانتفاع في هذا البول منفعة محللة مقصودة عند العقلاء، فهو دليل ثالث لحرمة المعاوضة على هذا البول.

و المراد من المعاوضة عليه: تبادل العين و الثمن عليه كالبيع، و الصلح و الهبة المعوضة.

و يظهر من كلامه رحمه اللّه: أن الهبة غير المعوضة، و التمليك المجاني و الهدية لا تكون محرمة، لأنها غير معاوضة.

(7) استثناء من الحكم الكلي الذي أفاده في البول: (و هي حرمة المعاوضة عليه)، فالمعنى: أنه يستثنى من البول المحرم بيعه: بعض أفراد هذا البول إن كان فيه منفعة محللة مقصودة كالتداوي به لبعض الأمراض -

ص: 57

الجلاّلة (1)، أو الموطوءة.

فرعان
الأول ما عدا بول الإبل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارتها

فرعان: الأول ما عدا بول الإبل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارتها (2) عند المشهور إن قلنا بجواز شربها اختيارا كما عليه: جماعة من القدماء و المتأخرين، بل عن المرتضى دعوى الإجماع عليه فالظاهر (3) جواز بيعها.

و إن قلنا بحرمة شربها كما هو مذهب جماعة أخرى، لاستخباثها ففي جواز بيعها قولان، من (4) عدم المنفعة المحللة المقصودة فيها

++++++++++

- كما هو المتعارف عند العطارين، فيبذل في شرائه و المعاوضة عليه الدراهم و الدنانير.

(1) الإبل الجلاّلة، و البهيمة الموطوءة مثالان لما يحرم المعاوضة على بولهما، لا أنهما مثالان للمستثنى في قوله: فيما عدا بعض أفراده.

و لا يخفى: أن ذكر الإبل الجلاّلة إنما هو للمثال، و إلا فكل جلاّل من الأنعام الثلاثة حكمه كذلك.

و الكلام في البهيمة الموطوءة أيضا كذلك. و لا يخفى أيضا: أن حرمة الإبل الجلاّلة، و البهيمة الموطوءة حرمة عرضية، لا ذاتية، لأنهما في الأصل قبل أكل العذرة في الجلاّلة، و قبل الوطي في الموطوءة محللتان تجوز المعاوضة عليهما، لكن بسبب العارض و هو الأكل، أو الوطي حرمت المعاوضة عليهما، كما حرمت على الكلب و الخنزير حرمة ذاتية.

(2) أي طهارة أبوال ما يؤكل لحمه.

(3) جواب للشرط المتقدم في قوله رحمه اللّه: (إن قلنا بجواز شربها اختيارا).

(4) دليل لعدم جواز بيع أبوال ما يؤكل لحمه، مع الحكم بطهارة تلك الأبوال

ص: 58

و المنفعة (1) النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شيء.

و التداوي (2) بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسه على الأدوية و العقاقير، لأنه يوجب قياس كل شيء عليها (3) للانتفاع به في بعض الأوقات، و من أن (4) المنفعة الظاهرة و لو عند الضرورة المسوغة للشرب (5)

++++++++++

(1) دفع وهم. حاصل الوهم: أن للأبوال منافع نادرة في بعض الأحيان و هذه المنافع هي الموجبة لجواز بيعها.

فأجاب (الشيخ) رحمه اللّه عن الوهم بما حاصله: أن المنفعة النادرة لو كانت مجوزة للبيع لسرى هذا الملاك في كل شيء محرم بيعه و لجاز المعاوضة عليه اذا كان فيه منفعة نادرة محلّلة و لو منفعة ما، لأنه ما من شيء إلا و له منفعة نادرة محلّلة.

(2) دفع وهم آخر. حاصل الوهم: أن أبوال ما يؤكل لحمه قد يتداوى بها في بعض الأحيان كالأدوية و العقاقير فكما أن المعالجة بالأدوية و العقاقير موجبة لجواز بيعها و المعاوضة عليها، كذلك فيما نحن فيه، فإن هذا التداوي موجب لجواز بيع الأبوال، و المعاوضة عليها.

فأجاب (الشيخ) رحمه اللّه بما حاصله: إن وجود منفعة نادرة في الأبوال في بعض الأحيان لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير التي منافعها مخصوصة بصورة الاضطرار، لأنه لو جاز هذا القياس لم يبق شيء يحرم بيعه بعد إمكان فرض منفعة و لو كانت نادرة في كل شيء على الإطلاق.

(3) أي على الأدوية و العقاقير لو قلنا بالتداوي بالأبوال في بعض الأحيان.

(4) دليل لجواز بيع أبوال ما يؤكل لحمه، مع الحكم بطهارة تلك الأبوال.

(5) كما إذا انحصر العلاج في دفع المرض بأبوال ما يؤكل لحمه -

ص: 59

كافية في جواز البيع.

و الفرق (1) بينها، و بين ذي المنفعة الغير المقصودة: حكم العرف بأنه لا منفعة فيه، و سيجيء الكلام في ضابطة المنفعة المسوغة للبيع

نعم (2) يمكن أن يقال: إن قوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه

++++++++++

- أو توقفت حياة الانسان على شربها كما لو لم يوجد هناك ماء.

(1) مبتدأ خبره قوله: حكم العرف به.

دفع وهم حاصل الوهم: أنه ما الفرق بين هذه الأبوال التي لها منفعة ظاهرة و لو عند الضرورة فيحكم بجواز بيعها، و المعاوضة عليها.

و بين الأبوال التي لها منافع غير مقصودة فلا يحكم بجواز بيعها، و صحة المعاوضة عليها.

فأجاب (الشيخ) رحمه اللّه: أن الفارق بين هذه و تلك: نظر العرف، حيث يرى منفعة العقاقير و البول التي هي مخصوصة بحالة الاضطرار: منفعة ظاهرة مقصودة عقلائية، و لا يرى في تلك المنفعة منفعة ظاهرة مقصودة للشيء بقول مطلق.

و مرجع الضمير في (بينها): أبوال ما يؤكل لحمه التي يجوز بيعها و صحة المعاوضة عليها.

(2) استدراك عما أفاده (شيخنا الأنصاري) رحمه اللّه في جواز بيع أبوال ما يؤكل لحمه إن قلنا بجواز شربها اختيارا.

خلاصة الاستدراك: أن الحديث الوارد عن النبي صلى اللّه عليه و آله (إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه) المذكور في (مستدرك وسائل الشيعة) المجلد 2 ص 426 الحديث 2، و الحديث المذكور في (دعائم الاسلام) المشار إليه في الهامش 4 ص 52 في قوله عليه السلام: و ما كان محرّما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه: يدلان على أن القاعدة في المنع عن بيع -

ص: 60

إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه (1). و كذلك الخبر المتقدم عن دعائم الإسلام (2) يدل على أن ضابطة المنع تحريم الشيء اختيارا، و إلا فلا حرام إلا و هو محلل عند الضرورة، و المفروض حرمة شرب الأبوال اختيارا و المنافع الأخر غير الشرب لا يعبأ بها جدا فلا ينتقض بالطين (3) المحرّم أكله، فان المنافع الأخر للطين أهم و أعم من منفعة الأكل المحرم.

++++++++++

- الشيء: هو تحريم بيع ما يحرم في حالة الاختيار، لا في حالة الاضطرار و لا كلام في جواز شربه في هذه الحالة، و إنما يحرم شرب هذه الأبوال اختيارا، فإذا حرم استعمال الشيء اختيارا حرمت المعاوضة عليه مطلقا.

لا يقال: إن لأبوال ما يؤكل لحمه منافع أخر غير الشرب كالتداوي بها. فهذه المنافع هي الموجبة لجواز بيعها، و المعاوضة عليها.

فإنه يقال: إن هذه المنافع المزعومة لا تعد منافع، بل منافعها الشرب فحسب، لأن منفعة كل شيء بحسبه

(1) المشار إليه في الهامش 1 ص 53.

(2) المشار إليه في الهامش 4 ص 52.

(3) دفع وهم حاصل الوهم: أن الطين مما يحرم أكله، و لكن يجوز بيعه و المعاوضة عليه، لوجود منافع أخرى فيه.

فهذه المنافع هي التي أوجبت جواز بيعه، فالملاك بعينه موجود في هذه الأبوال فلم لا يجوز بيعها، و المعاوضة عليها.

فأجاب (الشيخ) رحمه اللّه بما حاصله: إن الأكل ليس من المنافع المهمة و الغالبة في الطين، بل الأكل لا يعد من منافعه أصلا، و إنما منافعه المهمة: كونه من المواد البنائية.

إذا لا تنتقض الأبوال بالطين فهي باقية على حرمة بيعها، و عدم جواز المعاوضة عليها.

ص: 61

بل لا يعد الأكل من منافع الطين فالنبوي (1) دال على أنه إذا حرّم اللّه شيئا بقول مطلق (2) بان قال: يحرم الشيء الفلاني (3) حرم (4) بيعه لأن تحريم عينه إما راجع إلى تحريم جميع منافعه، أو الى تحريم أهم منافعه التي يتبادر عند الاطلاق بحيث يكون غيره (5) غير مقصود منه (6).

و على التقديرين (7) يدخل الشيء (8) لأجل ذلك (9) فيما لا ينتفع به منفعة محللة مقصودة، و الطين لم يحرم كذلك (10)، بل لم يحرم إلا بعض منافعه الغير المقصودة منه و هو الأكل، بخلاف الأبوال فإنها حرمت

++++++++++

(1) المشار إليه في الهامش 1 ص 53.

(2) أي ورد التحريم فيه مطلقا، من دون أن يقيد بقيد الأكل أو الشرب، أو استعمال آخر.

بل التحريم ورد هكذا: هذا الشيء حرام فحينئذ يحرم بيعه في جميع الحالات: سواء أ كان التحريم راجعا إلى جميع منافعه أم إلى أهمها.

(3) هذه الجملة: و هو (بأن قال: يحرم الشيء الفلاني) هو التحريم المطلق في قوله: إذا حرّم اللّه شيئا بقول مطلق.

(4) جواب (إذا الشرطية) في قوله: إذا حرم اللّه شيئا.

(5) أي غير المتبادر، و المتبادر هي المنافع المهمة.

(6) أي من الإطلاق، بل المقصود هي المنافع المهمة.

(7) و هما: رجوع تحريم العين الى جميع المنافع.

أو رجوع التحريم الى أهم المنافع.

(8) و هو الشيء المحرم في قوله: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.

(9) و هو التحريم المطلق الذي لم يقيد بقيد، لا بقيد الأكل، و لا بقيد الشرب، و لا بغيرهما.

(10) أي بقول مطلق، بل إنما حرم مقيدا بالأكل كما دل عليه -

ص: 62

كذلك (1) فيكون التحريم راجعا الى شربها، و غيره (2) من المنافع في حكم العدم.

و بالجملة فالانتفاع بالشيء حال الضرورة منفعة محرمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه.

و لا ينتقض (3) أيضا بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل

++++++++++

- النص، دون منافعه الأخر: و هي المنفعة العمرانية.

راجع (الكافي) طبعة (طهران) سنة 1379، الجزء 6 ص 265 الحديث 4. أليك نصه:

عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام قال: إن اللّه عز و جل خلق آدم من الطين فحرّم أكل الطين على ذريته.

(1) أي جميع منافعها المقصودة، و غيرها بقول مطلق كما عرفت.

(2) أي و غير الشرب من منافعها الأخرى كالتداوي، فإنها لا تعد منافع.

(3) دفع وهم حاصل الوهم: أن الأدوية المضرة للبدن يحرم شربها حالة الصحة و الاختيار، لكن يجوز شربها حالة المرض و الاضطرار فيجوز بيعها، و المعاوضة عليها في تلك الحالة، فلم لا تقولون بجواز بيع أبوال ما يؤكل لحمه حالة الاضطرار، فعدم جواز بيعها منتقض بالأدوية في تلك الحالة، فإنها جائزة الاستعمال فيجوز بيعها مطلقا، نظرا لذلك.

فأجاب رحمه اللّه بما حاصله: إن جواز بيع الأدوية في تلك الحالة ليس لأجل الضرورة و اقتضائها حتى يقال بصحة بيع أبوال ما يؤكل لحمه في تلك الحالة.

بل الجواز لأجل تبدل عنوان الإضرار بعنوان النفع و الفائدة. فنفس التبدل هو الموجب لجواز بيعها في تلك الحالة، و الأبوال ليس فيها ذلك -

ص: 63

الاضرار، و لأن (1) حلية هذه في حال المرض ليست لأجل الضرورة بل لأجل تبدل عنوان الإضرار بعنوان النفع.

و مما ذكرنا (2) يظهر أن قوله عليه السلام في رواية تحف العقول المتقدمة (3) و كل شيء يكون فيه الصلاح من جهة من الجهات: يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار، دون الضرورة.

و مما ذكرنا (4) يظهر حرمة بيع لحوم السباع، دون شحومها، فان الأول (5) من قبيل الأبوال، و الثاني (6) من قبيل الطين في عدم حرمة

++++++++++

- التبدل حتى يقال بصحة بيعها، و جواز المعاوضة عليها.

(1) جواب عن الوهم المذكور: أي حلية الأدوية المضرة حالة الصحة التي هي مقيد حال المرض.

(2) و هو انصراف حرمة الشيء بقول مطلق الى منافعه المتبادرة عند الإطلاق كما في قوله عليه السلام: إن اللّه اذا حرّم شيئا بقول مطلق حرّم ثمنه، أي جميع منافعه، سواء أ كانت في حالة الاضطرار أم في حالة الاختيار.

(3) المشار إليها في ص 24 الى 37.

(4) و هو انصراف حرمة الشيء بقول مطلق الى منافعه المتبادرة عند الإطلاق كما في قوله عليه السلام: إن اللّه اذا حرم شيئا حرم ثمنه أي جميع منافعه.

(5) و هو لحوم السباع، فإنها من قبيل الأبوال، حيث إن تحريم الأبوال كان بقول مطلق.

فكذلك لحوم السباع، فإن التحريم فيها بقول مطلق أيضا.

(6) و هي شحوم السباع، فإن المحرم أكلها، دون بقية الاستعمالات الأخرى فإنها جائزة، فكما أن الطين له منافع أخرى أهم و أعم من منفعة -

ص: 64

جميع منافعها المقصودة منها.

و لا ينافيه (1) النبوي: لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها، لأن الظاهر أن الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات، لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا (2). هذا (3).

و لكن (4) الموجود من النبوي في باب الأطعمة

++++++++++

- الأكل، بل الأكل كما عرفت لا يعد من منافعه.

كذلك الشحوم فإن لها منافع أخرى هي المتبادرة منها. كالتداوي و الإطلاء، و صناعة الصابون، دون الأكل.

(1) أي و لا ينافي الحديث الثامن في (مستدرك الوسائل) المجلد 2 ص 427، الباب: 6 عن الرسول الأعظم صلى اللّه عليه و آله: (لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها): ما قلناه سابقا في الشحوم:

من أنها كالطين في حلية سائر منافعها المذكورة التي هي المتبادرة منها، دون الأكل. فعليه يجوز بيعها.

(2) حيث إن تحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا ليس بقول مطلق حتى يشمل جميع الانتفاعات بها، بل المحرم منها بعضها: و هو الأكل، دون الاستعمالات الأخرى.

بخلاف اليهود، حيث إن التحريم عليهم كان بقول مطلق حتى الاستعمالات الأخرى.

(3) أي خذ ما تلوناه عليك: من أن تحريم الشحوم علينا ليس بقول مطلق حتى الاستعمالات الأخرى من سائر منافعها، و اجعل هذه الفائدة في بالك و خاطرك.

(4) استدراك عما أفاده (الشيخ) رحمه اللّه في الهامش 2:

من أن تحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا ليس بقول مطلق.

ص: 65

عن الخلاف (1) إن اللّه اذا حرّم أكل شيء حرّم ثمنه.

و الجواب (2) عنه مع ضعفه، و عدم الجابر له سندا، و دلالة (3)

++++++++++

- خلاصة الاستدراك: أن بقية الحديث المشار إليه في الهامش 2 ص 65 المذكورة في (الخلاف) الجزء 2، كتاب الأطعمة ص 543-544 في ذيل المسألة 19: إن اللّه إذا حرّم أكل شيء حرّم ثمنه: ينافي جواز بيع الشحوم فلا يجوز المعاوضة على بقية الانتفاعات الأخرى.

(1) أحد كتب (شيخ الطائفة) و هي موسوعة في الفقه المقارن يحتوي على ما ذهب إليه أرباب المذاهب الأربعة الإسلامية: الحنفي، الشافعي المالكي، الحنبلي.

و على فقه (أهل البيت) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس، و مقارنته للمذاهب المذكورة مع الدليل الواضح.

(2) بالرفع مبتدأ خبره قوله: لزوم تخصيص الأكثر، أي الجواب عن الحديث المذكور المشار إليه في الهامش 1 ص 65 مع أنه ضعيف من حيث السند، لكونه مقطوعا مرسلا: لزوم تخصيص الأكثر و هو غير جائز و تأتي الإشارة إلى معنى لزوم تخصيص الأكثر في الهامش 1 ص 67.

(3) بالنصب بناء على كونه تمييزا، كما أن سندا منصوب على التمييز أي و مع ضعف الحديث من حيث الدلالة أيضا.

و اللام في لقصورها تعليل لضعف الحديث دلالة، أي و لقصور دلالة الحديث المذكور على المدعى و هي (حرمة جميع انتفاعات شحوم السباع بقول مطلق)، لأن الحديث دال على حرمة أكل الشيء، لا على حرمة جميع الانتفاعات بقول مطلق فالدليل لا يلائم المدعى، فالحديث ضعيف من حيث الدلالة أيضا.

ص: 66

و لقصورها: لزوم (1) تخصيص الأكثر.

الثاني بول الابل يجوز بيعه اجماعا

الثاني بول (2) الابل يجوز بيعه اجماعا على ما في جامع المقاصد (3) و عن إيضاح النافع (4) إما لجواز (5) شربه اختيارا كما يدل عليه قوله عليه السلام في رواية الجعفري: أبوال الابل خير من ألبانها، و إما (6)

++++++++++

(1) بالرفع خبر للمبتدإ المقدم و هو قوله: و الجواب: أي الجواب عن الحديث المذكور: لزوم تخصيص الأكثر.

و معنى لزوم تخصيص الأكثر: أن العمل بالحديث المذكور مستلزم لرفع اليد عن أكثر الأشياء، حيث إن أكثر الأشياء محرم الأكل، و مع ذلك يجوز بيعه، لتسالم العرف عليه، فكيف يمكن لنا العمل بالحديث المذكور فهذا: و هو لزوم تخصيص الأكثر مما يوهن صدور الحديث بالإضافة إلى الإيرادات الواردة عليه: من كونه ضعيف السند، و ضعيف الدلالة كما عرفت.

(2) أي الفرع الثاني من الفرعين المشار إليهما في ص 58 عند قوله: فرعان

(3) فقه استدلالي مشتمل على مجلدين في (شرح قواعد الأحكام) أما المؤلف فيأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(4) أحد الكتب الفقهية في شرح (المختصر النافع).

يأتي شرح حياة المؤلف في (أعلام المكاسب).

(5) أي جواز بيع بول الإبل إما لأجل جواز شربه اختيارا بدلالة رواية الجعفري: (أبوال الإبل خير من ألبانها).

راجع (وسائل الشيعة) الطبعة الجديدة. الجزء 17. ص 87. الحديث 3.

(6) هذا هو الشق الثاني لجواز بيع بول الإبل، أي جواز بيع بول -

ص: 67

لأجل الإجماع المنقول لو قلنا بعدم جواز شربها، إلا لضرورة الاستشفاء كما يدل عليه رواية سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الإبل و البقر و الغنم ينتفع به من الوجع هل يجوز أن يشرب ؟

قال: نعم لا بأس به (1).

و موثقة (2) عمار عن بول البقر يشربه الرجل، قال: إن كان محتاجا إليه يتداوى بشربه فلا بأس، و كذلك بول الإبل و الغنم.

لكن (3) الإنصاف أنه لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم

++++++++++

الإبل إما لأجل الإجماع المنقول إن قلنا بعدم جواز شرب أبوال الإبل إلا لضرورة الاستشفاء كما يدل على جواز الشرب لضرورة الاستشفاء قوله عليه السلام: (نعم لا بأس به) في جواب السائل عن بول الإبل و البقر و الغنم و أنه ينتفع به من الوجع: هل يجوز له أن يشرب ؟

(1) نفس المصدر. ص 88. الحديث 7.

(2) أي و يدل على عدم جواز شرب أبوال الإبل اختيارا أيضا قوله عليه السلام في رواية عمار: إن كان محتاجا إليه يتداوى به يشربه و كذلك أبوال الإبل و الغنم.

راجع نفس المصدر. ص 87. الحديث 1.

(3) لما كان مستند جواز بيع أبوال الإبل هي الأخبار الواردة في جواز شربها و هي مختلفة.

إذ بعضها يدل على جواز شربها حالة الاختيار كما في رواية الجعفري المشار إليها في الهامش 5 ص 67.

و بعضها يدل على جواز الشرب حالة الاضطرار فقط كما في رواية سماعة المشار إليها في الهامش 1: و موثقة عمار المشار إليها في الهامش 2 -

ص: 68

بالجواز (1) إن لم يكن اجماعيا كما يظهر من مخالفة العلامة (2) في النهاية و ابن سعيد (3) في النزهة.

قال في النهاية: و كذلك البول يعني يحرم بيعه و ان كان طاهرا للاستخباث (4) كأبوال البقر و الابل، و ان انتفع به في شربه للدواء، لأنه (5) منفعة جزئية نادرة فلا يعتد به انتهى (6).

++++++++++

- أفاد (الشيخ) قدس سره: أنه بناء على القول بجواز شرب أبوال الإبل حالة الاضطرار فقط: يشكل الحكم بجواز بيع الأبوال مطلقا حالة الاضطرار و الاختيار.

هذا أي عدم جواز البيع مطلقا إذا لم يكن هناك إجماع في البين على جواز البيع حتى في حالة الاختيار.

و قد أفاد (العلامة) قدس سره في (النهاية)، و ابن سعيد في النزهة مخالفتهما للإجماع.

(1) أي بجواز بيع أبوال الابل.

(2) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(3) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(4) تعليل لحرمة بيع أبوال الابل و البقر و الغنم، أي حرمة البيع لأجل خباثته.

(5) تعليل لقوله: و إن انتفع به في شربه للدواء، أي هذه المنفعة نادرة فلا يعتد بها.

(6) أي ما أفاده (العلامة) رحمه اللّه في النهاية.

ص: 69

أقول: بل لأن المنفعة المحللة للاضطرار و ان كانت كلية لا تسوّغ (1) البيع كما عرفت (2).

المسألة الثانية يحرم بيع العذرة النجسة من كل حيوان على المشهور

الثانية (3) يحرم بيع العذرة النجسة من كل حيوان على المشهور بل في التذكرة (4)

++++++++++

(1) هذه الجملة: (لا تسوّغ البيع) مرفوعة محلا خبر لأن في قوله: بل لأن المنفعة المحللة للاضطرار.

(2) في الهامش 1 ص 59 عند قوله: و المنفعة النادرة لو جوزت المعاوضة.

(3) اي المسألة الثانية من المسائل الثمان.

(4) موسوعة كبيرة في الفقه المقارن على المذاهب الخمسة: الحنفي و الشافعي، و المالكي، و الحنبلي، و الجعفري (للعلامة الحلي) قدس اللّه روحه طبع الكتاب في (ايران) على الحجر.

و قد وفقنا اللّه تبارك و تعالى لطباعتها أخيرا في (النجف الأشرف) (مطبعة النجف) على الحروف طباعة أنيقة جميلة بديعة مع التحقيقات و التعليقات و رتبناه على أربعين جزء حسب تجزئتنا و قد صدر منها ستة أجزاء في قسمين:

القسم الأول في ثلاثة أجزاء.

و القسم الثاني في ثلاثة أجزاء أيضا.

لكن إقدامى على بناية (جامعة النجف الدينية) العامرة حتى (ظهور الحجة البالغة) إن شاء اللّه تعالى، ثم القيام بإدارة شئونها بعد الافتتاح لحد التاريخ: منعاني عن إكمال بقية أجزائها.

و لعل المولى القدير عز و جل بفضله و كرمه وجوده يمن عليّ فيوفقني في القريب العاجل بتصحيح ما تبقى من الأجزاء فعرضها على الطباعة، ثم تقديمها الى رواد العلم و طلابه.

ص: 70

كما عن الخلاف (1) الاجماع على تحريم بيع السرجين النجس.

و يدل عليه (2) مضافا الى ما تقدم من الأخبار (3) رواية يعقوب ابن شعيب: ثمن العذرة من السحت (4).

نعم في رواية محمد بن المصادف لا بأس ببيع العذرة (5).

و جمع الشيخ بينهما (6)

++++++++++

- فبهذه الخدمة الإنسانية، و المشروع المقدس نحيي تراثنا الخالد، و كنوزنا الفكرية الأثرية في هذا العصر المتطلع للعلم حتى نقدمه للمجتمع الإسلامي ليعرف أبناء زماننا ما خلفه لنا السلف الصالح من روائع الآثار، و بدائع الأفكار، و ليس ذلك على اللّه بعزيز.

(1) مر شرح الكتاب في الهامش 24 من ص 5.

(2) اي على تحريم بيع العذرة النجسة

(3) و هو الحديث المروي عن (تحف العقول) المشار إليه في الهامش 24-37.

و الحديث المروي عن (دعائم الاسلام) المشار إليه في الهامش 4 ص 52

و الحديث النبوي المشار إليه في الهامش 1 ص 53.

(4) (وسائل الشيعة) الطبعة الجديدة. الجزء 12 ص 126 الباب 40 الحديث 1.

(5) نفس المصدر ص 126-127 الحديث 3.

(6) اي بين الحديثين المختلفين نفيا و إثباتا.

و هما: رواية (يعقوب بن شعيب) المشار إليها في الهامش 4 الدالة على حرمة بيع العذرة.

و رواية (محمد بن المصادف) المشار إليها في الهامش 5. الدالة على جواز بيع العذرة.

ص: 71

بحمل الأول (1) على عذرة الانسان، و الثاني (2) على عذرة البهائم و لعله (3) لأن الأول نص في عذرة الانسان، ظاهر في غيرها، بعكس الخبر الثاني (4) فيطرح ظاهر كل منهما (5) بنص الآخر.

و يقرب هذا الجمع (6) رواية سماعة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام و أنا حاضر عن بيع العذرة فقال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول ؟ قال: حرام بيعها و ثمنها (7).

++++++++++

- و هاتان الروايتان واردتان في موضوع واحد: و هي العذرة، و حكمها مختلف، إذ في احدهما: المنع، و في الثانية: الجواز.

(1) اي الحديث الأول المشار إليه في الهامش 1 ص 71.

(2) اي و بحمل الحديث الثاني المشار إليه في الهامش 5 ص 71.

(3) اي و لعل وجه حمل (شيخ الطائفة) الحديثين المشار إليهما في الهامش 4-5 من ص 71 بحمل احدهما على عذرة الانسان،

و بحمل الاخر على عذرة البهائم: إنما كان لاجل صراحة الحديث الأول في عذرة الانسان، و ظهوره في عذرة البهائم.

فلهذا حرم بيعها و ثمنها.

و صراحة الحديث الثاني في عذرة البهائم، و ظهوره في عذرة الانسان، فلهذا جوز بيعها، و حلّ ثمنها.

(4) و هو المشار إليه في الهامش 5 ص 71، حيث إنه صريح في عذرة البهائم، و ظاهر في عذرة الانسان كما عرفت في الهامش 3.

(5) اي و من الحديثين المشار إليهما في الهامش 4-5 من ص 71.

(6) و هو جمع (شيخ الطائفة) الذي كان جمعا دلاليا من طرح ظاهر كل منهما بنص الآخر كما عرفت في الهامش 3.

(7) نفس المصدر ص 126 الحديث 2.

ص: 72

و قال: لا بأس ببيع العذرة (1)، فان الجمع بين الحكمين (2) في كلام واحد (3) لمخاطب واحد يدل على أن تعارض الأولين (4) ليس إلا من حيث الدلالة (5) فلا يرجع

++++++++++

(1) المصدر السابق، الحديث 2.

(2) و هما: النفي و الإثبات في قوله عليه السلام: حرام بيعها و ثمنها و لا بأس ببيع العذرة.

(3) أي متكلم واحد و هو الامام عليه السلام، حيث أفاد في مجلس واحد لمخاطب واحد حكمين متناقضين: النفي و الإثبات في قوله عليه السلام:

حرام بيعها و ثمنها، و لا بأس ببيع العذرة.

(4) و هما: الحديث الأول المشار إليه في الهامش 4 ص 71 في قوله عليه السلام: ثمن العذرة سحت، و الحديث الثاني المشار إليه في الهامش 5 ص 71 في قوله عليه السلام: لا بأس ببيع العذرة.

(5) و هو الجمع بين النفي و الاثبات.

و حاصل كلام الشيخ: إن اشتمال الكلام على حكمين متناقضين جامعين بين النفي و الاثبات كما في الهامش 7 ص 72 و ص 73 مع صدورهما من متكلم واحد لمخاطب واحد في موضوع واحد: يدل على أن تعارض الحديثين المشار إليهما في الهامش 4، 5 ص 71 من باب تعارض الدلالة، و هو الجمع بين النفي و الاثبات، فلا بد من العلاج فيهما بطرح ظاهر كل منهما بنص الآخر كما ذكرناه في الهامش 3 ص 72، لتقدم الجمع الدلالي على المرجحات الخارجية، أو السندية، أو الجهتية، لأن العمل به مستلزم للجمع بين الخبرين، بخلاف الرجوع الى المرجحات، فان العمل بها موجب لطرح أحد الخبرين.

و المراد من المرجحات السندية: ما اذا كان رجال أحد الخبرين -

ص: 73

فيه (1) الى المرجحات السندية، أو المرجحات الخارجية، و به (2) يدفع ما يقال: من (3) أن العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلي (4) هو الرجوع الى المرجحات الخارجية، ثم التخيير (5)، أو التوقف (6)

++++++++++

- أعدل، أو أوثق من الآخر.

و من المرجحات الخارجية: القرائن الدالة على أن أحد الخبرين صادر عن (الامام) عليه السلام.

و من المرجحات الجهتية: هو العلم بصدور أحدهما تقية فلا يؤخذ به دون الآخر كما أفاده بعض الأجلة.

(1) أي في مثل هذا التعارض كما عرفت في الهامش 4، 5 ص 71.

(2) أي و بورود النفي و الإثبات في الحديث الواحد من متكلم واحد لمخاطب واحد. في موضوع واحد كما في رواية سماعة المشار إليها في الهامش 7 ص 72 يدفع ما يقال.

(3) من بيانية بيان للقيل.

(4) و هو المشتمل على النفي و الإثبات كما عرفت في الهامش 7 ص 72، و الهامش 1 ص 73.

(5) المراد من التخيير: هو الأخذ بمضمون أحد الحديثين المتعارضين إذا كانت المرجحات المذكورة متساوية. فحينئذ ليس له الرجوع إلى الآخر بعد الأخذ بأحدهما.

هذا إذا كان التخيير ابتدائيا بمعنى عدم الرجوع إلى أحدهما ثانيا بعد اختيار أحدهما ابتداء.

و أما إذا لم يكن التخيير ابتدائيا فيمكن أن يكون التخيير استمراريا حدوثا و بقاء.

(6) و هو عدم العمل بأي الخبرين.

ص: 74

لا إلغاء ظهور كل منهما (1)، و لهذا (2) طعن على من جمع بين الأمر و النهي بحمل الأمر على الإباحة، و النهي على الكراهة.

و احتمل السبزواري (3) حمل خبر المنع (4) على الكراهة.

و فيه (5) ما لا يخفى من البعد، و أبعد منه (6) ما عن المجلسي (7):

من احتمال حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع به (8)، و الجواز

++++++++++

(1) أي كل من الخبرين المتعارضين بنص الآخر كما أفاده الشيخ رحمه اللّه في الجمع الدلالي.

بل الرجوع إلى المرجحات الخارجية من السندية، أو الجهتية.

(2) أي و لأجل أن المرجع في مثل هذا التعارض: هي المرجحات الخارجية، لا الجمع الدلالي - طعن هذا القائل بالرجوع إلى المرجحات الخارجية: على من جمع بين الأمر و النهي الواردين في كلام واحد: بحمل الأمر على الاباحة، و النهي على الكراهة: بأنه لا مجال لهذا الجمع بعد إمكانه بينهما بالرجوع الى المرجحات الخارجية.

(3) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(4) أي حديث منع بيع العذرة في قوله عليه السلام: ثمن العذرة سحت المشار إليها في الهامش 4 ص 71.

(5) أي في حمل (المحقق السبزواري) رحمه اللّه حديث المنع على الكراهة ما لا يخفى من البعد.

وجه البعد: أن كلمة (سحت) صريحة في الحرمة فلا مجال لحملها على الكراهة.

(6) أي من احتمال (المحقق السبزواري).

(7) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(8) الظاهر رجوع الضمير الى (العذرة) و هي مؤنثة فلا وجه -

ص: 75

على غيرها (1).

و نحوه (2) حمل خبر المنع على التقية، لكونه مذهب أكثر العامة (3)

++++++++++

لتذكيره، و فعل السهو من النساخ.

(1) أي و حمل أخبار الجواز على البلاد التي ينتفع بها.

وجه الأبعدية: أن ظاهر هذا القول التبعيض في الأحكام، لأن الحكم بجواز بيع العذرة في مدينة، و عدم جوازه في الأخرى موجب لتبعيض الأحكام: و هو غير جائز، إذ الأحكام مشتركة بين الكل.

(2) أي و نحو قول (شيخنا العلامة المجلسي) رحمه اللّه في البعد أو الأبعدية: هذا القول.

وجه البعد أو الأبعدية: وجود قول في بيع عذرة الانسان عن (إخواننا السنة) و إن كان القول نادرا، و هذا كاف لنا في المنع من الحمل على التقية، أو تضعيف الحمل عليها.

(3) راجع (الفقه على المذاهب الأربعة) الطبعة الخامسة الجزء 2 ص 232. إليك نص العبارة.

الحنفية قالوا: لا يصح بيع الخمر و الخنزير و الدم الى قوله: و لا ينعقد بيع العذرة فإذا باعها كان البيع باطلا إلا إذا خلطها بالتراب فإنه يجوز بيعها إذا كان لها قيمة مالية كأن صارت سباخا(1) انتهى ما في المصدر.

(و للشيخ الأنصاري) قدس سره رسالة في التقية ملحقة (بالمكاسب) نطبعها إن شاء اللّه تعالى مع (المكاسب) فهناك نتكلم حول الموضوع.ر.

ص: 76


1- بكسر السين وزان كلاب من سبخ يسبخ من باب تعب يتعب جمعه سبخات. وزان كلمة و كلمات. و هي الأرض المالحة يعلوها الملوحة، و لا تكاد تنبت إلا بعض الأشجار.

و الأظهر ما ذكره الشيخ رحمه اللّه (1) لو اريد التبرع (2) بالحمل لكونه (3) أولى من الطرح، و إلا فرواية الجواز (4) لا يجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفى (5).

ثم إن لفظ العذرة في الروايات ان قلنا: إنه ظاهر في عذرة الانسان كما حكي التصريح به عن بعض أهل اللغة (6) فثبوت الحكم (7)

++++++++++

(1) و هو الجمع الدلالي كما ذهب إليه (شيخ الطائفة) رحمه اللّه من طرح ظاهر كل من الحديثين المتعارضين بنص الآخر.

(2) المراد من الحمل التبرعي: هو عدم وجود شاهد عليه من الأخبار.

(3) أي الحمل التبرعي، لأنه اذا دار الأمر بين طرح الحديثين المتعارضين، و بين الجمع بينهما متبرعا. فالجمع أولى من الطرح.

(4) و هي المروية عن (محمد بن مصادف) المشار إليه في الهامش 5 ص 71.

(5) (الأول) مخالفة الشهرة في الرواية.

(الثاني): مخالفة الشهرة في الفتوى.

(الثالث): عدم التكافؤ في السند.

(6) لم نعثر على تصريح من أهل اللغة في الكتب التي بأيدينا من لسان العرب، و تاج العروس، و نهاية ابن الأثير، و صحاح الجوهري، و مجمع البحرين، و القاموس، و متن اللغة، و مصباح اللغة: باختصاص العذرة بعذرة الانسان، و لذا قال (شيخنا الأنصاري): كما حكي التصريح به عن بعض أهل اللغة فأتى بلفظ المجهول و الحكاية.

نعم إن المتبادر من العذرة عرفا هي عذرة الانسان، و التبادر علامة الحقيقة.

(7) و هو عدم جواز بيع العذرة النجسة في غير عذرة الانسان.

ص: 77

في غيرها بالأخبار العامة المتقدمة (1)، و بالإجماع المتقدم (2) على السرجين النجس.

و استشكل في الكفاية في الحكم (3) تبعا للمقدس الأردبيلي (4) رحمه اللّه إن لم يثبت الإجماع (5): و هو (6) حسن، الا أن الإجماع

++++++++++

(1) و هي رواية (تحف العقول) المشار إليها في ص 24-37 من ص 2 في قوله عليه السلام: أو شيء من وجوه النجس فهذا كله حرام.

و رواية (فقه الرضا) عليه السلام المشار إليها في الهامش 5 من ص 5 في قوله عليه السلام:

و كل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه.

و رواية (دعائم الإسلام) المشار إليها في الهامش 8 من ص 5 في قوله عليه السلام: و ما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.

و الخبر النبوي المشهور المشار إليه في الهامش 9 من ص 5 في قوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.

(2) في قول (المصنف): كما عن الخلاف الإجماع على تحريم بيع السرجين النجس.

(3) و هي حرمة بيع العذرة النجسة.

(4) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(5) أي ان ثبت الإجماع على حرمة بيع العذرة فلا اشكال، و ان لم يثبت فالأخبار المتقدمة المذكورة الدالة على حرمة البيع ضعيفة يكون الحكم معها مشكلا.

(6) أي التشكيك في الحكم من (المحقق السبزواري) حسن لضعف الأخبار المستدل بها على حرمة بيع العذرة النجسة كما عرفت.

ص: 78

المنقول (1) هو الجابر لضعف سند الأخبار العامة السابقة (2).

و ربما يستظهر من عبارة الاستبصار (3) القول بجواز بيع عذرة ما عدا الانسان (4) و فيه نظر (5).

++++++++++

(1) و هو المنقول عن (تذكرة الفقهاء) المنقول عن (الخلاف) لأنه مؤيد لمضمون الأخبار الضعيفة فيكون عندنا دليلان:

احدهما: الأخبار المذكورة.

ثانيهما: الإجماع المنقول عن التذكرة فاحدهما يكون مسندا للآخر.

و لا يخفى: أن الصالح لجبر الرواية الضعيفة: الشهرة العملية و هذا على خلاف فيه.

و أما الشهرة الفتوائية، أو الإجماع المنقول فلا جبران لها، لأن الاجماع المنقول ليس إلا الحكاية عن هذه الشهرة، و هو ليس بحجة لوجوه مذكورة في محلها فراجعها هناك.

اذا كيف يمكن ضم ما ليس بحجة الى ما ليس بحجة.

(2) و هي المشار إليها في الهامش 1 ص 78.

(3) راجع (الاستبصار) طبعة (النجف الاشرف) عام 1376 الجزء 3 ص 56 باب النهي عن بيع العذرة

(4) و ان كانت نجسة

(5) اي فيما استظهره الشيخ في الاستبصار نظر:

وجه النظر: أن المراد من عذرة غير الانسان التي حمل الشيخ رواية الجواز عليها: هي عذرة ما يؤكل لحمه فقط فلا يعم عذرة غير الماكول من سائر الحيوانات، و لو كان لكلامه اطلاق يشمل حتى غير المأكول اللحم فتصريحه في التهذيب و المبسوط و الخلاف بجواز بيع عذرة البهائم من الابل و البقر و الغنم تارة، و عدم جواز بيع العذرة و سرجين ما لا يؤكل -

ص: 79

فرع الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة التي ينتفع بها منفعة محللة مقصودة (1).

و عن الخلاف (2) نفي الخلاف فيه.

و حكي أيضا عن المرتضى رحمه اللّه الاجماع عليه (3).

و عن المفيد (4) حرمة بيع العذرة و الأبوال كلها إلا بول الابل.

و حكي عن سلار (5) أيضا، و لا أعرف مستندا لذلك (6) إلا دعوى أن تحريم الخبائث في قوله تعالى: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ (7) يشمل تحريم بيعها (8)،

++++++++++

- لحمه: قرينة على إرادة المقيد من المطلق فحينئذ لا مجال للاستظهار المذكور لجواز بيع عذرة غير الانسان مطلقا حتى غير مأكول اللحم.

و فيما أفاده (شيخنا الأعظم) نظر، لأن المتبادر من العذرة: عذرة الانسان، و التبادر مانع من إرادة العموم منها حتى عذرة الحيوانات:

في الأخبار الواردة.

كما أن المتيقن من مورد الاجماع الدال على حرمة بيع العذرة: هي عذرة الانسان.

(1) كالطبخ. و الخبز، و التسميد في الزرع و الشجر.

(2) أي كتاب (الخلاف) ففيه يجوز بيع الأرواث الطاهرة.

(3) أي على جواز بيع الأرواث الطاهرة.

(4) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(5) يأتي شرح حياته في (أعلام المكاسب).

(6) أي لتحريم بيع العذرة و الأبوال كلها حتى الطاهرة.

(7) الأعراف: الآية 157.

(8) أي بيع الأرواث الطاهرة بجميع استعمالاتها.

ص: 80

و قوله (1) عليه الصلاة و السلام: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه و ما تقدم (2) من رواية دعائم الاسلام و غيرها (3).

و يرد على الأول (4) أن المراد بقرينة مقابلته (5) لقوله تعالى:

يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ (6): الاكل، لا مطلق الانتفاع، و في النبوي (7) و غيره

++++++++++

(1) بالنصب عطفا على المستثنى في قول (المصنف): إلا دعوى أي و إلا قوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه المتقدم.

في الهامش 2 من ص 60-61، حيث إن تحريم الأكل يستلزم حرمة البيع.

(2) منصوب محلا عطفا على المستثنى في قول المصنف: إلا دعوى أي و إلا ما تقدم من رواية دعائم الاسلام المشار إليها في ص 52 في قوله عليه السلام: و ما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.

(3) بالجر عطفا على مدخول (من الجارة) أي و من غير رواية دعائم الاسلام و هي رواية (فقه الرضا) عليه السلام المشار إليه في ص 52 في قوله عليه السلام: و كل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه.

(4) و هو الاستدلال بالآية الشريفة المذكورة في ص 80 الدالة على تحريم الخبائث.

(5) اي مقابلة تحريم الخبائث: هو تحريم الاكل، لا مطلق الانتفاعات، لقرينة الآية المقابلة لها: يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ ، حيث إن المراد من حلية الطيبات: حلية اكلها

(6) الأعراف: الآية 157.

(7) اي و يرد على الرواية المشار إليها في الهامش 1.

و على غيرها و هي الرواية المشار إليها في الهامش 3 ص 52

و على الرواية المشار إليها في الهامش 2-3

ص: 81

ما عرفت من أن الموجب لحرمة الثمن حرمة عين الشيء بحيث يدل على تحريم جميع منافعه، أو المنافع المقصودة الغالبة، و منفعة الروث ليست هي الأكل المحرم فهو كالطين المحرم كما عرفت سابقا (1).

المسألة الثالثة يحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف

الثالثة (2) يحرم المعاوضة (3) على الدم بلا خلاف: بل عن النهاية (4) و حاشية الارشاد لفخر الدين، و التنقيح: الإجماع عليه (5) و يدل عليه الأخبار السابقة (6).

فرع و أما الدم الطاهر اذا فرضت له منفعة محللة (7)

++++++++++

(1) في ص 61 عند قول المصنف: فلا ينتقض بالطين المحرم أكله.

(2) اي المسألة الثالثة من المسائل الثمان.

(3) المعاوضة اعم من البيع و الصلح، و الهبة المعوضة

(4) كتاب في (الفقه الجعفري) (لشيخ الطائفة) طبع أخيرا على الحروف في (بيروت) طباعة دار الكتاب العربي عام 1390 ه في مجلد واحد

(5) أي على حرمة المعاوضة على الدم.

لا يخفى أن المتيقن من الإجماع القائم على حرمة المعاوضة: هو الدم النجس.

(6) المشار إليها في حديث (تحف العقول) ص 23-33 و في فقه (الرضا) المشار إليه في ص 52، و في (دعائم الاسلام) المشار إليه في ص 52، و النبوي المشار إليه في ص 53.

(7) مبني على عدم المالية لما لا منفعة له كحبة الحنطة مثلا.

و يبقى الكلام في حق الاختصاص لهذه المالية التي لا منفعة له.

فإن قلنا ببقائه، و جواز التنازل عنه بالعوض المعين، و قلنا:

ص: 82

كالصبغ (1) لو قلنا بجوازه (2) ففي جواز بيعه وجهان أقواهما: الجواز لأنها عين طاهرة ينتفع بها منفعة محللة.

و أما مرفوعة الواسطي المتضمنة لمرور أمير المؤمنين عليه السلام بالقصابين و نهيهم عن بيع سبعة: بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال الى آخرها (3)

++++++++++

إن التنازل بالعوض يعد معاوضة فلا شك في جعله عوضا و معوضا، و ثمنا و مثمنا في المبيع، لأنه كسائر الحقوق الاختصاصية التي يجوز المعاوضة عليها (كالسرقفلي) الذي أفتى بجواز المعاوضة عليه بعض المراجع من الآيات العظام في عصرنا الحاضر، و فيه رواية تأتي الإشارة إليها.

(1) بفتح الصاد و سكون الباء مصدر صبغ يصبغ بالحركات الثلاث:

وزان منع يمنع، و ضرب يضرب، و نصر ينصر، و المراد منه: تلوين الثوب أو الجدار أو الخشب أو الكراسي أو البساط.

(2) أي بجواز الصبغ بالدم الطاهر.

الظاهر عدم الفائدة لهذا القيد و هو قوله: (لو قلنا بجوازه) لأن التشكيك في الجواز انما هو في الدم النجس، لا الطاهر، فإنه لا كلام في جواز المعاوضة عليه. إلا عن بعض و هو العلامة طاب ثراه كما يأتي التصريح منه في المتن.

(3) أي إلى آخر المرفوعة راجع (وسائل الشيعة) الجزء 16. ص 437 الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرمة - الحديث 2.

أليك نص الحديث:

عن (يحيى الواسطي) رفعه الى مولانا (أمير المؤمنين) عليه الصلاة و السلام.

قال: مر (أمير المؤمنين) عليه السلام بالقصابين فنهاهم عن بيع -

ص: 83

فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل (1)، و لا شك في تحريمه (2)، لما سيجيء

++++++++++

- سبعة أشياء: نهاهم عن بيع الدم، و الغدد(1)، و آذان الفؤاد(2)و الطحال(3) و النخاع(4)، و الخصي(5)، و القضيب(6).

(1) لا لسائر الانتفاعات الأخر.

(2) أي في تحريم البيع للأكل خاصة.ن.

ص: 84


1- بضم الغين. و فتح الدال الأولى: جمع غدة بضم الغين و فتح الدال المشددة: و هي القطعة من اللحم الصلبة بين الجلد و اللحم. و في عرف الأطباء: جهاز يفرز سائلا ينقي الدم و يصلحه.
2- بفتح الألف الممدودة: جمع أذن بضم الهمزة و سكون الذال أو ضمها: جزء من أجزاء القلب في جوف الحيوان. و الفؤاد هو القلب: جمعه أفئدة أضيف الآذان الى الفؤاد، حيث إنه جزء منه.
3- بكسر الطاء وزان كتاب: غدة إسفنجية خلقت في جوف الانسان و الحيوان على جانب اليسار: جمعه أطحلة بفتح الهمزة و سكون الطاء و كسر الحاء، و طحل بضم الطاء و الحاء، و طحالات بكسر الطاء.
4- مثلثة النون نخاع نخاع نخاع: مادة بيضاء تمتد من أعلى الرقبة الى انتهاء الظهر داخل الفقرات: جمعه نخع وزان فعل بضم النون و الخاء و سكون العين.
5- بضم الخاء: جمع خصية بضم الخاء و سكون الصاد، و فتح الياء: عضو في أسافل الانسان و الحيوان، و في الحيوان يعرف ب: (البيضة) بفتح الباء و سكون الياء و فتح الضاد.
6- بفتح القاف، و كسر الضاد: آلة الذكورة في الانسان و الحيوان: جمعه قضبان.

من أن قصد المنفعة المحرمة في المبيع موجب لحرمة البيع، بل بطلانه.

و صرح (1) في التذكرة بعدم جواز بيع الدم الطاهر، لاستخباثه و لعله لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الأكل المحرم (2).

المسألة الرابعة لا اشكال في حرمة بيع المني لنجاسته، و عدم الانتفاع به اذا وقع في خارج الرحم

الرابعة (3) لا اشكال في حرمة بيع المني لنجاسته، و عدم الانتفاع به اذا وقع في خارج الرحم و لو وقع فيه (4) فكذلك لا ينتفع به المشتري لأن الولد نماء الأم في الحيوانات عرفا، و للأب (5) في الانسان شرعا

++++++++++

(1) أي (العلامة الحلي) قدس اللّه نفسه.

(2) و يظهر عدم المنفعة من تعليله في قوله: لاستخباثه.

و لا يخفى منع ذلك، لعدم انحصارها في الأكل.

(3) أي المسألة الرابعة من المسائل الثمان.

(4) أي و كذلك لا فائدة للمشتري في المني اذا وقع في الرحم.

(5) أي الولد نماء للأب في الانسان و تابع له شرعا، بل عرفا، لأنه يقال في العرف: إنه مني الأب.

ثم لا يخفى: أن في عصرنا الحاضر ينتفع من مني الذكور من الحيوانات بتزريقها في رحم الإناث منها فيحملن منه و هذا هو المسمى: ب (اللقاح الاصطناعي)

و هذا أمر سائغ شرعا و لا كلام فيه.

لكن الكلام في تزريق مني الانسان الأجنبي في رحم المرأة الأجنبية بطريق الإبر الموجودة في العصر الحاضر.

سواء أ كان هذا التزريق برضى من الزوج و الزوجة أم برضى أحدهما أم بعدم رضاهما.

و هذا التزريق قد أفتى الفقهاء من العصر بتحريمه.

ص: 85

..........

++++++++++

- و وجه الحرمة قوله تعالى: «وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ » (1).

و قوله تعالى: «وَ اَلْحٰافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحٰافِظٰاتِ » (2).

بناء على تعميم الملاك في حفاظة الفرج، و عدم اختصاصها بعدم المساحقة مع الأجنبية، أو بعدم الزنا، أو بأي طريق آخر يتنافى و الاحتفاظ.

و من البديهي أن إدخال مني الرجل الأجنبي في رحم المرأة الأجنبية بطريق الإبرة و ان كان برضى من الزوج: ينافي حفاظة الفرج.

ثم إن الولد المتكوّن من هذا المني قد يقال بالتحاقه بصاحب المني فيتوارثان، لعدم زناء في البين.

و قد يقال بالاحتياط من جانب إرث الولد المتكوّن من مني الأجنبي بمعنى أنه لو كان هناك أولاد صغار من صاحب المني فالمصالحة على الإرث هو الاحتياط.

و كذلك لو كان من الولد المتكوّن أولاد صغار فمات فيحتاط الرجل الأجنبي الذي تكوّن من منيه الولد في أخذ الارث من الولد: بالمصالحة مع الصغار.

و أما إرث الولد من الأم، و إرث الأم من الولد فلا كلام فيه.

و أما إرث الولد من زوج الأم، و إرث زوج الأم من الولد فلا لعدم وجود ظاهرة شرعية في البين حتى يستحقا التوارث.

و لما انجر بنا الكلام الى (اللقاح الاصطناعي) أحببت أن أذكر شطرا من كيفية تكوين الجنين في الرحم، و ما جعل اللّه الحكيم عز و جل في رحم المرأة و داخلها من البويضات، و ما خلق اللّه جل شأنه في مني الرجل من الحيوانات الحية و عددها فراجعت الأخ العزيز الأستاذ (الدكتور -5.

ص: 86


1- النور: الآية 31.
2- الأحزاب: الآية 35.

..........

++++++++++

- موسى الأسدي) حفظه اللّه فكتب لنا هذا المقال الذي ننشره: أليك نصه:

هناك فترة تتراوح بين خمسة أيام الى ثمانية أيام و التي تتوسط المدة الزمنية ما بين نهاية العادة الشهرية المنتهية عند المرأة البالغة و بداية العادة الشهرية التالية و تدعى هذه الفترة في المصطلح الطبي ب (فترة التبويض) ففي خلال هذه الفترة تتكون البويضة و تنضج في احدى مبيضي الأنثى أو في كليهما أحيانا. و بعد نضجها نضجا كاملا فتقذف في الأنبوب الواصل ما بين المبيضين و الرحم. و في هذا الأنبوب تتم عملية التلقيح.

فأثناء عملية المواقعة ما بين الرجل و المرأة. فان الرجل يقذف مادة سائلة أشبه بالمادة المخاطية في مهبل المرأة و أن كمية هذه المادة عند كل قذفة و عملية جماع تتراوح ما بين السنتيمترين الى أربعة سنتمترات مكعبة، أي ما يقارب حجم ملعقة الشاي الاعتيادية الى ملعقة كوب الحليب الاعتيادية. و هذه المادة السائلة تحتوي على عدد كبير جدا من الحيوانات المنوية يتراوح عددها من 200 مليون الى 300 مليون حيوان منوي. و هذه الحيوانات المنوية هي في حالة حركة دودية سريعة و مستمرة تسبح في هذا السائل. و بعد أن تقذف في مهبل الأنثى فانها تستمر في هذه الحركة متجهة الى عنق الرحم تتسابق مع بعضها و ان معظم هذه الحيوانات تموت في طريقها و لم يبق منها إلا عدد قليل يصل الى الأنبوب الواصل ما بين المبيض و الرحم لكي تتم عملية تلقيح البويضة الناضجة كما أسلفنا و من الجدير بالذكر أن من بين هذا العدد الهائل من الحيوانات المنوية فان حيوانا واحدا فقط يقوم بتلقيح البويضة و يدخل فيها و يمتزج مع محتوياتها لكي يتكون الجنين.

و بعد فترة زمنية تتحرك البيضة الملقحة لكي يستقر في جدار الرحم و بعد سلسلة تطورات في داخل الرحم تتكون المشيمة التي تغذي الجنين و يستمر -

ص: 87

..........

++++++++++

- بالنمو و التطور حتى الشهر التاسع من بداية التلقيح فيكون الجنين كامل النمو و جاهزا للطلق و الولادة.

هناك بعض الأمراض و العاهات التي تصيب الحيوانات المنوية للرجل مما تجعلها غير قادرة على القيام بوظيفتها المذكورة أعلاه و عملية التلقيح مما يجعل الذكر حينذاك ما يسمى (بالعقيم).

لقد اكتشف بعض الأطباء طريقة اصطناعية للتلقيح و قد سميت (بعملية التلقيح الاصطناعي). و تتم هذه العملية بجمع المادة السائلة المنوية من الرجل و زرقها بحقن خاصة في عنق الرحم للمرأة التي ترغب بتربية الأطفال. و قد نجحت هذه العملية في كثير من الحالات. و عادة تؤخذ هذه المادة من رجل آخر غير زوج المرأة الشرعي و قد حرّم الشرع الإسلامي هذه الطريقة باعتبارها عملية أشبه بالزنا و ان كانت العملية لم تتم بالمواقعة الاعتيادية بين ذلك الرجل و المرأة الذي لم يكن زوجها.

هذا و من المعلوم من الناحية الفسلجية (أي علم وظائف الأعضاء) ان عملية الجماع و المواقعة الجنسية ما بين الرجل و زوجته تكون مصحوبة بنوع خاص من الرعشة و الانفعالات العاطفية و هذه ما تسمى (بالشهوة الجنسية) التي يشترك فيها الرجل و المرأة في آن واحد و على حد سواء. و قد يعتقد البعض ان عملية تلقيح المرأة من قبل الرجل و الحمل و انجاب الطفل لا يتم إلا بوجود هذه الرعشة أو الشهوة الجنسية. غير أن عملية التلقيح الاصطناعي عبارة عن عملية علاج و تداوي تتم بحقن السائل المنوي في رحم المرأة كما تزرق أي ابرة علاجية في جسم أي انسان. و قد نجحت هذه العملية في معظم الحالات. و طبعا ان هذه العملية لا تكون مصحوبة مطلقا بأي شعور و انفعالات جنسية من قبل المرأة بتاتا. و هذا ما يؤكد لنا أن الشهوة الجنسية و شعور المرأة بهذه اللذة ليس لها أي علاقة بنجاح عملية التلقيح أو فشلها.

ص: 88

لكن الظاهر أن حكمهم بتبعية الأم (1) متفرع على عدم تملك المني و الا (2) لكان بمنزلة البذر المملوك يتبعه الزرع فالمتعين (3) التعليل بالنجاسة.

لكن قد منع بعض من نجاسته اذا دخل عن الباطن الى الباطن (4).

و قد ذكر العلامة من المحرمات بيع عسيب (5) الفحل و هو ماؤه

++++++++++

(1) أي بتبعية الولد للأم، فالمصدر مضاف الى المفعول، و الفاعل محذوف.

و لا يخفى عدم تمامية هذه الظاهرة بل يكفي في كونه نماء للأم شرعا:

حكم العرف بذلك.

(2) أي و إن كان المني يتملّك كان حكمه حكم البذر المملوك في أنه اذا زرع في ارض الغير يكون لصاحب الزرع

و لا يخفى أنه من أظهر مصاديق القياس الفاسد، ل. ن تملك الزارع الزرع إنما هو لأجل الأخبار الواردة في ذلك فلا يجوز قياس المني به.

راجع (وسائل الشيعة) الجزء 17 ص 310. الحديث 1.

أليك نصه عن عقبة بن خالد قال: سألت (أبا عبد اللّه) عليه السلام عن رجل اتى ارض رجل فزرعها بغير اذنه حتى اذا بلغ الزرع جاء صاحب الارض فقال «زرعت بغير اذني فزرعك لي و عليّ ما أنفقت أله ذلك أم لا؟

فقال: للزارع زرعه، و لصاحب الأرض كراء ارضه.

(3) أي المتيقن من حرمة بيع المني تعليله بنجاسته، لا بعدم وجود المنفعة فيه.

(4) فبناء على هذا القول لا يصح الحكم بحرمة بيع المني اذا لم يكن هناك تعليل آخر غير التعليل بنجاسته.

(5) بفتح العين و سكون السين مصدر عسب يعسب وزان ضرب يضرب ضربا: و هو ماء الفحل قبل دخوله في رحم الانثى، سواء أ كان الفحل فرسا أم بقرا أم إبلا أم غنما.

ص: 89

قبل الاستقرار في الرحم، كما أن الملاقيح (1) هو ماؤه بعد الاستقرار كما في جامع المقاصد (2)، و عن غيره، و علل في الغنية (3) بطلان بيع ما في أصلاب الفحول: بالجهالة (4)، و عدم القدرة على التسليم (5).

++++++++++

- و يطلق العسب على نسل الفحل أيضا. يقال: قطع اللّه عسبه، اي ماءه و نسله.

و يطلق على الكراء و الاجر الذي يؤخذ من صاحب الانثى قبال هذه العملية: و هي طروقة الفحل، و ركوبه على الأنثى، و يقال للفحل: فحل الضراب. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا اذا طرقها و ركب عليها.

و يقال: عسب الفحل يعسبه أي اكراه، و هذه العملية: و هو اخذ الكراء تجاه الطروقة، و الركب مكروه في الأحاديث الشريفة.

راجع (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 77 الباب 12 الحديث 1-2-3.

(1) وزان مصابيح. مفاتيح. مكاتيب جمع منتهى الجموع: هو ماء الفحل بعد أن يدخل في رحم الانثى.

(2) موسوعة فقهية في شرح القواعد (للمحقق الكركي).

الثناء على الكتاب:

قال (صاحب الجواهر): من كان عنده (جامع المقاصد) و الوسائل، و الجواهر لا يحتاج بعدها الى كتاب آخر، للخروج عن عهدة الفحص الواجب على الفقيه في آحاد المسائل الفرعية.

(3) موسوعة فقهية للسيد (ابي المكارم ابن زهرة الحلبي).

(4) أي بسبب جهالة المبيع كما و كيفا، مع اشتراط كون المبيع معلوما.

و لا يخفى أن معلومية كل شيء بحسبه، و معلومية المني هنا وجوده.

(5) دليل ثان على بطلان بيع المني الذي في صلب الفحل.

ص: 90

الخامسة تحرم المعاوضة على الميتة و أجزائها
اشارة

الخامسة (1) تحرم المعاوضة على الميتة و أجزائها التي تحلها الحياة من ذي النفس السائلة (2) على المعروف من مذهب الأصحاب.

و في التذكرة كما عن المنتهى (3) و التنقيح الإجماع عليه، و عن رهن الخلاف الإجماع على عدم ملكيتها.

و يدل عليه (4) مضافا الى ما تقدم من الأخبار (5): ما دل (6) على أن الميتة لا ينتفع بها، منضما (7) الى اشتراط وجود المنفعة المباحة

++++++++++

- بيان ذلك: أن البائع لا يكون قادرا على تسليم المني الى المشتري يدا بيد، مع اشتراط القدرة على التسليم في المبيع.

و قد عرفت أن تسليم كل شيء بحسبه، فتسليم المني هنا دخوله في الرحم و ليس الإعطاء يدا بيد الى المشتري هو التسليم، لأن المشتري إنما يقدم على ما يصلح للقاح، و هذا منطبق على القطرة فما فوق مما يعلم وجوده.

و الظاهر: عدم التفات (شيخنا الأنصاري) لهذا التعليل، حيث ذكره بطريق النقل.

(1) أي المسألة الخامسة من المسائل الثمان.

(2) النفس السائلة: هو الدم القوي الخارج بتدفق عن العروق عند قطعها.

(3) موسوعة فقهية «للعلامة الحلي» قدس اللّه روحه.

(4) أي على عدم ملكية الميتة و أجزائها. فبناء على عدم الملكية: لا يقع البيع عليها، لأنه لا بيع إلا في ملك، و يبقى الكلام في حق الاختصاص

(5) و هي رواية تحف العقول. فقه الرضا. دعائم الإسلام. النبوي المشهور التي مضت الإشارة إليها.

(6) المشار إليه في ص 11-12 فقد أشبعنا الكلام هناك فراجع.

(7) أي حال كون الحديث الدال على أن الميتة لا ينتفع بها يضم -

ص: 91

في المبيع، لئلا (1) يدخل في عموم النهي عن أكل المال بالباطل (2) و خصوص عدّ ثمن الميتة من السحت في رواية السكوني (3).

نعم (4) قد ورد بعض ما يظهر منه الجواز (5) مثل رواية صيقل قال: كتبوا الى الرجل عليه السلام جعلنا اللّه فداك إنا قوم نعمل السيوف و ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرون إليها و إنما غلافها من جلود

++++++++++

- الى اشتراط وجود المنفعة المباحة في المبيع.

كأن (الشيخ) رحمه اللّه يشير بهذا الانضمام الى تشكيل قياس منطقي و هو (الشكل الأول) هكذا:

الصغرى: الميتة لا منفعة فيها.

الكبرى: و كل ما لا منفعة فيه لا يجوز بيعه.

النتيجة: فالميتة لا يجوز بيعها.

و الصغرى هنا موجبة معدولة المحمول.

و لا يخفى منع الصغرى هنا، لما سيأتي من المصنف: جواز عمل الدلاء، و أغمدة السيوف من الميتة.

(1) تعليل لاشتراط المنفعة المحللة في المبيع.

(2) في قوله تعالى: «وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ » (1)

(3) (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 62. الحديث 5.

أليك نص الحديث عن السكوني عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام.

قال: السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن.

(4) هذا عدول عن قوله رحمه اللّه في الميتة: إنها لا منفعة فيها.

(5) أي جواز بيع الميتة بسبب وجود المنفعة المحللة فيها.8.

ص: 92


1- البقرة: الآية 188.

الميتة، من البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلي في ثيابنا، و نحن محتاجون الى جوابك في هذه المسألة، يا سيدنا لضرورتنا إليها؟

فكتب عليه السلام: اجعلوا ثوبا للصلاة الى آخر الحديث (1) و نحوها رواية أخرى بهذا المضمون (2)، و لذا (3) قال في الكفاية و الحدائق: إن الحكم (4) لا يخلو عن اشكال.

++++++++++

(1) (التهذيب). الجزء 6 ص 376 الحديث 221

لا يخفى أن الحديث في جميع نسخ التهذيب الطبعة القديمة و الحديثة مذكور بلفظ (و إنما علاجنا من جلود الميتة)

لكن الموجود في نسخ (المكاسب) الموجودة عندنا بطبعائها المختلفة (و إنما غلافها من جلود الميتة).

(2) نفس المصدر أليك نص الحديث.

و كتبت إليه: جعلت فداك و قوائم السيف التي تسعى السفن اتخذها من جلود السمك، فهل يجوز لي العمل بها و لسنا نأكل لحومها؟

فكتب عليه السلام: لا بأس به.

(3) أي و لأجل وجود هاتين الروايتين المشار إليهما في الهامش 1-2 قال (المحقق السبزواري في: (كفاية الفقيه)، و (المحدث البحراني) في: (الحدائق الناضرة).

(4) و هو عدم جواز استعمال جلود الميتة.

بل نمنع عدم الجواز، لوجود تلك الروايتين المشار إليهما في الهامش 1-2 الدالتين على جواز استعمال جلود الميتة

ص: 93

و يمكن أن يقال: إن مورد السؤال (1) عمل السيوف و بيعها و شراؤها لا خصوص الغلاف مستقلا، و لا في ضمن السيف على أن يكون جزء (2) من الثمن في مقابل عين الجلد، فغاية ما يدل (3) عليه: جواز (4) الانتفاع بجلد الميتة بجعله (5) غمدا للسيف، و هو (6) لا ينافي عدم جواز

++++++++++

(1) اي سؤال صيقل من (الامام عليه السلام).

(2) بالرفع اسم كان خبره قوله: (في مقابل).

و المعنى: أن الثمن لم يقع موزعا على المبيع كله: و هو السيف و غلافه الذي يصنع من جلود الميتة حتى يقع جزء من الثمن في مقابل الغلاف الذي هو جزء من المبيع.

بل الثمن كله وقع إزاء السيف وحده.

(3) فاعل يدل اجعلوا ثوبا للصلاة الذي هو جواب الامام عليه السلام عن مكاتبة صيقل، و الضمير في عليه يرجع الى ما الموصولة.

و كلمة فغاية مبتدأ خبره قوله: جواز الانتفاع، أي فغاية ما يدل جواب الامام عليه السلام عليه: جواز الانتفاع بجلد الميتة.

(4) بالرفع خبر للمبتدإ المقدم و هو قوله فغاية كما عرفت.

(5) الباء في بجعله بيانية لكيفية جواز الانتفاع بجلد الميتة.

(6) أي جواز الانتفاع بجلد الميتة المستفاد من رواية صيقل لا ينافي عدم جواز معاوضة جلد الميتة بالمال.

و لا يخفى أن رواية صيقل المشار إليها في الهامش 1 ص 91 صريحة في السؤال عن البيع و الشراء عن جلود الميتة في قوله: فيحل لنا عملها و شراؤها -

ص: 94

معاوضته (1) بالمال، و لذا (2) جوّز جماعة منهم الفاضلان (3) في مختصر النافع (4)، و الارشاد (5) على ما حكي عنهما: الاستقاء (6) بجلد الميتة لغير الصلاة، و الشرب مع عدم قولهم (7) بجواز بيعه، مع أن الجواب (8)

++++++++++

- و بيعها، و جواب الامام عليه السلام و هو قوله: اجعلوا ثوبا للصلاة تقرير للعمل و البيع و الشراء التي هو مورد سؤال صيقل فكيف خفي على الشيخ ذلك فقال بعدم المنافاة بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، و عدم جواز المعاوضة عليها بالمال.

(1) مرجع الضمير: جلد الميتة.

(2) أي و لأجل أن رواية صيقل تدل على جواز الانتفاع بجلد الميتة لا على جواز المعاوضة عليه، و قد عرفت الإشكال في ذلك في الهامش ص 92.

(3) هما: (المحقق و العلامة الحليان) أعلى اللّه مقامهما.

(4) أي (مختصر النافع) و هو مختصر (شرائع الاسلام) للمحقق الحلي.

و هي مجموعة فقهية حاوية على كل أبواب الفقه طبع الكتاب على الحجر ب (ايران).

و قبل سنوات طبع في (القاهرة) على نفقة وزارة الأوقاف المصرية هناك و وزع مجانا.

(5) مجموعة فقهية مسهبة من دون استدلال (للعلامة الحلي).

(6) بالنصب مفعول لقوله: جوز جماعة: أي جوز جماعة الاستقاء

(7) أي مع عدم قول هؤلاء الجماعة بجواز بيع جلد الميتة، و ذلك لعدم استفادته من رواية (صيقل)، لإجمال جواب الامام عليه السلام و إبهامه كما هو كذلك عند (الشيخ) رحمه اللّه.

(8) أي جواب (الامام) عليه السلام في رواية صيقل في قوله:

ص: 95

لا ظهور فيه في الجواز، إلا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا (1) خصوصا (2) في المكاتبات المحتملة للتقية هذا.

++++++++++

- اجعلوا ثوبا للصلاة لا ظهور له في جواز بيع جلود الميتة.

(1) حيث إن تقريره عليه السلام أعم من الرضا، سواء أ كان في المكاتبات أم في غيرها، اللهم إلا اذا كانت هناك قرينة دالة على أن تقريره كاشف عن رضاه فهناك يكون حجة.

و لا يخفى أن تقرير الامام عليه السلام ظاهر في الرضا، و لذا جعلوه من أقسام السنة، حيث قالوا في تعريف السنة: إنها عبارة عن قول المعصوم، و فعله، و تقريره.

(2) بيان آخر للقول بعدم كشف التقرير عن الرضا في هذا الفرض.

و هو احتمال كون صدور التقرير للتقية.

بيان ذلك: أن المكاتبات الصادرة من الشخصيات البارزة و لا سيما مثل (أئمة أهل البيت) عليهم صلوات اللّه الذين كانوا تحت المراقبة الشديدة من السلطات الزمنية و الوقتية: من الممكن أن تقع في أيدي الأعداء فتتخذ وسيلة لإيذائهم و اضطهادهم.

اذا فلا تكون المكاتبات الدالة على تقرير الامام و رضائه حجة.

هذه خلاصة ما يفهم من (الشيخ) قدس اللّه روحه في عدم حجية التقرير الصادر بالمكاتبات.

و لا يخفى فيما أفاده (الشيخ) رحمه اللّه في هذا المقام.

بيان ذلك: أن (صيقل) بعد صدور الجواب من الامام عليه السلام قد عمل به، و استمر على صنع أغلفة السيوف من جلد الميتة، لكنه جعل ثوبا لصلاته، و طهّر ما أصاب بدنه.

فصيقل كان أعرف بالتقية منا، لعلمه بموقف الامام عليه السلام -

ص: 96

..........

++++++++++

- فلو كان هناك تقية لم يرو الرواية، و لم يدم على عمله.

و لكن هناك رواية أخرى في المقام عن الامام (أبي جعفر الجواد) عليه السلام تدل بظاهرها على عدم جواز العمل بجلود الميتة.

أليك نصها عن (قاسم الصيقل) قال: كتبت الى (الرضا) عليه السلام إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاصلي فيها.

فكتب إليّ : اتخذ ثوبا لصلاتك.

فكتبت الى (أبي جعفر الجواد) عليه السلام كنت كتبت الى أبيك عليه السلام بكذا و كذا فصعب عليّ ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية.

فكتب إليّ : كل أعمال البر بالصبر يرحمك اللّه، فان كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس.

راجع (الوسائل). الجزء 2، ص 1050-1051. الحديث 4.

(و في التهذيب)، الجزء 2، ص 358، الحديث 15 هكذا:

فإن كان مما تعمل بدل (ما تعمل).

و لا يخفى عدم دلالة الكتابة على عدم جواز العمل بجلود الميتة، لأن الراوي انما انتقل الى جلود الحمر الوحشية الذكية لصعوبة اتخاذ الثوب للصلاة.

و الدليل على ذلك أمره عليه السلام له بالتصبر و الطمأنينة في قوله:

(كل أعمال البر بالصبر يرحمك اللّه) فاخذ الثوب للصلاة التي هي من أعمال البر الشاقة تحتاج الى الصبر.

و أما قوله عليه السلام: فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس فمعناه: أنه لا بأس أن لا تتخذ ثوبا للصلاة، لأن ما تعمله ذكي طاهر.

ص: 97

و لكن (1) الإنصاف أنه اذا قلنا بجواز الانتفاع بجلد الميتة منفعة مقصودة كالاستقاء بها للبساتين و الزرع اذا فرض عده (2) مالا عرفا فمجرد النجاسة لا يصلح علة لمنع البيع لو لا الاجماع على حرمة بيع الميتة بقول مطلق (3)، لأن المانع (4) حرمة الانتفاع في المنافع المقصودة، لا مجرد (5) النجاسة.

و ان (6) قلنا: إن مقتضى الأدلة حرمة الانتفاع بكل نجس، فان

++++++++++

(1) رد على الفاضلين (المحقق و العلامة، و جماعتهما، حيث جوزوا الانتفاع بجلد الميتة، و لم يجوزوا بيعه في قول (الشيخ الأنصاري) نقلا عنهما:

و لذا جوز جماعة منهم الفاضلان في المختصر النافع، و الارشاد: الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة و الشرب، مع عدم قولهم بجواز بيعه.

(2) أي عد جلد الميتة مالا.

لا اشكال في عده مالا عرفا، لترتب الفوائد الكثيرة عليه حتى كان في العهد السابق و قبيل زماننا تصنع منه الأحذية القوية في بلاد (خراسان) الشهيرة ب: (ساغري) و كانت قوية جدا تدوم زمنا طويلا.

(3) أي حتى في الاستقاء للبساتين و الزرع.

(4) أى الذي يصلح أن يكون مانعا لعدم جواز بيع جلد الميتة:

هي حرمة الانتفاع بالنجس.

(5) فإن مجرد النجاسة لا يكون مانعا عن بيع جلود الميتة.

(6) الواو استينافية و إن شرطية جوابها قوله: فإن هذا.

و المراد من الأدلة: رواية تحف العقول، و الفقه المنسوب الى (الامام الرضا (عليه السلام، و رواية دعائم الاسلام، و النبوي المشهور، و غيرها من الأخبار الواردة في المقام التي مضت الاشارة إليها في ص 49 الى 53.

و المعنى أنه إن قلنا: إن مقتضى الأخبار المذكورة: هي حرمة الانتفاع بكل نجس حتى في الاستقاء بطل ما قلناه آنفا: من جواز بيع جلود الميتة:

ص: 98

هذا (1) كلام آخر سيجيء ما فيه (2) بعد ذكر النجاسات.

لكنا (3) نقول: اذا قام الدليل الخاص على جواز الانتفاع منفعة مقصودة بشيء من النجاسات فلا مانع من صحة بيعه، لأن ما دل على المنع عن بيع النجس من النص (4) و الإجماع (5) ظاهر في كون المانع حرمة الانتفاع، فإن رواية تحف العقول المتقدمة قد علل فيها المنع عن بيع شيء من وجوه النجس بكونه منهيا عن أكله و شربه الى آخر ما ذكر فيها.

و مقتضى رواية دعائم الإسلام المتقدمة أيضا إناطة (6) جواز البيع و عدمه بجواز الانتفاع و عدمه.

++++++++++

- بتعليل أنها ذوات منافع في قولنا: و لكن الإنصاف أنه اذا قلنا بجواز الانتفاع بجلد الميتة منفعة مقصودة كالاستقاء إلى آخره.

(1) أي القول بأن مقتضى الأدلة حرمة الانتفاع بكل نجس له بحث آخر.

(2) أي في هذا المبنى الذي هي حرمة الانتفاع بكل نجس.

(3) توجيه للاستدراك الذي أورده على كلام (المحقق و العلامة) في قوله: و لكن الإنصاف.

و خلاصة التوجيه: مذكورة في المتن.

(4) و هي الأخبار المشار إليها في الهامش 6 ص 98.

(5) و هو الإجماع المدعى في التذكرة نقلا عن الخلاف.

(6) خبر للمبتدإ المقدم في قوله: فمقتضى، أي مقتضى حديث تحف العقول، و رواية دعائم الإسلام: توقف جواز بيع جلود الميتة و عدم جوازها: على جواز الانتفاع و عدمه. بمعنى أن الجواز و العدم دائران مدار جواز الانتفاع و عدمه، فان جاز الانتفاع جاز البيع، و ان لم يجر لم يجز.

ص: 99

و أدخل ابن زهرة في الغنية النجاسات فيما لا يجوز بيعه من جهة عدم حلّ الانتفاع بها (1).

و استدل (2) أيضا على جواز بيع الزيت النجس بان النبي صلى اللّه عليه و آله أذن في الاستصباح به (3) تحت السماء قال: و هذا (4) يدل على جواز بيعه، لذلك (5) انتهى.

فقد ظهر من أول كلامه و آخره (6) أن المانع من البيع منحصر في حرمة الانتفاع و أنه يجوز مع عدمها (7)، و مثل ما ذكرناه عن الغنية

++++++++++

(1) أي بالنجاسات فاناط عدم جواز البيع على عدم جواز الانتفاع بها.

فمفهوم قوله: أنه لو كان هناك انتفاع بالنجاسات لجاز بيعها:

أن الجواز و العدم دائران مدار الانتفاع و عدمه.

(2) أي ابن زهره في الغنية على دعواه: من عدم جواز بيع النجاسات، لكونها لا ينتفع بها.

(3) أي بالزيت النجس.

راجع (سنن البيهقي) الجزء 9 ص 354. إليك نص الحديث:

سئل (رسول اللّه) صلى اللّه عليه و سلم عن الفأرة تقع في السمن، أو الزيت قال: استصبحوا به، و لا تأكلوه.

و راجع (وسائل الشيعة) الجزء 16، ص 461-462. الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1-2-3-5.

(4) أي اذن النبي صلى اللّه عليه و آله في الاستصباح بالزيت النجس

(5) أي لأجل الاستصباح به

(6) أي من أول كلام ابن زهرة و آخره.

(7) أي يجوز بيع النجس مع عدم حرمة الانتفاع.

ص: 100

من الاستدلال (1) كلام الشيخ في الخلاف في باب البيع حيث ذكر النبوي الدال على اذن النبي صلى اللّه عليه و آله في الاستصباح.

ثم قال (2) و هذا يدل على جواز بيعه انتهى (3).

و عن فخر الدين في شرح الإرشاد و الفاضل المقداد في التنقيح الاستدلال على المنع عن بيع النجس بأنه محرم الانتفاع، و كل ما كان كذلك لا يجوز بيعه (4).

نعم ذكر في التذكرة شرط الانتفاع (5) و حليته بعد اشتراط الطهارة.

++++++++++

(1) أي من استدلال ابن زهرة على جواز بيع ما ينتفع به و ان كان نجسا.

(2) أي (الشيخ) في الخلاف قال: و هذا (أي اذن الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله بالانتفاع بالزيت النجس في الاستصباح به تحت السماء.

راجع (الخلاف) طبعة طهران الثانية سنة 1377. الجزء 1 ص 588.

(3) أي ما أفاده (الشيخ) رحمه اللّه في الخلاف في هذه المسألة

(4) أي كل ما كان محرم الانتفاع لا يجوز بيعه.

هذا قياس منطقي من الشكل الأول هكذا:

الصغرى: النجس يحرم الانتفاع به.

الكبرى: و كل ما يحرم الانتفاع به لا يصح بيعه.

النتيجة: فالنجس لا يصح بيعه.

(5) خلاصة ما ذكره (العلامة) رحمه اللّه في التذكرة: أن جواز بيع كل شيء يشترط فيه شيئان:

الأول: طهارة المبيع.

الثاني: وجود المنفعة المحللة.

و هذا مخالف لما ذهب إليه نجله الكريم فخر الدين. و الفاضل المقداد.

ص: 101

و استدل (1) للطهارة بما دل على وجوب الاجتناب عن النجاسات و حرمة الميتة، و الانصاف امكان إرجاعه (2) الى ما ذكرناه فتأمل (3).

و يؤيده (4) انهم أطبقوا على بيع العبد الكافر، و كلب الصيد و علله (5) في التذكرة بحل الانتفاع به، ورد من منع عن بيعه (6) لنجاسته:

بأن النجاسة غير مانعة،

++++++++++

- راجع (التذكرة) من طبعتنا الحديثة الجزء 7 ص 15 في الفصل الرابع في المسألة الأولى عند قوله: يشترط في المعقود عليه: الطهارة الأصلية.

و ص 19 في المسألة الخامسة عند قوله: يجوز بيع كل ما فيه منفعة لأن الملك سبب لإطلاق التصرف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها.

فالشرطان و هما: طهارة المبيع، و وجود المنفعة المحللة ذكرهما في مكانين الصفحة 15-19.

(1) أي العلامة رحمه اللّه.

راجع نفس المصدر ص 15 المسألة الأولى.

(2) أي يمكن ارجاع استدلال العلامة في طهارة المبيع الى ما ذكرناه:

و هو كون حرمة بيع النجس إنما هو لأجل عدم الانتفاع به.

(3) وجه التأمل: أن ظاهر كلامه في التذكرة مخالف لما ذكرناه.

(4) أي و يؤيد ارجاع استدلال العلامة في اشتراط طهارة المبيع الى ما ذكرناه: أن الفقهاء منا أطبقوا على جواز بيع العبد الكافر و كلب الصيد.

(5) أي و علل (العلامة) في التذكرة إطباق الفقهاء على جواز بيع العبد الكافر، و كلب الصيد.

(6) أي عن بيع العبد الكافر، و كلب الصيد.

ص: 102

و تعدى (1) الى كلب الحائط و الماشية و الزرع، لأن المقتضي و هو النفع موجود فيها (2).

و مما ذكرنا من قوة جواز بيع جلد الميتة لو لا الاجماع (3) اذا (4) جوزنا الانتفاع به في الاستقاء: يظهر حكم جواز المعاوضة على لبن اليهودية المرضعة بان يجعل تمام الأجرة، أو بعضها في مقابل اللبن، فان نجاسته لا تمنع عن جواز المعاوضة عليه.

فرعان
الفرع الأول: أنه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة، كذلك لا يجوز بيعها منضمة الى مذكى

فرعان: الأول: أنه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة، كذلك لا يجوز بيعها منضمة الى مذكى، و لو باعها (5) فان كان المذكى ممتازا (6) صح البيع فيه، و بطل في الميتة كما سيجيء في محله.

++++++++++

- و الباء في قوله: بأن بيانية لكيفية رد العلامة - من منع بيع العبد الكافر، و كلب الصيد لنجاستها.

(1) أي العلامة في التذكرة الى جواز بيع الكلاب المذكورة، لعدم مانعية النجاسة عن بيعها.

راجع (تذكرة الفقهاء) الجزء 7 ص 15.

(2) أي في كلب الحائط و الماشية و الزرع.

(3) أي لو لا الاجماع على عدم جواز البيع.

(4) اذا شرطية قيد لقوله: جواز بيع الميتة أي من قوة جواز بيع الميتة إذا جوزنا الانتفاع به لو لا الاجماع على عدم جواز بيعه: يظهر حكم جواز المعاوضة على لبن اليهودية: و بعين الملاك، و وحدة المناط يحتمل جواز المعاوضة على لبن المرضعة المسيحية و المجوسية.

(5) أي الميتة منضمة بالمذكى.

(6) أي معلوما عن غير المذكى.

ص: 103

و ان كان مشتبها بالميتة (1) لم يجز بيعه أيضا، لأنه لا ينتفع به منفعة محللة، بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين (2) فهو (3) في حكم الميتة من حيث الانتفاع فأكل المال بإزائه (4) أكل المال بالباطل كما أن أكل كل من المشتبهين في حكم أكل الميتة.

و من هنا (5) يعلم أنه لا فرق في المشتري بين الكافر المستحل للميتة و غيره (6)، لكن (7) في صحيحة الحلبي، و حسنته (8) اذا اختلط المذكى

++++++++++

- أي في كتاب البيع في مسألة ما لو باع ما يقبل التملك، و ما لا يقبل التملك.

(1) كأن كان هناك عدة ذبائح اشتبه المذكى بالميتة.

(2) هذا في الشبهة المحصورة، و كان كل الأطراف محلا للابتلاء.

(3) أي هذا المذكى المشتبه بالميتة في حكم الميتة: في وجوب الاجتناب عنها فيترتب على ذلك عدم وجود منفعة محللة في هذا المذكى، ثم يترتب عليه عدم جواز المعاوضة على هذا المذكى المشتبه بالميتة.

(4) أي بإزاء هذا المذكى المشتبه.

(5) أي و من أن حكم المذكى المشتبه بالميتة حكم الميتة.

(6) أي و بين الكافر غير المستحل لها.

(7) استدراك عما أفاده آنفا: من عدم الفرق في المشتري بين كونه مسلما أو كافرا.

يقصد الشيخ من هذا الاستدراك إعطاء حكم جديد: و هو الفرق بين المشتري، فإن كان مستحلا للميتة يجوز بيع المذكى المشتبه بالميتة منه. و ان كان غير مستحل لها فلا يجوز بيع المذكى المشتبه بالميتة منه.

(8) أي صحيحة الحلبي، و حسنته صريحتان في الفرق بين المشتري.

ص: 104

بالميتة بيع ممن يستحل الميتة، و حكي نحوهما عن كتاب علي بن جعفر (1)

و استوجه (2) العمل بهذه الأخبار (3) في الكفاية و هو (4) مشكل

++++++++++

- راجع (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 67-68 باب 7 الحديث 1-2 تجد الفرق بين المشتري اذا كان ممن يستحل الميتة فيجوز بيعها منه.

و بين من لا يستحل فإنه لا يجوز بيعها منه.

إليك نص الصحيحة عن الحلبي قال: سمعت (أبا عبد اللّه) عليه السلام يقول: اذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممن يستحل الميتة و أكل ثمنه. نفس المصدر الحديث 2.

إليك نص الحسنة عن الحلبي عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام أنه سئل عن رجل كان له غنم و بقر، و كان يدرك الذكي منها فيعزله و يعزل الميتة فاختلطت الميتة و الذكية فكيف يصنع به ؟

قال: يبيعه ممن يستحل الميتة و يأكل ثمنه، فانه لا بأس به نفس المصدر الحديث 1.

فهذه الصحيحة و الحسنة صريحتان في الفرق بين المشتري كما عرفت آنفا.

راجع (اللمعة الدمشقية) من طبعتنا الحديثة. الجزء 7 ص 308-309 تجد تعاليقنا في هذا الباب.

(1) نفس المصدر ص 67 الحديث 6.

(2) أي (المحقق السبزواري) في كتابه (كفاية الفقيه) أفاد أن العمل بهذه الأخبار موجه.

(3) و هي حسنة الحلبي و صحيحته، و نحوهما عن كتاب (علي بن جعفر) عليهما السلام.

(4) أي العمل بهذه الأخبار المذكورة في الهامش 3

أو العمل بتوجيه (المحقق السبزواري) في الكفاية مشكل.

ص: 105

مع أن المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه يرمى بهما (1).

و جوّز بعضهم البيع بقصد بيع المذكى.

و فيه (2) أن القصد لا ينفع بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكى لأجل الاشتباه.

نعم لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة، و جواز (3) ارتكاب أحدهما جاز البيع بالقصد المذكور (4) و لكن لا ينبغي القول به (5) في المقام (6)، لأن الأصل في كل واحد

++++++++++

وجه الاشكال: هو تنجز العلم الاجمالي هنا، للقطع بوقوع المعاوضة على الميتة كما وقعت على المذكاة، و المفروض أن المعاوضة على لحوم الميتة غير جائز.

(1) أي بالمذكاة و الميتة جميعا اذا اشتبه احداهما بالأخرى.

راجع (مستدرك وسائل الشيعة) المجلد 2 ص 427 الحديث 2.

(2) أي و في هذا القول: و هو جواز البيع بقصد المذكى.

(3) بالجر عطفا على مجرور (باء الجارة) في قوله: نعم لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب أي و لو قلنا بجواز ارتكاب احدهما.

(4) و هو البيع بقصد المذكى، بناء على وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة، و جواز ارتكاب أحدهما.

نعم يلزم في المقام عدم قصد بيع الميتة أصلا حتى يصح البيع.

(5) أي بعدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة.

(6) و هو اشتباه المذكى بالميتة، لأن الأصل في اشتباه المذكى بالميتة عدم تذكيته، و هذه قاعدة مسلمة عند الفقهاء فيما اذا اشتبه المذكى بالميتة يجري فيه: أصالة عدم تذكيته فهو خارج عن عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة.

ص: 106

من المشتبهين (1) عدم التذكية غاية الأمر العلم الاجمالي بتذكية أحدهما و هو (2) غير قادح في العمل بالأصلين و إنما يصح القول بجواز ارتكاب أحدهما (3) في المشتبهين اذا كان الأصل في كل منهما الحل (4) و علم إجمالا بوجود الحرام فقد يقال هنا (5) بجواز ارتكاب أحدهما (6) اتكالا على أصالة الحل، و عدم جواز ارتكاب الآخر (7) بعد ذلك حذرا عن ارتكاب الحرام

++++++++++

- بخلاف الشك في طهارة شيء و نجاسته، فان الأصل الجاري فيه:

هي الطهارة.

(1) و هما: اشتباه المذكى بالميتة.

(2) أي العلم الاجمالي بتذكية أحدهما لا يكون مضرا بالأصلين الأصيلين.

و هما: أصالة عدم التذكية في هذا اللحم المشتبه بالميتة.

و أصالة عدم التذكية في هذا اللحم الآخر المشتبه بالميتة.

(3) أي أحد المشتبهين.

(4) أي حلية الشيء، أو طهارته كما اذا اشتبه مائع بالخمر، فإنه يجوز لنا ارتكاب أحدهما و ان علم اجمالا بوجود الحرام الواقعي في احدهما بناء على القول بعدم وجوب الموافقة القطعية، و الاكتفاء بحرمة المخالفة القطعية، لكن لا يجوز لنا ارتكاب كليهما، للزوم المخالفة القطعية حينئذ.

(5) أي فيما اذا كان الأصل الجاري في المشتبهين الحلية، أو الطهارة كما علمت في الهامش 4.

(6) أي أحد المشتبهين، لجواز جريان أصالة الحل فيه.

(7) و هو الطرف الثاني، للزومه المخالفة القطعية، فان ارتكاب الآخر بعد ارتكاب الأول لازمه المخالفة القطعية و هو غير جائز.

ص: 107

الواقعي، و إن كان هذا الكلام (1) مخدوشا في هذا المقام (2) أيضا (3).

لكن القول به (4) ممكن هنا، بخلاف ما نحن فيه (5)

++++++++++

(1) و هو جواز ارتكاب أحد المشتبهين في الشبهة المحصورة.

(2) أي فيما اذا كان الأصل الجاري فيه الحلية، أو الطهارة كما عرفت في الهامش 4 ص 107.

(3) أي كما أن ارتكاب أحد المشتبهين فيما اذا كان الأصل الجاري فيه عدم التذكية، أو الحرمة مخدوش، إما لعدم جريان الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال، لكون العلم الإجمالي كالتفصيلي في أنه علة تامة لتنجز الحكم الشرعي.

و إما لتساقط الأصول بعد الجريان في الأطراف للمعارضة، حيث إن أصل عدم الحرمة في هذا الطرف معارض لأصل عدم الحرمة في الطرف الآخر فيسقطان معا فيجب الاجتناب عن الجميع.

راجع في جوانب الموضوع (كتاب الرسائل) لشيخنا الأنصاري.

المبحث العلم الإجمالي، فان الكتاب مشتمل على أبحاث أصولية هامة و هي كما يلي.

مبحث القطع، مبحث الظن، مبحث الشك، مبحث البراءة، مبحث الاحتياط، مبحث الاستصحاب، مبحث التعادل و التراجيح فإنه قدس اللّه نفسه قد أشبع الكلام في هذه المواضيع، و أنهى التحقيق الى قمته و ذروته.

و نحن ان شاء اللّه بعد طباعة الكتاب (المكاسب) عازمين على تحقيق (الرسائل)، و اخراجه الى عالم الطباعة و الوجود

(4) أي القول بجواز ارتكاب أحد المشتبهين في الشبهة المحصورة فيما اذا كان الأصل فيه الحلية، أو الطهارة.

(5) و هو ما اذا كان المشتبهان من جهة التذكية، و عدم التذكية -

ص: 108

لما ذكرنا (1) فافهم (2).

و عن العلامة حمل الخبرين (3) على جواز استنقاذ مال المستحل للميتة بذلك (4) برضاه.

++++++++++

- و ما نحن فيه: و هو اشتباه المذكى بالميتة، و اشتباه المرأة المحللة بالمحرمة من صغريات المسألة، و الأصل في مثله عدم التذكية، و حرمة الأكل و حرمة الوطي في المرأة المشتبهة، و لا تأتي فيه أصالة الحل.

(1) و هو أن الأصل في هذه الموارد عدم التذكية، و عدم الحلية.

(2) أي الفرق بين المقامين و هما: مقام اشتباه المذكى بالميتة، و المرأة المحللة بالمحرمة: أن الأصل فيه عدم التذكية، و عدم الحلبة.

و مقام اشتباه المائع بالخمر: أن الأصل فيه الحلية و الطهارة.

(3) و هما: صحيحة الحلبي، و حسنته المشار إليهما في الهامش 8 ص 104.

(4) أي بالبيع له برضاه فكأن البيع هنا وقع صوريا.

لا يقال: إن وقوع البيع صوريا مع المستحل موجب لعدم جواز أخذ المال منه للميتة.

فإنه يقال: إن المستحل لما كان راضيا باعطاء المال بإزاء هذه الميتة جاز للبائع أخذ المال.

و من الممكن أن المستحل لو خير بين أخذ المذكى و الميتة لأختار الميتة على المذكى اذا كانت أقل ثمنا منه، فلا مجال للإشكال المذكور.

و لا يخفى أن اختيار المستحل الميتة على المذكى اذا كانت أقل ثمنا منه فيما اذا كان منشأ موت الحيوان: عدم تذكيته على النحو المقرر في الشريعة الاسلامية كما اذا اصيبت بطلقة نارية، أو وقع عليها الجدار، أو غرقت في الماء، أو تردّت في بئر، و غير ذلك.

و أما اذا كان المنشأ في موتها المرض فمن الواضح و الطبيعي أن المستحل -

ص: 109

و فيه (1) أن المستحل قد يكون ممن لا يجوز الاستنقاذ منه إلا بالأسباب الشرعية كالذمي.

و يمكن حملهما (2) على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها التي لا تحلها الحياة من الصوف و العظم و الشعر و نحوها.

و تخصيص (3) المشتري بالمستحل، لأن (4) الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا، و لا يوجب ذلك (5) فساد البيع ما لم يقع العقد عليه (6).

و في مستطرفات السرائر (7) عن جامع البزنطي صاحب الرضا

++++++++++

- لا يقدم على شراء مثل هذه الميتة، لأن النفوس تشمئز منها مهما كانت و تنفر منها مهما بلغت صفتها، اللهم إلا بعض النفوس الدنية و الخبيثة التي تستحل الميتات فلعلها تقدم على أكلها بدون اشمئزاز و نفورة.

(1) أي و في حمل (العلامة) الخبرين المشار إليها في الهامش 8 ص 104 على جواز الاستنقاذ.

(2) أي حمل الخبرين المشار إليهما في الهامش 8 ص 104.

(3) دفع وهم:

حاصل الوهم: أنه لو كان المراد من الخبرين: قصد البائع الأجزاء التي لا تحلها الحياة فلما ذا خصّ البيع بالمشتري المستحل في الخبرين المذكورين ؟

(4) هذا جواب عن الوهم و حاصل الجواب: أن الداعي لشراء المستحل هو اللحم أيضا، لا الأجزاء التي لا تحلها الحياة فقط.

(5) و هو قصد اللحم من المشتري المستحل.

(6) أي على اللحم خاصة.

(7) باب (من السرائر)، و السرائر موسوعة فقهية من أول الطهارة الى آخر الحدود و الديات. طبع الكتاب على الحجر في (ايران)

ص: 110

عليه السلام قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها (1) و هي أحياء يصلح له أن ينتفع بما قطع.

قال: نعم يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها (2).

و استوجه في الكفاية العمل بها (3) تبعا لما حكاه الشهيد عن العلامة في بعض أقواله، و الرواية شاذة ذكر الحلي بعد ايرادها أنها من نوادر الأخبار

و الاجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرف فيها على كل حال (4) إلا أكلها للمضطر.

أقول: مع أنها (5) معارضة بما دل على المنع

++++++++++

(1) بفتح الهمزة جمع ألية بفتحها أيضا.

(2) (وسائل الشيعة) الجزء 12. ص 67. الباب 6. الحديث 6.

(3) أي بالرواية المشار إليها في الهامش 2.

(4) سواء أ كان بنحو الهبة، أم البيع، أم الأكل.

(5) مرجع الضمير: الرواية المشار إليها في الهامش 2، و مرجع الضمير في موردها: الأليات المقطوعة عن الأغنام الحية.

و كلمة معارضة بصيغة المفعول.

هذا هو الإشكال الأول من الشيخ على الرواية المشار إليها في الهامش 2.

و خلاصة الإشكال: أن الرواية المذكورة تعارضها رواية أخرى تدل على المنع من إسراج الأليات المقطوعة من الأغنام الحية. أليك نص الحديث 2.

عن الحسن بن علي قال: سألت (أبا الحسن) عليه السلام فقلت له: جعلت فداك إن أهل الجبل(1) تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها.ت.

ص: 111


1- المراد من أهل الجبل إما سكانه، أو الذين عندهم الأغنام و البقر. و المراد من تثقل: كثرة الأليات.

من موردها، معللا (1) بقوله عليه السلام: أ ما علمت أنه يصيب الثوب

++++++++++

- قال: هي حرام.

قلت: فنستصبح بها؟

قال: أ ما تعلم أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام.

راجع نفس المصدر. الجزء 16. ص 359. الحديث 2.

و لا يخفى عدم دلالة الرواية على حرمة استعمال الدهن النجس المتخذ من الأليات المقطوعة من الأغنام في الاسراج حتى تكون معارضة لتلك.

بل تدل على حرمة الاصابة باليد و الثوب، حيث إن الامام عليه السلام علل عدم جواز استعمال الدهن المتخذ من الأليات: باصابته اليد و الثوب بقوله عليه السلام: أ ما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام.

فالحاصل أن الرواية هذه لا تعارض تلك الدالة على جواز استعمال الدهن المتخذ من الأليات المقطوعة من الأغنام فلو فرضنا استعمال الدهن المذكور بنحو لا يصيب اليد و الثوب كما في عصرنا الحاضر، حيث يتخذ بواسطة الآلات و المكائن الكهربائية فالحكم بحرمة الاستعمال مشكل، فكيف تكون معارضة كما أفادها الشيخ بقوله: مع أنها معارضة بما دل على المنع.

نعم غاية ما في الباب دلالة الرواية على الكراهة و أين الحرمة المدعاة من الكراهة ؟

و مرجع الضمير في من موردها: الأليات، و في و هو حرام:

الإصابة: و هو مصدر باب الإفعال، و ليست التاء تاء تأنيث ليحتاج الى التطابق.

(1) بصيغة الفاعل منصوب على الحالية للامام، أي حال كون الامام عليه السلام يعلل حرمة الإسراج بالدهن المتخذ من الأليات المقطوعة بإصابته اليد و الثوب.

ص: 112

و اليد و هو حرام، و مع الإغماض (1) عن المرجحات: يرجع (2) الى عموم ما دل على المنع عن الانتفاع

++++++++++

(1) عطف على قوله: مع أنها معارضة بما دل على المنع.

هذا اشكال ثان من الشيخ على الرواية الأولى الدالة على جواز استعمال الدهن المتخذ من الأليات المقطوعة من الأغنام و هي أحياء.

و خلاصة الإشكال: أن بين الروايتين المشار إليهما في الهامش 2 من ص 111، و الهامش 1 من ص 112: تباينا كليا.

اذ الاولى تدل على الجواز صريحا، و الثانية تدل على المنع صريحا مع أنهما وردتا في واقعة واحدة عن امام واحد عليه السلام فلا يمكن الحكم بسقوطهما، لأن الامام عليه السلام في مقام بيان الحكم، و إعطائه للسائل

و لا يمكن الجمع بينهما جمعا دلاليا شرعيا كما هي طريقة (شيخ الطائفة) في الخبرين المتعارضين اذا لم تكن قرينة على تقديم احدهما على الآخر كما في ثمن العذرة سحت، و لا بأس بثمن العذرة. و قد مر شرحه في الهامش 5 من ص 73.

و لا يمكن الرجوع الى المرجحات الخارجية: السندية أو الجهتية، حيث لا نذهب إليها، و إلا لكان الأخذ بالثانية هو المتعين، لأنها أقوى سندا من الأولى.

و لا يخفى: أننا راجعنا مصادر الروايتين فظهر أن الأولى أقوى سندا من الثانية، حيث إنها تنتهي الى البزنطي و الرواية عنه قوية.

بالإضافة إلى ما علمت في ص 112: من عدم دلالة الرواية على المعارضة عند قولنا في ص 112: و لا يخفى.

(2) بصيغة المجهول اي مع ما ذكرنا من الايرادات على الرواية من كونها معارضة بغيرها، و مع قطع النظر عن المرجحات: يرجع حينئذ إلى عموم ما دل على منع الانتفاع بالميتة مطلقا أي جميع تقلباته و استعمالاته.

و المراد من العموم في قوله: يرجع إلى عموم: رواية (تحف العقول) المشار إليها في ص 23-33.

ص: 113

بالميتة مطلقا (1)، مع أن الصحيحة (2) صريحة في المنع عن البيع، الا أن يحمل (3) على إرادة البيع من غير الإعلام بالنجاسة.

الفرع الثاني أن الميتة من غير النفس السائلة يجوز المعاوضة عليها إذا كانت مما ينتفع بها

الثاني (4) أن الميتة من غير النفس السائلة يجوز المعاوضة عليها إذا كانت مما ينتفع بها، أو ببعض أجزائها كدهن السمك الميتة للإسراج و التدهين، لوجود المقتضي (5)

++++++++++

- و رواية فقه الرضا عليه السلام المشار إليها في ص 52.

و رواية دعائم الاسلام المشار إليها في ص 52.

و النبوي المشهور المشار إليه في ص 53.

و أما وجه الرجوع إلى العمومات المذكورة: هو عدم إمكان الجمع بين الروايتين المذكورتين، لما بينهما من التباين الكلي.

و عدم إمكان الحكم بسقوطهما، لأن الامام عليه السلام في مقام إعطاء الحكم الشرعي للسائل و بيانه له.

و عدم إمكان الأخذ باحدهما بسبب المرجحات الخارجية التي ذكرت آنفا، لأن الشيخ لم يذهب الى المرجحات و لم يعتبرها.

فعلى ضوء ما ذكرنا تحصل: أنه مع الإشكالات الواردة على الرواية المذكورة الدالة على جواز استعمال الدهن المتخذ من الأليات المقطوعة من الأغنام الحية: أن المرجع الوحيد في المنع عن استعماله: هي العمومات المذكورة آنفا، حيث إنها صريحة في حرمة الانتفاع بالميتة مطلقا باي نحو من استعمالاته

(1) اي باي نحو من استعمالاته كما عرفت آنفا.

(2) و هي صحيحة البزنطي المشار إليها في الهامش 3 ص 111، حيث يقول الامام عليه السلام فيها: (و لا يأكلها و لا يبيعها) فجملة و لا يبيعها صريحة في المنع عن بيع هذا الدهن المتخذ من الأليات المقطوعة من الأغنام و هي أحياء.

(3) أي يحمل منع بيع الدهن المتخذ من الأليات المقطوعة من الأغنام في قوله عليه السلام: و لا يبيعها: على بيعها من غير إشعار و إعلام للمشتري.

(4) اي الفرع الثاني من الفرعين في قوله في ص 103: فرعان.

(5) و هي المنفعة المحللة المقصودة عند العقلاء.

ص: 114

و عدم المانع (1) لأن أدلة عدم الانتفاع بالميتة مختصة بالنجسة (2).

و صرح بما ذكرنا جماعة و الظاهر أنه مما لا خلاف فيه.

السادسة يحرم التكسب بالكلب الهراش و الخنزير البريين

السادسة (3) يحرم التكسب بالكلب الهراش (4) و الخنزير البريين إجماعا على الظاهر المصرح به (5) في المحكي عن جماعة، و كذلك أجزاؤهما

نعم لو قلنا بجواز استعمال شعر الخنزير و جلده جاء فيه ما تقدم في جلد الميتة (6).

++++++++++

(1) و هو وجود النجاسة.

(2) المراد من الأدلة: الرواية الواردة في (التهذيب) الجزء 9 ص 76. الحديث 58 و قد اشير، إليها في ص 11-12 مفصلا فراجع فإن المنع عن بيع الميتة في قوله عليه السلام: (لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب) في نفس المصدر: مخصوص بالميتة النجسة، لأن السائل يسأل عن الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكيّ . فجواب الامام عليه السلام له: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب دليل على أن المراد من الميتة الميتة النجسة، فالإهاب و العصب من الميتة الطاهرة لا يحرم الانتفاع بها.

(3) اي المسألة السادسة من المسائل الثمان.

(4) الهراش بكسر الهاء: الخصام و القتال.

يقال للكلب اذا لم يأت منه سوى التواثب و الفساد: كلب هراش اي كلب تحرش و خصام.

و المراد منه هنا: الكلب السائب و هو الكلب الموجود في الأزقة و الطرقات و الشوارع

(5) مرجع الضمير: الظاهر في قوله: و الظاهر المصرح به.

(6) راجع (المسألة الخامسة) من ص 91-98 في الهامش فقد أشبعنا الكلام هناك فراجع.

ص: 115

السابعة يحرم التكسب بالخمر و كل مسكر مائع و الفقاع

السابعة (1) يحرم التكسب بالخمر و كل مسكر مائع و الفقاع (2) إجماعا نصا و فتوى.

و في بعض الأخبار يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا فقال: خذها ثم أفسدها، قال علي: و اجعلها (3) خلا.

و المراد به (4) إما أخذ الخمر مجانا ثم تخليلها (5)، أو أخذها و تخليلها لصاحبها، ثم أخذ الخل وفاء عن الدراهم (6).

++++++++++

(1) أي المسألة السابعة من المسائل الثمان.

(2) بضم الفاء و تشديد القاف: شراب متخذ من الشعير.

و في بعض الأخبار: هي خمرة استصغرها الناس.

راجع (وسائل الشيعة). الجزء 17 ص 292 الباب 28 من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1.

(3) نفس المصدر ص 297 الباب 31 الحديث 6.

(4) أي المراد بالأخذ: في قول الامام عليه السلام: خذها و أفسدها

(5) أي معنى تخليل الخمر: أن يصيرها الآخذ خلا.

(6) و هي الدراهم التي كانت في ذمة المدين فيكون الخل عوضا عنها فتسقط ذمة المدين عن الدين المذكور بأخذ الدائن الخل عوضا عن الدراهم في الصورة الأولى: و هو أخذ الخمر مجانا ثم تخليلها.

لكن الظاهر أنه يشكل الحكم حينئذ بسقوط ذمة المدين بسبب صيرورة الخمر خلا، لأن الخمر حينما أخذها الدائن لم تكن قابلة للتملك، لا للدائن و لا للمدين، و بعد قابليتها للتملك بسبب صيرورتها خلا أصبحت ملكا جديدا حادثا في يد الدائن فكيف تسقط ذمة المدين بما لم يمكن تملكه قبل هذا فعليه تبقى الذمة مشغولة بالدراهم.

نعم في الصورة الثانية: و هو أخذ الدائن الخمر و تخليلها لصاحبها -

ص: 116

الثامنة: يحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة

الثامنة (1): يحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة (2) اذا توقف منافعها المحللة المعتد بها على الطهارة، لما تقدم من النبوي: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و نحوه المتقدم عن دعائم الإسلام.

و أما التمسك بعموم قوله عليه السلام في رواية (تحف العقول):

أو شيء من وجوه النجس.

ففيه نظر، لأن الظاهر من وجوه النجس: العنوانات النجسة، لأن ظاهر الوجه هو العنوان.

نعم يمكن الاستدلال على ذلك (3) بالتعليل المذكور

++++++++++

- باجرة بإزاء التخليل مثلا: يمكن الحكم بتفريغ الذمة المدينة بعد تلك العملية:

و هي صيرورة الخمر خلا.

فالحاصل: أن الظاهر: هو التفكيك بين الصورتين: و هما: الحكم باشتغال الذمة في الصورة الأولى. و الحكم بالتفريغ في الصورة الثانية.

اللهم إلا أن يقال: إن الأمر في الصورة الأولى كذلك، حيث إن الدائن قد أخذ الخمر للتخليل فبعد صيرورتها خلا يحسبها عوضا عن طلبه فتسقط ذمة المدين.

و أما تخليل الخمر مجانا، أو مع العوض فليس له مدخلية في سقوط ذمة المدين، و عدمه.

نعم لو أعطى المدين الخمر له للتخليل مجانا و بلا عوض و قال:

إن الخل له فلا تسقط ذمة المدين عن الدين.

(1) أي المسألة الثامنة من المسائل الثمان و هي خاتمتها.

(2) كالمياه المضافة المتنجسة.

(3) أي على حرمة المعاوضة على الأعيان المتنجسة غير القابلة للطهارة

ص: 117

بعد ذلك (1) و هو قوله عليه السلام: لأن (2) ذلك كله محرّم أكله و شربه و لبسه إلى آخر ما ذكر.

ثم اعلم أنه قيل بعدم جواز بيع المسوخ من أجل نجاستها.

و لما كان الأقوى طهارتها لم يحتج الى التكلم في جواز بيعها هنا.

نعم لو قيل بحرمة البيع لا من حيث النجاسة كان محل (3) التعرض له ما سيجيء: من أن كل طاهر له منفعة محللة مقصودة يجوز بيعه.

و سيجيء ذلك في ذيل القسم الثاني مما لا يجوز الاكتساب به لأجل عدم المنفعة فيه.

و أما المستثنى من الأعيان المتقدمة فهي أربعة تذكر في مسائل أربع
اشارة

و أما المستثنى من الأعيان المتقدمة فهي أربعة تذكر في مسائل أربع:

المسألة الأولى: يجوز بيع المملوك الكافر

(الأولى) (4): يجوز بيع المملوك الكافر (5)، أصليا كان أم مرتدا مليا بلا خلاف ظاهر، بل ادعي عليه الاجماع، و ليس ببعيد كما يظهر للمتتبع في المواضع المناسبة لهذه المسألة كاسترقاق الكفار، و شراء

++++++++++

(1) أي بعد قوله عليه السلام: أو شيء من وجوه النجس.

(2) التعليل المذكور يكون علة منصوصة و بمقتضاها يسري الحكم الى المتنجسات فتكون قرينة على أن المراد من أو شيء من وجوه النجس:

ما يعم المتنجس غير القابل للطهارة.

(3) بالنصب خبر كان حيث إنه ظرف، و اسم كان (ما الموصولة) في قول المصنف: ما سيجيء.

(4) أي المسألة الأولى من المسائل الأربعة المستثناة من الأعيان النجسة.

(5) للكفر أسباب فالكفار على أقسام:

(أحدها): نكران الخالق و وجود الصانع، و القول بتعطيل الكون.

(ثانيها): الإشراك باللّه عز و جل مع الاعتراف بوجود الصانع.

(ثالثها): إنكار الرسالة الخاصة مع الاعتراف بوجود الخالق -

ص: 118

..........

++++++++++

- و الأنبياء عدا نبوة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله.

(رابعها): إنكار إحدى ضروريات الدين الحنيف، مع الاعتراف بوجود الخالق، و نبوة الأنبياء بأجمعهم، و الأحكام التي جاء بها (الرسول الأعظم) صلى اللّه عليه و آله، إلا أنه منكر لاحدى الضروريات كالصلاة أو الصوم أو الحج مثلا.

(فالأول) يسمى: الملحد. الزنديق. المنكر. الطبيعي المعطل.

(و الثاني) يسمى: المشرك، أي الكافر المشرك، حيث إنه ليس منكرا للإله جل جلاله، بل يعترف به.

لكن مع القول بوجود الشريك له.

و إنما أخذ الشريك له زعما منه أنه الوسيط بينه، و بين الخالق في القرب المعنوي قال عز من قائل: «مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ » (1).

(و الثالث) يسمى: اليهودي. المسيحي. المجوسي.

(و الرابع) يسمى: منكر الضروري.

ثم الكافر إما أصلي متولد من أبوين كافرين.

و إما مرتد.

و المرتد إما ملي كمن كان كافرا، ثم أسلم فأخذ الاسلام دينا و ملة و اعتنق به، ثم رجع الى الكفر، و الى ضلالته.

و إما فطري و هو المولود عن أبوين مسلمين، أو أحدهما مسلما و الآخر كافرا ثم رجع عن الاسلام و اتخذ الكفر دينا و ملة.

و هنا قسم ثالث من المسلمين حكم عليهم بالكفر من حيث النجاسة -3.

ص: 119


1- الزمر: الآية 3.

بعضهم من بعض. و بيع العبد الكافر اذا أسلم على مولاه الكافر (1) و عتق الكافرة و بيع المرتد، و ظهور كفر العبد المشترى على ظاهر الاسلام (2) و غير ذلك.

و كذا الفطري على الأقوى (3)، بل الظاهر: أنه لا خلاف فيه (4) من هذه الجهة، و إن كان فيه كلام: من (5) حيث كونه في معرض

++++++++++

- و غيرها: و هم النواصب و الخوارج.

ثم إن هؤلاء الكفار بأقسامهم قابلون للطهارة بالاسلام اذا أسلموا حتى المرتد الفطري الذي ولد عن أبوين مسلمين، أو أحدهما مسلم، فإنه قابل للطهارة إن تاب و قبلت توبته على القول الأصح، لوجوب قتله بعد الارتداد، سواء تاب أم لم يتب، و تقسيم أمواله بين ورثته و بينونة زوجته عنه بمجرد الارتداد.

راجع حول المرتد الفطري الكتب الفقهية الامامية.

(1) أي أسلم على ضرر مولاه الكافر: بمعنى أنه أسلم ليضر مولاه فإن المولى يجبر حينئذ على بيعه حتى لا يستولي عليه، لعدم جواز استيلاء الكافر على المؤمن لقوله تعالى: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (1).

(2) بأن أظهر الاسلام، ثم اشتري فظهر كفره بعد ذلك.

فمن جميع هذه الموارد يستظهر جواز بيع المملوك الكافر.

(3) أي و كذا يجوز بيع العبد المرتد الفطري، لشمول العمومات له

(4) أي في المرتد الفطري من هذه الجهة: و هو كونه مرتدا فطريا

(5) من بيانية تبين وجه الاشكال في بيع العبد المرتد الفطري.1.

ص: 120


1- النساء: الآية 141.

التلف، لوجوب قتله (1) و لم نجد من تأمل فيه (2) من جهة نجاسته عدا ما يظهر من بعض الأساطين (3) في شرحه على القواعد، حيث احترز بقول العلامة: «ما لا (4) يقبل التطهير من النجاسات: عما يقبله (5) و لو بالاسلام كالمرتد و لو عن فطرة على أصح القولين فبنى (6) جواز بيع المرتد على قبول توبته، بل بنى جواز بيع مطلق الكافر على قبوله للطهر بالاسلام.

و أنت خبير بأن حكم الأصحاب بجواز بيع الكافر نظير حكمهم

++++++++++

(1) سواء قلنا بقبول توبته أم لا.

و لا يخفى أن الكلام بعينه جار في المرتد الملي في المرتبة الثالثة أو الرابعة اذا استتيب و لم يتب، فإنه يجب قتله.

فما الفرق بينهما من هذه الجهة ؟

(2) أي في جواز بيع العبد المرتد الفطري من حيث نجاسته، بل التأمل من جهة كونه في معرض التلف، لأنه واجب القتل.

(3) هو (الشيخ الكبير كاشف الغطاء) في شرحه على مكاسب قواعد العلامة.

(4) هذه الجملة: ما لا يقبل التطهير من النجاسات مقول قول العلامة

(5) هذه الجملة: عما يقبله محل احتراز (كاشف الغطاء).

و مرجع الضمير في يقبله: الطهارة و هو مصدر، أي احترز (كاشف الغطاء) عن النجس الذي يقبل الطهارة و لو بسبب اسلامه، لأن مبنى جواز بيع المرتد و إن كان فطريا هو قبوله الطهارة، و لو كان السبب في طهارته الإسلام، فإنه بعد أن أسلم جاز بيعه.

(6) أي علق (كاشف الغطاء) جواز بيع العبد المرتد الفطري على قبول توبته، و قبول توبته بالاسلام.

ص: 121

بجواز بيع الكلب (1)، لا من حيث قابليته للتطهير نظير (2) الماء المتنجس و أن اشتراطهم قبول التطهير (3) إنما هو فيما يتوقف الانتفاع به على طهارته (4) ليتصف (5) بالملكية، لا مثل الكلب و الكافر المملوكين (6) مع النجاسة إجماعا (7).

++++++++++

(1) هذا رد على بعض الأساطين أي جواز بيع العبد المرتد الفطري و عدم جوازه مثل الكلب فكما أن جواز بيعه متوقف على الانتفاع و عدمه على عدم الانتفاع، لا على الطهارة.

كذلك العبد المرتد فجواز بيعه، و عدم جوازه متوقف على الانتفاع و العدم لا أنه متوقف على الطهارة حتى يقال: يجوز بيعه، لأنه قابل للطهارة و لو بالاسلام.

(2) مثال للشيء الذي يتوقف قابلية بيعه على الطهارة، فإن جواز بيع الماء المتنجس متوقف على قبول طهارته.

(3) أي و أن اشتراط الفقهاء قبول المبيع الطهارة.

(4) كالماء المتنجس، و الأطعمة المتنجسة، لا الكلب و الكافر فإن الانتفاع بهما غير متوقف على طهارتهما.

(5) مرجع الضمير في ليتصف: (ما الموصولة) في قوله: إنما هو فيما يتوقف الانتفاع به، و اللام بمعنى حتى، أي حتى يتصف الشيء بالملكية.

و المعنى: أن الذي لا يتصف بالانتفاع لا يتصف بالملكية. فلا يصح بيعه. فالانتفاع بالشيء مما لا بدّ منه.

(6) حيث إن الانتفاع بهما غير متوقف على الطهارة فيتصفان بالملكية فيصح بيعهما.

(7) اجماعا قيد للكلب و الكافر المملوكين في قوله: لا مثل الكلب -

ص: 122

و بالغ تلميذه (1) في مفتاح الكرامة (2) فقال: أما المرتد عن فطرة فالقول بجواز بيعه ضعيف جدا، لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير (3) ثم ذكر (4) جماعة ممن جوز بيعه (5) الى أن قال (6): و لعل من جوز بيعه بنى على قبول توبته. انتهى (7). و تبعه على ذلك (8) شيخنا

++++++++++

- و الكافر المملوكين، أي إن الكلب و الكافر مملوكان إجماعا، مع أنهما نجسان فالنجاسة غير مانعة للتملك، لأن الملاك في صحة البيع هو الانتفاع

(1) أي تلميذ (كاشف الغطاء): و هو (السيد محمد جواد العاملي)

(2) (موسوعة فقهية) عظيمة من أول الطهارات الى آخر الحدود و الديات في شرح قواعد العلامة.

هذا الكتاب لم يسمح الزمان بمثله في استيفاء أقوال الفقهاء، و آرائهم و مواقع الشهرة و إجماعاتهم، و التنبيه على الخلل الواقع في عدة من أقوالهم مع دقة التتبع و عدم الاكتفاء بالنقل.

و خلاصة الكلام: أن الكتاب عديم النظير في موضوعه بين مصنفات علمائنا الأعلام.

(3) راجع مفتاح الكرامة الجزء 4 كتاب المتاجر ص 12.

(4) أي صاحب (مفتاح الكرامة) في نفس المصدر.

(5) أي بيع المرتد، سواء أ كان فطريا أم مليا اذا استتيب ثلاث مرات: أو أربع و لم يتب.

(6) أي صاحب (مفتاح الكرامة).

(7) أي ما قاله صاحب (مفتاح الكرامة).

(8) أي على جواز بيع الكافر و المرتد اذا كانا قابلين للطهارة بقبول توبتهما.

ص: 123

المعاصر (1).

أقول: لا إشكال و لا خلاف في كون المملوك المرتد عن فطرة ملكا

++++++++++

(1) المراد به (صاحب الجواهر) رحمه اللّه في كتابه (جواهر الكلام) راجع المجلد 5 ص 3 الطبعة القديمة على الحجر سنة 1322-1325.

أليك نص عبارته: «أما المرتد عن فطرة فالمتجه عدم جواز التكسب به، بناء على عدم قبول توبته ظاهرا و باطنا).

فإنه رحمه اللّه لم يرتب جوار بيع المرتد على جواز الانتفاع به. بل على قبوله الطهارة.

و أما (جواهر الكلام) فموسوعة فقهية عظيمة في الفقه الاستدلالي في شرح (شرائع الاسلام)، و دورة كاملة حاوية لجميع أبواب الفقه من أول الطهارات الى آخر الحدود و الديات في ستة مجلدات ضخام طبع في (ايران) على الحجر مكررا.

و أخيرا على الحروف في (النجف الأشرف) في (مطبعة النجف) على نفقة محب الخير الحاج الشيخ علي الآخوندي في أربعين جزء صدر منه لحد الآن واحد و عشرون جزء، و ستصدر إن شاء اللّه تعالى بقية أجزائه في القريب العاجل.

و الكتاب عظيم في سعة مسائله و فروعه، و كثرة إحاطته بأقوال الفقهاء، و آراء العلماء، و أدلتهم و مناقشتها، مع بعد النظر، و دقة التحقيق

و للكتاب ميزات خاصة على بقية الكتب الفقهية:

منها: أن جميع ما في الكتاب على نسق واحد، و أسلوب فارد ابتداء و انتهاء، لأنه رحمه اللّه أنهاه بالسعة التي ابتدأه بها و هذا شيء عجيب لم يتهيأ لكل أحد.

و منها: أنه كامل في أبواب الفقه، و حافل بجميع كتبه.

ص: 124

و مالا لمالكه (1): و يجوز له الانتفاع به بالاستخدام، ما لم يقتل، و إنما استشكل من استشكل في جواز بيعه: من حيث كونه في معرض القتل

++++++++++

- و منها: استغناء الفقيه به عن سائر الكتب الفقهية، و عدم استغناء الفقيه عنه بالكتب الفقهية الأخرى، لحصول الاطمئنان للمجتهد في استنباط الأحكام الشرعية منه اذا رجع إليه، و ليس كذلك لو رجع الى بقية الكتب الفقهية.

و الدليل على ذلك وجود الكتاب عند الفقيه مهما كلفه الأمر: و مهما بلغت حالته المالية و الاقتصادية.

و منها: احتواء الكتاب على الفروع الفقهية النادرة التي لا يوجد مثلها في أية موسوعة من الموسوعات الفقهية مع كثرتها و روعتها في التحقيق و التدقيق.

و الخلاصة: أن الكتاب جامع لأمهات المسائل الفقهية و فروعها فلعمر الحق: إن (الجواهر) جواهر بجميع ما تعطي هذه الكلمة من دلالة فهو اسم لمسماه.

فهذه الميزات هي سر خلود الكتاب، و سر تفوقه على بقية الموسوعات الفقهية المؤلفة، و سر بقائه مرجعا للفقهاء من يوم تأليفه الى زماننا هذا

و سيبقى ان شاء اللّه تعالى الى ظهور (الحجة المنتظر) عجل اللّه تعالى له الفرج.

مؤلف الكتاب (شيخنا صاحب الجواهر) أعلى اللّه مقامه.

(1) أي حين الارتداد.

و أما اذا كان المملوك في زمان لا تجري فيه الحدود الإلهية كعصرنا الحاضر، أو كان العبد المملوك المرتد في مكان بعيد عن الاسلام و المسلمين أو كان في بلاد الكفر فالتكسب به جائز، لوجود الانتفاع به في حالة -

ص: 125

بل واجب الإتلاف شرعا (1).

فكأن الإجماع (2) منعقد على عدم المنع من بيعه من جهة عدم قابليته للطهارة بالتوبة.

قال في الشرائع: و يصح رهن المرتد و ان كان عن فطرة (3).

و استشكل (4)

++++++++++

- عدم جريان الحد عليه، سواء قلنا بقبول توبته أم لا، لأن الملاك في جواز بيعه و عدمه: وجود الانتفاع: و هو حاصل في حالة عدم جريان الحد عليه.

(1) فإن دمه مباح لكل من علم بارتداده، لقول (الامام الصادق) عليه السلام: كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الاسلام، و جحد محمدا صلى اللّه عليه و آله و كذّبه، فإن دمه مباح لكل من سمع ذلك منه الى آخر الحديث. راجع (الكافي) الجزء 7 ص 257 الحديث 11.

(2) أي الاجماع القائم على عدم قابلية المرتد الفطري للطهارة لا يكون مانعا من بيعه، بل المانع كونه في معرض التلف، لوجوب قتله، سواء قلنا بقبول توبته أم لا.

(3) راجع (شرائع الاسلام) الطبعة الجديدة الجزء 2 ص 77.

(4) أي استشكل (الشهيد الثاني) على جواز بيع العبد المرتد الفطري في المسالك و قال: إن عدم الجواز لأجل أنه في معرض التلف لكونه واجب القتل فلا يترتب على شرائه فائدة توجب بذل المال في سبيله و إزائه فتسقط ماليته، و ليس إشكاله على جواز بيع العبد المرتد الفطري من حيث إنه نجس.

إليك نص عبارته في المسالك.

أما الفطري فيشكل فيه الصحة، لأنه لا تقبل توبته، و يجب إتلافه شرعا فتنتفي الغاية المترتبة على الرهن: و هي الوثيقة.

ص: 126

في المسالك من جهة وجوب إتلافه، و كونه (1) في معرض التلف.

ثم اختار (2) الجواز، لبقاء ماليته الى زمان القتل.

و قال في القواعد (3): و يصح رهن المرتد و ان كان عن فطرة على إشكال (4).

++++++++++

- و وجه جواز بيعه: بقاء ماليته حالة الرهن. و تعرضه للتلف لا يمنع عن رهنه فهو كالمرض. فكما أن المرض لا يمنع من رهن المريض، كذلك ارتداد العبد عن فطرة لا يمنع من رهنه.

و أما (المسالك) فموسوعة فقهية كاملة في الفقه الاستدلالي النظري في شرح (شرائع الاسلام) في جزءين مطبوعين على الحجر ب: (ايران).

مؤلف الكتاب: (شيخنا الشهيد الثاني) رحمه اللّه.

(1) بالجر عطفا على مجرور (من الجارة) في قوله: من جهة أي و من كون العبد المرتد الفطري في معرض التلف، لوجوب قتله و ان قبلت توبته.

و المقصود من ذكر هذه الأقوال: بيان أنها تأييد لما ذهب إليه (شيخنا الأعظم): من أن المانع من بيع العبد المرتد الفطري: هو عدم ماليته، لكونه في معرض التلف، لا أن المانع من بيعه نجاسته كما أفاده بعض، حيث إن عدم مانعية النجاسة عن بيعه اجماعي.

(2) أي اختار (الشهيد الثاني) بعد القول بذلك: جواز المعاوضة على العبد المرتد الفطري، راجع المسالك المجلد 1. ص 231.

(3) موسوعة فقهية في الفقه الامامي جامع لأبوابه من أول الطهارة الى آخر الحدود و الديات، كثير الفروع و المسائل، و عليه شروح مفيدة.

مؤلف الكتاب: (آية اللّه العلامة الحلي).

(4) هذا القيد و هو على اشكال: للمرتد الفطري، أي يصح رهن -

ص: 127

و ذكر في جامع المقاصد: أن منشأ الإشكال (1) أنه (2) يجوز بيعه فيجوز رهنه بطريق أولى (3)، و من (4) أن مقصود البيع حاصل

++++++++++

- العبد المرتد الفطري على إشكال في ذلك.

(1) أي منشأ اشكال العلامة في جواز رهن العبد المرتد الفطري عند قوله: و يصح رهن العبد المرتد على إشكال: شيئان.

(2) دليل لجواز رهن العبد المرتد الفطري: ببيان أنه اذا جاز البيع جاز الرهن عليه بطريق أولى.

(3) و لعل وجه أولوية جواز الرهن: أن في البيع خروجا للمبيع عن ملك البائع الى ملك المشتري، و قطع العلقة الملكية و المالكية عن هذا الملك رأسا.

بخلاف الرهن فإن علقة الملكية و المالكية موجودة فيه، لأنه وثيقة الى أمد محدود يرجع الى صاحبه بعد أداء الدين فليست حقيقته خروج الملك عن الملكية فيرجع الى ما كان بطبعه الأولي، فاذا قلنا بجواز بذل المال ازاء ما يخرج عن الملك رأسا، مع كونه في معرض التلف كما في بيع العبد المرتد فجواز بذل المال ازاء ما لم يخرج عن الملك كما في الرهن: يكون بطريق أولى، لعدم صدق الأكل بالباطل هنا.

(4) دليل لعدم جواز الرهن على العبد المرتد الفطري.

و خلاصة الدليل: أن المقصود من البيع هي المبادلة، أي مبادلة مال بمال، و هذا المعنى حاصل في بيع العبد المرتد و ان كان المبيع موقت الانتفاع و آني الحصول، لكونه في معرض التلف بسبب وجوب قتله فورا، سواء قبلت توبته أم لا.

و أما الرهن فإن المقصود منه هي الوثيقة على حصول الدين فيلزم أن تكون الرهينة صالحة البقاء الى المدة المؤجلة في الرهن حتى يتمكن المرتهن -

ص: 128

و أما مقصود الرهن فقد لا يحصل بقتل الفطري حتما، و الآخر (1) قد لا يتوب، ثم اختار (2) الجواز.

و قال في التذكرة: المرتد إن كان عن فطرة ففي جواز بيعه نظر ينشأ من (3) تضاد الحكمين.

++++++++++

- من الحصول على ما دفعه الى الراهن، و هو الدين، و المفروض أن العبد المرتد الفطري مشكوك البقاء، حيث إنه فى معرض التلف في كل آن و حين فلا يصح للمرتهن اقدامه على شيء مشكوك البقاء.

(1) و هو المرتد الملي، حيث يجوز أن لا يتوب عند استتابته فيكون في معرض التلف فيجب قتله حينئذ فلا يصح رهنه، لعدم ترتب فائدة الرهن و هي الوثيقة على رهنه، فهو كالمرتد الفطري، لكن مع فرق:

و هو أن الملي اذا استتيب و تاب تقبل توبته فلا يقتل فيصح رهنه.

و أما الفطري فيقتل حالا، سواء قبلت توبته أم لم تقبل.

(2) أي (المحقق الثاني) بعد أن ذكر منشأ اشكال العلامة في ذلك اختار جواز الرهن على العبد المرتد الفطري فالملي بطريق أولى.

(3) دليل لعدم جواز بيع المرتد الفطري.

و خلاصة الدليل: أن الحكم بوجوب قتل المرتد الفطري فورا، سواء قلنا بقبول توبته أم لا: مع الحكم بجواز بيعه حكمان متضادان لا يجتمعان اذ وجوب القتل معناه أنه لا مالية له، و جواز بيعه معناه له المالية.

و لا يخفى أن تضاد الحكمين أمر بدوي يتراءى في بادئ الأمر.

لكن بعد التأمل الدقيق يمكن رفعه.

بيان ذلك: أن العبد المرتد الفطري يمكن أن يكون ذا أعمال صناعية أو يدوية لها أهميتها في المجتمع الانساني يستفاد منها، أو يكون مختصا في بعض العلوم و الفنون لا يعلمها غيره فحينئذ يجوز شراؤه لهذه الغايات -

ص: 129

و من (1) بقاء الملك، فان كسبه لمولاه.

أما عن غير فطرة (2) فالوجه صحة بيعه، لعدم تحتم قتله (3) ثم ذكر (4) المحارب الذي لا تقبل توبته،

++++++++++

- و المنافع فيشترى لأجلها، ثم بعد أخذ النتيجة و استفادة المعلومات منه يقدّم الى الحاكم الشرعي لاجراء الحد عليه فعليه لا يكون هناك حكمان متضادان لا يمكن اجتماعهما حتى لا يجوز بيعه.

(1) دليل لجواز بيع العبد المرتد الفطري.

و خلاصة الدليل: أن ملكية العبد المرتد الفطري باقية لمولاه قبل القتل، و كل منفعة تكون للعبد: و منها كسبه ترجع لمولاه، و بقاء الملك معناه صحة بيعه: و تضاد الحكمين المذكورين يقتضي عدم صحة بيعه.

و المراد من المولى هنا المشتري الجديد في قوله: فإن كسبه لمولاه.

(2) و هو المرتد الملي.

(3) لجواز توبته بعد الاستتابة، و رجوعه الى الإسلام.

راجع (تذكرة الفقهاء) من طبعتنا الحديثة. الجزء 7. القسم الأول. ص 27.

و لا يخفى أن صحة بيع العبد المرتد الملي فيما اذا كان البيع قبل الاستتابة، و أما اذا كان بعدها و لم يتب فالحكم بصحة بيعه مشكل، لوجوب قتله فيكون كالمرتد الفطري.

(4) أي العلامة في نفس المصدر.

و المحارب بصيغة الفاعل من باب المفاعلة، و هو الذي يجرد السلاح على الناس لإخافتهم، فمن كان هذا عمله يحد إما بالقتل، أو الصلب أو قطع يده اليمنى و رجله اليسري، أو النفي من الأرض الى بلاد أخرى لقوله تعالى:

ص: 130

لوقوعها (1) بعد القدرة عليه.

و استدل (2) على جواز بيعه بما يظهر منه جواز بيع المرتد عن فطرة و جعله (3) نظير المريض المأيوس عن برئه.

نعم منع (4).

++++++++++

- «إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ » (1).

راجع حول المحارب (اللمعة الدمشقية) من طبعتنا الحديثة الجزء 9 من ص 290 الى ص 302.

(1) أي لوقوع توبة المحارب بعد القدرة و الاستيلاء عليه فلا تفيد التوبة في رفع الحد عنه فيكون في معرض الخطر، لوجوب الحد عليه حينئذ باحدى الكيفيات الأربعة المذكورة.

(2) أي العلامة في نفس المصدر استدل على جواز بيع العبد المحارب

و خلاصة الاستدلال أن المحارب نظير العبد المرتد الفطري في جواز الانتفاع به الى زمن القتل، فكما أنه يجوز الاستفادة من المرتد من بداية شرائه الى زمن إجراء الحد عليه، لأن الملاك و المناط في جواز البيع و عدمه هو الانتفاع و عدمه.

فكذلك المحارب يجوز بيعه لهذه الجهة بوحدة الملاك من دون فرق بينهما

(3) أي و جعل العلامة صحة بيع الكافر المحارب نظير العبد المريض الذي لا يرجى شفاؤه. راجع نفس المصدر.

(4) أي العلامة.3.

ص: 131


1- المائدة: الآية 33.

في التحرير (1) و الدروس (2) عن بيع المرتد عن فطرة، و المحارب اذا وجب قتله: للوجه المتقدم (3).

و عن التذكرة، بل في الدروس: أن بيع المرتد عن ملة أيضا مراعى بالتوبة (4).

و كيف كان فالمتتبع يقطع بأن اشتراط قابلية الطهارة (5) انما هو فيما يتوقف الانتفاع المعتد به (6) على طهارته، و لذا (7) قسّم في المبسوط

++++++++++

(1) (التحرير): موسوعة فقهية استدلالية في (فقه الامامية) جامع لأبواب الفقه (للعلامة الحلي).

طبع الكتاب في (ايران) على الحجر منذ عهد قديم.

(2) موسوعة فقهية في (فقه الامامية) لشيخنا الشهيد الأول.

طبع الكتاب على الحجر ب: (ايران).

(3) و هو لزوم تضاد الحكمين: جواز البيع، و وجوب القتل.

و هما ضدان لا يجتمعان.

(4) أي جواز بيعه متوقف على التوبة، و رجوعه الى الاسلام.

فإن تاب و رجع جاز بيعه، و إن لم يتب وجب قتله.

فحكمه حكم المرتد الفطري في عدم جواز بيعه، لوجوب قتله حينئذ راجع نفس المصدر.

(5) أي في مطلق المبيع، من دون اختصاصها بالمرتد.

(6) المعتد به على قسمين: قسم يكون بتعدد أفراد الانتفاع و إن كان في آحاده غير معتد بها.

و قسم يكون معتدا به و ان كان واحدا، لأنه في نظر العقلاء ذو أهمية

(7) أي و لأجل أن اشتراط قابلية الطهارة إنما هو فيما يتوقف على الانتفاع المعتد به.

ص: 132

المبيع الى آدمي و غيره، ثم اشترط الطهارة في غير الآدمي. نعم استثنى الكلب الصيود (1).

المسألة الثانية يجوز المعاوضة على غير كلب الهراش في الجملة

الثانية (2) يجوز المعاوضة على غير (3) كلب الهراش في الجملة (4) بلا خلاف ظاهر، إلا ما عن ظاهر اطلاق العماني (5) و لعله (6) كاطلاق

++++++++++

(1) الصيود بفتح الصاد و ضم الياء على زنة فعول و هو من صيغ المبالغة و بمعنى الفاعل، أي الكلب الصائد. قال ابن مالك في ألفيته:

فعال أو مفعال أو فعول بكثرة عن فاعل بديل

(2) أي المسألة الثانية من المسائل الأربعة المستثناة من الأعيان النجسة

(3) و هو كلب الحائط، و الصيد، و الماشية، و الزرع.

و أما الهراش فقد تقدم شرحه في ص 115. في الهامش 4.

(4) انما قيد غير كلب الهراش بقوله: (في الجملة)، للاختلاف في بعض أفراد غير كلب الهراش: في جواز المعاوضة عليه.

(5) حيث إنه لم يستثن جواز بيع الكلاب الأربعة عن كلب الهراش و أبقاها على عدم الجواز كما قال بعدم الجواز في الهراش.

(و أما العماني) فهو (الحسن بن علي بن أبي عقيل الحذّاء).

(6) أي و لعل هذا الإطلاق و هو عدم استثناء الكلاب الأربعة في كلام (العماني) كإطلاق كثير من الأخبار: في أن ثمن الكلب سحت و لم يقيد بكلب دون كلب.

راجع (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 62 الباب 5 من أبواب تحريم أجرة الفاجرة الحديث 5 و ص 63 الحديث 9.

أليك نص الحديث 5. عن السكوني عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام

قال: السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب الى آخر الحديث.

و أليك نص الحديث 9 عن (جعفر بن محمد) عن آبائه في وصية -

ص: 133

كثير من الأخبار، بأن ثمن الكلب سحت محمول (1) على الهراش، لتواتر (2) الأخبار، و استفاضة نقل الإجماع على جواز بيع ما عدا كلب الهراش

++++++++++

- النبي صلى اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام.

قال: يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب إلى آخر الحديث فهذان الحديثان، و غيرهما مما ورد في المقام في نفس المصدر مطلقة لا تخص كلبا دون كلب.

و راجع (مستدرك وسائل الشيعة) المجلد 2 ص 426-427 الباب 5 الحديث 1-6.

(1) خبر لقوله: و لعله أي و لعل الإطلاق في كلام (العماني) في الكلب محمول على (الكلب الهراش) كما حمل الكلب الوارد في الأخبار المشار إليها في الهامش 6 ص 133: على كلب الهراش أيضا.

(2) اللام تعليل لحمل الكلب الوارد في الأخبار المطلقة المشار إليها في الهامش 6 ص 133: على كلب الهراش.

و تعليل أيضا لحمل إطلاق كلام العماني على كلب الهراش.

راجع (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 63 الحديث 7-8. و ص 83 الحديث 1 - 3 - 5 - 6 - 7. أليك الحديث 7 من ص 63 عن أبي بصير عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام في حديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: ثمن الخمر، و مهر البغي، و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت. و أليك الحديث 8 من نفس الصفحة.

و عن (محمد بن علي بن الحسين) قال: قال عليه السلام:

أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت.

فالحديثان مقيدان يقيدان تلك المطلقات المشار إليها في الهامش 6 ص 133 و يخصصانها بكلب الهراش، دون مطلق الكلب.

ص: 134

في الجملة (1).

ثم إن ما عدا كلب الهراش على أقسام:

(أحدها) كلب الصيد السلوقي. و هو المتيقن من الأخبار (2) و معاقد الاجماعات الدالة على الجواز.

(الثاني) (3) كلب الصيد غير السلوقي، و بيعه جائز على المعروف من غير ظاهر اطلاق المقنعة و النهاية (4).

و يدل عليه (5) قبل الاجماع المحكي عن الخلاف و المنتهى و الإيضاح و غيرها (6) الأخبار (7) المستفيضة:

(منها) (8) قوله عليه السلام في رواية القاسم بن الوليد: قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد؟

++++++++++

(1) سبق المراد من التقييد بقوله: في الجملة في الهامش 4 ص 133.

(2) و هي الأخبار المشار إليها في الهامش 2 من ص 134.

(3) أي القسم الثاني من أقسام كلب غير الهراش.

(4) فإن ظاهر هما اختصاص الجواز بكلب الصيد السلوقي.

و لا يخفى أن ذهاب الشيخ الى اختصاص جواز بيع الكلب الصيود:

بكلب الصيد السلوقي لا يدل على عدم جواز اقتناء كلب الصيد غير السلوقي.

(5) أي على جواز بيع الكلب غير السلوقي.

(6) أي و غير هذه الكتب الثلاثة مما نقل الاجماع فيها.

(7) بالرفع فاعل لقوله: و يدل، أي و يدل على جواز بيع الكلب غير السلوقي: الأخبار المستفيضة الآتية بقوله: منها و منها و منها.

(8) أي من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع كلب الصيد و شرائه.

ص: 135

قال: سحت، و أما الصيود فلا بأس به (1).

(و منها) (2) الصحيح عن ابن فضال عن أبي جميلة عن ليث قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الكلب الصيود يباع ؟

قال عليه السلام نعم و يؤكل ثمنه (3).

(و منها) (4) رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ثمن كلب الصيد؟ قال: لا بأس به، و أما الآخر فلا يحل ثمنه (5)

(و منها) (6) ما عن دعائم الاسلام للقاضي نعمان المصري عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لا بأس بثمن كلب الصيد (7).

(و منها) (8) مفهوم رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام

++++++++++

(1) (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 83 الباب 14 من أبواب تحريم بيع الكلاب. الحديث 1.

(2) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الكلب الصيود و شرائه.

(3) (التهذيب) الجزء 6 ص 365. الحديث 137.

(4) أي و من تلك الاخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الكلب الصيود و شرائه.

(5) (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 83 الباب 14. الحديث 5.

(6) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع كلب الصيد

(7) (دعائم الاسلام) طباعة مصر دار المعارف عام 1383 الجزء 2 ص 19. الحديث 28.

(8) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الكلب الصيود و شرائه مفهوم رواية أبي بصير.

و المراد من المفهوم: مفهوم الوصف الواقع في قوله عليه السلام:

ص: 136

قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ثمن الخمر و مهر البغي، و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت (1).

(و منها) (2) مفهوم رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، و لا بأس بثمن الهرة (3).

و مرسلة الصدوق (4) رحمه اللّه و فيها: ثمن الكلب الذي ليس بكلب

++++++++++

- عليه السلام: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، فإن مفهومه: ثمن الكلب الذي يصيد ليس بسحت.

ثم إن الظاهر و المتراءى من كلام (شيخنا الأعظم) أن الوصف له مفهوم و أنه حجة، حيث يستدل بمفهوم هذه الرواية على صحة جواز بيع كلب الصيد و شرائه، مع أنه قدس سره لا يقول بأن للوصف مفهوما حتى يكون حجة فهو يقول: إن الوصف لا يفيد المفهوم أي ليس له مفهوم فانكاره راجع الى الصغرى: و هو أن الوصف ليس له مفهوم لا الى الكبرى: و هو أن المفهوم ليس بحجة، بل هو معترف بهذه الكبرى الكلية، لكنه منكر لوجود مفهوم للوصف.

فعلى ظاهر كلامه يجوز أخذ الثمن على كلب الصيد فيصح بيعه و شراؤه و المعاوضة عليه.

(1) (التهذيب) الجزء 7 ص 135. الحديث 7.

(2) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع كلب الصيد و شرائه.

(3) نفس المصدر الجزء 6 ص 356 الحديث 38.

(4) بالرفع عطفا على كلمة مفهوم في قوله: و منها مفهوم، أي و من تلك الأخبار المستفيضة مفهوم مرسلة الصدوق.

ص: 137

الصيد سحت (1).

ثم إن دعوى انصراف هذه الأخبار (2) كمعاقد (3) الإجماعات المتقدمة: الى السلوقي (4) ضعيفة (5)

++++++++++

(1) (من لا يحضره الفقيه) الجزء 3 ص 105. الحديث 83.

(2) و هي المشار إليها في الهامش 8 ص 135 و الهامش 3-5-7 من ص 136، و الهامش 1-3-4 من ص 137.

أي دعوى انصراف الأخبار المذكورة الواردة في جواز بيع الكلب الصيود، و نفي البأس عن ثمنه: الى كلب الصيد السلوقي الذي هو نوع خاص من الكلاب، و له هيئة غير هيئة بقية الكلاب و هو منسوب الى قرية سلوق التي هي من قرى اليمن: ضعيفة.

ثم إن المراد من الانصراف: انصراف المعنى من اللفظ فقط، من دون وجود قرينة على ذلك.

(3) تشبيه من الشيخ، أي دعوى انصراف الأخبار المذكورة الى كلب الصيد السلوقي كدعوى انصراف الاجماعات المنقولة الى كلب الصيد السلوقي فكما أن تلك الدعوى ضعيفة و باطلة ليس لها شاهد.

كذلك هذه ضعيفة باطلة ليس لها شاهد.

و معاقد: جمع معقد بفتح الميم و سكون العين و فتح القاف: و هو اللفظ الدال على الحكم الذي انعقد عليه الاجماع كما في قولك: بيع النجس لا يصح اجماعا لو فرض انعقاد الاجماع عليه فتكون هذه الجملة معقدا لهذا الاجماع: و دلالتها على الاجماع لفظية.

(4) الجار و المجرور متعلق بقوله: انصراف، أي دعوى انصراف الأخبار المذكورة الى الكلب السلوقي كادعاء انصراف الاجماعات المنقولة إليه.

(5) خبر لاسم إن في قوله: ثم إن دعوى.

ص: 138

لمنع (1) الانصراف، لعدم (2) الغلبة المعتد بها على فرض

++++++++++

(1) أي انصراف تلك الأخبار المستفيضة التي ذكرها الشيخ بقوله:

منها و منها و منها: الى كلب الصيد السلوقي.

(2) تعليل لمنع الانصراف المدعى.

و خلاصة التعليل: أن للانصراف منشأين:

(أحدهما): غلبة الوجود في الخارج لبعض المصاديق، و قلة الوجود بالقياس الى بعضها الآخر في كل لفظ له شمول، و يدعى أن اللفظ متى استعمل انصرف الى ما هو أكثر وجودا في الخارج، دون النادر القليل المصداق، و ليس لهذا الانصراف سبب إلا الكثرة الوجودية، و إلا الغلبة الخارجية لهذا دون هذا فيجعل ذلك كبرى كلية منطبقة على أي مورد كثر فيه الفرد الموجود في الخارج، و قل فيه الطرف الآخر، لانصراف اللفظ الى ما ثبت له الغلبة في الوجود، دون الفرد النادر القليل.

خذ لذلك مثالا:

لفظ (العامل) ينصرف الى من يباشر العمل بيده كالبناية و النجارة و الحياكة و الخياطة و الكتابة و الطباعة و ما ضاربها، و لا يشمل المهندس و المعمار و المقاول و من يريد العمل، مع أنهم عمال، و ليس هذا الانصراف إلا لغلبة الوجود في الخارج.

(الثاني) كثرة استعمال اللفظ المطلق في بعض مصاديقه، و قلة استعماله في البعض الآخر بحيث لو اريد باستعماله، أي استعمال اللفظ المطلق:

المصداق الآخر لوجب على المستعمل نصب قرينة على المراد.

خذ لذلك مثالا:

لفظ الكلب و الخنزير ينصرفان الى البريين متى اطلقا و استعملا في حين أن الكلب و الخنزير البحريين من المصاديق قطعا فيحمل دليل النجاسة -

ص: 139

..........

++++++++++

- الواردة فيهما على البريين، دون البحريين، و ليس لهذا الحمل سبب ظاهر سوى الانصراف المذكور إليهما، دون الآخرين

و السبب الوحيد المبرر للحمل على بعض أفراد اللفظ: هي الغلبة الاستعمالية، دون الوجودية.

و لو فرض أن وجود الكلب البري أقل، و البحري أكثر وجودا إلا أن الاستعمال في البرى أكثر، لعدم مساعدة الاستعمال في البحري:

لكان الأخذ بالأول و هو البري حتميا بتيا، و الثاني معرضا عنه، و ليس هذا الانصراف إلا من ناحية كثرة استعمال لفظ الكلب فيه، دون القسم الآخر.

اذا عرفت منشأ الانصراف فنقول تطبيقا لتلك الكبرى المتقدمة في المنشأ الأول: و هي الغلبة الوجودية الخارجية لبعض الأفراد: إن الكلب الصيود الذي نطقت به الأخبار الدالة على جواز بيعه، و حلية ثمنه منصرف الى الكلب السلوقي الذي هو قسم خاص من الكلاب ينسب الى قرية من نواحي (اليمن)، حيث إن أكثر كلابها صيود معلّم، أو لكون كل كلب يؤخذ منها يسمى بالسلوقي، و عليه فيبقى غير السلوقي من الصيود تحت عموم المنع فالقائل بانصراف الصيود الى السلوقي قد جعل منشأ انصراف الصيود الى السلوقي و حمل روايات جواز بيعه، و حلية ثمنه: كثرة الوجود و غلبة الصيود السلوقي: هو المصداق المنصرف إليه اللفظ ليس إلا، مع أن للكلب الصيود مصاديق أخرى، حيث إن كلب الصيود السلوقي من صغريات تلك الكبرى الكلية التي هي غلبة الوجود الخارجي.

هذه غاية ما أفيد في المقام من دعوى الانصراف و ان المراد من الكلب الصيود هو الكلب الصيود السلوقي.

لكن لما كان الاستدلال بالانصراف مخدوشا صغرى و كبرى تصدى -

ص: 140

..........

++++++++++

- الشيخ للرد عليه و أفاد بمنع الصغرى أولا

و حاصل المنع: أننا نمنع الصغرى: و هي غلبة الوجود، بناء على تسليم كون غلبة الوجود منشأ للانصراف، حيث ليس هناك غلبة معتد بها في وجود السلوقي خارجا حتى ينصرف اللفظ إليه. مع أنه لا بدّ من وجود الغلبة حتى تكون منشأ للانصراف كما هو المدعى فاذا لم يكن هناك غلبة يعتد بها كيف يمكن دعوى انصراف لفظ الكلب الصيود في الأخبار:

إلى الكلب الصيود السلوقي. لاحتمال أن كل كلب يؤخذ من تلك القرية يسمى سلوقيا و ان لم يكن صيودا معلّما فيكفي في منع هذه الغلبة المدعاة هذا الاحتمال.

هذا في منع الصغرى.

و أما منع الكبرى: و هو كون غلبة الوجود منشأ للانصراف.

فخلاصة المنع: أننا لا نذعن بكون غلبة الوجود وحدها منشأ للانصراف اذا لم يكن هناك غلبة استعمال اللفظ في الفرد المدعى انصرافه إليه، بل لا بدّ من وجود غلبة الاستعمال مع غلبة الوجود حتى يصح دعوى الانصراف.

و فيما نحن فيه لم يكن غلبة الاستعمال موجودة حتى يقال بالانصراف.

فالحاصل أنه تارة نمنع وجود غلبة معتد بها حتى يمكن دعوى الانصراف في المقام، و هذا هو المعبر عنه بمنع الصغرى.

و أخرى نمنع كون غلبة الوجود وحدها من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف، و هذا هو المعبر عنه بمنع الكبرى.

و الى انكار الصغرى و الكبرى أشار الشيخ بقوله: لمنع الانصراف لعدم الغلبة المعتد بها على فرض تسليم كون مجرد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف.

ص: 141

تسليم (1) كون مجرد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف.

++++++++++

- ثم إن الشيخ يمنع ثانيا عن التطبيق الصغروي أيضا: بعدم إمكان تأتي الكبرى المدعاة و تطبيقها في مثل قوله عليه السلام: ثمن الكلب الذي لا يصيد المشار إليه في الهامش 2 من ص 137.

و مثل قوله عليه السلام: ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت المشار إليه في الهامش 4 من ص 137.

و حاصل المنع: أن ادعاء الانصراف في مثلهما مما سلب عنهما صفة الاصطياد يستلزم منه الجمع بين الضدين، إذ كيف يمكن أن يقال بانصراف الكلب الصيود الى الكلب السلوقي الصيود الذي سلب منه صفة الاصطياد كما هو مقتضى منطوق التقييد فلا مجال لدعوى الانصراف المذكور في هاتين الجملتين من الروايتين.

هذا ما أفاده الشيخ من عدم المجال للانصراف فيهما.

لكن ما أفاده لا يتأتى في الروايتين، بل يأتي في الرواية المشار إليها في الهامش 2 من ص 137، حيث لم يثبت صفة الاصطياد للكلب حتى ينصرف الى كلب مخصوص، و انما فيه نفي الصفة.

و أما الرواية المشار إليها في الهامش 4 ص 137 فلا مجال للإشكال فيها حيث إنه عليه السلام نفى كونه كلب صيد، لا أنه نفى الصيد نفسه فالانصراف المذكور في الأخبار و الإجماعات المنقولة على فرض صحته يأتي في الكلب الصيود المنفي عنه صفة الاصطياد فالمعنى على تقدير الانصراف و صحته:

(ثمن الكلب الذي ليس بسلوقي سحت).

(1) أي و بعد التسليم بأن غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف، و قد عرفت شرح هذا في ص 141 عند قولنا: و أما منع الكبرى.

ص: 142

مع (1) أنه لا يصح في مثل قوله: ثمن الكلب الذي لا يصيد أو ليس بكلب الصيد، لأن مرجع التقييد (2) الى إرادة ما يصح عنه سلب صفة الاصطياد.

و كيف كان (3) فلا مجال لدعوى الانصراف، بل يمكن أن يكون مراد المقنعة و النهاية من السلوقي مطلق (4) الصيود، على ما شهد به (5)

++++++++++

(1) أي مع أن الانصراف المذكور لا يصح.

هذا إضراب و ترق من الشيخ بعد تسليمه بأن غلبة الوجود وحدها من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف.

و قد عرفت خلاصة الإضراب و الترقي في ص 142 عند قولنا: ثم إن الشيخ يمنع ثانيا عن التطبيق الصغروي أيضا.

(2) و هو تقييد الكلب في الحديثين المشار إليهما في الهامش 2 ص 137 في قوله عليه السلام: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، و الهامش 4 ص 137 في قوله عليه السلام: ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت.

و كلمة لأن تعليل من الشيخ في عدم تطبيق الصغروي أيضا على الحديثين.

و قد عرفت في ص 142 عند قولنا: إن الشيخ يمنع ثانيا: شرح هذا التعليل.

(3) أي سواء أ كانت استفادة الإطلاق من الروايات، أم من قوله عليه السلام: ثمن الكلب الذي لا يصيد، أو ليس بكلب الصيد.

(4) أي سواء أ كان الكلب سلوقيا أم غيره.

(5) أي شهد بعض الفحول أن السلوقي يطلق على مطلق كلب الصيود في بعض الأحيان، سواء أ كان من قرية السلوق أم لا، فشهادة هذا البعض -

ص: 143

بعض الفحول: من (1) إطلاقه عليه أحيانا.

و يؤيد (2) بما عن المنتهى، حيث إنه بعد ما حكى التخصيص (3) بالسلوقي عن الشيخين (4) قال: و عنى بالسلوقي كلب الصيد، لأن سلوق قرية باليمن، أكثر كلابها معلّمة فنسب الكلب إليها، و إن كان هذا الكلام من المنتهى يحتمل لأن يكون مسوقا لإخراج غير كلب الصيد من الكلاب السلوقية (5)، و أن المراد بالسلوقي خصوص الصيود، لا كل سلوقي.

لكن الوجه الأول (6) أظهر فتدبر (7).

(الثالث) (8) كلب الماشية و الحائط: و هو البستان

++++++++++

- على أن المراد من السلوقي مطلق الصيود تكفي في عدم مجال لدعوى الانصراف المذكور.

(1) من بيانية لما أفاده بعض الفحول.

و مرجع الضمير في اطلاقه: السلوقي، و في عليه: مطلق الكلب الصيود.

و قد عرفت شرح ما أفاده بعض الفحول في الهامش 5 من ص 143.

(2) أي و يؤيد هذا الاطلاق.

(3) أي تخصيص كلب الصيد بالكلب السلوقي.

(4) و هما: الشيخ المفيد، و الشيخ الطوسي.

(5) أي المراد من الكلب السلوقي الكلب الذي يصيد، لا مطلق الكلاب السلوقية و إن لم تكن معلّمة.

(6) و هو مطلق الكلب الصيود و إن لم يكن سلوقيا.

و وجه الأظهرية: انتساب مطلق كلب الصيد الى السلوق.

(7) لعله اشارة الى الوجه الذي ذكرناه في الأظهرية.

(8) أي القسم الثالث من أقسام الكلب غير الهراش.

ص: 144

و الزرع (1).

و الأشهر بين القدماء على ما قيل: المنع (2)، و لعله استظهر ذلك (3) من الأخبار الحاصرة لما يجوز بيعه في الصيود المشتهرة بين المحدثين كالكليني و الصدوقين و من تقدمهم، بل و أهل الفتوى كالمفيد و القاضي و ابن زهرة و ابن سعيد و المحقق، بل ظاهر الخلاف و الغنية الإجماع عليه.

نعم المشهور بين الشيخ و من تأخر عنه الجواز (4) وفاقا للمحكي عن ابن الجنيد قدس سره، حيث قال: لا يأس بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع ثم قال: لا خير في الكلب فيما عدا الصيود و الحارس.

و ظاهر الفقرة الأخيرة (5) لو لم يحمل على الأولى (6):

++++++++++

(1) بالجر عطفا على المضاف إليه في قوله: كلب الماشية، أي كلب الزرع.

(2) أي منع جواز المعاوضة على الكلاب المذكورة.

(3) أي و لعل الشأن في منع المعاوضة على الكلاب المذكورة: هي الأخبار المستفيضة التي ذكرها الشيخ بقوله: منها و منها و منها. و قد أشرنا إليها في ص 135-136-137 فإنها تحصر جواز بيع الكلاب في الكلاب السلوقية الصيودة لا غير. و بهذه المناسبة غير عنها (شيخنا الأنصاري):

ب: (الأخبار الحاصرة).

(4) أي جواز بيع الكلاب الثلاثة المذكورة.

(5) المراد من الفقرة الأخيرة: هو قول (ابن الجنيد): لا خير في الكلب فيما عدا الصيود و الحارس.

(6) المراد من الأولى الفقرة الأولى: الواقعة في قول ابن الجنيد:

لا بأس بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع.

مقصود الشيخ من هذه العبارة: (و ظاهر الفقرة الأخيرة لو لم يحمل -

ص: 145

جواز (1) بيع الكلاب الثلاثة و غيرها كحارس الدور و الخيام.

و حكي الجواز (2) أيضا عن الشيخ و القاضي في كتاب الاجارة و عن سلار و أبي الصلاح و ابن حمزة و ابن ادريس، و أكثر المتأخرين كالعلامة و ولده السعيد و الشهيدين و المحقق الثاني و ابن القطان في المعالم و الصيمري و ابن فهد، و غيرهم من متأخري المتأخرين.

عدا قليل وافق المحقق كالسبزواري و التقي المجلسي، و صاحب الحدائق و العلامة الطباطبائي في مصابيحه، و فقيه عصره في شرح القواعد.

++++++++++

- على الأولى): أن لفظ الحارس في الجملة الثانية التي عرفتها في الهامش 5 من ص 145 مطلق غير مقيد بقيد، حيث قال ابن الجنيد:، فيما عدا الصيود و الحارس.

و لفظ الحارس في الجملة الأولى التي عرفتها في الهامش 6 ص 145 مقيد بقيد الماشية و الزرع، حيث قال ابن الجنيد: و الحارس للماشية و الزرع فحينئذ تكون الظاهرتان مختلفتين، حيث إن ظاهر الفقرة الأخيرة جواز بيع الكلاب الثلاثة، و غيرها من كلاب حارس الدور و الخيام.

و ظاهر الفقرة الأولى: عدم جواز بيع كلب البستان و الدور و الخيام فلدفع هذا الاختلاف لا بدّ من حمل الفقرة الأخيرة على الجملة الأولى، أي نقيد الجملة الأخيرة التي هي مطلقة بالجملة الأولى التي هي مقيدة فاذا قيدنا الجملة الأخيرة بالجملة الأولى: ارتفع الاختلاف.

(1) بالرفع خبر للمبتدإ المقدم و هو قوله: و ظاهر الفقرة الأولى أي ظاهر الفقرة الأخيرة جواز بيع الكلاب الثلاثة و غيرها من كلب حارس الدور و الخيام لو لم تحمل على الفقرة الأولى.

و قد عرفت شرح هذه العبارة بقولنا: مقصود الشيخ.

(2) أي جواز بيع الكلاب الثلاثة.

ص: 146

و هو (1) الأوفق بالعمومات المتقدمة المانعة، إذ لم نجد مخصصا لها (2) سوى ما أرسله في المبسوط من أنه روي ذلك يعني جواز البيع في كلب

++++++++++

(1) أي عدم جواز بيع الكلاب الثلاثة: و هو كلب الماشية، و الزرع و الحائط كما أفاده المحقق و تبعه على ذلك (السبزواري، و التقي المجلسي و صاحب الحدائق، و العلامة الطباطبائي، و صاحب كشف الغطاء): هو الأوفق للعمومات المتقدمة التي تمنع عن بيعها.

و المراد من العمومات المتقدمة المانعة: هو قوله عليه السلام: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت المشار إليه في ص 137.

و قوله عليه السلام: و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت المشار إليه في ص 137.

فهذان الحديثان صريحان في عدم جواز بيع الكلاب الثلاثة، سوى كلب الصيد من بقية الكلاب.

و هكذا بقية الأخبار المستفيضة التي ذكرها الشيخ بقوله: منها و منها و منها و اشير إليها في ص 135-136-137.

ثم لا يخفى عدم وجود الملازمة بين المنع من جواز بيع الكلاب الثلاثة.

و بين جواز اتخاذها لغاية عقلائية أخرى، و في جواز اقتنائها رواية أليك نصها:

عن أبي رافع عن النبي صلى اللّه عليه و آله في حديث أنه رخص في اقتناء كلب الصيد، و كل كلب فيه منفعة مثل كلب الماشية، و كلب الحائط، و كلب الزرع الى آخر الحديث.

راجع (مستدرك وسائل الشيعة) الجزء 2 ص 430، الباب 12 الحديث 7.

(2) أي لم نعثر على مخصص لهذه العمومات المذكورة سوى مرسلة الشيخ في المبسوط.

ص: 147

الماشية و الحائط المنجبر قصور سنده (1) و دلالته (2) لكون (3) المنقول مضمون الرواية، لا معناها، و لا ترجمتها (4). باشتهاره بين المتأخرين (5)

++++++++++

- راجع (المبسوط) طبعة (طهران). الجزء 2 ص 166. أليك نص عبارته:

و روي أن كلب الماشية. و الحائط كذلك، أي يجوز بيعها.

(1) مرجع الضمير: (ما الموصولة) في قوله: سوى ما أرسله لما كانت المرسلة المذكورة قاصرة من حيث السند و الدلالة المسببين لوهنها أراد الشيخ أن يزيل هذا الوهن عنها فقال: إن قصور سند المرسلة و قصور دلالتها منجبر باشتهارها بين المتأخرين.

(2) بالجر عطفا على المضاف إليه: و هي كلمة سنده، أي المرسلة المذكورة منجبر قصور دلالتها باشتهارها بين المتأخرين كما عرفت آنفا.

(3) تعليل لقصور دلالة المرسلة، لا لقصور سندها.

و أما علة قصور السند فلحذف أسنادها.

(4) الفرق بين النقل بالمضمون، و النقل بالمعنى، و الترجمة: أن النقل بالمضمون: هو الحكم المستفاد من الرواية.

و النقل بالمعنى: هو نقل ما في الرواية تماما و خلاصته بألفاظ غير الألفاظ الصادرة عن الامام عليه السلام، لكن بنفس الألفاظ العربية.

و أن النقل بالترجمة: هو نقل ما في الرواية بألفاظ أجنبية كنقل الرواية بالفارسية مثلا.

(5) الجار و المجرور متعلق بقوله: المنجبر أي المرسلة المذكورة في (المبسوط) منجبر قصور سندها، و قصور دلالتها باشتهارها بين المتأخرين كما عرفت فهذا الاشتهار يكفينا عن ضعف المرسلة.

ص: 148

بل (1) ظهور الاتفاق المستفاد من قول الشيخ في كتاب الاجارة:

إن (2) أحدا لم يفرق بين بيع هذه الكلاب و اجارتها بعد ملاحظة الاتفاق على صحة إجارتها (3)، و من قوله (4) في التذكرة: يجوز بيع هذه الكلاب عندنا

++++++++++

(1) هذا ترق من انجبار المرسلة باشتهارها بين الأصحاب، أي ضعف المرسلة المذكورة علاوة على انجبارها باشتهارها بين الأصحاب: منجبر أيضا باتفاق الفقهاء على صحة اجارة الكلاب المستفاد هذا الاتفاق من قول الشيخ: إن أحدا لم يفرق بين صحة اجارة الكلاب، و بين بيعها، فعدم الفرق بالاتفاق المذكور مما يجبر الضعف.

(2) هذه الجملة: إن أحدا لم يفرق بين بيع الكلاب و اجارتها:

مقول قول (شيخ الطائفة) كما عرفت.

(3) كأن (شيخنا الأنصاري) يدعي الملازمة بين صحة اجارة الكلاب الثلاثة، و بين صحة بيعها فقال: بعد ملاحظة الاتفاق.

و خلاصة الدعوى: أن صحة اجارة كل شيء متوقفة على تملك ذلك الشيء فاذا كان ملكا للمكلف صح جميع التصرفات فيه، و من جملتها اجارته فاجارة الكلاب دليل على أنها تملك. اذ لو لا ذلك لما صحت الاجارة فاذا صحت الاجارة صح البيع، لوحدة الملاك و المناط.

فهنا قياس منطقي من الشكل الأول هكذا:

الصغرى: هذه الكلاب مما تصح اجارتها:

الكبرى: و كل ما تصح اجارته يصح بيعه:

النتيجة: فالكلاب المذكورة يصح بيعها:

(4) عطف على قوله: المستفاد من قول الشيخ، أي ظهور الاتفاق المذكور مستفاد من قول العلامة في التذكرة أيضا.

ص: 149

و من المحكي (1) عن الشهيد في الحواشي: أن أحدا لم يفرق بين الكلاب الأربعة (2).

فتكون هذه الدعاوى (3) قرينة على حمل كلام من اقتصر على كلب الصيد: على المثال لمطلق ما ينتفع به منفعة محللة مقصودة (4).

كما يظهر ذلك (5) من عبارة ابن زهرة في الغنية، حيث اعتبر أولا في المبيع أن يكون مما ينتفع به منفعة محللة مقصودة ثم قال: و احترزنا بقولنا: ينتفع به منفعة محللة: عما يحرم الانتفاع به، و يدخل في ذلك (6) كل نجس إلا ما خرج بالدليل من بيع الكلب المعلم للصيد، و الزيت النجس

++++++++++

(1) عطف على قوله: المستفاد، أي الاتفاق المذكور مستفاد أيضا من المحكي عن (شيخنا الشهيد) في جملة حواشيه.

(2) و هو كلب الصيد، و كلب الماشية، و كلب الزرع، و كلب الحائط.

(3) و هو قول (شيخ الطائفة) في كتاب الاجارة: إن أحدا لم يفرق بين بيع هذه الكلاب، و اجارتها.

و قول (العلامة في التذكرة): يجوز بيع هذه الكلاب عندنا

و المحكي عن (الشهيد) في حواشيه: أن أحدا لم يفرق بين الكلاب الأربعة.

(4) لا على وجه الانحصار حتى لا يجوز بيع بقية الكلاب.

(5) و هو أن الاقتصار على كلب الصيد إنما هو لأجل المثال لا للانحصار.

(6) أي و يدخل فيما يحرم الانتفاع به: النجس، سواء أ كان ذاتيا أم عرضيا. بقرينة قول (شيخنا الأنصاري): و الزيت النجس لفائدة الاستصباح، فإن نجاسة الزيت عرضية، لا ذاتية.

ص: 150

لفائدة الاستصباح تحت السماء.

و من المعلوم (1) بالإجماع و السيرة جواز الانتفاع بهذه الكلاب منفعة محللة مقصودة أهم من منفعة الصيد فيجوز بيعها (2)، لوجود القيد الذي اعتبره فيها. و أن المنع من بيع النجس منوط بحرمة الانتفاع (3) فينتفي بانتفائها.

و يؤيد ذلك (4) كله: ما في التذكرة: من أن المقتضي لجواز بيع

++++++++++

(1) هذا الكلام من (شيخنا الأنصاري)، لا من متعلقات كلام (ابن زهرة).

(2) مرجع الضمير: الكلاب الثلاثة، و مرجع الضمير في اعتبره:

(ابن زهرة)، و المراد من القيد: المنفعة المحللة المقصودة.

فالمعنى: أن الاجماع، و السيرة قائمان على جواز الانتفاع بهذه الكلاب من زمن (الرسول الأعظم و أئمة أهل البيت) صلى اللّه عليهم أجمعين الى عصرنا هذا.

و مما لا شك فيه أن هذا الانتفاع أهم من منفعة الصيد.

و هذا القيد و هو الانتفاع الذي هو أهم مستفاد من كلام (ابن زهرة) في جواز بيع هذه الكلاب بقوله: و احترزنا بقولنا: ينتفع به منفعة محللة.

(3) هذه الجملة: و أن المنع من بيع النجس منوط بحرمة الانتفاع من كلام (شيخنا الأنصاري)، لا من كلام ابن زهرة.

مقصوده: أن منع (ابن زهرة) عن بيع النجس إنما هو لأجل عدم الانتفاع به، أما لو كان الانتفاع به ممكنا لجاز بيعه أيضا، فالجواز و العدم دائران مدار الانتفاع و عدمه، فان وجد جاز البيع، و إلا فلا.

(4) و هو ما أفاده (ابن زهرة) من أن جواز بيع الكلاب المذكورة و عدمه دائران مدار الانتفاع و عدمه.

ص: 151

كلب الصيد أعني المنفعة موجود في هذه الكلاب.

و عنه (1) رحمه اللّه في مواضع اخر أن تقدير الدية لها (2) يدل على مقابلتها بالمال، و إن ضعف الأول (3) برجوعه الى القياس

++++++++++

(1) أي و عن (العلامة) في كتبه الفقهية الأخرى.

(2) أي لهذه الكلاب الثلاثة.

أليك توضيح ما أفاده العلامة في الاستدلال على جواز البيع.

استدل رحمه اللّه بأمرين:

(الأول): وجود المنفعة العقلائية المحللة المقصودة في هذه الكلاب و هذا يكفي في اندراج الموضوع تحت قاعدة: (كل ما فيه منفعة محللة مقصودة جاز بيعه.

(الثاني): أن الشارع المقدس قدر لهذه الكلاب الدية، و التقدير منه لها دليل على احترامه لهذه الكلاب، و اهتمامه بها، و أنه لم يجعلها هدرا و لذلك قدر لها تقديرا ماليا فاذا ثبتت ماليتها في الشرع جاز بيعها، نظرا الى اندراجه تحت قاعدة: (المال ما يبذل بإزائه المال).

(3) هذا رد على الدليل الأول للعلامة: و هو (أن المقتضي لجواز بيع كلب الصيد أعني المنفعة موجود في هذه الكلاب.

و خلاصة الرد: أن الحكم بجواز بيع الكلاب الثلاثة من باب القياس لأنه قيست الكلاب في جواز بيعها على كلب الصيد في وجود المنفعة فيه المعبر عنها بالمقتضي فالقدر الجامع بين المقيس و هي الكلاب الثلاثة، و المقيس عليه و هو كلب الصيد: هو وجود المنفعة المحللة المعبر عنها بالمقتضي. و هذا قياس باطل، لعدم كونه منصوص العلة.

و كأن الايراد المذكور غير مرضي عند الشيخ فلذا عبر عنه بصيغة المجهول و قال: و ان ضعف الأول.

ص: 152

و الثاني (1) بأن (2) الدية لو لم تدل على عدم التملك

++++++++++

- ثم لا يخفى أن الشيخ قدس سره أفاد في تضاعيف كلماته في الكتاب أن المنفعة المحللة موجبة لمالية الشيء، و من الواضح أن للكلاب الثلاثة منفعة محللة موجبة لماليتها، و بذل المال بإزائها.

اذا فلا قياس في البين حتى يقال ببطلان الدليل الأول.

بل هنا تشخيص فرد مما يجوز بيعه باعتبار وجود المصحح فيه و قد قيل مرارا و تكرارا: الجواز و العدم دائران مدار الانتفاع و عدم الانتفاع فان وجد جاز البيع، و إلا فلا.

(1) بالرفع عطف على قوله: و ان ضعف الأول، أي و ان ضعف الدليل الثاني للعلامة: و هو قوله: إن تقدير الدية للكلاب الثلاثة تدل على أنها تقابل بالمال.

(2) الباء بيانية لكيفية رد الدليل الثاني للعلامة.

و خلاصة الرد: أن تقدير الدية من الشارع للكلاب المذكورة لا يكون دليلا على ماليتها و أنها تقابل بالمال.

بل التقدير المذكور دليل عدم ماليتها في نظر الشارع فجعل الدية لها كجعلها للحر، مع أنه لا يملك.

خذ لذلك مثالا:

لو قتل الحر فديته ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم إذا كان رجلا و خمسمائة دينار، أو خمسة آلاف درهم لو كان المقتول امرأة.

و هكذا خمسمائة دينار، أو خمسة آلاف درهم لو قطعت احدى يديه.

و ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم لو قطعت يداه.

و مائتان و خمسون دينارا، أو ألفان و خمسمائة درهم لو كانت المقطوعة واحدة و كانت يد امرأة.

ص: 153

..........

++++++++++

- و خمسمائة دينار و خمسة آلاف درهم لو كانت كلتاهما.

و هكذا في بقية الأعضاء و الجوارح كل منها قدر لها في الشرع دية معينة على حدة للرجل و المرأة، مع أن الحر لا يقابل بالمال و لا يملك.

و أما المملوك فليس له دية خاصة معينة لو جني عليه، حيث لم يقدر له الشارع دية معينة، بل يؤخذ من الجاني على العبد بقدر قيمته على قدر النسبة في دية الحر مقابل الجناية.

خذ لذلك مثالا:

لو جني على احدى عيني العبد فذهبت فديتها نصف قيمته.

كما كانت هذه الدية للعين الواحدة في الحر، سواء أ كان المملوك رجلا أم امرأة.

و هكذا لو قطعت احدى يديه فديتها نصف قيمته.

و كذا بقية أعضائه و جوارحه فلها من الدية بنسبة ما في دية الحر فجعل الدية للعبد لا يكون دليلا على أنه لا يملك و لا يبذل بإزائها المال.

فالخلاصة أن جعل الدية من الشارع لا يكون دليلا على أن المجعول له يملك كما أن عدم الجعل لا يكون دليلا على عدم تملك المجعول له كما عرفت في الحر و العبد، حيث إن الأول لا يملك و لا يقابل بالمال و قد قدر له الدية من الشارع.

و الثاني يملك و يقابل بالمال، و لكن قدر له الدية من الشارع و يقابل بالمال.

ثم إن قول العلامة: إن تقدير الدية للكلاب المذكورة دليل على ماليتها و أنها تقابل بالمال، لو كان صحيحا لكان الواجب على المشتري حينئذ دفع قيمة الكلاب مهما بلغت، لا الدية.

ص: 154

و إلا (1) لكان الواجب القيمة كائنة ما كانت: لم تدل (2) على التملك لاحتمال (3) كون الدية من باب تعيين غرامة معينة لتفويت شيء ينتفع به لا لإتلاف مال كما في إتلاف الحر (4).

و نحوهما (5) في الضعف دعوى انجبار المرسلة (6) بدعوى (7) الاتفاق

++++++++++

- اذا فتقدير الدية لها دليل على عدم تملكها، و أنها لا تقابل بالمال.

(1) مركبة من إن و لا النافية، لا أنها بسيطة و كلمة استثناء و معناها: أن جعل الدية لو دل على الملكية و المالية للكلاب لكان الواجب دفع قيمتها كما عرفت في الهامش 2 ص 153-154.

و جملة: و إلا لكان الواجب القيمة كائنة ما كانت: جملة معترضة بين الشرط و هو قوله: لو لم تدل، و بين الجزاء و هو قوله: لكان الواجب القيمة كانت ما كانت: لم تدل.

(2) جواب للو الشرطية في قوله: و بأن الدية لو لم تدل.

و المعنى أن الدية لو لم تدل على عدم التملك لم تدل على التملك أيضا فكلا احتمال طرفي القضية على حد سواء.

(3) تعليل لعدم دلالة الدية على التملك و المقابلة بالمال.

(4) حيث إن الدية ثابتة للحر لو قتل، أو أصيبت أحد أعضائه و جوارحه.

(5) أي و نحو هذين الدليلين و هما:

وجود المنفعة المحللة المقصودة في الكلاب الثلاثة كوجودها في كلب الصيد.

و تقدير الدية من الشارع للكلاب الثلاثة.

(6) و هي مرسلة الشيخ المذكورة في المبسوط.

(7) الجار و المجرور متعلقان بقوله: انجبار المرسلة، أي دعوى -

ص: 155

المتقدم عن الشيخ و العلامة و الشهيد قدس اللّه أسرارهم، لوهنها (1) بعد الإغماض عن معارضتها بظاهر عبارتي الخلاف و الغنية: من الإجماع على عدم جواز بيع غير المعلم من الكلاب: بوجدان (2) الخلاف العظيم من أهل الرواية و الفتوى.

نعم (3) لو ادعى الإجماع أمكن

++++++++++

- انجبار المرسلة بدعوى الاتفاق المتقدم عن الشيخ أيضا.

(1) مرجع الضمير: الدعوى، و اللام تعليل لضعف الدعوى المدعاة أي ادعاء انجبار ضعف المرسلة بدعوى اتفاق الشيخ على عدم الفرق بين اجارة الكلاب الثلاثة، و بين بيعها: ضعيفة، لوهن هذه الدعوى لأمرين:

(الأول): معارضتها بعبارة الخلاف و الغنية الدالة على عدم جواز بيع غير الكلب المعلّم من الكلاب في نقل الشيخ عنهما في ص 145 بقوله بل ظاهر الخلاف و الغنية الإجماع عليه.

(الثاني): وجود الخلاف العظيم من أهل الرواية و الفتوى في عدم جواز بيع الكلاب عدا المعلّم، حيث قالوا بصحة الاجارة في الكلاب و لم يقولوا بجواز بيعها.

و المراد من أهل الرواية: المحدثون، و من أهل الفتوى: المجتهدون كما أفاد هذا المعنى (شيخنا الأنصاري) بقوله: المشتهرة بين المحدثين كالكليني، و الصدوقين، بل و أهل الفتوى كالمفيد و القاضي.

(2) الجار و المجرور متعلقان بقوله: لوهنها، أي سبب وهن دعوى الشيخ الاتفاق على عدم الفرق بين الاجارة و البيع المشار إليها في الهامش 2 ص 149: وجود الخلاف العظيم من أهل الرواية و الفتوى في عدم جواز بيع الكلاب، حيث قالوا: بصحة الاجارة في الكلاب المذكورة و لم يقولوا بجواز بيعها.

(3) استدراك عما أفاده آنفا من أن دعوى انجبار المرسلة المذكورة -

ص: 156

منع و منها (1) بمجرد الخلاف و لو (2) من الكثير، بناء (3) على ما سلكه بعض متأخري المتأخرين في الإجماع: من كونه منوطا بحصول الكشف من اتفاق جماعة و لو خالفهم أكثر منهم.

++++++++++

- بدعوى اتفاق الشيخ على عدم الفرق بين صحة اجارة الكلاب و بيعها ضعيفة لوهنها بوجود المخالف.

و خلاصة الاستدراك أنه يمكن رفع الوهن عن الاتفاق المذكور مع وجود المخالف: بأنه لو كان الشيخ مدعيا الاجماع بدلا عن الاتفاق لم يعتن حينئذ بوجود المخالفين و ان كانوا كثيرين، بناء على أن الملاك في حجية الاجماع هو كشفه عن رأي المعصوم عليه السلام.

و كلمة ادعى بصيغة المعلوم. و الفاعل (شيخ الطائفة) كما عرفت

(1) مرجع الضمير: الدعوى المذكورة، أي أمكن رفع الوهن عن الدعوى المذكورة كما عرفت.

(2) كلمة لو هنا وصلية، أي رفع الوهن عن الدعوى المذكورة كان ممكنا لو أبدل الشيخ لفظ الاتفاق المذكور بكلمة اجماع و لو كان المخالف كثيرا.

(3) تعليل لكون المخالفة الموجودة من العلماء لا تضر بالاجماع لو أبدل الشيخ لفظ الاتفاق بلفظ الاجماع و لو كانت من الكثيرين.

و خلاصة التعليل: أنه بناء على مسلك بعض متأخري المتأخرين و هو (الشيخ أسد اللّه التستري) صاحب المقابيس: من أن الملاك في حجية الاجماع هو كشفه عن قول المعصوم عليه السلام فعليه لا يضر مخالفة الآخرين بالاجماع و ان كانوا كثيرين، حيث إن المناط في الحجية هو قول المعصوم في الواقع و نفس الأمر، لا اتفاق الكل و اجماعهم حتى يضر مخالفة الآخرين بدعوى الاجماع، فمخالفة الآخرين و ان كانوا كثيرين لا يعتنى به -

ص: 157

مع أن دعوى الإجماع ممن لم يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتفاق لا يعبأ بها عند وجدان الخلاف.

و أما شهرة الفتوى بين المتأخرين فلا تجبر الرواية (1)، خصوصا مع مخالفة كثير من القدماء (2)، و مع كثرة ظاهر العمومات (3) الواردة في مقام الحاجة (4)، و خلو (5) كتب الرواية المشهورة عنها حتى أن الشيخ لم يذكرها في جامعيه (6).

++++++++++

- ثم لا يخفى عدم اختصاص هذا المبنى بصاحب المقابيس، بل قد سبقه في ذلك (علم الهدى السيد المرتضى) الذي هو من متقدمي المتقدمين.

(1) يمكن أن تكون الألف و اللام للجنس فالمراد من الرواية مطلق الرواية و يمكن أن تكون للعهد فتكون اشارة الى المرسلة المذكورة في المبسوط التي رواها الشيخ فيه بقوله: و قد روى أصحابنا أنه يستصبح به.

فالمعنى أن الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف سند الرواية كما عرفت في الجواب عن الايرادات الواردة على حديث (تحف العقول) عند قولنا: و أما الشهرة الفتوائية في ص 21

(2) في عدم جواز بيع الكلاب الثلاثة.

(3) و هي الأخبار المستفيضة الدالة على عدم جواز بيع الكلاب الثلاثة و قد ذكرها الشيخ بقوله: منها و منها و منها في ص 135-137.

(4) و هو وقت خطاب الامام عليه السلام في مقام التشريع، مع أنه لم يرد منه عليه السلام في وقت البيان سوى جواز بيع كلب الصيد.

(5) بالجر عطفا على مدخول مع، أي و مع خلو كتب الأحاديث عن المرسلة المذكورة في المبسوط.

(6) و هما: (التهذيب و الاستبصار).

ص: 158

و أما حمل كلمات القدماء على المثال (1) ففي غاية البعد (2).

و أما كلام ابن زهرة المتقدم (3) فهو مختل على كل حال، لأنه استثنى الكلب المعلّم عما يحرم الانتفاع به، مع (4) أن الإجماع على جواز الانتفاع بالكافر. فحمل كلب الصيد على المثال لا يصحح كلامه.

إلا أن يريد (5) كونه مثالا و لو للكافر أيضا، كما أن استثناء

++++++++++

(1) و هو استثناء كلب الصيد بقولهم: إن كلب الصيد يجوز بيعه حيث حمله بعض على أنه من باب المثال، لا من باب الانحصار حتى لا يجوز بيع ما عداه.

(2) وجه البعد: أن مبنى الفقهاء على بيان جزئيات المسائل الفقهية فكيف يستثنون عن الكلب المحرم بيعه خصوص كلب الصيد لا غير.

(3) في الهامش 5 من ص 150 عند قول المصنف: كما يظهر ذلك من عبارة (ابن زهرة) في الغنية، حيث اعتبر أولا في المبيع أن يكون مما ينتفع به منفعة محللة مقصودة.

(4) هذا اشكال آخر على الاجماع المتقدم في كلام (ابن زهرة).

و خلاصة الاشكال: أن الاجماع قائم على جواز بيع العبد الكافر لأنه مما ينتفع به فكان اللازم على (ابن زهرة) استثناءه أيضا، و لا يخصه ببقية الكلاب فكما استثنى كلب الصيد و كلب الماشية و الزرع و الحائط عن بيع النجس.

كذلك كان عليه استثناء العبد الكافر منه أيضا، مع أنه لم يستثنه.

و من المحتمل أن عدم استثنائه للعبد الكافر لأجل وضوحه.

ثم إن الخبر في قوله: مع أن الاجماع كلمة قائم و قد حذفت كما عرفت في قولنا: و خلاصة الاشكال أن الاجماع قائم.

(5) أي (السيد ابن زهرة) من استثنائه كلب الصيد من حرمة -

ص: 159

الزيت من باب المثال لسائر الأدهان المتنجسة (1).

هذا و لكن الحاصل من شهرة الجواز (2) بين المتأخرين بضميمة أمارات (3) الملك في هذه الكلاب يوجب الظن بالجواز حتى في غير هذه الكلاب مثل كلاب الدور و الخيام، فالمسألة (4) لا تخلو عن إشكال

++++++++++

- بيع النجس: أنه من باب المثال، لا أن الكلب المعلم هو المستثنى من بيع النجس فقط و فقط فحينئذ يشمل الكلاب الثلاثة.

(1) في أنها اذا تنجست يجري عليها حكم الزيت في جواز بيعها.

(2) أي جواز بيع الكلاب الثلاثة.

(3) أي نضم أمارات الملك الى الشهرة المحققة بين المتأخرين في صحة جواز بيع الكلاب الثلاثة فبهذه الضميمة يتم المطلوب: و هو جواز البيع.

و أمارات الملك أربعة:

(الأولى): الكلاب الثلاثة ذات منفعة مقصودة.

(الثانية): كونها ذات دية مقدرة شرعا لو أتلفها شخص.

(الثالثة): مرسلة الشيخ المتقدمة في ص 48.

(الرابعة): دعوى الاتفاق المذكور من (شيخ الطائفة) المتقدمة المذكورة في المبسوط في عدم الفرق من الفقهاء بين اجارة الكلاب الثلاثة و بين بيعها فالمعنى أن شهرة جواز الاجارة، مع ضميمة هذه الإمارات الدالة على أن الكلاب تملك: يوجب الظن بجواز بيع الكلاب الثلاثة

(4) و هو جواز بيع هذه الكلاب.

و من الممكن أن ما أفاده (شيخنا الأنصاري): من أن شهرة الجواز بين المتأخرين، مع ضميمة أمارات الملك الموجب للظن بجواز بيع الكلاب المذكورة: يشمل الكلاب التي تلاحق المجرمين، و تدل عليهم، و الكلاب التي تقود الأعمى.

ص: 160

و إن كان الأقوى بحسب الأدلة (1) و الأحوط في العمل: هو المنع (2) فافهم.

الثالثة: الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي اذا غلى و لم يذهب ثلثاه و ان كان نجسا

(الثالثة): (3) الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي اذا على (4) و لم يذهب ثلثاه و ان كان نجسا، لعمومات البيع و التجارة (5) الصادقة عليه، بناء على أنه مال قابل للانتفاع به بعد طهارته بالنقص (6) لأصالة بقاء ماليته (7)، و عدم (8) خروجه عنها بالنجاسة.

++++++++++(1) و هي الأدلة المتقدمة المعبر عنها بالأخبار الحاصرة التي تحصر جواز بيع الكلب في الكلب الصيود لا غير: و هي المذكورة بقوله:

منها و منها.(2) أي منع بيع الكلاب الثلاثة.

(3) أي المسألة الثالثة من المسائل الأربعة المستثناة من الأعيان النجسة

(4) بأن صار أسفله أعلاه، و أعلاه أسفله.

(5) و هو قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (1).

و قوله تعالى: «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (2).

فان هذه العمومات تشمل العصير العنبي بعد الغليان و قبل ذهاب ثلثيه في أنه بيع و تجارة.

(6) و هو ذهاب ثلثيه.

(7) و هو الاستصحاب، فإن العصير قبل الغليان كان مالا مملوكا و بعد الغليان و قبل ذهاب ثلثيه يشك في زوال ماليته و ملكيته فتستصحبان في هذه الحالة أيضا فتصح المعاوضة عليه.

(8) بالجر عطفا على مدخول (لام الجارة) أي و لأصالة عدم خروج العصير العنبي المغلي عن المالية بسبب نجاسته بالغليان و قبل ذهاب ثلثيه

ص: 161


1- البقرة: الآية 275.
2- النساء: الآية 29.

غاية الأمر أنه مال معيوب قابل لزوال عيبه، و لذا (1) لو غصب عصيرا فأغلاه حتى حرم و نجس (2) لم يكن في حكم التالف، بل وجب عليه رده، و وجب عليه غرامة الثلثين. و أجرة (3) العمل فيه حتى يذهب الثلثان كما صرح به في التذكرة، معللا لغرامة الأجرة بأنه رده معيبا و يحتاج زوال العيب الى خسارة، و العيب من فعله (4) فكانت الخسارة عليه.

نعم ناقشه في جامع المقاصد في الفرق بين هذا (5)، و بين ما لو غصبه عصيرا فصار خمرا، حيث حكم فيه (6) بوجوب غرامة مثل العصير لأن المالية قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت.

لكن لا يخفى الفرق الواضح بين العصير اذا غلى (7)، و بينه اذا صار خمرا (8)، فإن العصير بعد الغليان مال عرفا و شرعا، و النجاسة انما تمنع من المالية اذا لم تقبل التطهير، كالخمر فإنه لا تزول نجاستها إلا بزوال موضوعها (9)، بخلاف العصير، فإنه تزول نجاسته بنقصه، نظير

++++++++++

(1) أي و لأجل أنه مال معيوب قابل لزوال العيب.

(2) أي أحدث فيه العيب بالغليان و لم يذهب ثلثاه.

(3) أي و وجب عليه اجرة العمل: و هو غليانه حتى يذهب ثلثاه.

(4) أي من فعل الغاصب.

(5) و هو (ما لو غصب العصير و أغلاه و لم يذهب ثلثاه).

(6) أي في الفرض الثاني: و هو (ما لو غصب عصيرا فصار خمرا)، حيث حكم (المحقق الثاني) في جامع المقاصد بوجوب الغرامة.

(7) كما في الفرض الأول: و هو (ما لو غصب عصيرا فأغلاه حتى حرم و نجس).

(8) كما في الفرض الثاني و هو (ما لو غصب عصيرا فصار خمرا)

(9) كما اذا صارت خلا.

ص: 162

طهارة ماء البئر بالنزح (1).

و بالجملة فالنجاسة فيه، و حرمة الشرب عرضية تعرضانه في حال متوسط بين حالتي (2) طهارته، فحكمه حكم النجس بالعرض القابل للتطهير.

فلا يشمله (3) قوله عليه السلام في رواية (تحف العقول):

++++++++++

(1) كما اذا وقع في البئر ما يوجب نجاسة مائها، و له مقدر شرعي كالعصفور مثلا، فإنه بعد نزح المقدر منها: و هي دلاء يطهر الباقي.

و أما إذا لم يكن لما وقع فيها مقدر فينزح جميع ماء البئر، ثم يطهر الماء الذي يجري فيه بعدا.

و لا يخفى أن ما أفاده (شيخنا الأنصاري) في الفرق الواضح بين الفرض الأول المشار إليه في الهامش 5 ص 162، و الفرض الثاني المشار إليه في الهامش 6 ص 162: ليس اشكالا على ما أفاده (المحقق الثاني في جامع المقاصد)

بل بيانا لوجه الفرق بينهما.

و لا يخفى أيضا أن ما أفاده (شيخنا الأنصاري) من الفرق الواضح بين الفرضين بالبيان المذكور: ليس بواضح، فإن العصير اذا صار خمرا يكون قابلا للطهارة لو انقلب خلا إما بنفسه، أو بعلاج خارجي، و تزداد قيمته أيضا، بالإضافة الى أن العرف لا يرى فرقا في الطهارة بين ذهاب الثلثين في العصير و بين انقلاب الخمر خلا.

بل يقول: إن هذا الخل عين ذاك الخمر، و لذا تكون زيادة قيمته لصاحبه الذي غصب منه العصير.

(2) و هما: قبل الغليان. و بعده و بعد ذهاب ثلثيه.

(3) أي لا يشمل العصير العنبي قوله عليه السلام في رواية (تحف العقول): أو شيء من وجوه النجس، حيث إن المراد من النجس الذي -

ص: 163

أو شيء من وجوه النجس، و لا يدخل (1) تحت قوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه اذا حرم شيئا حرم ثمنه، لأن الظاهر منها (2) العنوانات النجسة و المحرمة بقول مطلق، لا (3) ما تعرضانه في حال دون حال

++++++++++

- كانت نجاسته ذاتية، لا ما كانت عرضية كالعصير الذي غلى فإنه صار نجسا بسبب الغليان.

(1) أي و لا يدخل العصير العنبي أيضا تحت قوله صلى اللّه عليه و آله.

(2) أي لأن الظاهر من العمومات المتقدمة التي منها قوله عليه السلام في رواية (تحف العقول): أو شيء من وجوه النجس: العنوانات النجسة التي نجاستها ذاتية كالكلب و الخنزير و الخمر و الدم و المني.

و كذا الظاهر من عموم قوله صلى اللّه عليه و آله: (إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه): المحرّم المطلق الذي يكون جميع انتفاعاته نجسة محرّمة كما في العذرة و الميتة و الدم و المني، فإن الانتفاع بهذه الأشياء محرّم و نجس في كل حال ما دام يصدق عليها العنوان الخاص: و هو الدم حال كونه دما، و المني حال كونه منيا.

(3) أى و ليس المراد من ظاهر العمومات المذكورة المتقدمة و التي ذكرنا شطرا منها: النجاسة العرضية، و الحرمة العرضية اللتان تعرضان الشيء في حال دون حال كما في الجلاّل فإنه يقال: نجس و حرام أكله ما دام كونه جلاّلا، و طاهر و حلال أكله ما دام لم يكن الحيوان متصفا بتلك الصفة، بان استبرء في المدة المقررة له: و هو اربعون يوما للابل و ثلاثون يوما للبقر، و عشرة أيام للغنم، و ثلاثة أيام للدجاجة.

فنجاسة العصير ليست ذاتية، بل بواسطة الغليان فهي عرضية قابلة

ص: 164

فيقال: يحرم في حال كذا، و ينجس في حال كذا.

و بما ذكرنا (1) يظهر عدم شمول معقد إجماع التذكرة على فساد بيع نجس العين للعصير (2)، لأن (3) المراد بالعين هي الحقيقة، و العصير

++++++++++

- و كذلك حرمة شربه ليست ذاتية، بل لأجل نجاسته، و بزوالها تزول الحرمة.

فالحاصل: أن الكلام في النجاسات الذاتية التي نجاستها و حرمة شربها أو أكلها ذاتية، لا ما كانت النجاسة و الحرمة فيها عرضية تعرضان على الشيء في حال، دون حال.

(1) و هو أن المراد من وجوه النجس في رواية (تحف العقول)

و في قوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه:

العنوانات النجسة أي الأعيان النجسة، لا النجاسة العرضية التي تعرض على الشيء في حال دون حال.

(2) راجع (تذكرة الفقهاء) من طبعتنا الحديثة الجزء 7 القسم الأول ص 15 عند قوله: و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصح اجماعا، فإن الإجماع المذكور في التذكرة لا يشمل العصير إذا غلى و لم يذهب ثلثاه، لأن نجاسته عرضية، و الكلام في النجاسات الذاتية، فالعصير بعد ذهاب ثلثيه قابل للطهارة، لكن الغاصب يغرم اجرة الثلثين الذاهبين لصاحب العصير.

(3) تعليل لعدم شمول معقد إجماع التذكرة للعصير العنبي الذي غلى و لم يذهب ثلثاه.

و خلاصة التعليل: أن المراد من العين في قول العلامة: نجس العين:

النجاسة الحقيقية التي نجاسته ذاتية كما عرفت.

ص: 165

ليس كذلك (1).

و يمكن أن ينسب جواز بيع العصير الى كل من قيد الأعيان النجسة المحرم بيعها بعدم قابليتها للتطهير.

و لم أجد مصرحا بالخلاف (2). عدا ما في مفتاح الكرامة:

من أن الظاهر المنع (3)، للعمومات المتقدمة (4)، و خصوص بعض الأخبار، مثل قوله عليه السلام: و ان غلى فلا يحل بيعه (5).

و رواية أبي كهمس: اذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس (6).

++++++++++

(1) لأنه ليس من الحقائق النجسة التي نجاستها ذاتية، بل النجاسة عارضة له في حالة متوسطة بين حالتي الطهارة و هي حالة غليانه.

و أما قبل الغليان، و بعد ذهاب ثلثيه: و هما حالتا الطهارة فطاهر.

(2) أي قائلا بحرمة بيع العصير إذا غلى و لم يذهب ثلثاه.

(3) أي منع بيع العصير إذا غلى و لم يذهب ثلثاه.

(4) و هي رواية تحف العقول، و فقه الرضا، و خبر دعائم الاسلام و النبوي المشهور التي مضت الاشارة إليها من ص 49 إلى ص 53.

(5) (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 169-170. الباب 59 من أبواب جواز بيع العصير الحديث 6.

(6) نفس المصدر ص 169. الحديث 2.

و لا يخفى أن هذا الحديث في المصدر منقول عن ابي بصير ص 169 الحديث 2، لا عن ابي كهمس

و أما حديث ابي كهمس فمذكور في نفس المصدر بنفس المكان الحديث 6.

ص: 166

و مرسل ابن الهيثم اذا تغير عن حاله و غلى فلا خير فيه (1)، بناء على أن الخير (2) المنفي يشمل البيع.

و في الجميع نظر (3)، أما (4) في العمومات فلما تقدم.

++++++++++

(1) نفس المصدر. الجزء 17 ص 226 الباب 1 من أقسام الخمر المحرمة الحديث 7.

(2) و هي كلمة خير في قوله عليه السلام في مرسلة ابن الهيثم:

لا خير فيه.

فتحصل من مجموع ما ذكر: أن الأدلة القائمة على حرمة بيع العصير العنبي اذا غلى و لم يذهب ثلثاه خمسة أمور:

(الأول): العمومات المشار إليها في الهامش 4 ص 166.

(الثاني): عدم كونه مالا.

(الثالث): أنه من النجاسات، و قد ثبت أنه لا يجوز بيع النجس و هذا أحدى صغريات تلك الكبرى الكلية.

(الرابع): الروايات الخاصة التي اشرنا إليها في الهامش 5-6 ص 166 و الهامش 1 ص 167.

(الخامس): دلالة بعض الأخبار على أن العصير خمر.

قال صلى اللّه عليه و آله: الخمر من خمسة: العصير من الكرم.

و قال عليه السلام: في جواب السائل عن البختج: خمر لا تشربه.

هذه هي الأدلة القائمة على حرمة بيع العصير العنبى.

(3) أي و في جميع ما استدل به على حرمة بيع العصير العنبي من العمومات، و خصوص بعض الأخبار الدالة على الحرمة نظر.

(4) من هنا أخذ (الشيخ) في الرد على العمومات المتقدمة

و خلاصته أن المراد من وجوه النجس في تلك العمومات: الأعيان النجسة التي نجاستها ذاتية، لا ما كانت عرضية كما في العصير إذا غلى -

ص: 167

و أما الأدلة الخاصة (1) فهي مسوقة للنهي عن بيعه بعد الغليان نظير بيع الدبس و الخل من غير اعتبار إعلام المكلف (2).

و في الحقيقة هذا النهي (3) كناية عن عدم جواز الانتفاع ما لم يذهب ثلثاه، فلا يشمل بيعه بقصد التطهير، مع إعلام المشتري، نظير (4) بيع الماء النجس.

و بالجملة فلو لم يكن إلا استصحاب ماليته (5)

++++++++++

- و لم يذهب ثلثاه، حيث إن نجاسته تذهب بذهاب ثلثيه.

(1) و هي المشار إليها في الهامش 5-6 ص 166 و الهامش 1 ص 167.

و خلاصة الرد: أن مصب النهى الموجود في هذه الأخبار: عدم جواز الانتفاع بهذا العصير ما لم يذهب ثلثاه، لا مطلقا حتى و لو طهر بعد ذهاب ثلثيه، ففي الحقيقة أن النهي مقيد بصورة عدم الإعلام.

و أما لو اخبر البائع المشتري و قصد تطهيره بذهاب ثلثيه فلا مانع من بيعه فهو نظير بيع الدبس و الخل من غير إعلام المكلف بنجاسته.

فكما أنه لا يجوز بيع هذا من غير إعلام، كذلك لا يجوز ذلك بغير إعلام.

(2) المراد منه المشتري.

(3) و هو النهي الوارد في الروايات الخاصة التي اشرنا إليها في الهامش 5-6 ص 166 و الهامش 1 ص 167.

(4) أي بيع العصير النجس مثل بيع الماء النجس في أنه يشترط جواز بيعه بشرط إعلام المشتري.

(5) وجه الاستدلال بالاستصحاب: أن العصير العنبي قبل الغليان -

ص: 168

و جواز (1) بيعه كفى.

و لم أعثر على من تعرض للمسألة (2) صريحا، عدا جماعة من المعاصرين

نعم قال المحقق الثاني في حاشية الارشاد في ذيل قول المصنف:

و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبولها التطهير بعد الاستشكال (3) بلزوم عدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة بعدم قبولها التطهير، و دفع ذلك بقبولها له بعد الجفاف: و لو (4) تنجس العصير و نحوه (5) فهل يجوز بيعه على من يستحله ؟ فيه اشكال (6).

++++++++++

- كان طاهرا له مالية يبذل بإزائه المال، و بعد الغليان و نجاسته يشك في ذهاب ماليته للنجاسة العرضية فتستصحب تلك المالية.

(1) بالجر عطفا على مدخول الاستصحاب، أي و لو لم يكن إلاّ استصحاب جواز بيعه.

خلاصة الاستصحاب: أن العصير قبل الغليان كان جائز البيع و بعد الغليان يشك في زوال الجواز، لكونه صار نجسا فيستصحب الجواز.

(2) أي مسألة عصير العنبي.

(3) أي بعد الإيراد على العلامة.

(4) هذه الجملة: و لو تنجس العصير و نحوه فهل يجوز بيعه على من يستحله: مقول قول (المحقق الكركي).

(5) المراد من نحوه: المائع المتنجس، و عصير الزيت اذا غلى و لم يذهب ثلثاه.

(6) الإشكال هنا بمعنى الالتباس، و حيث كانت المسألة ذات وجهين التبس على الفقيه الفتيا إلا بعد التأمل العميق، و ترجيح احد الوجهين.

أما وجه الجواز: فيما أن المستحل لا يرى في مذهبه و دينه نجاسة للعصير و نحوه فلذا جاز بيعه عليه.

ص: 169

ثم ذكر أن الأقوى العدم (1)، لعموم «وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ (2)» انتهى.

و الظاهر أنه أراد (3) بيع العصير للشرب من غير التثليث، كما يظهر من ذكر المشتري، و الدليل (4)

++++++++++

- و أما وجه عدم الجواز فللعمومات المتقدمة المشار إليها في الهامش 4 ص 166

و للأخبار الخاصة المشار إليها في الهامش 5-6 ص 166 و الهامش 1 ص 167.

(1) أي عدم جواز بيع العصير بعد الغليان، و قبل ذهاب الثلثين على من يستحله.

(2) المائدة: «الآية 2».

(3) أي المحقق اراد من قوله: فيه اشكال: الإشكال في بيع العصير اذا غلى و تنجس للشرب، لا أنه استشكل في بيعه على من يطهره بإذهاب ثلثيه.

(4) أي دليلنا على ما قلناه من أن إشكال المحقق في بيع العصير إنما هو لأجل الشرب، لا على من يطهره: شيئان:

(الأول): تعبيره عن المشتري بمن يستحل العصير في قوله:

فهل يجوز بيعه على من يستحله ؟ فإن المستحل لهذا العصير النجس إنما يقدم على شرائه للشرب، لا لأجل تطهير، باذهاب ثلثيه.

(ثانيهما): ذكره الدليل و هو قوله تعالى: وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ ، فإن بيعه للشرب هي الإعانة على الإثم و العدوان لا بيعه للتطهير فتعبيره عن المشتري بمن يستحل، و استدلاله بالآية المذكورة قرينتان على أن اشكال المحقق في بيع العصير المغلي على المستحل انما هو لأجل أنه يشربه و الشرب محرم، فيكون البيع اعانة على الإثم فيحرم.

ص: 170

فلا (1) يظهر منه حكم بيعه على من يطهره

الرابعة يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس
اشارة

(الرابعة) (2) يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس على المعروف من مذهب الأصحاب.

و جعل هذا (3) من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة مبني على المنع من الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل، أو (4) على المنع من بيع المتنجس و إن جاز الانتفاع به نفعا مقصودا محللا.

و إلا (5) كان الاستثناء منقطعا، من حيث إن المستثنى منه ما ليس

++++++++++

(1) الفاء تفريع على قوله: و الظاهر أن المحقق اراد بيع العصير أي بعد أن قلنا: إن اشكال المحقق في بيع العصير على من يستحله لأجل شربه. فلا ظهور لكلامه في بيعه على من يطهره بإذهاب ثلثيه.

(2) أي المسألة الرابعة من المسائل الأربعة المستثناة من الأعيان النجسة

(3) و هو المتنجس الذي خرج جواز الانتفاع به بدليل خاص كما هو الحكم في نجس العين. و يأتي الاشارة إليه في الأخبار.

و لا يخفى أن الاستثناء هنا شبه متصل، حيث إن المستثنى منه و هو النجس نجاسته ذاتية، و المستثنى و هو الدهن المتنجس نجاسته عرضية فلا يكون الاستثناء متصلا تماما، بل شبه متصل بفرض عنوان عام يشمل النجس و المتنجس: و هو (ما ليس فيه منفعة محللة مقصودة).

(4) عطف على قوله: مبني على المنع من الانتفاع، أي استثناء الدهن المتنجس إما مبني على المنع من الانتفاع بالمتنجس.

و إما مبني على المنع من بيع المتنجس مطلقا، و ان جاز الانتفاع به نفعا مقصودا محللا.

(5) أي و ان لم نقل: إن استثناء الدهن المتنجس مبني على المنع من الانتفاع بالمتنجس.

ص: 171

فيه منفعة محللة مقصودة (1) من النجاسات و المتنجسات.

و قد تقدم أن المنع عن بيع النجس فضلا عن المتنجس، ليس إلا من حيث حرمة المنفعة المقصودة، فاذا فرض حلها (2) فلا مانع من البيع.

و يظهر من الشهيد الثاني في المسالك خلاف ذلك (3)، و أن جواز بيع الدهن للنص، لا لجواز الانتفاع به، و إلا (4) لاطرد الجواز في غير الدهن أيضا.

++++++++++

- أو على المنع من بيع النجس مطلقا فالاستثناء يكون منقطعا لا محالة لعدم وجود قدر جامع بين المستثنى و هو الدهن المتنجس الذي نجاسته عرضية و المستثنى منه و هو النجس الذي نجاسته ذاتية.

(1) و الدهن المتنجس فيه منفعة محللة مقصودة كما هو المفروض في لسان الأخبار، فالاستثناء يكون منقطعا، بناء على أن المستثنى المنقطع ما ليس من جنس المستثنى منه و يكون خارجا عنه موضوعا.

و لا يخفى: أن المستثنى منه قد اختلف في كلام الشيخ ففي أول المسألة أفاد أن المستثنى منه هي الأعيان النجسة بقوله: و جعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة.

و هنا أفاد أنه ما ليس فيه منفعة محللة بقوله: من حيث إن المستثنى منه ما ليس فيه منفعة محللة مقصودة.

(2) أي حل المنفعة المقصودة.

(3) أي خلاف ما قلناه: و هو أن جواز بيع الدهن المتنجس إنما هو لأجل وجود المنفعة المحللة المقصودة فيه.

(4) أي و إن كان جواز بيع الدهن المتنجس لأجل وجود المنفعة المحللة المقصودة لا للنص: لاطرد الجواز في غير الدهن أيضا.

ص: 172

و أما حرمة الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل فسيجيء الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان (1) فلا اشكال في جواز بيع الدهن المذكور، و عن جماعة الإجماع عليه في الجملة (2).

و الأخبار (3) به مستفيضة.

(منها) (4): الصحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: جرذ مات في سمن، أو زيت، أو عسل ؟

قال عليه السلام: أما السمن و العسل فيؤخذ (5) الجرذ و ما حوله و الزيت يستصبح به (6).

و زاد في المحكي عن التهذيب أنه يبيع ذلك الزيت، و يبينه لمن اشتراه ليستصبح به (7).

++++++++++

- و لا يخفى أنه لا مانع من الاطراد المذكور اذا كان في الشيء منفعة محللة مقصودة يبنى العرف و العقلاء على الانتفاع منه.

(1) سواء أ كان الاستثناء متصلا أم منقطعا.

(2) معنى قوله في الجملة: أن الاجماع قائم لا محالة، إما للجواز المطلق، أو لأجل الاستصباح.

(3) هذه الأخبار هو المراد من النص الذي أشار إليه المصنف بقوله آنفا: للنص، أي ورود الأخبار بجواز بيع الدهن المتنجس بلغ حد الاستفاضة بحيث تفيد الشياع و التواتر.

(4) أي من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الدهن المتنجس.

(5) أي يطرح الجرذ و ما حوله من السمن و العسل.

(6) (الكافي) الجزء 6 ص 261. الحديث 2.

(7) هذه الجملة: أنه يبيع ذلك الزيت و ينبه لمن اشتراه ليستصبح به -

ص: 173

و لعل الفرق بين الزيت و أخويه (1) من جهة كونه مائعا غالبا بخلاف السمن و العسل، و في رواية اسماعيل الآتية إشعار بذلك (2).

(و منها) (3): الصحيح عن سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الفأرة و الدابة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه ؟

قال عليه السلام: ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا، فإنه ربما يكون (4) بعض هذا، فان كان الشتاء فانزع ما حوله و كله.

و ان كان الصيف فادفعه حتى يسرج به (5).

++++++++++

- منقولة عن التهذيب بالمعنى، و في المصدر هكذا.

و أما الزيت فتستصبح به، و قال في بيع ذلك الزيت: تبيعه و تبينه لمن اشتراه ليستصبح به.

راجع (التهذيب) الجزء 9 ص 85. الحديث 94.

(1) و هما: العسل و السمن و هو دهن الطعام المعبر عنه بالدهن الحيواني أو الحر.

و الزيت ما يخرج من النباتات، و قد يطلق على ما يستخرج من الحيوانات كزيت السمك.

(2) أي بالفرق الذي قلناه: و هو أن الزيت مائع غالبا، بخلاف السمن و العسل، فإنهما جامدان، و لهذا لا يستعمل الزيت إلا في الاستصباح لأنه يتنجس بوقوع الجرذ فيه.

(3) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الدهن المتنجس

(4) يحتمل أن تكون كلمة: (يكون) ناقصة و اسمها: المتنجس أي يكون المتنجس بعض ما ذكر من المتنجسات.

و يحتمل أن تكون تامة و اسمها كلمة بعض.

(5) المصدر السابق ص 86. الحديث 96.

ص: 174

(و منها) (1): ما عن أبي بصير في الموثق عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه ؟

قال عليه السلام: ان كان جامدا فلطرحها و ما حولها، و يؤكل ما بقي

و ان كان ذائبا فأسرج به و أعلمهم إذا بعته (2).

(و منها) (3): رواية اسماعيل بن عبد الخالق، قال: سأله سعيد الأعرج السمان و أنا حاضر عن السمن و الزيت و العسل تقع فيه الفارة فتموت كيف يصنع به ؟

قال عليه السلام: أما الزيت فلا تبعه إلا أن تبين له فيبتاع للسراج و أما الأكل فلا. و أما السمن فان كان ذائبا فكذلك (4)، و إن كان جامدا و الفارة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها، ثم لا بأس به (5) و العسل كذلك (6) ان كان جامدا (7).

++++++++++

- و لا يخفى أن هذه الصحيحة صحيحة الحلبي، لا صحيحة سعيد الأعرج و الحديث مذكور في المصدر نفسه.

و في الوسائل مع اختلاف يسير فراجع.

(1) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الدهن المتنجس.

(2) نفس المصدر الجزء 7 ص 129. الحديث 33.

(3) أي و من تلك الأخبار المستفيضة الدالة على جواز بيع الدهن المتنجس.

(4) أي لا يؤكل و لكن يباع للإسراج.

(5) أي لا بأس بأكله بعد الأخذ من جوانبه و طرحه.

(6) أي العسل مثل السمن في الأخذ من جوانبه و طرحه ان كان جامدا، و يؤكل الباقي.

و إن كان ذائبا فلا يؤكل، و لكن يباع للإسراج.

(7) (وسائل الشيعة) الجزء 12 ص 66 الباب 6 من أبواب جواز -

ص: 175

الإشكال يقع في مواضع
اشارة

اذا عرفت هذا فالاشكال في مواضع:

الأول أن صحة بيع هذا الدهن هل هي مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحا أو يكفي قصدهما لذلك أو لا يشترط أحدهما

(الأول): أن صحة بيع هذا الدهن (1) هل هي مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحا، أو يكفي قصدهما (2) لذلك، أو لا يشترط احدهما (3).

ظاهر الحلي في السرائر الأول (4)، فانه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجسة جمع قال: و يجوز بيعها بهذا الشرط (5) عندنا.

و ظاهر المحكي عن الخلاف الثاني (6)، حيث قال: جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء: دليلنا اجماع الفرقة و أخبارهم.

و قال أبو حنيفة: يجوز مطلقا (7) انتهى.

و نحوه (8) مجردا عن دعوى الاجماع عبارة المبسوط

++++++++++

- بيع الزيت. الحديث 5.

(1) أي الدهن المتنجس.

(2) أي قصد البائع و المشتري بيعه للاستصباح.

(3) أي لا قصد الاشتراط الصريح، و لا قصد الاستصباح.

(4) و هو: أن صحة البيع مشروطة باشتراط الاستصباح تحت السماء

(5) أي بشرط الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء عند البيع و المراد من الجواز هنا: الحكم الوضعي و هي صحة المعاملة، و تملك كل من البائع و المشتري الثمن و المثمن.

(6) و هي كفاية قصد الاستصباح دون الاشتراط بالاستصباح تحت السماء

راجع الخلاف الطبعة الثانية سنة 1377 الجزء الأول ص 588.

(7) سواء اشتراط الاستصباح أم لا، و سواء قصد الاستصباح أم لا.

راجع (الفقه على المذاهب الأربعة) الطبعة الخامسة. الجزء 2. ص 232

(8) أي و نحو المحكي عن الخلاف عبارة المبسوط -

ص: 176

و زاد (1) أنه لا يجوز بيعه إلا لذلك.

و ظاهره (2) كفاية القصد، و هو ظاهر غيره ممن عبر بقوله: جاز بيعه للاستصباح، كما في الشرائع و القواعد و غيرهما.

نعم (3) ذكر المحقق الثاني ما حاصله: أن التعليل راجع الى الجواز يعني يجوز لأجل تحقق فائدة الاستصباح: بيعه.

و كيف كان (4) فقد صرح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح.

و يمكن أن يقال باعتبار قصد الاستصباح اذا كانت المنفعة المحللة

++++++++++

- راجع (المبسوط). الطبعة الجديدة. الجزء 2. ص 167.

(1) أي الشيخ في المبسوط، أليك نص عبارته في المصدر.

يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السماء، و لا يجوز إلا لذلك.

(2) أي و ظاهر كلام الشيخ: كفاية القصد في صحة البيع من دون مدخلية اشتراط الاستصباح به تحت السماء عند البيع.

(3) استدراك عما أفاده آنفا: من أن التعليل الوارد في كلمات الفقهاء بقولهم: جاز بيعه للاستصباح: لكون قصد الاستصباح معتبرا في المبيع.

و خلاصة الاستدراك: أن المحقق الثاني أفاد أن التعليل الوارد في كلمات الفقهاء راجع الى جواز بيع الدهن المتنجس للاستصباح، لا لاعتبار قصد الاستصباح في صحة بيعه كما استفاده الفقهاء، سواء أ كان بيعه بقصد ذلك أم لم يكن.

(4) أي سواء قلنا: إن التعليل الوارد في كلمات الفقهاء لاعتبار قصد الاستصباح أم لجواز البيع، و سواء أ كان البيع للاستصباح أم لغيره من المنافع الموجودة فيه.

ص: 177

منحصرة فيه (1)، و كان من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليته كما في دهن اللوز و البنفسج و شبههما (2).

و وجهه (3): أن مالية الشيء إنما هي باعتبار منافعه المحللة المقصودة منه، لا باعتبار (4) مطلق الفوائد غير الملحوظة في ماليته.

و لا (5) باعتبار الفوائد الملحوظة المحرمة، فاذا فرض أن لا فائدة في الشيء محللة ملحوظة في ماليته فلا يجوز بيعه على الاطلاق (6)، لأن الإطلاق ينصرف الى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه (7)، و المفروض

++++++++++

(1) أي في الاستصباح، و كان الاستصباح من منافعه النادرة.

(2) حيث إن الاستصباح ليس من منافعهما المتعارفة.

لكن لما صارا نجسين و كان الاستصباح بهما ممكنا جاز بيعهما لذلك بقصد الاستصباح في تلك الحالة.

(3) أي وجه اعتبار القصد في حالة نجاسة الدهن عند انحصار فائدته في هذه الحالة في الاستصباح فقط.

(4) أي ليست مالية الشيء باعتبار مطلق الفوائد الغير الملحوظة فيها كالاستصباح بدهن اللوز و البنفسج، فان الاستصباح بدهنهما ليس من فوائدهما العرفية.

(5) أي و ليست مالية الشيء باعتبار الفوائد الملحوظة المحرّمة.

فالحاصل: أن مالية الشيء إنما هي باعتبار منافعها المحللة المقصودة عند العرف و العقلاء، لا باعتبار الفوائد النادرة غير المقصودة عند العقلاء و لا باعتبار الفوائد الملحوظة المحرّمة.

(6) أي لا يجوز بيع الشيء النجس من دون تقييده ببعض منافعه حيث إن الاطلاق ينصرف الى المنافع الملحوظة و المفروض حرمتها.

(7) كاستعمال دهن اللوز في السعال، و تليين المزاج.

ص: 178

حرمتها (1) فيكون أكلا للمال بالباطل (2).

و لا على قصد (3) الفائدة النادرة المحللة، لأن قصد الفائدة النادرة لا يوجب

++++++++++

- و استعمال دهن البنفسج في الأنف، فاذا بيعا حالة النجاسة مطلقا من دون تقييدهما بقيد الاستصباح انصرف البيع الى تلك المنافع. بمعنى أن المشتري يشتريه للاستعمال في السعال، و التليين، و الأنف، لا للإسراج فلا بد من تقييد المبيع في هذه الحالة للإسراج حتى لا ينصرف البيع الى تلك المنافع المحرّمة بسبب النجاسة.

(1) أي و الحال أن المفروض حرمة هذه المنافع المذكورة في حالة النجاسة.

(2) أي يكون هذا البيع في هذه الحالة من دون تقييده بالاسراج بيعا باطلا فاكل ثمنه أكل للمال بالباطل فيشمله قوله تعالى: «وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ » (1).

(3) عطف على قوله: فلا يجوز بيعه على الاطلاق، أي لا يجوز بيعه على قصد الفائدة النادرة المحللة أيضا كالاستصباح من دهن اللوز و البنفسج المتنجسين. فعليه لا يجوز بيعهما.

و لا يخفى أن هذه المنفعة النادرة المحللة و هو الاستصباح إنما كانت نادرة في حال حلية تلك المنافع المقصودة، و لما حرمت تلك المنافع بسبب نجاستها أصبحت هذه المنفعة النادرة هي البارزة، و تلك المنافع هي النادرة و ساقطة و ملغاة في نظر الشارع بحيث لا يرى لها قيمة و مالية.

و من البديهي أن العقلاء لا يتلفون الشيء بمجرد زوال منافعه المقصودة اذا كانت هناك جهة يمكن الاستفادة منها، و مما لا شك فيه أن دهن اللوز و البنفسج بعد أن صارا نجسين يمكن الاستفادة منهما -8.

ص: 179


1- البقرة: الآية 188.

كون الشيء مالا (1).

ثم اذا فرض ورود النص الخاص على جواز بيعه كما فيما نحن فيه (2) فلا بد من حمله (3) على إرادة صورة قصد الفائدة النادرة، لأن أكل المال حينئذ (4) ليس بالباطل بحكم الشارع، بخلاف صورة عدم

++++++++++

- بطريق آخر: و هو الاستصباح فلا يسقطان عن المالية رأسا فيجوز بذل المال بإزائه فلا يكون البيع أكلا للمال بالباطل كما أفاد (شيخنا الأنصاري) من أن المنفعة النادرة ملغاة في نظر الشارع، لأنها محرمة فبذل المال بإزائه بذل للمال بإزاء الباطل.

نعم يلزم في هذه الحالة تقييد المبيع بهذه المنفعة و هو الاستصباح

(1) و لا يخفى أن ما ذهب إليه (شيخنا الأنصاري): (من أن المنفعة النادرة لا توجب مالية الشيء) محل نقاش، فإن ذهاب المنافع الكثيرة المقصودة من دهن اللوز و البنفسج بعد نجاستهما لا يصير سببا لذهاب ماليتهما بعد أن يوجد لهما منفعة نادرة محللة مقصودة كالاستصباح مثلا.

فكيف يمكن أن يقال: إن الفائدة النادرة لا توجب كون الشيء مالا.

(2) و هو الدهن المتنجس، حيث ورد فيه النص الخاص بجواز الاستصباح به تحت السماء.

(3) أي حمل هذا النص الخاص الوارد في جواز بيع الدهن المتنجس للاستصباح على صورة قصد الاستصباح.

(4) أي حين أن قصد من بيع الدهن المتنجس الفائدة النادرة التي ورد النص في جوازها لا يكون أكل المال أكلا بالباطل بحكم الشارع، حيث إنه حكم بجواز هذه المنفعة النادرة، فيجوز بذل المال بإزائها.

ص: 180

القصد (1)، لأن المال في هذه الصورة مبذول في مقابل المطلق (2) المنصرف الى الفوائد المحرّمة فافهم (3).

و حينئذ (4) فلو لم يعلم المتبايعان جواز الاستصباح بهذا الدهن، و تعاملا من غير قصد الى هذه الفائدة (5) كانت المعاملة باطلة، لأن المال (6) مبذول مع الاطلاق في مقابل الشيء باعتبار الفوائد المحرّمة.

ثم لو علمنا عدم التفات المتعاملين (7) الى المنافع أصلا: أمكن صحتها

++++++++++

(1) و هو عدم قصد المنفعة النادرة بأن أوقع البيع مطلقا من دون قصد الاستصباح، فإن في هذه الحالة لا يجوز بيعه.

(2) الذي هو البيع من دون قصد الاستصباح.

(3) لعله اشارة الى ما قلناه سابقا في الهامش 1 ص 180 من أن المنفعة النادرة توجب مالية الشيء بعد حرمة منافعه الكثيرة المقصودة.

و النص الوارد في جواز بيع الدهن المتنجس بعد وجود المنفعة النادرة فيه انما جاء مؤيدا لكون المنفعة النادرة موجبة لمالية الشيء، لا أنه تعبد محض.

(4) أي و حين أن لم يقصد البائع المنفعة النادرة، و من دون أن يقيده بقيد الاستصباح و لا يعلم المشتري بذلك.

(5) و هو الاستصباح.

(6) و هو الثمن و قد عرفت أن بذل المال بإزاء المنفعة المحرّمة من دون قصد المنفعة النادرة، و بنحو الإطلاق باطل، لشمول قوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.

(7) أي لو علمنا عدم التفات البائع و المشتري لا الى المنافع الكثيرة المقصودة المحللة حالة الطهارة بأن لم يقصد المنافع المحرمة و لا المحللة أصلا بأن أوقعا البيع من دون قصد إليهما أو الى إحداهما.

ص: 181

لأنه مال واقعي شرعا قابل لبذل المال بإزائه، و لم يقصد به (1) ما لا يصح بذل المال بإزائه من المنافع المحرّمة.

و مرجع هذا (2) في الحقيقة الى أنه لا يشترط (3) إلا عدم قصد المنافع المحرّمة فافهم (4).

و أما فيما كان الاستصباح منفعة غالبة بحيث كان مالية الدهن باعتباره (5) كالأدهان المعدة للإسراج فلا يعتبر في صحة بيعه

++++++++++

- و لا الى المنافع النادرة المقصودة غير المتعارفة من الشيء: لأمكن صحة مثل هذه المعاملة.

و لا يخفى أن هذا رجوع عن اعتبار قصد الفائدة النادرة كما أفاده بقوله: و حينئذ فلو لم يعلم المتبايعان جواز الاستصباح بهذا الدهن الى آخر قوله

(1) أي بهذا البيع الذي لم يلتفت المتعاملان الى المنافع أصلا.

(2) أي و مرجع إمكان صحة مثل هذه المعاملة التي لم يلتفت المتعاملان الى المنافع أصلا.

(3) أي في المبيع.

(4) لعله اشارة الى أن الشارع لو أجاز المعاملة من دون أن يقيدها بقيد خاص. أو عدم قصد خاص: فلا معنى لاشتراط قصد المنافع النادرة عند البيع، و لا لاشتراط عدم القصد الى شيء. لأن القصد و عدم القصد لا دخل لهما في مالية الشيء، و عدم ماليته.

هذا تمام الكلام فيما اذا كان للشيء منفعة نادرة كما في دهن اللوز و البنفسج، فان الاستصباح بهما نادرة جدا. و لا يستفاد منهما إلا حالة نجاستهما، لأنهما لم يكونا معدين للإسراج قبل النجاسة، لكنهما لما صارا نجسين و سقطت منافعهما الغالبة المحللة جاز أخذه للإسراج.

(5) أي باعتبار الاستصباح، فإن شراء الناس إنما هو لأجله.

ص: 182

قصده (1) أصلا، لأن الشارع قد قرر ماليته العرفية بتجويز الاستصباح به و ان فرض حرمة سائر منافعه (2)، بناء (3) على أضعف الوجهين (4):

من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على مورد النص.

++++++++++

(1) أي قصد الاستصباح أبدا، لأنه ليس من منافعه النادرة حتى يحتاج بيع الدهن المتنجس الى قصده.

و هذا هو الفارق بين هذه الأدهان، و بين دهن اللوز و البنفسج.

(2) كطلي السفن و الأجرب، و تصبينه.

(3) بالنصب على المفعول المطلق التأكيدي، أي فرض حرمة سائر منافع المتنجس غير الاستصباح مبني على القول بأن الأصل في الانتفاع بالمتنجس هي الحرمة.

و هذا الأصل أضعف من الأصل الآخر الذي هي الحلية في الانتفاع بالمتنجس، و الشيخ يختار أصل الحلية في الانتفاع بالمتنجس، حيث يعبر عن الحرمة بالأضعف.

و المراد من الوجهين هما: أصل الحرمة. و أصل الحلية فالشيخ يقول: حرمة سائر المنافع مبنية على أن الأصل في الانتفاع بالمتنجس هي الحرمة.

و أما لو كان الأصل هي الحلية فالانتفاع بسائر المنافع جائز لا مانع منه

(4) و قد عرفت الوجهين. و كلمة من بيانية تبين أضعف الوجهين أي أضعف الوجهين هو وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس الذي يراد منه المتنجس على مورد النص: و هو الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء.

ص: 183

و كذا (1) اذا كان الاستصباح منفعة مقصودة مساوية لمنفعة الأكل المحرم كالألية و الزيت و عصارة السمسم (2)، فلا يعتبر قصد المنفعة المحللة (3) فضلا عن اشتراطه (4)، اذ يكفي في ماليته (5) وجود المنفعة المقصودة المحللة.

غاية الأمر كون حرمة منفعته الأخرى المقصودة نقصا فيه (6) يوجب الخيار للجاهل.

++++++++++

(1) أي و كذا لا يشترط قصد الاستصباح في الموارد المذكورة اذا كان الاستصباح من المنافع المقصودة المتساوية. كما أنه لا يشترط في المنافع الغالبة قصد الاستصباح أيضا.

(2) أي اذا تنجست هذه الأشياء و هي الألية و الزيت، و عصارة السمسم.

و المراد من الألية: الألية المذابة، كما أن المراد من الزيت عصارة الزيتون.

(3) و هو الاستصباح بهذه الأشياء المذكورة، لأن للأليات المذابة منفعتين، منفعة الأكل: و هو المحرم، و منفعة الاستصباح: و هو المحلّل فكلتا المنفعتين متساويتان.

(4) مرجع الضمير: الاستصباح، أي فضلا عن اشتراط الاستصباح الذي هي المنفعة المحللة في البيع، لأنه اذا لم يكن أصل القصد معتبرا فلا وجه لاعتبار اشتراط الاستصباح.

(5) مرجع الضمير: الدهن المتنجس، أي يكفي في مالية الدهن المتنجس الذي هو ذو منفعة محرمة كالأكل، و منفعة محللة كالاستصباح و المنفعتان متساويتان لا ترجيح لإحداهما على الأخرى.

(6) أي في الشيء المبيع الذي هو المتنجس فهذا النقص هو الموجب -

ص: 184

نعم يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة: بان (1) يقول: بعتك بشرط أن تأكله، و إلا (2) فسد العقد بفساد الشرط، بل يمكن الفساد (3) و ان لم نقل بإفساد الشرط الفاسد، لأن مرجع الاشتراط (4) في هذا

++++++++++

- لخيار المشتري الجاهل بالنقص.

فتحصل من مجموع ما ذكر أن للشيء ثلاثة أنواع من المنافع:

(الأول) المنفعة النادرة القليلة جدا كالاستصباح من دهن اللوز و البنفسج. فهذا يحتاج الى قصد الاستصباح في صحة معاملته.

(الثاني) منفعة غالبة كالاستصباح من الأدهان المعدة للإسراج فهذا لا يحتاج الى قصد الاستصباح في المبيع أصلا فضلا عن اشتراطه.

(الثالث) تكون المنفعة المحللة و المحرمة متساويتين كمنفعة الأكل.

و منفعة الاستصباح. و هذه لا تحتاج الى قصد المنفعة المحللة في البيع فضلا عن اشتراطها.

(1) الباء بيان لاشتراط المنفعة المحرمة، أي اشتراط المنفعة المحرّمة عبارة عن قول البائع وقت البيع: بعتك بشرط أن تأكله.

(2) أي و ان اشترط البائع عند البيع المنفعة المحرمة بأن قال: بعتك بشرط أن تأكله فسد العقد و بطل البيع، حتى لو لم نقل: إن الشرط الفاسد مفسد للعقد.

(3) أي فساد العقد رأسا من دون توقفه على أن الشرط الفاسد مفسد

(4) أي اشتراط البائع وقت البيع المنفعة المحرمة: و هو قوله:

بعتك بشرط أن تأكله في الفرض المذكور: و هو أن للشيء منفعتين متساويتين: الحلية، و الحرمة كالأكل. و الاستصباح كما عرفت: يكون مرجعه الى تعيين المنفعة المحرمة على المشتري فيجب على المشتري صرف المبيع المشترى و استعماله في المنفعة المحرمة حسب اشتراط البائع.

ص: 185

الفرض الى تعيين المنفعة المحرّمة عليه، فيكون (1) أكل الثمن أكلا بالباطل، لأن حقيقة النفع العائد الى المشتري بإزاء ثمنه هو النفع المحرّم فافهم (2).

بل (3) يمكن القول بالبطلان بمجرد القصد و ان لم يشترط في متن العقد.

و بالجملة فكل بيع قصد فيه منفعة محرمة بحيث قصد أكل الثمن أو بعضه بإزاء المنفعة المحرّمة كان باطلا، كما يومي الى ذلك: ما ورد

++++++++++

(1) الفاء تفريع على القول بأن مرجع اشتراط المنفعة المحرمة اذا كان للشيء منفعتان: محللة. و محرمة: الى تعيين المنفعة المحرمة على المشتري أي نتيجة هذا الاشتراط أن يكون البيع فاسدا، لأنه يجب على المشتري بموجب الشرط استعمال المبيع في المنفعة المحرمة. و الى هذا أشار الشيخ بقوله: لأن حقيقة النفع العائد الى المشتري بإزاء ثمنه هو النفع المحرم فيكون أكل الثمن أكلا بالباطل. حيث إن مقتضى الشرط المذكور:

كون المال بإزاء الشيء المحرم استعماله: فيشمله قوله صلى اللّه عليه و آله:

إن اللّه اذا حرم شيئا حرم ثمنه.

(2) لعله اشارة الى أن الشرط الفاسد لا يعين على المشتري ايجاد الحرام في الخارج، و الزام البائع لا يكون ملزما له، حيث إن الشرط بذاته مبغوض عند الشارع.

(3) أي يمكن أن يقال ببطلان البيع بمجرد قصد المتعاقدين المنفعة المحرمة

ثم بناء على هذا الامكان هل العقد يكون باطلا بمجرد قصد أحدهما المنفعة المحرّمة، أو يبطل بالنسبة الى من قصدها.

ص: 186

في تحريم شراء الجارية المغنية و بيعها (1).

و صرح في التذكرة بأن الجارية المغنية اذا بيعت بأكثر مما يرغب فيها لو لا الغناء فالوجه التحريم (2) انتهى.

ثم إن الأخبار المتقدمة (3) خالية عن اعتبار قصد الاستصباح، لأن موردها (4) مما يكون الاستصباح فيه منفعة مقصودة منها كافية في ماليتها العرفية

++++++++++

(1) راجع (وسائل الشيعة). الجزء 12. ص 86. الباب 16 من أبواب تحريم بيع المغنية. الحديث 1-2.

(2) راجع (تذكرة الفقهاء) من طبعتنا الحديثة. القسم الأول الجزء 7. ص 21.

و أما وجه التحريم فلكون بعض الثمن وقع في مقابل المنفعة المحرمة و هي الغناء كما أفاده شيخنا الأعظم بقوله: و بالجملة فكل بيع قصد فيه منفعة محرمة بحيث قصد أكل الثمن، أو بعضه بإزاء المنفعة المحرمة كان باطلا.

(3) و هي الأخبار المستفيضة المشار إليها في الهامش 6 ص 173 و الهامش 5 ص 174، و الهامش 2-7 ص 175.

(4) أي مورد هذه الأخبار الواردة في الزيت و السمن و التي أشرنا إليها آنفا: هي المنفعة المقصودة.

و من الواضح أن الاستصباح منفعة محللة مقصودة متعارفة لا تحتاج الى القصد عند البيع.

بخلاف دهن اللوز و البنفسج فإن الاستصباح بهما حال النجاسة لا يكون منفعة محللة مقصودة متعارفة فلا بد من قصد الاستصباح بهما عند بيعهما في تلك الحالة.

ص: 187

و ربما يتوهم من قوله عليه السلام في رواية الأعرج المتقدمة (1):

نبينه لمن يشتريه فيبتاع للسراج: اعتبار (2) القصد.

و يدفعه (3) أن الابتياع للسراج إنما جعل غاية للإعلام: بمعنى أن المسلم اذا اطلع على نجاسته فيشتريه للإسراج، نظير (4) قوله عليه السلام في رواية معاوية بن وهب: يبينه لمن اشتراه ليستصبح به.

++++++++++

(1) و هي المشار إليها في الهامش 7 ص 175.

و خلاصة التوهم: أن قوله عليه السلام: فيبتاع للسراج يستفاد منه وجوب اعتبار قصد الاسراج و الاستصباح في هذا الدهن المتنجس فما أفيد من عدم اعتبار قصد الاستصباح بتعليل أن الأخبار المتقدمة المشار إليها في ص 173-174-175 خالية عن اعتبار قصد الاستصباح: غير مفيد، لصراحة قوله عليه السلام: فيبتاع للإسراج في اعتبار القصد.

(2) نائب فاعل لقوله: يتوهم، أي يتوهم اعتبار القصد.

(3) هذا جواب عن التوهم المذكور.

و خلاصته: أن المسلم اذا اطلع على نجاسة الدهن بإعلام البائع له فيقدم على شرائه للإسراج، لا لشيء آخر و هو الأكل، حيث يعلم أن أكل النجس حرام لا يجوز للمسلم الإقدام عليه، فالاسراج جعل غاية للإعلام بمعنى أن الامام عليه السلام يأمر البائع أن ينبه المشتري بنجاسة الدهن حتى لا يستعمله لغير الاستصباح فلا يكون قوله عليه السلام: فيبتاع للسراج غاية للبيع حتى يقال بوجوب اعتبار قصد الاسراج وقت البيع.

بعبارة أخرى أن المقصود من قوله عليه السلام: فيبتاع للسراج:

أن يعلمه كي يسرج به، لا أن يبيعه ليسرج به حتى يكون الاسراج غاية للبيع فيفهم منه وجوب اعتبار قصد الاستصباح.

(4) أي قوله عليه السلام: فيبتاع للسراج نظير قوله عليه السلام -

ص: 188

الثاني: أن ظاهر بعض الأخبار وجوب الإعلام فهل يجب مطلقا أم لا؟

(الثاني) (1): أن ظاهر بعض الأخبار (2) وجوب الإعلام فهل يجب مطلقا (3) أم لا؟.

و هل وجوبه نفسي (4)، أم شرطي (5) بمعنى اعتبار اشتراطه في صحة البيع ؟.

الذي (6) ينبغي أن يقال: إنه لا اشكال في وجوب الإعلام ان قلنا

++++++++++

- في رواية معاوية بن وهب المشار إليه في الهامش 7 ص 173: ينبه لمن اشتراه ليستصبح به، حيث إن الاستصباح جعل غاية للتنبيه، لا للبيع و الاشتراء.

(1) أي الموضع الثاني من المواضع التي يقع فيها الاشكال.

(2) و هو الحديث 2-7 ص 175، حيث إن فيهما الأمر بالاعلام على البائع للمشتري حين البيع.

(3) سواء علمنا بأن المشتري يأخذه للاستصباح أم لم نعلم بذلك.

أولا يجب في بعض الموارد كما اذا علمنا أن المشتري يريده للاستصباح فقط فهنا لا يحتاج البيع له الى الاعلام أصلا.

(4) أي وجوب الإعلام غير مرتبط بالمعاوضة بمعنى أن وجوب الاعلام هنا تكليفي تعبدي يترتب على تركه العقاب الأخروي، و ليس المراد من النفسي هنا ما يقابل الغيري.

(5) أي وجوب الاعلام وضعي: بمعنى اشتراطه في صحة المعاوضة بحيث اذا لم يعلم بطل البيع.

و الباء في قوله: بمعنى اعتبار تفسير للوجوب الشرطي، لا للوجوب النفسي.

(6) كلمة الذي مرفوعة محلا مبتدأ خبره جملة: أنه لا اشكال -

ص: 189

باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد، أو تواطئهما (1) عليه من الخارج لتوقف (2) القصد على العلم بالنجاسة.

و أما اذا لم نقل باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد فالظاهر وجوب الاعلام وجوبا نفسيا (3) قبل العقد، أو بعده، لبعض الأخبار المتقدمة (4)

و في قوله عليه السلام: بينه لمن اشتراه ليستصبح به (5) اشارة

++++++++++

- في وجوب الاعلام، و ليست مجرورة على أنها صفة لكلمة البيع في قوله:

لصحة البيع.

و المعنى: أنه إن اعتبرنا قصد الاستصباح و اشتراطه في المبيع فلا بد من اعتبار وجوب الاعلام بالنجاسة هنا، لأن البيع متوقف على القصد و القصد متوقف على الاخبار بالنجاسة.

و لا يخفى أنه لو قلنا باعتبار القصد في المبيع، و وجوب الإعلام بالنجاسة بالتقرير الذي بيناه: يكون وجوب الاعلام شرطيا الذي هو توقف صحة البيع على الاعلام بالنجاسة.

و أما اذا لم نقل باعتبار قصد الاستصباح و اشتراطه فلا بد من القول بوجوب الاعلام نفسيا، لا وجوبا شرطيا كما علمت آنفا معنى الوجوب النفسى

(1) أي تواطؤ البائع و المشتري خارج العقد على الاستصباح.

(2) أي لتوقف قصد الاستصباح على العلم بالنجاسة كما عرفت في الهامش 1.

(3) و هو الوجوب التكليفي البحث الذي عرفت معناه، لا الوجوب الشرطي الذي يكون الاعلام شرطا في صحة المعاوضة.

(4) و هو الحديث 2-7 من ص 175.

(5) (وسائل الشيعة) الجزء 12. ص 66. الباب 6 من باب جواز -

ص: 190

الى وجوب الاعلام، لئلا يأكله (1)، فإن الغاية للإعلام ليس هو تحقق الاستصباح، اذ لا ترتب بينهما (2) شرعا، و لا عقلا، و لا عادة، بل الفائدة (3) حصر الانتفاع فيه. بمعنى عدم الانتفاع (4) به في غيره.

فقيه (5) اشارة الى وجوب إعلام الجاهل بما يعطي اذا كان الانتفاع الغالب به (6) محرّما، بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لو لا الاعلام فكأنه (7) قال: أعلمه لئلا يقع في الحرام الواقعي بتركك الاعلام.

++++++++++

- بيع الزيت. الحديث 4.

(1) فيكون وجوب الاعلام وجوبا نفسيا.

و لا يخفى أن في قوله عليه السلام: بينه لمن اشتراه في الحديث المشار إليه في الهامش 5 ص 190 اشارة الى أن الاعلام أعم من أن يكون قبل العقد أو بعده.

(2) أي لا ملازمة بين الاعلام، و الاستصباح شرعا، و لا عقلا و لا عادة، لإمكان حصول الاعلام من دون الاستصباح، أو حصول الاستصباح من دون الاعلام، أو حصول كليهما فالنسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.

(3) أي فائدة الاعلام حصر الانتفاع في الاستصباح لا غير.

(4) أي حرمة الانتفاع بالدهن المتنجس في غير الاستصباح كالأكل مثلا فيكون الوجوب هنا وجوبا نفسيا.

(5) أي ففي قول الامام عليه السلام: «بينه لمن اشتراه ليستصبح به»

(6) أي اذا كان الانتفاع الغالب بالدهن المتنجس محرما كما اذا كان الدهن المتنجس دهن اللوز، أو البنفسج، فان الانتفاع الغالب فيهما هي الاستعمالات الخارجية، دون الأكل.

(7) أي فكأن الامام عليه السلام قال: أعلمه لئلا يقع في الحرام الواقعي بسبب تركك الاعلام.

ص: 191

و يشير الى هذه القاعدة (1) كثير من الأخبار المتفرقة الدالة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم، أو الموضوع في المحرمات، مثل ما دل على أن من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه (2)، فإن اثبات الوزر للمباشر من جهة فعل القبيح الواقعي، و حمله (3) على المفتي من حيث التسبيب و التغرير

و مثل قوله عليه السلام: ما من امام صلى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير (4) إلا كان عليه أوزارهم (5).

++++++++++

(1) أي يشير الى وجوب الاعلام لئلا يقع المشتري في الحرام الواقعي كثير من الأخبار المتفرقة في أبواب متعددة.

(2) هذه احدى الروايات الواردة في أبواب متفرقة الدالة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم، أو الموضوع.

راجع (وسائل الشيعة) الجزء 8. ص 9. الباب 4 من باب عدم جواز القضاء و الافتاء بغير علم. الحديث 1.

(3) أي و حمل الوزر الوارد في الحديث: على المفتي لأجل أنه سبّب وقوع المكلف في الحرام الواقعي.

(4) أي التقصير الذي يأتي من قبل الامام كما يشير الى هذا المعنى الحديث الآتي.

(5) هذه ثانية الروايات الدالة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع

راجع (بحار الأنوار) طباعة المرحوم (الحاج محمد حسن) أمين الضرب(1) (الأصفهاني). الجزء 18 ص 360. السطر 38.ب)

ص: 192


1- وجه التسمية: أنه كان مشرفا على العملة الايرانية الرائجة في أيام (السلطان ناصر الدين شاه القاجار) من سك الدراهم الفضية و الدنانير الذهبية، حيث يسمى هذا العمل ضربا فسمي ب: (أمين الضرب)

و في رواية أخرى فيكون في صلاته و صلاتهم تقصير إلا كان إثم ذلك عليه (1).

و في رواية أخرى لا يضمن الامام صلاتهم إلا أن يصلي بهم جنبا (2)

و مثل رواية أبي بصير المتضمنة لكراهة أن تسقى البهيمة، أو تطعم ما لا يحل للمسلم أكله أو شربه (3)، فإن في كراهة ذلك (4) في البهائم إشعارا بحرمته بالنسبة الى المكلف.

و يؤيده (5): أن أكل الحرام و شربه من القبيح و لو في حق

++++++++++

(1) نفس المصدر السطر 37.

و لا يخفى أن وزر المصلين على الامام يتصور فيما اذا كان جنبا و صلى بهم و هم لا يعلمون بجنابة الامام.

أما في صورة علمهم بذلك و اقتدائهم به فالوزر عليهم.

(2) (وسائل الشيعة) الجزء 5 ص 434 الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة. الحديث 6.

(3) نفس المصدر الجزء 17 ص 246-247. الباب 10 من أبواب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا. الحديث 5.

و لا يخفى أن المنقول خلاصة الحديث.

(4) و هو السقي و الإطعام للبهائم. فالكراهة تكون مشعرة لحرمة السقي و الإطعام للمكلف.

(5) أي و يؤيد هذه الحرمة: و هو عدم جواز إطعام الجاهل، أو سقيه بما لا يحل للمسلم: أن أكله، أو شربه يعد من القبيح.

و من المسلم أن كل قبيح يجب تركه، و عدم الإقدام عليه فالحرام بما هو حرام قبيح و ان كان المقدم عليه جاهلا به.

ص: 193

الجاهل. و لذا (1) يكون الاحتياط فيه مطلوبا مع الشك، إذ لو كان للعلم دخل في قبحه (2) لم يحسن الاحتياط

و حينئذ (3) فيكون إعطاء النجس للجاهل المذكور إغراء بالقبيح و هو (4) قبيح عقلا.

بل قد يقال: بوجوب الإعلام و ان لم يكن منه (5) تسبيب، كما لو رأى نجسا في يده (6) يريد أكله. و هو (7) الذي صرح به (العلامة) رحمه اللّه في أجوبة المسائل المهنائية، حيث سأله السيد المهنّأ: عمن رأى في ثوب المصلي نجاسة ؟

فأجاب بأنه يجب الاعلام، لوجوب النهي عن المنكر.

لكن اثبات هذا (8) مشكل.

++++++++++

(1) أي و لأجل قبح الحرام على الجاهل يطلب الاحتياط في ترك الأكل لو كان الأكل مشكوك الحرمة.

(2) أي في قبح الأكل لم يحسن الاحتياط في ترك الحرام المشكوك.

(3) أي و حين أن كان أكل الحرام قبيحا و لو للجاهل.

(4) أي الإغراء بالقبيح قبيح.

(5) أي من المكلف تسبيب في استعمال الحرام.

(6) أي في يد الجاهل بمعنى أن المكلف العالم لو رأى نجسا في يد المكلف الجاهل بالنجاسة و يريد أكله وجب عليه إعلامه، مع أن العالم لم يكن سببا لأكل النجس.

(7) أي وجوب الإعلام على العالم للجاهل بالحرام.

(8) و هو وجوب الإعلام على العالم للجاهل بالحرام: غير معلوم لأن الجاهل حين جهله غير مخاطب فلا يكون مكلفا فلا يوجد منكر هناك حتى يجب الإعلام به على العالم به إن قلنا بوجوب دفع المنكر.

ص: 194

و الحاصل: أن هنا (1) أمورا أربعة:

«أحدها»: أن يكون فعل الشخص علة تامة لوقوع الحرام في الخارج كما اذا أكره غيره على المحرم (2).

و لا إشكال في حرمته، و كون وزر الحرام عليه، بل أشد لظلمه.

«و ثانيها»: أن يكون فعله سببا (3) للحرام كمن قدّم الى غيره محرما، و مثله ما نحن فيه (4) و قد ذكرنا أن الأقوى فيه (5): التحريم لأن استناد الفعل الى السبب أقوى (6) فنسبة فعل الحرام إليه (7) أولى، و لذا (8) يستقر الضمان على السبب، دون المباشر الجاهل بل قيل: إنه لا ضمان ابتداء إلا عليه (9).

++++++++++

(1) أي في مورد وجوب الإعلام، و تحمل الوزر لو لم يعلم.

(2) كشرب الخمر مثلا، سواء علم المكره بالفتح بالخمر أم لا.

(3) أي جزء سبب لايجاد الحرام، و الجزء الآخر: إقدام الجاهل على استعمال الحرام.

(4) أي و مثل ما كان الفعل سببا للحرام: ما نحن فيه: و هو بيع الدهن المتنجس من غير إعلام البائع المشتري أنه نجس.

(5) أي فيما نحن فيه و هو بيع الدهن المتنجس من غير الإعلام.

(6) من استناد الفعل الى المباشر.

(7) أي الى السبب أولى من استناد الفعل الى المباشر.

(8) أي و لأجل أن استناد الفعل الى السبب أقوى: يتوجه الضمان على من قدم الى الغير طعاما مغصوبا فأكله الغير، دون الآكل، و لذا لو رجع المغصوب منه على الآكل رجع الآكل على من غرّه و أخذ منه ما غرمه لصاحب الطعام.

(9) أي إلا على الغاصب بمعنى أن المغصوب منه ليس له حق الرجوع -

ص: 195

«الثالث»: أن يكون (1) شرطا لصدور الحرام، و هذا يكون على وجهين:

«أحدهما»: أن يكون من قبيل ايجاد الداعي على المعصية، إما لحصول الرغبة فيها كترغيب الشخص على المعصية، و إما لحصول العناد من الشخص حتى يقع في المعصية كسب آلهة الكفار الموجب لإلقائهم في سب الحق عنادا، أو سب آباء الناس الموقع لهم في سب أبيه.

و الظاهر: حرمة القسمين (2)، و قد ورد في ذلك عدة من الأخبار (3)

++++++++++

- على الآكل ابتداء و إنما له حق الرجوع على المسبب و هو الغاصب.

و أما حق الرجوع من المغصوب منه على الآكل إن لم يدفع الغاصب:

فلأجل عدم جواز إتلاف مال المسلم هدرا.

(1) أي فعل الشخص يكون شرطا في صدور الحرام و الشرط جزء من العلة بحيث لولاه لما صدر المعلول.

و الفرق بين الشرط، و السبب: أن الشرط ما لا يلزم من وجوده وجود المشروط، و لكن يلزم من عدمه عدم المشروط كالوضوء، فإن من وجوده لا يلزم وجود الصلاة، لكن من عدمه يلزم عدمها.

و السبب ما يلزم من وجوده وجود المسبب، و من عدمه عدمه.

كالنار، حيث إنها سبب للإحراق متى وجدت إن لم يكن هناك مانع و يلزم من عدمها عدمه.

(2) و هما: ترغيب الشخص على المعصية و إثارة الشخص على المعصية.

(3) أي في حرمة سبّ آباء الناس.

راجع (أصول الكافي). الجزء 2. ص 360. الحديث 2-3-4 فإن هذه الأحاديث تدل على حرمة سب الناس، أو آبائهم الموجب نسب أبيه.

ص: 196

«و ثانيهما» (1): أن يكون بايجاد شرط آخر غير الداعي كبيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا، و سيأتي الكلام فيه.

«الرابع» (2): أن يكون من قبيل عدم المانع.

و هذا يكون تارة مع الحرمة الفعلية في حق الفاعل (3) كسكوت الشخص عن المنع من المنكر و لا اشكال في الحرمة (4) بشرائط النهي عن المنكر.

و أخرى مع عدم الحرمة الفعلية بالنسبة الى الفاعل كسكوت العالم

++++++++++

- أليك نص الحديث الثاني.

عن أبي بصير عن (أبي جعفر) عليه السلام.

قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: سباب المؤمن فسق و قتاله كفر.

و أما الدليل الدال على حرمة سبّ آلهة الكفار فقوله عز من قائل:

«وَ لاٰ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » (1) .

(1) أي الوجه الثاني من الأمر الثالث الذي كان فعل الشخص شرطا في صدور الحرام: هو ترغيب الغير في ايجاد الحرام كمن يرغّب شخصا بشراء العنب ليعمله خمرا، ثم يبيعه العنب لصنع ما رغّبه فيه.

(2) أي الأمر الرابع من الأمور الأربعة أن يكون فعل الشخص.

(3) كما إذا كان الفاعل عالما بحرمة الفعل و هو يقدم على ارتكابه.

(4) أي في حرمة السكوت، و عدم إيجاد المانع من الفعل اذا كانت الحرمة فعلية في حق الفاعل، و كانت شرائط النهي عن المنكر متوفرة موجودة حتى يجوز له النهي عن المنكر.8.

ص: 197


1- الأنعام: الآية 108.

عن إعلام الجاهل (1) كما فيما نحن فيه (2) فإن صدور الحرام (3) منه مشروط بعدم إعلامه، فهل يجب دفع الحرام بترك السكوت أم لا؟

فيه (4) إشكال.

إلا اذا علمنا من الخارج (5) وجوب دفع ذلك (6) لكونه فسادا قد أمر بدفعه كل من قدر عليه، كما لو اطلع على عدم إباحة دم من يريد الجاهل قتله (7)، أو عدم إباحة عرضه له، أو لزم من سكوته ضرر مالي قد أمرنا بدفعه عن كل أحد.

فانه يجب الاعلام و الردع لو لم يرتدع بالإعلام، بل الواجب هو الردع و لو بدون الإعلام ففي الحقيقة الاعلام بنفسه غير واجب (8)

++++++++++

(1) فإن الحرمة بالنسبة الى الفاعل غير فعلية.

(2) و هو بيع الزيت المتنجس الى من لا يعلم بنجاسته.

(3) كأكل الدهن المتنجس.

(4) أي في وجوب دفع الحرام على العالم بالحرام اذا لم يكن الجاهل به مشغولا بالحرام لكنه يريده: إشكال، لأن الحرمة في حقه غير محققة بعد فلا عقاب على الفعل ما لم يشتغل به.

(5) أي من الأدلة الخاصة سوى المطلقات و العمومات، و أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(6) أي دفع المنكر الواقعي.

(7) فإنه يجب على العالم بذلك منعه عن ذلك، لأن الدماء و الفروج و الأموال لها أهميتها في الاسلام بصورة خاصة، و في المجتمع الانساني بصورة عامة فيجب على العالم بعدم إباحة الدم، أو الفرج، أو المال:

أن يمنع الجاهل بذلك و هو يريد ارتكاب هذه الأمور من باب الارشاد.

(8) بل وجوبه من باب أنه مقدمة للردع فوجوبه مقدمي غيري.

ص: 198

و أما فيما تعلق بغير الثلاثة (1) من حقوق اللّه فوجوب دفع مثل هذا الحرام مشكل (2)، لأن الظاهر من أدلة النهي عن المنكر (3) وجوب الردع عن المعصية.

فلا يدل على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية.

++++++++++

(1) المراد من الثلاثة: الدماء. و الفروج. و الأموال.

و المراد من كلمة غير: هي حقوق اللّه المحضة.

و كلمة من بيانية تبين غير الثلاثة.

(2) أي وجوب دفع مثل هذا الحرام و هي حقوق اللّه المحضة على العالم بالحرمة، و إعلامه الجاهل بالحرمة المقدم على ارتكاب الحرام مشكل، حيث إن الواجب عليه بيان الأحكام، لا الموضوعات الخارجية فعلى الفقيه أن يقول: الدم نجس. الخمر حرام. الغيبة حرام. أما هذا بول، و هذه خمر. و هذه غيبة فليس بواجب عليه.

فاذا همّ المكلف أن يشرب خمرا و هو لا يعلم بكونها خمرا فلا يجب على الفقيه ردعه عن ذلك لئلا يقع في الحرام الواقعي.

نعم لو همّ بشرب الخمر عالما بكونها خمرا و هو لا يعلم حكمها و هي الحرمة فعلى الفقيه منعه و ردعه عن ذلك إرشادا، لأنه مكلف ببيان الأحكام.

(3) من جملة الأدلة القائمة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» (1).

راجع (اللمعة الدمشقية) من طبعتنا الحديثة. الجزء 2 من ص 409 الى ص 420.4.

ص: 199


1- آل عمران: الآية 104.

نعم وجب ذلك (1) فيما اذا كان الجهل بالحكم، لكنه (2) من حيث وجوب تبليغ التكاليف ليستمر التكليف الى آخر الأبد بتبليغ الشاهد الغائب فالعالم في الحقيقة مبلغ عن اللّه ليتم الحجة على الجاهل و يتحقق فيه قابلية الإطاعة و المعصية.

ثم إن بعضهم استدل على وجوب الإعلام (3) بأن النّجاسة عيب خفي فيجب إظهارها (4).

و فيه (5): مع أن وجوب الاعلام على القول به ليس مختصا بالمعاوضات بل يشمل مثل الاباحة و الهبة من المجانيات أن (6) كون النجاسة عيبا ليس إلا لكونه منكرا واقعيا و قبيحا، فإن ثبت ذلك حرم الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب، و إلا (7) لم يكن عيبا فتأمل (8).

++++++++++

(1) أي الاعلام و الردع.

و لا يخفى أن الوجوب هنا من باب المقدمة لتبليغ الأحكام الإلهية و ليس وجوبه نفسيا استقلاليا.

(2) أي حتى يتبين في حق الجاهل بعد تبليغ العالم له أن له أهلية الطاعة اذا امتثل، و عدم الأهلية اذا عصى و تمرد.

(3) أي في بيع الدهن المتنجس.

(4) أي إظهار النجاسة من قبل البائع.

(5) أي و في هذا الاستدلال.

(6) هذا وجه الاشكال و النظر في الاستدلال.

(7) أي و إن لم تكن النجاسة منكرا واقعيا و قبيحا.

(8) يمكن أن يقال بالفرق بين ما يتقاضى بإزائه المال كالبيع و الهبة المعوضة و الصلح فإنه يجب الاعلام من قبل البائع:

ص: 200

الثالث»: المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السماء

«الثالث» (1): المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السماء، بل في السرائر: أن الاستصباح به (2) تحت الظلال محظور بغير خلاف. و في المبسوط: أنه روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف (3).

لكن الأخبار المتقدمة (4) على كثرتها و ورودها في مقام البيان ساكتة

++++++++++

- و بين ما لا يتقاضى بإزائه المال، فإنه لا يجب فيه الاعلام.

(1) أي الموقع الثالث من المواقع التي يقع فيها الاشكال.

(2) أي بالدهن المتنجس تحت الظلال ممنوع.

ثم لا يخفى أن المقصود من الظلال مطلق السقف فيشمل الخيمة و الفسطاط، و بيت الشعر، و ما يصنع من السعف و الآجام، و لا اختصاص له بالسقف المبني.

(3) راجع (المبسوط). الجزء 6. ص 283.

أليك نص العبارة.

و أما إن كان مائعا فالكلام في السمن و الزيت و الشيرج و البذر و هذه الأدهان كلها واحد فمتى وقعت الفأرة فيه فقد نجس كله.

و يجوز عندنا و عند جماعة الاستصباح به في السراج، و لا يؤكل و لا ينتفع به في غير الاستصباح.

و فيه خلاف.

و روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء، دون السقف.

و هذا يدل على أن دخانه نجس غير أن عندي أن هذا مكروه.

(4) و هي الأخبار المستفيضة المشار إليها في الهامش 6. ص 173 و الهامش 5 ص 174. و الهامش 2-7. ص 175.

ص: 201

عن هذا القيد، و لا مقيد لها (1) من الخارج عدا ما يدّعى من مرسلة (2) الشيخ المنجبرة بالشهرة المحققة، و الاتفاق (3) المحكي.

لكن لو سلم الانجبار (4) فغاية الأمر دورانه (5) بين تقييد المطلقات المتقدمة (6)، أو حمل الجملة الخبرية (7) على الاستحباب، أو الارشاد لئلا (8) يتأثر السقف بدخان النجس (9) الذي هو نجس، بناء

++++++++++

- فالأحاديث الواردة في المقام التي أشرنا إليها كلها مطلقة ليس فيها أي اشعار بالاستصباح تحت السقف كما قيد الأصحاب رضوان اللّه عليهم الاستصباح بكونه تحت السقف، و كذا بقية الأحاديث المذكورة في المصدر فانها مطلقات ليس فيها ما يشعر بالقيد المذكور.

(1) أي لهذه الأحاديث المطلقة التي أشرنا إليها.

(2) المذكورة في (المبسوط) فإن فيها (يستصبح به تحت السماء).

(3) بالجر عطفا على مجرور (باء الجارة) في قوله: بالشهرة أي و بالاتفاق المحكي في السرائر حيث قال (ابن ادريس) فيه:

إن الاستصباح به تحت السماء محظور بغير خلاف.

(4) و هو انجبار مرسلة الشيخ بالشهرة المحققة، و بالاتفاق المحكي عن (السرائر).

(5) أي دور ان الانجبار.

(6) و هي الأحاديث التي أشرنا إليها آنفا، فانه ليس فيها أي إشعار بالاستصباح تحت السقف كما عرفت.

(7) و هو يستصبح به في قوله: و روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف. على الاستحباب تعبدا، أو للإرشاد.

(8) تعليل لحمل الأمر على الارشاد، لا لحمله على الاستحباب.

(9) أي بدخان الزيت النجس، فالمضاف إليه و هو الزيت محذوف -

ص: 202

على ما ذكره الشيخ من دلالة المرسلة على نجاسة الدخان النجس، اذ قد لا يخلو (1) من أجزاء لطيفة دهنية تتصاعد بواسطة الحرارة، و لا ريب أن مخالفة الظاهر في المرسلة، خصوصا بالحمل على الارشاد دون الاستحباب أولى (2)، خصوصا (3) مع ابتناء

++++++++++

- و الدخان نجس أيضا لأنه متكوّن من النجس.

(1) أي الدخان النجس المتصاعد.

(2) خلاصة هذه العبارة: أنه يدور الأمر بين العمل بظاهر المرسلة الدالة على جواز الاستصباح بالدهن النجس تحت السماء فقط.

و بين العمل بتلك المطلقات التي أشرنا إليها آنفا الدالة على جواز الاستصباح بالدهن المتنجس من دون تقييده تحت السماء.

فلا شك أن مخالفة ظاهر المرسلة و رفع اليد عنها، و العمل بالمطلقات المذكورة أولى من تقييد الاستصباح به تحت السماء، و لا سيما تتأكد هذه الأولوية و تكون أقوى لو حملنا الجملة الخبرية الواقعة في المرسلة و هو قوله:

و روى أصحابنا: أنه يستصبح به تحت السماء: على الأمر الارشادي لا على الأمر المولوي الإلزامي فقوله: خصوصا معناه: و لا سيما تتأكد الأولوية لو فعلنا هكذا.

(3) هذا تأكيد ثان لأولوية مخالفة ظاهر المرسلة المذكورة و رفع اليد عنها.

و خلاصته: أن تقييد الدهن المتنجس بالاستصباح به تحت السماء مبني إما على ما ذكره الشيخ من أن المرسلة المذكورة تدل على نجاسة الدخان، بناء على أنه من أجزاء لطيفة دهنية تتصاعد بواسطة الحرارة.

و إما على أن وجوب الاستصباح به تحت السماء تعبد محض من باب ورود دليل خاص في الأخبار على ذلك: و هي المرسلة المذكورة -

ص: 203

التقييد إما (1) على ما ذكره الشيخ من دلالة الرواية (2) على نجاسة الدخان المخالفة للمشهور، و إما (3) على كون الحكم تعبدا محضا: و هو (4) في غاية البعد.

و لعله لذلك (5) أفتى في المبسوط بالكراهة مع روايته للمرسلة.

++++++++++

- في (المبسوط) المشتملة على الجملة الخبرية: و هي جملة يستصبح به في قوله:

و روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء.

(1) هذا هو الشق الأول لابتناء تقييد الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء. و قد أشرنا إليه في الهامش 3 ص 203.

(2) و هي المرسلة المذكورة في المبسوط.

و كلمة المخالفة مجرورة. بناء على أنها صفة للنجاسة، أي نجاسة الدخان مخالفة للمشهور حيث إنهم لا يقولون بنجاسته.

(3) هذا هو الشق الثاني لابتناء تقييد الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء و قد أشرنا إليه في الهامش 3 ص 203.

(4) أي استفادة الحكم و هو وجوب الاستصباح به تحت السماء من الجملة الخبرية الواردة في المرسلة المذكورة بقوله: و قد روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء: بعيد.

وجه البعد عدم استفادة الحكم من الجملة الخبرية، لعدم استفادة الأمر منها هذا بناء على ما أفاده الشيخ.

و أما بناء على ما أفاده صاحب الكفاية من أن دلالة الجملة الخبرية على الحكم آكد من دلالة الأمر و صيغة افعل عليه فاستفادة التعبد منها واضح.

(5) أي و لعل (شيخ الطائفة) لأجل كون نجاسة الدخان مخالفة للمشهور، و لأجل أن الحكم و هو الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء تعبد محض: أفتى بكراهة الاستصباح به تحت السقف، مع ذكره -

ص: 204

و الانصاف أن المسألة (1) لا تخلو عن اشكال، من (2) حيث ظاهر الروايات البعيدة عن التقييد، لإبائها (3) في أنفسها عنه، و إباء المقيد (4) عنه.

و من (5) حيث الشهرة المحققة، و الاتفاق المنقول، و لو رجع

++++++++++

- المرسلة في المبسوط.

(1) أي مسألة وجوب الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء لا تخلو عن اشكال، حيث إن الروايات الواردة في الوجوب بعيدة عن تقييد الاستصباح تحت السماء.

(2) دليل لجواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السقف.

و المراد من الروايات هي المطلقات التي أشرنا إليها في الهامش 1 ص 204.

فالأحاديث كلها آبية عن التقييد المذكور و هو الاستصباح به تحت السماء.

(3) تعليل لبعد الروايات المذكورة عن التقييد، أي لإباء تلك الروايات المذكورة بنفسها و حد ذاتها عن التقييد كما عرفت آنفا فالاطلاق فيها قوي فلا يشترط فيها الاستصباح تحت السماء.

(4) بصيغة الفاعل و المراد منه: المرسلة المذكورة في المبسوط، أي و لإباء المقيد الذي هي المرسلة المدعى أنها تقيد تلك المطلقات، لأن ظاهرها يدل على نجاسة السقف، و نجاسة السقف و الدخان أول الكلام.

و كلمة إباء مجرورة عطفا على مدخول (لام الجارة) أي و لإباء المقيد التي هي المرسلة عن تقييد المطلقات.

فالحاصل: أن التقييد إما من ناحية الأخبار المذكورة فهي مطلقة آبية عنه.

و إما من ناحية المرسلة فهي آبية عنه أيضا.

(5) دليل لعدم جواز الاستصباح تحت السقف.

ص: 205

الى أصالة البراءة حينئذ (1) لم يكن إلا بعيدا عن الاحتياط، و جرأة على مخالفة المشهور.

ثم إن العلامة في المختلف فصل بين ما اذا علم بتصاعد شيء من أجزاء الدهن، و ما اذا لم يعلم. فوافق المشهور في الأول (2): و هو (3) مبني على ثبوت حرمة تنجيس السقف، و لم يدل عليه دليل. و إن (4) كان

++++++++++

- ببيان أن الشهرة الفتوائية، و الاتفاق المذكور يقيدان تلك المطلقات و يخصصان جواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء

(1) أي لو رجعنا الى أصالة البراءة حين التعارض بين المطلقات المذكورة.

و بين دليل عدم جواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السقف و هي المرسلة المروية في المبسوط لا يلزم محذور: سوى أن العمل بأصالة البراءة في المقام يكون مخالفا للاحتياط، و بعيدا عن الايمان، و جرأة على مخالفة المشهور.

(2) و هو عدم جواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السقف اذا علم بتصاعد شيء من أجزاء الدهن اللطيفة مع الدخان بواسطة الحرارة كما ذهب إليه المشهور.

و أما اذا لم يعلم بذلك فلا مانع من الاستصباح به تحت السقف.

(3) أي موافقة المشهور: و هو عدم جواز الاستصباح به تحت السقف مبني على عدم جواز تنجيس السقف.

و الواو في و لم يدل عليه دليل حالية و الجملة في محل النصب أي و الحال أنه لم يدل دليل على حرمة تنجيس السقف.

(4) هذا عدول من الشيخ عما أفاده آنفا من عدم وجود دليل يدل على حرمة تنجيس السقف.

ص: 206

ظاهر كل من حكم بكون الاستصباح تحت السماء تعبدا (1)، لا لنجاسة الدخان، معللا (2) بطهارة دخان النجس: التسالم (3) على حرمة التنجيس، و إلا (4) لكان الأولى تعليل التعبد به، لا بطهارة الدخان كما لا يخفى.

++++++++++

- و خلاصة العدول: أنه و إن كان منشأ حكم القائلين بوجوب الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء: هو التعبد الذي استفيد من مرسلة الشيخ المذكورة في المبسوط، و ليس الحكم بذلك بواسطة نجاسة الدخان، اذ القائل بالاستصباح تحت السماء يقول بطهارة دخان النجس فليس هناك شيء يوجب تنجيس السقف.

لكن الفقهاء اتفقوا و تسالموا على حرمة تنجيس السقف فهذا الاتفاق و التسالم هو الذي سبّب القول بالاستصباح بالدهن النجس تحت السماء فحسب.

(1) خبر لكان في قوله: بكون الاستصباح، أي كون الاستصباح تحت السماء تعبدا.

(2) حال لمن الموصولة في قوله: و ان كان ظاهر، أي و إن كل من حكم أي حال كون من حكم بكون الاستصباح تحت السماء علّل.

(3) بالنصب خبر لكان في قوله: و ان كان ظاهر، أي و إن كان ظاهر كل من حكم بكون الاستصباح تحت السماء تعبدا، لا لنجاسة الدخان:

التسالم على حرمة التنجيس.

و لا يخفى تحقق هذا التسالم لو كان السقف طاهرا.

و أما اذا كان نجسا فلا معنى للقول بكون الاستصباح لا بد و أن يكون تحت السماء و حرمة تنجيسه، و لا سيما بعد البناء بطهارة دخان النجس، فان القول في الاستصباح تحت السماء إنما هو لأجل حرمة تنجيس السقف للتسالم المذكور

(4) أي و إن لم يكن دليل القائلين بحرمة تنجيس السقف بدخان -

ص: 207

الرابع: هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح
اشارة

«الرابع» (1): هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن (2) في غير الاستصباح بأن يعمل صابونا، أو يطلى به الأجرب، أو السفن ؟ قولان (3) مبنيان على أن الأصل في المتنجس (4) جواز الانتفاع (5)

++++++++++

- المتنجس: هو التسالم و الاتفاق المذكور من الفقهاء: لكان الأولى و الأنسب في القول بحرمة تنجيس السقف: هو التعبد، لأن الحكم المترتب و هي حرمة تنجيس السقف على الأمر التعبدي و هو الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء المستفاد من الجملة الخبرية المذكورة في مرسلة الشيخ بقوله:

و قد روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء: تعبدي أيضا، لأن حرمة تنجيس السقف لو ثبتت لكانت أمرا تعبديا لاستفادتها من التسالم و الاتفاق الحاصل من الفقهاء، لا لوجود دليل على حرمة تنجيس مطلق الأشياء سوى المسجد و المصحف، و أسماء اللّه عز و جل، و الأنبياء و الأئمة الطاهرين و الصديقة الطاهرة سلام اللّه عليهم أجمعين، و سوى الساتر في الصلاة و هو منحصر به و الوقت مضيق لا يسع تطهيره، و ما عدا هذه المذكورات ليس لنا دليل على حرمة تنجيسه.

(1) أي الرابع من المواقع التي يقع فيها الاشكال.

(2) و هو الدهن المتنجس.

(3) قول بجواز الانتفاع بالدهن المتنجس في غير الاستصباح، و قول بعدم الجواز.

(4) أي مطلق المتنجس، لا خصوص الدهن المتنجس.

(5) أي مطلق الانتفاع، لا خصوص الاستصباح تحت السماء.

فالمعنى: أن الأصل الأولي و هي أصالة الاباحة في الأشياء هل هو جواز مطلق الانتفاع، سواء أ كان الاستصباح أم غيره.

أم الانتفاع الخاص و هو الاستصباح تحت السماء فقط؟ -

ص: 208

إلا ما خرج بالدليل كالأكل و الشرب، و الاستصباح (1) تحت الظل أو (2) أن القاعدة فيه المنع عن التصرف إلا ما خرج بالدليل كالاستصباح تحت السماء، و بيعه ليعمل صابونا على رواية ضعيفة تأتي.

كلمات الفقهاء في المسألة

و الذي صرح به في مفتاح الكرامة هو الثاني (3)، و وافقه بعض

++++++++++

- فإن قلنا: إن الأصل الأولي في الأشياء و منها مطلق المتنجس:

هو جواز مطلق الانتفاعات فلا شك في جواز الانتفاع بالدهن المتنجس لغير الاستصباح.

(1) الأكل و الشرب و الاستصباح تحت السقف أمثلة لما خرج بالدليل الخاص الخارجي عن تحت قاعدة جواز الانتفاع بالمتنجس.

(2) هذا هو الشق الثاني للأصل الأولي في الأشياء، أي و إن قلنا:

إن الأصل الأولي في الأشياء و منها مطلق المتنجس: هو عدم جواز الانتفاع بها إلا ما خرج بالدليل كالاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء: فلا شك في عدم جواز الانتفاع بالدهن المتنجس إلا للاستصباح به تحت السماء.

و المراد من التصرف هو الانتفاع.

و لا يخفى أن هذا الأصل مبني على قوله عليه السلام في رواية (تحف العقول): أو شيء من وجوه النجس و سيأتي قريبا.

أو مبني على وجوب الاحتياط فيما لا دليل عليه.

(3) و هو عدم جواز الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل كالاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء.

راجع (مفتاح الكرامة)، الجزء 4، كتاب المتاجر. ص 22.

عند ذكر الدهن المتنجس.

ص: 209

مشايخنا المعاصرين (1)، و هو ظاهر جماعة من القدماء كالشيخين (2) و السيدين (3)، و الحلي (4)، و غيرهم.

قال في الانتصار (5): و مما انفردت به الإمامية أن كل طعام عالجه أهل الكتاب و من ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله، و لا الانتفاع به (6)

++++++++++

(1) و هو (صاحب الجواهر) رحمه اللّه.

(2) و هما: (الشيخ المفيد. و الشيخ الطوسي).

(3) و هما: (السيد المرتضى. و السيد ابن زهرة أبو المكارم).

(4) و هو: (ابن ادريس) صاحب السرائر.

(5) كتاب في الفروع الفقهية (للسيد المرتضى علم الهدى) ألّفه رحمه اللّه حينما شنّع بعض علماء (إخواننا السنة) على الشيعة في المسائل الفقهية. فأثبت أن لهم فيها موافقا من فقهاء سائر المذاهب، و أن لهم على هذه الفروع حجة قاطعة من الكتاب و السنة.

طبع الكتاب في (ايران) مرتين: المرة الأخيرة سنة 1315 راجع كتاب الذبائح من الانتصار ص 107، أليك نص عبارته.

و مما انفردت به الامامية أن كل طعام عالجه الكفار من اليهود و النصارى و غيرهم ممن ثبت كفرهم بدليل قاطع فهو حرام لا يجوز أكله و لا الانتفاع به، و قد دللنا على هذه المسألة في كتاب الطهارة (من الانتصار) حيث دللنا أن سئور الكفار نجس لا يجوز الوضوء به و استدللنا بقوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » (1) و استقصيناه.

(6) المراد به مطلق الاستعمالات، و من هنا يظهر أن الأصل عند (السيد المرتضى) عدم جواز الانتفاع بكل متنجس و من جملته الدهن المتنجس إلا ما خرج بالدليل و هو الاستصباح به تحت السماء.8.

ص: 210


1- التوبة: الآية 28.

و اختلف (1) باقي الفقهاء في ذلك

++++++++++

(1) هذه الجملة: و اختلف باقي الفقهاء تكملة كلام (السيد المرتضى) في الانتصار.

و المراد من باقي الفقهاء: فقهاء (إخواننا السنة).

و لعل المراد منهم من كانوا في عصره، حيث إنهم اختلفوا في طهارة أهل الكتاب في ذلك العصر.

و أما فقهاء المذاهب الأربعة فلم يختلفوا في عدم نجاسة أهل الكتاب و غيرهم.

راجع في هذا الأخير الفقه على (المذاهب الأربعة). الجزء الأول طباعة مطابع دار الكتاب العربي بمصر من ص 13 الى ص 19، حيث يعدد النجاسات و لم يذكر منها الكفار، بل يقول: إن نجاستهم معنوية في قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » .

و لا يخفى أن قوله تعالى: نجس أبلغ و أصرح في النجاسة مما اذا قيل:

نجس بكسر الجيم، لأنه يدل هذا على عين النجاسة، بخلاف الثاني، حيث إنه يدل على المتلوث بالنجاسة.

و يقول في طهارة الميتة و عدم الفرق بينها في المسلم و الكافر:

و منها: ميتة الآدمي و لو كافرا، لقوله تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ » و تكريمهم يقتضي طهارتهم أحياء و أمواتا انتهى كلامه.

ثم لا يحفى أننا (الطائفة الامامية) نقول بنجاسة غير أهل الكتاب عموما من دون استثناء، و من أي فرقة كانوا.

كما أننا نقول بنجاسة فرق المسلمين المحكومين بكفرهم كالخوارج و النواصب.

ص: 211

و قد دلّلنا (1) على ذلك في كتاب الطهارة، حيث دلّلنا على أن سؤر الكفار نجس.

و قال في المبسوط (2) في الماء المضاف: إنه مباح التصرف فيه بأنواع التصرف ما لم تقع فيه نجاسة، فان وقعت فيه نجاسة لم يجز استعماله على حال (3).

و قال (4) في حكم الماء المتغير بالنجاسة: إنه لا يجوز استعماله إلا عند الضرورة، للشرب لا غير (5).

++++++++++

- و أما أهل الكتاب فقد اختلفوا في طهارتهم و نجاستهم (فالسيد المرتضى) و كثير من فقهائنا أفتوا بنجاستهم.

و أفتى السيد الحكيم طاب ثراه بطهارتهم الذاتية و أنهم ليسوا كالكلب و الخنزير و بقية النجاسات العشرة التي نجاستها ذاتية.

لكن بشرط اجتنابهم عن النجاسات الذاتية العشرة.

ثم لا يخفى أن الحكم بنجاستهم لا يلازم الاجتناب من معاشرتهم، و عدم التردد عليهم، و البيع و الشراء معهم، و الاعتماد عليهم، و الاشتراك معهم في الكسب و التجارة.

(1) من دلّ يدل دلالة. يقال: دلّه على الشيء أي أرشده و هداه و معناه هنا: الإثبات، أي و أثبتنا في كتاب الطهارة من الانتصار على نجاسة الكفار.

(2) راجع المبسوط. الطبعة الجديدة. الجزء 1 ص 5.

(3) أي لا في الاستصباح و لا في غيره.

(4) أي (السيد المرتضى) في (كتاب الانتصار).

(5) أي من دون انتفاعات أخرى.

ص: 212

و قال في النهاية: و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه (1) انتهى. و قريب منه عبارة المقنعة.

و قال في الخلاف (2) في حكم السمن و البذر و الشيرج و الزيت اذا وقعت فيه فأرة: إنه جاز الاستصباح به، و لا يجوز أكله، و لا الانتفاع به بغير الاستصباح، و به قال الشافعي.

و قال قوم من أصحاب الحديث: لا ينتفع به بحال، لا باستصباح و لا غيره، بل يراق كالخمر.

و قال أبو حنيفة: يستصبح به و يباع لذلك مطلقا.

و قال ابن داود: إن كان المائع سمنا لم ينتفع به، و إن كان غيره من الأدهان لم ينجس بموت الفأرة فيه و يحل أكله و شربه.

دليلنا (3): اجماع الفرقة، و أخبارهم (4).

و في السرائر في حكم الدهن المتنجس: أنه لا يجوز الادهان به

++++++++++

(1) راجع (النهاية) طباعة (بيروت) عام 1390 هجري ص 588

(2) راجع الخلاف طبعة (طهران). (طباعة تابان). الجزء 2 ص 543. المسألة 19.

و لا يخفى أن عبارة الخلاف هنا منقولة بالمعنى.

ثم إن في جميع نسخ (المكاسب) الموجودة عندنا الخطية و المطبوعة (وقعت). و في الخلاف: (ماتت) و هو الصحيح كما اثبتناه.

(3) هذا دليل (شيخ الطائفة) رحمه اللّه لعدم جواز الانتفاع بالدهن المتنجس سوى الاستصباح به تحت السماء.

(4) و هي الأحاديث المشار إليها في الهامش 7 ص 173. و الهامش 5 ص 174. و الهامش 3-7. ص 175.

ص: 213

و لا استعماله في شيء من الأشياء، عدا الاستصباح تحت السماء، و ادعى (1) في موضع آخر: أن الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف.

و قال ابن زهرة بعد أن اشترط في المبيع أن يكون مما ينتفع به منفعة محللة: و شرطنا (2) في المنفعة أن تكون مباحة، تحفظا (3) من المنافع المحرمة، و يدخل في ذلك (4) كل نجس لا يمكن تطهيره عدا ما استثني من بيع الكلب المعلّم للصيد، و الزيت (5) النجس للاستصباح به تحت السماء و هو (6) إجماع الطائفة.

ثم استدل (7) على جواز بيع الزيت بعد الاجماع بأن النبي صلى اللّه

++++++++++

(1) أي (ابن ادريس) في موضع آخر من السرائر.

(2) بالفعل الماضي، و هذه الجملة: (و شرطنا في المنفعة أن تكون مباحة) الى آخرها مقول قول ابن زهرة.

(3) منصوب على المفعول لأجله، أي اجتنابا عن المنافع المحرمة لأن وجود المنافع المحرمة في الشيء لا يوجب جواز البيع، لعدم وجود مالية فيه حتى يجوز بيعه.

(4) أي و يدخل فيما لا يجوز بيعه كل نجس لا يمكن تطهيره، سواء أ كانت نجاسته ذاتية أم عرضية.

(5) بالجر عطفا على المضاف إليه في قوله: من بيع الكلب أي و عدا ما استثني من بيع الزيت المتنجس.

(6) هذا من كلمات ابن زهرة أي شرط المنفعة المحللة في المبيع اجماع الشيعة الإمامية على ذلك.

(7) أي (ابن زهرة) بعد أن ذكر الاجماع المذكور بقوله: و هو اجماع الطائفة.

ص: 214

عليه و آله و سلم أذن في الاستصباح به تحت السماء (1) قال (2): و هذا يدل على جواز بيعه لذلك. انتهى (3).

الأقوى جواز الانتفاع إلا ما خرج بالدليل.
اشارة

و لكن الأقوى وفاقا لأكثر المتأخرين جواز الانتفاع (4) إلا ما خرج بالدليل.

و يدل عليه (5) أصالة الجواز، و قاعدة (6) حل الانتفاع بما في الأرض.

++++++++++

(1) الظاهر أن مراد ابن زهرة رحمه اللّه من اذن النبي صلى اللّه عليه و آله: هي مرسلة الشيخ المروية في المبسوط.

(2) أي قال (ابن زهرة) أن اذن النبي صلى اللّه عليه و آله للاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء يدل على جواز بيعه للاستصباح به تحت السماء.

و هذا صريح من السيد ابن زهرة في أن الأصل في المتنجسات منع الانتفاعات، إلا ما أخرجه الدليل و هو الاستصباح به تحت السماء.

(3) أي ما أفاده (السيد ابن زهرة).

هذه خلاصة الأقوال و الآراء من الذين قالوا بعدم جواز الانتفاع من المتنجس إلا ما أخرجه الدليل كالاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء فقط.

(4) أي جواز مطلق الانتفاع من مطلق المتنجس، إلا ما أخرجه الدليل: و هو الأكل و الشرب.

و المراد بالدليل: الرواية. أو الاجماع.

(5) أي و يدل على جواز الانتفاع المطلق من مطلق المتنجس: أصالة الإباحة في كل شيء شك في حرمته.

(6) أي و يدل على جواز الانتفاع المطلق من مطلق المتنجس: قاعدة -

ص: 215

و لا حاكم عليها (1) سوى ما يتخيل من بعض الآيات و الأخبار

++++++++++

- حل الانتفاع بما في الأرض المستفادة من مقتضى الآية الكريمة: «خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً» (1).

(1) أي و لا حاكم على قاعدة أصالة الإباحة، و قاعدة حل الانتفاع بما في الأرض عدا بعض الآيات الكريمة، و الأخبار الشريفة، و الاجماعات المتقدمة التي تخيل الخصم أنها حاكمة على تلك القاعدتين.

و معنى الحكومة عند الفقهاء و الأصوليين: أن الرواية الحاكمة تأتي بموضوع تعتبره من الموضوع العام الوارد حكمه في الشرع، كما في بعض الأخبار:

إن الفقّاع هو الخمر بعينها.

راجع (الكافي) طباعة (طهران) عام 1379. الجزء 6. ص 423 الحديث 4. فيدخل حكم هذا الفرد و هو الفقّاع تحت عموم حرمة الخمر في قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (2).

أو تأتي بموضوع تخرجه عن العام موضوعا كما في قوله عليه السلام:

«لا شك لكثير الشك، لا رباء بين الوالد و الولد: في الطرفين و لا رباء بين الزوج و الزوجة في الطرفين، و لا رباء بين المولى و العبد في طرف المولى، و لا رباء بين المسلم و الكافر الحربي من طرف المسلم، فإن دليل لا شك لكثير الشك يخرج هذا الشك عن موضوع الشكوك الواردة في الصلاة من أن الشاك بين الثلاث و الأربع مثلا يبني على الأربع في أي حالة كان.

و كذا دليل لا رباء بين الوالد و الولد يخرج هذا الفرد من الربا -0.

ص: 216


1- البقرة: الآية 29.
2- المائدة: الآية 90.

و دعوى الجماعة المتقدمة (1) الإجماع على المنع.

و الكل (2) غير قابل لذلك.

الاستدلال على المنع بالآيات و الجواب عنه

أما الآيات (3) فمنها: قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ

++++++++++

- و بقية الأفراد المذكورة عن موضوع حرمة الرباء المطلق.

بعبارة اخرى: أن المراد من الحكومة: تحكيم أحد الدليلين و تقديمه على الآخر. لكونه يوسع موضوع دليل المحكوم توسعا تعبديا، لا بالتكوين الوجداني.

كما في قوله عليه السلام: إن الفقاع هو الخمر بعينها فيكون الدليل الموسع حاكما على الدليل الموسّع فيه فهو محكوم و ذاك حاكم.

أو يضيق موضوع دليل المحكوم تضييقا تعبديا كما عرفت في قوله عليه السلام: لا شك لكثير الشك.

(1) كالسيد المرتضى في الانتصار، و الشيخ في الخلاف و المبسوط و ابن ادريس في السرائر، و ابن زهرة في الغنية، حيث ادعوا الإجماع على منع بيع الدهن المتنجس لغير الاستصباح به تحت السماء.

(2) و هي الآيات و الأخبار و الإجماع المتقدم، فإن هذه الأدلة الثلاثة غير قابلة للحكومة على قاعدة أصالة الإباحة، و قاعدة حل الانتفاع بما في الأرض جميعا.

(3) أي الآيات التي تمسك بها الخصم على كونها حاكمة على أصالة الإباحة، و قاعدة حل الانتفاع فمنها الآية المذكورة.

كيفية الاستدلال: أن القائل بوجوب الاجتناب عن مطلق المتنجس و منه الدهن المتنجس لغير الاستصباح: يستدل بمقتضى التفريع في الآية الكريمة الذي هو قوله عز من قائل: فاجتنبوه: أن الدهن المتنجس -

ص: 217

وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ » دل بمقتضى التفريع: على وجوب اجتناب كل رجس.

و فيه (1): أن الظاهر من الرجس: ما كان كذلك في ذاته

++++++++++

- من الرجس و الرجس واجب الاجتناب. لأن صيغة أفعل و ما في معناها للوجوب.

فهنا يشكل قياس منطقي من الشكل الأول هكذا:

الصغرى: الدهن المتنجس من الرجس.

الكبرى: و كل ما كان من الرجس يجب الاجتناب عنه.

النتيجة: فالدهن المتنجس يجب الاجتناب عنه.

و لا يخفى منع ايجاب الصغرى، أي ليس الدهن المتنجس من أفراد الرجس حتى يكون من صغريات الكبرى الكلية المسلمة: و هو كل ما كان من الرجس يجب الاجتناب عنه.

(1) من هنا أخذ الشيخ في رد الاستدلال بالآية المذكورة فقال:

و في الاستدلال بالآية الكريمة على حكومتها على قاعدة أصالة الاباحة و قاعدة حل الانتفاع بما في الأرض: اشكال.

وجه الاشكال: أن المتبادر من الرجس هي النجاسة الذاتية كنجاسة الخمر و الخنزير و الكلب و الدم و المني، لا ما كانت نجاسته عرضية كالمتنجسات: و منها الدهن المتنجس، فان المتنجسات بعمومها ليست من أفراد النجس، و من وجهه حتى تشمله الآية الكريمة فاجتنبوه، حيث إنها تختص بالعناوين النجسة فالكبرى الكلية: و هو كل ما كان من الرجس يجب الاجتناب عنه لا تشمل ما نحن فيه.

و هذا هو المراد من قولنا في بقية الهامش 3 من هذه الصفحة:

و لا يخفى منع ايجاب الصغرى.

ص: 218

لا ما عرض له ذلك. فيختص (1) بالعناوين النجسة، و هي النجاسات العشر، مع أنه (2) لو عم المتنجس لزم

++++++++++

(1) أي الرجس في قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوهُ » مختص بالنجاسات الذاتية و هي النجاسات العشر.

أليك النجاسات العشر:

1 - الدم 2 - المني من ذي النفس السائلة، سواء أ كان آدميا أم غيره بريا كان أم بحريا و إن أكل لحمه 3 - الميتة من ذي النفس السائلة 4 - الكلب 5 - الخنزير البريان و أجزاؤهما و إن لم تحلهما الحياة 6 - الكافر، سواء كان أصليا أم مرتدا. فطريا أم مليا 7 - المسكر المائع بالأصالة 8 - الفقاع 9 - البول 10 - الغائط من غير مأكول اللحم، سواء أ كان بالأصل كالكلب و الخنزير و السباع أو بالعارض كالحيوان الجلال الذي يأكل العذرة، و موطوءة الانسان، و الشارب لبن الخنزيرة فهذه الأصناف الثلاثة يحرم أكل لحمها، إلا الجلاّل، فإنه اذا استبرء في المدة المعينة جاز أكله بعد الاستبراء.

(2) هذا اشكال ثان من الشيخ على القول بتعميم الرجس و شموله للمتنجسات.

و خلاصة الاشكال: أن لازم القول بالتعميم: تخصيص أكثر أفراد العام و خروجها عن تحت حكمه.

و من الواضح أن خروج أكثر أفراد العام عن تحت حكمه الى حد لا يبقى منه سوى فرد، أو فردين أمر مستهجن مستبشع.

خذ لذلك مثالا.

لو قال شخص لآخر: بع كل زمان هذا البستان، ثم قال:

إلا الرمان الشرقي، ثم قال: إلا الرمان الغربي، ثم قال: إلا الرمان -

ص: 219

أن يخرج عنه (1) أكثر الأفراد، فإن (2) أكثر المتنجسات لا يجب الاجتناب عنه.

مع (3) أن وجوب الاجتناب ثابت فيما كان رجسا من عمل الشيطان

++++++++++

- الجنوبي، ثم جعل يستثني الى حد لم يبق في البستان من الرمان إلا رمان واحد، أو اثنان فيأتي هنا الاستهجان المستقبح، و التخصيص المستبشع.

ففيما نحن فيه لو قلنا بشمول الرجس للمتنجسات أيضا بالإضافة الى النجاسات الذاتية: لزم تخصيص أكثر أفراد المتنجس، لأنه لا يجب الاجتناب عن أكثر أفراد المتنجس، سوى ما يبتلى به في شربه، أو أكله أو عباداته المشروطة بالطهارة.

و أما سائر أفراد المتنجسات التي لا تعتبر فيها الطهارة عند الاستعمال فلا يجب الاجتناب عنها و هي لا تحصى فيلزم تخصيص الأكثر لو قلنا بشمول الرجس للمتنجسات: و هو أمر مستهجن مستبشع.

(1) أي عن هذا العموم: و هو عموم لفظ الرجس كما عرفت في الهامش 2 من ص 219-220.

(2) تعليل لخروج أكثر أفراد العام عن تحت العموم لو أريد من الرجس العموم كما عرفت الخروج في الهامش 2 ص 219 عند قولنا: خذ لذلك مثالا.

(3) اشكال ثالث من الشيخ على أن الرجس لا يعم المتنجسات.

و خلاصته: أن وجوب الاجتناب ثابت فيما كان من أعمال الشيطان و أعمال الشيطان لا تخلو من أحد الأمرين لا محالة:

إما أن يراد منها: مخترعاته و مفتعلاته.

و إما أن يراد منها: إغرائه كالمعاصي التي تصدر من الانسان، حيث إنها تكون بسببه و إغرائه.

و من الواضح أن الدهن المتنجس و بقية المتنجسات الأخرى ليست -

ص: 220

يعني من مبتدعاته، فيختص وجوب الاجتناب المطلق بما كان من عمل الشيطان، سواء أ كان نجسا كالخمر، أم قذرا معنويا مثل الميسر.

و من المعلوم (1) أن المائعات المتنجسة كالدهن و الطين و الصبغ و الدبس اذا تنجست ليست من أعمال الشيطان.

و إن أريد (2) من عمل الشيطان: عمل المكلف المتحقق في الخارج

++++++++++

- من مخترعات الشيطان و بدعه.

بل هو أمر عرضي حكم الشارع بنجاسته فلا تشمله الآية الكريمة فالدهن المتنجس و بقية المتنجسات الأخرى خارجة عنها خروجا موضوعيا فعليه يختص وجوب الاجتناب المطلق في قوله تعالى: فاجتنبوه بما كان من مخترعات الشيطان و أعماله سواء أ كان عمل الشيطان نجسا ذاتيا كالخمر التي هي من مخترعات الشيطان أم نجسا معنويا مثل الميسر.

(1) هذا راجع الى الأمر الأول من الأمرين: و هو نفي كون المائعات المذكورة، و كل مائع متنجس من مخترعات الشيطان و قد عرفته في بقية الهامش 3 ص 221.

ثم إن الظاهر زيادة كلمة المتنجسة في قوله: المائعات المتنجسة بقرينة قوله: اذا تنجست، حيث إن الشيء اذا صار نجسا فلا يتنجس ثانيا فالصواب أن يقال: إن المائعات اذا تنجست.

(2) هذا راجع الى الأمر الثاني: و هو نفي كون المائعات المتنجسة من إغواء الشيطان.

و خلاصة ما أفاده الشيخ: أنه لو أريد من عمل الشيطان عمل المكلف الذي يصدر منه و يتحقق في الخارج حتى يكون المراد من الخمر و الميسر و الأزلام و الأنصاب المذكورة في الآية الكريمة: استعمالها على النحو الخاص و هو الشرب و اللعب، و إخراج الحصص حسب عادات أهل الجاهلية.

ص: 221

بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات (1) استعمالها على النحو الخاص (2) فالمعنى: أن الانتفاع بهذه المذكورات رجس من عمل الشيطان كما يقال في سائر المعاصي: إنها من عمل الشيطان. فلا (3) تدل أيضا على وجوب الاجتناب عن استعمال المتنجس إلا اذا ثبت كون الاستعمال رجسا و هو أول الكلام.

و كيف كان (4) فالآية لا تدل على المطلوب.

++++++++++

- فالمعنى أن الانتفاع بهذه الأمور رجس من عمل الشيطان و أنه المصدر لها يجب الاجتناب عنه كما يقال في سائر المعاصي: إنها من عمل الشيطان مع أن المكلف هو القائم بها، و الموجد لها في الخارج.

لكن لما كان هو السبب نسبت تلك الأعمال الصادرة إليه: فلا تدل أيضا الآية الكريمة على وجوب الاجتناب عن كل متنجس.

اللهم إلا أن يقال: إن نفس الاستعمال رجس يجب الاجتناب عنه و هذا أول الكلام و لا يمكن اثباته بهذه الآية.

(1) و هي اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ كما عرفت.

(2) و هو الشرب و اللعب و اخراج الحصص كما عرفت.

(3) جملة فلا تدل جواب لإن الشرطية في قوله: و أن أريد من عمل الشيطان.

و الفاعل في لا تدل: الآية الكريمة، أي فلا تدل الآية الكريمة على المعنى الثاني أيضا كما لا تدل على المعنى الأول و قد عرفت كلا المعنيين.

(4) أي أى شيء أريد من الرجس في الآية الكريمة، سواء أريدت النجاسة الذاتية منها أم العرضية فهي لا تدل على المطلوب:

و هي حرمة استعمال المتنجس بنحو مطلق.

ص: 222

و من بعض ما ذكرنا (1): يظهر ضعف الاستدلال على ذلك (2) بقوله تعالى: «وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (3)، بناء على أن الرجز هو الرجس و أضعف (4) من الكل: الاستدلال بآية تحريم الخبائث، بناء

++++++++++

(1) و هو أن المتبادر من الرجس النجس الذاتي، لا العرضي كما فيما نحن فيه.

(2) أي على حرمة استعمال المتنجس.

وجه الضعف: أن المتبادر من الرجز: ما كانت نجاسته ذاتية لا ما كانت عرضية.

(3) المدثر: الآية 5.

(4) أي و أضعف من الاستدلال بالآيات الكريمة المذكورة على حرمة استعمال المتنجسات: الاستدلال بقوله تعالى: «وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ » (1).

كيفية الاستدلال: أن المتنجسات بأجمعها من الخبائث و منها الدهن المتنجس، و التحريم المطلق و هو و يحرّم يفيد تحريم عموم الانتفاعات بأي نحو كانت و منها الانتفاعات المترتبة على الدهن المتنجس.

فهنا قياس منطقي من الشكل الأول هكذا:

الصغرى: إن المتنجسات من الخبائث.

الكبرى: و كل خبيث يجب الاجتناب عنه.

النتيجة: فالمتنجسات يجب الاجتناب عنها.

و من المتنجسات الدهن المتنجس يجب الاجتناب عنه.

هذا ما أفاده الخصم حول حكومة الآيات الكريمة المذكورة على قاعدتي أصالة الإباحة، و حلّ الانتفاع بما في الأرض جميعا.7.

ص: 223


1- الأعراف: الآية 157.

على أن كل متنجس خبيث. و التحريم المطلق يفيد عموم الانتفاع.

إذ لا يخفى (1) أن المراد هنا: حرمة الأكل بقرينة مقابلته بحلية الطيبات.

الاستدلال بالأخبار و الجواب عنه

و أما الأخبار (2) فمنها (3): ما تقدم في رواية تحف العقول، حيث

++++++++++

(1) هذا رد على من استدل بالآية الكريمة المذكورة على حرمة استعمال المتنجس بقول مطلق.

و خلاصته: أن الظاهر و المراد من التحريم في قوله تعالى: و يحرم عليهم الخبائث هو التحريم من حيث الأكل، لا مطلق الاستعمالات إذ حرمة استعمال كل خبيث بحسب المناسب له فالمناسب هنا هو الأكل بقرينة قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبٰاتُ » ، حيث إن المراد من الحلية حلية الأكل فلا يكون المتنجس من صغريات تلك الكبرى الكلية و هو وجوب الاجتناب عن كل خبيث.

(2) من هنا يأخذ الشيخ في ذكر الأخبار الدالة على حكومتها على قاعدتي أصالة الاباحة، و حل الانتفاع بما في الأرض بناء على زعم الخصم: و هذه الأخبار كثيرة قد ذكرها الشيخ بقوله: منها و منها، و ذكر بعضها متفرقة.

(3) أي و من تلك الأخبار ما في رواية (تحف العقول) المشار إليها في ص 23-33 في قوله عليه السلام: أو شيء من وجوه النجس فهذا كله حرام و محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله و شربه و إمساكه و التقلب فيه بوجه من الوجوه.

كيفية الاستدلال بالرواية من طريقين:

(الأول): جملة وجوه النجس، حيث إن الدهن المتنجس من وجوه النجس فهو حرام محرم يجب الاجتناب عنه.

ص: 224

علّل النهي عن بيع وجوه النجس بأن ذلك كله محرم أكله و شربه و إمساكه و جميع التقلب فيه. فجميع التقلب في ذلك حرام.

و فيه (1) ما تقدم من أن المراد بوجوه النجس: عنواناته المعهودة، لأن الوجه هو العنوان، و الدهن ليس عنوانا للنجاسة.

++++++++++

- (الثاني): تعليل الامام عليه السلام لأن ذلك كله منهي عن أكله و شربه و لبسه و إمساكه و التقلب فيه، إذ من جملة التقلب في النجس استعمال المتنجس، و الانتفاع به.

و هذا النوع من الاستعمال و الانتفاع منهي عنه.

(1) أي و في الاستدلال برواية تحف العقول نظر و اشكال.

أما الاستدلال بجملة وجوه النجس فقد عرفت أن المراد من وجوه النجس: هي العنوانات النجسة التي نجاستها ذاتية، لا ما كانت نجاسته عرضية كالدهن المتنجس، و المائعات المتنجسة، فإن هذه ملاقية للنجاسة و ليست عنوانا و وجها لها، فما نحن فيه أجنبي عن الوجوه النجسة فلا يشمله حديث تحف العقول.

و أما الاستدلال بالتعليل الوارد في قوله عليه السلام: لأن ذلك كله منهي عنه أكله و شربه و جميع التقلب فيه فيلزم بالإضافة الى أن المراد من وجه النجس النجاسة الذاتية، لا النجاسة العرضية: تخصيص الأكثر، إذ كثير من المتنجسات كما عرفت التي لا يتوقف استعمالها على الطهارة كالملابس و الفراش و ما شاكلهما يجوز استعمالها، و لا يجب الاجتناب عنها.

و قد عرفت معنى لزوم تخصيص الأكثر في الهامش 2. ص 219-220.

و الى كلا الاستدلالين أشار الشيخ إليهما مع ردهما بقوله: من أن المراد بوجوه النجس: عنواناته المعهودة، لأن الوجه هو العنوان، و الدهن ليس عنوانا للنجاسة.

ص: 225

و الملاقي (1) للنجس و ان كان عنوانا للنجاسة، لكنه ليس وجها من وجوه النجاسة في مقابلة غيره، و لذا (2) لم يعدوه عنوانا في مقابل العناوين النجسة. مع ما عرفت من لزوم تخصيص الأكثر، لو أريد به المنع عن استعمال كل متنجس.

++++++++++

- و بقوله: مع ما عرفت من لزوم تخصيص الأكثر لو أريد به المنع عن استعمال كل متنجس.

فالحاصل أن الحديث بكلتا جملتيه لا يشمل ما نحن فيه: و هو الدهن المتنجس، و سائر المائعات المتنجسة فما نحن فيه أجنبي عن المقام.

(1) المراد به الدهن المتنجس، و سائر المائعات المتنجسة.

إن قلت: إن الشيخ أفاد آنفا أن الدهن المتنجس ليس عنوانا للنجاسة، و أفاد حالا أن الملاقي للنجس و إن كان عنوانا للنجاسة فهذا تهافت منه.

قلت: ليس هنا تهافت كما توهم، بل إنما قال: و الملاقي للنجس و إن كان عنوانا للنجاسة لأمر: و هو أنه قد ورد في الأخبار أن الملاقي للنجس نجس، فينتج أن الدهن المتنجس من العناوين النجسة فأراد الشيخ أن يبطل هذه النتيجة فقال: الملاقي للنجس و ان كان عنوانا للنجس كما هو لسان الخبر، لكنه ليس وجها من وجوه النجاسة بحيث يكون في قبال النجاسات الذاتية و أنه إحداها، بل هو أحد مصاديق المتأثر بسائر النجاسات

(2) أي و لأجل أن الملاقي للنجس ليس عنوانا للنجاسة، بل هو فرعها و أحد مصاديق المتأثر بسائر النجاسات: لم يجعله الفقهاء من العناوين المستقلة في باب النجاسات في قبال العناوين النجسة بحيث يقال: من النجاسات الملاقي للنجس، بل قالوا بأجمعهم: النجاسات عشرة و عدوها واحدة بعد أخرى و لم يعدو ملاقي النجاسة من النجاسات.

ص: 226

و منها (1): ما دل على الأمر بإهراق المائعات الملاقية للنجاسة و إلقاء ما حول الجامد من الدهن و شبهه و طرحه، و قد تقدم بعضها في مسألة الدهن (2)، و بعضها الآخر متفرقة مثل قوله: يهريق المرق (3) و نحو ذلك (4).

++++++++++

- و المراد من كلمة غيره في قوله: في مقابلة غيره: سائر النجاسات أي ليس الملاقي للنجس وجها من وجوه النجس في مقابل سائر النجاسات كما عرفت.

(1) أي و من تلك الأخبار التي استدل بها الخصم على حكومتها على قاعدة أصالة الحلية، و قاعدة حل الانتفاع بما في الأرض جميعا و أنه يجب الاجتناب عن كل متنجس.

(2) راجع (وسائل الشيعة). الجزء 16. ص 462. الباب 43 من أبواب إن الفأرة و نحوها. الحديث 2.

(3) نفس المصدر. ص 463. الباب 44. من أبواب إن القدر اذا طبخت. الحديث 1.

و في المصدر: يهراق بصيغة المجهول.

كيفية الاستدلال بالأحاديث: أنه لو كان الانتفاع بهذه المتنجسات جائزا بأي نحو من الانتفاعات و لو باطعام الأطفال، أو سقي الدواب لم يأمر الامام عليه السلام بإهراقها فالأمر بالاهراق يدل على وجوب الاجتناب عن كل متنجس من دون اختصاصه بالدهن المتنجس، لعدم القول بالفصل.

(4) أي و نحو هذه الأحاديث الآمرة بإهراق المرق النجس، و المائعات الملاقية للنجاسة: الأخبار الواردة في إهراق الإنائين المشتبهين أحدهما طاهر و الآخر نجس في جواب السائل عن رجل معه إناءان: فيهما ماء وقع -

ص: 227

و فيه (1): أن طرحها كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل فإن ما أمر بطرحه من جامد الدهن و الزيت يجوز الاستصباح به اجماعا فالمراد اطراحه من ظرف الدهن، و ترك الباقي للاكل.

الإجماعات المدعاة على المنع، و النظر في دلالتها

و أما الاجماعات (2) ففي دلالتها على المدعى نظر يظهر من ملاحظتها

++++++++++

- في أحدهما قذر ما يدري أيهما هو و حضرت الصلاة، و ليس يقدر على ماء غيرهما؟

فقال عليه السلام: يهريقهما جميعا و يتيمم.

راجع نفس المصدر. الجزء 1. ص 116. الباب 8 من أبواب نجاسة ما نقص عن الكر، الحديث 140، و ص 113. الحديث 2.

فالحديثان صريحان في إهراق الماء الطاهر المشتبه بالماء النجس، و أنه لا يجوز استعمالهما، للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما فيكون منجزا فيهراقان فلو كان الانتفاع بالماء المشتبه جائزا و لو بسقيه للأطفال لما أمر عليه السلام بإهراقه.

(1) أي و في الاستدلال بهذه الأخبار التي استدل بها الخصم على أنها حاكمة على القاعدتين المذكورتين: اشكال.

و خلاصة الاشكال: أن طرح المائعات و الجامدات الواردة في الروايات المذكورة عبارة عن عدم جواز الانتفاع بها في الأكل، لا في مطلق الانتفاعات بدليل أن ما أمر بطرحه من جامد الدهن يجوز الاستصباح به اجماعا. فالطرح الوارد كناية عن عدم أكل المطروح، و ليس المراد معناه الحقيقي: و هو عدم الاستفادة و الانتفاع به رأسا و أساسا.

(2) من هنا يأخذ الشيخ في رد الاجماعات التي استدل بها الخصم على حكومتها على القاعدتين المذكورتين كاجماع السيد، و الشيخ و ابن زهرة و ابن ادريس فقال: و في دلالة الاجماعات المذكورة على المدعى: و هي -

ص: 228

فإن (1) الظاهر من كلام السيد المتقدم أن مورد الاجماع هو نجاسة ما باشره أهل الكتاب، و أما (2) حرمة الأكل و الانتفاع فهي من فروعها المتفرعة

++++++++++

- حرمة الانتفاع بالمتنجس إلا ما أخرجه الدليل نظر و اشكال يظهر من ملاحظة تلك الاجماعات بإمعان و نظر، و أنها ليس كما تصورها الخصم.

(1) هذا وجه النظر في الاجماعات المذكورة.

و خلاصته: أما إجماع السيد الذي ذكره في (الانتصار) إنما هو في نجاسة ما باشره أهل الكتاب، لا في عدم جواز الانتفاع عما باشروه و الحال أن الكلام في هذا، دون ذاك. فالسيد لم ينقل اجماعا من الطائفة على عدم جواز الانتفاع بما باشره أهل الكتاب، و لم ينقل اجماعا في كلامه السابق إلا في نجاسة ما باشره أهل الكتاب.

و لا يخفى أن ما أفاده الشيخ في عدم دلالة كلام السيد على عدم جواز الانتفاع بما باشره أهل الكتاب: خلاف ظاهر كلامه و صريحه فإنه قال في كلامه المتقدم: و مما انفردت به الامامية أن كل طعام عالجه أهل الكتاب و من ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله، و لا الانتفاع به

فجملة و لا الانتفاع به صريحة في أن ما باشره أهل الكتاب لا يجوز الانتفاع به، حيث إنها معطوفة على قوله: لا يجوز أكله، أي و مما انفردت به الامامية أن كل طعام عالجه أهل الكتاب لا يجوز الانتفاع به.

فكيف أفاد (شيخنا الأعظم) لا أن معقد الاجماع حرمة الانتفاع بالنجس.

(2) أي و أما حرمة الأكل و الشرب فهو متفرع على القول بنجاسته أهل الكتاب، فإن ثبتت نجاستهم فلا اشكال في حرمة أكل ما باشروه بناء على أن كل متنجس يحرم أكله و شربه.

و أما اذا لم تثبت فلا يحرم الأكل و الشرب مما باشروه.

ص: 229

على النجاسة، لا أن (1) معقد الإجماع حرمة الانتفاع بالنجس، فإن (2) خلاف باقي الفقهاء في أصل النجاسة في أهل الكتاب. لا (3) في أحكام النجس.

و أما (4) إجماع الخلاف فالظاهر أن معقده ما وقع الخلاف فيه

++++++++++

(1) أى و ليس معقد اجماع السيد حرمة الانتفاع بالمتنجس.

(2) تعليل من (شيخنا الأنصاري) على صدق مقالته: و هو أن معقد اجماع السيد هي نجاسة ما باشروه أهل الكتاب فقط، لا حرمة الانتفاعات الأخرى.

و خلاصة التعليل: أن اختلاف باقي فقهاء السنة في قول السيد:

و اختلف باقي الفقهاء في ذلك: يكفي في صحة ما ادعيناه، حيث إن كثيرا من فقهائهم في عصر السيد كما عرفت في الهامش 1 من ص 211 يقولون بطهارة أهل الكتاب فالسيد إنما ادعى اجماع الطائفة على نجاسة ما باشره أهل الكتاب في قبال هؤلاء الذين يقولون بطهارة أهل الكتاب، لا أنه ادعى الإجماع على عدم جواز الانتفاع بما باشره أهل الكتاب.

(3) أي و ليس معنى اختلاف باقي الفقهاء: أن فقهاء السنة مخالفون معنا فيما يترتب على النجس من الأحكام.

(4) هذا رد على الإجماع المدعى من الشيخ في (كتاب الخلاف) عند قوله: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و خلاصته: أن الشيخ في الخلاف أفتى بجواز الاستصباح بالدهن المتنجس، و بحرمة سائر الانتفاعات به فكانت فتواه مشتملة على جانبين:

الإثبات. و النفي.

(الأول): جواز الاستصباح بالدهن المتنجس.

ص: 230

..........

++++++++++

- (الثاني): حرمة سائر الانتفاعات بهذا الدهن من الأكل و البيع و الاستعمال.

ثم نقل أقوال سائر الفقهاء في جواز الاستصباح به و عدمه، و جواز بيعه لأجل الاستصباح و عدمه، ثم ادعى الاجماع على مذهبه بقوله: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

لكن مصب اجماعه المدعى: على ما وقع بينه، و بين سائر الفقهاء من الخلاف: هو جانب الاستصباح فقط، دون الجانب الثاني من فتواه و هي حرمة سائر الانتفاعات بهذا الدهن المتنجس، فإنه اذا كانت دعواه الإجماع واقعة عقيب دعواه مباشرة كانت مشتملة على كلا جزئيها.

لكن دعواه وقعت بعد نقل الأقوال من (علماء إخواننا السنة) فلا تشمل سوى موضع الخلاف: و هو جانب الاستصباح فقط، فإن الشيخ نقل في مسألة الدهن المتنجس أقوالا أربعة:

(الأول): قول (الشيعة الإمامية): و هو جواز الاستصباح بالدهن المتنجس، و حرمة سائر الانتفاعات به، و وافق (الشيعة الشافعية). و هذا القول قول بالتفصيل.

(الثاني): عدم الانتفاع بالدهن المتنجس لا في الاستصباح و لا في غيره.

ذهب الى هذا القول بعض أصحاب الحديث.

(الثالث): جواز الاستصباح بالدهن المتنجس، و عدم جواز الانتفاع بسائر انتفاعاته الأخرى.

ذهب الى هذا القول (أبو حنيفة) و هو موافق لمذهب الشيعة الامامية حيث إنه جوز الاستصباح بهذا الدهن: و جوز بيعه لذلك، و لم يجوز -

ص: 231

..........

++++++++++

- الانتفاعات الأخرى، فانه لو جوز بيع هذه الانتفاعات أيضا لجوز بيع الدهن المتنجس مطلقا من غير تقييده بالاستصباح.

(الرابع): الفرق بين السمن، و غيره من الأدهان الأخرى فمنع الانتفاع بالسمن مطلقا: الاستصباح و غيره، و جوز الانتفاع بالأدهان الأخرى مطلقا: الاستصباح و غيره.

و هذا القول قول داود. انتهى ما أفاده الشيخ في الخلاف.

هذه هي الأقوال التي ذكرها الشيخ في الخلاف.

و أنت ترى أيها القارئ النبيل أن الخلاف قد وقع في كلا الجانبين من الدعوى، سواء أ كانت في الاستصباح أم في الانتفاعات الأخرى فنقل الشيخ الاجماع يشمل الجانبين. و هما: جواز الاستصباح بالدهن المتنجس.

و حرمة سائر انتفاعاته الأخرى. و لا اختصاص لشمول هذا الاجماع بجانب واحد: و هو جواز الاستصباح بالدهن المتنجس فقط، فإنه كما عرفت قال: اذا ماتت فأرة فيه جاز الاستصباح به و لا يجوز أكله و لا الانتفاع به بغير الاستصباح، ثم قال: دليلنا اجماع الفرقة و أخبارهم فنقله الاجماع يشمل جانبي المسألة.

فما أفاده (شيخنا الأعظم الأنصاري) من اختصاص الاجماع بجانب واحد بقوله: فإن الثاني: (و هو الاجماع المدعى ابتداء) يشمل الأحكام كلها (المذكورة من البيع و الأكل و الاستعمال).

و الأول: (و هي دعوى الاجماع على محل النزاع و هو الدهن المتنجس لا يشمل إلا الحكم الواقع مورد الخلاف: محل تأمل كما عرفت آنفا.

ص: 232

بينه، و بين من ذكر من المخالفين (1)، إذ (2) فرق بين دعوى الاجماع على محل النزاع (3) بعد تحريره، و بين دعواه ابتداء على الأحكام المذكورات (4) في عنوان المسألة، فإن الثاني (5) يشمل الأحكام كلها و الأول (6) لا يشمل إلا الحكم الواقع مورد الخلاف، لأنه (7) الظاهر من قوله: دليلنا إجماع الفرقة. فافهم و اغتنم (8).

و أما إجماع السيد (9) في الغنية فهو في أصل مسألة تحريم بيع النجاسات، و استثناء الكلب المعلم، و الزيت المتنجس، لا فيما ذكره:

من أن حرمة بيع المتنجس من حيث دخوله فيما يحرم الانتفاع.

++++++++++

(1) المراد من المخالفين (علماء إخواننا السنة) فإنهم يخالفون (الامامية) في نجاسة أهل الكتاب كما عرفت في الهامش 1، ص 211.

(2) تعليل من (الشيخ الأنصاري) لعدم شمول اجماع الشيخ في الخلاف جانبي المسألة. و قد عرفت شرحه في الهامش 4. ص 230 و 231-232.

(3) و هو عدم جواز الانتفاع بالدهن المتنجس لغير الاستصباح.

(4) و هو البيع و الأكل و الاستعمال كما عرفت.

(5) و هو الاجماع المدعى ابتداء.

(6) و هو الاجماع المدعى على محل النزاع بعد تحريره كما عرفت

(7) أي الحكم الواقع مورد الخلاف هو الظاهر من قول (الشيخ) في (كتاب الخلاف) بقوله: دليلنا اجماع الفرقة و أخبارهم.

(8) أي افهم هذه النقطة الحساسة و اغتنمها حتى لا يشتبه عليك الأمر و قد عرفت أن اجماع الشيخ يشمل جانبي الخلاف الواقع في المسألة و لا اختصاص له بجانب واحد في ص 232 عند قولنا: و أنت ترى أيها القارئ.

(9) هذا رد على اجماع (السيد ابن زهرة).

ص: 233

نعم هو قائل بذلك (1).

و بالجملة فلا ينكر ظهور كلام السيد في حرمة الانتفاع بالنجس الذاتي و العرضي، لكن دعواه الاجماع على ذلك (2) بعيدة عن مدلول كلامه جدا، و كذلك لا ينكر كون السيد (3) و الشيخ قائلين بحرمة الانتفاع بالمتنجس، كما هو ظاهر المفيد، و صريح الحلي (4)، لكن دعواهما الاجماع على ذلك (5) ممنوعة عند المتأمل المنصف.

ثم على تقدير تسليم دعواهم الاجماعات (6) فلا ريب في وهنها بما

++++++++++

(1) أي (السيد ابن زهرة) قائل بعدم جواز الانتفاع بالمتنجس.

(2) أي على حرمة الانتفاع بالنجس الذاتي و العرضي.

(3) الظاهر أن المراد من السيد (ابن زهرة)، حيث إنه القائل بعدم جواز الانتفاع بالمتنجس كما أفاده الشيخ بقوله: (نعم هو قائل بذلك) أي قائل بعدم جواز الانتفاع بالمتنجس كما عرفت.

و ليس المراد من السيد (السيد المرتضى علم الهدى) كما توهم فإن (السيد المرتضى) حسب ما أفاد الشيخ لا يقول بحرمة الانتفاع بالمتنجس في قوله: لا أن معقد الاجماع حرمة الانتفاع بالنجس.

نعم يكون المراد من السيد السيد المرتضى حسب ما اعترضناه على (الشيخ الأنصاري) بقولنا: و لا يخفى أن ما أفاده الشيخ في عدم دلالة كلام السيد

(4) و هو (ابن ادريس) صاحب السرائر.

(5) أي على حرمة الانتفاع بالمتنجس.

(6) أي لو سلمنا أن إجماعاتهم المدعات تدل على حرمة الانتفاع بالمتنجس.

لكن نقول: إنها موهونة بخلافها مما يظهر من أكثر الفقهاء المتأخرين حيث أفتوا بجواز الانتفاع بالمتنجس، و حصروا حرمة الانتفاع بالمتنجس -

ص: 234

يظهر من أكثر المتأخرين: من قصر حرمة الانتفاع على أمور خاصة.

قال (1) في المعتبر في أحكام الماء القليل المتنجس: و كل ماء حكم بنجاسته لم يجز استعماله الى أن قال: و نريد بالمنع عن استعماله: الاستعمال في الطهارة، و إزالة الخبث، و الأكل و الشرب، دون غيره. مثل بلّ الطين. و سقي الدابة انتهى (2).

أقول: إن بلّ الصبغ. و الحناء بذلك الماء داخل في الغير، فلا يحرم الانتفاع بهما.

و أما العلامة فقد قصر حرمة استعمال الماء المتنجس في التحرير و القواعد و الارشاد على الطهارة، و الأكل و الشرب (3).

و جوز في المنتهى الانتفاع بالعجين النجس في علف الدواب، محتجا

++++++++++

- في أمور خاصة كالأكل و الشرب، و ما يتوقف استعماله على الطهارة.

فلا يكون مثل هذا الإجماع الذي يخالفه أكثر المتأخرين الموجب لوهنه كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام، و لا موجبا للحدس القطعي، حيث إن المتأخرين حصروا عدم جواز الانتفاع بالمتنجس على أمور خاصة مثل الأكل و الشرب كما عرفت.

(1) أي قال المحقق.

هذا أوان الشروع في نقل أقوال المتأخرين في انحصار حرمة الانتفاع بالمتنجس: على أمور خاصة كالأكل و الشرب، و على أمور متوقفة على الطهارة، لا مطلقا.

(2) فكلامه صريح في حرمة الانتفاع بالمذكورات فقط.

(3) فكلامه أيضا صريح في حرمة الانتفاع بالمذكورات فقط.

و كلمة قصر بتخفيف الصاد من القصر: و هو الحصر.

ص: 235

بأن (1) المحرم على المكلف تناوله، و بأنه (2) انتفاع فيكون سائغا، للأصل و لا يخفى أن كلا دليليه (3) صريح في حصر التحريم في أكل العجين المتنجس.

و قال الشهيد في قواعده: النجاسة (4) ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية. ثم ذكر ما يؤيد المطلوب (5).

و قال في الذكرى في أحكام النجاسة. تجب إزالة النجاسة عن الثوب

++++++++++

(1) الباء بياتية لجواز الانتفاع بالعجين المتنجس في تعليف الدواب.

هذا هو الدليل الاول للعلامة في جواز الانتفاع بالمتنجس في غير ما يتوقف على الطهارة، و الشرب و الأكل.

و المعنى: أن المحرم على المكلف: هو تناول العجين المتنجس و أكله دون تعليفه للدواب.

(2) دليل ثان للعلامة في جواز الانتفاع بالمتنجس.

و خلاصته: أن التعليف بالعجين المتنجس نوع من الانتفاع و الاستفادة و هذا امر سائغ بأصالة الإباحة في الأشياء، و قاعدة حل الانتفاع بما في الأرض فلا مانع من تعليف الدواب بالعجين المتنجس.

(3) و هما: انحصار حرمة الانتفاع بالمتنجس في الأكل، دون سائر الانتفاعات الأخرى، و أن الانتفاعات الأخرى جائزة للاصل.

(4) سواء أ كانت ذاتية أم عرضية.

(5) و هو حصر الحرمة في استعمال النجس اعم من أن تكون النجاسة ذاتية، أو عرضية: في الصلاة و الأغذية.

ص: 236

و البدن (1)، ثم ذكر المساجد (2) و غيرها، الى أن قال: و عن كل مستعمل في أكل، أو شرب، أو ضوء تحت ظل (3)، للنهي عن النجس و للنص. انتهى.

و مراده بالنهي عن النجس: النهي عن أكله (4).

و مراده بالنص: ما ورد عن النهي عن الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السقف (5).

++++++++++

(1) راجع حول نجاسة الثوب و البدن (وسائل الشيعة). الجزء 2 ص 1025. الباب 19. باب وجوب إزالة النجاسة. الأحاديث.

(2) أي ذكر تحريم تنجيس المساجد، و وجوب تطهيرها.

و المراد من غيرها: المصحف الكريم و المشاهد المشرفة و أسماء اللّه تعالى و الأنبياء و الأئمة المعصومين و الصديقة الطاهرة صلوات اللّه عليهم اجمعين.

راجع نفس المصدر، الجزء 3 ص 504. الباب 24 من أبواب أحكام المساجد. الحديث 1-2.

(3) بأن يستعمل في الإضاءة تحت السقف.

(4) راجع نفس المصدر. الجزء 16. ص 496-497. الباب 66 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(5) راجع نفس المصدر. الجزء 12. ص 66-67. الباب 6 من أبواب ما يكتسب به. الأحاديث.

و لا يخفى أن الأحاديث الواردة في المقام كلها مطلقة ليس فيها أي تقييد و إشعار بالاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء كما عرفت في الهامش 4 ص 201-202.

ص: 237

فانظر الى صراحة كلامه (1) في أن المحرم من الدهن المتنجس بعد الأكل و الشرب: خصوص الاستضاءة تحت الظل. للنص (2).

و هو (3) المطابق لما حكاه المحقق الثاني في حاشية الارشاد عنه قدس سره في بعض فوائده: من (4) جواز الانتفاع بالدهن المتنجس في جميع ما يتصور من فوائده.

و قال المحقق و الشهيد الثانيان في المسالك، و حاشية الارشاد عند قول المحقق و العلامة قدس سر هما: تجب إزالة النجاسة عن الأواني: إن هذا (5) اذا استعملت فيما يتوقف استعماله على الطهارة كالأكل و الشرب.

و سيأتي عن المحقق الثاني في حاشية الارشاد في مسألة الانتفاع بالأصباغ المتنجسة: ما يدل على عدم توقف جواز الانتفاع بها على الطهارة.

و في المسالك في ذيل قول المحقق قدس سره: و كل (6) مائع نجس عدا الأدهان قال (7): لا فرق في عدم جواز بيعها (8) على القول

++++++++++

(1) اي كلام (الشهيد الأول) في الذكرى.

(2) هو المشار إليه في الهامش 4. ص 237.

(3) أي هذا التصريح من (الشهيد الأول) هو المطابق لما حكاه (المحقق الكركى) في حاشية الارشاد عن الشهيد.

(4) من بيانية (لما الموصولة) في قوله: لما حكاه، أي المحكي عبارة عن جواز الانتفاع بالدهن المتنجس لغير الاستصباح.

(5) هذه الجملة: إن هذا إذا استعملت فيما يتوقف مقول قول (المحقق الكركى).

(6) هذه الجملة: و كل مائع نجس كلام المحقق صاحب الشرائع.

(7) أي (الشهيد الثاني).

(8) مرجع الضمير: و كل مائع نجس، أي لا فرق في عدم جواز -

ص: 238

بعدم قبولها (1) للطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه (2) و لا بين (3) الإعلام بحالها، و عدمه على ما نص عليه الأصحاب.

و أما الأدهان المتنجسة بنجاسة عارضية كالزيت تقع فيه الفأرة فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها، و انما خرج (4) هذا الفرد بالنص، و إلا (5) فكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات المتنجسة التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه (6).

++++++++++

- بيع كل مائع نجس.

و التأنيث باعتبار أن المراد من كل مائع: المائعات النجسة. و كذا مرجع الضمير في قبولها. و صلاحيتها و بحالها: كل مائع. و التأنيث كما ذكر

(1) أي بناء على القول بعدم قبول كل مائع نجس الطهارة.

(2) بالجر عطفا على مدخول بين، أي لا فرق بين صلاحيتها للانتفاع، و بين عدم صلاحيتها للانتفاع.

(3) أي و لا فرق أيضا على القول بعدم قبول كل مائع نجس الطهارة:

بين إعلام البائع بنجاسة كل مائع نجس، و عدم الإعلام.

(4) أي خروج الاستصباح بالأدهان المتنجسة عن الأصل المذكور:

و هو عدم جواز بيع كل مائع نجس: إنما هو لأجل النص. راجع نفس المصدر. الجزء 12. ص 66. الباب 6. الحديث 2.

(5) أي و لو لا النص المذكور على جواز الاستصباح بالدهن المتنجس لكانت الأدهان المتنجسة مساوية مع بقية المائعات المتنجسة في عدم جواز الانتفاع بها، و أنها كانت داخلة تحت العموم المذكور: من عدم جواز بيع كل مائع نجس: حيث إنه يمكن الانتفاع من المائعات المتنجسة في بعض المقامات، و بعض الموارد.

(6) و قد سبقت الاشارة الى أن المائعات المتنجسة يجوز الانتفاع بها

ص: 239

و قد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح: بيعها ليعمل صابونا أو يطلى بها الأجرب، و نحو ذلك (1).

و يشكل (2) بأنه خروج عن مورد النص المخالف للأصل، فإن جاز لتحقق المنفعة فينبغي مثله في المائعات النجسة (3) التي ينتفع بها كالدبس يطعم للنحل، و نحوه. انتهى.

++++++++++

(1) كالتداوي بها مثلا.

(2) أي الحكم بجواز بيع الأدهان المتنجسة لغير الاستصباح كالتطلية و التصبين، و إلحاقها ببيعها للاستصباح مشكل.

و الباء في قوله: بأنه خروج بيانية تبين وجه الاشكال.

و خلاصته: أن الحكم بجواز الانتفاعات المذكورة في الأدهان المتنجسة خارج عن مورد النص: حيث إن النص الوارد يخص الانتفاع بالدهن المتنجس بالاستصباح فقط فالانتفاعات المذكورة خارجة عن مورده.

بالإضافة الى أن النص المخرج للاستصباح عن الأصل الذي هو عدم جواز بيع المتنجسات خلاف للأصل المذكور.

فكيف يجوز الحكم بجواز الانتفاعات المذكورة من الأدهان المتنجسة و هي داخلة تحت الاصل المذكور؟

(3) أي فإن قيل بجواز بيع الأدهان المتنجسة لسائر الانتفاعات المذكورة لأجل ثبوت المنفعة فيها.

قلنا: ينبغي القول بجواز البيع في بقية المائعات المتنجسة التي فيها منافع كثيرة غير الأكل و الشرب، لوحدة المناط فيهما، لا القول باختصاص الجواز ببيع الأدهان المتنجسة لغير الاستصباح.

و هذا معنى قوله: فينبغي مثله في المائعات النجسة.

ص: 240

و لا يخفى ظهوره (1) في جواز الانتفاع بالمتنجس، و كون (2) المنع من بيعه لأجل النص: يقتصر على مورده.

و كيف كان (3) فالمتتبع في كلام المتأخرين يقطع بما استظهرناه (4) من كلماتهم.

و الذي أظن و ان كان الظن لا يغني لغيري شيئا: أن كلمات القدماء ترجع الى ما ذكره المتأخرون (5)، و أن المراد بالانتفاع (6) في كلمات القدماء الانتفاعات الراجعة الى الأكل و الشرب، و اطعام الغير، و بيعه على نحو بيع ما يحل أكله (7).

++++++++++

(1) أي ظهور (كلام الشهيد الثاني) في المسالك.

(2) بالجر عطفا على مدخول (في الجارة) في قوله: في جواز الانتفاع أي و لا يخفى ظهور كلام (الشهيد الثاني) في المسالك أيضا:

في أن المنع عن بيعه لغير الاستصباح لأجل النص الوارد.

و جملة: (لأجل النص) منصوبة محلا خبر لكان.

و جملة: (يقتصر) نتيجة لقوله: و لا يخفى. و المعنى: أنه بعد ظهور كلام الشهيد في أن سبب منع الدهن المتنجس لغير الاستصباح هو النص: يقتصر حينئذ على مورد النص و هو الاستصباح فقط.

(3) أي سواء أ كان كلام الشهيد و من ذكرناه قبله ظاهرا في جواز الانتفاع بالأدهان المتنجسة في غير الأكل و الشرب أم لم يكن ظاهرا.

(4) و هو جواز الانتفاع بالأدهان المتنجسة في غير الاكل و الشرب.

(5) و هو جواز الانتفاع بالأدهان المتنجسة.

(6) أي الانتفاع المحرم الذي يقول به القدماء: يقصدون به الأكل و الشرب، لا الانتفاعات الاخرى.

(7) أي من دون إعلام و تنبيه كما أنه الامر فيما يحل أكله و شربه.

ص: 241

ثم لو فرضنا مخالفة القدماء (1) كفى موافقة المتأخرين في دفع الوهن عن الأصل و القاعدة (2) السالمين عما يرد عليهما.

ثم إن على تقدير جواز غير الاستصباح من الانتفاعات فالظاهر جواز بيعه لهذه الانتفاعات (3)، وفاقا للشهيد و المحقق الثاني قدس سرهما.

قال الثاني (4) في حاشية الارشاد في ذيل قول العلامة: إلا الدهن للاستصباح: إن (5) في بعض الحواشي المنسوبة الى شيخنا الشهيد أن الفائدة لا تنحصر في ذلك (6). إذ مع فرض فائدة أخرى للدهن (7) لا تتوقف

++++++++++

(1) أي مخالفة مذهب القدماء لمذهب المتأخرين، و أنهم يقصدون من حرمة الانتفاع: حرمة الانتفاع المطلق: من الأكل و الشرب و التطلية و التصبين و تطعيم النحل.

(2) و هما: قاعدة أصالة الاباحة في الأشياء، و قاعدة حل الانتفاع بما في الأرض جميعا السالمين عما يرد عليهما، سوى الآيات و الأخبار و الاجماعات التي استدل الخصم بحكومتها عليهما، و قد عرفت الرد على تلك الأدلة الثلاثة عن شيخنا الأعظم مشروحا بقوله: أما الآيات. و أما الأخبار، و أما الاجماعات.

هذا تمام الكلام في الانتفاع بالمتنجسات نفيا و اثباتا.

(3) و هو التدهين و التصبين و التطلية و تطعيم النحل لأنها منافع مقصودة عقلائية توجب مالية الشيء.

(4) أي المحقق الثاني.

(5) هذه الجملة: (إن في بعض الحواشي) مقول قول المحقق الثاني.

(6) أي في الاستصباح فقط.

(7) أي للدهن المتنجس الذي لا يتوقف الانتفاع منه على طهارته -

ص: 242

على طهارته، يمكن بيعه لها كاتخاذ الصابون منه. قال (1) و هو مروي و مثله (2) طلي الدواب أقول (3): لا بأس بالمصير الى ما ذكره شيخنا و قد ذكر أن به رواية. انتهى.

أقول: و الرواية اشارة الى ما عن الراوندي في كتاب النوادر بأسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام. و فيه سئل عليه السلام عن الشحم يقع فيه شيء له دم فيموت ؟

قال عليه السلام: تبيعه لمن يعمله صابونا إلى آخر الخبر (4).

++++++++++

- بحيث يمكن أن يباع لتلك المنفعة غير المتوقفة على الطهارة فحينئذ جاز بيعه لتلك الفائدة.

(1) أي المحقق الثاني قال: اتخاذ الصابون من الدهن المتنجس ورد في الرواية. و يأتي الاشارة الى الرواية.

(2) أي و مثل اتخاذ الصابون من الدهن المتنجس في الجواز طلي الدواب و السفن.

(3) الفاعل في أقول: (المحقق الكركى)، أي قال المحقق لا بأس بما ذهب إليه شيخنا الشهيد من جواز الانتفاع بالدهن المتنجس باخذ الصابون منه، و طلي السفن به.

(4) راجع (مستدرك وسائل الشيعة) المجلد 2. ص 427. الباب 6 الحديث 7.

و في المصدر: عن الزيت.

و في المصدر فقال.

إلى هنا كان الكلام حول جواز الانتفاع بالدهن المتنجس للاستصباح و التصبين، و غيرهما من الانتفاعات الأخرى عدا الأكل و الشرب.

ص: 243

حكم بيع غير الدهن من المتنجسات

ثم لو قلنا بجواز البيع في الدهن لغير (1) المنصوص من الانتفاعات المباحة فهل (2) يجوز بيع غيره من المتنجسات المنتفع بها في المنافع المقصودة المحللة كالصبغ و الطين (3) و نحوهما، أم يقتصر على المتنجس المنصوص:

و هو الدهن. غاية الأمر التعدي من حيث غاية البيع الى غير الاستصباح ؟ اشكال (4).

++++++++++

(1) و هو طلي السفن و الدواب و الأجرب، و استعماله في الأوجاع.

و المراد بالمنصوص هو الاستصباح به تحت السماء، و اتخاذ الصابون منه

(2) من هنا شروع في المتنجسات الأخرى من المائعات غير الدهن.

و خلاصة الكلام: أنه لو قلنا بجواز بيع الدهن المتنجس لغير الاستصباح و التصبين فرضا فهل يجوز بيع سائر المائعات المتنجسة التي لها منافع مقصودة محللة.

أو يقتصر على المتنجس المنصوص الذي هو الدهن فقط و فقط.

نعم يتعدى من الاستصباح و التصبين الى منافعه الأخرى التي عرفتها مشروحا.

و هذا معنى قوله: غاية الأمر التعدي من حيث غاية البيع إلى غاية الاستصباح.

(3) أي المتنجسين، و المراد من نحوهما: الحبر المتنجس مثلا، فإنه يجوز الانتفاع به للكتابة، إلا في المصحف الكريم و أسماء اللّه تعالى، و الأنبياء و الأئمة الطاهرين، و الصديقة الطاهرة عليهم صلوات اللّه أجمعين.

(4) جواب لهل الاستفهامية في قوله: فهل يجوز بيع غيره، أي في جواز بيع غير الدهن المتنجس من بقية المائعات المتنجسة اشكال، و ان كان لها نفع.

و خلاصة الكلام أن بعد النص الوارد في جواز بيع الدهن المتنجس -

ص: 244

من (1) ظهور استثناء الدهن في كلام المشهور في عدم جواز بيع ما عداه، بل عرفت من المسالك نسبة عدم الفرق بين ما له منفعة محللة و ما ليست له: الى نص الأصحاب (2).

و مما (3) تقدم في مسألة جلد الميتة: من أن الظاهر من كلمات جماعة من القدماء و المتأخرين كالشيخ في الخلاف. و ابن زهرة و العلامة و ولده و الفاضل المقداد و المحقق الثاني و غيرهم: دوران المنع عن بيع النجس مدار جواز الانتفاع به و عدمه، إلا ما خرج بالنص، كأليات الميتة مثلا

++++++++++

- للاستصباح و التصبين لنا تعديان عن مورد النص.

(أحدهما): التعدي من الاستصباح و التصبين إلى سائر الانتفاعات الأخرى عدا الأكل و الشرب كما عرفت.

(ثانيهما): التعدي من الدهن المتنجس إلى سائر المائعات المتنجسة فعلى القول بجواز التعدي الأول هل يجوز التعدي إلى الثاني أولا؟

قيل بالجواز، لأن المدار في الجواز و العدم: الانتفاع و عدم الانتفاع فإن قلنا بوجود الانتفاع جاز التعدي.

و ان لم نقل لم نقل بالتعدي كما هو ظاهر كلمات جماعة من القدماء

و قيل بالعدم، لظهور استثناء الدهن في كلام المشهور: في عدم جواز ما عداه، حيث قالوا: لا يجوز بيع للتنجس إلا الدهن، سواء أ كان له منفعة محللة أم لا كما عرفت ذلك من نسبة (شيخنا الشهيد الثاني) إلى نص الأصحاب.

(1) دليل لعدم جواز التعدي من الدهن المتنجس الى المائعات المتنجسة كما عرفت عند قولنا: و قيل بالعدم، لظهور استثناء الدهن.

(2) عرفت ذلك في آخر هامش 4، ص 245 بقولنا: سواء أ كان له منفعة.

(3) هذا دليل لجواز التعدي من الدهن المتنجس الى سائر المائعات -

ص: 245

أو مطلق نجس العين على ما سيأتي (1) من الكلام فيه.

و هذا (2) هو الذي يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجس: و هي (3) القاعدة المستفادة من قوله عليه السلام في رواية تحف العقول: إن كل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كله حلال.

و ما (4) تقدم من رواية دعائم الاسلام من حل بيع كل ما يباح الانتفاع به.

و أما قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ ، و قوله تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ

++++++++++

- المتنجسة كما عرفت في ص 245 عند قولنا: قيل بالجواز، لأن المدار في الجواز و العدم: الانتفاع و عدم الانتفاع.

(1) في قوله: بقي الكلام في حكم نجس العين من حيث أصالة حلّ الانتفاع.

(2) أي جواز بيع المتنجس هو مقتضى الاستصحاب، لأن المتنجس قبل نجاسته كان جائز البيع، و بعد نجاسته يشك في جواز بيعه فيستصحب الجواز، و يحكم بصحة المعاملة.

(3) مرجع الضمير: كلمة استصحاب، و التأنيث باعتبار الخبر، بناء على القاعدة المعروفة: اذا دار الأمر بين المرجع و الخبر فمراعات الخبر أولى كقوله تعالى: «فَلَمّٰا رَأَى اَلشَّمْسَ بٰازِغَةً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي» (1)أي الاستصحاب المذكور مستفاد من قوله عليه السلام: إن كل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. فإن تطعيم النحل، أو تطلية المسفن و الأجرب فيه نوع من الصلاح فيشمله قوله عليه السلام: فذلك كله حرام.

(4) مجرور محلا عطفا على مدخول من الجارة في قوله: المستفادة -8.

ص: 246


1- الانعام: الآية 78.

فقد عرفت أنهما لا تدلان على حرمة الانتفاع بالمتنجس (1)، فضلا عن حرمة البيع على تقدير جواز الانتفاع.

و من ذلك (2) يظهر عدم صحة الاستدلال فيما نحن فيه بالنهي في رواية تحف العقول عن بيع شيء من وجوه النجس بعد ملاحظة تعليل المنع فيها بحرمة الانتفاع.

++++++++++

- من قوله، أي جواز بيع المتنجس الذي له منفعة مستفاد أيضا من قوله عليه السلام في دعائم الاسلام المشار إليه في ص 52: إن الحلال من البيوع كل ما كان حلالا من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام الناس و يباح لهم الانتفاع.

و لا شك أن تطلية السفن، و تطعيم النحل، و تدهين الأوجاع بالدهن المتنجس مما فيه الانتفاع و يباح لهم فيشمله قوله عليه السلام: إن الحلال من البيوع كل ما كان يباح لهم.

(1) لأن المراد من الرجس: النجس الذاتي الذي نجاسته ذاتية لا ما كانت عرضية كما فيما نحن فيه.

و كذا المراد من الرجز الذي فسر بالرجس: ما كان نجسا ذاتيا لا ما كانت نجاسته عرضية.

(2) أي و من عدم دلالة الآيتين على حرمة الانتفاع بالمتنجس يظهر عدم صحة الاستدلال على ما نحن فيه و هو جواز الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل: بالنهي الوارد في حديث تحف العقول المشار إليه في ص 24-37.

وجه الظهور: أن المراد من وجه النجس: العنوان النجس الذي كانت نجاسته ذاتية، لا ما كانت عرضية كما فيما نحن فيه، و لا سيما بعد تعليل الامام عليه السلام المنع بحرمة الانتفاع، اذ من الواضح أن مفهوم -

ص: 247

و يمكن حمل كلام من أطلق المنع عن بيع النجس (1) إلا الدهن (2) لفائدة الاستصباح: على إرادة (3) المائعات النجسة التي لا ينتفع بها في غير الأكل و الشرب منفعة محللة مقصودة من أمثالها.

و يؤيده (4) تعليل استثناء الدهن لفائدة الاستصباح: نظير استثناء

++++++++++

- الرواية: أنه اذا لم يحرم الانتفاع جاز البيع.

و قد عرفت أن الجواز و العدم دائران مدار الانتفاع و العدم، فان جاز جاز البيع، و إلا فلا.

(1) بأن قال: لا يجوز بيع المتنجس بأي نحو من الأنحاء و ان كان له منفعة محللة مقصودة إلا ما أخرجه الدليل كالاستصباح و التصبين بالدهن المتنجس.

(2) هذا هو المستثنى عن بقية المتنجسات لأجل الدليل.

(3) الجار و المجرور متعلق بقوله: حمل كلام، أي و يمكن حمل كلام من قال بعدم جواز بيع المتنجس بصورة عامة مطلقة كما عرفت في قولنا: بأن قال: لا يجوز بيع المتنجس بأي نحو من الأنحاء: على إرادة المائعات المتنجسة التي لا ينتفع بها إلا في الأكل و الشرب، و ليس لهذه المائعات المتنجسة منفعة محللة مقصودة عقلائية فمثل هذه هو المراد من المنع المطلق في قول من يقول: لا يجوز بيع المتنجس بأي حال، لا المتنجس الذي له نفع مقصود عقلائي غير الأكل و الشرب كالاستصباح بالدهن المتنجس، و التصبين به.

(4) أي و يؤيد الحمل المذكور تعليل الفقهاء استثناء الدهن المتنجس عن عدم جواز بيع النجس: بقولهم: لفائدة الاستصباح، و التعليل هذا ظاهر في أن عدم جواز بيع المستثنى منه الذي هي بقية المائعات المتنجسة لأجل عدم فائدة تترتب عليها سوى الأكل و الشرب الذين ثبتت حرمتهما -

ص: 248

بول الابل للاستشفاء (1)، و ان احتمل (2) أن يكون ذكر الاستصباح لبيان ما يشترط أن يكون غاية للبيع (3).

قال في جامع المقاصد في شرح قول العلامة قدس سره: إلا (4)

++++++++++

- بخلاف الدهن المتنجس، حيث له فائدة أخرى غير الأكل و الشرب و هو الاستصباح و التصبين به فالدهن المتنجس استثناء منقطع خارج عن المستثنى منه فلا يشمله حكم بقية المتنجسات المائعة التي ليس لها منفعة سوى الأكل و الشرب.

(1) حيث إن استثناء شرب بول الابل عن بقية الأبوال الطاهرة التي لا يجوز بيعها، لكونها محرمة الشرب: إنما هو لعلة الاستشفاء به فلا يكون داخلا في تلك الأبوال حتى يشمله حكمها، لأنه ليس لها منفعة سوى الشرب و هو محرم فالاستثناء منقطع خارج عن المستثنى منه، فما نحن فيه نظير هذا.

(2) الغرض من ذكر هذا الكلام: أنه لما كان من شرط المبيع أن يكون مما يتمول حتى يصح بذل المال إزائه: أراد أن يذكر الشيخ قاعدة كلية جديدة يجعلها كبرى لتنطبق على صغرياتها، و تلك القاعدة: (هو أن كل ما كان فيه فائدة محللة عند الشرع، و مقصودة عند العقلاء جاز بيعه).

و حيث إن للدهن المتنجس فائدة محللة مقصودة عند العرف و العقلاء و هو الاستصباح به تحت السماء فتنطبق عليه تلك الكبرى الكلية، لأنها احدى صغرياتها، فعليه لا نحتاج الى استثنائه عن بيع المائعات المتنجسة الى الروايات المذكورة.

(3) أي لصحة البيع.

(4) هذه الجملة: إلا الدهن لتحقق فائدة الاستصباح تحت السماء -

ص: 249

الدهن لتحقق فائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة:

قال (1): و ليس المراد بخاصة بيان حصر الفائدة في الاستصباح كما هو (2) الظاهر، و قد (3) ذكر شيخنا الشهيد في حواشيه أن في رواية (4) جواز اتخاذ الصابون من الدهن المتنجس

++++++++++

- خاصة مقول قول العلامة.

(1) هذه الكلمة زائدة، لأنها ذكرت أولا بقوله: قال في جامع المقاصد فلا معنى لذكرها ثانيا، و قد تكرر في تضاعيف الكتاب و ما أكثرها و جملة: و ليس المراد مقول قول (صاحب جامع المقاصد).

و المراد من الخاصة: كلمة خاصة الواقعة في قول العلامة: الا الدهن المتنجس لتحقق فائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة.

و المعنى: أنه ليس المراد من هذه الكلمة انحصار فائدة الدهن المتنجس تحت السماء فقط و فقط حتى لا يجوز استفادة بقية المنافع الأخرى منه كالطلي و صناعة الصابون.

(2) أي عدم انحصار الفائدة في الدهن المتنجس في الاستصباح هي المستفادة من ظاهر كلام العلامة.

(3) هذه الجملة: (و قد ذكر شيخنا الشهيد) من كلام صاحب (جامع المقاصد) جاء بها تأكيدا لما أفاده حول كلمة خاصة.

و الجملة منصوبة محلا على الحالية، أي و كيف يمكن القول بانحصار فائدة الدهن المتنجس في الاستصباح فقط و الحال أن (شيخنا الشهيد) ذكر أن هناك رواية تصرح بجواز صناعة الصابون من الدهن المتنجس و قد ذكرنا الرواية في الهامش 4. ص 243.

(4) بالتنوين على صيغة التنكير و الجار و المجرور مرفوعة محلا خبر مقدم لاسم أن، و اسم أن كلمة جواز في قوله: جواز اتخاذ.

ص: 250

و صرح (1) مع ذلك بجواز الانتفاع به فيما يتصور من فوائده به كطلي الدواب.

إن قيل (2): إن العبارة تقتضي حصر الفائدة، لأن الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر، فإن المعنى في العبارة إلا الدهن المتنجس لهذه الفائدة.

++++++++++

(1) أي (شيخنا الشهيد) مع وجود الرواية بجواز صناعة الصابون من الدهن المتنجس صرح بجواز الانتفاع من الدهن المتنجس في طلبي الدواب به، مع أن الطلي خارج عن مورد الرواية

و إنما صرح بجواز ذلك، لوجود هذا الانتفاع فيه، فالمدار في جواز البيع و عدمه: الانتفاع و عدمه.

(2) هذا اعتراض من لسان المحقق الكركي على ما أفاده هو: من أن كلمة خاصة في عبارة العلامة ليست لحصر فائدة الدهن المتنجس في الاستصباح.

و خلاصة الاعتراض: أن عبارة (العلامة في القواعد) مشتملة على النفي و الإثبات، حيث قال هناك: لا يجوز بيع النجس إلا الدهن المتنجس لتحقق فائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة فالاستثناء قد وقع عقيب النفي و هو قوله: لا يجوز بيع الدهن.

و من المقرر و المسلم عند أهل البيان: أن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر كقوله تعالى: «وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ » ، و كقولك:

و ما زيد إلا شاعر ففيما نحن فيه يفيد أن الدهن المتنجس ليس فيه فائدة سوى الاستصباح به تحت السماء خاصة أي فقط و فقط بمعنى عدم جواز استعماله في شيء آخر فلا يمكن التعدي من الاستصباح الى غيره من سائر المنافع المترتبة عليه، كما أنه لا يتعدى من الدهن المتنجس الى بقية المائعات -

ص: 251

قلنا (1): ليس المراد ذلك، لأن الفائدة (2) بيان لوجه الاستثناء:

أي إلا الدهن لتحقق فائدة الاستصباح. و هذا (3) لا يستلزم الحصر.

و يكفي (4) في صحة ما قلنا تطرق الاحتمال في العبارة المقتضي لعدم الحصر انتهى (5).

++++++++++

- المتنجسة و ان فرض لها منافع أخرى.

اذا كيف يقال: إنه ليس المراد من كلمة خاصة بيان حصر فائدة الدهن المتنجس في الاستصباح فقط.

(1) هذا جواب عن الاعتراض المذكور.

و خلاصته: أنه ليس مقتضى عبارة العلامة حصر فائدة الدهن المتنجس في الاستصباح فقط و فقط و ان كان الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر لأن الغرض من ذكر الفائدة و هو الاستصباح: بيان وجه استثناء دهن المتنجس عن قاعدة عدم جواز الانتفاع بالنجس، و ذكر بيان وجه الاستثناء لا يستلزم الحصر المذكور، فعليه يجوز التعدي من الاستصباح الى فائدة أخرى مترتبة على الدهن المتنجس كالطلي، و صناعته صابونا.

(2) الألف و اللام للعهد الذكرى أي الفائدة المذكورة في كلام (العلامة) في القواعد بقوله: لتحقق الاستصباح.

(3) أي ذكر بيان وجه الاستثناء لا يستلزم الحصر المذكور كما عرفت

(4) هذا من كلام (المحقق الكركي) جاء به تأييدا لما ذهب إليه من أن كلمة (خاصة) الواقعة في كلام (العلامة) ليست تفيد الحصر أي و يكفي لصحة هذه الدعوى مجيء احتمال ذلك: و هو عدم إرادة الحصر و قد اشتهر حديثا و قديما: أنه اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

و كلمة تطرق مرفوعة على الفاعلية لقوله: و يكفي.

(5) أي ما أفاده (المحقق الثاني) في جامع المقاصد حول عبارة -

ص: 252

و كيف كان (1) فالحكم بعموم كلمات هؤلاء (2) لكل مائع متنجس مثل الطين و الجص المائعين و الصبغ و شبه ذلك محل (3) تأمل.

و ما نسبه في المسالك من عدم فرقهم (4) في المنع عن بيع المتنجس بين ما يصلح للانتفاع به، و ما لا يصلح فلم يثبت صحته (5)، مع ما عرفت (6) من كثير من الأصحاب: من إناطة الحكم في كلامهم مدار

++++++++++

- (العلامة) في القواعد.

(1) أي سواء أ كانت كلمة خاصة للحصر المذكور أم لا، و سواء أ كانت اللام في الاستصباح للعلة أم للغاية.

(2) بأن يقال: إن كلمات الفقهاء في المنع عن بيع المتنجس و استعماله عام تشمل جميع المائعات، ثم خرج من هذا العموم الدهن المتنجس للاستصباح خاصة، و التصبين به.

(3) خبر للمبتدإ المقدم في قوله: فالحكم بعموم

(4) أي من عدم فرق الفقهاء.

(5) أي صحة ما ادعاه (الشهيد الثاني) من عدم الفرق من الفقهاء بين ما يصلح للانتفاع، و بين ما لا يصلح له في أن المتنجس في كلتا حالتيه لا يجوز بيعه.

(6) هذا ترق من الشيخ فيما ادعاه من عدم صحة النسبة المذكورة من (الشهيد الثاني) الى الفقهاء.

و خلاصة الترقي أنه بالإضافة الى عدم ثبوت النسبة المذكورة:

أن الأصحاب بأجمعهم أناطوا و علقوا جواز بيع المتنجس، و عدم جوازه:

على الانتفاع و عدمه، فإن وجد الانتفاع جاز البيع، و إلا فلا. فحينئذ كيف يمكن القول بصحة نسبة عدم الفرق بين ما يصلح الانتفاع، و بين ما لا يصلح له في عدم جواز بيعه.

ص: 253

الانتفاع، و لأجل ذلك (1) استشكل المحقق الثاني في حاشية الارشاد فيما ذكره العلامة بقوله: و لا بأس (2) ببيع ما عرض له التنجيس، مع قبول الطهارة، حيث (3) قال: مقتضاه: أنه لو لم يكن قابلا للطهارة لم يجز بيعه.

++++++++++

(1) أي و لأجل هذا الدوران و الاناطة.

(2) هذه الجملة: (و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله الطهارة): مقول قول العلامة في الارشاد.

(3) تعليل من (الشيخ الأنصارى) لبيان وجه اشكال المحقق الثاني على عبارة العلامة. و الفاعل في قال المحقق.

و خلاصة الاشكال: أن مفهوم عبارة العلامة و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله الطهارة: (أنه لو لم يكن قابلا للطهارة لم يجز بيعه) و هذا المفهوم بإطلاقه يشمل الأصباغ المتنجسة، لأنها لا تقبل الطهارة عند الأكثر، فلا يجوز بيعها، بناء على ما أفاده العلامة، مع أن الظاهر من كلمات الأصحاب جواز بيع الأصباغ المتنجسة في تلك الحالة و هي حالة النجاسة، حيث يستفاد منها صبغ القصور و الدور و البيوت و الحديد و الأخشاب بألوان مختلفة حسب الأذواق و السليقة، و لا سيما في عصرنا الحاضر فمفهوم ما أفاده العلامة مخالف لظاهر أكثر الفقهاء: من جواز بيع الأصباغ المتنجسة، مع أنه أناط جواز بيع النجس، و عدمه على الانتفاع و عدم الانتفاع بالنجس.

هذه خلاصة الاعتراض الوارد على العلامة من (المحقق الكركي) في شرحه على الارشاد.

ثم أجاب عن الاعتراض دفاعا عن العلامة بما حاصله: أن الأصباغ المتنجسة قابلة للطهارة أيضا و لو بالمآل و المرجع، و ذلك عند جفافها -

ص: 254

و هو (1) مشكل، إذ الأصباغ المتنجسة لا تقبل التطهير عند الأكثر و الظاهر جواز بيعها، لأن منافعها لا تتوقف على الطهارة.

اللهم (2) إلا أن يقال: إنها تؤل الى حالة يقبل معها التطهير لكن بعد جفافها، بل ذلك (3) هو المقصود منها فاندفع الاشكال (4).

أقول (5): لو لم يعلم من مذهب العلامة دوران المنع عن بيع

++++++++++

- ورش الماء عليها فالمطلوب في الواقع و نفس الأمر هي حالة جفافها، لا أنها مائعة و هي في أوانيها الخاصة، فانها حينئذ لا ينتفع بها ما لم تصبغ بها المذكورات حتى تستلذ النفوس بها فعليه جاز بيعها، و لا يلزم المحذور المذكور على عبارته مفهوما.

(1) هذا اشكال المحقق أي هذا المفهوم و المقتضى بإطلاقه مشكل حيث يشمل الأصباغ المتنجسة و قد عرفت شرحه في الهامش 3. ص 254.

ثم المراد من الأصباغ المتنجسة: الأعم من المستعملة في الشعر و الثياب و الأقمشة و الدور و الأخشاب، و لا اختصاص لها باصباغ الأخشاب

(2) هذا دفاع المحقق عن العلامة، و عدوله عن اشكاله على عبارته و قد عرفت كيفية الدفاع في الهامش 4. ص 254-255 فلا نعيده.

(3) أي الجفاف هو المقصود الأولي الأصلي من الأصباغ المتنجسة لا نفس الأصباغ بما هي أصباغ كما عرفت في بقية الهامش 4. ص 255.

(4) هذه العبارة: فاندفع الاشكال (من المحقق الثاني)، أي بناء على قبول الأصباغ المتنجسة الطهارة بعد الجفاف ارتفع الاشكال المذكور عن عبارة العلامة، و لا يكون تنافي بين مذهبه و حكمه.

(5) هذا كلام (شيخنا الأعظم الأنصاري): يقصد به أن العلامة من زمرة الفقهاء القائلين بجواز بيع المتنجس، حيث قال: مع ما عرفت من كثير من الأصحاب من اناطة الحكم في كلامهم مدار الانتفاع.

ص: 255

المتنجس مدار (1) حرمة الانتفاع: لم يرد على عبارته اشكال، لأن (2) المفروض حينئذ التزامه بجواز الانتفاع بالأصباغ مع عدم جواز بيعها.

إلا (3) أن يرجع الاشكال الى حكم العلامة و أنه مشكل على مختار

++++++++++

- و خلاصة كلامه: أن المحقق الثاني لو لم يكن عالما و عارفا بمذهب العلامة في توقف جواز بيع المتنجس و عدمه: على وجود الانتفاع و عدمه:

لم يورد اشكالا على عبارته.

لكنه لما كان عارفا بذلك، و عالما بمذهبه من اناطة جواز البيع و عدم الجواز على الانتفاع و العدم: أو رد عليه الاشكال المذكور: من أن حكم العلامة بعدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة، لأنها ليست قابلة للطهارة مناف لمذهبه من الاناطة المذكورة، لأن المفروض بعد الاناطة التزام العلامة بالانتفاع من الأصباغ المتنجسة، لأن لها منافع كثيرة، و كل ما كان له منفعة محللة مقصودة جاز بيعه، فالكبرى الكلية تنطبق على صغرياتها، و منها ما نحن فيه و هي الأصباغ المتنجسة القابلة للانتفاع.

(1) هذه الكلمة: ظرف لكلمة دوران، أي يدور جواز بيع المتنجس، و عدم جوازه مدار الانتفاع و عدمه كما عرفت.

(2) تعليل من الشيخ لعدم ورود الاشكال من المحقق على عبارة العلامة لو لم يكن عالما بمذهبه: و هو اناطة الجواز و العدم على الانتفاع و العدم، أي المفروض حين عدم علم المحقق الثاني بالاناطة المذكورة، و عدم معرفته بالملازمة بين جواز الانتفاع، و جواز البيع: التزام العلامة بجواز الانتفاع بالأصباغ المتنجسة، مع أنه لم يجوز بيعها، لعدم قبولها الطهارة فيكون مذهبه مع حكمه متنافيين فيرد الاشكال المذكور.

(3) استدراك من الشيخ عما أفاده آنفا من أن المحقق الثاني لو لم يعلم -

ص: 256

..........

++++++++++

- من مذهب العلامة اناطة الحكم على الانتفاع و عدمه: لم يورد اشكالا على عبارة العلامة.

لكنه كان عارفا بمذهبه فاورد الاشكال المذكور.

و خلاصة الاستدراك: أنه اذا أرجعنا اشكال المحقق على عبارة العلامة الى حكمه. و هو عدم جواز بيع المتنجس اذا لم يقبل الطهارة: توجه الاشكال و هو تنافي حكم العلامة بعدم جواز البيع مع مذهبه و هو جواز الانتفاع من الأصباغ المتنجسة، حيث أدار الجواز و العدم على الانتفاع و العدم اذ يقول المحقق: كيف يجوز للعلامة الحكم بجواز الانتفاع ثم يحكم بعدم جواز بيع الأصباغ ؟ فيكون حكمه بذلك مشكلا على مختار المحقق الثاني حيث يرى الملازمة بين جواز الانتفاع من المتنجس الذي منها الأصباغ و بين جواز بيعه.

و هذا معنى قول الشيخ: و أنه مشكل على مختار المحقق الثاني.

و أما اذا أرجعنا اشكال المحقق على كلام العلامة فلا يرد الاشكال المذكور.

لكن الحكم بعدم الملازمة بين جواز الانتفاع من الأصباغ المتنجسة و بين جواز بيعها: مشكل على مذهب المتكلم و هو المحقق، حيث إنه يرى الملازمة بين جواز الانتفاع من الأصباغ المتنجسة، و بين جواز بيعها.

فتحصل من مجموع ما ذكر أنه في صورة علم المحقق بمذهب العلامة من إناطته جواز البيع و عدم الجواز على الانتفاع و عدمه يرد اشكاله عليه حيث إن حكمه بعدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة لعدم قبول طهارتها:

مناف لحكمه بأن الأصباغ قابلة الانتفاع، و يكون مذهب العلامة و حكمه -

ص: 257

المحقق، لا الى كلامه (1)، و أن الحكم مشكل على مذهب المتكلم (2) فافهم (3).

ثم إن (4) ما دفع به الاشكال من جعل الأصباغ قابلة للطهارة إنما ينفع في خصوص الأصباغ.

و أما مثل بيع الصابون المتنجس فلا يندفع الاشكال عنه بما ذكره.

++++++++++

- مشكل على مختار المحقق، لأنه يرى الملازمة بين جواز البيع، و جواز الانتفاع.

و أما في صورة عدم علمه بمذهب العلامة فلا يرد إشكاله له على عبارة العلامة، لكن حكم العلامة بعدم الملازمة المذكورة مشكل على مذهب المحقق حيث إنه قائل بالتلازم المذكور.

(1) أي لا الى كلام العلامة كما عرفت شرح هذه العبارة آنفا.

(2) و هو المحقق الثاني و قد عرفت شرح العبارة آنفا.

(3) لعله اشارة الى أن اشكال المحقق على عبارة العلامة: الى تضاد مذهبه مع حكمه و تناقضهما، لا الى أن رأى العلامة مناقض لرأي المحقق حيث إن مخالفة رأي مجتهد لمجتهد آخر كثير جدا فلا يرد اشكال على مثل هذه المخالفة.

(4) هذا اشكال من الشيخ على المحقق الكركي.

و خلاصته أن دفاع المحقق عن عبارة العلامة بان الأصباغ قابلة للطهارة، لأنها تؤل الى الجفاف و الجفاف قابل للطهارة برش الماء عليه إنما يفيد في الأصباغ فقط.

و أما الصابون المتنجس فلا يندفع الاشكال عنه حيث إنه غير قابل للطهارة فيكون حكمه بعدم جواز بيعه لعدم قبوله الطهارة مع أنه مما ينتفع به منافيا لمذهبه.

ص: 258

و قد تقدم منه سابقا (1) جواز بيع الدهن المتنجس ليعمل صابونا بناء على أنه من فوائده المحللة، مع (2) أن ما ذكره من قبول الصبغ التطهير بعد الجفاف محل نظر، لأن المقصود من قبوله الطهارة: قبولها قبل الانتفاع و هو مفقود في الأصباغ، لأن الانتفاع بها و هو الصبغ قبل الطهارة.

و أما ما يبقى منها بعد الجفاف و هو اللون فهي نفس المنفعة، لا الانتفاع مع أنه (3) لا يقبل التطهير، و إنما القابل هو الثوب.

بقي الكلام في حكم نجس العين من حيث أصالة حل الانتفاع به في غير ما ثبتت حرمته (4).

أو أصالة العكس (5).

++++++++++

(1) أي من (المحقق الثاني) في قوله: و قد ذكر (شيخنا الشهيد) في حواشيه: أن في رواية جواز اتخاذ الصابون من الدهن المتنجس.

و قد أشرنا الى الرواية في الهامش 4. ص 243.

(2) هذا اشكال آخر من الشيخ على المحقق الثاني فيما أفاده من قبول الأصباغ المتنجسة الطهارة بجفافها و قد ذكر الاشكال بقوله: لأن المقصود و مرجع الضمير في قبوله: المتنجس.

(3) أي مع أن نفس اللون لا يقبل الطهارة، لأنه من الأعراض.

(4) كالأكل و الشرب، و اللبس في الصلاة.

(5) و هي حرمة الانتفاع بنجس العين إلا ما أخرجه الدليل كالأكل عند المجاعة، و الشرب عند احتمال الضرر النفسي كشرب الخمر عند العطش الذي يخاف منه الموت بقدر رفع الضرورة، و خطر الهلاك.

ص: 259

بقي الكلام في حكم نجس العين من حيث أصالة حل الانتفاع به من غير ما ثبتت حرمته أو أصالة العكس

فاعلم أن ظاهر الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بنجس العين، بل ظاهر فخر الدين في شرح الارشاد، و الفاضل المقداد: الاجماع على ذلك (1) حيث استدلا على عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنها محرمة الانتفاع، و كل ما هو كذلك (2) لا يجوز بيعه.

قالا: أما الصغرى (3) فإجماعية.

و يظهر من الحدائق في مسألة الانتفاع بالدهن المتنجس في غير الاستصباح نسبة ذلك (4) الى الأصحاب.

و يدل عليه (5) ظواهر الكتاب و السنة مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ

++++++++++

(1) أي على أصالة حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة.

(2) أي كل ما كان محرم الانتفاع لا يجوز الانتفاع به.

و هنا يشكل قياس منطقي من الشكل الأول هكذا:

الصغرى: الأعيان النجسة محرمة الانتفاع.

الكبرى: و كل ما كان محرم الانتفاع لا يجوز بيعه.

النتيجة: فالأعيان النجسة لا يجوز بيعها.

(3) و هو أن الأعيان النجسة محرمة الانتفاع.

(4) أي نسبة حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة الى فقهاء الشيعة و أصحابها و هذه النسبة تدل على إجماعهم على ذلك.

(5) أي و يدل على حرمة جواز الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة ظاهر قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ » (1).

وجه الظهور: أن المراد من التحريم حرمة جميع الانتفاعات المتصورة في الأعيان النجسة و منها البيع و الشراء، لقوله صلى اللّه عليه و آله: إن اللّه اذا حرّم شيئا حرّم ثمنه فلا يختص التحريم بمنفعة معينة.

ص: 260


1- المائدة: الآية 3.

عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ، بناء على ما ذكره الشيخ و العلامة من إرادة جميع الانتفاعات

و قوله تعالى (1): إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ : الدال على وجوب اجتناب كل رجس:

و هو نجس العين.

و قوله تعالى (2): وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، بناء على أن هجره لا يحصل إلا بالاجتناب عنه مطلقا.

و تعليله عليه السلام (3) في رواية تحف العقول حرمة بيع وجوه النجس بحرمة الأكل و الشرب و الإمساك، و جميع التقلبات فيه.

++++++++++

(1) أي و يدل على حرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة ظاهر قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (1).

وجه الظهور أن الأمر و هو قوله عز من قائل: فاجتنبوه يدل على وجوب اجتناب كل شيء يكون رجسا و نجسا من دون اختصاصه بشيء لانه مطلق لا يخص شيئا دون شيء.

(2) أي و يدل على حرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة ظاهر قوله تعالى: «وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (2).

وجه الظهور: أن وجوب الهجر، و ترك الرجز المستفاد من الأمر لا يتحقق مفهومه في الخارج إلا بترك جميع أفراده، و اجتناب جميع أنواعه و أصنافه: و منها البيع و الشراء، و لا اختصاص له بمنفعة معينة.

هذا بناء على تفسير الرجز بالرجس كما تقدم.

(3) أي و يدل على حرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة: ظاهر - 5

ص: 261


1- المائدة: الآية 92
2- المدثر: الآية 5

و يدل عليه (1) أيضا كل ما دل من الأخبار و الاجماع على عدم جواز بيع نجس العين، بناء (2) على أن المنع من بيعه لا يكون إلا مع

++++++++++

- تعليل الامام عليه السلام في رواية (تحف العقول) في قوله: أو شيء من وجوه النجس فهذا كله حرام محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله و شربه و لبسه و إمساكه و التقلب فيه.

وجه الظهور أن الامام عليه السلام علل حرمة شيء من وجوه النجس بأن النجس منهي عن أكله و شربه و لبسه و إمساكه و جميع التصرفات فيه بأي نحو من الأنحاء: و منها البيع و الشراء فلا يخص التحريم بشيء دون شيء فكما أن أكله و شربه و لبسه حرام، كذلك أقسام التصرفات فيه حرام.

(1) أي و يدل على حرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة كل ما ورد من الأخبار و الاجماع على حرمة بيع نجس العين.

(2) راجع (وسائل الشيعة). الجزء 12. ص 164. الباب 55.

من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة الأحاديث.

و ص 167. الباب 57. الحديث 1.

و ص 166. الباب 56. الحديث 1-2.

أليك نص الحديث 1 من ص 167. الباب 57 عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن بعض أصحابنا عن (الرضا) عليه السلام.

قال: سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير. و عليه دين هل يبيع خمره و خنازيره و يقضي دينه ؟.

قال: لا.

فالحديث هذا و بقية الأحاديث المذكورة في المصدر كلها تدل بالصراحة على عدم جواز الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة، فالمنع من بيع النجس لا يكون إلا مع حرمة الانتفاع به بنحو مطلق.

ص: 262

حرمة الانتفاع به هذا (1).

و لكن التأمل يقضي بعدم جواز الاعتماد في مقابلة أصالة الإباحة على شيء مما ذكر.

أما (2) آيات التحريم و الاجتناب و الهجر فلظهورها في الانتفاعات المقصودة في كل نجس بحسبه: و هي في مثل الميتة الأكل، و في الخمر الشرب، و في الميسر اللعب به، و في الأنصاب (3) و الأزلام ما يليق بحالهما.

و أما (4) رواية تحف العقول فالمراد بالامساك و التقلب فيه: ما يرجع

++++++++++

- و مثل هذا يعبر عنه بالدليل الإني الذي هو الانتقال من المعلول و هي حرمة البيع الى العلة: و هي حرمة الانتفاعات.

(1) أي خذ هذه الوجوه التي ذكرها القائل بحرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة من الآيات و الأخبار و الاجماع و اجعلها في ذكرك حتى تعرف مدى صحتها عند ما يرد عليها الشيخ.

(2) من هنا يشرع الشيخ في رد الاستدلال بالآيات الكريمة واحدة تلو أخرى فقال: أما آية حرمت، و آية فاجتنبوا، و آية فاهجر فهي ظاهرة في الانتفاعات المقصودة في كل شيء بحسبه الى آخر ما ذكره.

(3) بفتح الهمزة و سكون النون جمع نصب بضم النون و الصاد: هي الأصنام التي كانت العرب تعبدها زمن الجاهلية.

و أزلام بفتح الهمزة و سكون اللام جمع زلم بفتح الزاء و اللام وزان جمل. و بضم الزاء و فتح اللام وزان صرد: هو السهم قبل أن يجعل فيه الريش.

و ميسر بفتح الميم و سكون الياء و كسر السين آلة القمار.

(4) هذا رد على خبر تحف العقول الذي استدل به القائل بحرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة.

ص: 263

الى الأكل و الشرب، و إلا فسيجيء الاتفاق على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد.

و ما دل (1) من الاجماع و الأخبار على حرمة بيع نجس العين قد يدّعى اختصاصه بغير ما يحل الانتفاع المعتد به.

++++++++++

- و خلاصة الرد أنه ليس المراد من الإمساك النجس و التقلب فيه جميع التقلبات و الاستعمالات و الانتفاعات.

بل المراد منهما الإمساك و التقلب الذين يكون مرجعهما الى الأكل و الشرب لا الى مطلق الانتفاعات.

و الدليل على ذلك اتفاق الفقهاء على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد كما صرح الشيخ و العلامة بذلك في قولهما على ما سيأتي في قول الشيخ:

و قال في المبسوط: إن سرجين ما لا يؤكل لحمه. و قال العلامة في التذكرة:

يجوز اقتناء الأعيان النجسة و الاحتفاظ بها.

و الى هذا المعنى أشار الشيخ بقوله: و إلا فسيجيء.

(1) هذا رد على الإجماع و الأخبار المستدل بهما على حرمة الانتفاع المطلق.

و المراد من الإجماع نسبة (صاحب الحدائق) حرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة الى الأصحاب الظاهرة هذه النسبة على وجود الاجماع.

و المراد من الأخبار: ما أشرنا إليها في الهامش 2. ص 262.

و خلاصة الرد أحد الأمرين:

(الأول): أن الإجماع و الأخبار المستدل بهما على حرمة الانتفاع المطلق إنما يدلان على حرمة المنفعة غير المحللة، و غير معتد بها.

و أما إذا كانت المنفعة محللة معتدا بها فلا يشملانها فيجوز بيع مثل هذه المنفعة.

ص: 264

أو (1) يمنع استلزامه لحرمة الانتفاع، بناء على أن نجاسة العين مانع مستقل عن جواز البيع من غير حاجة الى ارجاعها الى عدم المنفعة المحللة.

و أما توهم (2) الاجماع فمدفوع بظهور كلمات كثير منهم في جواز

++++++++++

- (الثاني): عدم الملازمة بين حرمة بيع الأعيان النجسة، و بين جواز الانتفاع بها، إذ من الممكن جواز الانتفاع بنجس العين مع حرمة بيعه فلا ملازمة بينهما، بناء على أن نجاسة العين بشخصها مانع مستقل و على حدة عن جواز البيع من دون احتياج إلى سبب آخر: و هو أن النجاسة توجب عدم وجود المنفعة في الشيء.

و عدم وجود المنفعة سبب لعدم جواز بيع نجس العين فيثبت التلازم بين عدم جواز البيع، و بين عدم جواز الانتفاع فاذا ثبت بالإجماع و الأخبار عدم جواز بيع نجس العين ثبت عدم جواز الانتفاع به.

فالحاصل أنه لا بدّ من الالتزام بأحد الأمرين المذكورين في رد الإجماع و الأخبار المستدل بهما، و القول بأنهما لا يدلان على حرمة مطلق الانتفاعات حتى المحللة المعتد بها.

ثم إن تفريد الضمير في قوله: قد يدعى اختصاصه مع أن المرجع الأخبار و الإجماع فيقتضي تثنيتهما: باعتبار الدليل، أي يدعى اختصاص دليل كل من الإجماع و الأخبار.

و أما تذكير الخبر و هو قوله: مانع مستقل مع أن المبتدأ مؤنث فبتأويل الوصف.

(1) هذا هو الأمر الثاني لرد الإجماع و الأخبار المستدل بهما على حرمة الانتفاع المطلق بالأعيان النجسة. و قد عرفت كيفية الرد آنفا.

(2) هذه مناقشة من (الشيخ) رحمه اللّه في أصل وجود الإجماع لمدعى من صاحب (الحدائق).

ص: 265

الانتفاع في الجملة (1).

قال في المبسوط: إن سرجين ما لا يؤكل لحمه، و عذرة الانسان و خرء الكلاب لا يجوز بيعها، و يجوز الانتفاع بها في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف انتهى.

و قال العلامة في التذكرة: يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة، و نحوها في القواعد، و قرره على ذلك (2) في جامع المقاصد، و زاد عليه قوله:

لكن هذه (3) لا تصيرها مالا بحيث يقابل بالمال.

و قال في باب الأطعمة و الأشربة من المختلف: إن شعر الخنزير يجوز استعماله مطلقا (4) مستدلا بأن نجاسته لا تمنع الانتفاع به، لما فيه من المنفعة الخالية عن ضرر عاجل و آجل (5).

و قال الشهيد في قواعده: النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية للاستقذار (6)،

++++++++++

- كما أن قوله: و ما دل من الإجماع و الأخبار: مناقشة في دلالة الإجماع على تقدير وقوعه.

(1) أي بنحو (الموجبة الجزئية) بمعنى جواز بعض الانتفاعات من الأعيان النجسة.

(2) أي على جواز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة.

(3) أي هذه الفائدة لا تجعل الأعيان النجسة من الأموال حتى تقابل بالمال فتباع و توجر.

(4) أي سائر الانتفاعات غير المشروطة بالطهارة.

(5) أي الإضرار الدنيوية و الأخروية.

(6) تعليل لحرمة استعمال النجاسة في الصلاة و الأغذية، فإن قسما -

ص: 266

و للتوصل (1) بها الى الفرار.

ثم ذكر (2) أن قيد الأغذية لبيان مورد الحكم.

و فيه (3) تنبيه على الأشربة كما أن في الصلاة تنبيها على الطواف (4) انتهى.

و هو (5) كالنص في جواز الانتفاع بالنجس في غير هذه

++++++++++

- من النجاسات قذرة كالدم، و المني، و العذرة، و الخرء. فهذه تمنع استعمالها في الصلاة و الأغذية.

(1) هذا تعليل للقسم الأخر من النجاسات التي ليست قذرة، و لكن يحرم استعمالها أيضا في الصلاة و الأغذية، أي حرمة استعمال هذا القسم في الصلاة و الأغذية إنما شرعت لأجل الفرار منها، و البعد عنها، لئلا يتضرر بها الانسان.

(2) أي (الشهيد الأول) في قواعده ذكر أن قيد الأغذية انما هو لبيان مورد الحكم و هي حرمة استعمال النجس، بمعنى أن الأغذية إنما ذكرت لكونها اعم من المأكل و المشرب.

(3) أي و في ذكر الأغذية تنبيه على أنها اعم من المأكل و المشرب.

(4) راجع (وسائل الشيعة) الجزء 9. ص 445. الباب 38 من أبواب الطواف كتاب الحج. الحديث 6. أليك نصه.

عن أبي حمزة عن (أبي جعفر) عليه السلام أنه سئل: انسك المناسك و هو على غير وضوء؟.

فقال: نعم إلا الطواف في البيت، فان فيه صلاة.

و كلمة انسك فعل ماض فاعله المكلف.

(5) أي ما ذكره (الشهيد الأول) في قواعده مثل النص في أنه لا يحتمل الخلاف، بخلاف الظاهر: حيث إنه يحتمل الخلاف فيه. -

ص: 267

الأمور (1).

و قال الشهيد الثاني في الروضة عند قول المصنف في عداد ما لا يجوز بيعه من النجاسات: و الدم قال: و ان فرض له نفع حكمي (2) كالصبغ و أبوال و أرواث ما لا يؤكل لحمه و ان فرض لهما نفع (3)، فإن (4) الظاهر أن المراد بالنفع المفروض للدم و الأبوال و الأرواث هو النفع المحلل و إلا (5) لم يحسن ذكر هذا القيد في خصوص هذه الأشياء، دون سائر

++++++++++

(1) الأمور عبارة عن الصلاة و الطواف و الطعام و الشراب.

كما أن المراد من غير هذه الأمور: سائر الانتفاعات التي يمكن الاستفادة منها.

(2) النفع الحكمي: هو ما لا يزيد في الشيء عينا، أو قيمة.

أو المراد منه ما لا نفع فيه نفعا معتدا به عند العقلاء.

(3) راجع (اللمعة الدمشقية) من طبعتنا الحديثة الجزء 3 ص 209.

هناك تجد أن العبارة المنقولة هنا للشهيدين، و أن العبارة منقولة بالمعنى تقريبا.

(4) من هنا كلام (شيخنا الأنصاري).

(5) أي و ان لم يكن المراد من النفع في قول (الشهيد الثاني):

(و ان فرض له نفع): النفع المحلل بأن أراد حرمة كل نفع لم يحسن ذكر القيد و هي كلمة نفع في (و إن فرض له نفع)، حيث إن المفروض أن في سائر النجاسات ليس نفع محللا حتى يصح بيعها. فيكون ذكر القيد لغوا، فصونا للقيد عن اللغوية لا بدّ من حمله على النفع المحلل.

و لا يخفى: أن (الشهيد الثاني) في نفس المصدر، ص 207 ذكر القيد و هو (و إن فرض له نفع) في الحشيشة أيضا عند قوله: (و ضابطها -

ص: 268

النجاسات، و لا ذكر خصوص الصبغ (1) للدم، مع أن الأكل هي المنفعة المتعارفة المنصرف إليها الاطلاق في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ ، و المسوق لها (2) الكلام في قوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً .

و ما ذكرنا (3) هو ظاهر المحقق الثاني، حيث حكى عن الشهيد أنه حكى عن العلامة: جواز الاستصباح بدهن الميتة.

ثم قال (4): و هو بعيد، لعموم (5) النهي عن الانتفاع بالميتة فإن (6) عدوله عن التعليل بعموم المنع عن الانتفاع بالنجس: الى ذكر

++++++++++

- المسكر و ان لم يكن مائعا كالحشيشة ان لم يفرض لها نفع آخر و قصد ببيعها المنفعة المحللة).

و المراد بالأشياء في قوله: في خصوص هذه الأشياء: الدم و الأبوال و الأرواث التي ذكرها عن اللمعة الدمشقية.

(1) التي هي المنفعة الحكمية للدم.

(2) أي أن المسوق للمنفعة المتعارفة في قوله تعالى: هو الأكل.

(3) و هو أن الأصل في الأعيان النجسة: جواز الانتفاع بها عند قوله: و لكن التأمل يقضي بعدم جواز الاعتماد في مقابلة أصالة الإباحة على شيء مما ذكر. و قد مر ذكره في ص 263.

(4) أي قال المحقق الثاني: إن جواز الاستصباح بدهن الميتة بعيد.

(5) تعليل لبعد جواز الاستصباح بدهن الميتة. ببيان أن النهي الوارد في عدم الانتفاع من الميتة عام يشمل حتى الانتفاع بدهنها للاستصباح.

(6) هذا كلام (شيخنا الأنصاري).

و خلاصته: أن لنا في عدم جواز الانتفاع بدهن الميتة عمومين: عموم -

ص: 269

خصوص الميتة يدل على عدم العموم في النجس (1).

و كيف كان (2) فلا يبقى بملاحظة ما ذكرنا وثوق بنقل الاجماع المتقدم (3) عن شرح الارشاد و التنقيح الجابر (4) لرواية تحف العقول

++++++++++

- عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا حتى الدهن منها.

و عموم عدم جواز الانتفاع بالنجس مطلقا، سواء أ كان ميتة أم غيرها، و المحقق إنما استدل على بعد جواز الاستصباح بدهن الميتة: بعموم النهي الوارد في الميتة في عدم جواز الانتفاع بها، و عدل عن الاستدلال بعموم النهي الوارد عن الانتفاع بمطلق النجس، فعدوله عن هذا العموم إلى ذلك العموم، و الاستدلال بخصوص النهي الوارد في الميتة: دليل على أنه لا يقول بعدم جواز الانتفاع بمطلق النجس الوارد في النجس، و كيف يجوز له ذلك و هو من القائلين بأن الأصل في النجس: جواز الانتفاع إلا ما أخرجه الدليل: و هي الميتة فلا يصح الاستدلال بعموم مطلق النجس على عدم جواز الانتفاع بالنجس، لعدم تمامية الدليل عنده.

و أما عموم عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا حتى في دهنها فإنما هو لأجل النص العام الوارد فيها المقبول عنده، و لو لاه لما صح الاستدلال به أيضا

(1) أي على عدم ثبوت هذا العموم عنده كما عرفت آنفا.

(2) سواء أ كانت عبارة المحقق تدل على ذلك أم لا.

(3) و هو نقل الإجماع على عدم جواز الانتفاع بالنجس: و هو الإجماع المنقول عن (فخر الدين) في شرح الارشاد، و (الفاضل المقداد) بقوله: و أما الصغرى فاجماعية.

(4) بالجر صفة للإجماع.

و المراد من الجبران: أن رواية (تحف العقول) لما كانت ضعيفة -

ص: 270

عن جميع التقلب في النجس، مع احتمال أن يراد من جميع التقلب (1):

جميع أنواع التعاطي (2)، لا الاستعمالات (3).

و يراد (4) من إمساكه: إمساكه للوجه المحرم.

و لعله للاحاطة بما ذكرنا (5) اختار بعض.

++++++++++

- السند لا بدّ لها من جابر و الجابر لها هو الاجماع فيكون مؤيدا لها فالحكم بمضمونها أقوى.

بعبارة أخرى أن العمل يكون حينئذ بالخبر المنجبر ضعفه بالاجماع لا بالاجماع.

(1) و هو التقلب المذكور في رواية (تحف العقول).

(2) أي كما يحرم النجس، كذلك يحرم هبته و إجارته. و الوصية به و الصلح عليه. و جعله مهرا و صداقا للمرأة، و كذلك جعله ثمنا لأي مبيع كان.

(3) أي لا أنه يراد من جميع التقلب فيه: الاستعمالات و الانتفاعات المحللة.

(4) أي و مع احتمال أن يراد من إمساكه الوارد في رواية (تحف العقول): الامساك على الوجه المحرم للتعاطي به، و المعاوضة عليه.

(5) من تأويل الأخبار الواردة التي يدعى دلالتها على عدم جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و قد اشير إليها في الهامش 2. ص 262. كما و أشير الى التأويل المذكور في ص 264 عند قولنا: و خلاصة الرد أحد الأمرين.

و من نقل الأقوال على جواز الانتفاع بالأعيان النجسة في نقض الاجماع المدعى عن (صاحب الحدائق).

و قد عرفت الأقوال و هي ما ذكرت في المبسوط، و التذكرة، و المختلف و القواعد، و جامع المقاصد، و قواعد (الشهيد الأول) و في (الروضة البهية) -

ص: 271

الأساطين (1) في شرحه على القواعد جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجس لكن مع تفصيل لا يرجع الى مخالفة في محل الكلام (2).

فقال: و يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجسة (3) في غير ما ورد النص بمنعه كالميتة النجسة التي لا يجوز الانتفاع بها فيما يسمى استعمالا عرفا (4)

++++++++++

- من طبعتنا الحديثة. الجزء 3. ص 209.

(1) هو (الشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء).

(2) و هو أن الأصل في النجس و المتنجس: جواز الانتفاع بهما الا ما خرج بالدليل.

(3) هذا الكلام تصريح من شيخنا الكبير (كاشف الغطاء) في أن الأصل في النجس كما هو في المتنجس: جواز الانتفاع به الا ما خرج بالدليل.

و المراد من النص ما ورد في (الوسائل) الجزء 16. ص 452 الباب 34 من أبواب الأطعمة و الأشربة. الحديث 1-2. أليك نص الحديث الأول، و الثاني.

عن علي بن أبي المغيرة قال: قلت (لأبي عبد اللّه) عليه السلام الميتة ينتفع منها بشيء؟

فقال: لا؟

و عن أبي الحسن عليه السلام: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب و قد مر شرح الحديث في ص 12-13-14 فراجع.

فهذان الحديثان صريحان في عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا فخرجت عن الأصل المذكور: و هو (جواز الانتفاع بالنجس.

(4) هذا هو التفصيل الذي أشار إليه (شيخنا الأنصاري) بقوله:

مع تفصيل لا يرجع الى مخالفة في محل الكلام، أي الانتفاع بالميتة -

ص: 272

للأخبار (1) و الإجماع (2).

و كذا (3) الاستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال.

و ما دل (4) على المنع من الانتفاع بالنجس و المتنجس مخصوص (5)

++++++++++

- على نوعين: (الأول): ما يسمى في العرف استعمالا. (الثاني): ما لم يسم في العرف استعمالا كالايقاد بها فالشيخ فصل في الانتفاع.

(1) و قد أشير إليها في الهامش 3. ص 272. الحديث 1-2.

(2) و هو الإجماع المدعى في قول (صاحب الحدائق) في ص 260.

(3) هذا مثال لما خرج أيضا عن المختار المذكور، أي و كذا خرج الاستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال و هو السقف عن المختار المذكور.

و هو جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجسة.

و لا يخفى أن الروايات مطلقة و خالية عن لزوم الاستصباح تحت السماء و عدم جواز الاستصباح تحت الظل، سوى مرسلة الشيخ.

(4) دفع وهم.

حاصل الوهم: أن الأدلة الواردة في منع الانتفاع بالنجس و المتنجس عامة تشمل جميع الانتفاعات.

(5) هذا جواب (الشيخ الكبير كاشف الغطاء) عن الوهم المذكور و خلاصته أحد الأمرين:

(الأول): أن المنع المذكور مخصوص بالدليل.

(الثاني): أن المنع عن تلك الانتفاعات من باب عدم مبالاة المباشر بالدين بحيث اذا تلوثت ملابسه، أو أدواته لا يعتني بها، و لا يطهرها فيما يشترط فيها الطهارة كالصلاة.

ص: 273

أو منزل على الانتفاع الدال على عدم الاكتراث (1) بالدين، و عدم المبالات.

و أما من استعمله ليغسله (2) فغير مشمول للأدلة فيبقى (3) على حكم الأصل انتهى.

و التقييد (4) بما يسمى استعمالا في كلامه رحمه اللّه لعله لاخراج مثل الايقاد بالميتة، و سد ساقية الماء بها، و إطعامها لجوارح الطير (5).

و مراده (6) سلب الاستعمال المضاف الى الميتة عن هذه الأمور، لأن

++++++++++

(1) مصدر باب الافتعال من اكترث يكترث اكتراثا.

و معناه: عدم الاعتناء و الاهتمام.

و المبالاة مصدر باب المفاعلة من بالى يبالي و معناه: الاهتمام بالشيء.

(2) المراد من الغسل هنا: غسل محل تلاقي النجس بعد الاستعمال و ليس المقصود من الغسل غسل نفس الميتة، لأنها لا تقبل الطهارة.

و أما المتنجس فإنه قابل للطهارة.

(3) أي هذا النوع من الاستعمال و هو غسل محل تلاقي الميتة بعد الاستعمال لا تشمله الأدلة الدالة على المنع من الانتفاع بالنجس، بل هو باق على حكم الأصل: و هو جواز الانتفاع بالنجس و المتنجس.

(4) أي تقييد شيخنا الكبير الاستعمال بما (يسمى استعمالا عرفا).

(5) الأمثلة الثلاثة لما لا يسمى استعمالا عرفا، فإن ايقاد الميتة و إطعامها لجوارح الطير، و سد الساقية بها ليست استعمالا عرفا فهي خارجة عن الانتفاع بالنجس و المتنجس.

(6) أي و مراد (الشيخ الكبير) من أن هذا النوع من الاستعمال بالأمور المذكورة لا يسمى استعمالا عرفا: سلب الاستعمال عن الأمور -

ص: 274

استعمال كل شيء إعماله في العمل المقصود منه عرفا، فان إيقاد الباب و السرير لا يسمى استعمالا لهما.

لكن يشكل (1) بأن المنهي عنه في النصوص الانتفاع بالميتة الشامل

++++++++++

- المذكورة، لأن الباب إنما صنع ليستعمل في التحفظ عن البرد، و الحر و السارق و الغبار عرفا، لا للايقاد.

و كذلك السرير، فإنه صنع لينام عليه، لا للإيقاد به.

(1) هذا اشكال من الشيخ الأنصاري على ما افاده (كاشف الغطاء) في التفصيل الذي ذكره بقوله: فيما يسمى استعمالا عرفا.

و خلاصة الاشكال أن الذي ورد عنه النهي في النصوص المشار إليها في الهامش 3. ص 272: هو الانتفاع بالميتة كما في الحديث 1-2 من نفس الهامش و الانتفاع عام يشمل حتى الاستعمال الغير المعهود المتعارف فليس المنهي عنه في النصوص لفظ الاستعمال حتى يقال: إن الايقاد بالميتة، و سد ساقية الماء بها، و إطعامها لجوارح الطير ليس استعمالا عرفا.

فما افاده من التفصيل بين ما يسمى استعمالا عرفا فيحرم الانتفاع به في الأعيان النجسة.

و ما لا يسمى استعمالا عرفا كالأمور المذكورة جاز الانتفاع بها، حيث لا يقال لاستعمال الميتة في الأمور المذكورة استعمال عرفا، لأنها ليست مقصودة: مشكل كما عرفت.

و الدليل على أنه مشكل: أنه قدس سره قيد الانتفاع بما يسمى استعمالا حتى يمكن تقسيم الاستعمال إلى المتعارف و إلى غيره ليمكنه إخراج الأمور المذكورة عن حريم النزاع.

و هذا معنى قول الشيخ: و لذا قيد هو قدس سره الانتفاع بما يسمى استعمالا.

ص: 275

لغير الاستعمال المعهود المتعارف في الشيء. و لذا قيد هو قدس سره الانتفاع بما يسمى استعمالا.

نعم (1) يمكن أن يقال: إن مثل هذه الاستعمالات لا تعد انتفاعا تنزيلا (2) لها منزلة المعدوم، و لذا (3) يقال للشىء: إنه مما لا ينتفع به

++++++++++

(1) استدراك عما افاده آنفا من أن الانتفاع اعم من الاستعمال فيشمل حتى الاستعمالات المذكورة من الميتة و قد ذكر الشيخ الاستدراك في المتن.

(2) منصوب على المفعول لأجله تعليل للاستدراك المذكور، و أن مثل هذه الاستعمالات لا تعد انتفاعا.

(3) تعليل لكون الاستعمالات المذكورة لا تعد انتفاعا و أنها بمنزلة المعدوم.

و خلاصة التعليل: أنه كثيرا ما يقال للشيء إنه ليس قابلا للانتفاع مع أنه قابل للانتفاع في الأمور المذكورة.

خذ لذلك مثالا.

الباب المندرس الذي لا يستفاد منه للدار، أو الغرفة يقال له: ليس مما ينتفع به، مع أنه قابل للإيقاد به في الطبخ، و كذلك اللحم الجائف النتن يقال له: ليس قابلا للأكل مع أنه قابل لاطعام جوارح الطير فالمنهي عنه في الرواية المذكورة في الهامش 3. ص 272 هو الانتفاع من الميتة بالمنافع المقصودة عند العقلاء و هو الأكل، لا التسميد و لا الايقاد، و لا إطعام جوارح الطير فهذه الانتفاعات لا تسمى انتفاعا عرفا.

و نظير هذا اشتراء اللحم للطيور و السباع لمن كانت عنده حيوانات فهذه أغراض خاصة شخصية، لا نوعية فهذه الأغراض لا تكون سببا لعد العرف لها انتفاعا.

ص: 276

مع قابليته للأمور المذكورة فالمنهي عنه هو الانتفاع بالميتة بالمنافع المقصودة التي تعد عرفا غرضا من تملك الميتة لو لا كونها ميتة و إن كانت قد تملك لخصوص هذه الأمور كما قد يشترى اللحم لإطعام الطيور و السباع، لكنها أغراض شخصية، كما قد يشترى الجلاّب (1) لإطفاء النار، و الباب للإيقاد و التسخين به (2).

قال العلامة في النهاية في بيان أن الانتفاع ببول غير المأكول:

في الشرب للدواب: منفعة جزئية لا يعتد بها.

قال: إذ كل شيء من المحرمات لا يخلو من منفعة كالخمر للتخليل و العذرة للتسميد، و الميتة لأكل جوارح الطير، و لم يعتبرها الشارع (3) انتهى.

ثم (4) إن الانتفاع المنفي في الميتة و إن كان مطلقا في حيز النفي

++++++++++

(1) معرب كلاب أصلها مركب من كلمتين: (إحداهما) كل بالكاف الفارسية و هو الورد (و الثانية) آب و هو الماء، أي ماء الورد.

ثم لا يخفى عليك أن الغالب في لغة الفرس و لا سيما سكان (شمال ايران) و من على (بحر قزوين) تقديم المضاف إليه على المضاف في استعمالاتهم كما هنا، حيث قدم الورد على الماء جريا على عادتهم المألوفة.

(2) مع أن الجلاب و الباب لم يوضعا لهذه الغاية عرفا، بل وضع الجلاب ليستعمل في الشرابت، و الاستعمالات الخارجية مثل التطيب.

و كذا الباب وضع ليستعمل في الغرف و الدور و المحلات.

(3) أي لم يعتبر الشارع هذه المنافع منافع لتقابل بالمال عرفا حتى يصح بيعها.

(4) أي الانتفاع المنفي في النص المشار إليه في الهامش 3. ص 272 الحديث 1-2.

ص: 277

إلا أن اختصاصه بما ادعيناه من الأغراض المقصودة من الشيء، دون الفوائد المترتبة عليه، من دون أن تعد مقاصد: ليس من جهة انصرافها الى المقاصد حتى يمنع انصراف المطلق في حيز النفي.

بل (1) من جهة التسامح و الادعاء العرفي،

++++++++++

- هذا دفع وهم:

حاصل الوهم: أنه يستفاد من دعوى اختصاص الانتفاع المذكور في الرواية: بالأغراض العقلائية المقصودة عند العرف: أن هذا الاختصاص من باب الانصراف مع، أنه لا يوجد انصراف هنا حتى يقال به، لأن كلمة ينتفع الواقعة في حيز النفي في قوله عليه السلام: لا ينتفع من الميتة:

مطلقة ليس فيها أي شيء يشعر الى المنافع العقلائية فقوله عليه السلام:

لا ينتفع عام يشمل حتى الفوائد المترتبة على الميتة و إن لم تكن مقصودة عند العقلاء فتشمل الأمور المذكورة فمن أين يمكن دعوى الانصراف الى المنافع المقصودة العقلائية ؟.

(1) هذا جواب الشيخ عن الوهم المذكور.

و خلاصة الجواب: أن الانتفاع المنفي في النص المذكور و إن كان مطلقا و واقعا في حيز النفي المقتضي للعموم و الشمول الأفرادي حتى الأمور المذكورة: لكننا ندعي اختصاص الانتفاع بالمنافع العقلائية. و المقاصد العرفية من غير شموله للفوائد المترتبة على الميتة و إن لم تكن مقصودة عند العقلاء.

لكن هذا الاختصاص ليس من باب الانصراف كما توهمه الخصم بل من باب فهم العرف ذلك و تسامحهم في ذلك الموجب لعدم ظهور للفظ الانتفاع في الفوائد المترتبة المذكورة على الميتة، و ادعاء العرف بأن هذه الفوائد ليست منافع، تنزيلا لها منزلة المعدوم، و أنها ليست منافع -

ص: 278

تنزيلا (1) للموجود منزلة المعدوم، فإنه (2) يقال للميتة مع وجود تلك الفوائد فيها: إنها مما لا ينتفع به.

و مما ذكرنا (3) ظهر الحال في البول و العذرة و المني، فإنها مما لا ينتفع بها و ان استفيد منها بعض الفوائد كالتسميد (4) و الإحراق

++++++++++

- فالحاصل: أن الاختصاص المدعى ليس من باب الانصراف و أنه المنشأ لذلك، بل هو من باب فهم العرف، حيث يفهمون أن المقصود من المنافع هي المنافع المقصودة عند العرف و العقلاء، و ادعائهم أن تلك الفوائد ليست منافع مقصودة.

(1) منصوب على المفعول لأجله تعليل لاختصاص الانتفاع بالميتة بالمنافع المقصودة عند العرف و العقلاء كما عرفت الآن.

(2) تعليل لتنزيل الموجود منزلة المعدوم، و قد عرفت شرح هذا التعليل في الهامش 1. ص 278 عند قولنا: و ادعاء العرف بأن هذه الفوائد ليست بمنافع.

(3) من اختصاص كلمة الانتفاع بالمنافع المقصودة عند العقلاء و العرف، و أن الاختصاص المذكور ليس من باب الانصراف حتى يرد علينا التوهم المذكور، بل من باب التسامح العرفي و فهمه ذلك.

(4) عد تسميد العذرة من الفوائد الغير المقصودة عند العقلاء أمر عجيب، حيث إن قوام الزرع و الشجر و لا سيما الفواكه و بعض الأثمار الصيفية و الشتوية من التسميد بالقاذورات، و لذا كلما كان تسميد الزرع و الأشجار أزيد كان الانتاج منها أكثر فاستفادة الزراع و أهل البساتين من السماد قديما و حديثا كان أمرا عقلائيا مقصودا عند أهل العرف و العقلاء، و لذا في عصرنا الحاضر تهتم الحكومات باستخراج (السماد الكيماوي) من القاذورات بانواعها و قد استوردت مكائن خاصة لهذا الاستخراج و نصبتها في مدن معينة -

ص: 279

كما هو (1) سيرة بعض الجصاصين من العرب كما يدل عليه (2) وقوع السؤال في بعض الروايات عن الجص يوقد عليه العذرة، و عظام الموتى و يجصص به المسجد.

فقال الامام عليه السلام: إن الماء و النار قد طهراه (3).

بل في الرواية (4) إشعار بالتقرير فتفطن.

++++++++++

- و انتجت و أخذه أهل المزارع و الأشجار و الخضروات و البقول و أصبح الانتاج منها ضعف الانتاج في الأدوار القديمة بكثير فكيف أفاد شيخنا الأعظم أن التسميد بالعذرة من المنافع الغير المقصودة عند العرف و العقلاء.

(1) أي إحراق العذرة.

(2) أي على أن إحراق العذرة.

(3) (وسائل الشيعة). الجزء 2. ص 1099. الباب 81 من أبواب طهارة ما احالته النار. الحديث 1.

(4) و هي المشار إليها آنفا، أي في الرواية المذكورة إشعار بتقرير الامام عليه السلام على هذا الانتفاع من إحراق العظام و العذرة، و بامضائه جواز هذه الفوائد من الأعيان النجسة.

و لا يخفى أنه ليس المراد من العظام عظام موتى الانسان حتى يقال:

كيف يقرر الامام عليه السلام بجواز الانتفاع بها باحراقها، مع أن حرمة المسلم ميتا كحرمته حيا.

بل المراد عظام موتى الحيوانات. بالإضافة الى أن عظام موتى الانسان ما كانت مطروحة على وجه الأرض حتى يتمكن الجصاصون من جمعها و الانتفاع بها بإحراقها في كورهم، و لا كان المسلمون ينبشون القبور و يستخرجون عظام الموتى للانتفاع بها في كورهم.

و الى هذا المعنى الذي ذكرناه لك أشار شيخنا الأعظم بقوله: فتفطن

ص: 280

و أما ما ذكره (1) من تنزيل ما دل على المنع من الانتفاع بالنجس على ما يؤذن بعدم الاكتراث بالدين، و عدم المبالاة، لا من استعمله ليغسله:

فهو تنزيل بعيد (2).

نعم (3) يمكن أن ينزل على الانتفاع به على وجه الانتفاع بالطاهر بأن يستعمله على وجه يوجب تلويث بدنه و ثيابه، و سائر آلات الانتفاع كالصبغ بالدم، و أن بني على غسل الجميع (4) عند الحاجة الى ما يشترط فيه الطهارة.

و في بعض الروايات اشارة الى ذلك (5) ففي الكافي بسنده عن الوشاء، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت له: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟

فقال: حرام هي

فقلت: جعلت فداك فنستصبح بها؟

++++++++++

(1) أي (الشيخ الكبير كاشف الغطاء).

(2) لعل وجه البعد: أن التفصيل بين المكترث بالدين و عدمه و حمل روايات المنع على هذا دون ذاك: لم يستفاد من الروايات المذكورة لعدم دلالتها باحدى الدلالات الثلاث، بل هي مطلقة من هذه الجهة.

(3) أي ينزل المنع عن الانتفاع بالنجس و المتنجس على نحو الانتفاع بالطاهر في عدم المبالاة باصابة اليد و الثوب و البدن.

(4) و هي الآلات، و الثياب، و اليد، و البدن.

(5) أي الى تنزيل الانتفاع بالنجس و المتنجس على نحو الانتفاع بالطاهر في عدم الاعتناء و المبالاة به لو أصاب الثوب أو البدن أو اليد -

ص: 281

فقال: أ ما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام (1):

بحملها (2) على حرمة الاستعمال على وجه يوجب تلويث البدن و الثياب.

و أما حمل الحرام (3) على النجس كما في كلام بعض فلا شاهد عليه و الرواية (4) في نجس العين فلا ينتقض بجواز الاستصباح بالدهن المتنجس لاحتمال (5) كون مزاولة نجس العين مبغوضا للشارع،

++++++++++

(1) (الكافي) طبعة (طهران). الجزء 6. ص 255.

الحديث 3.

فقول الامام عليه السلام: أ ما علمت أنه يصيب اليد و الثوب:

يستفاد منه أن المنتفعين بالنجس و المتنجس كانوا يعاملون معهما معاملة الطاهر حيث قال: أ ما علمت ؟

(2) أي بحمل هذه الرواية على حرمة استعمال النجس على نحو يوجب إصابة اليد، و الثوب، و البدن.

بخلاف ما اذا لم يوجب الاستعمال الاصابة.

(3) أي حمل الحرام الوارد في الرواية المشار إليها في الهامش 1 في قوله عليه السلام: و هو حرام: على النجس لا قرينة صارفة تصرف الحرام الى النجس في نفس الرواية.

(4) أي الرواية المشار إليها في الهامش 1 واردة في نجس العين الذي نجاسته ذاتية، لا في المتنجس الذي نجاسته عرضية فلا مجال للانتقاض بجواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء، لخروجه عن الموضوع.

(5) تعليل لكون الرواية المشار إليها في الهامش 1 واردة في نجس العين، لا في المتنجس.

و المزاولة مصدر باب المفاعلة من زاول يزاول.

ص: 282

كما يشير إليه (1) قوله تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ .

ثم إن منفعة النجس (2) المحللة، للأصل، أو النص قد تجعله مالا عرفا، إلا أنه منع الشرع عن بيعه كجلد الميتة اذا قلنا بجواز الاستقاء به لغير الوضوء (3) كما هو مذهب جماعة: مع القول بعدم جواز بيعه، لظاهر

++++++++++

- و معناه المداولة، و المقصود منه هنا مطلق الاستعمال و الممارسة. هذا بحسب معناه العرفي.

و أما بحسب معناه اللغوي فهو المعالجة و المحاولة.

(1) أي يشير الى أن مزاولة نجس العين مبغوضا عند الشارع الآية الكريمة، حيث إن الرجز هو الرجس، و الرجس ما كان نجسا ذاتيا.

(2) أي جواز الانتفاع بنجس العين إما لأجل الأصل الأولى المعبر عنه بأصالة الاباحة: و هو جواز الانتفاع بالأعيان النجسة ما لم يرد فيها نهي، أو لأجل النص الوارد في ذلك.

راجع (وسائل الشيعة). الجزء 12. ص 67. الباب 6 من أبواب ما يكتسب به. الأحاديث. أليك نص الحديث 6:

عن جامع البزنطي صاحب (الرضا) عليه السلام قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع ؟

قال: نعم يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.

فالامام عليه السلام صرح بجواز الانتفاع بإليات الغنم المقطوعة: باذابتها و الاستفادة منها باسراجها.

لكن مع ذلك منع عن بيع مثل هذه الأليات.

(3) و هكذا الاستعمالات الأخرى المتوقفة على الطهارة كالشرب و الأكل.

ص: 283

الاجماعات المحكية (1)، و شعر (2) الخنزير اذا جوزنا استعماله اختيارا.

و الكلاب (3) الثلاثة اذا منعنا عن بيعها.

فمثل هذه (4) أموال لا تجوز المعاوضة عليها، و لا يبعد جواز هبتها (5)

++++++++++

(1) سبق من (شيخنا الأنصاري) الاشارة الى الاجماعات المذكورة في ص 211-212-213-214.

(2) بالجر عطفا على مدخول (الكاف الجارة) في قوله: كجلد الميتة أي و كشعر الخنزير، حيث إن المنفعة المحللة فيه لأجل النص، أو الأصل الأولي الذي هي أصالة الاباحة، إلا أن الشارع منع عن بيعه و إن جوزنا استعماله في حالة الاختيار.

(3) بالجر عطفا على مدخول (كاف الجارة) في قوله: كالميتة أي و كالكلاب الثلاثة، حيث إن الشارع منع عن بيعها مع جواز الانتفاع بها، لأصالة الاباحة في الأشياء: و هو جواز الانتفاع بالنجس و المتنجس إلا ما خرج بالدليل كالأكل و الشرب.

أو لأجل النص الوارد في جواز الانتفاع بهذه الكلاب.

و مرجع الضمير في بيعها يحتمل أن يكون الميتة و شعر الخنزير و الكلاب الثلاثة.

و يحتمل أن يكون الكلاب الثلاثة فقط.

(4) أي مثل الميتة و شعر الخنزير و الكلاب الثلاثة تعد أموالا عرفا و يجوز الانتفاع منها، لكن لا يجوز المعاوضة عليها، لأن الامام عليه السلام منع عن بيعها كما عرفت آنفا.

(5) أي هبة الميتة و شعر الخنزير و الكلاب الثلاثة.

الظاهر أن المراد من الهبة: الهبة الغير المعوضة، حيث إنه لا يبذل بإزائها المال.

ص: 284

لعدم المانع مع وجود المقتضي (1). فتأمل (2).

و قد لا تجعله (3) مالا عرفا، لعدم ثبوت المنفعة المقصودة منه له و ان ترتب عليه (4) الفوائد كالميتة التي يجوز إطعامها لجوارح الطير و الايقاد بها، و العذرة للتسميد، فإن الظاهر أنها لا تعد أموالا عرفا كما اعترف به جامع المقاصد في شرح قول العلامة. و يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة.

++++++++++

- و أما الهبة المعوضة فالاشكال فيها كما في البيع من حيث عدم جواز هبتها، لأنه يبذل بإزائها المال.

(1) أي مع وجود المقتضي في الهبة الغير المعوضة: و هو الانتفاع المحلل المقصود عند العرف و العقلاء.

(2) لعل الأمر بالتأمل: أن وجود المانع عن هبة الميتة و شعر الخنزير و الكلاب الثلاثة: هي رواية (تحف العقول) في قوله عليه السلام:

و جميع التقلب. و من الواضح أن الهبة نوع من التقلب، بناء على تفسير التقلب بجميع أقسام التعاطي التي من جملتها الهبة.

و يحتمل أن يكون اشارة الى عدم وجود المقتضي، حيث إن الانتفاعات العرضية لا تقابل بالمال.

و الى هذا أشار (شيخنا الأنصاري) بقوله: و قد لا تجعله مالا عرفا.

(3) مرجع الضمير: النجس. و فاعل لا تجعله: المنفعة، أي و قد لا تجعل المنفعة العرضية في النجس: النجس مالا.

كما أنه المرجع في منه و له، أي لعدم ثبوت المنفعة المقصودة من هذا النجس لهذا النجس.

(4) كلمة إن هنا وصلية: و مرجع الضمير في عليه: النجس -

ص: 285

و الظاهر ثبوت حق الاختصاص في هذه الأمور الناشئ (1) إما عن الحيازة (2)، و إما عن كون،

++++++++++

- أي و ان ترتب على هذا النجس فوائد أخرى كاطعام جوارح الطير، و سد السافية، و ايقاد النار بالميتة.

لكن هذه الفوائد لا تجعل هذا النجس مالا عرفا حتى يبذل بإزائها المال.

و مرجع الضمير في أنها: الفوائد المذكورة.

(1) بالجر صفة لكلمة حق في قوله: ثبوت حق، و حق مجرور باضافة ثبوت إليه.

(2) مصدر حاز يحوز و اسم الفاعل منه حائز.

و له مصدر ثان حوزا و هو أجوف واوي وزان قال يقول. و معناه:

أخذ الشيء من المرافق العامة المشتركة بين الكل كالماء من البحر، أو النهر و السمك منهما، و كحيوانات البر.

و كذلك الكلأ النابت، و المعادن المخزونة تحت الأرض كالنفط و الأحجار الكريمة الثمينة، و الذهب و الفضة، و ما شابهها.

و كذلك المعادن التي فوق الأرض كالملح و أحجار الجبال، و الرمل و الطين، و غيرها.

و هذه الأشياء تملك بالحيازة اذا لم تكن في الأراضي المملوكة.

ثم إن للحيازة معنى آخر: و هو أخذ الشيء المعرض عنه و قد كان للغير قبلا كالطعام، أو الخشبة وجدا في البر و قد أعرض عنهما صاحبه أو أشياء أخرى غيرهما.

و هذه الحيازة توجب الإباحة فقط.

ص: 286

أصلها (1) مالا للمالك كما لو مات حيوان له، أو فسد لحم اشتراه للأكل على وجه خرج عن المالية.

و الظاهر (2) جواز المصالحة على هذا الحق بلا عوض، بناء على صحة هذا الصلح، بل (3) دفع العوض، بناء على أنه لا يعد ثمنا لنفس العين حتى يكون سحتا بمقتضى الأخبار.

++++++++++

- فعلى هذا لو حاز شخص ميتة مطروحة معرضا عنها لا يملكها و لا تقابل بالمال، لكنها توجب حق الاختصاص.

و معنى حق الاختصاص: أن للحائز الاستفادة بها، و له أن يمنع غيره عن الاستفادة منها. و له أن يبيحها لمن يشاء.

(1) أي أصل الأعيان النجسة.

(2) أى الظاهر من اطلاق أدلة الصلح جواز المصالحة على حق الاختصاص الحاصل للانسان من هذه الأعيان النجسة إما بالحيازة أو على أن أصلها أموال لمالكها

بناء على أن الأعيان النجسة لا تقابل بالمال، حيث إن الصلح عبارة عن تنازل كل من الطرفين للآخر عن بعض حقوقه.

و قد ذكرنا أقسام الصلح في (اللمعة الدمشقية) من طبعتنا الحديثة الجزء 4. من ص 173 الى ص 194 فراجع.

و لا يخفى أنه سيجيء من الشيخ قريبا على أن الأعيان النجسة تقابل بالمال بواسطة حق الاختصاص.

(3) أي بل يجوز المصالحة على حق الاختصاص في مقابل دفع عوض، بناء على أن هذا المال المصالح عليه لا يقع بإزاء العين النجسة فلا يعد ثمنا لها، بل وقع بإزاء حق الاختصاص فلا يكون سحتا حينئذ فلا تشمله أخبار السحت الواردة في الأعيان النجسة.

ص: 287

قال (1) في التذكرة: و تصح الوصية بما يحل الانتفاع به من النجاسات كالكلب المعلّم، و الزيت النجس، لإشعاله، تحت السماء، و الزبل (2) للانتفاع بإشعاله، و التسميد به، و جلد (3) الميتة إن سوغنا الانتفاع به.

++++++++++

- راجع أخبار السحت (وسائل الشيعة). الجزء 12. ص 126.

الباب 40 من أبواب ما يكتسب به. الأحاديث.

أليك نص الحديث الأول:

عن (أبي عبد اللّه) عليه السلام قال: ثمن العذرة من السحت فصريح الحديث أن الثمن اذا وقع في مقابل العذرة بأن بذل بإزائها يكون من السحت.

أما اذا وقع في مقابل شيء آخر كحق الاختصاص كما فيما نحن فيه فجاز المصالحة عليه.

(1) الاستشهاد بقول العلامة تأييد لكلامه في جواز وقوع المصالحة على حق الاختصاص، فان تعليل العلامة بقوله: لثبوت الاختصاص فيها دليل و تأييد على صحة ما ادعاه الشيخ.

ثم إن المراد من الزيت النجس في كلام العلامة: الزيت المتخذ من الأليات المقطوعة، أو المتخذ من حيوان نجس العين.

و المراد من إشعاله: الاستصباح به.

(2) بالجر عطفا على مدخول (كاف الجارة) في قوله: كالكلب المعلم أي و كالزبل: و هو بكسر الزاى و سكون الباء السرجين من كل حيوان له نفس سائله و لم يؤكل لحمه.

(3) بالجر عطفا على مدخول (كاف الجارة) في قوله: كالكلب المعلم أي و كجلد الميتة.

ص: 288

و الخمر (1) المحترمة، لثبوت الاختصاص فيها، و انتقالها من يد الى يد بالارث، و غيره. انتهى (2).

++++++++++

(1) بالجر عطفا على مدخول (كاف الجارة) في قوله: كالكلب المعلم أي و كالخمر المحترمة، فان هذه الأشياء المذكورة من الكلب المعلم و الزيت النجس و الزبل و جلد الميتة و الخمر المحترمة مما تصح الوصية به على مذهب العلامة، مع أنها أعيان نجسة، لثبوت حق الاختصاص في المذكورات، و لانتقال هذه الأعيان النجسة من يد شخص الى يد شخص آخر بالارث.

بعبارة أخرى: أن انتقال هذه النجاسات من يد الى يد أخرى انما تكون بسبب انتقال حق الاختصاص الى الشخص على النحو الطولي و الترتب بحيث لو لم ينتقل الحق لم تنتقل هذه النجاسات الى الباذل و تبقى على ملكه

و المراد من الخمر المحترمة: الخمر المتخذة للتخليل كما اذا اريد اتخاذ الخل من العنب، فانه في بعض مراحله يكون خمرا، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بالملكية، و كذا لا يمكن القول بإراقتها أيضا.

فبهذا و ذاك نستدل على وجود حق الاختصاص الذي يقابل بالمال و لهذا عبر عن هذا القسم من الخمر بالخمر المحترمة.

و هناك فرد آخر للخمر المحترمة: و هي حياة المريض المتوقفة على شربها و هي منحصرة في كمية تحفظ حياته بها. فهذه مما يقابل بالمال و يعوض عنها لحق الاختصاص.

(2) أي ما أفاده العلامة في هذا المقام.

راجع (تذكرة الفقهاء) الطبعة الحجرية. كتاب الوصية. الفصل الرابع. المطلب الأول. المسألة الأولى.

ص: 289

و الظاهر: أن مراده (1) بغير الارث: الصلح الناقل.

و أما اليد الحادثة بعد إعراض اليد الأولى فليس انتقالا (2).

لكن الإنصاف أن الحكم (3) مشكل، نعم لو بذل مالا على أن يرفع يده عنها ليحوزها الباذل: كان حسنا (4) كما يبذل الرجل المال على أن يرفع اليد عما في تصرفه من الأمكنة المشتركة كمكانه من المسجد و المدرسة

++++++++++

(1) أي مراد العلامة في قوله: و غيره: و هو الصلح الناقل الواقع على الأعيان الخارجية، دون المنافع، فان الصلح على المنافع لا يكون ناقلا للعين فيها.

و كذلك الهبة، لتحقق نقل الحق بالهبة.

(2) بل هي يد جديدة يترتب عليها حق جديد فالحيازة تحدث بسبب بذل الباذل يدا جديدة تكون مسبّبة عن حق جديد.

(3) و هو الصلح على الهبة، أو انتقال النجاسات من يد الى يد بالارث مشكل.

وجه الاشكال: أن قوله عليه السلام في رواية (تحف العقول):

فجميع التقلب في ذلك حرام عام يشمل حتى الصلح و الانتقال من يد الى أخرى، بناء على أن المراد من التقلب جميع أنواع التعاطي و الصلح و الانتقال من أنواع التعاطي.

و مرجع الضمير في عنها و ليحوزها: النجاسات المذكورة من الكلب المعلم، و الزيت النجس و الزبل، و جلد الميتة، و الخمر المحترمة.

(4) وجه الحسن: أن البذل في مقابل رفع اليد عن المذكورات ليس معاوضة على الشيء، لأن المال وقع بإزاء الإعراض عنها، لا بإزاء المذكورات، و قد عرفت أن اليد الحادثة بعد اليد الأولى ليست انتقالا.

ص: 290

و السوق (1).

و ذكر بعض الأساطين (2) بعد إثبات حق الاختصاص: أن دفع شيء من المال لافتكاكه (3): يشك في دخوله تحت الاكتساب المحظور فيبقى على أصالة الجواز.

ثم إنه يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع (4) و لذا (5) ذكروا أنه لو علم كون حيازة الشخص للماء و الكلاء لمجرد العبث: لم يحصل له حق، و حينئذ (6) فيشكل الأمر فيما تعارف في بعض البلاد من جمع العذرات حتى اذا صارت من الكثرة بحيث ينتفع بها

++++++++++

(1) و كذا من يتخذ مكانا في (العتبات المقدسة)، و الأماكن العامة المهيئة لمجالس الوعظ و الارشاد كالحسينيات: يكون أولى من الآخرين بهذا المكان، لثبوت حق الاختصاص له.

(2) و هو (الشيخ الكبير كاشف الغطاء) في الأعيان النجسة.

و خلاصة ما أفاده: أنه بعد أن ثبت حق الاختصاص في الأعيان النجسة فلو دفع شخص لصاحبها، أو لمن حازها مالا ليرفع اليد عنها و ينفصل عن المذكورات: و أخذها: يشك حينئذ في دخول هذا المال المدفوع بإزاء حق الاختصاص تحت الاكتساب الممنوع المنهي عنه فيبقى المال على أصالة الجواز فلا مانع من التصرف فيه.

(3) بمعنى الانفصال كما عرفت آنفا.

(4) بخلاف ما لو حاز الشخص الشيء للعبث و اللعب و أمور أخرى غير عقلائية، أو غير شرعية، فإنه لا يثبت فيه حق الاختصاص كما يصرح بذلك (شيخنا الأعظم الأنصاري).

(5) تعليل للزوم قصد الانتفاع في الحيازة حتى يثبت حق الاختصاص.

(6) أي و حين أن قلنا باشتراط قصد الانتفاع في الحيازة.

ص: 291

في البساتين و الزرع بذل له مال فاخذت منه (1)، فان (2) الظاهر المقطوع أنه لم يحزها للانتفاع بها، و انما حازها لأخذ المال عليها.

و من المعلوم أن أخذ المال فرع ثبوت الاختصاص المتوقف (3) على قصد الانتفاع المعلوم انتفاؤه في المقام.

و كذلك لو سبق الى مكان من الأمكنة المذكورة من غير قصد الانتفاع منها بالسكنى (4).

نعم (5) لو جمعها في مكانه المملوك فبذل له المال على أن يتصرف في ذلك المكان بالدخول لأخذها: كان حسنا.

كما أنه لو قلنا بكفاية مجرد الحيازة في الاختصاص و ان لم يقصد

++++++++++

(1) أي تلك القاذورات المجتمعة من جامعها.

(2) تعليل لوجه الاشكال في دفع المال ازاء القاذورات المجتمعة التي لم يحزها الجامع للانتفاع بها، بل حازها لاخذ المال عليها. فلا يثبت له حق الاختصاص.

(3) كلمة المتوقف مجرورة نعت لكلمة الاختصاص، كما أن كلمة المعلوم مجرورة نعت لكلمة القصد.

(4) بأن أخذ غرفة في احدى المدارس الدينية المعدة للدراسة لأجل الحصول على أوقافها السنوية، أو الشهرية، أو لأغراض اخرى.

و كمن سبق في المسجد و أخذ مكانا لا للعبادة و الصلاة.

بل لغاية أخرى كاخذ مبلغ ممن يريد الصلاة في المسجد فاثبات حق الاختصاص لمن كانت هذه صفته مشكل

(5) استدراك عما أفاده آنفا من الاشكال في بذل المال إزاء القاذورات المجتمعة لأخذ المال في قبالها، لا للانتفاع بها، بناء على اعتبار قصد الانتفاع في الحيازة.

ص: 292

الانتفاع بعينه، أو قلنا بجواز المعاوضة على حق الاختصاص كان أسهل (1).

++++++++++

- و خلاصة الاستدراك: أنه يمكن القول بصحة أخذ المال لمن جمع القاذورات بأن يقال: إن أخذه يكون ازاء التصرف في ملكه بسبب الدخول فيه لأخذ القاذورات المجتمعة هناك، لا أنه أخذه ازاء القاذورات، و بهذا التمحل يرتفع الاشكال.

(1) أي كان الأمر أسهل فلا نحتاج الى التمحل المذكور: بل نقول:

قد بذل المال إزاء حق الاختصاص الحاصل لجامع العذرة و القاذورات من جمعها.

ص: 293

ص: 294

الفهارس

اشارة

ص: 295

ص: 296

فهرس الجزء الأول من المكاسب

7 تعريف الوسائل

11 تفسير الحديث

15 كلمة الاستاذ الخفاجي

17 تعريف الحدائق

18 تعريف تحف العقول

19 النقاط الهامة

20 الجواب عن النقاط

23 حديث تحف العقول

50 رسالة المحكم و المتشابه

51 فقه الرضا عليه السلام

52 حديث دعائم الاسلام

53 حديث النبوي المشهور

54 أقسام المكاسب

57 الأعيان النجسة

58 فرعان

59 أبوال ما يؤكل لحمه

65 الحديث النبوي

67 بول الإبل

69 أبوال ما يؤكل لحمه

71 بيع العذرة

75 الجمع بين الخبرين المتعارضين

81 الأرواث الطاهرة

82 حرمة المعاوضة على الدم

83 الدم الطاهر

84 النهي عن بيع سبعة أشياء

85 حكم المني

86 اللقاح الصناعي

87 تكوين الجنين

89 عسيب الفحل

91 الميتة و أجزاؤها

93 جواب الامام عليه السلام

97 حديث آخر حول الميتة

99 مقتضى الأدلة

100 جواز بيع الزيت النجس

101 الملاك في المبيع

103 عدم جواز بيع الميتة منضمة

104 وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين

105 في الفرق بين المشتري

106 جواز بيع الميتة منضمة بقصد المذكى

107 في المشتبهين

109 في حمل الخبرين

110 تخصيص المشتري بالمستحل

111 في أليات الغنم

114 جواز المعاوضة على الميتة من غير

ص: 297

النفس السائلة

115 الميتة و أجزاؤها

116 حرمة التكسب بالخمر و كل مسكر

117 الأعيان المتنجسة

118 عدم جواز بيع المسوخ

118 جواز بيع المملوك الكافر

119 أقسام الكفار

123 المرتد الفطري

125 في المملوك المرتد

127 في رهن المرتد

131 في العبد المحارب

133 المعاوضة على غير كلب الهراش

135 في كلب الصيد

136 الأخبار المستفيضة

138 دعوى انصراف الأخبار

139 منع انصراف الأخبار

139 تحقيق في معنى الانصراف

145 في كلب غير الصيد

152 في تقدير الدية للكلاب

152 تحقيق حول استدلال العلامة

153 في النقاش مع دليلي العلامة

154 تحقيق حول الحر و العبد

157 في الدفاع عن وهن الاتفاق

158 اطلاق الاجماع على الاتفاق

159 في الرد على الأدلة

160 جواز المعاوضة على العصير

167 في الاشكال على أدلة الجواز

171 في المعاوضة على الدهن المتنجس

173 في الأحاديث المستفيضة

173 في الاستصباح بالأدهان المتنجسة للاستصباح

177 في اعتبار قصد الاستصباح و عدمه

179 الملاك في مالية الشيء

181 المعاوضة على الدهن المتنجس

183 في الاستصباح بالدهن المتنجس

185 عدم جواز شرط المنفعة المحرمة

187 عدم اعتبار قصد الاستصباح

189 وجوب الإعلام

195 الأمور الأربعة

199 وجوب الردع عن المعصية

201 في الاستصباح تحت السماء

203 الدخان النجس

205 إباء الأخبار عن التقييد

208 في جواز الانتفاع بالدهن النجس لغير الاستصباح و عدمه

209 في الأصل الأولي

ص: 298

211 فيما أفاده السيد المرتضى

212 فيما أفاده الشيخ في المبسوط

213 في المائعات المتنجسة

217 في أدلة الخصم

219 في رد أدلة الخصم

229 في رد الاجماع المدعى من الخصم

235 في رد الاجماعات المنقولة

237 في وجوب إزالة النجاسة

239 جواز بيع الدهن المتنجس للاستصباح

241 جواز الانتفاع بالأدهان المتنجسة

245 هل يجوز بيع المتنجسات غير الدهن المتنجس

246 في أدلة الجواز

247 في عدم دلالة الآيات على حرمة الانتفاع بالمتنجس

249 تأسيس قاعدة جديدة

251 في كلام المحقق الكركي

253 في المائعات المتنجسة

255 في الأصباغ المتنجسة

257 تحقيق في اشكال المحقق

261 في حرمة الانتفاع بنجس العين

263 في رد الاستدلال بالآيات

265 في رد الاجماع و الأخبار

267 في كلام الشهيد الثاني

269 تحقيق في النفع

271 في المراد من جميع التقلب

273 في جواز الانتفاع بالنجس و المتنجس

275 تفسير كلام الشيخ كاشف الغطاء

277 في المقصود من الانتفاع بالنجس و المتنجس

279 في عدم الانتفاع بالأعيان النجسة

281 تحقيق حول الانتفاع بالنجس و المتنجس

283 المنفعة المحللة قد توجب المالية

285 المنفعة العرضية قد لا توجب المالية

287 ثبوت حق الاختصاص في الأعيان النجسة

289 في كلام المحقق الكركي

291 في رد الاستدلال بالآيات

293 في الأصباغ المتنجسة

ص: 299

فهرس تعليقات الجزء الاول من المكاسب

7 تعريف المكسب

7 تعريف الوسائل

8 كلمة مع المصححين للوسائل

9 احتياج بعض الأحاديث الى التفسير

11 نموذج من الأحاديث التي لم يعلق عليها

12 تفسير الحديث

15 كلمة الاستاذ الخفاجي حول الوسائل

16 تعريف الحدائق الناضرة

18 تعريف تحف العقول

19 النقاط الهامة حول حديث (تحف العقول)

20 الجواب عن النقاط الهامة

23 حديث تحف العقول

40 تفسير جملة: لأنهم وكلاء الاجير

48 تعريف الشطرنج

50 تعريف رسالة المحكم و المتشابه

50 تعريف فقه الرضا عليه السلام

53 تعريف دعائم الاسلام

54 الأخبار الواردة في استحباب الزراعة

54 الأخبار الواردة في استحباب رعي الغنم

67 معنى لزوم تخصيص الاكثر

70 كلام حول (تذكرة الفقهاء) للعلامة

73 كلام حول الجمع بين (الخبرين المتعارضين)

77 كلام حول العذرة

84 شرح ما يحرم بيعه من الحيوان بعد ذبحه

85 في تزريق مني الأجنبي في رحم المرأة

86 في حكم اللقاح الاصطناعي

88 اكتشاف بعض الأطباء طريقة صناعية للتلقيح

92 تشكيل قياس منطقي من الشكل الاول

101 قياس منطقي من الشكل الاول

105 الأحاديث الواردة في الفرق بين المشتري

108 كلمة حول ارتكاب احد المشتبهين

111 الإشكال الاول من الشيخ على الرواية

112 الإشكال الثاني من الشيخ على الرواية

116 كلام حول اخذ الخل بعد ان كان خمرا عن دراهم في الذمة

118 أسباب الكفر

119 أقسام الكفار

ص: 300

124 تعريف جواهر الكلام

128 كلام حول الرجس

129 كلام حول جواز بيع المرتد الفطري

130 كلام حول المحارب

133 الأخبار الواردة في كلب غير الهراش

134 في الأخبار الواردة في أن ثمن الكلب سحت

137 كلام حول مفهوم الوصف

138 كلام حول الانصراف

139 كلام حول منشأ الانصراف

145 الأخبار الحاصرة

145 كلام حول الجملتين في عبارة (ابن الجنيد)

148 في الفرق بين النقل بالمضمون، و النقل بالمعنى، و الترجمة

152 توضيح ما أفاده العلامة

153 رد دليلي العلامة

156 في ضعف انجبار المرسلة بدعوى الاتفاق

160 في أمارات الملك

167 الأدلة القائمة على حرمة بيع العصير العنبي اذا غلا و لم يذهب ثلثاه

179 كلام حول المنفعة النادرة في دهن اللوز و البنفسج

185 أقسام المنفعة

192 الروايات الواردة حول حرمة تغرير الجاهل بالحكم، أو الموضوع

208 في مفاد الاصل الاولي

210 كلام حول كتاب الانتصار

210 ما ذكره (السيد المرتضى) في الانتصار

211 ما ذكره صاحب (الفقه على المذاهب الأربعة)

211 كلام حول نجاسة غير اهل الكتاب

212 كلام حول اهل الكتاب

216 كلام حول الحكومة

218 قياس منطقي من الشكل الاول

219 كلام حول النجاسات العشر

223 قياس منطقي من الشكل الاول

226 في المراد من العنوان النجس

227 في الأخبار الواردة بإراقة الماء في الإنائين المشتبهين

230 في اشتمال دعوى شيخ الطائفة على جانبى: الإثبات و النفي

231 الأقوال في مسألة الدهن المتنجس

237 في الأخبار الواردة في الاستصباح

245 لنا تعديان عن مورد النص

ص: 301

251 اعتراض المحقق على كلام العلامة

252 جواب عن الاعتراض المذكور

252 تأييد المحقق لكلام العلامة

253 في اشكال (الشيخ الأنصاري) على دعوى (الشهيد الثاني)

253 ترق من (الشيخ الأنصاري) على دعوى (الشهيد الثاني)

254 اشكال المحقق الثاني على عبارة (العلامة)

254 دفاع المحقق عن الاشكال المذكور

255 كلام (الشيخ الأنصاري) حول كلام المحقق الكركي

256 استدراك من (الشيخ الأنصاري) عما اورده على المحقق

258 اشكال (شيخنا الأنصاري) على (المحقق الكركي)

260 قياس منطقي من الشكل الاول

264 خلاصة رد الإجماع و الأخبار

268 في معنى النفع الحكمي

269 في وجود العمومين

272 تفصيل من (الشيخ كاشف الغطاء) في الانتفاع من الأعيان النجسة و المتنجسة

273 في الوهم و الجواب عنه

275 في اشكال (شيخنا الأنصاري) على (الشيخ كاشف الغطاء)

276 استدراك عما أفاده الشيخ في كون الانتفاع اعم

277 تحقيق في لفظ الجلاب

278 و هم و الجواب عنه

279 الإشكال على (شيخنا الأنصاري) في عده التسميد بالعذرة من المنافع النادرة

280 المراد من العظام في كلام الراوي

285 وجه الامر بالتأمل

286 كلام حول الحيازة

287 في معنى حق الاختصاص

287 في جواز المصالحة على حق الاختصاص

288 الثمن اذا وقع في مقابل حق الاختصاص ليس سحتا

288 ما افاده (العلامة) حول حق الاختصاص

ص: 302

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

اللّهم لك الحمد على نعمك و آلائك

فقد تم بحمد اللّه تعالى الجزء الاول من (كتاب المكاسب) بعد عناء كثير مقابلة و تصحيحا و تعليقا حسب الحاجة و اللزوم بقدر الوسع و الإمكان، بعد سهر ليالي و أيام بذلت في سبيل إخراج هذا التراث الخالد فقه (أئمة أهل البيت) عليهم الصلاة و السلام في ليلة الثلاثاء آخر ليلة من المحرم. عام 1393 في مكتبة (جامعة النجف الدينية) العامرة حتى ظهور الحجة البالغة عجل اللّه تعالى له الفرج، بعد أن كان الشروع في الكتاب يوم الرابع عشر من جمادي الأولى عام 1390.

و قد خرج بحمد اللّه تعالى على طراز حسن جميل، و اسلوب رائع بديع.

و إني لأرى هذه الإفاضات كلها من بركات صاحب هذا (القبر المقدس العلوي) على من حل فيه آلاف التحية و الثناء.

فشكرا لك يا إلهي على هذه النعم الجسيمة، و نسألك التوفيق لإتمام بقية الأجزاء من الكتاب، و المشروعات الخيرية الدينية النافعة للأمة الاسلامية جمعاء، إنك ولي ذلك و القادر عليه.

عبدك السيد محمد كلانتر

ص: 303

ص: 304

فهارس شرح المكاسب

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث النبوية الشريفة

3 - الأعلام

4 - الأمكنة و البقاع

5 - الكتب

ص: 305

ص: 306

1 - الآيات الكريمة

- أ -

أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ 161

أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبٰاتُ 224

أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ 34

إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ 131

إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ 216، 217، 261

إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ 210، 211

أَوْ دَماً مَسْفُوحاً 269

- ت -

تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ 161

- ح -

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ 261

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ 269

- خ -

خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً 216

- ف -

فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ 15

فَلَمّٰا رَأَى اَلشَّمْسَ بٰازِغَةً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي 246

فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ 16

- ق -

قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ 56

- و -

وَ اَلْحٰافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحٰافِظٰاتِ 86

ص: 307

وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ 223، 246، 261، 283 وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ 179

وَ لاٰ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ 197

وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ 170

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ 199

وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سبيلا 120

وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً 20

وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ 251

وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ 80، 223، 224

وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ 86

ص: 308

2 - الأحاديث النبوية الشريفة

- أ -

إن اللّه اذا حرم شيئا حرم ثمنه 53، 60 81، 117، 164، 181، 186

- ل -

لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها 65

- م -

من السحت ثمن الميتة 134

ص: 309

3 - الأعلام

- أ -

الأئمة، أهل البيت (ع) 34، 53 66، 151، 208

ابراهيم: علي بن ابراهيم الراوية 262

ابن أبي الحديد 22

ابن أبي المغيرة: علي 272

ابن ادريس: 146، 202، 210، 214 217، 228، 234

ابن أبي عبد اللّه: عبد الرحمن 137

ابن الجنيد 145، 146

ابن حمزة 146

ابن داود 213

ابن زهرة الحلبي: أبو المكارم 90، 100 101، 145، 150، 151، 159 210، 214، 215، 217، 228 233، 234

ابن سعيد 69، 145

ابن شعيب: يعقوب 71

ابن عباس: عبد اللّه 22

ابن عبد الخالق: اسماعيل 174، 175

ابن العلامة الحلي: فخر الدين، فخر المحققين 101، 245، 246، 260، 270

ابن علي: الحسن 111

ابن فضال 136

ابن فهد 146

ابن القطان 146

ابن مالك 133

ابن وهب: معاوية 173، 188، 189

ابن الهيثم 167

أبو بصير 134، 136، 166، 175 193، 197

أبو جعفر الجواد (ع) 97، 197

أبو جميلة 136

أبو حمزة 267

أبو حنيفة 176، 213، 231

أبو الحسن موسى (ع) 11، 12، 13 20، 21، 23، 24، 36، 38 41-45، 64، 111، 112، 115

ص: 310

116، 142، 143، 243

أبو رافع 147

أبو الصلاح 146

أبو عبد اللّه (ع) 54، 55، 63، 68 72، 73، 89، 91، 92، 94 95، 96، 133، 134، 135، 136 137، 147، 165، 173، 174 175، 188، 190، 191، 192 209، 224، 290

أبو كهمس 166

الآخوند، الآخوندي: الشيخ علي 18، 124

الأردبيلي: المقدس 78

الأسدي: د. موسى 87

الأعرج: سعيد 174، 175، 188

أمير المؤمنين، علي (ع) 21، 22 83، 106، 134، 136

أمين الضرب: محمد حسين 55، 192

الأميني: عبد الحسين 16

الايرواني: محمد تقي 18

- ب -

الباقر، محمد بن علي (ع) 134، 267

بحر العلوم 51

البحراني: المحدث 93

البزنطي 113، 114

البهبهاني: الوحيد 51

- ت -

التستري: أسد اللّه 157

التقي 146، 147

- ج -

الجرجاني: الفتح بن زيد 11، 13

- ح -

حسين: د. محمد كامل 53

الحلبي 104، 105، 109، 175

الحلي: العلامة 69، 70، 85، 89 91، 95، 98، 99، 101، 102 103، 109، 111، 127، 130 131، 132، 146، 149، 150 152، 153، 154، 156، 165 169، 176، 194، 206، 235 237، 242، 245، 249-258 261، 264، 266، 277، 285 288-290

ص: 311

الحلي: المحقق 95، 98، 99، 147 255-258، 270

الحكيم: محسن 212

- خ -

الخفاجي: محمد عبد المنعم 14

الخونساري: المحقق 17

- د -

داود 232

- ر -

الراوندي 243

الربانى: الميرزا عبد الرحيم 8

الرضا - الامام - (ع) 51، 98 110، 112، 113، 118، 262، 283

- س -

السبزواري: المحقق 75، 78، 93 105، 146، 147

السكوني 92، 133

سلار 80، 146

سماعة 72

سيابة 54

- ش -

الشافعي 213

شعبة: الحسن بن علي 16

الشلمغانى 51، 52

الشهيدان 146

الشهيد الأول 132، 150، 156 236، 238، 239، 242، 243 250، 251، 259، 266، 267

الشهيد الثانى 20، 126، 127، 172 238، 241، 242، 245، 253 268

- ص -

صاحب تحفة الابرار 51

صاحب الجواهر: محمد حسن 90، 124 125، 210

صاحب الحدائق: يوسف البحرانى 51 146، 147، 264، 265، 271 273

صاحب الذريعة: آغابزرك 50

صاحب الروضات: محمد باقر 51

ص: 312

صاحب الرياض: علي الطباطبائي 51

صاحب الفصول: محمد حسين 51

صاحب الوسائل: الحر العاملي 51

الصادق. الامام (ع) 15، 18، 52 53، 54، 60، 78، 126، 133 158، 167، 216، 217، 225 227، 228، 235، 246، 247 261، 262، 272، 278، 280 282، 283، 288

الصدر: حسن 51، 52

الصدوق 19، 23، 137

الصدوقان 145، 156

الصديقة: فاطمة (ع) 237، 208

الصفار: رشيد 50

صيقل 92، 94، 95، 96

الصيمري 146

- ط -

الطباطبائي: العلامة 146، 147

الطوسي: شيخ الطائفة 20، 66، 72 77، 82، 113، 144، 149 150، 155-160، 172، 177 183، 186، 202، 204، 206 207، 208، 210، 213، 217 218، 219، 220، 221، 224، 225 226، 228-234، 245، 249 253، 256، 257، 261، 263، 264 265، 273، 275، 276، 278 287، 288

- ع -

العاملي: محمد جواد 123

عطية: محمد بن 54

علي: الراوية 116

العمانى: الحسن بن علي 133، 134

- غ -

الغفاري: علي أكبر 18

- ف -

فيضي: آصف بن علي أصغر 52

- ق -

قاجار: ناصر الدين شاه 192

القاسم بن وليد 135

القاضي: نعمان المصري 52، 56، 136 145، 146

ص: 313

القزويني: حسين 51

القمي: علي بن موسى 51

القمي: المحدث 17

- ك -

كاشف الغطاء: جعفر 121، 123 147، 272، 273، 275، 281 291

الكليني 145، 156

- ل -

ليث 136

- م -

المجلسي 50، 75، 76، 146، 147

المحقق الثانى 69، 90، 129، 146 162، 163، 177، 238، 242 243، 245، 252، 254، 255 256، 257، 258، 259

محمد، النبي الأعظم (ص) 5، 55، 60 65، 100، 101، 119، 126 134، 137، 147، 150، 164 167، 186، 215

المرتضى: السيد 50، 80، 158، 210 211، 212، 217، 228، 229 230، 233، 234

مريم: عيسى بن 48

المصارف: محمد بن 71، 77

المفيد 80، 144، 145، 156، 210 234

المقداد: الفاضل 101، 245، 260 270

المنتظر الحجة (ع) 125

موسى بن جعفر (ع) الامام: أبو الحسن 272، 281

المهنّأ: السيد 194

- ن -

النوبختي: حسين بن روح 51

النوري 50، 51

- و -

الواسطي: يحيى 83

والد المجلسي: محمد تقي 50

الوشاء 281

- ه -

الهندي: الفاضل 51

ص: 314

4 - الأمكنة و البقاء

- أ -

ايران 8، 17، 50، 70، 110 124، 127، 210، 213، 277

- ب -

بحر قزوين 277

بيروت 82، 213

- خ -

خراسان 98

- س -

سلوق - قرية - 138، 140، 143 144

- ط -

طهران 8، 18، 23، 54، 63 101، 148، 216، 282

- ق -

القاهرة 14، 95

قم 8

- م -

مسجد الكوفة 25

مصر 22، 52، 53، 95، 136

- ن -

النجف الأشرف 13، 14، 17، 70 79، 124

- ي -

اليمن 138، 140، 144

ص: 315

5 - الكتب

- أ -

الارشاد 101، 235، 245، 260 270

الاستبصار 7، 13، 19، 53، 79 158

أصول الكافي 196

ألفية ابن مالك 133

الانتصار 210، 211، 217، 229

الايضاح 135

- ب -

بحار الأنوار 50، 54، 192

- ت -

تاج العروس 77

التحرير 132، 235

تحف العقول 18، 19، 23، 38 42، 49، 71، 78، 82، 91 98، 99، 113، 117، 158 163، 166، 224، 225، 246 247، 261، 262، 263، 270 272، 285، 290

التذكرة 11، 70، 79، 85، 91 99، 101، 102، 103، 129 130، 132، 149، 150، 151 165، 187، 236، 238، 266 271، 288، 289

تفسير النعمانى 50

التقية (كتاب) 76

التكليف 51، 52

التنقيح 82، 91، 101، 270

التهذيب 7، 13، 19، 53، 93 97، 115، 136، 137، 158 173، 174

- ج -

جامع البزنطي 110، 283

جامع المقاصد 90، 128، 163، 249 250، 252، 266، 271، 285

ص: 316

جواهر الكلام 124، 125

- ح -

حاشية الارشاد 82، 238، 242، 254

الحدائق 16، 17، 38، 50، 51 93

- خ -

الخلاف 66، 71، 79، 80، 101 135، 145، 156، 176، 213 217، 220، 232، 233، 245

- د -

الدروس 132

دعائم الاسلام 5، 60، 71، 78 81، 82، 91، 98، 99، 113 136، 166، 246

ديوان المرتضى 50

- ذ -

الذريعة 50

- ر -

روضات الجنات 17

الروضة البهية 271

الرياض 51

- س -

السرائر 110، 176، 202، 210 213، 217، 234

سنن البيهقي 100

- ش -

الشرائع 95، 124، 126، 127، 177

شرح الشرائع 67

شرح القواعد 146

شهداء الفضيلة 17

- ص -

صحاح الجوهري 77

- ع -

علي بن جعفر (كتاب) 105

- غ -

الغنية 90، 100، 145، 150، 156 217، 233

ص: 317

- ف -

فصل القضاء 51

فقه الرضا (ع) 50، 78، 81، 82 91، 98، 166

الفقه على المذاهب الأربعة 176، 211

- ق -

القاموس 77

القواعد 127، 177، 236، 251 253، 266، 271

- ك -

الكافي 7، 13، 19، 53، 63 126، 173، 216، 281، 282

كفاية الفقيه 93، 105

- ل -

لسان العرب 77

اللمعة الدمشقية 9، 105، 131، 199 287

لؤلؤة البحرين 17، 50

- م -

المبسوط 147، 148، 155، 158 176، 177، 201، 202، 204 205، 206، 207، 212، 217 264، 266، 271

المتاجر 123

متن اللغة 77

مجمع البحرين 77

المحكم و المتشابه 49

المحكي 173، 176

المختصر النافع 67، 95

المختلف 145، 206

المسالك 127، 172، 238، 241 245، 253

مستدرك الوسائل 50، 51، 52، 53 60، 65، 106، 134، 147 243

مصباح اللغة 77

المصابيح 146

المعالم 146

مفتاح الكرامة 123، 166، 209

المقابيس 157

ص: 318

المنتهى 91، 135، 144

من لا يحضره الفقيه 7، 19، 53، 138

الموثق 175

- ن -

النزهة 69

النوادر 243

النهاية 69، 77، 82، 213

نهج البلاغة 22

- و -

وسائل الشيعة 7، 9، 12، 13، 15 18، 38، 42، 51، 54، 67 71، 83، 90، 97، 100، 105 108، 111، 116، 133، 134 136، 166، 175، 187، 190 192، 193، 227، 237، 262 267، 272، 280، 283، 288(1)

ص: 319


1- وضع هذه الفهارس الثمينة لهذا الكتاب الجليل الأخ العزيز، الأخ في الدين الأستاذ عبد الرحيم محمد علي حفظه اللّه تعالى و سدد خطاه، و هو عمل مشكور، و شكر واضعها ما دمت في الحياة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.