منار الهدی في اثبات النص على الأئمة الاثني عشر النجبا المجلد 1

هوية الکتاب

منار الهدى في اثبات النَصْ عَلَى الأئمّة الاثني عشر النُجَبا

تَأليف : الشيخ على بن عبد اللّه البحراني

المتوفى سَنَة سَنَة 1319 ه

الجزء الأول

تحقيق : عبد الحليم عوض الجالي

مُراجَعة

وحدة التحقيق

مكتبة العتبة العباسية المقدسة

ص: 1

اشارة

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية / شعبة المكتبة

كربلاء المقدسة / ص.ب (233) / هاتف: 322600، داخلي: 251

www.alkafeel.net

library@alkafeel.net abbas_library@yahoo.com

البحراني ، علي بن عبد الله ، 1256 - 1319 ق.

منار الهدى في إثبات النص على الأئمة الاثني عشر النجبا / تأليف علي بن عبد اللّه البحراني : تحقيق عبد الحليم عوض الحلي :[مراجعة وحدة التحقيق في مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة ]-[الطبعة محققة ومنقحة ]-كربلاء:مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة، 1430 ق. - 2009 م.

2ج -(مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة؛ (6).

للكتاب عدة أسماء: منار الهدى في إثبات إمامة أئمة الهدى الاثني عشر الإمامة؛ منار الهدى في إثبات إمامة أنسة الهدى من كتب العامة؛ منار الهدى .

المصادر .

1 .علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40ق - إثبات الخلافة - أحاديث أهل السنة 2.الإمامة - دراسة وتحقيق 3.الأئمة الاثني عشر - إثبات الإمامة 4. الأئمة الاثني عشر - عصمة 5. علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. فضائل - أحاديث أهل السنة 6. ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة اللّه ، 655-586 ق.شرح نهج ق البلاغة - شبهات وردود 7. القوشجي ،علي بن محمد - 879ق. شرح التجريد شبهات وردود ألف الحلي، عبد الحليم عوض، محقق. ب. وحدة التحقيق في مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة. ج. ابن أبي الحديد، عبدالحميد بن هية اللّه، 655-586 ق. شرح نهج البلاغة من الفوشجي، علي بن محمد، 879ق. شرح التجريد ه. العنوان. و العنوان: منار الهدى في إثبات إمامة أئمة الهدى الاثني عشر ز. العنوان: الإمامة ، العنوان: منار الهدى في إثبات إمامة أئمة الهدى من كتب العامة. ط. العنوان: منار الهدى ي العنوان: شرح نهج البلاغة ك العنوان: شرح التجريد.

تصنيف وحدة الفهرسة حسب النظام العالمي (.L.C.C)

في مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة .

الكتاب: منار الهدى في إثبات النص على الأئمة الاثني عشر النجباء .

المؤلف: الشيخ علي بن عبد اللّه البحراني .

المحقق: عبد الحليم عوض الحلي.

مراجعة: وحدة التحقيق في مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة.

الناشر: مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة.

الإخراج الفني والتصميم: عدي الأسدي - على سلوم .

المطبعة: دار المحجة البيضاء / بيروت - لبنان .

الطبعة: الأولى .

عدد النسخ: 2000.

التاريخ شهر ذي القعدة 1430 ه / تشرين الثاني 2009 م.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

مقدمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وصلى اللّه على حبيبه وخيرته من خلقه محمد وآله الأطهار، وبعد...

فإن الكتاب الموسوم ب«منار الهدى في إثبات النص على الأئمّة الاثني عشر النجبا »هو منارةٌ راسيةٌ في مجال الأبحاث الكلامية والعقائدية والتاريخية بالاسم والمحتوى، فكم من عنوانٍ أنيقٍ لا يجد المتصفحُ في مضمونهِ ذلك التناسب الدقيق! ولكن الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم مثالٌ رائعٌ في تلاحمُ الفكرة والتعبير فضلاً عن جودة النظم والتأليف.

وأول ما يطالعك فيه قوة الحجّة ونصاعة البراهين التي حشدها المؤلّف(رحمة اللّه) في خدمة موضوعه في الإمامة وإثباتها بقوة الأدلة النقلية والعقلية، كما عالج المؤلف(رحمة اللّه) الموضوع من الناحية التاريخية والكلامية، وشكل في تقسيمه محاور ذات مداخل مناسبة للرد على ابن أبي الحديد المعتزلي والقوشجي الأشعري ونقض مزاعمهم، ومن ثم العودة لإثبات الموضوع (عنوان المحور) بعد تجريده من المزاعم والأباطيل المُثارة حوله.

وقد استحضرَ المؤلفُ في ذلك إمكانات عالية تمتع بها من الإحاطة في فنون الكلام، وذخيرة علمية رصينة توافر عليها ووظفها بألمعية وبراعة...،

ص: 1

كيف لا!؟ والشيخ علي البحراني الستري (رحمة اللّه)يُعدُّ من أشهر علماء البحرين وأعلامها، لم يُبق باباً في العلوم الكلامية والفقهيّة إلا طرقه ،وولجه، عرفت محافلُ الذبِّ والمجاهدة يراعه، وخبَرت فراسته واقتداره تكشف عن ذلك مؤلفاته التي تركها والتي ناهزت الأربعين غير التي لم يعرف خبرها....

لذا فإنَّ مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة - والتي دأبت جاهدةً تبحث في مكنون مؤلفات علمائنا الأعلام هادفة نشرها وإخراجها من ضيق المكتبات الخاصة إلى فضاء القراء والباحثين عن الحقيقة المستنيرين بهداها -لتتشرف بالعناية والنشر لهذا الأثر القيم، ولا يفوت المكتبة أن تتوجه بفائق الشكر والعرفان إلى مؤسسة (ثامن الحجج )في مشهد المقدسة وإلى متوليها السيد محمد باقر المصباح - حفظه اللّه - والتي رفدتنا بالكتاب محققاً وائتمنتنا على نشره، وإلى كل من سعى وعمل في تقييم ومراجعة هذا الكتاب سيما الأستاذ أحمد علي مجيد الحليّ والإخوة في وحدة التحقيق، وكل مَن لم نذكرهم، وفقهم اللّه تعالى لخدمةِ الدين، ورزقهم عناية وشفاعة المعصومين (بالأدلة القاطعة والبراهين) محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

إدارة

مكتبة ودار مخطوطات

العتبة العباسية المقدسة

ص: 2

مقدّمة التحقيق

اشارة

ص: 3

المؤلف في سطور

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

هو العالم الجليل ،الفاضل النبيل، جامع المعقول والمنقول، ومطبق الفروع على الأصول،الشيخ علي بن الشيخ عبد اللّه بن الشيخ علي بن الشيخ عبد اللّه بن الشيخ علي،الستري أصلاً،البحراني ثمّ اللنجاوي مسكناً ومدفناً.

قال في الأعلام : علي بن عبد اللّه بن علي البحراني نزيل مسقط، فقيه إمامي، ولد في البحرين، وانتقل إلى «مطرح» حيث تقيم الطائفة«الحيدر آبادية»فمكث فيها إماماً ، ثمّ غادرها إلى لنجة ( أحد موانئ إيران الشمالية) فتوفي بها مسموماً. من كتبه«لسان الصدق - ط» و «منار الهدى» فى الإمامة و«الأجوبة العليّة للمسائل المسقطيّة »جمعها تلميذه وابن أخته أحمد بن محمّد بن أحمد بن سرحان البحراني، ورتبها على ترتيب كتب الفقه .وله رسائل في «التقية» و«المتعة» و«التوحيد» (1)

ص: 5


1- الأعلام للزركلي 308:4،وانظر معجم المؤلفين 7: 137 .

ولادته:

من المسلّم أنّ المصنف ولد في بلاد البحرين لكن لم يذكر معاصره الشيخ علي البلادي في أنوار البدرين تاريخ ولادته ولم يذكر مسقط رأسه من أية قرية من قرى البحرين، والمظنون أنه من قرية سترة التي ينسب إليها، وعلى أيّ حال فإنّ نشأته كانت في بلاد البحرين وتعلم فيها(1).

نعم ذكر في مقدّمة تحقيق رسالة«شرح حديث حبنا أهل البيت يكفر الذنوب ويضاعف الحسنات»أنه ولد في قرية مهزة من جزيرة سترة من بلاد البحرين سنة 1256 هجرية(2).

مدحه :

قد مدحه الشيخ علي البلادي في أنوار البدرين وقال : العالم العامل والمجتهد الكامل ، المحقق المجاهد لأعداء الدين والمرابط في سبيل اللّه في الثغر الذي يلي إبليس القوي اللعين، العالم الرباني الشيخ عليّ بن الشيخ عبد اللّه بن الشيخ علي الستري البحراني(3).

قال أيضاً: وسمعت مستفيضاً أن له حافظة عظيمة في التواريخ والحديث والسير والأدب وأشعار العرب وله أشعار رائقة جيدة بليغة، وقد ذكرنا في كتبه أن له ديوان شعر فيه اثنا عشر ألف بيت(4).

ص: 6


1- أنوار البدرين : 236 .
2- مجلة تراثنا 57: 218 .
3- أنوار البدرين: 236.
4- أنوار البدرين: 238 .

ص: 7

ومنهم : ناصر آل أبي شبانة :

ذكر العلامة الطهراني أن الشيخ علي بن عبد اللّه البحراني كان شريك البحث السيّد ناصر آل أبي شبانة،وهو السيّد ناصر بن أحمد بن عبدالصمد آل أبي شبانة البحرانى نزيل البصرة وعالمها المتوفّى بها مناهزاً للتسعين بلا عقب فى شهر رجب سنة 1331 هجرية، ودفن في النجف في مقبرة السيّد محمّد خليفة الذي كان عالم البصرة قبله. له كتاب خصائص المؤمنين(1) .

ومنهم: أحمد بن صالح :

ذكر العلّامة الطهراني أن شيخنا المؤلف كان شريك البحث مع الشيخ أحمد بن صالح آل طعان، وهو الشيخ المحدث أحمد بن صالح آل طعان الستري البحراني القطيفي المتوفى سنة 1315 هجرية له أرجوزة في أصول الفقه(2)، وله أرجوزة الشكوك ذكرها فى أنوار البدرين(3).وله رسالة إقامة البرهان على حلية الاربيان وكان من تلامذة الشيخ الأنصاري(4).

سفراته :

سافر المصنف(رحمة اللّه)من بلاد البحرين وسكن مطرح بعمان في زمان والده،وهدى اللّه به أهل تلك الديار ولا سيّما الطائفة المعروفة بالحيدرآبادية فكانوا ببركته ذوي معرفة ودين وثبات ويقين بعد أن كانوا أصحاب جهل وتهاون

ص: 8


1- الذريعة 7: 904/174 ،نقباء البشر: 1991/1475 .
2- الذريعة 1 :2292/457 .
3- أنوار البدرين 252، الذريعة 1: 3387/481 .
4- أنوار البدرين:252 الذريعة ،1: 1075/263 ،نقباء البشر ،1991/1475 ،فهرست التراث 233:2 .

بالدين، وأقام بها مدة مديدة في غاية الإعزاز والإكرام مشتغلاً بالتصنيف والعبادة والمطالعة والتأليف، متصدياً لأجوبة المسائل وإيضاح الدلائل .

ثمّ بعد ذلك خرج منها وسكن بلدة لنجة من توابع إيران إلى أن أدركه الأجل المحتوم والقضاء المبروم فتوفي بها(1).

مؤلفاته

لمؤلّفنا الشيخ الشهيد علي بن عبد الله البحراني تأليفات أخرى غير كتاب منار الهدى بعضها مطبوع وبعضها مخطوط وبعضها لم يعلم خبره، وإليك أسماء ما عثرنا عليه مرتباً حسب الحروف الهجائية.

1 - الأجوبة العلية

ذكره العلامة الطهراني فى الذريعة وقال : الأجوبة العليّة للمسائل المسقطية للشيخ علي بن الشيخ عبد اللّه بن الشيخ علي الستري البحراني المسقطي المتوفى ببندر لنجة في سنة ،1318 جمعها تلميذه وابن أخته الشيخ أحمد بن محمد بن حمد بن سرحان البحرانى ورتبها على ترتيب كتب الفقه مبدوءة ببعض أصول الدين وفرغ منه في عاشر رجب سنة 1316 هجرية ، ثم علق شيخنا آية اللّه ميرزا محمد تقى الشيرازي المتوفى سنة 1338 هجرية ما هو المطابق لفتاواه على هامش إحدى النسخ المطبوعة بخطه الشريف ثم نقلت تلك الفتاوى عن خطه إلى هامش سائر النسخ(2).

ص: 9


1- أنوار البدرين: 236 .
2- الذريعة 1 : 1454/277 .

2 - أجوبة ثلاث مسائل

فيها أجوبة مسائل ترتبط ببيع العبد المشترك فيه اثنان، أنهاها المصنف بتاريخ 6 شعبان سنة 1302 هجرية، أولها : الحمد للّه ربّ العالمين.. وبعد فقد ورد عليّ من بعض المحبّين سؤال يتضمن ثلاث مسائل.

ونهايتها :قد ذكرنا في مطاوي الجواب مواضع الإجماع والخلاف فليتأمل الناظر فيه(1).

3- أجوبة مسائل بعض المحبّين

فيها أجوبة على خمس مسائل في سبب تحريم تقليد الميت، وفي حجّ المستطيع، وفي معنى الدور والتسلسل، وفي معنى الواحد الحقيقي، وفي معنى قول أمير المؤمنين(علیه السلام): لا من شيء كان ، أنهاها المصنف في 18 صفر سنة 1299 هجرية.

أوّلها : الحمد للّه .. أما بعد فقد كتب إلى بعض المحبين يسألني عن بيان بعض المسائل، ونهايتها:سبحان من لا يعلم كيف هو إلا هو فتفطّن(2).

4 - أجوبة مسائل الشيخ راشد

فيها أجوبة لسؤالات الشيخ راشد بن عزيز البحراني تاريخ تحريرها 24 رجب سنة 1311 هجرية.

أولها: الحمد اللّه المحمود بالاستحقاق والصلاة والسلام على أفضل الخلق على الإطلاق وأكملهم في الخلق والأخلاق .

ص: 10


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 204:1 .
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1: 202 .

و نهايتها: هذا مختصر الجواب عما سألت واللّه الموفق للصواب (1).

5 - تفسير آية (إنّما وليكم اللّه ورسوله ...)

فيها ردّ على من فسّر الآية الشريفة بشمولها لكل راكع مع الاستدلال على اختصاصها بأمير المؤمنين(علیه السلام)، أنهاها المصنف فى 5 صفر سنة 1302 هجرية.

أولها: الحمد للّه .. وبعد فهذه فائدة جليلة في بطلان شبهة المخالفين فيما تأولوه في قوله تعالى...

ونهايتها:ولكنّى تنبهت إليه فى بعض خلواتي التي أستعمل فيها الفكر في توجيه أدلة المسائل الأصليّة والفرعيّة فأثبته هنا (2).

6 - تملك العبيد

فيها استدلال على جواز بيع وشراء العبيد وتملكهم ،كتبها رداً على منع الكنيسة من ذلك مع الاستدلال لذلك بالتوراة والانجيل والقرآن.أنهی المصنف تحريرها في 12 محرّم الحرام سنة 1311 هجرية.

أولها: الحمد اللّه الذي خلق الخلق بمشيته وأتقن صنعهم بحكمته وجعلهم أجناساً وأنواعاً وأشكالاً وأشباهاً بقدرته.

ونهايتها:وأسأل اللّه أن يتقبل مني ما عملته ويمنحني من لطفه ورحمته ما أملته بحق النبي الأمين وآله الطاهرين.

(3)

ص: 11


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1: 208 .
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1 :211 .
3- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 205:1.

7 - جواب مسألة فقهية

فيها جواب مسألة سألها والده الشيخ عبد الله البحراني منه، أتمها في 15 شوال سنة 1286 هجرية.

أولها :الحمد اللّه .. وبعد فهذا جواب مسائل (1)شرفني مولانا ومعتمدنا الوالد آدام اللّه تأييده بتأهيله إياي للجواب عنها.

ونهايتها:وأرجو أن يكون ما كتبته هو الحق وأن يكون مقبولاً عند سيدي الوالد دام مجده(2).

8- جواب مسألة الذهبة

هي رسالة استدلالية أجاب بها المصنف الشيخ عبد اللّه بن أحمد الذهبة حول مسألة لزوم أداء الحاج جميع المراسيم ولو كان مريضاً، أنهاها المصنّف بتاريخ 23 محرم 1299 هجرية.

أولّها : الحمد اللّه كما هو أهله.. أما بعد فإنّي كنت عرفت أجل الأخوان وأخص الأحدان اللبيب الأريب..

ونهايتها :وما أظنك ترتاب في صحة ما قلناه بعد النظر فيما رسمناه ، فإنه واضح بحمد اللّه والحمد للّه رب العالمين(3).

9 - جواز المتعة

هي جواب اعتراض على الإمامية في مسألة الزواج المؤقت من قبل أحد

ص: 12


1- قد تكون: (مسألة) واللّه أعلم.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 200:1.
3- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 201:1.

الهنود الاسماعيلية، وقد وردت الرسالة بصورة قال وأقول، وقد تمت الرسالة في 23 ذي الحجة من سنة 1299 هجرية.

أولها : الحمد للّه كما هو أهله.. وبعد فهذا جواب عن اعتراض أورده رجل من أهل الهند على القائلين بتحليل المتعة.

وآخرها:انتهى كلام المعترض فلنقطع الكلام حامدين الملك العلام،مصلين على خير الأنام محمد وآله الأعلام.

(1)

10 - حد بقاء الجنّة والنار

فيها جواب سؤال حول دوام الجنّة والنار وبقاء أهل الجنة والنار فيهما مستفيداً من الأدلة النقلية والعقلية، أنهاها المصنف في 25 رجب سنة 1304 هجرية .

أوّلها:الحمد للّه الذي وجب له الاتصاف بالقدم وامتنع عليه الحدوث والعدم.

ونهايتها:وتحصيل المآرب بقدر الإمكان، وأستغفر اللّه من التقصير وأسأله إرشادي إلى الصواب في كل باب(2).

11 - حكم السمكة في جوف سمكة أخرى

ذكر المصنف حكم هذه المسألة مع الاستدلال عليه وقد حررها مرة ثانية المصنّف بتاريخ 26 شوال سنة 1303 هجرية.

أوّلها : الحمد للّه ربّ العالمين.. قد كثر ما بين الطلبة في جزيرة أوال من بلاد البحرين الخوض في حكم السمكة إذا رؤيت في بطن سمكة أخرى.

ص: 13


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 200:1.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 210:1.

ونهايتها :ونقصت منه قليلاً على حسب ما اقتضته الحال وأدّى إليه النظر (1).

12 - حلية المتعة

جمع فيه الروايات الواردة من طريق العامة والدالة على حلية الزواج المؤقت،وشرحها شرحاً كافياً مع رد الشبهات الواردة عليه، فهذه الرسالة ألفها جواباً على بعض المستشكلين على الإمامية من العامة، وقد أنهاها في الثاني من صفر المظفر سنة 1284 هجرية.

أوّلها : الحمد للّه حقّ حمده.. أما بعد فإنّ بعض مخالفينا في المذهب من المتسمين بأهل السنة عاب بعض إخواننا.

وآخرها:وتبين الغث من السمين ،ووضح السبيل للسالكين وبان الحق للمنصفين ووهنت شبه المشتبهين والحمد للّه رب العالمين(2).

13 - الرد على المعترض

فيها ردّ على المعترض على إقامة المراسم الحسينية كتبها جواباً لسؤال شخص ساكن في بلاد الهند، أنهاها المصنف في 6 شوال سنة 1306ه.

أولها : الحمد للّه كما هو أهله.. وبعد فقد أتاني كتاب من بعض إخواننا الإماميّة القاطنين في بلاد الهند.

ونهايتها: اكتفيت بما ذكرت من البيان ففيه كفاية لأهل العقول والأذهان (3).

ص: 14


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 205:1.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 199:1،وذكر في الذريعة 66:19 للمصنف رسالة في المتعة برقم 356 .
3- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 206:1 .

والظاهر أن هذه الرسالة هي التي ذكرت في أعيان الشيعة بعنوان رسالة في تحريم التشبيه(1).

14 - الرد على من أحل جميع السمك

فيها ردّ استدلالي على من حلل جميع أنواع السمك، أنهاها المصنف بتاريخ 17 ربيع الأول سنة 1308 هجرية.

أولها: الحمد للّه ربّ العالمين.. فقد سألني بعض المتشيعين من ن من القاطنين بزنجبار عن حكم ما لا فلس له من السمك.

ونهايتها :ولم يهتدوا في ذلك إلى غيرها قصداً منا لتتميم الفائدة باطلاعكم على حقيقة المسألة (2).

15 - الرد على الزنجاني

فيها ردّ على الشيخ علي بن محمد ولي الزنجاني المجيب على الأسئلة الخمس المتقدّمة ، كتبها المصنّف بتاريخ 15 رجب سنة 1299 هجرية.

أولها : الحمد للّه .. وبعد فقد ورد علينا جواب على بعض المسائل من مصادر أصدرناها لإيراد الجواب عنها من جهابذة النقاد.

ونهايتها:وقد ابتدأت بتحرير هذه الأجوبة بعد مطالعة كلام ذلك المولى المبجل والتأمل فيه بلا فصل، وليكن ذلك معه على حسب المناظرة(3).

ص: 15


1- أعيان الشيعة 268:8.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 206:1 .
3- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 203:1.

16 - رسالة عملية في الطهارة والصلاة

وصفها في أنوار البدرين بأنها رسالة عملية حسنة(1).

17 - رسالة فى نفى الاختيار في الإمامة عقلاً ونقلاً

قال في أنوار البدرين :هى حسنة جيدة محكمة الأدلة (2).

18 - رسالة في التقية وأحكامها

ذكرها في أنوار البدرين(3).

19 - رسالة في الفرق بين الإسلام والإيمان

ذكرها في أنوار البدرين(4).

20 - رسالة في بعض مسائل التوحيد

قال في أنوار البدرين:ردّ فيها على بعض السادة من العلماء المعاصرين(5).

21 - شرح ألفاظ من دعاء السجاد (علیه السلام)

فيها شرح ألفاظ أحد أدعية شهر رمضان «أسألك اللهم بحياتك التي لا تموت».

كتبها المصنف في 16 محرم سنة 1299 هجرية.

أولها: الحمد للّه على نعمائه والشكر له على آلائه، والصلاة والسلام على خير أوليائه نبينا محمد وأوصيائه.

ص: 16


1- أنوار البدرين: 238 .
2- أنوار البدرين: 236 .
3- أنوار البدرين : 238 .
4- أنوار البدرين: 238 .
5- أنوار البدرين: 238 .

ونهايتها:وفيما رسمناه كفاية عن التطويل والإكثار ،والحمد اللّه حقّ حمده وصلّى اللّه عليه خير خلقه محمد وآله الطاهرين(1).

22 - شرح بيت شعر للحويزي

فيها شرح بيت شعر للسيد شهاب الموسوي الحويزي في مدح أحد ملوك الحويزة :

يا حادي العشر العقول وباني***الدهر المهول وثالث القمرين

كتبه بطلب سلطان مسقط فى سنة 1306 هجرية.

أولها : الحمد للّه .. وبعد فقد بعث إلى سلطان مسقط يسألني عن معنی بیت فقال : ما معنى قول الموسوي.

ونهايتها :وهو مدح جليل وثناء جميل، وهذا ما سنح بالبال في تفسير البيت وما يتعلق به(2).

23 - شرح حديث نبوي

حوار مع ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ذيل حديث النبي(صلی اللّه علیه وآله): ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأزب، أنهاها المصنف في 28 شوال سنة 1315 .

أولها: الحمد اللّه .. فهذه مناظرة مع الشيخ عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلى في تأويل حديث مشهور بين الأمة.

ونهايتها :وليكن هذا آخر ما نمليه فى هذه الأجوبة السديدة(3).

ص: 17


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 201:1.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 206:1 .
3- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1: 208 .

24 - شرح حديث حبنا أهل البيت يكفر الذنوب

مطبوعة محقّقة بتحقيق مشتاق المظفر، ونسختها في مركز إحياء التراث الإسلامي(1) .

25 - شرح حديثين

فيها شرح الحديث المنقول عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر،وحديث:أوّل ما عصى اللّه به ست.کتبه إجابة لطلب بعض منه وأنهاه 7 شعبان سنة 1302هجرية.

أوّلها : الحمد للّه ملهم الصواب.. وبعد فقد سألني بعض الإخوان عن معنى کلامین مرويين عن النبي(صلى اللّه عليه وآله) للمبتغياً منى الجواب.

ونهايتها :هذا ما بلغ إليه فهمي القاصر في معنى هذا الخبر واقتبسته من إشارات الآيات وفحاوى الأخبار (2).

26 - شرح خطبة لعلى(علیه السلام)

شرح مفصل لكلام أمير المؤمنين(علیه السلام) : من الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً فیالقلوب، مع الأخذ بنظر الاعتبار لما قاله ابن أبي الحديد في شرحه.

أوّلها: الحمد اللّه الخالق الرازق الذي دحى الأرض وبثّ فيها من أصناف الخلائق .

ونهايتها:بقوله(علیه السلام)في الخطبة التي أشرنا إليها في أول الفصل إنّ أمرنا صعب

ص: 18


1- مجلة تراثنا ،206:57،فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 208:1.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 204:1 .

مستصعب لا يعرف كنهه الأملك مقرب ، والنسخة غير تامة في مركز إحياء التراث الإسلامي(1).

27 - شرح لفظ الجلالة

فيها البحث في اشتقاق لفظ الجلالة ( اللّه ) مع إثبات أنه اسم علم للخالق سبحانه وتعالى مع مناقشة لسعد الدين التفتازانى، أنهاها المصنّف في 10 ذي القعدة سنة 1315 هجرية.

أولها: الحمد للّه القديم الأزلي الذي ليس له في وجوب وجوده ثاني، الأحدي الذي لا تلحقه الأحوال ولا المعاني .

ونهايتها: لا بما ذكره التفتازانى من التعليل المردود بما سمعته، وفيه كفاية لمن عرف وأنصف (2).

28 - العقل والحظ

فيها بيان معنى العقل والحظ والفرق بينهما حسب ما تدلّ عليه الآيات والروايات، أنهاها المصنف بتاريخ 15 محرم الحرام سنة 1305 هجرية.

أولها: الحمد للّه قاطر النفوس وواهب العقول الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .

ونهايتها :ونشرنا ما كان فيه من المعاني مطوياً في سابقه، وأسأل اللّه التسديد والإرشاد (3).

ص: 19


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1: 209 .
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1: 210 .
3- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 210:1.

29 - علم اللّه تعالى

فيها جواب السؤال السيد غلام حسين مولوي الهندي حول علم اللّه تعالى مع بعض المباحث حول وجود اللّه وصفاته أنهاها المصنف في 23 جمادي الثاني سنة 1309 هجرية.

أوّلها: الحمد للّه الذي جلّ عن إحاطة العقول بكنه ذاته وتجلّى لذوي الألباب. من عباده مظاهر صفاته.

ونهايتها: هذا ما أردنا إثباته في هذه الأجوبة (1).

وفي كتاب تراجم الرجال ذكرها السيد الحسيني، وقال عن ناسخها: أحمد بن محمد بن أحمد بن سرحان البحراني،كتب نسخة من رسالة علم اللّه تعالى للشيخ علي بن عبد اللّه بن علي البحراني وأتمها في ثامن شوال سنة 1309 وصرّح فی آخرها أنه من تلامذة المصنف(2).

والظاهر أنها نسخة منقولة عن خط المصنف بدليل تأخر زمان نسخها فتأمل.

30 - قامعة أهل الباطل

وهو في الردّ على من حرّم إقامة العزاء للحسين (عليه السلام). قال العلامة الطهراني في الذريعة : وهو للشيخ علي البحراني المعاصر (3)والكتاب يعتمد الحجج العلمية والمنطقية ، استند مؤلّفه في ذلك على نصوص مستخرجة من مصادر معتمدة عند عامة المسلمين، وقد كتبه رداً على أحد مشايخ الحنفية في الهند حين أفتى

ص: 20


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 209:1.
2- تراجم الرجال 129/81:1.
3- الدريعة 17 :89/15، وانظر مجلة تراثنا العدد 29 ص 247 .

بتحريم قراءة مقتل الإمام الحسين(علیه السلام)، وإنشاد مرائيه والبكاء عليه !! كان الكتاب قد طبع لأوّل مرّة طبعة حجرية في الهند سنة 1305ه . كما ألحق المحقق بالكتاب خطبة للسيد على مكى يردّ بها على أحد علماء الشام، ويفند مزاعمه التي ألقاها في كلمة يشنّع بها على الشيعة في إقامة مآتم العزاء على سيد الشهداء الإمام الحسين . ومن المحتمل أنها غير رسالة الردّ على المعترض المتقدم ذكرها التى أنهاها المصنف فى 6 شوال سنة 1306 هجرية.

31 - لسان الصدق

ذكره العلامة الطهراني في الذريعة وقال عنه : لسان الصدق للشيخ المعاصر علي بن عبد اللّه بن علي البحراني ساكن مسقط والمقلد بها ، المتوفى 1318ه وهو رد على كتاب«ميزان الحق»للمبلغ المسيحي، رتبه على مقدمة ومقالات وخاتمة. أوله الحمد للّه الذي تفرّد بالتوحيد... فرغ منه سنة السادسة بعد ألف وثلاثمائة ، وطبع على الحجر في بمباي 1307 في 448 صفحة (1)

وقد ذكر في آخره خاتمة جيدة في الإمامة، وختمه بقصيدة فريدة متضمنة لما قرره في الكتاب ، وهي :

ظهر الهنا وتوالت الفرحات*** وتولت الأسواء والترحات

على الهدى فوق الضلال وأزهرت*** أقماره وتجلت الظلمات

جاء البشير محمد بمحجّة بيضاء*** قد حقت بها البركات

و منار حق زاهر متوقد*** يهدي به في العالمين هداة

ومعاجز بين الورى مشهورة ***غر تزول بحقها الشبهات

ص: 21


1- الذريعة 224/305:18 .

منها كتاب الله أبلغ ناطق ***جاءت مفصلة به الآيات

قد أصبح البلغاء عنه بمعزل ***خرست لهم عن مثله الأصوات

سكنت شقاشقهم وحار بليغهم*** فكأنها قد نالهم إسكات

وغدا خطيبهم المحبر أبكما ***وهم لدى النطق البليغ كفات (1)

32 - مسائل خمس

فيها جواب خمس سؤالات اعتقادية كتبها المصنف لعلماء أهل العراق، أنهاها بتاريخ 28 محرّم الحرام سنة 1299 هجرية.

أوّلها : الحمد للّه رب العالمين .. أما بعد فههنا مسائل مشكلة يحتاج فيها إلى العرض على أولى الفضل

ونهايتها:أجزل اللّه لكم الثواب يوم الحساب، والحمد للّه وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وأهل بيته(2) .

33 - معنى حديث : الرياء شرك وتركه كفر

فيها شرح هذا الحديث وجواب على سؤال حول حديث : من ترك الرياء بقي بلا عمل مع ذكر شواهد من الآيات والروايات، أنهاها المصنف في جمادى الأولى سنة 1302 هجرية.

أولها : الحمد للّه ربّ العالمين.. وبعد فقد ورد على سؤال من بعض الأصدقاء عن معنى الكلام المنسوب إلى الإمام(علیه السلام).

ص: 22


1- أعيان الشيعة 1: 137 وج 8 ص 268 ، معجم المطبوعات العربية 1: 531 .
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 202:1.

ونهايتها: وهذا ما وصل إليه الفهم القاصر في معنى الكلامين، وأستغفر اللّه من التقصير في النظر(1).

34 - نقد أجوبة المسائل

فيها ردّ على أجوبة مسائل خمس كتبها للمصنف السيد مهدي القزويني والشيخ نوح الجعفري النجفي حيث لم تكن أجوبتهما كافية له وقد كتبها بصورة، قال السيد قال الشيخ نوح أنهاها المصنف في 11 رجب سنة 1299 هجرية.

أولها: الحمد للّه الهادي إلى الصواب والواقي من الزيغ والانقلاب والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأطياب.

ونهايتها :حتّى يسر اللّه لنا الرجوع إلى إكمالها وسهل لنا العود إلى تفصيل إجمالها، وللّه الحمد والمنة على كل حال (2).

35 - نسخ الأمر

ذكر المصنف في هذه الرسالة الموارد التي يجوز فيها نسخ الأمر الشرعي قبل حضور وقت العمل، والموارد التي لا يجوز فيها ذلك ، مستنداً في ذلك إلى الأمر يذبح إسماعيل (علیه السلام)في الآية المباركة، أنهاها المصنف سنة 1308 هجرية.

أولها : الحمد للّه حق حمده.. وبعد فهذا توضيح وتبيين لما يصح من وجوه الاستدلال بقوله تعالى حاكياً عن قول إبراهيم خليله .

ص: 23


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 204:1.
2- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 203:1 .

ونهايتها :ولو سبق إليه قائل منا لكنت أعتمده لسلامته من الإيرادات(1).

36 - واسطة العقد الثمين في الصلاة.

ذكره المحقق الطهراني في الذريعة (2).

37 - وجوب الإخفات بالبسملة في الأخيرتين

ذكره العلامة الطهراني في الذريعة وقال عنه : وجوب الإخفات بالبسملة في الأخيرتين لعلى بن عبد الله المهري البحراني من أوائل المائة الرابعة عشرة،وكتب في ردّه أحمد بن صالح البحراني رسالة مرّت بعنوان«رسالة في الجهر »ذ 167:11 (3).

هذا وقد ذكر محقق رسالة فى حبنا أهل البيت يكفر الذنوب المنشورة في مجلة تراثنا كتباً نسبها للمصنّف وهي إعجاز القرآن ورسالة في شرح الحدود في النحو كما نسب للمصنف ديوان شعر يحتوي على اثني عشر ألف بيت (4).

وفاته :

لبى نداء ربِّه الشيخ علي بن عبد اللّه البحراني في مدينة لنجة أحد موانئ إيران الشمالية : مسموماً من قبل أعداء اللّه تعالى، فكان أحد شهداء الفضيلة، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة 1319 هجرية، وقيل في صفر. قال البلادي في أنوار

ص: 24


1- فهرست مخطوطات مركز إحياء التراث الإسلامي 1: 207 .
2- الذريعة 56/11:25 .
3- الذريعة 25: 139/30 .
4- مجلة تراثنا 220:57.

البدرين: سمعت من بعض المطلعين أنّه مات شهيداً مسموماً(1). فكان يومه مشهوداً محزوناً تغمده اللّه بواسع رحمته وحشره مع رسوله المصطفى محمّد و مع إمامه علىّ المرتضى صلوات اللّه عليهما وعلى آلهما.

هذا ما كثر نقله من أصحاب التراجم، وعلى هذا فما ذكره العلامة الطهراني في مواطن من كتاب الذريعة من أن وفاته سنة 1318 هجرية ليس له أصل(2) .

وأما مدفنه فقد قال الشيخ محمد علي آل نشرة في منتظم الدرين:دفن بمقبرة الحرم جنوباً من قرية جدّ على(3).

بلاده البحرين :

قال في معجم البلدان:إن البحرين اسم لجميع البلدان التي تقع على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان،و يظهر من كتاب أنوار البدرين أن البحرين بالمعنى الأخص خاص بجزيرة أوال، وبالمعنى الأعم يكون شاملاً لجزيرة أوال ولمنطقة القطيف وهي الخط، ولمنطقة الأحساء وهي هجر. ولا بأس بأن نتعرض لبيان إجمالي لذلك.

الأولى : جزيرة أوال

هي البحرين بحيث صار علما بالغلبة عليها وإلّا فهى - أي البحرين - تطلق على الجميع أو عليها وعلى كلّما هو واقع على ساحل ذلك البحر، كما أن هجر تطلق

ص: 25


1- أنوار البدرين: 239 .
2- كما في الذريعة 1: 1454/277 وج 19: 356/66.
3- حكى ذلك عن منتظم الدرين في شرح حديث حبنا أهل البيت المنشورة في مجلة تراثنا 220:57.

على الجميع ثمّ صار علماً بالغلبة على بلاد الأحساء، والظاهر أن هذه الغلبة قديمة الاستعمال شائعة ينصرف إليها ذلك الاطلاق.

وأما وجه التسمية والنسبة إلى أوال على وزن جلال فهو أن أوال هذا أخ لعاد ابن شداد أو ابنه قد طلب أرضاً طيبة الهواء جزيرة قابلة للسكنى كأخيه أو أبيه عاد لما طلب أرضاً طيبة الهواء ليبنيها كالجنّة فبنى إرم ذات العماد فوصف له هذه الجزيرة-أعنى البحرين-فرآها جزيرة عظيمة حسنة طيبة الهواء ذات مياه خالية من الهوام والسباع قابلة للتعمير والسكنى واستنباط العيون وغرس النخيل والأشجار فسكنها ومدنها فنسبت إليه(1).

الثانية : القطيف

هي بلاد ( الخط) في السنة المتقدمين والمتأخرين، وإليها تنسب الرماح الخطية، وهى أوسط المدن الثلاث وأقلها حجماً وكثير من قراها القديمة قد خربت بالرمل،وهي أخلصها من شوائب الكدورات والطوائف المتخالفات المتباينات .

وأرضها من أطيب الأرضين جنات تجري من تحتها الأنهار بماء معين وإن عرض عليها ما عرض على غيرها من حوادث البلاء والجور والقلاء إلّا أنّها بالنسبة لهذه الثلاث كقطرة من غدير وقليل من كثير .

الثالثة : الهجر

وهي الإحساء وهي مدينة كبيرة عظيمة من أكبر مدن الإسلام القديمة هجر

ص: 26


1- أنوار البدرين: 44 .

(بفتح الهاء والجيم على وزن صفر) تغلبياً وينسب إليها رشيد الهجري الذي هو من خواص أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام)وسيّد المسلمين ومن حملة أسراره.

وهذه المدينة تقارب جزيرة أوال أو تزيد،ذات الأترج والنخيل والأرز والقطن، وتمرها أجود تمر يوجد، وهذه بلاد برية يتكلف أهلها في أسفارهم ونقل غلاتهم وبلوغ أوكارهم بسبب البر ومهامه الوعر وغارات الأعراب والنهب والاستلاب فكثيراً ما يقع في طريقها نهب الأموال وقتل الرجال فقد لعبت بأهلها أيدي الحدثان من النهب والجور والعدوان .

وبندرها المجاور للبحر العجير ( بالتصغير على وزن عمير)مسير يومين عنها أو أكثر وفيها آثار قديمة ومن أقدم قراها جوانا، وهي قاعدة بلاد الأحساء في الزمن القديم، خربها الرمل .

وفيها الجبل المشهور المعروف بجبل القارة من عجائب الدنيا، فيه مغارات كثيرة عظيمة تسع بعض المغارات خلائق كثيرة جسيمة ليس فيه شيء من هوام الأرض وحشراتها أصلاً حتى النمل، ومن خواصه البرودة العظيمة في الصيف حتى أن النائم فيه يحتاج إلى غطاء وبالعكس في شدة البرد من الشتاء، وبالجملة فهذه المدينة من أكبر وأحسن مدن الإسلام، ولذا تسمى كوفة العرب ذات الهواء الطيب والماء العذب (1).

فضل البحرين على البلدان

تمتاز البلدان بعضها على بعض بما يعرض لها ويجري عليها من أحداث ،فمكّه المكرمة مثلاً نالت الفضل والكرامة لكونها أرض الوحي وأرض الأنبياء

ص: 27


1- أنوار البدرين: 382.

والرسل(علیه السلام)، والمدينة المنورة نالت الفضل لاتخاذ رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)إيّاها مقراً له بعد أن أصابه ما أصابه من قريش. وهذا الأمر جارٍ في بقية البقاع المقدّسة وواضح أسرار ذلك ، وأما بلاد البحرين فنذكر لك ما امتازت به على بقية البلدان :

الأولى: نقل الشيخ أحمد بن الشيخ صالح البحراني - قدس اللّه نفسه ونوّر رمسه - وأسنده أنه لما أمر اللّه رسوله محمداً المصطفى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالهجرة من مكة بعد موت عمه وكافله سيّد البطحاء بيضة البلد أبي طالب وتظاهر المشركين عليه نزل عليه الأمين جبرئيل(علیه السلام)من الرب الجليل وخيّره في الهجرة إلى البحرين أو فلسطين أو المدينة فترك(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)البحرين من أجل البحر، وترك فلسطين لبعدها، واختار المدينة لقربها من مكة، انتهى(1).

الثانية : أنّها أسلمت للنبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)طوعاً بالمكاتبة كما ذكره جملة من أهل التواريخ والسير من الخاصة والعامة، حتى إن الفقهاء صرحوا في كتبهم الفقهية في أحكام الموات بأن البحرين حكمها حكم المدينة لأنهما أسلما طوعاً لا عنوة. قال شيخنا الشهيد الثاني : وكلّ أرض أسلم عليها أهلها طوعاً كالمدينة المشرفة والبحرين وأطراف اليمن فهي لهم على الخصوص يتصرفون فيها كيف شاؤوا وليس عليهم فيها سوى الزكاة مع اجتماع الشرائط، انتهى(2).

روى الشيخ في التهذيب في الموثق عن سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال إلى أن قال : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(3) .

ص: 28


1- حكاه في أنوار البدرين: 21 .
2- الروضة البهية 139:7.
3- التهذيب133:4 ح 373.

وقضيّة دخول الإسلام لبلاد البحرين أنّه في السنة الثامنة من الهجرة أرسل رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)العلاء بن عبد اللّه الحضرمى إلى أهل تلك البلدان بالدخول في الإسلام أو قبول الجزية، وكتب بذلك إلى المنذر بن ساوي وإلى مرزبان هجر ولما وصل كتاب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى هذين الاثنين اللذين هما رئيسا تلك الولاية دخلا في الإسلام وكذلك جميع العرب الذين معهما وبعض العجم وأهل القرى والزراعة من المجوس واليهود والنصارى صالحوا على نصف غلتهم من الزراعة والتمر وبقوا على مذاهبهم.

والعلاء في ذلك العام أرسل إلى النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من مال تلك الولاية ثمانين ألف دينار وبعد ذلك عزل رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)العلاء وولى أبان بن العاص وسعيد بن أمية وبقيا إلى وقت وفاة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فلما ولى أبو بكر عزله وولى مكانه العلاء أيضاً، ولمّا كان في زمان عمر عزله وولّى أبا هريرة فلما ولي ذلك المكان حصلت منه خيانة عظيمة في الأموال التي قبضها(1).

وروى محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : استعملني عمر بن الخطاب على البحرين فاجتمعت لي اثنا عشر ألف دينار، فلمّا قدمت إلى عمر قال لي: يا عدو اللّه وعدو المسلمين (أو قال وعدو كتابه)سرقت مال اللّه قال، فقلت : لست بعد و اللّه والمسلمين، ولا عدو كتابه، ولكنني عدو من عاداهم، قال: فمن أين اجتمعت لك هذه الأموال ؟ فقلت : خيل لي تناتجت وسهام اجتمعت ، قال : فأخذ مني اثني عشر ألف دينار(2).

ص: 29


1- معجم البلدان 348:1، فتوح البلدان 1: 95 .
2- الطبقات الكبرى 335:4،تاريخ مدينة دمشق 17: 371 .

الثالثة:ومن فضائلها أنّه أقيمت فيها أوّل جمعة بعد المدينة المنورة في زمن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في جوانا(1)في بني عبد القيس، وهي قاعدة هجر، وكانت في الزمن القديم مدينة الأحساء ثم خربها الرمل، وأخبرني بعض المترددين إليها من أهل هجر أنه وصل إليها ثلاث مرات خير وأنه قد ظهر مسجدها الأعظم بعد مفارقة الرمل عنه وبعض آثارها وفيه وفيها آثار قديمة عظيمة وهي الآن نائية عن العمران بمقدار ثلاثة أو أربعة فراسخ معروفة عند أهل ذلك المكان.

وهذه فضيلة عظيمة وكرامة لأهلها جسيمة لامتثال أهلها بأعظم فرض من فروض الدين وإقامته فيها قبل أكثر بلاد المسلمين.ومن فضائلها كثرة بناء المساجد وتعميرها فيها ونشر شعائر الإسلام والإيمان في جميع نواحيها(2).

البحرين وأهل البيت(علیهم السلام)

القاطنون بلاد البحرين من الموالين لأهل بيت النبي محمد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وتشيع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والأحساء من قديم الزمان إلى هذه الأيام ظاهر شايع ،ومنشأ ذلك شمول اللطف الإلهي لأهل تلك الديار وكان في مبدأ الإسلام مدة مديدة عامل تلك الديار أبان بن سعيد بن العاص(3)وكان من محبّي أهل البيت(علیهم السلام)، وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر مع بني هاشم (4)وفي زمان ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)لجعل حكومة تلك الديار - على ما في كتاب ( تحفة الأحباب) مذكور - لعبد اللّه بن العبّاس بن عبد المطلب، وبعض الأوقات لعمرو

ص: 30


1- في معجم البلدان 2: 174 جواثاء حصن لعبد القيس بالبحرين.
2- أنوار البدرين :39 .
3- الطبقات الكبرى 4: 360.
4- حكاه في معجم رجال الحديث 30/141:1 عن المجالس.

بن أم سلمة زوجة النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وهو ربيب رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)(1)وكان ممتازاً على غيره في العلم والعبادة والعقل وطيب الطينة وصفاء السريرة وفي ذلك المكان قرر أحقية أمير المؤمنين(علیه السلام)بالخلافة وبيعة الغدير ونفي الشك والشبهة في ذلك(2).

مؤلفات علماء البحرين في الإمامة

برز في البحرين علماء كثيرون أغنوا المكتبة الإسلامية في شتى أنواع المعارف، فكان لهم دور كبير في نمو وتطوّر حركة الثقافة الإسلامية وانتشارها فى البلاد،ولما كان كتابنا هذا خاصاً بمبحث الإمامة رأينا من المناسب أن نبين هنا دور علماء البحرين في تبيين وإبراز هذه المسألة العظمى وأن تذكر بعض المصنفات التي ألفت من قبلهم في إحقاق الحق وإبرازه مرتبة حسب الحروف الهجائية.

1 - إثبات الوصية:للسيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد الحسيني التوبلي الكتكاني البحراني، المتوفى سنة 1107ه(3).

2 - احتجاج المخالفين العامة على إمامة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (علیه السلام)العامة:للسيد هاشم بن سليمان البحراني المتقدّم، فرغ منه سنة 1105ه(4).

3 - الأربعون حديثاً في الإمامة من طرق العامة:للشيخ سليمان بن عبد اللّه الماحوزي،المتوفى سنة 1121ه، يأتي بعنوان مدارج اليقين في شرح الأربعين.

ص: 31


1- حكى ذلك النمازي في مستدركات علم رجال الحديث 6: 10934/73 .
2- أنوار البدرين: 27.
3- أنظر الذريعة 1: 111، ريحانة الأدب 1: 233 .
4- أنظر رياض العلماء 5: 303 الذريعة 1: 283 .

4 - أرجوزة في الإمامة : للشيخ عبد اللّه بن معتوق القطيفي، المتوفى سنة 1362ه(1).

5 - أرجوزة في الإمامة : للسيد ناصر بن أحمد بن عبدالصمد الموسوي البحراني ، المتوفّى فى البصرة سنة 1331ه(2).

6 - استقصاء النظر في إمامة الأئمة الاثنى عشر : لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني ، المتوفى سنة 679ه(3).

7 - الإمامة:للشيخ أبي الحسن سليمان بن عبد الله بن علي بن الحسين الماحوزي المتوفى سنة 1121ه نسخة منه في المكتبة الحسينية في النجف الأشرف، وهو غير كتابه الأربعون حديثاً في الإمامة (4).

8- الإمامة : للشيخ علي بن عبد الله بن علي المهزي البحراني، المتوقى سنة 1319 ه وهو كتاب منار الهدى الماثل بين يديك.

9 - الإمامة : للشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، المتوفى سنة 679ه . ذكر في «كشف الحجب»بعنوان : رسالة في الإمامة (5).

10 - الإمامة : للشيخ محمد بن علي بن عبد النبي بن محمد الحقابي البحراني ،كان حياً سنة 1150 ه(6).

ص: 32


1- انظر الذريعة 37:26.
2- أنظر شعراء الغري 299:12،معارف الرجال 180:3،الذريعة 1: 463 .
3- أنظر كشف الحجب والأستار: 43، الذريعة 32:2،مرآة الكتب 38:2، إيضاح المكنون 1: 72، تاريخ البحرين المخطوط : 188 .
4- أنظر الذريعة 2: 327 فهرست آل بابويه وعلماء البحرين : 17 و 78.
5- أنظر كشف الحجب والأستار: 238، الذريعة 338:2.
6- أنظر الذريعة 267:17.

11 - الإنصاف فى النصّ على الأئمة الاثنى عشر من آل محمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)= الإنصاف النصّ على الأئمة الأشراف من آل عبد مناف : للسيد هاشم البحراني ، المتوفى سنة 1107ه، نسخة منه في مكتبة آية اللّه المرعشى بقم، برقم 2119 في 117 ورقة،ونسخة منه في مكتبة الحسينية في مكتبة الحسينية في النجف الأشرف. طبع في قم سنة 1386ه(1).

12 - البهجة المرضية في إثبات الخلافة (الولاية)والوصية : للسيّد هاشم البحراني المتوفى سنة 1107ه(2).

13 - بهجة النظر في إثبات الوصايا والإمامة للأئمة الاثني عشر:للسيّد هاشم ابن سليمان الكتكاني البحراني، استخرجه من كتابه «حلية الأبرار»، نسخة في المكتبة الرضوية برقم 409، في 52 ورقة، سنة 1101ه(3).

14 - التحفة البهية في إثبات الوصيّة : للسيّد هاشم البحراني ، نسخة منه في المكتبة الرضوية برقم 412 ، في 186 ورقة سنة 1101ه. احتمل الشيخ الطهراني في الذريعة : اشتراك هذا الكتاب مع كتابي المصنف : إثبات الوصية، والبهجة المرضية (4)

15 - تفضيل الأئمة : فيه تفضيلهم على الأنبياء الذين كانوا قبل جدهم النبيّ

ص: 33


1- انظر مرآة الكتب71:3، الذريعة 398:2و 179:24،ريحانة الأدب 233:1فهرس مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي 131:6،أمل الآمل 303:2 .
2- أنظر ريحانة الأدب 1: 233، الذريعة 164:3، كشف الحجب والأستار: 90، مرأة الكتب 2: 110 تاريخ البحرين المخطوط : 167 .
3- أنظر الذريعة 3: 164 و 26: 113 فهرس الرضوية 37:5- 38 رياض العلماء 5: 301 .
4- أنظر فهرس الرضوية ،40:5.الذريعة 162:26، مرآة الكتب 133:2.

الخاتم(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الذي هو أشرف جميع الخلائق وأفضلهم، للسيد هاشم البحراني، المتوفى سنة 1107ه(1).

16 - تفضيل علىّ(علیه السلام)على أولى العزم من الرسل : للسيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل التوبلي الكتكاني البحراني، المتوفى سنة 1107ه(2).

17 - حديث الولاية في حديث الغدير :للسيّد مهدي بن علي الغريقي البحراني النجفي ، المتوفى سنة 1343ه(3).

18 - حلية النظر في إمامة الأئمة الإثني عشر:للسيّد هاشم بن سليمان الكتكاني البحراني ، المتوفى سنة 1107ه (4).

19 - رسالة في الإمامة: للسيد درويش الغريفي البحراني ، المتوفى بشيراز سنة 1204ھ(5) .

20 - رسالة في الإمامة: للشيخ عبدالجبار الرفاعي البحرائي، المتوفى سنة : 1200ه(6).

21 - رسالة في الإمامة:للسيد ناصر بن هاشم بن أحمد بن الحسين الموسوي الأجسائى( 1291 - 1358ه) مطبوعة(7).

22 - رسالة في توجيه جواب علىّ(علیه السلام)لمّا سأله اليهودي : كم يعيش وصي

ص: 34


1- أنظر الذريعة 358:4.
2- انظر ريحانة الأدب 233:1،الذريعة 360:4.
3- أنظر الغدير 157:1.
4- أنظر كشف الحجب والأستار :202.
5- أنظر تاريخ البحرين المخطوط : ص 263 .
6- أنظر تاريخ البحرين المخطوط: ص 265 .
7- أنظر الذريعة 111:11.

محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعده ؟ فقال (علیه السلام): ثلاثين سنة لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً، للشيخ محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور البحراني المتوفى سنة 1257ه(1).

23 - رسالة في العصمة والرجعة:للشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي المتوفى سنة 1241ه. كتبها في جواب سؤال محمّد علي بن ميرزا بن فتح علي شاه في مجموعة من رسائله وتاريخ كتابتها سنة 1241ه. نسخة منها بخط تلميذه الشيخ مهدي بن أحمد ونسخة أخرى فى كتب السيد خليفة (2).

24 - رسالة في قوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) : «اللهم ارحم خلفائي»: للشيخ موسى بن محمد بن

يوسف آل عصفور البحراني، المتوفى سنة 1236ه(3).

25 - رسالة في قوله تعالى: «إنَّما وليكم اللّه و...». للشيخ محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور البحراني، المتوفى سنة 1257ه(4).

26 - الرشحات في التوحيد والنبوة والإمامة : للسيّد محمّد مهدي بن علي بن محمّد البحراني المتوفى سنة 1343ه(5).

27 - الشهاب الثاقب في ردّ النواصب : في الإمامة وإثباتها لأمير المؤمنين والأئمة من أولاده(علیه السلام)، للشيخ محمّد بن عبد علي آل عبد الجبار البحراني القطيفي(6).

ص: 35


1- أنظر تاريخ البحرين المخطوط : ص 248 .
2- انظر الذريعة 274:15.
3- أنظر تاريخ البحرين المخطوط : 224 .
4- أنظر تاريخ البحرين المخطوط : 249 .
5- أنظر شعراء الغري 10: 133 .
6- أنظر الذريعة 14: 251.

28 - شوارع الرواية إلى مشارع الهداية :للسيّد مهدي بن علي الغريفي البحرانى النجفى ، المتوفى سنة 1343ه. في ثلاثة أجزاء صغار كان الجزءان الأولان من كتبه بخطه، مرتباً على ثلاث مراحل، في كل مرحلة شوارع،وفي كل شارع طرق،وخاتمة في طرق حديث الغدير،وبملاحظة عناوينه سماه«شوارع الرواية»(1).

29 - غاية المرام وحُجَة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام : للسيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل البحراني ، المتوفى سنة 1107ه. طبع في طهران، سنة 1272ه(2).

30 - القبسة النورانية في شرح الخطبة الشقشقية : للسيد هادي بن الحسين الحسيني الصائغ البحراني المولود سنة 1302ه(3).

31 - كتاب ضخم في الإمامة :للسيد ناصر بن هاشم بن أحمد الأحسائي المتوفى سنة 1358ه(4).

32 - كشف المهم في طرق خبر غدير خم: للسيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل البحراني المتوفى سنة 1107ه. نسخة منه في المكتبة الرضوية بمشهد ،برقم 685 ، في 43 ورقة، تاريخها 1101ه(5).

ص: 36


1- أنظر الذريعة 237:14 .
2- أنظر الذريعة 21:16، ريحانة الأدب 233:1، إيضاح المكنون 141:2فهرس مخطوطات مكتبة آية اللّه المرعشى 285:3- 286 ، كشف الحجب والأستار: 391 .
3- أنظر الذريعة 36:17.
4- أنظر شعراء الغري 309:12 .
5- أنظر الذريعة 64:18،فهرس الرضوية 5: 157 .

33 - مدارج اليقين في شرح الأربعين حديثاً في الإمامة من طرق العامة : للشيخ أبي الحسن سليمان بن عبد اللّه بن علي الماحوزي البحراني المتوفى سنة 1121ه. نسخة منه في مكتبة الشيخ أحمد بن صالح الطعان البحراني وأخرى في مكتبة الشيخ عباس القمي . وثالثة عند السيد نصر اللّه التقوي في طهران(1).

34 - مدينة المعاجز - مدينة المعجزات فى النص على الأئمة الهداة:للسيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل البحراني المتوفى سنة 1107ه طبع في طهران سنة 1271ه، وسنه 1291ه، وسنه 1300ه .

35 - مناظرة الشيخ محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي مع الهروي : وهي ثلاثة مجالس، الأوّل في إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)وما يتعلق بها، وقد ترجمها السيد نور اللّه الشوشتري في مجالسه ، نسخة منه فی مجلس الشورى بطهران (2).

36 - النجاة يوم القيامة في الإمامة : للشيخ ابن ميثم البحراني ، كمال الدين ميثم ابن علي بن ميثم، المتوفى سنة 679ه، نسخة منه في المكتبة الرضوية، رقم 8041 ،تاریخها سنة 852ه(3).

37 - النصّ الجلي في إمامة أمير المؤمنين علي(علیه السلام): السيد هاشم البحراني

ص: 37


1- أنظر الذريعة 1: 418، وج 238:20، ريحانة الأدب 238:5،تاريخ البحرين (المخطوط) ،للشيخ محمد علي آل عصفور: 157 فهرست آل بابويه وعلماء البحرين: 16 و 78.
2- أنظر كشف الحجب والأستار: 553 - 554 مرأة الكتب 12:2 ،فهرست مكتبة مجلس الشورى 824:10.
3- أنظر فهرست آل بابويه وعلماء البحرين: 69 تاريخ البحرين المخطوط: 188، إيضاح المكنون 625:2،الذريعة 61:24،كشف الحجب والأستار: 577، مرآة الكتب 118:4.

38 - نهاية الآمال فيما يتم به تقبل الأعمال من الإيمان والإسلام والولاية ودعائمها:للسيد هاشم بن سليمان البحراني، نسخة منه في المكتبة الرضوية وأخرى في المكتبة التسترية(1) .

39 - نهج المحجّة : في فضائل الأئمة وإثبات حقهم وغصب غيرهم وبدع الناصبين المبتدعين.للشيخ علي نقي بن أحمد الأحسائي، المتوفى سنة 1346ه. فرغ منه سنة 1335ه(2).

40 - الهداية في إثبات الإمامة والولاية : لعبد اللّه بن فرج آل عمران القطيفي ،طبع في النجف الأشرف 1379ه(3).

41 - الهداية القرآنية إلى الولاية الإمامية: تفسير للآيات القرآنية بالمأثور عن أهل البيت(علیه السلام)في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده(علیهم السلام) ، للسيد هاشم بن سليمان البحراني، المتوفى سنة 1107ه.

42 - هداية المستبصرين الراجعين إلى إمامة أمير المؤمنين: للسيد هاشم البحراني .

43 - هداية المضل في الإمامة:للسيد مهدي بن علي الغريفي البحراني : المتوفى سنة 1343ه(4) .

ص: 38


1- أنظر الذريعة 393:24و 395 .
2- انظر الذريعة 424:24،مرآة الكتب 159:4 .
3- أنظر الذريعة 186:25- 187 ، مرآة الكتب 169:4، وفيه سماه:الهداية في تحقيق الخلافة وأنّالأرض لا تخلو من حجّة.
4- أنظر الذريعة 196:25، شعراء الغرى 132:10 .

نحن والكتاب

اسم الکتاب

ذكر أصحاب التراجم صوراً متعددة لاسم الكتاب فذكر بأنه منار الهدى في إثبات النصّ على الأئمة الاثنى عشر النجباء.

وذكر بأنه منار الهدى في إثبات إمامة أئمة الهدى الاثني عشر وذكر بأنه كتاب الإمامة(1).

قال العلامة الطهراني في الذريعة:منار الهدى في إثبات إمامة أئمة الهدى من كتب العامة في مجلد كبير في 379 صفحة، للشيخ المعاصر علي بن عبد اللّه البحراني،المتوفى سنة 1319.ألفه سنة 1295 هجرية،وأخرجه إلى البياض سنة 1296 ، رتبه على مقدّمة وفصلين، وهو مطبوع في بمباي سنة 1320 هجرية،وطبع في آخره فهرس تفاصيل مطالبه،وعليه تقريظ ابن أخته الشيخ أحمد بن محمد بن سرحان البحراني وتاريخه:منار الهدى يشفى الصدور ويبهر(2).

وذكره أيضاً في مكان آخر وقال:الإمامة للشيخ علي بن عبد اللّه بن علي المهزي البحراني نزيل مسقط المتوفى سنة 1319 هجريّة اسمه منار الهدى مطبوع(3).

وقد امتاز هذا الكتاب عن بقيّة الكتب المؤلّفة في الإمامة بالتزامه طريقة الفقهاء النقض والإبرام،والكر والفرّ، وكان مدّ نظره كلام ابن أبي الحديد في شرح البلاغة والقوشجي صاحب شرح تجريد الاعتقاد، فقد ناقشهما المصنّف

ص: 39


1- معجم التراث الكلامي 5: 11470/249 .
2- الذريعة 6885/244:22.
3- الذريعة 330:2.

مناقشة دقيقة أزال فيها الرين والشكّ والشبهة وكشف فيها حقائق مسألة الإمامة، ولهذا فإنّه إذا دقق المنصف في هذا الكتاب وطالعه مطالعة جيدة فإنه لا محالة له من اتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام).

وعليه فإن هذا الكتاب جدير بأن يدخل في المناهج الدراسية المختصة بعلم الكلام، فالمرجو من الأخوة المعنيين والمهتمين بهذا المجال أخذ هذه المسألة يعين الاعتبار.

وقد مدح الكتاب في أنوار البدرين بقوله:منار الهدى في إثبات النصّ على الأئمة الأمناء تعرّض فيه لنقض كلام ابن أبي الحديد المعتزلي وأصحابه ولردّ كلام القوشجي في شرح التجريد وأضرابه من معتزلة وأشاعرة، وهو كتاب جليل ومصنف عديم المثيل، محكم الدليل هاد إلى سواء السبيل يستحق أن يكتب بالتبر على الأحداق ، لا بالمداد على الأوراق، كما لا يخفى على أولي الفضل والحذاق، وقد قلت فيه مادحاً وله مقرّضاً نصرة للحق وأهله وتقرباً الله ورسوله وآل رسوله وإن لم أجتمع بصاحبه:

هذا منار الهدى حقاً وذا علمه ***هذا لسان الهدى حقاً وذا قلمه

فالزم محجّته واسلك طريقته ***تلق النجاة يقيناً حين تلتزمه

فالحق نور عليه للهدى علمٌ*** مَنْ أمَّهُ مستنيراً قاده علمه

ولنا عليه أيضاً تقريط آخر في أبيات جيدة تقارب عشرين بيتاً ذكرناها في كتابنا المسمى ب( جنّات تجري من تحتها الأنهار) في المناظيم العلمية والمدائح والمراثي وسائر الأشعار(1).

ص: 40


1- أنوار البدرين: 236 .

ولما كان هذا الكتاب في غالبه متعرضاً لابن أبي الحديد المعتزلي وللقوشجي، لا بأس أن نتعرّض لترجمة مختصرة لهما.

الاوّل: ابن أبي الحديد :

هو عزّ الدين أبو حامد بن هبة اللّه بن محمّد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني ، كان فقيهاً أصولياً ، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلماً جدلياً نظاراً على مذهب الاعتزال، وعليه جادل وناظر، وكان أديباً ناقداً، خبيراً بمحاسن الكلام ومساوئه، وكتاب الفلك الدائر على المثل السائر دليل على رسوخ قدمه في نقد الشعر، وفنون البيان كما كان متقناً لعلوم اللسان، عارفاً بأخبار العرب جامعاً لخطبها ومنافراتها .

ولد في المدائن في غرة ذي الحجة عام 586ه ، ونشأ بها، وتلقى على شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية فيها ، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها، وكان الغالب على أهل المدائن التشيع، فتشيع مثلهم ، وحينما انقضت أيام صباه خف إلى بغداد - حاضرة الخلافة - واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب ، ثمّ جنح إلى الاعتزال، وأصبح - كما يقول صاحب نسمة البحر - معتزلياً جاحظياً في أكثر شرحه لنهج البلاغة، بعد أن كان شيعياً.

وفى بغداد نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين - وكانوا يضطهدون آل بيت الإمام على(علیه السلام)فأخذ ابن أبي الحديد جوائز بني العباس، ونال عندهم سني المراتب، ورفيع المناصب ، فكان كاتباً في دار التشريفات، ثم في الديوان، ثم ناظر البيمارستان، وأخيراً فوض إليه أمر خزائن الكتب في بغداد إلى أن مات في عام 656ه على رأي وعام 655ه على رأي آخر، وذكر ابن الفوطي أنه أدرك سقوط بغداد عام 656ه.

ص: 41

وأهم مصنفاته: 1 - الاعتبار على كتاب الذريعة في أصول الشريعة . 2 -انتقاد المستصفى للغزالي.3 -الحواشي على كتاب المفصل في النحو، 4 - شرح المحصل للإمام فخر الدين الرازي .5 - شرح مشكلات الغرر لأبي الحسن البصري في أصول الكلام . 6 - ديوان شعره 7 - شرح الياقوت لابن نوبخت في الكلام . 8 - الفلك الدائر على المثل السائر - ألفه باسم الخليفة المستنصر. 9 - نقض المحصول في علم الأصول للإمام فخر الدين الرازي(1).

الرادون على ابن أبي الحديد

ولما كان ابن أبي الحديد قد أظهر أفكار الاعتزال في شرحه لنهج البلاغة فقد تصدّى جماعة من العلماء لنقده ورده نذكر منهم:

الأوّل: العلّامة السيد جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن طاوس الحلي صاحب البشرى وغيره المتوفى سنة 673 هجرية. ألف كتاب الروح في النقض على ابن أبي الحديد(2).

الثاني:الشيخ علي بن حسن البلادي البحراني المتوفى سنة 1340 هجرية،ألف كتاب الردّ على ابن أبي الحديد(3).

الثالث : الشيخ محمود بن عبد اللّه بن يونس الملاح من أهل الموصل المتوفى سنة 1389 هجرية له كتاب تشريح شرح نهج البلاغة طبع سنة 1954 في بغداد (4).

ص: 42


1- تلخيص مجمع الآداب 4 ق 1 ص 190 الرقم 235 ،سير أعلام النبلاء 23 :265/372، الکنی والألقاب 193:1.
2- الذريعة 11: 1586/260، أمل الآمل 30:2.
3- أنوار البدرين:272 ،مصادر نهج البلاغة 219:1 .
4- الأعلام 177:7.

الرابع : الشيخ طالب حيدر ألف كتاباً في الرد على ابن أبي الحديد (1).

الخامس : الشيخ محسن بن شريف بن عبد الحسين الجواهري المتوفى سنة 1355 هجرية، ألف كتاب الرد على ابن أبي الحديد (2).

السادس: المحدث الشيخ يوسف البحراني المتوفى سنة 1186 هجرية صاحب كتاب الحدائق الناضرة ألف كتاب سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد والردّ عليه في شرحه لنهج البلاغة، وقدم له مقدمة شافية في الإمامة تصلح أن تكون كتاباً مستقلاً، خرج منه جزآن (3).

قال المحدّث الطهراني في الذريعة :سلاسل الحديد لتقييد ابن أبي الحديد، ورده فيما ذكره في شرح النهج للشيخ الفقيه يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني نزيل الحائر الحسيني والمتوفى بها سنة 1186 هجرية، ذكر في أوّله مقدّمة شافية في الإمامة وهي بنفسها تصلح لأن تكون كتاباً مستقلاً في الإمامة والخلافة ، ثم ذكر جميع ما في الشرح مما يتعلق بمباحث الإمامة وتعرض لما فيها من الفساد والخلل مفصلاً، وجملة الكتاب في مجلدين خرج قليل من ثانيها بعد إتمام المجلد الأول،وإنما لم يتم الثاني لاشتغاله بتأليف«الحدائق» كما ذكر جميع ذلك في«اللؤلؤة»، أوّله (الحمد للّه الذي جعل حب السادة الأشباح ومفاتيح دار الفلاح غذاء القلوبنا في عالم الأرواح) رأيته في كتب السيد خليفة واشتراه الميرزا محمد الطهراني نزيل سامراء لمكتبة الطهراني بسامراء التي وقفت بعد وفاته (4).

ص: 43


1- مصادر نهج البلاغة 1: 220 .
2- الأعلام للزركلي 5: 287، شعراء الغربي 7: 243 .
3- مقدمة كتاب الحدائق.
4- الذريعة 12 :1395/210 .

الثاني: علاء القوشجي :

هو علي بن محمّد القوشجي ، علاء الدين فلكي رياضي،من فقهاء الحنفية.

أصله من سمرقند.كان أبوه من خدام الأمير«ألغ بك» ملك ماوراء النهر، يحفظ له البزاة، ومعنى القوشجي في لغتهم لغتهم حافظ البازي وقرأ المترجم على الأمير ألغ بك-وكان ماهراً في العلوم الرياضية - ثمّ ذهب إلى بلاد كرمان فقرأ على علمائها، وصنف فيها شرح التجريد للطوسي وعاد وكان ألغ بك قد بني رصداً بسمرقند، ولم يكمل ، فأكمله القوشجي .

ثمّ رحل إلى تبريز فأكرمه سلطانها الأمير حسن الطويل وأرسله في سفارة إلى

السلطان محمّدخان سلطان بلاد الروم ليصلح بينهما ، فاستبقاه محمّد خان عنده، فألف له رسالة في الحساب ورسالة في علم الهيئة فأعطاه محمدخان مدرسة«أيا صوفية» فأقام بالآستانة وتوفي فيها.

وله:حاشية على أوائل حواشي الكشاف للتفتازاني وعنقود الزواهر في الصرف، وحاشية على شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في الوضع وكتب أخرى بالعربية والفارسية(1).

الرادون على القوشجي

قد ذكرنا أن للقوشجى شرحاً على تجريد الاعتقاد للشيخ خواجة نصير الدين الطوسي وأنّه في هذا الكتاب ناقش الخواجة وأظهر عقائد مذهب الأشاعرة وقد تصدّى جماعة من العلماء لنقده نذكر منهم :

ص: 44


1- معجم المؤلفين 227:7، معجم المطبوعات العربية 2: 1530 هدية العارفين 1: 736 الأعلام للزركلي 5: 9 .

الأوّل: السيد فخر الدين محمد بن الحسين الحسيني الاسترآبادي السماكي كتب حاشية على الشرح الجديد للقوشجي إلى آخر المقصد الرابع.

الثاني : كمال الدين حسين بن عبد الحق الأردبيلي المتوفى سنة أربع وتسعمائة ،كتب حاشية على شرح التجريد القوشجيّة.

الثالث : أحمد بن محمد الأردبيلي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة له حاشية على شرح التجريد،ذكرها المولى المجلسي في البحار، وهي على مبحث الإلهيات، وقال السيد إعجاز فى كشف الحجب والأستار:ورأيت أنا بعض حواشيه على مبحث الإمامة.

الرابع: القاضي نور اللّه بن شريف الشوشتري المستشهد سنة تسع عشرة بعد الألف المدفون في أكره، وهي على مبحث المعاد والإمامة ومبحث الأعراض وغيرها.

الخامس: صدر الدین محمّد بن إبراهيم الشيرازي المتوفّى سنة خمسين بعد الألف بالبصرة حين توجهه إلى الحج، أكثر فيه النقل عن كمال الدين ميثم بن علي البحراني سيما في مباحث الجواهر والأعراض(1).

وغيرهم ممن تصدّى لنقد كلام القوشجي في حاشيته على شرح التجريد .

ص: 45


1- كشف الحجب والأستار: 177 - 179 .

نسخ الكتاب

اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب الشريف على نسختين :

النسخة الأولى : النسخة المطبوعة على الحجر وقد قام بطبعها الحاج الشيخ علي المحلاتي الحائري والتاجر محمد بن عبد العزيز بن محمد بن كادوه .وكان طبعها في مطبعة كلزار حسني الكاين في بمباي في التاسع عشر من شهر محرم الحرام من سنة 1320 هجرية.

وطبعت هذه النسخة الحجرية بالأفست في مكتبة نينوى الحديثة في طهران.

وقد جاء في آخرها وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب وجمعه وتحريره وزيره وتنميقه وسطره في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من سنة 1295 هجرية، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وصلى اللّه على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين إلى يوم الدين .

ثمّ انتقل من السواد إلى البياض بعد إمضاء العزيمة والانتهاء على يد مؤلّفه الفقير إلى اللّه علي بن عبد اللّه في اليوم التاسع عشر من شهر رجب الأصب من سنة 1296 ، والحمد للّه على نعمة الختام والفوز بالكمال والتمام. وفي ذيل النسخة أبيات شعرية لتلميذ المؤلف أحمد بن محمد بن سرحان البحراني.

النسخة الثانية : النسخة المطبوعة والمنقحة من قبل السيّد عبد الزهراء الخطيب وكان آخر مراجعته لها أوّل شعبان سنة 1402 هجرية أثناء إقامته في قرية الدراز فى البحرين، وقد نشر الكتاب دار المنتظر في بيروت سنة 1405 هجرية.

ص: 46

طريقة التحقيق

كانت مراحل العمل في هذا الكتاب بهذه الصورة:

أولاً: تقطيع فقرات الكتاب وتزيينه بالفوارز وإضافة العناوين الداخلية.

ثانياً: تخريج الآيات والروايات والأقوال، وكان سعينا في تثبيت المصادر التي اعتمد عليها المصنف الأقدم فالأقدم. وقد شاركنا في هذا العمل الشيخ جعفر عباسي والشيخ عبدالحسين نوري.

ثالثاً: مقابلة النسخة الحجرية مع المطبوعة ومع المصادر التي اعتمد عليها المصنّف مع تثبيت الاختلافات المهمة، وقد شاركنا هنا بالإضافة إلى الشيخين الجليلين المتقدمين الشيخ مختار تبریزیان.

رابعاً : ذكرنا في آخر الكتاب ترجمة مختصرة للأعلام الوارد ذكرهم في الكتاب وقد أنيط هذا العمل إلى الشيخ عبدالحسين نوري .

خامساً :بعد صف حروف الكتاب ومقابلته مع النسخة الحجرية وتثبيت الاختلافات أعدنا النظر فيه لتجاوز الخلل والزلل الواقع في المراحل السابقة إن كان.

وأخيراً أقدم هذا الكتاب الشريف للقارئ الكريم بعد جهود حثيثة كانت الغاية منها إيصال الكتاب إلى صورة أحسن أسأل اللّه - سبحانه وتعالى - التسديد والتوفيق لكل من سار في خدمة الدين الحنيف وأن يوفق السائرين في إحياء التراث وأن يأخذ بأيديهم لجد وسعي أكثر في هذا الطريق وأن يتقبل منا ومنهم إنه نعم المجيب.

ص: 47

هذا ولا أنسى أن أتقدم بجزيل الشكر وفائق الامتنان للاستاذ السيد أحمد رضا معين شهيدي لاقتراحه تحقيق هذا الكتاب الشريف وتحضير نسخه وفتح باب مكتبة مدرسة عالى ثامن أمامنا في جميع مراحل العمل فجزاه اللّه خير جزاء .

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيّدنا محمّد وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين.

عبد الحليم عوض الحلّي

13 محرم الحرام 1429

مشهد المقدّسة

ص: 48

الصورة

ص: 49

الصورة

ص: 50

منار الهدى في إثبات النصّ على الأئمة الاثني عشر النجباء

اشارة

ص: 51

ص: 52

[مقدمة المؤلّف ]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الغني لذاته، والمتوحد بصفاته، والمتفرّد في أفعاله، الذي لم يشاركه أحد في صنع مخلوقاته، ولم يوازره وزير في إنشاء برياته، الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولا فطر السماوات والأرض وما بينهما باطلاً،(وذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ )(1)، الذي لم يكلف عباده شططاً، ولم يتركهم شدى، ولم يعذب أحداً من خلقه حتّى يبعث إليهم رسلاً، يدلونهم على طريق الهدى، ويصدونهم عن سبل الردى تقوم له بهم على العباد الحجة، وتستبين بهم المحجة، لئلا تكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل .

والصلاة والسلام على من خُتِمت به النبوة، وكملت به الرسالة، ووضحت به الدلالة، وقامت به الحجّة وتمّت به النعمة، واجتمعت به الكلمة، وحصلت به الألفة، وانتلفت به القلوب المختلفة، وانتظمت به أُمور الناس بعد المباينة والفرقة، واتفقت به الأهواء المتشتتة والآراء المتشعبة ، ولم اللّه به الشعث، وشعب به الصدع ، وآمن به السبل ، وصدّق به الرسل، وفضله على جميع من خلق، ونسخ بشرعه أديان من سبق.

ص: 53


1- ص:27.

وأنزل عليه قرآناً مجيداً وفرقاناً حميداً، أقام به الأود(1)، وهدى به إلى الرشد ،وسوّى به العوج (2)، وفك به من الرتج(3) ، إمام المتقين، وسيد المرسلين، وشفيع يوم الدين ،سيّدنا ونبيّنا محمد بن عبد اللّه ؛ النبى الأمى.

وعلى آله البررة الأخيار، الناسجين على منواله ،والمقتفين أثره في أفعاله وأقواله،حجج اللّه على بريته،وخلفاء رسوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على أُمته ، الحافظين لكتابه وسنته، والعاملين بأحكام شريعته، والمطهرين من مقارفة معصيته، والمنزهين عن ارتكاب مخالفته، الذين ماز اللّه بولايتهم الخبيث من الطيب ببديع حكمته، كما قال في محكم كتابه :(مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ )(4)، ففرض ولاءهم على لسان نبيه الكريم الأمين، فامتاز به الغثّ من السمين وأبى عن حمله من خبثت طينته من الأشقياء، وسارع لحمله وقبوله من سبقت له من اللّه الحسنى.

وعلى أصحابه المنتهين إلى أمره والمنزجرين بزجره ما هدل(5)الحمام وهطل الغمام (6).

أما بعد : فيقول المفتقر إلى فيض ربه السبحاني، علي بن عبد اللّه بن علي

ص: 54


1- الأود بالتحريك الاعوجاج ، أنظر لسان العرب74:3.
2- العوج : بكسر ففتح الالتواء وعدم الاستقامة، أنظر المصباح المنير: 435 .
3- الرتج بالتحريك : المغلق، أنظر لسان العرب 279:2.
4- آل عمران: 179 .
5- أي صوت، أنظر لسان العرب 11: 691 .
6- قال في تاج العروس 169:8:« الهطل المطر الضعيف الدائم ... وقد هَطل المطر يهطل»والغمام هو السحاب كما في تاج العروس 6:9 والمراد منه هذا المطر فمعنى قوله: هطل الغمام أي نزل المطر.

البحراني، ألهمه اللّه تقواه، وآناه هداه : إنّ أمر الإمامة والإمام مما شاع فيه بين الأمة الجدال والخصام، وطال فيه البحث والكلام،وبذل كلّ فريق جهدهم في إثبات ما ذهبوا إليه،وأجهد كلّ قوم أنفسهم في تقوية ما اعتمدوا عليه.

فكم جَمَعَ أصحابنا المتقدمون فيه من مصنف فائق، وكم حرَّر أسلافنا الصالحون فيه من مؤلّف رائق، أقاموا فى تلك الصحف والمصنفات على صحة مذهبهم الأدلة الواضحة، وأظهروا عليها البراهين اللائحة، التي انجلى غبارها، وسطح منارها مما فيه كفاية كلّ طالب ، ومنتهى رغبة كل راغب، بحيث لم تبق لقائل مقالة ، ولا لمتعلّل علة، ولا لخصم عذر إلا مكابراً - مال عن التحقيق، وتنكب (1)قصد الطريق بالشبهة ، وحاد بسوء النظر عن سواء المحجّة، فتاه فى قيافي (2)الضلالة،وارتكس في غمرات الفتنة-ممّن جعل شهرة نفسه إمام عقله، وصير الخطأ صواباً ،بجهله واقتصر من الدليل على حقيّة مذهبه،وتصحيح طريقته على تقليد الأسلاف،وحسن الظن فيمن تحقق منهم للّه و لرسوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الخلاف، ممّن حقت عليهم كلمة العذاب بتركاضهم (3)في مهاوي الشك والارتياب، وتهافتهم على الدنيا تهافت الفراش والذباب، فحسبهم جهنم وبئس المهاد ، فخالف الرشاد على عمد ، وسلك فج الهلاك مقدراً للسلامة والنجاة.

وليس إعراض المعاند عن الهدى بناقض للحق ، ولا لجاج المكابر بمبطل للصدق ، ولا إنكار الجاحد بموهن لما أقامه أصحابنا من الدليل، ولا بمبهم لما

ص: 55


1- أي عدل عن سواء الطريق وتجنب منه أنظر تاج العروس 494:1 .
2- «قيافي»جمع فيفاء الصحراء الملساء، أنظر مختار الصحاح لمحمد بن عبد القادر: 267.
3- التركاض:مبالغة في الركض، وتركاضهم في مهاوي الشك فيه استعارة السرعة خواطرهم في : الضلال .

أوضحوه في تلك الزير من نهج السبيل، بل كان ما زبروه كافياً، وما رقموه شافياً.

وإنّما أنكره من انحرف فهمه، كما ينكر الماء العذب من انحرف مزاجه ،والداء إنما هو منه لا من الماء.

فشكر اللّه مساعيهم الجميلة، وضاعف مثوباتهم الجزيلة، وجعلنا من المنتظمين فى سلك عقدهم ، والواردين صافي وردهم.

بيد أن التصنيف الحادث لا يفقد فائدة أهملها الأولون، والتأليف الجديد لا يعدم التنبيه على دقيقة أغفلها السابقون - ولو لم يكن إلّا - لاستغنائهم عن إيرادها في ذلك الزمان وتجدّد الحاجة إليها في هذه الأزمان فلذا تجسمتُ هذه الخطّة، وحُضْتُ هذه اللجة، وولجت هذه الغمرة، مع قلة البضاعة وكثرة الإضاعة، ومكابدة المحن، ومعاناة صروف الزمن وتوارد الهموم وتتالي الغموم وغربة الديار، والابتلاء بمعاشرة الأغمار(1)، ومصاحبة الأغيار وكثرة الحساد ومقاساة الأمور الشداد.

فصنفت هذا الكتاب المحتوي على إثبات النص على مولانا أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب وأولاده الأحد عشر المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين بالإمامة، معتصماً باللّه، ومتوكلاً عليه في الإسعاف والإعانة على ما طلبت والتسديد والإرشاد إلى ما قصدت، فلا حول ولا قوة إلا به، ولا انتصار إلا بنصره، ولا التجاء إلا إلى منيع عزّه ، ولا استمداد إلا من إلهامه ، ولا استعانة على أمر إلا بمعونته وتوفيقه.

ورغبت إليه أن يجعله للمسترشدين مرشداً ، وللسائلين منجحاً، وللسالكين

ص: 56


1- أي الجهال ،والعمر بتثليث الغين وإسكان الميم : الجاهل ، أنظر لسان العرب 5: 31 و 32.

سبيل الإنصاف هادياً، وأن يجعله لي في القيامة ذخراً، وإليه مقرباً، وأن يجعلني لثوابه مستحقاً، ويجعل لي به عند النبي وآله(علیهم السلام)الوسيلة وقرباً،ويزرع لي به في قلوب المؤمنين وداً، إنه مجيب الدعوات، ومُعطى الأمنيات.

واقتصرت في مقام الحجة على ذكر ما صح عند الخصوم من دليل عقل معروف عدله ، أو آية محكمة فيها بيان الأمر وفصله، أو خبر ثبت في صحاح أخبارهم، والمعوّل عليه من كتبهم مما وضح معناه ودليله، وبان جده وزال هزله.

ولم أذكر في خلال المياحث حديثاً من طرقنا خاصة، إلا لمرام آخر كالبيان لأصحابنا،ما يدلّ على قولنا من أحاديث أئمتنا(علیهم السلام)، لتزداد بصيرتهم كما ذهبت حيرتهم ، لا لأحتج به على الخصم، فإنه لا يجوز الاحتجاج على أحد إلا بما يعتقد صحته ويسلّم حجيته، وذلك سبيل الإنصاف، وصراط من جانب الريغ والاعتساف .

وقد بذلت فيه جهدي وأتعبت فيه كدّي، وجريت فيه إلى غاية مقدرتي ؛ طلباً المرضاة اللّه،وتقرباً به إلى رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، ونصراً لدين اللّه عزّوجلّ، ووسمته إذ سميته ب: «منار الهدى في إثبات النصّ على الأئمة الاثني عشر النجباء» .

ورتبته على مقدّمة وفصلين، مستعيناً على تحقيقه وتنسيقه برب الثقلين، اللهم افتح لي أبواب فضلك ، وانشر علي من خزائن علمك، اللهم زدني علماً وفهماً، واشرح لي صدري، ويسر لي أمري ،وثبت قدمي، واعصم من الزلل والخطل (1)قلمي ، وأجر الحقّ على لساني، إنّك ذو الفضل العظيم، بحق نبيك الكريم وآله الأبرار، أولي الشرف القديم، وبحق من عظمت قدره من خلقك يا ربّ العالمين.

ص: 57


1- الخطل : أي المنطق الفاساد المضطرب. انظر لسان العرب 11: 209 .

ص: 58

المقدمة وفيها مبحثان:

[المبحث ]الأول:فی بيان معنى الإمامة

[ تعاريف أُخرى للإمامة ]

ص: 59

ص: 60

وقد عرفها المتكلّمون وحدّوها بأنها« رياسة عامة في أمور الدين والدنيا الشخص إنساني، خلافة عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلم)»(1) .

فخرج بقيد« العموم »مثل رئاسة القاضي، وأمير الحاج وأمير الجيش، وأمير بلاد وناحية، ورئاسة من جعله الإمام نائباً عنه مطلقاً ، لأنها لا تعمّ الإمام .

و«فى الدين والدنيا »متعلّق تلك الرئاسة، والمراد بالدنيا هنا ما يتعلق بأمر المعاش، من إصلاح البلاد وإزالة الفساد وأخذ الحقوق وغير ذلك.

وبقيد «الشخصية »تعدّد الإمام في العصر الواحد ، فلا يكون مستحق الإمامة في عصر واحد أكثر من إمام واحد ؛ إذ لا يجوز في عصر واحد إمامان لاستلزامه التكليف بالمحال (2).

ص: 61


1- أنظر شرح المواقف 345:8،شرح المقاصد 232:5.
2- لعل مقصود المصنف استحالة اجتماع إمامين حاكمين في زمان واحد لا مطلق اجتماع الإمامين كما يرشد لذلك الخبر الذي أورده عن الإمام الصادق(علیه السلام)بعد صفحتين، فلاحظ .

بيان ذلك: أن الإمام واجب الطاعة على المكلفين البتة(1)، فلو كان اثنين في عصر واحد فأمر أحدهما بأمر ونهى الآخر عنه، فإنّه يجب بحكم الطاعة لهما فعل ذلك المأمور به وتركه في حال واحدة.

وظاهر أن ذلك محال ، وما يستلزم المحال محال ، ثم يلزم إما ترك طاعتهما معاً، فيخرجان عن كونهما واجبى ،الطاعة أو امتثال قول أحدهما دون الآخر ،وحينئذٍ إما أن يكون بغير مرجّح ، والترجيح بغير مرجّح قبيح عقلاً، فهو غير جائز، وإما أن يكون لمرجّح ، فكان واجب الطاعة - بالمرجح - هو الإمام البتة، وخرج الآخر عن كونه إماماً ، وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى: لو كان فى عصر واحد إمامان واجبا الطاعة، فأمر أحدهما بشيء ونهى الآخر عنه، فإما أن يجب امتثال أمرهما معاً، فيجب فعل ذلك الشيء وتركه في حال واحدة، وذلك ممتنع لامتناع اجتماع الضدين.

أو عدم امتثال أمرهما معاً ، فيكون من هو واجب الطاعة محرمة طاعته في حال واحدة، هذا خلف .

أو ترجيح قول أحدهما بغير مرجّح، وهو قبيح.

أو تقديم قول أحدهما المرجّح، فيكون هو الإمام، ويخرج الآخر عن الإمامة ،لعدم وجوب طاعته.

فلمّا كان في اجتماع إمامين في عصر واحد لزوم المحال ، أو خلاف المفروض من طاعة الإمام أو الترجيح بدون المرجّح وجب وحدة الإمام في الزمان الواحد

ص: 62


1- البنة:الأمر المقطوع به كما في لسان العرب 7:2،ومختار الصحاح:29، ومجمع البحرين 15:1.

ولذا ورد عن مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد(علیه السلام)أنه سئل:أيكون إمامان في عصر واحد؟قال:«لا، إلا وأحدهما صامت »(1).

ومن هذا بطل ما يُنقل عن الزيدية من جواز نصب إمامين في عصر واحد ، كلّ واحد في ناحية (2)، وهذا لا يرفع التناقض ولا يزيل المحذور إن لم يزده ؛ لو فرض صدور أمر كل منهما إلى أهل ناحية الآخر بشيء، وصدر من الآخر نهي أهل ناحيته عنه، على تقدير طاعة أهل الناحيتين لكلا الإمامين، أو استشراء الفساد(3) بعصيان كل من أهل الناحيتين لإمام الأخرى عند طلبه عند طلبه منهم الطاعة، فيحدث القتال ويشيع الجدال.

ومن هذا علم بطلان ما قيل : إنّ غاية الأمر أنّه لابد في كل اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام، لكن من أين يلزم عموم رياسته جميع الناس وشمولها أمر الدين والدنيا على ما هو المعتبرفي الإمام؟

مع أنه أجاب عنه أهل الاختيار(4)بأنا نعلم أن انتظام أمر الدين والدنيا على جهة العموم على وجه يؤدّي إلى الصلاح فيهما مفتقر إلى رئاسة عامة؛ لأنه لو تعدّد الرؤساء في الأصقاع والبقاع لأدّى إلى منازعات ومخاصمات تؤدي إلى اختلال

ص: 63


1- الكافي 1: 321 ج7، من كتاب الحجة،باب الإشارة والنص على أبي جعفر (علیه السلام)،وفي طبعة أخرى 136:1ح 7 وقد أسنده إلى الإمام علي بن موسى الرضا(علیه السلام).
2- أنظر الملل والنحل للشهرستانی 138:1.
3- أي جد وتقوية الفساد. قال في النهاية 469:2استشرى في دينه أي حد وقوى واهتم به.
4- المراد بأهل الاختيار هم القائلون بإمكان اختيار الإمام أو الخليفة من قبل الخليفة السابق أو من قبل أهل الحل والعقد في مقابل أهل النّص القائلين بأن الإمام يتعين بالنص فقط من دون دخالة الإنسان في ذلك، أنظر الجمل للمفيد :114.

النظام،ولو كانت الرئاسة مقصورة على الدنيا لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصد الأهم من الإمامة،انتهى(1).

فإن قيل : نفرض اتفاق الأئمة في الأمر والنهي فيزول المحذور.

قلنا: أنتم تجعلون الإمام كواحد من المجتهدين، فهذا الفرض غير ممكن الحصول على قولكم ؛ لأن اتفاق المجتهدين في جميع أحكام الدين وأمور الدنيا مما لم يقع، ولا يقع أبداً.

على أن التزام هذا الفرض يقتضي الحكم بوحدة الإمام،لأن الأمر والناهي على قولكم واحد،والباقون(2)موافقون له في الحالين ، تابعون لأمره ونهيه ، فيكون هو الإمام، وأولئك أتباعاً له، فهم من جملة الرعية المطيعين، فلا تعدّد على هذا في الإمام ؛ إذ لا رئاسة لمن لا يأمر ولا ينهي إلا تبعاً لغيره.

وبالجملة فالمعتمد هو وجوب وحدة الإمام في العصر، واستقلاله بالنهي والأمر، وعموم رياسته على جميع المكلفين.

وبقيد «الإنسان» يخرج الملك وغيره، فلا يكون الملك إماماً، قال اللّه تعالى:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ )(3).

وورد عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام):«إنّ اللّه لم ينزل ملائكة يجعلهم في الأرض حكاماً، وإنّما جعل ذلك من البشر ، قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً

ص: 64


1- شرح المقاصد في علم الكلام274:2، وفيه: «المقصود الأهم والعمدة العظمى بدل من المقصد الأهم من الإمامة».
2- في الحجرية :(والباقين) ونصبه ب«أن مقدرة أو معطوف على الآمر.
3- الأنعام: 9 .

تُوحِي إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)(1)»(2).

وإذا امتنع أن يكون الرسول ملكاً امتنع أن يكون الإمام كذلك ؛ للأولوية أو للاشتراك في العلة. وهي عدم قيام الحجّة على المكلفين، بإتيان الملك بما هو خارق للعادة؛ لعدم ثبوت كونه معجزاً، لاحتمال أنه من قدرة الملك لا من فعل الله ، لتصديقه في دعواه الرسالة، لأن قدرة البشر تعجز عن قليل من قدرة الملك ، فلم يكن في إتيانه بما يعجز عنه البشر معجزة تقوم بها الحجة على صحة رسالته.

وغير ذلك من العلل ليس هنا مقام بيانها ومحله مبحث النبوة، وهذا يتمشى على قواعدنا من اشتراط المعجزة في الإمام كالنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلم)، وعلى قواعد غيرنا للسمع أو الأولوية أو لأنه نائب عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلم)،فيجب أن يكون من نوعه، أو علة أُخرى.

وبقيد الخلافة خرجت النبوة.

وفي بعض الحدود: «نيابة عن النبي »(3)؛والمعنى واحد.

ونقل عن بعض الفضلاء أنه عرف الإمامة«بأنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني بحق الإصالة»(4).

ص: 65


1- يوسف:109.
2- ورد قريب منه عن الإمام الرضا (علیه السلام):إنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة أو حكاماً (عيون أخبار الرضاء اللّه244:2 ، نور الثقلين 478:2- 247) .
3- كما التزم بذلك الشيخ المفيد في النكت الاعتقادية : 39 حيث قال الإمام هو الإنسان الذي له رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلم).
4- مثل ابن جبر في نهج الإيمان: 33 .

قيل : واحترز به عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية، فإن رياسته عامة، لكن ليست بالأصالة .

وأجيب بأن النائب المذكور لا رياسة له على إمامه، فليست رياسته بعامة، فتخرج بقيد العموم ، ولا يحتاج في إخراجها من الإمامة إلى ذكر الأصالة.

وجعل بعض الأفاضل موضع «خلافة عن النبي» في الحدّ لفظ «بحق النيابة عن النبي أو بواسطة بشر»(1)وكلاهما يؤدي مؤدى لفظ الخلافة عن النبي، إلا أن الأول (2)يزيد عليه بالتصريح بإخراج الإمامة بالاختيار من الحد، حيث أخذ حق النيابة قيداً للرئاسة، ولا يعلم أن النائب تحق له النيابة عن النبي إلا بنصه عليه(3).

وظني أن هذا التقييد زائد عن مفهوم الإمامة من حيث هي هي، فإن كون الإمامة مشروطة صحتها بالنض أم تصح بالاختيار أمر آخر، وراء مفهومها وحقيقتها.

وأما الثاني : وهو قوله«بواسطة أحد من البشر»، فلا يقتضي أكثر من كون الإمام منصوباً من قبل أحد من البشر، وهذا لا ينفي الاختيار في الإمامة، فيرجع في نفيه فيها إلى أمر آخر، وهو ما سنذكره من بر، وهو ما ستذكره من الأدلة على بطلان الاختيار .

على أن كلاً من لفظ الخلافة والنيابة يقتضى النصّ عندنا لزوماً،لأن مرادنا من الإمامة الإمامة الصحيحة، ولا تكون كذلك إلا باستخلاف النبي واستنابته، ولا يكون ذلك إلا بنصه، فيكون «بحق» في قوله:«بحق النيابة»، مستغنى عنه، لأنه مؤكد لا مؤسس .

ص: 66


1- مثل العلامة الحلّي في النافع يوم الحشر : 94 .
2- أي : بحق النيابة عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).
3- أي : لا يعلم حقية نيابة النبي إلا بنصه عليه .
[ الإمامة لها حيثيتان ]

ثم إن الإمامة تجامع النبوة، فإن كل نبي إمام، وقد تكون مجردة عن النبوة كإمامة الأئمة في هذه الأمة، لختم النبوة بنبينا (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فلا نبي بعده.

والإمامة في النبي من حيث النبوة غير الإمامة من حيث النيابة عن النبي ، لثبوت الأولى بثبوت النبوة، وعدم احتياجها إلى أمر آخر، واحتياج الثانية إلى نصب النبي، إذ ليس كل نبي نائباً عن الذي قبله، وإلا لتعدّدت النوّاب لكثرة الأنبياء فی الأمم السالفة، والمعلوم خلافه ، فإن موسى (علیه السلام)ما كان وصيه إلا يوشع بن نون(علیه السلام)، وداود(علیه السلام) لم يكن وصيه إلا ابنه سليمان (علیه السلام).

وكذا غيرهما من الأنبياء، كل نبي يوصي إلى واحد بعينه، فيكون خليفته تعدد الأنبياء فى تلك الأزمان، وإن جميعهم أئمة من حيث النبوّة، لأنّ كلّ نبي إمام، وليس كل إمام من حيث النيابة نبياً ، وإلا لامتنعت الإمامة في نواب نبينا (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لامتناع النبوّة فيهم .

ولذا احتاج موسى(علیه السلام) في استخلافه أخاه هارون إلى نصه عليه بقوله : (اخْلُفْنِي في قَوْمِي)(1)ولم يكف في نيابته عنه كونه نبياً مُرسلاً معه .

فظهر أن الإمامة من حيث النيابة عن الأنبياء منفكة عن الإمامة من حيث النبوة وبالعكس، وأن حيثية أحدهما غير حيثية الأخرى، واختلاف الحيثيات كاف اختلاف الحقائق وتغاير المفهومات، وإن اجتمعتا في الوجود في شخص واحد، كاجتماعهما في هارون وأشباهه من الأنبياء ، الذين كانوا نوّاباً عمن كان قبلهم من الأنبياء بنصبهم إياهم، واستخلافهم إياهم على أممهم في إنفاذ الأحكام، وإقامة

ص: 67


1- الأعراف: 142 .

أمر الدين، كشيت وسام وإسماعيل وإسحاق(علیهم السلام)وغيرهم، وبين الإمامتين عموم وخصوص من وجه.

[مفهومان آخران للإمامة ]

وأيضاً للإمامة مفهومان آخران .

قال الشيخ أبو علي في مجمع البيان:«المستفاد من لفظ الإمام أمران :

أحدهما: أنّه المقتدى به في المقتدى به في أفعاله وأقواله .

والثاني: أنّه الذي يقوم بتدبير الأمة وسياستها والقيام بأمورها، وتأديب جناتها وتولية ولاتها، وإقامة الحدود على مستحقيها ، ومحاربة من يكيدها ويعاديها.

فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا وهو إمام، وعلى الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماماً؛ إذ يجوز ألا يكون مأموراً بتأديب الجناة ومحاربة العداة ،والدفاع عن حوزة الدين ومجاهدة الكافرين»، انتهى(1).

وأنت خبير بأن الإمامة المذكورة في الحد شاملة للوجهين المذكورين، لأنها رئاسة في الدين والدنيا، فتخرج النبوّة بقيد الخلافة أو النيابة.

ثم إن الإمامة على ما هي مذكورة في الحدّ هي الملك العظيم المذكور في قوله تعالى:(فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلكاً عظيماً )(2) ؛ فالكتاب النبوة، والحكمة العلم، والملك العظيم الإمامة ، وهي عبارة عن فرض الطاعة على المكلفين، وهو معنى الرئاسة العامة.

وفي قوله تعالى في شأن داود : ﴿ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ )(3)جمع اللّه له

ص: 68


1- مجمع البیان 376:1 ذيل آية 124 من سورة البقرة، وانظر بحار الأنوار58:12.
2- النساء :54.
3- البقرة: 251.

النبوة والرياسة العامة ،كما جمعهما من قبله لموسى(علیه السلام)،ومن بعده لابنه سليمان،كما جمعا لنبينا(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)واختص نوّابه بالثاني، لأن النبوة قد ختمت به،والرسالة قد كملت برسالته فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته.

وقد أنكر تقسيم الشيخ أبي علي في زماننا هذا من لم يعرف معنى الإمامة، وزعم أن النبي لا يلزم أن يكون إماماً مطلقاً، وهو مع ذلك يدعي أنه من العارفين، لكنه جاهل جهله، ولا عبرة بمثله.

[من أنواع الإمامة ]

ثمّ اعلم أيضاً أن للإمام تقسيماً آخر، وهو إما أن يكون الإمام إماماً ليس عليه إمام، أو يكون إماماً وعليه إمام والأوّل يختص بأهل الشرايع الست وهم آدم؛ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات اللّه عليهم أجمعين ، لأنّهم أئمة الأمم، وليس على واحد منهم إمام يأتم به.

والثاني يشتمل ما سواهم من الأنبياء والأئمة، لرجوع الجميع منهم إلى الشرايع الستة المذكورة ، فقد حصل الاتفاق على انحصار الشرايع المبتدأة والناسخة في تلك الست وأن لا شريعة غيرها.

روى الشيخ الجليل ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني بالسند عن ابن أبي يعفور قال : سمعت أبا عبد اللّه(علیه السلام)يقول: «سادة النبيين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى(1):نوح وإبراهيم

ص: 69


1- في الحجرية قد تقرأ: (الوحى)، والمثبت موافق للكافى، والمراد بالرحى رحى النبوة والرسالة والشريعة والدين وسائر الأنبياء تابعون لهم.

وموسى وعيسى ومحمّد صلّى اللّه عليهم وعلى جميع الأنبياء»(1).

وروی بسنده عن درست بن أبي منصور قال:قال أبو عبد اللّه(علیه السلام):«الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات؛ فنبي منباً في نفسه لا يعدو غيرها ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة ؛ قلوا أو كثروا كيونس، قال اللّه ليونس : ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفِ أَوْ يَزِيدُونَ )(2)-قال:يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمام، والذي يرى في[نومه ويسمع الصوت](3)ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم »(4)، الخبر .

والأخبار عن ساداتنا في هذا المعنى كثيرة مودعة في محالها، ولا حاجة إلى التطويل بنقلها، لوضوح المقام عند أولي الأفهام وغير أولي الأفهام، وغير خفي عليك أن الإمام المبحوث عنه هنا من القسم الثاني، لكون إمامته خلافة عن النبي .

ص: 70


1- الكافي 1: 175 ج 3 وفي طبعة أخرى 134:1 كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة.
2- الصافات: 147.
3- ما بين المعقوفين من الكافي.
4- الكافي174:1 ج 1 كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة وفي طبعة أخرى 133:1ح1.

المبحث الثانی:في نصب الإمام هل هو واجب أم لا ؟

[نصب الإمام واجب على اللّه تعالى ]

وعلى تقدير وجوبه فهل هو على الله أو على المكلفين ؟ وهل هو من جهة العقل أو السمع ؟

وقد اختلف الناس فى ذلك : فذهب الأشاعرة والمعتزلة والزيدية إلى وجوبه على الخلق ، ثم اختلفوا فقال الأولون سمعاً، وقالت المعتزلة والزيدية عقلاً.

وقال الحرورية : إنّه غير واجب مطلقاً(1).

وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: «إنّه يجب مع الخوف وظهور الفتن ولا يجب مع الأمن لعدم الحاجة إليه(2).

وقال الفوطي (3)وأتباعه:«يجب مع الأمن لإظهار شعائر الشرع، ولا يجب عند ظهور الفتن، لأن الظلمة ربما لم يطيعوه وصار سبباً لزيادة الفتن»(4).

ص: 71


1- الملل والنحل 106:1 ، والحرورية - لعنهم اللّه - هم الذين تبرؤا من على(علیه السلام)وشهدوا عليه بالكفر نسبة إلى حرورا، موضع بقرب الكوفة، وقد كان أوّل مجتمعهم فيه وعلى رأسهم عبد اللّه بن الكواء وعتاب بن الأعور وعبد اللّه بن وهب الراسي وجماعة، أنظر منتهى المقال 7: 361.
2- حكاه عنه العلامة الحلّي في كتاب الألفين : 27، شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 1 السطر 14 .
3- في النسخة الحجرية : (الغوطي) بالغين المعجمة ، والمثبت مناسب لما في القاموس المحيط 2: 378 ،تاج العروس369:10،نسبة إلى بيع الفوط. وهى لياب تجلب من السند أو مآزر مخططة واحدتها فوطة أو هي لغة سندية وعلى أي حال فهو هشام بن عمرو الفوطي من علماء المعتزلة ورئيس الفرقة الهشامية توفي سنة 226ه.
4- حكاه عنه العلامة في كتاب الألفين : 37 ، وانظر شرح المواقف للجرجاني : 348، الملل والنحل للشهرستانی 1: 70.

وذهب أصحابنا الإمامية إلى أنه واجب على اللّه عقلاً، وهو المعتمد، وعليه المعوّل ،لنا وجوه :

الأول:[ما دل على وجوب النبوة دال على وجوب الإمامة ]

إنّ كل ما دلّ على وجوب النبوة من الفوائد التي من جملتها معاضدة النقل فيما يدلّ عليه العقل، واستفادة الحسن و القبح في الأفعال التي لا يهتدي العقل إلى،مواقعها،وحفظ النوع الإنساني وتكميل أشخاصه وتعليم الأخلاق الفاضلة،و السیاسات الکاملة ورفع الاختلاف عنهم فی امر دینهم و دنیاهم ،وغیرها ممّا ذکر هناک،فهو دالّ مخصوص بالنبي .

ولو لم تجب الإمامة بعد النبوة لزالت فائدة البعثة، لأن النبي إذا ارتحل من الدنيا إلى جوار الملك الأعلى، ولم يجعل اللّه له خَلَفاً يقوم بتلك المصالح، ويقرر تلك الفوائد، ويجمع الأمة عن شتات الكلمة، رجع الناس بعد النبي إلى الاختلاف واستعمال الآراء المؤدي إلى الخلط فى الدين، وذهاب الألفة وتشتيت الكلمة لاستغناء كلّ برأيه ، واتباع كل مريد شيء هواه.

فيرجع الأمر من الصلاح إلى الفساد، وتضعف قواعد شريعة النبي لكثرة الاختلاف فيها، وتذلّ تلك الملة لافتراق أهلها وعدم تناصرهم ،كما نشاهده فی هذا الزمان الذي منع الناس فيه أنفسهم اللطف بإخافة الإمام من استيلاء الكفرة اللثام على أهل الإسلام ، وإبطالهم أحكام شريعة سيّد الأنام، وقعود المسلمين عن

ص: 72

جهادهم لعدم اجتماعهم وتعاونهم، وما ذاك إلا لعدم رجوعهم إلى رئيس مطاع مأمون على الدين.

ومعلوم على هذا أن فوائد البعثة مع عدم نصب إمام لا تبقى، بل تزول وتفنى، جب على اللّه في حكمته نصب الإمام، لإبقاء فوائد النبوّة، كما وجب في الحكمة إحداث النبوة لحصول تلك الفوائد، والعقلاء يجزمون بأن ما وجب إحداثه لإدراك مصلحة يجب إبقاؤه أو إحداث ما يقوم مقامه لاستبقاء تلك المصلحة.

الثاني: [الإمام لطف من اللّه ]

إنّ الإمام لطف من الله في حق عباده، لأنه يقرّب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية، وبيانه أن الناس إذا كان لهم رئيس مطاع يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الطاعات كانوا معه إلى الطاعة أقرب ، ومن المعصية أبعد منهم بدونه، وذلك هو الإمام فيكون لطفاً، واللطف واجب على اللّه تعالى.

والمعتزلة يوافقونا في وجوب اللطف على اللّه،والأشاعرة ينفونه بناءاً على أصلهم من نفي الحسن و القبح العقليين(1)، وقد أبطل أصحابنا هذا الأصل وهدموه بما لا مزيد عليه من القول في مبحث العدل، وليس هذا الموضع محل ذكره فليطلب من موضعه(2).

على أنّه يكفي في بطلان قولهم قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ

ص: 73


1- اللمع : 116 و 117، وانظر بحوث في الملل والنحل للسبحاني 278:2.
2- انظر دلائل الصدق 253:4.

لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَنَخْزَىٰ )(1)فإنّه واضح في وجوب اللطف على اللّه تعالى.

[اعتراض المخالفين وجوابه ]

واعترض مخالفونا على هذا الدليل، بأن الإمام إنما يكون لطفاً إذا خلا عن المفاسد كلها، وهو ممنوع، لأن أداء الواجبات وترك الحرام مع عدم الإمام أكثر ثواباً، لكونهما أقرب إلى الإخلاص لانتفاء كونهما من خوف الإمام(2).

والجواب من وجوه :

الأوّل: القدح في العلة، فإن أداء الواجب على وجهه، وترك الحرام من جميع جهاته لا يحصل بدون الإمام.

الثاني : منع أكثرية الثواب في أداء الواجب وترك الحرام بدون الإمام لقربه إلى الإخلاص ، لاحتمال إرادة الرياء أو خوف المسلمين أن يسقطوا منزلته، سيما إذا كان الشخص من أولي المناصب، فليس عدم الإمام بكاف في قرب العمل إلى الإخلاص .

الثالث : أنه لو كان احتمال الخوف من الإمام في أداء الواجب وترك الحرام مفسدة توجب خروجه عن كونه لطفا، لكان احتمال الخوف من النبي في إظهار كلمة الإسلام وفعل الواجب وترك الحرام مفسدة توجب خروجه عن كون بعثته لطفاً، لاشتراك العلة فيهما فيجب ألا يبعث نبي.

ص: 74


1- طه : 134 .
2- شرح المقاصد 5: 241 شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 2 السطر 10.

واللازم باطل بالاتفاق، فالملزوم مثله، على أنّ اللطف كما علمت هو ما يحصل به الحث على الطاعة والردع عن المعصية، ولا يبلغ إلى حد الإلجاء، فالخوف منه في أداء الواجب وترك الحرام هو نفس كونه لطفاً، فكيف يكون مخرجاً له عن اللطف ؟

فحاصل هذا الاعتراض أن اللطف ليس بلطف، ولا خفاء في تناقضه فالاعتراض به باطل من أصله غير محتاج إلى الجواب عنه .

[دعوى الاستغناء عن الإمام وجوابها ]

والعجب من القوشجي كيف اعترض به على الدليل ثمّ عقبه بقوله : ولو سلم فإنما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة، مثلاً لم لا يجوز أن يكون (1)زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام(2).

والجواب أن هذا الفرض معلوم الاستحالة ، كما نعلم استحالة أن يكون زمان يكون الناس جميعهم فيه مؤيدين بالوحي السماوي والإلهام الإلهي، والعصمة فيكونون مستغنين عن النبي لوجهين :

الأول : أن النفوس البشرية ليست بجملتها ذوات ذكاء وفطنة، بحيث تكون قابلة للهداية بدون واسطة ، ولا ذوات قوة ونباهة بحيث يشرق عليها نور العرفان،فتستغني به في ترك القبيح عن مؤدب،كما هو المشاهد في الأمصار والأعصار، بل كثير من النفوس كالحشرات لا تقبل التعليم ولا التأديب كما قال تعالى:(إِنْ هُمْ

ص: 75


1- كلمة : ( يكون ) هنا تامة لا ناقصة بمعنى يوجد .
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 2 السطر 12 .

إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(1)فأين الجميع من العصمة، بل من العدالة.

الثاني : ما ورد في الكتاب العزيز من الإخبار عن أكثر الناس بعدم الإيمان تارة، وعدم العلم أخرى، وعدم الفقه ثالثة، وتخصيص الشاكرين بالأقل مطلقاً غير مقيد بوقت،مثل قوله تعالى:(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(2)،(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(3)،(وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ)(4)،(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(5)،(وَقَلِيلٌ مَا هُم)(6)إلى غير ذلك من الآيات الموجبة للقطع بامتناع هذا الفرض، بل بامتناع حصول العدالة لجميع الناس، فيكون ما فرضه غير واقع دائماً .

ثم لو سلمنا إمكان وقوع الفرض عقلاً لرددناه بمقتضى العادة المستمرة المفيدة لليقين.

وبيان ذلك:أنا إنّما نتكلم على ما جرت به العادة الموجبة للقطع بأن ذلك الفرض،وهو عصمة جميع الناس لم يحصل فيما مضى من الأزمنة، ولا يحصل فيما يأتي، لتساوي الأزمان وأشخاص النوع الإنساني.

وحذو هذه الأمة حذو من سبقها من الأمم، كما أفصح عنه قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيما صحّ من الأخبار(7)، فكان العلم بامتناع عصمة جميع الناس من جهة العادة جارياً

ص: 76


1- الفرقان: 44.
2- هود:17.
3- الأنعام: 37 .
4- آل عمران: 110 .
5- سبأ : 13 .
6- سورة ص: 24 .
7- ورد في احتجاج الشيخ الطبرسي 1: 113 عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنه قال:«التركين أمتى سنة بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل ، شبراً بشير وذراعاً بذراع وباعاً بباع»، وورد مثله في نهاية ابن الأثير357:1(حذا)وفي ج 4: 28 ، وانظر منتخب الأنوار المضيئة للسيد( بهاء الدين النجفي: 22 .

مجرى العلم بامتناع انقلاب أواني المنزل وصيرورتهم رجالاً كاملين علماء ومشايخ مهذبين ، فضلاء من جهتها، وإن كان غير ممتنع في قدرة اللّه تعالى.

فعلم أنّه لا لطف يقوم مقام الإمام، بل تعيّن انحصار اللطف فيه، فوجب في حكمة اللّه نصبه ، لأن الإخلال بما وجب في الحكمة قبيح لا يصدر من الحكيم،فإن حصل زمان تنخرق فيه العادة ويُعصم الناس فيه عن آخرهم حكمنا

باستغنائهم عن الإمام من هذا الوجه،لا من جميع الوجوه، لكن ذلك لا يحصل أبداً ؛ فالحاجة إلى الإمام حاصلة دائماً .

هذا كله مع أن العلم بالتجاء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار إلى نصب الرؤساء فى حفظ نظامهم وضبط أحوالهم، دال على انتفاء طريق سوى الإمامة ، وعدم قيام غير الإمام مقامه، وإلا لكانوا يلتجئون إليه ويتمسكون به، ومن هذا يعلم انحصار اللطف عند العقلاء في الإمام فيتعين وجوبه

وعلم من جميع ما ذكرنا امتناع الفرض المذكور عقلاً وسمعاً وعادة، ومنه يتضح صحة ما قاله رئيس المحققين نصير الدين في التجريد من معلومية انتفاء المفاسد وانحصار اللطف في الإمام للعقلاء(1)، وقول القوشجي أنهما مجرد دعوى(2) فاسد ناش عن غير تأمل .

ص: 77


1- كشف المراد: 490 (بتحقيق الأملي).
2- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 2 السطر 17.
[اعتراض آخر من القوشجي والرد عليه ]

وقال أيضاً في الاعتراض على دليلنا :وأيضاً إنّما يكون لطفاً إذا كان الإمام ظاهراً قاهراً، زاجراً عن القبائح، قادراً على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام،وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف، والذي هو

لطف ليس بواجب(1).

والجواب المعارضة بالأنبياء، فإنّ النبي لطف، ولم يشترط في كونه لطفاً قدرته على الزجر عن القبائح وقهره على الرعية،ولم تبطل نبوته وإمامته بعصيان العصاة،فإنا نعلم بإخبار الكتاب العزيز أن نوحاً وهوداً ولوطاً(علیهما السلام) عصاهم قومهم، ولم يقدروا على الزجر عن القبائح، وإنفاذ الأحكام، وأن إبراهيم خليل الرحمن ألقاه قومه فى النار ليحرقوه .

وأنّ هارون عصاه بنو إسرائيل، وعكفوا على عبادة العجل ولم يستطع كفّهم عن ذلك،وموسى طلبه فرعون ليقتله ومن معه، ولم يقدر على مدافعة فرعون، واضطر إلى عبور البحر ، وأن عيسى بن مريم أراد اليهود قتله فرفعه اللّه .

وغيرهم من الأنبياء الذين أوذوا وقتلوا، وكلهم لم يكونوا متمكنين مما ذكره من القهر والزجر والقدرة على تنفيذ الأحكام، وإعلاء لواء الإسلام؛ إما دائماً أو في أكثر الأحوال.

ومع هذا لم تبطل نيوتهم وإمامتهم في حال من الأحوال، ولا كان عدم تمكّنهم واقتدارهم على ما ذكره وسطره مخرجاً لهم عن كونهم ألطافاً، ولا مقتضياً للقدح في إمامتهم.

ص: 78


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 2 السطر 13.

وإذا لم يكن عدم القدرة على إنفاذ الأحكام وإعلاء لواء الدين موجباً لخروج النبي عن كونه لطفاً من اللّه في خلقه لم يكن ذلك مبطلاً للطفية خليفته، لتساويهما كونهما معا منصوبين من قبل اللّه تعالى، فلا يخرجان عن الإمامة بعصيان الخلق.

وقد علمت أن نبينا محمداً(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد كذبه قومه كأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان، وأضرابهم من رؤساء قريش وأرادوا قتله وأخافوا سبيله، وجهدوا أنفسهم في ذلك حتى ألجنوه تارة إلى الحصار، وأُخرى إلى الغار، والهجرة عن الوطن والدار ، ورمته العرب عن قوس واحدة، وبذلوا جهدهم في قتله وقتل من معه.

أفترى أنه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حين كان غير متمكن من الزجر عن القبائح، ولا من إعلاء لواء الإسلام، وغير قاهر على أولي العصيان ليس بنبي ولا إمام، وليس بلطف من اللّه في الأنام، فيكون قد بطلت بذلك نبوته وزالت إمامته ولطفيته ؟!

ما أراك تقول ذلك،ولا ترضى به،بل تقول نبوته(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يبطلها تكذيب المكذبين،وإمامته(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يفسدها عصيان العاصين وكونه لطفاً لم يزله عناد المعاندين .

وإذا لم تقل بأن عدم التمكن والقهر في النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قادح في صحة نبوته، ولا مبطل لفرض إمامته، ولا مخرج له عن اللطف لزمك القول بأن عدم التمكن مما ذكرته أيضاً غير قادح في إمامة وصيه، ولا مزيل للطفية خليفته لاتحاد العلة. ثم إنا نعلم أن التكليف لطف لأنه زاجر عن القبيح، وحات على الطاعة، وهو عبارة عن أمر ونهي، وإنه لا يخرجه عن اللطفية عدم عمل المكلفين بمقتضاه وخروجهم من حدوده .

ص: 79

ومن ذا يتبين أن عمل الناس بمقتضى اللطف وإجابتهم إياه ليس بشرط في كون اللطف لطفاً، فعدم حصوله لا يبطل لطفية اللطف، فالإمام لا يبطل لطفيته عدم تمكنه من الأمور التي ذكرها المعترض لعصيان الرعية، فما ادعينا وجوبه

لطف فيكون واجباً.

وهذا الجواب هو الحاصل من كلام جماعة من قدماء أصحابنا كالصدوق وابن قبة فى إبطال تلك الشبهة.

وأجاب أصحابنا المتأخّرون كنصير الدين الطوسي وجمال الدين الحلّي عنها، بأن وجود الإمام لطف ؛ تصرّف أو لم يتصرّف، لقيام حجة اللّه على عباده به، ولأن المكلف إذا علم بوجود إمام في العالم يجوز ظهوره وتسلطه على الرعية، فيعاقب العصاة، ويؤدب الجناة كان إلى فعل الطاعة والانزجار عن المعصية أقرب منه، إذا علم انتفاء وجوده فيحصل من وجوده اللطف وإن لم يتصرف.

وتصرّف الظاهر لطف آخر لا يفوت الأول بفواته، وعدمه إنما جاء من قبل المكلفين وسوء اختيارهم، حيث أخافوا الإمام وتركوا ،نصرته، ففوّتوا أنفسهم مصلحة تصرفه في إنفاذ الأحكام، وإقامة الحدود وأخذ الحقوق، وإعزاز الدين وحماية الإسلام والمسلمين حتى الجنوه إلى الاستتار والغيبة(1).

وحاصل هذا الوجه أن الواجب على اللّه في الحكمة إيجاد الإمام ودلالة العباد عليه، وليس يجب على اللّه تصيير العباد منقادين لحكم الإمام، ومطيعين لأمره، بل الواجب في حكمة اللّه أمرهم بطاعته، والواجب عليهم الانقياد له والتسليم لأمره والرضا بحكمه، ونصرته على من ناواه.

ص: 80


1- أنظر كشف المراد : 491 و 493 ، كتاب الألفين : 32.

وقد قال تعالى لنبيه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(1)واللّه سبحانه قد فعل ما وجب في حكمته، فأوجد الإمام ودلّ عليه، وأمر بطاعته بقوله: ﴿ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمرِ مِنْكُمْ )(2)والعباد لم يفعلوا ما وجب عليهم من ،للإمام فكان قوات اللطف الظاهر - وهو تصرف الإمام - منهم .

ولذا قال بعض المحققين: التحقيق أن اللطف في أمر الإمامة يتم بأمور:منها ما يجب على اللّه تعالى، وهو خلق الإمام وتمكينه من القدرة والعلم والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله اللّه تعالى.

ومنها:ما يجب على الإمام، وهو تحمّله الإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام. ومنها ما يجب على الرعيّة، وهو المساعدة والنصرة له وقبول أوامره وامتثال ،قوله ، وهذا لم يفعله الرعيّة ، فكان منع اللطف الكامل منهم لا من اللّه تعالى ولا من الإمام، انتهى(3) .

فتبين أن وجود الإمام لطف على الاستقلال، غير متوقف على التصرف فبطل بذلك ما قال القوشجي بأنا لا نسلم أن وجوده بدون التصرف لطف(4)،لأنا قد بينا أن مسارعة العبد إلى الطاعة وانزجاره عن القبيح بسبب علمه بوجوده وإمكان تصرفه أقرب منه إذا علم عدمه، لأنه إذا اعتقد وجوده كان دائماً يخاف ظهوره ويترقب تصرّفه فيمتنع من القبائح، وذلك هو اللطف .

ص: 81


1- النساء :65.
2- النساء : 59 .
3- كشف المراد: 390 ، ويتحقيق الأملى : 492.
4- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 2 السطر ،21 وانظر شرح المواقف للقاضي الجرجاني : 348 .
[اعتراض آخر من القوشجي ورده ]

وأما قوله : «بأن مجرد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كافٍ في هذا المعنى،فإن ساكن القرية إذا الزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان، مختف في القرية[بحيث](1)لا أثر له كذلك ينزجر خوفاً من حاكم علم أن السلطان يرسله إليها متى شاء»(2)، ففاسد ، لأن محصله أن علم المكلف بقدرة اللّه تعالى على إيجاد إمام في وقت من الأوقات، وتمكينه من التصرّف قائم مقام وجوده في حصول الخوف للمكلّف، فيحصل به اللطف ولا يحتاج في ذلك إلى كون الإمام موجوداً، وفساده من وجوه :

الأوّل : أن ما فرضه خوف من المعدوم، ولا خفاء أن الخوف من المعدوم غير حاصل للعقلاء بخلاف الخوف من الموجود المترقب ظهوره، فإن الخوف منه حاصل فكان لطفاً دون الأول.

فقوله بعد«وليس هذا خوفاً من المعدوم ، بل من موجود مترقب »(3)عدول عمّا فرضه ومغالطة في القول، فإنّ الفرض إنه ليس بموجود لكن يمكن وجوده، وأما إذا كان موجوداً كان هو قضية ما فرضناه لا ما فرضه.

الثاني:أن المكلف[لو](4)علم أن في القرية حاكماً مختفياً من جهة السلطان، سيظهر ويعاقب على فعل القبيح يكون دائماً خائفاً من اطلاعه عليه إذا فعل قبيحاً، لعلمه بوجوده وعدم معرفته بعينه، وتصوّره أن إنكاره فعل القبيح لا ينفعه إذا ظهر

ص: 82


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 2 السطر 22.
3- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 2 السطر 24 .
4- أضفنا مابين المعقوفين لاقتضاء السياق.

ذلك الحاكم ، لاطلاعه عليه بخلاف ما إذا علم خلق القرية منه ولم يبق إلا علمه بإمكان وجوده فيما بعد، فإنّه لا يرتدع عن القبيح لذلك، لتمكنه من الإنكار عند وجود ذلك الحاكم، وهذا ظاهر عند العقلاء، فاللطف يحصل بما فرضناه دون ما فرضه للفرق الظاهر بين الحالين.

الثالث: أن ما ذكره لا يتمشى على قواعدهم، لأن نصب الإمام عندهم ليس من اللّه ، بل من المكلفين فلا إمام على قولهم يترقب نصبه من اللّه ، فلا لطف حاصل بالمرّة، وقد علم من هذا أن اللطف منحصر في وجود الإمام ، وإن العلم بإمكان إيجاده لا يقوم مقام وجوده فثبت أن وجوده ،لطف، فهو واجب في حكمة اللّه، ووضح سلامة الدليل من الخدش فيه .

كل هذا مع ما في كلامه من التدافع ، فإنّه فيما مر عليك من قوله أبطل لطفية الإمام بخوف المكلف منه في أداء الطاعة، فمقتضى كلامه هناك أن الإمام لا يكون لطفاً إذا كان متمكناً من ردع العاصين ومعاقبة الجانين، فتكون لطفيته مشروطة بعدم تصرفه،ثم هو هنا يقول:إن الإمام لا يكون لطفاً إلا إذا كان متصرفاً قاهراً زاجراً عن القبيح(1)فما جعله هنا شرطاً في كون الإمام لطفاً جعل ضده هناك شرطاً فی ذلك، وهذا تناقض واضح ، فيكفي في بطلان قوليه تضادهما وتنافيهما.

الثالث:[نصب الإمام مقتضى رحمة اللّه ]

الثالث من أدلتنا(2)أنه لا شك أنّ الله تعالى أنظر لخلقه منهم لأنفسهم، وأرأف

ص: 83


1- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 2 السطر 13.
2- أي من أدلتنا على أن نصب الإمام واجب على اللّه تعالى لطفاً منه . وقد تقدم الوجه الأول ص 72 والثاني ص 73.

بهم وارحم : وأرحم بهم منهم على أنفسهم، وليس من نظر اللّه لهم ورأفته عليهم ورحمته بهم أن يتركهم هملاً، ويهملهم سُدى كالغنم لا راعى لها، بل مقتضى الرحمة والرأفة بهم يوجب في حكمة اللّه أن ينصب لهم من يقيم أَودَهُم(1)، ويجمع كلمتهم، ويهتدون إلى سبيل النجاة بضياء علمه، وينزجرون عن القبيح بنافذ حكمه، ويقتدون في أمر دينهم ودنياهم بقوله وفعله، وذلك هو الإمام ، فنصب الإمام واجب في الحكمة بمقتضى نظر اللّه لخلقه ورأفته بهم، وهو المطلوب.

وهذا الوجه لبعض متكلمينا من أصحاب أبي عبد اللّه الصادق(علیه السلام)(2).

ولا قدح باحتمال قيام إيجاب اللّه على العباد نصب الإمام، لحصول الفوائد المذكورة مقام نصبه لهم إماماً في حصول الرأفة بهم، لأن ذلك مناف للرأفة للعلم بأن تفويض الأمر إلى الخلق ممّا يوجب لهم الاختلاف والنزاع المؤدي إلى الفساد واختلال النظام لاختلاف الآراء وميل الأهواء، فيميل كلّ قوم إلى شخص غير الذي اختاره غيرهم، فيقع الخصام ويشيع الجدال فيما بينهم، فلا يتم الغرض المطلوب، بل تصير الرحمة بذلك نقمة، وهو خلاف المراد .

[نصب الإمام وظيفة العباد والردّ عليه ]

احتجّ القائلون بوجوب نصب الإمام على العباد عقلاً بأن في نصب الرئيس دفعاً للضرر عن أنفس الخلق ، ودفع الضرر واجب عقلاً، أما الأولى فظاهرة لأن الخلق إذا لم يكن لهم رئيس يحسم مادة النزاع فيما بينهم ، ويأخذ للضعيف من القوي

ص: 84


1- الأود بالتحريك:الاعوجاج.
2- هو هشام بن الحكم في مناظرة له مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة، أنظر الكافي 1: 169 ج3كتاب الحجة باب الاضطرار إلى الحجة، علل الشرائع 1: 193 ج 2، أمالي الصدوق : 686 .

انتشر أمرهم ، وفشا الفساد فيهم . وأما الكبرى فمعلومة.

والجواب أنه لا نزاع في كون الإمامة دافعة للضرر وكون دفع الضرر واجباً ، إنما النزاع في تفويض الأمر إلى اختيار الخلق، فإنا لا نسلم كون الإمامة على هذا الوجه دافعة للضرر لاختلاف الخلق في تعيين الإمام، فيؤدي إلى الضرر المطلوب زواله كما قدمنا ؛ فالواجب جعل ذلك إلى اللّه تعالى،على أن الاختيار في الإمامة ستبطله إن شاء اللّه تعالى في محل الكلام عليه بأدلة واضحة.

[أدلة القوشجي ]

واحتج القوشجي للأشاعرة بوجوه، قال:

الأول: [لجماع الصحابة ]

وهو العمدة، إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك (1)أهم الواجبات، واشتغلوا به عن دفن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وكذا عقيب موت كل إمام .

روي أنه لما توفّي النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)خطب أبو بكر فقال: «يا أيها الناس، من كان يعبد محمداً (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فإن محمداً قد مات،ومن كان يعبد ربّ محمد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فإنه حى لا يموت(2)، لابد لهذا الأمر ممّن يقوم به، فانظروا وهاتوا آرائكم رحمكم اللّه ، فبادروا من كل جانب وقالوا: صدقت لكنا ننظر في هذا الأمر ولم يقل أحد إنّه لا حاجة إلى الإمام»(3)انتهى. وهذه الحجة فاسدة من وجوه:

الأول: أن دعوى الإجماع من الصحابة على المبادرة إلى تعيين الإمام ونصبه

ص: 85


1- أي تعيين خليفة المسلمين.
2- لى هنا ورد في شرح مسند أبي حنيفة للملا علي القاري : 304 شرح نهج البلاغة 1: 178 .
3- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 1 السطر 20.

خطأ فاحش، فقد صح في روايات قومه وأهل مذهبه أن الذين بادروا إلى ذلك الأنصار، وثلاثة من المهاجرين : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، ومضوا ينازعون الأنصار في سقيفة بني ساعدة،حتى غلبوا عليهم،وجميع غلبوا عليهم ، وجميع المهاجرين غير لم يحضروا ذلك الأمر ، ولا بادروا إليه وهم وجوه الصحابة، وأعلم الصحابة علي(علیه السلام)، وهو وجميع بني هاشم وأشياعهم يشتغلون بجهاز النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ودفنه عن ذلك الأمر(1).

فأين إجماع الصحابة على المبادرة إلى نصب الإمام واشتغال جميعهم به عن دفن الرسول ، كما ادعاء .

فلو كان نصب الإمام على الرعيّة واجباً لكان أحق الناس بالمبادرة إليه علي بن أبي طالب(علیه السلام) وشيعته، مثل عمه العبّاس وسلمان ، وأبي ذرّ والمقداد، وأضرابهم. ولو كان مبادرة الثلاثة والأنصار إلى المنازعة في الخلافة حقاً لما تأخر عنه علي وشيعته،لأنه مع الحق والحق معه(2)، ولما قعد عنه أكابر (3)الصحابة عندهم كعبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه وعثمان بن عفان وأشباههم(4)، فلا إجماع منهم على ما ذكره المحتج .

الثاني: أن الذين بادروا إلى عقد الإمامة من الصحابة الذين ذكرناهم، لم يكن

ص: 86


1- شرح نهج البلاغة 6: 11.
2- هذا مأخوذ من حديث رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) حيث قال:علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يرداعلى الحوض يوم القيامة،أنظر تاريخ بغداد 14 :7643/321، مناقب سيدنا على(علیه السلام): 19 طبع في الهند.
3- وفي نسخة :خيار.
4- شرح نهج البلاغة 6: 11.

عرضهم ما ذكره من تعيين الإمام لكونه واجباً، وإنما كان غرضهم أمراً دنيوياً ؛ أما الأنصار، فسارعوا إلى ذلك خوفاً من أن تلى الخلافة قريش،فيأخذوا منهم ثار من قتله الأنصار من رجال قريش في حروب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

وأما الثلاثة المذكورون(1) فبادروا إلى ذلك، خوفاً من خروج الأمر من أيديهم، وولاية الأنصار عليهم ، ولم يكن أحد الفريقين طلب بما أراد أمراً دينياً ولا وجهاً شرعيّاً ، كما ادعاه في الحجّة ، وقد روى ما ذكرناه جميع من روى أخبار الصحابة كأبي بكر الجوهري (2)ومحمد ابن جرير الطبري(3)،و[أحمد بن]يحيى بن جابرالبلاذري (4)وغيرهم من رجال العامة وثقاة محدّثيهم .

وها نحن تذكر بعض ما رووه مما يصرّح بما قلناه، وينطق بما إليهم نسبناه .

قال أبو بكر الجوهري : أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح ، قال : حدّثنا عبد اللّه ابن عمر ،عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما توفي النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.

ص: 87


1- أي أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
2- هو أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري البصري البغدادي المتوفى سنة 323 هجرية، عالم محدث له كتاب السقيفة وقدك ومع الأسف أن الكتاب مفقود حالياً ، لكن لما كان قد أكثر النقل عنه ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة، فقد بادر المحقق محمد هادي الأميني إلى تتبع وجمع العبارات المتناثرة من كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد والكتاب المستخرج مطبوع نشرته شركة الكتبي في بيروت.
3- تاريخ الطبري 232:2.
4- ما بين المعقوفين من عندنا، وراجع فتوح البلدان .

فقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم ،أمير واللّه ما ننفس (1)هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبنائهم وآبائهم وإخوانهم. فقال عمر بن الخطاب:إذا كان ذلك قمت إن استطعت. فتكلم أبو بكر فقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر بيننا نصفان كشق الابلمة(2)؛ فبويع(3).

وروى الطبري في التاريخ حديثاً طويلاً فيه ذكر السقيفة، وذكر الفلنة من كلام ،عمر، وفيه حكاية عمر قول أبي بكر للأنصار: يا معشر الأنصار، إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب داراً ونسباً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة.

-إلى أن قال:-فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب(4)، منا أمير ومنكم أمير، وارتفعت الأصوات واللغط(5)، فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك، فبسط يده

ص: 88


1- أي لم تبخل كما في النهاية في غريب الحديث 96:5.
2- الأبلمة: الخوصة وهي ورق النخل، قال ابن الأثير:الأبلمة بضم الهمزة واللام وفتحهما وكسرهما خوصة المقل والمراد نحن وإياكم في الحكم سواء لا فضل لأمير على مأمور كالخوصة إذا شقت اثنتين متساويتين.
3- نقل ذلك عن الجوهري ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 53:2.
4- الجذيل تصغير الجذل وهو عود ينصب للابل الجربي تحتك به فتستشفى،والمحكك الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مملاً، والعذيق تصغير العذق بالفتح وهو النخلة، والمرجب هو المدعوم المسند بالرحبة وهي خشبة ذات شعبتين توضع للشجرة الضعيفة تسندها إذا طالت وكبرت وكثر حملها والمعنى إني ذو رأي مثمر يستفاد منه كثيراً في مثل هذه المواطن، وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأموال فيها وفي أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل، أنظر الفائق في غريب الحديث 175:1.
5- قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 257:4 اللغط : صوت وضجّة لا يفهم معناها .

فبايعته وبايعه الناس ، ثم نزونا (1)على سعد بن عبادة فقال قائلهم : قتلتم سعداً.

فقلت : اقتلوه قتله اللّه - إلى أن قال : - خشيت إن فارقت القوم ولم يكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد(2).

وفي رواية أبي بكر الجوهري من حديث أحمد بن إسحاق عن أحمد بن سيار، عن سعيد بن كثير الأنصاري بعد كلام أبي بكر للأنصار، فقال الأنصار:ما نحسدكم على خير ساقه اللّه إليكم، ولا أحد أحب إلينا ولا أرضى عندنا منكم،ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم إلى آخر ما ذكر(3).

فهذه الأخبار وغيرها من أحاديثهم ناصة على أن غرض المسارعين إلى عقد الإمارة ليس ما ذكره المحتج من أداء الواجب الذي هو تعيين الإمام، وإنما كان عرضهم ما ذكرناه عنهم من الأمور الدنيوية وتنطق بأن الثلاثة الذين حضروا الأنصار من المهاجرين كان مطلبهم ألا يلى الأمر غيرهم، وليسوا قاصدين أمراً وراء هذا من الأمور الراجعة إلى الدين فقط كما قال.

وأيضاً لو كان غرض من سارع إلى عقد الإمامة أمراً دينياً لم يكن لإعراضهم عن المجلس الذي اجتمع فيه الناس لتجهيز الرسو(صلى الله عليه وآله وسلّم)وجه ؛ إذ جلوسهم في ذلك المجلس لم يكن مانعاً لهم من إجالة الرأي ، وإدارة المشورة فيما بينهم في تعيين الإمام وعقد البيعة له هناك على برد ورضا.

ص: 89


1- أي وقعنا عليه ووطنناه كما في نهاية ابن الأثير 44:5 .
2- تاريخ الطبري235:2،وفي طبعة أخرى 4: 1823 حوادث سنة 11 هجرية حديث السقيفة بتفاوت يسير ومن الخبر موافق لما في شرح نهج البلاغة 24:2و 25 .
3- حكاه عنه في شرح نهج البلاغة 8:6.

فتركهم ذلك المجلس ومخاصمتهم في السقيفة،وما جرى لهم من النزاع فيها المؤدي إلى قول عمر:اقتلوا سعداً قتله الله،وقول الحباب بن المنذر:إن شئتم لنعيدنّها جَذَعة(1)،وقوله:واللّه لا يردّ على أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف (2)، وغير ذلك من الأقوال الشنيعة المذكورة في الأحاديث التي نقلنا منها ما تقدّم وغيرها دليل(3)على أن القوم قصد كل منهم المغالبة والاستبداد بالأمر، وأنهم سارعوا إليه قبل أن يعقد لغيرهم، فيفوتهم ما طلبوا من الرئاسة، لا أداء ما وجب عليهم من تعيين من يصلح للإمامة، وكلّ هذا ظاهر لمن نظر في الأخبار نظر متأمل .

فإذا كان أغراض القوم هي ما عرفت من المطالب النفسية والشهوات الدنيوية، كيف يكون فعلهم أصلاً يُبنى عليه القواعد الشرعية، وحجّة يعتمد عليها في الأصول الدينية ؟! هذا بعيد من التحقيق،وناء عن نظر أهل النظر بواد سحيق.

الثالث:[الاجتماع في سقيفة بني ساعدة]

إن الكلام الذي ذكره من قول أبي بكر وجواب الصحابة له على الوجه المذكور، مما لا أصل له، ولا ورد في شيء من أخبارهم على هذا النهج(4)،

ص: 90


1- في الحجرية: «جدعة) بالدال المهملة والجذع:الشاب ،والصغير، قال ابن الأثير في النهاية 1: 250 في تفسير عبارة «يا ليتني فيها جذعاً»،أي ليتني كنت شاباً ،وقال في اللسان: إن شئتم أعدناها جدعة أي أوّل ما يبتدأ فيها.
2- شرح نهج البلاغة 9:6.
3- ( دليل) خبر لقوله ( فتركهم ذلك المجلس) .
4- أتي الرواية القائلة أن أبا بكر خطب الناس فقال: أيها الناس من كان يعبد محمداً(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علي فإن محمداً إلى آخره، راجع الدليل الأول من أدلة القوشجي في هذا الكتاب.

بل أخبارهم ناطقة بأنّ بيعة أبي بكر لم تكن عن مشاورة ومناظرة، وإنما كانت مغالبة ووقعت فلتة، وإجماع الناس على ذلك، وما تقدم من الأخبار شاهد به،ويكفيك من ذلك قول عمر على صهوة (1)المنبر أن بيعة أبي بكر فلتة، وغيرها من الأخبار(2).

روى الجوهري في خبر سعيد بن كثير :قال لما قبض النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة - ثم ذكر كلام سعد وما ردوا عليه من الإجابة إلى توليته، وما ترادوه بينهم من الكلام إلى أن قال فأتى الخبر عمر، فأتى منزل رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فوجد أبا بكر في الدار وعلياً في جهاز رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وكان الذي أتاه معن بن عدي ، فأخذ بيد عمر وقال: قم.

فقال عمر: إني عنك مشغول.

فقال: إنه لابد من قيام، فقام معه ، فقال له : إنّ هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا فى سقيفة بني ساعدة معهم سعد بن عبادة يدورون حوله ويقولون(3)،أنت المرجى ونجلك المرجى، وثمّ أناس من أشرافهم، وقد خشيت الفتنة، فانظر يا عمر ماذا ترى ؟ واذكر لإخوتك من المهاجرين(4)واحتالوا لأنفسكم، فإنّي أنظر

ص: 91


1- الصهرة: مقعد الفارس من الفرس، والظاهر أن المراد منه المقعد من المتبر.
2- انظر البخاري 208:8كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا، سيرة ابن هشام 4: 1071.مسند أحمد55:1 تاريخ الطبري466:2حوادث سنة 11 للهجرة، حديث السقيفة نهاية ابن الأثير 3: 467 مادة فلت المعيار والموازنة:38 تاريخ مدينة دمشق 281:3وانظر شرح نهج البلاغة 23:2و 26 .
3- ( ويقولون) أضفناها من شرح نهج البلاغة.
4- ( من المهاجرين) من شرح نهج البلاغة 7:6.

إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلا أن يغلقه الله، ففزع عمر أشد الفزع حتى أتى أبا بكر فأخذ بيده فقال : قم .

فقال أبو بكر: [أين نبرح حتى نواري رسول اللّه،](1)إنِّي عنك مشغول ، فقال عمر: لابد من قيام وسترجع(2)إن شاء اللّه ، فقام أبو بكر مع عمر فحدثه الحديث، ففزع أبو بكر أشدّ الفزع وخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة، وساق الكلام الواقع في السقيفة من خصام أبي بكر وصاحبيه للأنصار (3).

وقال أبو بكر الجوهري : سمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلاً بحديث لم أحفظ أسناده قال :من المغيرة بن شعبة بأبي بكر وعمر، وهما جالسان على باب النبي ع حين قبض ، فقال : ما يقعد كما ؟

قالا : ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه - يعنيان علياً(علیه السلام)- فقال : أتريدون أن تنتظروا حبل الحَبَلَة(4)من أهل هذا البيت ؟! وشعوها في قريش تتسع .

قال : فقاما إلى سقيفة بني ساعدة أو كلاماً هذا معناه(5).

ص: 92


1- مابين المعقوفين من المصدر.
2- وفي المصدر:«سترجع».
3- حكاه في شرح نهج البلاغة 6: 6 و 7.
4- في النسخة الحجرية (خيل الحلبة)،وما أثبتناه موافق لشرح نهج البلاغة 6: 43 قال الزبيدي في تاج العروس 471:7وفي الحديث «نهى عن بيع حبل الحلة »بتحريكهما أي نهى عن بيع ما في بطن الناقة أو نهى عن بيع حمل الكرمة قبل أن يبلغ ، ونقل السهيلي أن الحسن بن كيان قال: معناه النهي عن بيع العنب أن يطيب. وهناك معنى ثالث هو النهي عن بيع ولد الولد الذي في البطن، وكانت العرب تفعله كما يظهر ذلك أيضاً من نهاية ابن الأثير 334:1، وعلى أي حال فإن : المقصود من هذه العبارة في هذا الخبر عدم صلاحية علي بن أبي طالب(علیه السلام)للخلافة الحداثة سنة.
5- حكاه في شرح نهج البلاغة 6: 43 .

وغير ذلك من أخبارهم المصرحة، بخلاف ما ذكره هذا المحتج والناطقة بمغايرته، على أن جميع أصحاب السيرة رووا كلام أبي بكر بعد قول عمر رسول اللّه لم يمت ولا يموت حتى يظهره اللّه على دينه قالوا جميعاً فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول اللّه(صلی الله علیه وآله وسلّم)وقال:بأبي وأمّى طِبْتَ حيّاً وميتاً، واللّه لا يذيقك اللّه الموتتين،ثمّ جزع والناس حول عمر ، وهو يقول لهم: إنه لم يمت ويحلف .

فقال : أيها الحالف على رسلك(1)، ثم قال: من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فإنَّ اللّه حي لا يموت،قال اللّه تعالى:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ )(2) وَقَالَ:(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(3)(4).

هذا كلامه الذي نقله جميع أهل السيرة من أوليائه(5)، وليس فيه مما ذكره القوشجي من طلب أبي بكر من الصحابة تعيين الإمام وإجابتهم له بما ذكره هناك حرف واحد(6).

وما ذكرناه دليل واضح على أن القول المذكور لم يقع، وإنه شيء افتعله القوشجي من نفسه أو غيره من متكلميهم ليصلحوا به أمرهم، ويقووا به مذهبهم، والكذب لهم سجيّة وخلق ، فلا حجة فيما ذكر إذ لم يرد به خبر ولا وجد له في كتب الأخبار أثر، والكذب لا تقوم به الحجّة الشرعية عند أولي الألباب.

ص: 93


1- قال ابن الأثير في النهاية 2: 222 الرسل بالكسر التأني ، والمطلوب التأني والتثبت في كلامه.
2- الزمر: 30.
3- آل عمران: 144 .
4- شرح نهج البلاغة 40:2.
5- شرح نهج البلاغة 40:2.
6- وكلام القوشجي ورد في الدليل الأول حيث ادعى الإجماع على أن أبا بكر طلب من الناس تعيين الإمام بقوله«لأبد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آرائكم رحمكم اللّه».

ومما بيناه استبان أنه لا استشارة ولا جواب ، فضلاً عن أن يكون وقع اتفاق من الصحابة على تعيين الإمام وحصول الإجماع.

الرابع : أن خبره(1)لو صح لكان مناقضاً لغرضه ومعانداً لمطلبه، لأن فيه بعد كلام أبي بكر وطلبه من القوم تعيين الإمام،«قالوا: صدقت لكنا ننظر في هذا الأمر»(2)، وهذا القول دال على التأنّى والمهلة،لا على المسارعة والعجلة كما لا يخفى على من له اطلاع وممارسة بكلام العرب ومحاوراتهم .

فما احتج به الرجل على مراده مخالف له فلا يصح له الاحتجاج به لو صح وروده، فكيف ودون ذلك أهوال .

ومما ذكرنا من الوجوه يعلم يقيناً اجتثاث أصل هذا الدليل وانقلاع أساسه، وانطماس رسومه، واعتقاء أثره، مع أنه العمدة عندهم فزال عمادهم، وبطل إليه استنادهم.

[الدليل الثاني للقوشجي ]
[أمور الأمة لا تتم بدون الإمام]

الثاني من أدلّته أن الشارع أمر بإقامة الحدود وسد الثغور، وتجهيز الجيوش للجهاد، وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام،وحماية بيضة الإسلام ممّا لا يتم إلا بالإمام،وما لم يتم الواجب المطلق إلابه وكان مقدوراً فهوواجب على مامرّ.

والجواب من وجهين :

الأول : منع توجّه الخطاب بذلك لعامة المكلفين ابتداءاً، بل الخطاب متوجه به

ص: 94


1- أي خبر القوشجي المنقول عن أبي بكر .
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 1 السطر 20.

كذلك إلى الأئمة والمكلّفون مأمورون بطاعتهم ومعاونتهم عليه، ومنهيون عن التخلّف عن أمرهم، فالخطاب به توجّه إليهم بواسطة وجوب مؤازرة الأئمة عليهم في ذلك كله، فهو خطاب ثانوي.

وقوله تعالى:(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا تَكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى القتال)(1)،وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(2)،وقوله تعالى:( مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَفْسِهِ )(3)، وقوله تعالى:(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(4)وغيرها من الآيات الجارية هذا المجرى.

وقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) فيما استفاض«ليس عليكم أن تأمروني ولا أن تنهوني وإنما عليكم أن تسمعوا وتطيعوا»(5)شواهد صدق على ما قلناه؛ إذ الإمام في ذلك كله كالنبي لأنه خليفته ، فليس على المكلفين تعيين من يتوجه له الخطاب من الشارع بذلك، كما أنّه ليس عليهم أن يعينوا شارعاً يتوجه له الأمر من اللّه به، بل على الشارع تعيين شخص لذلك، كما كان على اللّه تعالى أن يبعث شارعاً بما يريد من الشرع .

واستقلال النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حياته بتأمير الأمراء دليل على أن تعيين الأمير العام من

ص: 95


1- النساء : 84 .
2- التوبة:73.
3- التوبة :120.
4- النور :63.
5- تهذيب الأحكام 2 : 28 - 32، وسائل الشيعة 4: 200 ج 1 وفي الطبعة (الإسلامية) 3: 146 ح1 .مستدرك الوسائل 3: 135 ج 1 عن السرائر 3: 556 .

بعده له وعليه لا للرعيّة ولا عليهم ، وإلا لفوّض لهم ذلك في حياته؛ فتبين أن عامة الناس ليسوا بمأمورين بتلك الأمور المذكورة على الإطلاق، وبذلك بطل الدليل.

الثاني: أن التكليف بالمقدّمة بواسطة التكليف بذيها مشروط بقدرة المكلّف عليها كما ذكره في دليله، وأما إذا لم يكن المكلّف قادراً عليها كالوقت للصلاة، والاستطاعة للحج والنصاب للزكاة لم يكلف بها ولا بذيها، بل يكلف بها إذا حصلت، وتحصيل الإمام غير مقدور للمكلفين من جهتين :

الأولى: إنّه يشترط في الإمام المنصوب أن يكون مرضياً عند الله للإمامة، ومعرفة المرضي عند الله لذلك من دون نص عليه متعذرة على سائر المكلفين؛لعدم اطلاعهم على الغيب وانقطاع الوحي بموت النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وعدم المؤيد على قول المُستدل بإلهام من الله وتفهيم [منه ] وكون الظنّ لا يغنى من الحق شيئاً ، ولأن الظاهر قد يخالفه الباطن، فربما يختار المكلفون من يؤدي نصبه إلى الفساد المطلوب إزالته من نصب الإمام، وهم يظنون أنه صالح ، فلا يكون الله رضاً.

وحيث كان معرفة من يصلح للإمامة عند اللّه ويكون نصبه اللّه رضاً غير مقدور للرعيّة لم يجز أن يكونوا مأمورين به، فبطل الدليل.

اللهم إلّا أن يقولوا: إنّ الإمام لا يلزم أن يكون مرضيّاً عند اللّه ولا موسوماً بالصلاح للإمامة لديه.

فحينئذ تجيبهم ونقول: فما الفرق بين هذا الإمام وبين الملوك المتغلبين على العباد بالقهر والجبر ؟ وأي فائدة في نصب هذا الإمام للدين ؟ وأي مصلحة في حكومته للمسلمين ؟ وكيف يجوز طاعة من لم يكن مرضيّاً عند الله للأمر والنهي ؟

ص: 96

على أنّه لا يتم به الواجب المطلق لعدم قيامه بجميع الوظائف الشرعية، ولسنا تتكلم في مثل هذا ولا موضع للقول فيه، ولا اعتناء لنا بشأنه، ولا حاجة لنا في ذكره إلا بما يذكر أمثاله كنمرود وفرعون.

الثانية : أن الإمام المرضي عند جميع المسلمين يستحيل أن يكون واحداً بعينه باتفاق لاختلاف الآراء وتشعب الأهواء، وميل كلّ فرقة إلى اختيار شخص لاسيما عند كثرة المسلمين وانتشارهم في البلاد، وقبح الجبر فيما سبيله الاختيار، وعدم جواز ترجیح اختيار البعض على البعض الآخر لفقد المرجّح.

فأين قدرة المكلفين على تعيين واحدٍ بعينه وما يختاره قوم يأباه قوم آخرون ؟!

وحديث أبي بكر مع الأنصار في السقيفة، وما جرى بينه وأصحابه وبين علي(علیه السلام)والزبير ومن معهما، وحديث غضب طلحة وتابعيه لنص أبي بكر على عمر وعدم رضا على(علیه السلام) وجملة من الصحابة كعمار والمقداد وأمثالهما ببيعة عثمان وعدم انقياد جماعة كثيرة لأمير المؤمنين علي (علیه السلام)، ظناً منهم أن إمامته ببيعة من بايعه كالأولين (1)دليل(2)واضح وبرهان لائح على أنه لم يل الخلافة من رضي به جميع أهل الحل والعقد من المسلمين، ولا أمكن لأحد تحصيل رضاهم بإمامته فكيف يكلفون بما لا يمكن حصوله ؟ أو يكلف أحدهم بما لا يمكن له تحصيله وهو رضا غيره باختياره فيقال له : صيّر غيرك راضياً بما تختار، ثم يكلف ذلك الغير بتصيير الأوّل راضياً بما يختار والأمران متقابلان والتكليفان متعاندان ،

ص: 97


1- أنظر شرح نهج البلاغة 164:1 وج 6: 5 و 43.
2- (دلیل) خبر ( حديث أبي بكر مع ...).

ولا يحصل بالقطع واليقين إلا بالإكراه وتحكيم حدّ الحسام ، وإعمال ماض السنان في الرؤوس والأجسام، وأين هذا من الرضا المطلوب والاختيار المقصود ؟

فيان أن نصب الإمام على وجه لا يستلزم شيئاً من المفاسد غير مقدور للأنام ،فيطل تكليفهم به المدعى.

الدليل الثالث: [في نصب الإمام منافع لا تحصى ]

الثالث من أدلته(1)أن في نصب الإمام استجلاب منافع لا تحصى،واستدفاع مضار لا تخفى،وكلّ ما هو كذلك فهو واجب.

أمّا الصغرى فتكاد أن تكون من الضروريات، بل من المشاهدات، وتعد من العيان الذي لا يحتاج إلى البيان، وذلك لأن الاجتماع المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد لايتم بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح، ويمنع ما تتسارع إليه الطباع وتتنازع إليه الأطماع، وكفاك شاهداً ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن، بمجرّد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ورعاية البيضة، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد، ولم يخل عن شائبة شر وفساد .

ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس لا يصدرون إلا عن رأيه ومقتضى أمره ونهيه بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم كالنحل لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها مادام فيها ، وإذا هلك انتشرت الأفراد انتشار الجراد، وشاع فيما بينهم الهلاك والفساد.

ص: 98


1- في الحجرية: ( من أدلتهم)، والمثبت موافق لوحدة السياق .

وأما الكبرى فبالإجماع(1).

والجواب: أما المنافع الكثيرة في نصب الإمام فأمر معلوم، وكذلك إن حفظ النظام منوط به وبدونه يختل أمر الدين وليس هذا محل النزاع.

وأما دعوى تفويض اللّه نصبه إلى الأمة الذي هو موضع النزاع فغير مسلمة، على أنها هي مطلوبهم، والدليل غير ناهض بها ولا واف بإثباتها وإنما غايته الدلالة على وجوب نصب إمام يحصل به النفع ويدفع به الضرر، وعلى هذا يكون لطفاً فيكون واجباً على اللّه تعالى، ولم تكن فيه دلالة على جعل ذلك للعباد، وهذا المعنى هو المتنازع فيه.

وأيضاً دلّ الدليل على وجوب نصب الإمام لاستجلاب المنافع ودفع المضار والمفاسد، وفي تفويضه إلى المكلفين عكس ذلك المراد ونقيض الوجه المطلوب، لما ذكرنا سابقاً من اختلاف الآراء في الاختيار، وميل كل طائفة من الناس إلى شخص بعينه غير من مالت إليه الطائفة الأخرى، فيقع بين العباد الجدال والخصام، ويختل به النظام المطلوب التئامه من نصب الإمام، وميل كل من الناس إلى هواه .

وأخذ كل منهم برأيه ومشتهاه، لاسيما إذا كان له الخيرة في ذلك أمر مشاهد بالعيان المستغنى عن البيان، وحصول الفساد بذلك أمر معلوم باللزوم، وتسليم الخصوم، وقد منعوا به من نصب إمامين في زمان واحد.

ومن المعلوم لدى كلّ فاهم أن الاختلاف والفتنة اللذين نشأ منهما الفساد في

ص: 99


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة ص 1 السطر 23 ملخصاً، شرح المقاصد 5: 337 .

هذه الأمة ، فسفكت الدماء ، وعطلت الحدود، وغيّرت الأحكام، واختل نظام دين الإسلام إنما كانا من جعلهم نصب الإمام إلى الخلق، واختلافهم في الاختيار(1).

فتبين أن في جعل تعيين الإمام إلى الرعيّة لزوم مفسدة تزول بها المصلحة التي وجب لأجلها نصب الإمام، وذلك غير جائز على الحكيم فالواجب لدفع المفسدة التي لا تحصل المصلحة إلا به أن يكون الإمام منصوباً من قبل من لا يجوز لأحد من الرعية مخالفته، ولا تسوغ لأحد من الناس معصيته ليكون ذلك حاسماً للنزاع، وقاطعاً لطريق ذوي الأطماع وليس كذلك إلا من هو منصوب من الله تعالى؛ فنصب الإمام لذلك يكون واجباً عليه، فالدليل إن لم يكن لنا لم يكن علينا.

[نظرية الخوارج والرد عليها ]

وأما ما ذهب إليه الخوارج، وما قال به أبو بكر الأصم، وما ذهب إليه الفوطي وأتباعه(2)فهو مع كونه فاسداً بما دلّ من الأدلة على وجوب الإمام مطلقاً مبني على جعل تعيين الإمام موكولاً إلى العباد ، وقد أقمنا البرهان على بطلانه، وزيّفنا أدلّته، وهدمنا رفيع بنيانه .

وإذا بطل الأصل تبعه في البطلان فرعه،لاسيما وحجة الخوارج موجبة لبطلان الاختيار حيث قالوا:إن في نصب الإمام إثارة للفتن لأن الآراء مختلفة، والأهواء

ص: 100


1- قال الشهرستاني في الملل والنحل 30:1وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ماسل على الإمامة في كل زمان.
2- قالت الخوارج :أن نصب الإمام غير واجب مطلقاً. وقال أبو بكر الأصم: إن نصب الإمام يجب مع الخوف وظهور الفتن ولا يجب مع الأمن لعدم الحاجة إليه. وقال الفوطي: يجب مع الأمن لإظهار شعائر الشرع ولا يجب عند ظهور الفتن، لأن الظلمة ربما لا يطيعوه، وصار سبباً لزيادة الفتن راجع المبحث الثاني من هذا الكتاب.

متباينة، فيميل كل حزب إلى أحد فتهيج الفتن وتقوم الحروب، وما هذا شأنه لا يجب، بل كان ينبغى أن لا يجوز، إلا أن احتمال الاتفاق على الواحد أو تعينه وتفرده(1)باستجماع الشرائط أو ترجيحه من بعض الجهات منع الامتناع وأوجب الجواز، انتهى(2).

وأنت خبير بأنّ ما احتملوه غير حاصل ولا حصل فيما مضى فلم يبق إلا أن يكون نصب الإمام محرّماً، وهو فاسد باتفاق المسلمين، أو واجباً على اللّه دون الرعيّة لإزالة الخوف مما ذكروه من هيجان الفتن وقيام الحروب، وهو المطلوب. وحجّة أبي بكر الأصم مبنية أيضاً على أن مصلحة نصب الإمام مقصورة على إزالة الخوف، وتأمين سبل المسلمين وليس بصحيح، فإن للإمام مصالح كثيرة غير ذلك قد مر ذكرها وسيأتي.

وحجة الفوطي منقوضة بأن من جملة المصالح التي لأجلها نصب الإمام إزالة البدع وإذهاب الفتن وإماطة الاختلاف، وردع أهل المعاصي عنها، فلا يكون وجودها مانعاً من وجوب نصبه ، والأمر في ذلك ظاهر .

فائدة جليلة هي فرع ما أضلناه ونتيجة ما أبرمناه

اعلم - أرشدنا اللّه وإياك إلى الحقّ - أن أصحابنا الإمامية وبعض فرق الشيعة قالوا : إنه لا يجوز خلق زمان التكليف من إمام معصوم، تقوم به الحجة اللّه على

ص: 101


1- في الحجرية (تقرره).
2- حكاه في شرح المقاصد للتفتازاني 5: 243 .

خلقه(1)،وتُزاح به علتهم،وتجتمع به كلمتهم، وتحصل به ألفتهم، ويدلهم على مراشدهم، ويهديهم إلى سبيل نجاتهم، ويبين لهم ما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وينتظم به أمر دنياهم، وتنجح به مطالبهم ومصالحهم في معاشهم ومعادهم،ويزول به الشك،ويتضح به الحق،وترتفع به الحيرة،ويقمع به الباطل،ويُقام به الأود،ويثقف به العوج(2)، ويستبين بنوره طريق الهدى، ويستضيئون بضياء علمه فى حندس(3)الجهل وغياهب(4)الظلماء.

ولا يشترط تمكنه ولا على الله تمكينه من إقامة عمود الدين وإعزاز دولة الإسلام بنفسه بل يجب عليه القيام بذلك مع وجود المعين والناصر، وبذل الطاعة ممّن يحصل به النصرة والانتصار على الأعداء.

وخالفنا في ذلك مخالفونا القائلون بأن نصب الإمام من قبل الرعية من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فجوزوا خلق العصر من إمام بتلك المثابة.

على أن مقتضى أدلّة الطائفتين كما عرفت وجوب نصب الإمام على العباد في كل زمان وإن تركه إخلال بالواجب عقلاً، كما عن المعتزلة، أو شرعاً، كما عن الأشاعرة(5).

ولازم ذلك ارتكاب الجميع منهم العصيان بتركهم نصب الإمام الذي تحصل به

ص: 102


1- راجع اشارة السبق لأبي المجد الحلبي:62؛بحار الأنوار 34:24.
2- الثقف: هو إقامة درء الشيء ويقال: تثقف القناة إذا أقام عوجها كما في معجم مقاييس اللغة 383:1.
3- الحندس: شديد الظلمة كما في نهاية ابن الأثير 1: 450.
4- الغياهب جمع غيهب : الظُّلمة وبمعنى الذي فيه غفلة ولعل المراد هنا الثاني، أي عقلات الظلمة كما في لسان العرب 653:1.
5- الشافي في الإمامة 51 أنظر شرح المقاصد 235:5.

حماية حوزة الإسلام ويدفع به الضرر عن المكلفين في جميع الأزمان؛ إذ لا نراهم فعلوا ما أوجبوه على أنفسهم، والتزموا به في مذهبهم من قديم الا الأعصار فدخلوا بإخلالهم بالواجب عندهم في زمرة العاصين ، وكانوا بتركهم إياه في عداد الفاسقين.

وحسبك بلزوم الفسق لهم وتوازرهم عليه لإهمالهم ما وجب عليهم بحكمهم دليلاً على فساد قولهم وبطلان مذهبهم، ومن ثَم كان الصحيح ما عليه أصحابنا.

[تتمة أدلة المصنف ]

ولنا على ذلك مضافاً إلى الأصل أدلة كثيرة من العقل والنقل :

[الدليل]الأوّل:[النبوة لطف خاص والإمامة لطف عام]

إنّا بيّنّا أن الإمام لطف، وأن اللطف منحصر فيه، واللطف واجب على اللّه تعالى، والأزمان متساوية والمكلّفون متماثلون، فليس زمان أولى باللطف من زمان، ولا مكلّف أحق به من مكلف آخر، وليس يجوز في حكمة اللّه منع بعض المكلفين اللطف فوجب إذاً كون الإمام موجوداً في جميع أزمنة التكليف،فلا يجوز على اللّه تعالى بمقتضى حكمته إخلاء زمان من أزمنة التكليف من إمام بالمعنى المذكور.

وذلك بخلاف النبيّ فإنه وإن كان لطفاً، إلا أن اللطف غير منحصر فيه لقيام الإمام مقامه فيما بعت له من المصالح والفوائد، فلذا جاز خلو الزمان من رسول حي ولم يجز خلوه من إمام.

ولذا قال العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّى عطر اللّه

ص: 103

مرقده في بعض كتبه : الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من النبي الحي بخلاف الإمام ، انتهى(1).

وللشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه في هذا المقام كلام طويل لا بأس بنقل جملة منه، لما فيه من الفوائد الجليلة، قال-روح اللّه روحه ونوّر ضريحه-:والفترات بين الرسل(علیهم السلام)كانت جائزة، لأن الرسل مبعوثة بشرائع الملة وتجديدها وتنسخ بعضها بعضاً، وليس الأنبياء والأئمة كذلك ولا لهم ذلك،لأنه لا ينسخ بهم شريعة ولا تجدّد بهم ملّة .

وقد علمنا أن بين نوح وإبراهيم وبين إبراهيم وموسى وبين موسى وعيسى وبين عيسى ومحمد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنبياء وأوصياء يكثر عددهم، وإنما كانوا مذكرين لأمر اللّه، مستحفظين مستودعين لما جعل اللّه تعالى عندهم من الوصايا والكتب والعلوم ، وما جاءت به الرسل عن اللّه عز وجل إلى أممهم، وكان لكل نبي منهم مذكر عنه ووصي ومودع استحفظ من علومه ووصاياه.

فلمّا ختم اللّه عز وجل الرسالة بمحمد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يجز أن تخلو الأرض من وصي هادٍ مذكّر يقوم بأمره ويؤدي عنه ما استودعه،حافظاً لما انتمنه عليه من دين اللّه عزّوجلّ فجعل اللّه ذلك سبباً لإمامة منسوقة ، منظومة متصلة لما(2)اتصل أمر اللّه عزّوجل،لأنه لا يجوز أن تتدارس آثار الأنبياءوالرسل، وأعلام محمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وملّته وشريعته وفرائضه وسنّته وأحكامه أو تنسخ و تخفی(3)عليها آثار رسول

ص: 104


1- كتاب الألفين : 22 وص 100 .
2- فى كمال الدين ما.
3- كذا في النسخة الحجرية، وفي كمال الدين: ( أو تعفى).

آخر(1)وشرايعه، إذ لا رسول بعده(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ولا نبي.

والإمام ليس برسول ولا نبي ولا داع إلى شريعة ولا ملة غير شريعة محمّد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وملته ، فلا يجوز أن يكون بين الإمام والإمام الذي بعده فترة والفترات بين الرسل جائزة، فلذلك وجب أنه لابد من إمام محجوج به ، ولابد أيضاً أن يكون بين الرسول والرسول - وإن كان بينهما فترة - إمام وصى يلزم الخلق حجته، ويؤدي عن الرسل ما جاؤوا به عن اللّه تعالى وينبه عباده على ما أغفلوا ويبين لهم ما جهلوا ليعلموا أن اللّه

عزّوجل لم يتركهم سُدى ، ولم يضرب عنهم الذِّكْرَ صَفْحاً، ولم يَدَعْهم من دينهم في شبهة، ولا من فرائضه التي وظفها عليهم في حيرة،والنبوة والرسالة سنة من اللّه جل جلاله ، والإمامة فريضة، والسنن تنقطع ويجوز تركها في حالات والفرائض لا تزول ولا تنقطع بعد محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

وأجل الفرائض وأعظمها خطراً الإمامة التي تؤدى بها الفرائض والسنن، وبها كمال الدين وتمام النعمة ؛ فالأئمة من آل محمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)- لأنه لا نبي بعده - يحملون العباد على محجّة دينهم، ويلزمونهم سبل نجاتهم، ويجنبونهم موارد هلكتهم،ويبينون لهم من فرائض اللّه عزّوجلّ ما سدّ عن أفهامهم، ويهدونهم بكتاب الله عزّ وجلّ إلى مراشد أمورهم، فيكون الدين بهم محفوظاً لا يعترض فيه الفسقة، وفرائض اللّه عزّوجلّ مؤداة لا يدخلها زلل ، وأحكام اللّه خالصة لا يلحقها تبديل ولا يزيلها تغيير؛ فالرسالة والنبوة سنن والإمامة فرائض اللّه الجارية بمحمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لازمة لنا ثابتة علينا لا تنقطع إلى يوم القيامة.

مع انّا لا ندفع الأخبار التي رويت أنه كان بين محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وعيسى(علیه السلام) فترة

ص: 105


1- كذا في كمال الدين وفي النسخة الحجرية : ( رسول اللّه).

لم يكن فيها نبي ولا وصي، ولا ننكرها، ونقول: إنها أخبار صحيحة، ولكن تأويلها غير ما ذهب إليه مخالفونا من انقطاع الأنبياء والأئمة والرسل(علیهم السلام)وإنما معنى الفترة أنّه لم يكن بينهما رسول ولا نبئ ولا وصى ظاهر مشهوركمن كان قبله.

وعلى ذلك دلّ الكتاب المنزل أنّ اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً صلى اللّه عليه وآله على حين فترة من الرسل ، لا من الأنبياء والأوصياء، ولكن قد كان بينه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وبين عيسى أنبياء وأئمة مستورون خائفون.

منهم خالد بن سنان العبسي ؛ نبي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر، لتواطؤ الأخبار بذلك عن الخاص والعام، وشهرتها عندهم، وأن ابنته أدركت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)اللّه ودخلت عليه، فقال النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): هذه ابنة نبي ضيعه قومه، خالد بن سنان العبسي ، وكان بين مبعثه وبين نبينا صلوات الله عليه وآله خمسون سنة، وهو بن سنان بن بعيث(1) ابن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس ،حدِثني بذلك جماعة من أهل الفقه والعلم(2).

إلى أن قال: وبعد فلولا الكتاب المنزل وما خبرنا اللِه عزّ وجلّ على لسان نبينا المرسل(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) وما اجتمعت عليه الأمة من النقل عنه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) في الخبر الموافق للكتاب أنّه لا نبي بعده لكان الواح لكان الواجب للحكمة أنّه لا يجوز أن تخلو العباد من رسول منذر مادام التكليف لازماً لهم ، وأن يكون الرسل متواترة إليهم على ما قال اللّه عزّ وجلّ :

(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً )(3).

ص: 106


1- في بعض نسخ كمال:الدين العيث، وفي المعارف لابن قتيبة: ص 62 أنت ابنته رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فسمعته يقرأ«قل هو اللّه أحد»، فقالت: كان أبي يقول هذا.
2- كمال الدين وتمام النعمة : 657 - 659 بتفاوت في بعض.
3- المؤمنون: 44 .

إلى أن قال : فلما أخبر اللّه عزّ وجلّ أنه قد ختم رسله وأنبيائه بمحمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،سلّمنا ذلك وأيقنا أنّه لا رسول بعده ، وأنه لابد لنا ممن يقوم مقامه، وتلزمنا حجّة اللّه عزّ وجلّ به .

إلى أن قال: فالرسل والأنبياء والأوصياء لم تخل الأرض منهم، وقد كانت لهم فترات من خوف وأسباب لا يظهرون فيها دعوة، ولا يبدون أمرهم إلا لمن أمنوه حتى بعث الله محمداً (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فكان آخر أوصياء عيسى(علیه السلام)رجلاً يقال له: أبي وبالط(1)(2)، وروي فى ذلك أخباراً جمة، إلى آخر ما قال، ولنقتصر مع ما ذكرناه في صدر الاستدلال في هذا الوجه على كلامه،فقد بلغ منه المرام فجزاه اللّه خيراً عن المسلمين والإسلام.

[الدليل ] الثانى:[الحجة اللّه لا تقوم بدون مرشد]

(3)إن الحجّة لا تقوم اللّه تعالى على خلقه بدون مرشد مأمون يبين للناس أمر الدين، وتُزاح به علة المكلفين، ويهدي العباد إلى طريق الصواب، ويرفع عنهم الاختلاف والحيرة، ويؤيده قوله تعالى :(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ )(4) الدال على أن كلّ قوم لابد لهم من هاد يهديهم إلى سبل الحق.

واعلم أن أن مبنى هذا الدليل على خمس مقدمات:

ص: 107


1- في كمال الدين : آبي وكان يقال له : بالط أيضاً، قال الشيخ الصدوق في ص 166: قد ذكر قوم أن ابی هو أبو طالب، وإنما اشتبه الأمر به لأن أمير المؤمنين(علیه السلام)سئل عن آخر أوصياء عيسى(علیه السلام)فقال : آبی ، فصحفه الناس، وقالوا أبي.
2- كمال الدين: 664 .
3- الثاني من الأدلة على لزوم نصب الإمام، وقد تقدّم الدليل الأول ص 103.
4- الرعد: 7.
[المقدمة ] الأولى : [لكل واقعة حكم ]

إنّ للّه سبحانه وتعالى في كل واقعة حكماً معيناً لا يختلف باختلاف المجتهدين، ويدلّ على هذه المقدّمة آيات كثيرة، مثل قوله تعالى : ( وَإِن مَّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا تُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(1)،وقوله تعالى: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ)(2)، وقوله تعالى :(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)(3)وما أشبهها من الآيات.

وكلّها ظاهرة غاية الظهور في أن لكل أمر وفعل حداً وحكماً عند اللّه تعالى، وليس شيء عنده مهملاً غير محدود بحدِّ ولا محكوم عليه بحكم، وقد استفاض في الروايات عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من طرق أصحابنا أن الله جعل لكلّ شيءٍ حداً، وجعل لمن يتعدّى ذلك الحدّ حدّاً(4).

[دليلهم على عدم تعيين الحكم في كل واقعة ]

وأمّا ما يحتجّ به للمخالفين النافين تعيين حكم اللّه تعالى في كل واقعة من قوله تعالى :(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(5)وقوله تعالى:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(6)فضعيف.

ص: 108


1- الحجر:21.
2- یس : 12 .
3- الأنعام: 38 .
4- المحاسن 274:1 ح 382 ، الكافي 59:1 ح 2 وج 175:7 ح 7 كتاب الحدود، باب التحديد، وسائل الشيعة 14:28 ح1، وفي الطبعة الإسلامية 310:18 - 2.
5- المائدة: 67 .
6- النحل : 44 .

و تقرير حجّتهم أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مأمور بتبليغ الأمة ما أنزل إليه من ربه وبيانه لهم.ومن المعلوم أنه لم يخالف الأمر فقد بلغ ما أنزل اللّه إليه وبينه ، وما بلغه الأمة وبينه لهم لم يف ببيان جميع الأحكام ، فلو كان اللّه تعالى في كل واقعة حكم الأنزله إلى نبيه ، ولو أنزله إليه لبلغه وبيّنه، لأنه مأمور بذلك، ولو بلغه وبينه لنقل إلينا.

وحيث لم ينقل إلينا مع توفّر الدواعي على نقله من حكم الشريعة إلا ما نقل علمنا أنه لم ينزل عليه شيئاً غيره، فلم يكن اللّه في ذلك الغير حكم، وكان الحكم فيه الاجتهاد؛فما أدّى إليه نظر المجتهد في الواقعة الغير المبينة ، قهو حكم اللّه في حقه وحق مقلديه ، وهذه الحجّة هي العمدة في احتجاجهم، وليس لهم غيرها ما یعتنى به أو يحتاج إلى الجواب عنه

[ردّ دليل العامة ]

وهذه حجة منقوضة وشبهة مردودة بوجوه

[الوجه ] الأول : منع العموم في آية التبليغ وإرادة الخصوص منها ، كما يشير إليه قوله تعالى فيها : ( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، فإنّه لا يستقيم إلا بجعل مسمى رسالته المفعول لبلغت مغايراً لمصداق ما أنزل إليك ليكون المعنى : بلّغ هذا الأمرالخاص ، فإن لم تبلغه كنت بمنزلة من لم يبلغ ما سبق من الرسالة التي بلغتها.

ولو كان المراد العموم فيما أُنزل إليك لم يكن لقوله تعالى :(وَإِن لَمْ تَفْعَلْ)إلى آخره موقع ، لأن معناه يكون على هذا بلغ جميع ما أُنزل إليك، وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك لم تبلغ جميع ما أنزل إليك، فوزانه وزان اضرب زيداً، فإنّك إن لم تضربه لم تضربه.

ومن البين لدى أُولي الفطنة أن الكلام على هذا التقدير غير مفيد، لأن الجزاء

ص: 109

هو عين الشرط، فلم يحصل جزاء، إذ لابد في إفادة الجملة الشرطية من تغاير الشرط والجزاء ؛ فعلى المعنى المذكور من العموم يجب أن يكون الجزاء كلاماً آخر مثل أسقطنا أجرك أو عاقبناك، وما جرى هذا المجرى، وأقل ما فيه أن تكون الآية على هذا الوجه خارجة عن قانون البلاغة والفصاحة التي نزل بهما القرآن فيكون مرغوباً عنه.

ومما يقوّي ما ذكرناه من إرادة الخصوص من الآية،بل يعينه أنها نزلت بعد نزول أكثر القرآن،وبعد تبليغ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كثيراً من الفرائض والأحكام في أصول الدين وفروعه فيكون المقصود من الجملة: إنّك إن لم تبلغ ما أنزل إليك من ربَّك في هذا الأمر الخاص كنت كأنك لم تبلغ ما بلغت سابقاً من رسالة ربك، وأحبط أجرك على تبليغك الرساله المتقدمة، لكتمانك هذا الأمر.

وفائدتها (1)الحثّ والتأكيد على المسارعة إلى تبليغ ذلك الأمر الخاص، وهذا واضح لمن تأمل، وذلك الأمر المذكور هو تبليغ الناس أمر ولاية أمير المؤمنين علي(علیه السلام)لا جميع الأحكام، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك في ولاية علي(علیه السلام).

وهو المروي عن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه من طريق الكلبي عن أبي صالح،رواه الحاكم أبوالقاسم الحسكاني(2)وأبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره،وقال بمضمونه(3)، ومن أصحابنا رواه من الطريق المذكور

ص: 110


1- أي فائدة إرادة الخصوص من الآية.
2- شواهد التنزيل 391:2.
3- تفسير الثعلبي 4: 90 و 92وحكاه عنه ابن البطريق في خصائص الوحي المبين:87 ح22وانظر جامع البيان للطبري414:6.

العياشي في تفسيره(1)،وهو المتفق عليه في الرواية عن أئمتنا(علیهم السلام)بين أهل النقل عنهم، وهو الأصح.

أو أنّ اللّه بعث النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)برسالة ضاق بها ذرعاً وهاب قريشاً، فأنزل اللّه عليه الآية لإزالة تلك الهيبة،وهو المروي عن الحسن البصري(2)،وليس فيه ظهور مخالفة للقول الأول لاحتمال إرادته من الرسالة الوجه الأول، وهو تبليغ ولاية علی(علیه السلام).

ويومئ إليه قوله «وهاب قريشاً»، إذ لم يرد أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)هاب قومه في تبليغ أمرٍ إلا ولاية عليّ ، فإنّه خاف منهم أن يكذبوه فيها، وينسبوه إلى المحاباة ، كما جاء الرواية عن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه الأنصاري برواية الحسكاني والثعلبي (3).

أو المراد: بلّغ ما أنزل إليك من آيات القرآن، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً (4)، وهو محتمل منها، ويدخل الأول فيه بالعموم، لأن ولاية علي منزلة في الآيات .

وبالجملة فكافة المفسرين قائلون بأن المراد من ما أنزل إليك الخصوص ، ولم ينقل أنها نزلت في الأمر بتبليغ جميع الوحي إلا عن عائشة(5)،وليس قولها ممّا

ص: 111


1- تفسير العياشي328:1و 331 و 332 .
2- نقله عنه الطبرسي في مجمع البيان380:3ذيل الآية 67 من سورة المائدة .
3- تفسير الثعلبي 4: 90 و 92 وشواهد التنزيل 255:1ح 249 ، وحكاه عن الثعلبي ابن البطريق في خصائص الوحي المبين 87ح32 .
4- جامع البيان 414:6.
5- لاحظ صحيح البخاري 5 : 188 ، كتاب التفسير، باب تفسير سورة المائدة وج 8: 210، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالی: يا أيها الرسول .

يعارض ما ذكرناه، مع أن في تصديق روايتها - لو خلت عن معارض - غاية الإشكال، فكيف وقد خالفت جميع الأقوال التي كلها متفقة على أن المراد من الآية الخصوص لا العموم المؤيدة بظهور الآية، بل صراحتها في ذلك. على أن قولها لا يستلزم العموم،لأن المروي عنها أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يكتم شيئاً من الوحي للتقية(1)، ونحن نقول بذلك ونعتقد أنّ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يكتم للتقية شيئاً من الوحى، وإنما كتمه لمصلحة أخرى لأجلها أمر بكتمانه، كعدم حاجة الناس إليه في زمانه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فلم يبينه لجميعهم ، أو غير ذلك من المصالح، وكلامها لا ينفي ما أثبتناه فانتفى الخلاف عما نقول .

وآية التبيين (2)يحتمل فيها ما ذكر عن ابن عباس أخيراً في آية التبليغ وهو تبيين آيات القرآن، أو تبيين الشرايع والدلائل على توحيد الله تعالى، ويحتمل أن يكون المبلغ والمبين بفتح اللام والياء في الآيتين الفرائض الدينية والأحكام الكلية، والحدود الشرعية لا جميع الأحكام حتى الجزئية في الوقائع المتجددة، ولا جميع الوحي.

وهذا الوجه وإن لم يذكره أحد من المفسرين إلا أنه قريب من مفهوم الآيتين وإذا لم يكن المبلغ والمبين في الآيتين، عامين سقط احتجاج الخصوم بهما على مطلبهم، إذ لا دليل لهم فيهما إلا على تقدير عموم المبلغ والمبين وشمولهما لجميع الأحكام كما هو ظاهر.

ص: 112


1- صحيح البخاري 5: 188 وج 8: 310 ومتن الحديث بسند ذكره عن عائشة قالت : من حدثك أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كتم شيئاً من الوحي فلا تصدقه، إنَّ اللّه تعالى يقول:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ). إلى آخر الآية.
2- وهي الآية 44 من سورة النحل (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ).

[ الوجه ] الثاني : سلّمنا أن مفاد الآيتين ظاهر العموم، لكن قد عارضتهما آيات أخر دالة على أنّ اللّه في كل واقعة حكماً معيناً، وأن لكل شيء عنده حدّاً مثل الآيات المتقدمة، ومثل قوله جل وعلا:(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(1)فإنّها ظاهرة بل صريحة في أن كل ما حصل فيه الاختلاف بين الأمة فلله فيه حكم معين ولم يكن مهملاً عند اللّه تعالى، والمنصوص لا يكون فيه اختلاف .

ومثل آيات الردّ عند التنازع إلى اللّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر(2)،وبيان توجيهها أن الردّ إلى اللّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر عند التنازع في الحكم إما أن يكون لبيان الحكم ورفع الاختلاف فيه في تلك الواقعة أو لا؛ والثاني باطل قطعاً.

وعلى الأوّل إما أن يكون الله تعالى في تلك الواقعة حكم معين بينه الرسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وبينه الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لولي الأمر أو لا ؛ فإن كان الثاني فلا فائدة عليه في الرد عند التنازع إلى الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، إذ الاختلاف على هذا لا يرتفع بالرد إليه، لأن جوابه على هذا الوجه للمختلفين - إذا رجعوا إليه - إنّه ليس اللّه فيما اختلفتم فيه حكم معين بينه لي أو أنتظر بيانه لي حتى أخبركم به، فيزول الاختلاف عنكم، بل الحكم في واقعتكم هذه دائر مدار الاجتهاد، فما أدى إليه اجتهاد أحدكم فهو حكمه، فليعمل عليه .

ص: 113


1- الشورى: 10 .
2- مثل قوله تعالى في سورة النساء، الآية 59 (فَإن تَنَازعتُم في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً .

وهكذا يكون الجواب من ولي الأمر بعد الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)هو من الله أيضاً ، فأي فائدة على هذا في الرد إليهم عند التنازع ، إذا لم يكن الاختلاف مرتفعاً به، بل يكون عبثاً، واللّه لا يأمر به فيثبت الأول ، وهو كون الردّ إليهم لبيان الحكم المعين في الواقعة، ورفع الاختلاف فيها بالبيان للمختلفين ذلك الحكم، ومنه يثبت أنّ للّه فيها حكماً معيناً، وهو المطلوب، ومثل ذلك آيات أُخر سيأتي ذكرها.

وحيث حصل التعارض وجب الجمع بحمل الآيتين على إرادة تبليغ أحكام خاصة وتبيينها لا على جميع الأحكام، وقول النبي الله للمظاهرة(1) «ما أظنك إلا وقد حرمت عليه» بعد قوله :«لم ينزل عليَّ فيك قرآن »(2)شاهد بأن كل واقعة تقع فلله فيها حكم معيّن ، وأن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ينتظر الحكم فيها من اللّه تعالى حتّى يحكم به.

[الوجه] الثالث : سلّمنا عموم الآيتين وشمولهما لجميع الأحكام، وعدم تخصيصهما من الوجه السابق، لكن لا نسلّم وجوب التبليغ والتبيين لجميع المكلفين، لم لا يجوز أن يكون تبليغ جميع الأحكام وتبيينه للبعض من المكلفين، وهم أولو الأمر وبه يحصل امتثال الأمر.

ص: 114


1- أي المرأة التي ظاهرها زوجها .
2- أنظر تفسير القمي 354:2 ذيل الآية: 1 من سورة المجادلة حيث ورد في الخبر عن أبي : جعفر(علیه السلام)أنه قال : إن إمرأة من المسلمات أتت - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فقالت: يا رسول اللّه إنّ فلانا زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته ولم ير مني مكروهاً، أشكوه إليك، فقال : فيم تشكينه ؟ قالت:إنه قال : أنت على حرام كظهر أمي وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري ! فقال لها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلّم): ما أنزل الله تبارك وتعالى على كتاباً أقضي فيه بينك وبين زوجك ...».

وآية الردّ (1)إليهم عند الاختلاف شاهدة بذلك بما مر من التقريب وما سيأتي ولا ينافيه لفظ الناس في آية التبيين الظاهر في الجميع لإطلاق الناس في القرآن العزيز على الواحد وعلى الجماعة قلوا أو كثروا ، قال اللّه تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)(2)، وقال عز وجل :(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)(3).

وقال عز وجل:(أَمْ يَحْسَدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ )(4)ومثله كثير يطول به الكلام، والنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد بلغ جميع الوحي والأحكام، وبينها لخلفائه الكرام فحصل المطلوب.

[الوجه]الرابع:سلمنا العموم في الوجهين : المبلغ والمبلغين، والمبين والمبيَّنين لهم ، لكن لا نسلم أن المراد تبيين جميع الوحي والأحكام لجميع الناس وتبليغهم إياها تفصيلاً، لم لا يجوز أن الأمر بالتبليغ والتبيين لبعضهم تفصيلاً في جميعها، وللباقين تفصيلاً وإجمالاً، وإحالتهم على ما فصل له الجميع فيما يبينه لهم مفصلاً، فيكون النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على هذا الوجه قد بلغ جميع الأحكام وبينها لجميع الناس، وسينكشف لك هذا الوجه فى المقدّمة الآتية.

والنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد فعل ذلك فبيّن للأمة مفصلاً ما بين من الفرائض وحدودها والمحرمات ومواضعها، ودلّهم على من يرجعون إليه في بيان ما لم يبينه لهم،

ص: 115


1- الآية 59 من سورة النساء المتقدمة.
2- آل عمران :173.
3- البقرة : 199 .
4- النساء : 54 .

فقال: «إنّي مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب اللّه وعترتي»(1).

وقال في شأن عترته:«تعلموا منهم ولا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم»(2)،وقال (صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«أقضاكم على»(3) يعنى أعلمكم بالقضاء، وقال لعلى(علیه السلام)- فيما رواه أبو نعيم عن أنس-:«أنت تؤدّي عني وتبين لهم[وتسمعهم صوتي](4)ما اختلفوا فيه بعدي»(5)، إلى غير ذلك مما سيأتي مشروحاً عند ذكر النصوص على أمير المؤمنين(علیه السلام) إن شاء اللّه تعالى، وكله مصحح عند الخصوم.

على أنه حيث اعترض جماعة من محققي الإمامية على رواية أبي بكر عن النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم): نحن معاشر الأنبياء لا نورث(6)،فقالوا:كيف يبين النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ذلك الأبي بكر ولم يبين لأهل الميراث ؟

أجابوهم بأنه إذ بين الموالي من بعده فقد بيّين للأُمة مع حكمهم بأن ولاية

ص: 116


1- حديث التقلين مشهور بين الخاصة والعامة، بل متواتر، وقد قال ابن حجر في الصواعق المحرقة : 99 إن طرقه وردت عن تيف وعشرين صحابياً، وقد صدرت دراسات كثيرة حول هذا الحديث منها«كتاب اللّه وأهل البيت في حديث الثقلين من الصحاح والسنن والمسانيد»، تأليف لجنة التحقيق في مسألة الإمامة مدرسة باقر العلوم، كما أنه ألف السيد علي الميلاني كتاباً اسمه حديث الثقلين تناول فيه جوانب عديدة من هذا الحديث فراجع.
2- أنظر الصواعق المحرقة :135 .
3- شرح نهج البلاغة 1: 18 ، فيض القدير 1: 285 ، الإيضاح للفضل بن شاذان: 231 و 314، النكت الاعتقادية : 41 إشارة السبق لأبي المجد الحلبي : 54 شرح الأخبار 91:1.
4- ما بين المعقوفين من المصدر.
5- حلية الأولياء 63:1تاريخ مدينة دمشق368:42،شرح نهج البلاغة 169:9، الغارات الإبراهيم بن محمد الثقفي 100:1،مناقب أمير المؤمنين(علیه السلام) 1: 391 و 394 و 431 وج 3: 616.
6- صحيح البخاري42:4و 43 و ج 5: 82 كتاب المغازي باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 153:5 كتاب الجهاد والسير.

المذكور ليست من قبل الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وإنما هي من وجه اختيار قوم من الصحابة، وهذا لازم فيما ذكرناه في الوجه الثالث وهنا من أن البيان للعترة بيان لجميع الناس، لاسيما وولايتهم كانت بنصه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليهم ودلالته وإشارته إليهم بصريح القول وواضح المعنى.

وقد علم من جملة ما ذكرناه بطلان ما ادعوه من أنه ليس اللّه في غير مانص عليه في الكتاب والسنّة من الأحكام حكم معين في الوقايع ، وسلمت مقدمتنا الحاكمة بنقيض دعواهم من الإيراد، ومن ذلك يتضح بطلان ما حكموا به من الاستغناء بالاجتهاد في غير المنصوص من الوقايع عن الرجوع إلى مستحفظ الأحكام ومستودع الوحي، والمخصوص بعلم التأويل من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ومن يحل محله من أطائب ذريته المخصوصين من اللّه بالتفهيم والإلهام لبطلان ما بنوا عليه ذلك الحكم المردود من انتفاء حكم اللّه في جميع الوقايع والحوادث .

وبعد، فكيف يجوز عاقل على ربّه الحكيم العليم عدم علمه بكثير من الأمور،وأنّه لا يدري أهي داخلة في حيّز التحليل أو التحريم، حتى يحكم فيها ربيعة الرأي ، أو سالم بن أبي حفصة أو الأوزاعي أو أبو حنيفة وأضرابهم، فهنالك يحدث له العلم بحكمها، وتتجدد له المعرفة بحدّها ورسمها فلا يزال على هذا يخرج من جهل إلى علم باستمداده من أهل الرأي والقياس،واستفادته من اجتهادهم المقرون بالشك والالتباس،كما هو لازم قولهم الذي دلهم عليه الوسواس الخناس.

أعوذ باللّه من هذه الجرأة العظيمة المستلزمة لنسبة الجهل للخالق الحكيم

ص: 117

الخبير،كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى:( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(1)،(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَم الْحَاكِمِينَ)(2)،(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)(3)وغيرها من الآيات الكثيرة في الذكر الحكيم.

على أن صحة ما قلناه وبطلان قول الخصوم لا يحتاج من الدليل إلى أكثر مما ذكرناه من استلزام قولنا تنزيه الباري تعالى عن النقص واستلزام قولهم نسبة الجهل إلى الحي القيوم وتحصيله العلم ومعرفته الحكم في خلقه وبريته وأفعالهم من اجتهاد سخاف الآراء والحلوم، فلقد وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.

المقدمة الثانية: [النبي لم يبين جميع الأحكام للأمة ]

إن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يبين جميع الأحكام مفضلة لكل الأمة، بل بين لجميعهم بعضاً تفصيلاً وبعضاً إجمالاً، وبين الكل لخلفائه مفصلاً، وأمر الأمّة بالأخذ عنهم والتعلم منهم، والأدلة على هذه المقدمة ظاهرة متكثرة :

[الدليل]الأول : [الاختلاف في الأحكام ]

إنّ الأمة قد اختلفوا في الأحكام اختلافاً شديداً،ولو بين النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لجميعهم كلّ الأحكام مفصلة لما اختلفوا،أما الأولى فمن المشاهدات،وأما الثانية فلان اختلافهم في الحكم بعد بيان الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إما لتعمدهم مخالفته وميلهم إلى الهوى وترك النص إلى الرأي،أو لنسيان الجميع بيان الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

وكلّ منهما غير جائز عند مخالفينا لأنهم لا يجوزون على الصحابة الخطأ،

ص: 118


1- البقرة:282.
2- التين:8.
3- الأنعام: 57 .

ولا مخالفة نص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، بل يحكمون بأنهم متبعون له في أفعاله وأقواله، وأن إجماعهم حجّة فلا سبيل إلى الحكم عليهم في اختلافهم بتعمد مخالفة بيان النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ولا نسيانه ، إذ ذاك يخرج إجماعهم عن الحجية، فلم يبق إلا الحكم على أن اختلافهم لعدم البيان إليهم على التفصيل، وهو المطلوب.

وأما نحن فلا ننكر تعمد البعض لمخالفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في بعض الأحكام ۀوتركهم نصه، وحصول الشبهة لبعض آخر بذلك حتى يخرج النص في نظره عن النصية، فيحمله على أبعد محامل التأويل .

لكن نمنع ذلك عن الكل في جميع الأحكام لو كانت كلها مبينة بالتفصيل،لا عن البعض في البعض،ولا من جهة الشبهة، ولذا إنا نمنع اجتماع الأمة على في مثل وجوب الصلوات الخمس وعدد ركعاتها، ومقادير نصب الزكاة وكيفية الحج ومواقفه، وغير ذلك من الضروريات، لأن الإمام في جملتهم يقيناً، وهو لا يجوز عليه الخطأ.

فإن قيل : فمن أين جاء الاختلاف وأنتم قلتم : إذا النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قد بلغ الأمة جميع الأحكام ، بعضها تفصيلاً وبعضها إجمالاً، ودلّ العباد على من يرجعون إليه في بيان ما لم يفصله ؟

قلنا : جاء الاختلاف من مخالفتهم أمر النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بالرجوع إلى من أمرهم بالأخذ عنه، والتمسك به في رفع ذلك عنهم وعدولهم عنه إلى آرائهم واجتهادهم إلّا قليلاً من الصحابة .

فإن قيل : من هذا الرجل الذي أمر النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)الناس بالرجوع إليه لرفع الاختلاف ببيان الحكم فعدلوا عنه إلى ما ذكرتم ؟

ص: 119

قلنا:ذلك علي بن أبي طالب(علیه السلام)،وقد سبق ذكر يسير من الأدلة الواردة في أمر النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) بالتمسك به والأخذ عنه،وسيأتى الكثير منه في موضعه إن شاء اللّه،ومن بعده للطيبين من ولده(علیه السلام).

فإن قيل : فأنتم لم اختلفتم مع رجوعكم إلى من بين له النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) للجميع الأحكام مفصلة على قولكم ؟ ولم لم يرفع الاختلاف عنكم ببيان الحق ؟

قلنا : إنا لا ننكر الاختلاف بيننا فى مسائل الفقه، وإنما نشأ ذلك من جهة عدم تمكن الحجة(علیه السلام)من بيان الحق ، للخوف على شيعته من الطواغيت، وذلك إنه قد ثبت بالتواتر شدة الخوف على الإمامية في زمن ظلمة بني أُمية وبني العباس ، حتى آل الأمر إلى استحلالهم دم من يتهم بتشيع، أو يذكر أهل البيت بخير، فكان الإمام يفتي بعض شيعته بمرّ الحقِّ، ويفتي آخر بما يحتمل التأويل والوجوه ويفتي آخرين بما يوافق أقوال العامة، لئلا تجتمع شيعته على أمر واحدٍ فيعرفوا ،فيؤخذ برقابهم(1).

ص: 120


1- قد فصل الكلام فى هذا المبحث المحدث المحقق البحراني في الحدائق الناضرة 6:1 المقدمة الأولى، ولا بأس أن تذكر للقارئ الكريم رواية تدلّ على المطلب فقد ورد في الخبر الموثق عن زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: سألته عن مسألة فأجابني ، ثمّ جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت:يابن رسول اللّه رجلان من أهل العراق من شيعتكم قد ما يسألان ،فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟ فقال : يا زرارة إنّ هذا خير لنا وأبقى لكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصد قكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم.إلى آخر الخبر،الكافي65:1،كتاب فضل العلم،باب اختلاف الحديث.حدیث5. ومثل ذلك رواية الشيخ في التهذيب عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)قال : سأله إنسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم بهذا،لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم. تهذيب الأحكام 3 252 -ح1000، وسائل الشيعة 4: 137 باب جواز الصلاة في أول الوقت ووسطه حديث3.

وليس مزج الحق بغيره أو إخفائه في حكم أو أحكام في الفتوى للخوف على النفس من الإزهاق بأعظم من إظهار الكفر وسب الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الذي جاز لعمار بن ياسر وغيره من المؤمنين، لدفع القتل عن نفوسهم، حتى أنزل اللّه عذره وعذر غيره في الكتاب بقوله عزّ وجلّ :(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالإِيمَانِ)(1)(2)،وقوله تعالى:(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)(3).

وقوله تعالى - في رجال ونساء من أهل مكة آمنوا و[لكن ] أظهروا الكفر خوفاً من أهاليهم، فلم يكونوا معروفين بالإيمان، ولأجل أن لا يصيبهم ضرر من المسلمين وهم لا يعلمون بهم صار صلح الحديبية - :(وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتَصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوْا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)(4)بل كان دفع الضرر عنهم سبباً لدفع القتل عن الكفار.

فمن هذا جاء الاختلاف بيننا، وقد صح في الرواية عن أمير المؤمنين(علیه السلام)من الطريقين إنّه لما استشاره قضاته فقالوا: بم نقضي بين الناس؟ قال: «اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة»(5).

ص: 121


1- النحل: 106 .
2- تفسیر نور الثقلين89:3 ذيل الآية 106 من سورة النحل،وانظر تفسیر روح البیان 5: 14 .
3- آل عمران : 28 .
4- الفتح: 25 .
5- صحيح البخاري 4: 208 و 209، مسند ابن الجعد ،181 تاریخ بغداد 42:8،كنز العمال 13 :129 ح3649.

وهذا القول تصريح منه بأن قضاءهم السابق غير مرضي عنده، ولو كان عنده مرضيّاً لما علّق الرخصة فيه إلى غاية يمكن حصولها، وتبيين منه بأنه لم يتمكن في تلك الحال من بيان الحق وحمل الناس عليه، لعدم إدعائهم له بالطاعة التامة، وعدم تسليمهم إليه المقادة واختلافهم عليه وعصيانهم أمره.

هذا وهو خليفة في الناس، فما ظنك به في زمان تغلب من قبله، وما ظنك بالأئمة من ذريته في حال تغلب الظلمة والطواغيت عليهم وعلى تابعيهم.

وما زال الخوف على الشيعة موجوداً في وقت ظهور أئمتهم، ولم يذهب شدّة الخوف عنهم ويحصل لهم بعض الأمن في الجملة إلا من بعد اختفاء الحجة(علیه السلام)عالية و استتاره، حيث أخاف الطواغيت سبيله، وعلم الظلمة أن لا إمام ظاهر للشيعة، فهناك حصل الاختلاف لهم، لعدم الوصلة إلى الإمام الذي يزول الاختلاف ببيانه ولم يبق إلا الأخذ بما روي عن آبائه، وهو على ما وصفناه لما ذكرنا، فبقي الاختلاف الأوّل قائماً كما هو.

ومع هذا إنّا نقطع بأن كل مسألة اختلفنا فيها أن أحد الأقوال فيها هو حكم اللّه ،إلّا أنا لا نعلمه بعينه،فليس اختلافنا كسبيل اختلاف الخصوم، لأن خلافهم واختلافهم حصل من إعراضهم عن قول الحجّة واختلافنا مسبّب عنه لحسن نظره إلينا، وأقوالنا لا تخلو من الحقّ، وأقوالهم تخالفه دواماً أو غالباً، فافترقت الحال بيننا وبينهم، وحصل العذر لنا ولم يحصل لهم.

فإن قالوا : إنكم وافقتمونا في زمان غيبة إمامكم في الاجتهاد فأنتم مثلنا .

قلنا لهم :ولا سواء، فإن اجتهادنا باستعمال قوانين نصبها لنا الحجة(علیه السلام) تميز الحق من الباطل بقدر وسعنا وطاقتنا، واجتهادكم باستعمال الأقيسة التي

ص: 122

اخترعها إبليس،واحتج بها على جواز ترك السجود لآدم،والآراء التي نصبها لرد امر اللّه تعالى،وبين الوجهين غاية البعد.

وأيضاً إن اجتهادنا في تحصيل حكم اللّه من قوله الحجة فنعذر بعد بذل الجهد إن أخطأناه، واجتهادكم أنتم في تحصيل غير حكم اللّه ، إذ لا حكم له في تلک الواقعة عندكم، فاجتهادكم لإحداث حكم لا يعرفه اللّه قبل ذلك بزعمكم ليحكم

به علیکم .

وهو مع ما فيه من الزلل العظيم تصرّف في ملك الغير بغير إذنه، وإيجاب ما لم يوجبه اللّه أو تحريم ما لم يحرمه، فالخطأ لازم له على كل حال،والمعذروية مرتفعة على جميع الأحوال، لأن حكم ما لم يحرمه اللّه ولم يوجبه الإباحة البتة، فإيجابه أو تحريمه خلاف حكم اللّه،فكان اجتهادنا غير اجتهادكم؛فاجتهادنا مقدّمة للواجب،وهو تحصيل حكم اللّه في الواقعة، واجتهادكم لإخراج المباح عن الإباحة، والتكليف بما لم يكلف اللّه به بزعمكم؛ فزال اعتراضكم واندفع إيرادكم.

[الدليل]الثاني:[مخالفة الإمام مخالفة اللّه تعالى]

قوله تعالى:(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَقْبِطُونَهُ منهم)(1)وتوضيح ذلك أن الردّ إلى أُولي الأمر عند الاختلاف ؛ إما لجهل المختلفين[في](2)الحكم أو لا؛ فإن كان الأول ثبت أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) لم يبين لجميع الأمة كل الأحكام بالتفصيل، بل بينها جميعها كذلك إلى أولياء الأمر بعده، فيثبت المطلوب

ص: 123


1- النساء : 83 .
2- ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء السياق.

وإن كان الثاني كان التكليف بالرد إلى أولي الأمر تحصيلاً للحاصل وهو ممتنع،فالتكليف به قبيح لا يكلف اللّه به ،على أنه لا فائدة في الردّ إلى ولاة الأمر، مع العلم بالحكم من بيان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، فالأمر به عبث.

هذا كلّه مع ظهور الآية من قوله تعالى:(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)فی الأول، وهو كون الفائدة في الردّ إلى أولي الأمر حصول علم للمستنبطين كانوا قبل الردّ إلى ولي الأمر يجهلونه، لكون هذه الجملة جواب الشرط في قوله:(وَلَوْ رَدُّوهُ) وحصول الجواب متوقف على حصول الشرط،ومفقود قبله،فَعِلْم المختلفين بالحكم قبل الردّ إلى ولي الأمر مفقود.

وإذا فقد العلم ثبت ضدّه وهو الجهل، فانصرح من هذا أن المختلفين قبل ردّهم ما اختلفوا فيه إلى أولي الأمر واستعلامهم الحال منهم غير عالمين بحكم اللّه الواقعي في تلك الواقعة،وما ذاك إلا لعدم البيان التفصيلي لهم من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وهو المراد .

[الدليل]الثالث:[النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بين العلم لبعض ما لم يبينه لآخر]

ما ثبت عند الخصوم من أن عند بعض الصحابة من القرآن ما ليس عند البعض الآخر، وأنه قتل من الصحابة فى حرب مسيلمة قوم يقرؤون من القرآن شيئاً لم يكن عند باقي الصحابة(1).

ولهذا لما أراد أبو بكر وعمر جمع القرآن كان من جاءهم بشيء منه وأقام عليه بينه قبلوه منه ، ومن لم يقم بيّنة على ما آتاهم به منه ردوه(2) ، واتفق الخصوم على

ص: 124


1- انظر تاريخ الطبري275:2 حوادث سنة 11 هجرية .
2- انظر الإتفان في علوم القرآن 1 : 157 النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه وفيه خبر یحیی بن عبد الرحمن بن حاطب قال:قدم عمر،فقال:من كان تلقى من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)شيئاً من القرآن فلیات،به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب،وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان،راجع كنزالعمال574:2 ح4759، تحفة الأحوذي408:8.

أنّه لم يكن يحفظ القرآن جميعه في عصر النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من الصحابة إلا علي بن أبي طالب(علیه السلام).

وهذا أوضح دليل على أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يبين جميع لفظ القرآن لكل الصحابة، بل يقرأ ما ينزل عليه منه على من حضره منهم ، فما ظنك بمعانيه وبباقي الأحكام.

وقد روى مخالفونا أنّ زيد بن ثابت لما أنكر عليه عمر في دعواه شيئاً سمعه من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من جهة أن المنكر لم يسمعه جبهه بكلام قال فيه:لقد علمت أنّه يؤذن لي وأدخل،وأنت تمنع في كلام آخر(1)،وصريحه دعوى زيد انّه سمع من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ما لم يسمع عمر ولا من كان في طبقته، وقد صدقه عمر في دعواه في روايتهم تلك.

وادعى عبد اللّه بن مسعود علم ما لم يعلمه زيد بن ثابت المذكور،إلى غير ذلك مما هو مزبور في تواريخ القوم وسيرهم وغيرها،مما يعطي أن الصحابة كانوا مقرين بأن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بين لبعضهم ما لم يبين لبعض آخر،وكفى بذلك شاهداً على ما ندعيه.

[الدليل]الرابع:[النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علم جميع الأحكام لعلي(علیه السلام)]

إنّه قد صحّ أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)خصّ بعض الصحابة من العلوم بما لم يخصّ به سائرهم، فأفضى من العلوم والأسرار والأحكام العلي(علیه السلام)بما لم يفض بجزء منه

ص: 125


1- أي: يؤذن لي وأنت تمنع.

إلى جميع الصحابة، ثمّ بيّن لهم ذلك بقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم): «أنا مدينة الحكمة وعلي بابها ؛ فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها»(1).

وقال فيه : «علىٌّ خازن علمى وعيبة علمى»(2)وما أشبه ذلك من الأقوال.

ولهذا قال عليّ(علیه السلام)على المنبر ، وقد وضع يديه على بطنه : «هذا سفط(3)العلم ، هذا لعاب رسول اللّه ، هذا ما زقنى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)زقاً(4)، أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني ، فواللّه لو سألتموني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة لأخبرتكم بقائدها وسائقها إلى يوم القيامة (5)، وما من آية من كتاب اللّه نزلت في ليل أو نهار أو سهل أو جبل أو حضر أو سفر، مكيها ومدنيها إلا وأنا عالم بتفسيرها وتأويلها وناسخها و منسوخها، وفيمن نزلت»(6).

وقال لكميل بن زياد:«يا كميل، إنّ هنا - وأشار إلى صدره - لعلماً جمّاً لو أصبت له حملة»(7). وكثيراً ما يقول ما يضارع هذه المقالات.

ولمّا خطب يوماً وذكر كلاماً يخير فيه عن قوم من الأتراك، وما يفعلون في بلاد

ص: 126


1- مسند أبي يعلى 2: 58 ح 3726 ،المعجم الكبير 11 :55 حديث خيثمة:200،المستدرك على الصحيحين3 : 127، نظم درر السمطين: 113 ، کنز العمال600:11 ح 32890 و 32979.
2- أنظر تاريخ مدينة دمشق384:42،شرح نهج البلاغة165:9،الجامع الصغير 2: 177 ح 5593، فيض القدير469:4ح5593.
3- والسفط:الذي يعني فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء كما في لسان العرب315:7.
4- كشف الغمة114:1،ينابيع المودة 224:1 وج 2: 338 .
5- إعلام الورى بأعلام الهدى344:1،تاريخ اليعقوبي 2: 193 بتفاوت يسير، شرح الأخبار للقاضی نعمان39:2بتفاوت یسیر.
6- نهج الإيمان : 270 بتفاوت يسير .
7- نهج البلاغة36:4الخطب 147 ،من كلام له(علیه السلام)الكميل بن زياد».

الإسلام من الفساد وقت خروجهم ، قال بعض أصحابه - وكان كلبياً - : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟! فضحك (علیه السلام)وقال للرجل: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده اللّه سبحانه إذ يقول :«إن اللّه عنده علم الساعة»الآية (1)فهذا علم الغيب لا يعلمه أحد، إلا اللّه، وما سوى ذلك فعلم علمه اللّه نبيه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فعلّمنيه ودعا بأن يعيه صدري وأن تضطم عليه جوانحي(2)، إلى غير ذلك.

وكذلك خص النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حذيفة بن اليمان من أحوال المنافقين وفسر له من أسمائهم ما لم يفسر بعضه لكثير من الصحابة ، حتى أن عمر احتاج أن يسأله عن نفسه أهو من المنافقين أم لا، كما رواه مخالفونا (3).

وأسرّ لسلمان أشياء كثيرة لم يظهرها لغيره من أصحابه(4)، وهكذا مما يطول ذكره.

[الدليل ] الخامس:أنّه لو لم يكن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بين لقوم ما لم يبين لغيرهم ولشخص ما لم يبينه لآخر من الأحكام لسقطت أخبار الآحاد وحرم العمل بها.

وبيانه: أنّ مضمون خبر الواحد لم يطلع عليه إلا راويه ولم يسمعه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلّا هو، والمفروض أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يخض أحداً ببيان حكم دون أحد، وإنه بين

ص: 127


1- مأخوذ من الآية 85 من سورة الزخرف إذ يقول تعالى:(وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ).
2- نهج البلاغة 10:2/الخطبة 128،شرح نهج البلاغة215:8،شرح مائة كلمة لابن ميثم البحراني: 247 ، شرح أصول الكافي للمازندراني323:2،بحار الأنوار 26: 103 ح 6 وج 32: 250 / ح 1977 وج 41: 335 - 56.
3- سير أعلام النبلاء 2: 76/361 الغارات 1: 177 دلائل الإمامة : 97 .
4- أنظر كتاب نفس الرحمن في فضائل سلمان للميرزا حسين النوري الطبرسي المتوفي سنة 1320 ، نشر مؤسسة الآفاق.

جميع الأحكام لكافة الصحابة، فما هو من بيان النبي فهو معلوم لجميعهم، وما ليس معلوماً لجميعهم، فهو ليس من بيانه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وخبر الواحد غير معلوم لكافتهم فيجب أن لا يكون من بيان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيكون مكذوباً.

و مخالفونا لا يرضون بذلك ولا يجوز عندهم إسقاط أخبار آحاد الصحابة، وكيف يرضون به، وهو مبنى صحة مذهبهم، ولولا العمل بها لزال أساس أئمتهم كما لا يخفى على العارف بالحال، ومنه يثبت المدعى.

[الدليل]السادس:أنه قد صح عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنه قال :«أمرنا معاشر الأنبياء أن تكلم الناس على قدر عقولهم»(1)، ومن المعلوم أنه ليس في وسع جميع الصحابة معرفة جميع الأحكام الالهية، ولا في قدرة كافتهم حمل كلّها وحفظ عامتها، فوجب بمقتضى ذلك أن يخص بعضهم دون بعض بقدر ما يحتمله من العلم .

وقد روي عن عبد اللّه بن مسعود قال: ما حدّثت رجلاً حديثاً لا يبلغه عقله الّاكان له فتنة، ويروى مثله عن ابن عبّاس(2).

والعقل السليم يحكم بصدق مضمونه، وقد صح عن أمير المؤمنين(علیه السلام)إنه قال:«إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان، ولا یعی حديثنا إلِا صدور أمينة وأحلام رزينة»(3)وكلّ ذا مروي عند مخالفينا في بعض

ص: 128


1- شرح نهج البلاغة 186:18،المحاسن للبرقي195:1 ح 17 ، الكافي 1: 23 - 5 وج268:8ح 394، أمالي الصدوق : 504 ،تحف العقول: 37 .
2- ورد مضمون هذا الخبر عن هشام بن عروة أنه قال، قال:أبي : ما حدثت أحداً بشيء من العلم قط لا يبلغه عقله إلا كان ضلالة عليه (تهذيب الكمال22:2،وانظر تاريخ مدينة دمشق 286:11)،سیر أعلام النبلاء437:4 نقلاً عن المعرفة والتاريخ550:1.
3- نهج البلاغة 129:2، بصائر الدرجات: 6 ، وانظر الكافي 1: 401 باب فيما جاء أن حديثهم(علیهم السلام)صعبمستصعب ، مختصر بصائر الدرجات: 198، بحار الأنوار 2 : 212 - 113 وج 53 : 81.

كتبهم(1)، ويشير إليه من التنزيل قوله تعالى:(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وسعها )(2)وما أشبهه، وكلّ هذه الأدلة سالمة من القدح فيها يثبت المطلوب.

المقدمة الثالثة :[اللّه تعالى يريد العمل بما أنزل لا بغيره]

إنّ اللّه سبحانه وتعالى أراد من العباد العمل في كل واقعة بما هو حكمها عنده، لا بما أدّى إليه نظرهم واجتهادهم.

يدل على ذلك آيات كثيرة من القرآن،كقوله تعالى:(وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(3)،وفي أخرى:(فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(4)،وفي ثالثة :(فَأَوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(5)،وقوله تعالى:﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرٌ الْفَاصِلِينَ)(6)، وقوله سبحانه : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرامٌ)(7).

وهذه الآية والتي قبلها وما أشبههما من أوضح الأدلة على بطلان الاجتهاد لنفيه في الأولى حكم من لأولى حكم من سواه، وتهيه في الثانية عن القول بالتحليل والتحريم بدون دلالة من قوله سبحانه وتعالى،وكلّ ذلك ينافي بصريحه الرخصة في الاجتهاد كماتری.

ص: 129


1- شرح نهج البلاغة101:13 ،ينابيع المودة للقندوزي 1: 89 وج 452:3.
2- البقرة: 286 .
3- المائدة: 44 .
4- المائدة: 45.
5- المائدة: 47 .
6- الأنعام: 57 .
7- النحل: 116.

وقوله عزّ وجلّ:(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا ب أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(1)علّق حصول الإيمان من المكلّفين على تحكيمهم النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيما اختلفوا فيه ، ورضاهم بحكمه وتسليمهم لقضائه، وهو يناقض رضاه منهم بالاجتهاد، ومثلها قوله تعالى:(مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(2)، وقوله تعالى:(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(3)والآيات الدالة على هذا المطلب كثيرة جداً.

منها : آيات الردّ إلى اللّه وإلى الرسول وإلى أولى الأمر(4)، فإنّها صريحة فيه، إذ لو رضي اللّه من المجتهدين بالعمل باجتهادهم لم يكن في الردّ إليه وإلى رسوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وإلى ولاة الأمر عند التنازع والاختلاف فائدة، بل يكون عبثاً لا يأمر به الحكيم، فيجب أن يكون الردّ المذكور لطلبه منهم العمل بحكمه المعين في الواقعة لا بما أدّى إليه نظرهم وحصل من اجتهادهم، وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة البيان.

والآيات الناهية عن اتباع الظن،وعن القول على اللّه بغير علم مثل قوله تعالى:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(5)وغيرها، والآيات الواردة في ذمّ المقلدين(6)لأسلافهم كلّها على كثرتها صريحة فيه، وتعدادها يوجب التطويل، فلنكتف بالإشارة إليها مع ما ذكرناه.

ص: 130


1- النساء: 65 .
2- الحشرة :7 .
3- المائدة: 50 .
4- النساء : 59 .
5- الإسراء : 36 .
6- البقرة: 170 ، لقمان: 21 .

فإن قال قائل : فإنكم اختلفتم في كثير من المسائل الشرعية، أفترى أن اللّه أراد منكم الاختلاف، ولم يرد منكم العمل بالحكم المعيّن في تلك المسائل ؟ فإن قلتم نعم، قال خصومكم:فنحن مثلكم قد أراد منا الاختلاف دون الحكم المعين وبطلت مقدمتكم، وإن قلتم لا ،ناقضتم أنفسكم وأثبتُم مخالفتكم لمراد ربكم، وعلى كلا الوجهين لا يصح قولكم.

قلنا : أما نحن فإنّ اللّه تعالى رخص لنا في الاختلاف فيما اختلفنا فيه من المسائل الشرعية، ولم يرد منا الاجتماع على الحكم المعين فيه في زمان تغلب الظلمة على الأئمة الحق ، ومنعهم إيَّاهم من التصرّف.

والدليل على ذلك ما ثبت في الشريعة المطهرة من اختلاف الأحكام باختلاف الأحوال والأشخاص، فإنا نعلم يقيناً أن اللّه عزّوجّل أراد من مكلف في مسألة حكماً معيناً فى حال،وأراد منه في حال أخرى حكماً آخر،وأراد من بعض أفراد المكلفين حكماً في شيء، وأراد فيه حكماً آخر من آخرين، فقد علمنا أنّ اللّه تعالى أوجب على واجد الماء الوضوء للصلاة أو الغسل، وأوجب على فاقده التيمم .

وأوجب على المرأة في حال خلوّها من الحيض والنفاس الصلاة والصيام، وأوجب تركهما عليها في وقتهما، وأوجب على الآمن الحاضر إتمام الصلاة، وأوجب على الخائف مطلقاً وعلى المسافر قصر الصلاة الرباعية.

وأوجب الجمعة على الحرّ الصحيح الحاضر الذي بينه وبين محلتها أقلّ من فرسخين ، وأسقطها عن العبد والمرأة والمريض والمسافر،ومن هو بعيد عنها بأكثرمن فرسخين،وأوجب الزكاة على من ملك النصاب،ولم يوجبهاعلى من

ص: 131

لم يملكه، و [أوجب ] الحج على المستطيع ، وأسقطه عن غير المستطيع.

وحرّم الميتة والدم ولحم الخنزير على العباد، وأحلّ ذلك للمضطر غير الباغي والعادي، وحرّم قتل المسلم، وأحل قتل الباغي والعادي، وقاطع الطريق، وحرّم الكفر، وأحل إظهاره عند الإكراه والخوف على النفس وعدم القدرة على دفع

العدو عنها - كما مر ذكره فى قضيّة عمّار - إلى غير ذلك مما ورد في الشريعة مما لا خلاف فيه، ولا يخفى على ذوي الخبرة مواضعه.

وبالجملة إن الممنوع اختلاف حكم اللّه باختلاف المجتهدين، ورضاه بالاجتهاد في دينه، لا تغيير اللّه حكم المكلف بتغير أحواله، وإذا ثبت اختلاف حكم اللّه على المكلفين باختلاف أحوالهم فيما ذكرناه وفي غيره مما يطول المقام بنقله، صح أن يرخّص اللّه للإمام - بل يريد منه في حال عدم حال عدم تمكنه من تشخيص الحكم المعين في الواقعة لأتباعه، وعدم تمكنهم من العمل به على التعيين لخوفه الضرر على نفسه في بيانه وعليهم في العمل به-إلقاء الخلاف بينهم، وخلط الحقّ بغيره في كثير من المسائل، وأن يريد من كل واحد من شيعة الإمام العمل بما ألقى إليه الإمام من الحكم، وما فهمه من قول الحجّة، لأن في ذلك دفع ضرر عن النفس، ودفع الضرر عنها واجب.

وكلّ ما توقف عليه الواجب وكان مقدوراً فهو واجب عقلاً وسمعاً، فإذا حصل الأمن وذهب الخوف عنا زالت الرخصة في الاختلاف، وتعين على الإمام تعيين الحكم المعين لرعيته، وعليهم العمل به، نسأل اللّه تعجيل الفرج.

وأما خصومنا فإنّ اللّه أراد منهم ما أراد منا من الإقرار للإمام بالإمامة، والانقياد لطاعته والتسليم لأمره، والأخذ عنه والرجوع إليه في الأحكام، ولو أنهم فعلوا

ص: 132

ذلك إذن لزال الخوف عن الإمام في بيان الحق لأتباعه إذ لا مخالف له، وعنهم في العمل به، لأن المسلمين على هذا كلهم يكونون أتباع الإمام، فلا خوف لأحد منهم على أحد.

لكن الخصوم لم يفعلوا شيئاً من ذلك ، فلم يؤدّوا ما أراد اللّه منهم من طاعة الإمام، بل انكروا إمامته وخالفوه ومنعوه وأتباعه من مخالفتهم، وألزموه وإياهم بموافقتهم، وتوعدوه بالقتل إن لم يفعل، وقتلوا من الأئمة من لم يقبل ما طلبوا منه من موافقتهم، ومن الهموه بتبعية الإمام من المسلمين، فكان اختلافهم في الشرعيات ناشئاً عن مخالفتهم ما أراد اللّه سبحانه وتعالى من طاعة الإمام وفر على معصيته في حكمه المعيّن عليهم من تحريم مخالفة الإمام، فلم يكن اللّه ليريد منهم الاختلاف المسبب عن مخالفتهم مراده، ولا ليرخص لهم فيه، لأن أصل اختلافهم في أحكامه خروجهم عن طاعته في أمره، وردّهم عليه حكمه .

واللّه تعالى لا يرخص لأحد من الخلق في معصيته ورد أمره، ولا في أصل ذلك وفرعه ، فكانت حالنا غير حالهم، ولم يكونوا مثلنا، لأنا غير قادرين على إزالة المانع من إظهار الحق، وهم متمكنون من إزالته بذل الطاعة للإمام، فافترقت

الحال بيننا وبينهم.

فإن قالوا :فما منع الإمام من جهاد العدو ودفعهم ليتمكن من بيان الحق، وما منع أتباعه من معونته على ذلك؟

قلنا: المانع للجميع عن الأمرين كون أتباع الإمام في جميع الأوقات لقلتهم، بالإضافة إلى مخالفيهم غير متمكنين من نصرة الإمام إلى حد يبلغ به إلى الغلبة على أعدائه،ودفع الضرر عن نفوس أوليائه،ليحصل له الإمكان من تعيين الحكم الواقعي، فكان حكم اللّه في حقه وحقهم السكوت والكفّ.

ص: 133

فسبيلهم في هذه الحال سبيل المسلمين في مكة قبل الهجرة، فإنّ اللّه أوجب عليهم الكف وترك الجهاد، وأخبر عن ذلك بقوله عز وجل:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاة)(1)الآية،وذلك لضعف المسلمين يومئذ عن مدافعة المشركين ، ولزوم إتيان المشركين عليهم لو جاهدوهم لكثرتهم.

وقد علم جميع الناس أن من جاهد من أئمة الحق لإحياء الدين قهر وقُتل أفظع قتلة،وذلك لقلة ناصريه،وسالم من قبله لكثرة خاذليه، ولم يبلغ سيد أئمة الهدى مطلبه، ولم يدرك مأربه من إقامة عمود الدين وإظهار الحق، ونشر الأحكام لقصور أهل طاعته عن مقاومة مناويه ، وقلّة مواليه عن عدد معاديه.

فمن أين تحصل قدرة الباقين على ذلك،مع تفاقم الخطب واشتداد شوكة الظالمين وتشييد أركان دولة الفاسقين واحتياج الإمام في إزاحة الظلم والعدوان إلى اشتباك الحروب واستمرار القتل واستعار نار الوغا وإزهاق النفوس، وليس معه من يقوم ببعض ذلك ويصبر عليه، فانزاح الاعتراض، واتضح من جملة ما قلناه دفع الإيراد، وثبوت المراد بتوفيق من بيده التوفيق للسداد.

المقدمة الرابعة:[إلا تكليف إلا مع البيان ]

إنّه لا يجوز أن يكلف اللّه العباد بما لا سبيل لهم إلى معرفته ، ولا طريق لهم إلى استعلامه، لأنه تكليف ما لا يطاق، واللّه تعالى منزه عن التكليف به، وهذه المقدمة قد دلّ عليها العقل والنقل ؛ فأما العقل فإنّ العقلاء يستقبحون مؤاخذة الغافل ومعاقبة من لم يعلم قبل التنبيه والإعلام، حتّى شاع عند أُولي الألباب أنه لا تكليف إلا بالبيان.

ص: 134


1- النساء : 77 .

وأما النقل فالآيات كثيرة مثل قوله تعالى:(ذلِكَ أَن لَمْ يَكُن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)(1)،وقوله تعالى:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)(2)، وقوله : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(3)، وقوله :(لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(4)، وقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاً أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَتَخْزَى )(5).

وقوله تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )(6)، وقوله تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا)(7)، وقوله تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج )(8)وأي أعظم من تكليف الإنسان بما لا يعلمه، ولا دليل له عليه ، فيكون منفيا بعموم الآية، والآيات الدالة على هذا المعنى بالصريح - غير ما ذكرناه - كثيرة لا نطيل بذكرها القول.

ومن السنة قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)المستفيض :«الا ضرر ولا ضرار في الدين»(9)،

ص: 135


1- الأنعام: 131 .
2- القصص: 59 .
3- الإسراء : 15 .
4- النساء : 165.
5- طه : 134 .
6- البقرة: 286 .
7- الطلاق: 7 .
8- الحج: 78 .
9- الكافي 5: 292 - 2 باب الرجل يتكارى البيت والسفينة، دعائم الإسلام 499:2 ح 1781 کتاب القسمة والبنيان فصل 1 ،السنن الكبرى 69:6 و 70، مجمع الزوائد110:4، وقد فصل العلماء فى هذا النبوى المستفيض وأفردوا له رسائل خاصة تحت عنوان قاعدة لا ضرر مثل السيد البجنوردي في كتاب القواعد الفقهية211:1.

وتكليف الإنسان بما لا يعلم ضرر عليه ظاهر، وكثير من السنة صريح في المعنى مما لا حاجة إلى ذكره.

ولا يخفى على الفطن الخبير على أن ذلك هو المعروف من سيرة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فإنه ما قاتل أحداً من المشركين إلا بعد الإنذار والإعذار إليه،وإقامة الحجة إن طلبها منه،وهذه كانت سيرة أمير المؤمنين(علیه السلام).

وبالجملة فالأمر في هذا واضح، ومنكر ذلك مكابر لا يلتفت إليه، لأنه قائل بوقوع المحال، وهو محال ، وأولئك بعض حشوية العامة وبعض أهل الضلال الناسبين إلى اللّه تعالى القبيح(1)، قبحهم اللّه وأعمى بصائرهم، وأعاذنا من مقالتهم.

المقدمة الخامسة:[إلا طريق للأحكام غير الإمام]

إنّه لا طريق إلى معرفة الحكم المعين عند اللّه في الواقعة إلا من بيان خليفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، والدليل على ذلك أن نصوص الكتاب والسنة لا تفي إلا بيسير من الأحكام الشرعية ، وظواهرهما لا تفيد اليقين، لكثرة الاختلاف فيهما واحتمالها الوجوه المتعدّدة، وباطن الكتاب لا تبلغه عقول الرجال ولا أفهام الناس:

كيف واللّه تعالى يقول: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به )(2)، وليس الراسخ في العلم إلا الإمام المؤيد من اللّه بالإلهام كما سيأتي فيه البيان التام، وأخبار الآحاد لا تفيد إلّا ظناً .

ص: 136


1- رسائل السيد المرتضى 4: 280 .
2- آل عمران: 7 .

مع أنّ كلاً من ظواهر الكتاب والسنة النبوية المتواترة وأخبار الآحاد لا تستوعب الأحكام والوقايع، والإجماع الضروري لم يحصل إلا في قليل من أحكام الشريعة.

وما ليس بضروري لا يفيد العلم، مع أن حجيته بدون دخول من لا يجوز الخطأ عليه في الأحكام فى جملة المجمعين غير ثابتة، لجواز الخطأ على الأحاد فيجوز على الجملة.

ولا قدح في ذلك بالأخبار المتواترة، لأنها إخبار عن محسوس، والإجماع إخبار عن أمر ،نظري وليس يتطرّق إلى المحسوسات من الخفاء والاشتباه ما يتطرّق للأمور النظرية غير اليقينية، فلذلك امتنع الاشتباه في المحسوسات على

الخلق الكثير عادة دون النظريات، وحصل القطع بإخبار جماعة كثيرة لا يحتمل تواطئهم على الكذب فيها، دون النظريات والمعاني المعقولة، فإن احتمال اتفاق الأفهام على الخطأ فيها قائم(1).

فتبين الفرق وزال القدح،والقياس لا يفيد إلا وهماً غير معتبر في الشرع،لأن المطلوب معرفة الحكم باليقين لا بالوهم.

على أنّ أصحابنا أبطلوه من الأصل،واحتج لإبطاله شارح الباب الحادي عشر،بأن مبنى شرعنا على اختلاف المتفقات، كوجوب الصوم آخر رمضان، وتحريمه أوّل شوّال، واتفاق المختلفات كوجوب الوضوء من البول والغائط، واتفاق القتل خطاً والظهار في الكفّارة.

ص: 137


1- أنظر مبادئ الوصول للعلامة : 216، مسالك الأفهام433:2،الحدائق الناضرة341:15،كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: 340 .

هذا مع أن الشارع قطع سارق القليل دون غاصب الكثير، وجلد بقذف الزنا، وأوجب فيه أربع شهادات دون الكفر، وذلك كله ينافي القياس، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم) : تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وأضلوا، انتهى.(1)(2).

قلت: والأدلة على بطلان القياس كثيرة، قد تكفلت ببيانها كتب أصحابنا في الأصول(3)، وليس الغرض هنا التنصيص على بطلان القياس حتى نستزيد من الأدلة على فساده، وإنّما الغرض نفي كونه طريقاً إلى تحصيل الحكم التكليفي، وهو حاصل بما ذكرناه .

وأما الرجوع إلى البراءة الأصلية فظاهر أنّه مستلزم لرفع أحكام كثيرة، لأنها عبارة عن أصالة براءة الذمة من الوجوب والتحريم، فليست بطريق لبيان الأحكام، فتبين أن لا طريق لمعرفة جميع أحكام اللّه المطلوبة من المكلفين إلّا بيان الإمام، لأن بيان الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يحصل في الجميع لكافة الناس - كما مرّ بيانه ووضح برهانه - فلابد من قائم مقامه فى ذلك، وهو خليفته والوارث منزلته ليبيّن للأُمّة ما احتاجوا إليه .

ص: 138


1- رواه أبو يعلى في مسنده 10: 240 عن أبي هريرة عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) هكذا: «تعمل هذه الأمة له برهة بكتاب اللّه ثمّ تعمل بسنة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) ثم تعمل بالرأي فإذا عملوا بالرأي فقد ضلوا وأضلوا» وروى هذا الحديث جملة من المحدثين منهم الهيثمي في مجمع الزوائد 179:1 والسيوطي في الجامع الصغير 1: 511 ح 3331 وابن حزم في الأحكام786:6.
2- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: 99.
3- التذكرة بأصول الفقه للمفيد 38، الذريعة للسيد المرتضى285:1 ، عدة الأصول88:2،والشافي في الإمامة للشريف المرتضى276:1،وانظر المحلى بالآثار لابن حزم الأندلسي78:1.

وحيث سلمت هذه المقدمات وصحت تبت منها أن الحجة اللّه لا تقوم على العباد، والعلة لا تزاح عنهم في جميع أزمنة التكليف إلا بهاد يهديهم إلى الحق، ومرشد يرشدهم إلى الصواب، ودليل يدلهم على طريق الهدى، وعالم لا يتغير علمه يبين لهم ما اختلفوا فيه من أمر الدين ويقيم لهم الكتاب، ويوضح لهم متشابهات الآيات، ويفصل لهم مجملات السنة، ويفسّر لهم ما جهلوه من حدود الملة، وذلك هو الإمام.

فإذن يجب في حكمة الله تعالى لذلك نصب إمام يحصل به المطلوب في كل أزمنة التكليف ، ولا يجوز أن يخلو عصر من أعصار التكليف ، ولا وقت من أوقاته عمن يحصل به الغرض المذكور، وتكون له تلك المرتبة الشريفة.

[الدليل] الثالث:[لكل عصر إمام]

(1)

من الكتاب وهو قوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمَامِهِمْ )(2)فَإِنَّه صريح في أَنْ لكلّ أُناس إماماً ، وإضافته إلى ضمير «هم»يدلّ على تغيّره بتغيرهم، فيكون لكل عصر إمام، وقد قال المفسرون في معنى الآية :«أنّه ينادى في الموقف:يا أتباع فلان،ويا أصحاب فلان،فينادي كلّ قوم باسم إمامهم »(3)، وهو نصّ فيما قلناه من أنه لابد في كل عصر من إمام، وإنّه شخص إنساني لا القرآن، إذ لا يتغير بتغير الأزمان، ولا يكنى عنه بفلان.

ص: 139


1- معطوف على الثانى ص 107 ،والأول ص 103 وهو الثالث من الأدلة على لزوم نصب الإمام .
2- الإسراء: 71 .
3- أنظر تفسير العياشي302:2_303،تفسير القمي33:2،مجمع البيان275:6،جامع البيان للطبري157:15،التفسير الكبير 17:21،الدر المنثورللسيوطي 193:4،ذيل الآية 71 سن سورة الاسراء .

وقوله تعالى :(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ )(1)وهو أيضاً نص في أن كل قوم لابد أن يكون فيهم هادٍ يهديهم إلى حكم اللّه، ويدلهم على ما يقربهم إليه، وليس عصر من الأعصار إلا وفيه من هو كذلك، فإذن وجود الإمام واجب في كل أعصار التكليف ، وجملة من الآيات المتقدمة تومى إليه وكذا غيرها، وإن لم تكن صريحة فیه.

[الدليل]الرابع:[العصر لا يخلو من حجة]

الأخبار الدالة على عدم خلوّ العصر من حجّة اللّه على خلقه، عالم لا يتغير علمة.

فمنها :الخبر المشهور،وهو قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):من مات بغير إمام مات میة جاهلية(2)،وفي لفظ عبد اللّه بن عمر كما رواه الإسكافي:من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية(3) ولفظ الصدوق منا : من مات وليس له إمام ..(4)إلى آخره.

وذكر بهاء الدين الشيخ الجليل محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي في شرح الأربعين لفظ الحديث هكذا: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(5)، مُشعراً بالاتفاق عليه.

ص: 140


1- الرعد: 7 .
2- مسند أحمد 5: 61 ح 16434 وورد قريب منه في المحاسن 93:1 ح 46 وص 153 ح 78 باب من أحبنا بقلبه، بصائر الدرجات :529 ح 11، قرب الاسناد: 351.
3- حكاه الشيخ الأميني في الغدير494:10، وفي طبعة أخرى 10: 360 عن أبي جعفر الإسكافي في خلاصة نقض كتاب العثمانية ص 29.
4- عيون أخبار الرضا(علیه السلام)63:1،كمال الدين : 229 و 412.
5- الأربعون حديثاً للبهائي : 431 .

وعلى كلّ حال فالخبر دال على أنّه في كل زمان إمام تجب معرفته على المكلفين، ولا يجوز لأحد جهله، وأن من مات من المسلمين ولم يأتم به مات مينة كفر، ولم ينفعه إسلامه، ولا ما عمله من أفعال الخير، ولما قلناه طرق عبد اللّه ابن عمر بن الخطاب على الحجّاج بابه ليلاً ليبايعه لعبد الملك بن مروان، فقال الحجاج لحاجبه:قل له:يأتي الصبح، فأبى أن ينصرف قبل المبايعة، وذكر الحديث مستدلاً به، وأنه خاف أن يطرقه الموت في تلك الساعة فيموت ولا إمام له كما رواه العامة من أمره وفعله(1).

[لا يراد من الإمام القرآن]

ولا يجوز أن يكون المراد بالإمام في الحديث المذكور القرآن كما زعم بعض أهل الخلاف(2)، لوجوه :

الأوّل: أن القرآن لا يجهله أحد من المسلمين، ولا يزعم مخالفته أحد، والإمام المذكور في الخبر مما تقع عليه الخفية وتعرض للناس فيه الجهالة، وأنهم يكونون بين عارف به و جاهل و مؤتم به و تارك فيكون غير القرآن.

الثاني: أن الإمام المذكور في الخبر مما يتغير بتغير الأزمنة وتغير المكلفين، ولو لم يكن كذلك لم يعرض للناس عدم معرفته فيموت منهم من ليس عارفاً به ولا معتقداً ،إمامته، والقرآن لا يتغير بتغير الزمان فيكون الإمام المذكور غير القرآن.

ص: 141


1- شرح نهج البلاغة242:13، ونسبه للعامة الطبري في المسترشد: 177، التعجب للكراجكي:66.
2- حكاه عن بعض أهل الخلاف المازندراني في شرح أصول الكافي245:6و الماحوزي في كتاب الأربعين : 225 ، وذكر الزبيدي في تاج العروس193:8أن أحد معاني الإمام القرآن .

الثالث : أن لفظ الإمام ظاهر في شخص إنساني له رتبة الإمامة، لأنه هو المتبادر منه عند الإطلاق، ويرشد إليه أن الإمام في الخبر لو كان المراد به القرآن لكان المراد إما معرفة أحكامه أو العمل به أو معرفة أنه كتاب اللّه وأن ما فيه من الأحكام عن اللّه،وهو التصديق به المعبر عنه بالمعرفة الإجمالية ، لا شيء غير هذه الثلاثة.

فإن كان المراد الأول (1)فأكثر المسلمين غير عارفين بأحكام القرآن، وإنما يعرفه الأوحدي من العلماء، والمقلّد لا يطلق عليه لفظ المعرفة في العرف القديم، ولا باعتبار اللغة العربية، فيجب حينئذ أن يكون جميع الناس مكلفين بمعرفة أحكام القرآن ومعانيه عن نظر واجتهاد، ومن قصر عن المسلمين مات كافراً، وهذا مخالف لاتفاق الأمة، إذ لا يشترط أحد من أهل العلم ذلك في صحة الإيمان.

ثمّ كيف تحصل لأحدٍ من العلماء معرفة معاني القرآن والإحاطة بما فيه من الأحكام على التمام، مع اشتماله على المتشابه والمجمل، والخاص والعام والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من الوجوه، وعلى هذا لا يموت أحد من الناس إلا كافراً، لتعذر الإحاطة بمعرفة القرآن عليه، ولا شك في بطلان هذا الوجه وملزومه.

وإن كان الثاني(2) فأكثر الناس غير عاملين بالقرآن، بل نبذوا أحكامه وتركوا أوامره وعصوا زواجره ، ولم يعمل به ولا يخالفه في جميع الأحكام إلا يسير بل أيسر من اليسير.

ومن عمل من الناس به لم يعمل من أحكامه إلا بالقليل فيجب على هذا أن من

ص: 142


1- أي المراد من الإمام معرفة أحكام القرآن.
2- أي المراد من الإمام العمل بالقرآن.

مات، وهو عاص، فقد مات كافراً لعدم امتثاله لبعض أحكام القرآن.

على أنّ ذلك لازم في أكثر الناس لما أخبر اللّه سبحانه في القرآن عن عصیان أكثر الناس بقوله:(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )(1)،وقوله تعالى:(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين)(2)،وبطلان هذا واضح كالأوّل،لاسيما عند الخصوم .

وإن كان الثالث(3)فذاك لا يجهله ،مسلم ولا ينكره مقر بنبوة نبينا محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فلا معرض للجهالة فيه، فلا معنى لتقسيم الناس بين ميت على معرفته وميت على الجهل به، كما هو مفاد الخبر، فظهر من ذلك أن المراد بالإمام فيه غير القرآن.

[لا يراد من الإمام إمام المذهب]

ولا يجوز أن يراد منه إمام المذهب مطلقاً، كما أنه ربما يقول به متعصب من القوم المخالفين لوجوه:

[الوجه ] الأول : أن المتبادر من لفظ الإمام في المقام، بل إذا أُطلق مطلق الرئيس العام المنصوب من قبل الملك العلام، لا فقيه قلده في فتاويه جملة من الرعاع وحثالة من الناس، والتبادر أمارة الحقيقة.

[الوجه ] الثاني: أن تسمية الفقيه الذي قلّده قوم على ما ذكرناه بالإمام إنما هو شيء طار من متأخري مخالفينا، واصطلاح جديد منهم ولم يكن معروفاً في القديم، ولا يعرفه الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم بطبقات متعدّدة، وإنّما يعرفون من الإمام الرئيس العام، فيلزم إن جعلنا لفظ الإمام في الخبر واقعاً على

ص: 143


1- سبأ: 13.
2- الأعراف: 17 .
3- أي المراد من الإمام معرفة أنه كتاب اللّه وأن ما فيه عن اللّه .

فقيه مقلّد لقوم أن يكون النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)خاطب أصحابه بما لا يعرفونه وكلّفهم بما لا يفهمونه، وذلك غير جائز.

[الوجه ] الثالث: أن الإمام في الخبر لو كان كما يظن من أنه الفقيه المذكور لوجب أن يكون الناس قبل اختراع المذاهب الأربعة ماتوا على الكفر، حتى الأئمة الأربعة، لأنهم ماتوا ولم يعرفوا أنهم بالمنزلة التي جعلها لهم أكثر العامة، ولا دخل في خلدهم ذلك، ولا ظنّوا أنهم يكونون أئمة لا يجوز مخالفتهم وقتاً ما، ويكون الصحابة ومن بعدهم ماتوا كفاراً ، لأنّهم لم يعرفوا أن أئمة المذاهب يكونون فلاناً وقلاناً إلى آخرهم، وهذا ما لا يقول به مميز.

[لا يراد من الإمام السلطان]

ولا المراد السلطان المتغلب الجائر كماذكره بعض العامة(1)،إذ لا تجوز ولايته ولاالركون إليه بنص القرآن في قوله تعالى:(وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ التَّارُ)(2) فكيف يكفر من مات جاهلاً به وغير معتقد إمامته، وهذا لا يرتاب فيه ذوفهم ، ولقد رووا عن إمامهم أبي حنيفة أنه قال: لو دعاني اللص الدوانيقي إلى حمل أجرة إلى بناء مسجد ما أطعته(3).

وإذا بطل ما احتملوه من الاحتمالات في الخبر في معنى الإمام تعين أن يكون المراد منه ما ذكرناه، وهو الرئيس العام المنصوب من اللّه لهداية الناس وحماية حريم الإسلام .

ص: 144


1- في نيل الأوطار للشوكاني361:7 وفتح الباري5:13 إشارة إلى ذلك.
2- هود:113.
3- الكشاف 1 : 184 طبع بيروت ذيل الآية: 124 من سورة البقرة، نور الأبصار للسيلنجي 206وحكاه المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان66:8.

والظاهر من ابن أبي الحديد ظهوراً يقرب إلى التصريح أن المراد بالإمام في الخبر الأئمة الأئمة بعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وأن من مات وهو عارف بهم كان كان مؤمنا ، ومن مات ولم يعرفهم مات فاسقاً، وخلد في النار، وأراد بهم الخلفاء الأربعة، ومن صحت إمامته بعدهم عند أصحابه، وليس المراد من الإمام من هو في زمان المكلف الميت(1).

وجوابه معلوم مما ذكرناه في أوّل الكلام على معنى الخبر، ويؤيده ما رووه، وهو أيضاً من الراوين لفعل عبد اللّه بن عمر مع الحجاج - وقد مرّ ذكره(2)- فإنّه مصرّح بأنّه فهم من الإمام المذكور في الخبر إمام زمان المكلف لا الإمام الذي مضى زمانه وانقضى ،دوره وإن كان قصر في النظر ، حيث جعل إمام الفساق الذي تجب عداوته كإمام الحق الذي تجب معرفته، بل رجّح الأول على الثاني، فقعد عن بيعة أمير المؤمنين علي(علیه السلام)وخذله مع الخاذلين، وفعل ما سمعت في بيعة عبد الملك.

ولقد أزرى عليه الحجاج بذلك واستحقره ، حتى أنه لم يجلس له ولم يعطه يده ، بل أخرج أحد رجليه من اللحاف، وهو نائم،وقال:بايعها،فإنّ يدي عنک مشغولة،وهذا من فرط جهل عبد اللّه بن عمر،أو شدّة عداوته لأميرالمؤمنين (علیه السلام) يرثها لا عن كلالة(3).

ص: 145


1- شرح نهج البلاغة155:9.
2- شرح نهج البلاغة 13: 243 ، المسترشد للطبري : 177 ، التعجب للكراجكي: 66.
3- المراد ب«يرثها لا عن كلالة »أنه ورث البغض لعلي(علیه السلام)من أبيه،قال في لسان العرب593:11 ورثتم قناة الملك لا عن كلالة أي ورثتموها وراثة قرب لا وراثة بعد، وانظر تاج العروس 102:8.

والحاصل أنّ الخبر واضح في أن لكل زمان إماماً تجب معرفته على المكلّفين ولا يسعهم جهله ، لاسيّما على ما ذكره البهائي في لفظ الحديث(1)،والاحتمالات مريفة، وهو المطلوب.

روى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني بسنده عن بريد ، قال : سمعت أبا جعفر(علیه السلام)يقول في قول اللّه تبارك وتعالى:(أَوَمَن كَانَ مَيْناً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)(2)فقال : ميت لا يعرف شيئاً، و«نوراً يمشي به في الناس، إماماً يأتم به(كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا ) قال : الذي لا يعرف الإمام(3).

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)في قول اللّه تعالى:(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً )(4)قال: طاعة اللّه ومعرفة الإمام انتهى(5).

ومنها(6):قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في حديث الثقلين«لم يفترقا حتى يردا علي الحوض»(7)فبيّن بذلك أنه لابد من متمسك به مع القرآن من عترته في كل زمان،لا ينقطع في وقت مادام التكليف باقياً،حتى يردا عليه الحوض، وهو وقت انقطاع

ص: 146


1- الأربعون حديثاً : 431.
2- الأنعام: 122.
3- الكافي 1: 185 ح 13 كتاب الحجة، باب معرفة الإمام والرة إليه، ورواه العياشي في تفسیره 375:1.
4- البقرة: 269.
5- الكافي :1: 185 ح 11 كتاب الحجّة ، باب معرفة الإمام والرد إليه .
6- أى من الأخبار الدالة على عدم خلو العصر من حجة، معطوف على ص 87 .
7- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل2: 979 ح 1383 ، وهذا الحديث من المتواترات، وقد أفردت له عدة دراسات منها ما كتبه السيد علي الميلاني حديث الثقلين»، ومنها كتاب الله وأهل البيت في حديث الثقلين من الصحاح والسنن والمسانيد تأليف لجنة التحقيق في مسألة الامامة مدرسة باقر العلوم.

التكليف، وذلك المتمسك به الذي هو قرين القرآن ،هو الإمام المدعى، إذ لا يجوز أن يكون غيره فيكون باقياً ما بقى التكليف ، كبقاء القرآن، فيجب أن يكون في كل عصر من هو كذلك حتى تصدق القضية التى لا يجوز عليها الكذب.

ومنها:ما رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين(1)من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف»(2).

وروى أحمد بن حنبل عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء ، وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(3).

وروى جماعة من محدثيهم عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنّه قال:«النجوم أمان لأهل السماء،و أهل بيتي أمان لأمتي»(4).

وفي رواية أخرى:«أهل بيتي أمان لأهل الأرض،فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل يض من الآيات ما كانوا يوعدون»(5).

قال في إسعاف الراغبين-وهو من أشدّ المخالفين-بعد نقل هذه الأخبار:وقد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ )(6) أُقيم أهل

ص: 147


1- المراد بالصحيح على شرط الشيخين تصحيح الخبر وقبوله على مبنى الشيخين بمعنى أن سند هذا الخبر حاو لجميع الشرائط بنظر البخاري ومسلم لكنهما لم يذكراه في كتابيهما.
2- المستدرك على الصحيحين 3: 149.
3- حكاه المحب الطبري في ذخائر العقبى : 17 ،وفي الصواعق المحرقة: 150 ، وينابيع المودة442:2 ح218 عن أحمد، كمال الدين: 205، وانظر بحار الأنوار 308:27 ح 3.
4- المستدرك على الصحيحين448:2 ، وج457:3، ذخائر العقبي : 17.
5- الصواعق المحرقة: 150، ينابيع المودة 1: 71 و 441 ،مقتضب الأثر: 15.
6- الأنفال: 33 .

بيته مقامه في الأمان لأنهم منه، وهو منهم، كما ورد في بعض الطرق ، انتهى(1).

أقول: وهذه الأخبار صريحة في أنّه مادام التكليف باقياً فلابد من شخص من العترة يؤمن به أهل الأرض من الاختلاف، وأن الأرض لا يمكن خلوها من شخص بهذه المثابة ، ولو خلت منه لهلك أهلها وذهبوا ، فهم أمان لأهل الأرض من الهلاك والاختلاف، وليس كذلك إلا من ذكرناه، وهو الإمام المنصوب من قبل اللّه لبيان الأحكام ورفع الاختلاف، وإزالة الاشتباه عن المكلفين في الحلال والحرام، لا جميع قرابة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إذ ليس كلّهم ممن يرضى مذهبه ويحمد طريقه.

وبالجملة إنه لا يصلح لرفع الاختلاف ويكون أماناً منه(2)ومن الهلاك للعباد إلا من هو مؤيد من اللّه بالإلهام، ومخصوص من النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالإعلام، لا يتغير علمه ولا يتبدّل حكمه،وما سواه لا يكون كذلك، كما هو ظاهر، وهذا تصديق ما روي عن أئمتنا(علیهم السلام)في هذا المعنى.

روى الشيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني،عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى عن يونس،عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن سير، عن أحدهما(علیهما السلام)قال : قال :«إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم ، ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل»(3).

وعن علي بن إبراهيم،عن محمد بن عيسى،عن محمدبن الفضيل،عن أبي حمزة قال:قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام) :تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»(4).

ص: 148


1- إسعاف الراغبين: 141 وكل أحاديث «النجوم أمان» مذكورة في هذا الكتاب.
2- أي من الاختلاف.
3- الكافي178:1 ح 5 كتاب الحجة باب أن الأرض لا تخلو من حجة.
4- الكافي179:1 ح 10 كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة .

وعن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام)قال : قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام ؟ قال : «لا». قلت: فإنّا نروي عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)أنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط اللّه على أهل الأرض أو على العباد. فقال: «لا تبقى إذاً لساخت»(1).

وعن علیّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن أبي عبد اللّه المؤمن، عن أبي هراسة، عن أبي جعفر(علیه السلام)قال : «لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله»(2).

وعن الحسين بن محمّد،عن معلّى بن محمّد،عن بعض أصحابنا،عن أبى عليّ بن راشد قال:قال أبو الحسن(علیه السلام) :«إن الأرض لا تخلو من حجّة وأنا واللّه ذلك الحجة»(3).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يضيق بنقل بعضها المقام.

[كلمات أمير المؤمنين(علیه السلام)على لزوم الحجة في كل زمان]

وممّا يدلّ على المطلب من كلمات أمير المؤمنين(علیه السلام)وأقواله التي ثبتت عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) في حقّه أنه مع الحق والحق معه(4) كثير،نذكر منه شيئاً .

فمنها: قوله لكميل بن زياد في كلام طويل: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم

ص: 149


1- الكافي179:1 ح 11 كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة.
2- الكافي179:1 ح 12 كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة.
3- الكافي179:1 ح 9كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة.
4- المعيار والموازنة لأبي جعفر الإسكافي: 119 و 321 و 322 وروى هذا الحديث وما يقرب منه كثير من أعلام أهل السنة لاحظ إحقاق الحق623:5 إلى 638 وج384:16إلى 395 .

للّه بحجة، إما ظاهراً مشهوراً ، وإما خائفاً مغموراً(1)، لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته، وكم ذا وأين أولئك(2)واللّه الأقلون عدداً الأعظمون عند اللّه قدراً،يحفظ اللّه حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم،ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين،واستلانوا ما استوعره المترفون،وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان،أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، أولئك خلفاء اللّه في أرضه، والدعاة إلى دينه، آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم(3).

وهذا الكلام نص صريح في وجوب دوام الحجة، وبقاء الخليفة في الأرض، مادام التكليف باقياً لا يموت واحد حتى يخلفه من يقوم مقامه، وحمل ابن أبي الحديد هذا الكلام على الأبدال السائحين في الأرض(4) فاسدً،يردّه قوله(علیه السلام): «أو خائفاً مغموراً»فإنَّ الأبدال الذين عناهم ابن أبي الحديد لا خوف عليهم من أحد.

ثمّ إنه من أين يكون لأحد هذا المقام الذي ذكره أمير المؤمنين(علیه السلام)،وهذه الأوصاف غير الأئمة بالمعنى الذي قدمناه ، خصوصاً قوله (علیه السلام)«لثلا تبطل حجج اللّه وبيناته»وقوله:«هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة» إلى آخر الأوصاف،

ص: 150


1- غمره الظلم حتى غطاه فهو لا يظهر، أنظر نهج البلاغة بهامش محمد عبده37:4.
2- استفهام عن عدد القائمين للّه بحجته واستقلال له،وقوله«وأين أولئك»استفهام عن أمكنتهم وتنبيه على خفائها، أنظر نهج البلاغة بهامش محمد عبده 37:4.
3- نهج البلاغة37:4/الخطبة 147 .
4- شرح نهج البلاغة351:18وفيه قال ابن أبي الحديد في ذيل قوله(علیه السلام):«اللهم بلى لا تخلو من قائم بحجة اللّه »..إلا أن أصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم أنهم في الأرض سائحون، فمنهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، وأنهم لا يموتون حتى يودعوا السر وهو العرفان عند قوم آخرين يقومون مقامهم.

إذ من المعلوم البتة أنه ليس أحد من المقلدة-الذين لا يعرفون الحلال والحرام إلا من فتوى أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأضرابهم الذين يقيسون الدين برأيهم-بقائم للّه بالحجة، وهو مقلّد لمن لم يقم بها.

فمن أين هجم العلم بهؤلاء على حقيقة البصيرة ؟ بل من أين حصلت لهم البصيرة، وهم مقلّدون لمشايخهم، وهم مختلفون ؟

والخارج عن تقليد المشايخ الأربعة غير صحيح العبادة عند المعتزلي(1)،فمن أين يكون قائماً بحجة اللّه إلى آخر الأوصاف، ومن أرادهم بقوله لم ينالوا من البصيرة ما يبل صدى الظمئان ؟

على أنا لا نعرف الأبدال السائحين في الأرض ، ولم ندرك منهم من هو مصداق هذه الأوصاف، حتّى نجعل من لم نره منهم بحكمه، كما رأينا الإمام الظاهر، وجعلنا الغائب بحكمه، بل إنا لا نعرف السائحين إلا القوم الذين يقال لهم: الكلندرية(2)، والعامة يسمونهم أولياء، ويطلق عليهم الناس لفظ الدراويش وهؤلاء قوم لا يصلون، فضلاً عن أن يكونوا يحسنون الصلاة، أفترى هؤلاء الذين عناهم أمير المؤمنين بأن باشروا روح اليقين، أو أنهم خلفاء اللّه في أرضه، والدعاة إلى دينه وسائحاً غير هؤلاء لا نعرفه ؟

ص: 151


1- في حصر الاجتهاد: 108 أفنى ابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهروزي : بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة مستدلاله باجماع المحققين كما ذكره محمد مصطفى المراغي في بحث تشريع الإسلامي ص 17 .
2- ويقال لهم: «القلندرية» أيضاً منسوب إلى قلندر كسمندر وهم طائفة من الصوفية الذين ينشرون الشعور ويمشون حفاة ويدعون إنهم تاركون للدنيا ويصرفون أوقاتهم في التكدي والسؤال أنظر كشاف اصطلاحات العلوم والفنون 2: 1340 وجامع السعادات 19:3.

إنّ صريح كلام أمير المؤمنين(علیه السلام)أن القوم الذين وصفهم منهم ظاهر ومنهم مستور،وكلام المعتزلي مصرّح بأن جميع السائحين مستورون لا يعرفون ،فلا يطابق كلامه لفظ الخبر ومعناه فلا يصح أن يحمل عليه.

وبالجملة إن كلام المعتزلي لا معنى له ،وإنّما هو من ضيق الخناق، فيتعلل بما لا يجدي نفعاً واللّه الهادي.

ومنها:قوله(علیه السلام)في خطبة له:«والهجرة قائمة على حدّها الأول(1)، ما كان اللّه في أهل الأرض حاجة من مستر الأمة ومعلنها(2)،لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه، ووعاها قلبه».(3).

وهذا الكلام من أصرح الصريح في أن الأرض لا تخلو من إمام تجب معرفته، وأن من عرفه صح عليه اسم الهجرة، فسمّي مهاجراً، وأنّ من لم يعرفه سمّي مستضعفاً لا دين له، وهو قوله (علیه السلام):«لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض، ولا يقع اسم الاستضعاف »إلى آخره، وإن ذلك باق مادام التكليف موجوداً، وهو قوله (علیه السلام): «ما كان الله فى أهل الأرض حاجة».

وقد اعترف المعتزلي بذلك، فإنه لما ذكر الفرق بين هذه الهجرة التي ذكرها

ص: 152


1- أي لم يزل حكمها الوجوب على من بلغته دعوة الإسلام ورضى الإسلام ديناً، فلا يجوز لمسلم أن يقيم في بلاد حرب على المسلمين ولا أن يقبل سلطان غير المسلم بل تجب عليه الهجرة (نهج البلاغة129:2 تحقيق محمد عبده).
2- استسر الأمر: كتمه، والامة بكسر الهمزة الحالة، وبضمها الطاعة أي أن الهجرة فرضت على المكلفين لمصلحتهم، وإلا فاللّه لا حاجة به إلى مضمر إيمانه في بلاد الكفر، ولا إلى معلنه في ديار الإسلام (نهج البلاغة129:2).
3- نهج البلاغة 129:2 الخطبة188.

أمير المؤمنين،وبين الهجرة التي ذكرها النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بقوله«لا هجرة بعد الفتح»(1)وخصّ الأولى بالهجرة إلى الإمام ، قال : ثمّ ذكر - يعني أمير المؤمنين - إنّه لا يصحّ أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا بمعرفة إمام زمانه، وهو معنى قوله«إلا بمعرفة الحجة في الأرض».

قال :«فمن عرف الإمام وأقر به فهو مهاجر».

قال:«ولا يجوز أن يسمّى من عرف الإمام مستضعفاً»، إلى أن قال: وشيعة الإمام ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم، بل تكفي معرفتهم به ،وإقرارهم بإمامته، فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم ،انتهى(2).

أقول : ولازم قوله«إنّه من المستضعفين» لأنه لا إمام له على طبق مذهبه،والخلفاء الفساق الذين في زمانه من بني العباس لا يصلحون للإمامة على الوجه المذكور فى قول أصحابه، وإمامنا المستور عن أهل الغرور لا يثبت هو وجوده،بل ينفيه في مواضع كثيرة بالصريح من كلامه،فبقي حينئذ بلا إمام عدل،فهو من المستضعفين لا محالة. والعجب منه في هذا الموضع أنه لم يذكر أن الإمام الذي معرفته تكون هجرة، هو القطب الذي كان يدّعيه في شرح كثير من خطب أمير المؤمنين(علیه السلام)، المشابهة في المعنى لهذه الخطبة، وأظنّه هنا نسي ذلك أو لم يتصوّر أنّ الكلام نصّ في مذهب الإمامية، ليتصدّى لدفعه ولو بالراح، ولستره ولو بالزجاج، وأنت خبير بأن الكلام المذكور صريح وأي صريح فيما ندعيه.

ص: 153


1- مسند أحمد 226:1 ، سنن الترمذي75:3،سنن النسائي149:7،المستدرك للحاكم النيشابوري257:2 وهذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
2- شرح نهج البلاغة 104:13.

واعلم أن أمير المؤمنين(علیه السلام)أراد بالمهاجر والمستضعف في قوله المذكور وأشار به إلى ما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتَهَاجِرُوا فِيهَا)(1)الآية ، فمن عرف الإمام في زمانه كان مهاجراً في الأرض، وإن لم يخرج من منزله، ومن جهل إمام زمانه فهو مستضعف، وإن جاب الأقطار.

ومنها :قوله في خطبة :«وإنّما الأئمة قوام اللّه على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه»(2)،الخطبة، وهي وفق المدعى، لأن قوله(علیه السلام) : «الأئمة قوام اللّه على خلقه»صريح في دوام وجود الإمام واستمراره باستمرار زمان التكليف، لأن القائم على الخلق والعريف عليهم يستحيل أن يكون غير موجود ولا حي ولا عارف بأحوالهم .

وقوله(علیه السلام)«لا يدخل الجنة» إلى آخره معناه أنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم بالإمامة، وأقر لهم بها، وعرفوه بالإقرار لهم بذلك، فيجب حينئذٍ أن يكون في كل عصر إمام قائم لله على خلقه، وعريف عليهم يدخل الجنة من أقر له بالإمامة،ويدخل النار من أنكر إمامته،ليهلك من هلك عن بيّنة،ويحيى من حي عن بينة، وهو المطلوب.

والكلام ظاهر في سعة علم الإمام لتمكّنه من معرفة عارفيه ومنكريه، مع بعد ديارهم وكثرتهم، وهو تصديق ما ورد من طرقنا عن أهل البيت(علیهم السلام)أنّ الإمام يعرف أولياءه وأعداءه في أقاصي الأرض وأدانيها، وأنّ الدنيا عند الإمام بمنزلة

ص: 154


1- النساء : 97 .
2- نهج البلاغة 40:2 الخطبة 152.

الدرهم في كف الإنسان يقلبه،يعلم أعلاها وأسفلها، كما رواه المشايخ الكبار مثل محمّد بن الحسن الصفّار(1)، ومحمّد بن يعقوب(2)، وابن بابويه(3)وغيرهم من أكابر محدثينا في كتبهم(4).

وليس المراد أن الأئمة يعرفون أولياءهم يوم القيامة خاصة،كما ذكره ابن أبي الحديد في شرح الخطبة(5)،لأن الذين لا يعرفون أولياءهم إلا في الآخرة لا يُسمون عرفاء اللّه على خلقه في الدنيا، لأن العريف النقيب والرئيس .

على أن معرفة الولي والعدوّ في الآخرة لا يختص بالأئمة ، بل الخلق كلهم ينكشف لهم حينئذ الغطاء، فيعرف أهل الجنّة أولياءهم،ويكونون إخواناً على سرر متقابلين،ويعرف أهل النار أولياءهم،كلما دخلت أُمة لعنت أُختها،ويعرف المظلوم ظالمه ، وإن كان بعد موته بذكر سيئ، ويعرف المحسن من أحسن إليه

ص: 155


1- روی محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات: 428 في الباب 14 أربع روايات بهذا المعنى منها ما رواه بسنده عن حمزة بن عبد المطلب بن عبد اللّه الجعفي قال:دخلت على الرضا(علیه السلام)ومعي صحيفة أو قرطاس فيه عن جعفر(علیه السلام)إن الدنيا مثلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الحوزة، فقال: يا حمزة ذا واللّه حق فانقلوه إلى أديم»وقال المجلسي في بيان هذا الحديث فلقة الجورة بالكسر : بعضها أو تصفها ... والمعنى إنّ جميع الدنيا حاضرة عند علم الإمام يعلم ما يقع فيها كنصف جوزة يكون فى يد أحدكم ينظر إليه.(بحار الأنوار145:3).
2- أنظر الكافي 1: 221 - 227 ، كتاب الحجة وفيه أبواب في علم الإمام.
3- روى الصدوق في مطاوي كتبه روايات في سعة علم الإمام، أنظر كمال الدين: 353 باب 33 ح 50 ، عيون أخبار الرضا(علیه السلام)316:1، الخصال: 576 .
4- أنظر الاختصاص للمفيد : 127، وصنف بعض العلماء في علم الإمام كتباً مستقلة يحسن أن يرجع إليها.منها ما ألفه الشيخ محمد حسين المظفر بعنوان «علم الإمام».
5- شرح نهج البلاغة154:9.

كذلك كما هو معلوم لدى العارفين، فلا فضل للأئمة في هذا يوم القيامة على غیرهم .

ثم إن المتبادر من قوله «لا يدخل الجنة» إلى آخره، أنه لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم في الدنيا بالإمامة، وعرفوه في الدنيا بالإقرار لهم بها، ولا يدخل النار إلا من أنكر إمامتهم في الدنيا وأنكروه، أي لم يعرفوه في الدنيا بالإقرار لهم بالإمامة، وهو يؤيد المطلب ويوضحه وكلام أمير المؤمنين(علیه السلام)في هذا المعنى كثير .

وسيأتي بعض منه في آخر الكتاب في موضع يشبه هذا الموضع أو هو فرعه، إنّ شاء اللّه تعالى.

[دليل الخصم على خلو العصر من الحجة وجوابه]

احتج قوم من الخصوم على جواز خلق العصر من إمام بقوله تعالى:(لِتُنذِرَ قَوْماً ما أَتَاهُم مِن نَّذِيرٍ مِن قَبْلِكَ)(1)،وبقوله تعالى:(وَمَا آتَيْنَاهُم مِن كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا وَمَا مَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِير)(2)(3).

وأجاب أصحابنا عنه بأن الآيتين نفى للرسول،لأن النذير هو الرسول(4)كما يدلّ عليه قوله في الآية الثانية (وَمَاأَرْسَلْنَا)، وقوله تعالى: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ )(5)وكثير من الآيات، وليس في الآيتين نفي الأنبياء والأوصياء الهادين إلى اللّه تعالى، والأول نقول به، فإنّا

ص: 156


1- القصص : 46 السجدة:3.
2- سيا: 44 .
3- مثل الآمدي في الأحكام 202:1.
4- كمال الدين: 666 و 667 ، التبيان158:8.
5- فاطر: 42.

تجوّز خلوّ العصر من رسول مبعوث، بل من نبي، ولا نجور خلوه من وصي هادٍ تقوم به الحجّة اللّه على العباد، والآيتان لا تنفيانه ،فلا حجة لكم فيهما على ما ادعيتم .

أقول : أما قوله تعالى في الأولى(مَّا أَتَاهُم مِن نَّذِيرٍ مِن قَبْلِكَ )وفي الثانية:(وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِير)فمحتمل لأن يكون اللّه تعالى أخبر أنه لم يرسل في قريش رسولاً منهم قبل النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وإن كان أرسل فيهم من غيرهم أو بلغتهم دعوة الرسل (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى توحيد اللّه تعالى، فليس في الآيتين دلالة على انتفاء الرسل مطلقاً ، وإنّما أقصى دلالتهما على انتفاء رسول إلى قريش من أنفسهم قبل النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

ويؤيد ما قلناه قوله تعالی:(وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ )(1)فإنَّها نَاصّة على أنه لا تخلو أُمّة من الأمم من رسول إليهم منذر يخوّفهم من العقاب، وقد اعترف بذلك شيخ المعتزلة أبو علي الجبائي فقال: وفي هذا دلالة على أنه لا أحد من المكلفين إلا وقد بعث إليهم الرسول، وإنه سبحانه أقام الحجة على جميع الأمم ،انتهی(2).

ومثل ما قلناه في الآيتين قال به الحسن البصري في قوله تعالى:(لِتُنذِرَ قَوْماً ما أَنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)(3)فقال:لم يأتهم نذير من أنفسهم وقومهم وإن جاءهم من غيرهم(4).

ويحتمل أيضاً أن المراد ما أتاهم من نذير من قبلك على حسب ما جئت به ،

ص: 157


1- فاطر: 24.
2- حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان8 : 240 ذيل الآية: 24 من سورة فاطر.
3- يس: 6 .
4- حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان259:8 ذيل الآية : 6 من سورة يس .

وكذلك في الآية الثانية، وهذا كما قاله قوم في (لِتُنذِرَ قَوْماً )الآية(1).

فتبين أن الآيتين اللتين الحج به الخصم لاتدلان على خلق العصر من الرسل، فضلاً عن أن تدلاً على حلوه من الأوصياء الهادين ، فسقط الاحتجاج بهما رأساً.

وأما الآية الثالثة وهى قوله تعالى:(لِتُنذِرَ قَوْماً ما أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ)فقد عرفت ما قيل فيها مما لا ينفي وجود الرسل إلى قريش من غيرهم،على أن المروي عن عكرمة فى معناها لتنذر قوماً كما أنذر آباؤهم(2)،بجعل «ما» مصدرية لا نافية، وحرف التشبيه محذوف كما حذف في قوله تعالى : ( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)(3).

وهذا القول أدلّ على المطلوب من الأوّل ويعضده آيات كثيرة(وَإِن مِنْ أُمَّةٍ )الآية، وآيات نفي الحجّة للناس على اللّه بعد الرسل(4)، وقوله تعالى:(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتَرَاكُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ)(5).

وقوله تعالى:(قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(6)جواباً لقولهم : (لَوْلاً أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ)(7)الآية،كما قاله بعض الأفاضل(8)، وأما في الظاهر فهي جواب لقول اليهود : (أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ

ص: 158


1- حكاه عن قوم الطبرسي في مجمع البيان259:8 ذيل الآية : 6 من سورة يس.
2- حكاه عنه في مجمع البيان359:8 ذيل الآية : 6 من سورة یس.
3- النمل:88.
4- مثل الآية: 165 من سورة النساء.
5- المؤمنون: 44 .
6- آل عمران: 183 .
7- طه : 134 .
8- تفسير الصافي245:4،أنظر الكشاف عن حقائق التنزيل 3: 315 وجوامع الجامع 3: 131 .

حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ)(1)كما قصه اللّه من قولهم، فلا حجة فيها على المقصود، فهذه الآيات دالة على أنّ اللّه عزّوجلّ لم يترك أُمة بغير رسول تقوم به الحجة عليهم .

وقال الشيخ الصدوق :إن معنى الآية الأولى،وهي قوله تعالى:(لِتُنذِرَ قَوْماً ما أَتَاهُم مِن نَّذِيرٍ مِن قَبْلِكَ)،أي ما جاءهم رسول بتبديل شريعة ولا نسخ ملة، ولم ينف الهداة الدعاة من الأوصياء ،انتهى(2)،وهو محتمل أيضاً.

وأما قوله تعالى:(وَمَا آتَيْنَاهُم مِن كُتب يَدْرُسُونَهَا)فلا دلالة فيه على تقي الرسول ، وإنما غاية دلالته على أنه لم ينزل اللّه على قريش كتباً من السماء بلسانهم قبل القرآن، وهذا ما لا ينكره أحد، ولا ينفع الخصم، إذ لا يجب على كلّ رسول أن يكون معه كتاب وله شريعة، بل يجوز إرسال الرسل يدعون إلى شريعة واحدة، ولتأكيد ما في العقول، كما ذهب إليه الإمامية، وأبو علي الجبائي، وأتباعه من المعتزلة(3).

ودلّ على الأول الاتفاق على أن لا شريعة لأحد من الأنبياء إلا لآدم ونوح،وإبراهيم وموسى،وعيسى ومحمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلم)، وأن كل الرسل غيرهم يدعون إلى الشرائع السابقة على شريعتنا .

والحاصل أن الآيات لا تدل على نفى الرسل مطلقاً بوجه من الوجوه، ولو نزلنا

ص: 159


1- آل عمران: 183 .
2- كمال الدين وتمام النعمة: 667 .
3- أنظر كشف المراد: 468 المقصد الرابع في النبؤة، وحكاه عن المعتزلة في شرح المقاصد للتفتازاني 6:5 .

للخصم عن الحجّة، وقلنا بدلالتها على ذلك لم تكن دالة على نفى إمام هادٍ تقوم به الحجة اللّه على العباد كما عرفت من البيان .

وقد وضح من ذلك سلامة أدلتنا الدالة على وجوب وجود إمام في كل زمان من أزمنة التكليف عن معارض، فتعيّن القول به والمصير إليه.

[أدلة وجوب وجود الإمام من طرق الإمامية ]

ولا بأس بنقل بعض الأخبار عن أئمتنا(علیهم السلام)في هذا المعنى، روى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني بسنده عن أبي بصير،قال:قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام):(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(1)فقال:

«رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلم)المنذر ، وعلي الهادي، يا أبا محمد، هل من هاد اليوم ؟».

قلت :بلى جعلت فداك، ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك .

فقال:«رحمك اللّه يا أبا محمّد، لو كان إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ، ولكنه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضی»(2).

وروى الصدوق رئيس المحدثين بسنده عن أبي الصباح، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)علي قال:«إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان ، فإذا زاد المؤمنون ردّهم، وإذا نقصوا شيئاً أكمله لهم، ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين أُمورهم»(3).

ص: 160


1- الرعد:7.
2- الکافی 192:1 ح3 کتاب الحجة،باب الأمة(علیهم السلام) هم الهداة.
3- كمال الدين وتمام النعمة : 203 باب 21 ج 11 .

وبسنده عن عبد الأعلى بن أعين، عن أبي جعفر(علیه السام)قال:سمعته يقول:«ما تترك الأرض بغير عالم ينقص ما زادوا،ويزيد ما نقصوا، ولولا ذلك لاختلطت على الناس أُمورهم»(1).

وعن سليمان الأعمش،عن الصادق جعفر بن محمد(علیهما السلام)في حديث قال:«ولم تخل الأرض منذ خلق اللّه الخلق من حجة للّه، فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو حتى تقوم الساعة من حجّة للّه فيها، ولولا ذلك لم يعبد اللّه».

قال سليمان:فقلت للصادق : فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال :«كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(2).

اللهم ثبتنا على الحق ، وموالاة الحجة، إنك تثبت الذين آمنوا بالقول الثابت الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ص: 161


1- كمال الدين وتمام النعمة : 205 باب 26 ح 16 وفيه«ما ترك اللّه الأرض»، بدل ما تترك الأرض .
2- كمال الدين: 307 باب21ح22.

ص: 162

الفصل الأول في شروط الإمام وهو يشتمل على مسائل :

[المسألة ] الأولى في عصمة الإمام

[المعصوم قادر على المعصية أم لا؟]

ص: 163

ص: 164

(1)

وينبغي أوّلاً بيان معنى العصمة،فقد اختلف فيها المتكلمون بعد الاتفاق على أنها في اللغة المنع(2)،ومنه قوله تعالى: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(3)،وقوله تعالى:(لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(4)فذكر أصحابنا أن العصمة لطف خفي يفعله اللّه تعالى بالمكلّف،بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية، مع قدرته على ذلك(5).

وفسّرها بعض بأنها الأمر الذي يفعله اللّه من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط ألّا ينتهي ذلك الأمر إلى الإلجاء(6).

ص: 165


1- ستأتي المسألة الثانية : 191 تحت عنوان: يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه .
2- غريب الحديث لابن قتيبة 1: 105 النهاية في غريب الحديث3 : 249، لسان العرب166:9.
3- المائدة: 67 .
4- هود :43 .
5- النكت الاعتقادية للمفيد : 37 .
6- حكى ذلك العلامة في شرح التجريد: 494 المقصد الخامس في الإمامة، المسألة الثانية والعلامة المجلسى في بحار الأنوار93:17.

وفسرها بعض آخر بأنها ملكة نفسانية لا تصدر عن صاحبها المعاصي(1).

وكلّ هؤلاء متفقون على أن العصمة لا يشترط فيها سلب القدرة على المعصية وذهب قوم إلى اشتراط سلب القدرة على المعصية في العصمة (2).

ثم اختلفوا في معناها فقال القوم:إنّ المعصوم مختص في بدئه أو في نفسه بأمر يقتضي امتناع إقدامه على المعصية، فالعصمة على هذا هى ذلك الأمر المذكور(3).

وقال بعض : «إن العصمة هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية؛ وهو قول أبي الحسين البصري»(4).

وأصحابنا رضوان اللّه عليهم لا يختلفون في قدرة المعصوم على المعصية، لكنه لا يفعلها ولا يصح نسبتها إليه، بل ينبغي أن يقال: إنّه لا يشترط في العصمة ألا تخطر المعصية بباله ، إذ لولا ذلك لكان مسلوب القدرة، وإلا صح ما قاله أصحابنا.

لنا : أن المعصوم لو لم يكن قادراً على فعل المعصية لما كان مكلفاً بتركها، إذ شرط التكليف بالشيء القدرة على فعله وتركه ، إذ لا يصح أن يقال: إن الإنسان مكلف بترك الطيران إلى السماء كما أنه لا يجوز أن يكلف بالطيران إليها(5)،لعدم الاستطاعة إلى ذلك، والتالي باطل،فقد علمنا بتوجه الأمر والنهي إلى المعصومين من الأنبياء والأوصياء ، وإذا بطل التالي بطل المقدّم.

وأيضاً: لو كان المعصوم غير قادر على فعل المعصية لما استحق على تركها

ص: 166


1- حكى ذلك العلّامة في شرح التجريد: 494، والمجلسى في بحار الأنوار93:17.
2- حكى ذلك العلّامة في شرح التجريد: 494، والمجلسى في بحار الأنوار93:17.
3- حكى ذلك العلّامة في شرح التجريد: 494، والمجلسى في بحار الأنوار93:17.
4- نقله عنه العلامة في شرح التجريد : 494 والمجلسي في بحار الأنوار93:17.
5- في الحجرية:(إلينا).

ثواباً ولا مدحاً، لأنه في تركها مجبور على الترك، وملجأ إلى الاجتناب، ولا مدح المجبور ولا ثواب لملجاً كما لا يخفى والكل باطل بالاتفاق إذ لا نزاع في استحقاق المعصوم على ترك المعصية المدح والثواب، والكتاب دال عليه ؛ فالمقدم باطل أيضاً.

[الكلام في وجوب عصمة الإمام وعدمه ]

إذا عرفت هذا فاعلم أن الناس قد اختلفوا في أن الإمام يجب أن يكون معصوماً ام لا؟

فذهب أصحابنا الإمامية ووافقهم الإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوماً من أوّل عمره إلى آخره عن ارتكاب المعاصي؛ كبائرها وصغائرها، وعن الخطأ في الأحكام(1).

وقال باقي الفرق : لا يجب في الإمام العصمة، بل تكفي العدالة(2)، والأصح هو مذهب أصحابنا، ولنا على ذلك وجوه من الأدلة عقلاً وسمعاً:

[الدليل ] الأول : أن المحوج إلى الإمام هو جواز الخطأ على الأمة في العلم ،والعمل ، فلو جاز الخطأ على الإمام فيهما لوجب له إمام آخر، وذلك الإمام أيضاً إن كان معصوماً ثبت المطلوب، وإلا احتاج إلى إمام آخر، فيتسلسل إلى غير النهاية، والتسلسل باطل، فوجب أن يكون الإمام معصوماً دفعاً للزوم التسلسل لولاه:

وأجاب القوشجي عن هذا الدليل بأن للأشاعرة أن يقولوا: لا نسلّم أن الحاجة

ص: 167


1- أنظر كشف المراد:492، وتنزيه الأنبياء للشريف المرتضى 16 .
2- الفرق بين الفرق للبغدادي : 349 و 350 .

إلى الإمام لما ذكرتم ، بل لما ذكرنا في وجوب نصب الإمام، ولا يلزم أن يكون معصوماً(1).

أقول : وجوابه قد عرفته فيما سبق عند إيراد ما احتج به على وجوب نصب الإمام سمعاً ، فإنا بينا هناك بطلان ما قال ، وبينا أن الحاجة إلى الإمام هو ما ذكرناه،لا ما ذكره خاصة بما لا مزيد عليه.

[الدليل ] الثاني: أن الإمام حافظ للشرع فلو جاز عليه الخطأ لم يكن حافظاً له ، هذا خلف ؛ أما إنه حافظ للشرع، فلما نبينه وما بيناه في المقدمة، وأما إن المخطئ غير حافظ للشرع فظاهر لا يحتاج إلى بيان فوجب أن يكون الإمام معصوماً. وأجاب القوشجي عنه«بأن الإمام ليس بحافظ للشرع بذاته، بل بالكتاب والسنة واجتهاده الصحيح، فإن أخطأ في اجتهاده فالمجتهدون يردّون، والأمرون بالمعروف يصدون، وإن لم يفعلوا أيضاً فلا نقض للشريعة القويمة»(2).

أقول:هذا الجواب فاسد :أما قوله«ليس حافظاً للشرع بذاته»فما أدري ما عنى به، فإن كان يعني أنّ الإمام علمه ذاتي كعلم الباري تعالى لا يحتاج إلى التعلم فذلك ما لا يدعيه أحد من الناس،وإنّما المدعى كونه معلماً من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)جميع ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم، ومفهماً من اللّه علم التأويل، بحيث لا يشذ عنه حكم واقعة من الوقايع، ولا يُسئل عن شيء إلا وهو يعلمه من كتاب اللّه علماً لا تغيّر فيه ولا تبديل ولا اختلاف،وليس علماً اجتهادياً وحكماً نظرياً يختلف باختلاف النظر، ويتغيّر بتغيّر الاجتهاد.

ص: 168


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 2 السطر الأخیر.
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 3 السطر 2.

وإن عنى بقوله :«بذاته» هذا المعنى المدعى ، فليس هذا علماً ذاتياً، وإنّما هو علم من الكتاب والسنة، وليس بخارج عنهما ، لكنّه علم يقيني لا يتطرّق عليه التبدل والاختلاف بتبدل الأنظار واختلاف الاعتبار، فيخطئ تارةً، وطوراً يصيب كحال أئمة المجيب .

وأما قوله:«واجتهاده الصحيح»فهو مناقض لقوله «فإن أخطأ في اجتهاده»، فأين الصحة مع الخطأ ؟ وقد تقدم منا تحقيق بطلان الاجتهاد الذي عناه، الذي هو ملازم لمخالفة الحقِّ دائماً، وأنه ليس طريقاً لبيان أحكام اللّه ، ولم يتعبد اللّه عباده به في المقدّمات الخمس، وأوضحناه أتم الإيضاح، وسيأتي له مزيد بيان .

وبالجملة إنا أثبتنا أن الإمام حجّة اللّه على خلقه، والحجة لا تقوم بالمجتهد، الجواز الخطأ عليه كما اعترف به المجيب في كلامه.

وقوله: «فالمجتهدون يردون»فيه الحكم بانقلاب المحجوج حجّة والمأمور الذي تجب عليه الطاعة أميراً واجب الطاعة ، وهذا إخراج للإمام عن الإمامة لما علمت أنّها رياسة عامة فى الدين والدنيا، والمردود عن اجتهاده مرؤوس لا رئيس، ومحكوم عليه لا حاكم.

وقوله:«والأمرون بالمعروف يصدون»أظهر قبحاً،فإن المصدود الممنوع من إمضاء الحكم من سائر الرعيّة وأدائى الناس، وليس له رياسة على أحد، وليت شعري أي إمامة ورياسة تبقى لذلك الإمام الذي لا يؤمن عليه الخطأ في الأحكام،مع ردّ الرعية اجتهاده، وإبطالهم قوله ومنعهم إياه من إمضاء الحكم الذي اجتهد فيه ؟ وهل هذا على ما ذكر إلا مأمور منهي ، يساس ويؤدب من رعيته الذي نصب لسياستهم وتأديبهم ، فلا يكون على هذه الحالة إماماً البتة مع ما يلزم من وجوب طاعة مجتهد وآمر ومخالفة آخر.

ص: 169

وذلك أنّ الإمام إذا اجتهد في حكم - فخالف فيه اجتهاد قوم مجتهدين قد اختلفوا أيضاً على قولين أو ثلاثة لما علمت من أن الاجتهاد غير منضبط - فحينئذٍ كل فريق يخطئون الإمام، ويأمرونه بالرجوع إلى قولهم فليخبرنا القوشجي عن إمامه ذلك عن رأي أيّ الفرق يصدر ؟ وبقول أيهم بأخذ ؟ ولأمر أيهم يطيع ؟

مع لزوم الترجيح من دون مرجّح في تقديم تقليده لكلّ واحدة من الفرق على الأخرى، والاقتداء بها دون أختها، فهو مرتهن دائماً بعصيان فرقة لطاعته الأخرى ، ومصدود عن الأمر دائماً لدوام اختلاف المجتهدين، أفترى هذا إماماً أم هو أذل المأمومين ؟

وبعد، فمن أين توجّه عليه الخطأ في الاجتهاد عند القوشجي وأصحابه، واحتيج إلى الإنكار عليه من المجتهدين، مع حكمهم بأن كل مجتهد مصيب؟(1)وهل يبقى على هذا القول فضل لمجتهد على مجتهد آخر حتى يكون أحدهما يرد الآخر عن اجتهاده، ويصده عن حكمه ؟

ثم لو قلنا بعدم الإصابة في الاجتهاد الذي هو مخالف لقول المجيب، فمن أين علم أن المخطئ هو الإمام، وأن المصيب غيره ؟ وهل يعلم ذلك إلا من هو مطلع على باطن حكم اللّه في الواقعة ؟ وإذا وجد هذا فهو الإمام لا محالة، لا ذلك

المجتهد المخطئ والمجيب ينفيه فيلزم حينئد عدم جواز ردّ مجتهد من الناس اجتهاد غيره-الإمام ومن سواه- لتساويهم في عدم العلم بالإصابة أو الخطأ على القول بالتخطئة، وفي الإصابة معاً على القول بالتصويب، فلا يكون لواحد رياسة على الآخر ، فلا إمام ولا مأموم إلا الرعاع والأوباش، فإن إمامهم من يقلدونه، فما

ص: 170


1- انظر الفصول في الأصول للجصاص295:4، باب القول في حكم المجتهدين.

أكثر الأئمة على هذا القول لو كان قائلوه يشعرون، ولما قالوه يفهمون.

وقوله: «فإن لم يفعلوا إلى آخره، فهو أفحش من الجميع، لأنه إخراج للأمر بالمعروف الواجب عن الوجوب، ولا يخفى ما فيه من المناقضة.

وقوله : «فلا نقض للشريعة القويمة إن أراد أن عصيان المجتهدين - بترك ردّ إمامهم المخطئ وترك الإنكار عليه - لا يغير حكم اللّه ولا يبدل فرضه، فلا ينقلب به الحرام حلالاً ، ولا الحلال حراماً، بل يلزم العاصى الإثم على المعصية، فذلك صحيح عندنا، لكنه لا يرضى به لاستلزامه اتفاق الأمة على الخطأ وهو خلاف مذهبه.

وإنّ أراد أن عصيان المجتهدين في تركهم النكير على إمامهم الخاطئ لا يوجب الإثم لهم، ولا يخرجهم من حيّز العدالة وعصيان الإمام وخطؤه لا يبطل إمامته ؛ فذلك باطل باتفاق الأمة والنص من الكتاب والسنة ، ومن المحال أن يكون كف الناس عن إنكار المنكر مسقطاً عنهم الإثم ، ومجوّزاً لفاعل المنكر فعله.

والحاصل أنّ هذا الكلام تدليس وتلبيس لا معنى له ولا فائدة فيه و وأنت بعد الإحاطة بما قررناه لا ترتاب في بطلانه، وبذلك يسلم دليلنا من الإيراد ويتم به المراد .

[الدليل ] الثالث(1): أنّ الإمام لو أقدم على المعصية لوجب الإنكار عليه،وهو مضاد لوجوب إطاعته الثابت بقوله تعالى:(أطيعوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمر مِنْكُمْ)(2)ومفوّت للغرض من نصبه ، وهو امتثال أوامره ، واجتناب مناهيه ، واتباعه

ص: 171


1- أي الدليل الثالث على وجوب عصمة الإمام(علیه السلام).
2- النساء : 59.

فيما يفعله فيكون من تجب طاعته والاقتداء به في القول والفعل يجب الإنكار عليه والبراءة من فعله، أو يلزم الإثم بترك النكير عليه، أو يخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن كونهما واجبين وكله باطل؛ فوجب أن يكون الإمام معصوماً لدفع هذه المحذورات.

وأجاب عنه القوشجي«بأن وجوب الإطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشرع، وأما فيما يخالفه فالرد والإنكار، فإن لم يتيسر فسكوت عن اضطرار»(1).

أقول: وهذا ليس بجواب عن الدليل بالمرّة وإنما هو تدليس وتشبيه على غير ذي الروية، لأن قوله : «إنّ وجوب الإطاعة إنّما هو فيما لا يخالف الشرع» مسلّم لا ينكره أحد، ولا ندعى خلافه، وكذلك قوله :«وأما فيما يخالفه فالرد والإنكار»صحيح مسلم ، وهو خلاف المدعى، فإن المدعى أن الإمام لا يجوز عليه الخطأ وارتكاب المعصية.

ولو جاز عليه ذلك فحين يواقع الخطية إن وجب الإنكار عليه خرج عن كونه واجب الطاعة، وهو واجب الطاعة بالنص والإجماع، وإن لم يجب الإنكار عليه خرج الواجب عن كونه واجباً، وهو كذلك باطل، فحينئذ وجب كونه معصوماً لا يواقع معصية، ولا يحتاج إلى الإنكار عليه، ويكون الراد عليه قوله راداً على اللّه ورسوله، وليس المدعى أن الإمام يخالف الشرع ، فتجب إطاعته في مخالفة الشرع ، ولا يجوز الإنكار عليه.

وجوابه إنّما يتوجه علينا لو كان هذا مدعانا، وليس هذا هو فسقط الجواب من أصله، ولا يتوجه له الجواب إلا بإقامة حجّة على منع اللوازم الباطلة، مثل أن يمنع

ص: 172


1- شرح التجريد للفوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 3 السطر 8.

وجوب الإنكار على الإمام إذا عصى ويقيم عليه دليلاً، وغير ذلك من اللوازم المذكورة في الدليل،مع مباشرة الإمام المعصية، وهو لم يقم على منع شيء منها حجّة بالمرّة ، فليس إيراده بوارد علينا ، بل هو مما نقول به ونجعله جزءاً من الدليل كما ترى .

وقوله«فإن لم يتيسر فسكوت عن اضطرار»واهٍ جداً، لأنه يستلزم أمرين قبيحين : إما كون ذلك الإمام العاصي متظاهراً بالمعصية، ومتغلباً على الأمة بمن يوافقه من العاصين، بحيث يبلغ تغلبه إلى خوف أهل العلم والفضل من الإنكار عليه إذا عصى، ولا يقدرون على إظهار النكير عليه لتجبره وتكبره عن قبول الحقوالعمل به.

ومعلوم أن هذا ليس بإمام مرشد،ولا رئیس عادل،بل هو ظالم جائر،وجبّار فاسق،ولا يصلح أن يكون إماماً إلا للقوشجي وأمثاله، وليس كلامنا في مثل هذا العنيد المريد، ولا يجوز للقوشجي أن يناضل ويخاصم عن مثل هذا الإمام الفاجر الذي يدعو إلى النار، ويتكلف لنصرته كلاماً مسجعاً لا حقيقة له يشبه سجع الكهان ، وليس هذا بإمام أصلاً حتى نحتاج إلى البحث عنه .

وهذا المعنى هو الأقرب والأنسب بعدم تيسّر الإنكار والسكوت عن اضطرار فی كلامه،أي إن الناس يضطرون إلى السكوت عن ذلك الإمام ، فلا ينكرون عليه لخوفهم من شره وطغيانه.

وإمّا كون الأمة موافقين له على المعصية فاضطروا إلى السكوت لاتفاق الجميع علی العصيان، وهذا كما ترى مستلزم لإجماع الأمة على الخطأ واتفاقهم على الباطل، وإلا كيف يتصوّر عجز كافتهم، وعدم قدرة جميعهم عن الإنكار على ذلك

ص: 173

الفاسق اللعين لولا مواطأتهم معه على الخطية، وهو باطل عنده، فبطل جوابه من جميع وجوهه، وصح دليلنا.

اللهمّ إلّا أن يقول : إن الإمام لا يشترط فيه العدالة أيضاً،كما يفهم من كلام جماعة من قدماء العامة(1)، وحينئذٍ يلزمه الايتمام بمن وجبت منه البراءة بقوله تعالى:(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(2)فيستحق ما وعد اللّه من العذاب والخزي على ولاية الظالمين ومعونتهم، وبئس هذا المذهب مذهباً.

[الدليل ] الرابع : أن الإمام لو أقدم على المعصية للزم من ذلك انحطاط درجته عن أقل العوام ، لأنه أعرف بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، فصدور المعصية منه أقبح من صدورها من العوام، وذلك ينافي علو مرتبته وأبهة رئاسته، ويكون أنزل درجة من العوام ورعاع الناس، فوجب أن يكون معصوماً، ولا قدح للقوشجي فيه، وكأنّه لا يمنع كون الإمام ناقص الدرجة عن عوام الناس ، كما يظهر من كلاميه المتقدمين.

[الدليل]الخامس: أن الإمام أمين المسلمين على دينهم، وخازنهم على أموالهم، فلو لم يكن معصوماً لم يؤمن عليه من تغيير الأحكام والمحاباة في القضاء بين المسلمين، والإيثار بالمال لرغبة أو رهبة، كما وقع لأئمة القوم،فيجي الفساد من حيث طلب الصلاح، والعدالة لا تكفي لجواز ارتفاعها عند عروض الأسباب الداعية إلى ما ذكرنا، إذ ليست من الصفات اللازمة، فلا يحصل

ص: 174


1- أنظر شرح المقاصد في علم الكلام للتفتازاني272:2حيث ذكر طرق انعقاد الإمامة وقال: الثالث: القهر والاستيلاء فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكته انعقدت له الخلافة وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر .
2- هود: 113.

بها الأمن اليقيني من تغيير الأحكام والإيثار بالمال، فلا تنحسم بها مادة التهمة المثيرة للخلاف والفتنة، فوجب كون الإمام معصوماً لحسم تلك المواد المنافية للغرض من نصب الإمام الذي من جملته حصول الألفة به.

[الدليل]السادس: أنّه لو لم يكن في الأمة معصوم لا يجوز عليه الخطأ في الأحكام لم يكن إجماعهم حجّة ، لجواز الخطأ على كل الأفراد، فيجوز على الجملة(1) كما بيّناه أوّلاً.

ويشير إليه قوله تعالى:(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(2)وقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«ألا لا ترجعنّ بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف»(3)فإن هذا الخطاب لا يوجّه إلا لمن يجوز عليه الخطأ، وهو كما ترى موجه إلى الجملة(4)،فيخرج الإجماع عن الحجّيّة، لكنه حجّة عند الخصوم، فيجب أن يكون في المجمعين من لا يخطئ في الحكم، لتثبت بوجوده في المجمعين حجيّة الإجماع، ويجب أن يكون ذلك هو الإمام ، لأنه أولى الناس بهذه المنزلة؛ فالإمام معصوم.

[الدليل] السابع : أنه قد حصل الاتفاق في النقل عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنّه لا تزال طائفة من أُمِّته على الحق حتى تقوم الساعة(5)، وحينئذٍ إن كانت تلك الطائفة فيهم

ص: 175


1- أي فيجوز الخطأ على جماعة.
2- آل عمران: 144.
3- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 528:1،تفسير ابن كثير148:2،وورد أيضاً في صحيح البخاري 1: 38 باب الإنصات للعلماء وج 2 : 191 وليس فيهما لفظ «بالسيف».
4- أي موجه إلى جماعة.
5- أخرج مضمونه البخاري في صحيحه 4: 187 كتاب المناقب ولفظه ،لا يزال من أمتي أمة قائمة يأمر اللّه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك». وأخرجه أيضاً في ج 8: 149 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قوله«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق»،وفي نور الأبصار للشبلنجي: 170 «لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق إلى يوم القيامة».

معصوم من الخطأ، يرجعون إلى قوله، ويأخذون بحكمه، ويعتمدون في الدين على بيانه، فذلك المراد، ويكون ذلك هو الإمام، لما ذكرنا من قريب.

وإن لم يكن فيهم معصوم بتلك المثابة وجب أن يكونوا كغيرهم من الطوائف،يخطئون ويصيبون، فلم يكونوا على الحق أبداً، إذ لا خصوصية لهم على غيرهم من الفرق .

[و](1)على هذا توجب لهم دوام الإصابة، ولا مانع لهم عليه من الخطأ، فمن أي وجه وجه كانوا ملازمين للصواب مستمرين على الحق ؟

على أن لازم ذلك كون الطائفة بأسرهم معصومين، ولا قائل به، بل هو خلاف ما قاله خصومنا من انتفاء المعصوم في الأمة، فيجب أن يكون الأول هو المقصود، وهو أن تلك الطائفة أن تلك الطائفة فيهم من لا يجوز عليه الخطأ في الأحكام، وهم تابعوه في أقواله وأفعاله، فكانوا بتبعية المعصوم معصومين من الخطأ، وذلك المعصوم هو الإمام، وهو المطلوب.

ولو قلنا بأن الطائفة التي لا تزال على الحق هم الأئمة إمام بعد إمام ، لكان ذلك أدلّ على المراد من إثبات عصمة الإمام من الأوّل؛ فتأمل .

[الدليل]الثامن: قوله عزّ وجلّ :(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي

ص: 176


1- الواو من عندنا لاقتضاء السياق.

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(1). وجه الدلالة أن الآية تضمنت سؤال إبراهيم الخليل ربه القاهر الجليل أن يجعل من ذريته إماماً، فأجابه اللّه تعالى بأن الإمامة، وهو قوله «عهدي» لا تنال الظالمين فلا يكون من جرى عليه اسم الظلم لها أهلاً، ولا لمقامها مستحقاً، إذ من المعلوم ضرورة أن الخليل(علیه السلام)لم يسأل الإمامة لظالم في حال ظلمه، ولا لعاص في وقت عصيانه.

وإنّما سألها لمن كان من ذريته في حال استقامته وصلاحه، فأخرج اللّه منها الظالم، فيلزم أن يكون المراد بالظالم من جرى عليه اسم الظلم وقتاً ما، فيجب من ذلك أن يكون مستحق الإمامة من لم يجر عليه اسم الظلم من أوّل عمره إلى

آخره، وذلك معنى العصمة .

[من معاني الظلم ]

ثمّ إن الظلم يطلق على الشرك والكفر وسائر المعاصي، فمن إطلاقه على الشرك قوله تقدّس وتعالى:(إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(2).

ومن إطلاقه على الكفر قوله تعالى : ( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )(3).

ومن إطلاقه على سائر المعاصي قوله تعالى:(فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)(4)فسمي أخذ الربا ظلماً ونقص الغريم رأس مال معامله ظلماً، وليس واحد منهما بكفر اتفاقاً.

ص: 177


1- البقرة :124.
2- لقمان: 13 .
3- البقرة : 254 .
4- البقرة: 279 .

وقوله تعالى:(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ)(1)ومعلوم أنّ المراد من عدم محبة اللّه الجهر بالسوء من القول في المسلمين لا في الكفار، إذ لا حرمة لهم في الإسلام بالإجماع، فكان معنى الآية أن من ظلم مسلماً في ماله أو عرضه أو بدنه من المسلمين جاز للمظلوم أن يذكره بسوء ما صنعه، وليس غصب مال مسلم أو شتمه مثلاً أو ضربه بغير حق كفراً، وقد سمّاه اللّه ظلماً.

وقوله تعالى:(وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً)(2)الآية، وإذا كان المقتول مظلوماً، فالقاتل ظالم ألبتة، وليس القتل بكفر، وقد سمّاه اللّه ظلماً .

وقوله تعالى:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً-إلى قوله-:مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(3)فسمّى القتال في الأشهر الحرم ظلماً وهو ليس بكفر.

وقوله عز وجل :(قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ )(4) فجعل حرمان الفقراء والمساكين من حصتهم - وهو حقهم عند صرام أصحاب الجنة جنتهم - ظلماً(5)وهو ليس بكفر، إلى غير ذلك من الآيات التي يطول تعدادها .

فحينئذٍ وجب في الإمام العصمة من جميع الذنوب، التي يصدق عليها اسم الظلم [و](6)الكفر وغيره من المعاصي، من أوّل عمره إلى آخره، لئلا يكون اسم

ص: 178


1- النساء: 148.
2- الإسراء: 33.
3- التوبة: 36 .
4- القلم :29.
5- الصرام: قطع الثمرة، والمراد هنا أن حرمان الفقراء من حصتهم حين قطع الثمار ظلم وليس بكفر ( انظر التبيان 81:10).
6- الواو من عندنا لاقتضاء السياق.

الظلم جارياً عليه في بعض أحواله وأطواره، فيخرج عن استحقاق الإمامة التي هي عهد اللّه ، ويسقط حظه عن نيلها لاشتراط كون الإمام غير ظالم في صريح الآية.

فالآية المذكورة (1)- وللّه الحمد - صريحة في وجوب عصمة الإمام غاية الصراحة ، لا تقبل التأويل.

وقد اعترف الفخر الرازي، وهو من أعاظم المخالفين بدلالتها على ذلك في تفسيره، وصرّح بأنهم تركوا العمل بمضمونها على عمد، قال: أما الشيعة فإنّهم يستدلون بها على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً، وأما نحن فنقول : مقتضى الآية ذلك، إلّا أنا تركنا الباطن ، فتبقى العدالة معتبرة، انتهى(2).

فانظر لكلامه وتصريحه بمخالفتهم مقتضى الآية من غير حجة، لتتضح لك حالهم في تعمّدهم مخالفة الحق وارتكاب الباطل على علم ويقين.

ومنها عُلم أن من أسلم عن كفر لا يصلح للإمامة ، لفوات العصمة، وما أجاب به القوشجي عن الآية - بأنّ غاية الأمر ثبوت التنافي بين الظلم والإمامة، ولا محذور إذا لم يجتمعا(3)-باطل بما سبق من البيان من أن المسؤول له الإمامة ليس الظالم في حال ظلمه، ولا ذلك بمقام خليل الرحمان، ولا يجوز عاقل يخاف اللّه نسبة ذلك إليه، بل لمن كان في حال الصلاح أعم من أن يكون ممن يجري منه الظلم أو غیره.

وحيث كان الجواب وارداً بإخراج الظالم من استحقاق الإمامة التي هي عهد اللّه تعيّن أن يكون المراد به من جاز صدور الظلم منه، أو صدر منه الظلم أناً ما ،

ص: 179


1- أي آية(لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)البقرة: 124 .
2- التفسير الكبير للفخر الرازي42:4.
3- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 7 السطر 1.

لا الظالم وقت ظلمه، إذ ليس مسؤولاً له الإمامة، فلو كان هو المراد من الجواب لم ينطبق على السؤال، ولكان السؤال باقياً بغير جواب، وهو خلاف المعلوم المتفق عليه من كون هذا الجواب لذلك السؤال.

وأيضاً: إنّ الظالمين اسم فاعل و ال موصولة، واسم الفاعل إذا كان صلة ل-«ال» تعيّن كونه للماضي، فإذا قيل : جاء القائم كان المراد به الذي قام، فمعنى الظالمين بحسب اللغة العربية الذين ظلموا قبل،لا ينالهم عهد الإمامة وإن صلحوا ، لا الظالمين فى الحال ، لأنه خلاف العربية، فكانت الآية صريحة في وجوب عصمة الإمام قبل الإمامة، وفي أنّ نيل الإمامة مشروط بسبق العصمة فيجب حصولها أيضاً في الحال وفي المآل في الإمام، لأنها شرط لنيل الإمامة،وإذا زال الشرط زال المشروط،فزال اعتراض المعترض وذهب إيراده،فليتأمل[في]المقام،فإنّه حقيق بالتأمل.

وممّا يُضحك الحزين غفلته عن معنى قوله :«إن غايه الأمر ثبوت التنافي بين الظلم والإمامة»فإنّه يتضمن أنّ الإمام كلّما ظلم زالت إمامته،وعلى هذا لو نصب إمام فظلم بعد نصبه بلا فصل وجب عزله لتنافي الإمامة والظلم باعترافه، فينصب غيره، فيظلم كذلك فتكون حاله حال الأول، وهكذا، فجاز أن ينصب في يوم واحد عشرة أئمة أو أكثر، ويعزلوا ، لأن الفرض أنّ الإمام ليس بمعصوم ، وصدور الظلم منه جائز.

فأيّ شيء على هذا أضيع من هذه الإمامة ؟ وأي ذليل وناقص أذلّ وأنقص من هذا الإمام الذي ينصب ويعزل في ساعة واحدة ؟ وهل بمثله يعز الدين وتقوى شوكة المسلمين ؟

ص: 180

أو ليس إنه لا مخرج من هذا المحذور الذي يتضمنه كلام المجيب إلّا باشتراط العصمة في الإمام ؟ أوّلا يدري أنا لم نشترط العصمة في الإمام إلا من جهة ما ذكره من تنافي الظلم والإمامة ؟

فما جعله رداً علينا هو الدليل لنا، وهل زادنا به إلا تقوية لو كان يشعر، ولو أنّه اعترف بما اعترف به شيخه الرازي من تركهم العمل بمقتضى الآية - كما مرّ عليك من كلامه - لكان أولى به وأليق بمذهبه والحمد للّه على إظهار الحق لأهله.

[الدليل ] التاسع : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ)(1)وجه الدلالة أنه تعالى أمر بإطاعته على الإطلاق، لأنه المالك للعباد والأمر والنهي، ولا يأمر ولا ينهي إلا بمقتضى حكمته، ولا يُسئل عما يفعل، وعباده يسئلون وأمر بطاعة الرسول على الإطلاق أيضاً،فعرفنا من ذلك أن الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لا يأمر إلّا بحق، ولا ينهى إلا عن باطل، فهو معصوم من الخطأ والزلل بعصمة اللّه له، وتثبيته إياه على نهج الصواب.

ولولا ذلك لما أطلق وجوب إطاعته، ثم أطلق الأمر بطاعة أولى الأمر كما أطلقه في طاعة نفسه وطاعة رسوله اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ولم يقيده بقيد،ولم يشرط فيه شرطاً، فعلمنا من ذلك أيضاً أن أولي الأمر معصومون من الخطأ، مطهرون من العصيان، ملازمون للصواب، لا يأمرون إلّا بمعروف،ولا ينهون إلا عن منكر، إذ لا يجوز أن يأمر اللّه على الإطلاق بطاعة من يجوز منه الخطأ فى الأحكام، ومقارفة الذنوب العظام ، بل يجب في الحكمة أن يكون الأمر بالطاعة له مشروطاً بموافقة طاعة اللّه ، وموافقة الحق لا مطلقاً .

ص: 181


1- النساء: 59.

كما أنا رأينا الباري تعالى اشترط في مواضع كثيرة وقيد الوعد والمدح بلزوم التقوى والاستمرار على الوفاء، حيث كان الممدوح والموعود ممّن يجوز عليه الخطأ والمخالفة، مثل قوله تعالى : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتفيْتُنَّ )،وقوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُتُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْلَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(1)،وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ)(2)وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

وحيث لم يشترط في طاعة أُولى الأمر شيئاً لزم أن يكونوا ملازمين لطاعته لا يخرجون منها إلى معصية، وأولو الأمر هم الأئمة ؛ فالإمام معصوم ؛ فمن كان من أُولي الأمر فهو معصوم،ومن ليس بمعصوم فليس من أُولي الأمر.

ولا يعارض ما ذكرناه قوله تعالى:(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(3)الآية، وما جرى مجراها من الآيات، لأنها أدب للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وتهديد لغيره،لأن اللّه قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفّار، فلم يكن الشرط فى الحقيقة متوجهاً إليه، بل إلى الأمة، وكان اللّه تعالى كثيراً ما يخاطب النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في القرآن، وهو يريد الأمة ، كقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ

ص: 182


1- الأحزاب:32.
2- الفتح : 10.
3- الأنفال:29.

النِّسَاءَ)(1)وغير ذلك حتى قيل : نزل القرآن ب-«إيَّاك أعني واسمعي يا جاره»(2).

والفائدة في توجيه الخطاب ظاهراً إلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الآية المذكورة ومشابهاتها تهويل أمر الشرك وتعظيمه وقطع أطماع الطامعين من الناس في المغفرة مع الإشراك بعد الإيمان ، لأنهم إذا سمعوا أنّ اللّه توعد نبيه الكريم مع ما نوه باسمه في القرآن الحكيم بإحباط عمله إن أشرك علموا أنه لا رجاء لغيره في عفو اللّه عنه إذا أشرك ، فيحذرون غاية الحذر من الشرك.

وليس حال من علمت عصمته بالأدلة القاطعة مثل النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كحال غيره ممن علمت عدم عصمته حتى يرتكب فى أمره من التأويل ما يرتكب في معلوم العصمة للزوم الجمع بين الأدلة القطعية؛فتبصر،فاندفع إيراد الخصوم بعون الحي القيوم، وثبت من الآية ما ندعيه من عصمة الإمام.

[الدليل ] العاشر : أنّ الإمام منصوب لردع العصاة وتأديب الجناة وإقامة الحدود، وإذا لم يكن معصوماً من مباشرة القبايح كان في نهيه عن المنكر داخلاً في زمرة المذمومين وحاصلاً في حين الملامين الذين قال اللّه في أمثالهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ )(3)فأي إمامة لمن كان مذموماً معاتباً يأمر بالمعروف ويتركه وينهى عن المنكر ويرتكبه ؟

ص: 183


1- الطلاق: 1.
2- ورد في ذلك رواية في الكافي630:2 ح 14 عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)، وفي عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 180 رواية عن الإمام الرضا اللّه، وحكاه المحقق في المعتبر عن ابن عباس 1: 23، الصراط المستقيم 1: 35 .
3- البقرة: 44 .

وكيف يكون مثل هذا القيم اللّه على عباده والصادع بدينه، والذاب عن حريم الحق ، وهو يهتكه ويوهنه بعصيانه ؟ حاشا اللّه أن يكون مثل هذا خليفة اللّه في أرضه وحجته على خلقه، ودليله في عباده، وأمينه في بلاده على حلاله وحرامه ، وحدوده وأحكامه، وهو من جملة العاصين، ومن القوم المذنبين

وأيّ عاقل يتصوّر أن يكون العاصي أهلاً لخلافة اللّه ، ومستوجباً لنيل عهد اللّه ، و مستحقاً للنيابة عن أنبياء اللّه ؟ فإنّ هذه الأوصاف الثابتة للإمام لا يجوزها العقل السليم إلا لمن كان معصوماً، ولم يكن بشيء من الذنوب موصوماً.

على أنّا لم نر خليفة لنبي فيما مضى إلّا مطهراً من الذنوب، ومبرءاً من العيوب، ونبينا سيّد الأنبياء، أفيجوز أن يكون خليفته من العصاة والخائضين في الجهالات؟ إنّ في هذا لافتراءاً عظيماً على ربّ الأرضين والسماوات، فيجب أن يكون الإمام معصوماً من مواقعة الخطيئات، وأنت ما أظنك تشك في ذلك بعد الإحاطة بما بيناه، والتأمل فيما قررناه.

[دليل ابن أبي الحديد على عدم اشتراط العصمة في الإمام ]

احتجّ ابن أبي الحديد على عدم اشتراط العصمة في الإمام بقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن(علیه السلام)أو محمد بن الحنفية: «أي بني، إنه لما رأيتني بلغت سناً، ورأيتني أزداد وهنا بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شي قبلته

ص: 184

قبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك»(1)هذا آخر ما يمكن تعلقه به من الكلام .

قال: قوله(علیه السلام)«أو أن أنقص فى رأيى»هذا يدل على بطلان قول من قال : إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه، وإن الإمام معصوم عن أمثال ذلك، وكذلك قوله للحسن:«أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا» يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم من غلبات الهوى و[لا عن](2)فتن الدنيا(3).

أقول:ليس فى هذا حجّة ولا تحصل به معارضة بل ينبغي أن يحمل في أمير المؤمنين وفي ابنه إن كان هو الحسن على أنه خرج مخرج ما جرت به العادة في البشر ، من حيث الجملة من تقلب أحوالهم وتصرّف الأمور بهم، وحصول التغيّر لهم في الأجسام والآراء، وغلبة النفس والهوى على عقولهم، لا خصوص الموصي والموصى لأنه(علیه السلام) هنا في مقام التأديب والموعظة، وإرادة المبادرة بها، وقصد تعجيلها إلى ابنه.

ومقتضى الحال أن يذكر الداعي إلى ذلك، والمسبب إليه في الواعظ والموعوظ، ولا شيء أنسب في ذلك مما ذكره، ولا أدخل في المقام مما زيره.

ولو أنّه قال: أنا لا أخاف على رأيي نقصاً، ولا على جسمي وهناً، ولا أتخوّف عليك من حدوث أمر يصدّك عن الإقبال على حمل الموعظة، ولا أحاذر عليك من عروض عارض يمنعك من العمل بموجبها لم يكن لموعظته موقع ، ولم يبق

ص: 185


1- نهج البلاغة40:3 الوصية 31 ،من وصية له لابنه الحسن(علیهما السلام)، شرح نهج البلاغة 16: 66 . وأما وصيته لمحمد بن الحنفية فمنقولة في العقد الفريد 3: 155.
2- مابين المعقوفين من المصدر.
3- شرح نهج البلاغة 16: 66 .

لتعجيلها والمبادرة بها سبب ولا داع، فَذَكَر ما ذكر ليحسن منه المسارعة إلى الوعظ، ويحمد منه التعجيل فيه إلى ابنه، وليس الغرض بيان أنه يجوز حصول ما خافه على نفسه وعلى ابنه لهما .

وإذا كان للكلام فائدة أخرى لم يتعيّن حمله على أحد الفائدتين إلّا بقرينة، ولا قرينة تعيّن حمله على ما قاله ابن أبي الحديد، بل القرينة تعين حمله على ما قلناه ،لقيام الأدلة التي سلفت على وجوب عصمة الإمام .

وما قاله أمير المؤمنين(علیه السلام)تلك الوصية قبيل هذا الكلام، وهو قوله(علیه السلام):«غير أنّي حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي فصدقني(1)رأيي وصرفني عن هواي،وصرّح لي محض أمري فأفضى [بي ](2)إلى جد لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب»(3)فإنّه يدلّ على عصمته من تغيير ما هو عليه من الرأي لقوله«فأقضي[بی](4)الى جدّ لا يكون فيه لعب»إلى اخره، فلما حصلت المعارضة في كلامه وجب حمل أحدهما على ما لا يخالف الأدلة الخارجية للتوفيق بين الكلامين ، ولا يكون ذلك إلا بما قلناه.

على أنّا تعلم يقيناً أنّه ليس كلّما يفرض الواعظ وقوعه من الموعوظ حتّى يتوجّه له النهي عنه مما يجب أن يكون صدوره من الموعوظ جائزاً عند الواعظ،ولا كلّما يفرض الواعظ صدوره من نفسه يعتقد جواز صدوره منه ، فإنا سمعنا اللّه

ص: 186


1- في الحجرية : ( فصدقني) والمثبت من المصدر.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- نهج البلاغة38:4 الوصية 31 وصيته(علیه السلام)لابنه الحسن(علیه السلام).
4- ما بين المعقوفين من المصدر.

يقول لنبيه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) :(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)(1)وقال تعالى:(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ فَتَلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً)(2)وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(3).

ومن المعلوم أن اللّه عزّ وجلّ يعلم أن نبيه محمداً (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لا يطيع الكافرين والمنافقين، ولا يجعل معه إلهاً آخر، ولا يعصيه فيعذبه، لأنه قد عصمه وسدده، وفي القرآن من هذا كثير.

وقال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«أنا سيّد الأنبياء ولا فخر ولو عصيت لهويت»(4)وهو يعلم أنّه لا يعصي ، لعلمه بأن اللّه قد أيده وعصمه وهداه واجتباه، وأخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى، لكنه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ذكر ذلك في مقام الوعظ والتحذير من العصيان، كما وردت به الرواية، فليكن كلام أمير المؤمنين جارياً هذا المجرى، بل الواجب حمله عليه.

وكيف لا وأمير المؤمنين(علیه السلام)قد علم من إخبار اللّه في آية التطهير واخبار النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في كثير من أقواله الصريحة الآتية إنّ شاء اللّه تعالى أنّه لا يصيبه تغيّر في رأي، ولا زلل في قول،وقد أخبر(علیه السلام) لذلك عن نفسه بما ذكرناه مراراً فقال: «واللّه

ص: 187


1- الأحزاب: 1 .
2- الإسراء: 39.
3- الأنعام: 15 .
4- ورد صدره في أمالي الصدوق : 374 كفاية الأثر للقمي : 113، الرسائل العشر للشيخ الطوسي 306 ،العمدة لابن البطريق : 407 ، التحصين لابن طاوس: 561 ، بحار الأنوار 8: 22 ح 15 ، وورد ذيله في إرشاد الشيخ المفيد 1: 182، التعجب لأبي الفتح الكراجكي: 31، بحار الأنوار 467:22، شرح نهج البلاغة 184:10 .

ما ضللت ولا ضُلّ بي(1)، ولا زللت ولا زُل بي(2)،وما زلت على السبيل الواضح الفظه لفظاً»(3)(4)إلى غير ذلك من أقواله المصرحة بأنه ليس بشاك في نفسه،ولا متخوّف عروض نقص في رأيه، قد ملأ بها نهج البلاغة وغيره مما لا مجال

إلى إنكاره، ولا سبيل إلى دفعه.

والحاصل أن ما استدل به المعتزلي على مطلبه ليس بدليل،بعد ما سمعت[ما](5)فيه من الكلام، ولا يعارض - على ما فيه من الإجمال والاشتباه - الأدلة الصريحة الدالّة على وجوب عصمة الإمام، كما لا يخفى على ذي حجي، وإن الاستناد إلى مثل هذه الأقوال المجملة، القابلة للتأويل والمعارضة للأدلة الصراح بها تشبث بما لا يجدي نفعاً ، ولا يغني من الحقِّ شيئاً .

واعلم أنه كما يجب عصمة الإمام عن ارتكاب الآثام والخطأ في الأحكام،كذلك يجب عصمته عن الغلط والسهو والنسيان، لأنه قدوة الأنام ومعتمد أهل الإسلام ، فلو جاز عليه ذلك لم يحصل الوثوق التام بقوله، ولا تطمئن النفوس في الاقتداء بفعله لتجويزها صدور الفعل منه إذ ذاك على جهة الغلط أو السهو أو النسيان، وذلك كما علمت مناف لمنصب الإمام، ومناقض للغرض من نصبه؛ فوجب أن يكون معصوماً مما ينافيه.

ص: 188


1- تاریخ دمشق33:42،شواهد التنزيل364:1، كنز العمال13: 164 ح 36499 ، نهج البلاغة 4: 185/43، الأمالي للصدوق: 491 خصائص الأئمة : 107، الهداية الكبرى: 146.
2- إلى هنا ورد في المعيار والموازنة للإسكافي : 61، شرح نهج البلاغة 1: 265.
3- أي أقول ذلك حقاً لا أبالي به أحداً.
4- ورد في المزار للمشهدي : 270 و«إني لعلى الطريق الواضح الفظه لفظا»،ومثله في المزار للشهيد الأول: 74، بحار الأنوار617:32 - 483 شرح نهج البلاغة 5: 249 .
5- ما بين المعقوفين أثبتناه لاستقامة المتن.

وأجاز الصدوق محمد بن عليّ بن بابويه وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد وقوع السهو والنسيان من الإمام في غير تبليغ الأحكام ، لكنه من فعل اللّه به لا من فعل الشيطان، ولا من ضعف قوته الحافظة بناءا على جواز صدور السهو من الأنبياء على الوجه المذكور ، حتى قال محمد بن الحسن : إن أول درجة الغلو نفي السهو عن الأنبياء.

واستندا في إجازتهما ذلك إلى أخبار وردت بنسيان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الصلاة، وأنه سلّم على نقص ساهياً، وأن اللّه سبحانه وتعالى أنساه كخبر ذي اليدين، وما شابهه(1)

وهو مستند ضعيف، إذ مثل هذه الأخبار الآحاد لا يعارض بها الأدلة القطعية من العقل والنقل، بل السبيل فيها الرد أو الحمل على أنها خرجت مخرج التقية، لأن ذلك مذهب جميع مخالفينا، فيجب إرجاعها إلى قولهم لاسيما وقد وردت أخبار أخر بإزائها تنفى ما اشتملت عليه، وتنقض ما تضمنته.

ومنها الخبر الذي ورد عن الرضا(علیه السلام)في صفات الإمام(2)،فيتعين فيها ما ذكرناه،وأقل الأمور تساقط الأخبار من الطرفين، والرجوع إلى الأدلة الثابتة، والأخذ بها، وهي تثبت عصمة الأنبياء والأئمة(علیهم السلام)من جميع ما ينفر منه الطبع، ويحصل منه عدم الوثوق والاطمينان بهم في القول والفعل؛فيثبت المطلوب.

على أن اتفاق الإمامية على ذلك حاصل، وهو الحجة، وخلاف الشيخين

ص: 189


1- رسالة عدم سهو النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) للشيخ المفيد : 18، تصحيح اعتقادات الإمامية : 135 .
2- الكافي198:1،كتاب الحجة ،باب نادر جامع في فضل الإمام ،ح 1وهي من غرر الزوايات في صفات الإمام.

المذكورين(1)غير قادح فيه لمعلومية نسبهما(2)، ومن ذلك يعلم أن نسبة السهو إلى الأنبياء تقصير، ونفيه عنهم حق وصواب واللّه الهادي .

وقد تبين مما حرّرناه وجوب كون الإمام منزّهاً عن الخصال الدنية، والآفات الرديّة، والخلائق غير المرضيّة كالبخل والجبن، والغلظة والفظاظة، والبرص والجذام، والعنن وغيرها من الأمراض المنفرة والمسقطة لمحل الإمام من القلوب، كل ذلك لمنافاتها منصبه، واحتمال وقوعه في المعصية لو كان بخيلاً أو جباناً باستثثاره بمال أو منعه حقاً أو قراره من زحف.

ويكون أيضاً منزّهاً عن الطعن في نسبه ، وقد ذكر في أخبارنا وذكره أيضاً بعض أصحابنا أنه يشترط في الإمام أن يكون مسلماً لا عن كفر استناداً إلى آية الخليل(3)، وقد علمت أن اشتراطنا العصمة في جميع العمر يكفي عنه لدخوله فيه، وقد قال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً»(4).

ص: 190


1- محمّد بن علی بن بابويه وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد.
2- لا يخفى عليك أن علماء الأصول الملتزمين بحجية الإجماع إنما يلتزمون بذلك لأجل دخول الإمام المعصوم مع المجمعين فيكون الإجماع حجّة من باب أنه كاشف عن رأي المعصوم وعلى هذا فمخالفة العالم المعلوم النسب غير قادح وليس مخلاً في حجية الإجماع، أنظر معالم الدين لابن الشهيد الثاني : 171، فرائد الأصول179:1.
3- وهي قوله تعالى:(لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمينَ ) البقرة: 124.
4- الكافى175:1 ح 1 باب طبقات الأنبياء(علیهم السلام).

المسألة الثانية يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه

[الأدلة على أن الإمام أفضل أهل زمانه ]

(1)

ولنذكر أوّلاً معنى الفضل فنقول : الفضل على معنيين: أحدهما : كثرة الثواب فيقال : زيد - مثلاً - أفضل من عمرو أي أكثر ثواباً منه.

والثاني : الجمع للخصال الحميدة من العلم والحلم، والعبادة والسخاوة ،والشجاعة وغير ذلك كما يقال:فلان أفضل من فلان، أي أجمع منه لخصال الخير، أو أرجح منه فيها.

ومن المعنى الأوّل قوله تعالى:(فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عظيماً ) (2)أي جعل لهم ثواباً زائداً على القاعدين.

ومنه ما ورد في الحديث:«ركعتان يصليهما متزوّج أفضل من سبعين ركعة يصليهما أعزب»(3).وما ور«أن العالم أفضل من سبعين عابداً»(4)، وما أشبه ذلك.

ص: 191


1- معطوفةً على المسألة الأولى ص 165 في عصمة الإمام .
2- النساء : 95.
3- من لا يحضره الفقيه384:3 ح4346 باب فضل المتزوج على العزب،ثواب الأعمال: 40 باب ثواب صلاة المتزوج روضة الواعظين: 374، وسائل الشيعة ( الطبعة الإسلامية) 7:14 ح 1 كتاب النكاح ب 2 كراهة العزوية وفي طبعة آل البيت 19:20 .
4- راجع الكافى 30:1 كتاب فضل العلم. تحف العقول: 41 ، منية المريد:99، بحار الأنوار 18:2 سنن الدارمي 1: 94 باب في فضل العلم والعالم ،سنن أبي داود2: 179 باب فضل نشر العلم، سنن الترمذي 137:4 باب فضل طلب العلم .

ومن المعنى الثاني قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (1)يريد أنه جمع لهم حصالاً زائدة على خصال كثير من خلقه، وليس يريد الثواب لدخول الكفار في الآية، والكافر لا ثواب له يقيناً.

وقوله تعالى:(ونفضل بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاكل)(2)،وقوله تعالى:(تلك الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(3)يحتمل المعنيين، وهو في لفظ التفضيل والإيتاء أقرب إلى الثاني(4)، كما أن لفظ«ورفع إلى درجات»يختص بالأول(5).

وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً )(6)يحتمل الوجهين أيضاً.

إذا تبينت ذلك فاعلم أن أصحابنا الإمامية قد اتفقوا على أنه يشترط في الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه من رعيته بالمعنيين جميعاً، وهذا القول هو المعتمد، ولنا على صحته وجهان من الدليل؛ أحدهما خاص والثاني عام :

ص: 192


1- الإسراء: 70.
2- الرعد: 4.
3- البقرة: 253 .
4- أي الجمع للخصال الحميدة.
5- أي كثرة الثواب.
6- الإسراء: 55.

فالأول في المعنى الأول(1):أن الإمام متحمّل أعباء الخلافة،وقائم بإرشاد الأمة ومقيم للوظائف الشرعية، مجرد نفسه لسياسة الرعية، وحماية حوزة الدين، ولم شعث المسلمين مكاشف للأباعد والأقارب في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود على جميع أهل الإسلام، فكان تكليفه أشقّ من غيره، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لأن كثرة المشقة في التكليف توجب الأكثرية في الثواب.

ولأن الإمام متبوع، ومن سواه من الرعية تابع له ومقتد به والمتبوع يجب أن يكون أكثر ثواباً من التابع ، كما يرشد إليه حديث«من سن سنة كان له أجرها وأجر العامل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء»(2)ولذا كان صلحاء الصحابة أفضل من صلحاء من بعدهم،لأنهم السابقون إلى الدين،ومتبوعون فيه، وغيرهم تابع لهم.

وفي المعنى الثاني(3): أما اشتراط كون الإمام أعلم من كل رعيته فلانه مقتدى الأمة ، فلو كان فيهم من هو أعلم منه لوجب عليه الاقتداء بذلك الغير، فخرج الإمام عن كونه مقتدى الأُمّة، فلم يكن إماماً .

ولأنه الذي تردّ إليه الأمة الأمر عند التنازع فيرفع عنهم الاختلاف ببيانه، كما دلت عليه آية ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَقْبِطُونَهُ

ص: 193


1- أي الدليل الخاص على أن الإمام أكثر ثواباً من غيره.
2- المحاسن للبرقي 1: 27 باب ثواب من سن سنة عدل ، الكافي 5: 9 ح 1 باب وجوه الجهاد،الخصال: 240ح89، ثواب الأعمال: 132 باب ثواب من سن سنة هدى،وورد بمضمونه في مسند أحمد 2: 505 وج 4 : 360، سنن الدارمي 1: 130 باب من سن سنة حسنة أو سيئة، سنن ابن ماجة74:1 باب من سن سنة حسنة أو سيئة ، الدر المنثور 5: 143.
3- أي الإمام أجمع للخصال الحميدة.

مِنهُم)(1)على ما مر من توضيحها. وإذا كان في المختلفين من هو أعلم منه لم يرتفع الخلاف ببيانه، بل احتاج هو إلى بيان ذلك الأعلم، فلم يحصل بالرد إليه الغرض من رفع الاختلاف وإزالة الشُّبَه ، وذلك خلاف المراد من الرد، فوجب أن يكون هو الأعلم، وأن علمه لا يتغير ولا يختلف كما مرّ عليك بيانه في المقدّمة وبعضه في المسألة الأُولى.

وأما اشتراط كونه أسخى فلانه ولي أموال المسلمين وخازنها، فإذا لم يكن سخياً تاقت نفسه إلى جمع المال وادخاره، فساءت حاله عند أصحابه، وسقطت القلوب منزلته، إذ من المعلوم أن السخي الباذل تكون له جلالة عظيمة في

النفوس، وقبول عند الناس، ومحبة أكيدة، وموقع في القلوب.

والإمام أولى بذلك كله من غيره، وأحوج إلى أن تقع جلالته في النفوس، فيحصل المسارعة إلى إنفاذ أوامره ونواهيه، ويكون مرجوّاً سيبه(2)، ممدودة إليه أعناق الرجال (3)، وهكذا يجب أن يكون الإمام ، وإن البخيل الشحيح لا جلالة له في النفوس، ولا تعظيم ولا محبة، ولا قبول ، بل يكون ثقيلاً على القلوب، محقراً عند العباد، والإمام يجب أن يكون منزّهاً عن ذلك، لأنه ينافي ما يجب من ولايته.

ولأجل ما ذكرنا يجب أن يكون الإمام أزهد أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم وأكثرهم على المندوبات مواظبة، وللمكروهات الشرعية اجتناباً ليكون أعبد الناس وأبعدهم عن همز هامز ولمز لامز.

ص: 194


1- النساء: 83.
2- السيب: الماء الجاري، أنظر النهاية في غريب الحديث431:2- 432 .
3- مأخوذ من كلام أمير المؤمنين(علیه السلام)في نهج البلاغة، أنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد155:13.

وأما اشتراط كونه أحلم الناس فللعلة التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه لنبيله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):(وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(1)وإذا كانت الغلظة في النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وهو صاحب الشريعة موجبة لانفضاض الناس عنه فهم إلى الانقضاض عن الإمام بها أقرب.

ولأنه لو كان في الرعيّة من هو أحلم من الإمام لكان عند الناس أكمل، وكانت القلوب إليه أميل والإمام أحق بهذه المرتبة،فوجب أن يكون أحلم من رعيته ليعظم قدره في النفوس، وتأتلف له القلوب.

ومن هنا يجب أن يكون خالياً من العجلة والطيش والتضجر والتبرم في مقام الحكم والفتوى وقسمة الفيء والأموال متأنياً في الأمر، وفيما يرد عليه من الوقائع والحوادث، ومحاورة الخصوم، لأنه الحاكم بين المسلمين، والقاسم لفيتهم وأموالهم من الصدقات والغنائم وغير ذلك من الحقوق، وليتمكن سائله من طلب التفهم والخصم عنده من بيان حجّته، والشاهد من أن يتمتع في شهادته.

إلى غير ذلك من المصالح التي يتوقف عليها حصول ميزان العدل والإنصاف الذي يقوم به الإمام.

وأما اشتراط كونه أشجع فلأن الإمام الفئة التي يرجع إليها المسلمون في القتال،فإذا لم يكن أثبت منهم قلباً، وأمضى منهم في جهاد العدو و (2)حاد كما يحيدون، وفركما يفرون، فلأي فئة حينئذٍ يرجعون.

و من هذا يشترط أن يكون الإمام أقوى أهل زمانه في أمر اللّه تعالى، لأنه

ص: 195


1- آل عمران:159 .
2- فى الحجرية زيادة: ( عن ما ) بدل من : ( و).

المتولّي لإنفاذ الأحكام، وإقامة الحدود، وأخذ القصاص، وتجهيز الجيوش، وسد الثغور، وإذا لم يكن أقوى الأمة في ذلك قصر عما لا يقصر عنه غيره ،وذهب بقصوره جملة من مصالح نصبه.

ومن ذلك يجب أن يكون أشد الناس رأياً ، وأحسنهم للأمور تدبيراً، فيما لا (1)يخالف الشرع ، وأصبرهم على احتمال المكاره وتحمّل الشدائد في جنب اللّه، ليكون القدوة للرعيّة في الصبر والاحتمال .

وقد أشار إلى ذلك كلّه أمير المؤمنين(علیه السلام)في خطبة له قال فيها:«أيها الناس،إن أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فيه»(2).

وقال في أُخرى: «إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به»(3).

قال المعتزلي : الرواية «أعلمهم»والصحيح«أعملهم»(4).

أقول : ولا مناقشة معه في ذلك، لأن الكلام على كلا الوجهين دال على قولنا بأوضح دلالة.

وقال(علیه السلام):«إنّ العجلة والطيش لا تقوم بهما حجج اللّه وبيناته»(5)إلى غير ذلك. من أقواله .

ص: 196


1- في الحجرية: «لا فيما»بدل من :«فيما لا».
2- نهج البلاغة 2: 86 الخطبة 173 .
3- نهج البلاغة 4: 96/21 ( القصار).
4- شرح نهج البلاغة252:18،وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده90:4.
5- بحار الأنوار 29: 49 ضمن ح 19 عن الإرشاد.
والثاني من وجوه الأول : العقل

(1)

وبيانه أن تقديم المفضول على الأفضل قبيح عقلاً، وتقديم المساوي ترجيح بدون مرجّح ، وهو أيضاً قبيح، فإنا نقطع بذم العقلاء رجلاً أراد سلوك طريق لحاجته إليه، وقد أخبره رجل ثقة عالم بتلك الطريق مجرّب لها، مطلع على أخبارها بأنها طريق سهلة ذات عمارات، وأخبره آخر غير عالم بها، ولا عارف يأخيارها، وليس بثقة في نفسه بأنها طريق حزنة (2)لا يمكن السلوك فيها إلا بشدّة المشقّة، فترك سلوكها، وقوّت نفسه الحاجة ترجيحاً لقول هذا الجاهل غير الثقة

على قول ذلك العالم الثقة المجرّب .

و تجزم بتوجه العقل إلى تجهيله في ذلك، ولومه وعذله على ترجيحه خبر ذلك الجاهل على خبر ذلك المطلع الثقة، وتفويته حاجته لذلك،وهذا أمر وجدانئ لا شك فيه،وما ذاك إلا لما ارتكز في العقول السليمة من قبح تقديم المفضول على الأفضل، ولزوم العكس.

وأيضاً إن المقطوع به من سيرة الناس في الأعصار والأمصار من المسلمين والكفار، استقباح تقديم أهل الغباوة والحمق في جميع الأمور التي لها شأن و خطر على ذوي الفطنة والذكاء ، وتقديم المتهوّرين على ذوي الآراء السديدة في المشورة ، وإجالة الرأي في عقد أو حلّ، وتقديم من ليس كاملاً متقناً في الصناعات والحرف على أولى الكمال والاتقان فيها.

ص: 197


1- أي الدليل الثاني ( العام ) على وجوب أفضلية الإمام.
2- الحزن بفتح فسكون ما غلظ من الأرض ، يقال في الطريق حزونة أي ضد السهولة، أنظر الصحاح 5: 2098.

وما ذاك إلا لاستقباح العقول تأخير الأفضل، وتقديم المفضول، فيثبت ذلك في الشرع، إذ لا تخالف بين العقل والشرع في المعلومات، والمعتزلة يسلمون ذلك(1)؛فيثبت المطلوب.

الثاني: النقل من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى:(وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(2)فأوجب الكون مع الصادق، ولا يتم إلا بترك الكون مع غير الصادق، مع فرض اختلافهما ، فتكون الآية نصاً في وجوب تقديم الأفضل على المفضول. وقوله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(3)وهذه الآية صريحة في أن الهادي إلى الحق يعلمه أحق بالاتباع ممن يحتاج في الاهتداء إلى من يهديه، والأحق بالشيء من ليس لغيره فيه حق معه، فالآية ناصة كالأولى على وجوب اتباع الأفضل وترك المفضول، وحالة على ذلك بأشدّ ما يكون من الحثّ ، ومهدّدة على المخالفة، كما هو صريح قوله تعالى : ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) فثبت من صريحها وجوب تقديم الأفضل على المفضول .

على أنّ ابن أبي الحديد قد استدل بها على تحريم القول بأفضلية غير علي(علیه السلام)وسماه منكراً، وحكم أن الآية ناهية عنه(4).

وإذا استدل بها على تحريم تفضيل غير علي (علیه السلام)عليه الفضله الظاهر وجب أن

ص: 198


1- أنظر مقدمة شرح نهج البلاغة 1: 3 وحكاه عن المعتزلة النووي في شرح مسلم 174:15.
2- التوبة:119.
3- یونس : 35.
4- شرح نهج البلاغة 175:9.

يحرم اتباع غيره لذلك، لأنها في النهي عن اتباع المفضول وترك الأفضل نص وفيما ذكره باللزوم.

وقوله عز من قائل:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أولوا الألْبَابِ)(1)فبيَّن عزّ وجلّ أنه لا تجوز التسوية بين العالم وبين غير العالم ؛ فمن قدم غير العالم على العالم واقتدى به وترك العالم فقد رجح غير العالم على العالم.

وإذا كانت التسوية بينهما غير جائزة بصريح الآية فكيف يجوز تقديم المرجوح منهما على الراجح ؟ فالآية ظاهرة ظهوراً بيناً في لزوم تقديم الأفضل على المفضول.وغير ذلك من الآيات التي يطلع عليها من طلب علم القرآن،وتأمل دلالاته.

ومن السنة كثير :

فمنها:ما رواه ابن أبي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل قال : خطب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلم)الناس يوم الجمعة فقال: «قدموا قريشاً ولا تقدموها، وتعلموا منها ولا تعلموها قوّة رجل من قريش تعدل قوّة رجلين من غيرهم ،وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم. أيها الناس ، أوصيكم بحب ذي قرباها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب(علیه السلام)»الخبر(2).

وهو صريح في وجوب تقديم قريش لفضلها على الناس ، وتقديم على لفضله عليها، فدل على ما قلناه.

ص: 199


1- الزمر: 9 .
2- شرح نهج البلاغة 172:9،فضائل الصحابة لابن حنبل771:2 ح1066، کنز العمال 7: 140، وانظر غاية السرام 104:5 .

وممّا يرشدنا إلى ذلك مما لا ينكر من فعل النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلم)أنه لم يؤمر على علي(علیه السلام)الا أحداً من الصحابة، وأمر على من سواه الأمراء، وأمره هو على كل من كان من الصحابه في مواضع كثيرة، وما ذاك إلا لأن علياً(علیه السلام)أفضل الصحابة، وأنه لا يجوز تقديم المفضول على الأفضل.

وهذا الوجه بعينه استدل به أبو سعيد الحسن البصري على أفضلية علي(علیه السلام)على جميع الصحابة وقد رواه عنه ابن أبي الحديد وصححه عنه(1)، ومنه يستفاد وجوب تقديم الأفضل، ولولا ذلك لأمر رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على على (علیه السلام)رجلاً من الصحابة في وقت من الأوقات، بل لو كان ذلك جائزاً لوجب على النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن يفعله وقتا ما ليبين للناس الجواز.

فإن قيل : إنما لم يؤمر النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على علي (علیه السلام)غيره، لأنه أشجع من غيره، واعرف لقيادة الجيوش.

قلنا : فهذا اعتراف منك بأنّ الأفضل مقدّم على المفضول، وهو عين مدعانا، لأنا ندعي أنه لا يجوز تقديم أحد في أمر على من هو أفضل منه فيه، وأنت باعتراضك اعترفت لنا بما ندعي .

ومنها :ما صح روايته عند الخصوم واشتهر بينهم أنه لما طعن الصحابة على رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في تأميره أسامة بن زيد على جلة المهاجرين والأنصار وقالوا: يؤمر هذا الغلام الحدث على جلة المهاجرين والأنصار، قام خطيباً فقال فيما أجابهم به: «الثن طعنتم علي في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله،

ص: 200


1- شرح نهج البلاغة 4: 96.

وأيم اللّه إنه كان لخليقاً بالإمارة، وابنه من بعده لخليق بها،وإنهما لمن أحب الناس إلى»إلى قوله:«فإنّه من خياركم»(1).

فما نرى الصحابة رجعوا في إنكارهم إلا إلى قبح تقديم المفضول على الأفضل لزعمهم أن فى القوم الذين أمر عليهم أسامة من هو أفضل منه.

وما نرى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أجاب عن إنكارهم إلا بأن أسامة خليق بالإمارة، لأنه من خيارهم، ولم يجبهم بأنه لا بأس بتقديمه، لأن المفضول يجوز تقديمه على الأفضل.

ومن هذا الخبر يعلم أن الصحابة لا يجوزون تقديم المفضول على الأفضل، وإن غلطوا في التفضيل ، وإنهم إن قدموا المفضول فهو خلاف مذهبهم لتوهمهم أفضليته غلطاً .

ومنها :ما رووه وصححوه من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لأبي الدرداء حين كان يمشي أمام أبي بكر:أتمشي أمام من هو خير منك (2)(؟)؟! وهذه الرواية وإن لم تكن عندنا بشيء ، لكنا نحتج بها على مخالفينا من باب إلزام الخصم بما ألزم به نفسه، وهي صريحة تمام الصراحة في قبح تقدّم المفضول على الأفضل في المشي.

فما ظنك في تقدّمه عليه في الإمامة والأمر والنهي، والحكم والصلاة وغير ذلك من المناصب الشرعيّة ؟ وهل تجويز الخصوم ذلك إلا مخالفة لما فة لما صحّ عندهم عن الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على عمد ؟!

ص: 201


1- شرح نهج البلاغة 1: 158 .
2- حدیث خيثمة : 133 تاريخ208:30،الأنساب للسمعاني 51:2، كثر العمال 11 :32620/556، نور الأبصار للشيلنجي : 54 وفيه «خير منك في الدنيا والآخرة».

ومنها:ما استفاض من طرقنا عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه قال:«من أم قوماً وفيهم من هو أفضل منه لم يزل أمرهم في سفال(1)إلى يوم القيامة »(2).

وفى رواية أخرى:«من تقدّم قوماً وفيهم من هو أعلم منه كبّه اللّه على منخريه فی النار»(3)وهما صريحتان فى المدعى.

وليس للخصوم أن يقدحوا فيهما بعد ما رووا عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ما يوافق مضمونهما مما مرّ ذكره وغيره وما يفهم من مذهب الصحابة مما مضى بيانه ويأتي عن قريب.

وقد تبين من جملة ما حرّرناه وجوب أفضليّة الإمام على رعيته، وأنه لا يجوز أن يكون في رعيّة الإمام من هو أفضل منه بوجه من الوجوه، وخالفنا في ذلك أكثر العامه من الأشاعرة وغيرهم، فجوزوا إمامة المفضول(4)، وبالغ في ذلك المعتزلة غاية المبالغة فصححوا إمامة الخلفاء الثلاثة مع ذهاب المعظم من محققيهم كمعتزلة بغداد قاطبة وجماعة كثيرة من معتزلة البصرة إلى تفضيل علىّ(علیه السلام) على جميع الصحابة بالمعنيين من التفضيل(5).

ص: 202


1- أي في سقوط ، أنظر نهاية ابن الأثير376:2.
2- المحاسن 1: 93 ح 49 ، من لا يحضره الفقيه378:1 ح 1102، علل الشرائع326:2 باب العلة التي من أجلها لا يصلى خلف السفيه والفاسق، الأمالي : 743، روضة الواعظين : 162، بحار الأنوار 88:88.
3- أعلام الدين فى صفات المؤمنين: 40 الفصول المهمة 2: 122 .
4- شرح المقاصد 5: 246، شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 3 السطر 13.
5- شرح المواقف8 : 366 وفيه«وعند الشيعة وأكثر متأخري المعتزلة علي».
[في تقديم المفضول وردّ ذلك ]

وصرّح عزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني - وهو من أعاظم المعتزلة - في شرح نهج البلاغة تمام التصريح به قال - وهو يخبر عن اللّه بزعمه - : وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف(1).

والمقصود من هذه العبارة أن اللّه أوجب الاقتداء بالمفضول واتباعه، وترك اتباع الأفضل للمصلحة المذكورة، وفي كتابه عنه ونقلاً عن أصحابه مثل هذا كثير.

أقول: وهذه الدعوى مع ما فيها من الافتراء على اللّه قد كذبتها - مضافاً إلى ما مضى من الأدلة-سيرة أئمة المعتزلي وما صح نقله عنده من طريقهم، وذلك من وجوه:

الأوّل: أنّ أبا بكر لما قال لأصحاب السقيفة: هذان عمر وأبو عبيدة فبايعوا أحدهما ، قال له عمر : كيف أتقدم عليك، وأنت أقدم مني إسلاماً، وأنت صاحب رسول اللّه، وثانى اثنين فى الغار، وقدّمك رسول اللّه فى الصلاة ، رضيك رسول اللّه الديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا. وقال للناس: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول اللّه في الصلاة ؟(2)

فنرى عمر لم يجوّز لنفسه ولا لغيره التقدم على أبي بكر، لأفضلية أبي بكر عليه وعلى غيره في الخصال التي ذكرها بزعمه، لا لشيء آخر، وما نراه قال لأبي بكر: نعم أنا أفضل منك أو هنا من هو أفضل منك، ولكن المصلحة التي اقتصاها التكليف تقديمك على من هو أفضل منك كما ادعاه المعتزلى .

الثاني: أن أبا بكر لما استخلف عمر قال له طلحة: ماذا أنت قائل لربك إذا

ص: 203


1- شرح نهج البلاغة 9:1.
2- شرح نهج البلاغة39:6.

قدمت عليه، وقد وليت علينا فظا غليظاً ؟! فغضب أبو بكر وقال لطلحة : أباللّه تخوفني ؟ إذا لقيت ربي فسألني، قلت: خلفت عليهم خير أهلک.

فقال طلحة:أعمر خير الناس يا خليفة رسول اللّه ؟ فاشتد غضبه فقال : إي واللّه هو خيرهم، وأنت شرهم(1).

فما نرى أبا بكر احتج على تقديمه عمر على الناس إلا لأفضليته عليهم عنده بزعمه، وما نرى طلحة أنكر على أبي بكر تقديمه عمر إلا لمفضوليته عنده، وكونه على صفة لا يصلح صاحبها للإمامة، وهي كونه فطاً غليظاً كما صرّح به، وما أجاب أبو بكر طلحة عن ذلك، ولا اعتذر له بما قال المعتزلة بأن عمر ليس أفضل عندي منكم، ولكن جاز تقديمه عليكم لمصلحة اقتضاها التكليف، بل أجابه بأنه خيرهم كما سمعت .

الثالث: أنّ عمرو بن العاص لما كلّم عمر وطلب منه أن يكلّم أبا بكر أن يجعله أميراً على جيوش المسلمين بالشام ويعزل أبا عبيدة ويجعله تحت أمره، أجابه عمر بأنّ أبا عبيدة عندنا خير منك، وقد سمعت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) يقول:أبو عبيدة أمين هذه الأمة (2)، فامتنع أبو بكر وعمر من تقديم ابن العاص على أبي عبيدة، الأفضلية أبي عبيدة عليه عندهما كما ترى ، لا لما ذكره المعتزلي وقبيله.

إلى غير ذلك مما رووه من أقوال أئمتهم وأفعالهم مما هو مماثل في المعنى لما ذكرناه، وكل ذلك رواه ابن أبي الحديد وصححه، وهو صريح في مخالفة قوله ومناقضة دعواه، فاتضح منه أنّ المعتزلة والأشاعرة وغيرهم قد خالفوا أئمتهم، وتركوا قول من جعلوا دعواهم وسيلة لتقديمهم، وكفى بقولهم بطلاناً مخالفته لحكم من يقتدون به.

ص: 204


1- شرح نهج البلاغة 1: 165.
2- فتوح الشام للواقدي 14:1.

والذي يمكن تمسك المعتزلة به في قولهم ذلك وجهان يظهران من مطاوي كلام ابن أبي الحديد.

[الوجه الأول]: أنّ النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أمرّ على أبي بكر وعمر وعثمان أبا عبيدة بن الجراح مرة، وأمر عليهم عمرو بن العاص تارة، وخالد بن الوليد أخرى، وأسامة ابن زيد رابعة(1)،وأبو بكر وعمر وعثمان أفضل من هؤلاء المؤمرين عليهم بالإجماع، فيعلم من ذلك جواز تقديم المفضول على الأفضل.

والجواب أنه إن أراد إجماع الصحابة فقد عرفت أنّه قائم على قبح تقديم المفضول على الأفضل، ولذا أنكروا على النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)تأمير أسامة بن زيد زعماً منهم أن أُسامة مفضول بالنسبة إلى المؤمر عليهم ، ولم ينكروا تأمير أبي عبيدة وعمرو وخالد على أبي بكر وعمر وعثمان، فدل ذلك من فعلهم وقولهم على أنهم لا يرون لأبي بكر وصاحبيه فضلاً على الأمراء المذكورين في ذلك الزمان، وإن قال به البعض بعد ما صار الثلاثة خلفاء فهو قول متجدّد.

وقد فضل الأنصار سعد بن عبادة على أبي بكر وقدموه عليه لولا ما رواه عمر من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) «الأئمة من قريش»(2)وادعاء أبي بكر وصاحبيه القرابة من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وميل بعض الأنصار لقريش حسداً لسعد.

وطعن سعد المذكور على أبي بكر وعمر بالمعصية في قوله : لو اجتمع الثقلان

ص: 205


1- الملل والنحل للشهرستاني 114:1، شرح نهج البلاغة52:6، وحكاه أبو الصلاح الحلبي فی تقريب المعارف: 398، الاحتجاج 1: 89 و 90.
2- الملل والنحل للشهرستاني 1: 31.

ما بايعتكما أيها الغاصبان(1)،وطعن الحباب بن المنذر على عمر بالجهل(2)، وطعن طلحة عليه بالفظاظة والغلظة، وأنكر على أبي بكر قوله فيه :إنه خير الناس(3).

وكل ذلك محقق عند الخصم، فأين الإجماع من الصحابة على فضلهم، فضلاً عن أفضليتهم ؟ على أن هذا الإجماع المدعى لو تحقق منهم لكان مناقضاً لقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) في حديث تأمير أسامة وإذا كان الإجماع مناقضاً لقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) كان باطلاً.

والحقّ أن أفضلية الثلاثة لم تكن معروفة في زمان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بين الصحابة،وإنّها بعده من المختلف فيه بينهم.

وإن أراد إجماع الأشاعرة فهو لا يرضى به،فإنّهم وإن لم يستقبحوا تقديم المفضول على الأفضل،بناءاً على أصلهم من نفي الحسن و القبح العقليين(4)،لكنهم يفضلون الثلاثة على عليّ(علیه السلام)في معنى كثرة الثواب،وهو يبطل ذلك كله. وإن أراد إجماع أصحابه المعتزلة، فهو معارض بإجماع الشيعة على تفضيل أسامة على أبي بكر وعمر وعثمان ، وإن الباقين أحسن حالاً منهم لاسيما في كثرة الجهاد ،والشيعة أكثر من المعتزلة، فيحتاج في ترجيح أحد الإجماعين على الآخر إلى مرجّح من الأدلة.

فإن احتج بالسبق إلى الإسلام أجيب بأن السبق على أبي عبيدة ممنوع في

ص: 206


1- الاحتجاج94:1،بحار الأنوار 28: 182 - 183.
2- انظر الغدير 5: 368.
3- شرح نهج البلاغة 6: 343.
4- لاحظ شرح المقاصد382:4المبحث الثالث«لا حكم للعقل بالحسن والفيح».

عمر، فإنّ أبا عبيدة أسلم قبله وعثمان أيضاً غير متحقق إسلامه قبل أبي عبيدة(1)، وخاصيّة السبق على أسامة منتفية لتولّده في دعوة الإسلام وعدم سبق الكفر منه.

ثمّ إنّ السبق إلى الإسلام لا يصلح بنفسه خاصة أن يكون موجباً للأفضليّة إذا عارضه ما هو مثله أو أقوى منه من الصفات الموجبة للتفضيل ، ما لم ينضم إليه المساواة فى باقى الصفات الحميدة، ليكون للسابق الزيادة على الآخر المساوي في الصفات بالسبق فيفضله به، وذلك بأن نفرض شخصين تساويا في الخصال المحمودة، لكن أحدهما أسبق في الإسلام من صاحبه، فالسابق أفضل بالسبق من اللاحق.

أما إذا كان اللاحق قد أدرك من صفات الخير مثل العلم والسخاوة وكثرة الجهاد وغير ذلك مما يقابل السبق ويربو عليه، ولم يكن للسابق من ذلك شيء أو لم يكن فيه توغل كاللاحق لم يكن السابق أفضل من المسبوق.

وآية:(لا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْح وَقَاتَلَ)(2)الآية ظاهرة في المعنى الأول، بل لا تحتمل غيره، وقوله تعالى : (أني لا أضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى)(3)شاهد للمعنى الثاني، فغير ممتنع أن يكون لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد بعد دخولهما في الإسلام خصائص تقابل سبق الثلاثة وتربو عليه، وبذلك قدمهما رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليهم ، هذا كله إذا أُريد من الأفضلية كثرة الثواب.

وأما إذا أُريد ريد الجمع للخصال الحميدة كان استحقاق عمرو وخالد التقدم في

ص: 207


1- أنظر الدرر في المغازي والسير: 38 البداية والنهاية49:3.
2- الحديدة: 10.
3- آل عمران : 195 .

الإمارة على الثلاثة أوضح من أن يوضح لحصول الشجاعة والثبات في الجهاد فيهما دونهم.

ولو احتج بالأحاديث المروية في فضل الثلاثة أجيب بوجهين :

الأوّل: أنّها مفتعلة موضوعة كما دلّ عليه احتجاج أبي بكر وعمر على المنازعين لهما في أُمور كثيرة قد مرّ ،بعضها لخلوه عن ذكر شيء منها مع احتياجهم إليها ، لأن حديثاً منها أوضح من جميع ما احتجوا به على مطالبهم، مما لا يعني شيئاً ولا يجدي نفعاً ، ولم لا احتج أبو بكر أو احتج عمر له على الأنصار بما يروى بعد من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم): لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره(1)، واحتج أبو بكر على طلحة في تفضيل عمر الذي ادعاه بقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم): ضرب الحقِّ على لسان عمر(2)، لو كان شيء من ذلك موجوداً فعدم تعرضهم لها مع الحاجة إليها، وارتفاع المانع من ذكرها دليل على عدم وجودها عندهم، وإذا لم تكن موجودة عندهم كانت لا محالة موضوعة .

والأمر في عثمان أوضح ، لأن حاجته كانت إلى الحجّة الصحيحة أشدّ ، وتلك الأخبار في حقه لو كانت موجودة لكان الاحتجاج بها أنفع له مما ذكره،من كلّ غت وسمين ،مما لم يدفع عنه حجة خصومه (3).

على أن بعض العامة طعن فيها بالوضع(4)لما ذكرناه، وطعن الشيعة فيها لذا

ص: 208


1- مجمع الزوائد53:9،الصوارم المهرقة : 129 و 130 ، فتح الملك العلى: 62.
2- مسند أحمد53:2، وج 5: 145 و 177، سنن ابن ماجة 1: 40 ح 108، سنن أبي داود20:2ح 2961 و 2962 ، السنن الكبرى295:6،المستدرك على الصحيحين87:3.
3- في الحجرية : (خصومة).
4- أنظر كتاب المجروحين لابن حبان36:1و 37 .

وغيره معلوم مشهور(1)، فتكون باطلة لا تقوم بها حجة، وسيأتي لهذا زيادة توضيح في موضع هو أملك به من هذا الموضع.

الثاني : أنّها معارضة بما روي من مدح المؤمرين المذكورين، وقد رواه من روى مدح الثلاثة من المحدثين مثل أبي عبيدة أمين هذه الأمة(2)، وعمرو بن العاص أحب الناس إلي ، وخالد سيف اللّه(3)، والتأمير يكون قرينة الترجيح، فإن رد الجميع بالوضع فلا احتجاج بالكل ؛ فتأمل .

الوجه الثاني(4): أن علي بن أبي طالب(علیه السلام)رضي بتقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه في الخلافة، وهو عندنفسه أفضل منهم ، وعندنا كذلك، ولو لم يجز تقديم المفضول على الأفضل عنده لما رضى بتقدمهم عليه.

وهذه الحجّة مع أنها معتمدهم واهية جداً، والجواب عنها بمنع المقدمة الأولى، فإنّ عدم رضى أمير المؤمنين بتقدّم أبي بكر عليه أظهر من الشمس الضاحية، وقد روى هذا المحتج فيما صح عنده من الروايات امتناع علي(علیه السلام)بيعة أبي بكر مع جملة من أصحابه،وهم خيار الصحابة وصلحاؤهم، وتألمه من تقدم أبي بكر عليه، حتّى أخرج إلى البيعة بالقهر والغلبة على أوعر وجه، وأشدّهوان هو ومن معه(5).

ص: 209


1- لاحظ كشف المراد : 515 - 517 ، نهج الحق وكشف الصدق : 290 - 306.
2- مسند أحمد 3: 125، 133، 146، 157 و 175 ، البداية والنهاية لابن كثير 170:7.
3- لاحظ السنن الكبرى 5: 48 مجمع الزوائد156:6.
4- أي الوجه الثاني من الوجهين اللذين تمتك بهما المعتزلة من جواز تقديم المفضول على الأفضل ص 205.
5- شرح نهج البلاغة 50:2 السقيفة وفدك 46.

وروي أيضاً أن علياً استنصر الناس على أبي بكر، يركب فاطمة على حمار،ويأخذ معه الحسن والحسين، ويمضي إلى دور المهاجرين والأنصار يطلب منهم النصرة على أبي بكر، وتطلب فاطمة(علیها السلام)منهم له الانتصار على أبي بكر، فلم يجبه إلا أربعة أو خمسة(1).

وقد عيّره معاوية بذلك فى مراسلاته، وبأنه قيد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش(2)(3)فما أنكر شيئاً من ذلك، بل كان من جوابه لمعاوية: «وقلت: إنّي أقاد كما يقاد البعير المخشوش ، فلعمري لقد أردت أن تدم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت،وما على المؤمن من غضاضة إذا كان مغلوباً عليه،ما لم يكن شاكاً في دينه أو مرتاباً في يقينه»(4)كل ذلك رواه . وروى أيضاً أن علياً(علیه السلام)كان يقول :«لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم»(5)يعني أبا بكر وأصحابه، فأين رضاه بتقدّم أبي بكر على هذا، وما سيأتي بعده من البيان في مواضعه فالمعلوم من ذلك أن علياً(علیه السلام)ما ترك مناجزة(6)أبي بكر وتابعيه إلا لعدم وجوده الناصر وأُمور أُخر يأتي إيضاحها إن شاء اللّه .

فإذا بطل رضاه يتقدم الأول بطل رضاه بتقدّم الأخيرين البتة، وتظلمه(علیه السلام)منهم

ص: 210


1- شرح نهج البلاغة 14:11 .
2- قال ابن منظور في لسان العرب295:6«قولك خش في الشيء دخل فيه ... ومنه يقال لما يدخل أنف البعير خشاش لأنه يخش فيه أي يدخل ».
3- شرح نهج البلاغة 47:2.
4- نهج البلاغة33:3/الكتاب 28 ،شرح نهج البلاغة183:15.
5- شرح نهج البلاغة45:2.
6- قال الخليل في العين71:6والمناجزة في الحرب أن يتبارز الفارسان حتى يقتل أحدهما صاحبه.

في زمان خلافته في كلماته وخطبه مشهور معلوم(1). وقوله في بعض خطبه في أيام الجمل : «فو اللّه ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عَلَي منذ قبض اللّه نبيه حتى الناس هذا»(2)معروف غير منكور ،قد رواه المحدّثون وصححه ابن أبي الحديد(3) ، ولو عمدنا إلى ذكر ما ورد في الروايات المصححة عند الخصم من تظلّمه(علیه السلام)وتألّمه وتشكيه من تقدّم الثلاثة عليه إذن لاحتاج إلى كتاب مفرد، وليس المقصود هنا إلا بيان عدم رضاه بتولّي القوم عليه، وهو حاصل ببعض ما ذكرناه .

ومنه صح أن مدعي رضى أمير المؤمنين(علیه السلام) بتقدّم من تقدم عليه مبطل في دعواه، فبطل ما بنى عليه من القول بجواز تقديم المفضول على الأفضل، على أن المعتزلي قد ذكر في موضع من كلامه ما حاصله أنّ الناس الذين لم يشاهدوا النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ولم يسمعوا منه ما قال في حق علي(علیه السلام)من الأقوال الجميلة، إنما دعاهم إلى القول بأفضلية المتقدمين عليه في الخلافة تقديمهم عليه فيها لاعتقادهم أن الأفضلية هي سبب التقديم(4).

وهذا الكلام مؤيد لما قلناه من أنه قد ارتكز في العقول قبح تأخير الأفضل عن المفضول، وذلك مبطل لما يقول، ولهذا كان من قدّم الثلاثة على أمير المؤمنين (علیه السلام)مع اشتهار فضائله وشياع مناقبه ووفور مآثره وتواتر أقوال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فی تفضیله وتبجيله اعتماداً على فعل قوم من الناس ظهرت منهم مخالفة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في مواضع كثيرة مخالفاً لمذهبه ومكابراً لمقتضى عقله فلا عذر له عند اللّه يوم الماب،

ص: 211


1- راجع الخطبة الشقشقية أول نهج البلاغة.
2- نهج البلاغة42:1خطبة 5«من خطبة لها لما قبض رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...».
3- شرح نهج البلاغة225:1و 227 .
4- أنظر شرح نهج البلاغة 7: 72 .

ولا حجة له عند الحساب لاكتفائه بالتقليد عن النظر، مع وضوح الأمر وصراحته.

ثمّ ما أدري أي مصلحة في التكليف اقتضت تقديم المفضول على الأفضل ،والتكليف دائر مدار المصلحة، وهى عندنا وعنده عقليّة، والعقل ينكر تقديم المفضول ويقبّحه، فأين هذه المصلحة ؟ ما هذا إلا تناقض فى القول ، وتشبث بما لا يسمن ولا يغني من جوع ؛ فبطل ما قال وصح ما قلنا من وجوب تقديم الأفضل على المفضول .

وبعد، فأي عاقل يجوّز لنفسه ترك الأخذ بقول رجل فاضل متقن للأحكام،محرز لأدلة المسائل العلميّة، والعمليّة، ويأخذ بقول رجل قاصر العلم، قليل الفهم، ضعيف الإتقان ؟ أو يقدّم لقيادة الجيوش رجلاً خواراً جباناً لا يصبر عند اللقاء، ولا يثبت عند منازلة الأعداء ، بل يفرّ ويولى الدبر، ويؤخر عن ذلك رجلاً مقداماً صبوراً عند الهزاهز،وقوراً عند الشدائد،قوياً على محاولة الشجعان،بصيراً في مطاعنة الأقران، عارفاً بقيادة الجيوش وسياسة الأمور، كزاراً غير فرار ويقدّم في المشورة في الأمور المهمة رجلاً جامد القريحة، متردد الذهن، ضعيف العزم على رجل ثاقب الرأي،ماضي العزيمة، صرّام للأمور، نافذ البصيرة، عارف بأنواع المصالح والمفاسد ؟ أو يقدّم في الأمانة رجلاً غير تام الوثاقة، ولا مستكمل الديانة على رجل آخر معروف بالعفاف والأمانة وكمال الديانة، مقطوع بصلاحه، مشهورة ثقته .

إلى غير ذلك من الأوصاف المتقابلة التي لا يرتاب عاقل غير معاند، ولا مكابر في استقباح تقديم القاصر فيها على الكامل ولكن القوم خالفوا عقولهم وناقضوا أحلامهم فسفّهوها بقبح أقوالهم، وكل ذلك إرادة منهم لتصحيح إمامة القاصرين من المشايخ المتقدمين ، وقد بان مما حررناه بطلان ما أثبتوه، واللّه المستعان .

ص: 212

المسألة الثالثة[شرط الإمام أن يكون قريباً من النبي(صلى اللّه عليه وآله)]

[ابن العم للأبوين مقدم على العم للأب ]

يشترط في الإمام أن يكون قريباً من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في النسب، بل يجب أن يكون أقرب الناس إليه .

أما القرابة في الجملة فظاهر الصحابة والتابعين، بل جميع المسلمين عليها، ولذا احتح بها أبو بكر وصاحباه في السقيفة على الأنصار، عند رومهم مبايعة سعد ابن عبادة، وروى لهم عمر عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«أن الأئمة من قريش»(1)، واحتج لقريش على الأنصار جماعة منهم فانصرفوا بها عن مبايعة سعد.

واحتج أمير المؤمنين(علیه السلام)بها على أبي بكر وأصحابه في استحقاقه الإمامة دونهم(2)،فما أنكر الاحتجاج بها على أولويته بالخلافة منهم أحد، بل اعتذر منهم من اعتذر بأمور أخر كما سيأتي مشروحاً، ولم يخالف في ذلك ممّن ينتحل الإسلام إلا الخوارج(3)،ولا عبرة بهم لخرقهم إجماع المسلمين .

نعم، ربما يتصوّر الخلاف في اشتراط الأقربية من النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الإمامة، فإن

ص: 213


1- في تاريخ الطبري: حوادث سنة 11 أن المحتج بهذا الحديث أبو بكر، وكذا في الشافي في الإمامة للسيد المرتضى184:3.
2- نهج البلاغة27:2/الخطبة 144.
3- قال الشهرستاني في الملل والنحل 1: 107 وفي طبعة أخرى 1: 116، في كلامه حول الخوارج: بدعتهم في الإمامة إذ جوزوا أن تكون الإمامة فى غير قريش وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماماً.

أكثر المخالفين لم يشترطوها وأصحابنا جميعاً على الاشتراط(1)، والعباسية(2)كذلك،وهذا هو الأصح ، وعليه المعتمد.

لنا : قوله تعالى : ( وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ )(3)في الأنفال،وفي الأحزاب:(وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ )(4)، وهما شاملتان للمال والمنزلة، بل هما للمنزلة أقرب وفيها أظهر، لأن سياق الآيتين في معنى الولاية لا سيما الثانية، فإنها في مساق ولاية النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) وهو قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ)(5)الآية،وذلك مرجّح ليس له معارض.

وقوله تعالى في إبراهيم:(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقبِهِ)(6)والكلمة الإمامة،وهو إشارة إلى قوله عزّوجلّ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً )(7)وبه قال جماعة من المفسرين، وهو عند أصحابنا متفق عليه(8)؛فالآية صريحة في المطلوب.

وقوله جلّ وعلا(إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى

ص: 214


1- أنظر الإقبال243:2 والصوارم المهرقة :171وبحار الأنوار 129:37.
2- قال النوبختي في فرق الشيعة : 47 الراوندية وهم العباسية الخلص الذين قالوا: الإمامة لعم النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)العباس بن عبد المطلب، وهم الذين غلوا في العباس وولده.
3- الأنفال: 75 .
4- الأحزاب: 6 .
5- الأحزاب: 6 .
6- الزخرف: 28.
7- البقرة: 124 .
8- تفسير القمي 1: 163 و 164 و 314 وج 274:2، مجمع البيان 1: 375 وج 9: 76، التفسير الصافي 4 : 387 تفسير نور الثقلين 89/601:1 وج597:4.

الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضِ)(1)ويومئ إلى ذلك، بل يصرح به قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«لا يؤدّي عنّي إلا أنا أو رجل مني»(2)لعموم اللفظ ، ولأنه إذا لم يجز أن يؤدي عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) بعض الأمور من هو بعيد عنه في النسب،فكيف يجوز أن يؤدي عنه إلى الأمة جميع أحكام الشريعة في الدين والدنيا ؟فدل ذلك على اشتراط

جميع الأقربية من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) في الإمام.

فإن قيل : إذا حكمتم بأن الإمام يجب أن يكون أقرب الناس إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لزمكم القول بأنّ العباس بن عبد المطلب هو الإمام بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،كما قاله العباسية ، لأنه العم، والعم أقرب من ابن العم وأنتم لا تقولون بذلك.

قلنا:لهذا جوابان عندنا معروفان ،و آخران مذکوران:

الأوّل: أن ابن العم للأبوين أقرب عندنا من العم للأب، فيجوز الميراث دونه

ويحجبه ، وهذا مذهب أمير المؤمنين(علیه السلام)(3)، ومن المحقق أنه لا يقول إلّا الحق،وقد قال به قوم من الفقهاء كنوح بن دراج، وأبي بكر بن عياش وغيرهما(4)، وعلي(علیه السلام)ابن عم النبي لأبويه، فإن أم عبد اللّه وأبي طالب جميعاً فاطمة بنت

ص: 215


1- آل عمران : 33 - 34 .
2- السنن الكبرى 5 : 128 ح 8459، خصائص أمير المؤمنين للنسائي : 90 و 92 ،فتح الباري 66:8،تحفة الأحوذي 10: 152 كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم:595،كشف الخفاء للعجلوني 205:1.
3- من لا يحضره الفقيه212:4،وسائل الشيعة 17: 8 ح 5 وفي طبعة آل البيت(علیهم السلام) 193:26 - 5.
4- أنظر تهذيب الأحكام311:6 ح 64، وسائل الشيعة 26: 86 ح 3 وفي الطبعة الإسلامية 17: 432 ح3.

عمرو المخزومية،وأُمّ العباس أخرى غيرها(1)،فهو عم النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأبيه خاصة،فيكون على(علیه السلام) أقرب منه إلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

الثاني : أن القرابة بمفردها غير كافية في استحقاق منزلة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، بل تحتاج إلى أن ينضم إليها باقي الشروط من العصمة والأفضلية، والعباس غير معصوم،وعليّ أفضل منه بالإجماع، فكان أحق بمقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)منه ، ومن هذا الوجه قدمنا علياً(علیه السلام)على أخيه عقيل مع تساوي نسبهما الصوري إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وكون قرابتهما منه واحدة.

وأما الوجهان الآخران :

فأحدهما : ما ذكره علي(علیه السلام)وسيأتي ذكره مشروحاً في إيراد النصوص عليه، وهو مبايعته النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حين جمع بني عبد المطلب ، ودعاهم إلى مبايعته على أن من بايعه يكون أخاه ووزيره ووارثه وخليفته ؛ فبايعه على(علیه السلام)دونهم(2).

والثاني:مروي عن أبي الحسن موسى بن جعفر(علیه السلام)أنه ذكره للرشيد، واحتجّ به عليه ،مع أوّل الوجهين الأولين حين ناظره في استحقاق علي(علیه السلام)ميراث النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)دون العباس، وهو أن علياً أسلم وهاجر، فكانت له ولاية النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، والعباس تأخر إسلامه، ولما أسلم لم يهاجر فلم يكن له من ولاية النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الميراث شيء لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ

ص: 216


1- أم العباس اسمها نتيلة بن جناب بن كلب ( الإصابة 271:2).
2- القضية معروفة بحديث الدار، مسند أحمد 1: 111 و 307، شواهد التنزيل486:1و 543 و 544 . شرح نهج البلاغة 13: 211، كنز العمال114:13- 36371، وانظر النجاة في القيامة لابن ميثم البحراني : 81 نهج الإيمان لابن جبر: 240 إحقاق الحق 112:15 .

من ولايتهم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا )(1)(2).

فلذلك لم يكن للعباس مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ولقد أخرجه عمر من الشورى لذلك، وأدخل عليّاً دونه (3) وذلك حجّة على المعترض، فبطل اعتراضه كما بطل اعتراض هارون الرشيد على أبي الحسن(علیه السلام)لما ذكر له الوجه المذكور.

وبما ذكرنا من الوجوه بطل قول قوم رعف بهم الزمان(4)يسمون العباسية قالوا : بأن الإمامة بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لعمه العباس، لأنه الأقرب، فادعوا له ما لم يدعه لنفسه(5)، وما ذكره أيضاً بعض جهلة العامة رداً على الشيعة، من أن الإمامة إن كانت بالقرابة وجب أن يكون العباس هو الإمام بعد الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،لأنه العم، وهو أقرب من ابن العم وعلي(علیه السلام)ابن العم فلا يكون له مقام النبي مع وجود عمه العبّاس(6)، لما علمت من أن الإمامية لم يسلموا أقربيّة العباس للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من علىّ(علیه السلام).

ص: 217


1- الأنفال: 72 .
2- القصة بتمامها في عيون أخبار الرضا(علیه السلام)78:2 ح 9 ،الاحتجاج161:2،وسائل الشيعة (آل البيت علیهم السلام) 108:26 ح 14 وفي(الإسلامية)447:17- 14 ، بحار الأنوار125:48 ح 2.
3- انظر الشافي في الإمامة 200:4.
4- قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 347:1 يرعف بهم الزمان يوحدهم ويخرجهم كما يرعف الانسان بالدم الذي يخرجه من أنفه.
5- وهم الراوندية شيعة بني العباس بن عبد المطلب، قالوا: إن أحق الناس بالإمامة بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) العباس بن عبد المطلب لأنه عمه ووارثه وعصبته، المقالات والفرق 180، فرق الشيعة : 46 .
6- جاء فى كتاب أئمة الفقه التسعة28:2 لعبد الرحمن الشرقاوي نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب ما نصه: إنّ بعض الفقهاء يفضلون العباس على الإمام علي بن أبي طالب نفاقاً للخلفاء والامراء من بني العباس ( شرح احقاق الحق556:31).

وقد ذكرنا دليل المنع ووافقهم عليه من وافقهم من غيرهم، مثل نوح بن دراج، وهو من قضاة هارون الرشيد،وأبي بكر بن عياش وهو من الأجلاء عند العامة، ولم يجعلوا القرابة بمفردها مقتضيّةً لاستحقاق الخلافة بدون حصول باقي الشروط ، فاندفع الاعتراض عنهم وزال من أصله وثبت المدعى من اشتراط الأقربية من النبي اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الإمام.

وأما الحسن والحسين(علیهم السلام)فاستحقا الإمامة لتساويهما في قرابة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) وعلي(علیه السلام)، فلم يكن ولد الحسن يستحقونها مع الحسين(علیه السلام) ، وهو الأقرب إلى الية النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و عليّ ، ثمّ هي بعد الحسين لمن كان أقرب إلى الإمام الذي قبله مع جمعه باقي الشروط.

ولذا صارت بعد الحسين في ولده خاصة ولم تصر في ولد الحسن، لتساوي الجميع في القرب من النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و عليّ(علیه السلام) الأن ولد الحسين اختصوا بالقرابة من الحسين وهو الإمام بعد الحسن دون ولد الحسن، فكان ولد الإمام أولى به بمقاد الآيتين، فلم يكن ميراث الحسين (علیه السلام)من جده وأبيه يعود بعده إلى ولد أخيه دون ولده، ولا يشتركون فيه.

ومن هذا بطل قول من قال من الزيدية وغيرهم ، بأن الإمامة بعد الحسين جائزة لدرّيته وذريه أخيه الحسن، لتساوي قرابة الكلّ منهم إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وإلى امير المؤمنين(1).

ومنه أيضاً يفسد قول الكيسانية بانتقال الإمامة بعد الحسين(علیه السلام)إلى أخيه محمّد

ص: 218


1- أوائل المقالات للمفيد : 40 وانظر كمال الدين 96:1.

ابن عليّ، وهو ابن الحنفية، ثمّ من بعده لولده وأنه هو القائم المنتظر(1)إلى غير ذلک من خرافاتهم واختلاقاتهم، لأن علي بن الحسين أقرب إلى أبيه وإلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من عمه محمد.

وبطل قول الإسماعيلية (2)لأن موسى(علیه السلام) أقرب إلى أبيه أبي عبد اللّه (علیه السلام)من ا ولد أخيه إسماعيل، إذ لا خلاف في أن الولد أقرب من ولد الولد، وليست لإسماعيل إمامة فى حياة أبيه ، إذ لا إمامة للّاحق إلا بعد مضى السابق، وإسماعيل مات قبل أبي عبد اللّه(علیه السلام) .

وبطل قول الفطحيّة بإمامة عبد اللّه بن جعفر(3)، لعدم العدالة فيه، دون العصمة والعلم وباقي الشروط .

وبهذا أيضاً يبطل جميع ما ذكرناه من الأقوال وغيرها من خرافات فرق الشيعة غیر الإماميّة وغيرهم من فرق الناس، واللّه الموفق للصواب.

ص: 219


1- فرق الشيعة للنويختي : 43 ، الشافي في الإمامة 3: 146 .
2- الملل والنحل للشهرستاني 149:1.
3- الملل والنحل للشهرستانی 148:1.

المسألة الرابعة في طريق الإمامة

[وجوه إثبات الإمامة ]

وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب أصحابنا الإمامية إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، أو مدلولاً عليه من الإمام الذي قبله، أو يدعي الإمامة فيقيم معجزاً يدل على صدقه(1)، ولا خلاف بين الأمة في أن النص والتعيين من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أمر مستقل تثبت به الإمامة، وإنما الخلاف في كون النص شرطاً ، فلا تثبت الإمامة بدونه ودون الوجه الثاني، وهذا مذهب أصحابنا رضي اللّه عنهم، وهو الحق المتبع. وذهب العامة وغيرهم من الفرق إلى أن الإمامة تصح بالاختيار، وتثبت ببيعة أهل الحل والعقد، كما تثبت بالنص(2).

وذهب الزيدية إلى أن كل فاطمي عالم زاهد خرج بالسيف، وادعى الإمامة فهو إمام(3)، وهذا المذهب مشارك لما قبله في الضعف والوهن ، وستسمع الحجة على إبطالهما.

ص: 220


1- دلائل الإمامة للطبري : 18 ، الاقتصاد للشيخ الطوسي : 195، الجواهر السنية للعاملي:292، وقد كتبت كتب كثيرة في هذا المجال مثل كتاب الردّ على من أبى وجوب الإمامة بالنص لمحمّد بن الجليل السكاك صاحب هشام بن الحكم كما في فهرست ابن النديم: 225 و 364 وانظر مجلة تراثنا 33: 126.
2- ورد ذلك صريحاً في المجموع لمحي الدين النووي193:19،روضة الطالبين للنووي أيضاً 263:7- 265 ،فتح الوهاب268:2،الاقناع205:2،مغني المحتاج130:4
3- حكى ذلك الجرجاني في شرح المواقف353:8و 391 وابن میثم البحراني في كتاب النجاة في القيامة: 194 ، والعلامة في النافع يوم الحشر 101.

وذهب العباسية إلى أن تعيين الإمام يكون بالنص والميراث(1)، ومرادهم الأقربية، ولا نزاع بيننا وبينهم إلا في تعيين الأقرب الوارث، وقد مر بيان ذلك من قريب.

فإن قيل : إنكم قلتم أن نصب الإمام واجب على اللّه فيكون منصوباً من قبله، ثم قلتم هنا : إن الإمامة تحتاج في ثبوتها إلى نص من الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أو دلالة من الإمام السابق على الإمام اللاحق، فأما نص الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فلا اعتراض فيه، لأنه يوحى إليه، فيعرفه اللّه الإمام من بعده، ويأمره بنصبه فيكون منصوباً من اللّه تعالى على لسان الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

لكن الإمام من أين تحصل له معرفة من نصبه اللّه تعالى بعده في الإمامة حتى يدل عليه ، والوحي قد انقطع، وليس الإمام عندكم يوحى إليه ، فلا محالة يكون المدلول عليه مختار الإمام الذي قبله لا منصوباً من اللّه، فرجع قولكم في الإمامة إلى الاختيار أيضاً.

قلنا : ليس الأمركما ادعيت بل لنا في الجواب عن هذا الإيراد وجوه:

الأول : أنّ الوحي وإن كان قد انقطع فما انقطعت الإلهامات، فجائز أن يلهم الإمام ويفهم من اللّه معرفة الإمام الذي اختاره للإمامة من بعده، كما يلهم غير ذلك من الأمور، فيدلّ الأمة على الإمام بعده، وينص عليه بدلالة اللّه إياه عليه من طريق الإلهام، وليس القول بالإلهام مما نختص به نحن بل جملة من خصومنا يثبتونه لكافة أهل العرفان المسمّين عندهم بأهل اللّه من إمام وغيره.

ص: 221


1- حكى ذلك المحقق الحلي في المسلك في أصول الدين : 220، فرق الشيعة للنوبختي : 47.

وقد صرّح ابن عربي محيي الدين عند الخصوم بأن المهدي إذا خرج يلهم الشريعة، ويحكم بما ألقى إليه ملك الإلهام منها(1).

وصرّح الحافظ جميع أحكام الشريعة المحمدية من القرآن من غير احتياج إلى الحديث(2)كما فهمها منه نبينا (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لانطوائه على جميعها، وإن قصرت أفهام الأمة عن فهم الحافظ جلال الدين السيوطى فى الكشف بأن عيسى إذا نزل يفهم ما يفهمه صاحب النبوة.

وقال بعضهم - أظنه أبا حامد الغزالي - كلاماً في هذا المعنى طويلاً، ومن جملته قوله : فالنبوة والرسالة من حيث عينها وحكمها ما انقطعت وما نسخت، وإنما انقطع الوحي الخاص بالرسول والنبي من نزول الملك على أذنه وقلبه.

وكان قبل هذا الكلام قال : إن النبوة والرسالة انقطعت من الوجه الخاص، ثمّ أبقى منها المبشرات.

ثمّ قال بعد: وأما الأولياء فلهم في هذه النبوة مشرب عظيم، إلى آخر كلامه في هذا الشأن (3).

وقد ذكر الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في النمط العاشر في أسرار الآيات من كتاب الإشارات صحة الإلهام والعلم بالغائبات للأولياء من جهة استكمال النفس الإنسانية القوة التى هى مبدأ الأفعال الغريبة، قال فی موضع:إذا قلت الشواغل الحسيّة، وبقيت شواغل أقل لم يبعد أن يكون للنفس فلتات تخلص عن

ص: 222


1- حكاه عن الفتوحات المكية القندوزي في ينابيع المودة345:3، إسعاف الراغبين : 158 .
2- نقله الصبان في إسعاف الراغبين: 160 عن السيوطي.
3- قائل هذا الكلام ابن العربي في الفتوحات المكية253:2.

شعل التخيل إلى جانب القدس، فانتقش فيها نقش من الغيب، فساح إلى عالم التخيّل، وانتقش في الحسّ المشترك، وهذا في حال النوم أو في حال مرض ما يشغل الحسّ ويوهن التخيّل(1).

ثم ذكر علل ذلك وقال بعدها : فإذا كانت النفس قوية الجوهر، تسع للجوانب المتجاذبة ، لم يبعد أن يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة.

وقال في موضع آخر مشيراً إلى هذه القوة فقال: هذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي ، لما يفيده من هيئة نفسانية تصير للنفس الشخصية تشخصها وقد تحصل لمزاج يحصل ، وقد يحصل بضرب من الكسب بجعل النفس كالمجرّدة لشدّة الذكاء ، كما يحصل لأولياء اللّه الأبرار.

وقال في موضع:وإذا بلغك أن عارفاً حدّث عن غيب فأصاب متقدماً ببشرى أو نذيراً فصدق ولا يتعسرنّ عليك الإيمان به، فإنَّ لذلك في مذاهب الطبعية أسباباً معلومة(2)، إلى غير ذلك من كلماته المصرحة بهذا المعنى.

وإذا سلّم الخصوم صحة الإلهام للأولياء من جهة الشرع والحكمة ثبت جوازه وحصوله للإمام،لأنه-على ما نقول-وليّ الأولياء وعماد الأصفياء الذي لا يشوب علمه شائبة التغير، ولا يخالط حكمه شيء من التبديل، فوجب أن يكون ملهماً

مفهماً .

الثاني:أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد بيّن للإمام بعده جميع ما علمه اللّه من العلوم والأسرار-كما ذكرنا فيما مرّ - ومن المعلوم أن اللّه تعالى أخبر النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعدد أوصيائه

ص: 223


1- الإشارات لابن سينا 4: 137 و 138 و 155 .
2- نقله عن الفتوحات الصبان في إسعاف الراغبيين ص 145 .

وأسمائهم وصفاتهم، فكان من جملة ما بينه لخليفته، ثم يبينه الخليفة إلى من يكون بعده وهكذا ، وبهذا صرّحت جملة من الآثار(1).

الثالث: أنّه لا يبعد أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يخبر كل إمام زمان بمن يكون الإمام بعده مشافهة أو في المنام، وليس في ذلك مانع، فقد ذكر مخالفونا ذلك، وجوزوه في الأولياء بزعمهم.

قال ابن عربي :حرم بعض المحققين القياس على جميع أهل اللّه لكون رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مشهوداً لهم، فإذا شكوا في صحة حديث أو حكم رجعوا إليه في ذلك ، فأخبرهم بالأمر الحقِّ يقظة ومشافهة ،انتهى(2).

وقال السيوطي : إن عيسى(علیه السلام)إذا نزل يجتمع به يعني نبينا(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، فلا مانع من أن يأخذ عنه ما يحتاج إليه من أحكام شريعته، وكم من ولي ثبت أنه اجتمع به يقظة وأخذ عنه، فعيسى أولى ،انتهى(3).

وأمثال ذلك من كلامهم كثير مثلما ذكره الواقدي في فتوح الشام من إخبار النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لأبي عبيدة بأمور كثيرة ممّا يدور بين النصارى من الكلام والتدبير والمشورة في المنام(4)، فإذا صح مشاهدة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) عند خصومنا للأولياء وأخذهم عنه وإخباره إيَّاهم في النوم بأمور من الغيب، فالإمام أولى لأنه سيد الأولياء، وهذا الوجه وارد في أخبارنا أيضاً(5)، فاندفع الإيراد وانزاح الإشكال.

ص: 224


1- انظر الكافي 286:1 باب ما نصر اللّه عزّ وجلّ ورسوله على الأئمة واحداً فواحداً.
2- حكاه فى إسعاف الراغبين : 158 عن الفتوحات المكية.
3- حكاه في إسعاف الراغبين: 161.
4- فتوح الشام 1: 50 و 79 و 154 .
5- تفصيل ذلك في بصائر الدرجات.

وإذا تحققت ما رسمناه فاعلم أن لنا على ما ذهبنا إليه وجوهاً من الأدلة :

[الوجه ] الأول : أنا بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوماً، والعصمة أمر خفي لا يطلع عليها - في أي شخص هي - إلّا علام الغيوب الذي أيد ذلك الشخص بها،فلا يعرف صاحبها إلا من قبله،إما بالنص عليه أو إظهار المعجزة على يديه.

أما وجوب عصمة الإمام فقد أثبتناه بالأدلة القاطعة.

وأما إنّ العصمة أمر خفي فلما علمت من معناها ، ولأنه ليس في خلق الإنسان ما يدل على أنه معصوم أو غير معصوم ، وأما ما كان خفياً فلا يعرف إلا من جهة اللّه تعالى بأحد الوجهين المذكورين فأمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان، فيثبت المطلوب.

[الوجه]الثاني: أنّ سيرة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)تقتضي التنصيص على الإمام، وذلك أنه أشفق على الأمة من الوالدة على ولدها حريص على إرشادهم وهدايتهم، ولهذا علمهم الأمور الجزئية حتى ما يتعلق بقضاء الحاجة والاستنجاء وما شاكل ذلك.

وقد وصفه اللّه بالرأفة بالمؤمنين، والحرص على إرشادهم في الكتاب المبين، في قوله تعالى :(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَبْتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم )(1).

فمن كان بهذه المثابة من الشفقة على الأمة والرأفة بهم لا يجوز في العقل أن يتركهم من غير أن يبيّن لهم مفزعهم، ومن يرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم، فتحصل لهم بترك بيانه في دينهم الحيرة ، وتعتريهم في أُمورهم الجهالة والشبهة، كلا، إن العقل يحيل ذلك عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الرؤوف الرحيم بالأمة، الذي اعتنى ببيان

ص: 225


1- التوبة: 128 .

أمور لا نسبة لها بالإمامة، ولا تعد شيئاً بالنسبة إلى الخلافة، فكيف يهمل الأمر الأهم من لم يهمل الأمور الجزئية من المستحبات والمكروهات ؟

على أنّ أبا بكر ما جوّز لنفسه ترك بيان خليفته، وعمر بين أن الخلافة بعده جائزة لستة، وجعل الرأي لواحد منهم(1)، ولم يجوّز لنفسه ترك بيان من يصلح بعده للخلافة .

أفترى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقصر في إصلاح الأمة عن الرجلين، وهو على ما علم من حاله في الشفقة بالأمة و من منصبه في إبلاغ الفرائض التي أعظمها وأجلها الإمامة إليهم، وحيث أن سيرة النبي علي تقتضي التنصيص وجب أن يكون الإمام منصوصاً عليه.

[الوجه ] الثالث : أن الاختيار يؤدّي إلى التنازع ويفضي إلى التجاذب لاحتمال أن يختار كل فرقة من الناس رجلاً للإمامة، فتقوم الفتنة بين الأئمة وأصحابهم على ساق ، وكذلك في الفاطميين على ما قاله الزيدية، إذ لا مانع من قيام فاطميين أو أكثر بالسيف يدعون إلى أنفسهم، كلّ منهم عالم زاهد فيحصل من ذلك النزاع الشديد والخصام اللديد، فيجب أن يكون الإمام منصوصاً عليه لدفع هذه المحذورات المنافية للمطلوب من نصب الإمام.

وأنت خبير بأن الفساد الذي شاع في هذه الأمة من الحروب وسفك الدماء،وانتهاك المحارم في الصحابة وغيرهم - على ما هو مذكور ومسطور - كله ناش من الاختيار في الإمامة، والعدول عن النص، ومتفرّع عليه، ولا مدفع له إلّا بالتزام النص على الإمام، وقد تقدّم في المقدّمة تحقيق في هذا المطلب بما لا مزيد عليه .

ص: 226


1- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : 115 شرح نهج البلاغة 9: 25، أنظر فتح الباري 310:7وج 13: 171.
[الآيات الدالة على أن الإمامة بالنص ]

[الوجه ] الرابع: فحوى بعض الآيات وصراحة بعضها في كون الإمامة موقوفة على النص من اللّه تعالى، فمنها : قوله عز من قائل :(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتِ فَأَتَمَهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(1) والدلالة من وجهين :

الأول : أن إبراهيم(علیه السلام)لما شرفه اللّه تعالى بجعله - يعني نصبه - إماماً طلب من اللّه جلّ اسمه أن يجعل في ذريته أيضاً إماماً ، وقد علمت فيما مر من الكلام أن الإمامة تجامع الرسالة، وتجامع النبوة، وتخلو منهما.

والخليل(علیه السلام)سأل الأعم، ولم يخصص المسألة بالإمامة المجامعة لأحد الأمرين ، فلو كانت الإمامة بجميع مراتبها تصح بالاختيار لما سأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته إماماً ، بل كان يختار من يشاء من ذريته وينصبه إماماً، وحيث سأل اللّه ذلك وطلبه علمنا أن الخليل كان يعلم من إعلام اللّه له أن الإمامة موقوفة على اختيار اللّه لا اختيار البشر، وإذا لم يكن للخليل اختيار في نصب الإمام فكيف يكون ذلك لسائر الناس ؟

وبما ذكرناه يبطل ما احتمله الرازي في تفسيره من كون الإمامة المطلوبة لإبراهيم النبوة، ولا ينالها من عبد صنماً وقتاً ما(2)،على أنه قد أبطل قوله هذا بما ذكرناه عنه في مسألة العصمة من جعله الآية دالة على عصمة الإمام ظاهراً وباطناً، وإن أصحابه تركوا دلالتها على ذلك ، واكتفوا بالعدالة في الإمام ، وجعلوها

ص: 227


1- البقرة: 124.
2- مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير للفخر الرازي)39:4- 44 ذيل الآية: 124 من سورة البقرة .

دليلاً على اشتراط العدالة في الإمام ، ولا يكون هذا المعنى إلا في الإمامة المجردة عن النبوّة ، فثبت أنه مقرّ بأن الإمام بالمعنى الأعم هو المطلوب.

ثم يقول فى هذا المقام إن مطلوب إبراهيم الإمامة بالنبوة، والنبوة عنده لا تكفى فيها العدالة لقوله : ولا ينالها من عبد صنماً وقتاً ما(1)، فكان بعض كلامه مناقضاً لبعض، وهذا دأب القوم وديدنهم في مذاهبهم، وأقوالهم لضيق مسلكهم.

الثاني: أن اللّه تعالى أجاب إبراهيم بقوله: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي عَهْدِى الظَّالِمِينَ ) فسمّى الإمامة عهده، ومن المعلوم أن عهد اللّه لا ينال إلا من قبله، وليس للخلق في جعله لانسان معين صنع.

ولو كانت الإمامة تجوز عند اللّه باختيار الخلق وترام بذلك، لقال لإبراهيم: إنّ الإمامة ليست موقوفة على نصبي ونصي، بل جعلت الاختيار في تعيين الإمام لخلقي، فاختر أنت من ذريتك من تشاء أو من عرفته في نظرك صالحاً لها فانصبه إماماً ، ولما لم يجب اللّه إبراهيم(علیه السلام)بذلك، بل أجابه بما سمعت علمنا أن الإمامة لا تكون إلا بنص من الله تعالى، وهو المطلوب .

ومنها : قوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَاءِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً تُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ)(2)إلى أنّ قال تعالى : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم وَاللهُ يُؤْتِي مُلكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن

ص: 228


1- مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير للفخر الرازي)39:4- 44 ذيل الآية: 124 من سورة البقرة.
2- البقرة: 246 .

رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ اَلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ )(1) الآية .

والملك في بني إسرائيل بمعنى الإمام في هذه الأمة، لأنه منصوب لإقامة الحدود وإمضاء الأحكام، وأخذ القصاص، وتجهيز الجيوش، وقتال أهل الشرك .

ودلالة الآية على المطلوب من جهات :

[ الجهة ]الأولى: أن بني إسرائيل لما أرادوا ملكاً يقيم فيهم الأحكام، ويقاتل العدوّ في سبيل الملك العلام طلبوا من نبيهم أن ينصب لهم ملكاً لذلك المرام ،بهم ولو كانت الإمامة جائزة بالاختيار لما احتاجوا في نصب الإمام إلى تعيين النبي وقالوا :ابعث لنا ملكاً يعني انصب، بل كانوا يختارون لأنفسهم من شاؤوا فيجعلونه عليهم ملكاً، ولما كانوا سألوا نبيهم نصب واحد من قبله، فتوقفهم عن نصب الملك وطلبهم إيَّاه من نبيهم دليل على أن ليس لهم في الإمامة اختيار. [الجهة ] الثانية : قول نبيهم :(إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً)ولم يقل إنّي بعثت لكم، فدل ذلك على أن النبي ليس له اختيار في تعيين من شاء للإمامة وإنما له أن يخبر الأمة عن اللّه بأن فلاناً المخصوص قد جعله اللّه لكم إماماً، فالإمامة إذن بالنص لا بالاختيار.

[ الجهة ] الثالثة: إنّهم لما أبوا إمامة طالوت وأرادوا نصب من يختارون بقولهم( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا)إلى آخره، ردّ اللّه قولهم وأبطل اختيارهم بقوله تعالى:(إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةَ فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) فأبان بذلك بطلان الاختيار في الإمامة، وعدم ثبوتها به،وجعلها موقوفة على اصطفائه، وهو اختياره جلّ وعزّ من يختار لها من خلقه لا من يختاره الخلق لها ،وبالزيادة في العلم والجسم يعني الشجاعة.

ص: 229


1- البقرة: 247 - 248 .

ومن المعلوم أن مختار اللّه لا يعلم إلا من قبله، فوجب من صريح الآية أن يكون الإمام منصوصاً عليه من اللّه تعالى على لسان النبي أو الوصي، وأن يكون أعلم أهل زمانه وأشجعهم، ولو لم يكن ذلك شرطاً لم يكن لذكره معنى.

وحمل هذه الآية على بطلان الاختيار بعد النص لا قبله كما قاله جهول من العامة فاسد مردود بالجهتين الأولتين، وبأنّهم لم يطلبوا الاستقلال بالاختيار، وإنّما طلبوا أن ينصب لهم من يكون لهم ،رضاً، بمعنى أن يكون من يختاره اللّه للملك يوافق ،اختيارهم ويطابق ،غرضهم فهم من أول أمرهم على هذا، وقد أبطل اللّه اختيارهم من أصله وردّ عليهم ما اقترحوه، ولم يجعل لهم في الاختيار مطلقاً نصيباً.

فيدلّ ذلك بصريحه على أن الإمامة ليس للخلق فيها اختيار؛لا على جهة الاستقلال،ولا على الاشتراك فيثبت المطلوب، على أنه لا فرق بين الحالين في الحقيقة، بل إذا لم يجز الاختيار بعد النص لم يجز قبله، إذ ليس لأحد أن يحكم بدون حكم اللّه قبل الحكم وبعده.

[ الجهة ] الرابعة : قوله تعالى(وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)دلّ الكلام صريحاً على أن الإمامة ملك اللّه، يؤتيها من يشاء إيتائه إيَّاها ، لا من يشاء خلقه، فدل ذلك بأوضح دلالة على أن الخلق ليس لهم اختيار ولا مدخل في اختيار الإمام أصلاً، وأنّها موقوفة على اختيار الخالق مطلقاً قبل النص وبعده ، بمعنى أنه ليس لأحد أن يرد النص على واحد بعينه من اللّه تعالى بنظر واجتهاد، ولا أن ينصب إماماً من دون نصب اللّه إياه، فأزال بذلك الفرقان بين الحالين الذي ادعاء ذلك الجهول، وهو أيضاً وجه رابع في ردّ قوله وفساد دعواه.

ص: 230

[ الجهة ] الخامسة : قوله تعالى( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيكُمُ التَّابُوتُ)إلى آخره، فإنّه تص في أن الإمامة تحتاج في ثبوتها إلى دليل وبرهان، وهو المعجز، وليست مما تثبت لمدعيها بدون حجّة ودليل، ولا بقول أحد من الناس وتسميته ذلك المدعى إماماً وتصديقه في دعواه الإمامة، وهذا هو نص مذهب الإمامية وهو أوضح دليل على بطلان الاختيار في الإمامة كما ترى.

والآية محكمة ومضمونها جارٍ في هذه الأمة، ولم يرد عن أحد من المفسرين السابقين من العامة والخاصة أنها منسوخة الحكم، أو أن حكمها مخصوص ببني إسرائيل دون هذه الأمة، فلا يجوز لهم الاختيار في الإمامة خاصة دوننا، بل عامة لهذه الأُمة أنزلها اللّه لبيان سنته في الدين خلو، ولن تجد لسنة اللّه تبديلاً. فتكون حجة على من قال بالاختيار فى الإمامة، فما قاله جاهل من حشوية العامة بأن مضمون الآية مخصوص بالأمم السالفة دون هذه الأمة زور وبهتان وظلم

وعدوان، وذلك مبلغه من العلم.

وليس دعوى النسخ مما تثبت باللسان من دون حجّة ولا بيان ولا حجة على النسخ إلا العصبية والعناد، والميل إلى شهوة النفس وردّها الحق لتصحيح ما فعله الأسلاف، وهذا مما لا يعبأ به عند المناظرة والحجاج، ولا تقوم به حجة، ولا يصحّ به حکم.

على أن هذا الحكم مما لا تختلف فيه المصالح بحسب الأزمان والأشخاص، حتى يعرض له النسخ والتخصيص، بل حاله كحال النبوة التي لا تصح في جميع بنصب اللّه، ولا تثبت إلا بالمعجز ، فكذلك الإمامة لا تثبت إلا بالنص أو

الأمم إلا المعجز لأنها خلافة عن النبوة، فسبيلها في جميع الأمم واحدة.

ص: 231

ومنها(1): قوله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(2)،دلت الآية على نفى الخيرة للخلق مطلقاً في الخلق والحكم، فليس لهم أن يثبتوا حكماً ولا ينفوا حكماً من قبل أنفسهم، ولا أن يحتاروا أحداً فيقدموه في منزلةٍ ويؤخروا غيره عنها ، بل الحكم في ذلك كله اللّه تعالى، فكانت الآية ناصة على أنه لا يجوز لأحد أن يختار إماماً ، فينصبه في الإمامة بعد نص اللّه وقبله، كما هو مقادها، إذ لو صح ذلك لكان مناقضاً لمدلول الآية، وحيث بطل الاختيار في كل شيء بطل الاختيار للناس في الإمامة، فوجب أن يكون الإمام منصوصاً عليه .

ومنها:قوله تقدس وتعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(3)الآية، وهي وإن كانت ظاهرة في نفي الاختيار بعد النص لا قبله،إلّا أنا قد بيّنا أنه لا فرق بين الأمرين، وأنه ليس لأحد أن يوجب حكماً أو ينفي واجباً من دون إيجاب اللّه ونفيه، ولا أن يعطي أحداً منزلة، ويثبت له مقاماً لم يعطه اللّه إياه ولم يثبته له.

وقد كان ذلك فيما قضاء اللّه وأنزله في كتابه حيث يقول:﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)(4)وغيرها من الآيات، فلا يجوز لأحد أن يختار شيئاً ويوجبه لم يختره اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ولم يحكما به.

ومنها : قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى

ص: 232


1- لا زال في بيان الآيات الدالة على أن الإمامة بالنصّ.
2- القصص : 68 .
3- الأحزاب : 36 .
4- الأنعام: 57 .

الْعَالَمِينَ)(1)ومن البين أن في آل إبراهيم أنبياء وأئمة بإمامة مجردة من النبوة، كالملوك المنصوبين من قبل اللّه في بني إسرائيل، والاصطفاء واقع على الجميع، فتكون الإمامة باصطفاء الله كالنبوة، إذ لا تخصيص في الآية بالنبوة، وإذا كانت الإمامة باصطفاء اللّه بطل أن تكون ثابتة باختيار الناس.

ومنها:قوله تعالى:(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم ملكاً عظيماً )(2).والملك العظيم هو الإمامة، وهو حاصل بإيتاء اللّه ، وإذا كانت الإمامة لا تكون إلا بإيتاء اللّه بطل أن تكون باختيار من الناس.

وثبت من مدلول هذه الآيات الظاهرات توقف الإمامة على النص، وعدم صحتها بالاختيار، ولعمري إن الاحتجاج بها على المطلب كافٍ لأُولى الأنظار المجانبين لطريق الاستكبار ،واللّه الهادي.

[الوجه ] الخامس: أن الإمامة خلافة اللّه في أرضه لا ينكر ذلك أحد من أهل العلم والمعرفة ، وقد صرّح بذلك الخلفاء، حتّى الذين كانت خلافتهم بالاختيار، فكانوا يسمون أنفسهم خلفاء اللّه كما لا يخفى على من قرأ السير والأخبار والتواريخ والآثار.

وما زال الناس من ذوي الفضل يقولون في الإمامة : إنها خلافة اللّه في أرضه، وقد دلّ الكتاب العزيز على ذلك بقوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(3)،وقال تعالى:﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ

ص: 233


1- آل عمران:33.
2- النساء: 54.
3- البقرة: 30.

النَّاسِ بِالْحَقِّ )(1)،وقال تعالى:(وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْتِي فِي قَوْمِي)(2).

ومن المعلوم الذي لا يشك فيه أحد عاقل أن خلافة اللّه لا تنال إلا من قبله، ولا تثبت لأحد إلا بنصبه ونصه، ولا تعلم إلا من قوله لا من قول الناس.

وأنت خبير بأن خلافة أحد من البشر فيما له الولاية عليه لا تصح لأحد من الناس إلا باستخلافه ونصّه عليه، ولا تعلم إلا من قبله، ولا تصح بنصب غيره، أفترى أن خلافة اللّه تصح بدون إذنه، وتثبت لأحد من الناس بنصب الخلق إياه فتقصر حرمة الخالق عن حرمة المخلوق ؟ وإذا كان خلافة اللّه لا تحصل إلا من قوله تعالى كما هو معلوم وجب أن يكون الإمام منصوصاً عليه، لأنه خليفة اللّه .

[الوجه ] السادس : وهو مؤلف من مقدمتين:

[المقدّمة ] الأولى : إنّه لا يجوز لأحد من الناس أن يوجب شيئاً أو يحرم شيئاً بهواه ورأيه ومن تلقاء نفسه، من غير دليل من كتاب اللّه أو سنة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وأن من أوجب شيئاً أو حرمه شئل من أين أخذه فإن أقام عليه شاهداً من كتاب أو دليلاً ثابتاً من سنة قبل منه، وإلا ردّ عليه وأبطل قوله وأُدخل في جملة القائلين على اللّه بغير علم، والمفترين على اللّه الكذب.

وهذه المقدّمة مما صح عليها اتفاق المسلمين قولاً، فإنك لا تجد أحداً من الناس يقول : إنه يجوز الحكم في إيجاب أو تحريم بدون حكم اللّه ولا أنّه يجوز مخالفة اللّه في حكمه.

وقد ورد القرآن الكريم بالنهي عن القول على اللّه بغير علم ولعن الكذبة

ص: 234


1- ص: 26.
2- الأعراف: 142.

المفترين،وورد مثله في سنّة سيّد المرسلين بما لا يحصى كثرة من الآيات والروايات، مثل قوله تعالى:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(1)،(وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )(2)،(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)(3)،﴿فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(4)وغير ذلك من الآيات .

وقال النبيّ(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيما تواتر واستفاض عنه :«كثرت على الكذابة؛ فمن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار »(5)،فمن المتيقن أن الموجب والمحرم بغير حجّة من اللّه كاذب على اللّه وعلى رسوله ، ومفتر عليهما الكذب، فيكون مستحقاً للعن ومستوجباً للبعد من رحمة اللّه، لأن الله يقول:(فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(6)ويكون الحاكم بدون دليل من الشرع الشريف حاكماً بخلاف ما أنزل اللّه ، فيدخل في عموم قوله تعالى:(وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(7).

ثم كيف يجوز لأحد من الناس الإيجاب والتحريم والتحليل بدون قول اللّه تعالى، والنبي الذي هو سيد الرسل لم يكن له ذلك، بل هو مأمور بأن يحكم بحكم اللّه ولا يتعدّاه، ولا يعمل بسواه؟

ص: 235


1- الإسراء: 36.
2- البقرة: 169 .
3- النحل: 116 .
4- يونس : 59 .
5- مسند أحمد 1: 130 و 131 و 165 و 167، سنن الدارمى76:1و 77 ، صحيح البخاري35:1وج145:4 ، صحيح مسلم 1: 8 ،و ص 57 ،سنن ابن ماجة 1 : 13 ، عيون أخبار الرضا(علیه السلام)212:1، الكافي62:1ح 1 باب اختلاف الحديث، الخصال: 255 ح 131.
6- آل عمران: 61 .
7- المائدة: 44 .

قال اللّه تعالى خطاباً له:(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ )(1)وقال:(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)(2)وقال:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ)(3)ولم يقل له : احكم بما تراه أنت وما تشتهيه ومعنى أراك أعلمك. وقال:(لَيْسَ لكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ)(4)وقال تعالى:﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقاويل * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)(5)وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى.

وإذا كان الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)منهياً من هيا عن الحكم برأيه مع أنه أسد البرية رأياً، أفترى يجوز اللّه الحكم بالرأي لسائر الناس ؟ وإذا لم يجعل اللّه للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أمر التحليل والإيجاب والتحريم أفيجوز أن يجعل ذلك لغيره؟

فثبت من ذلك كله أن الموجب والمحرّم - بدون حجة من اللّه من كتاب أو سنة - متعمّد للكذب على اللّه، ومفتر عليه، ومتعمد الكذب على اللّه ، كافر مستحق اللعن والعذاب والطرد من رحمة اللّه والإبعاد ، كما عرفت أولاً. [المقدمة]الثانية:أنّ الإمام هو الرئيس الذي تجب على المسلمين طاعته، وتحرم على المكلفين معصيته، وتجب موالاته ومعاداة أعدائه والنصيحة له، ولزوم جماعته، وهذا أمر متفق عليه لا يحتاج إلى الإطالة فيه بنقل الأدلة، ويكفيك منه ما بين في المقدّمة مما أوضحناه هناك، فحينئذ نقول لأهل الاختيار:

إذا بدر جماعة من الناس - قلوا أو كثروا - بعد موت النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فبايعوا رجلاً

ص: 236


1- الأنعام: 106.
2- هود :112 .
3- النساء : 105 .
4- آل عمران: 128 .
5- الحاقة : 44-46 .

ونصبوه إماماً ، فإنهم لا محالة أو جبوا بذلك على المكلفين طاعته، وحرموا عليهم معصيته، فهل أوجبوا ما أوجبوه لذلك الرجل من الطاعة، وحرموا ما حرموه له من المعصية، وسمّوه إماماً ، بنص من اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليه بالخصوص ليكونوا قد أوجبوا وحرموا بحكم اللّه ، أم بهوى أنفسهم وميل شهوتهم ؟

فإن كان الأول فذلك خارج عن معنى الاختيار، ومطابق لقولنا: إن الإمامة لا تكون إلا بنص من اللّه ورسوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فلا اختيار على هذا .

وإن كان الثاني كانوا بإيجابهم ما لم يوجبه اللّه ، وتحريمهم ما لم يحرمه داخلين في زمرة المفترين على اللّه الكذب، والقائلين عليه بغير علم،واستحقوا من اللّه اللعنة وعدم الفلاح، وكانوا من جملة الكفرة والظلمة، لحكمهم بغير ما أنزل اللّه ،إذ قد علمت من صريح الآيات أنّ اللّه تعالى لم يفوّض إلى أحد أن يحكم بما أراد في دينه من وجوب وتحريم عموماً ولا خصوصاً.

ومن ادعى ذلك فعليه البيان وإقامة البرهان، وأنّى له بذاك؟فبطل بذلك الاختيار في الإمامة لاستلزامه كذب المختارين على اللّه، واستحقاقهم بالاختيار لعنه وطرده، ولو كلّفهم اللّه باختيار الإمام لاغتفر لهم القول عليه بغير علم، لكنه تعالى لم يغتفر ذلك لأحد.

اللهمّ إلّا أن يقولوا إن الإمام على وجه الاختيار لا تجب طاعته، وإنما هو كالملوك الجائرين، فحينئذ يخرج من معنى الإمامة الشرعية ونستريح من كلفة تصحيح إمامته وإبطالها،ومن هذا يعلم أنه لا تثبت الإمامة إلا بالنصّ،وليس الاختيار بطريق لها.

ص: 237

[خيرة الناس لا تصيب الواقع ]

[الوجه ] السابع : أنه لا شك أن الإمام يجب أن يكون مصلحاً لأمر الرعية، مع صلاحه في نفسه في الدين والدنيا، ويجب أن يكون عادلاً في الأحكام الشرعية جميعها، فلو تعدّى حكم اللّه في شيء من الأحكام ، لكان مفسداً مبتدعاً، مفترياً للكذب على اللّه، مستحقاً لاسم الظلم والكفر ، لحكمه بخلاف حكم اللّه، وليس مثل هذا بإمام قطعاً عند أهل الدين.

فنقول حينئذ لأصحاب الاختيار: إذ قلتم بأن الإمامة تثبت بالاختيار، فأخبرونا عنكم أتريدون إماماً مصلحاً أم مفسداً ؟ لا سبيل لهم إلى الثاني، بل لابد من أن يقولوا: نريد إماماً مصلحاً.

فيقال لهم : فهل يجوز أن تقع خيرتكم على الأفسد ، وأنتم تظنون أنه الأصلح،أم تقولون إن خيرتكم لابد أن تقع على الأصلح وتوافق خيرة اللّه في باطن الأمر؟

فإن قالوا بالأوّل قلنا : فقد بطل بهذا صحة الإمامة بالاختيار،لاحتمال كون المختار مفسداً وعدم القطع بكونه مصلحاً ، فلا يكون مقطوعاً بصلاحه للإمامة، لعدم الجزم بحصول ما هو شرط في الإمام فيه ، وهو الصلاح ، لأن المفروض هو كون الاختيار غير مقتض لصلاحه، ولا موجب لإصلاحه، فبطلت إمامته لبطلان شرطها.

وإن قالوا بالثاني قلنا لهم:فيلزم من ذلك دعواكم علم الغيب ومعرفة العواقب،ويلزم أن تكونوا أسد رأياً من أعاظم الأنبياء المرسلين، فإنا وجدنا منهم من اختار أمور - ليس لها خطر الإمامة - أحداً يظن أنه صالح لما اختاره،فبان أنه غير صالح لذلك في باطن الغيب،فلم توافق خيرته خيرة اللّه.

ص: 238

هذا موسى بن عمران الذي كلّمه اللّه تكليماً، واصطفاه برسالاته، وفرق له البحر، وأنزل عليه التوراة، وظلله وقومه بالغمام إلى غير ذلك مما أعطاه اختار من قومه - وهم ألوف - سبعين رجلاً لميقات ربه ليكونوا شهوداً له عند قومه على خطاب اللّه تعالى إيَّاه،وهو يظن أنهم صالحون،فكفروا كما حكى اللّه تعالى من خطابهم لنبيهم موسى بقوله عزّ وجلّ:(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)(1)فوقعت خيرته على الأفسد، وهو يظن أنه الأصلح.

وهذا نبينا محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وهو سيّد الرسل، وأفضل الخلق أجمعين قد اختار أبا بكر لتبليغ آيات من سورة براءة إلى أهل مكة، ويقرأها في الموسم بناءاً على صلاحيته لذلك في الظاهر ، فلم تكن خيرته مطابقة لخيرة اللّه في باطن الغيب،فأتاه جبرئيل(علیه السلام)عن اللّه تعالى يقول له:لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك،فأعطاها عليّاً(علیه السلام)وعزل عنها أبا بكر(2)، والقصة مشهورة كالشمس،وفيها سر عجيب، وإشارة لطيفة ليس هنا مقام بيانها.

فإذا كان الكليم والحبيب من أولي العزم من الرسل، وناهيك بهما لما اختارا

ص: 239


1- البقرة:55.
2- وخلاصة القصة: إن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) بعث أبا بكر بسورة براءة إلى أهل مكة فبينما أبو بكر ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فخرج أبو بكر فزعاً فظن أنه رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فإذا هو علي(علیه السلام) فبلغه أن رسول اللّه بعثه ليأخذ منه براءة ويقوم هو بتبليغها، فرجع أبو بكر إلى المدينة وسأل رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)هل نزل في شيء؟ قال: لا، ولكن جبرئيل جاءني وقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . أنظر فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل2: 794 و 795 ح 1088 و 1090 ، تفسير الطبري 46:10 و 47 ذيل الآية الأولى من سورة براءة، مستدرك الحاكم51:3،تفسير ابن كثير333:2،الدر المنشور 3: 209.

من دون وحي وقعت خيرتهما على غير الصالح لما اختاراه، ولم توافق خيرتهما خيرة اللّه، فكيف يدعى أحد من الناس، أو يدعى له أن رأيه لا يخطئ الواقع ، وإنّ خيرته من قبل نفسه ملازمة لإصابة خيرة اللّه ، حتى يكون الذي ينصبه من تلقاء نفسه وميل قلبه اللّه رضاً، وإنه مختار اللّه ؟

وأي شيء أعظم فرية على اللّه ، وأشدّ كفراً من دعوى أن أحداً من الناس أسد رأياً وأجود إصابة من الأنبياء المرسلين بحيث أن خيرته تلازم إصابة الواقع، وتوافق خيرة اللّه دون الأنبياء من أولي العزم ؟ ما أظن أن أحداً من المسلمين عاقلاً يسوع لنفسه ذلك، ولا يتجاسر على هذه الدعوى.

فإذن خيرة الناس لا يلزم منها إصابة الواقع، فليس لهم أن يختاروا إماماً ، لأنا بينا أن شرط صحة الاختيار علم المختار بصلاحية من اختاره لما اختاره في باطن الأمر عند الله تعالى، وقد أخبر اللّه تعالى عن ذلك بقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(1)فليس للجاهل بما هو صالح عند اللّه أن يختار عليه، ويفرض إمامة من لم يفرض اللّه إمامته .

فتبين من جميع ذلك أن الاختيار في الإمامة لا عبرة به، ولا تأثير له ولا تعويل عليه، والإمام به ليس بإمام حق تجب طاعته،ولا بدليل هدى يتحتم الاقتداء به، ومن أنصف عرف ذلك وتحققه، وإذا بطل كون الإمامة بالاختيار وجب أن تكون بالنص أو المعجز، إذ لا طريق غير ذلك لها ، فثبت ما قلناه واللّه الهادي .

ص: 240


1- الدخان: 32 .
[إبطال إمامة غير علي بن أبي طالب]

(1)

واعلم أنه ليس لمخالفينا على ما ادعوا من صحة الإمامة بالاختيار حجة من آية أو رواية، ولا عثرنا لهم في كتبهم على ذلك بمتمسك يتمسكون به ولا ذكروا له دليلاً، سوى ما حدث من بعض الصحابة، حيث بايعوا أبا بكر ونصبوه إماماً، ولم يكن منصوصاً عليه، فلولا أن الاختيار طريق للإمامة لم تكن إمامة أبي بكر صحيحة، لكنها صحيحة لإجماع الصحابة عليها، فيكون الاختيار مثبتاً للإمامة، لم نجد لهم سوى هذه الشبهة الواهية، وفسادها ظاهر لأهل النظر ، بل ليست ممّا ينبغى أن يُذكر، وذلك من وجوه:

الأوّل: أنّها مصادرة على المطلوب إذ لا تصح إمامة المذكور إلّا بعد جواز الاختيار، والاختيار باطل بالأدلة، والباطل لا يثبت شيئاً ولا يصححه، فكان الواجب أوّلاً أن يصححوا الاختيار بدليل حتى يثبتوا به إمامة الرجل، وهم إنّما صححوا الاختيار بإمامته التي لا تصح إلا بالاختيار، فيلزم من ذلك الدور، وهو باطل.

الثاني : منع الإجماع، فإنّ المعروف من معنى الإجماع عند الخصوم - كما ذكروه في كتبهم الأصولية - أنه عبارة من اتفاق أهل الحل والعقد(2)،ومعلوم أن اتفاق أهل الحل والعقد لم يحصل على إمامة أبي بكر بالرضا والاختيار، بل كان

ص: 241


1- قد ذكر المصنف طرقاً ثلاثة لإثبات إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام)أولها:إبطال إمامة غيره ممن ادعيت له الإمامة بعد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لتثبت له الإمامة بالضرورة والثاني والثالث سيأتي ذكرهما في بداية الفصل الثاني.
2- المنخول للغزالي: 399، المحصول للرازي20:4،الأحكام للأمدي 196:1.

الناس بعد النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على ثلاث فرق : فرقة مالوا إلى على(علیه السلام)، وأُخرى إلى سعد ابن عبادة،وأخرى إلى أبي بكر(1)، وما زال الاختلاف باقياً إلى يومنا هذا.

ولقد أجاد من قال :

وكيف صيّرتم الإجماع حجتكم*** والناس ما اتفقوا يوماً ولا اجتمعوا

أمرُ علي بعيد عن مشورته ***مستكره فيه والعباس ممتنع(2)

وليس يخفى على ذي اطلاع ما وقع بين الصحابة في خلافة أبي بكر من الخصام والنزاع، وأن أكثر من بايعه ليس على وجه الرضا، وسيأتي جملة من بيان ذلك، وقد مضى إلى شيء منه إشارة، فلا إجماع ولا اتفاق، وإن كان الإجماع اتفاق جماعة ،ولو كانوا اثنين أو ثلاثة، فذلك مخالف لما ذكروه من معنى الإجماع، بل ليس إجماعاً قطعاً وجزماً ، إذ لو كان كذلك لكان كل قول اتفق عليه ثلاثة مثلاً كان إجماعاً ، فإذن كثرت الإجماعات وتعارضت، وفساد هذه الدعوى بين لا يحتاج إلى البيان الذي فهم.

الثالث : منع حجيّة الإجماع المدعى،وذلك أنا بينا فيما مرّ أنّ الإجماع لا يكون حجة إلا بدخول من لا يجوز عليه الخطأ في جملة المجمعين، ومن المتفق عليه بين المسلمين أنه لا معصوم من الداعين إلى بيعة أبي بكر ولا من المبايعين، بل لم تدع العصمة لرجل من الصحابة إذ ذاك إلا لعلي(علیه السلام) ، وقد صح عند كل الأمة أن علياً لم يدخل في بيعة أبي بكر وأبى خلافته وأنكرها ، وما زال منكراً لها حتّى أكره على البيعة.

ص: 242


1- الطبقات الكبرى269:2،وج182:3،أنظر الملل والنحل30:1،تاريخ مدينة دمشق 10 :291،سير أعلام النبلاء276:1.
2- ورد هذان البيتان في الطرائف: 451مع أبيات أخر يتفاوت في بعض الكلمات،الصراط المستقيم 3: 126،الغدير333:4.

وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين عند الخصوم أن علياً (علیه السلام)ليلة امتنع من بيعة أبي بكر مدة حياة فاطمة(علیها السلام)،وقد عاشت بعد أبيها ستة أشهر، فلما توفيت فاطمة (علیها السلام)انصرفت وجوه الناس عن علي(علیه السلام)فضرع إلى مبايعة أبي بكر(1)،ومن اليقين أن بيعة أبي بكر لو كانت حقاً لما قعد عنها علي(علیه السلام)، وهو مع الحق والحق معه(2)، وإذا لم تكن حقاً فلا محالة تكون باطلاً وضلالاً، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال بنص الكتاب(3).

وأما مبايعته أبا بكر بعد انصراف وجوه الناس عنه فأمر اضطراري، إذ لا يسعه الانفراد بنفسه، على أن الأمر خلاف هذا، وإنما ذكرنا الرواية حجّة على الخصم ، وإذا لم يكن علیّ(علیه السلام) - الذي هو ثابت العصمة - مع المجمعين، فلا عبرة بالإجماع لو كان قد حصل .

والحاصل أن مبنى هذه الشبهة على الوثوق بجملة الصحابة، والحكم عليهم بأنهم لا يتعمدون مخالفة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وهذا المبنى منهدم، وسيتضح لك فساده تمام الاتضاح في الفصل الثاني إن شاء اللّه، وأنت بعد تأمل الأدلة المتقدمة وما حررناه هنا لا تشك في بطلان هذه الشبهة واندفاعها.

الرابع: أنّ الإمامة لو كانت بالاختيار لم تكن أئمتهم أئمة ، لأن معنى اختيار المسلمين هو اختيار أهل العلم والرأي منهم في جميع بلاد الإسلام،وأقل ما يفهم

ص: 243


1- صحيح البخاري 5: 82 كتاب المغازي باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 154:5 فتح الباري378:7.
2- شرح الأخبار524:2، نهج الإيمان: 187، وستأتي مصادر هذا الحديث في جملة الأحاديث التي أوردها في فضائل الإمام علي(علیه السلام) فانتظر.
3- اقتباس من الآية: 32 من سورة يونس( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلال فأتى تُصْرَفُونَ).

من الاختيار اختيار أهل الفضل والعلم من بلد الإمام، بأن يجتمعوا بعد موته ويتشاوروا فيما بينهم ويجيلوا الرأي حتى تتفق كلمتهم على واحد معين، وتظهر لهم جليّة الحال فيه ، فإذا اجتمع رأيهم عليه بعد المشاورة والنظر بايعوه، لا معنى

للاختيار غير هذا.

ولا ريب أن البيعة لواحد إذا وقعت على غير هذا الوجه لم تكن واقعة باختيار المسلمين، فتقع باطلة لبطلان شرطها، وهو اختيار المسلمين ،ومن يدعي للاختيار معنى غير هذا فهو مكابر جاحد أو جاهل معاند،ومعلوم أن واحداً من أئمتهم لم تقع إمامته على هذا الوجه.

هذا أبو بكر وهو رئيس أئمتهم لم تقع بيعته إلا باختيار رجلين:عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح لم يحضرها من المهاجرين غيرهما(1)، وحضرها المغيرة بن شعبة وهو إذ ذاك ليس من أهل الشورى عند القوم، وجميع أهل الفضل من المهاجرين غير حاضرين لم يشاوروا فيها ولم يناظروا، والأنصار وهم المعتمد في نصرة الإسلام نازعوا فيها وخاصموا، فأخرجهم عمر بن الخطاب من الشورى بما روى عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«أن الأئمة من قريش»(2)، فلم يجعل لهم في الإمامة اختياراً .

وكانوا قد اختاروا سيدهم سعد بن عبادة الخزرجي وأقعدوه في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه، فأبطل عمر وصاحباه أمرهم بالرواية المذكورة تارة، وبغيرها أخرى، وأخرجوهم من هذا الأمر بالمرة.

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة 39:6.
2- الملل والنحل 31:1.

وحسبك من ذلك قول:«عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة»(1)، يعني بغير مشورة كما قاله تابعوه في معناها وإلّا فالكلمة أعظم من ذلك كما يصرح به قوله بعد:«وقى اللّه المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه»، والكل مذكور مبين في مواضعه.

فأين اختيار المسلمين في هذا الأمر؟ وأين مشاورتهم في هذه البيعة، وليس لأحد أن يدعى خلاف ذلك، لأنه يدخل حينئذ في حيز العناد البحث والجهل الصرف بما وقع عليه أمر بيعة الرجل، فلم تكن بيعة أبي بكر واقعة باختيار المسلمين بالقطع واليقين، وإنما هي باختيار عمر وأبي عبيدة خاصة.

فإن قال قائل : إن اختيار الرجلين المذكورين ماض على جميع فليس لهم بعد اختيارهما اختيار.

قلنا له: أولاً : هذا رجوع عن القول بالاختيار ومناقض له وعدول إلى القول بالاختصاص ، ولابد من إبطالك أحد المتناقضين فابطل ما شئت منهما تخصم.

ويقال له ثانياً : فيلزمك الحكم بفسق من تخلف من عظماء الصحابة عن بيعة أبي بكر، ولم يعتد باختيار الرجلين،ولا جعله مؤثراً شيئاً حتى ألزم قوم منهم بالمبايعة على غير وجه جميل، كعلي(علیه السلام)ومن معه مثل العباس وبني هاشم، والزبير وسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار، وبقي جماعة على الإباء والامتناع كسعد ابن عبادة وتابعيه من حيث إنهم لم يجعلوا اختيار عمر وأبي عبيدة ماضياً عليهم،ولم يرضوا بمن اختاراه،قل ما شئت تخصم نفسك وتبطل مذهبك.

ص: 245


1- صحيح البخاري 8: 210 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، السنن الكبرى 272:4 ح 7151 ،الملل والنحل للشهرستاني 1: 30 الاقتصاد للشيخ الطوسي : 208 .

إن قلت : إن اختيار الرجلين غير ماض على المسلمين أبطلت تلك البيعة وطعنت في صحتها وعاقديها، وإن قلت: إن اختيار الرجلين ماض على المسلمين طعنت فيمن ردّه وأبطله وجعل وجوده كعدمه، فاختر أعزك اللّه من هذين

الوجهين ما تريد، يكن فيه إبطال مذهبك وتكذيب دعواك، هذه الحال في بيعة أبي بكر.

وأما خلافة عمر فإنها صدرت باختيار أبي بكر خاصة، ولم تكن بمشاورة غيره، وطلب فيها طلحة الشورى، وأباها هو وقوم معه أشدّ الإباء، وأزرى (1)على أبي بكر استخلافه عمر وخوفه من اللّه فى ذلك ، فجبهه أبو بكر وتنقصه بأن قال له: عمر خير الناس وأنت شرهم(2)، وتهدّده وتوعده بما هو عند مخالفينا مذكور في كتبهم مسطور ، وقد مر عليك ذكره.

فأين اختيار المسلمين في هذه البيعة ؟ بل هي أعظم من سابقتها اختصاصاً،ومن أين جاز لأبي بكر أن يجعل لعمر الخلافة من غير مشاورة المسلمين من أهل السابقة والعلم والدين من الصحابة، وهو يعلم أنها لا تصح إلا باختيارهم

كما قلتم ؟

وكيف زاد على ما فعل بإجبار من أبى عن بيعة عمر مع سبقه عليه إسلاماً وكونه أكثر منه جهاداً على طاعته، وكيف استحل عمر الولاية من جهة أبي بكر خاصة، مع عدم رضا جماعة من أعيان المسلمين، وهو القائل لأبي بكر - حين أقطع عيينة بن حصين والأقرع بن حابس أرضاً بعد ما استشار من حوله من

ص: 246


1- أزرى على فلان عاتبه وعابه ، أنظر تاج العروس 10: 163 .
2- شرح نهج البلاغة 1: 165.

المسلمين - : أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين أهي لك خاصة أم بين المسلمين ؟

قال : بل بين المسلمين قال : فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين ؟

قال: استشرت الذين حولى، فأشاروا بذلك .

فقال: أفكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا ؟

فقال أبو بكر: فقد كنت قلت لك:إنك أقوى على هذا الأمر منى لكنّك غلبتني(1)،وقد كان قبل أن يأتي أبا بكر ويسأله بما سمعت أخذ كتاب الأقطاع من الرجلين ثم تقل فيه فمحاه كما رواه أولياؤه من فعله.

فواعجباه من عمر يرة أقطاع أبي بكر لعيينة والأقرع أرضاً حربة مع رضى كثير من المسلمين بذلك لعدم رضى جميعهم ثم يتولى الخلافة بقول أبي بكر وعهده إليه مع عدم رضى جماعة من المسلمين مثل طلحة وأضرابه ، ولم يقل لأبي بكر لا أتولى بقولك حتّى توسع كل المسلمين عذراً ومشورة، وأين هو إذ ذاك عن كلامه الأوّل، وهو يعلم أن الخلافة باختيار المسلمين فأين الاختيار؟ وأين المشورة في خلافته ؟ وهل هي إلا فلتة كالأولى.

ثمّ البيعة الثالثة لعثمان مثلها، فإن عمر قصر الاختيار فيها في ستة، وأخرج جميع المسلمين منها ومن المشورة فيها، ثمّ أخرج منها خمسة وقصرها على رأي واحد، وهو عبد الرحمان بن عوف، وأبطل اختيار الباقين، وأمر بقتل من

ص: 247


1- تاريخ مدينة دمشق 1: 196 شرح نهج البلاغة 59:12،الإصابة في تمييز الصحابة638:4-6666/641،الدر المنثور للسيوطي252:3،كنز العمال 914:3.

خالف عبد الرحمان من الخمسة وغيرهم، وبقتل الستة جميعاً إن مضت ثلاثة أيام ولم يبايعوا الواحد منهم(1).

فأين اختيار المسلمين في ذلك ؟ وأين وقوع هذه البيعة باختيارهم، وإنما وقعت بخيرة عبد الرحمان خاصة، وكان جماعة من خيار الصحابة كعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود، وأمثال هذين - وسعد بن أبي وقاص في رواية - كلهم أشاروا على عبد الرحمان بمبايعة علي بن أبي طالب(علیه السلام)وترك مبايعة عثمان ، فلم يلتفت إلى قولهم، ولم يشر بمبايعة عثمان إلا رجل طليق من بني مخزوم(2) ممن لا تجوز مشاورة مثله في تمرة من بيت مال المسلمين، فضلاً عن الرئاسة العامة على الأمة .

فأين اختيار أهل الفضل من الصحابة لهذه البيعة ؟

وكلّ هذه الأمور معلومة لا يستطيع أحد إلى إنكارها سبيلاً، فاللازم على الخصوم إما القول ببطلان اختيار المسلمين في الإمامة، وإنها كالملك الجبري تكون لمن غلب ، كما هي حالها بعد الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وإما القول ببطلان إمامة الثلاثة لعدم وقوعها باختيار المسلمين كما عرفت أو الحكم بفسق كثير من الصحابة الطاعنين في تلك المبايعات والرادين لها، كما مر عليك بيانه مشروحاً في المقام،وإن كان مختصراً.

وكلّ ذلك لا يقول به الخصوم، فما أدري ماذا يقولون ؟ وبماذا يجيبون في هذه الإمامة التي صيّروها كلعبة الصبيان، يقولون : إنها باختيار المسلمين، ثم يعقدها

ص: 248


1- صحيح البخاري267:5،المناظرات :20 لمقاتل بن عطية كنز العمال 5: 732 ح 14248 و 14250 ، الطرائف لابن طاووس :451 الصراط المستقيم 1: 76 و 117.
2- أنظر شرح نهج البلاغة 1: 193 و 194.

لواحد آخر على رغم آناف المسلمين، فيا سبحان اللّه ! ما أشد مناقضة هذا الفعل لذلك القول !

ومن هذا يعلم أن الإمامة لا تصح بالاختيار، وأنها لم يلها أحد باختيار المسلمين من أئمة القوم بالمرّة، فلابد في صحتها وثبوتها من النص .

وقد تبين غاية التبين من جميع ما ذكرناه أن كل من ادعى الإمامة أو ادعيت له بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ما خلا عليّاً ليس بإمام ،حق وليست إمامته صحيحة لفقدانهم الشروط الواجبة في الإمام بالأدلة القاطعة والبراهين النيرة اللامعة ،من العصمة والقرابة والنصّ عليهم من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)والفضل، ولاسيما بالمعنى الثاني من معنييه(1)، وهو الجمع للصفات الحميدة ، لقصورهم عن كثير من الصحابة في ذلك، فضلاً عن أن يوازنوا فيها أمير المؤمنين،ولم يكن أحد منهم إماماً بالنص عليه من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)باتفاق الأمة وإقرار الخصوم. وإذا بطلت إمامة الكلّ ما خلا إمامنا عليّاً(علیه السلام)تعيّن أن يكون هو الإمام بالضرورة، لعدم جواز إمامة غيره وعدم جواز خلوّ الأرض من إمام، وذلك هوالمطلوب والمراد.

[كلام الرضا في وصف الإمامة والإمام ]

ولنختم هذا الفصل بإيراد حديث شريف في هذا المعنى رواه الشيخان الجليلان محمد بن يعقوب الكليني ومحمد بن علي بن بابويه القمي - واللفظ هنا لمحمّد بن يعقوب - قال قدس اللّه نفسه وطهر رمسه: أبو محمد القاسم بن

ص: 249


1- قد تقدم في أوّل المسألة الثانية أن للفضل معنيين أحدهما كثرة الثواب وثانيهما: الجمع للخصال الحميدة من العلم والحلم وغيرهما فراجع .

العلا رفعه ، عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا(علیه السلام)بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي(علیه السلام)- يعني الرضا - فأعلمته خوض الناس فيه.

فتبسم ثمّ قال: «يا عبد العزيز، جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يقبض نبيه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال اللّه عزّ وجلّ:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)(1)، وأنزل في حجة الوداع ، وهي آخر عمره (صلی اللّه علیه وآله وسلّم):(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً)(2)وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولو لم يمض (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حتّی بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم عليّاً(علیه السلام)عَلَماً وإماماً، وما ترك شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا بينه : فمن زعم أن اللّه عزّ وجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه ، ومن ردّ كتاب اللّه فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم ؟ إن الإمامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلا مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم.

إنّ الإمامة خص اللّه عزّوجلّ بها إبراهيم الخليل بعد النبوة، والحُلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها ، وأشاد(3)بها ذكره فقال : (إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إماماً )(4)فقال

ص: 250


1- الأنعام: 38 .
2- المائدة : 3 .
3- قال في مرآة العقول 380:2،الإشادة رفع الصوت بالشيء يقال: أشاده وأشاد به إذا أشاعه ورفع ذكره.
4- البقرة: 124 .

الخليل(علیه السلام)سروراً بها(وَمِنْ ذُرِّيَّنى)؟ قال اللّه تبارك وتعالى:(لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة(1).

ثم أكرمه اللّه تعالى بأن جعلها في ذريته، أهل الصفوة والطهارة فقال : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةٌ وَكُلَا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْل الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(2)فلم نزل في ذريته يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتى ورثها اللّه عزّ وجلّ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فقال جل وتعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(3)فكانت له خاصة فقلّدهاعليّاً(علیه السلام) بأمر اللّه عزّ وجلّ على رسم ما فرض اللّه، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم والإيمان بقوله جلّ وعلا:(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ)(4)فهي في ولد علي(علیه السلام) خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) فمن أين يختار هؤلاء الجهال ؟!

إنّ الإمامة هى منزلة الأنبياء ووراثة الأوصياء.

إنّ الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)و مقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين(علیه السلام).

إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين.

إن الإمامة أُسَ الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة

ص: 251


1- أي أهل الطهارة والعصمة.
2- الأنبياء: 72 و 73.
3- آل عمران: 68.
4- الروم: 56.

والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحلّ خلال اللّه ، ويحرم حرام اللّه، ويقيم حدود اللّه، ويذب عن دين اللّه ،ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة.

الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ولجج البحار(1).

الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدال على الهدى، والمنجي من الردى.

الإمام النار على اليفاع الحار لمن اصطلى به(2)، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك.

الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل(3)، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة.

الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد

ص: 252


1- قال في مرآة العقول384:2«والغيهب الظلمة وشدة السواد،والدجى بضم الدال الظلمة والإضافة بيانية للمبالغة، واستعير لظلمات الفتن والشكوك والشبه،والأجواز:الجوز وهو من كلّ شيء وسطه، والقفار جمع القفر وهي مفازة لا نبات فيها ولا ماء، والمراد هنا الخالية عن الهداية أو المراد بأجوازها ما بينها، ولجة الماء: معظمه».
2- قال في مرآة العقول 2: 386 «واليفاع ما ارتفع من الأرض والاصطلاء افتعال من الصلى بالنار وهو التسخن بها».
3- قال في مرآة العقول386:2«الهطل بالفتح والتحريك تتابع المطر وسيلانه أي المطر المتابع المتفرّق العظيم القطر».

الصغير، ومفزع العباد في الداهية الناد(1).

الإمام أمين اللّه في خلقه، وحجّته على عباده وخليفته في بلاده، والداعي إلى اللّه ، والذابَ عن حرم اللّه .

الإمام المطهر من الذنوب، والمبرّأ عن العيوب ،المخصوص بالعلم ،الموسوم بالحلم، نظام الدين ، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين.

الإمام واحد ،دهره لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضّل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره ؟! هيهات هيهات ضلت العقول،وتاهت الحلوم،وحارت الألباب، وخسنت العيون(2)،وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحضرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه ، لا كيف وأنّى، وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين،فأين الاختيار من هذا؟وأين العقول عن هذا؟وأين يوجد مثل هذا ؟ أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، كذبتهم واللّه أنفسهم، ومنتهم الأباطيل(3)فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم،

ص: 253


1- الناد على وزن سحاب بمعنى المصيبة العظيمة، وجاءت هنا وصفاً للداهية، والمراد هنا أن الإمام مفزع للعباد في المصائب العظيمة، وللتوضيح الأكثر ينظر تاج العروس 2: 508 .
2- أي كلت وتعبت وأعيت ، أنظر العين288:4، لسان العرب65:1.
3- أي أوقعت في أنفسهم الأماني الباطلة أو أضعفتهم كما في مرآة العقول 387:2.

راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلّا بعداً، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون ، ولقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً، وضلوا ضلالاً بعيداً، ووقعوا في الحيرة،إذ تركوا الإمام عن بصيرة وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهمعن السبيل وكانوا مستبصرين.

رغبوا عن اختيار اللّه واختيار رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وأهل بيته إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم(ورَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(1)وقال عز وجل:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(2) الآية،وقال:«مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابُ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانُ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صادِقِينَ)(3).

وقال عزّوجلّ:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا)(4)أم طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون ؟ أم قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ؟(إِنَّ شَرَّ الدَّوَاب عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(5)أم قالوا سمعنا وعصينا ؟ بل هو فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم.

ص: 254


1- القصص: 68.
2- الأحزاب: 36 .
3- القلم: 36 - 41 .
4- محمد : 24 .
5- الأنفال: 22 و 23 .

فكيف لهم باختيار الإمام والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل(1)، معدن القدس والطهارة ، والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، ونسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من قريش، والذروة من هاشم والعترة من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،والرضا من اللّه عز وجل.

شرف الأشراف، والفرع من عبد مناف، نامي العلم،كامل الحلم، مضطلع بالإمامة،عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه عزّ وجلّ ناصح لعباد اللّه ، حافظ لدين اللّه .

إن الأنبياء والأئمة صلوات اللّه عليهم يوفقهم اللّه ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله جلّ وتعالى:(أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(2)وقوله تبارك وتعالى:(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً )(3)وقوله في طالوت:(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(4).

وقال لنبيه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) :(وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظيماً)(5)وقال فى الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات اللّه عليهم:(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ

ص: 255


1- أي حافظ للأمة لا يضعف ولا يجبن كما في مرآة العقول394:2.
2- یونس :35 .
3- البقرة: 269 .
4- البقرة: 247 .
5- النساء : 113.

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكَاً عَظِيماً * فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدَ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً )(1).

وإن العبد إذا اختاره اللّه عزّ وجلّ لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يغي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيَّد موفق مسدَّد قد أمن من الخطايا والزلل والعثار،يخصّة اللّه بذلك ليكون حجّته على عباده، و شاهده على خلقه، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.

فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه ؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه ؟ تعدّوا-وبيت اللّه-الحقّ، ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، وفي كتاب اللّه الهدى والشفاء، فنبذوه واتبعوا أهواءهم، قدمهم اللّه ومقتهم وأتعسهم،فقال جل وتعالى:(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدَى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(2) وقال :(فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)(3)وقال:(كَبُرَ مقتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ فَلْبٍ مُتَكَبَرِ جَبَّارٍ)(4)وصلى اللّه على النبي محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً»(5).

تمام الخبر، وهو كما ترى قد اشتمل على المطالب الجليلة وصرّح بالفوائد الجزيلة، نسأل اللّه التوفيق لفهم معانيه والعمل على ما فيه إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.

ص: 256


1- النساء : 54 و 55 .
2- القصص : 50 .
3- محمد : 8 .
4- غافر: 35.
5- الكافي 1 : 198 ح 1 باب نادر جامع في فصل الإمام وصفاته، عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 195 ح 1 یاب ما جاء عن الرضا(علیه السلام) فى وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته .

الفصل الثاني في ذكر النصوص على الأئمة وهو يشتمل على مسائل :

المسألة الأولى:في إيراد النصوص على سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالإمامة

[النصوص الواردة في إمامته من الكتاب والسنة]

ص: 257

ص: 258

(1)

واعلم أن لأصحابنا في إثبات الإمامة لأمير المؤمنين(علیه السلام)بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بلا فصل ثلاثة طرق:

الأول:إبطال إمامة غيره ممن ادعيت له الإمامة بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لتثبت له الامامة بالضرورة.

الثاني: النصوص الواردة في إمامته من الكتاب والسنة النبوية.

الثالث: ظهور المعجز على يده مع دعواه الإمامة (2).

أما الطريق الأول فقد بيّناه في آخر الفصل الأول بما يكفي في البيان لأُولي الأذهان(3)، وسيأتى فى مطاوي هذا الفصل له مزيد تبيان إن شاء اللّه .

ص: 259


1- لا يخفى عليك أن عدل هذه المسألة سيأتي في ج 2 ص 177، وهو في النص على إمامة العترة المحمدية.
2- سيأتي في ج 2 ص 125 بقوله : ( وأما الطريق الثالث).
3- تقدم بيان ذلك ص 241.

وأما الطريق الثاني فنقول:إنّ الإمامية وجملة من فرق الشيعة متفقون على المنصوص عليه من اللّه ومن الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بالإمامة بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)هو علي بن طالب(علیه السلام)(1)فيكون هو الإمام بعده (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، إذ لا نص على غيره باتفاق الأمة، وزعم ابن أبي الحديد وشيوخه المعتزلة كالأشاعرة أنه لا نص على علي(علیه السلام)بالإمامة صريحاً يقطع العذر ويقيم الحجّة، وإنما كان هناك تلويح لا تصريح،وتعريض لا توضيح لا تثبت به الحجة القاطعة للمنازعة، وإنّما طلبها بالأفضلية والقرابة من الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)(2).

والأشاعرة قالوا بعدم النص على عليّ(علیه السلام)و أن أبا بكر أحق منه بالخلافة(3)،لأنه أفضل، وغير ذلك من خرافاتهم مما تصدّى قوم من أصحابنا لإبطاله وأبطلوه.

وستسمع في كلامنا إفساده بحول اللّه وقوته ، فلنجعل أصل المناظرة هنا مع ابن أبي الحديد، ونقتصر من النصوص على جملة ما رواه هو وصححه، أو ما روي في الكتب الصحيحة بزعمه.

[في بيان معنى النص ]

وقبل ذكر النصوص لابد من بيان معنى النص في هذا المقام، فنقول : المراد

ص: 260


1- شرح نهج البلاغة163:17،شرح مسلم للنووي205:12،كشف المراد: 497 المقصد الخامس في الإمامة، تذكرة الفقهاء398:9،المسألة 237 ،تحفة الأحوذي 397:6.
2- شرح المواقف354:8،شرح نهج البلاغة 12:6.
3- شرح المقاصد للتفتازاني 5: 259.

بالنص في هذا الموضع الأمر الدال على الإمامة بالصريح من فعل وقول؛ فالفعل مثل تأهيل النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)رجلاً لأمر لا يصلح ذلك الفعل إلّا له، مثل أن يعلم من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إنه لا يبلغ عنه الأمر الفلاني مثلاً إلا من كان صالحاً لأن يقوم مقامه،فيبعث رجلاً للتبليغ عنه، فإنّه يعلم بهذا الفعل أنه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أهله لمقامه من بعده، ورشّحه لخلافته، ويكون المخالف له راداً للنصّ وطاعناً فيه.

والقول ما أفاد معنى الإمامة إما بلفظها أو ما يقاربه في المعنى كلفظ الإمرة والإمارة وما شاكلهما، أو بلفظ الوصى والخليفة والوزير وشبهه، أو بلفظ الطاعة مثل أن يقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فلان إمام ،بعدي أو أميركم وشبههما، أو هو وصتي وخليفتي ، أو طاعته طاعتي أو هو وزيري، أو أن يقول : هو مثلي، أو تمسكوا به من بعدي ، أو هو وليكم، أو منزلته منّى منزلة فلان من فلان، ويشير إلى خليفة نبیّ.

فهذه الألفاظ كلها دالّة على الإمامة، فهي نصوص صريحة فيها من غير صم شيء إليها،داخلي أو خارجيّ.

ومثلها فلان وارثي فلان أحق بمقامي فلان أولى بي فلان المختار بعدي فلان سيّد أُمتي ، وقد يفيدها ألفاظ أخر كقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): فلان أحبكم إلى اللّه ، فلان أعلمكم،فلان أقربكم إلي ، فلان أشدّكم جهاداً أو أكثركم ، فلان لا يزال على الحق ، فلان خير أُمتي .

فهذه الألفاظ تدلّ على الإمامة بضم اشتراط العصمة والأفضلية والأعلمية والأقربية إلى الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الإمام : لا يعرف في النصّ على الإمامة لفظ أوضح من هذه المذكورات.

ص: 261

ومن طلب لذلك لفظاً أوضح منها أو مثلها في هذا الباب لم يجده، ومن شك فقد نازع مقتضی عقله، وأخرج اللفظ عن معناه، وصرفه في غير مؤداه.

وهذا لا يعجز عنه أحد من العارفين بفنون الكلام حتى في كلمتى الشهادتين«لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)»لكنه بدون قرينة صارفة عن الحقيقة عين العناد،ومنه يجيء الباطل والفساد،والمعاند لا يلتفت إليه.

وكيف يستفاد نص أبي بكر على عمر بالخلافة من قوله : إني عهدت إلى عمر ابن الخطاب(1)ويعرف منه استخلافه، ولا يعرف من قول النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لرجل مخصوص هو وصيّى النص عليه بالاستخلاف.

وكلا اللفظين بمعنى واحد ، فإنَّ«عهدت إلى فلان بمعنى أوصيت إليه ، كما نص عليه أهل اللغة(2)،فما ظنك بغيره من الألفاظ التي ذكرت مما هو أصرح منه ؟

وهل يجوز لعاقل أن يقول:أنا أفهم من قول أبي بكر«إني عهدت إلى عمر»أنه استخلفه،ولا أفهم من قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«علي وصيتي»أنه استخلفه،فكيف بقوله«علي إمامكم بعدي»،«علي خليفتي على أُمتي» إلى غير ذلك ذلك من الألفاظ الصريحة.

وهل يرتاب عاقل في إفادتها النص بالخلافة، وهو قد قطع بنص أبي بكر على عمر باللفظ المذكور إلا أن يسلك مسلك العناد الذي لا دواء له، نعوذ باللّه من طاعة الهوى ومتابعة من ضل وغوى.

ص: 262


1- مجموعة الوثائق السياسية للمعهد النبوي : 393 و 394، تاريخ الإسلام السياسي212:1،وانظر كتاب من حياة الخليفة عمر بن الخطاب لعبد الرحمن البكري .
2- غريب الحديث لابن سلام138:3،النهاية في غريب الحديث 3: 326،لسان العرب 311:3،مجمع البحرين369:3.
[ النص فعلى وقولى ]

فإذا تقرر ذلك وانتقش معناه في صحيفة قلبك، فاعلم أنه قد ورد عن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)النص على أمير المؤمنين بالإمامة بالفعل والقول،بتلك الألفاظ وما أدى معناها وغيرها مما يدركه المتتبع لكتب الأخبار وكتب الاستدلال في الإمامة.

[النص الفعلي على إمامة على(علیه السلام)]
[قصة تبليغ سورة براءة ]

فالفعل الصريح في النص منه أخذ النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)سورة براءة من أبي بكر وعزله عنها بعد أن بعثه بها ليقرأها في الموسم، وينفّذ حكمها نيابة عن الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وبعثه عليا(علیه السلام)بها لذلك مع قوله لأبي بكر لما سأله: أنزل في شيء ؟

قال:«لا، لكن لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل منّي»(1)والقضية معلومة لا شك فيها عند الأمة.

وهي كما كانت دالة على إمامة علي لأنه المبلغ عن رسول الله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلى الأمة، كذلك هي دالة على نفي صلاحية أبي بكر للإمامة ، لأنها ناصّة على أنه لا يصلح أن يبلغ عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعض آيات من سورة براءة إلى أهل مكة، ولم يرتضه اللّه لذلك ولم يجعله له أهلاً .

فكيف يرتضيه اللّه للرياسة العامة، وهي التبليغ عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)للأمة جميع

ص: 263


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل794:2و 795 و 1088 و 1090 ، تفسير الطبري 46:10 و 47 ذيل الآية الأولى من سورة براءة، مستدرك الحاكم51:3تفسير ابن كثير333:2، الدر المنثور209:3.

أحكام شريعته في الدماء والأموال والفروج وإنفاذها فيهم ، لأن الإمام هو المبلغ عن الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) أحكام الشريعة إلى أمته، والقائم بتنفيذها فيهم، لا معنى للإمامة غير هذا يقيناً، ومن لم يرتضه اللّه لتبليغ بعض الأحكام القليلة لأناس من الأمة عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، فبالأولى أنّ اللّه لا يرتضيه لتلك الرياسة العامة والمنزلة الجليلة.

ولما كان على(علیه السلام)هو المرتضى للتبليغ عن النبي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من دون تخصيص، وإن حاله في ذلك كحال الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فهو القائم مقامه في التبليغ إلى الأمة،كان هو الإمام المرتضى لتلك الرئاسة الكبرى.

والأمر في ذلك واضح لا يخفى على ذي حجي، فكيف على خصومنا، وهم من الفضلاء لولا ما وقع على أفهامهم من ظلمات الشبهات فحالت بينها وبين إبصار الأمور الظاهرة والحق الواضح.

ثم إن قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«أو رجل مني»إما أنه يريد أنه منه في قرابة النسب، فيكون ذلك حجّة لنا على ما نقول من أن الإمام يجب أن يكون من ذوي قربي الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،ومن لم يكن من ذوي قرابته لا يصلح لخلافته، ففي ذلك نص على إخراج أبي بكر من القرابة والإمامة.

وإن كان يريد أنّه منه في المتابعة كما قال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«سلمان منا أهل البيت»(1)و«المقداد قدمنا قداً»(2)و«عمار جلدة بين عيني»(3)فهو تصريح بأن أبا بكر لم يكن

ص: 264


1- المعجم الكبير221:5،المستدرك للحاكم598:3،مجمع الزوائد130:6،عيون أخبار الرضا(علیه السلام)1: 70 ح 282 ، الإيضاح للفضل بن شاذان: 282 ، تحف العقول: 52، الغارات 823:2.
2- في نهج الإيمان لابن جبر: 588 «المقداد قد مني قدأ».
3- اختيار معرفة الرجال129:1،الجمل للشيخ المفيد:50،نهج الإيمان:588،كشف اليقين للعلامة:160،منهاج الكرامة : 108 ، الدرجات الرفيعة: 260.

في باطن أمره تابعاً للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، لأنه لو كان كذلك لما عزله عن [تبليغ سورة ] براءة لأنه ليس منه ، ولو كان متبعاً له لكان منه يقيناً لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل:(فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنّي)(1)وإذا كان منه بالاتباع ثم يعزله عن ذلك الأمر بعلة عدم الاتباع كان الفعل مناقضاً للقول.

وحاشا أن يناقض فعل النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قوله؛فصح أن أبا بكر ليس متبعاً لرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في باطن الأمر، فأعظم بها مصيبة على المعتزلة والأشاعرة، إذ صح بصريح النص أن إمامهم خارج من تبعية الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وإنه لا يحب اللّه،ولا يحبه اللّه لقوله تعالى:(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )(2).

وحيث كان خارجاً من تبعية الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كان خارجا من محبة اللّه بصريح الآية،ويكون المخصوص بتبعية الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وبمحبة اللّه تعالى والمرتضى للتبليغ عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وهو إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام).

فهو الإمام المرتضى بنص اللّه القاطع ونص رسوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)المثبت للحجة،والمزيل للأعذارالواهية ،فإنّه على كلا التقديرين في معنى«مني»يوجب خروج بكر عن صلاحيته للإمامة كما سمعت ، فأي نص يريد ابن أبي الحديد إمامة علىّ(علیه السلام)أصرح من هذا النص الصريح.

ولعمري إن هذه القصة المتفق عليها كافية فى النص على أمير المؤمنين(علیه السلام)،ونفي إمامة غيره عند أولي الألباب،ولا يحتاجون في ذلك إلى غيرها،وإن كان موجوداً قد طبق الآفاق .

ص: 265


1- إبراهيم: 36.
2- آل عمران: 31.
[شبهة ودفع ]

والاعتذار في هذا بأن عادة العرب إذا عقدوا بينهم عقداً وعهداً لا يقوم بتبليغ إلى المعاهدين إلا العاقد أو من هو قريب منه في النسب ، كالأخ وابن العم فجرى الأمر في براءة على قاعدة العرب فلم يكن فيه دلالة على إثبات مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لعلي مطلقاً ونفي أبي بكر عن صلاحيته له مطلقاً، كما قاله المعتزلة والأشاعرة ؛ اعتذار واهنّ، وتعلّق بما لا ينفع كتعلق الغريق بالحشيش، ودفع للنص بالتشبيهات الركيكة.

لأنا نقول لهم : أولاً إنكم علمتم أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لا يعمل في أمر الدين والدنيا وتقديم أحد أو تأخيره بعادات العرب أهل الجاهلية،ولا يعتمد عليها،ولم يأمره اللّه بذلك،بل نهاه في كثير من الآيات عن ذلك،مثل قوله تعالی:﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا)(1)،وقوله تعالى:(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(2)وغير ذلك، وإنّما اعتماده في كل الأشياء على قواعد دين اللّه دون قواعد الجاهلية وعاداتها.

كيف لا واللّه تعالى يقول في حقه:(وما ينطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيَّ يُوحَىٰ)(3)فأبطلت هذه الآية وما قبلها ما ادعاه الخصوم، من كون عزل شيخهم عن براءة وبعث علي(علیه السلام) بها جارياً على عادات العرب وأثبتت أنه البيان استحقاق مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و عدم استحقاقه على أبين وجه.

ص: 266


1- الكهف: 28.
2- الجانية : 18.
3- النجم : 3 و 4.

وأيضاً: لو كان النبى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في ذلك مراعياً لعادات العرب لبعث ببراءة من أوّل الأمر رجلاً من أقاربه كعلى(علیه السلام)أو عمه العباس أو عقيل أو غيرهم من بني هاشم،فإنهم كانوا معه في المدينة ،وهو(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عالم بعادات العرب ولم يبعث أبا بكر بها.

ثمّ كيف يعقل أن اللّه يأمر نبيه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بأن يجري على عادات أهل الجاهلية، وهو قد بعثه لإزالتها وإماتتها بدين حنيفي وملة إسلامية لا يقبل اللّه سواها، وقد قال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):إنّ اللّه أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بأنسابها»(1)وهو معلوم من قوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لا ريبة فيه،وقال اللّه-جلّ وعلا- مخاطباً له:(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن ربِّكَ)(2)ولم يقل اتبع عادات العرب.

وبعد:فأي نبي بعثه اللّه باتباع عادات الكفرة وأهل الجاهلية حتى يكون سيد الرسل(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) كذلك ، فنسبة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلى العمل بعادات أهل الجاهلية ونسبة اللّه إلى أمره نبيه بذلك نسبة قبيحة مخالفة للعقل والنقل من الكتاب والسنة توجب الخروج من الدين والبعد من الملة الإسلامية، لا يجوز لمسلم أن يدعيها ولا يجترئ مؤمن على اعتقادها لمخالفتها الكتاب والسنة وضرورة العقل لكن ذلك ليس بكثير على الخصوم في تصحيح إمامة شيخهم.

وحيث بطل ما ادعوا صح أن القصة دالة على ما ذكرناه من بيان مستحق مقام النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و من لا يستحق دون ما ذكروه لبطلانه بالأدلة القطعية.

ص: 267


1- الكافی 340:5ح 1 باب أن المؤمن كفو المؤمنة وج 8: 246 ج 342، السرائر619:3، دعائم الإسلام199:2- 729، تحف العقول: 340 بحار الأنوار137:21، الدر المنثور 6: 98، البداية والنهاية344:4،تاريخ ابن خلدون45:2القسم الثاني.
2- الأحزاب:2.

ونقول لهم ثانياً : إذا كان بعث النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) علياً(علیه السلام)ببراءة وعزله أبا بكر عنها كان جارياً على عادة العرب، لأن عادتهم جرت بأن إبلاغ العهود لا يكون إلا للعاقد أو أحد من أقاربه كما قلتم وجب أن تجري الإمامة ذلك المجرى، فإن العرب قد جرت عادتهم واستقرت بأن مقام الرجل الشريف من بعد موته يكون لأقرب

الناس إليه، لاسيما من يقوم مقامه في حياته من ذوي قرابته، ولم تجر عادتهم بإعطاء مقامه الأباعد، فوجب أن يكون الإمام بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عليا(علیه السلام)دون أبي بكر على عادة العرب، لأنه أقامه مقامه في حياته، وهو أقرب الناس إليه .

لذلك أن يكون تخصيص اللّه ورسوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)علياً بتبليغ براءة نصاً منهما على أن علياً(علیه السلام)هو القائم مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعد وفاته دون باقي أقاربه لإقامته إياه مقامه في حياته، فلا ينازعه أحد من أقارب النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

وأما أبو بكر فإنه خارج بعادة العرب عن خلافة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على كل حال، فما خرجت القصة على دعواكم عن كونها نصاً على استخلاف أمير المؤمنين(علیه السلام)بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) بلا فصل وعدم صلاحية شيخكم لذلك المنصب، وليس في ذلك خفاء.

ودعوى القوشجي في شرح التجريد - أنّ النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يدفع براءة إلى أبي بكر ثم عزله عنها بعلىّ(علیه السلام)،وإنما بعثه أميراً على الموسم وأردفه بعلي(علیه السلام)ليقرأ براءة(1)-كذب مفتر وبهتان صريح مخالف لما شاع وذاع، وتواتر في القصة بين المفسرين وأهل السيرة، واستفاض في روايات محدثيهم، ولسنا نشك أنه كلام مختلق موضوع .

ص: 268


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 8 السطر 16.

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى شهرة القصة ما سيأتي من احتجاج عبد اللّه بن عبّاس على عمر بن الخطاب في تفضيل علىّ(علیه السلام)على أبي بكر بعزله عن براءة بعلىّ(1)(علیه السلام)فلم ينكره عمر ولا ادعى خلافه.

على أن اختلاقهم وكذبهم لا يدفع حجّتنا لأنا نقول على هذه الدعوى: إنّ أبا بكر لا يصلح للتبليغ عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)شيئاً من الأحكام، ولو صلح لذلك لأعطاه براءة وأمره بتبليغها.

وإذا لم يصلح لأن يبلغ عنه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حياته بعض الأحكام إلى قوم خاصين من الأمة لم يصلح بالضرورة للقيام مقام النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعد وفاته في تبليغ جميع الأحكام لكلّ الأُمّة، فلا فرق في ذلك بين عدم تأميره عليها من أول الأمر، وبين عدم إقراره عليها بعد التأمير لإفادة الأمرين معنى واحداً-كما عرفت-وما توهمه القوشجي من الفرق بين الحالين تجاهل وتغافل .

وأما ابن أبي الحديد فعنده كغيره منهم أن عزل أبي بكر عن براءة ثابت كالشمس المنيرة صرح به في كتبه وأشعاره(2).

وعلى كل حال يكون إعطاء النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)علياً(علیه السلام)براءة إن كان من أول الأمر وإن كان بعد عزل أبي بكر عنها إعلاماً للناس وإفهاماً لهم أنه لا يصلح للتبليغ عنه

ص: 269


1- شرح نهج البلاغة 6: 45 وج 46:12.
2- شرح نهج البلاغة200:17،وأشعاره مجموعة في كتاب الروضة المختارة ( الهاشميات والعلويات) وتذكر منها بيتين يمدح بهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام)التعريضاً لأبي بكر: ولا كان معزولاً غداة براءة***ولا عن صلاة أم فيها مؤخراً ولا كان في بعث ابن زيد مؤمراً***عليه فأضحى لابن زيد مؤمراً الهاشميات والعلويات: 108 .

أحكام الشريعة وعهود المعاهدين غيره،فهو القائم مقامه في حياته،فيجب أن يكون خليفته بعده،والمؤدي عنه لأمته .

وهو المطلوب، وهذا بحمد اللّه واضح، لكن المتجاهل عن الحق المقلد الأسلافه في الباطل لا حيلة فيه.

[النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يؤمر على علىّ أحداً ]

ومن الفعل الصريح الناص على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)وأنه لا يجوز أن يتقدم عليه في الإمامة أحد بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنّ النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أمر الأمراء من أصحابه على غير علي(علیه السلام)،ولم يؤمر عليه أحداً،فما خرج المؤمنين(علیه السلام)في جيش،ورسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ليس في ذلك الجيش إلا وعلى هذا هو الأمير على الجيش، ولا بعثه النبي اللّه إلى بلد إلا وهو أمير على من بها من الصحابة وغيرهم، ولا خلفه في المدينة إلا وهو خليفته فيها، وهذا أمر معلوم، لا يشك فيه عاقل.

وقد روى ابن أبي الحديد عن الواقدي قال : سُئل الحسن - يعني البصري - عن علي(علیه السلام)- وكان يظن به الانحراف عنه،ولم يكن كما يظن-فقال:ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع : ايتمانه على براءة،وما قال له في غزاة تبوك،فلو كان غير النبوّة شيء لاستثناه،وقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): «الثقلان كتاب اللّه وعترتي»، وأنه لم يؤمر عليه أمير قط،وأمرت الأمراء على غيره انتهى(1).

ومن هذا يعلم أن دعوى القوشجي تأمير أبي بكرعلى علي(علیه السلام)ليوم بعثه ببراءة(2)باطلة،كسائر دعاويه المزخرفة الفاسدة التي لا تحتاج في بطلانها إلى إكثار القول ونقل الحجج .

ص: 270


1- شرح نهج البلاغة95:4،وانظر الملل والنحل للشهرستاني 144:1.
2- أنظر شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 8 السطر 18.

ويعلم منه أيضاً بطلان دعوى ابن أبي الحديد أنه لم يرو عزل أبي بكر عن إمارة الموسم إلّا الشيعة ، فإن روايته المذكورة عن الواقدي عن الحسن مصرّحة (1)بأن علياً(علیه السلام)لم يؤمر عليه أحد قط ، فلو كان أبو بكر أمير الموسم وعلي فيه لكان أبو بكر أميراً عليه، وحصل التناقض في القول، وابن أبي الحديد مصدق لقول الحسن غير طاعن فيه .

فإثباته لرواية محدّثيهم زعم إمارة أبي بكر على الموسم، وطعنه في رواية عزله عنه ونسبتها إلى الشيعة خاصة مناقضة في قوليه، إما لجهل أو تجاهل .

وعلى هذا فتكون رواية الشيعة أرجح لأن مثل الحسن والواقدي وأمثالهما من العامة قد وافقهم، والثانية باطلة مردودة لاختصاص جماعة منهم بها، وصح من ذلك كلّه أن علياً(علیه السلام)لم يؤمر عليه أحد من الصحابة في حال من الأحوال.

وتقرير النص من هذا الفعل أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حيث لم يؤمر على عليّ(علیه السلام) أحداً دل ذلك من فعله أنه لا يجوز أن يتأمر على على(علیه السلام)أحدٌ من الصحابة، وأنه يجوز التأمر عليهم ، وإذا لم يصح أن يتأمر عليه أحد من الأمة في زمان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يصح ذلك لأحد بعد موت النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) ، إذ لا فرق بين الحالين.

وإذا لم يجز لأحد التأمر على علي(علیه السلام)في حال من الأحوال وجب أن يكون هو أمير الأمة بعد الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فهو الإمام لا محالة بعده،ولا يجوز لأحد التقدّم عليه، إذ ليس إلا أمير مطاع أو مأمور مطيع، كما رووه عنه، وما سواهما خارج من الملة(2).

ص: 271


1- شرح نهج البلاغة199:17.
2- أي أن الإمامة إما أمير أو مأمور، وما عداهما خارج عن الأمة.

ولما كان غيره كأبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وأضرابهم ممن أمر عليهم رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) غيرهم كان ذلك دالاً على جواز تقدم الغير عليهم، فلا يكونون أئمة.

وهذا الفعل كسابقه نص على إمامة علي(علیه السلام)،كما هو نص على عدم صلاحية غيره للإمامة، لدلالته على عدم جواز تقدّم الغير عليه، ففيه وفي سابقه الكفاية في النصّ لابن أبي الحديد لو كان يعقل وينصف.

اللهمّ إلّا أن يريد منّا نصّاً مثل النص الذي أراده أهل مكة من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في قولهم:(أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)(1)فيقول لنا: جيئونا بالنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) لنشاهده ويقول لنا : أنا فعلت ذلك لأعلم الناس أن علياً(علیه السلام)هو الإمام بعدي والقائم مقامي ، وأن الإمامة لا تجوز لغيره، وإنّي بذلك الفعل قد نصصت عليه، فحينئذ نقر بالعجز عن هذا ونقول : إنّما علينا أن نأتيكم من فعل النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بدليل وشاهد ونقيم عليكم حجة من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) ، ويكون جوابنا هنا لهم شبيهاً بجواب النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) لأولئك المقترحين عليه، وهو قوله تعالى:(قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً )(2).

وليت شعري كيف يفهم عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسى استخلاف رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) لأبي بكر من أمره له بالصلاة كما ذكره عنه ابن أبي الحديدا(3)وغيره، ويفهم عمر رضا رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بأبي بكر لدينهم وتقديمه عليهم من ذلك(4)، كما هو مشهور من قوله ولا يفهم من ذينك الفعلين الواضحين إرادة اللّه

ص: 272


1- الإسراء: 92 .
2- الإسراء : 93 .
3- شرح نهج البلاغة 6: 19.
4- شرح نهج البلاغة 39:6.

ورسوله استخلاف علي وتقديمه ؟ ما هذا إلا تحيّر في المعلومات ، وشكٍّ في الواضحات، وذلك من أعظم الغفلات، نسأل اللّه العصمة عن طاعة الهوى.

أن الصلاة لا يشترط عندهم فى إمامها العدالة فضلاً عن الأفضلية(1)، فلو صح أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أمره بالصلاة لم يفد على قولهم عدالته، فكيف يفيد أفضليته وخلافته، وأنى ودون صحته خرط القتاد.

وكيف يصح وأمير المؤمنين ينكره ويقول : إن الأمر صدر من عايشة - كما رواه ابن أبي الحديد(2)- وقد صح عنده أن علياً مع الحق والحق معه(3)،فما ينكره علي لا يكون حقاً، فأمر أبي بكر بالصلاة غير صادر عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قطعاً،بخلاف الأمرين المذكورين الثابتين من فعل رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعلى(علیه السلام) لأنهما لا يحتملان إلا إرادة التقديم على الغير والاستخلاف كما بيناه ودفعنا عنه تعليلات القوم العليلة.

ص: 273


1- المحلى بالآثار لابن حزم الأندلسي 2: 127 کتاب الصلاة مسألة : 488 .
2- شرح نهج البلاغة 197:9.
3- شرح نهج البلاغة 2: 297 .
[النص القولي على إمامة علىّ(علیه السلام)]
[علىّ إمام البررة وراية الهدى ]

وأما القول فالوارد منه بلفظ الإمامة جملة من الأخبار عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) منه قوله : علىٌّ إمام البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.رواه الحاكم بسنده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري(1)، وهو ممن لا يقدح الخصوم في روايته لأنه من أكابر محدّثيهم.

ومنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي نعيم الحافظ الاصفهاني في حلية الأولياء عن أنس بن مالك في حديث قال فيه له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم): «أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين، وسيّد المسلمين، ويعسوب الدين وخاتم الوصيين، و قائد الغر المحجلين».

قال أنس: فقلت : اللهم اجعله رجلاً من الأنصار وكتمت دعوتي، فجاء على(علیه السلام)، فقال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«من جاء يا أنس ؟».

فقلت : عليّ ، فقام إليه مستبشراً فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه.

فقال عليّ(علیه السلام) : يا رسول اللّه، لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئاً ما صنعته قبل ؟!

قال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) :«وما يمنعني وأنت تؤدّي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي»(2).

ص: 274


1- المستدرك للحاكم 3: 129، المناقب للخوارزمي : 200 ، الجامع الصغير 2: 177، كنز العمال 11: 602 ح 32909 ، فيض القدير469:4ح 5591 .
2- شرح نهج البلاغة169:9،حلية الأولياء63:1،ورواه الحاكم في المستدرك 3: 129 وقال ذيله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وهذا الحديث دال على أن المؤدي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)المبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعده هو صاحب الأوصاف المتقدمة في صدر الحديث من كونه إمام المتقين إلى آخرها، وهو المستحق لها دون من سواه ممن لا يصلح للأداء عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)تسع آيات من سورة براءة.

ومنه ما رواه عنه في الكتاب المذكور عن أبي بردة الأسلمي أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قال:«إن اللّه عهد إلي في علي عهداً، فقلت: يا رب بينه لي .

قال : اسمع إن عليّاً راية الهدى وإمام أوليائي ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه فقد أحبني ومن أطاعه فقد أطاعني فبشره بذلك.

فقلت : بشرته يا رب.

فقال: أنا عبد اللّه وفي قبضته؛ فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئاً، وإن يتم لي ما وعدني فهو أولى ، وقد دعوت له فقلت: اللهمّ اجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان بك.

قال : قد فعلت ذلك غير أنّي مختصه بشيء من البلاء لم أختص به أحداً من أوليائي.

فقلت: ربّ، أخي وصاحبي.

قال : إنه سبق في علمي أنه لمبتلى ومبتلى به»(1).

وبإسناد آخر بلفظ آخر فى الكتاب المذكور عن أنس بن مالك عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«إنّ ربّ العالمين عهد في علي(علیه السلام)إلي عهداً أنه راية الهدى ومنار الإيمان وإمام

ص: 275


1- شرح نهج البلاغة 9: 167 ، حلية الأولياء 66:1 .

أوليائي، ونور جميع من أطاعني، إن علياً أميني غداً يوم القيامة، وصاحب رايتي، بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي»(1).

وفي الكتاب المذكور: قال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) :«مرحباً بسيد المؤمنين وإمام المتقين. فقيل لعلي(علیه السلام): كيف شكرك ؟»

فقال : أحمد اللّه على ما آتاني ، وأسأله الشكر على ما أولاني، وأن يزيدني مما أعطانى (2).

وقال ابن أبي الحديد :روى ابن ديزيل قال : حدثنا يحيى بن زكريا(3)قال: حدّثنا عليّ بن القاسم، عن سعيد بن طارق، عن عثمان بن القاسم، عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«ألا أدلكم على ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا ؟ إن وليكم اللّه ، وإمامكم علي بن أبي طالب، فناصحوه وصدقوه، فإن جبرئيل أخبرني بذلك»(4).

فهذه الأحاديث الصحيحة عند الخصم كلّها ناضة على على(علیه السلام)بالإمامة ،ومصرّحة بأنه إمام البررة وإمام المتقين، وإمام الأولياء وإمام الصحابة، كما هو نص حديث زيد بن أرقم وصريحها أن من كان من المتقين البررة وأولياء اللّه وأصحاب الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فإمامه علي(علیه السلام)، ومن لم يكن إمامه علياً (علیه السلام)فليس من المتقين البررة، ولا من الأولياء، ولا من الصحابة ،بل هو خارج عن هذه المراتب الشريفة وداخل فى أضدادها.

ص: 276


1- شرح نهج البلاغة168:9، حلية الأولياء 66:1.
2- شرح نهج البلاغة170:9، حلية الأولياء 66:1.
3- في الحجرية ( زكريا بن يحيى ).
4- شرح نهج البلاغة98:3.

فإن كان أبو بكر وأصحابه من بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) انتموا بعلي(علیه السلام)وناصحوه وصدقوه كانوا هم الصحابة المتقين البررة الأولياء، وإذا لم يأتموا به، بل تقدموا عليه وجب أن تثبت لهم أضداد تلك الأوصاف، فيكونون فجرة فسّاقاً أعداء للّه ، بعيدين من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) ، فكيف تجوز لهم الإمامة وقد جعلهم اللّه ورسوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مأمومين إن كانوا متقين .

فأيّ نصّ أوضح من هذه النصوص على ما تدعيه من إمامة أمير المؤمنين علي(علیه السلام)بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) ؟ وأي صريح أصرح منها في ذلك.

ويعجبني من ابن أبي الحديد قوله بعد نقله حديث زيد بن أرقم : فإن قلت : هذا نص صريح في الإمامة، فما الذي تصنع المعتزلة بذلك ؟

قلت: يجوز أن يريد به إنّه إمامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية لا في الخلافة، انتهى(1).

وهذا الجواب - مع أنه صرف اللفظ عن معناه وعدول به عن نصّه من غير سبب داع إلى ، داع إلى ذلك كما في عادة هؤلاء القوم فيكون فاسداً-لا يدفع ما نقوله ولا يردّ ما ندعيه،لأن دعوانا إنّما هو وجود النص من اللّه ومن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) على علىّ(علیه السلام) بالإمامة الذي كان ابن أبي الحديد وأصحابه ينكره، وكذلك إخوانهم من الأشاعرة ومضاهوهم ينكرونه، وها هو موجود كما ندعي، فتثبت مدعانا وبطل إنكارهم.

ولسنا ندعي عليه وعلى أصحابه وأمثالهم أنهم يقفون على النص، ولا يتعدونه ولا يخرجونه عن معناه بآرائهم، ولسنا ننكر منهم تحريفهم الكلم عن مواضعه

ص: 277


1- شرح نهج البلاغة 3: 98 .

بل نقر لهم بأنّه المعروف من سيرتهم، والمعلوم من طريقتهم، لكنه عين العصبية والعناد المنهى عنه في الدين.

ثمّ يقال لابن أبي الحديد:جميع أهل العلم لا يعرفون من معنى الإمام الشرعي إلا الرئيس العام على الأمة في إنفاذ الأحكام الشرعية، ولا يعرف الصحابة من لفظ الإمام إذا أُطلق إلا هذا المعنى، كما بيّناه سابقاً، وهذا هو الخليفة البنّة، وليسوا يعرفون من معنى الإمامة الشرعية إلا الرياسة العامة في أحكام الدين على سائر المكلفين، وتلك هى الخلافة عن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لا محالة .

وتسمية المفتي إماماً إنما هو اصطلاح حدث بعد مضي أكثر من خمسمائة سنة من الهجرة، بسبب ذكره بعض الشافعية في كلام طويل، ولم يكن قبل ذلك معروفاً ، فلا يصح حمل الإمام في الأحاديث النبوية عليه يقيناً، وقد أوضحنا فيما سبق أن الإمام العام هو العالم بأحكام الدين، وموضحها للمكلفين، ومن سواه ليس بإمام عام، على أن لفظ الخبر، وهو قوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا»(1)أي توافقتم.

ثم إن إتيانه بلفظ «الإمام» بعد قوله«إن وليكم اللّه»لا يحتمل إلا إرادة الرئيس العام لا غيره،ويزيده وضوحاً قوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«فنا صحوه وصدقوه»إذ المناصحة لا محصل لها ولا موقع - خصوصاً إذا كانت مطلوبة من جميع الناس، كما هو صريح اللفظ - إلا للإمام العام الذي هو الخليفة.

ويؤكده زيادة أيضاً قوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) : «فإن جبرئيل أخبرني بذلك»،فإنه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قصد بهذا القول إخبارهم بأن نصه على عليّ(علیه السلام) بالإمامة يوحي من اللّه إليه، لا من قبل

ص: 278


1- أنظر شرح نهج البلاغة98:3.

نفسه، وليس يحتاج إلى بيان هذا إلا إذا كان المقصود من الإمامة المعنى المطلق، لا معنى خاصاً، وهذا ظاهر لكل ذي فهم.

وأما الإمامة بمعنى الرياسة فى غير الأحكام الشرعية التي هي أحكام الدين فغير معروفة عند أحد من الصحابة ولا من الفقهاء والمتكلمين بأنها إمامة شرعية، وإنها خلافة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وإنما تعرف بأنها ملك جبري وسلطان جوري.

فإذا أقررت بأن علياً هو الإمام في أحكام الدين بنص الخبر لزمك الإقرار بأنه خليفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، إذ لا خلافة في الشرع غير الإمامة في أحكام الدين،ولزمك إذ جعلت أبا بكر خليفة في غير الأحكام الشرعية الإقرار بأنه ليس بإمام من أئمة الدين،فهو غير واجب الطاعة على المكلفين،ولا لازم المناصحة على المؤمنين،فليس بإمام شرعي ، فلا يكون خليفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لأن الخلافة هی الأمامة العامة في الدين والأحكام الشرعية، بل هو سلطان جائر دنيوي .

فما زدت بجوابك على أن أثبت إمامة صاحبنا وأوضحت النص عليها وأخرجت صاحبك من الإمامة الشرعية، وأدخلته في الرياسة الدنيوية لا الدينية، و جعلته كکسری و قیصر ، وذلك هو مطلبنا الأهم، وغرضنا المقدّم، والذي كنا تناضل الفرق المخالفة عليه، إذ لسنا نزيد في القول على أن أبا بكر ليس بإمام في أحكام الدين تجب طاعته والاقتداء به فيها، وأن الإمام في ذلك كله هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام).

ولسنا نقول: إن أبا بكر لم يترأس على المسلمين ظلماً واغتصاباً، وصريح قولك الاعتراف بدلالة الخبر على قولنا ، وذلك هو المراد، فكأنك بما قلت قد قلدت جيد مذهبنا قلائد النور، وخلعت على قولنا خلع السرور.

ص: 279

ثمّ يقال له أيضاً: ألست حكمت بما قلت بأن علياً (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إمام أبي بكر في الأحكام الشرعية ، كما هو إمام غيره من الصحابة فيها، وأن أبا بكر إمام علي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لأنه الخليفة ، فحينئذٍ يكون كل من على وأبى بكر إماماً ومأموماً في حال واحدة، كل منهما واجب الطاعة على الثاني .

وهل سمعت أو رأيت رجلاً إماماً لغيره في حال، وذلك الغير إمام لذلك الرجل في تلك الحال ؟

وهل وجد ذلك في شرايع النبيين أو عقل عند ذوي العقول المنصفين ؟

كلّا، بل هذا تناقض لا تجوّز العقول حصوله وتضادّ لا تحتمل جميعه، لأن اجتماع المتضادين وائتلاف المتناقضين مما يمتنع في العقل، ولا يعرفه أهل العلم والفضل فيكون القول المستلزم له باطلاً، فيجب أن يكون الإمام في الأحكام الشرعية لجميع المسلمين هو الخليفة للرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، لئلا يلزم التناقض والتضاد اللذان لا يجوزان عقلاً ولا شرعاً.

ثمّ نقول له أيضاً : إنك حيث قلت : إن عليّاً إمام الصحابة في الفتاوى والأحكام الشرعية، والإمام هو الذي يجب على المأمومين الاقتداء به، ولا يجوز لهم مخالفته، فأخبرنا عن إمامك أبي بكر، هل أخذ في إبطال دعوى فاطمة بنت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في فدك بفتوى إمامه علي(علیه السلام)في الأحكام أم بخلاف فتواه ؟

وكذلك في ردّه شهادته لفاطمة، وفي منعها ميراثها(1)، وفي درءه الحد عن

ص: 280


1- فتوح البلدان 1: 113/35 السقيفة وقدك للجوهري : 105 ، هذا وقد كتب في قضية فدك كتباً كثيرة منها فدك في التاريخ للسيد محمد باقر الصدر، ومنها كتاب أحاديث فدك الفريقين لمحمد حياة الأنصاري، وغيرها .

خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة،وزني بامرأته(1)وإحراقه الفجاءة السلمي(2)، وإسقاطه سهم أولي القربى من الخمس(3)، وتخلفه عن جيش أسامة(4)ورده عمر من الجيش وغير ذلك من فعلاته(5).

هل أخذ بفتوى إمامه على(علیه السلام) فى جميعها أم بغير فتواه ؟

فإن قال: أخذ أبو بكر فى ذلك كله بفتوى على (علیه السلام)فقد أبطل وأحال وادعى ما لا يعرف وما يكذبه فيه كل أحد.

وإن قال : أخذ أبو بكر فى ذلك وغيره بغير فتوى على(علیه السلام)، بل بضدّها كما هو المعلوم بين الأمة فيلزمه أحد الأمرين : إما إثبات المعصية لأبي بكر لمخالفته فتوى إمامه في الفتوى، أو إخراج علي (علیه السلام)من الإمامة في الفتاوى والأحكام الشرعية التي اعترف بصراحة الخبر فيها، فيكون قد كذب الخبر الصحيح عنده ، وأبطل ما حکم به فليختر عزّ الدین عبد الحميد من هذين الوجهين ما يريد يكفه في مناقضة نفسه ، وإبطال مذهبه وجرأته على أئمته.

فتبين لك من هذه الجملة الوافرة عصمة تلك الأخبار الصريحة عن التأويل،وامتناعها عن القال فيها والقيل، وبها يتحقق النصّ على إمامة أمير المؤمنين علي(علیه السلام) ويبطل ما قاله ابن أبي الحديد.

ص: 281


1- تاريخ اليعقوبي 131:2و 132 ، الكامل في التاريخ358:2.
2- تاريخ اليعقوبي134:2و 137.
3- أنظر بدایع الصنایع124:7 و125.
4- تاريخ اليعقوبي 113:2،الكامل في التاريخ 3 : 317 .
5- وللإطلاع على اجتهادات أبي بكر يراجع كتاب النص والاجتهاد للسيد شرف الدين: 21 - 122 الفصل الأول في بعض المأثور عن أبي بكر.
[سكوت الإمام عن الخلافة وردّ ذلك ]

وأعجب من قوله الأوّل قوله بعده:وأيضاً فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله أن الإمامة كانت لعلی(علیه السلام)إن رغب فيها ونازع عليها، وإن أقرها فى غيره وسكت عنها تولّينا ذلك الغير، وقلنا بصحة خلافته، وأمير المؤمنين لم ينازع الأئمة الثلاثة، ولا جرد السيف، ولا استنجد بالناس عليهم، إلى آخر ما قال ممّا معناه لو أن أمير المؤمنين(علیه السلام) فعل ذلك لحكم هو وأصحابه على الثلاثة بالهلاك(1)، وفي هذا الكلام من الوهن ما لا يخفى، وهو من وجوه الوجه :

[الوجه]الأول : حكمه عليهم بالهلاك لو نازعهم علي(علیه السلام)، وهذا يناقض القول بصحة إمامتهم بعد البيعة لهم، كما يقوله هو وأصحابه، لأن إمام الحق لا يجوز قتاله ولا منازعته، ولا تجريد السيف في وجهه، بل لا تجوز مخالفته في أمره ونهيه ،وإذا كانت إمامة الثلاثة صحتها موقوفة على رضاه لم يجز لهم عقدها قبل حضوره ومشاورته، فإن رغب فيها سلّموها له، وإن رضي بغيره عقدوها لذلك الغير.

وشيء من ذلك لم يكن،فإنّه(علیه السلام)لم يشاور في واحدة من البيعات الثلاثة البتة بالاتفاق،وتصحيح هذا الخصم، فإن عمر قد عقدها لأبي بكر في السقيفة، وعلي غیر حاضر ولا مشاور .

ولازم قول المعتزلي أن بيعة أبي بكر في السقيفة غير صحيحة لعدم مشاورة أمير المؤمنين، فإلزامه الناس بمبايعته بعد خروجه من السقيفة ظلم وعدوان،وعقدها أبو بكر لعمر ولم يشاور عليّاً(علیه السلام)،وعقدها عبد الرحمان بن عوف لعثمان بوصية من عمر، وعلىّ(علیه السلام)كاره.

وكل ذلك معلوم لا نزاع فيه فتقع إمامة الثلاثة على ما قال باطلة، وذلك

ص: 282


1- شرح نهج البلاغة 3: 98 و 99 .

مطلوبنا، فما باله يصححها، ولازم قوله فسادها ؟!

[الوجه ] الثاني: قوله«إن أمير المؤمنين(علیه السلام) لم يستنجد الناس عليهم»فإنّه دفع للمعلوم باللسان، فقد روى هو أن علياً أركب فاطمة على حمار، وأخذ الحسن والحسين (علیهما السلام)فما ترك أحداً من أهل السابقة إلا مضى إليه، وذكر له حقه، ودعاه إلى نصرته على أبي بكر وأصحابه، فعل ذلك ثلاث ليالٍ في كلّها لم يجبه إلا أربعة أو خمسة(1).

فمن فعل ذلك كيف يقال فيه : إنه لم يستنجد الناس، وأنه سكت عن طلب الخلافة ورضي بخلافة غيره ؟!

[ الوجه ] الثالث : قوله«إنه (علیه السلام)ما جرد السيف»، وهذا باطل، فإنه قد روي أن الزبير جرد السيف بأمره (علیه السلام)، وخرج شاهراً سيفه حين أتى عمر وأصحابه بأمر ابی بكر، واقتحموا على عليّ(علیه السلام) وأصحابه البيت ليجالدهم بذلك السيف ، فأخذ من عنده ونادى أبو بكر بأخذه:اضرب به الحجر،ففعل، وساقوا عليّاً(علیه السلام) وأصحابه بالعنف الشديد(2)، ومن المعلوم أن هذا تجريد للسيف، لكنه لم يجد على ذلك ناصراً ولا معيناً، فلا يجوز أن يقال فيه: إنّه ما جرَّد السيف.

[الوجه ] الرابع : قوله«ولم ينازعهم»فإنّ هذه دعوى كاذبة كذباً صراحاً، وأي منازعة أعظم مما جرى منه معهم، وتخلفه عنهم معلوم ، واحتجاجه عليهم مشهور، وطعنه فيهم مواجهة بتظاهرهم على أخذ حقه مذكور ، وفى كتاب خصمنا وغيره مسطور وسيأتي بعضه في نقل حجّته على ما يدعي من عدم النص إن شاء اللّه تعالى، ونذكر هنا قطعة صالحة من ذلك مما تبطل به دعواه فنقول :

ص: 283


1- شرح نهج البلاغة 6: 13 وج 11: 14 السقيفة وقدك للجوهري: 63، وورد ذلك أيضاً في الاحتجاج للطبرسي 1: 107، بحار الأنوار329:22 ح 36، وج 28: 352 .
2- شرح نهج البلاغة 6: 13،السقيفة وفدك للجوهري: 53 و 62 .

قال في كتابه : قال أبو بكر أحمد بن [عبد ] العزيز الجوهري،وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود ،قال:غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر، وغضب علي والزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة منهم عصابة منهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش، وهما من بني عبد الأشهل، فصاحت فاطمة(علیها السلام)وناشدتهم، فأخذوا سيفي علي والزبير، فضربوا بهما الجدار حتى کسر وهما ، ثمّ أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا(1).

وقال خصمنا ابن أبي الحديد أيضاً:قال أبو بكر: وحدّثنا أبو زيد عمر بن شبة-وساق السند إلى سلمة بن عبد الرحمان - قال : لما جلس أبو بكر على المنبركان علي(علیه السلام) والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة(علیها السلام) ، فجاء عمر إليهم وقال:والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم،فخرج الزبير مصلتاً سيفه(2)، فاعتنقه رجل من الأنصار، وزياد بن لبيد،فدقُ به فبدر السيف،فصاح أبو بكر وهو على المنبر : اضرب به الحجر(3).

قال أبو بكر الجوهري : وقد روي في رواية أخرى : إنّ سعد بن أبي وقّاص كان معهم في بيت فاطمة والمقداد بن الأسود أيضاً، وإنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً(علیه السلام) ، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة(علیها السلام) تبكي وتصيح(4).

ص: 284


1- شرح نهج البلاغة 6: 47.
2- أصلت سيفه أي جرده من غمده.
3- شرح نهج البلاغة56:2، السقيفة وفدك : 52 .
4- شرح نهج البلاغة48:6،السقيفة وفدك : 53 ، وإحراق باب فاطمة (علیها السلام)أو التهديد بالإحراق نقله جماعة من المؤرخين، وقد فصل القول في ذلك عبد الزهراء مهدي في كتابه«الهجوم على بيت الزهراء».

قال المعتزلي:وقال أحمد بن عبدالعزيز الجوهري أيضاً :وحدّثنا ابن عفير قال:حدّثنا عبد اللّه بن عبد الرحمان أبو عوف(1)،عن أبي جعفر محمد بن على أن عليّاً (علیه السلام)حمل فاطمة(علیها السلام)على حمار، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة،وتسألهم فاطمة(علیها السلام)الانتصار،فكانوا يقولون:يا بنت رسول اللّه، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.

فقال علي(علیه السلام):أكنت أترك رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ميتاً في بيته لا أجهزه وأخرج إلى الناس أُنازعهم في سلطانه ؟!(2)

قال وقال أبو بكر:حدّثنا أبو سعيد عبد الرحمان بن محمّد-وساق السند عن الليث بن سعد-قال:تخلف علي(علیه السلام) عن بيعة أبي بكر فأخرج لملبياً (3)الان يمضى به رقصاً (4)وهو يقول : معاشر المسلمين، علامَ يُضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلف لخلاف ؟!(5)

وهذه الأخبار وأضعافها مما رواه ابن أبي الحديد عن الثقاة عنده، وسيأتي أيضاً جملة أخرى منها إن شاء اللّه تعالى، كلها دالّة بأوضح دلالة على أنّ علياً(علیه السلام)رغب في الخلافة بعد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وطلبها ، وطلبها له جماعة من أعيان الصحابة وحضروا ليبايعوه، وجمعوا السلاح لولا أنهم عوجلوا وغلب على أمرهم.

ص: 285


1- في الحجرية : ( أبو عون عبد اللّه بن عبد الرحمن) بدل من : ( عبد اللّه بن عبد الرحمن أبو عوف).
2- شرح نهج البلاغة 13:6.
3- يقال:لبيتُ فلاناً إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره عند الخصومة ثم حررته كما في غريب الحديث لابن سلام29:3،مجمع البحرين102:4.
4- في شرح نهج البلاغة: ركضاً.
5- شرح نهج البلاغة 6: 45 السقيفة وفدك: 71 .

وأنّه (علیه السلام)نازع في خلافة أبي بكر أشدّ المنازعة وجرد أصحابه السيف بأمره لقتال أتباع أبي بكر، واستنجد الناس عليه ودعاهم إلى حربه.

وأعانته على ذلك فاطمة (علیها السلام)بنت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) ، فلم يجد منجداً ولا معيناً، وإنّه غير راض بخلافة أبي بكر ، ومصرحة بذلك أتم تصريح، وأنه ما سكت وكفّ، بل غُلب وقهر وأخرج ملتباً، وأوعد بإحراق منزله وهو بيت النبوة، وواضحة في أنه(علیه السلام) ما غمد السيف وترك المناهضة لأبي بكر وأتباعه إلا بعد أن تحقق عنده عدم الناصر له، فهو سكوت عن اضطرار، لا عن رضا واختيار.

ولو لم توجد هذه الأخبار وأمثالها الدالة على ما ذكرناه لكان في قوله (علیه السلام)المشهور عنه في خطبة النهج «فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت(1)بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشجي وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم»(2)(3)كفاية في الدلالة على أن علة سكوته وكفّه عن جهاد أبي بكر وتابعيه فقده الناصر والمعين، وليس عن رضا نفس، وإنه تجرع في صبره عن ذلك ما هو أمر من العلقم.

فمن يقول هذا القول وأشباهه - وهو كثير - كيف يعقل أنه كف عن رضا وسكت عن اختيار ؟ ما هذا إلّا تجاهل وتغافل.

ص: 286


1- الفن:الإمساك والبخل، وضننت بهم عن الموت أي أمسكتهم عن الموت، راجع الصحاح 2156:6،النهاية في غريب الحديث104:3،لسان العرب496:2.
2- أغضى أي صبر، والقذى ما يقع في العين أو فى الشراب من تبنة ونحوها، والشجى ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه ،والكظم بالتحريك أو بالضم فالسكون مخرج النفس، والمراد أنه صبر على الاختناق، والعلقم هو الحنظل وهو نبات يمتد على الأرض كالبطيخ ويضرب المثل بمرارته فيقال: أمر من الحنظل.
3- نهج البلاغة 1: 67 من الخطة : 26 .

وقد وضح من هذه الأخبار بطلان ما قاله ابن أبي الحديد:إن علياً(علیه السلام)ما نازع الثلاثة [ولا طلب](1)فى أيامهم الخلافة(2)، وما سمعته من أغاليطه واقض عجباً منه حيث يروي هذه الأخبار وأمثالها، مع كونها نصاً في طلب أمير المؤمنين (علیه السلام)الخلافة، وعدم رضاه بخلافة الرجل،وإنه أخرج من بيته مقهوراً وطلب ناصراً فلم يجد ثمّ يقول: إن علياً (علیه السلام)ما نازع أبا بكر ولا طلب الخلافة لنفسه في زمانه، ولا جرد السيف ولا استنجد بالناس عليهم ولا ولا(3).

فليختر ابن أبي الحديد الآن أحد وجهين ، ولا محيص له عن واحد منهما : إما تكذيب هذه الأخبار التي صححها، وتكذيب علىّ(علیه السلام)فيما أخبر به عن نفسه، من عدم الرضا بخلافة من تقدّم عليه ، وأنه لم يكف عن منابذتهم ومناجزتهم(4) إلّا لعدم المعين وفقدان الناصر، فيكون قد كذب من هو مع الحق والحق معه بروايته وكذب ثقاة المحدثين عنده .

وإمّا أن يحكم ببطلان خلافة الثلاثة، ويجزم بخروجهم من الإمامة، لعدم شرط صحتها عنده ، وهو عدم رضا أمير المؤمنين(علیه السلام)بها كما تقدم في قوله، لأنا قد أقمنا الأدلة الصحيحة لديه على عدم رضا علي(علیه السلام)بها بتمام التحقيق.

وأي الوجهين اختاره ابن أبي الحديد فقد أمكن الرأي من ثغرة نحره وَذَبح نفسه بخنجره، فليكن ذلك محققاً.

ص: 287


1- مابين المعقوفين من المصدر .
2- شرح نهج البلاغة99:3.
3- شرح نهج البلاغة99:3.
4- المناجزة في الحرب أن يتبارز الفارسان حتى يقتل أحدهما صاحبه كما في كتاب العين71:6.
[على خوطب بإمرة المؤمنين ]

وأما ما ورد بلفظ الإمارة والإمرة فلم يورده،ابن أبي الحديد،ولكنه أورد ما هو بمعناه وزيادة ، ومن المعلوم أنه لا فرق بين أن يذكر الشيء أو يذكر مرادفه، فليس بين قولك: جاءني بشر وجاءني إنسان أو حيوان ناطق فرق في إفادة المعنى المقصود، فها نحن نذكر ذلك عنه .

قال في أوائل شرح النهج:وتزعم الشيعة أنه-يعني عليّاً(علیه السلام)-خوطب في حياة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بأمير المؤمنين،خاطبه بذلك جملة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في أخبار المحدثين(1)،إلّا أنهم قد رووا ما يُعطي هذا المعنى، وإن لم يكن اللفظ بعينه، وهو قول رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)له:«أنت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة».

وفي رواية أخرى: «هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغر المحجلين»، واليعسوب ذكر النحل وأميرها .

روى هاتين الروايتين أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل الشيباني في المسند، وفي كتابه فضائل الصحابة، ورواهما أبو نعيم الحافظ فی حلية الأولياء ، انتهی(2).

أقول: وقد مرّ ذكر هذه اللفظة في الأحاديث المذكورة أولاً فراجع، وفي رواية أبي رافع عن أبي ذرّ من قول رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)العلي(علیه السلام):«وأنت يعسوب المؤمنين

ص: 288


1- انظر تاريخ دمشق 2: 260 عن بريدة الأسلمي .
2- شرح نهج البلاغة12:1،السعيار والموازنة: 250 ، المعجم الكبير269:6،حلية الأولياء 1: 63،مجمع الزوائد102:9،كنز العمال 604:11ج 32918 ، وج 119:13ح 36381 .

والمال يعسوب الكافرين»(1)، وستأتي بتمامها إن شاء اللّه .

وقد اعترف ابن أبي الحديد كما سمعت في كلامه بأن معنى اليعسوب الأمير، فثبت من ذلك أن علياً(علیه السلام)أمير المؤمنين على لسان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، إذ لا فرق بين اللفظ و مرادفه عند جميع العقلاء، فيثبت أنّه إمامهم؛ لأنّ معنی أمير المؤمنين إمامهم بغیر اختلاف، فهى نصّ على إمامته بلا ريب، فمن كان من المؤمنين وأهل الدين فعلي(علیه السلام)أميره، ومن لم يكن علي (علیه السلام)أميره فليس من المؤمنين ، ولا من أهل الدين.

فما أنكر ابن أبى الحديد أن يكون جملة المهاجرين والأنصار خاطبوا عليا(علیه السلام)بأمير المؤمنين في حياة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ثم أنكروا ذلك بعد وأخفوه كسائر ما أنكروا من فضائله وأخفوا من مناقبه، فإنّه قد تواتر عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنه قال:«سلموا على عليّ(علیه السلام) بإمرة المؤمنين»(2)فأخفى القوم ذلك وستروه فصار مجهولاً عند العامة، ومعلوماً عند الخاصة.

وسيأتي اعتراف المعتزلي بأن القوم قد فعلوا بفضائل أمير المؤمنين(علیه السلام)ما ذكرناه ، وبه يزول ما استنكر منه هنا، مع اعترافه بورود مماثله في المعنى، وكلّ ذلك من استحكام الشَّبه في أوهام القوم.

[ على خاتم الوصيين ]

وأما ما ورد بلفظ الوصي فكثير منها ما رواه ابن أبي الحديد عن صاحب كتاب الفردوس وأكثره عنه وعن أحمد بن حنبل عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال:«كنت أنا وعلى نوراً

ص: 289


1- أنظر مجمع الزوائد102:9،عمدة القارئ215:16،المعجم الكبير369:6،سير أعلام النبلاء 79:23.
2- كشف المراد : 497، شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 3 السطر 26 .

بين يدي اللّه عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور وجعله جزأين، فجزء أنا وجزء علي،ثمّ انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب،فكان لي النبوة والعلي(علیه السلام)الوصية»(1).

وفي حديث أنس المتقدم قول رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في علي(علیه السلام):«وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين»(2).

وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج عن علي(علیه السلام) إنه قال: «أنا خاتم الوصيين»،(3)و«إنّ رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عهد إلى»(4)و«إني وصيّ رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)»(5)وما يعطي هذا المعنى في كثير من كلامه.

وروى عن أبي مخنف أنه لما بلغ حذيفة بن اليمان أن علياً(علیه السلام)قد قدم ذا قار واستنفر الناس دعا أصحابه فوعظهم وذكرهم اللّه وزهدهم في الدنيا ورغبهم الآخرة، وقال لهم: «الحقوا بأمير المؤمنين ووصي سيد المرسلين، فإن من الحق أن تنصروه»، الخبر(6).

[أشعار الصحابة في أنه(علیه السلام)وصي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)]

ومن أشعار الصحابة والتابعين المتضمنة أنه وصي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كثير

ص: 290


1- شرح نهج البلاغة 171:1 ،فضائل الصحابة لابن حنبل9650:2ح 1108،مناقب ابن المغازلي:87،ينابيع المودة490:2، المسترشد للمطيري: 630 ، مختصر بصائر الدرجات:116.
2- شرح نهج البلاغة12:1،حلية الأولياء 1: 63 .
3- شرح نهج البلاغة 2: 287 .
4- شرح نهج البلاغة75:4 وج 5: 248 وج 6: 18.
5- أنظر شرح نهج البلاغة 13: 210 .
6- شرح نهج البلاغة 2: 187 .

لا يحصى،وقد رواه المحدّثون الموثقون عند الخصوم كأبي مخنف لوط بن يحي الأزدي،وإبراهيم بن ديزيل الهمداني، ونصر بن مزاحم المنقري، وغيرهم من أهل التواريخ والسير ، كل روى منه شيئاً .

وذكر ابن أبي الحديد منه طائفة، ونحن هنا نذكر منه نبذة يسيرة تبركاً وتيمناً بمدحه(علیه السلام)، فمن ذلك قول أبي الهيثم بن التيهان وكان بدرياً :

قل للزبير وقل لطلحة إننا***نحن الذين شعارنا الأنصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا***يوم القليب(1)أولئك الكفار

كنا شعار نبينا و دثاره(2)***تقديه منا الروح والأبصار

إن الوصي إمامنا وولينا***برح الخفاء وباحث الأسرار(3)(4)

أقول : قوله«إن الوصي إمامنا» إلى آخر البيت إخبار عن نفسه وعن أمثاله من قومه، وهم صلحاء الأنصار بأن ما كان يعتقده وإياهم من إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)سابقاً - ويخفونه في نفوسهم في زمان الثلاثة، ويسرونه عن الناس - قد أظهروه اليوم وباحوا به، حيث ارتفع الخوف وزال المانع من إظهاره بوجود الناصر والمعين عليه، ففيه دليل ظاهر على أن أبا الهيثم وأشباهه لم يكونوا معتقدين إمامة الثلاثة.

وإنما الإمام عندهم بعد رسول اللّه( صلى اللّه عليه وآله وسلّم) أمير المؤمنين علي(علیه السلام)لأنه وصيه ،

ص: 291


1- أي قليب بدر، والقليب البئر التي لم تطو كما في النهاية في غريب الحديث98:4.
2- الشعار الثوب الذي يلصق بالجسد والدثار الثوب فوقها وما يتغطى به النائم، وفي ذلك كتابة عن قربهم من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) .
3- أي ظهر ما كان خافياً .
4- شرح نهج البلاغة 1: 143.

ولكنهم يجمجمون(1)ذلك في الصدور ويخفونه عن أهل الشرور حتى تمكنوا من إظهاره فاظهروه، ونحن على ما هم عليه إن شاء اللّه.

وقال خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين - وكان بدرياً أيضاً - يوم الجمل :

أعايش خلي عن علي وعيبه ***بما ليس فيه إنّما أنت والده

وصي رسول الله من دون أهله*** وأنت على ما كان من ذاك شاهده

حسبك منه بعض ما تعلمينه ***ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده

اذا قیل ماذا عبت منه رميته ***بخذل(2)ابن عفان وما تلك آبده(3)

وليس سماء اللّه قاطرة دماً***لذاك ولا الأرض الفضاء بمائده(4)

والأخير(5)من الأبيات يومى إلى أن خزيمة لا يجعل عثمان من المؤمنين فضلاً عن أن يكون إمامهم.

وقال النعمان بن عجلان الأنصاري:

كيف التفرّق والوصي إمامنا*** لا كيف إلا حيرة وتخاذلاً

لا تغبين عقولكم لا خيرفي***من لم يكن عند البلابل(6)عاقلاً

وذروا معاوية الغوي وتابعوا*** دين الوصي لتحمدوه اجلاً(7)

ص: 292


1- جمجم في صدره شيئاً : أخفاه ولم يُبده كما في لسان العرب 12: 11، وفي تاج العروس 233:8«التجمجم إخفاء الشيء في الصدر».
2- في النسخة الحجرية : ( بقتل)، وما أثبتناه موافق لشرح نهج البلاغة.
3- في النسخة الحجرية : (آيدة)، وما أثبتناه موافق لشرح نهج البلاغة.
4- شرح نهج البلاغة 1: 146، بحار الأنوار 28 : 23 الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 311 .
5- في الحجرية:(والآخر).
6- البلابل الهموم والأحزان كما في النهاية في غريب الحديث 1: 150 .
7- شرح نهج البلاغة149:1.

وقال عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب :

وصيّ رسول اللّه من دون أهله***دون أهله وفارسه إن قيل هل من منازل

فدونكه إن كُنتَ تبغى مهاجراً*** أشم كنصل السيف غير حلاحل(1)(2)

وقال حسان بن ثابت في جملة أبيات أيام المخاصمة بين المهاجرين والأنصار بعد موت النبي( صلى اللّه عليه وآله وسلّم) :

جزى اللّه عنا والجزاء بفضله*** أبا حسن خيراً ومن كأبي حسن

سبقت قريشاً بالذي أنت أهله*** فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش أعزّة***مقامك هيهات الهزال من السَّمَن

حفظت رسول اللّه فينا وعهده*** إليك ومن أولى به منك من ومن

ألستَ أخاه في الهدى ووصيه***وأعلم منهم بالكتاب وبالشنن

فحقك مادامت بسنجد وشيجة*** عظيم علينا ثم بعد على اليمن(3)

إلى غير ذلك من الأشعار من محبيه ومبغضيه مما لا يسع المقام عشر عشرها مما تضمن لفظ الوصي والولي ، فقد صح أن علياً(علیه السلام)وصي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

ومنه يُعلم أن ما ذكره ابن أبي الحديد-عن عايشة وبعض تابعيها من أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يوص(4)-باطل بلا شبهة لمعارضته لشهادة خيار الصحابة لعلي(علیه السلام)بأنه وصي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و ودلالة الأخبار على ذلك، وعايشة متهمة في على(علیه السلام)وكيف تقله بالوصية وهي تعيبه وتذمه، وهي في الغاية القصوى مِنَ البغض له،

ص: 293


1- غير القوم سيدهم، والحلاجل بالفتح جمع حلاحل بالضم وهو الشجاع.
2- شرح نهج البلاغة 1: 150 .
3- شرح نهج البلاغة35:6،وفي الغدير 42:2 توضيح لبعض عبارات هذه الأبيات.
4- شرح نهج البلاغة 54:2.

وإلا فهي شاهدة وصيّة الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إليه ونصه عليه ، كما هو صريح شعر خزيمة ابن ثابت ذي الشهادتين الذي ذكرناه.

وأيضاً إن شهادة عايشة وتابعيها على النفى،وشهادة الجماعة لعلى على الإثبات،[وشهادة الإثبات مقدمة](1)على الشهادة على النفي إجماعاً من أهل العلم .

ثم إن المعروف من معنى الوصي على جهة الإطلاق هو القائم مقام الموصي في جميع ما للموصي الولاية فيه وعليه، ومن معنى الوصية إقامة الموصي الوصي ما له التصرف فيه والولاية عليه،[و]لا معنى للوصى والوصية مقامه في جميع عندالعلماء غير هذا.

والمعروف من معنى«وصي النبي»هو القائم مقامه في الأمر والنهي يعهد من النبي إليه ، وإذا كان عليّ(علیه السلام)وهو الوصي الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كان هو القائم مقامه في تنفيذ الأحكام وسياسة الأمة، وغير ذلك من ولايات النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، فيكون هو خليفته والإمام بعده إذ لا معنى لخلافته إلا القيام ،مقامه ولا معنى لوصيه إلا القائم مقامه ينصبه إيَّاه، ولا معنى للإمامة إلا هذا ،ولا يعرف لها معنى غيره، وهذا بحمد اللّه واضح.

قال ابن أبي الحديد : وأما الوصية فلا ريب عندنا أن علياً(علیه السلام)كان وصي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وإن خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد، ولسنا نعني بالوصية النص والخلافة، ولكن أموراً لعلّها إذا لمحت أشرف وأجل، انتهى(2).

ص: 294


1- ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المتن.
2- شرح نهج البلاغة 1: 140 .

أقول : إخراج اللفظ عن صريح معناه تشهياً، من دون حجّة بينة ولا سبب داع هو ديدن ابن أبي الحديد وأصحابه وأمثالهم، وليس النزاع بيننا وبينهم في هذا كما علمت أوّلاً، فإنّا مقرون لهم بأنّهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه، ويدفعون النصوص بالشبهات، ويصرفون الألفاظ الصريحة عن معانيها بمجرد الشهوات، هذه عادتهم المعروفة، وسجيتهم المألوفة.

وإنّما النزاع بيننا وبينهم أنا ندعي النص من الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على علي له بالإمامة ،وإنه القائم مقامه، فعلينا أن نأتي من أقوال النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بما هو صريح في المعنى ونص في المطلب، مثل لفظ الإمام ، والأمير والوصي، وما أشبهها مما سنورده، وقد أتينا منه بما يقرون به ولا ينكرونه وما نسبوا جاحده إلى العناد، مع أن ذلك الجاحد أُم المؤمنين عايشة وبعض من الناس، كما قدمنا.

وليس علينا أن نحبس ألسنتهم عن التأويلات الفاسدة والتمحلات الممتنعة التي لو صدرت عن غيرهم لحملوه على عدم الفهم،وحكموا عليه بالبلادة أو العصبية والعناد،فلا ذنب لنا ولا إبطال لدعوانا بسبب تأويلاتهم الركيكة الباطلة،

بل حجتنا واضحة وحجتهم داحضة.

فما ذنبنا إن جاش بحر بفضلنا*** وبحرك ساج لا يواري الدعامصا(1)

وما قدمنا من بيان معنى الوصي متكفل بإبطال دعوى ابن أبي الحديد بأن

ص: 295


1- جاش زخر وامتد أنظر تاج العروس291:4،وبحرك ساج أي ساكن، أنظر لسان العرب 14: 303 أي ساكن، والدعموص:دويية تغوص في الماء، أنظر لسان العرب 7: 26 والبيت للأعشى كما في مجمع البيان 10: 380 وفي جامع البيان للطبري289:30،مثله مع تفاوت في بعض الألفاظ،تفسير القرطبي91:20،اللهوف:182،الصحاح1039:3.

الوصيّة في غير الخلافة(1)ولأنه يدعي التقييد في المطلق فعليه أن يأتي بالمقيد،وأنى له به، ولنا على إبطال قوله - مضافاً إلى ما ذكرنا - وجوه أخر.

[وجوه أخرى لابطال قول ابن أبي الحديد]

الأوّل: أنّ الوصية لا تثبت بغير النص من الموصى على الوصى يقيناً ، وإذا سلّم الخصم أن علياً(علیه السلام)وصيّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لزمه تسليم نصه عليه، وإلا لم يكن وصيّاً، لكنه وصيّ، فلا ريب أنه منصوص عليه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وذلك ما ندعي، فقوله«ولسنا نعني بالوصية النص»كلام لا معنى له .

الثاني: أن أهل العقول من جميع المسلمين لا يعلمون منزلة بعد النبوة أشرف وأجل من الإمامة، حتى تنصرف وصية النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلى علىّ(علیه السلام)إليها، كما ادعاه ، فعليه وعلى من يدعي دعواه تبيين تلك المنزلة حتى نعرفها .

ثم لو كانت ثمة منزلة أعلى وأجل من الإمامة كما ذكر لكانت أيضاً منضمة إليها وداخلة معها لعموم الوصية، فتتناول جميع المنازل حتّى يثبت المخصص، وليس ثمة مخصص،فقوله «العلّها إذا لمحت أشرف وأجل»دعوى مستحيلة، ولو أمكنت لكانت مع الإمامة مندرجة في الوصية.

الثالث: أن كافة المسلمين من أولى العلم يعلمون أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يترك أموالاً كثيرة، ولا خلف أطفالاً صغاراً يحتاج إلى الإيصاء في حفظ أموالهم والقيام بمصالحهم إلى وصي يقوم بذلك، وليس له حاجة في الوصية إلا في القيام مقامه بمصالح الأمة، وحماية الملة، وإنفاذ الأحكام وجهاد المشركين،ودعوتهم إلى دين الإسلام لا غير ذلك، فوصيه هو المنصوص عليه منه بذلك والمنصوب منه له، وتلك هى الإمامة بلا ريبة ولا يشك في ذلك عاقل غير معاند.

ص: 296


1- شرح نهج البلاغة 1: 140.

الرابع: أن الأخبار المذكورة والأشعار الواردة التي قدمناها وغيرها يتبادر من لفظ الوصي فيها ، بل لا يفهم من معناها إلأكون أمير المؤمنين وصي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على ما هو المعنى المعروف من أوصياء الأنبياء، وهو آخر،فإن قول النبي اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«لي النبوة ولعلي الوصية»(1)وقوله (صلى اللّه عليه وآله وسلّم) «خاتم الوصيين»(2)لا يعقل منه إلا أن لعلى خلافة الأنبياء، وإنه خاتم خلفاء النبيين، لأن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده، فلا خليفة نبي بعد علي بدون واسطة خليفة غيره،لأن الوصية المقابلة للنبوة هى الخلافة من غير الخلافة من غير شبهة،والوصي المقابل للنبي هو الخليفة بعده لا يتصوّر منه غير هذا المعنى،ولا يراد به غيره عند الإطلاق ببديهة العقل.

وليس يعقل منها الفطن اللبيب أن لعلي الوصية المقابلة للنبوة في أمر مخصوص أو أنه خاتم الوصيين في أمور أخر غير الخلافة كمال، أو حكم خاص، أو سرّ في معنى خاص، ولا يحملها على هذا المعنى إلا معوّج الفهم بسبب استيلاء الشبه على عقله وممازجتها للبه ، فيجعل عقله تبعاً لمشتهاه وسالكاً أثر تقليده .

ومما يزيد المعنى وضوحاً في أن المراد بالوصي هو القائم مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في جميع أمره ما رواه ابن أبي الحديد قال : قال نصر - يعني ابن مزاحم المنقري -: وحدّثنا عبد العزيز بن سباه قال: حدّثنا حبيب بن أبي ثابت قال:حدّثنا [أبو ](3)

ص: 297


1- شرح نهج البلاغة171:9،فردوس الأخبار305:2وج332:3،بحار الأنوار69:33،وج83:40.
2- عيون أخبار الرضا(علیه السلام)1: 78 - 337 وص 79 ج 345 ،الأمالي للشيخ الطوسي: 270 ج 39 الفضائل لشاذان بن جبريل : 146 ، بحار الأنوار 16: 325 وج5:26.
3- ما بين المعقوفينس أضفناء موافقة لكتب الرجال، قال في معجم رجالالحديث 152:8 في الترجمة 4470 أبو سعيد المعروف بعقيصا وهو دينار من أصحاب على(علیه السلام).

سعيد التيمي المعروف ب-«عقيصا» قال: كنا مع عليّ(علیه السلام) في مسيره إلى الشام حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد عطش الناس واحتاجوا إلى الماء،فانطلق بنا علي(علیه السلام)حتى أتى [بنا ] إلى صخرة ضرس في الأرض، كأنها ربضة عنز(1)، فأمرنا فاقتلعناها، فخرج لنا تحتها ماء، فشرب الناس وارتووا، ثمّ أمرنا فأكفأناها، حتّى إذا مضى قليلاً قال: أمنكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه ؟

قالوا: نعم يا أمير المؤمنين.

قال : فانطلقوا إليه ، فانطلق منا رجال ركباناً ومشاة،فاقتصصنا الطريق إليه حتّى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه، فطلبناه فلم نقدر على شيء حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير(2)قريب منا، فسألناهم أين هذا الماء الذي عندكم ؟

قالوا: ليس قربنا ماء.

فقلنا : بلى إنا شربنا منه .

قالوا: أنتم شربتم منه ؟

قلنا : نعم .

فقال صاحب الدير: واللّه ما يُني هذا الدير إلا لذلك الماء، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي(3).

ومن المعلوم أنه لا يريد بوصي النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)هنا إلا الخليفة بعده لا ما يقوله ابن أبى الحديد وأصحابه والأشاعرة.

ص: 298


1- أي إلى أرض صعبة خشنة، قال ابن الأثير في النهاية84:3،الفرس: الصعب السيء الخلق، وريضة العنز مقدار جنتها إذا ريضت أو بركت كما في لسان العرب 13:9.
2- دیر: معبد النصاري.
3- وقعة صفين : 144، شرح نهج البلاغة 204:3.

الخامس : أن إيصاء النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلى رجل في أمر مخصوص أو أمور مخصوصة لا يصيّره وصيّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على الإطلاق، ولا يُسمّى عند أحد بوصي الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، فقد روى ابن أبى الحديد وغيره أن أبا أيوب الأنصاري قال في كلام: إنّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عهد إلينا أن نقاتل مع على(علیه السلام)الناكثين والقاسطين والمارقين(1)،ولا نجد أحداً قال: إن أبا أيوب وقومه أوصياء رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) .

ورووا أن أباذر قال:إن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عهد إلى أنّه يلي غسلي وتجهيزي قوم من المؤمنين(2)،في حديث طويل، ولم يقل أحد من الصحابة وغيرهم أن أباذر رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) .

ورووا أنّ عمّار بن ياسر قال يوم صفّين في كلام : عهد إلي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه يكون آخر زادي من الدنيا ضياحاً (3)من لبن(4).

ورووا عن كثير من الصحابة مثل هذا ولم يسم أحد منهم بوصي النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) لذلك الأمر الذي عهد إليه رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فيه أو الأمور المخصوصة، وهذا مما يدل صريحاً على أنه لا يُسمّى رجل وصى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على الإطلاق إلا المنصوص عليه بخلافته والموصى إليه منه بالقيام مقامه؛ فأمير المؤمنين وصيّ

ص: 299


1- شرح نهج البلاغة207:3،مستدرك الحاكم139:3، أسد الغابة32:4و 33 .
2- شرح نهج البلاغة99:15،الاستيعاب215:1،وقريب منه في اختيار معرفة الرجال283:1ح 117،بحار الأنوار399:22ح 6 ، معجم رجال الحديث9820/167:15.
3- قال في القاموس المحيط237:1:«الضيح كالضباح اللبن الرقيق الممزوج -وتضيح اللبن صار ضياحاً»وفي العين267:3:«الضياح اللبن الخائر يصب فيه الماء ثم يجدح»، وانظر السان العرب 527:2.
4- تاريخ مدينة دمشق 43: 468 و 470 حديث عمار كفاية الأثر : 61 و 133، بحار الأنوار19:33ح 376 وج 36: 306.

النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بهذا المعنى لا غيره،فهو الإمام بعده لا محالة ، وقد انصرح الأمر وزال تشبيه المعتزلى ، وثبت المراد واللّه ولي التوفيق إلى السداد.

[على(علیه السلام)خليفة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)]

وأما ما ورد بلفظ الخليفة فهو الخبر الصحيح عند القوم كافة، قال ابن أبي الحديد: وأما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد اللّه بن عباس عن علي بن أبي طالب(علیه السلام)قال:لما نزلت هذه الآية :(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(1)على رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)دعاني فقال:يا علي، إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين،فضقْتُ بذلك ذرعاً - وساق الرواية، إلى أن قال: - ثمّ تكلّم رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فقال : يا عبدالمطلب، إني واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ،إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصتي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم عنها جميعاً.

فقلت:أنا-وإنّي لأحدثهم سناً وأرمصهم(2)عيناً،وأعظمهم بطناً وأحمشهم(3)ساقاً-أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه، وأعاد القول فأمسكوا ، وأعدت ما قلت، فأخذ برقبتي ثم قال لهم:هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب:قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(4).

ص: 300


1- الشعراء:214.
2- الرمص: وسخ يجتمع في مجرى الدمع كما في الصحاح102:3.
3- رجل أحمش الساقين دقيقهما كما في الصحاح1002:3.
4- شرح نهج البلاغة210:13،الطبقات الكبرى1 : 187 ،تاريخ الطبري 216:2 وفي طبعة أخرى 63:2،تاريخ مدينة دمشق46:42،أمالي الطوسي : 582 ، مناقب أمير المؤمنين للكوفي371:1،الهداية الكبرى: 46 و 48 ، الإرشاد للشيخ المفيد 1: 50 .

وهذه الرواية مع صحتها عند الخصوم نص صريح في أن علياً(علیه السلام)خليفة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) على من يطيعه،وأنه وصيّه ووزيره فأي نص على الخلافة أصرح من هذا ولشهرة هذه الرواية احتج بها أبو جعفر الإسكافي في نقضه على الجاحظ(1)، وما أدري ما يقول ابن أبي الحديد فى ذلك فإنه لم يتعرض فيها بتأويل، وأظنه لعجزه عنه، ولو أدرك إليه منفذاً لسارع عليه، ولعله يرى أن أمير المؤمنين خليفة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فى أُمور أخر كما قال أُمور أخر كما قال في الوصية، فيكون جوابه هنا مثل جوابه هناك.

[على(علیه السلام)وزير رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)]

وأما ما ورد بلفظ الوزارة فمنه حديث أبي ذر عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وقيه بعد ما ذكرنا في لفظ«اليعسوب» وأنت أخي ووزيري(2)، والحديث المتقدّم صريح.

وقال ابن أبي الحديد بعد ذكره:ويدل على أنه لوزير رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من نصّ الكتاب والسنة قول اللّه تعالى:(وَاجْعَل لِى وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(3)وقال النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الخبر المجمع على روايته بين فرق الإسلام:أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي(4)، فأثبت جميع مراتب هارون ومنازله من موسى فإذن هو وزير رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وشاد

ص: 301


1- نقل ذلك العلامة الأميني في الغدير287:2 وج238:3.
2- شرح نهج البلاغة 13: 228.
3- طه :29-32.
4- صحيح البخاري 5: 1290،صحیح مسلم 120:7،سنن ابن ماجة 43:1.

أزره ، ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكاً في أمره،انتهى(1).

أقول:فإذا كان على وزير رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)والوزير هو المعين على الأمر،فإذن على(علیه السلام)هو معين رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على إظهار دعوة الإسلام وإقامة أحكام النبوّة ، فيكون له مقامه في حياته وبعد وفاته، والأمر ظاهر.

ثمّ إن ابن أبي الحديد حيث استفاد من هذا الحديث أنّه نصّ في وزارة علي لرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأنها من جملة منازل هارون من موسى بنص الكتاب،وأنّ جمیع منازل هارون من موسى إلّا النبوة ثبتت لعلى(علیه السلام) من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فيلزمه على هذا الحكم أيضاً بأن الحديث نص في خلافة علىّ(علیه السلام) الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،لأن الخلافة ثابتة لهارون بنصّ الكتاب،وهو قوله تعالى:﴿وَقَالَ مُوسَى لَأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)(2)الآية،ورسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يستثنها مع النبوة فتكون خلافة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ثابتة لعلى(علیه السلام)بنص الكتاب والسنة ، كما ثبتت الوزارة له بنصهما ، على ما قرّرا.

فأبلغ شاهد من شاهد من هذا يريد عبدالحميد ؟ وهل تراه يخفى عليه مثل هذا المعنى الواضح كالشمس الصاحية ؟ ولكن غلب عليه ألف المذهب وتقليد الأسلاف كما غلبا على غيره فصاروا يرون الحق باطلاً،والنصّ الجلي متشابهاً، والمعنى الواضح خفيّاً، والصواب خطأ، فإذا ورد عليهم ما يوافق مذهبهم من المشتبهات صيروه كالبدر الأتم وضوحاً وصراحة.

وإذا عثروا على ما يطابق مشتهاهم من المزخرفات المضطربة الألفاظ تلقوه

ص: 302


1- شرح نهج البلاغة 13: 211.
2- الأعراف: 142.

بالقبول الأعظم ووصفوه بغاية الصحة ونهاية الفصاحة، أو جاءهم في ذلك شيء من الموهونات صيروه كالطود الأشم قوّة ورجاحة، فنعوذ باللّه من كتمان الحق للأغراض الدنيوية وترويج الباطل للعناد والعصبية.

[أمر الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بطاعة على(علیه السلام)]

وأما ما ورد بلفظ الطاعة فمنه ما تقدّم في حديث الخلافة والوزارة من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«اسمعوا له وأطيعوا»(1)وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حديث أبي بردة المتقدم إخباراً عن اللّه تعالى في شأن علي(علیه السلام) «وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه فقد أحبني ومن أطاعه فقد أطاعني»(2)وإذا كان على(علیه السلام)طاعته طاعة اللّه وجب أن يكون خليفة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأن الذي طاعته طاعة اللّه هو النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لقوله تعالى:(مَن يُطع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ)(3)ولا نبوّة بعد نبينا(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فتبقى الخلافة، فالحديث نصّ على إمامته لوجوب طاعته، ولا طاعة واجبة لغير اللّه والنبيّ والإمام.

وفي حديث أنس المتقدم:«وإمام أوليائي ونور جميع من أطاعني»(4)والمراد بتور من أطاعني قدوتهم الذي يقتدون به في الأحكام ويهتدون به عن الضَّلال،وإذا كان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أمر بالسمع والطاعة لعلي(علیه السلام) وجعله اللّه قدوة المطيعين وهاديهم وجب أن يكون إماماً، لأن غير الإمام لا يجب له السمع والطاعة على المكلفين ، وإنّما ذلك لولي الأمر خاصة .

ص: 303


1- شرح نهج البلاغة211:13،تاريخ الطبري 3: 63.
2- شرح نهج البلاغة167:13.
3- النساء: 80 .
4- تاریخ بغداد102:14 وج 330:42،مناقب الخوارزمي : 312 شرح نهج البلاغة168:9،نظم:درر السمطين للزرندي الحنفي : 114 ينابيع المودة للقندوزي486:3،بشارة المصطفى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

ويستفاد من الخبر أن من لم يقتد بعلي(علیه السلام)في دينه، فليس مطيعاً اللّه، لأنه لم يأتم بالنور الذي جعله لمن أطاعه،ولم يستضئ بضياه فلم يكن من أهل النور، فإذن ليس هو من أهل الطاعة للّه .

وفي حديث عمار أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قال:يا عمار،طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة اللّه،رواه كثير من خصومنا(1).

[على(علیه السلام)نفس رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)]

وأما ما ورد بالمثلية فمن القرآن قوله تعالى:(وَأَنفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)(2)ولم يدع غير عليّ(علیه السلام) بالإجماع، فهو إذن نفس الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وليس على جهة الاتحاد قطعاً، فيكون المراد به المثلية،وإذا كان مثل الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وجب أن يكون الإمام بعده، إذ لا نبي بعد محمّد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

ومن السنة ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل أن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قال :«لتنتهنَّ يا بني وليعة (3)أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي يمضي فيكم أمري، يقتل المقاتلة ويسبی سى الذرّيّة».

قال أبوذر: فما راعني إلا بَرْدُ كف عمر من حجزتي من خلفي(4)يقول : من تراه

ص: 304


1- مناقب الخوارزمي:194،وانظر تفسير مجمع البيان453:4،بشارة المصطفى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) :232كشف الغمة264:1،الأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه:60.
2- آل عمران: 61 .
3- بنو وليعة كسفينة حي من كندة. وفي الطبقات لابن سعد 349:1هم ملوك حضر موت.
4- السنن الكبرى128:5،خصائص أمير المؤمنين: 89 .

يعني ؟ فقلت: إنّه لا يعنيك، وإنما يعني خاصف النعل(1)وإنّه قال:هو هذا(2).

قال:وقال لوفد ثقيف:لتسلمنّ أو لأبعثن إليكم رجلاً مني-أو قال:عديل نفسی - فليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم وليأخذن أموالكم.

قال عمر:فما تمنّيت الإمارة إلّا يومئذ،وجعلت أنصب لها صدري رجاء أن يقول هو هذا،فالتفت فأخذ بيد علي فقال : هو هذا - مرّتين(3)-.

وقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حديث مشهور سيأتي ذكره:«إنّ عليّاً منّى وأنا من على»(4)،وإذا كان على(علیه السلام)مثل نفس الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وعديل نفسه، وإنه منه كان مماثلاً له البتة، ولمّا كان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)خاتم الأنبياء فلا نبوّة بعده وجب أن يكون علي(علیه السلام)الإمام بعده ،لقضيّة المماثلة، وإلّا فلا معنى للمماثلة قطعاً.

ومثله قوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«علي أخي»(5)لأن الأخوة النسبية بينهما معلومة الانتفاء،فثبت أنه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)يريد بها المماثلة، وليس إلّا في الصفات، فما لرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من الصفات غير النبوة فهو ثابت لعليّ(علیه السلام)لعلة المماثلة ، ومن جملة ذلك الإمامة، فهذا نص صريح من الرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على استخلاف على(علیه السلام)من غير شكّ.

ص: 305


1- خصائص الوحي المبين: 238 نهج الإيمان:523.
2- شرح نهج البلاغة167:9،الرياض النضرة164:2،مناقب أمير المؤمنين للكوفي461:1،شرح الأخبار للقاضي نعمان :112،العمدة لابن البطريق : 234.
3- شرح نهج البلاغة 9: 167 .
4- سنن الترمذي299:5،خصائص أمير المؤمنين للنساني:87،كتاب السنة لعمرو بن عاصم:552 ،تاريخ مدينة دمشق 346:42،سير أعلام النبلاء 8: 212.
5- فضائل الصحابة لابن حنبل650:2 ح 1108 ،شرح نهج البلاغة171:1،ينابيع المودة490:2،مناقب ابن المغازلي : 87، مختصر بصائر الدرجات: 116 ، المسترشد: 630، الخرائج والجرائح837:2،العمدة لابن البطريق : 87.

وفي قوله «مني»معنى عميق، وهو أنّه مخلوق من نوره، وإن ذلك النوركان في أوّل الخلق شيئاً واحداً ثم انقسم إلى قسمين:أحدهما كان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)والثاني علياً(علیه السلام)فكل واحد من الآخر فعلى(علیه السلام) العديل نفس رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وكنفسه بعد الانقسام، والعديل بمعنى المعادل، وهو أيضاً نفس الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأنهما في الأصل نور واحد.

يدل على ذلك صريحاً حديث ابن أبي الحديد عن مسند أحمد بن حنبل وكتابه في الفضائل وعن كتاب الفردوس من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«كنت أنا وعلى نوراً بين يدي اللّه عزّ وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور فيه وجعله جزأين فجزء أنا وجزء علي(علیه السلام)»الخبر(1).

وقد ذكرناه بتمامه في لفظ الوصيّة، ومثله من طرقنا وطرق غيرنا كثير(2).

وهذا المعنى هو الذي يشير إليه أمير المؤمنين متبجحاً به ومفتخراً بقوله مواضع كثيرة«وأنا من محمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كالضوء من الضوء»(3)وحق له أن يفتخر بذلك ويتبجح به،ويحتج على خصمه به ، فإنّه لا فضل أعلى منه وإن علا،ولا رفعة إلا هى دونه،ولا شرف إلا وهو منحط عنه،فقد فاق به الأنبياء المرسلين رفعة ومجداً وشرفاً وفضلاً.

ص: 306


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل823:2 ح 1130،تاريخ مدينة دمشق 42: 67، المناقب للخوارزمي:145 شرح نهج البلاغة171:9،نظم دور السمطين:7،بحار الأنوار69:33وج 23:35 و 38.
2- اليقين: 425 ، الطرائف : 16، المحتضر: 144 ، بحار الأنوار 18: 398 وج69:33.
3- شرح نهج البلاغة105:13،وج 16: 289، علل الشرائع174:1 ح 1 ب 139،الأمالي للصدوق: 604 ح 11 ، روضة الواعظين: 127، المسترشد : 483 ، عيون المعجزات : 6، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 58:2.

ولقد أحسن الحسن البصري في قوله -كما رواه عنه الخصم-:ولقد أخى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بين أصحابه ، فآخي بين علي وبين نفسه، فرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)الناس نفسا وخيرهم أخاً، انتهى(1).

وإذا كان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قد صرّح في عليّ(علیه السلام)بهذه المقالات بمحضر من الصحابة،فأي شيء تراه ترك بعد هذا المقال من النصّ على استخلافه عليّاً(علیه السلام)حتى يقول ابن أبي الحديد وأشباهه:ليس هنا نص صريح، وإنما هو تعريض وتلويح ؟(2)نسأل اللّه أن يوفقنا لإبطال الباطل وتصحيح الصحيح.

وأي عاقل منصف سَلِمَ من علة تقليد السلف وألْفِ السُّبَة يشك في إمامة على(علیه السلام)بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعد سماعه قوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«علیّ عديل نفسي» أو «نفسي»؟ أو يرتاب في أن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أراد بذلك استخلافه ؟ أو يجوز تقديم من ليس من النبيّ على من هو عديل نفسه في مقامه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)؟ حاشا وكلا يأبى العقل الذكي ذلك إلّا بعلة كما ذكرنا .

[أمر الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بالتمسك بعلي(علیه السلام)]

وأما ما ورد بلفظ التمسك به من بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و ما هو في معناه فكثير، شيء من بإفراده بنفسه، وشيء منه بضمه إلى عترة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وشيء منه بضمّه إلى الكتاب والعترة معاً، ونحن نورده جميعاً، فنقول :

روى ابن أبي الحديد عن الحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء، وعن أحمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه قال: «من سره أن يحيى حياتي

ص: 307


1- شرح نهج البلاغة 96:4.
2- شرح نهج البلاغة59:2.

ويموت ميتني ويتمسك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها اللّه تعالى بيده ثم قال لها كونى فكانت فليتمسك بولاء على بن أبي طالب»(1).

وعن أبي نعيم عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حديث سنذكر صدره فيما يأتي إنّ شاء اللّه،قال فيه: «فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال:يا معشر الأنصار،ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً؟»قالوا:بلى يا رسول اللّه.

قال : «هذا عليّ فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي ، فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم عن اللّه عزّوجلّ»(2).

وعن الحافظ أبي نعيم عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إنه قال:«من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربّي فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنّهم عترتي خُلقوا من طينتي، ورزقوا فهماً وعلماً ،فويل للمكذبين من أمتي،القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي»(3).

والموالاة والاقتداء بمعنى المتابعة،وهو معنى التمسك،وهذه الرواية كما أنها نصّ على إمامة على(علیه السلام)كذلك هي نصّ على إمامة الأئمة من عترة و رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،ونصّ في حرمان الشفاعة لمن كذب بإمامتهم وقطع صلة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) فيهم، فقد صرحت بحقيّة مذهب الإمامية الاثنى عشرية بأتم تصريح وبيئته بأوضح بيان.

ص: 308


1- شرح نهج البلاغة168:9،حلية الأولياء86:1،ورواه عن أحمد في المسند والفضائل، القندوزي في ينابيع المودة486:2.
2- شرح نهج البلاغة170:9،حلية الأولياء 1: 63.
3- حلية الأولياء 86:1 كنز العمال 12 : 103 ح 34198 ، وورد في الكافي 1: 208 ج 5 كتاب الحجة، باب ما فرض اللّه عزّوجلّ ورسوله من الكون مع الأئمة(علیهم السلام)، أمالي الطوسي : 578 - 9،مناقب آل أبي طالب251:1،بحار الأنوار139:23 ح 85 وورد قطعة منه في تاريخ دمشق342:42.

وروى ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه خرج على الحجيج عشية عرفة فقال لهم:«إنّ اللّه باهي بكم الملائكة عامة وغفر لكم عامة، وباهي بعلي خاصّة وغفر له خاصّة،إني قائل لكم قولاً غير في حياته محاب فيه لقرابتي(1)،إنّ السعيد كل السعيد حقّ السعيد من أحبّ عليّاً وبعد موته»،تمام الخبر(2).

والمحبة من لوازمها المتابعة والطاعة، ومن لم يطع أحداً فليس بمحب له، وقد نطق بذلك الكتاب الإلهي في قوله تعالى:(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه)(3)فمن لم يتبع الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فهو غير محب اللّه .

وقال بعض الأبرار :

تعصي الإله وأنت تزعم حبّه***هذا كلام في المقال بديع

لو كان قولك صادقاً لأطعته***إن المحب لمن يحب مطيع (4)

فمحبة على(علیه السلام)طاعته ومتابعته، وهذا معنى التمسك.

واعلم أن في إخبار النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عن نفسه بعدم المحاباة لقرابته فيما قال فيهم ظهوراً أو إشعاراً بعلمه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بأن جماعة من أصحابه يتهمونه بمحاباة قرابته فيما شرفهم به على غيرهم من الأفعال والأقوال، ولولا ذلك لكان قوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الخبر

ص: 309


1- قال في تاج العروس81:10،حاباه محاباة وحياءاً نصره واختصه ومال إليه، وقال في العين 309:3والحياء عطاء بلا من ولا جزاء.
2- شرح نهج البلاغة169:9،المعجم الكبير للطبراني415:22،مجمع الزوائد132:9،کنز العمال 13: 146 - 3645، بشارة المصطفى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): 237 ، كشف الغمة 1: 92.
3- آل عمران: 31 .
4- تمثل به الإمام الصادق(علیه السلام)في الأماني للشيخ الصدوق: 578، تحف العقول: 294، روضة الواعظين: 418، وسائل الشيعة(آل البيت علیهم السلام)15: 308 ج 9، مناقب آل أبي طالب 395:3،كشف الخفاء للعجلوني 203:2.

غير محاب فيه لقرابتي»قليل الفائدة، بل لا فائدة فيه أصلاً، لأنه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إذا كان عالماً من جميع أصحابه عدم اتهامه بالمحاباة لقرابته فيما يفضّلهم به من قول وفعل كان إخباره بنفي ذلك عنه إخباراً للعالمين به ومعتقديه.

ولا ريب أن إخبار العالم بنسبة الخبر أو معتقد حصولها عديم الفائدة، وإنما يكون مفيداً إذا كان المخبر يجهل نسبة الخبر أو يعتقد نقيضها ليفيد إعلامه بما جهل أو رده عن الخطأ في الاعتقاد.

فتحقق من هذا أنه لا تتحقق فائدة في تلك الإخبار إلّا مع علم النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من جماعة من أصحابه اتهامه بالمحاباة لقرابته، عمداً منهم أو جهلاً ليكون نقيه المحاباة عن نفسه تكذيباً للمتعمد، ورفعاً لجهل الجاهل، وإزالة لتجويز المجوز،فتحصل فائدة تامة، فيظهر من البيان أن نسبة جماعة من الصحابة إلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)محاباة القرابة واقعة.

فمن العجب قول بعض الخصوم أن الصحابة لو سمعوا من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)نصاً ما عدلوا عنه، لأن من يتهمه كيف تبعد منه مخالفته. وقول بعضهم ما حاصله : إنّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم يوص ولو أوصى ما تأمّر أبو بكر على وصىّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)(1)،وإن أبا بكر ود أنه سمع من رسول اللّه كلمة فتكون في أنفه خزمة(2)(3)، وقول

ص: 310


1- أنظر شرح المقاصد267:5.
2- الخزام جمع خزامة وهي حلقة من شعر تجعل في أحد جانبي منخري البعير ، وقال ابن الأثير في النهاية 5: 150 بعد أن أورد الحديث«ود أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وأنه خزم أنفه بخزامة»ما نصه : معناه لو كان على معهوداً إليه بالخلافة لكان في أبي بكر من الطاعة والانقياد إليه ما يكون في الجمل الدليل المنقاد بخزامته، وانظر النهاية في غريب الحديث29:2.
3- مسند أحمد382:4،سنن الدارمي 403:3، سنن ابن ماجة900:3،السقيفة وفدك للجوهري :52،غريب الحديث 212:3.

القوشجي ما محصوله«أنه لا يظن ذو مسكة أن الصحابة سمعوا النصوص الجلية على علىّ(علیه السلام)من النبى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) فخالفوها»(1)،واستبعاد عبد الحميد المعتزلى صدور ذلك من الصحابة، كما لم يصدر منهم تغيير القبلة والصوم إلى آخر لغطهم، فإن هذا الحديث الصحيح عندهم يبطل دعاويهم ويذهب خرافاتهم.

ومثله ما رواه المعتزلي وغيره عن عليّ(علیه السلام) من قوله : «إنّه لعهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك من بعدي»(2).

ويشير إلى ذلك أيضاً ما قدمنا من حديث أبي نعيم في لفظ «الإمام» وقول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فيه مخبراً عن اللّه في حق عليّ«غير أني مختصه بشيء من البلاءلم أختص به أحداً من أولياني»إلى قوله إنه«المبتلى ومبتلى به »(3).

وإلّا فأيّ نصّ. وأيّ وصيّة أوضح وأصرح من هذه الأقوال المؤكدة والألفاظ الصريحة والكلمات الظاهرة مثل«إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً»(4)،«وليقتد بالأئمة من بعدي فليوال عليّاً من بعدي»(5)مع تأكيد الجميع ببشارة المحبين وتوعد العاصين بما هو مذكور في تلك الأخبار؟ وهل فوق هذا في الوصية والنصّ مزيد ؟ والحمد للّه الحميد.

ص: 311


1- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 4 السطر 7.
2- شرح نهج البلاغة107:4،وج326:20،التاريخ الكبير للبخاري 2103/174:2،كنز العمال 297:11 ح 31562 .
3- شرح نهج البلاغة 9: 167، حلية الأولياء 1: 67 ينابيع المودة 2: 458، الأمالي للطوسي : 344، التحصين لابن طاوس: 543 .
4- روی مثله الترمذي في سننه 5: 328 ح 3874 و 3876 .
5- روی مضمونه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة170:9،والمتقي الهندي في كنز العمال103:12ح 34198 وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق240:42.

ومن ذلك قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الحديث المشهور وقد رواه ابن أبي الحديد:«أنا مدينة العلم وعلي بابها؛ فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها»(1)وهو صريح في أن من أراد علم النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فليأخذه عن علي (علیه السلام)فالتمسك به لازم لأنه باب العلم الذي يجب على الناس أخذه والعمل به لقوله تعالى:(مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(2)فتبت منه وجوب التمسك بعلي(علیه السلام)لمن أراد علم الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ومن لم يرده فهو كافر مرتاب وفاجر كذاب.

ومن ذلك ما رواه ابن أبي الحديد من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«علي خازن علمي»قال:وقال فيه تارة أخرى : «عيبة علمى(3)»(4).

أقول:وهما مشهوران أيضاً، واستفادة التمسك منهما بعلي(علیه السلام)بتقريب ما ذكرناه في حديث«أنا مدينة العلم».

وروى ابن أبي الحديد عن أبي نعيم في الحلية وأحمد بن حنبل في المسند عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه قال:«يا على،إن اللّه قد زينك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحب إليه منها،هي زينة الأبرار عند اللّه تعالى:الزهد فى الدنيا جعلك لا ترزا(5)من الدنيا شيئاً ولا ترزاً منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً.

ص: 312


1- شرح نهج البلاغة165:9.
2- الحشر: 7 .
3- أي مظنة استفصاحي وخاصتي وموضع سري ومعدن نفائسي ،والعيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه كما في فيض القدير شرح الجامع الصغير469:4.
4- تاريخ مدينة دمشق385:42،شرح نهج البلاغة165:9،الجامع الصغير للسيوطي 2: 177 ح 5593،فيض القدير469:4،يتابيع المودة 1: 159 .
5- أي لا تأخذ الدنيا منك شيئاً أو لا تصيب منك شيئاً كما في تاج العروس 70:1.

ويرضون بك إماماً ، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك(1).

والمتابعة له هي التمسك به وهى زينة الأبرار التي ذكرها النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، نسأل اللّه أن يجعلنا من أولئك المساكين الذين رضيهم أمير المؤمنين(علیه السلام)له أتباعاً وبه متمسكين ، ثم إن الخبر مصرّح بالإمامة، فهو من المعاضد للأخبار التي ذكرت في مقامها.

ومن ذلك حديث الحافظ عن أنس، وقول رسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في علي(علیه السلام)«إنه راية الهدى ومنار الإيمان»(2)وقد ذكرناه، ومن المعلوم أن راية الهدى يجب اتباعها ومنار الإيمان يجب الاقتباس منه والاقتداء به، وذلك معنى التمسك بلا ريب.

ومن ذلك الحديث المتواتر في الجملة وهو حديث الثقلين، وقد صححه ابن أبي الحديد(3)،وهو مروي بأسانيد كثيرة وألفاظ مختلفة بالزيادة والنقصان:

فمنها:«إنى مخلف فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا:كتاب اللّه وعترتي».

ومنها:«إنّي مخلف فيكم الثقلين:كتاب اللّه وعترتي ، كتاب اللّه الثقل الأكبر وعترتي الثقل الأصغر ، فتمسكوا بهما، فإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا على الحوض»(4).

ص: 313


1- شرح نهج البلاغة166:9،المعيار والموازنة:227،حلية الأولياء 1: 71 مجمع الزوائد121:9،نظم درر السمطين:102،كنز العمال 626:11 ح 33053.
2- حلية الأولياء66:1،مناقب الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)411:1،المسترشد: 628، شرح الأخبار للقاضي نعمان162:1، الأمالي للطوسي:245،مناقب ابن شهر آشوب 297:2.
3- شرح نهج البلاغة270:10.
4- حديث الثقلين متواتر عند المسلمين وقد ألفت حوله دراسات عديدة سنداً ومتنا .

وغير ذلك من الألفاظ والأسانيد،وعلى كل حال فهو نص صريح في وجوب التمسك بالعترة الذين أمير المؤمنين (علیه السلام)سيدهم، وحات على لزوم متابعتهم، ومصرّح بأن قولهم قول القرآن، فالمخالف لهم مخالف للقرآن على عمد، فهو فاسق ظالم،فالخبر ناص على إمامة العترة المحمدية بلا شك،لأن واجب المتابعة على الإطلاق هو الإمام لا غيره من الأمة.

و عترة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)هم الذين دعاهم للمباهلة يوم نصارى نجران، وقال فيهم ذلك اليوم:«اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(1)كما هو مشهور عند المفسرين ومعلوم عند المحدثين ، ولا شك أن المخاطبين بالتمسك بالثقلين بالمشافهة هم الصحابة ، فهم مأمورون باتباع الكتاب والعترة.

و به يبطل ما ادعى خصومنا أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم(2)،للتناقض الظاهر لكلّ ذي فهم إلا أن يحمل على إرادة العترة من لفظ الأصحاب ، كما قال أمير المؤمنين في بعض خطب النهج مخبراً عن نفسه وبنيه:«نحن الشعار(3)والأصحاب والخزنة والأبواب»(4)الخطبة،وهو موافق لما روي من طريقنا أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فسر الأصحاب الذين هم كالنجوم إذ سئل عنهم بأهل بيته و عترته(5).

ص: 314


1- جامع البيان للطبري10:22،شواهد التنزيل62:2،تاريخ مدينة دمشق 14: 140،مناقب أمير المؤمنين للكوفي132:2،العمدة لابن البطريق : 36، ذخائر العقبي : 22 .
2- تحفة الأحوذي 10: 155 و 196، وقال ابن مندة الأصبهاني في الفوائد: 29 في ذيل الحديث اعلاه:اسناده ساقط والحديث موضوع، وقد قدح فيه ابن حجر في لسان الميزان137:2 في ترجمة جميل بن يزيد.
3- الشعار ما یلی البدن من الثباب و المراد انّا نحن خاصّة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)
4- نهج البلاغة43:2 الخطبة154،شرح نهج البلاغة164:9.
5- مشارق أنوار اليقين :320 ، مكيال المكارم 2: 297.

فما أدري أهل السقيفة إذ قالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا،بالثقلين تمسكوا أم بآرائهم أخذوا؟وأبو بكر إذ أوصى إلى عمر، بالثقلين في ذلك تمسك أم مسلك هواه سلك ؟ وعمر حين أمر بالشورى،بالثقلين اقتدى أم قال بما اشتهى ؟ وما بعد عبادان قرية، فليجبنا ابن أبي الحديد بحق لا بما يختار ويريد مما يربى على كلام المبرسمين(1)سماجة ويزيد، فإنّ مثل ذلك مما لا ينفع عند الخصام، ولا يقنع به الحجة ذوو الأفهام .

وروى ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إنّه حطب الناس يوم جمعة فقال:«أيها الناس،قدّموا قريشاً ولا تقدموها - إلى أن قال:- أيها الناس، أوصيكم بحب ذي قرباها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب(علیه السلام)»، الخبر(2).

والمحبة تستلزم المتابعة كما ذكرنا من قبل، بل إذا كانت مأموراً بها كما هنا نفس المتابعة لا غير، وسيأتي ما يوضح هذا المقام بأتم إيضاح،فدلالة الخبر على وجوب التمسك بعلي(علیه السلام)ظاهرة غاية الظهور،فهو الإمام الواجب اتباعه بعد الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)و والا فلا فائدة في التمسك به إذا كان المتبوع في الأمر والنهي غيره، بل لا تمسك به على هذا بالمرة، وإنما المتمسك به ذلك المطاع المتبع ، وهو غيره على قول الخصوم، وهو(علیه السلام)مأمور عندهم باتباع ذلك الغير.

فأين إذن وجوب التمسك بأمير المؤمنين(علیه السلام)بعد النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الذي صرحت به أخبارهم ونصت عليه رواياتهم الصحيحة مما ذكرناه هنا وغيره، فلازمهم إما ردّ

ص: 315


1- أي المرضى، أنظر لسان العرب 46:12 .
2- شرح نهج البلاغة 9: 172 .

الأخبار وتكذيبها ، ولا سبيل لهم إلى ذلك، أو الإقرار بأنها نص في إمامة علي(علیه السلام)من بعد النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وبطلان إمامة غيره، وهو المراد، والتأويلات الفاسدة مردودة، مع أنها في المقام مفقودة.

[على(علیه السلام)ولىّ اللّه]

وأما ما ورد بلفظ الولي فمن القرآن قوله تعالى:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(1)وهي عند المفسرين نازلة أمير المؤمنين(علیه السلام)حين تصدّق في ركوعه بخاتمه على السائل، ورووا ذلك عن أبي ذر عن عبد اللّه بن العباس(2)،ورواه عنه المحدّثون من الخصوم أيضاً وصححوه(3).

وبالجملة فالاتفاق حاصل عليه، والولي هنا هو الأولى بالتصرف لقول اللّه تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)(4)وجملة «وهم راكعون »حال من ضمير»و«يؤتون الزكاة»أي يؤتون الزكاة في حال ركوعهم.

وإذا كان علي(علیه السلام)هو الأولى بالناس بولاية اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليهم كان هو الإمام،إذ لا ولاية كذلك لغير الإمام، ولا ولاية لغير علي(علیه السلام)من الصحابة للحصر

ص: 316


1- المائدة: 55 .
2- جامع البيان للطبري389:6،احكام القرآن للجصاص557،وفي طبعة أخرى :446،شواهد التنزيل210:1،تفسير الرازي26:2،الكشاف للزمخشري 442:2،القرطبي221:6،تفسیر ابن کثیر198:1.
3- المعيار والموازنة للاسكافي : 228، المعجم الأوسط للطبراني218:6،معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري : 102 .
4- الأحزاب : 6.

ب-«إنّما»، فالآية نص في إمامة علي(علیه السلام)، وفي نفي إمامة غيره بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

ومتى قيل : كيف جعل لفظ الجمع موضع المفرد ؟ وما الفائدة في ذلك إذا كان المراد الواحد دون الجمع ؟

قلنا:وضع الجمع موضع المفرد وارد في كلام العرب على كثرة ، إذا قصدوا تعظيم ذلك الواحد وتفخيم شأنه(1)، وفي القرآن الكريم من ذلك الكثير،قال اللّه تعالى:(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(2)،وقال تعالى:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً لِلَّهِ حَنِيفاً)(3)والاستدلال على هذا المطلب ممّا لاحاجة إليه لوضوحه.

وحمل الولاية في الآية على ما لا يرجع إلى فرض الطاعة والإمامة مثل المعونة والنصرة-كما قاله القوشجي وقبيله والمعتزلي وأصحابه(4)-فاسد لأنه يستلزم أن لا معين ولا ناصر للمؤمنين إلّا اللّه تعالى والنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وعلى (علیه السلام)، لدلالة الحصر ب-«إنما»على ذلك كما ذكرنا، فيجب ألّا يكون بعض المؤمنين ناصراً ومعيناً البعض، وهو خلاف نصّ اللّه تعالى بقوله:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْض)(5)وما يخالف كتاب اللّه باطل مردود.

على أنه يلزم على قوله أن لا يكون أبو بكر وعمر وعثمان من أعوان المؤمنين وأنصارهم لا في زمان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ولا بعده، فلا يجوز جعلهم أئمة لأن الإمام ناصر المؤمنين، وهم أنصاره، فيجب أن يكون علي(علیه السلام)هو الإمام بعد الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لثبوت نصرة المؤمنين له مطلقاً بالآية.

ص: 317


1- أنظر تفسير مجمع البيان364:3.
2- الذاريات: 47.
3- النحل: 120 .
4- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 4 السطر 18 .
5- التوبة: 71 .

وهذا ما لا يرضى به القوشجي وحزبه، فما ارتكبه من التأويل الفاسد لدفع حجتنا كان لقولنا محققاً ولمذهبه مبطلاً، وهو يقدر بجهله أنه أزال بتأويله استنادنا إلى الآية في إثبات إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)،وهو ما زادنا إلا تقوية وانتصاراً بإخراجه أئمته من ولاية المؤمنين.

وحمل «وهم راكعون»على العطف أو الاستيناف دون الحال كما ارتكبه هو أيضاً وأشباهه فلا تكون الآية خاصة بعلي(علیه السلام)،مع ما فيه من المخالفة لقول المفسرين منهم والمحدثين من اختصاص الآية علي(علیه السلام)كمجاهد والسدي وعطا والثعلبي وأبي بكر الرازي والرماني والطبري وغيرهم(1)مستلزم لعطف الجملة الاسمية المحضة على الجملة الفعلية المحضة.

وذلك مرغوب عنه في العربيّة ومرجوح عند أهل اللغة،فلا يحمل عليه القرآن الكريم الذي هو في أعلا طبقات البلاغة.

وأيضاً مستلزم للتكرير الغير المفيد لأن قوله عزّوجلّ:«يقيمون الصلاة»دخل فيه الركوع فذكره ثانياً تكرير غير مفيد فيكون مرجوحاً، يصان عنه الكتاب العزيز.وجعل الجملة المذكورة حالاً مفيد فائدة قريبة، فالحمل عليه أولى،بل هو الواجب والاستيناف ممتنع لتلبس الجملة بضمير«الذين يؤتون الزكاة»ولأنه لم يبق لها معنى محصّل إذا قطعت عن ما قبلها .

ومع هذا كله إن قوله تعالى:«إنّما وليكم اللّه»خطاب للمؤمنين كافة والنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)داخل فيهم قطعاً، لأن اللّه وليه ، وقوله«ورسوله»مخرج للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من الخطاب، و«قوله والمؤمنون» لابد فيه من أحد وجهين: إما أن يكون إخراجاً لواحد خاص ،

ص: 318


1- راجع تفسير التبيان للشيخ الطوسي558:3،مجمع البيان 361:3 .

فقد ثمّ المعنى وثبت أن ذلك الواحد هو الولي الذي تجب طاعته بطاعة اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، ولا قائل من العلماء على تقدير اختصاص الآية وكون الولاية فيها بمعنى فرض الطاعة بأن المعنى بها غير على(علیه السلام)فتثبت إمامته بعد النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ضرورة .

وإما أن يكون إخراجاً لكل المؤمنين الذين يصلون ويزكون ويركعون، كما هو مقتضى قول الخصم ،فحينئذ لم يبق مخاطب بالآية، وكان المضاف هو عين المضاف إليه، وكان كل مؤمن هو ولي نفسه، وهو محال، لأن الخطاب بالآية غير مرتفع بالاتفاق.

والواجب في ذلك أن يكون من جعلت له الولاية غير المخاطبين بالآية الذين جعلت عليهم الولاية حتى يكون ولي ومولّى عليه ، وليس على تأويل الخصم إلا الولي خاصة، فالخطاب إذن قد ارتفع، وهو باطل بدون تأمل، فبطل ما تأوّلوه من التأويلات الركيكة، وانزاح ما تمحلوه من المحالات الممتنعة، وتبين أن الآية نص في إمامة أمير المؤمنين بلا ريب.

ص: 319

[من كنت مولاه فعلیّ مولاه ]

ومن السنة خبر الغدير الذي ملأ الأسماع وطبق البقاع، وذكر في إسعاف الراغبين أنّة مروي عن ثلاثين رجلاً من الصحابة(1)،وذكر غيره أن طرق هذا الحديث تزيد على مائة طريق (2).

روى أحمد بن حنبل في مسنده عن البراء بن عازب قال:كنا مع النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في سفر فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح(3)الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)تحت شجرتين، فصلّى الظهر وأخذ بيد علي (علیه السلام)فقال: «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟»

قالوا:بلى.فقال:«اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه،اللهم فوال من والاه،وعاد من عاداه»،فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك فقال له : هنيئاً لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة(4).

ورواه أحمد بن الحسين البيهقي بهذا اللفظ أيضاً مرفوعاً إلى البراء بن عازب(5).

وفي حديث الزهري في ذكر خطبة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)البغدير خم،ثمّ قال-يعني النبی(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)-:«أيها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين ؟».

ص: 320


1- إسعاف الراغبين:167وقال:«وكثير من طرقه صحيح أو حسن».
2- أنظر المجلد الأول من كتاب الغدير.
3- الكسح : الكنس، أنظر لسان العرب571:2.
4- مسند أحمد281:4.
5- حكاه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : 35 عن البيهقي، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي503:7،نظم دور السمطين: 109 .

قالوا: اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أولى بالمؤمنين-يقول ذلك ثلاث مرات-ثم قال في الرابعة-وأخذ بيد على(علیه السلام)-:«اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه،اللهم وال من والاه وعاد من عاداه-يقولها ثلاث مرات-ألّا فليبلغ الشاهد منكم الغائب»(1).

وفي رواية الحافظ أبي الفتوح أسعد بن أبي الفضائل بن خلف في كتابه الموجز بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري،وعامر بن أبي ليلى بن ضمرة،في ذكر الخطبة أيضاً:ثمّ قال-يعني النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)-:«يا أيها الناس، ألا تسمعون؟ ألا فإن اللّه مولاي، وأنا أولى بكم من أنفسكم، ألا ومن كنت مولاه فعلي مولاه، وأخذ بيد علي(علیه السلام)فرفعها حتى نظرها القوم،ثم قال:اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(2).

وبعض المحدثين رواه مختصراً بدون المقدّمة المذكورة، وهي قوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(3)إما اختصاراً أو تدليساً أو استغناءاً بما بعدها في إفادة المراد ، لا لأنها غير موجودة في أصل كلام النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

فقدح القوشجي في دلالة الخبر على المقصود بأن أكثر من رواه لم يرو المقدمة المذكورة معه(4)مقدوح أولاً:بوجودها في قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)برواية جملة من أكابر المحدثين كما سمعت فلا سبيل إلى إنكارها .

وثانياً:بأن الباقي كاف في الدلالة على المطلب لو لم تكن مذكورة قبله في أصل قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) وخطبته .

ص: 321


1- المناقب لابن المغازلي : 37/25، الفصول المهمة لابن الصباغ:23،كتاب الأربعين للماحوزي: 144، خلاصة عبقات الأنوار: 258 الغدير33:1.
2- نقله في الفصول المهمة : 24 .
3- مسند أحمد 1: 152، سنن ابن ماجة 1: 45 ح 121 ، سنن الترمذي 5: 297 ح 3797 .
4- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 9 السطر 17 و 18.

وهذا الخبر مما احتج به أمير المؤمنين(علیه السلام)على أهل الشورى في جملة ما احتج به على أولويته بالإمامة(1)،فما أنكره من القوم منكر، ولا قدح فيه قادح، وقد صحح ذلك المعتزلي واعترف به القوشجي،فقول بعض الخصوم أنّ الخبر غير متواتر(2)تعصب محض وعناد صرف، ومن هذا شأنه فهو مليء بالجهالات ودفع الضرورات، فلا يلتفت إليه.

وروى ابن أبي الحديد هذا الخبر في مواضع كثيرة من كتابه، قال في موضع : وروى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد اللّه قال : لما بلغ عليا(علیه السلام)أنّ الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إياه وتفضيله على الناس.

قال:«أنشد اللّه من بقى ممّن لقي رسول اللّه وسمع مقاله في يوم مقاله في يوم غدير خمّ إلّا قام فشهد بما سمع».فقام سنّة ممّن عن يمينه من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وسنة ممّن عن شماله من الصحابة أيضاً، فشهدوا أنهم سمعوا رسول اللّه يقول ذلك اليوم،وهو رافع بيد عليّ:«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه،اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره،واخذل من خذله، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه(3).

وذكر قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«وأدر الحق معه حيث دار في موضع آخر مفرداً»(4).

والمولى هنا يراد به الأولى والأحق بالأمر مثله في قوله تعالى:(مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ

ص: 322


1- الاحتجاج للطبرسي 1: 178،احتجاج أمير المؤمنين(علیه السلام)لما مات عمر بن الخطاب وقد جعل الخلافة شورى بينهم.
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 5 السطر 17 .
3- شرح نهج البلاغة288:2.
4- شرح نهج البلاغة 297:2.

مَوْلاكُمْ)(1)وقوله تعالى:(وَلِكُلِّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)(2)لأنَّه فِي الشرط مراد به ذلك لثبوته للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالكتاب في قوله عزّ وجل:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)(3)الآية .

والجزاء على منوال الشرط وارد فیراد به ما یراد بشرطه فيثبت أن علياً(علیه السلام)هو الأولى بالأمر والأحق به ،فيكون هو الإمام بعد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الدخول من سواه في ولايته بواسطة دخولهم في ولاية رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فلا يصلح أحد منهم للتقدم عليه في أمر من الأمور ، كما لا يصلح لهم التقدم على رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

ولا يجوز حمل المولى في الخبر على غير الأولى بالأمر من معانيه لامتناع المعتق والمعتق للفاعل والمفعول وشبههما يقيناً واتفاقاً،وخروج الناصر والمعين وما آل إليهما بالقرينة اللفظية والعقليّة؛أما اللفظية فقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قبل ذلك:«أنا أولى بكم من أنفسكم»فإنّها تعيّن أن المراد من قوله«من كنت مولاه فعلي مولاه»من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه،وإلّا فلا فائدة في هذا الكلام في المحل،ولا حاجة إلى أخذ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)اعتراف القوم به ثلاث مرات كما في حديث الزهري، ومرّة واحدة كما في غيره، فتكون لغواً، ولا يجوز أن يكون كذلك كلام الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فتكون لما ذكرناه من إرادة رفع الاشتراك عن لفظ المولى وتعيين معنى الأولى منه .

وأما العقلية فلأن مقتضى المقام ذلك لأن جَمْعَ الناس وإخبارهم في ذلك

ص: 323


1- الحديد:15.
2- النساء : 33.
3- الأحزاب: 6 .

الوقت الشديد الحرّ لا ينصرف ذهناً ولا يحتمل عقلاً، لأن يكون إخباراً بما كان معلوماً قبل ذلك للمخبرين، بل ينصرف عقلاً إلى الإخبار بأمر غير معلوم لهم سابقاً ليكون تأسيساً لحكم ، وكون على (علیه السلام)ناصراً ومعيناً لمن كان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وليه أمر معلوم لكل الحاضرين، فالإخبار به قليل الفائدة، بل لا فائدة فيه.

وهل هو إلّا تحصيل حاصل يصان فعل النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عن مثله، فلابد أن يكون الإخبار عن ما ليس بمعلوم للمخاطبين ليعلموه، وما هو إلّا إثبات ولاية النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) على المؤمنين لعلي (علیه السلام).

والمشترك يرتفع اشتراكه بالقرينة المعينة لإرادة أحد معانيه منه، وهي هنا موجودة على ما نقول كما ترى ؛ فتعيّن أن المراد بلفظ مولى في الخبر الأولى بالتصرف وبه يثبت المطلوب.

وبالجملة إن هذا الخبر نص صريح على أمير المؤمنين(علیه السلام)بالإمامة يقيناً لا ينبغي للخصوم الشك فيه ولا التشكيك ، لولا ما ارتكبوه فيه من التأويلات البعيدة الباردة التي يحكم الذوق المستقيم باستحالتها للشبهة التي اتخذوها حقاً ، والبدعة التي جعلوها سنة .

وكيف يصح أن يريد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)هنا بالمولى الناصر والمعين وابن العم والحليف-كما قالوه-فيكون (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد قام في حرّ الظهيرة وجمع الناس في سعير الهاجرة يخبرهم عن شيء علموه أولاً على لسانه من القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ)(1)وغيرها من الآيات الكثيرة وعرفوه من قوله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مرات متعدّدة، وتيقنوه من دون خبر، إذ لا يجهل أحد أن

ص: 324


1- التوبة:71.

عليّاً ابن عم رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وإنّ من كان ابن عمّ أحدهما، فهو ابن عم الآخر، والحليف كذلك ، وينبؤهم عن علي(علیه السلام) بشيء لا يختص دون المؤمنين كافة، ولا دون سائر بني هاشم في ذلك المقام الوعر.

وهذا لو فعله سائر الناس أو صدر من بعض عامتهم لنسبه العقلاء إلى ضعف العقل،وطعن فيه أهل الرويّة بقلة الرأي،فكيف يصدر مثله عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى؟فيجب أنّ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إنما أخبرهم في ذلك المشهد بشيء من الولاية يختص به علي(علیه السلام)دون سائر المؤمنين، ودون باقي بني هاشم.

وما هو إلا أنّه ولي بولاية الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على المؤمنين،وأولى بالتصرف فيهم من أنفسهم باليقين،فيكون هو الإمام، لا معنى للمولى هنا إلا هذا كما ذكرنا .

ولا يشك في هذا إلا من خالطت العصبية لحمه ودمه، وأعرض عن التأمل في دلالات الكلام،والنظر في مقتضيات الأحوال، فحاد عن قبول الحق، واعتمد على ما ألفه من زخارف الأسلاف أهل العصبية والاعتساف.

وأما من وقف عند النص وتأمل مقتضى الحال وترك التعلل بالشبهات الواهية،فإنّه لا يرتاب في أن الخبر نص واضح على أمير المؤمنين(علیه السلام)بالإمامة العامة،ولذا قال أبو الهيثم فيما ذكرنا من شعره:«إن الوصي إمامنا وولينا»،البيت(1)،يريد أولى بنا كما لا يخفى على المتأمل فى كلامه .

ص: 325


1- شرح نهج البلاغة 1: 143 والقصيدة هكذا: قل للزبير وقل لطلحة إننا نحن الذين شعارنا الأنصار نحن الذين رأت قريش فعلنا يوم القليب أولئك الكفار كنا شعار نبينا و دثاره يقديه منا الروح والأبصار إن الولي إمامنا وولينا برح الخفاء وباحث الأسرار

وروى ابن أبي الحديد عن إبراهيم بن ديزل في كتاب صفين قال:حدّثنا ابن سليمان قال:حدّثنا ابن الفضيل قال:حدّثنا الحسن بن الحكم النخعي،عن رياح بن الحارث النخعي قال:كنت جالساً عند علي(علیه السلام)إذ قدم عليه قوم متلثمون

فقالوا : السلام عليك يا مولانا .

فقال لهم: «أولستم قوماً عرباً؟»

قالوا:بلى،ولكنا سمعنا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول يوم غدير خمّ:«من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه،وانصر من نصره واخذل من خدله».

فقال : لقد رأيت عليا ضحك حتى بدت تواجده ثمّ قال:«اشهدوا».

ثمّ إنّ القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم فقلت لرجل منهم:من القوم؟قال:نحن رهط من الأنصار وذاك-يعنون رجلاً منهم- أبو أيوب صاحب منزل رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فصافحته(1).

وهذا الخبر ظاهر أي الظهور فى أن القوم فهموا من لفظ «المولى» في كلام النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إرادة الأمير الذي هو الإمام فسلّموا على عليّ بالموالاة بدل الإمارة لأنها عندهم بمعناها فمرادهم بمولانا ،أميرنا ولو كان مرادهم المعونة والنصرة لم يكونوا سلموا عليه بالإمرة، لكنهم قصدوا من اللفظ المذكور التسليم عليه بها.

ولولا ذلك لما كان لضحك عليّ(علیه السلام) واستبشاره باستدلالهم على ذلك بالحديث معنى،ولا لقوله لأصحابه اشهدوا فائدة، لأنهم لا يشكون قبل ذلك في أنه من المؤمنين الذين صرّح القرآن بأن بعضهم معين بعض وناصره،بل لا يشكون في أنّه سيّد المؤمنين وإمامهم في ذلك الوقت.

ص: 326


1- شرح نهج البلاغة208:3،وقعة صفين : 338، أسد الغابة 1: 368.

ثمّ إنّ راوي الحديث يفهم منه أنه فهم من قصد الأنصار الولاية العامة لا المعونة والنصرة، فتأمل.

قال ابن أبي الحديد:وقال أبو بكر:وحدّثني علي بن سليمان النوفلي قال:سمعت أبي يقول:ذكر سعد بن عبادة يوماً علياً

(علیه السلام)بعد يوم السقيفة فذكر أمراً من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته،فقال[له]ابنه قيس بن سعد:أنت سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول هذا في علي بن أبي طالب (علیه السلام)ثم تطلب الخلافة ويقول أصحابك:منا أمير ومنكم أمير ؟! لا كلمتك واللّه من رأسي بعدها كلمة أبداً، انتهى(1).

فهذا كما ترى دالّ على أن من طلب الخلافة بعد رسول الله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من القوم ليس لعدم علمه بنص الغدير بولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)،ولا لأن هذا اللفظ لا يوجب له الإمامة،ولكن كان ذلك منهم حبّاً للرئاسة وطلباً للإمرة، وتعمداً لمخالفة نص الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لذلك ،الغرض، ولذا أنكر قيس على أبيه طلب الخلافة بعد سماع ذلك وقال ما سمعت.

ولولا علمه بأن الولاية لعلى(علیه السلام)في قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يراد بها الإمامة والإمارة دون المعونة والنصرة، وعلمه بأنّ أباه يعلم ذلك لما كان يتوجه له الإنكار على بوجه من الوجوه، ولا صحّ له أن يتبرأ من مكالمته بحال من الأحوال.

ولولا أن سعداً فهم من الولاية ما فهمه ابنه منها لاعتدر إليه عن فعله ودفع عنه إنكاره بما يعتذر به خصومنا اليوم من حمل الولاية على المعونة والنصرة.

وأقول:شقياً لربع قيس في صدعه بالحق وعدم التفاته في القول به إلى القرابة،وإنكاره الباطل حتى على أبيه،مع كونه سيد الأنصار، وهذه قاعدة طالب الحق

ص: 327


1- شرح نهج البلاغة 6: 44.

المنصف وطريقته لا يعاند إذا ظهر له الحق ولا يعدل عنه، ويتعلّل فيه الرضى القرابة والعشيرة والشيوخ والأسلاف وحب الرياسة والجاه.

وقد وضح من جملة ما حررناه أن الأنصار ومن سمع الخبر من منصفي التابعين قد عرفوا وحكموا أن مراد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«من كنت مولاه فعلي مولاه»الأولوية بالأمر،وهي الإمارة العامة والإمامة الكبرى والخلافة العظمى، لا معنى غيرها مما يذكره الخصوم.

أفترى خفي على المهاجرين مثل أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وعبد الرحمان وأضرابهم،مع شدة ملازمتهم للنبي

(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وقوة فهمهم وعلمهم على ما يدعي الخصم ما كان ظاهراً للأنصار ظهور الشمس في رابعة النهار؟أم تعمدوا مخالفة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)طلباً للرئاسة،وكتموا نص الرسول على علي(علیه السلام)طمعاً في الإمارة، كما فعل سعد بن عبادة عند طلبه ذلك،فلمّا فاته الأمر أظهر ما أخفاه وأبرز ما كتمه ؟

فانظر ما قلناه بعين التبصر والإنصاف، فإنك لا تشك بعده في صحة ما نذهب إلیه.

وممّا يعين ما قلناه مضافاً إلى ما ذكرناه قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في آخر الخبر:«اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه،وانصر من نصره،واخذل من خذله»، فإنّ المراد من موالاة اللّه موالي على(علیه السلام)هدايته وإثابته إياه، ومن معاداته معادي علیّ(علیه السلام) إضلاله ومعاقبته.

والمراد من موالاة على(علیه السلام)متابعته والاقتداء به، ومن معاداته مخالفته والعدول عنه إلى غيره، لا النصرة أو الحلف في الموضعين، ولا الخذلان والمحاربة في

ص: 328

المقامين،لأنه لو كان المراد ذلك لكان قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعده«وانصر من نصره واخذل من خذله»تكريراً عديم الفائدة، ولا يجوز حمل كلام النبيّ المطهر على ذلك .

[إشكالات على حديث الغدير وردها]

وإذا استوضحت جهة استدلالنا بالخبر الشريف على قولنا،وعرفت صراحته في مذهبنا،فاعلم أن الذي حاوله المخالفون فيه وزعموا أنه ناقص لدلالته على ما ندعيه ومُخرج له عن الحجية على ما نبتغيه وجوه أربعة :

[الوجه]الأوّل:منع تواتره لأنه لم يروه البخاري ومسلم والواقدي،كما قاله القوشجي وغيره منهم(1)،فلا يكون حجة في المقام يعارض به الإجماع،وهذا الوجه وما بعده من الوجوه التي يتعلّلون بها في دفع الحق الواضح قد اشتمل بياننا على تزييفها وإبطالها على أوضح وجه ، ولكنا هنا نذكرها مفصلة، وتردف كلّ وجه بما يبين فساده ويوضح بطلانه.

فنقول في الجواب عن هذا:إنّ الداعي لمن ذهب من الخصوم إلى منع تواتر الخبر المذكور هو الشبهة الحاصلة من تقدّم الثلاثة على علیّ(علیه السلام)،وتركهم وأصحابهم العمل به،واستبعاد مخالفتهم للرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) فيما كان معلوماً ، وكلّ ذلك مردود.

أما تقدّم الثلاثة فلا يكون معارضاً للخبر حتى يثبت أنه واقع على وجه شرعي ، وهذا هو موضع النزاع والخير لا نزاع في صحته، وإن نوزع في تواتره فيكون أقوى من صحة تقدمهم.

ص: 329


1- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 5 السطر 17.

والاستبعاد ليس بدليل حتى يعارض به الأدلة ، لاسيما ومخالفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من القوم واقعة في حياته وبعد وفاته وسيأتيك توضيحه في موضعه(1)، فما(2)بمقتض عدم تواثر الخبر فى نفسه لأن شرط التواتر - وهو كونه خبر جماعة يفيد بنفسه القطع - موجود فيه، لكثرة طرقه وإقرار الصحابة به من موافقي عليّ و مخالفيه كما علمت.

وترك البخاري وصاحبيه روايته لا يدلّ على عدم تواتره مع رواية من سواهم من المحدثين وأهل السيرة له، وكم من حديث متواتر لم يذكره البخاري وصاحباه خصوصاً إذا كان حجّة عليهم .

ومتى قال مخالفونا : إنّ تخلف عليّ ومن معه وسعد بن عبادة ومن اتبعه عن أبي بكر وإنكارهم بيعته غير قادح في الإجماع على إمامته، فلا ينبغي لهم يقدحوا في الإجماع على الخبر المذكور بترك البخاري وصاحبيه روايته ،مع عدم تصريحهم بإنكاره ، فالاعتراض في الخبر من هذا الوجه مندفع .

[الوجه ] الثاني: عدم تعيين المولى فيه بمعنى الأولى، واحتمال كونه لغيره من المعاني كالناصر والحليف، وزاد الصبان الشافعي في كتابه إسعاف الراغبين على ذلك أنه «لم يعهد كون المولى بمعنى الأولى : لا شرعاً وهو واضح ولا لغة إذ

ص: 330


1- قد ذكرت مخالفات بعض الصحابة للنبي الكريم(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في حياته وبعد وفاته مثل مخالفة أبي بكر وعمر لأمر رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في قصة قتل الرجل المتنسك والقضية مروية في مسند أحمد 3: 15 ح 11133، مسند أبي يعلى341:6،حلية الأولياء227:3،البداية والنهاية 7: 299،سبل الهدى والرشاد157:10،هذا وقد ذكرت موارد كثيرة لمخالفات الصحابة واجتهاداتهم في مقابل أوامر رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
2- «ما»بمعنى«ليس»هنا.

لم يذكر أحد من أئمة العربية أن مفعلاً بمعنى أفعل»(1).

والجواب عنه أن نقول لهم : إنّكم حكمتم على لفظ مولى في قوله تعالى :(مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ)(2)وفي قول النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«أيما امرأة نكحت بدون إذن مولاها»(3)أنه بمعنى الأولى ومالك الأمر للقرينة الحالية أو المقالية، ونفيتم عنه ماسوى ذلك من معانيه .

ولازم ذلك الحكم على«مولى»في الخبر بأنه بمعنى الأولى بالمؤمنين لوجود القرينتين من الحالية والمقالية على إرادته منه، ونفى ما سواه من المعاني،كما ذكرنا أولاً،وهما دليلان يجب العمل بهما في المقام،كما أوجبتم العمل بهما في غيره، وترك العمل بالدليل للتشهي غير جائز شرعاً.

وأمّا الجواب عن زيادة الصبّان وهذره فبأن«مولى»قد عهد كونه بمعنى الأولى شرعاً وعرفاً ولغةً؛فأما في الشرع فالرواية المتقدّمة تشهد به، فقد جمع أصحابه وغيرهم على لفظ مولى فيها بمعنى الأولى شرعاً، ومثله في الآيات كثير، قال اللّه تعالى:(وَلِكُلِّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ)(4)أي أولى بالميراث،وقال تعالى:(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي)(5)أي الأولى بميراثه من غيرهم، وكل هذا مما لا نزاع فيه.

ص: 331


1- إسعاف الراغبين: 167 ، وانظر الصوارم المهرقة التستري:180.
2- الحديد:15.
3- قد استشهد الزبيدي في تاج العروس10: 399 بهذا الحديث وبالآية المتقدمة وحديث«من كنت مولاه»بأن الولي والمولى معناهما واحد،وهو من يلي الأمور ويديرها،بحار الأنوار 238:37.
4- النساء:33.
5- مريم:5.

وأما اللغة فبوجوه:

الأوّل: أن أبا عبيدة معمر بن المثنى، وهو إمام نقلة اللغة العربية قد ذكر«مولى»بمعنى الأولى، ونصّ عليه وحمل عليه لفظ «موالی» في الآية المذكورة(1).

وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه المترجم بالعبارة عن صفات اللّه:أصل تأويل الولى الذي هو أولى أي أحق، ومثله المولى. وقال بعد تأويل ذلك بأنّ اللّه هو مولى الذين آمنوا،والولى والمولى معناهما سواء، وهو الحقيق يخلقه المتولّي لأمورهم(2).

وقال في كتاب معاني القرآن:الولي والمولى في كلام العرب واحد(3).

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه المعروف بالمشكل : والمولى الولي، والمولى الأولى بالشيء(4).

وذكره أيضاً غيرهم من أئمة اللغة واعترف بثبوت ذلك وصحته القوشجي فی شرح التجريده(5).

الثاني: وروده في القرآن كما في الآيات المذكورة وغيرها، وفي السنة مثل الرواية المتقدمة وغيرها، وهما أفصح الكلام العربي.

الثالث: وروده في أشعار العرب على كثرة ، قال لبيد بن ربيعة العامري :

ص: 332


1- المجاز لأبي عبيدة254:2،واستشهد ببيت لبيد الآتي ، ونقله عنه الرازي في تفسيره227:29،والعسقلاني في فتح الباري 482:8.
2- حكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار238:37، الغدير361:1.
3- حكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار238:37.
4- حكاه عنه السيد المرتضى في الشاقي في الإمامة272:2،والعلامة المجلسي في بحار الأنوار 239:37،الغدير617:1(الطبعة المحققة)، كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي: 125.
5- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 4 السطر 18.

فعدت كلا الفرجين تحسب أنه*** مولى المخافة خلفها وأمامها(1)

فالمولى فيه بمعنى الأولى، مثله في قوله تعالى:(مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ)قاله ثعلب النحوي وأبو عبيدة(2).وقال الشنفري جابر بن ثابت الأزدي(3).

وإنّي لمولى الصبر أحباب بزة***على مثل قلب السمع والحزم أفعل

أي إنّي أولى بالصبر من غيري وأنا مالك أمره، وذلك أنه يصف نفسه بكثرة الصبر زيادة على غيره من ذوي الصبر، فلابد من معنى التفضيل:

وقال عمرو بن البراقة الفهمي:

إذا جز مولانا علينا جريرةً***صبرنا لها إنا كرام دعائم

وتنصر مولانا ونعلم أنه***كما الناس مجروم عليه و جارم(4)

فمولانا في البيتين بمعنى سيدنا، قاله شرّاح الشواهد، وهو بمعنى الأولى بنا والمالك لأمرنا.

وقال الأخطل :

فأصبحت مولاها(5)من الناس بعده***وأخرى قريش أن تهاب وتحمد(6)

ص: 333


1- حكاه في الهداية للصدوق:151، معاني الأخبار : 68، أقسام المولى للشيخ المفيد : 28، رسالة في معنى المولى: 37 مناقب ابن شهر آشوب251:2.
2- حكاه عن ثعلب النحوي الزوزني في شرح المعلقات السبع: 106 في ذيل بيت لبيد بن ربيعة العامري.
3- لا يخفى عليك أن الشنفري هو عمرو بن مالك الأزدي ولا وجود في كتب الرجال لجابر بن ثابت والموجود ثابت بن جابر وقد قال عنه في أعيان الشيعة170:4 أنه خال الشنفري، ولكن هذا مردود في بقية كتب التراجم وأن ثابت بن جابر هو تأبط شرا.
4- لسان العرب 129:4،مجمع البحرين3:4،تاج العروس94:3.
5- في الحجرية : (مولانا) .
6- حكاه المجلسي في بحار الأنوار238:37.

وقال غيره:

كانوا موالى حق يطلبون به***فأدركوه وما ملوا وما لعبوا(1)

والشواهد عليه كثيرة. وإطلاق المولى في لسان العرب على مالك العبد معلوم غير مجهول،وبه ورد الكتاب العزيز،قال اللّه تعالى:﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَه)(2)والمراد به الأولى به والمالك لأمره.

وأمّا في العرف فلان إطلاق لفظ المولى على من بيده أمر المرأة في النكاح،وعلى مالك العبد،أمر شائع ذائع بين الفقهاء والمحدثين، وعامة الناس في جميع الأقطار بحيث لا ينكر ولا يدفع.

فقد جاء«مولى»بمعنى الأولى بالشيء والأحق به شرعاً ولغةً وعرفاً، بل قال بعض المحققين من أهل الاطلاع على دقايق اللغة العربية : إنّ الأصل في المولى الأولى بالشيء والأحق به وما سواه من معاني المولى راجع إليه، فالمعتق مولى لأنّه أولى بميراث المعتق ، وهذا مولى لأنه أولى بنصرة المعتق من غيره،وابن العم لأنه أولى بنصرة ابن عمه لقرابته، والورثة موالى لأنّهم أولى بميراث الميت من غيرهم، والحليف لأنه أولى بأمر محالفه للمخالفة التي جرت بينهما، والولي لأنه أولى بنصرة من يواليه والسيّد لأنه أولى بتدبير من يسوده انتهى(3).

والصبان لفرط جهالته وشدّة حمقه عن هذا كله في غفلة؛ فبطل هذيانه وفسد حسبانه.

ص: 334


1- حكاه المجلسي في بحار الأنوار238:17،وحكاه القمي الشيرازي في كتاب الأربعين : 125.
2- النحل: 76 .
3- تفسیر مجمع البيان75:3،ذيل الآية 33 من سورة النساء.

والجواب عن قوله : إن مفعلاً لم يرد بمعنى أفعل من وجهين:

الأول:أنّا قد أثبتنا بالأدلة الظاهرة والبراهين الزاهرة مجىء هذا الحرف من مفعل بمعنى أفعل،فلا يضرنا عدم مجيء غيره بمعناه،لأنا لا ندعى العموم، وإنما الدعوى في واحد وقد أثبتناها.

الثاني: أنّه ليس المدعى أن مولى صفة بمعنى الأولى حتى يرد قوله، وإنّما المدعى أن مولى اسم للأولى، وقد اعترف بذلك القوشجي وغيره من محققيهم(1)، وبوروده كذلك في كلام العرب وأشعارهم فزال اعتراض الصبان .

[الوجه]الثالث(2):تسليم أنّه بمعنى أولى،لكن لا نسلم أنه أولى بالإمامة،بل بالاتباع له والقرب منه كقوله تعالى:(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)(3)وقول التلاميذ: نحن أولى بأستاذنا ، مثل به في المقام القوشجي(4).

والجواب:إنا لا ندري ما مرادهم من هذه العبارة المضطربة الألفاظ الزائلة المعنى،ولابد أن يكونوا أرادوا أحد وجوه : إما أنهم أرادوا أن معنى قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«من كنت مولاهفعلي مولاه»من كان لي تابعاً فهو لعلي تابع، فيكون حاصله أن من لم يكن تابعاً لي فليس تابعاً لعليّ،فمن لم يكن تابعاً لعلي(علیه السلام)فليس بتابع للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، فيقال لهم على هذا:فأبو بكر وأصحابه أتابعون للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أم غير تابعين له ؟

فإن كانوا له تابعين لزمهم أن يتبعوا عليّاً بعده، والمتبوع هو الإمام،

ص: 335


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة ص 4 السطر 18 .
2- أي الثالث من إشكالاتهم على حديث«من كنت مولاه».
3- آل عمران: 68 .
4- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 5 السطر 24.

وإن لم يكونوا للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أتباعاً لم تجز لهم خلافته؛ فدلالة الخبر على المدعى بحالها.

وإن أرادوا أن معناه من كنت تابعه فهذا معنى قبيح، لأن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يتبع أحداً من الناس،بل هو الرئيس المتبوع.

وإن أرادوا أن معناه من كان تابعاً لي كان علي تابعاً له فهو معنى مستهجن جداً،لأن مراد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من الكلام مدح علىّ(علیه السلام)بالاتفاق،وعلى هذا المعنى يكون مدحاً لواحد غير معيّن،ويكون علي(علیه السلام)الملزوماً بتبعية ذلك الغير، فلا مدح له، وهو خلاف المراد.

ولا تنصرف عبارتهم إلى غير هذه المعاني الثلاثة؛والأول لنا لا علينا،وإن كان من لفظ الخبر بعيداً،والأخيران مع ما فيهما مما سمعته بعيدان عن حاق اللفظ،فحمل كلام النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليهما بين الفساد.

وأما «الأولى»في الآية فلولا القرينة الدالة من العقل على أن التابع لا يلي أمر المتبوع لدلّت على ولاية الأمر،لكن القرينة صارفة عنه،وهي دليل متبع، ومع هذا كله، فإن خروج «أولى»في الآية عن معنى الأحقية إلى معنى المتابعة غیر مسلّم، لأنه على قولهم بمعنى إن أتبع الناس لإبراهيم للذين اتبعوه.

وهذا ممتنع من جهة أن اسم التفضيل يدلّ على المشاركة والزيادة ومن لم يتبع إبراهيم لم يشارك متبعيه في متابعته، وحيث لا مشاركة فلا تفضيل،وكذا لا مشاركة في الأقربية بين تابعيه ومن لم يتبعه فينتفي التفضيل في الأقربية أيضاً، فكان لا محالة الأولى فيها باقياً على معناه.

والمراد أن الأولى بطريقة إبراهيم والأحق بدينه من جميع الناس من كان تابعاً

ص: 336

له من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم في الملّة الحنيفية بدليل قوله تعالى بعد(وَهذَا النبيُّ )فإن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)غير تابع شريعة إبراهيم في التحليل والتحريم، ليكون مؤتماً به بالإجماع،وإنّما تبعيته لإبراهيم كونه على الملة الحنيفية مثله والذين آمنوا بالنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، فالآية ردّ على اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق المدعين أنهم على دين إبراهيم وطريقته هذا ظاهرها.

وسرّها: إن الأولى بمقام إبراهيم والأحق بإمامته المجعولة تابعوه من ذريته في الدين القويم الذين لم يجر عليهم اسم ظلم طول أعمارهم،وهذا النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)والذين آمنوا الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم،وهم علي(علیه السلام) وأطائب أولاده، فهي تشير إلى قوله تعالى:﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِيهِ)(1)یعنیالإمامة .

وهذا الوجه هو الوارد عن علماء أهل البيت في معنى الآية(2)،فهي دالة على مطلبنا من جميع الجهات، وبعيدة عن مطلبهم .

وكذا مثال القوشجى فإن المراد منه أن التلاميذ أحق بفوائد أستاذهم وعوائده من غيرهم، وذلك موافق لنا لا له، وليس المراد منه أنا أتبع لأستاذنا كما لا يخفى على المتدبر.

ثمّ لو سلّمنا حمل الولاية في الآية والمثال على ما ذكروه، لكن لا نسلم جواز حمل الخبر عليها لاختلاف التأليف المقتضى لاختلاف المعنى، فإن الأولى في الآية مسند إلى التابعين، وإبراهيم متعلّق الولاية، فجاز أن يكون المعنى أن أقرب الناس لإبراهيم المتَّبعون له،وفي المثال كذلك،وفي الخبر الولاية مسندة إلى

ص: 337


1- الزخرف: 28.
2- تفسير القمي164:1 وج 2: 274، مجمع البيان375:1،ذيل الآية 124 سورة البقرة وج 9: 240

النبی(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فلا يجوز أن يكون أراد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):من كنت تابعاً لامتناع ذلك، وعلى ما قالوه يكون المعنى هكذا.

نعم لو قال(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من كان مولاي فهو مولى على لجاز حمله على ما قالوه على ما فيه من القول الذي مرّ، فتبيّن من هذا أن حمل الخبر على ما في الآية مستحيل،وليس ذلك بخفي على من له معرفة بعلم العربية، ولا على مثل القوشجي،ولكن يلجؤهم ضيق المسلك إلى ترك ما يعلمون، واللّه المسدد لمن طلب السداد(1).

[الوجه]الرابع(2): تسليم أنه الأولى بالأمر،لكن في المآل بعد الثلاثة،لا بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فلا يدلّ على بطلان إمامة الثلاثة،ونحن نقول بذلك ونقرّ بأنه رابع الأئمة.

والجواب أن نقول لهم:إذا أقررتم بأن معنى«من كنت مولاه فعلي مولاه»من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه،فلابدّ لكم من التزام أحد أمرين لا محيص لكم عن اختيار واحد منهما:إما أن تحكموا على أبي بكر وأصحابه بأنهم من المؤمنين الذين كان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الأولى منهم بأنفسهم في اعتقادهم،أو بأنهم ليسوا منهم.

فإن أجبتم بالأوّل فلازمه أن يكون على(علیه السلام)أولى بهم من أنفسهم بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، لأن من كان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه،على جهة العموم في الشرط المقتضي لعموم الجزاء، لتناول القضية جميع الأشخاص والأوقات،كما هو دأب الشرطيّة المطلقة العامة، فيجب أن يكون علي إمامهم إذ

ص: 338


1- قد بسط العلامة الأميني القول في تفسير المولى في كتابه الغدير 1: 609 إلى آخر الكتاب فلاحظ .
2- أي الرابع من إشكالاتهم على حديث«من كنت مولاه».

كان أولى بهم من أنفسهم،ولا يجوز لهم أن يلوا عليه ولا على أنفسهم،وقد جعله رسول اللّه عليهم وليّاً وأولى بهم من أنفسهم؛ فبطلت إمامتهم قطعاً.

وإن أجبتم بالثاني فقد أخرجتموهم من حيّز الإيمان ونفيتموهم من ملة الإسلام، لأن من لم يعتقد أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أولى به من نفسه فهو كافر، والكافر لا يجوز أن يكون إماماً بالإجماع ونص الكتاب، وهذا الوجه لا تجوزونه بل تحكمون بكفر من نسب إلى الثلاثة الكفر؛ فبقي الوجه الأول، وهو يعين بطلان إمامتهم ؛ فثبت المطلوب وصحت دلالة الحديث على إمامة علىّ(علیه السلام) بعد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بلا فصل وعدم جواز إمامة غيره كائناً من كان .

وأما قول صاحب الإسعاف«بأن تجويز النسيان على سائر الصحابة السامعين لهذا الحديث مع قرب العهد في غاية البعد» (1)فباطل،لأنا لم ندع نسيان الصحابة للحديث،ولا جهالتهم بمراد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)منه،ولا عدم معرفتهم دلالته على إمامة علي(علیه السلام)،وعموم ولايته على الناس كافة كافة بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

وكيف وعمر بن الخطاب لما سمعه عرف جميع ذلك منه، وقال مخاطباً لعلي(علیه السلام):هنيئاً لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة كما انا قدمنا ذكره في رواية أحمد بن حنبل والبيهقي عن البراء بن عازب(2).

أفترانا ندعي أن عمر كان شاكاً في دلالة الحديث على أن علياً أولى بكل المؤمنين والمؤمنات من أنفسهم بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وهو يقول ما سمعت ويصرّح به؟

أو ترى أنه أراد تهنئته بأنّه ناصر المؤمنين الذي يشاركه فيه جميعهم تدعون ؟ بل هنأه بالخلافة والإمامة بلا ريبة .

ص: 339


1- إسعاف الراغبين: 168 ، وحكاه الشهيد التستري في الصوارم المهرقة : 189.
2- مسند أحمد281:4،تاريخ بغداد290:8،تفسير الرازي49:12،نظم درر السمطين: 109.

وهذا من أقوى الأدلة على ما ذكرنا سابقاً من أن الصحابة عرفوا من الحديث النص من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على عليّ(علیه السلام)الإمامة،ولم يعرض لهم نسيانه ولا ارتياب في معناه،وذلك مدّعانا عليهم، ولذا لا نعذرهم فيما فعلوا.

قوله:«وزعم أن الصحابة علموا هذا النص ولم ينقادوا له عناداً باطل»(1)مردود بما بيناه من قرب في تهنية عمر لعلي(علیه السلام)،وما ذكرناه في حديث سعد بن عبادة وابنه قيس وحديث تسليم الأنصار على أمير المؤمنين(علیه السلام)بالولاية وغير ذلك،وليس الصحابة بمعصومين حتى يجب تنزيههم عن الخطأ في الأحكام وارتكاب العصيان،وقد صدرت منهم المخالفة للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في كثير من الأمور خصوصاً من الخلفاء الثلاثة وسنذكره مفصلاً فى محله إنّ شاء اللّه.

فما ذكره من عدم انقياد القوم لنص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مع علمهم به هو اليقين عندنا من فعلهم، وليس فيه عناد أصلاً بعد انتفاء عصمتهم بالإجماع وثبوت المخالفة منهم للرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالتواتر،بل هو عمل بالدليل، وإنما يكون عناداً إذا ثبتت عصمتهم أو عدم مخالفتهم للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في شيء من الأمور دائماً، وكلّ ذلك لم يكن ، فلا سبيل إذن إلى ردّ الأدلة الصريحة حذراً من تجويز المخالفة على الصحابة.

ولسنا نحكم بذلك على جميع الصحابة فنعارض بما روي عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«لا تجتمع أمتي على ضلال»(2).

لأنا نقول:إنّ عليّاً وأصحابه الأخيار ما زالوا على العمل بذلك النص في

ص: 340


1- إسعاف الراغبين: 168،وحكاه الشهيد التستري في الصوارم المهرقة: 189.
2- قال النووي في شرح مسلم67:13 وأما حديث«لا تجتمع أمتي على ضلالة»فضعيف، ومثل ذلك في عون المعبود 7: 117 وقدح فيه العجلوني في كشف الخفاء 66:1.

سرّهم،وإن لم يتمكنوا من إظهاره في زمان تغلب الأولين،والحق معهم وحجّة اللّه فيهم،والإمام بالحق على قولهم فهو الإجماع الصحيح، فاندفع ما أورده الصبان بإذن الواحد المنان.

ثمّ إنّه زاد في كتابه وجهاً خامساً في الإيراد على الخبر لا ينبغي أن يذكر لهجنته لولا أن الواجب على المناظر الاستظهار في الحجّة،وإزالة جميع الشبه الواردة على دليله،قال:خامسها:كيف يكون ذلك نصاً في إمامة علي(علیه السلام)مع أن علياً بنفسه صرح بأنّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم ينص عليه ولا على غيره كما في البخاري وغيره،انتهى(1).

أقول:ما أضعف ما يتشبث به هؤلاء القوم في إخفاء الحق الزاهر،وما أوهن ما يتعلّقون به فى إطفاء نور الهدى، وهل خفى على أحد من ذوي المعرفة ادعاء أمير المؤمنين(علیه السلام)النص عليه من النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بهذا الخبر وغيره واستشهاد من معه من الصحابة على ذلك،وشهادة جماعة منهم له به،وقد قدمنا ذكر شيء منه،ويأتي غيره، ولا نعرف موضعاً صرّح(علیه السلام)فيه بعدم النص عليه .

وكيف يصرّح بعدم النصّ عليه،وهو ما زال يدعى النص ويستشهد عليه؟وهل هذا إلا تناقض لا يجوز أن يقع من أدنى العقلاء،فكيف يصدر منه مع استكمال بصيرته ووفور علمه وحكمته ؟

وذكر البخاري ذلك وأمثاله عنه غير مقبول،فإنّه منهم في ذلك لموافقة عرضه ومطابقة مذهبه،وهل هو في ذلك إلا كثعالة شاهده ذنبه(2)؟و من روى له مثله

ص: 341


1- إسعاف الراغبين: 168 وانظر الصواعق المحرقة لابن حجر: 42 و 45 ، وحكاه الشهيد نور اللّه التستري في الصوارم المهرقة: 190.
2- ثعالة هي انتى الثعلب كما في لسان العرب237:1،والمراد هنا أن ذنبه يشهد له وفيه كناية عن عدم فائدة مثل هذه الشهادة.

فليس بدليل أصلاً لو لم يكن له معارض،فكيف وقد عارضه ما هو معلوم من تصريح علي(علیه السلام)بوجود النص عليه من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فمن المقطوع به أن ما ذكره البخاري منكر من القول وزور،فهو باطل يقيناً، هذا.

والناقل لم يذكر لفظ البخاري ليزيل عن نفسه تهمة الكذب على شيخه،والحوالة في مثل هذا المقام غير جائزة عند المناظرة،ولا يثبت بها الاحتجاج، ولذا كان للخصم أن يقول:لعلك تقولت على الشيخ أو لعله من كلامه لا من رواية، فلا يكون حجّة ، أو لعلها رواية ليست صريحة كما يدعي وتدعي .

والتأويل البعيد فيها ليس بمقبول منكم،وإلّا لقبلناه في حديث الغدير،ولو ذكر اللفظ لم يتوجه عليه شيء من ذلك، ولكان الاحتجاج فيه والإيراد متوجهاً على البخارى دونه.

وأما الرواية التي نقلها أبو العباس الدمشقي في تاريخه عن ابن عساكر،فلا شك أنها مصنوعة مزوّره،فلا ريب في بطلانها لاشتمالها على اعتراف أمير المؤمنين(علیه السلام)بما تواتر عنه القول بضده،مثل عدم عهد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إليه في قتال أهل الجمل وإخوانهم من أهل الشام،مع اشتهار الرواية بوصية النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن»الخبر(1)،وقول أبي أيوب الأنصاري«عهد إلينا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن نقاتل مع الناكثين والقاسطين والمارقين»رواه ابن ديزل أو نصر بن مزاحم(2).

ص: 342


1- تاريخ مدينة دمشق451:42.
2- شرح نهج البلاغة207:3عن ابن ديزل تاريخ مدينة دمشق54:16 وج 42: 472 ، سیر اعلام النبلاء41:2،كنز العمال351:11 ح 31720، بحار الأنوار 308:32 ح273.

وعلى أن خلافة الأولين بنص الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليهما،وقد حصل الاتفاق على رده بيعة أبي بكر حتى أخرج إليها قهراً، وقد شرحنا ذلك فيما مر، فكيف يعترف بالنصّ ويخالفه،وهو منزّه عن مخالفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في جميع الأمور.

ولتضمنها نسبة أمير المؤمنين(علیه السلام)إلى نفسه ما صح عند المؤلف والمخالف انّه لم يفعله، ومن جملته أنه يغزو إذا أغزاه أبو بكر أو عمر أو عثمان، وقد صح عند كل أهل الرواية أنّه لم يخرج من المدينة غازياً في زمان الثلاثة قط، وامتناعه عن الخروج مع عمر إلى الشام حين دعاه إليه معروف(1).

ومذاهبه المخالفة للثلاثة مشهورة، وفي كتب القوم مذكورة وتصريحه بظلمهم إيَّاه وأخذهم حقه وغصبهم مقامه على ذروات المنابر معلوم قد بيناه مواضع من هذا الكتاب يستغنى بشرحه فيها عن ذكره هنا.

وكلّما كان من الروايات مخالف للمعلوم فالواجب رده والحكم عليه بالبطلان،خصوصاً إذا كان مما يختص به المدعي، ولم يروه خصمه كهذه الرواية.

على أنّ هذا الرجل قد ذكر قبل الوجه المذكور بقليل أن علياً قد احتج بالخبر على إمامته في خلافته، فكيف يعترف باحتجاج علي(علیه السلام)على إمامته بالخبر ثمّ

ص: 343


1- شرح نهج البلاغة 12: 78 روى ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته. فانفرد يوماً يسير على بعيرة فاتبعته فقال لي: يابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معى فلم يفعل، ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته ؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ، قال : أظنّه لا يزال كتيباً لفوت الخلافة. قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أراد الأمر له. فقال: يابن عباس وأراد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد اللّه تعالى ذلك !إن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أراد أمراً وأراد اللّه غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، أو كلما أراد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كان، إنه أراد إسلام عمه ولم يرده اللّه فلم يسلم.

يقول : - ولم يطل الكلام - إن عليا قد اعترف بعدم النص عليه، فانظر إلى هذا التضاد الشديد البين في كلامه!

فيا سبحان اللّه!ما أبعد عقول هؤلاء الجماعة عن التأمل فيما يقولون،وقد بينا سابقاً أن الحديث المذكور قد احتج به أمير المؤمنين(علیه السلام)على أهل الشورى في اختصاصه بالإمامة دون غيره(1)باعتراف الخصوم من معتزلة وأشاعرة،فلا وجه لتخصيص الصبّان احتجاجه(علیه السلام)بالحديث بأيام خلافته(2).

ثم يقال له:إذا كان علي قد احتج به على إمامته في خلافته باعترافك ،فوجب أن يكون حجّة على ذلك أبداً إذ لا تخصيص فيه بوقت، بل هو صريح في تناول جميع الأوقات، وبذلك تبطل إمامة المتقدمين.

مع ما في اعترافك بهذا من إكذابك نفسك في دعواك اعتراف أمير المؤمنين(علیه السلام)بعدم النصّ وتكذيبك إمامك البخاري في ذكره ذلك كما قلت .

فالحمد للّه الذي أظهر صدق الصادق وكذب الكاذب،فتأمل أيّها المنصف في تناقض كلام هؤلاء القوم وتعانده لتطلع على عنادهم واستكبارهم عن قبول الحجّة بالبهتان والزور والهذيان، ولتعلم أي الفريقين أحق بالأمن.

وقد اتضح من جميع ما ذكرنا سلامة الخبر من الإيرادات وخلوصه من التشكيكات،وعصمته من التمويهات،وثبت أنه نص على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام) بعد سيّد المرسلين وذلك المراد.

ص: 344


1- أنظر الاحتجاج للطبرسي 1: 178.
2- أنظر إسعاف الراغبين : 168.
[عليّ منّي وأنا من علي ]

ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أكثر المحدثين وعن أحمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل ولفظ الرواية : بعث رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)خالد بن الوليد فى سرية وبعث عليّاً(علیه السلام)في سرية أخرى، وكلاهما إلى اليمن وقال:إن اجتمعتما فعلي على الناس،وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده،فاجتمعا وأغارا وسبيا نساءاً وأخذا أموالاً وقتلا ناساً،وأخذ على(علیه السلام)الجارية فاختصها لنفسه،فقال خالد لأربعة من المسلمين منهم بريدة الأسلمي: اسبقوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فاذكروا له كذا،واذكروا له كذا لأمور عدّدها على علىّ(علیه السلام).

فسبقوا إليه،فجاء واحد من جانبه فقال:إن عليّاً فعل كذا،فأعرض عنه،فجاء الآخر فقال:إن عليّاً فعل كذا فأعرض عنه، فجاء بريدة الأسلمي فقال:يا رسول اللّه،إنّ عليّاً فعل كذا وأخذ جارية لنفسه،فغضب(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حتّى احمر وجهه وقال:«دعوالي عليّاً -يكررها-إن عليّاً منّي وأنا من علي،وإن حظه في الخمس أكثر مما ،أخذ وهو ولي كل مؤمن من بعدي»(1).

قال ابن أبي الحديد ورواه أبو عبد الله أحمد في المستد غير مرّة،والمراد أنه رواه بطرق متعددة(2).

وروى الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال:

ص: 345


1- شرح نهج البلاغة170:9،فضائل الصحابة856:2 ح 1175 بتفاوت يسير، مسند أحمد164:4و 165 و 437، وج 5 : 356 كتاب السنة لعمرو بن عاصم : 552، خصائص أمير المؤمنين للنسائي : 87 تاريخ مدينة دمشق 42: 100 و 198 و 346، سير أعلام النبلاء 212:8.
2- شرح نهج البلاغة 9: 170.

«ما تريدون من عليّ ؟ما تريدون من عليّ ؟ما تريدون من عليّ ؟إن عليّاً منّي وأنا منه،وهو ولي كل مؤمن بعدي»(1).

أقول: وهو نص صريح غاية الصراحة في أن علياً(علیه السلام)ولىّ المؤمنين بعد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، ولا معنى للولاية بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلا الإمامة، ولا يجوز حملها على المعونة والنصرة،لأنه يلزم من ذلك أن علياً في حياة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)غير ناصر للمؤمنين ولا معين لهم،وإنما يكون كذلك بعد النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وهذا ظاهر البطلان بالبديهة.

وهل نصر الإيمان والمؤمنين في حياة الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أحد كنصره أو ذبّ عن حريم الإسلام أحد كذبه؟فتعين أن المراد الأوّل،فهو النص الواضح الذي لا تدخله الشبه،ولا يتطرّق إليه فاسد التأويل،ولذا قال أمير المؤمنين في له:«فواللّه إنّي لأولى الناس بالناس»رواها المعتزلي المنكر النص عليه(2).

ومن هنا يُعلم فساد ما قاله الصبان من الهذيان حيث قال:والجواب عمّا يوهمه ظاهره-يعني الخبر-من تقديمه على غيره، واستحقاقه الإمامة عقب وفاته(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يؤخذ مما ذكرناه في حديث«من كنت مولاه»(3).

وأنا أقول: جواب هذا الكلام المتهافت يؤخذ مع ما ذكرناه هنا من جوابنا عليه هناك،وقد صرح الحديث كما ترى بأن القوم كانوا مبغضين لعلي(علیه السلام)في حياة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وأنهم مجهدون أنفسهم في عيبه ونقصه عند رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ليغضب

ص: 346


1- سنن الترمذي299:5،المستدرك على الصحيحين 3: 110 .
2- نهج البلاغة 1: 231 الخطبة 118، شرح نهج البلاغة 7: 284 .
3- إسعاف الراغبين: 174.

عليه، لكنّهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فما فاتهم منه في حياة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أدركوه منه بعد وفاته، فدفعوه عن مقامه، وأخرجوه قهراً إلى من قدموه عليه غصباً.

قال ابن أبي الحديد:قال أبو بكر:وحدّثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال:جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين،فقال:والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم، فخرج الزبير مصلتاً بالسيف، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر فندر السيف من یده، فضرب به عمر الحجر فكسره، ثم أخرجهم بتلابيبهم(1)يساقون سوقاً عنيفاً حتى بايعوا أبا بكر(2).

ولا شك أن من سكن في قلبه ذلك البغض القديم لعلي في حياة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يحدث منه بعد وفاته(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في علي(علیه السلام)هذا الفعل الذميم، ويأتي لهذا زيادة تحقيق في موضعه فترقّب.

ومن تبصّر أدنى تبصر عرف يقيناً أن القوم قد ارتكبوا من أمير المؤمنين أمراً عظيماً، وأنهم تعمدوا إنكار فضله، وإخفاء النص عليه من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وإنهم علي قصدوا مخالفه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في جميع ما عهد إليهم في حقه وما أوضحه لهم من علق شأنه .

أولا تراهم كيف شاهدوا غضب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليهم من ذكرهم عليّاً(علیه السلام)بشيء من

ص: 347


1- «تلابيبهم»أي ثيابهم،يقال:لببت فلاناً إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره عند الخصومة ثم جررته،كما في غريب الحديث لابن سلام 3: 29 مجمع البحرين 102:4.
2- شرح نهج البلاغة 6: 48.

سيّئ القول وإبدائهم الشكاية منه إليه،ثم هم يعمدون بعد أيام إلى حرق بيته ويخرجونه مليباً يسوقونه ومن معه سوقاً عنيفاً ،فماذا تظن بالنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لو رأهم حين أخرجوا عليّاً(علیه السلام)على تلك الحال في ذُلّ وصغار ؟

أترى يرضى لهم بدون ضرب أعناقهم والحكم بنفاقهم؟وهل يجوز لعاقل لبيب أن يستبعد عليهم مخالفة نص الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وهو يرى منهم هذه المخالفات،ويعلم من أفعالهم هذه المنكرات بعد مشاهدتهم من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ما سمعت من غضبه الشديد لقول في علي دون فعل فيقول:«لو سمع الصحابة نصاً من النبي على على(علیه السلام)لمّا خالفوه، لأنا لا نظنّ عليهم مخالفته»(1).

وهذان الحديثان قالعان لشبهتهم التي إليها يستندون كما ترى، وسيأتي الأخيار ما هو أصرح في هذا المطلب.

ثمّ إن الحديثين يدلان على(علیه السلام)أن ما يفعله علي الحق وصواب،لأن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يسمع

الشكاية فيه، ولو جاز عليه الخطأ لم يكن ولا يراعيه،فزالت بحمد اللّه كل شبهة، وذلك من فضل اللّه وعونه .

[حديث المنزلة ]

وأما ما ورد بلفظ المنزلة فهو الحديث المتفق على روايته بين الأُمة،وهو قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ(علیه السلام)يوم توجه إلى تبوك واستخلفه على المدينة،فقال علي(علیه السلام)خلفتني على النساء والصبيان؟

فقال: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟»

ص: 348


1- أنظر شرح نهج البلاغة 6: 13.

هذه صورة الحديث عن سعد بن أبي وقاص(1).

وصورته عن العباس بن عبدالمطلب عن عمر بن الخطاب عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى كذب من زعم أنه يحبني وهو يبغضك»،في خبر رواه في الخصائص(2).

وكثير من الناس يرويه:«أنت منّي بمنزلة هارون»(3)،إلى آخر ما مر عن سعد،وقد تقدّم في حديث الوزارة ذكره وذكر معناه.

وجملة الأمر فيه أن لهارون من موسى منزلة الأخوة والوزارة وشدّ الأزر،والشركة في الأمر والخلافة عنه في قومه؛فالوزارة تحمّل النقل عنه،وشدّ الأزر،كونه ردءاً له يصدقه،والشركة في الأمر النبوة معه فأثبت النبي(صلی اللّه علیه وآلهوسلّم)لعلي (علیه السلام)منه جمیع منازل هارون من موسى،ولم يستثن إلا النبوة؛فعليا وزير رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؛ وشاد أزره،وخليفته في قومه وأخوه،وليس من النسب،لكنه من جهة المماثلة.

ومؤاخاة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)متفق عليها،فمفهوم الأخوة ثابت له من الحديث المذكور،

ص: 349


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل700:2ح956،وص 701 ح 957، وص 824 ح 1131،صحیح مسلم120:7،باب من فضائل علي بن أبي طالب(علیه السلام)،سنن الترمذي5: 301 ح3808 باب87،وص 304 ج 3813 باب 91، المستدرك على الصحيحين 3: 109، السنن الكبرى 40:9.
2- كنز العمال 13: 122 ح 36392 وفيه عن ابن عباس .
3- قال الطهراني في الذريعة657/189:13 شرح حديث«أنت مني بمنزلة هارون» للشيخ المفيد المتوفى سنة 413 هجرية عبر عنه النجاشي بمسألة في معنى«أنت مني»، وقد خص العلامة السيد حامد حسين الهندي حسين الهندي مجلداً من كتابه«عبقات الأنوار» في شرح حديث المنزلة،شواهد التنزيل203/190:1 إلى ص 195، وقال في آخره:وهذا حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول؛خرجته بخمسة آلاف إسناد.

وقد قال الحسن البصري فيما تقدّم نقله،وقال له يوم تبوك ما قال، فلو كان ثمة شيء غير النبوّة لاستثناه انتهى(1).

فقدح بعض الخصوم في عموم الخبر لكل المنازل بأن علياً ليس أخا النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)یقیناً،فلا يشمل جميع المنازل(2)،مندفع بما ذكرناه من ثبوت الأخوة له إجماعاً،وليس كونها من النسب بواجب في صدقها مطلقاً،حتى تكون خارجة،بل الواجب دخولها في مفهوم الخبر لثبوتها من وجه آخر وصحة إطلاقها على علىّ(علیه السلام)دائماً فيقال:هو أخو رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وهو(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كثيراً ما يقول في علي؛«أخي وابن عمي وأخي وصاحبي»(3).

فالأُخوّة من هذا الوجه مرادة من الخبر يقيناً ولم تستثن،فالخبر شامل لجميع المنازل إلا النبوّة لا تخصيص فيه بدونها.

وإذا ثبت لعلي جميع تلك المنازل من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)التي من جملتها أنه خليفته على الإطلاق ثبت كونه الإمام بعده.

فدلالة هذا الخبر المتواتر على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)دلالة نصّ صريح لا تخفى استفادتها منه إلا على جاهل صرف،لا معرفة له بمعاني الألفاظ،ولا علم له بتراكيب الكلام العربي،أو معاند يرتكب تغيير المعانى ويتعسّف طريق التأويل،ولسنا فى ذلك نبحث،ولا انصافهم ندعى كما قدمنا القول فيه.

وقد تقدم عن ابن أبي الحديد اعترافه باستفادة ثبوت جميع منازل هارون من

ص: 350


1- شرح نهج البلاغة95:4،غاية المرام للسيد هاشم البحراني 316:2.
2- كالقوشجي في شرح التجريد المقصد الخامس في الإمامة: ص 6 السطر 2.
3- أنظر تاريخ مدينة دمشق126:30وج43: 279،كنز العمال291:5- 12914 وج 11: 609ح 32947 وج 14: 81 ح 37996 .

موسى ومراتبه غير النبوة لعليّ(علیه السلام)من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من هذا الحديث(1)،والإنكارغير مقبول بعد الإقرار.

وما أورده بعض الخصوم-كالقوشجي وغيره على دلالة الخبر على المطلوب،مضافاً إلى ما سبق تارة باحتمال كون هارون خليفة لموسى(علیه السلام)في حياته خاصة، لأنه مات قبله، وتارة باحتمال أنه لو بقي بعد موسى أن تكون إمامته بالنبوة لا بالخلافة عن موسى،فلا يلزم أن يكون على إماماً بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لأنه ليس بنبي(2)-تشكيك في المعلومات.

والجواب عن الأول(3)بأنا إنّما نتكلم على دلالة الألفاظ دون ما يؤول إليه أمرالناس من سبق موت الخليفةعلى من استخلفه، فإنا نعلم يقيناً أن الرجل إذا أوصى إلى آخر دلّ على أنّه النائب عنه بعد موته، بحيث إذا مات كان للوصى التصرف، ولو مات الوصي قبل الموصي تحقق بموته انفساخ وصيته لا بدلالة اللفظ.

فقول موسى(علیه السلام)لهارون(علیه السلام):«اخلفني في قومي»(4)نصّ على استخلافه غير مقيد بوقت،فلو فرض أن موسى(علیه السلام)توفاه اللّه في مسيره ذاك لكان هارون خليفتهبذلك الاستخلاف قطعاً، وليس لأحد أن يقول:إنّه ينعزل بموت موسى(علیه السلام)،مع شمول اللفظ للحالين.

ص: 351


1- شرح نهج البلاغة 222:10 وج 13: 211.
2- شرح التجريد للقوشجي ،المقصد الخامس في الإمامة:ص6السطر2-10،شرح المقاصد275:5،إسعاف الراغبين165.
3- أي عن الإشكال الأول من احتمال كون هارون خليفة لموسى(علیه السلام)في حياته خاصة لأنه مات قبله.
4- الأعراف : 142.

ولا يقول بذلك نبيه بل نقول:إنه خليفة موسى(علیه السلام)في غيبته وموته غيبة،وإنّ لم يرج زوالها فالحال واحدة،وكذا القول فيما لو رجع ومات بعد رجوعه ولم يصرّح بعزل هارون؛فإنه يكون أيضاً خليفته بذلك الاستخلاف الأول،ولا يعترض الشك لعاقل فيه .

وأما انفساخ خلافته بموته قبل موسى فليس من جهة قصور الدلالة اللفظية في الاستخلاف،بل من جهة استحالة نيابة الميت عن الحى،فكذا نقول في على(علیه السلام) ثبتت له الخلافة للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علی سبيل العموم على ما ثبتت لهارون،ولم يعرض ما يفسخها من فعل أو قول،فيجب بقاؤها له بعد موت النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) بالضرورة.

وعن الثاني(1)بأن القيام مقام النبيّ الأول لا يكون بمجرد النبوة فيقوم من بعده من هو نبى مقامه مطلقاً،بل لابد من استخلافه والوصية إليه،وإلّا لكان كل نبي يقوم مقامه من قبله،فيلزم تعدّد الخلفاء في زمان واحد،وهذا باطل بما صحّ بالاتفاق أنّ موسى(علیه السلام)قام مقامه يوشع بوصيّته إليه(2)،ولم يكن الأنبياء ذلك الزمان مع كثرتهم ذلك المنصب بالنبوة وكذلك بعد يوشع لوصيه .

وهكذا إلى طالوت وداود وإلى سليمان(3)وهلم جراً،إلى أن جددت شريعة عيسى(علیه السلام)، وكان الحال فيها كسابقتها يقوم الثاني مقام الأول بوصية إليه لا بنبوة الثانى فقط،فهارون(علیه السلام) لو بقي بعد موسى(علیه السلام)لكان خليفته بذلك الاستخلاف

ص: 352


1- أي الجواب عن الإشكال الثاني القائل:احتمال أنه لو بقي هارون بعد موسى(علیه السلام)أن تكون إمامته بالنبوة لا بالخلافة عن موسى(علیه السلام).
2- أنظر مناقب ابن شهر آشوب209:2،بحار الأنوار183:35 ح 1،باب 4 تأويل الآيات الشرف:الدين الحسيني152:1.
3- أنظر المسترشد لابن جرير الطبري: 574.

لا بنبوته،وإلا لكان خليفته في حياته بالنبوة،ولم يحتج إلى استخلافه في ذلك،فلا حاجة إلى قوله:«اخلفني في قومي». وأيضاً إن موسى(علیه السلام)لو لم يستخلف هارون واستخلف غيره لوجب عليه الطاعة لذلك الغير،ولم تكن نبوّته نافيةً عنه تبعية وصي أخيه موسى وخليفته،فلا يكون أحد مطلقاً خليفة نبي إلا باستخلاف،وهذا ظاهر لكل ذي علم،فكذلك على(علیه السلام)هو خليفة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بذلك الاستخلاف،لأنه لم يعزله ولم يوص إلى غيره،بل أكد استخلافه والوصيّة إليه بخبر الغدير وغيره، فثبت المراد وزال الإيراد.

وممّا يقرب شبهاً من هذا الحديث ما رواه ابن أبي الحديد عن الحافظ نعيم في الحلية من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«أخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي،وتخصم الناس بسبع لايجاحد فيها أحد من قريش:أنت أولهم إيماناً باللّه ،

بسبع وأوفاهم بعهد اللّه،وأقومهم بأمر اللّه،وأقسمهم بالسوية،وأعدلهم في الرعية،وأبصرهم بالقضية،وأعظمهم عند اللّه مزيّة»تمام الخبر(1).

فالنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يخرج من خصائصه ومراتبه عن عليّ(علیه السلام)إلّا النبوة ولوازمها،فتبقى له الخلافة والإمامة،لأنها لم تنقطع بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالاتفاق،بل بالضرورة من الدين،فهو قريب من الخبر الأول في الدلالة؛فتأمل.

[على وارث رسول اللّه]

وأما ما ورد بلفظ الوراثة فمنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الطبري في التاريخ أنّ رجلاً قال لعليّ(علیه السلام): يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمّك ؟

ص: 353


1- شرح نهج البلاغة173:9،حلية الأولياء 65:1 .

فقال علي:«هاؤم»(1)-ثلاث مرات-حتّى اشرأب(2)الناس ونشروا آذانهم،ثمّ قال:«جمع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بني عبد المطلب بمكة،وهم رهط كلّهم يأكل الجذعة(3)ويشرب الفرق(4)، وصنع مداً من طعام(5)حتى أكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يمس،ثم دعا بغمر(6)فشربوا ورووا وبقي الشراب كأنّه لم يشرب».

ثم قال:يا بني عبد المطلب،إنّي بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة،فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد،فقمت إليه-وكنت من أصغر القوم-فقال:اجلس،ثم قال ذلك ثلاث مرّات،كلّ ذلك أقوم إليه فيقول: اجلس،حتّى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي، فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمي»(7).

وظاهر الحديث بل صريحه أنّ الناس لا يشكون في أن علياً وارث رسول اللّه دون عمه العبّاس،بل هو معلوم عندهم،وإنما يسألون عن السبب في ذلك.

قال ابن أبي الحديد:وروي عن جعفر بن محمد الصادق قال:كان علي(علیه السلام)يرى مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت،وقال له (صلی اللّه علیه وآله وسلّم):

ص: 354


1- هاؤم بمعنى تعالوا وبمعنى خذوا ، أنظر النهاية في غريب الحديث284:5.
2- اشراب الناس أي مدوا أعناقهم لينظروا، أنظر تاج العروس 314:1 .
3- الجذع:الصغير السن،قال الأزهري:أما الجذع فإنّه يختلف في أسنان الإبل والخيل والبقر والشاة،وهو من الغنم لسنة ومن الخيل الستين،وتفصيل ذلك في لسان العرب 43:8.
4- الفرق بكسر الفاء وقيل بفتحها:مکیال یکال به اللبن كما في النهاية في غريب الحديث440:3،لسان العرب 306:10.
5- المد: ربع الصاع وهو اليوم ثلاث أرباع الكيلو.
6- العمر يضم الغين وفتح الميم القدح الصغير كما في النهاية في غريب الحديث385:3.
7- تاريخ الطبري63:2،شرح نهج البلاغة212:13.

«لولا أنّى خاتم الأنبياء لكنت نبياً فإلّا تكن نبياً،فإنّك وصي نبي ووارثه ، بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء»(1).

وهذا الحديث قد اشتمل أيضاً على ذكر الوصية والإمامة اللتين لا يحتملان إلا الخلافة العامة،فهو كما قدمناه من الأخبار في ذلك على ما قررناه هناك.

وروى ابن أبي الحديد عن أمير المؤمنين(علیه السلام)إنه قال في خطبة:«ورثت نبى الرحمة ونكحت سيّدة نساء هذه الأمة، وأنا خاتم الوصيّين»الخطبة(2).

إلى غير ذلك من الأخبار.

ووراثة علي الرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إما في المال وذلك غير صحيح عند أصحاب ابن أبي الحديد وإخوانهم من الأشاعرة لوجهين:

الأوّل:حديث أبي بكر عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»(3).

الثانی:أنّ العبّاس عم النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)موجود مع فاطمة بنت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، والعم عندهم يحجب ابن العم مطلقا،فلفاطمة نصف وللعبّاس نصف،فلا ميراث لعلى(علیه السلام)من المال.

ص: 355


1- شرح نهج البلاغة210:13،خصائص الوحي المبين : 28 ، ينابيع المودة 1: 239، العمدة لأبن البطريق : 12.
2- شرح نهج البلاغة287:2،مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي 1: 292 ح 314 باب 32 و ص 395 ح 318 باب 33، الخرائج والجرائح للقطب الراوندي 1: 209،مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب166:2،كشف الغمة 102:2،الإرشاد353:1.
3- صحيح البخاري82:5،كتاب المغازي،باب غزوة خيبر،وج 4 : 209 کتاب بدء الخلق باب مناقب قرابة رسول الله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)منقبة فاطمة، صحيح مسلم153:5،كتاب الجهاد والسير باب قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):نورث ما تركناه صدقة.

وأمّا عندنا فلان ابن العم لايرث مع الولد مطلقاً؛ذكراً كان أو أنثى،وفاطمة(علیهم السلام)موجودة،فالمال جميعه لها، فليس لعلي(علیه السلام)ميراث من مال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إجماعاً،مع أنه وارثه بالنص الصريح، فحينئذ لم يبق إلا المراتب والمنازل.

والنبوة في علي(علیه السلام)منتفية لختمها برسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فيبقى الباقي من الفضل والعلم والإمامة؛فعلي وارث النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فيها،فيكون هو الإمام والخليفة من بعده العموم الوراثة وبقاء ما لم يخرج بدليل قاطع تحت العموم.بل لو قلنا:إن المراد من الوراثة فى الأحاديث المذكورة وشبهها هو وراثة الإمامة ولوازمها لا غير لم تبعد عن الصواب، فإن إمعان النظر فيها والتروي فى معانيها يوصل إلى فهم ذلکمنها.

ومن هذا كلّه يُعلم بطلان ما قال ابن أبي الحديد:وأما الوراثة فالإمامية يحملونها على ميراث المال والخلافة،ونحن نحملها على وراثة العلم،انتهى(1).

وقد تحقق لك أن الإمامية لا يحملونها على وراثة المال،لإجماعهم على لا وارث مع ولد من ذوي النسب إلّا الأبوان، فكلام ابن أبي الحديد فرية عليهم،اللهم إلا بعد وفاة فاطمة،فميراث النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)المالي بواسطتها ينتقل إلى عليّ(علیه السلام)وولديها الحسن والحسين،فيجتمع لهم هنالك المراتب والمال،وأما قبل وفاتها فعلي(علیه السلام)وارث في الإمامة ولوازمها لا يحمل الإمامية الوراثة هنا إلا على هذا وهي صريحة فيه.

وأما تخصيصه إيَّاها بوراثة العلم ، فهو تخصيص للعام بالرأي،وتقييد للمطلق بالاستحسان،وذلك ميراثه وأصحابه من أبي بكر وعمر كما سيأتي القول فيه، وليس ذاك بجائز، إذ ليس عليه من الشرع دليل، فما إلى القول به سبيل.

ص: 356


1- شرح نهج البلاغة 1: 140.

مع أن قوله غير وارد علينا ولا مناقض لنا،بل موافق لما نقول،لأنا نذهب إلى أن وارث علم النبى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)يجب أن يكون هو الإمام بعده،ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد من الناس،كما بيناه فيما سبق من المقدّمة والفصل الأول من وجوب تقديم الأفضل على المفضول، فقوله لنا لا علينا.

بل نزيد على ذلك ونقول:إن العقل السليم يجزم بأن وارث علم النبي هو الوارث مقامه،وإنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر عقلاً،ووجهه يؤخذ مما أسلفناه من التحقيقات،ومن تأمل وأنصف عرف صحة ما نقول.

[علىّ(علیه السلام)أحق بمقام رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)]

وأما ما ورد بلفظ الأحقية والأولوية فما رواه ابن أبى الحديد عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):لما نزل(إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)(1)بعد انصرافه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من غزاة حنين جعل يكثر من سبحان اللّه استغفر اللّه،ثمّ قال:«يا علي،إنه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً،وإنّه لیس أحد أحق منك بمقامي لقدمك في الإسلام وقربك مني وصهرك وعندك سيدة نساء العالمين،وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن،فأنا حريص أن أراعي ذلك لولده»،انتهى(2).

وهذا الحديث نصّ صريح في أن علياً(علیه السلام)أحقّ بمقام رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من كلّ أحد للخصال التي ذكرها(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في علي(علیه السلام)،وهذه الخصال التي نقول: إنّ

ص: 357


1- النصر: 1.
2- شرح نهج البلاغة174:9،ورواه القندوزي عن الثعلبي في ينابيع المودة 2: 495، وانظر بحار الأنوار85:40،الأربعون حديثا للماحوزي:250.

الموصوف بها على لسان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)هو الإمام،لأن من شرط الإمام الاتصاف بها لاقتضائها الفضل،وهو دليل لنا على الوجهين.

وبالجملة فالحديث المذكور نص من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على علىّ(علیه السلام)بالإمامة بعده لا يعتريه الريب،ولا يتطرّق إليه العيب.

من الأولوية ما فى بعض خطب أمير المؤمنين(علیه السلام)من قوله:«لا يقاس بال محمّد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من هذه الأمة أحد-إلى أن قال:-ولهم خصائص حق الولاية»(1)،وسنذكرها فيما بعد جميعها إن شاء اللّه .

فالمراد بالولاية هنا أولويتهم بمقام الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،لأنه إذا كان لهم حق ولاية الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كانوا هم الأحق والأولى بمقامه.

قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة:ثمّ ذكر(علیه السلام)خصائص حق الولاية،والولاية الإمرة، فأما الإمامية فتقول:أراد نصّ النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عليه وعلى أولاده،ونحن تقول لهم:خصائص حق ولاية الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على الخلق،انتهى(2).

أقول:ما أرى ابن أبي الحديد في إيراده صنع شيئاً،وإنما زاد المعنى إيضاحاً،وزاد الحجّة إثباتاً،لأنه لو قيل له:ما ولاية الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على الخلق؟لكان يقول:الإمرة عليهم لا محيص له عن ذلك،إذ لا معنى لها غيرها. فيقال له:إذا أقررت أن لعلىّ(علیه السلام)وأولاده حق تلك الولاية كنت مقراً بأن لهم الإمرة، لأن الولاية المذكورة هى الإمرة بعينها،فلعلى(علیه السلام)وأولاده الإمرة على الخلق،وهو نص كلام الإمامية الذي أنكرته،فإنّهم لا يزيدون على أن لعلي(علیه السلام).

ص: 358


1- نهج البلاغة 1: 30 الخطبة الثانية.
2- شرح نهج البلاغة139:1.

وأطهار ولده ولاية النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على الخلق ، فنعوذ باللّه من اللجاج بغير فائدة ماسوى التعصب للمذاهب وقصد تصحيح قول الأسلاف بما لا يصح به.

وممّا يشير إلى معنى الأحقية والأولوية أخبار:

فمنها أخبار المماثلة وقد تقدمت.

ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند وفي كتاب فضائل علي(علیه السلام)عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنّه قال:«أنا أول من يُدعى به يوم القيامة،فأقوم عن يمين العرش في ظله،ثمّ أُكسى حلّة،ثمّ يُدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض،فيقومون عن يمين العرش،ويُكسون حُللاً،ثمّ يُدعى بعلي بن أبي طالب(علیه السلام) لقرابته منّي ومنزلته عندي، ويدفع إليه لوائي لواء الحمد؛آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء».

ثمّ قال لعلي(علیه السلام):«ثمّ تسير به حتّى تقف بيني وبين إبراهيم الخليل ثم تكسى حلة،وينادي مناد من العرش:نعم الأب أبوك إبراهيم ونعم الأخ أخوك علي،أبشر فإنّك تُدعى إذا دعيت وتكسى إذا كسيتُ،وتُحبا إذا حبيتُ»(1).

ودلالته على أولوية على بالنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ظاهرة من مواضع دعائه دون غيره مع النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فيكون أولى بالنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من غيره،والا لدعا ذلك الغير والقرب منه والمنزلة عنده،ولو كان أحد أولى منه لكان أقرب منه إلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وكانت منزلته عند النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أرفع،لكن ليس غيره كذلك فهو أولى،وإعطائه لواء النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)(2)فلو كان غيره أولى بالنبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم) لكان له ذلك اللواء.

ص: 359


1- شرح نهج البلاغة169:9،فضائل الصحابة لابن حنبل824:2 ح 1131، ورواه المحب الطبري202:2عن مناقب أحمد، تاريخ مدينة دمشق53:42،المناقب للخوارزمي : 159/140، ينابيع المودة421:1،بحار الأنوار81:40.
2- معطوف على قوله:(دعاته دون غيره...).

وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في آخر الحديث:«إنك تدعى إذا دعيت»إلى آخره،تصريح بالأولوية،وإذا كان أولى به فى الآخرة فهو فى الدنيا كذلك،فيكون هو الأولى بمقامه،فالحديث فيه إشارة إلى إمامته بعد الرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

ومنها ما رواه عن أحمد في كتاب الفضائل عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«أعطيت في علي خمساً،من أحب إلى من الدنيا وما فيها:

أما واحدة:فهو كات(1)بين يدي اللّه عزّوجلّ حتّى يفرغ من حساب الخلائق .

وأما الثانية فلواء الحمد بيده؛ آدم ومَنْ وَلَدَ تحته.

وأما الثالثة : فواقف على عقر(2)حوضي يسقي من عرف من أُمتي.

وأما الرابعة : فساتر عورتي ومسلّمي إلى ربي.

وأما الخامسة : فإنّي لست أخشى عليه أن يعود كافراً بعد إيمان، ولا زانياً بعد إحصان»(3).

والأظهر في الأولوية الرابعة ثم الثانية والثالثة، والتقرير كما في الأول.

[ إنّ اللّه اختار علياً(علیه السلام)]

وأما ما ورد بلفظ المختار فما رواه ابن أبي الحديد عن الحديد عن أحمد بن حنب حنبل في المسند قال:قالت فاطمة:«إنّك-والخطاب للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)-زوّجتني فقيراً لا مال له،فقال:زوّجتكِ أقدمهم سلماً،وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً،أما تعلمين أنّ اللّه

ص: 360


1- أي واقف،أنظر لسان العرب 213:15.
2- العقر مؤخر الحوض حيث تقف الإبل،أنظر ترتيب اصلاح المنطق لابن السكيت الأهوازي:265،تاج العروس250:7.
3- شرح نهج البلاغة172:9،فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل821:2ح 1127، مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي 2 :1073/559 ، العمدة لابن البطريق 359/231.

اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها بعلك»(1).

أقول:هذا الحديث نص واضح في إمامة عليّ(علیه السلام)بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،لأن اللّه اختاره بعده فدخل في قوله تعالى:(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(2)،ولا يختار اللّه أحداً من الناس فيقال:اختاره اللّه إلّا نبياً أو خليفة نبي ، ولما كان نبينا(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)خاتم الأنبياء وجب أن يكون اختار اللّه علياً لخلافته،إذ لا معنى لاختيار اللّه رجلاً نصبه نبياً أو إماماً، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

ومثله ما رواه ابن أبى الحديد عن محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي قال:أخبرنا عمر بن موسى الوجيهي،عن المنهال بن عمرو،عن عبد اللّه بن الحارث قال:قال عليّ(علیه السلام)على المنبر:«ما أحد جرت عليه المواسي(3)إلّا وقد أنزل اللّه فيه قرآناً».

فقام إليه رجل من مبغضيه فقال:فما أنزل اللّه تعالى فيك ؟ فقام الناس إليه يضربونه.

فقال:«دعوه،أنقرأ سورة هود»؟قال:نعم .

قال:«فقرأ(علیه السلام):(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيْنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(4)ثم قال:والذي كان على بيّنة من ربّه محمّد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)والشاهد الذي يتلوه أنا».

ص: 361


1- شرح نهج البلاغة174:9،كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: 453، ينابيع المودة للقندوزي494:2،بحار الأنوار 85:40 .
2- الدخان:32.
3- أي من نبتت عانته لأن المواسي إنما تجري على من أنبت، والمراد من بلغ الحلم،أنظر نهاية ابن الأثير372:4،لسان العرب223:6.
4- هود: 17 .

فدّل الحديث بصراحته على أن علياً هو التالي للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في اختيار اللّه له، فهو الإمام بعده بلا اشتباه، فما هما إلا سابق ولاحق، ومجل ومصل، فالنبي السابق وعلى اللاحق، والنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)المجلى وعلى المصلى ، فصلوات اللّه عليهما وآلهما.

واعلم أن الحديثين خصوصاً الأوّل كما يدلان بنصهما على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كذلك يدلان على أنه أفضل من جميع الأنبياء،وذلك لأن سبق الاختيار من اللّه لأحد دليل على شدة اعتناء اللّه تعالى بشأنه قطعاً،وشدة الاعتناء من اللّه يوجب الأفضلية للمعتنى بشأنه على غيره.

ولمّا كان المخصوص بسبق الاختيار هو النبي المختار كان أفضل المخلوقين،ولمّا كان المثني به في الاختيار هو حيدر الكرار كان أفضل البرية بعد النبي الأمين،وهذا بحمد اللّه ظاهر المنار،ليس عليه غباوة ولا غبار،وهو تصديق ما ورد في هذا المعنى من طرقنا من الأحاديث والأخبار.

وبه يبطل ما أبطله عزّ الدين بن ابى الحديد من القول بأفضلية علىّ(علیه السلام)على الأنبياء،واندفع بذلك تشنيعه على بعض أصحابنا في هذا القول بسبق الإجماع من أصحابنا على خلافه،فإنه لا إجماع على خلاف هذا القول من أصحابنا، إن لم يكن إجماعهم عليه،والأخبار أدلة وشواهد.

على أن ابن أبي الحديد قال بعد روايته جملة أحاديث هذا منها : إن من قبل فیه ما قيل لو رقى إلى السماء وعرج في الهوى وفخر على الملائكة والأنبياء تعظماً وتبجحاً لم يكن ملوماً ، بل كان بذلك جديراً، انتهى(1).

وهو صريح فيما كان ينفيه ويشنّع على قائليه من تفضيل علىّ(علیه السلام)على الأنبياء

ص: 362


1- شرح نهج البلاغة 174:9و 175 .

والملائكة، فكأنّ القوم سكارى عن النظر في تناقض أقوالهم.

وواعجباه من فاضل محقق يروي مثل هذه الأحاديث وأضعافها محتجاً بها على مذاهبه ومصححاً لها فى مآربه ثم يقول : لا نصَّ على علي(علیه السلام)بالإمامة(1)،فكأنه لا يفهم معانى هذه الأخبار ، ولا يدرك حقائق هذه الآثار، قد أغشت الشبهة قلبه، وأعمى التقليد للأسلاف عين بصيرته فلم يهتد للصواب.

[حديث السيادة]

وأما ما ورد بلفظ السيادة فكثير، ومنه قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فيما تقدم من حديث أنس:«أوّل من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين وسيّد المسلمين»(2).

وفي الحديث الآخر المتقدّم أيضاً :«مرحباً بسيد المؤمنين وإمام المتقين»(3).

ومنه ما رواه ابن أبي الحديد عن الحافظ أبي نعيم في الحلية من قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«ادعوا لي سيّد العرب عليّاً».فقالت عائشة:ألست سيد العرب؟

فقال:«أنا سيّد ولد آدم وعلي سيد العرب». فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال لهم:«يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً؟».

قالوا:بلى يا رسول اللّه.

قال:«هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي،فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم عن اللّه عزّ وجلّ»(4).

ص: 363


1- شرح نهج البلاغة256:12و268 .
2- شرح نهج البلاغة169:9،تاريخ مدينة دمشق386:42،ميزان الاعتدال1: 211/64 .
3- شرح نهج البلاغة170:9،ينابيع المودة489:2.
4- شرح نهج البلاغة170:9،المعجم الكبير 30: 88 حلية الأولياء 1: 63، مجمع الزوائد139:9.كنز العمال 33007/619:11 وج 13: 36449/143.

وعن أحمد في المسند عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«النظر إلى وجهك يا علي عبادة، أنت سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة،من أحبك أحبني و أحبك أحبني وحبيبي حبيب اللّه، وعدوّك عدوّي وعدوّي عدو اللّه»(1).

فعلى كما ترى تارة سيّد المسلمين ، وأُخرى سيد المؤمنين، وثالثة سيد العرب، ورابعة سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة، والسيد هو الرئيس المطاع ومالك الأمر، ولا سيادة بأحد هذين المعنيين على المسلمين والمؤمنين والعرب في الدنيا غير النبوة والإمامة.

ولا رئيس بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على المسلمين والمؤمنين إلّا الإمام، ولا رئيس على جميعهم سواه فيكون علي(علیه السلام)هو الإمام ، لأنه الرئيس الواجب الطاعة على المسلمين ، فهى نصّ في إمامته ومصرحة بخلافته لا يعترض فيها بالشَّبه كما قاله في الإسعاف: إن سيادته لهم من حيث النسب أو نحوه ، فلا يستلزم أفضليته على الخلفاء الثلاثة قبله،انتهى(2).

وعلى ما ذكره فتكون سيادة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على ولد آدم في النسب، فلا يستلزم أفضليته على الأنبياء ولا على الثلاثة أيضاً.

والحاصل أنّ هذا كلام متجاهل متعصب لا يبالي بما قال فيما يوافق مشتهاه،ولو كان له بعض التدبر والحياء لكفاه فهم عايشة من إرادة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بلفظ السيادة من التقدم والفضل، ولذا قالت له مستفهمة : ألست سيد العرب ؟ ولكن ديدن الرجل وأصحابه رد الحق النير بما لا يعقل ولا يمكن من القول كما لا يخفى على الناظر في كلامهم ، وذلك لا يغني من الحق شيئاً.

ص: 364


1- شرح نهج البلاغة171:9،الرياض النضرة 3: 166 ، بحار الأنوار 83:40 عن مسند أحمد.
2- إسعاف الراغبين: 169 .
[أحبّ الخلق إلى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)]

وأما ما ورد بلفظ المحبّة فمنه حديث الطائر المتواتر.وقد أشار إليه ابن أبى الحديد مراراً(1)،ورواه الحاكم في المستدرك(2).

وقال بعض العامة:إنّه صح في كتب النقل والأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة عن أنس بن مالك قال:أهدي إلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)طير مشوي يُسمى الحجل(3)-وفي رواية :ما أراه إلّا حبارى(4)- فقال:«اللهم انتني بأحب خلقك إليك،يأكل معي من هذا الطير»،فجاء على فحجبته وقلت:إنّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) مشغول، رجاء أن تكون الدعوة الرجل من قومي.

ثمّ جاء عليّ ثانية فحجبته،ثم الثالثة،فقرع الباب،فقال النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«أدخله فقد غيبته»،فلما دخل قال له النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«ما حبسك عنا يرحمك اللّه؟»

قال:هذه آخر ثلاث مرات وأنس يقول :إنك مشغول.

فقال:«يا أنس ما حملك على ذلك ؟»

قلت: سمعتُ دعوتك فأحببتُ أن تكون الرجل من قومي.

فقال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): «لا يُلام الرجل على حبّه لقومه» رواه الترمذي ، انتهى(5).

ص: 365


1- شرح نهج البلاغة 7:1، وج264:3.
2- المستدرك على الصحيحين130:3،السنن الكبرى107:5،مجمع الزوائد126:9.
3- الحجل:القبج ، الواحدة حجلة كما في العين78:3،وفي نهاية ابن الأثير 1: 333 الحجل بالتحريك القبح طائر معروف.
4- الحبارى طائر أكبر من الدجاج الأهلي وأطول منه عنقاً ومن أمثال العرب «أبله من الحباري»لأنها فيما زعموا إذا غيرت عشها نسيته وحضنت بيض غيرها، أنظر لسان العرب160:4.
5- شرح نهج البلاغة7:1،تاريخ مدينة دمشق 43: 247 و 248 ، شرح الأخيار للنعمان المغربي 138:1،نظم دور السمطين: 101 ، المستدرك على الصحيحين130:3و 131 وقال:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وقد رواه عن أنس جماعة من الصحابة زيادة على ثلاثين نفساً ثم صحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة.

ومنه حديث الراية بخيبر المتواتر، وقد رواه جميع المحدثين كالبخاري ومسلم والحاكم والترمذي وغيرهم(1)، وذكره ابن أبي الحديد، وأشار إليه مراراً، وهو قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«الأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله ، كراراً غير فرار،لا يرجع أو يفتح اللّه على يديه»،فأعطاها علياً وفتح اللّه خيبر على يديه(2).

وفي حديث مسلم:قال عمر بن الخطاب:فما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ (3).

ورووا أن حسان بن ثابت قال يخبر عن ذلك:

وكان عليّ أرمد العين يبتغي***دواءاً فلما لم يجد من مداويا

شفاه رسول اللّه منه بتقلة***قبورك مرقيّاً وبورك راقيا

وقال سأعطي راية القوم فارساً***كميّاً(4)شجاعاً في الحروب محاميا

یحبّ إلهاً والإله يحبّه***به يفتح اللّه الحصون الأوابيا(5)

ص: 366


1- صحيح البخاري 4: 20 كتاب بدء الخلق باب مناقب علي بن أبي طالب(علیه السلام)وج 5: 76 كتاب المغازي باب غزوة خيبر بطريقين الأول عن أم سلمة رضي اللّه عنها والثاني عن سهل بن سعد. صحیح مسلم195:5 وج 7: 120 و 121، سنن الترمذي 5 : 302 - 3808، کتاب فضائل الصحابة للنسائي : 15 السنن الكبرى362:6وج 9: 107 ، المستدرك للحاكم 3: 109 .
2- شرح نهج البلاغة 234:11 وج 13: 186.
3- صحیح مسلم 121:7.
4- الكمي الشجاع كما في الصحاح 2477:6 .
5- أي الحصون المنيعة .

فخص بها دون البريّة***كلّهم علياً وسماه الولي المواليا(1)

وكان ذلك القول من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في علي بعد رجوع عليّ بعد رجوع الشيخين براية النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)منهزمين(2).

ومنه الأخبار التي قدمناها المشتملة على«من أحب عليّاً فقد أحب اللّه، ومن أحبّه أحبّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)»(3)بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، والأحبّ إلى اللّه الأكثر عليل ثواباً عنده، فيكون أفضل، وكذا الذي يحبه اللّه ورسوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،ومن محبته محبة اللّه ومحبة رسوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،والمحب للّه ولرسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)هو المتبع لهما،كما قدمنا بيانه في فضل التمسك،وإذا كان على(علیه السلام) هو المخصوص بمحبة اللّه ورسوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وأحبّ الخلق لهما وجب أن يكون المقدم والرئيس على المسلمين،لأنه أفضلهم فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الأفضل، والشبهات مندفعة.

[علي(علیه السلام)أعلم الناس]

وأما ما ورد بلفظ الأعلميّة وما يؤول إلى ذلك فكثير لا يحصى،نذكر منه شيئاً يسيراً:

فمنه قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)الفاطمة(علیهم السلام)في حديث الاختيار المتقدم:«زوجتك أقدمهم

ص: 367


1- عمدة القارئ 216:16( بتفاوت يسير)،رسائل المرتضى 104:4 و 106،روضة الواعظين 130،مناقب أمير المؤمنين(علیه السلام)للكوفي499:2،إرشاد المقيد 1: 64 و 128، مناقب ابن شهر آشوب320:2.
2- رسائل السيد المرتضى 106:4.
3- المعجم الكبير380:23،الجامع الصغير 2 : 8319/554، کنز العمال 33024/622:11، تفسیر فرات الكوفي : 545.

سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً»(1).

وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لعلي في حديث خصمه بالنبوة:«وأبصرهم بالقضية»(2)،وقد قدمنا ذكره في حديث المنزلة، والأبصر بالقضية هو الأعلم.

وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في الحديث المشهور:«أقضاكم علي»أشار إليه ابن أبي الحديد في مواضع(3)،ونقل عن عمر أنّه قال:علي أقضانا(4)،والأقضى هو الأعلم بالقضاء.

ومنه قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«خازن وعيبة علمي»(5)،و«أنا مدينة العلم وعلي بابها»(6)، وقد مرّ ذكر ذلك كلّه مشروحاً .

على أنا لا نحتاج هنا إلى الإطناب في القول للإجماع على أن علياً أعلم الصحابة من جميع أهل العلم،وابن أبي الحديد مقرّ بذلك ومطلب فيه حتى قال في كلام له يعد فيه بعض خصائص علي(علیه السلام):والثانية علومه التي لولاها لحكم

ص: 368


1- شرح نهج البلاغة220:7وج174:9،تاريخ مدينة دمشق 42: 132 و 133،إعلام الورى317:1،كشف الغمة151:1،مناقب أمير المؤمنين(علیه السلام)للكوفي 1: 270 ،شرح الأخبار58:3،الإرشاد للمفيد36:1.
2- المعجم الأوسط 6: 328،المعجم الكبير 58:3،شرح نهج البلاغة 9: 173، كنز العمال 11 : 32994/617،المسترشد لابن الطبري: 614 ، ذخائر العقبى: 83 بحار الأنوار 308:38 وج 40: 85 الغدير 96:3.
3- شرح نهج البلاغة 1: 18 ، وج 219:7.
4- مسند أحمد5 :113 الطبقات الكبرى339:2،المصنف183:7 ج 3، المستدرك للحاكم 305:3.
5- شرح نهج البلاغة165:9،الجامع الصغير للسيوطي177:2ح 5593 تاريخ مدينة دمشق 385:42.
6- شرح نهج البلاغة219:7وج 9: 165 ، المعجم الكبير 55:11 .

بغير الصواب في كثير من الأحكام، وقد اعترف عمر له بذلك، والخبر مشهور: لولا على لهلك عمر،انتهى(1).

وإذا كان أعلم وجب أن يكون هو الإمام المتبع والرئيس المقدم،ولم يجز لمن ليس مثله في ذلك أن يتقدم عليه لقول اللِه تعالى:﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَبَعَ أَمْ مَن لا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(2)وغيرها من الآيات، بل بالعقل كما سبق ذكره،وإذا كان الأعلم هو الأحق بالاتباع،والمتبع هو الإمام لا غيره، فعلى(علیه السلام)هو الإمام ، لأنه الأعلم وهو ظاهر.

[على أقرب الناس من رسول اللّه]

وأما ما ورد بلفظ الأقربية فمنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أنه خطب الناس يوم جمعة،فقال:«أيها الناس،قدّموا قريشاً ولا تقدّموها،وتعلّموا منها ولا تعلموها،قوّة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم،وأمانة رجل منهم تعدل أمانة رجلين من غيرهم.

أيها الناس، أوصيكم بحبّ ذي قرباها،أخي وابن عمي علي بن أبي طالب(علیه السلام)؛لا يحبّه إلا مؤمن،ولا يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني عذبه اللّه بالنار»(3).

وهذا الخبر نص في أن علياً(علیه السلام)هو ذو القربى من الرسول،وهو المخصوص بها دون سائر قريش،لتخصيص النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إياه بذلك في قوله :«أُوصيكم بحبّ ذي قرباها»، ودليل على إرادة تقديمه على كل الأمة.

ص: 369


1- شرح نهج البلاغة 1: 141.
2- یونس:30.
3- شرح نهج البلاغة172:9.

وتوضيح ذلك أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حث الناس أولاً على تقديم قريش والتعلم منها، فدخل علي بن أبي طالب(علیه السلام)في ذلك،لأنه من ذروتها،وأولى الجميع بالعلتين المذكورتين اللتين لأجلهما أمر النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بتقديم قريش والتعلم منها،وهما القوة والأمانة، ثمّ خصص عليّاً(علیه السلام)بالوصية بحبه ووصفه بصفة أراد بها التعليل على تخصيصه دون قريش بوجوب الحبّ المراد منه المتابعة،وهى صفة خاصة به،فكان مفاد الحديث:قدموا قريشاً على كل الناس لقوتهم وأمانتهم،وقدموا علياً(علیه السلام)على قريش في المتابعة،لأنه أقربهم إلي،ثمّ أكد وجوب تقديمه يما ذكره من أنه لا يحبّه إلا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق، إلى آخر ما بينه من الأوصاف المؤكّدة لوجوب تقديمه.

ومنه قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«ثمّ يدعى بعلي(علیه السلام)القرابته مني ومنزلته عندي»(1).

ومنه قوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«إنّه ليس أحد أحقِّ منك بمقامي لقدمك في الإسلام وقربك منی»(2).

فصرّحت هذه الأحاديث بأن الوصية من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بحب على(علیه السلام)وتقديمه على قريش وتقديمه في الدعوة مع النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على غيره،وأن أحقيته بمقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) دون غيره،كل ذلك لقرابته منه ، فكان ذلك دليلاً على أن الأقربية من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)تقتضي التقديم والأحقية بمقامه، ويوازرها في هذه الدلالة قوله تعالى:(وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ)(3)وإذا كان علي (علیه السلام)هو

ص: 370


1- شرح نهج البلاغة169:9.
2- شرح نهج البلاغة174:9،كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي: 56،بحار الأنوار86:40ينابيع المودة للقندوزي495:2.
3- الأنفال: 75 .

الأقرب للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، والأقرب للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وهو الأحق بمقامه وأولى بالتقديم وجب أن يكون هو المقدّم بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)والقائم مقامه،فهو إذن الإمام،وذلك كله مقاد الأحاديث كما سمعت .

قال ابن أبي الحديد:روى أبو عمر بن عبدالبر المحدّث في كتابه المعروف بالاستيعاب في معرفة الأصحاب : إن إنساناً سأل الحسن - يعني البصري - عن علىّ(علیه السلام)فقال : كان واللّه سهماً صائباً من مرامى اللّه على عدوّه وربَّاني هذه الأُمة ، وذا فضلها وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، لم يكن بالنؤومة عن أمر اللّه، ولا بالملولة في دين اللّه،ولا بالسروقة لما للّه،أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة،انتهى(1).

أقول : وبما ذكرنا هنا يندفع ما أورده بعض الخصوم فيما ذكرناه في مسألة الأقربية من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من أنه لو كانت الإمامة تستحق بالأقربية لكان العباس أحق بها من علي(علیه السلام)، فهذه الأخبار والأقوال رادّة لذلك،ومثبتة إن علياً(علیه السلام)أقرب للنبى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من العبّاس،وذلك لبعض ما ذكرناه من الوجوه هناك.

[على أشد جهاداً ]

وأما ما ورد أنّه أشدّ جهاداً فإنّه أمر متعارف متعالم، وقد ذكره أهل المغازي والسير، وذكر ابن أبي الحديد في كتابه منه كثيراً، ويكفيك في ذلك قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في خبر الراية المتواتر:«كراراً غير قرّار لا يرجع أو يفتح اللّه على يديه»(2)،

ص: 371


1- شرح نهج البلاغة 4: 95، الاستيعاب 47:3.
2- صحيح البخاري20:4 كتاب بدء الخلق، باب مناقب علي بن أبي طالب(علیه السلام)وج 5: 76 كتاب المغازي باب غزوة خيبر بطريقين صحيح مسلم195:5،وج 7: 120 و 121 کتاب فضائل الصحابة، سنن الترمذي 5: 302 ح 3808.

وسنذكر جملة من هذا في ذكر شجاعته عند ذكرنا جمعه للصفات الحميدة.

قال ابن أبى الحديد فى كلام:فإن قيل : لا ريب أن في كلامه - يعنى علیّاً(علیه السلام)-هذا تعريض بمن تقدّم عليه، فأي نعمة له عليهم ؟

قيل:نعمتان:الأولى منهما جهاده،وهم قاعدون،فإن من أنصف علم أنه لولا سيف علي(علیه السلام)لاصطلم المشركون من أشار إليه وغيرهم من المسلمين،وقد علمت آثاره في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين،وأن الشرك فيها فغر فاه(1)قلولا أنه سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة، انتهى(2).

وإذا كان علي(علیه السلام)هو الأشد جهاداً ، والأكثر عناءاً في نصر النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وإعزاز دينه،ودفع بأس المشركين عن أهل ملّته كان هو الأحق بمقامه،والأولى بالتقديم على غيره،لأن تلك الصفات تقتضى تقديمه وتعظيمه، ولا شيء من التقديم غير الإمامة فيجب أن يكون هو الإمام بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

[علي(علیه السلام)مع الحق]

وأما ما ورد بأنّه مع الحق دائماً فمنه ما رواه كثير من أهل الحديث.قال ابن أبي الحديد في شأن عليّ(علیه السلام) وحكمه في ذلك حكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأنه قد ثبت عنه فى الأخبار الصحيحة أنه قال:«علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار».

ص: 372


1- فغر فاه أي فتحه كما في الصحاح782:2وفي نهاية ابن الأثير460:3 في حديث الرؤيا فيفغر قاه فيلقمه حجراً أي يفتحه.
2- شرح نهج البلاغة 1: 141.

وقال له غير مرّة: «حربك حربي وسلمك سلمي»،انتهى(1).

ومنه قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حديث الغدير:«وأدر الحق معه حيث دار»(2).

وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض»(3).

وما يعطى هذا المعنى من الأحاديث الكثير مثل أحاديث«إن طاعته طاعة اللّه وطاعة رسوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وأن محبّته محبة اللّه»(4)وأحاديث التمسك به والاقتداء وغير ذلك مما مضى ويأتي .

وإذا كان عليّ على الحق لا يزال ولا يزول عنه كان واجب التقديم لاسيما إنه قد طلب الخلافة،وأنف من تقدّم غيره عليه ، وامتنع من بيعته حتى قهر عليها،كما بيّناه سابقاً،فوجب أن تكون إمامتهم باطلة،إذ ليس بعد الحق إلا الضلال،فهذه الأحاديث دالّة على أن علياً (علیه السلام)هو الأولى بمقام الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فهو الإمام بعده، واللّه الهادي.

[على(علیه السلام)خير خير الأمة]

وأما ما ورد بأنه خير الأمة وخير الخلق وما أدى مؤداه فكثير،ومنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند عن مسروق قال:قالت لي عايشة:

ص: 373


1- شرح نهج البلاغة297:2.
2- شرح نهج البلاغة376:6،دعائم الإسلام16:1،الأربعون حديثاً لمحمد طاهر القمي:92 ،الغدير 11:1 وج 49:10.
3- مسند أحمد 3: 17، 26 و 59 وج 5 : 182 ، فضائل الصحابة:15.
4- حديث خيثمة:72،مناقب أمير المؤمنين(علیه السلام)للكوفي : 481 ح 980، شرح الأخبار للقاضي نعمان 1: 217 ح 196، الأمالي للطوسي:552،المجلس: 19، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب6:3،ذخائر العقبي : 66.

إنك من ولدي، ومن أحبهم إلي ، فهل عندك علم من المخدج(1)؟

فقلت:نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه:تامرا(2) ولأسفله النهروان بين لاقيق وطرفا(3).

قالت : أبغنى على ذلك بيّنة، فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك.

قال : فقلت لها:سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول اللّه فيهم(4)؟

فقالت : نعم سمعته يقول : إنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند اللّه وسيلة (5) .

قال ابن أبي الحديد:وفي كتاب صفين أيضاً للمدائني عن مسروق أن عايشة قالت له لما عرفت أنّ عليّاً قتل ذا الثدية : لعن اللّه عمرو بن العاص،فإنّه كتب إلى يخبرني أنه قتله بالاسكندرية،إلّا أنّه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)سمعته يقول:«يقتله خير أمتي من بعدي»(6).

وعن أبي جعفر الإسكافي بسنده عن محمد بن عبيد اللّه بن أبي رافع،عن أبيه عن جدّه أبي رافع قال:أتيت أبا ذر بالربذة أودعه،فلما أردت الانصراف قال

ص: 374


1- في الطبعة الحجرية: (المجذح)، والمثبت عن شرح نهج البلاغة267:2 والمخدج هو الناقص الخلق كما في النهاية في غريب الحديث13:2.
2- تامرا ضبطه ياقوت بفتح الميم وتشديد الراء والقصر وقال: نهر واسع يخرج من جبال شهر زور والحبال المجاورة لها.
3- جمع لخوق وهو شق الأرض، والطرقا: شجر من الحمض واحدته طرفاء.
4- كلمة«فيهم»أضفناها من المصدر.
5- شرح نهج البلاغة267:2.
6- شرح نهج البلاغة268:2.

لي(1)ولأناس معي:ستكون فتنة،فاتقوا اللّه ، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب، فاتبعوه فإنّي سمعت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)يقول له:«أنت أوّل من آمن بي،وأول من يصافحني يوم القيامة،وأنت الصديق الأكبر،وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل،وأنت يعسوب المؤمنين،والمال يعسوب الكافرين،وأنتَ أخي ووزيري،وخير من أترك بعدي؛ تقضي ديني وتنجز موعودي»(2).

وروى ابن أبى الحديد أيضاً عن ابن الكلبي عن رجل من ولد عقيل بن أبي طالب حكمه عمر بن عبد العزيز الأموي في قضية المرأة التي حلف زوجها أن عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)خير هذه الأمة وأولاها برسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وإلا فامرأته طالق ثلاثاً،فقال العقيلي لعمر:نشدتك اللّه يا أمير المؤمنين ألم تعلم أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) قال لفاطمة،وهو عندها في بيتها عائد لها:«يا بنية،ما علتك»؟

قالت:الوعك(3)يا أبتاه،وكان على غائباً في بعض حوائج النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فقال لها:أتشتهين شيئاً؟

قالت:نعم(4)أشتها،عنباً وأنا أعلم أنّه عزيز وليس وقت عنب.

فقال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):إنّ اللّه قادر على أن يجيئنا به،ثم قال:اللهم اثتنا أفضل أُمتي عندك منزلةٌ،فطرق على الباب فدخل ومعه مكتل(5)،قد ألقى عليه طرف ردائه.

ص: 375


1- كلمة «لى» أضفناها من المصدر.
2- شرح نهج البلاغة228:13.
3- الوعك مغت المرض كما في العين :2 180،وفي النهاية 5: 207الوعك هو الحمى وقيل:ألمها ومثله في لسان العرب 514:10.
4- كلمة «نعم» أضفناها من المصدر.
5- المكتل : وعاء مثل الرتبيل ، أنظر لسان العرب 11: 583.

فقال له النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): ما هذا يا علي ؟ قال : عنب التمسته الفاطمة .

فقال:اللّه أكبر اللّه أكبر،اللهمّ كما سررتني بأن خصصت علياً بدعوتي،فاجعل فيه شفاء بنيتي،ثم قال:كُلي على اسم اللّه يا بنيّة،فأكلت وما خرج رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حتى استقلت وبرئت».

فقال عمر:صدقت وبررت،أشهد لقد سمعته ووعيته،يا رجل خُذ بيد امرأتك،فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه،ثم قال:يا بني عبد مناف-وكان المجلس جامعاً لبني هاشم وبني أُمية وأفخاذ قريش-:واللّه ما نجهل ما يعلم غيرنا،ولا بنا عمى فى ديننا، ولكنا كما قال الأول:

تصيّدت الدنيا رجالاً بفحها***فلم يدركوا خيراً بل استحقبوا الشرّا

وأعماهم حبّ الغنى وأصمهم***فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا

قيل:فكأنّما أَلْقَم بني أمية حجراً،وكتب إلى عامله ميمون بن مهران الذي بعث بالمرأة وزوجها وأبيها إليه ليحكم في أمرهم أن يستيقن ذلك الحكم ويعمل علیه(1).

قلت:وهذا الخبر الذي رواه العقيلي تدلّ القصّة على أنه متواتر بين الناس،لا سبيل لأحد إلى إنكاره،فلهذا لم ينكره من القوم منكر،ولا قال فيه منهم قائل،بل كلّهم سلّموا الرواية،مع أن جل من في ذلك المجلس مبغضون لأمير المؤمنين،ولا مانع لهم من الطعن في الخبر،لو لم يكن معلوماً من تقيّة أو خوف،لاسيما عمر بن عبد العزيز،فإنّه السلطان القاهر،إذ ذاك، وقد أقر بأنه روى الحديث ووعاه،فلا شك إذن في صدق الحديث ومعلوميته.

ص: 376


1- شرح نهج البلاغة 20: 222 - 225 والقضة هنا مختصرة، كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي:500.

وما مضى من أحاديث السيادة والاختيار والمحبة ومماثلة الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وما يأتي من الأخبار مثل تشبيهه بالأنبياء وغير ذلك،كلّها تعضد هذه الأخبار المصرحة بأنه خير الخلق وأفضل الأمة في دلالتها.

ثمّ إن نصها على أفضليّة علىّ(علیه السلام)ما على الأمة،بل على الخلق كافة بمعنى كثرة الثواب،وإطلاقها يدلّ على أفضليته بمعنى الأجمع للخصال المحمودة،لشمول الخيرية والأفضلية لذلك،مع أن هذا المعنى لا ينازع فيه عاقل، وسنوضحه إنّ شاء اللّه .

وروى ابن أبي الحديد أن قيس بن سعد بن عبادة لما أتى مصر عاملاً لعلي(علیه السلام)قام خطيباً على المنبر وقال بعد الحمد للّه والثناء عليه وما أراد أن يذكره:أيها الناس إنا بايعنا خير من تعلم بعد نبينا-یعني عليا(علیه السلام)-فقوموا فبايعوا على كتاب اللّه فإن نحن لم نعمل فيكم بكتاب اللّه فليس لنا عليكم طاعة(1).

وقال المعتزلي أيضاً:وروى أبان بن أبي عياش قال: سألت الحسن البصري عن على(علیه السلام)فقال:ما أقول فيه،كانت له السابقة والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة، إن عليّاً كان في أمره عليّاً، رحم اللّه عليّاً وصلى عليه .

فقلت:يا أبا سعيد،أتقول صلّى اللّه عليه لغير النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)؟

فقال:ترحم على المؤمنين(2)إذا ذكروا،وصلّ على النبيّ وآله،وعلي(علیه السلام) خیر آله.

ص: 377


1- شرح نهج البلاغة 6: 59.
2- في المصدر: (المسلمين).

قلت: أهو خير من حمزة وجعفر ؟ قال: نعم.

قلت وخير من فاطمة وابنيها ؟

قال:نعم واللّه إنه خير آل محمد كلهم،ومن يشك أنه خير منهم،وقد قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«وأبوهما خير منهما»،ولم يجر عليه اسم شرك، ولا شرب خمر، وقد قال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لفاطمة:«زوجتك خير أمتى»،فلو كان في أُمته خبر منه لاستثناه،ولقد أخى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بين أصحابه،فآخى بين على ونفسه، فرسول اللّه خير الناس نفساً وخيرهم أخاً.

فقلت: يا أبا سعيد، فما هذا الذي يقال عنك أنك قلته في علي ؟

فقال : يابن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة، لولا ذلك لسالت بي الخشب(1)، انتهى(2).

وقد دلّ آخر الكلام على أن إخفاء الحسن القول بأفضلية على(علیه السلام)على جميع الأمة كما صرّح به هنا، وروى فيه الحديث عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،إنما كان للخوف على نفسه من القتل،لأنّ بني أمية كانوا يقتلون من ذكر أمير المؤمنين(علیه السلام)بخير ، فكيف من فضله على الأمة، وهذا أمر شائع معلوم.

على أن المعتزلي مقرّ بذلك، وبه معترف حتى أنه قال في دعوة علي(علیه السلام)للأشتر:إنّي لا أشك بأن الأشتر يغفر اللّه له ويدخل الجنة بهذه الدعوة،فإنّها لا فرق عندنا بينها وبين دعوة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،انتهى(3).

ص: 378


1- الخشب:الشحذ، وسيف خشيب محشوب أي شحيذ والمراد هنا: بالخشب بضم الخاء والشين المعجمتين جمع خشب هو الصفيل من السيف، أنظر لسان العرب 353:1.
2- شرح نهج البلاغة96:4،كتاب سليم بن قيس الهلالي : 168 و 420، بحار الأنوار 40: 95 .
3- شرح نهج البلاغة144:16.

ثمّ إن الأحاديث قد اشتملت تارة على«أنه خير الأمة»،و«خير من يترك النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعده»و«خير الخلق والخليقة»،فيكون أفضل الخلق حتى الأنبياء والملائكة،لأنّهم من جملة الخلق والخليقة الذين نصّ الخبر على أن علياً(علیه السلام)خيرهم، فكونه (علیه السلام)أفضل الصحابة أمر واضح.

ومع هذا إنّا نعلم يقيناً أن الخصال التي توجب الفضل والصفات التي تقتضي كثرة الثواب كلها حصلت له دون غيره واجتمعت فيه دون من سواه، وفاق فى جميعها كل الناس، فيجب أن يكون أفضل بالضرورة، وإلا لخرج المقتضي عن كونه مقتضيّاً، وهو باطل.

وها نحن نذكر استكماله في خصال الخير مفصلاً، ونأتي به مشروحاً.

ص: 379

[نسب علىّ(علیه السلام)]

أما نسبه(علیه السلام)فهو النسب الجليل الذي لا يساجل،والمجد الأثيل(1)الذي لا يطاول،فإنه في السرو(2)من قريش،والصريح المهذب من قصي، والذروة من عبد مناف، والسلالة من هاشم.

أبوه أبو طالب شريف قريش مانع الجار وحامي الذمار(3)،أمنع الناس جانباً،وأبلغهم حجّة،وأثبتهم قلباً،وأفصحهم لساناً، وأوفاهم موعداً، وحمايته النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وغيرها تشهد له بذلك.

وقال معاوية بن أبي سفيان في أبيات يخاطب بها عمرو بن العاص بعد قتل علي(علیه السلام):

نجوت وقد بل المرادي سيفه***من ابن أبي شيخ الأباطح طالب(4)

ابن عبدالمطلب شيبة الحمد وساقي الحجيج سيد قريش كلها، لا يدافع في

ص: 380


1- لا يساجل يعني لا يبارى ولا يغالب، أنظر لسان العرب226:11،والأثيل:الأصيل كما في لسان العرب 9:11.
2- في الحجرية:(السرّ)،والمثبت هو الصحيح،والسرو:أعلا الشيء .
3- الذمار:ما لزم حفظه على الرجل مما وراءه وتعلق به كما في النهاية في غريب الحديث167:2.
4- وأوّل هذه القطعة الشعرية: وقتك وأسباب الأمور كثيرة***منية شيخ من لؤي بن غالب فيا عمرو مهلاً إنما أنت عمه***وصاحبه دون الرجال الأقارب تجوت وقد بل المرادي سيفه***من ابن أبي شيخ الأباطح طالب ويضربني بالسيف آخر مثله***فكانت عليه تلك ضربة لازب وأنت تناعى كل يوم وليلة***بمصرك بيضاً كالظباء الشوارب تاريخ الطبري115:4،المعجم الكبير للطبراتي104:1،تاريخ مدينة دمشق347:21،مجمع الزوائد145:9.

ذلك ولا ينازع ابن هاشم عمرو العلا صاحب الإيلاف، ومطعم الأضياف،و شمس بنی عبد مناف .

وأُمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فهو أول هاشمى ولد من هاشميين،وهو ابن عمّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأبيه وأُمّه .

نسب كأن عليه من شمس الضحي***نوراً ومن فلق الصباح عمودا(1)

آباؤه آباء رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وأمهاته أمهات رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فهو خير الناس نسباً وأشرفهم حسباً،وأفضلهم أباءاً وأُمهات لما صح عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)من قوله:«ما افترقت فرقتان من لدن آدم إلاكنت في خيرهما»(2)،وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«كنت أنا وعلي نوراً واحداً،فما زلنا ننتقل من صلب طاهر إلى رحم مطهر حتى افترقنا في عبد اللّه وأبي طالب»(3)؛فعلي(علیه السلام)أفضل الصحابة نسباً،وأجلهم أصلاً،وأكرمهم عنصراً.

[على(علیه السلام)أعلم الصحابة ]

وأما إنّه أعلم الصحابة فلقوّة حدسه وشدّة ذكائه،وكثرة ملازمته للرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حتى قال:«علمني رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)ألف باب من العلم، فانفتح لي من كل باب ألف

ص: 381


1- تفسير القرطبي255:12،الاقناع لموسى الحجاوي11:1،مغنى المحتاج 1: 12،تاریخ ابن خلدون423:7،فتح القدير32:4،كشف الغمة140:2.
2- كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: 19 تاريخ مدينة دمشق408:3،شرح نهج البلاغة326:9،وج 11 : 67، وورد مضمونه في الدر المنثور294:3وج 5: 98 البداية والنهاية318:2،كثر العمال 32010/427:11 وج12 :35489/427.
3- تاريخ مدينة دمشق67:42،المناقب للخوارزمي:145،كشف الغمة 301:1 ينابيع المودة47:1.

باب »(1)،والحرص النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على تعليمه وإرشاده وعظم شفقته عليه،ولما نزل قوله تعالی:(وَتَعِيهَا أَذَنْ وَاعِيَةٌ)(2)قال:«اللهم اجعلها أذن على(علیه السلام)»،وقال علي(علیه السلام):«ما نسيت بعد ذلك شيئاً»(3).

وقال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حين بعثه إلى اليمن قاضياً :«اللهم اهد قلبه وثبت لسانه».قال:«فما شككت بعدها فى قضاء بين اثنين»(4).

وقال(علیه السلام):«واللّه لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم،وبين أهل الزبور بزبورهم،وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم،وبين أهل الفرقان بفرقانهم،واللّه ما نزلت من آية في برّ أو بحر،أو سهل أو جبل،أو سماء أو أرض،أو ليل أو نهار،إلّا أنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت»(5).

وقضاياه معروفة مأثورة كحكمه في قضية الحمار والبقرة بين يدي

ص: 382


1- نظم درر السمطين : 113كنز العمّال114:13،بصائر الدرجات:323،كتاب الأربعين لمحمد طاهر الفمي:429،كتاب الأربعين للماحوزي: 481.
2- الحاقة: 12.
3- شواهد التنزيل366:2،تفسير القرطبي263:18،الدر المنثور260:6 ذيل الآية من سورة الحاقة، مناقب أمير المؤمنين(علیه السلام)لمحمّد بن سليمان الكوفي142:1،شرح نهج البلاغة 375:18،ينابيع المودة 1: 360.
4- سنن ابن ماجة774:2،الطبقات الكبرى337:2،أنساب الأشراف: 101،تاریخ بغداد 439:12،تاريخ مدينة دمشق389:42، شرح نهج البلاغة 1: 18، نظم درر السمطين: 127 .
5- شواهد التنزيل366:1،شرح نهج البلاغة136:6 وج 12: 197،تفسير فرات الكوفي:188،مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 317:1، العمدة لابن البطريق : 209، بحار الأنوار391:35 وج87:89.

رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)(1)،وفتياه في الزانية الحامل(2)،وفي المرأة التي وضعت لستّة أشهر(3)،وحكمه في قضيّة الأرغفة(4)،وفيمن حلف لا يحلّ قيد

ص: 383


1- والقصة كما في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب177:2 أنّ رجلين اختصما إلى النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في بقرة قتلت حماراً فقال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):اذهبا إلى أبي بكر واسألاه عن ذلك، فلما سألاه قال: بهيمة قتلت بهيمة لا شيء على ربها،فأخبر رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فأشار بهما إلى عمر،فقال كما قال أبو بكر، فأخبر رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بذلك،فقال(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):اذهبا إلى علىّ(علیه السلام)فكان قوله(علیه السلام):إن كانت البقرة دخلت على الحمار في مأمته فعلى ربها قيمة الحمار لصاحبه،وإن كان الحمار دخل على البقرة في مأمنها فقتلته فلا غرم على صاحبها، فقال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): لقد قضى بينكما بقضاء اللّه. وانظر الكافي7 :352 ح6،تهذيب الأحكام229:10 ح34،وسائل الشيعة (الإسلامية) 19: 191 ح 1.
2- خلاصة القضية:أن عمر بن الخطاب أتي بامرأة حامل أقرت بالزنا فأراد رجمها،فمنعه الإمام على(علیه السلام) وقال:هذا سلطانك عليها،فما سلطانك على ما في بطنها،الأحكام ليحيى بن الحسين المتوفى سنة 298، ج 2: 220 ، مناقب الخوارزمي : 81،كشف الغمة 1: 110، شرح الأزهار346:4،ينابيع المودة للقندوزي 1: 226 .
3- وموجز القصة أنه قد جين بامرأة لعمر بن الخطاب وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها فبلغ ذلك الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام)فقال(علیه السلام):أنّ لا رجم عليها لقوله تعالى(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)(البقرة:233)،وقوله تعالى:﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثلاثون شهراً)وقال: فالحمل ستة أشهر، والفصال في عامين فترك عمر رجمها وقال: لو لا عليّ لهلک عمر،المصنف لعبد الرزاق350:7،كنز العمال205:6 ح15363.
4- وحكمه(علیه السلام)في قضية الأرغفة مشهورة وردت في كتب كثيرة وهى : اجتمع رجلان يستغديان،مع واحد ثلاثة أرغفة ومع واحد خمسة أرغفة،قال:فمرّ بهما رجل فقال:السلام عليكما،فقالا:وعليك السلام،الغذاء رحمك اللّه،قال:فقعد وأكل معهما،فلما فرغ قام فطرح إليهما ثمانية دراهم فقال:هذه عوض لكما بما أكلت من طعامكما، قال:فتنازعا بها،فقال صاحب الثلاثة:النصف لي والنصف لك،وقال صاحب الخمسة،لي خمسة بقدر خمستي،ولك ثلاثة بقدر ثلاثتك،فأبيا وتنازعا حتى ارتفعا إلى أمير المؤمنين(علیه السلام)فاقتضا القصّة.فقال(علیه السلام):إن هذا الأمر الذي أنتما فيه دني،ولا ينبغي أن ترفعا فيه إلى حكم... فقال [صاحب الثلاثة ]: لا واللّه يا أمير المؤمنين لا أرضى إلّا بمرّ الحق،قال:إنما لك في مر الحق درهم،فخذ درهماً وأعطه سبعة...قال [ضاعت الثلاثة] فأوقفني على هذا،قال:أليس تعلم،إن ثلاثتك تسعة أثلاث؟قال:بلى،قال أو ليس تعلم،إن خمسته خمسة عشرثلثاً؟قال:بلى،قال: فذلك أربعة وعشرون ثلثاً،أكلت أنت ثمانية،وأكل الضيف لمانية وأكل هو ثمانية فبقى من تسعنك أنت واحد أكله الضيف وبقي من خمسة عشرة،سبعة أكلها الضيف،قله بسبعته سبعة ولك بواحدك الذي أكله الضيف واحد».تهذيب الكمال 20: 486،كنز العمال835:5 ح 14511،ينابيع المودة411:2،أنظر الكافي427:7ح10.

عبده(1)،وفي مال الكعبة حين استشاره عمر فيه(2).

وهو الذي اخترع علم النحو،وبين أصوله(3)،وينبغى إلحاق ذلك بالمعاجز، وغير ذلك مما لا يبلغ إليه فهم،ولا يحوم حوله عقل.

وقد رجع إليه الصحابة في كثير من المسائل بعد غلطهم،واحتاجوا إلى بيانه،ولم يحتج هو في شيء من الأحكام إلى أحد من الناس،واعترف أكابر الصحابة له بالأعلمية.

وقال عبد اللّه بن العباس لمّا سُئل أين علمك من علم ابن عمّك على(علیه السلام)؟

ص: 384


1- أنظر بحار الأنوار165:40،عجائب أمير المؤمنين (علیه السلام)للسيد محسن الأمين: 79 .
2- ورد في الخبر أنه ذكر عند عمر بن الخطاب حلي الكعبة وكثرته فقال قوم: لو أخذته فجهزت با الجيوش كان أعظم للأجر وما تصنع الكعبة بالحلي، فهم عمر بذلك وسأل عنه أمير المؤمنين فقال : إن هذا القرآن أنزل على محمد(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)والأموال أربعة،أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض والفيء فقسمه على مستحقيه،والخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، والصدقات فجعلها اللّه حيث جعلها وكان حلى الكعبة فيها يومئذ فتركه اللّه على حاله،ولم يتركه نسياناً ولم يخف عنه مكاناً فأقره حيث أقره اللّه ورسوله،فقال له عمر:لولاك لافتضحنا وترك الحلى بحاله،نهج البلاغة65:4،شرح نهج البلاغة 158:19،مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب189:2،بحار الأنوار235:40.
3- البداية والنهاية لابن كثير334:8.

قال : كالقطرة في المتعنجر - يعنى البحر المحيط(1)-.

وقال عبد اللّه بن مسعود ما معناه: أن من أراد علم القرآن كما أنزله اللّه ، فعليه بعلي بن أبي طالب(2).

وقال عمر غير مرّة : لولا على الهلك عمر(3).

وقال : لا بقيتُ لمعضلة ليس لها أبو الحسن(4).

حتى أن كل فرقة من أهل العلم لتنتمي إليه، وكلّ ذي طريقة ليتجاذبه، وينتهي إليه فقه كلّ فقيه وعلم كلّ عالم، ويكفي في ذلك ما صح في الروايات عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من أنه أعلم الناس، فلا شك أنه أعلم الصحابة في جميع العلوم، فيكون أفضلهم لقول اللّه تعالى:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ)(5)وقال :(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(6).

ص: 385


1- الفائق في غريب الحديث86:3،النهاية في غريب الحديث 206:1 ، وج38:4،المغني لابن قدامة233:7،وفيه«كالقرارة إلى المتعنجر»، لسان العرب103:4،تاج العروس 3: 75 ينابيع المودة 216:1.
2- قال الطبرسي في مجمع البيان 1: 27 قال: ابن مسعود: إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وان عليّاً عنده من الظاهر والباطن.
3- الاستيعاب لابن عبد اللّه 3: 1103،شرح نهج البلاغة205:12،نظم دور السمطين: 130، ينابيع المودة216:1، وج147:3،بحار الأنوار231:10،وج55:17.
4- شرح نهج البلاغة4:1،فتح الباري286:13،وقال فيه :«كان عمر يتعوذ باللّه من معضلة ليس لها أبو الحسن»الطبقات الكبرى339:2،تأويل مختلف الحديث:152،تاريخ مدينة دمشق46:42،أسد الغابة23:4،تهذيب التهذيب296:7،لسان العرب453:11،تاج العروس22:8.
5- الزمر:9.
6- فاطر: 28 .
[على(علیه السلام)أحلم الناس ]

وأما إنّه أحلمهم فهو كضوء النهار حتى بلغ من حلمه أنة ترك عبد الرحمان بن ملجم في دياره، ويعطيه العطا مع علمه به، وقوله فيه مراراً «إنه قاتلي»(1)،وعفى عن مروان يوم الجمل،مع شدة عداوته له وقوله فيه:«ستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر»(2)،وعفى عن سعيد بن العاص وكان عدواً له في غاية العداوة(3)، وعن عبد اللّه بن الزبير، وكان يشتمه على رؤوس الأشهاد وأطلقه وقال له : اذهب فلا أرينك(4)لم يزده على ذلك.

وحسبك بحلمه عفوه عن أهل البصرة بعد ما هزمهم ، وكانوا قد ضربوا وجهه

ووجوه بنيه وأصحابه بالسيوف،ونكثوا بيعته ونصروا عدوه،وعفوه عن عايشة،وهي السبب الأعظم في نكث بيعته، والإجلاب عليه ، ولو فعلت عشر ذلك بغيره ثمّ قدر عليها لمزق جلدها وقطعها إرباً إرباً.ولمّا منعه وأصحابه معاوية الماء يوم صفين حين ملك أهل الشام الشريعة فقاتلهم وهزمهم وأراد أصحابه منعهم من الماء قال : افرجوا لهم عن الشريعة،

ص: 386


1- الطبقات الكبرى 3: 33 .
2- أنساب الأشراف:263،شرح نهج البلاغة146:6،الجمل للمفيد: 221، بحار الأنوار356:41،الغدير 261:8.
3- أنظر كشف الغطاء 16:1 .
4- شرح نهج البلاغة23:1،ينابيع المودة450:1، بحار الأنوار145:41،كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: 417 .

ففي حدّ السيف[ما يغني](1)عن ذلك(2)،وكان مع الحلم عظيم الرزانة لم ير طائشاً قطّ،وكان أطلق الصحابة وجهاً وأحسنهم خُلقاً، حتى نسبه أعداؤه كعمر ابن الخطاب(3)وعمرو بن العاص إلى الدعابة(4)(5).

[علي(علیه السلام)أقدم الناس إسلاماً]

وأما قدمه في الإسلام فمعلوم لأنه لم يجر منه كفر قطّ ، وكان يصلي قبل الناس مع رسول اللّه سبع سنين، وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم): «أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب». وقال: «أقدمهم سلماً»(6).

وكان على(علیه السلام)يقول على المنابر :«أنا أوّل من صلّى»(7)، و«أول من آمن باللّه

ص: 387


1- في الحجرية: (مغني)، والمثبت عن المصدر.
2- شرح نهج البلاغة24:1 وج 3: 331 شرح التجريد(تحقيق الأصلي): 528،ينابيع المودة451:1،بحار الأنوار443:32.
3- شرح نهج البلاغة51:12،وخلاصة القصة أن ابن عباس قال:كنت عند عمر فتنفس نفساً ظننت أن أضلاعه قد انفرجت؛ فقلت : ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد! قال: إي واللّه يا ابن عباس إنّي فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ؟ ثم قال : لعلك ترى صاحبك أهلاً لها!قلت:وما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته وعلمه! قال:صدقت ولكنه امرق فيه دعاية.وانظر مناقب ابن شهر آشوب326:1،الفائق في غريب الحديث203:3،الصراط المستقيم162:1.
4- الدعابة: المزاح كما في النهاية لابن الأثير118:2،لسان العرب 376:1 .
5- شرح نهج البلاغة 1: 25 وج 6: 280 ،وج175:9،أمالي الطوسي: 131 الغدير127:3کتاب،الأربعين لمحمد طاهر القمى : 419 و 420 ، حلية الأبرار415:2.
6- المستدرك على الصحيحين 3: 136 شرح نهج البلاغة117:4.
7- مسند أبي الجعد:87،السنن الكبرى105:5ح8390،خصائص أميرالمؤمنين(علیه السلام)430،مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام)لمحمد بن سليمان الكوفي269:1 ح 180، مجمع الزوائد 103:9 .

و رسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)(1)،و«لم يسبقني إلى الصلاة إلّا نبيّ اللّه»، ولم يرد عليه أحد قوله، مع أنهم كانوا يردّون عليه في أقل شيء مما يمكنهم الرد فيه، ولو من جهة الشبهة أو الجهالة بما يقول.

وقد استفاضت الروايات بذلك عن محدّثي مخالفينا كالطبري والواقدي،وابن عبدالبرّ،وابن إسحاق،وابن كعب القرظي،وابن شهاب الزهري، وعبد اللّه بن محمد بن عقيل،وقتادة وغيرهم،ورووا ذلك عن عبد اللّه بن العباس وسلمان وأبي ذرّ والمقداد، وخباب بن الأرت،وأبي سعيد الخدري،وزيد بن أسلم وعفيف الكندي،والحسن البصري.

وإلى هذا القول ذهب أكثر المخالفين ولم يخالف فيه إلّا شاذ لا يُعبأ به، وأشعار الصحابة والتابعين فيه كثيرة ومن جملتها قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين :

وصي رسول اللّه من دون أهله***وفارسه مذ كان في سالف الزمن

وأوّل من صلّى من الناس كلّهم***سوى خيرة النسوان واللّه ذو منن(2)

وقول حسّان بن ثابت :

جزى اللّه عنا والجزاء بفضله***أبا حسن خيراً ومن كأبي حسن

سبقت قريشاً بالذي أنت أهله***فصدرك مشروح وقلبك ممتحن(3)

ص: 388


1- أنساب الأشراف للبلاذري : 92 تاريخ بغداد 4: 456 تاريخ مدينة دمشق251:32وج 38:30 وج31:43المناقب لابن شهر آشوب275:1ح 188.
2- المستدرك على الصحيحين114:3،شرح نهج البلاغة231:13،إعلام الورى بأعلام الهدى362:1،بحار الأنوار274:38، الصراط المستقيم236:1،الدرجات الرفيعة لابن معصوم:311،الغدير231:3.
3- تاريخ اليعقوبي138:2،شرح نهج البلاغة35:6،النزاع والتخاصم للمقريزي : 109، مناقب آل أبي طالب373:1،بحار الأنوار267:38.

وقول عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب :

وإنّ وليّ الأمر بعد محمّد***علىّ وفى كلّ المواطن صاحبه

وصيّ رسول اللّه حقّاً وصنوه(1)***وأوّل من صلّى ومن لان جانبه(2)

وقول أبي سفيان بن حرب في رواية أبي جعفر الإسكافي، وفي رواية غيره قول بعض ولد أبي لهب:

ما كنتُ أحسبُ من الأمر منصرف***عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم***وأعلم الناس بالأحكام والسنن

وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن***جبريل عون له في الغسل والكفن(3)

وقول هاشم بن عتبة المرقال في صفين :

أعورّ(4)يبغى أهله محلّا***قد عالج الحياة حتّى ملّا

أُشلّهم بذي الكعوب(5)شلّا***عن ابن عم أحمد المعلّا (5)

أوّل مَنْ صدّقه وصلّى(6)

ص: 389


1- الصنوة المثل كما في النهاية57:3،وقال في لسان العرب 470:14، الصنو : الأخ الشقيق والعم والابن،والجمع أصناء وصنوان.
2- شرح نهج البلاغة231:13،الغدير231،3.
3- تاريخ اليعقوبي124:2،شرح نهج البلاغة231:13،21:6،المناقب للخوارزمي: 40، أسد الغابة 4: 40 ، النزاع والتخاصم للمقريزي : 104، بحار الأنوار 352:28.
4- المراد بالأعور في هذه الأبيات هو هاشم المرقال فإن عينه فقئت يوم اليرموك كما في كتاب المحير المحمد بن حبيب البغدادي: 291 أسد الغابة 5: 49 .
5- أشلهم أي أطردهم كما في العين 6: 218، والصحاح 1: 128 والمراد بذي الكعوب الرماح، فإن الكعب ما علا وارتفع فهنا معنى كنائي، أنظر النهاية 4: 178.
6- قد وردت هذه الأبيات بألفاظ مختلفة،أنظر وقعة صفين: 327،أنساب الأشراف:320،تاريخ مدينة دمشق343:33،شرح نهج البلاغة11:8،الدرجات الرفيعة: 378، الغدير169:2.

وقول شريح بن هاني الحارثي وهو من التابعين :

أبا موسى رميت بشر خصم***فلا تضع العراق فدتك نفسی

فلا تجعل معاوية بن حرب***كشيخ في الحوادث غير نكس(1)

هداه اللّه للإسلام فرداً***سوى عرس النبيّ وخير عرسِ(2)(3)

وقول سعيد بن قيس الهمداني:

هذا على وابن عم المصطفى***أوّل من أجابه فيما روى

هو الإمام لا يبالى من غوى(4)

وقول أبي الأسود الدولي يهدّد طلحة والزبير يوم الجمل:

وإن عليّاً لكم مصحر(5)***يماثله الأسد الأسود

أما إنه أول(6)العابدين***بمكة واللّه لا يعبد(7)

وغير ذلك من الأشعار،ولو تعاطينا ذكر الأخبار ورواية الأشعار في هذا الباب حتى نستوفي ما وجدناه من ذلك في كتب الخصوم لطال الكتاب،وبلغ إلى غاية الأطناب.

ص: 390


1- المراد منه علي بن أبي طالب(علیه السلام)فإنه لم يتراجع في أي حرب وعليك أن لا تجعل معاوية كعليّ (علیه السلام).
2- قال في لسان العرب136:6،والمرأة تسمّى عرس الرجل فى كل وقت،والمراد بذلك هنا زوجة النبي خديجة الكبرى.
3- وقعة صفين:327،شرح نهج البلاغة 245:2،الغدير337:10.
4- شرح نهج البلاغة232:13،الغدير231:3.
5- أي بارز لكم من أصحر القوم إذا برزوا إلى الصحراء كما في العين114:3.
6- في شرح نهج البلاغة314:9(ثالث) بدل من (أول).
7- شرح نهج البلاغة314:9وج 13: 232، الدرجات الرفيعة : 383 نهج الإيمان : 172، الغدير232:3.

وقول من قال: أوّل من أظهر الإيمان أبو بكر(1)مع شذوذه مردود بمعارضته لهذه الشهرة التي قربت من الإجماع، بل كادت تكون إجماعاً، ولذا ادعى بعض العامة عليه الإجماع.

على أن أبا جعفر الإسكافي قال في كتاب نقض العثمانية: إن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم، إلا بعد عدة من الرجال، منهم علي بن أبي طالب(علیه السلام)،وجعفر أخوه،وزيد بن الحارثة وأبو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد ابن سعيد بن العاص و خباب بن الأرت،انتهى(2).

وقال ابن أبي الحديد : إن المخالف في سبق إيمان على(علیه السلام)شاذّ لا يعتدّ به،انتهى(3).

ولأجل اشتهار الأمر لم نحتج فيه إلى ذكر ما رواه الخصوم جميعه،بل اكتفينا بيسير منه،وإذا كان علي(علیه السلام) الأسبق في الإيمان كان أفضل لقوله تعالى:(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(4)والمقرب أكثر ثواباً البتة.

[علي(علیه السلام)أشجع الصحابة ]

وأما إنّه أشجع الصحابة وأكثرهم جهاداً فأمر معلوم لا يشك فيه ذو فهم وفطنة،بل كونه أشجع البشر أمر أوضح من ضوء النهار،كما يشهد به مواقفه المشهورة،

ص: 391


1- قال النووي في المجموع 19: 224 قيل : أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومثل ذلك حاشية رة المختار لابن عابدين 445:4.
2- حكاه في شرح نهج البلاغة224:13.
3- شرح نهج البلاغة135:4.
4- الواقعة: 10 و 11 .

ومشاهده المأثورة في حروب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وحروبه في أيام خلافته، وقد قال معاوية لعمرو بن العاص لما أشار عليه بمبارزته:أتأمرنى بمبارزة أبى الحسن،وهو الشجاع المطرق(1)،أراك طمعت في إمارة الشام بعدي(2).

وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته،كما افتخر بذلك عبد اللّه ابن الزبير على معاوية،فقال له معاوية: لا جرم إنّه قتلك وأباك بيسري يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها(3).

ويكفيك شاهداً على ذلك افتخار رهط قتلاه بأنه قتلهم،قالت أخت عمرو بن بعبد ودّ:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله***بكيته أبداً ما دمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له***وكان يُدعى أبوه بيضة البلد(4)(5)

قال ابن أبي الحديد:أما الشجاعة فإنّه أنسى فيها ذكر من كان قبله،ومحا اسم من يأتي بعده،ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال، وهو الشجاع

ص: 392


1- المطرق إما الذي يشب على عدوه في الوقت المناسب أو السريع السير أو الساكت كما في لسان العرب217:10.
2- شرح نهج البلاغة20:1،ينابيع المودة 449:1،لصراط المستقيم160:1،الأربعون لمحمد طاهر القمي الشيرازي: 415،بحار الأنوار 143:41.
3- شرح نهج البلاغة 21:1،الأربعون لمحمد طاهر القمى : 416 بحار الأنوار 143:41 .
4- بيضة البلد من الأضداديقصد بها المدح كما يقصد بها الذم والمراد هنا الأول وكان أبو طالب يدعى بيضة البلد والمعنى أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تريكة وحدها ليس معها غيرها، أنظر تاج العروس 13:5.
5- ذیل تاریخ بغداد لابن النجار198:2،شرح نهج البلاغة 20:1و193:20،تاج العروس12:5،ينابيع المودة449:1،بحار الأنوار 143:41.

الذي ما فرّقط،ولا ارتاع من كتيبة،ولا بارز أحداً إلّا قتله،ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية،انتهى(1).

ولقد قتل صناديد المشركين وقويت به شوكة الإسلام،واعتز به جانب المسلمين،قتل في غزاة بدر أعيان الكفّار وشجعانهم حتى قتل قريباً من نصف القتلى وقتل باقي المسلمين والملائكة المسؤمون النصف الآخر(2).

قال القوشجي:ومع ذلك كانت الراية في يد عليّ(علیه السلام)(3).

و فی احد وقد تفرّق عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أصحابه وانهزموا بعد أن قتل علىّ(علیه السلام)طلحة ابن أبي طلحة،وهو المسمى كبش الكتيبة،وكان صاحب راية قريش قتله مبارزة،أن تحاماه المسلمون،وتأخروا عن البراز إليه،ثمّ أخذ الراية غيره فقتله علىّ(علیه السلام)أيضاً،ولم يزل يقتل واحداً بعد واحد حتى قتل تسعة نفر،فانهزم

المشركون،واشتغل المسلمون بالغنايم،فحمل خالد بن الوليد وضرار بن الخطاب الفهري وأصحابهما على النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) فضربوه بالسيوف والرماح والحجارة.

وانهزم الناس عنه ما خلا عليا(علیه السلام)فإنه ما زال يجالد عنه حتى ردّ عنه المشركين،وقتل جملة من فرسانهم، وكان قتلاه قريباً من نصف المقتولين،وقتل كل المسلمين النصف الآخر.

ص: 393


1- شرح نهج البلاغة 1: 20 .
2- شرح نهج البلاغة 24:1،وجاء ذلك في احتجاج المأمون على الفقهاء كما في العقد الفريد لابن عبد ربه المالكي92:5.
3- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 12 السطر 4.

قال القوشجي:وجمع له الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بين اللواء والراية،انتهى(1).

ونادى جبريل ذلك اليوم:

*لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على(2)*

وفي يوم الأحزاب حين ظنّ المسلمون باللّه الظنون،وزلزلوا زلزالاً شديداً،وأتى عمرو بن عبدودّ يطلب المبارزة مراراً، فأحجم عنه المسلمون وخافوا أشدّ الخوف،والنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يحضّ المسلمين على مقاتلته، ويحرّضهم على منازلته،ويعرض عليهم مبارزته،فلم يجبه أحد منهم إلّا علي فخرج إلى عمرو فقتله،وكفى اللّه المؤمنين القتال به،وكان الفتح ذلك اليوم على يده،وقال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،لضربة على لعمرو خير من عبادة الثقلين(3).

وقال حذيفة: والذي نفس حذيفة بيده لعمله-يعني علياً(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)-ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى يوم القيامة(4).

وفي غزوة خيبر وقد أخذ الراية أبو بكر،فرجع مع أصحابه منهزمين خائفين،ثمّ أخذها عمر من الغد،ففعل مثل ذلك، فقال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه تعالى ورسوله،ويحبه اللّه ورسوله،كرّار غير فرۀار،لا يرجع أو

ص: 394


1- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 12 السطر 5 .
2- المعيار والموازنة : 91 شرح نهج البلاغة182:10،النهاية في غريب الحديث 2: 255، لسان العرب 332:14،كنز العمال 723:5،الكافي110:8ح 90،علل الشرائع 7:1 ح3وص160ح2،عيون أخبار الرضا(علیه السلام)81:2،الخصال: 55 و557،الأمالي الصدوق: 268، تاج العروس 276:10.
3- المستدرك على الصحيحين32:3،شرح المواقف371:8،الخصال:579 سعد السعود:139،إقبال الأعمال267:2،بحار الأنوار2:39،الغدير206:7.
4- أنظر شواهد التنزيل 16:2 ،شرح نهج البلاغة61:9،بحار الأنوار 3:39.

يفتح اللّه على يديه»(1)، فدعا بعليّ(علیه السلام)، وهو أرمد، فأتي به فتفل في عينيه فبرأ من ساعته ، وأعطاه الراية، فمضى وقتل مرحباً فانهزم أصحابه اليهود، وغلقوا الأبواب، فاقتلع علي الباب وجعله جسراً على الخندق، وأمسكه بيده حتى عير عليه المسلمون.

فلما انصرفوا أخذه بيده ودحاه أذرعاً وكان يغلقه عشرون رجلاً، وعجز جماعة من المسلمين عن نقله حتى نقله سبعون رجلاً من أقويائهم(2).

وقال علىّ(علیه السلام): «ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانية ولكن قلعته بقوة ربانية»(3)،وكان الفتح على يده.

وروى الحافظ ابن عساكر الدمشقي أن علياً(علیه السلام)تترس بباب الحصن عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح اللّه عليه(4)،وهذه الرواية موافقة الرواية أصحابنا.

وفي غزاة حنين وقد سار النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في اثني عشر ألف مقاتل فتعجب أبو بكر من كثرتهم وقال : لن نغلب اليوم من قلة كما ذكره القوشجي(5)وغيره، ونظمه ابن أبي الحديد في أشعاره(6)،فانهزموا بأجمعهم ولم يبق مع النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلّا تسعة من

ص: 395


1- أنظر الثقات لابن حبان 2: 12 تاريخ مدينة دمشق82:41و 83 و 86 و 90،الاستغاثة للكوفي 28:2،الشافي في الإمامة245:2ريالالإفصاح : 68 ، الجمل: 219.
2- الإصابة في تمييز الصحابة 4: 466، وقصة خيبر فيه مفصلة.
3- شرح المواقف371:8،الطرائف:519،نهج الإيمان:325.
4- تاريخ مدينة دمشق 11:42 .
5- شرح التجريد للقوشجي،المقصد الخامس في الإمامة: ص 12 السطر 20.
6- الهاشميات والعلويات: 107 و من شعره : وأعجب إنساناً من القوم كثرة***فلم يغن شيئاً تم هرول مديراً وضاقت عليه الأرض من بعد رحبها***وللنصّ حكم لا يدافع بالمرا والمراد بالإنسان في«إنساناً»،أبو بكر لأنه قال:لن نغلب اليوم من قلة.

بني هاشم وأيمن بن أم أيمن مولى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقدمهم علي(علیه السلام)،فخرج أبو جرول فقتله عليّ(علیه السلام)حتّى قتل أربعين رجلاً فانهزم المشركون وغنمهم المسلمون(1).

وفي غزوة بني المصطلق وغيرها من الوقائع المشهورة والغزوات المأثورة،قال ابن أبي الحديد:وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية،كالعلم بوجود مكة ومصر(2)،وإذا كان علىّ(علیه السلام)أكثر الصحابة جهاداً كان أكثرهم أجراً لقوله تعالى:(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عظيماً)(3)فهو أفضلهم.

[علىّ(علیه السلام)أسخى الناس]

وأما إنّه أسخى الناس فيدلّ عليه إيثاره المحاويج على نفسه وأهل بيته،حتّى جاد بقوته وقوت أهل بيته ثلاث ليال على يتيم ومسكين وأسير، فأنزل الله فيه وفي أهل بيته:(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ)(4)السورة بتمامها إلا آيات قليلة منها(5)،وتصدق بخاتمه في الصلاة فأنزل اللّه في حقه :(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ

ص: 396


1- الإرشاد للشيخ المفيد 1: 143 إعلام الورى387:1،بحار الأنوار157:21.
2- شرح نهج البلاغة24:1.
3- النساء : 95 .
4- الإنسان:8.
5- أنظر المعيار والموازنة :75،أسباب النزول للواحدي : 296 ،شواهد التنزيل 403:2 ح1053،تفسير أبي حمزة:345 ،تفسير القمي398:2،تفسیر فرات الكوفي:530،مجمع البيان209:10،خصائص الوحي المبين: 179 .

وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(1)(2).

قال ابن أبي الحديد:وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم،فتصدق بدرهم ليلاً،وبدرهم نهاراً،وبدرهم سراً،وبدرهم علانية،فأنزل فيه:(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(3).

وكان(علیه السلام)يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده(4)ويتصدق بالأجرة ويشدّ على بطنه حجراً.

وقال الشعبي-وقد ذكره-:كان أسخى الناس على الخلق الذي يحبه اللّه،ما قال لا لسائل قطّ،وكان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها،وكان يقول:«يا صفراء ويا بيضاء غزي غيري»،حتّى إنه لم يخلّف ميراثاً .

ولقد قال عدوّه ومبغضه معاوية فيه:لو ملك بيتاً من تبن وبيتاً من تبر لأنفق تیره قبل تبنه(5).

ويكفيك شاهداً على أنه أسخى الصحابة وأجودهم آية النجوى التي لم يعمل

ص: 397


1- المائدة:55.
2- وممن روى نزول الآية في حق علىّ(علیه السلام)الطبري في تفسيره386:6،والواحدي في أسباب النزول: 133، والحسكاني في شواهد التنزيل 1: 12 ح 221، والرازي في تفسيره26:12،وابن كثير في تفسيره 74:3 ، والسيوطي في الدر المنثور293:2،وانظر خصائص الوحي المبين : 71.
3- البقرة: 274 .
4- أي ثخن جلده وتعجر وظهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلية الخشنة كما في النهاية في غريب الحديث 300:4.
5- شرح نهج البلاغة 22:1وج202:2،ينابيع المودة 1: 449 و 450، الأربعون حديثاً لمحمد طاهر القمي : 417، بحار الأنوار 144:41 .

بها غيره،ولم يَفُز بها سواه،وهي قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)(1) الآية،فإن الصحابة جميعهم امتنعوا من مناجاة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعد نزولها ولم يناجه إلّا علىّ(علیه السلام)(2).

وقد روي أنه أعتق من كسب يده ألف مملوك(3).

[علىّ(علیه السلام)أزهد الناس ]

وأما إنّه أزهد الناس فأمر ظاهر فإنّه(علیه السلام)كان سيد الزهاد،وبدل الأيدال،ما شبع من طعام قطّ،وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً،وقل أن يأتدم،فإن فعل فبالملح أو الخل،فإن ترقى فبنبات الأرض،فإن زاد قبلين،وكان لا يأكل اللحم إلا قليلاً،ويقول:لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان(4)،وكان نعلاه من ليف،وحمائل سيفه من ليف،وكان يرقع قميصه بجلد تارة وبليف أخرى،وإذا اشترى قميصاً ورأى كمّه طويلاً قطعه بالشفرة ولم يخطه حتّى يبقى متساقطاً على يده.

وقد تواتر إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لاتساع أبواب الدنيا عليه،لأن الأموال كانت تُجبى إليه حتى قال:«يا دنيا يا دنيا إليك عنّي،أبي تعرّضت؟أم إلى تشوقتِ؟لا حان حينك،هيهات هيهات غرّي غيري لا حاجة لي فيك وقد طلَّقْتُك ثلاثاً لا رجعة فيها،فعيشك قصير وخطرك يسير وملكك حقير»(5).

ص: 398


1- المجادلة: 12 .
2- جامع البيان27:28،المستدرك على الصحيحين482:2،شرح نهج البلاغة274:13،الدر ، المنثور185:6،كنز العمال 521:2.
3- شرح نهج البلاغة202:2،مجمع البیان147:9،نور الثقلين 16:5 ح 25 .
4- شرح نهج البلاغة 26:1 .
5- شرح نهج البلاغة 75:18،ينابيع المودة 1: 438 .

وقال: «واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم»(1)(2)

وقال عبد اللّه بن أبي رافع:دخلت عليه يوماً فقدّم جراباً(3)مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فأكلنا منه،فقلت:يا أمير المؤمنين،لم ختمته ؟ فقال:«خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن»(4).

قال القوشجي:وهذا شيء اختص به علىّ(علیه السلام)ولم يشاركه فيه غيره،ولم ينل أحد بعض درجته،انتهى(5).

وأخبار زهده وسخائه كثيرة يضيق بها هذا الإملاء وتحتاج إلى مصنف على حدة،والغرض هنا الإشارة إلى صفاته الحميدة.

[على(علیه السلام)أعبد الناس]

وأما إنّه أعبد الناس فلما تواتر من كثرة صلاته وصيامه حتى كان يصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة(6)،وتعلّم منه الناس صلاة الليل،وملازمة الأوراد،ويشهد بذلك ما في دعواته ومناجاته من تعظيم جلال اللّه والخضوع والخشوع له.

ص: 399


1- العراق بكسر العين هو من الحشا ما فوق السرة معترضاً البطن أو هو العظم المأكول لحمه،والمجذوم هو المصاب بمرض الجدام،وما أقذر كرش الخنزير وأمعاءه أو عظمه في يد شوهها الجذام.
2- نهج البلاغة236/53:4،وعنه في بحار الأنوار 337:40ح 21،عيون الحكم والمواعظ:145،شرح نهج البلاغة233:19،ينابيع المودة437:1.
3- الجراب وعاء من إهاب الشاة لا يوعى فيه إلا يابس كما في لسان العرب261:1.
4- مناقب الخوارزمي : 130/118، شرح نهج البلاغة26:1،ينابيع المودة452:1،بحار الأنوار148:41.
5- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 13 السطر 21 .
6- تاریخ ابن خلكان350:1،صفة الصفوة لابن الجوزي56:2،حكاه في الغدير 5: 25،عن العقد الفريد390:2وج 39:3.

قال ابن أبي الحديد:وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده،والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً،فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده،انتهى(1).

وقيل لعلي بن الحسين(علیه السلام)مع أنّه سيّد العابدين:أين عبادتك من عيادة جدّك؟فقال:«عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)»(2).

[على(علیه السلام)أحفظ الصحابة للقرآن]

وأما إنّه أحفظ الصحابة للقرآن فلما صحّ أنه(علیه السلام)كان يحفظه على عهد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ولم يكن غيره يحفظه،ثم هو أوّل من جمعه،ولم يحتج إلى ما عند أحدٍ غيره منه في جمعه،كما احتاج إلى ذلك أبو بكر وعمر لما أرادا جمع القرآن،فنادى مناديهما:من كان عنده شيء من القرآن فليأت به(3)،فدل على أنهما لم يعرفا من القرآن إلّا يسيراً،وهذا كله صحيح عند الخصوم.

وكان أكثر القراء كأبي عمرو بن العلا وعاصم بن أبي النجود وغيرهما يسندون قراءتهم إليه،لأنهم تلامذة أبي عبد الرحمان السلمي،وهو تلميذ أمير المؤمنين،وعبد اللّه بن العبّاس رئيس المفسرين وعنه يأخذون،وإلى قوله يستندون، وهو تلميذ أمير المؤمنين(علیه السلام)، وما زال منقطعاً إليه ، وعنه أخذ ومنه تعلم(4).

ص: 400


1- شرح نهج البلاغة 27:1.
2- شرح نهج البلاغة27:1،ينابيع المودة453:1،بحار الأنوار 149:41 .
3- أنظر تحفة الأحوذي 408:8.
4- أنظر شرح نهج البلاغة27:1،شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 14 السطر 11.
[عليّ(علیه السلام)أفصح الناس]

وأمّا إنّه أفصح الناس لساناً فيدلّ عليه خطبه ومواعظه ورسائله وما اشتملت عليه من المطالب العالية وعلوم التوحيد وكيفية السلوك والأخبار عن أحوال العالم العلوي وصفاته،وكيفية إنشاء الخلايق علويها وسفليها،وجسمانيها وروحانيها، ماديها ومجردها مما لم يجر لأحدٍ من الناس شبهه عشر العشر،بل لا يعلم أحد من الصحابة شيئاً منه،ولا يعرفون ما هو ولا يُحسنون التعبير عنه،وكل ذلك أورده في كلام عال لم يوازنه كلام أحد من البشر بعد كلام رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

وشرح فيه أحوال الدنيا والآخرة بعبارات تحير عقول البلغاء في حسن نظمها ولطافة سبكها،ولم يدوّن لأحدٍ من الناس عشر العشر مما دوّن له من الكلام(1).

واستشهد القوشجي على أنه أفصح الناس بكلامه المدوّن في نهج البلاغة،وهو كما ذكر أوضح شاهد وأدل دليل.

وقال:قال البلغاء:إن كلامه تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق(2)،ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة(3).

وقال عدوّه معاوية فيه حين قال له محقن بن أبي محفن(4):جئتك من عند أعيا الناس؛ويحك ،كيف يكون أعيا الناس،فواللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره(5).

ص: 401


1- يراجع في ذلك الجزء الأول من مصادر نهج البلاغة وأسانيده تحت عنوان:الكتب المؤلفة في کلام أمير المؤمنين (علیه السلام).
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 14 السطر 9 .
3- شرح نهج البلاغة 24:1،بحار الأنوار 146:41 .
4- في الطبعة الحجرية : ( محقن بن أبي محقن)، والمثبت عن المصدر.
5- شرح نهج البلاغة 1: 25 ، وج 6: 279 وج 11: 153،بحار الأنوار 146:41 .
[على(علیه السلام)أسد الصحابة رأياً]

وأما إنّه أسد(1)الصحابة رأياً فلاحتياج جميعهم إلى رأيه في معاظم الأمور،وبلوغهم المنى في أخذهم برأيه، كما أشار على عمر في وقايع كثيرة وصل فيها إلى مطلوبه إذ أخذ برأي علي(علیه السلام)(2)، وأشار على عثمان،ولو أطاعه لم يجر عليه بعض ما جرى(3)،ولم ينخدع قط ولم يتحير في أمر قط، ما عرض له أمر إلا عرف مورده و مصدره.

وقال لأصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف بصفين:«إنّما رفعوها خدعة فناجزوهم»،فكان الأمر كما قال، ولو أطاعوه لنجحوا.

ولما أراد أصحابه نصب أبي موسى موسى حكماً قال لهم: إني أخاف عمرواً أن يخدع يمنيكم هذا، ولكن ادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن عباس ولو أطاعوه لأفلحوا ، ولما تمكن عمرو مما أبرمه ، لكن عصوه فكان الأمر كما قال من خدع ابن العاص لأبي موسى(4)وغير ذلك مما يطول تعداده.

وإنما تفرّق الناس عنه إلى أعدائه لاقتصاره على حكم الشريعة وتقيّده بالسنتة ،وتركه العمل بالحيل الدنيوية، وتدبير أمر الدنيا وأخذه في جميع أموره بما يقتضيه الشرع المحمدي،ولذا قال(علیه السلام):«لولا[الدين](5)و التقى لكنت أدهى

ص: 402


1- في الطبعة الحجرية: (أشد).
2- تأويل مختلف الحديث:152،شرح نهج البلاغة 1 : 18 و 28 ، المناقب للخوارزمي: 81 نظم درر السمطين: 130 ينابيع المودة 216:1 وج 3: 147.
3- شرح نهج البلاغة28:1.
4- تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة 206:2 - 364 .
5- قوله:(الدين و)أضفناه من المصدر.

العرب»(1)،وغيره دبر دنياه وترك آخرته قصار ممدوحاً بالرأي عند الجهال، ورغب أهل الطمع إلى دنياه والناس عبيد الدنيا.

[عليّ(علیه السلام)أسوس الصحابة وأعدلهم في الرعية]

وأما إنّه أسوس الصحابة فذلك مما لا يحتاج إلى بيان فإنه ما حابي أحداً قط ولا أثر قريباً على بعيد في حكم،وشدته على العصاة معلومة من سيرته وحروبه كلينه لأهل الإيمان والطاعة.

وأما إنّه أعدل الصحابة في الرعيّة فلما علم من مساواته الناس في القسمة والعطاء،لم يؤثر أحداً من الناس على أحد، ولم يفضل قوياً على ضعيف،ولا شريفاً على دني،ولا ذا رحم على أجنبي.

طلب إليه الزبير وطلحة أن يزيدهما في القسمة فلم يفعل، وكانا يومئذ بمكان رفيع عند الناس(2).

وطلب إليه ابن أخيه عبد اللّه بن جعفر،وكان يجريه مجرى ولده أن يعطيه زيادة فلم،يفعل وقال له:«لا زيادة لك عندي على سهمك إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك»(3)،أو كلاماً هذا معناه.

وطلب منه أخوه عقيل مالاً زيادة على نصيبه من بيت المال وألح عليه في ذلك فوعده بالصبر إلى يوم الجمعة،فلما خطب الناس يوم الجمعة التفت إلى عقيل وقال:«ما تقول يا أبا يزيد فيمن خان هؤلاء جميعاً في أموالهم ؟»

ص: 403


1- شرح نهج البلاغة28:1،ينابيع المودة454:1،بحار الأنوار150:41و288:74.
2- شرح نهج البلاغة 1: 231 .
3- الغارات للثقفي67:1،شرح نهج البلاغة200:3،قريب من ذلك، بحار الأنوار 51:31 وج137:41.

فقال عقيل:بئس الرجل،فقال له :«فهذا أنت تأمرني بذلك،فأسكته عن مطالبته»(1).

وبعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث لي بعطائي ثم لو دخلت فم الأسد بعد ذلك لدخلت معك،فكتب(عليه السلام):أن هذا المال لمن جاهد عليه، ولكن لي مالاً بالمدينة فأصب منه ما شئت»(2).

وكان تسويته بين الناس أعظم الأسباب في تفرّق الناس عنه وتقاعدهم عن نصرته،بل في قتال من قاتله،بل هو السبب في ذلك كله لا سبب غيره فلم يبال(عليه السلام)بذلك، ولا رأى صلاح دنياه مقتضياً لمخالفة السنة في ترك المساواة بين الناس في القسمة.

ولمّا أُشير عليه بتفضيل بعض الناس على بعض في ذلك لإصلاح أمر دنياه وتقوية سلطانه أبى ذلك وقال:«إنه لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف وإنما هو مالهم»(3)،والأخبار في هذا الباب أجلّ من أن تجمع في هذا المحل، وغيره آثر بالفيء وفضّل في العطاء وأصلح بهما أمر دنياه.

[علىّ(عليه السلام)أحرص الصحابة على إقامة الحدود]

وأمّا إنّه أحرص الصحابة على إقامة حدود اللّه فظاهر،فإنه ما دافع عن أقيمت عليه شهادة في حدٍّ، ولا سلك مسلك التأويل والاستصلاح في إسقاط حد عن أحد؛صديق أو عدوّ،قريب أو بعيد،كما كان يفعل غيره،ولا أغضى عن حقّ

ص: 404


1- شرح نهج البلاغة92:4بالمضمون .
2- الغارات 577:2،شرح نهج البلاغة102:4،بحار الأنوار 153:28 وج58:97.
3- شرح نهج البلاغة 203:2وفيه:(لواسيت)وفي ج8: 10(لسويت)بدل:(الساويت)،الغارات75:1،بحار الأنوار133:41.

عند أحد كائناً من كان ولم يلتفت في إقامة حدود اللّه لغضب أحد من الناس ولا رضاه،وسيرته في ذلك مذكورة في كتب الحديث والسير والتواريخ،فهذه الخصائص والصفات المحمودة هو أبو عذرها(1)وابن يجدتها(2)والسابق في مضمارها.

قال ابن أبي الحديد بعد تعدادها:وهذه خصائص البشر قد أوضحنا أنّه فيها الإمام المتَّبع فعله والرئيس المقتفى أثره، انتهى(3).

ولمّا أتى عبد اللّه بن العباس عايشة بعد هزيمتها يوم الجمل رسولاً من علىّ(عليه السلام)إليها في أمر فجعلت تعتلّ عليه وطفقت تفضّل عمر بن الخطاب على علیّ(عليه السلام)،فقال لها ابن العباس في كلام يطري(4)فيه عليا(عليه السلام):إنّه واللّه أعلا مناراً وأحسن آثاراً من أبيك ومن عمر(5).

فظهر من ذلك كله أن أمير المؤمنين(عليه السلام)أفضل الصحابة،أكثرهم ثواباً وأجمعهم لخصال الخير،وما ذكرناه قد أقرّ به الخصوم،ومن كتبهم أقرّ به الخصوم، ومن كتبهم أخذنا ما ذكرنا.

[مولده(عليه السلام)في الكعبة ]

ومن جملة ما خصه اللّه به من المزيّة كون مولده(عليه السلام)في الكعبة الغراء على الرخامة الحمراء،فقد أجمع الشيعة على أن علياً(عليه السلام)ولد داخل الكعبة كما وصفنا

ص: 405


1- يقال:أبو عذرها وأبو عذرتها للرجل الذي يفتض البكر،وهذه كتابة من أنّه(عليه السلام)لم يسبقه أحد في الفضائل،أنظر الصحاح738:2.
2- يقال:هو ابن بجدتها للعالم بالشيء المتقن له المميز له، وكذلك يقال للدليل الهادي كما في لسان العرب 77:3 والقاموس المحيط275:1.
3- شرح نهج البلاغة 1: 38 .
4- أي يثني عليه ويمدحه كما في مختار الصحاح : 207 .
5- أنظر شرح نهج البلاغة 6: 299 شرح الأخبار 1: 309، بحار الأنوار270:32.

ونقلوه متواتراً عن أهل بيت النبوة الذين هم مع القرآن لا يفارقهم ولا يفارقونه.

ورواه من المخالفين أبو المعالي الفقيه المالكي في كتاب المناقب عن عليّ بن الحسين قال:كنّا عند الحسين(عليه السلام)في بعض الأيام وإذا بنسوة مجتمعات فأقبلت امرأة منهنّ علينا فقلنا:من أنتِ رحمك اللّه ؟

قالت:أنا زبدة ابنة العجلان من بني ساعدة.فقلت لها: هل عندك من شيء تحدثينا به؟

قالت:اي واللّه،حدّثتنا أم عمارة بنت عبادة ابن نضلة بن مالك بن العجلان الساعدي أنها كانت ذات يوم فى نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً، فقلت له:ما شأنك؟

قال:إنّ فاطمة بنت أسد في شدّة من الطلق،ثمّ إنه أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها وقال:اجلسي على اسم اللّه،فطلقت طلقة واحدة فولدت غلاماً نظيفاً منطقاً لم أر أحسن منه وجهاً،فسماه أبو طالب عليّاً وقال:

سميّته بعلي كي يدوم له***عزّ العلق وفخر العز أدومه

وجاء النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فحمله معه إلى منزل أُمّه .

قال علیّ بن الحسين:«فواللّه ما سمعت شيئاً حسناً إلا وهذا من أحسنه»(1).

فلا التفات حينئذ لتوقف ابن أبي الحديد في ذلك زاعماً أن المحدثين

ص: 406


1- قال الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 483:3،فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)في جوف الكعبة،وقد جمعت الروايات الواردة في هذا الشأن في كتاب إحقاق الحق 486:7وج 364:17، وانظر نظم درر السمطين : 80،والغدير 6: 32 .

لا يعترفون به ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد(1)إذ لا عبرة بزعمهم بعد ما سمعت فيه من الصحة،ولا ريب أن المحدثين زعموا هذه الفضيلة لحكيم بن حزام لينا قضوا ما ورد لأمير المؤمنين(عليه السلام)كما هي عادتهم،والحق لا يزيد إلا علوّاً وظهوراً،والصدق لا يزال يتوقد ضياءاً ونوراً.

وإذا ثبت أن علياً(عليه السلام)أفضل الصحابة كما دلت عليه الأدلّة ووافقنا عليه أكثر المعتزلة(2)وجب أن يكون هو المقدّم والإمام بعد الرسول(عليه السلام)،ولا يجوز أن يقدم عليه غيره،لأنا قد بيّنا امتناع تقديم المفضول على الأفضل لقبحه عقلاً والمنع منه شرعاً،وأقمنا عليه الأدلة الواضحة في موضعه،وقد تقدم،وبذلك يثبت المطلوب.

وزعم الأشاعرة أن الأفضل بمعنى الأكثر ثواباً بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أبو بكر ثمّ من بعده من الخلفاء مرتباً(3).

قال القرماني في تاريخ الدول:أجمع أهل السنة على أن الأفضل بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أبو بكر ثم عمر ثمّ عثمان ثمّ علي(عليه السلام)ثم باقي العشرة،إلى آخر ما قال(4).

وأهل السنة عندهم اسم لمن كانوا على مثل ما عليه أبو الحسن الأشعري من نفي الحسن و القبح العقليين، ونفي الاستطاعة عن المكلف وغير ذلك من شبهاته الواهية وهذا القول فاسد على تقدير أن للثلاثة فضلاً.

ص: 407


1- شرح نهج البلاغة 14:1.
2- انظر شرح نهج البلاغة 13: 275.
3- أنظر شرح المواقف8: 372.
4- وحكاه أيضاً ابن حجر في الإصابة 33:1.
[الدليل الأوّل للقوشجى على تفضيل أبي بكر وردّه]

وما احتج به القوشجي على ذلك بعد اعترافه بما ذكرناه من مناقب أمير المؤمنين على أفضليّة أبي بكر وعمر عليه(1) كله باطل مردود ومزوّر ومختلق،فمن احتجاجه على ذلك الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر ثم عمر(2).

وأقول:ما أدري ما عنى بالاتفاق؟إن كان اتفاق جماعة من أصحابه الأشاعرة،مفاد قول أبي العباس المتقدّم(3)فمسلّم ولا حجة فيه، وغايته كونه قولاً الجماعة من الأمة يطلب عليهم في ثبوته وصحته الدليل، فلا يكون هو نفسه دليلاً كما ادعى الرجل.

وإن على اتفاق الصحابة، فالمنقول عن أفاضلهم تفضيل على(علیه السلام)على جميع الناس بعد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)مثل العبّاس بن عبد المطلّب وجملة بنيه وبنى هاشم كافة وبني المطلب كافة وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب وجابر بن عبد اللّه وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وزيد بن أسلم وبريدة بن الحصيب وأبي الهيثم بن التيهان والبراء ابن عازب وقيس بن سعد بن عبادة وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي وزيد بن أرقم وسهل بن حنيف وأخيه عثمان بن حنيف. وعبادة بن الصامت وأبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني وعمرو بن الحمق الخزاعي في كثير من أمثالهم.

ص: 408


1- شرح التجريد للقوشجي،المقصد الخامس في الإمامة: ص 15 السطر 6.
2- في النسخة الحجرية زيادة: (زعم)والظاهر أنه لا معنى لها.
3- أي أحمد القرماني المتوفى سنة 1019 هجري.

ذكر ذلك جماعة من أهل العلم بأقوال الناس كأبي عمير يوسف بن عبدالبر المحدّث في كتاب الاستيعاب(1)،وأبي جعفر محمد بن عبد اللّه الإسكافي(2) وعبد الحميد بن أبي الحديد(3)وغيرهم، وكلّ منهم نقل ذلك عن جماعة من المذكورين،وكان الزبير أوّل الأمر قائلاً به ومبالغاً فيه حتى صرفه عنه ابنه عبد اللّه إلى عداوة أمير المؤمنين (علیه السلام)والخروج عليه(4).

وهؤلاء المذكورون هم خيار الصحابة ومن أجمعت الأمة على وثاقتهم وصدقهم واعتبار أقوالهم، وكلام جماعة منهم الصريح في التفضيل قد تقدّم.

ولم يبق من الصحابة ممّن صرّح بتفضيل أبي بكر إلا من علم فسقه،وثبت ضلاله بمحاربته علياً(علیه السلام)وبغضه ، وقد صح أن حربه حرب رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وبغضه بغضه(5)كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وعبد اللّه بن الزبير، وأبي هريرة، والوليد بن عقبة بن أبي معيط في أضرابهم، أو من اختلفت الأمة في وثاقته وقبول روايته فضلاً عن اعتبار قوله، ومن لم يكن من الفريقين من باقي الصحابة المسكوت عن حالهم لم يعرف لهم قول في المسألة، فأين إجماع الصحابة على ما يقول ؟ بل أين الشهرة في ذلك ؟

بل الحق أن المشهور بين الصحابة عكس ما قال، والتقدّم في الخلافة لا يوجب

ص: 409


1- الاستيعاب1089:3 ترجمة علي بن أبي طالب(علیه السلام)رقم 1855.
2- المعيار والموازنة:20.
3- شرح نهج البلاغة 20: 221.
4- شرح نهج البلاغة232:20.
5- شواهد التنزيل416:1،شرح نهج البلاغة24:18،المناقب للخوارزمى: 129، كشف الغمة291:1،ينابيع المودة 1: 172 و 253.

التفضيل عنده(1)وعند أصحابه، على فرض أن التقدّم وقع برضى جميع الصحابة،وقد بينا استحالته مراراً،فلا اتفاق من الصحابة على ما قال القوشجي ولا اشتهار له فيما بينهم.

وإن عنى اتفاق التابعين فحالهم في ذلك كحال الصحابة كثير منهم يفضّل عليّا على جميع الناس،منهم أويس القرني وزيد بن صوحان وصعصعة بن صوحات وجندب الخير وعبيدة السلماني،ومالك بن الحارث الأشتر،وكميل بن زياد،

وسعيد بن قيس الهمداني،وخلق كثير لا يحصون(2)،وقد قدمنا تصريح الحسن البصري به،وتصريح عمر بن عبدالعزيز به أيضاً(3)،والتابعين من بني هاشم كذلك(4).

على أنّ أكثر الناس من أهل العلم والورع لم يمنعهم من إظهار القول بتفضيل عليّ(علیه السلام)على جميع الصحابة إلا الخوف من معاوية وأتباعه ومن تولى بعده من بني أمية وأتباعهم، فإنهم كانوا يقتلون من ذكر عليّاً(علیه السلام)بخير أو روى عنه حديثاً فما ظنك بحال من يفضّله؟وقد مر في كلام الحسن البصري ما يدل عليه(5)ويأتي له زيادة استدلال.

وإن عنى فرق الإسلام،فالشيعة قاطبة يفضلون عليّاً(علیه السلام)على جمیع الناس،

ص: 410


1- أي عند القوشجي أو عند أبي العباس القرماني
2- شرح نهج البلاغة226:20.
3- أنظر شرح نهج البلاغة 20: 222.
4- أنظر شرح نهج البلاغة 96:4.
5- أنظر شرح نهج البلاغة96:4.

وأكثر المعتزلة يوافقون على ذلك(1)،فالبغداديون(2)كافة قائلون به كأبي سهل بشر ابن المعتمر،وأبي موسى عيسى بن صبيح،وأبي عبد اللّه جعفر بن مبشر وأبي جعفر الأسكافي،وأبي الحسين الخياط،وأبي القاسم البلخي وتلامذته.

ومن البصريين أبو علي الجبائي في آخر عمره،وكان قبل من المتوقفين بين علي وأبي بكر خاصة،نقل ذلك عنه أبو القاسم البلخي.

ومنهم أبو عبد اللّه الحسين بن علي البصري وقاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد،وقطع على ذلك بخبر المنزلة،ومنهم أبو محمد الحسن بن متويه،وسيأتي التصريح به عن أبي الهذيل العلاف.

ومال قوم منهم إلى التوقف في تفضيل علي(علیه السلام)على أبي بكر مع القطع علىتفضيله على عمر كواصل بن عطا وأبي هاشم وأبي الحسين البصري.

ومنهم من قال بتفضيل الثلاثة كعمرو بن عبيد،وإبراهيم بن سيّار النظام،وعمرو بن بحر الجاحظ،وثمامة بن أشرس وهشام القوطي وأبي يعقوب الشحام،وكلّ أهل قول يحذو حذوهم قوم منهم،وكتب المعتزلة في علم الكلام ناطقة بما قلناه(3)،ومن نقلهم نقلنا.

ومن المحدثين من نسب إليه قوم من العامة في كتبهم وتواريخهم القول بتفضيل علي صريحاً كالكيا الهراسي وأمثاله، وفي كلام قوم من أعيانهم ما يصرح بالتفضيل.

ص: 411


1- أنظر شرح نهج البلاغة 226:20.
2- في الحجرية : ( البغداديون)، والمثبت هو المناسب.
3- شرح نهج البلاغة 8:1-1.

قال أحمد بن حنبل ما جاء لأحدٍ من الفضائل ما جاء لعلى(علیه السلام)(1).

وقال:إنّ عليّاً لم تزنّهُ الخلافة ولكنّه زانها،نقل هذا الكلام ابن أبي الحديد عن ابن الجوزي فى المنتظم عن أحمد بن حنبل،وقال بعده ما حاصله:إنّ هذا الكلام يعطي أن جميع من ولي الخلافة غير علي(علیه السلام)ذو نقص ازداد بالخلافة وتم نقصه بها،وإنَّ الخلافة قبل ولاية على(علیه السلام)كانت ناقصة فأتمه بولايته إياها(2).

أقول: وهذا الكلام غاية التفضيل ونهاية التعظيم والتبجيل،ولعمري إن الأمر كما قال :

وقال إسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري:لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي(3).

فهذه شهادة مشايخهم،فأين الاتفاق الذي ادعاه القوشجي على تفضيل أبي بكر وعمر على عليّ(علیه السلام)؟ وأين الشهرة بين الأمة ؟ وهل زاد الأمر على كون المسألة من المسائل الخلافية بين الناس،والواجب فيها اتباع الدليل الصحيح

كغيرها من مسائل الخلاف.

ومن هنا تبين بطلان ما ينسبه قوم من الأشعرية المتعصبين من الابتداع إلى من ذهب من المحدثين والعلماء من متقدّمي أصحابهم إلى تفضيل علي(علیه السلام)فيقولون:كان فلان عالماً فاضلاً وكذا وكذا الصفات من الخير ثم يقولون:إلّا أنه مال إلى

ص: 412


1- حكاه عنه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين107:3،شرح نهج البلاغة52:1،ينابيع المودة 9:1وج 2: 385 ، الأربعون حديثاً لمنتجب الدين ابن بابويه: 88.
2- شرح نهج البلاغة 52:1.
3- حكاه عنهم ابن حجر في فتح الباري57:7،والمباركفوري في تحفة الأحوذي144:10،والمناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير468:4،والقندوزي في ينابيع المودة 385:2.

تفضيل علي(علیه السلام)أو قال به،فيخرجونه من السنة إلى البدعة بزعمهم لأنه قال بتفضيل علي(علیه السلام)،وذلك عندهم بدعة كما وجدناه في تصانيف قوم منهم وتواريخهم(1).

وكل هذا لتركهم النظر في الأقوال والأدلة وتقليدهم من تقدم من مشايخهم وأساتيذهم على جهالة لا يعلمون وراء ما سمعوه منهم مذهباً،ولا يفهمون غير توجيههم في الأدلة توجيهاً،وذلك لا يعنى من الحق شيئاً.

ص: 413


1- مثل قولهم في عبد الرزاق الصنعاني صاحب كتاب المصنف،حيث قال أحمد العجلي عبدالرزاق ثقة كان يتشيع، أنظر مقدمة المصنف 5:1.
[الدليل الثاني للقوشجي على تفضيل أبي بكر ورده]

واحتج القوشجي ثانياً بقوله تعالى:(وَسَيُجنَّبهَا الأَتْقَى*الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)(1)مدعياً أن الآية نزلت في أبي بكر عند الجمهور،والأتقى هو الأفضل لقوله تعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(2).(3)

وهذا الاحتجاج واءٍ لأن الآية-مع احتمال كون الأتقى والأشقى فيها بمعنى التقي والشقي كقوله تعالى:(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(4)أي عليم وقوله تعالى:﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(5)يعنى هين،وقول طرفة:

تمنت رجال أن أموت وإن أمتْ***فتلك سبيل لست فيها بأوحد(6)

كما قاله بعض المفسرين(7)ويشهد لذلك الاعتبار فإن صاحب النخلة المعنى بالأشقى من المسلمين ومن الصحابة المحكوم عليهم عند القوشجي وأصحابه بالجنّة،فلا يجوز أن يجعل أشقى من أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما من المشركين،فلا دليل فيها على التفضيل-نازلة(8)عند أكثر المفسرين في أبي الدحداح(9)وهو

ص: 414


1- الليل:17و18.
2- الحجرات: 13.
3- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة:ص 15س9.
4- الأنعام : 124.
5- الروم: 27.
6- جامع البيان 176:16 ، زاد المسير264:8.
7- تفسير مجاهد500:2،جامع البیان 43:21،معاني القرآن227:4،زاد المسير 6: 148، تفسیر القرطبي88:20،مجمع البیان 10: 378.
8- قوله:(نازلة)خبر لقوله:(لأن الآية).
9- كما في زاد المسير 264:8القول الثاني، تفسير القرطبي 90:20،الدر المنثور 357:6.

المروي عن ابن عباس، رواه الواحدي؛وسببه قصة النخلة المشهورة(1).

وقال غيره:نزلت في مصعب بن عمير ذكر ذلك أبو جعفر الإسكافي(2)،ولم يقل إنّها نزلت في أبي بكر إلا عروة بن الزبير لأنه اشترى ست رقاب فأعتقها،بلال وعامر بن فهيرة وأربعة أخر(3).وحال ابن الزبير في الكذب معلوم(4)،وميله إلى جدّه معروف،وليس هذا منه بأعجب من روايته عن خالته عايشة عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):إنّ عليّاً والعباس بن عبد المطلب من أهل النار(5)،وكان سباباً لعلي(علیه السلام)وكثير البغض له،ومن أفسق ممن يسب رجلاً من سبّه فقد سب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كما دلّت عليه الأخبار الصحاح عند القوم.

منها:ما رواه الإسكافي عن عثمان بن أبي شيبة،عن عبد اللّه بن موسى،عن فطر(6)بن خليفة،عن أبي عبد اللّه الجدلي قال: دخلت على أُم سلمة رضي اللّه

ص: 415


1- أسباب النزول للواحدى: 299 شأن نزول سورة الليل.
2- حكاه عنه في شرح نهج البلاغة273:13.
3- مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا :125.
4- إن عروة بن الزبير أحد الحاقدين على عليّ بن أبي طالب(علیهم السلام)الذين كانوا يروون الأكاذيب في حقه، فمما روى عنه الزهري انه سمع عايشة تقول:كنت عند رسول اللّه إذ أقبل علي والعباس.فقال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):يا عايشة إنّ هذين يموتان على غير ديني.وروى عنها أنها قالت:كنت عند النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إذ أقبل العباس وعليّ،فقال:يا عايشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا،فنظرت فإذا العباس وعلى بن أبي طالب(شرح نهج البلاغة64:4)وروى جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال:شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً(علیه السلام)فتالا منه،وروى عاصم بن أبي عمر البجلي عن يحيى بن عروة قال:كان أبي إذا ذكر عليا نال منه.شرح نهج البلاغة 102:4.
5- شرح نهج البلاغة 4: 63 و 63.
6- في الحجرية:(قطر)،والمثبت موافق لشرح نهج البلاغة222:13.

عنها فقالت لي:أيُسبّ رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيكم،وأنتم أحياء؟قلت:وأنى يكون هذا؟قالت:أليس يُسبّ علي(علیه السلام)ومن يحبه؟(1)

و ما رواه الحافظ أبو عبد اللّه محمّد بن يوسف البلخي الشافعي في كفاية الطالب عن ابن عباس أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال لعليّ:«من سبك فقد سبني،ومن سبني فقد سبّ اللّه،ومن سب اللّه فقد كبّه اللّه على منخريه في النار»(2).

وما قدمناه من الأخبار عن أحمد بن حنبل وغيره من قول النبی(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على(علیه السلام):لا يحبّه «لّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق»(3).

وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«عدوك عدوي وعدوّي عدوّ اللّه»(4).فمن كان هذه حاله كيف تقبل روايته فيمن يميل إليه بدون معارض،فكيف إذا عارضها رواية الثقات،على أنّ شراء أبي بكر بلالاً وعامراً الذي هو سبب نزول الآية كما زعم فاسد لأن محمد بن إسحاق والواقدي ذكرا أنّ رسول اللّه هو الذي أعتقهما(5).وبالجملة فالاحتجاج بالآية(6)ساقط، ودعوى قول الجمهور إنها نازلة فى أبى بكر كما ترى زور وبهتان كدعواه الاتفاق المتقدم.

ص: 416


1- المستدرك على الصحيحين121:3،شرح نهج البلاغة222:13،مجمع الزوائد 9: 130 وقال:في ذيله:رواه الطبراني في الثلاثة وأبو يعلى،ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد اللّه وهو ثقة،وروى الطبراني بعده بإسناد رجاله ثقات إلى أم سلمة عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال مثله .
2- مسند أحمد323:6،المستدرك على الصحيحين121:3 وقال في ذيله:هذا حديث صحي الإستاد ولم يخرجاه، مجمع الزوائد30:9وقال في ذيله:رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غیرأبي عبد اللّه الجدلي وهو ثقة.
3- فضائل الصحابة 2 : 696 ح 948 وص 704 ح 961.
4- شرح نهج البلاغة 107:4.
5- حكاه عنهما في شرح نهج البلاغة273:13.
6- أي آية :(وَسَيجَنبها ألأنفی).
[الدليل الثالث للقوشجي على أفضلية أبي بكر ]

واحتج أيضاً : بروايات مفتعله:

[ الرواية الأولى وردّها ]

فمنها:اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر وعمر(1)،دخل في الخطاب عليّ فيكون مأموراً بالاقتداء بهما.

أقول:قد ذكر بعض أهل العلم والخبرة بالحديث أن هذه الرواية جميع من رواها رواها«الذين»بصيغة الجمع وأبا بكر وعمر بنصب«أبا»(2).

والجواب عنها وعن غيرها على جهة العموم من ثلاثة وجوه:

الأول:أنها مما اختص بروايتها الخصوم،وليسوا عندنا من أهل الصدق،فلا يلزمنا قبول رواياتهم،ولا تقوم لهم بها علينا حجّة،مع أنهم متهمون في ذلك.

الثاني:أنه قد طعن في مثل هذه الروايات قوم منهم كالفخر الرازي(3)وحكم بأنها من الموضوعات،إذ لم يجر لشيء منها ذكر بين الصحابة والتابعين في مقام الحجة والمناظرة.

وطعن فيها سيّدنا المرتضى ذو المجدين علم الهدى بذلك(4)وغيره،وهو كما قال،فإن هذه الروايات إنّما وضعت وافتعلت في أيَّام تغلب بني أُمية،روى ذلك

ص: 417


1- شرح التجريد للقوشجي،المقصد الخامس في الإمامة: ص 15 السطر 11.
2- انظر عيون أخبار الرضا(علیه السلام)201:1.
3- المحصول للرازي 157:4.
4- الشافي في الإمامة 2: 110 و 306 و 308 و 311 وج 3: 93 و 110 و 122 و 174 و 258 و 263.

أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث(1)،وابن عرفة نفطويه(2)،وهما من أكابر المحدثين.

[کتاب معاوية إلى عماله]

قال المدائني في كلام طويل:وكتب معاوية إلى عماله في جميع جميع الآفاق أن(3)لا يجيزوا الأحد من شيعة على وأهل بيته شهادة،وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته،والذين يروون فضائله ومناقبه، فادنوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بما يرويه كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصَّلات والكساء والحباء والقطايع ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر .

إلى أن قال:ثمّ كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كل وجه وناحية،فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل

ص: 418


1- هو العلامة الحافظ الصادق أبو الحسن علي بن محمد المدائني،المولود سنة 132 هجرية. وكان عجباً في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب مصدقاً فيما ينقله عالى الأسناد نزل بغداد وصنف كتباً كثيرة.قال يحيى بن معين في حقه:ثقة ثقة ثقة(سير أعلام النبلاء 113/402:10.)
2- هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي الملقب نفطويه النحوي،المولود سنة 240 هجرية والمتوفى سنة 323 هجرية ،سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن وهب العلاف وغيره وروى عنه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي وأبو طاهر بن هاشم وغيرهما. قال الخطيب البغدادي: وكان صدوقاً وله مصنفات كثيرة (تاریخ بغداد 6: 3205/157) .
3- كلمة: (أن) أضفناها من المصدر.

الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحب إلي وأقر لعيني،وأدحض لحجّة أبى تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقُرئت كتبه على الناس،فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها،وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى،حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر،وألقي إلى معلمي الكتاب،فعلموا صبيانهم وعلمائهم من ذلك الكثير الواسع،حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن،وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم،فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

[كتاب آخر لمعاوية إلى عمّاله]

ثمّ كتب بعد ذلك إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفّع ذلك بنسخة أخرى:من أتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره .

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولاسيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي(علیه السلام)ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقى إليه سره،ويخاف من خادمه ومملوكه،ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة،ليكتمن عليه،فظهر

حديث كثير موضوع وبهتان منتشر،ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة،وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون والمستضعفون،الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم،ويقربوا

ص: 419

مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل،حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان،فقبلوها ورووها،وهم يظنّون أنها حق ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها،فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن عليّ(علیهما السلام)فازداد البلاء والفتنة(1)،إلى آخر ما قال من بيان ما فعله معاوية من قتل محبّى أمير المؤمنين(علیه السلام)،وما فعله من بعده في(2)عشيرته من إظهار الفساد بقتل المؤمنين الصادقين،وإكرام الكذابين الوضاعين مما يطول نقله.

ومثله قال نفطويه(3)،وبهذا المضمون قال أبو جعفر الإسكافي،ويصدق ذلك ما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين من تقسيم المحدثين عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى أربعة أحدهما منافق يكذب على رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،لا يتحرج(4)ولا يتألم من الكذب عليه(5)،وما سيأتي بعد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(علیه السلام)من ذكره مضمون ما قاله المدايني ونفطويه بالصريح.

فهذه الأخبار التي احتج بها القوشجي وغيره على أفضلية الرجلين على أمیر المومنین هی تلك الأخبار المزوّرة المختلقة، طاعة لمعاوية وطلباً للدنيا. وإيثاراً للعاجلة ما زالت تتداول عند قضاة السوء والفقهاء المنافقين، والقراء

ص: 420


1- شرح نهج البلاغة 44:11-46.
2- فى الحجرية:(من)،والمثبت موافق للسياق.
3- حكاه عنه في شرح نهج البلاغة 46:11.
4- في الحجرية: (لا ينجرح)، والمثبت هو الصحيح.
5- المعيار والموازنة:302،نهج البلاغة189:2،الخطبة:21،شرح نهج البلاغة38:11،الكافي 63:1ح1 باب اختلاف الحديث.

المرائين حتى تلقفها حشوية العامة،كالبخاري ومسلم وابن مردويه وأضرابهم،وزيروها في كتب مع أمثالها إلا ماقل من الأحاديث وسموا تلك الكتب الباطلة الصحاح.

وأقوى دليل على اختلاقها أن جلّها ينتهي إسناده إلى من تظاهر بعداوة أهل البيت،كأبي هريرة وعمرو بن العاص،وعروة بن الزبير وأشباههم، وأن كل حديث منها مناقض لحديث أو أحاديث من المروي في فضل عليّ(علیه السلام)وولده،وذلك لموافقة غرض معاوية الذي مرّ في كلام المدايني.

فما كان هذه حاله من الأحاديث كيف يكون حجّة ودليلاً؟!هيهات هيهات ذلك عن التحقيق،وناءٍ عن طريق أهل النظر الدقيق.

الثالث:أنّ هذه الأخبار على قلتها وشذوذها،قد عارضتها الأدلة الواردة في تفضيل عليّ(علیه السلام)من الكتاب والسنة الكثيرة التي أجمع الخاصّة والعامّة على نقلها وصحتها،ومن جملتها ما تلوناه عليك مما تضمن مماثلة علي(علیه السلام) الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ومماثلته للأنباء.

وما دلّ على أنه إمام المتقين وأنّه سيّد المسلمين،وولي كلّ مؤمن بعد رسول اللّه ومولى من كان رسول اللّه مولاه، وأنّه كلمة اللّه التي ألزمها المتقين،وأن بيده مفاتيح خزائن اللّه،وأنه حامل لواء الحمد يوم القيامة،وأنه خير الخلق والخليقة،وغير ذلك ممّا عددناه نوعاً نوعاً،وصنفاً صنفاً،وما سنتلوه عليك في هذا المقام وفيما بعد إنّ شاء اللّه تعالى.

وعارضتها أيضاً أدلة العقل والاعتبار،ولا شك أنه عند التعارض يجب الأخذ بالمتفق عليه،والمعاضد بالدلالة الخارجيّة، وترك المختلف فيه والمعاند للدلالة

ص: 421

الخارجية،فما ظنك بالمطعون في سنده ومتنه،مع مخالفته لكتاب اللّه عزّ وجلّ،وقد صح عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«أنه إذا أتاكم الخبر عنّي فأعرضوه على كتاب اللّه،فما وافق كتاب اللّه فاعملوا به،وما خالف فاضربوا به عرض الحائط»(1)،بعد إخباره(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في أوّل الكلام بكثرة الكذابة عليه .

فإذا جاء في الكتاب العزيز أن علياً(علیه السلام)نفس رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كما في آية المباهلة، وجاء أنه ولى الأمة مثل ولاية اللّه إيّاهم ورسوله،كما في آية الولاية،ولا شكّ أنّ نفس الرسول خير الأنفس،وأن ولي المؤمنين خيرهم ،ثم أتى عن النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن أبا بكر خير من على(علیه السلام)فقد حصلت المخالفة الصريحة و المعارضة الظاهرة بين هذا الخبر وبين كتاب اللّه،فوجب بمقتضى أمر الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ردّ ذلك الخبر، وضرب الحائط به.

وأخبارهم كلّها بهذه المثابة،فلذلك يجب ردّها وإسقاطها،ويلزم تكذيبها وإبطالها،ولا يجوز التدين بها ولا التعويل عليها.

وأما الجواب الخاص عن الخبر المذكور فبأنّه معارض لحديث التمسك بالثقلين:كتاب اللّه،والعترة وحديث الاقتداء بالأئمة من أهل البيت،وأحاديث«أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى،ومن تخلف عنها غرق»(2)،وما جرى هذا المجرى مما رسمناه فيكون مفتعلاً لمناقضتها،كما مر بيانه فهو باطل.

ولو صحّ لوجب تأويله إلى ما يوافق تلك الأدلة الصحيحة بجعل التقدير:

ص: 422


1- عدة الأصول138:2،وانظر الرسالة للشافعي:224 أحكام القرآن629:1 وج 38:3،تفسیر القرطبي:38،وانظر وسائل الشيعة (آل البيت علیهم السلام)111:27ح 15.
2- تاریخ بغداد 90:12،شواهد التنزيل158:2،الدر المنثور71:1،فتح القدير 1: 90 ينابيع المودة 80:3.

اقتدوا بالذين من بعدي من الأئمة يا أبا بكر وعمر،فأبو بكر وعمر مأموران بالاقتداء،وليس تقدير الفعل الناصب ل_«أبا بكر» بأولى من تقدير حرف النداء،بل هذا أولى للتوفيق بين الدليلين.

وقد جاء حذف حرف النداء من المنادى المعلوم كثيراً نحو قوله تعالی:(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا)(1)وقول الشاعر:

أبا حكم هل أنت عم مجالد***وسيد أهل الأبطح المتناحر(2)(3)

وقول الآخر:

حمامة بطن الواديين ترنمي***سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها(4)

وقول الآخر:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم***بني ضوطرى(5)لولا الكمي المقنعا(6)

ص: 423


1- یوسف: 29.
2- المتناحر أي المتقابل، تقول العرب:منازلنا نتناحر هذا ينحر هذا أي مستقبلة كما في التبيان 418:10.
3- غريب الحديث2: 445لسان العرب5: 197،فتح القدير502:5، مجمع البيان 10: 460، فقه القرآن للراوندي 107:1.
4- هذا البيت منسوب إلى توبة بن الحمير كما في أمالي السيد المرتضى 146:3 تاريخ دمشق66:70.
5- في الحجرية:(طوطرى)،والمثبت موافق للتبيان.
6- التبيان 319:1والقائل هو جرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق،والنيب:الناقة المسنة،وضوطرى:الرجل الضخم اللثيم الذي لا غناء به،وهي أيضاً المرأة الحمقاء،ومعنى البيت:أنكم تعدون غاية مجدكم وعزكم وفخركم عقر الناقة المسنة،فهلا تعدون من مجدكم قتل الكمي أي الشجاع المكمي في سلاحه والمستتر فيه،والمفتع الذي على رأسه البيضة والمغفر،والشاهد:هنا قوله:(بني)فإنّه منادى بحذف حرف النداء يا،وانظر مغني اللبيب274:1،شرح ابن عقيل396:2.

وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى الإكثار من شواهده فيكون الخبر حجّة لنا لا علينا.

[الرواية الثانية وردّها]

ومنها(1)في أبي بكر وعمر هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين(2).

والجواب عنه بالخصوص أنه معارض بقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الحسن والحسين:«هما سيدا شباب أهل الجنة»(3)ويقوله:«سادات أهل الدنيا هم سادات أهل الآخرة:أنا وعلى والحسن والحسين وحمزة وجعفر»(4)،وقوله العلي(علیه السلام):«أنت سيّد في الدنيا والآخرة»(5)،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيه:«هو سيّد المؤمنين»(6)و«سيّد

ص: 424


1- عطف على قوله:(فمنها:اقتدوا بالذين من بعدي ...).
2- مسند أحمد1: 80سنن ابن ماجة 1: 36ح95،ص 38 ح 100،سنن الترمذي5: 272ح3745و3746،مجمع الزوائد53:9،وأورده ابن الجوزي في الموضوعات398:1،وقال في ذيله:هذا الحديث موضوع،وانظر أسد الغابة215:3.
3- مسند أحمد 3: 3 و62 و82 وج 5: 391،سنن الترمذي 5: 321 ح 3856،سنن ابن ماجة 44:1 ،حلية الأولياء139:4.
4- سنن ابن ماجة 1368:2ح4087،المستدرك على الصحيحين 3: 211 وقال:هذا الحديث صحیح علی شرط مسلم،شرح نهج البلاغة 7: 64.
5- المستدرك على الصحيحين128:3 وقال:صحيح على شرط الشيخين تاريخ بغداد261:4،تاریخ مدينة دمشق292:42،شرح نهج البلاغة171:9،سير أعلام النبلاء575:9.
6- المعجم الصغير88:2،شرح نهج البلاغة200:12،نظم دور السمطين: 114، مجمع الزوائد 121:9.

المسلمين»(1)فيكون مختلقاً لمناقضة هذه الأخبار وشبهها فهو باطل، هذا سنده.

وفي متنه بمخالفته للكتاب في قوله تعالى:﴿إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءُ*فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكاراً*عُرُباً أَتْرَاباً)(2)وقد صح عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«أن الجنة لا يدخلها شيخ ولا عجوز ولا كهل،وأن أهلها جرد مرد على صفة الشباب»(3).

[الرواية الثالثة وردّها]

ومنها:خير أُمتي أبو بكر ثمّ عمر(4).

والجواب عنه أنه معارض لقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في علىّ(علیه السلام):«والخوارج يقتلهم خير الخلق والخليقة»(5)،وقوله:«خير الناس حمزة وجعفر وعليّ»(6)وما شابه ذلك ممّا شاع وذاع بين الفريقين،فهو مصنوع للمناقضة،فيكون باطلاً.

[الرواية الرابعة وردّها]

ومنها:ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدّم عليه غيره(7)،وهذا أكذب أخبارهم في هذا الباب،وكيف لا يكون كذلك،وقد عارضه ما تواتر من فعل

ص: 425


1- المستدرك على الصحيحين137:3،شرح نهج البلاغة169:9،ينابيع المودة488:2.
2- الواقعة: 35 - 37.
3- الشمائل المحمدية للترمذي:199،شرح نهج البلاغة330:6،تفسير ابن كثير312:4،ذكر أخبار إصبهان142:2،وفيها:(إن الجنّة لا تدخلها العجز).
4- مسند أحمد 1: 127 وج26:2،مجمع الزوائد9: 120،فتح الباري 7: 13.
5- شرح نهج البلاغة 2: 267 فتح الباري253:12،بحار الأنوار332:33.
6- شرح نهج البلاغة72:15،مقاتل الطالبيين:9،بحار الأنوار 63:21 .
7- شرح المواقف 366:8.

النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فإنّه أمر على أبي بكر أبا عبيدة بن الجراح مرة(1)،ومرة عمرو بن العاص(2)،وأُخرى خالد بن الوليد،ومرة أسامة بن زيد(3)،وأمر عليه عليّاً مراراً.

وما نرى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)امتنع من تقديم غير أبي بكر من الصحابة عليه.

فكيف يعقل أن النبي يقول قولاً معناه النهي عن تقدم أحد من الصحابة على أبي بكر،ثمّ يقدّم عليه جماعة منهم مرّة بعد أخرى فينقض قوله بفعله،وهو الذي لا ينطق عن الهوى،اللهم إلّا في مقام النسخ،وإذا كان هذا القول منسوخاً،فلاحجّة فيه وآخر عمر النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وأبو بكر تحت راية أسامة.

والحاصل أن الخبر إذا كان مناقضاً لما علم من فعل النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كان باطلاً بالضرورة،والحديث المذكور هذا شأنه،مع معارضته لقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)للأنصار:«هذا عليّ فأحبوه بحتي وأكرموه بكرامتي» (4)،وقوله:«أوصيكم بحب ذي قرباها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب»(5)وحديث المنزلة(6)وغير ذلك من الأحاديث الصريحة في لزوم تقديم علي(علیه السلام)،فهو مصنوع لمعارضتها.

ص: 426


1- تاريخ مدينة دمشق22:2و 24، أسد الغابة85:3.
2- المعيار والموازنة:43،وانظر المصنف لعبد الرزاق5: 453 تاريخ مدينة دمشق 22:2.
3- تاريخ مدينة دمشق 139:10، الملل والنحل للشهرستانی 29:1.
4- المعجم الكبير88:3،شرح نهج البلاغة170:9،مجمع الزوائد132:9،کنز العمال 143:13،ينابيع المودة 161:2و 281.
5- شرح نهج البلاغة172:9،جواهر المطالب250:1،ونقله الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3: 123 وفيه:(وإنك لدو قرنيها)،وفي كنز العمال 14: 81(ذي أقربها).
6- شواهد التنزيل 195:1،وفيه:وهذا حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول:خرجته بخمسة آلاف أستاد، وانظر صحيح مسلم120:7،سنن الترمذي301:5،فتح الباري 60:7.

على أنّ المروي في بعض تواريخ القوم أن هذا القول من كلام عمر نفسه ولم ينسبه إلى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وذلك في كلام طويل خطب به يذكر فيه حديث السقيفة أورده الطبري في تاريخه(1).

وكذلك هو الحاصل من كلام عمر يوم السقيفة حيث قال:كيف أتقدم قدمين قدمها رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) للصلاة(2)،فأخذه القوشجي(3)وأمثاله وصيّروه حديثاً ينسبونه إلى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)جهلاً أو تعمداً، ليقووا به شبهتهم، وأنى والأمر أظهر من أن يخفي .

هذا كله إنه لو صح لم يقتض التفضيل،لأن مذهب القوم جواز تقديم المفضول(4)ولو اقتضى لكان دليلهم مخالفاً لمذهبهم، فيكون عليهم لا لهم.

[الرواية الخامسة وردها ]

ومنها:لو كنت متخذاً خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً،لكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار، وخليفتي في أُمتى(5)،وهذا قريب من الأول.

والجواب عنه:إنّه لو صح امتناع اتخاذ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أبا بكر خليلاً لم يمتنع اتخاذه إيَّاه أخاً،وما نراه اتخذه أخاً يوم المؤاخاة، بل جعله أخاً لعمر، واتخذ هو(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً

ص: 427


1- تاريخ الطبري443:2.
2- تاريخ الطبري 443:2.
3- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 16.
4- المعيار والموازنة:43،شرح نهج البلاغة3:1،شرح المواقف373:8.
5- شرح التجريد للقوشجي،المقصد الخامس في الإمامة:ص15السطر14،مسند أحمد437:1،صحيح البخاري191:4،صحيح مسلم109:7،سنن البيهقي246:6،وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة49:11،أن هذا الحديث وضعته البكرية في مقابلة حديث الإخاء.

أخاً، فلو صلح أبو بكر لخلة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الصلح لأخوته،لكنه لم يصلح وإلا لآخاء أو آخى بينه وبين على(علیه السلام).

الله هذا على تقدير كون الخلة أعلى شأناً وأقرب مماثلة بين الاثنين من الأخوة،كما هو مرام المستدلّ،والأمر بعكس ما رام،فإن الأخوة أدخل في المشابهة،وأقرب إلى المماثلة من الخلّة ولذا جاز أن يكون للّه خليل،ولم يجز أن يكون للّه أخ ، لأنّ الأخ هو العدل المماثل، وليس اللّه مثيل.

والخليل هو المخلص في المودّة،والإخلاص في محبة اللّه مطلوب،فإذا امتنع أن يكون أبو بكر مخلصاً في محبة النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فلا فضيلة له البتة، وإذا كان علیّ(علیه السلام)هو الصالح المماثلة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كان هو الأفضل لا محالة.

ثمّ أي مانع من اتخاذ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أبا بكر خليلاً من جهة الشرع،والخليل على ما سمعت من معناه، فالكلام جزماً لو صح لكان قدحاً في أبي بكر،ولم يكن مدحاً،لتضمّنه لعدم صلاحية أبي بكر لمودة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،والأمر في ذلك واضح.

وقوله:«شريكي في ديني»،فاسد لأنه لو صح أن أبا بكر شريك النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فی دينه بالمعنى الخاصّ يعنى فى قوّة الإيمان واليقين كما كان لعلىّ(علیه السلام)لكان له أخاً،وكان أعلى مرتبة من الخليل ولزم تناقض الكلام، ويكون معناه أن أبا بكر لا يصلح لي أن اتخذه خليلاً،لكنه أرفع من ذلك منزلةً وأجلّ منه قدراً.

فالمراد من الاستدراك إثبات منزلة لأبي بكر أدنى من الخلة،والكلام يعطي إثبات منزلة له أرفع منها،وكلام النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مصون عن التناقض .

وإن كان المراد من شركة أبي بكر للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في دينه المعنى العام،يعني الإقرار بالعقايد وأداء الفرائض،فالمسلمون كلّهم على هذا المنوال،فلا أفضلية لأبي بكر

ص: 428

على أحد منهم ذلك،فلا معنى لمدحه وتفضيله على غيره بما يشاركه ذلك الغير فيه.

وأمّا حديث الغار فنحن في غناء عن ذكره،إذ لا دلالة فيه على الفضل بوجه من الوجوه،بل دلالته على الذم والتهجين واضحة من قوله:(لاتحزن)(1)،وقوله«وأنزل السكينة عليه»ولم يقل عليهما،والذي أنزلت عليه السكينة هو المؤيد بالجنود،وهو النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بلا ريب،فالشيخ لا سكينة له يقيناً.

فعلم أنه ليس من المؤمنين،لأنه لو كان منهم لشركه اللّه في السكينة مع النبی(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كما شرك المؤمنين في حنين معه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيها،فقال:«ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(2)وكانوا تسعة من بني هاشم يقدمهم علي بن أبي طالب(علیه السلام)وعاشرهم أيمن بن أم أيمن بإجماع المفسرين وأهل المغازي وأهل التواريخ والسير(3).

ومن وجوه أخر لا حاجة إلى ذكرها وتطويل المقال بها.

وأما قوله : وخليفتي في أُمتي،فباطل بالإجماع لأن الأمة أجمعت على أن خلافة أبي بكر ليست من جهة النصّ(4)،ولو صحّ هذا القول عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لكان تصاً صريحاً،ولكان احتجاج أبي بكر وعمر به على الأنصار أولى من احتجاجهم

ص: 429


1- التوبة: 40.
2- التوبة 26 .
3- الإرشاد للشيخ المفيد141:1،تفسير مجمع البيان34:5،وانظر تفسير جوامع الجامع56:2،إعلام الورى386:1،كشف الغمة 1: 221،كشف اليقين:143،وانظر جامع البيان 131:10 ذیل الآية 26 من التوبة .
4- أنظر تاريخ الطبري449:2.

بما ذكروه من القرابة والصلاة(1)لأنه نص قاطع للعذر، ولكان احتجاجهما به على عليّ(علیه السلام)وأصحابه، إذا امتنعوا من بيعة أبي بكر أولى لهما من تهددهم بحرق البيت عليهم(2)لصراحته في الحجة.

لكنّه في ذلك الزمان غير موجود،وأنما صُنع بعد ذلك الوقت،لمعارضة مؤاخاة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ(علیه السلام)ولحديث«من منكم يبايعني فيكون أخي ووزيري ووارثي وخليفتي على أُمتي»(3)فبايعه علي(علیه السلام)،وغيرهما من الأحاديث من أشباههما فهو باطل.

[الرواية السادسة وردّها ]

ومنها:وأين مثل أبي بكر؟ كذبني الناس وهو صدقني،وآمن بي وزوجتي ابنته،وجهزني بماله وواساني بنفسه،وجاهد معى ساعة الخوف(4).

وهذا الحديث طريف من أطرف الأكاذيب،ينبغي الجواب عنه مقولة مقولة،ومنقلة بعد منقلة،فنقول:أما تصديق أبي بكر للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فقد بيّنّا أنّه أسلم(5)بعد جماعة من الناس،فلم يكن صدّقه في حال تكذيب جميع الناس له،لتكون

ص: 430


1- أنظر شرح نهج البلاغة12: 88 وج 9: 197، السقيفة وفدك للجوهري: 65 .
2- المعيار والموازنة :232.
3- شرح نهج البلاغة244:13،العمدة لابن البطريق : 77 .
4- شرح التجريد للقوشجي،المقصد الخامس في الإمامة:ص 15 السطر 15،وأخرجه ابن حبان من طريق إسحاق بن بشر بن مقاتل الكاهلي،وقال عنه السيوطي في اللآلئ المصنوعة 153:1 كذاب وضاع بالاتفاق،ومثله في تاريخ بغداد3371/327:6،والذهبي في ميزان الاعتدال740/186:1،لسان الميزان358:1،الموضوعات 1: 317 .
5- كلمة:(أسلم)أضفناها لاستقامة المعنى.

القضيّة كلّيّة،وإذا لم يكن كذلك سقط التمدح بسبق التصديق،فلم يبق للكلام موقع في المدح لكذب الكلية التي بني المدح على صدقها،وإن كانت مهملة وحملت على الأكثرية أي:كذَّبني أكثر الناس فجميع من صدق النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) في مكة،بل وفي المدينة في أول الهجرة صدقه و(1)كذبه أكثر الناس،فلا اختصاص لأبي بكر بذلك،فلا مدح له فيه يوجب فضلاً على سائر الصحابة.

وأما تزويج أبي بكر النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ابنته فما أدري لأيهما الفضل على الآخر: اللنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حين قبلها أم لأبي بكر حين زوجه إيَّاها؟وبعد فأي رجل من الناس يخطب إليه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ابنته فلا يزوجه إياها، حتى يكون تزويج أبي بكر ابنته إياه منة عليه يستحق بها ثناءاً من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وثواباً كثيراً من اللّه كما هو مدعى المستدل ؟ فلو خطب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى الأكاسرة والقياصرة والتبابعة(2)لعدّوا خطبته إليهم بناتهم من أجل النعم الواصلة إليهم، فكيف بأبي فصيل (3).

وأما تجهيزه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بماله فمتى كان ذلك:أفي مكة أم في المدينة؟فإن كان مكة فكلّ عالم يعلم أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كان إذ ذاك غنياً بمال خديجة رضي اللّه عنها،وكان ينفق منه على من شاء في أوّل النبوة،ولم يجهز جيشاً ولا قاتل عدوّاً مدة بقائه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في مكة،حتى يحتاج في ذلك إلى معونة أبي بكر.

ثم إنا نعلم أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أحوج ما يكون للتجهيز حين أراد الهجرة من الغار إلى

ص: 431


1- فى الحجرية:(أو)،والمثبت هو المناسب.
2- التبابعة:جمع تبع كسكر وهم ملوك حمير،قيل:سموا تبابعة لأن الأخير يتبع الأول في الملك.وهم سبعون تبعاً ملكوا جميع الأرض كما في مجمع البحرين 1: 280.
3- قال في مجمع البحرين3: 173 :عبد العزى اسم لأبي بكر وكنيته أبو فصيل،فسماه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عبد الله وكناه أبو بكر .

المدينة،وقد روى جميع المحدثين أن أبا بكر باع من النبي بعيرين،وأخذ منه ثمنهما في تلك الحال(1)،فأين التجهيز بالمال ؟

ومن لم تسمح نفسه لرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في وقت الضيقة بثمن بعيرين،كيف يجهز النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؟وأين موضع هذا التجهيز ومحله ؟

ثم أين لأبي بكر المال الذي يجهز به رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وقد صح عندكم أنه احتاج إلى سفرة(2)في وقت سفره معه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى المدينة،فلم يجدها وثمنها،درهم فقطعت ابنته أسماء نطاقها بنصفين، فأعطته نصفاً ليكون له سفرة،فسميت لذلك ذات النطاقين؟(3)(4)

وإن قلتم في المدينة فقد أحلتم،فإنّ أبا بكر كان فقيراً،وكان هو وغيره من المهاجرين عيالاً على الأنصار، والقرآن ناطق بذلك(5)،والنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إذ ذاك قد أغناه الله بالغنائم والأنفال،فأخبرونا عن تجهيز أبي بكر النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)متى كان؟وفي أي سفر؟وأي غزوة؟دلونا عليه حتى نعلم موضعه ونعرف محله.

ص: 432


1- المعجم الكبير للطبراني25:23؛المعيار والموازنة : 74 شرح نهج البلاغة 13: 274.
2- أي احتاج أبو بكر إلى سفرة، والسفرة ما يتخذ لأكل الطعام عليه أو ما يفرش ويوضع الطعام عليه عند الأكل كما في لسان العرب368:4.
3- قال في لسان العرب 10 : 355 النطاق شبه إزار فيه تكة كانت المرأة تنطق به،هو أن تلبس المرأة ثوبها ثم نشد وسطها بشيء وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل عند معاناة الأشغال لئلا تعثر في ذيلها،وسميت أسماء ذات النطاقين قيل:لأنها شقت نطاقها نصفين فاستعملت أحدهما وجعلت الآخر شداداً لرادهما .
4- مسند أحمد 346:6، صحيح البخاري 13:4،الديباج على مسلم490:5،المعجم الكبير 80:34.
5- الحشر: 8 و 9.

هذا وقد علم كافّة أهل الأثر أنّ أبا بكر ترك مناجاة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيمن تركها،لما نزلت آية المناجاة شحاً منه عن أن يتصدّق لأجلها،ولو بخمس تمرات(1)،فكيف يجهز رسول اللّه بماله من ترك مناجاته خوفاً من أن يتصدق بخمس تمرات،لا يبلغ ثمنها درهماً،وكان ذلك ذنباً احتاج هو وغيره فيه إلى عفو اللّه عنهم،أفيفعل الندب ويرتكب الذنب مالكم كيف تحكمون؟

وأيضاً إنه قد صح أن علياً(علیه السلام)تصدق بخاتمه(2)وتصدق بأربعة دراهم ليلاً ونهاراً،وسرّاً وعلانية(3)،وجاد بقوته وقوت عياله ثلاث ليال،فأنزل اللّه في كلّ من ذلك قرآناً يتلى بمدحه،ويكشف عن إخلاص عمله، ويعرب عن صدق نيته مثل قوله تعالى:(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)(4)(5)فما بال أبي بكر لم ينزل في تجهيزه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)آية تتلى،ولا كلمة تقرأ ؟

أفترون أن اللّه عزّ وجلّ أضاع عمله، وهو لا يُضيع عمل عامل ؟ أم لم يقبله منه

ص: 433


1- جامع البيان27:28،شرح نهج البلاغة274:13،المستدرك على الصحيحين482:3،الدر المنثور185:6،كنز العمال 2 : 521 قالوا: لم يعمل بهذه الآية إلا على(علیه السلام).
2- قضية تصدق الإمام علي(علیه السلام)وهو في حالة الركوع نقلها كثير من المفسرين والمحدثين منهم الطبري في تفسيره6: 389،المعجم الأوسط 6: 218،أسباب النزول: 133،شواهد التنزيل209:1،تاريخ مدينة دمشق 357:42،شرح نهج البلاغة 276:13.
3- وقد ورد بذلك أية في الذكر الحكيم في سورة البقرة: 274،أنظر معاني القرآن للفراء 305:1،أسباب النزول:58،الكشاف398:1،تاريخ مدينة دمشق358:42،شرح نهج البلاغة276:13،تفسير الثعالبي1: 534.
4- الإنسان: 9.
5- شواهد التنزيل406:2،زاد المسير 8: 145،شرح نهج البلاغة 1: 21،تفسير القرطبي130:19،المناقب للخوارزمي : 271 ، تفسير التبيان211:10،تفسیر مجمع البیان209:10.

فترك ذكره وأهمله ؟ أم لم يكن شيء مما ادعيتم يحتاج إلى أن يبينه اللّه تعالى فيما أنزله ؟

هذا كله مضافاً إلى ما صح من فقر أبي بكر وصعلكته، حتى احتاج في أيام خلافته إلى أن يجعل له المسلمون قسمة من سهامهم من بيت المال لكل يوم شيء يسير،كما صح في صحّ في سير القوم وتواريخهم،فمن هذه حاله من أين له المال حتى يجهز به النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؟!

وأما المواساة بنفسه فمتى كان ذلك؟أفي الشعب حين أجمعت قريش على حصر رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فأبو بكر ليس من المحصورين؟أم في إيذاء قريش للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فأبو بكر ليس من المحامين،بل القائم بحماية النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)والمواسي له بنفسه والذاب عنه في ذلك كله من لا يهاب الرجال ، ولا تروعه الأبطال أبو طالب وبنوه ورهطه، وأبو بكر في معزل عن ذلك كلّه(1).

فما نعلم الموضع الذي اختص فيه أبو فصيل بمواساة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)دون غيره،إلّا أن يدعوا حديث الغار، وفيه على شيخهم العار لما حدث منه من الخوف والحزن المنافيين للإيمان والإخلاص،وأين هو في ذلك ممّن بات يغدي النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بنفسه،ويتوقع الموت في الذب عنه صابراً محتسباً.

وأما المجاهدة ساعة الخوف، فما علمنا لأبي بكر قتالاً،ولا سمعنا أنّه في موقف بارز قرناً(2)،ولا سفك دماً،فضلاً عن أن يكون اختص بجهاد مع النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)

ص: 434


1- أنظر المعيار والموازنة: 88.
2- القرن بالكسر كفو الرجل في الشجاعة كما في الصحاح 6: 2181.

دون غيره،بل المعلوم ضرورة خلاف ذلك،فإنّه في بدر استتر بالعريش (1)(2)،ولم ير القتال بوجهه فضلاً عن أن يكون قاتل.

وكان رسول اللّه لا يكلّفه حرباً ولا قتالاً لما يعلم من لؤمه(3)وجبنه،فإنّه لما خرج ابنه عبد الرحمان يوم أحد من عسكر المشركين يدعو المسلمين للمبارزة، وينادي هل من مبارز؟أنا عبد الرحمان بن عتيق فغضب أبوه من قوله،وقام مصلتاً سيفه يريد مبارزته بزعمه ، فنظر إليه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وقال: يا أبا بكر،شم سيفك(4)وأمتعنا بنفسك(5)،ثمّ لم يلبث بعد ذلك حتّى فرّ مع الفارين(6)،وفاز بالمواساة والجهاد غيره،وهو على(علیه السلام)الذي لم يزل فائزاً بذلك،حتى نزل جبرئيل على النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فقال:يا محمّد،قد عجبت الملائكة من صبر هذا الفتی،إنها لهي المواساة.

فقال:«يا جبرئيل،إنّه مني وأنا منه».فقال جبرئيل:«وأنا منكما»(7).

ص: 435


1- العريش ما يستظل به كما في غريب الحديث للحربي:174،وفي الصحاح1010:3العريش خيمة من خشب،وانظر لسان العرب313:6.
2- تاريخ الطبري148:2،شرح نهج البلاغة 13: 277،المستدرك على الصحيحين 148:2.
3- في الحجرية : ( لونه) ، والمثبت موافق للسياق.
4- شام السيف:سلّه وأغمده وهو من الأضداد كما في لسان العرب 12: 330 .
5- شرح نهج البلاغة 13: 281 و 294.
6- فرّ أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يوم أحد إلا قليلاً منهم كما دل عليه قوله تعالى:﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ)آل عمران: 153 ولم يذكر أبو بكر فى الثابتين مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنظر شرح نهج البلاغة279:13،المسترشد:428.
7- المعجم الكبير 1: 318،شرح نهج البلاغة361:13،و251:14،مجمع الزوائد 6: 114، تفسير مجمع البيان311:2،وانظر العمدة لابن البطريق:200.

ولا شكّ أن حديثهم المكذوب افتعلوه ليناقضوا به هذا الحديث الصحيح،و ما جرى مجراه.

ثم في يوم الأحزاب عجر الشيخ عن البروز وفاته الحظ الجزيل(1)من مبارزة الشرك كله وقتله غيره.

وفي خيبر رجع منهزماً براية النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ومن الغد فعل مثل ذلك صاحبه وأخوه،وأدرك الفضيلة السابق إلى الفضائل ابن عم المصطفى(2).

وفي حنين ولى مديراً مع المدبرين(3)، وأضاف ذلك إلى حسدة المسلمين كما ذكره القوشجي وغيره، فأين جهاده مع النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ساعة الخوف؟وفي أي موضع حصل؟وفي أي موقف صدر؟فليدلنا القوشجي وحزبه عليه حتى نعرفه.وهل بلغ أبو بكر من الجهاد مع النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ما بلغه أدنى المسلمين من الصحابه، حتى يفضّل بجهاده على جملتهم ؟

ص: 436


1- في النسخة الحجرية :(البروز للحاجة الضرورية، وفاز بالحظ الجزيل)بدل من(البروز)إلى هنا.
2- مجمع الزوائد 124:9، وحكاه في إعلام الورى 207:1 عن الواقدي.
3- قال اليعقوبي: وانهزم المسلمون عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حتى بقي في عشرة من بني هاشم وقيل:تسعة،وهم:«على بن أبي طالب والعبّاس بن عبدالمطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب أبنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطلب وقيل: أيمن بن أم أيمن». تاريخ اليعقوبي62:6. وقال العباس بن عبد المطلب : نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة***وقد فر من قد فر منهم واقشعوا وثامننا لاقى الحمام بسيفه***بما منه في اللّه لا يتوجع الاستيعاب 3: 813 وقال المفيد في الإفصاح:157 لم يبق مع النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلا تسعة من بني هاشم خاصة والعاشر أيمن بن أم أيمن.

وإذا تأملت الأمر عرفت أن مضمون الخبر كذب كله،وليس من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،لأنه لا يقول إلا حقاً،ولا يمدح أحداً إلا بما فيه الخير،وبما عمل من الأعمال الصالحة،وإنما وضعه القوم لينا قضوا به أقوال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في على(علیه السلام)المشهورة بين الناس،مثل قوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيه هو أول من آمن بي وصدقني»(1)وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيه:«أولهم سلماً»(2).

وليعارضوا به ما شاع لأمير المؤمنين(علیه السلام)من إنفاقه في سبيل اللّه ما يملكه ولا يجد سواه،وما تواتر وعلم من مواساته النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بنفسه،وبذله مهجته دونه في ساعات الخوف،ومجالدته الأقران عنه في أوقات الروع،وذبه عنه بحسامه عند التحام القتال،ومنازلة الأبطال ليغطوا على التحقيق بالشبهات، وأنى لهم بذاك ؟

[الرواية السابعة وردّها ]

ومنها:الخطاب لأبي الدرداء حين مشى أمام أبي بكر:أتمشي أمام من هو خير منك ،واللّه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من ابی بكر(3).

الجواب عنه أنّه معارض لكثير من الأخبار الصحيحة الواردة في فضل علي(علیه السلام)مثل قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«الصدّيقون ثلاثة:حبيب النجار ومؤمن آل فرعون

ص: 437


1- المعيار والموازنة:67،تاريخ مدينة دمشق36:42و 41،شرح نهج البلاغة 13: 225و228،الإصابة في تمييز الصحابة 294:7،مجمع الزوائد102:9،نظم دور السمطين: 81، ينابيع المودة195:1وج 2: 146 .
2- شواهد التنزيل 1: 334،تاريخ مدينة دمشق40:42و 44،كنز العمال114:13ح 36370،مناقب الخوارزمي:52، ينابيع المودة 192:1.
3- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة ص 15 السطر 16

وعليّ بن أبي طالب(علیه السلام)وهو أفضلهم(1)،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيه:«سيد المسلمين»(2)و«يعسوب المؤمنين»(3)و«أعظمهم عند اللّه مزية»(4)،ومساواته للأنبياء وغيرها مما مر ذكره وما يأتى،فهو مما افتعل للمناقضة فيكون فاسداً.

ولو صح هذا ومثله لما قال أبو بكر:وليتكم ولست بخيركم(5)،والقول بأنه أراد كسر نفسه باطل،لأن الأفضلية حكم من الأحكام لا يجوز إخفاءه،ونعمة من نعم اللّه يجب إظهارها،ولا يجوز الإخبار بضد الحكم وكتمان نعمة اللّه.

ولهذا قال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«أنا سيّد المرسلين ولا فخر»(6)،وقال على(علیه السلام)على المنبر: «أنا الصديق الأكبر،وأنا الفاروق الأعظم،آمنت قبل إيمان أبي بكر»(7).

وأيضاً:إن المقام مقام إظهار الحجّة،لأنه إذ ذاك في مخاصمة الأنصار و مخاصمة على(علیه السلام)في أمر الخلافة وطلبه منه ومن أصحابه البيعة له،فلا موضع

ص: 438


1- شواهد التنزيل306:2،تاريخ مدينة دمشق43:42و 313، شرح نهج البلاغة172:9،الدر المنثور262:5،كنز العمال 601:11ح 32897، الجامع الصغير 3: 115 ح 5148 .
2- المستدرك على الصحيحين138:3،تاريخ مدينة دمشق202:42،کنز العمال 619:11 ح 33010 .
3- المعجم الكبير296:6،تاريخ مدينة دمشق41:42،شرح نهج البلاغة 228:13،الجامع الصغير178:3.
4- شواهد التنزيل 468:2،تاريخ مدينة دمشق58:43 و 371 ،شرح نهج البلاغة172:9،كتر العمال 11: 617 ح 32994، ذخائر العقبی:83.
5- قال ذلك بعد أن جاء للخلافة كما في المعيار والموازنة:39،تاريخ اليعقوبي 2: 127،تاریخ الطبري450:2،تاريخ مدينة دمشق31:30،شرح نهج البلاغة169:1،وج 2: 56 وج20:6.
6- كتاب الأوائل:42.
7- تاريخ مدينة دمشق33:42،شرح نهج البلاغة 4: 122 وج 13: 200 و 228، ينابيع المودة 146:2 .

لكسر النفس وهضمها في ذلك الوقت،وهو يطلب طاعة الأشراف لها واتباع أولى الفضل إيَّاها .

هذا لو سلمنا عدم قبح إخفاء الحق لهضم النفس مطلقاً،فكيف ودون تسليمه الأقوال البليغة ومن جملته بل زبدته ما أشرنا إليه في أوّل هذا الكلام ، بل إن الشيخ لم يعلم بهذا الحديث الجديد ولا سمعته أذناه ، ولا أحد من الصحابة في وقته، ولا علم أنّه أفضل الصحابة عند أنفسهم.

ولذا لم يجيبوه ولا واحد منهم بأنك خيرنا، بل مبلغ علمه أنه عند نفسه و عنده الناس من جملة الصحابة،فأخبر عن نفسه بما هو عليه، وإنما حدث له التفضيل العام فيما بعد من أعداء أهل بيت النبوة كما أوضحناه في أوّل الأجوبة على هذه الأخبار.

ثمّ أين عمر عن هذا الحديث حين ذهب في السقيفة يحتج لأبي بكر بصحبة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الغار، وتقديم قدميه في الصلاة مما لا يوجب فضلاً، ويُستدل به على أفضليته، فلم ترك مثل هذا الحديث الصريح في الأفضلية وعدل عنه إلى ما لا حجّة فيه ؟ فوا عجباه من هذه الأكاذيب!

[الرواية الثامنة وردّها ]

ومنها:قال عمرو بن العاص : قلت الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):أيّ الناس أحب إليك ؟

قال:عايشة.قلت:من الرجال؟

قال:أبوها.قلت:ثمّ من ؟

قال:عمر(1).

ص: 439


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة ص 15 السطر 20.

والجواب عن هذا اللغو مستغنى عنه في الحقيقة،لأن كذبه بين وراويه ابن(1)الشانئ الأبتر الملعون على لسان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)(2)لكنا نجري على العادة في أمثاله فنقول:بیان بطلانه من وجهين:

الأوّل: أن هذا الكلام قطعة من كلام ألفه ابن العاص يوم صفيّن،يحرّض به أهل الشام على قتال أمير المؤمنين وسيد الموحدين وخليفة رسول ربّ العالمين كما ذكره جامعوا أخبار الوقعة وقبله ما مضمونه أمرني رسول اللّه على أبي بكر وعمر،فظننت أن ذلك لفضل لي عليهما،فلما رجعت قلت الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الكلام المذكور بتمامه،وهذا عليّ فعل بعايشة كذا وكذا لكلام ذكره يعيب علياً(علیه السلام)به.

ولا شكّ لأحد أنّ هذا القول اختلقه ابن العاص وافترعه،ليحض أهل الشام على قتال أمير المؤمنين ليجدوا في ذلك، ويبذلوا جهدهم، كما اختلق أن

ص: 440


1- كلمة(ابن)لم ترد في الحجرية وأضفناها لاستقامة الكلام،ذكر المفسرون أن سورة الكوثر نزلت في شأن العاص بن وائل حين هجا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وسماه أبترا،جامع البيان437:30،أسباب النزول للواحدي : 307 ،تفسير القرطبي 20: 222 ،تفسير ابن كثير598:4.
2- عمرو بن العاص ملعون على لسان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مراراً لأنه كان يؤذيه مرارا بمكة،ويضع في طريقه الحجارة،ويعلم الصبيان بأن يشتموا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فقال:«اللهم إن عمرو بن العاص هجاني ولست بشاعر فالعنه بعدد ما هجاني»وهو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة فروعوها حتى أجهضت جنيناً فلما بلغ ذلك رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)نال منه وشق عليه مشقة شديدة ولعنهم،أنظر شرح نهج البلاغة6: 282،وفضحه الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)في خطبة قالها بعد دخول معاوية الكوفة وذكر فى تلك الخطبة عداوة عمرو بن عاص الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وإنه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعنه في موارد عديدة وقال في حقه:«اللهمّ العنه بكلّ حرف ألف لعنة».شرح نهج البلاغة 6: 291،وانظر غريب الحديث لابن قتيبة 1: 81،النهاية في غريب الحديث 5: 248 ،تاريخ مدينة دمشق 46: 118 ،تفسير القرطبي 2 : 188ء ،كنز العمال548:13،حديث37431 .

آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما ولبي اللّه وصالح المؤمنين(1)وغير ذلك مما قوى به قلوب أهل الشام وشحذ به عزائمهم على الضلال، وكان على الكذب مقتدراً، وتصنيع الكلام وتزوير البهتان بصيراً.

وأي جهل أعظم من جهل من يجعل رواية ابن العاص المعروف بالفسق والكذب دليلاً يعارض به الكتاب وصحاح الأخبار،مع أن مقام إيرادها مصرح باختلاقها،ومجموع ألفاظها واضح في اصطناعها،لكن القوم يأخذون ما يسمعون في الشيخين،ويتلقونه بالقبول،ولا ينظرون في سنده ولا في متنه،ولا في مقام إيراده بعكس ما يرد عليهم من أحاديث فضل أمير المؤمنين(علیه السلام)،فإنّهم يبذلون الجهد في تهجينها سنداً مع وثاقة رواتها،ومتناً مع صراحتها واستقامة معانيها،كما فعلوا في الغدير وغيره،ولو بالتأويلات التي لا معنى لها في العقول،وهذا نتيجة ما في قلوبهم من العصبية.

الثاني:أنه معارض لما صح نقله من الأحاديث المشهورة في محبة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعلىّ وفاطمة والحسن والحسين،ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة قالت:كانت فاطمة أحبّ النساء إلى رسول اللّه،وزوجها على أحبّ الرجال إليه(2).

وقال الإسكافي:ولما سئلت عايشة:من كان أحب الناس إلى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قالت:أما من الرجال فعليّ،وأما من النساء ففاطمة(3).

ص: 441


1- شرح نهج البلاغة 4: 64 وج 11: 42، وورد هذا الكلام في صحيح البخاري73:7 كتاب الأدب منع حذف كلمة (طالب).
2- سنن الترمذي 360:5،المعجم الأوسط199:7،المستدرك على الصحيحين 3: 155 .
3- حكاه عنه في شرح نهج البلاغة 13: 253، وانظر تاريخ جرجان : 213 تاريخ مدينة دمشق 42: 263،شرح الأخبار 1: 430

وروى أبو داود والطبراني والحاكم والترمذي-وحسنه-عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) قال:«أحبّ أهلى إلى فاطمة»(1).

وقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«الأبعثن إليكم رجلاً عديل نفسي»(2).

وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الكتاب، فيكون باطلاً كإخوانه.

[الرواية التاسعة وردّها ]

ومنها:لو كان بعدي نبي لكان عمر(3).

والجواب عنه من وجهين :

الأوّل:أنّ من شروط النبئ العصمة عن الشرك عندنا وعندهم،وعمر مشركاً يعبد الأصنام دهراً،ومن كان كذلك لا يكون نبياً البتة بنص الكتاب(4)،فيجب أن لو كان بعد نبينا نبي أن يكون غير عمر،لعدم جواز النبوة له لسبق الكفر منه؛فمتن الخبر كذب محض.

الثاني:معارضته لقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ(علیه السلام):«أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»(5)،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)له أيضاً:«إنّك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع إلا أنك لست بنبي»(6)فهو مما افتعل للمناقضة، فيكون باطلاً.

ص: 442


1- تقدم ذكر مصادر هذا الحديث.
2- المصنف لابن أبي شيبة498:7،تاريخ مدينة دمشق342:42،شرح نهج البلاغة294:1،وج167:9وج291:16،كنز العمال164:13،مجمع الزوائد163:9.
3- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 15 السطر 21 .
4- البقرة: 126 .
5- تقدم تخريجه .
6- نهج البلاغة 2: 158 من خطبة 192 ،شرح نهج البلاغة 13: 197.
[الرواية العاشرة وردّها ]

ومنها:في أبي بكر وعمر:هذان السمع والبصر(1).

والجواب أن هذا القول لو صح لم تثبت به أفضلية، فقد صح عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنه قال:«عمّار جلدة بين عيني»(2)و«المقداد قد منا قداً»ولم يفضّلهما أحد بهذا على عليّ(علیه السلام)،فكيف وإنما جيء به لمناقضة قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«علي مني بمنزلة رأسي من بدني»رواه الديلمي عن ابن عبّاس(3).

وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«كنت أنا وعلي نوراً واحداً»(4)وما شابه هذا من الأقوال الصحيحة،فيكون فاسداً، ولو حملناه على قوله تعالى:(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أَوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(5)كما ورد عندنا في تأويله لصح وانقلب عليهما لا لهما،لكن ذلك مما نختص بروايته(6)،فلا نحتج به على الخصوم .

ص: 443


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 22 .
2- شرح نهج البلاغة52:3.
3- تاریخ بغداد12:7،تاريخ مدينة دمشق344:42،الجامع الصغير177:2،کنز العمال603:11،ينابيع المودة 2: 77 ، وص 97 و 152 و 401 .
4- تاريخ مدينة دمشق67:42،شرح نهج البلاغة171:9،المناقب للخوارزمي:165،نظم درر السمطين:79،خصائص الوحي المبين:95،ينابيع المودة 47:1 وج 2: 370 .
5- الإسراء : 36 .
6- فيه إشارة إلى ما رواه الشيخ الصدوق بسند معتبر في معاني الأخبار: 387 ح 33 عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنه قال في حق أبي بكر وعمر وعثمان:هم السمع والبصر والفؤاد وسيسألون عن ولاية وصي هذا،وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وانظر البرهان في تفسير القرآن564:5 ذيل آية 36 من سورة الإسراء.
[ الرواية الحادية عشرة وردّها ]

ومنها:قول ابن عمر:كنا نقول-ورسول اللّه حاضر حيّ-:أفضل أُمّة النبي بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان(1).

أقول: لا شك أن هذا القول كان مفتعلاً على ابن عمر،كما كان مفتعلاً على النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وذلك أن ابن عمر من جملة من روى حديث مؤاخاة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً(علیه السلام)حين أخى بين أصحابه،وقال:سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول لعلي(علیه السلام):«أنت أخي في الدنيا والآخرة»(2). وهل يرتاب أحد في أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أراد من هذه المؤاخاة إثبات المماثلة بين كلّ رجلين أخى بينهما في الصفات العملية،والمشابهة بينهما في الفضل، وأنّ تخصيصه عليّاً(علیه السلام)بأخوته قصداً لإيانته بالشرف من بين الصحابة،وإظهاراً لتفضيله عليهم،اللهمّ إلّا أن يكون خليّاً من أدنى فهم وأقل تمييز.

ثم إنّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أكد المعنى الظاهر بما أردفه من الأقوال الصريحة في تفضيل على(علیه السلام)، مثل:«أدعوا لي سيّد العرب عليّاً»(3)،و«أنت مني بمنزلة هارون من موسى»(4)،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ لما نزلت هذه الآية:﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)(5)هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين

ص: 444


1- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 22 .
2- سنن الترمذي300:5،تاريخ مدينة دمشق51:42،أسد الغابة29:4،نظم درر السمطين: 94،كنز العمال 598:11 ح 32879 .
3- المستدرك على الصحيحين124:3،حلية الأولياء63:1،شرح نهج البلاغة 9: 170،ج66:11،كنز العمال143:13،ينابيع المودة161:2.
4- تقدم تخريجه.
5- البيئة: 7 .

مرضيين،ويأتي أعداؤك غضاباً مفمحين(1).رواه الطبراني عن ابن عباس،ورواه أخطب خوارزم(2)،ورواه بعضهم عن عليّ(علیه السلام)(3)،وغير ذلك من الأقوال المنتشرة بين الصحابة التي بسببها ذهب إلى تفضيله من ذهب من خيارهم.

أفتراه بعد ذلك ينقض قوله وفعله،فيقول لأصحابه قولوا:أفضل أمتى بعدي أبو بكر ثم عمر ثم عثمان؟أو يقررهم على هذا القول،أفيعقل عاقل هذا من فعل النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؟

ثم كيف يكون القول بتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان في زمن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وحضوره مشهوراً بين الصحابة،معروفاً عندهم،ويذهب من ذكرناهم من الصحابة وكثير ممن لم تذكرهم إلى تفضيل علىّ(علیه السلام)على جميع الناس؟

أفتراهم تعمدوا مخالفة الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؟فإن قال قائل بجواز ذلك عليهم قلنا له:إن ذلك يخالف قولك ،فإنّك تذهب إلى أن الصحابة لا يجوز نسبتهم إلى مخالفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).

وإذا سلمنا لك الجواز بناءاً على مذهبنا عارضناك بأن الجواز لا يستلزم الوقوع،فدلنا على أمر خالف أولئك القوم فيه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عمداً بقطع ويقين،حتى نلحق ذاك بهذا،كما نثبت نحن لك مثل ذلك على أئمتك وأعوانهم،لكنك لا تجد سبيلاً إلى مثل ذاك من أصحابنا فبطلت حجتك .

ص: 445


1- أنظر النهاية في غريب الحديث 106:4 ذيل مادة: قمح.
2- أنظر المناقب للموفق الخوارزمى : 266، رقم 347، وص 111 رقم 120.
3- جامع البيان335:30،شواهد التنزيل2: 461،نظم درر السمطين:92،خصائص الوحی المبين:224،الدر المنثور 379:6،كنز العمال156:13 ح36483، ينابيع المودة 357:2 .

وإن قلت:لا يجوز عليهم تعمد مخالفة الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بطل حديثك،وذلك هو المراد.

وأيضاً فقد روى صاحب كتاب الخصائص فيه عن عمر بن الخطاب قال:سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) يقول:في عليا(علیه السلام)ثلاث خصال وددت لو أن لي واحدة منهن وذكرهن،وسنذكر الخبر بتمامه بعد إن شاء اللّه.

ومعلوم أن المقصود من كلام عمر أن الثلاث خصال اللاتي سمعهن من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في علي (علیه السلام)يوجبن التفضيل له على كل أحد،فود أن تكون له واحدة منهنّ ليتفضّل بها على سائر الصحابة،وينال بها الشرف العظيم بين الناس.

وإذا كان عمر يعلم أنه أفضل أصحاب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعد با بكر،وأنه أفضل من على(علیه السلام)، فأيّ حاجة له إلى خصلة من الخصال التي قالها رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في على(علیه السلام)لينال بها تفضيلاً،وأي فائدة في تحسّره على حصول خصلة واحدة من تلك الخصال،لعلمه أنه لا يدرك الجميع يقيناً،وهل ذلك إلا طلب تحصيل الحاصل،ولا معنى له عند العقلاء ؟

أو تقول:إنّ عمر لم يعلم بحديث ابنه فتكون قد طعنت في عمر بعدم العلم بالمشهورات،وذلك أمر يعود عليك بالنقص والنقض،أو تطعن في حديثك،وتخرجه من الصدق إلى الكذب،لمخالفته الأدلة الصادقة، فاختر ما شئت تخصم.

وقد وضح من ذلك كله أن الحديث باطل بلا ريب،وأنه موضوع ليقابلوا به الأقوال التي ذكرناها عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وغيرها من الوارد في تفضيل على(علیه السلام)صريحاً .

ص: 446

[الرواية الثانية عشرة والثالثة عشر والرابعة عشر وردّها]

ومنها:عن محمد بن الحنفية قلت لأبي:أي الناس أفضل بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؟قال:ابو بكر.

قلت:ثمّ من؟

قال :عمر،وخشيت أن أقول:ثمّ من،فيقول:عثمان،قلت:ثمّ أنت؟قال:ما أنّا إلّا رجل من المسلمين(1).

ومنها:عن علي(علیه السلام):خير الناس بعد النبيين أبو بكر وعمر ثم اللّه أعلم(2).

ومنها:عنه(علیه السلام)لما قيل له:أما توصى؟فقال(علیه السلام):ما أوصى رسول الله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أوصي ؟ولكن إن أراد اللّه بالناس خيراً جمعهم على خيرهم،كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم(3).

والجواب أن هذه الأحاديث الثلاثة المفتراة(4)،تبطل بما بطل به ما قبلها،وبما صحّ عن عليّ (علیه السلام)في رواية الخصوم كالجوهري وغيره حين قال عثمان له:إنّ أبا بكر وعمر خير منك .

فقال علي(علیه السلام):«كذبت،أنا خير منك ومنهما»(5).

وما كان يقوله على رؤوس الأشهاد وصهوات المنابر:«أنا الصديق الأكبر، وأنا

ص: 447


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 23 .
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 25.
3- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 26 .
4- في الحجرية:(المقترعة)،والمثبت هو المناسب.
5- شرح نهج البلاغة 200: 25 و 262،الإيضاح للفضل بن شاذان:519،المسترشد لابن جرير:227،الفصول المختارة : 168 ،الاحتجاج 229:1،مناقب ابن شهر آشوب 289:1.

الفاروق الأعظم ، آمنت قبل إيمان أبي بكر»(1)الخبر الذي مر .

ولا ريب أن مراده من هذا الكلام تفضيل نفسه على أبي بكر،لا يشك في ذلك ذو فهم،وبما صح عنه (علیه السلام)من نسبة المذكورين إلى ظلمه واغتصاب حقه كما أوضحناه أتم إيضاح فيما مضى ويأتي،فكيف ينسبهما إلى الظلم والاغتصاب ثم يقول:هما خير الناس،فيكون خير الناس عنده الظالم الغاصب؟!هذا من المحال.

ثم كيف يصرح على المنابر بأنه الصديق الأكبر،وأنه أولى الناس بالناس،وأنه وارث رسول اللّه ووصيه و خازن علمه - كما مرّ عليك بيان جميعه-ثمّ يقول:ما أنا إلّا رجل من المسلمين الذي يعطي بواسطة المقام أنّه لا فضل له على أحد من الناس،فأين إذن دعوى الوصية والوراثة للرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ودعوى الأولوية بالناس ؟

ثمّ كيف يقول:أنا وصيّ رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ثم يقول:إنّ رسول اللّه لم يوص، وهذا تناقض عظيم في الأقوال لا يصدر مثله من عاقل،فكيف يصدر من باب مدينة العلم والحكمة ومستودع أسرار النبوة ؟

وكيف يدّعون على محمد بن الحنفية ما سمعت ، والمروي عنهم خلاف ذلك، ومن جملته ما رواه جامعوا أخبار صفين من محدثيهم ما مضمونه، أن عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب خرج يوماً يطلب المبارزة ، فأراد محمد بن الحنفية مبارزته فمنعه أبوه من ذلك، ومضى هو بنفسه إلى عبيد اللّه ، فلما رأى عبيد اللّه علياً(علیه السلام)قد أتاه رجع عن المبارزة إلى صفّه،فرجع أمير المؤمنين(علیه السلام)،فقال محمد له:يا أمير المؤمنين،إنّي لأرغب بك عن مبارزة أبيه إلى آخر الخبر(2).

ص: 448


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل752:2ح 934 .
2- وقعة صفين: 221، شرح نهج البلاغة 5: 179 .

وهذا صريح في تفضيل محمد أباه على عمر،فكيف يسمع محمد من أبيه أن عمر خير الناس ثم يقول:إنّى لأرغب بك عن مبارزته،ومن ذا يرغب بنفسه أو بأبيه عن مبارزة خير الناس،وإنما يرغب أشراف الناس عن مبارزة غير الكفو،وخير الناس فوق الكفائة.

فمن المعلوم أنّ أحاديثهم الثلاثة اختلقوها،ليضاهئوا ما ذكرناه من أقوال أمير المؤمنين(علیه السلام)من بيان تفضيل نفسه، وظلم الثلاثة حقه وغير ذلك،فتكون باطلة،ومع هذا كله يلزم عليهم في الحديث الأخير محذوران لو صح:

[المحذور]الأول:مخالفة أبي بكر للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حيث أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يوص إلى أحد،وأبو بكر أوصى إلى عمر ومتابعة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)واجبة، وأبو بكر قد خالف الواجب. ويكون الحديث مناقضاً أيضاً لما مر فى أحاديثهم من دعواهم قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لأبي بكر:وخليفتي في(1)أمتي(2)،فإن هذا القول وصية بالخلافة ونص صريح.

ومناقضاً لقول القوشجي أيضاً أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أوصى إجماعاً،أما عند الشيعة فلعلي(علیه السلام)،وأما عند الأشاعرة فلأبي بكر(3).

ومناقضاً أيضاً لما رواه البخاري من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):ويأبى اللّه إلا أبا بكرا(4)،وهذا القول وصيّة ظاهرة.

فما أدري بهؤلاء القوم على أي أخبارهم يقولون ؟ وإلى أي أدلتهم يستندون ؟

ص: 449


1- في الحجرية : (على)،والمثبت عن المصدر.
2- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة : ص 15 السطر 13.
3- شرح التجريد للقوشجي،المقصد الخامس في الإمامة :ص 8السطر 2.
4- وجدناه في صحيح مسلم 110:7.

ما نراهم إلّا يستدلون في كل باب بما يناقض دليلهم في الباب الآخر ويعانده.

هذا القوشجي يستدلّ بهذا الحديث المصرح بأن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يوص على أفضلية أبي بكر، وهو قبل يورد الحديث المصرّح بأن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أوصى إلى أبي بكر بالخلافة،ثم هو يردّ على الإمامية في مسألة إنكارهم على أبي بكر مخالفة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الوصية بما ذكرناه من أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أوصى إجماعاً،ويحتج على ذلك بخبر البخاري،ومع ذلك كله يردون عن أبي بكر أنه قال في حديث طويل:وددت أني سألت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عن صاحب هذا الأمر من هو حتى لا ننازعه(1)؟

هذا ودعواه الإجماع على استخلاف النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)منافية لدعواه الإجماع في مسألة نصب الإمام ، على أن إمامة أبي بكر برأي الصحابة لا بالنص(2)، ولاستدلاله هناك يقول أبي بكر في خطبته : لابد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم(3)؟

وإذا كان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد استخلف رجلاً بعينه فما حاجة خليفته في نظر الصحابة ذلك وآرائهم ؟!

فانظر إلى هذا التناقض العظيم،وما ذاك إلا لخروج القوم عن الصراط المستقيم ، وعدولهم عن الحق القويم ، فأيّ حجّة لهم في أخبار متعارضة متناقضة يكذب بعضها بعضاً، ويدفع بعضها الآخر؟

وكفى بذلك فيها بطلاناً، فكيف تقاوم الأدلة الصحاح المتوافقة المتطابقة على أفضلية أمير المؤمنين بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على الخلق أجمعين ؟ هذا لا يعقل ولا يحمل.

ص: 450


1- تاريخ اليعقوبي137:2،تاريخ الطبري620:2،المعجم الكبير للطبراني 1: 63 ح 43، تاريخ مدينة دمشق420:30،شرح نهج البلاغة47:2،كنر العمال 5: 632 ح 14113 .
2- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 1 السطر 17 .
3- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة:ص1 السطر 19.

[المحذور ] الثاني:أنه يلزم أن معاوية الباغي بنص رسول الله (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)- الملعون على لسانه، بقوله لعمّار«تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار»(1)،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) فى أبي سفيان وابنيه أحدهما معاوية:«لعن اللّه الراكب والقائد والسائق»(2)،وقوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه فإن لم تفعلوا لن تفلحوا»(3)وغير ذلك من الأقوال الشديدة فيه مما صح نقله عند مشايخ القوشجي،وكان أمير المؤمنين(علیه السلام)يقنت بلعنه ولعن جماعة من الصحابة في الصلاة(4)- يكون(5)خير الأمة، لأن اللّه جمع الناس عليه، فدانت له الناس بالقهر والغلبة، فيكون أفضل من سعد بن أبي وقاص، وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة(6)والذي اختاره سيدهم عمر للخلافة، وجعله في الشورى، وأفضل من الحسن والحسين اللذين هما سيدا شباب أهل الجنة، وأفضل من باقي المهاجرين والأنصار الذين كانوا في ذلك الزمان.

وهذا من أبطل ما يكون بغير ريبة، أو أنّ اللّه لم يرد بالناس خيراً حين جمعهم

ص: 451


1- هذا الحديث مشهور بل متواتر،ويظهر أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قاله في أكثر من موطن،أنظر صحيح البخاري207:3 كتاب الجهاد والسير باب مسح الغبار عن الناس،صحیح مسلم186:8کتاب الفتن،مسند أحمد 2: 161 وج 3: 5 وج 306:5، سنن الترمذي 5: 337 ح 3888، السنن الكبرى للنساني75:5ح 8275 هسند أبي يعلى195:7ح 4181 .
2- حكى ذلك في شرح نهج البلاغة286:6 عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار وج175:15.
3- وقعة صفين: 221 ،تاريخ الطبري 186:8،تاريخ مدينة دمشق 155:59 و 157، شرح نهج البلاغة176:15.
4- البداية والنهاية314:7.
5- خبر قوله:(أنّ معاوية الباغي).
6- انظر الرياض النضرة في العشرة المبشرة.

على معاوية،بل أراد بهم شراً،وهذا لا يرضى به القوشجي وأصحابه،لاستلزامه بطلان إجماعاتهم التي يحتجون بها على أقوالهم المتناقضة ومذاهبهم المتنافية.

والحاصل أن من نظر فيما حررناه وتبصر فيما رسمناه،لا يكاد يتوقف في بطلان أحاديثهم هذه وما شاكلها،ولا يرتاب في اختلاقها وافتعالها إن كان ذا روية وانصاف .

وإذا بطل ما استند إليه القوشجي من الأخبار،وانهدم ما اعتمد عليه من الآثار،فلا حاجة إلى التعرّض لما ذكره من الأمارات الدالة بزعمه على تفضيل شيخيه بل ثالثهم على معدن الفضل أمير المؤمنين(علیه السلام)من كثرة الفتوح والغنائم وغير ذلك مما سنوضح طرقه وتذكر أسبابه.

وأغرب ما في كلامه جعله جمع عثمان الناس على مصحف واحد، يعني قراءة زيد بن ثابت، وإسقاطه جميع القراءات المروية عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بطرق ثقات الصحابة كعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب وشبههما،وحرقه المصاحف بالنار من الأمارات الدالة على فضله وأفضليته(1).

وهذا مما يقضي بالعجب العجاب حيث يكون حرق كلام اللّه تعالى الذي يوجب الكفر والارتداد سبباً لأفضلية الفاعل، مع أنّه من جملة الأسباب والمطاعن الداعية إلى قتله،فأين عقول هؤلاء القوم ذهبت حتّى جعلوا ما يكفر به الإنسان

سبباً لفضيلة عثمان ؟

مع ما يلزم أيضاً من مخالفة القوشجي مذهبه،لأن ما ذكره إن كان يقتضی تفضيل عثمان على عليّ(علیه السلام)كما هو زعمه ومرامه،فيجب أن يقتضي تفضيله

ص: 452


1- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 16 السطر 3.

أيضاً على أبي بكر وعمر،لأنهما لم يفوزا بهذه المنقبة،إذ لم ينقل ناقل عنهما أنّهما أحرقا المصاحف،ولا أسقطا القراءات المروية عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)برواية الثقات؛فعثمان أفضل منهما،والقوشجى لا يسلّم ذلك ولا يذعن به،فأمارته باطلة من الرأس،ولا حول ولا قوة إلّا باللّه.

[روايات في مدح على(علیه السلام)]

وليت شعري أين أبو بكر وأين عمر وأين عثمان لو سلموا من الطعن وبرأت ساحتهم من الظلم؟وأين غيرهم من أخ الرسول (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وخليفته ووزيره ومعينه وسيد المؤمنين به،وساقي عطاشى أمته من حوضه يوم الورود على اللّه؟

وأين يقع فضل الفضلاء من فضله،وهو منبع الفضائل ومعدن المفاخر والوسائل؟وهل سبقه إلى الفضل إلا السابق لكلّ خير رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وأتى(1)بعده مصلياً ليكون ذلك المنذر،ويكون هو الهادي،كما صح في روايات الخصوم.

أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:ما أنزل اللّه«يا أيها الذين آمنوا»إلا وعلى أميرها وشريفها،ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّممكان وما ذكر عليّاً(علیه السلام)الّا بخير(2).

وأخرج ابن عساكر عنه قال:ما نزل في أحد من كتاب اللّه تعالى ما نزل في علي(علیه السلام)(3).

ص: 453


1- في الحجرية:(وإني)،والمثبت هو الصحيح.
2- المعجم الكبير211:11،وانظر شواهد التنزيل30:1و 64 ، تاريخ مدينة دمشق363:42،خصائص الوحى المبين206:31.
3- تاریخ مدينة دمشق 363:42.

وأخرج عنه أيضاً قال:نزل في علىّ(علیه السلام)ثلاثمائة آية(1).

وأخرج الطبراني عنه قال:كانت لعليّ(علیه السلام)ثمانية عشر منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة(2).

وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال:أفرض أهل المدينة وأقضاها على(علیه السلام)(3).

وروى الطبراني عن ابن عباس قال:لما أنزل قوله تعالى:(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(4)قال(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«أنا المنذر،وعلي الهادي،وبك يا عليّ يهندي المهتدون»(5).

وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره عن أبي ذر في حديث قال فيه:«قال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«اللهم إنّي محمد نبيك وصفيك،اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري،واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً شده به ظهري».

قال أبوذر:فما استتم دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه عزّوجلّ وقال:اقرأ:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)(6) الآية(7).

ص: 454


1- تاريخ مدينة دمشق 364:42.
2- المعجم الأوسط212:8.
3- تاریخ مدينة دمشق 405:42.
4- الرعد: 7.
5- روى الطبراني في المعجم الأوسط379:7،عن علي في قوله:﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)المنذر والهاد رجل من بني هاشم،وحكاه في فتح الباري258:8وتفسیرالعياشي204:2 ومجمع البيان14:6وينابيع المودة 296:1 ح 5.
6- المائدة:55.
7- تفسير الثعلبي272:5،وعنه في نور الأبصار:87.

وروى أبو المؤيد في مناقبه عن أبي بردة قال:قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)-ونحن جلوس ذات يوم:-«والذي نفسي بيده لا يزال قدم عن قدم يوم يزال قدم عن قدم يوم القيامة حتّى يسأل اللّه تعالى الرجل عن أربع:عن عمره فيم أفناه ؟وعن جسده فيم أبلاه؟وعن ماله مما كسبه وفيم أنفقه؟وعن حبنا أهل البيت.

فقال له عمر:ما آية حبّكم؟فوضع يده على رأس عليّ(علیه السلام)-وهو جالس إلى جانبه-وقال:آية حبّي حبّ هذا من بعدي»(1).

وروى الواحدي في أسباب النزول عن الحسن والثعلبي والقرطبي قالوا:إن علياً(علیه السلام)وطلحة بن شيبة والعباس افتخروا،فقال طلحة:أنا صاحب البيت،مفتاحه بيدي،ولو شئت كنت فيه.

فقال العبّاس:وأنا صاحب السقاية والقائم عليها.

فقال على(علیه السلام):«لا أدري،لقد صليت سنة أشهر قبل الناس،وأنا صاحب الجهاد،فأنزل اللّه تعالى:﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجَ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ)(2)إلى قوله:(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)(3)»(4).

ص: 455


1- المناقب للخوارزمي: 77، وروى قطعة منه الطبراني في المعج المعجم الكبير 84:11 والمعجم الأوسط155:9كنز العمال379:14ح 39013.
2- التوبة: 19.
3- التوبة:20.
4- أسباب النزول : 164، وورد أيضاً في جامع البيان 24:10 ذيل آية 19 من سورة التوبة، زاد المسير279:3،تفسير ابن كثير255:2.

وروى في الإسعاف عن ابن السماك أن أبا بكر قال:سمعت النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول:لا يجوز على الصراط إلا من كتب له على الجواز(1).

فهذا من جملة ما ورد فيه صلوات اللّه عليه في حديثهم من المحامد العظام،فأنّى يجازيه من لم يفز بشيء من تلك الأوصاف؟وكيف يوازنه من لم ينل واحدة من هذه الخصال؟وكيف يدرك شأوه(2)من لم يحرز فعلاً واحداً مما له من محمود الفعال؟

فوضح من جميع ما بيّناه أن علياً(علیه السلام)هو الأفضل للأدلة السالمة من القدح،لها والأحاديث البعيدة عن الطعن، ووضوح بطلان ما عارضها مما تعلّق به الخصم؛فهو الإمام بعد الرسول،إذ لا يقدّم على الأفضل المفضول،وهذه الأدلة المذكورة في الفصول كلّها نصوص صريحة في إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)،واضحة في استخلافه،وبها يبطل ما أنكره ابن أبى الحديد من النص على إمامته،حيث قال بعد ذكر جملة من أخبار السقيفة وإخراج أمير المؤمنين من بيته على أصعب وجه:

واعلم أن الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جداً،ومن تأملها وأنصف علم أنه لم يكن هناك نصّ صريح مقطوع به،لا تختلجه الشكوك،ولا تتطرّق إليه الاحتمالات،كما تزعم الإمامية،فإنّهم يقولون إن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)نصّ على ير المؤمنين نصّاً صريحاً جلياً،ليس بنصّ يوم الغدير،ولا خبر المنزلة،ولا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة وغيرها بل نص عليه بالخلافة

ص: 456


1- إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار:176 ونص الحديث هكذا:عن قيس بن أبي حازم قال:التقى أبو بكر وعلي بن أبي طالب(علیه السلام)فتبسم أبو بكر في وجه على(علیه السلام)فقال له:ما لك تیسمت؟فقال:سمعت النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول .. الحديث.
2- الشأو الغاية.كتاب العين 6: 297.

وبإمرة المؤمنين،وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك،فسلّموا عليه بها.

وصرّح لهم في كثير من المقامات بأنّه خليفة عليهم من بعده وأمرهم بالسمع والطاعة له.

ولا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يعلم قطعاً أنه لم يكن هذا النص،ولكن قد يسبق إلى النفوس والعقول أنه قد كان هناك تعريض وتلويح وكناية،وقول غير صريح وحكم غير مبنوت، ولعلّه يصدّه عن التصريح بذلك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها أو وقوف مع إذن اللّه تعالى في ذلك،انتهى(1).

أقول:إن العارف المنصف إذا نظر هذا الكلام ووقف على ما ذكره قائله من النصوص المتقدّمة يعلم قطعاً أن قائل هذا القول قد سلك مسلك العناد،وخاض بحر العصبية واللداد،وأيّ نصّ لم يصرّح به الرسول ممّا يدلّ على استخلافه عليّاً حتّى يقال:يصدّه عن التصريح بذلك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها ؟

وأيّ لفظ مما ذكره هذا المورد وأقر بأنه موجب للنصّ على الإمامة وأكثر منه لم يرد عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في حق علي(علیه السلام)؟

قال فيه:«إمام المتقين»(2).

وقال فيه:«سيّد المسلمين»(3).

وقال فيه:«هو ولي كل مؤمن من بعدي»(4).

ص: 457


1- شرح نهج البلاغة 2: 59.
2- حلية الأولياء 66:1 ، المستدرك على الصحيحين138:3.
3- حلية الأولياء 66:1 ، المستدرك على الصحيحين138:3.
4- مسند أحمد438:4.المستدرك على الصحيحين 134:3 مجمع الزوائد120:9.

وقال فيه: «خليفتي»في حديث المؤازرة(1).

وقال:«اسمعوا له وأطيعوا»(2).

وقال فيه:«وصيّى ووزيري وأحق بمقامى بعدي واختاره اللّه بعدي»(3).

وغير ذلك ممّا سمعت مفصّلاً،فأي نصّ يريد ابن أبي الحديد أجلى وأوضح من هذه النصوص ؟

وأيّ لفظ يطلبه للدلالة على الإمامة أصرح من تلك الألفاظ ؟

وهل يرتاب عاقل أو يختلجه شك في أن قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«علي الإمام أوليائي(4)،وإمام المتقين(5)،وإمامكم من بعدي»(6)يريد به الإمامة المعروفة ذلك الوقت وما بعده؟

وهل يوجد لفظ أجلى فى الإمامة من هذا اللفظ ؟

أليس بقبيح من عاقل أن يقول:ما أراد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بلفظ إمام الإمام،ولا عنى الامامة ؟

أوليس يقال:لو أراد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن ينص على عليّ (عليه السلام)بالإمامة ماذا كان يقول؟

أيحتاج في ذلك إلى أكثر من قوله:«علي الإمام بعدي»أو«إمامكم بعدي»؟

ص: 458


1- مجمع الزوائد 9: 120.
2- تاريخ الطبري63:2،جامع البيان149:19،ذيل آية 214 من سورة الشعراء،شرح نهج البلاغة 211:13،مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب306:1.
3- في مناقب علي بن أبي طالب :125: قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«اتبعوا من اختاره اللّه من بعدي، ومن اشتق له من أسمائه ...«قلت:من هو يا رسول اللّه؟قال:«على بن أبي طالب».
4- حلية الأولياء 67:1.
5- حلية الأولياء 66:1.
6- كشف الغمة 335:3.

فإنّه لا يجد سبيلاً عن أن يقول:بلى يكفيه هذا اللفظ،ولا يحتاج في ذلك إلى منه وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ذلك مراراً فيما روى الرجل،ودع عنك ما رواه غيره زيادة عليه،فهو النص الصريح.

ولو تمحّل ابن أبي الحديد وقال:لا يكفي في ذلك إلا ما نسبنا إلى الإمامية ادعاءه في كلامنا.

قلنا له:إنك قد رويت ذلك كله فيما رويت عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بلفظه أو بمرادفه،ولم يبق إلا أمره بالتسليم على عليّ(علیه السلام)بالإمرة،فإنه وإن كان صحيحاً،لكنك لم تروه،وليس هذا مما يتوقف النصّ الصريح عليه حتّى تحتج على عدم النصّ بعدمه،فإنّك تسلّم أنّ أبا بكر نصّ على عمر نصّاً صريحاً باستخلافه بمجرد قوله:إني عهدت إلى عمر بن الخطاب(1)،ولم تحتج أنت ولا غيرك في نصه عليه إلى أمره المسلمين أن يسلّموا عليه بالخلافة،فليس لك أن تلزمنا بما لم تلزم به نفسك،ولم نلتزم به نحن.

فإنا نقول: إنه وقع ولسنا نقول : إن النص على عليّ(علیه السلام)من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لا يصح إلّا به، فإن ادعيت ذلك فأثبته علينا،وحينئذ قد حصل النصّ الذي لا تختلجه الشكوك من قولك وروايتك،على أنّ الإمامية لا يحتاجون في إثبات النصّ على أمير المؤمنين إلى أكثر من خبر الغدير،وخير المنزلة،كما زعمت الصراحتهما في ذلك، وهل أبقيا شيئاً من معنى الإمامة والخلافة حتى تحتاج الإماميّة في إثباته إلى دليل غيرهما لو كنت تعقل وتنصف؟

ص: 459


1- شرح نهج البلاغة 1: 163.

وهل مشابههما وغيره من الأخبار إلا مؤكد لهما ومقوّ لدلالتهما ومضاعف الصراحتهما أضعافاً مضاعفة.

فسبحان اللّه!ما هذا النص الصريح بعدما طلبت واقترحت؟ألا تدلنا عليه ما هو؟وما صفته؟وما لفظه؟وما معناه حتى نعلمه ونقف عنده،فليس بيننا وبين الحق عداوة،ولم نكن قدمنا عليّاً على غيره من الصحابه في الفضل والإمامة طمعاً دنيا نصيبها ولا رغبة فى ثروة ننالها.

فإنا نعلم وأنتم تعلمون أن الرئاسة في الدنيا قديماً وحديثاً لمن ناواه،والمال والثروة والغلبة فيها لمن عاداه،وإن أولياءه ومحبّيه ما زالوا مقهورين مغلوبين خائفين.

وإنما صرنا إلى ما صرنا إليه لما ساقنا إليه الدليل الواضح والبرهان الميين الذي أقررتم بصحته،فدلونا على ما ينقضه مما اجتمعنا نحن وإياكم على صحته وسلامته من مناقضة بعضه بعضاً،حتى نعدل إليه.

وأما التأويلات الركيكة والاستبعادات الواهنة،والتمحلات الممتنعة،والتعللات الباردة،فليست ممّا يجوز أن يترك لها الدليل،ولا أن يعدل بها عنه.

وبالجملة فما أدري ما هذه النصوص التي تدلّ على الإمامة عند ابن أبي الحديد وأصحابه التى لا يختلجها الشك،ولا تتطرّق إليها الاحتمالات؟وما تلك الألفاظ الصريحة فيها غير تلك الألفاظ المذكورة حتى نعرفها،فإنا لا نفهم لفظاً في الإمامة والخلافة أصرح من لفظ الإمام والخليفة وما رادفهما مما رقمناه ورسمناه،حتى نأتيهم به والصريح جنناهم به من حديثهم،فما أذعنوا به وما ذلك إلا تعدّلات عن قبول الحق ومدافعة للحجّة بالراح.

ص: 460

وما أظن القوم إلا أنهم يريدون منا أن نرقى في السماء،ثم نأتيهم بكتاب من اللّه تعالى يقرؤونه(1)وفيه:إلى عبادي المعتزلة فلان وفلان بأسمائهم،أما بعد،فإنّ رسولى محمّد بن عبد اللّه قد نصّ على علىّ بالإمامة والخلافة،وقد صدق الإماميّة فيما قالوا فيكون حينئذ عند القوم نصاً،وهذا شيء تعذر على الأنبياء والأوصياء،فكيف يمكن مثله لرواة أخبارهم ونقلة آثارهم والمقتبسين من شعاع أنوارهم؟وأظن أنه لو تيسر ذلك لم يقبلوه ولم يصدقوه،ولتأوّلوه ودافعوا فيه وإلا لصدّقوا ما رووه وصححوه عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من ذلك.

[إشارة إلى رواية كلاب الحوأب ]

وكيف يصدقون شهادة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ(علیه السلام)وأمهم عايشة التي هي قدوتهم لروايتهم في شأنها:خذوا نصف دينكم من الحميراء(2)،قد روت في حق علىّ(علیه السلام)ما سمعته قريباً وحضرت وصية النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إليه كما قاله خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين فى شعره الذي مرّ عليك.

وقد خرجت تحاربه، وسمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول لها في حق علىّ(علیه السلام):«استقاتلينه يوماً وأنت ظالمة له،وتنبحك في طريقك كلاب الحوأب»(3)فلمّا سارت إلى البصرة، ووصلت ذلك الماء نبحتها كلابه،فسألت عن اسمه فقيل:ماء الحوأب،فقالت:رُدّوني فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول:كذا وكذا،وذكرت الحديث.

ص: 461


1- هذا اقتباس من الآية 93 من سورة الإسراء(أَو يَكُونَ لَكَ بَيتُ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن تُؤْمِنَ لِرُفيكَ حَتَّى تُنزَّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً تَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتَ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).
2- النهاية لابن الأثير159:3.
3- الحوأب:موضع في طريق البصرة،أنظر وضع في طريق البصرة، أنظر معجم البلدان 314:2.

فلفّق لها طلحة والزبير رجالاً من الأعراب وقد جعلوا لهم جعلاً ورشوة،فشهدوا عندها أنه ليس بماء الحوأب،فقبلت الإنكار بعد الإقرار وصدّقت شهادة الأعراب،وكذّبت شهادة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في ذلك،وفى إخباره إياها بأنها ظالمة لعليّ(علیه السلام)في قتالها إياه(1).

وكتبت إلى حفصة تبشّرها أن عليّاً لمّا بلغه كثرة جمعنا بقي متحيراً،وصار كالفرس الأشقر؛إن تقدّم عقر،وإن تأخر نحر، حتّى قال في ذلك كله سهل بن حنيف الأنصاري:

عذرنا الرجال بحرب الرجال***فما للنساء وما للسباب

أما حسبنا ما أتينا به***لك الخير من هتك ذاك الحجاب

ومخرجها اليوم من بيتها***يعرفها الذنب نسبح الكلاب

إلى أن أتانا كتاب لها***مشوم فيا قبح ذاك الكتاب

وكلّ هذا ذكره ابن أبي الحديد ورواه(2)،ورواه غيره من أهل السير(3)،فروايته وأصحابه شيئاً،والقول بخلافه وردّ شهادة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وقبول شهادة الأسلاف المتبعين للهوى المائلين للشهوات من حملة نصف الدين الذي أخذوه من الحميراء،وكذلك اقتبسوه من إمامهم عمر بن الخطاب،حيث قال يوم الغدير لعلىّ(علیه السلام):هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة-كما رواه

ص: 462


1- في الطبعة الحجرية زيادة :(وقالت:إنه عادلة فيه ردّ شهادة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).
2- شرح نهج البلاغة 14: 13 و 14 .
3- أنظر تاريخ الطبري486:3،سير أعلام النبلاء177:2،أنساب الأشراف: 224،الأنساب للسمعاني286:2،معجم البلدان 314:2،تاريخ اليعقوبي181:2،الروض النذير في معنى حديث الغدير: 285.

أحمد بن حنبل وغيره(1)-ثمّ هو ينكر النص بعد ذلك ويأتي بالحطب ليحرق بيت فاطمة،ويفعل ما فعل ممّا مر ذكره.

فإن قولهم:ليس على عليّ(علیه السلام)بالإمامة نصّ صريح وإنما هو تعريض وتلويح قد استفادوه من كلامه فقلدوه في هيامه وهو من النصف الآخر من الدين الذي يقي بعد نصف الحميراء.

[مناظرة بين عمر وابن عباس]

قال ابن أبي الحديد:روى ابن عبّاس قال:دخلت على عمر في أوّل خلافته وقد ألقى له صاع من تمر على خصفة(2)، فدعاني إلى الأكل،فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتى أتى عليه،ثم شرب من جرّ(3)كان عنده واستلقى على مرفقة له. وطفق يحمد اللّه يكرّر ذلك ثم قال:من أين جئت يا عبد اللّه؟

قلت:من المسجد.قال:كيف خلفت ابن عمك؟فطنته يعني عبد اللّه بن جعفر.

فقلت:خلفته يلعب مع أتراب له.فقال:لم أعْنِ ذلك وإنما عنيت عظيمكم أهل البيت.

قلت:خلفته يمتح بالغرب(4)على نخيلات بني فلان ،وهو يقرأ القرآن.

ص: 463


1- مسند أحمد4: 281،تاريخ بغداد8: 284،شواهد التنزيل 201:1و 203 وج2 : 291،تاریخ مدينة دمشق221:42و 234، المناقب للخوارزمي : 156،البداية والنهاية386:7،خصائص الوحى المبين: 97 و 153.
2- الخصفة بالتحريك:جلة التمر التي تعمل من الخوص كما في لسان العرب72:9.
3- الجز بفتح الجيم وتشديد الراء أنية من خزف،والواحدة جرة.
4- الغرب:الدلو العظيم الذي يتخذ من جلد الثور، أنظر النهاية في غريب الحديث349:3.والمتح أخذ الماء من البئر بالدلوكما في لسان العرب588:2.

قال:يا عبد اللّه،عليك دماء البدن إن كتمتنيها،هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟قلت:نعم.

قال : أيزعم أن رسول اللّه نص عليه ؟ قلت : نعم وأزيدك أنى سألت أبي عمّا يدعيه، فقال: صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه في أمره ذرو(1)من القول ، لا يثبت حجّة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع(2)في أمره وقتاً ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام، لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو ولاها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه أنّى علمت ما فى نفسه،فأمسك وأبى اللّه إلا إمضاء ما حتّم .

قال ابن أبي الحديد: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد(3)في كتابه مسنداً ، انتهى(4).

فانظر إلى قولهم : إنه ليس على إمامة علي(علیه السلام)نص صريح، وإنما هو تعريض وتلويح ، فإنّه نصّ قول إمامهم هنا:«لقد كان من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في أمره ذرو من

ص: 464


1- الذرو:الشيء اليسير ، قال في لسان العرب285:14وأتانا ذرو من خبر، وهو اليسير منه.
2- يربع أي ينتظر له فرصة من قوله: ربع يربع إذا وقف وانتظر كما في النهاية في غريب الحديث187:2.
3- لا يخفى عليك أن هذا الشخص هو أحمد بن أبي طاهر بن طيفور أبو الفضل المؤرخ الخراساني،وهو أول من صنف لبغداد تاريخاً وقد توفى سنة 280 هجرية، وأما كتابه فالمطبوع منه المجلد السادس كما في كشف الظنون 1: 288 وهو غير الخطيب البغدادي مؤلف كتاب تاريخ بغداد الموجود حالياً أي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي المتوفى سنة 463 هجرية والمدفون في مقبرة دار حرب.
4- شرح نهج البلاغة 20:12.

القول، لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً وقوله : «فمنعت من ذلك»لا يريد به الحقيقة بمعنى أنه قال للنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم): لا تفعل لعدم قدرته على ذلك في ذلك الوقت، لكنه أراد أني قلت قولاً شتمت فيه رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)فعضب منه وعلم أنا نخالفه لو صرّح باسم عليّ (علیه السلام)فترك ذلك لعدم الفائدة.

وأشار بهذا إلى قصة الكتاب حيث قال النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)للحاضرين عنده: «هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً»، فقال عمر: أهجر، استفهموه فاختلف الحاضرون.

فقالت طائفة : قربوا إليه يكتب لكم.

وقالت طائفة أخرى:القول ما قاله عمر،فغضب النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)وقال:«قوموا عني،فلا ينبغي عند نبي تنازع».

وهذا الحديث مروي في صحاح القوم كصحيح البخاري(1)وصحيح مسلم(2)وغيرهما(3)،وهو بالغ حد التواتر في الجملة، وألفاظه مختلفة بالزيادة والنقص،وصورة ما ذكرناه متفق عليها،وذكره ابن أبي الحديد بلفظه مرة،وأشار إليه مراراً(4).

ثمّ يقال لابن أبي الحديد:أليس دلّ هذا الحديث على النصّ من قول عليّ(علیه السلام)

ص: 465


1- صحيح البخاري 5: 137 کتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته(صلى اللّه عليه وآله وسلم)وج9:7كتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عنى وج161:8كتاب الاعتصام باب كراهية الخلاف.
2- صحیح مسلم 5: 75 و 76 كتاب الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به.
3- مسند أحمد 1: 325 و 326، مسند الحميدي 1: 243 ح 526 ، السنن الكبرى 3: 433 ح 5852 كتاب العلم ، باب كتابة العلم وج 4: 360 ح7516كتاب الطب باب قول المريض:قوموا عني كنز العمال243:7ح 18771 كتاب الشمائل باب متفرقات الأحاديث التي تتعلق بوفاته(صلى اللّه عليه وآله وسلم).
4- شرح نهج البلاغة 55:2.

إن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)نصّ عليه وقوله حق عندك لأنه مع الحق ومن شهادة عمه العباس له بذلك.

فأين قولك:إنّه لا نص هناك وإنكارك على الإمامية دعواه؟أولست بإنكارك النص كذبت عليّاً(علیه السلام)،ورددت شهادة العباس ولم تكن كذبت الإمامية خاصة ؟

وأين قولك في كثير من المواضع : إن عليّاً لم يحتج على الصحابة بالنصّ وهذا الخبر ينص على ذلك من قول عمر أيزعم أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)نصّ عليه؟ومن قول ابن عباس:نعم؟

أفما في هذا دلالة صريحة على أن علياً(علیه السلام)كان طالباً للخلافة محتجاً على ذلك بنص الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)وأن عمر قد علم ذلك وسمعه وأن ابن عبّاس كذلك، وأن العباس سمعه وشهد له ؟

أفترى باقي الصحابة لم يسمعوا ذلك ؟ ولا ضير أيضاً لو لم يسمعوا إذا كانالخصم قد سمع الدعوى والحجّة عليها، فإنّ أقاويلك فاسدة كاسدة في إنكار ذلک.

ثمّ يقال له أيضاً : أليس في كلام إمامك عمر تناقض بين،لأنه أنكر النص أولاً، وذكر أنّه لانص، وإنما هو شيء من القول لا تقوم به الحجة ولا يقطع العذر، ثمّ قال : ولقد أراد رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في مرضه أن يصرح باسمه، أفليس يدلّ هذا القول على أن عمر قطع أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)يريد التصريح باسم علي(علیه السلام) وتعيينه للخلافة،فأخبر أن النبى(صلى اللّه عليه وآله وسلم)نص عليه بهذه الإرادة.

وإذا علم ذلك فلا يحتاج إلى اللفظ لأن الحاجة إلى اللفظ إنما هي لإبراز ما في الضمير،وإذا كان القصد معلوماً من الإشارة، فلا حاجة إلى اللفظ،وإذا علم عمر

ص: 466

من إشارة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)إلى الكتاب إرادته النص على عليّ(علیه السلام)، فقد علم النص عليه ، فكيف يقول:لا نصّ؛فدلّ قوله على أنّه ردّ على رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)قضاءه ومنعه من إنفاذ حكمه، فكان من العاصين الخارجين عن طاعة الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)بشهادته على نفسه.

ثم يقال له أيضاً: أي ضرر على الإسلام إذا ولي الأُمة أعلمهم بالكتاب والسنة، وأشجعهم وأتقاهم وأقربهم إلى الرسول قرابة حتّى يشفق عمر على الإسلام من ولايته، وهو الذي شيد الإسلام بسيفه، ومهد قواعده بجهاده ؟

وكيف لا تجتمع عليه قريش بعد نص النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)عليه وأنت تزعم أن الصحابة لا يخالفون نص النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟ وكيف تنتقض عليه العرب مع النص عليه من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟

أليس هذا إخباراً صريحاً من عمر عن تعمد قريش المعصية الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)ومخالفته وعدم اعتنائهم بنصه،وأولئك هم الصحابة لا غيرهم؟فأين زعمك أن الصحابة لو سمعوا نصاً من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)لما خالفوه ؟

وهذا إمامك عمر يخبر عنهم، وهو منهم، أنهم ملتزمون بمخالفة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)فی عليّ(علیه السلام) إذا نص عليه وصرّح باسمه فحديثك كلّه نص فيما نقول وشاهد على ما ندعى؛فبطل إنكارك ما قلناه، وكل ما أوردناه على ابن أبي الحديد وارد على عمر حرفاً بحرف.

ثمّ يقال لعمر أيضاً : هب أن قريشاً تخالف نص الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)وتعصيه ، أنت ليم ابتدأت بالمعصية، وبادرت إلى المخالفة، ومنعته من التصريح باسم علي(علیه السلام)، وتحمّلت إثم مخالفة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)،وابتدعتها لقريش وجرأتهم عليها،وطرقتها لهم

ص: 467

و النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)حيّ ؟ ولم وافقتهم وشاركتهم في مخالفة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)و معصيته بعد وفاته في عدولهم عن وصيّه إلى غيره،وكنت أنت المتقدّم لهم في ذلك،وأول الساعين فيه،وأعظم المساعدين عليه؟

وهلّا كنت مساعداً لمن نصّ عليه النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)كما ساعدت غيره؟وكيف تركت من قصد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)توليته وعدلت عنه،وبادرت إلى بزه خلافته،وسارعت إلى نصب من لم يشر إليه النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في هذا الأمر،وادعيت أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)رضية للدين كذباً منك وزوراً ؟

وهلّا عدلت عن ذلك كله إلى طاعة الرسول حياً وميتاً،ولا يضرك عصيان من عصی؟

فما أدري ماذا تصنع المعتزلة؟أيكذبون هذه الأحاديث المروية من الكتب الصحيحة عندهم؟أم يكذبون عليّاً(علیه السلام)في دعواه نص الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)عليه ويردّون شهادة العبّاس بذلك له؟أم يكذبون إمامهم وقدوتهم عمر-الذي افتعلوا في شأنه أن المَلَكَ ينطق على لسانه(1)-في إخباره عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)أنه أشار إلى علي(علیه السلام)بالخلافة في أيام حياته وقصد التصريح به في مرضه،وأن المنع من التصريح باسمه،إنما جاء من قبل عمر معاندة الرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)ورداً لأمره وجرأة على اللّه فى مخالفته ؟

وليت شعري كيف يصدق هؤلاء القوم عمر بن الخطاب في تحريم الحلال وتحليل الحرام ويقبلون قوله ويقدمونه على نص الكتاب والسنة، فإذا أخبر عن نفسه بأنّه عصى وخالف الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)كذبوه ؟

ص: 468


1- أنظر كتاب حديث خيثمة : 124، شرح نهج البلاغة 12: 179، كثر العمال 13: 233.

وهذا يدلك على أنهم قد تحيّلوا على التقليد المحض في مذهبهم،والتصديق الصرف لأسلافهم،فهم مذعنون لهم فيما قالوه، وإن خالف ما رووه وصححوه.

وجملة الأمر أن أبا بكر وعمر وأتباعهما قصدوا إلى إنكار النصوص الواردة عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)على عليّ(علیه السلام)وإخفائها وسترها ما استطاعوا قولاً وفعلاً، والآخرون من معتزلة وأشاعرة ورعاع الناس وأهل الأطماع في الدنيا قلدوهم في ذلك واتبعوهم على غير بصيرة،فتراهم يروون النص الصريح ويقولون:ليس هذا بنصّ صريح، والمنصف المتأمل في أمرهم إذا نظر إلى أقوالهم لا يختلجه الشك،ولا يدخله الريب في أنّ هذه طريقتهم ودأبهم.

وليتهم إذا أخفوا نصوص إمامة علي(علیه السلام)اقتصروا على ذلك، ولم يتعدوا عنه إلى تزويرهم الأخبار في ذمه واختلافهم الأحاديث في فضائل المتقدمين عليه، ليعارضوا بها ما لم يجدوا إلى إخفائه وستره سبيلاً من مناقبه، مثل خطبة ابنة أبي جهل، وأن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)غضب عليه لذلك ، وأنه قال : إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء(1)،إلى غير ذلك مما ذكروا من الأكاذيب، وسيأتي لهذا المبحث كشف وبيان في موضع هو أخلق بذكره من هنا؛ فترقب.

والحاصل أنه لولا فعل الشيخين بأمير المؤمنين وتهجينهما أمره وتصغيرهما قدره،لكانت النصوص المذكورة على إمامته زاهرة أقمارها، مشرقة شموسها، مضيئة أنوارها،تملأ عين كل ،ناظر وتقرع سمع كلّ بادٍ وحاضر ، لكنهما أطفنا تلك الأنوار الظاهرة، وأخفيا تلك الشموس الزاهرة بما أتياه من قبيح الفعل.

ص: 469


1- أنظر شرح نهج البلاغة42:11قال:إنما وضع هذا الحديث عمرو بن العاص تقرباً إلى قلب معاوية.

ولولاهما لم يخالف أمير المؤمنين(علیه السلام)أحد من الناس، ولكان أجل قدراً من أن يضام أو يجترئ أحد من الناس على منازعته.

ولقد صرّح بهذا معاوية بن أبي سفيان في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر، وهو غير منهم على الشيخين، قال في ذلك الكتاب:

فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلما اختار اللّه لنبيه ما عنده؛وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلج حجته(1)قبضه اللّه إليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزه وخالفه على ذلك، اتفقا واتسقا، إلى آخر ما قال من شبه هذا، فلقد صدق وليس بصدوق.

روى هذا الكتاب ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم المنقري(2)، وكان عند ابن أبي الحديد ثقة ثبتاً في الحديث(3)، فأعطى قول معاوية أن مخالفته لعليّ(علیه السلام)ومناواته له إنما كانت لما فعلاه الرجلان من ابتزاز حقه في أول الأمر،فكان ذلك مطمعاً لمعاوية في نيل الرياسة،ومجسّراً له على المخالفة .

ولم يكن ذلك منه لعدم علمه بفضل علي(علیه السلام)، ولا لجهالته بعدم لزوم حقه على الناس في حياة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وما ذاك إلا لما بينه النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)من فضله وما ألزمه الناس من حقه بالقول والفعل، ولا يكون ذلك إلا بنص عليه.

فلعمري إن في قول معاوية إقراراً بالنص من جهة اللزوم، وتصريحاً بمخالفة الشيخين له ، وذلك هو ما نقول ، وهو أعظم حجّة على معاوية حيث صرّح بتعمده

ص: 470


1- أي أظهرها وأثبتها ، أنظر مجمع البحرين425:3.
2- وقعة صفين : 119، شرح نهج البلاغة189:3.
3- قال في شرح نهج البلاغة 2: 206 فهو ثقة ثبت صحيح النقل غير منسوب إلى هوى ولا إدغال، وهو من رجال أصحاب الحديث.

مخالفة الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في خلعه ما لزمه من حق على(علیه السلام)التقليداً لفلان وفلان، فقد ظهر الحق وتوجّه النقض على أبن أبي الحديد وأصحابه، وبطل ما كانوا يعملون.

[ إشكال وجواب ]

فإن قيل : كيف قبحتم على المعتزلة صرف ألفاظ الأخبار عن نصوصها والعدول بها عن ظواهرها، مع أنهم قصدوا بذلك التوفيق بينها وبين فعل الصحابة، وأنتم جوزتم لأنفسكم صَرْفَ ألفاظ القرآن الدالة على صدور المعصية من الأنبياء مثل (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(1)وغيرها عن نصوصها وظواهرها إلى مجازات بعيدة كترك الأولى، وفعل المرجوح ، وغير ذلك فكيف جاز لكم صرف اللفظ عن صريحه إلى بعض محتملاته البعيدة، ولم يجز للمعتزلة ذلك ؟

قلنا: هذه الحجّة هي التي ركن إليها ابن أبي الحديد(2)وقوم من أصحابه، واستطالوا على الإمامية بها، وهي أوهن من بيت العنكبوت.

والجواب عنها أن نقول:إنّا إنّما صرنا إلى ما صرنا إليه من صرف الألفاظ القرآنية الدالة على صدور المعاصي من الأنبياء عن ظواهرها إلى المجازات، مثل ترك الأولى، وفعل المرجوح ، لما ثبت من وجوب عصمة الأنبياء(علیهم السلام)عن مواقعة الذنوب والخطايا كبائرها وصغائرها بالدليل القاطع من العقل والنقل(3).

فلذلك حملنا الألفاظ الواردة في صدور المعاصي منهم على ترك الأولى،

ص: 471


1- طه :121.
2- أنظر شرح نهج البلاغة 157:1.
3- أنظر كتاب تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى وكتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي، وكشف المراد: 471 المقصد الرابع المسألة الثالثة.

وفعل المرجوح،وما أشبه ذلك،وعدلنا بها عن مفادها ظاهراً إلى مجازات بعيدة،طلباً للتوفيق بين الدليلين المعلومين،وهرباً من تناقض الأمرين القطعتين.

ولو لا ما قام من الدليل المقطوع به من العقل والنقل على نزاهة الأنبياء من مباشرة الذنوب وطهارتهم من مقارفة المعاصي والعيوب،لتركنا الألفاظ على حالها، وأبقيناها على مفادها، ولم نحتج إلى تكلف التأويلات.

على أن المعتزلة قد شاركونا في تأويلها ووافقونا على صرفها في غير معانيها،لوجوب عصمة الأنبياء عندهم غاية الأمر إنهم حملوها على الصغائر المكفّرة لوجوب عصمة الأنبياء عندهم عن الكبائر خاصة(1).

أما التأويل فعليه الاتفاق بيننا وبينهم وليس الأمر في الصحابة كذلك، فإنّهم غير معصومين باتفاق الأمة، ولم يكن منهم من قيل بعصمته، إلا صاحبنا الذي نحن بصدد إثبات النصّ عليه.

فلما كان الصحابة غير معصومين قطعاً لم يجز صرف الألفاظ الصريحة عن معانيها،إذا خالفت أفعالهم،ولم يسخ ردّ نصوص الكلمات الصحيحة إذا ناقضت سيرتهم،إذ لا داعي إلى ذلك بعد انتفاء عصمتهم،وجواز وقوع المعصية منهم.

والسهو والغلط عليهم، فهذا فصل ما بين الأمرين والفارق مابين الحالين.

فما ظنك بعد هذا بما إذا كان وقوع العصيان منهم معلوماً،وصدور المخالفة للّه ورسوله منهم متحققاً،أفيجوز تخلية اليد من نص اللفظ المعلوم الصدور ممّن قوله حجّة، وتركه والعدول به إلى غير معناه لتصحيح أفعالهم الباطلة في نفسها،

ص: 472


1- أنظر شرح المقاصد 5: 49.

فنكون قد تركنا المعلوم للموهوم؟حاشا ما يقول بذا ذو عقل، فضلاً عن ذي فضل؛فثبت المراد واندفع الإيراد.

وأمّا مخالفتهم للّه وللرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)فقد سلف ذكر شيء منها،وسيأتيك بيانها على الوجه الأتم.

هذا الكلام على النصوص ، وأما الأمور الصادرة من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في شأن أمير المؤمنين من أفعال وأقوال تنبئ عن عظيم منزلته وجلالة قدره ورفعة شأنه،وتدلّ على إبانته إياه على غيره، وتومى إلى إرادة رئاسته وتشير إلى قصد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم) إظهار إمامته، فهي كثيرة.

ص: 473

[أفعال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)الكاشفة عن عظمة علىّ(علیه السلام)]
[قصة مؤاخاة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)علياً(علیه السلام)]

فأما الأفعال فمنها مؤاخاة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)علياً(علیه السلام)،فإنّه قد اتفق الناس على أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)حين آخى بين أصحابه أخى بين على ونفسه،وصفة المؤاخاة رووها الخصوم عن عبد اللّه بن عمر،وعن عبد اللّه بن العباس.

قال ابن عمر : لما أخى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)بين صحابته جاءه علي بن أبي طالب(علیه السلام)وعيناه تدمعان، فقال:«يا رسول اللّه،أخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟!»فسمعت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)يقول:«أنت أخي في الدنيا والآخرة »(1).

وفي حديث ابن عباس قال: لما آخى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، وهو أنه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)أخى بين أبي بكر وعمر،وآخى بين عثمان بن عفان وبين عبد الرحمان بن عوف، وآخى بين طلحة والزبير، وآخى بين أبي ذرّ والمقداد، ولم يؤاخ بين علي بن أبي طالب وبين أحد منهم خرج علي مغضباً-إلى أن قال: - «أغضبت حين أخيت بين المهاجرين والأنصار، ولم أواخ بينك وبين أحد منهم ؟

أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى،إلا أنه لا نبي بعدي؟ألا من أحبك فقد حُفَّ بالأمن والإيمان،ومن أبغضك أماته اللّه ميتة جاهلية »(2).

ص: 474


1- سنن الترمذي 5: 300 ح 3801 ،تاريخ مدينة دمشق51:42،أسد الغابة 16:4، تهذيب الكمال 126:5،مجمع الزوائد121:9،مناقب ابن شهر آشوب23:2.
2- المعجم الكبير للطبراني63:11:المناقب للخوارزمي:39، كنز العمال 607:11 مجمع الزوائد111»9،وفيها (الجاهلية) بدل من:(جاهلية).

وأما قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)لعليّ «أخي» فهو كثير في الأحاديث المتقدمة والآتية وغيرها(1)،وهذا الفعل من النبى(صلى اللّه عليه وآله وسلم)بعلى(علیه السلام)يدل على أمرين:

أحدهما:أن علياً(علیه السلام)لا يماثله أحد من الصحابة، ولو كان له مثيل أو شبيه منهم لأخى بينه وبينه.

والثاني: أن علياً(علیه السلام)مماثل لرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في صفاته، إلا ما خرج بدليل قاطع،لأن حقيقة الأخوّة رجوع شيئين أو أكثر إلى أصل واحد،فهي إذن مماثلة بين اثنين في صفة أو صفات، فمن النسب مماثلة شخصين في التولد من أبوين معاً أو من أحدهما، وبين المؤمنين مماثلتهم في الإيمان.

وأخوة على(علیه السلام)للرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)ممائلة في صفاته ، ولما كانت غير معينة في شيء ولا مخصوصة بصفة كانت عامة لكل الصفات، إلا ما علم انتقاؤه كالتولد من أبوين أو من أحدهما للعلم بانتفاء ذلك، ومثل النبوّة لختمها بالنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)كما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فبقي ما سواهما من الصفات داخلاً في عموم المماثلة،مثل العلم والعصمة،والأفضلية على الخلق والإمامة-كما قال الحسن البصري-فرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)خير الناس نفساً وخيرهم أخاً(2).

فمؤاخاة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)لعلي(علیه السلام)دالة على أن علياً هو الصالح لممائلته في صفاته،والقيام مقامه بعد وفاته؛لأن من جملة ما ماثله فيه الإمامة،فهو الإمام بعده،وإن من سواه غير صالح لمماثلة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وإلا لأخاه، ولا مستحقاً لمشاكلة على(علیه السلام)،

ص: 475


1- أنظر شواهد التنزيل 150:2، المستدرك على الصحيحين 14:3،، نظم درر السمطين: 94.مجمع الزوائد 121:9،مناقب ابن شهر آشوب 22:2.
2- حكاه في شرح نهج البلاغة 96:4،الغدير في الكتاب والسنة 124:3.

وإلا لأخى بينه وبينه ، فمفاده أنه لا يصلح أحد من الصحابة غير عليّ(علیه السلام)للقيام مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)لفقدان المماثلة في جميع الصفات التي بها يصلح للنيابة عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)في دينه وأمته من بعده.

فهذا الفعل يكاد يلحق بالنصوص الصريحة على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)إن لم يكن من أدلها وأوضحها عند إعطاء التأمل حقه، وليس من أدلة الإشارات والأمارات كما ترى.

والعجب كيف تقتضي صحبة أبي بكر الرسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)في الغار عند أبي عبيدة وعمر إرادة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)تقديمه عليهما بزعمهما ، فيمتنعان من التقدم عليه يوم السقيفة-كما رواه ابن أبي الحديد وغيره من قولهما(1)-مع ما في أمر صحبته الغار من الإيراد وعدم تحقق السلامة من الطعن كما سلف منا إشارة إليه .

ولا تقتضي مؤاخاة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)علياً عندهما إرادة تقديمه على الناس كافة،مع ما فيها من التشريف الظاهر، والتفضيل البيّن، والتنويه الواضح بشأن أمير المؤمنين(علیه السلام)،مع ما يشاركه من الأفعال والأقوال والمدح العظيم، والثناء الجسيم من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)عليه !

ما هذا إلا عناد وتلاعب بالدين، واتباع للشهوات، وإنكار صريح لفضل أمير المؤمنين(علیه السلام)من القوم، فأعاذنا الله تعالى من الغفلات.

وقد تقدّم في هذا كلام في مواضع دعت الحاجة إلى ذكره فيها، وأوضحنا هناك فيه ما ينتفع به هاهنا .

ص: 476


1- شرح نهج البلاغة 10:6.
[مبيت علىّ(علیه السلام)علی فراش رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)]

ومنها : إباتة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)علياً(علیه السلام)على فراشه لما أراد مشركو قريش قتله في داره،ونحن نذكر من ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافي المعتزلي في نقضه على الجاحظ، ونكتفي به، فإنّه قد أتى من ذلك بما لا ينبغي الزيادة عليه.

قال في جواب الجاحظ:ثم يقال له:ما بالك أهملت أمر مبيت على(علیه السلام)على الفراش بمكة ليلة الهجرة ؟ هل نسيته أم تناسيته ؟ فإنّها المحنة العظيمة، والفضيلة الشريفة التى إذا امتحنها الناظر ، وأجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرّقة ومناقب متفاوتة.

وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)مجمع على الخروج من بينهم،والهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته،وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه، وأن يضربوه بأسياف كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها،ليضيع دمه بين الشعوب ويتفرّق بين القبائل،ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش وتحالفوا على تلك الليلة،واجتمعوا عليها.

فلما علم رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده ، وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته، فقال له: «إنّ قريشاً قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي ونم في مضجعي، والتف في بردي الحضرمي ، ليروا أني لم أخرج، وإني خارج إن شاء اللّه تعالى»(1).

ص: 477


1- أنظر سيرة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)لابن هشام334:3،تاريخ الطبري101:2،البداية والنهاية 3: 217، السيرة النبوية لابن كثير230:2.

فمنعه أوّلاً من التحرّز وإعمال الحيلة،وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعاً ،مطيعاً طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابراً محتسباً واقياً له ،بمهجته ينتظر القتل ، ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها ،صابر ولا يبلغها طالب، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

ولولا أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)يعلم أنه أهل لذلك لما أهله،ولو كان عنده نقص صيره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك لكان من اختاره(صلى اللّه عليه وآله وسلم)منقوصاً في رأيه، مقصراً في اختياره ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام، وكلّهم يجمعون على أن الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم)عمل الصواب، وأحسن في الاختيار.

ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل :

منها: أنه وإن كان عنده في موضع الثقة، فإنّه غير مأمون عليه ألا يضبط السرّ، فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الاعداء.

ومنها: إنه وإن كان ضابطاً للسر وثقة عند من اختاره، فغير مأمون عليه الجبن عند مفاجأة المكروه، ومباشرة الأهوال، فيفرّ من الفراش، فيفطن لموضع الحيلة، ويطلب رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)فيظفر به.

ومنها : إنه وإن كان ثقة ضابطاً للسر، شجاعاً نجداً، فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش، لأن هذا أمر خارج عن الشجاعة، إذ قد أقامه مقام المكتوف الممنوع، بل هو أشدّ مشقة من المكتوف الممنوع، لأن المكتوف الممنوع يعلم

ص: 478

نفسه أنّه لا سبيل إلى الهرب، وهذا يجد السبيل إلى الهرب،وإلى الدفع عن نفسه،ولا يهرب ولا يدافع.

ومنها : إنه وإن كان ثقة ضابطاً للسر شجاعاً محتملاً للمبيت على الفراش،فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة والعذاب النازل بساحته،حتى يبوح بما عنده ويصير إلى الإقرار بما يعلمه،وهو أنّه أخذ طريق كذا،فيُطلب فيُؤخذ.

فلهذا قال علماء المسلمين:إن فضيلة علي(علیه السلام)تلك الليلة لا نعلم أحداً من البشر نال مثلها،إلا ما كان من إسحاق وإبراهيم عند استسلامه للذبح(1)،ولولا أن الأنبياء لا يفضّلهم غيرهم، لقلنا: إن محنة على أعظم، لأنه قد روي أن إسحاق تلكاً لما أمره أن يضطجع وبكى على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة، ولذلك قال له : أنظر ماذا ترى ، و حال على(علیه السلام)بخلاف ذلك، فإنه ماتلكا ولا تعتع ولا تغيّر لونه، ولا اضطريت أعضاؤه(2).

إلى أن قال : وذلك لعلم كل واحد منهما أن أحداً لا يصبر على ثقل هذه المحنة ، ولا يتورّط هذه الهلكة إلّا من خصّه اللّه بالصبر على مشقتها والفوز بفضيلتها، وله من جنس ذلك أفعال كثيرة.

ثم قال: إنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش(3).

ص: 479


1- قد كثر الكلام في أن الذبيح إسماعيل أو إسحاق(علیهما السلام)،والموافق للأخبار عن أهل البيت(علیهم السلام)أن الذيح إسماعيل وقد فصل الكلام في ذلك العلامة المجلسي في بحار الأنوار121:12ب6 قصة الذبح وتعيين الذبيح فراجع.
2- شرح نهج البلاغة 13: 258 - 260.
3- شرح نهج البلاغة 261:13.

قال : وقال أهل التفسير: إن قوله تعالى:(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(1)كناية عن علي(علیه السلام)(2)،ثم ذكر إن مكرهم توزيع السيوف على بطون،قريش ومكر اللّه هو منام على على الفراش.

قال:وقد روى المفسرون كلهم أن قول اللّه تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ)(3)أُنزلت فى على(علیه السلام)المبيت على الفراش.

ثم ذكر جوابه عن دعوى الجاحظ أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)قال لعليّ ليلة المبيت : نم فلن يخلص إليك شيء تكرهه، فقال: قال شيخنا أبو جعفر : هذا هو الكذب الصراح،والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها،والمعروف المنقول أنه قال له(4)،ثم أورد الرواية وقال:ولم ينقل ما ذكره الجاحظ،وإنما ولده أبو بكر الأصم،وأخذه الجاحظ،ولا أصل له ولو كان هذا صحيحاً لم يصل إليه مكروه،وقد وقع الاتفاق أنه ضرب وزمي بالحجارة إلى آخر ما قال(5).

أقول:وهذا الأمر إذا تدبره منصف عرف يقيناً أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)ما كان يُؤهل للأمور العظائم إلا أخاه علياً(علیه السلام)،فيشير هذا إلى أن عليّاً هو الذي يقوم مقام النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم)فی عظام الأمور، فهو خليفته في أمره حياً وميتاً، فأين عمر عن هذا ؟ فإذا ذكر لصاحبه الغاريم لم يذكر لصاحبنا الفراش ؟ أليس في تركه ذكر ذلك والإعراض عنه دليل

ص: 480


1- الأنفال:30.
2- جامع البيان 298:9.
3- البقرة : 207 .
4- أي أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)قال له:«اذهب فاضطجع في مضجعي وتعش ببردي ..»إلى آخر الرواية، وستأتيك في الصفحة الأخرى.
5- شرح نهج البلاغة262:13.

واضح على أن قصد القوم صَرْفُ الأمر منه إلى غيره، وإخفاء ماله من الفضل ؟ فكيف يستبعد منهم كتمان النص ومخالفته ؟ وهذا ظاهر لكل فاهم.

[بقاء على(علیه السلام)مكان النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في مكّة]

لا ومنها : إبقاء النبيّ(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً بمكة بعد خروجه لأداء أماناته.قال ابن أبي الحديد:قال شيخنا أبو جعفر:والمعروف المنقول إنّه قال له:«اذهب فاضطجع في مضجعي،وتغش ببردي الحضرمي،فإن القوم سيفقدوني،ولا يشهدون مضجعي،فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا،فإذا أصبحت فلتقم في أداء أمانتي»(1).

وقال ابن أبي الحديد:قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي:لم يُعلم رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أحداً من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة،إلّا علي بن أبي طالب وأبا بكر بن أبي قحافة؛أما علي فإن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أخبره بخروجه،وأمره أن يبيت على فراشه يخادع المشركين عنه،ليروا أنه لم يبرح،فلا يطلبوه حتى تبعد المسافة بينهم وبينه،وأن يتخلّف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الودائع التي عنده للناس، وكان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)استودعه رجال من مكة ودایع لهم ،لما يعرفونه من أمانته،وأما أبو بكر فخرج انتهى(2).

وهذا الفعل من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فيه إشارة ظاهرة إلى أن علياً(علیه السلام)هو القائم مقامه فيما ينوبه، والمؤدّي عنه إذا غاب ما يلزم عليه أداؤه في حضوره،فهو خليفته في جمیع الأمور،وأين أبو بكر وغيره من هذين الأمرين ؟ وأين يقعون من منزلة هذين الموضعين ؟ كلا بل ليس لهما إلا أبو حسن على صلوات اللّه وسلامه عليه.

ص: 481


1- شرح نهج البلاغة 13: 263 .
2- شرح نهج البلاغة 13: 303.
[اسد أبواب المسجد إلا باب على(علیه السلام)]

ومن الأفعال التي أبان بها الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليّاً(علیه السلام)وأظهره بفضل لا يدانيه فيه أحد تركه بابه مفتوحاً إلى المسجد، حين سد أبواب الصحابة، مع إخباره أن ذلك عن أمر اللّه تعالى، والأمر فيه مشهور(1).

قال ابن أبي الحديد الحديث العشرون كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فقال يوماً:«سدوا كل باب في المسجد إلا باب عليّ»،فسُدّت،فقال في ذلك قوم حتى بلغ ذلك رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فقام فيهم فقال:«إن قوماً قالوا في سد الأبواب وتركي باب عليّ(علیه السلام)،إني ما سددت ولا فتحت ، ولكنّي أُمرت بأمر فاتبعته».رواه أحمد في المسند مراراً، وفي كتاب الفضائل(2).

قلت:وفي هذا ما لا يخفى على عارف منصف من الإشارة البيئة إلى إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)، لأن اللّه حيث لم يجوز لأحد من الصحابة مساواته في فتح باب إلى المسجد، ولم يرض بمشاركتهم إياه في ذلك، بل جعله في ذلك شريكاً للرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ومثيلاً.

أفيرضى بعد ذلك لهم أن يتقدموه إلى مقام النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؟أو يجوز أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان أمراء عليه، وحكاماً وأئمة له، كما يزعم الخصم ، وهؤلاء هم الذين لم يرض اللّه بالأمس بمساواتهم إيَّاه في باب شارع إلى المسجد ؟ أترى يعقل ذلك عاقل أو يعتقده رشيد ؟

ص: 482


1- حديث سد الأبواب الشارعة في مسجد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلا باب على(علیه السلام)ما رواه أكثر المحدثين منهم أحمد بن حنبل في المسند369:4وابن أبي عاصم في كتاب السنة 587 ح 1326،والنسائي في الخصائص: 73 والسنن الكبرى118:5،والطبراني في المعجم الكبير 12: 78 والمعجم الأوسط 4: 186 ، والحاكم في المستدرك125:3،وابن أبي الحديد في شرح النهج173:9.
2- شرح نهج البلاغة173:9.مسند أحمد369:4.

وفي الحديث أيضاً دلالة على أن الصحابة كانوا يتهمون النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في علي(علیه السلام)،ولا يسلمون له فيه ما فعل به و ما قال ويطلبون مخالفته في ذلك ما استطاعوا،ولذلك قالوا فيه ما أوجب أن يقوم فيهم ويُخبرهم أن ما فعل بعلي(علیه السلام)من التشريف عليهم عن الله لا عن نفسه، وذلك في حياته وسلطانه، فما ظنك

بعد وفاته.

[مناجاة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً(علیه السلام)]

ومنها : مناجاة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليّاً(علیه السلام)يوم الطائف، روى ابن أبي الحديد عن أحمد ابن حنبل في المسند أنّ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)دعا عليّاً(علیه السلام)فى غزاة الطائف، فانتجاه وأطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ذلك ، فقال قائل منهم : لقد أطال اليوم نجوى ابن عمّه، فبلغه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ذلك، فجمع منهم قوماً ثم قال:إن قائلاً قال:لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه،أما إنّي ما انتجيته ولكن اللّه انتجاه(1).

فانظر إلى ما تضمنه هذا الفعل من الرفعة لعليّ(علیه السلام)،وعلق المنزلة التي تقصر عن تناول أدناها يد المتناول ، أوليس صريحاً في أن علياً(علیه السلام)هو المخصوص بالعناية الالهية بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،والمؤهل من اللّه تعالى للفيوضات القدسية ؟أفليس في هذا إشارة بينة إلى أنه (علیه السلام)هو التالي للنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) الدرجة، والمرشح من اللّه من بعده للرئاسة، فهو الإمام بعده والخليفة ؟

ثمّ إنّ هذا الحديث كسابقه في الدلالة على أن الصحابة يسوؤهم ما كان يفعله النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعلىّ (علیه السلام)من التشريف والتفضيل، وينكرون عليه ما يميزه به من

ص: 483


1- شرح نهج البلاغة173:9وج24:7،كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم : 584 ح 1321، مسند أبي يعلى 4: 118 ، سنن الترمذي 303:5، المعجم الكبير 2: 185 شواهد التنزيل 325:2.

التعظيم والتبجيل ويتهمونه في ذلك، بأنّه لحبه إياه، وميله إليه، لا لأمر اللّه إيّاه بذلك، ولذا قال في جوابهم: «ما انتجيته ولكن اللّه انتجاه».

والمراد أنّ اللّه أمرني بنجواه، وأن اللّه لا ينتجي أحداً، ولا يخلو بأحد ، وإذا كان ينكرون على النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فعله وقوله في عليّ(علیه السلام) ، وهو حيّ فهم إلى إنكار فعله بعد وفاته أقرب ولمخالفة قوله فيه إذ ذاك أشد لزوال ما كانوا يحذرونه من عقوبته لقهره عليهم وقوته.

ويرشدك إلى هذا ترك عمر وأصحابه يوم السقيفة ذكر ما كان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)خص علياً(علیه السلام)من هذا الفعل وشبهه مما هو معلوم عند كلّ الصحابة،بل تركهم ذكر عليّ بالمرّة، وإكثارهم من ذكر الغار،والاحتجاج به لأبي بكر.

فمن كان هذا شأنهم لا يبعد منهم إنكار النص على علي(علیه السلام)،إذ ليس ذلك إلا كإنكارهم مناقبه ذلك اليوم،وقد حصل منهم كما ترى، فأين المستبعدون عليهم

مخالفة نص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على علىّ(علیه السلام)عن هذا وشبهه مما تقدم ويأتي ؟وهل بقي للاستبعاد بعد ذلك مجال ؟ فتأمل.

[مشاركته(علیه السلام)في أمور رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)]

ومنها:اختصاص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً(علیه السلام)في أسفاره وحضره، ومشاركته له في أموره من حلّه وارتحاله ومسيره ونزوله ، وإنّه صاحب رحله في سفره، والملاصق له وقت ،سيره ومستودع سره في كل أحواله وأوقاته، كل ذلك مذكور مشهور وفي التواريخ والسير مسطور، بحيث لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل، ولقد ذكر(علیه السلام)من ذلك ما روي في النهج ، قال(علیه السلام)-وهو يخبر عن حاله مع النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)-:

ص: 484

«وقد علمتم موضعى من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة،وضعني في حجره ، وأنا وليد يضمني إلى صدره،ويكتفني في فراشه،ويمسني جسده،ويشمتي عرفه(1)،وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه،وما وجد لي كذبة في قول،ولا خطلة(2)في فعل».

إلى أن قال:«ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أُمه،يرفع لي كل يوم علماً من أخلاقه،ويأمرنى بالاقتداء به،ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) وخديجة وأنا ثالثهما،أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة،ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه،فقلت:يا رسول اللّه،ما هذه الرنة ؟

فقال:هذا الشيطان قد أيس من عبادته،إنك تسمع ما أسمع،وترى ما أرى،إلّا أنك لست بنبي،ولكنك لوزير،وإنك لعلى خير»(3).

قال ابن أبي الحديد: روى الفضل بن العباس قال: سألت أبي عن ولد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الذكور أيهم كان رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)له أشدّ حبّاً؟ فقال: علي بن أبي طالب. فقلت: سألتك عن بنيه !

فقال : إنه كان أحب إليه من بنيه جميعاً وأرأف ما رأيناه زايله(4)يوماً من الدهر

ص: 485


1- قال ابن منظور في لسان العرب 240:9،العرف [بفتح العين وسكون الراء]الريح طيبة كانت أو خبيثة. والمراد هنا رائحته الذكية والطيبة(صلی اللّه علیه وآله وسلّم).
2- الخطلة واحدة الخطل، والخطل : الخطأ ينشأ من العجلة وعدم الاعتدال في الأفعال، أنظر لسان العرب :209:11.
3- نهج البلاغة 2: 157 وهي الخطبة القاصعة .
4- زايله: فارقه.

منذ كان طفلاً إلا أن يكون في سفر لخديجة، وما رأينا أباً أبر بابن منه بعلي، ولا ابناً أطوع لأب من عليٍّ له(1).

[حتجاجات أم سلمة على عائشة ]

وروى ابن أبي الحديد عن أبي مخنف قال: جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها : يا بنت أبى أُمية، أنتِ أوّل مهاجرة في أزواج رسول اللّه، وأنتِ كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقسم لنا من بيتك، وكان جبرئيل(علیه السلام)أكثر ما يكون في منزلك.

فقالت أم سلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة ؟

فقالت عائشة : إن عبد اللّه أخبرني أن القوم استتابوا عثمان، فلما تاب قتلوه صائماً في شهر حرام، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة، فاخرجي معنا لعل اللّه يصلح هذا الأمر على أيدينا وبنا !

فقالت أم سلمة : إنك بالأمس تحرضين على عثمان، وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً، وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب أي منزلة كانت عند رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أفأُذكرك ؟

قالت:نعم.

قالت:أتذكرين يوم أقبل(علیه السلام)ونحن معه،حتى إذ أهبط من قديد(2)ذات الشمال خلا بعليّ(علیه السلام)يناجيه فأطال، فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك،فعصيتيني،فهجمت عليهما فما لبثت أن رجعت باكية ، فقلت : ما شأنك ؟ فقلت :

ص: 486


1- شرح نهج البلاغة200:13.
2- قديد:بالتصغير موضع قبل :نزله تبع فهبت ريح قدت قيام أصحابه قسمي قديد.

إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان فقلت لعليّ : ليس لي من رسول اللّه إلا يوم من تسعة أيام، فما تدعني يابن أبي طالب ويومي ؟! فأقبل رسول اللّه عَلَي، وهو غضبان مُحْمَرَ الوجه، فقال: «ارجعي وراثك، واللّه لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس ، إلا وهو خارج من الإيمان»،فرجعت نادمة ساقطة ؟

فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

ثم ذكرتها أيضاً حديث:«أيتكنَّ صاحبة الجمل الأزب(1)تنبحها كلاب الحوأب»(2)،وقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لها: «إيّاك أن تكونيها يا حميراء».

قالت عائشة : نعم أذكر هذا (3).

فهذا الخبر يدلّ على اختصاص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وخلواته بعليّ(علیه السلام)دون جميع أصحابه، وأكثر من خلواته بأزواجه، ويصرح بأن مبغض علي(علیه السلام)کائناً كائنا من كان خارج من الإيمان،وإنّ عائشة كانت منطوية على بغضه من ذلك الزمان.

وبالجملة، فشدّة تقريب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً وإدنائه منه، وتخصيصه إيَّاه بالخلو دون الأباعد والأقارب أمر معلوم لا يحتاج إلى كثرة الاستدلال عليه، ولصوق على(علیه السلام)بالنبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من حين كان طفلاً إلى أن اختار اللّه لنبيه دار البقاء معروف.

قال أبو جعفر الإسكافي في ذكر إسلام على(علیه السلام): وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه-إلى أن قال:-بل ما رأيناه إلا ماضياً على إسلامه، مصمّماً في أمره، محققاً

ص: 487


1- قال ابن منظور في لسان العرب313:1«الأزب فى اللغة الكثير الشعر».
2- أنظر المصنف لابن أبي شيبة71:8،غریب الحدیث353:1،سير أعلام النبلاء 198:2، البداية والنهاية236:6،فتح الباري 13: 45. والحوأب موضع في طريق البصرة، معجم البلدان 314:2.
3- شرح نهج البلاغة 6: 217 .

لقوله بفعله، قد صدق إسلامه بفا، ولصق برسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته(1)، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره، وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبياً فقد كان في سبيل الأنبياء سالكاً، ولمنهاجهم متبعاً، وكانت حاله كحال إبراهيم(علیه السلام)، إلى آخر ما قال(2).

ولقد أجاد وأتى من فضل أمير المؤمنين ببعض ما يجب أن يقال فيه.

ومن ألطف الأشياء وأطرفها معتزلي يقول في علي(علیه السلام)هذا القول، حتى يبلغ به إلى مساواته لإبراهيم الخليل، وهذا من عظيم نعمة اللّه على أمير المؤمنين،بأن أظهر فضله على لسان كل ناطق من أهل ولايته،وأهل ولاية غيره.

وهذه الأفعال كلها مشيرة إلى تقديم النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً(علیه السلام)على جميع الصحابة من الأقارب والأجانب،فهو المخصوص بالتعظيم والتفخيم،والمقصود بالرياسة والتقديم،مع ما يضاف إلى ذلك من مواقفه المشهودة، ومشاهده المحمودة .

أفترى يحق مقام الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لغيره؟وهل تظن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن يحل محلّه سواه ؟ كلا ورب الراقصات(3)،إن هذا ما لا يذهب إليه وهم عاقل لبيب، ولا يظنّه فطن أريب.

ص: 488


1- شرح نهج البلاغة 13: 245.
2- شرح نهج البلاغة 249:13.
3- الراقصات : الايل ومنه قول الناصر العباسي : قسماً بمكة والحطيم وزمزم***والراقصات ومشيهن إلى متى بغض الوصي علامة بين الورى***كتبت على جبهات أولاد الزنا من لم يوالي في البرية حيدرا***سیان عبد اللّه صلى أو زنى

وأما الأقوال المشيرة إلى إمامة أمير المؤمنين:

[على(علیه السلام)يشبه الانبياء(علیهم السلام)]

فمنها:ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في مسنده، وأحمد البيهقي في صحيحه عن النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إنّه قال:«من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه،وإلى آدم في علمه،وإلى إبراهيم في حلمه،وإلى موسى في فطنته، وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب(علیه السلام)»(1).

وهذا الحديث دال بظاهره على أفضلية علىّ(علیه السلام)على الأنبياء، لأنه إذا جمع خصال الكل كان أفضل من كل واحد البتة، وهو يكاد يصرح بالنص، إذ المقصد من تشبيه على(علیه السلام)بالأنبياء إظهار ما له من الفضل الفائق على جميع الورى، وإرادة تعظيمه من الأمة وتقديمه على من لم يكن فيه خصلة من تلك الخصال.

وهذا ينافي ما قاله ابن أبي الحديد من جواز جعله سوقة يحكم عليه ذوو الجهل وعادمو الفضل، فسبحان اللّه ما أوهن هذا المقال !

[مدح آخر لعلي ]

ومنها : قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعلي:«والذي نفسي بيده لولا أن تقول طوائف من أُمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمر بملاً من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة». رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند(2).

ص: 489


1- شرح نهج البلاغة168:9،ورواه عن أحمد في المسند القندوزي في ينابيع المودة 393:1 وج 487:2.
2- شرح نهج البلاغة 5: 4 وج 9: 168.

أقول: انظر أيها الناظر المتقن إلى ما احتوى عليه هذا الحديث من الفضل الذي لا يدرك العقل معناه، ولا يبلغ الإدراك إلى الإحاطة بأدناه، حيث دلّ على أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) قد خاف من إظهار ذلك المقال في عليّ(علیه السلام)ذهاب طوائف من الأمة إلى القول بربوبيته، والمصير إلى اعتقاد إلهيته كما قالت النصارى في ابن مريم.

مع أنه قال فيه من الأقوال الجليلة ما شاع ذكره في الآفاق، ورواه على كثرته كل قوم على اختلاف مذاهبهم، فصرّح الحديث أن قدر علي الا فوق ما ظهر له من الفضل، وأن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يقل فيه مقدار ما هو حقه من المنزلة الرفيعة عند اللّه تعالى، ولم يبين من كراماته حقيقة ماله من الفضيلة الجليلة، بل بقى بعد ذكر تلك الفضائل العظام، وبيان تلك المناقب الجسام ما لو قاله فيه لذهب أكثر الأُمة فيه إلى ،العلق، فليت شعري ما هذا المقال بعد تلك الأقوال ؟

ثم أعظم من ذا أنه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يقل إنّ ذلك المقال الذي أخفاه في علىّ(علیه السلام)هو منتهی

فضله، ولا غاية مجده ، فيكون له فيه فوق ذلك المقال أقوال، وعلى ذلك الفضل أفضال، فأين مبلغ العقول من معرفة حقيقة هذا النور القدسي ؟

وأين محل الإدراك من الإحاطة بكنه هذا الجوهر العلوي ؟

أفيسوغ لعاقل يروي هذا الخبر ويدريه أدنى دراية أن يشك في أن المراد منه الإشارة إلى نصب عليّ إماماً؟وأنّه لا يجوز لأحد أن يتقدمه بعد الرسول ولا يخالفه فيما يقول ؟

ولا شك أن من رواه ولم يقل ما قلناه ما عرف معناه، ولا دراه ولا فهم إشارته ولا ،مغزاه كابن أبي الحديد وأصحابه والقوشجي وقبيله وغيرهم، فجوزوا أن

ص: 490

يتقدم على المنصوص عليه بهذا التبجيل من يقول: وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم فأقيلوني(1).

وتارة يقول : إن لي شيطاناً يعتريني فإذا زغت فقوموني(2)،ويترأس عليه من يقول:كل الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال(3)،وكلّ ذا رواه المذكور،ولا شك أن الشبهات أغشت أفهامهم،والفتنة أعمت قلوبهم كما قيل:الفتنة إذا أقبلت أعمت عين البصير(4).

فإن قيل:إن الحديث دال على أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أخفى ذلك القول في على خوفاً القول بالغلو فيه،مع أن هذا القول فيه قد حصل،فذهب قوم إلى القول بربوبيته،وهم الغلاة عليهم لعائن اللّه،وقريب منهم المفوّضة،فماخاف منه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد وقع.

قلت:إن الحديث دال على أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يخف من إبداء ذلك المقال في على(علیه السلام) الذهاب قوم قليلين من الأمة إلى الغلو فيه،وإنما خاف من ذهاب معظم الأمة إلى ذلك.

ص: 491


1- شرح نهج البلاغة 1: 199 وج 2 : 55 وج156:17 . تاريخ مدينة دمشق 304:30 تفسيرالقرطبي262:3.
2- شرح نهج البلاغة 17: 158 ، المعيار والموازنة : 61، مناقب آل أبي طالب430:3.
3- شرح نهج البلاغة182:1،تفسير القرطبي99:5،تفسير الخازن 1: 353 وسبب هذا القول أنه نهى الناس عن زيادة مهور النساء على أربعمائة درهم وأن كل زيادة على ذلك يردها إلى بيت المال فهابه الناس أن يردوا عليه،فقامت إليه إمرأة وقالت:الله يعطينا وأنت تمنعنا،واستدلت بقوله تعالى:(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً )فقال: كل الناس أفقه من عمر.(الآية 20 من سورة النساء).
4- الاحتجاج 246:1 وعنه بحار الأنوار152:32 قالت أم سلمة لعايشة الفتنة إذا أقبلت غضت عيني البصير، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل.

ألا تراه يقول:«لولا أن تقول طوائف من أمتي»ولم يقل طائفة ولا قوم،ومن البين أن الغلاة أقل طرائف الأمة،فما وقع لم يخفه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وما خافه وأخفى لخوفه ذلك المقال لم يقع.

وكيف يريد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الخوف من حدوث هذا القول مطلقاً،حدوث هذا القول مطلقاً،وهو يقول

لعلىّ(علیه السلام):«يهلك فيك اثنان:محبّ غال وعدوّ قال»(1)،وغيره مما يشبهه،فأخبر أنّ قوماً يغلون فيه كما أخبر أنّ قوماً سيعادونه؛ فمراد النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ما ذكرناه، فلا تناقض وللّه الحمد.

[تسليم الملائكة على علىّ(علیه السلام)]

ومنها:ما رواه ابن أبي الحديد عن الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل،عن أنس بن مالك أنّه لمّا كانت ليلة بدر،قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):من يستقي لنا ماءاً؟فأحجم الناس،فقام علي(علیه السلام)فاحتضن قربة، ثم أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فأوحى اللّه إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن تأهبوا لنصر محمّد وأخيه وحزبه، فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه،فلما حاذوا البئر سلّموا عليه من عند آخرهم إكراماً له وإجلالاً.

فقال له رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«لتؤتين يا على يوم القيامة بناقة من فوق الجنة،فتركبها،وركبتك مع ركبتي حتى تدخل الجنة»(2).

قلت : ولهذا قال عبد اللّه بن العباس لما سُئل عن علي(علیه السلام):ما أقول في رجل

ص: 492


1- شرح نهج البلاغة4:5،وانظر عوالي اللثالي 86:4 .
2- شرح نهج البلاغة173:9،فضائل الصحابة759:2ح 1049 ، وانظر تاريخ مدينة دمشق 328:42،كنز العمال 13: 131 ح 36416 ، ينابيع المودة492:2.

كانت له في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة-أو قال:فضيلة(1)-أراد بذلك تسليم الملائكة عليه تلك الليلة،وهم كانوا ثلاثة آلاف ملك بنص القرآن،وتسليم كل ملك عليه منقبة .

فللّه در ابن عبّاس في فطنته ومعرفته بالتأويل،وياله فضلاً حازه أمير المؤمنين(علیه السلام)،لا يسبقه فيه سابق،ولا يلحقه لاحق،وهو به حقيق،ويئيله خليق(2)،فهو المؤهل من اللّه للإمارة، كما يشير إليه تسليم الملائكة عليه،لا ابن أبي قحافة عتيق الجبان،المستتر خوف الزحام بالعريش،ولقد صدق فيه ابن أبي الحديد الذي هو من شيعته ومواليه حيث قال مشيراً إلى علي(علیه السلام)وإليه :

ولا كان يوم الغار يهفو جنانه***حذاراً ولا يوم العريش تستّرا(3)(4)

[الصدّيقون ثلاثة ]

ومنها:ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل، عن

ص: 493


1- مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي37:2،مناقب آل أبي طالب 2: 80، ينابيع المودة 1: 363.
2- في الطبعة الحجرية :(الحقيق وبنيله الخليق)،والمثبت مناسب للسياق .
3- هذا الشيء أي ذهب هفا جنانه أي اضطرب فؤاده والمراد هنا الخوف والوحشة، أنظر لسان العرب 362:15، والعريش ما يستظل به كما في لسان العرب 6: 314 ويوم العريش يوم غزوة بدر، حيث بنى لرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عريشاً، وهذا البيت تعريض لأبي بكر، حيث إنه يوم الغار خاف وطار قلبه والحال إن عليّاً(علیه السلام)ما هفا جنانه وهو على فراش رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد قصده قريش يريدون قتله، فإنه يوم بدر ستر في العريش ولم يبارز الكفار وأمير المؤمنين(علیه السلام)بناتية يقطع رقاب الكفار ويعجل بأرواحهم إلى النار.
4- الهاشميات والعلويات:101، وأوّل القصيدة: جللت فلما دق فى عينك الورى***نهضت إلى أم القرى أيد الفرا وأيد القرا:قوي الظهر.

النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنه قال:«الصدّيقون ثلاثة:حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة سعى، ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه وعلي بن أبي طالب(علیه السلام)وهو أفضلهم»(1).

وهذا الحديث يصدق ما قاله أمير المؤمنين(علیه السلام):«أنا الصديق الأكبر،وأنا الفاروق الأعظم»(2)ويبطل ما قاله القوم في إمامهم من تسميتهم له بالصديق ، ولو كان ما قالوه حقاً لقال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):الصدّيقون أربعة وعدّه منهم.

[شبه علىّ(علیه السلام)بعيسى(علیه السلام)]

ومنها:ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي قال:روى أبو صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي(علیه السلام) قال : قال لى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم): إن فيك لشبهاً من عيسى بن مريم؛أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليست له،وأبغضته اليهود حتى بهتت أُمّه(3).

[هذا وليّ وأنا وليه ]

ومنها:ما قال ابن أبي الحديد روى الناس كافة أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال لعليّ(علیه السلام):«هذا ولیّي وأنا وليّه،عاديت من عاداه وسالمت من سالمه»(4).

ونحو هذا اللفظ، وهو يدل على أن موالاته هي الإيمان، ولذا قال أبو سعيد

ص: 494


1- شرح نهج البلاغة172:9،شواهد التنزيل304:2،تاريخ مدينة دمشق 43:42،كنز العمال 601:11،الدر المنثور262:5،خصائص الوحي المبين: 198 .
2- ينابيع المودة455:1،كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي : 425 .
3- نهج البلاغة 4: 105 وج 5 : 5 .
4- شرح نهج البلاغة 4: 107 ، المعجم الأوسط 92:2 .

الخدري فيما رواه ابن أبي الحديد عن إبراهيم بن هلال الثقفي،في كتاب الغارات:كنا نبور(1)أبناءنا(2)بحبّ عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)؛ فمن أحبه عرفنا أنه منا(3).

وعن عليّ في ذلك الكتاب:«لا يحبنى كافر ولا ولد زنا»(4).

[علىّ(علیه السلام)يقاتل على التأويل ]

ومنها:ما رواه ابن أبي الحديد عن إبراهيم بن ديزل(5)،في كتاب صفّين،مسنداً عن أبي سعيد الخدري،قال:كنا مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فانقطع شسع نعله(6)،فألقاها إلى علي(علیه السلام)يصلحها،ثمّ قال:«إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله».

فقال أبو بكر:أنا هو يا رسول اللّه؟

فقال:«لا».

فقال عمر بن الخطاب : أنا هو يا رسول اللّه ؟

قال:«لا ولكنه ذاكم خاصف النعل، ويد عليّ(علیه السلام)على نعل النبي اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) يصلحها».

ص: 495


1- نيور:تمتحن وتختبر كما في لسان العرب87:4.
2- في الحجرية:(إيماننا)،والمثبت عن المصدر.
3- شرح نهج البلاغة101:4.
4- شرح نهج البلاغة207:3.
5- في الحجرية:(ديزيل)، والمثبت عن المصدر.
6- شع النعل أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدّد في الزمام كما في لسان العرب180:8.

قال أبو سعيد : فأتيت عليّاً فبشرته بذلك ، فلم يحفل به كأنه شيء قد كان علمه من قبل(1).

وهذا الحديث مشهور،وهو ظاهر أي ظهور فى النص على إمامة على(علیه السلام)،لأن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)جعله التالي له في المنزلة، وذلك لأن المنازل ثلاث:منزلة النبوة وهو مقام الوحي،ومنزلة الإمامة وهي مقام التأدية عن الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وتبليغ أحكام الكتاب إلى الأمة، ومنزلة القبول والطاعة، وهي منزلة الرعيّة.

فبين النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن منزلة التأدية عنه والتبليغ وتبيين معاني الكتاب لعليّ(علیه السلام)،فهو الإمام بعده المبلغ أمته أحكام التنزيل، والمفصل لهم مجملات الوحي، وهو المقاتل الناس على قبولهم تأويل القرآن منه، وتصديقهم ما يقول عنه، كما أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قاتل الناس ليقروا بأن القرآن منزل من اللّه تعالى عليه ويصدّقوا بأنه كلام اللّه ليس بمختلق ولا مكذوب؛فرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مؤسس الملة وعليّ(علیه السلام) موضح أحكام الشريعة ومبين تأويل الكتاب والسنة، فهو الخليفة بعده على الأمة.

فأين يذهب ابن أبي الحديد عن هذا، ولقد فهم شيخاه ما أشار إليه النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في هذا الحديث من الإمامة،فكل تمناها وطلبها،ولو لم يعقلوا ذلك من قصد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ما تطاول كلّ واحد منهما إلى ذلك،وسأل النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنا هو يا رسول اللّه،فواعجباه كيف كان الشيخان أفهم من هذا المعتزلي الجدلي المحقق ؟! والخبر رواه أكثر المحدثين.

ص: 496


1- شرح نهج البلاغة 3: 206، مسند أحمد 3: 303، سنن الترمذي 5: 298، مسند أبي يعلى341:2،المستدرك على الصحيحين138:2،وج 3: 123 وج 4: 298 ، السنن الكبرى للنسائي128:5،خصائص أمير المؤمنين(علیه السلام): 98.
[صلاة الملائكة على رسول اللّه وعلى(علیه السلام)]

ومنها:ما رواه ابن أبي الحديد من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إن الملائكة صلُت صلّی وعلى عليّ سبع سنين، ولم تصلّ على أحد من الناس»(1).

وذلك أنهما كانا يعبدان اللّه ، ولم يكن على وجه الأرض من يصلّي اللّه غيرهما، فشريك النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في صلاة الملائكة عليه هو الأحق بمقامه.

[دفاع علىّ(علیه السلام)عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)]

ومنها:مارواه ابن أبي الحديد عن أبي عمر محمّد بن عبد الواحد الزاهد،وعن محمّد بن حبيب في أماليه،وقال بعد نقله: روى هذا الخبر جماعة من المحدثين، وهو من الأخبار المشهورة ، وإنّه وجده في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق،

قال:وسألت شيخي عبد اللّه بن سكينة عن هذا الخبر، فقال: خبر صحيح.

و هو أنه لمّا انهزم الناس عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يوم أحد وأفردوه، فوقاه عليّ بنفسه،وقداه بمهجته، وجالد الكتائب دونه حتى قتل من قتل منهم، ورجعوا ناكصين(2).

فقال جبرئيل لرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إن هذه المواساة،عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى»؟

فقال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«وما يمنعه وهو منّي وأنا منه».

ص: 497


1- شرح نهج البلاغة230:13وح219:7،شواهد التنزيل2: 184 تاريخ مدينة دمشق 39:42 وج 36:56، أسد الغابة 18:4 .
2- قال فى النهاية في غريب الحديث116:5:«النكوص الرجوع إلى وراء،وهو القهقرى نكص ينكص فهو ناکص».

فقال جبرئيل(علیه السلام):«وأنا منكما»(1).

فانظر إلى هذا المقام ، وعظم هذا المرام ، بحيث إن الملائكة الكرام عجبت من صبره وبلائه ومواساته النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في ذلك الموقف المهول،الذي ذهلت فيه العقول،وإن جبرئيل سيّد الملائكة يطلب الإضافة إليه،كما يطلب ذلك من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،ويعد ذلك من جملة مفاخره،وقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)«هو منّي وأنا منه». أليس فى هذا كله ما يدل أو يشير إلى أن علياً هو المستحق لمقام النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)والأولى به دون كل أحد ؟

[لا فتى إلّا على ]

ومنها:ما في الخبر المذكور أيضاً قال:وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء،لا يُرى شخص الصارخ به ينادي مراراً:

*لا سيف إلّا ذو الفقار،ولا فتى إلّا علي*

فسئل رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عنه فقال: «هذا جبرئيل»(2).

فانظر أيضاً إلى هذه المنقبة الجليلة التي لا يشك من سمعها أن علياً هو المخصوص بعناية اللّه بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،والمستحق لمنزلته دون غيره من الصحابة،وكيف يتوهّم رشيد أن الرجل الذي كان بالأمس نوّه اللّه بذكره وأمر الملائكة أن تُعلن بمدحه لمشاركته الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في صعاب الأمور وخوضه دونه غمرات

ص: 498


1- شرح نهج البلاغة 10: 182 رج 13: 261 وج 25:14،تاريخ الطبري 2: 197، المعجم الكبير للطبراني318:1،تاريخ مدينة دمشق76:42،وج168:60.
2- شرح نهج البلاغة 29:1وج 2 : 211 وج 219:7 وج10 : 182وج 11: 217وج 13: 293 ،ج251:14،تاريخ الطبري197:2،تاريخ مدينة دمشق 201:39وج71:42،البداية والنهاية 54:4وج6:6.

الحروب، والذي لا فتى في نصرة الدين وجهاد المشركين، وإعزاز الإسلام وحماية الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وطاعة اللّه مثله، ولا سيف في كل ذلك كسيفه،والمخصوص من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالتقديم في كل شأنه، والتفضيل على أقاربه وأعوانه والمعدود عنده للنوائب،والمُذخر لكشف الشدائد يكون بعده مؤخراً

عن مقامه،ومباعداً عن محله،يحكم البعداء والزعانف عليه في ماله ودمه ؟

أو يتصوّر أنّ اللّه بذلك راض ورسوله؟حاشا وكلا بل كل ما ذكرناه من تنويه اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)باسم علي(علیه السلام)وإعلان الملائكة بمدحه لبيان أنه خليفة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بعده فى أمته،كما أنّه الباذل نفسه أمته، كما أنّه الباذل نفسه في حياته في طاعة اللّه وطاعته،والصابر المجاهد في إعلاء كلمته، وهذا ظاهر لمن كان له قلب أو ألقى السمع، وهو شهيد.

وهذا الحديث وما قبله ببطلان ما رواه بعض الخصوم من أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بكت(1)عليّاً(علیه السلام)ذلك اليوم حين قال لفاطمة:أمسكي هذا السيف غير ذميم،فنظر إليه رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)مختضباً بالدم فقال:لئن كنت أحسنت القتال اليوم فلقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير ذميم(2)،فإن هؤلاء وإن كانوا ثبتوا ولم يفزوا ، كما فرّ المشايخ الثلاثة، لكن ليس جهادهم في ذلك اليوم وغيره يشبه جهاد أمير المؤمنين أو يدانيه كما علمت من قول جبرئيل(علیه السلام)في أمر المواساة، حتى يقول النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ :إن كنت فعلت كذا،فلقد فعل فلان وفلان مثل فعلك.

ص: 499


1- التبكيت: التقريع والتعنيف.
2- شرح نهج البلاغة 35:15 عن الواقدي .

و من هذا الوجه يضعف حمل الخبر على إرادة إظهار فضل المذكورين دون تبكيت على(علیه السلام)ليرتفع التعارض، اللهم إلا على وجه بعيد، واللّه أعلم.

[دعاء النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لحفظ علىّ(علیه السلام)]

ومنها:قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في علّی(علیه السلام)يوم برز لعمرو بن عبد ودّ:«برز الإيمان كله الكفر كله». رواه ابن أبى الحديد،وهو خبر مشهور،بل متواتر(1)،وما ظهر من شدة حبّ النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ(علیه السلام)،فقد روى ابن أبي الحديد وغيره أن رسول اللّه إذ ذاك ما زال رافعاً يديه مقمحاً(2)رأسه نحو السماء،داعياً ربه قائلاً:«اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر،وحمزة يوم أحد،فاحفظ عَلَي اليوم عليّاً،ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين»(3).

قال ابن أبي الحديد:قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل:أيما أعظم منزلة عند اللّه:علي أم أبو بكر ؟

فقال: يابن أخي، واللّه لمبارزة علي(علیه السلام)عمرواً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار، وطاعاتهم كلّها وتربى عليها، فضلاً عن أبي بكر وحده.

قال: وروى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة مالك بن السعدي ، قال : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبد اللّه،إن الناس ليتحدّثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه،فيقول لهم أهل البصيرة:إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل، فهل أنت محدّثي بحديث عنه أذكره للناس؟

ص: 500


1- شرح نهج البلاغة285:13.
2- أي رافعاً رأسه كما في غريب الحديث لابن سلام 303:2.
3- شرح نهج البلاغة 19: 61، وج 13: 284 .

فقال:يا ربيعة،وما الذي تسألني عن علي؟وما الذي أحدثك عنه؟والذي نفس حذيفة بيده،لو وضع جميع أعمال أُمة محمد (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في كفة الميزان،منذ بعث اللّه محمّداً إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال علي(علیه السلام)في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها .

فقال ربيعة:هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد، ولا يحمل ، إني لأظنه إسرافاً يا أبا عبد اللّه !!

فقال حذيفة:يا لكع(1)،وكيف لا يحمل،وأين كان المسلمون يوم الخندق،وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه،فملكهم الهلع والجزع ودعا إلى المبارزة،فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله،والذي نفس حذيفة بيده،لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى هذا اليوم،وإلى أن تقوم القيامة،انتهى(2).

أقول:وفي هذه القصة،وقول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«برز الإيمان كلّه»من الإشارة إلى تقديمه على القوم ما لا يخفى على ذي حجى،ولا يحتاج إلى تبيين وتوضيح،وهل كان شبه علي(علیه السلام)وعمرو ذلك اليوم إلا داود وجالوت، كما قاله جابر بن عبد اللّه أو غيره من الصحابة(3).

فهذه الأفعال والأقوال كلّها شواهد حق على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)وأدلة صدق على أنّه خليفة ربّ العالمين لا يكاد يرتاب فيها إلا من جانب الإنصاف، وسلك فج الاعتساف.

ص: 501


1- «لكع»:الذي به الحمق واللؤم، كما في العين 202:1.
2- شرح نهج البلاغة 19: 61.
3- الإرشاد للشيخ المفيد102:1،إعلام الورى382:1،كشف الغمة 204:1.
[علي(علیه السلام)والنصراني الشهيد بصفّين]

وممّا يقوّي ما ندّعيه ما رواه ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم في كتاب صفين، عن عمر بن سعد(1)عن مسلم الأعور، عن حبة العربي، ورواه أيضاً عن إبراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب صفّين بهذا الإسناد أيضاً عن حبة العرني،قال نصر: فروى حبّة أن علياً لما نزل على الرقة نزل بموضع يقال له : البليخ(2)على جانب الفرات، فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعليّ (علیه السلام):إن عندنا كتابا توارثناه من آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم،أعرضه عليك، فقرأ الراهب الكتاب:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم،الذي قضى فيما قضى وسطر فيما كتب، إنه باعث في الأميين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة،ويدلهم على سبيل اللّه؛لا فظاً ولا غليظاً،ولا صخاباً في الأسواق،ولا يجزي بالسيئة السيئة،بل يعفو ويصفح،أمته الحمّادون الذين يحمدون اللّه على كل نشر وفي كل صعود وهبوط(3)،تذل ألسنتهم بالتكبير والتهليل والتسبيح،وينصره اللّه على من ناواه.

ص: 502


1- هو عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي-وكثيراً ما يروي عنه نصر بن مزاحم في كتاب صفين،وقد توهّم بعض أنه عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الحسين بن على(علیهما السلام)،وغفل أن من البعد بمكان أن يروي نصر بن مزاحم المتوفى سنة 202 هجرية عن عمر بن سعد المقتول سنة 66 هجرية ، أنظر میزان الاعتدال198:3و 199 الترجمة 6116 و 6118.
2- في الحجرية: (البلخ ) بدل من: (البليخ) والرقة بفتح أوله وثانيه وتشديده وأصله كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء وهي مدينة مشهورة على الفرات بينها وبين حزان ثلاثة أيام،معدودة في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي، معجم البلدان58:3. والبليخ:نهر بالرقة يسقي قرى ومزارع وبساتين الرقة. معجم البلدان61:1.
3- النشر بالفتح والتحريك المتن المرتفع من الأرض كما في مجمع البحرين312:4،والصعود والهبوط بفتح أولهما ما ارتفع وما انخفض من الأرض.

فإذا توفاه اللّه اختلفت أمته من بعده،ثم اجتمعت،فلبثت ما شاء اللّه، ثم اختلفت، فيمرّ رجل من أمته على شاطئ الفرات، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،ويقضى بالحقِّ،ولا يركس الحكم(1)،الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت عنده أهون من شرب الماء على الظمآن،يخاف اللّه في السرّ وينصح له في العلانية،لا يخاف في اللّه لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره، فإن القتل معه «شهادة».

ثم قال: أنا مصاحبك فلا أفارقك حتّى يصيبني ما أصابك،فبكى(علیه السلام)ثمّ قال :الحمد للّه الذي لم أكن عنده منسيّاً ، الحمد اللّه الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار. فمضى الراهب معه ثم ذكر أنه أصيب بصفين، وأن علياً(علیه السلام)صلّى عليه ودفنه وقال:هذا منا أهل البيت واستغفر له مراراً(2).

فهذا الحديث مصرّح بأن علياً(علیه السلام)هو المخصوص بالذكر بعد النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بتعيينه فی كتب اللّه السابقة المنزلة على الأنبياء فيكون هو الخليفة من بعده، لأن ذكره معه يشير إلى أنه وصيه، والقائم مقامه من بعده.

ثم انظر إلى ما وصفه اللّه به في هذا الكتاب مما لا يوازن به وصف ولا يبلغه إلا الأنبياء المرسلون،وهو أدلّ دليل على كون المراد من الكتاب بيان أنه(علیه السلام)خليفة النبی(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ووصيّه ، إذ لم يذكر غيره على الخصوص بشيء مما يشير إلى معنى الإمامة بالمرّة، فليسوا عند اللّه بخلفاء النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقيناً

ص: 503


1- الركس: رد الشيء مقلوباً ، وفي كتاب صفين ولا يرتشي في الحكم .
2- شرح نهج البلاغة 3: 205 و 206، وقعة صفين : 147.

وأنت إذا نظرت ما رسمناه وتدبرت في جميع ما حررناه نظر متأمل متبصر قطعت وجزمت بأنها نصوص صراح، متضحة أي اتضاح في إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)،وعلمت يقيناً أن إنكار النصّ عليه ممّن روى تلك الروايات أو اطلع عليها في الكتب الصحيحة عنده ناش عن رأي غير سديد، وعقل غير رشيد، كما صدر من أمثال ابن أبي الحديد، ونحن نسأل اللّه التوفيق إلى ولاية مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام)،وترغب إلى اللّه في التسديد.

[ إشكال وجواب ]

فإن قيل: إنكم رويتم هذه الأحاديث من كتب خصومكم، واعتمدتم عليها في مطلبكم، فإن يكن ذلك لوثاقتهم عندكم، فيلزمكم قبول روايتهم في أئمتهم ، وإن لم يكونوا عندكم موثوقاً بهم، فليس لكم أن تعتمدوا على شيء مما رووه، وليس لكم أن تأخذوا من روايتهم ما يوافق مطلوبكم دون ما يخالفه، لأنه ترجيح بلا مرجح، ومن قبلته لك لابد أن تقبله عليك.

قلنا:أما اعتمادنا على الروايات المروية في كتب خصومنا الواردة في مناقب أئمتنا(علیهم السلام)فليس لأنهم عندنا ،ثقات، ولا أن روايتهم مقبولة، ولا لأنها موافقة المطلوبنا، بل لأنّها مذكورة بألفاظها ومعانيها، وأمثال أمثالها مما لا يحصى كثرة في كتب أصحابنا المعتبرة من الطرق الموثوق بها، والأسانيد الموثوق برجالها ولو لم تكن موجودة عندنا ومروية من طرقنا ومثبتة في صحاح أخبارنا وكثير منها منقول بالتواتر لضربنا عنها الذكر صفحاً ، ولما عرجنا عليها ، ولا التفتنا إليها.

وهذا بخلاف روايتهم في أئمتهم، فإنّهم يختصون بنقلها، وليس في رواية أصحابنا منها عين ولا أثر ، فلذا نحن لا نقبلها لعلمنا بعدم وثاقة ناقليها ، بل علمنا باصطناعهم إياها.

ص: 504

على أن أكثرها أو جميعها ينتهى إسناده إلى من علمت منهم العداوة الأمير المؤمنين(علیه السلام)وأولاده وذويه،وتزويره الأحاديث في عيبهم وذمّهم، فهو يضيف إليها اختلاق أخبار في فضائل المتقدمين عليهم، لتكون معارضة لروايات فضائلهم ومناقبهم ليبلغ غرضه من تهجينها عند الرعاع والغوغاء، وينال بذلك الإنعام الوافر عند أعدائهم، كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص وعبد اللّه بن عمر، وعروة بن الزبير وعايشة وسمرة بن جندب وأضرابهم وكل هؤلاء مصرحون ببغض أمير المؤمنين(علیه السلام)والانحراف عنه. وقد ذكر ابن أبي الحديد في بيان المنحرفين عن عليّ(علیه السلام)هؤلاء وجماعة كثيرة من أمثالهم، وذكر أقوالهم الشنيعة فيه، كل ذلك في شرح النهج(1)وذكر تفصيل ذلك وبيانه قبله أبو جعفر الإسكافي(2).

ومنها(3)ما اصطنعه أتباعهم من القراء والفقهاء والمحدثين لمثل أغراضهم،كما أسلفنا بيانه في ردّ حجّة القوشجي، فمن هذه حالهم كيف يصح الثقة برواياتهم.

على أن كثيراً منها مدخول فيه،وكثير منها لائح عليه آثار الوضع،وجلّها مخالف لصريح القرآن،وقد أمرنا من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بردّ ما خالف القرآن من الأخبار المروية عنه وقد طعن فيها جماعة من الخصوم بالوضع، بعضهم صريحاً وبعضهم لزوماً من حيث لا يشعرون، وطعن ابن أبي الحديد في بعضها صريحاً.

ص: 505


1- شرح نهج البلاغة 74:4-103.
2- ذكر ذلك أبو جعفر الإسكاني في كتابه المعيار والموازنة كما في صفحة 17 و 31.
3- عطف على قوله:(على أن أكثرها).

والكلام في هذا قدمنا منه ما فيه الكفاية في إبطال احتجاج القوشجي بجملة منها، فهذا هو الفارق بين قبولنا رواية الخصوم في فضائل أئمتنا(علیهم السلام)، دون روايتهم في فضائل أصحابهم، وهو المرجح للقبول والرد.

وأما ذكرنا إيَّاها من كتبهم فلانا فى مقام خصام، والحجة ما لم يعترف بصحتها الخصم لا تثبت بها الدعوى، ولا يقطع بها العذر ، فلذا اخترنا نقلها من كتبهم من باب إلزام كلّ إنسان بما التزم به، ولعدم قدرتهم على إنكارها، إذ لا سبيل لهم إليه إلا بإنكار تلك الكتب،وفي إنكارها إبطال مذهبهم،واستيصال طريقتهم،ونقض حجتهم،وذلك هو المطلوب؛فاندفع الاعتراض بعون اللّه.

تتميم و تكميل:

[الروايات الدالة على إمامته(علیه السلام)مما لم يذكره ابن أبي الحديد]

و إذ قد انتهينا إلى هنا فلنذكر طائفة من الأحاديث والأخبار الدالّة على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)،والمشيرة إلى ذلك، والمصرحة بفضله، مما لم يذكره ابن أبى الحديد، ولا أشار إليه وننقلها من كتب الموافقين له في إنكار النص على أمير المؤمنين، والمشاركين له في تقديم غيره عليه ومن رواياتهم، لأنا التزمنا في أول إيراد النصوص أن لا نورد منها إلا ما رواه المعتزلي المذكور بلفظه أو بمعناه ومضمونه،أو أشار إليه،فلذا لم نذكر في تلك المباحث إلا ما كان كذلك.

على أنا لم نقطع بأنا قد استقصينا جميع ما ذكره المشار إليه في كتابه ممّا يدخل تلك الأبواب،ولم نجزم بأن ما ذكرناه وما سنذكره إن شاء اللّه تعالى في مواضعه الآتية جميع ذلك لطول الكتاب وتفرّقها فيه،فلعلنا أغفلنا ذكر شيء منه

ص: 506

إن نسينا وقت جمع هذا الكتاب موضعه، لكنّي أرجو إنّما(1)لم نذكره-إن كان-لا يكون خارجاً عن حدود الأنواع المذكورة، فنذكر هنا ما أشرنا إليه :

فمن ذلك ما رواه الطبراني سليمان بن أحمد بسنده عن عبد اللّه بن حكيم الجهني قال : قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلي في عليّ ثلاثة أشياء، ليلة أسرى بي بأنّه سيّد المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين»(2)(3).

وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره في حديث طويل عن أبي ذر أنه قال : أيها الناس من عرفنى فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بهاتين، وإلا صُمتا ، يقول في علي بن أبي طالب: «قائد البررة، قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله»(4).

وروى الترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال:ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه إلا ببغضهم عليّاً(علیه السلام)(5).

ص: 507


1- (ما) هنا بمعنى الذي .
2- الغر: جمع أغْرَ من الغزة وهي بياض في الوجه،يريد بياض وجوههم بنور الوضوء والتحجيل بياض يكون في قوائم الفرس الأربع أو ثلاث منها أو في رجليه قل أو كثر بعد أن يتجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين، ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان،فيكون المراد أن المؤمنين يأتون يوم القيامة ومواضع وضوئهم بيض، ويقودهم أمير المؤمنين(علیه السلام).كما في مجمع البحرين 3: 303 وج 1: 465 .
3- المعجم الصغير88:2،ونقله الحاكم في المستدرك 137:3 بسند آخر وقال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
4- تفسير الثعلبي80:4،ذيل الآيات 55 وما بعدها من سورة المائدة.تفسير القرطبي267:1،الدر المنثور 6: 66.
5- سنن الترمذي299:5 ح 3800 وانظر شواهد التنزيل248:2،تاریخ بغداد 13: 7131/155،تاریخ مدينة دمشق284:42.

وفي كتاب الخصائص عن العباس بن عبد المطلب قال:سمعت عمر بن الخطاب،وهو يقول: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب إلا بخير، فإنّي سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول في على ثلاث خصال،وددت لو أن لي واحدة منهن، كل واحدة منهنّ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس،وذاك أني كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح،ونفر من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،إذ ضرب النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على كفّ علي بن أبي طالب وقال:«يا علي،أنت أوّل المسلمين إسلاماً، وأنت أوّل المؤمنين إيماناً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، كذب من زعم أنه يحبني، وهو يبغضك.

يا علي، من أحبك فقد أحبني، ومن أحبني أحبه اللّه تعالى ومن أحبه اللّه تعالى أدخله الجنّة، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغضه اللّه تعالى وأدخله النار »(1)(2).

وروى ابن خالويه في كتاب الآل(3)عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لعليّ:«حبّك إيمان، وبغضك نفاق، وأوّل من يدخل الجنة محبّك ، وأوّل من يدخل النار مبغضك »(4).

وعن ابن عباس أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)النظر إلى علي بن أبي طالب فقال له:«أنت سيّد

ص: 508


1- انظر كنز العمال 132:13- 36392 .
2- في الحجرية زيادة:(أقول :غير خفي على من له إطلاع أن الراوي من القسم الثاني وبيان ذلك مضى منه شيء، ويأتي منه شطر).
3- كتاب الآل لابن خالويه أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن حمدان الهمداني المتوفى سنة 370 هجرية،أنظر الذريعة 1: 180/37.
4- حكاه عنه في نور الأبصار: 90 وكشف الغمة 1: 90 .

في الدنيا، سيد في الآخرة،من أحبك فقد أحبني، ومن أبغضك فقد أبغضني، وبغضك يغضب اللّه تعالى،فالويل كل الويل لمن أبغضك»(1).

[قصة الحارث الفهري]

وروى الثعلبي في تفسيره أن سفيان بن عيينة سُئل عن قول الله عزّ وجل:(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذَابٍ واقع)(2)فيمن نزلت ؟

فقال للسائل:لقد سألتني عن مسألة، ما سألني أحد عنها،حدثني أبي عن جعفر بن محمّد، عن آبائه أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لمّا كان بغدير خم،نادى الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد علىّ(علیه السلام)وقال:«من كنت مولاه فعلی مولاه».

فشاع ذلك فطار في البلاد، وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)على ناقة له، فأناخ راحلته ونزل عنها ، وقال : يا محمّد ، أمرتنا عن اللّه عزّ وجلّ أن نشهد أن لا إله إلا اللّه،وأنك رسول اللّه فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم فقبلناه، وأمرتنا بالحج فقبلناه ، ثمّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضيعي(3) ابن عمك تفضّله علينا فقلت:«من كنت مولاه فعلي مولاه»فهذا شيء منك أم من عند اللّه عزوجل ؟

فقال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):والذي لا إله إلّا هو إنَّ هذا من عند اللّه عزّ وجلّ، فولى الحارث

ص: 509


1- شرح نهج البلاغة171:9،المستدرك على الصحيحين128:3،تاریخ بغداد261:4،تاریخ مدينة دمشق292:42.
2- المعارج: 1.
3- الضبع:العضد كلها والجمع أضباع وقيل:أوسطها بلحمها يكون للإنسان وغيره، تقول: أخذت يضيعي فلان فلم أفارقه، ومددت بضبعيه إذا قبضت على وسط عضديه، كما في تاج العروس 425:5.

ابن النعمان يريد راحلته،وهو يقول:اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء،أو ائتنا بعذاب ألیم،فما وصل إلى راحلته حتى رماه اللّه عزّوجلّ بحجر سقط على هامته،فخرج من دبره فقتله،فأنزل اللّه عزّ وجلّ:(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعِ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِج)(1)(2).

[اللّه عزّوجلّ يباهي الملائكة بعليّ(علیه السلام)]

قال في المناقب، مختصر مناقب الحافظ أبي عبد اللّه البلخي الشافعي، وهو يذكر حديث مبيت عليّ(علیه السلام)على فراش النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ليلة الغار، وقال بعض أصحاب الحديث : وأوحى اللّه تعالى إلى جبرئيل وميكائيل أن انزلا إلى علي(علیه السلام)واحر ساه فی هذه الليلة إلى الصباح،فنزلا إليه وهما يقولان:بخٍ بخٍ من مثلك يا علي قد باهى اللّه بك ملائكته(3).

قال : ونقل الإمام حجّة الإسلام أبو حامد الغزالى فى كتابه إحياء علوم الدين : إن ليلة بات على بن أبى طالب على فراش رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أوحى اللّه إلى جبرئيل وميكائيل : إنّى أخيتُ بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبى طالب أخيتُ بينه وبين محمد قبات على فراشه يُفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، فاهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوّه.

فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه ينادي فيقول : بخٍ بخٍ من مثلك يابن أبي طالب، يباهي اللّه بك الملائكة، فأنزل اللّه عزّوجلّ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن

ص: 510


1- المعارج: 1-3.
2- تفسير التعلبي35:10،وانظر شواهد التنزيل381:2.
3- حكاه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة 1: 294 .

يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)(1)،انتهى(2).

أقول: وهذا الخبر كما ترى يدل على فضل لا يعلم منتهاه، ولا يعرف الأحد من أولياء الله مثل هذه الفضيلة، وهو يكذب ما ولّده أبو بكر الأصم في حديث المبيت،من أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال لعلیّ(علیه السلام):« لن يصل إليك منهم أمر تكرهه»(3)إذ لو كان الأمر هكذا لم يكن عليّ(علیه السلام)فدى النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بنفسه، ولا آثره بالحياة،ولم يكن شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه،إذ لا يكون ذلك إلّا إذا كان يجوز القتل على نفسه فى مبيته، بل يظنه فيكون قد سخى بنفسه في فداء النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،أما إذا كان قاطعاً بالسلامة لإخبار النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إياه بعدم وصول مكروه من المشركين إليه فلا شيء من ذلك بحاصل، لأنه إذ ذاك لم يقدم على مخوف، ولا وطن نفسه على ملاقاة المكروه، فلا مشقة عليه في ذلك التكليف.

ومن كان هذا شأنه لا يستحق شيئاً من المدح، فكيف يباهي اللّه به سادات الملائكة ويفضّله عليهم كما ترى؟

فدل المدح من الله تعالى لعليّ(علیه السلام)على أن تلك الزيادة مكذوبة لتهجين هذه الفضيلة، حيث لم يكن للشيخ الكبير ما يدانيها تلك الليلة، فلم يباه اللّه به ملكاً ولم تنزل بالتصريح بمدحه ،آية والحقِّ لا يخفى.

ووجه آخر وهو أنه قد صح في رواية الخصوم من غير خلاف أن المشركين كانوا يرجمون عليّاً بالحجارة تلك الليلة، حتّى أثر في جسده(4)وهذا لا شك

ص: 511


1- البقرة : 207.
2- إحياء علوم الدين 3: 238، ونقله عنه الشبلنجي في نور الأبصار: 96، وانظر شواهد التنزيل 123:1،أسد الغابة25:4.
3- شرح نهج البلاغة262:13شواهد التنزيل 281:1، أسد الغابة25:4.
4- أنظر شرح نهج البلاغة 13: 263، شواهد التنزيل 1: 128.

مكروه وصل إليه من المشركين ، ولو كان النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أخبره بعدم وصول مكروه إليه منهم إذن ما وصل إليه من ذلك شيء، إذ لا تجوز المخالفة في إخبار النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)؛فبطل ما قاله الأصم وتابعوه، وباللّه التوفيق.

[مدائح أخرى لعليّ(علیه السلام)]

وروى البيهقي أن علياً(علیه السلام)الظهر من البعد فقال النبي:«هذا سيّد العرب».فقالت عائشة:ألست سيّد العرب؟ فقال:«أنا سيد العالمين وهذا سيد العرب»(1).

ورواه الحاكم عن ابن عباس بلفظ:«أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب»(2).

وروى الترمذي والحاكم وصححه عن بريدة قال : قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«إن اللّه أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم».قيل:يا رسول اللّه،سمهم لنا.قال:علي منهم-يقول ذلك ثلاثاً-وأبوذر والمقداد وسلمان(3).

أقول:هؤلاء محبو على(علیه السلام)حقاً ومحبّ على بحبّه اللّه ويأمر بمحبته .

وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن حبيش بن جنادة قال:قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«علىٌّ منّي وأنا من علي ، ولا يؤدي عني إلا علي»(4).

وروى الطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إذا غضب لم يجترئ أن يكلمه إلا علي(علیه السلام)(5).

ص: 512


1- حكاه ابن ميثم فى النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة: 151 عن عائشة.
2- المستدرك على الصحيحين124:3وقال في ذيله: هذا حديث صحيح الإسناد.
3- سنن الترمذي 299:5،المستدرك على الصحيحين130:3،سنن ابن ماجة53:1.
4- مسند أحمد164:4،سنن ابن ماجة 44:1 .
5- المعجم الأوسط للطبراني318:4، المستدرك على الصحيحين130:3،مجمع الزوائد116:9.

وأخرجا بإسنادٍ حسن عن ابن مسعود أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال: «النظر إلى وجه علي عبادة»(1).

وروى أبو يعلى والبزّار عن سعد بن أبي وقاص قال :قال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«من أذى عليّاً فقد آذاني »(2).

وروى الطبراني بسند حسن عن أُمّ سلمة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه قال:«من أحبّ عليّاً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب اللّه، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه»(3).

وروی أحمدوالحاكم وصححه عنها رضي اللّه عنها قالت:سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول:«من سبّ عليّاً فقد سبني»(4).

وأخرج الملا في سيرته أنّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أرسل أباذر ينادي عليّاً(5)،فرأى رحى تطحن فى بيته،وليس معها أحد، فأخبر النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بذلك،فقال:يا أباذر،أما علمت أنّ للّه ملائكة سياحين فى الأرض قد وكلوا بمعاونة آل محمّد(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)»(6).

ص: 513


1- المعجم الكبير للطبراني76:10،المستدرك على الصحيحين141:3،وقال في ذيله: هذا ، حديث صحيح الإسناد وشواهده عن عبد اللّه بن مسعود صحيحة، الجامع الصغير 2: 681 ح 9319، كنز العمال 11: 601 ح 32895، نور الأبصار:89.
2- مسند أبي يعلى الموصلي 2: 109، مسند أحمد 3: 483، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي502:7ح45،مجمع الزوائد 129:9.
3- المعجم الكبير للطبراني380:23،مجمع الزوائد132:9،قال وإسناده حسن، کنز العمال 11 :622 ح 33024 .
4- مسند أحمد 6: 323 فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل736:2 ح 1011،خصائص أمير المؤمنين(علیه السلام):99 ،السنن الكبرى133:5،المستدرك على الصحيحين131:1،الجامع الصغير608:2،مجمع الزوائد 9: 130 ، كنز العمال 602:11 - 32903.
5- كلمة:(عليّاً) أضفناها من المصدر.
6- أخرجه فى ذخائر العقبى : 98 عن الملا في سيرته.

أقول:هذه المنقبة إن لم تكن من المعاجز كرة الشمس وما أشبهها،فهي من الكرامات العظيمة الدالة على فضل لا يُدرك كنهه،وهل سمعت بولى من أولياء اللّه البررة وأنبيائه الكرام تطحن الملائكة بُره،وتخدمه في مؤونة طعامه غير على(علیه السلام)؟!

وأخرج الطبراني في الأوسط عن أُم سلمة قالت: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يقول:«علي مع القرآن والقرآن مع عليّ ،لا يفترقان حتى يردا على الحوض »(1).

قال في الإسعاف وقد روي من طرق عديدة منها صحيح وحسن، أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال لعلىّ(علیه السلام):«أشقى الناس رجلان،الذي عقر الناقة،والذي يضربك على هذه-وأشار إلى يافوخه(2)-حتّى تبتل منه هذه- وأشار إلى لحيته»(3).

وروى البيهقي والديلمي عن أنس أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال:«عليّ يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا»(4).

أقول: وظنّي أنّ القوم لمعارضة هذا الخبر وضعوا حديث:سراج أهل الجنة عمر(5).

ص: 514


1- المعجم الأوسط 5: 135، المعجم الصغير255:1،الجامع الصغير177:2 ح5594،كثر العمال11: 603 ح 32912 .
2- اليافوخ : هو الموضع الذي يتحرّك من وسط رأس الطفل، ويجمع على يأفيخ كما في النهاية في غريب الحديث 5: 291 لسان العرب 3: 5.
3- إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار:174،مسند أحمد263:4،المستدرك على الصحیحین143:3،تاریخ مدينة دمشق549:42،مجمع الزوائد 136:9.
4- رواه في كنز العمال 611:11 ح 32917 وح 32957 عن البيهقي في فضائل الصحابة، ينابيع المودة97:2عن البيهقي والديلمي ،الجامع الصغير178:2 ح 5599 .
5- نقله في مجمع الزوائد74:9وقال في ديله :رواه البزار وفيه عبد اللّه بن إبراهيم بن أبي الغفاري وهو ضعيف، ونقله الفتنى فى تذكرة الموضوعات: 94 وقال: موضوع.

وروى الديلمي عن ابن عباس أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال:«علي منّي بمنزلة رأسي من بدني»(1).

أقول : لينظر الناظر في هذا المقام العلي الذي ثبت لمولانا على من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حيث جعله بمنزلة الجزء من بدنه، ثمّ لم يرض له إلا بأشرف الأعضاء كلها،أفترى أن هذا الكلام ليس بنص على إمامته ؟ ولا حث على تقديمه في خلافته؟ بل واللّه هو من أصرح النصوص على ذلك وأوضحها، إذ لا يعقل أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يرضى بتقدّم أحد من الناس على من كان منه بمنزلة الرأس من البدن،وهذا ظاهر لمن وعى.

قال أبو علي:صح عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أنّه سُئل عن بعض أصحابه فقال قائل:فعلي،فقال:«إنما سألتني عن الناس،ولم تسألني عن نفسي»(2).

وروى الترمذي والحاكم أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال:«إنّ الجنّة لتشتاق إلى ثلاثة:علي وعمار وسلمان»(3).

وروى البخاري ومسلم أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وجد علياً مضطجعاً في المسجد،وقد سقط رداؤه عن شقه، فأصابه تراب، فجعل النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يمسحه عنه ويقول:«ثم أبا تراب، قم أبا تراب ، فكانت هذه الكنية أحب الكنى إليه لأنه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)كناه بها»(4).

ص: 515


1- نقله في كنز العمال 11: 603 ح 32914 ، الجامع الصغير 2: 177 ح 5596 ، المناقب للخوارزمي144ح167،كشف الغمة 1: 300.
2- مجمع البيان311:2،مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب58:2.
3- سنن الترمذي332:5ح 3884 ، وقعة صفين: 333، المستدرك على الصحيحين137:3،شرح نهج البلاغة235:11، تاريخ مدينة دمشق411:21.
4- صحيح البخاري140:7،صحيح مسلم 7: 124 باب فضائل الصحابة من فضائل علي بن أبي طالب(علیه السلام)، السنن الكبرى446:2،تاريخ مدينة دمشق18:42البداية والنهاية 3: 303.

وروى أحمد في المناقب عن علي(علیه السلام)قال:«جلس النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في حائط فضربني برجله فقال:قم فوالله لأرضينك،أنت أخي،وأبوك والدي،فقاتل على سنتي،من مات على عهدي فهو في كنز الجنّة،ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه ومن مات يحبّك بعد موتك ختم اللّه له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت»(1).

وروى الطبراني أنّ علياً(علیه السلام)قال: «إنّ خليلي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قال:يا علي،إنك ستقدم على اللّه أنت وشيعتك راضين ومرضيين، وتقدم أعداؤك غضاباً مقمحين»(2)(3).

[آیات واردة في علىّ(علیه السلام)]

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل،بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي،عن علي(علیه السلام)إنّه قال:«إنّ اللّه تعالى إيّانا عنى بقوله:(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(4)فرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)شاهد علينا،ونحن شهداء اللّه على خلقه،وحجته في أرضه،ونحن الذين قال تعالى:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطاً)(5)»(6).

وروى أبو علي عن أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني قال : حدثنا أبو القاسم

ص: 516


1- فضائل الصحابة 3: 815 ح 1018 .
2- قال في العين 3: 55 المقمح: الدليل وهو الذي لا يكاد يرفع بصره، وفي قوله تعالى(فَهم مقْمَحُونَ)به أي خاشعون لا يرفعون أبصارهم، والآية في سورة يس: 8.
3- المعجم الأوسط187:4،شواهد التنزيل 2: 461 مجمع الزوائد131:9،کنز العمال 156:13 ح 36483.
4- البقرة: 143 .
5- البقرة: 143 .
6- شواهد التنزيل 1: 119، وورد أيضاً في كتاب سليم بن قيس: 464، مناقب آل أبي طالب 283:2.

عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني،قال أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازي،قال:أخبرنا أبو بكر الجرجاني،قال:حدّثنا أبو أحمد البصري قال:حدثنا أحمد بن عمار بن خالد قال:حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : حدثنا قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لمّا نزلت(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(1)الآية، قال:«اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة،ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي».

وقال:«من كنت مولاه فعليّ مولاه ،اللهم وال من والاه،وعاد من عاداه،وانصر من نصره واخذل من خذله».

قال الربيع بن أنس: نزلت الآية في المسير في حجة الوداع.

قال عليّ بن إبراهيم من أصحابنا:كان نزولها بكراع الغميم(2)،فأقامها رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بالجحفة(3).

وروى الثعلبى فى تفسيره بإسناده مرفوعاً إلى ابن عباس قال:نزلت هذه الآية :(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ)(4) في علي(علیه السلام)، أمر النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن يبلغ فيه، فأخذ رسول اللّه بيد على(علیه السلام)فقال:«من كنت مولاه فعلى مولاه،اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(5).

ص: 517


1- المائدة: 3.
2- كراع الغميم:موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة، والغميم موضع له ذكر كثير في الحديث والمغازي،وقال نصر: الغميم موضع قرب المدينة بين رابع والجحفة كما في معجم البلدان 214:4.
3- مجمع البيان274:3 ذيل آية 3 من سورة المائدة، شواهد التنزيل 201:1، تفسير القمي 162:1.
4- المائدة: 67.
5- تفسير الثعلبي92:4ذيل آية 67 من سورة المائدة.

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه الأنصاري،قالا:أمر اللّه محمّداً أن ينصب عليّاً للناس ويخبرهم بولايته، فتخوّف رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أن يقولوا:حابى ابن عمّه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى اللّه إليه هذه الآية ، فقام بولايته يوم غدير خم(1).

وروى الواحدي في كتابه المسمّى ب-«أسباب النزول»عن أبي سعيد الخدري قال:نزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ)(2)يوم غدير خم(3).

قال بعض الحنفية:هكذا ذكره الشيخ محي الدين النووي(4).

وروى أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة والأسود،عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) قال لعمّار:«يا عمّار،سيكون بعدي هنات(5)حتّى يختلف وله السيف فيما بينهم،وحتى يقتل بعضهم بعضاً،وحتّى يبرأ بعضهم من بعض،فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب؛فإن سلك الناس كلهم وادياً، وسلك علي وادياً فاسلك وادي علي(علیه السلام)، وخلّ عن الناس.

يا عمّار، إن عليّاً لا يردّك عن هدى، ولا يدلك على ردى(6).

يا عمار،طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة اللّه »(7).

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال:حدثني محمد بن القاسم بن أحمد،

ص: 518


1- شواهد التنزيل 1: 255.
2- المائدة: 67.
3- أسباب النزول: 135 .
4- ينابيع المودة 1: 360.
5- هنات أي شدائد وأمور عظام كما في النهاية في غريب الحديث 5: 279 .
6- أي لا يدلك على سقوط وهلاك ، أنظر الصحاح3355:6.
7- مجمع البيان453:4،مناقب آل أبي طالب7:3،ينابيع المودة 1: 384 وج 287:2.

قال :حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد، قال: حدثنا محمد بن صالح العرزمي ، قال : حدثنا عبد الرحمان بن أبي حاتم ، قال : حدثنا أبو سعيد الأشجع،عن أبي خلف الأحمر ، عن إبراهيم بن طهمان،عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة،عن سعيد بن المسيب،عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآية :(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)(1) قال النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم):«من ظلم عليّاً مقعدي(2)هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوّتي ونبوة الأنبياء قبلي»(3).

أقول: وهذا الحديث نص في المطلب وصريح في المقصد قد دلّ بصراحته على أن من تقدّم على عليّ(علیه السلام)في خلافة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فهو بمنزلة من جحد نبوّته ونبوة من قبله من الأنبياء، ولا شك أن تقدّم الثلاثة عليه كان بالقهر والغلبة كما أسلفنا بيانه،ويأتي ما هو واضح فيه إن شاء اللّه،ودعوى الخصوم رضاه معلومة البطلان بالبيان والبرهان.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:(كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(4)مع علىّ(علیه السلام)وأصحابه(5).

وروي مشهوراً في قوله تعالى:(رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ)(6)إنه يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب(وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ)

ص: 519


1- الأنفال: 25 .
2- أي منصبي.
3- شواهد التنزيل271:1، الاعتقادات للمفيد : 103، مجمع البيان453:4.
4- التوبة: 119.
5- الدر المنثور 3: 290 وفيه : ( مع علي بن أبي طالب علیه السلام) بدل من:(مع عليّ(علیه السلام)وأصحابه)وقال: أخرجه ابن مردويه عن ابن عبّاس،وأخرجه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام)،وانظر مجمع البيان 140:5.
6- الأحزاب: 23 .

إنّه يعني علي بن أبي طالب(1). وفي رواية بزيادة: عبيدة بن الحارث بن المطلب شهید بدر(2).

واتفق المفسرون أن علياً(علیه السلام)هو المؤمن في قوله تعالى:﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ)(3)(4).

فأمير المؤمنين(علیه السلام)هو الصادق على الإطلاق، وهو وأصحابه الثلاثة(5)هم الصادقون بما عاهدوا اللّه عليه وما بدلوا تبديلاً كغيرهم.

وهو المؤمن وهو البرّ في قوله تعالى:(إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافوراً)(6)(7).

وهو الذي عنده علم الكتاب في قوله تعالى:«قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(8) كما عن ابن مسعود وأبي عبد الرحمان السلمي(9).

ص: 520


1- شواهد التنزيل5:2،التبيان318:5وج 8: 329 مجمع البيان140:5.
2- الصواعق المحرقة: 80.
3- السجدة: 18.
4- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 3: 756 ح1043، أسباب النزول للواحدي: 235، شواهد التنزيل1 : 572 شرح نهج البلاغة18:3، الدر المنثور186:5،لباب النقول: 155 .
5- والمراد بأصحابه الثلاثة: حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب.
6- الإنسان:5.
7- تفسير الثعلبي10: 98،شواهد التنزيل391:2،المناقب للخوارزمي : 272،الدر المنثور 299:6،تفسير القمي398:2،التبيان211:10،مجمع البیان 10: 209.
8- الرعد:43.
9- شواهد التنزيل 1: 400،وحكاه ابن الجوزي في زاد المسير251:4 عن ابن الحنفية، تفسير القرطبي 9 : 336، مجمع البيان 6: 54.

ويشهد لذلك ما روي عن علي(علیه السلام)أنه قال:«واللّه ما نزلت آية إلا وقد علمت فيمن نزلت،وأين نزلت،وعلى من أنزلت،إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً».رواه ابن سعد(1).

وروى هو وغيره عن أبي الطفيل قال:قال علي(علیه السلام): اسلوني عن كتاب اللّه فإنّه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل»(2).

أقول:أنى يداني هذا من يقول:أي أرض تقلني،وأي سماء تظلّني إذا قلت فى كتاب اللّه بالرأي(3)؟فيخبر عن نفسه أنه لم يعرف معاني الكتاب،ولم يستعلم أحكامه من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،ثمّ هو يتقدم على عالم الكتاب في إنفاذ أحكامه فياللّه للعجب العجاب.

قال في المناقب:سأل معاوية خالد بن معمّر(4)فقال له:علام أحببت عليّاً؟فقال:على ثلاث خصال:على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى عدله إذا حكم(5).

ص: 521


1- الطبقات الكبرى333:2،أنساب الأشراف: 99 ح 27،حلية الأولياء67:1،شواهد التنزيل45:1،تاريخ مدينة دمشق 398:42،كنز العمال 128:13ح 34404.
2- الطبقات الكبرى338:2،تاريخ مدينة دمشق 398:42.
3- المقصود به أبو بكر كما في المصنف لابن أبي شيبة 7: 179 ، جامع البيان 1: 55 ح 64، الفصول في الأصول للجصاص60:4،شرح نهج البلاغة 12: 33،تفسير القرطبي 19: 223 ذيل آية 31 من سورة عبس،تفسير ابن كثير36:1.
4- فى الحجرية:(بن يعمر) والمثبت موافق لكتب الحديث والرجال.
5- رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 16: 208 بتفاوت يسير، أمالي الطوسي : 594 ح1329.
[وصف ضرار بن ضمرة لعلىّ(علیه السلام)]

وروي مشهوراً أن معاوية قال الضرار بن ضمرة:صف لي علياً.فقال:اعفني.فقال:أقسمت عليك لتصفه.

قال : أما إذا كان ولابد ، فإنه واللّه كان بعيد المدى،شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته.

وكان غزير الدمعة ،طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب(1)،وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه،ونحن واللّه مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلّمه هيبة له،يعظم أهل الدين،ويقرب المساكين.

لا يطمع القوي في باطله،ولا ييأس الضعيف من عدله،وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه،وقد أرخى الليل سدوله،و غارت نجومه،قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم(2)،ويبكي بكاء الحزين،ويقول:يا دنيا،غري غيري،أبي تعرضت؟أم إلي تشوقت ؟ هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وعيشك حقير، أو من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فبكى معاوية وقال:رحم اللّه أبا الحسن،كان واللّه كذلك،فكيف حزنك عليه یا ضرار؟فقال:حزن من ذبح ولدها في حجرها،فهي لا يرقى دمعها،ولا يخفى فجعها(3).

ص: 522


1- قال الخليل في العين38:6،طعام جنب:أي لا أدم فيه، ورجل جشب المأكل وقد جنب جشوبة أي لم يبال ما أكل بغير آدم، ويقال: الجشب ما لم ينخل من الطعام مثل خبز الشعير وشبه.
2- التململ:التقلقل من الألم، والسليم الملسوع ، أنظر مجمع البحرين233:4.
3- تاريخ مدينة دمشق401:24،شرح نهج البلاغة224:18،الأمالي للصدوق: 724 ،خصائص الأئمة:71،العمدة:،16 ذخائر العقبی:100 ، خصائص الوحي المبين: 33.
[سلوني قبل أن تفقدوني ]

وفي مختصر مناقب البلخي الشافعي لبعض الشافعية قال : روي عن علي أنه قال في مجلسه العام:«سلوني قبل أن تفقدوني،سلوني عن علم السماء فإنّي أعلمها زقاقاً زقاقاً وملكاً ملكاً».

فقال رجل من الحاضرين:حيث ادعيت ذلك يابن أبي طالب، أين جبرئيل هذه الساعة ؟

فغطس قليلاً وتفكر في الأسرار، ثمّ رفع رأسه قائلاً:«إنّي طِفْتُ السماوات السبع فلم أجد جبرئيل وأظنه أنت أيها السائل».

فقال السائل:«بخّ بخّ من مثلك يابن أبي طالب،وربك يباهي بك الملائكة،ثمّ سجی(1)عن الحاضرين»(2).

أقول:ويصدق هذا الخبر قول أمير المؤمنين في بعض خطبه:«إنّي بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض»(3)،ويزيل استبعاد النفوس الضعيفة عنه ما أوضحناه في مسألة توقف الإمامة على النص،حيث أقمنا هناك أدلة الحكمة والشرع على جواز الإلهام لأولياء اللّه.

ص: 523


1- أي اختفى، أنظر النهاية في غريب الحديث344:2.
2- نقله في إحقاق الحق 7: 621 عن الحافظ أبي عبد اللّه محمد بن يوسف بن محمد البلخي الشافعي في كتابه على ما في تلخيصه ص 16 طبع الحيدري يبمباي وعن ابن حسنويه الحنفي الموصلي في كتابه در بحر المناقب المخطوط ص 10 عن مقاتل بن سليمان.
3- نهج البلاغة2 : 130 الخطبة : 189 ، شرح نهج البلاغة 13: 101.
[أقضاكم علىّ(علیه السلام)]

وروي مستفيضاً أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كان جالساً في المسجد،وعنده أناس من الصحابة إذ جاءه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)رجلان يختصمان،فقال أحدهما:يا رسول اللّه،إن لى حماراً ولهذا بقرة،وإن بقرته نطحت حماري فقتلته.

فبدر رجل من الحاضرين فقال:لاضمان على البهائم.

فقال رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):«اقض بينهما يا على».

فقال عليّ(علیه السلام):«أكان الحمار والبقرة موثقين أم كانا مرسلين، أم أحدهما موثقاً والآخر مرسلاً؟»فقال:لا،كان الحمار موثقاً والبقرة مرسلة وصاحبها معها.

فقال علي(علیه السلام):«على صاحب البقرة الضمان»،وذلك بحضرة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فقرّر حكمه وأمضى قضاءه(1).

قال بعض العامة : هناك قال النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لأصحابه :«أقضاكم علي»(2).

قلت:ما أشبه هذه الواقعة بواقعة الحرث والغنم، وما أشبه حكم أمير المؤمنين فيها بحكم سليمان بن داود،وله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)مثل ذلك ما تضيق صدور الأرقام عن سطره، وتعيى رؤوس الأقلام عن نقله ونظمه ونثره ، وتكل الألسن عن ذكره ونشره، وقد ذكرنا جملة من الأخبار التي تدخل في سلك هذا الباب في ردّ احتجاج القوشجي على أفضلية الثلاثة .

وجميع ما أثبتناه من الأحاديث والآيات هنا بين ناص على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)بعد النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)و مصرح بخلافته، وبين ظاهر فيها، ومشير إليها،

ص: 524


1- نور الأبصار:88،إسعاف الراغبين : 171 .
2- والقاتل الشبلنجي في نور الأبصار: 88 والصبان في إسعاف الراغبين: 171 .

وكلّها تصرّح بأفضليته، وتنطق بعلو شأنه وجلالته، فهي لما ذكرناه من النصوص المرتبة فى الفصول السابقة معاضدة، ولما حررناه من أدلة الإشارات والظواهر مساعدة.

وكلها أو جلّها مأخوذ من الكتب التي يقرّ بصحتها خصمنا المعتزلي،كما يعترف بثبوتها الأشعري،لتكون حجة على كلّ منهما فيما ندعيه من النص الجلي على سيدنا ومولانا عليّ ؛ فإنكاره من الفريقين عناد غير خفيّ ،ومن يهدي اللّه فهو

المهتدي.

ص: 525

[ادعاء ابن أبى الحديد فقدان نص الولاية ]
[خبر السقيفة ]

احتج ابن أبي الحديد على فقدان النصّ بحديث السقيفة، وأن علياً(علیه السلام)لم يحتج إذ ذاك بالنص، ونقل الخبر من كتاب الجوهري،وكان يثني عليه بأنه من الثقات المأمونين،قال:ونحن نذكر خبر السقيفة:روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة قال:أخبرنا أحمد بن إسحاق،قال:حدثنا أحمد بن سيّار،قال:حدثنا سعيد بن كثير الأنصاري أن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لمّا قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا:إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)قد قبض وساق الرواية، وهي طويلة .

فذكر فيها قول سعد بن عبادة للأنصار، وإجابتهم إلى توليته، ثم اختلافهم عليه الاستبداد بالأمر واختيارهم ، لأن يكون منهم أمير ومن قريش أمير ، ومضي أبي بكر وعمر وأبي عبيدة إلى السقيفة واحتجاجهم على الأنصار بقرابتهم من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وعَرْضَ أبي بكر على عمر وأبي عبيدة المبايعة لواحد منهما وإبائهما التقدم عليه، لأنه ثاني اثنين في الغار، ولأن رسول اللّه أمره بالصلاة زعماً، وكلام الأنصار ومخاصمتهم لأبي بكر وصاحبيه، ورضى عمر وأبي عبيدة بخلافة أبي بكر وموافقة بشير بن سعد الخزرجي - وكان من سادات الخزرج - لهما حسداً لابن عمّه سعد بن عبادة،وموافقة أسيد بن حضير رئيس الأوس لهم حسداً لسعد أيضاً ومنافسة له أن يلى الأمر ، وإن الأوس كلهم بايعوا أبا بكر لما تابعه رئيسهم وحمل سعد بن عبادة، وهو مريض إلى منزله وامتناعه من بيعة أبي بكر وعمر،

ص: 526

واجتماع بني هاشم ومعهم الزبير إلى علي بن أبي طالب(علیه السلام)واجتماع بني أُمية إلى عثمان وبنى زهرة إلى سعد وعبد الرحمان بن عوف، وقول عمر لهم لما أقبل من السقيفة مع أبي بكر ومن بايعه هناك:مالي أراكم حلقاً(1)، قوموا فبايعوا أبا بكر،فقد بايعه الناس،وبايعه الأنصار،فقام عثمان ومن معه وسعد وعبد الرحمان ومن معهما فبايعوا أبا بكر.

قال : وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة معهم أسيد بن حضير وسلمة(2)ابن أسلم،فقال لهم:انطلقوا فبايعوا،فأبوا عليه وخرج الزبير بسيفه،فقال عمر:عليكم الكلب، فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده، فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به ويعلي،ومعهما بنو هاشم،وعلي يقول:«أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)»حتى انتهوا به إلى أبي بكر.

فقيل له بايع.

فقال:«أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبا يعكم وأنتم أولى بالبيعة لي،أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول اللّه فأعطوكم المقادة،وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فانصفونا إن كنتم تخافون اللّه من أنفسكم،واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفته الأنصار لكم وإلا فبوءوا بالظلم، وأنتم تعلمون».

فقال عمر: إنك لست متروكاً حتّى تبايع .

ص: 527


1- في الشرح: (ملتاثين) بدل من: (حلقاً).
2- في الحجرية : (سلم) والمثبت موافق لشرح نهج البلاغة 6: 11 والسقيفة وفدك : 62 وكتاب الأربعين: 153 ، وكذا المورد الذي بعده.

فقال له علي(علیه السلام):«احلب يا عمر حلباً لك شطره،اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غداً،لا واللّه لا أقبل قولك ولا أبايعه».

فقال أبو بكر: فإن لم تبايعنى لم أكرهك.

فقال له أبو عبيدة : يا أبا الحسن، إنّك حدث(1)السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالاً له واضطلاعاً به فسلّم له هذا الأمر، وارض به، فإنك إن تعش ويطل عمرك، فأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك .

فقال علي:«يا معشر المهاجرين،اللّه اللّه لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه مقامه في الناس وحقه،فواللّه يا معشر المهاجرين،لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم،أما كان منا القارئ لكتاب اللّه الفقيه في دين اللّه،العالم بالسنة المضطلع(2)بأمر الرعية ؟واللّه إنه لفينا،فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا عن الحق بعداً».

فقال بشير بن سعد : لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا.

وانصرف علي(علیه السلام)إلى منزله، ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع(3).

ص: 528


1- في الشرح: (حديث).
2- في الحجرية : ( المطلع)، والمثبت عن المصدر.
3- شرح نهج البلاغة 6: 5 - 12، السقيفة وفدك : 56 -62.
[مناقشة المصنّف لدعوى ابن أبى الحديد ]

أقول: وهذه الرواية قد رويت من طرفنا بزيادات من جملتها ذكر علي(علیه السلام)بعض ما قيل فيه من النصوص، وأن بشيراً قال ما قال بعد سماعه من على ذكر النص عليه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،وأن أبا بكر افتعل في تلك الحال رواية لم يكن اللّه ليجمع لنا بين النبوة والخلافة،وصدقه من أصحابه من هو على مثل رأيه،إلى آخر ما هناك(1).ولا أشك فى أن تلك الأمور أسقطها محدّثو القوم من الخبر،لتصريحها بمذهب الإمامية كما هي عادتهم.

ويشهد لذلك ما أسلفناه في حديث أحمد بن أبى طاهر،عن ابن عباس حين قال له عمر وهو يسأل عن علي(علیه السلام):هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟قال ابن عباس:قلت:نعم.قال: أيزعم أن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)نصّ عليه ؟ قلت : نعم وأزيدك أني سألت أبي عمّا يدعيه فقال: صدق(2).

فقد بينا صراحة هذا الكلام في أن علياً(علیه السلام)ما زال طالباً للخلافة،محتجاً عليها بالنص من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عليه،وأن العبّاس قد شهد له بالنص عليه، وأن ابن عباس قد علم ذلك وسمعه، وأن عمر قد علم ذلك ولم يخف عليه،ولا يجوز أن يكون غيرهم من الصحابة غير عالم بذلك،لأن الكلام يدل على أن أمير المؤمنين كان بذلك، ولا يخفيه في جميع أوقاته.

ومن البيّن أنّ أولى الأوقات بذكره هذا الوقت المذكور الذي كشف فيه عن مقصدهم بالتغلب عليه،وبيّن لهم استحقاقه للأمر دونهم بالدليل، وليس من

يجهر

ص: 529


1- كتاب سليم بن قيس:147 وما بعدها، الاحتجاج 1: 107.
2- شرح نهج البلاغة 20:12.

الجائز أن يتركه في هذا الحين ويذكره بعد ذلك بسنين، فمن اليقين أنه ذكره في وقته ذاك، لكن القوم كتموه وستروه، والمحدثين من الخبر أسقطوه، ولا ضير علينا في ذلك، فقد بقي في الرواية ما يرمي الخصوم بسهام نافذة ويضربهم بسيوف شحيذة، ويصب عليهم المصائب الشديدة، وسنبينه إن شاء اللّه تعالى.

[شبهة ابن أبي الحديد ]

قال ابن أبي الحديد بعد انتهاء الرواية:قلت:هذا الحديث يدلّ على بطلان ما تدعي الإمامية من النص على أمير المؤمنين (علیه السلام)وغيره، لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به، ولم يجر للنص ذكر ، وإنما كان الاحتجاج منه ومن أبي بكر ومن الأنصار بالسوابق والفضائل والقُرب ، فلو كان هناك نص على أمير المؤمنين أو على أبي بكر لاحتج به أبو بكر على الأنصار، ولاحتج به أمير المؤمنين على أبى بكر فإنّ هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة يدل على أنه قد كان كاشفهم وهتك القناع بينه وبينهم.

ألا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه وظلمه وتمنع من طاعتهم وأسمعهم من الكلام أشدّه وأغلظه،فلو كان هناك نص لذكره أو ذكره من كان من شيعته وحزبه،لأنه لا عطر بعد عروس.

وهذا أيضاً يدل على أن الخبر الذي في أبي بكر في صحيح البخاري ومسلم غير صحيح،وهو ما روي من قوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لعايشة : «ادعى لى أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً فإني أخافُ أن يقول قائل أو يتمنى متمن ويأبى اللّه والمؤمنون إلا أبا بكر»، وهذا هو نص مذهب المعتزلة، انتهى(1)(2).

ص: 530


1- صحيح مسلم110:7،فتح الباري 186:1 وج 177:13.
2- شرح نهج البلاغة 6: 13.
[دليل ابن أبي الحديد عليه لا له ]

وها نحن ذا نبدأ بذكر ما يخالف مذهبه من صريح الخبر ثم نعود إلى الجواب عن لغوه ليعلم أن الحجّة التي بها علينا يصول عليه لا له، وذلك من وجهين :

الأول:اشتمال الخبر(1)على منازعة أمير المؤمنين(علیه السلام)القوم ومكاشفته إياهم،ونسبتهم إلى الظلم والتعدّي،والتظاهر على أهل البيت بأخذ مقام رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وإخراجهم سلطانه من داره إلى دورهم،ورميهم بالمواطاة على ذلك بقوله لعمر:«اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غداً»(2)ونحو ذلك مما اشتمل عليه الخير.

ولقد صدق فيما قال ولم يزل صادقاً، فإنّ أبا بكر أوصى بالأمر إلى عمر،وعمر تحسّر على فقد أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة حين طعن وقال : لو كان أحدهما حياً لم يتخالجه الشك فيه(3)وذلك يصرح بما تدعيه الإمامية من معاقدة الجماعة على ابتزاز الأمر ، وإخراج الخلافة عن أهل بيت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بعد وفاته، وأن الأمر لأبي بكر وبعده لعمر،وبعده لأحد الرجلين المذكورين، فصرّح الخبر تصريح الليل عن صبحه بأن أمير المؤمنين(علیه السلام)طاعن في خلافة أبي بكر،معتقد أنه بتقدّمه عليه ظلمه،وأخذ حقه،وأنه ومن معه قد اتبعوا الهوى وازدادوا الحق بعداً.

ويعضد ذلك ما في آخر الخبر من تركه(علیه السلام)مبايعة أبي بكر، وملازمته منزله،ولو لم يكن ساخطاً ولايته،معتقداً أنها باطل وضلال ما ترك بيعته، ولا تقاعد

ص: 531


1- في الحجرية : (عن)، والمثبت هو الصحيح.
2- شرح نهج البلاغة 11:6.
3- انظر شرح نهج البلاغة 1: 190 وج 9: 50.

عنها، لأن الراضي بشيء لا يتركه ، لاسيما وهو من الأمور الواجبة لوجوب طاعة الإمام ومساعدته ، ولما لم يبايع أمير المؤمنين أبا بكر، ولم يساعده علمنا يقيناً أن أبا بكر ليس بإمام حق عنده، وما بعد الحق إلا الضلال.

وهذا هو نص مذهب الإمامية،فلم يزيدوا على القول بأن أبا بكر وتابعيه ظلموا عليّاً ،حقه، وابتزوا سلطان رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)منه،وإنّهم اتبعوا الهوى وتواطؤا على ذلك،وأنّهم بعدوا عن الحق وكانوا من الباطل بمكان مكين.

وهذا صريح الخبر،وخلاف ما يدعيه ابن أبى الحديد وأصحابه من رضى أمير المؤمنين بخلافتهم،وعدم منازعته إياهم ، وإنّه لم يطعن عليهم بظلم ولا باتباع هوى،ولا بتظاهر على منعه حقاً له،وكان الخصم قد ملأ كتابه من ذكر هذه الدعوى، والتظاهر بها على الإمامية.

والخبر المذكور الذي به يصول ويجول يخدش هذه الدعوى ويبطلها،كما اعترف هو به في كلامه المنقول،فتبين أنه فيما يدعيه من رضى أمير المؤمنين بخلافة أبي بكر غير مصيب، وإن الإمامية في إنكارهم رضاه(علیه السلام)بها على الحق والهدى والصواب والمحجة البيضاء وهذا هو المراد والمطلوب .

الثاني: أن الخبر قد صرّح بأن أبا بكر وأصحابه قد سلكوا طريق العناد والعصبيّة، ولم يسلكوا مسلك الرشاد والحق ، وذلك أنهم احتجوا على الأنصار بالقرابة من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وأخرجوهم من الأمر بهذه الحجة، فلما احتج أمير المؤمنين عليهم بها أعرضوا عن قبولها وأبوا العمل بموجبها، وضربوا عنها صفحاً، حيث كانت في هذا المقام مفسدة لما يريدون من الاستبداد بالأمر واغتصاب عليّ(علیه السلام)حقه.

ص: 532

فأجاب بعضهم بأنك لست متروكاً حتى تبايع، فأظهر ما في نفسه من حمية الجاهلية.

وبعض أجاب(1)بأنا لا تكرهك.

وبعض أجاب بأنّك حدث السن.

وبعض بأنا لم نسمع هذا الكلام منك قبل .

وأيّ شيء في هذا كله من الجواب عما احتج به أمير المؤمنين(علیه السلام)؟

أما الأول والثاني فظاهر،وأما الثالث(2)فيقال له أولاً:إنكم لم تحتجّوا على الأنصار بشيخوخة أبي بكر،بل احتججتم بقربه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فهذا علي يحتج عليكم بهذه الحجة،فإن كانت عندكم حقاً وجب عليكم تسليم الأمر إليه،وإن كانت عندكم باطلاً فلا يجوز لكم أن تدفعوا الأنصار عن الأمر بشيء باطل وحجّة فاسدة عندكم.

ويقال له ثانياً:أين شيبة صاحبكم يوم المؤاخاة بين الصحابة ؟لم لا استحق أخوة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)؟ ما نرى استحق أخوّة الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلّا حدث السنّ. أفتعجز شيبة أبي بكر عن استحقاقه بها أخوة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في حياته، ويستحق بها خلافته بعد وفاته.

أهذا من الحق والإنصاف ؟ وأين كانت شيبة شيخكم يوم براءة، كيف ما استحق بها التبليغ عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)؟

ص: 533


1- كلمة : ( أجاب) أضفناها لتوضيح المطلب
2- أي أبو عبيدة الذي قال لأمير المؤمنين(علیه السلام): إنك حدث السن.

وأين كانت شيبته يوم عمرو بن عبدود؟وأين كانت يوم مرحب وغيرها من الأيام(1)التي يطول بعدها المقام ؟

ما نرى كانت كلّها إلا لذلك الحدث السنّ،فما يمنعه من الخلافة،وهو الشجاع العالم التقي الناصر للإسلام،والمحامي عن الدين الفائز بالجهاد والسبق والقرابة بقولك.

ويقال له أيضاً:أي أمر من الأمور لأبي بكر فيه تجربة تزيد على تجربة علي(علیه السلام)؟ أفي حرب ؟ أم في علم ؟ أم في سياسة ؟ أم في حلم ؟

وأين كانت هذه التجربة له في حياة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)؟لم لا استحق بها عنده نده التقدم في قيادةالجيوش وسياسة الأمور ؟

ما رأينا استحق ذلك إلا ذلك الحدث السنّ الذي ادعيت أنه قليل التجربة،ومن لم يكن له من التجربة ما يستحق بها أن يكون أمير سرية يسوس أمرها أيستحق بتجربته ولاية الأمة؟أهذا من العدل؟

ثم يقال له:إن كان المعتمد عندكم في الخلافة كبر السن والتجربة،فالعباس عم رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) أسنّ من أبي بكر،لا خلاف بين أهل التاريخ في ذلك،وهو كثير التجربة، ثاقب الروية،رزين العقل،عظيم الحلم على ذلك، اتفق الناس من أهل الرواية والسيرة والمعرفة بأحوال السلف،مع قربه من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فهو أحق من أبي بكر بالأمر على قولكم،فلن تعدوا عن أن تكونوا ظلمتم عليّاً(علیه السلام)،إلّا أن تكونوا ظلمتم العباس، فالظلم لكم لازم على كلّ حال.

ص: 534


1- قضية مبارزة أمير المؤمنين(علیه السلام)مرحب اليهودي مشهورة منقولة في كتب المسلمين،أنظر مسند أحمد52:4.وج 5: 358، صحيح مسلم 5: 195 كتاب الجهاد والسير تاريخ الطبري299:3،المستدرك على الصحيحين38:3،تاريخ مدينة دمشق90:42،مجمع الزوائد 6: 150.

ويقال للرابع(1):وهل يخفى عليك قرب على(علیه السلام)من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وأنه أقرب الخلق منه فما منعك حين احتج أبو بكر وصاحباه على قومك بقرابة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وتركت نصرة قومك لصحة هذه الحجة عندك،من أن تقول لأبي بكر ومن معه:صدقتم،الأقرب إلى الرسول أحق بمقامه،وعلي أقرب إليه منكم،فهو الأحق بمقامه من كل أحد،فامضوا بنا إليه جميعاً لنبايعه ونسلّم إليه خلافة ابن عمه.

ثم يقال له:هب إنّك لا تدري أولاً بقرابة علي(علیه السلام)من رسول اللّه،أو نسيت ذلك ثم علمت الآن إن ما في يد أبي بكر من الأمر حق لعليّ(علیه السلام)بمقتضى حجّة أبي بكر على قومك التي انصرفت أنت بها عنهم وصرت في حزب أبي بكر.

أليس من الواجب عليك - إذ كنت قادراً - انتزاع الحق من غير أهله وإيصاله إلى رته ومستحقه ومساعدته على ذلك وفي تركك ذلك الركون إلى الظالم، والمعاونة على الظلم وذلك من كبائر الذنوب وعظائمها وفيه الإثم الكبير ؟

وهل ذلك إلّا بمنزلة شيء تداعاه اثنان،فأقام أحدهما بينة على استحقاقه إياه،فحكم له به،ثم جاء ثالث فاستشهد تلك البيئة فشهدت له بأنه حقه فإنّه ينزع من يد الأوّل ويدفع إلى هذا.

أفليس في إعراضهم عن قبول الحجّة التي دفعوا بها خصومهم على أنفسهم إذ احتج بها أمير المؤمنين(علیه السلام) عليهم دليل واضح وبرهان راجح وعلم لائح على أنهم مجانبون للحق، وتابعون الهوى، وتاركون قول الصدق، ومتعمدون على إنكار الحجّة التي يوردها أمير المؤمنين عليهم كائنة ما كانت، نصاً أو إلزاماً، لا يخفى ذلك من أمرهم على ذي فطنة.

ص: 535


1- أي الذي قال لأمير المؤمنين(علیه السلام):إنا لم نسمع هذا الكلام منك قبل،وهو بشير بن سعد.

وكل هذا نص مذهب أصحابنا الإمامية، ومخالف لمذهب أصحاب ابن أبي الحديد المعتزلة ومناقض لأقوالهم؛ من أن الجماعة لم يرتكبوا منكراً ولم يأتوا باطل، ولم يردّوا حجّة صحيحة على أمير المؤمنين(علیه السلام)ولم يفعلوا ما يجوز نسبتهم لأجله إلى الظلم والتعدي، وأنّهم كانوا على غاية من الديانة والصلاح ومنزلة رفيعة من العدل والإنصاف .

وإنّما غاية أمرهم أنّهم فعلوا غير الأولى،وهذا أمير المؤمنين(علیه السلام)قد رماهم بجمیع ما برأتموهم منه بموجب روايتكم، ونسبهم إلى ارتكاب المعصية ورد الحجة وعدم الخوف من اللّه .

فما أدري أتكذَّبون روايتكم التي بها تحتجون؟أم تفسقون أئمتكم؟أم تطعنون في صدق أمير المؤمنين(علیه السلام)، لنسبته الظلم إليهم،وهو الصديق الأمين؟

لا محيص لكم عن اختيار واحد من هذه الوجوه الثلاثة، فاختاروا منها-كرّمكم اللّه-ما شئتم يكن فيه قطع حجّتكم واستيصال أصل مذهبكم.

على أن في قولهم : إن القوم بولاية أبي بكر وتركهم عليّاً(علیه السلام)تركوا الأولى،وقولهم:إن الصحابة فعلوا ما هو الأصلح للإسلام والمسلمين،إذ ولوا أبا بكر تناقضاً بيناً،لأن فعل الأصلح واجب،فكيف يكون خلاف الأولى،والتخالف في أقوالهم كثير .

هذا كله على تقدير تسليم قول المعتزلي؛إنّ الرواية لم يذكر أمير المؤمنين(علیه السلام)فيها نصاً،وليس الأمر كما ذكر، بل الرواية مذكور فيها بعض ذلك صريحاً،كقوله فيها: «وأخو رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،فإنا قد بينا أن الأخوة تقتضى المماثلة،وهي نص في الإمامة.

ص: 536

واحتج بالأعلمية عليهم في قوله«أما كان منا القارئ لكتاب اللّه الفقيه في دين اللّه»وقد قدمنا أن الإمام يشترط أن يكون أعلم أهل زمانه،فهذا من النصوص.

واحتج بالقرابة،وهى من شروط الإمام أيضاً، وقد ذكرنا أنّ المنصوص عليه بالأقربية،كالمنصوص عليه بالإمامة، فهذه من جملة النصوص، والقوم لم يقبلوها منه،ولم يجيبوه عنها بشيء من الحجّة.

واحتجاج أبي بكر على عليّ(علیه السلام)بالسابقة وغير ذلك،كما يوهمه كلام المعتزلي لا أثر له في الخبر،نعم،النص الذي يريده ابن أبي الحديد من علي(علیه السلام)أن يذكره،وهو إنزال كتاب من السماء لم يأت به أمير المؤمنين(علیه السلام).

ثم إن في قوله(علیه السلام):«نحن أهل البيت أحق بمقامه»إشارة إلى النص، لأن الأحقية في الخلافة لا تكون بدون تعيين من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وليس من مذهب على(علیه السلام)الاجتهاد في الأحكام والقول بالرأي ، بل طريقته الوقوف عند النص والاقتصار على السماع من الكتاب والسنة،وقد شهد بذلك ابن أبي الحديد في مواضع من كتابه(1)،فإذن دعوى على(علیه السلام)الأحقية بمقام الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) بدون نص منه عليه ممتنعة،لكنّه ادعى ذلك،فالنصّ عليه موجود؛فتبصر.

[تظلمات أئمة أهل البيت(علیهم السلام)]

ومما يحسن نقله هنا من تظلمات أهل البيت من أئمة المعتزلي ودعواهم النص من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) عليهم ما ذكره من كلام أبي جعفر الباقر مراراً،قال في موضع منها:وقد روي أن أبا جعفر محمّد بن على الباقر(علیه السلام) قال لبعض أصحابه:«يا فلان،ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا،وما لقي شيعتنا ومحبّونا

ص: 537


1- أنظر شرح نهج البلاغة 118:10 و 213.

من الناس!إن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)للقبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس،فتمالات علينا قريش حتى أخرجت الأمر من معدنه،واحتجت على الأنصار بحقنا وحجّتنا،ثم تداولتها قريش واحد بعد،واحد حتّى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا،ونصبت الحرب لنا،ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود(1)حتى قتل،فبويع ابنه الحسن وعوهد،ثمّ غُدِر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق،حتى طعن بخنجر في جنبه، وانتهب عسكره،وأولجت خلاخيل(2)أُمهات أولاده،فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته،وهم قليل حق قليل .

ثم بايع الحسين(علیه السلام)من أهل العراق عشرون ألفاً،ثم غدروا به،وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم،ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستقام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف،ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة،فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة،ورووا عنا ما لم نقله،ولم نفعله ليبغضونا إلى الناس،وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن(علیه السلام)فقتلت شيعتنا بكل بلدة،وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة،وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نُهب ماله أو هدمت داره.

ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمن عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين(علیه السلام)،ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة،حتى أن الرجل ليقال له:زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال: شيعة عليّ(علیه السلام)،و حتّى صار الرجل الذي

ص: 538


1- أي شاق وصعب.
2- الخلاخيل جمع خلخال،وهو ما تلبسه النساء، أنظر الصحاح1689:4،لسان العرب 221:11.

يُذكر بالخير، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة، ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها،ولا كانت ولا وقعت،وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف يكذب ولا بقلة ورع»، انتهى(1).

وقد صرّح صدر الرواية بأن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أخبر الناس أن أهل بيته أولى بالناس من أنفسهم،وهذا هو النصّ عليهم.

ثم قوله(علیه السلام)«فتمالات علينا قريش حتى أخرجت الأمر من معدنه»صريح في نسبة الظلم إلى المتقدمين.

وقوله«واحتجت على الأنصار بحقنا وحجّتنا»واضح في أن القرابة من الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أمر يستحق به الخلافة،وأن ذلك الأمر حقهم وحجتهم أخذها غيرهم،واحتج بها على الأنصار،والواجب عليه أن يسلّم لهم الحق والحجة،لأنها لهم دونه،والباقي من الخبر ظاهر.

وأواخره يصرح بوضع القوم واتباعهم الأحاديث المكذوية على ما يشتهون ويدعون،وأن أكثر ذلك كان في زمان معاوية، وقد أوضحنا هذا المطلب فيما مرّ.

فقد بان من جميع ما ذكرنا واتضح أن الخبر الذي استند إليه ابن أبي الحديد،وعليه اعتمد في إبطال النصّ عاد بالآخرة دليلاً لنا ومستنداً لقولنا،فاندفع لوم اللائمين وعذل العاذلين،وتبين الغثّ من السمين،والحمد للّه ربّ العالمين.

[الردّ على شبهة ابن أبي الحديد المتقدمة ]

ثمّ نشرع الآن في الجواب عن شبهته،والكلام على دفع ريبته،وإن كان فيما

ص: 539


1- شرح نهج البلاغة 11: 43 ، وانظر كتاب سليم بن قيس: 187.

ذكرناه كفاية في إبطال حجّته،لكن لا ندع الازدياد من الخير وكثرة الاستظهار بالحجج بعون اللّه،فنقول :

من تأمّل وتبصّر وتدبّر وتفكّر ونظر فى الأخبار والآثار نظر من أنصف واعتبر علم يقيناً أن القوم إذ ارتكبوا ما ارتكبوا من أخذ الخلافة،وحين انتهزوا ما انتهزوا من الفرصة في إدراك الرياسة قد عضّوا عليها بأسنانهم، وقبضوا عليها بأناملهم،لا يرجعون عنها بنصّ،ولا ينتظرون فيها مشاورة ذي فضل،ولا ينزلون عنها بحجة،ولا يبالون فيها من غضب،ولا عدول لهم عنها إلا بالسيف لو حصل،قد سلكوا فيها مسلك الجبرية والقهر،يلزمون من رأوه ببيعتهم،ولا يعذرونه عنها بعذر،ولا يقبلون منه عدلاً ولا صرفاً،حتى استتم لهم ما أرادوا،واستتب لهم ما طلبوا.

ألا ترى العمر كيف قال في السقيفة حين تمّ له ما أراد:اقتلوا سعداً(1)قتل اللّه سعداً،وهذا يدلّ على تجبّر عظيم وتغلب شديد،وذلك حين رأى ميل غوغاء الناس(2)إلى مراده،فاستفزته الغلبة،وهيّجته الحمية،وكيف قال للزبير عليكم الكلب إذ خرج يدافعهم عن الهجوم على بيت فاطمة(علیها السلام)كما ذكر في الحديث المذكور(3).

فهم معرضون عن كلّ حجّة ترد عليهم من كل محتج لا يلتفتون إليها،ولا يبالون بمن أوردها عليهم،وإنهم مصرون على إنكار النص إن أورده مورد،

ص: 540


1- تاريخ اليعقوبي124:2،صحيح ابن حبان152:2،شرح نهج البلاغة 1: 174 وج 6: 40 وج 20:21،فتح الباري25:7.
2- قال ابن الأثير في النهاية396:3 أصل الغوغاء الجراد حين يخف للطيران ثم استعير للسفلة من الناس والمتسرعين إلى الشر.
3- شرح نهج البلاغة 6: 11.

ومصمّمو العزم عليه ومهيؤون من الشَّبه ما لا يسعهم إنكاره ، ولا يمكنهم ستره وكتمانه ما يدفعون به عند العامة سورة المحتج به عليهم، ولم يكونوا في أمرهم مراعين الحجّة، ولا ناظرين ،الدليل، ولا راجعين عمّا دخلوا فيه البرهان مبين، والذي يدل على ذلك وجوه:

الأول : ما مرّ في الخبر من إعراضهم عن قبول الحجّة بالقرابة من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)حين احتج بها عليهم أمير المؤمنين(علیه السلام)،وروى ابن أبي الحديد في موضع آخر أنه(علیه السلام)إذ ذاك خاطب أبا بكر فى معرض الحجّة بهذين البيتين:

فإن كنت بالشورى ملكت أُمورهم***فكيف بهذا والمشيرون غُيَّب

وإن كنت بالقربی حججت خصيمهم***فغيرك أولى بالنبي وأقرب(1)

وهي كانت حجّتهم العظمى التي أبطلوا بها دعوى الأنصار وغلبوهم وفلجوا بها(2)عليهم،لا السابقة والفضل كما ذكر المعتزلي،وإن كان ذلك مخالفاً لمذهبه،إذ لا يجب عنده تقديم الأفضل(3)، فلما احتج بها عليهم من هو أولى بها منهم أعرضوا عنها،كأن لم يسمعوها،ولم يصغ واحد منهم إلى قبولها،ولا التفت إليها،بل جنحوا إلى إفسادها وإبطالها بالشبهات.

فمال بعضهم إلى التعلل بحداثة السنّ(4)،وآخر إلى عدم سماعها قبل بيعته

ص: 541


1- شرح نهج البلاغة 416:18 ، نهج البلاغة 44:4.
2- فلجوا بها أي ظفروا بها كما في الصحاح 335:1.
3- أنظر مقدمة شرح نهج البلاغة3:1،وحكاه عن المعتزلة النووي في شرح مسلم174:15.
4- ورد في أخبار الدولة العباسية: 129 أنه قال عمر لعبد اللّه بن عباس:أندري ما منع الناس من ابن عمك أن يولوه هذا الأمر؟قال:ما أدري.قال عمر:الحداثة سنه.قال:فقد كان يوم بدر أحدثهم سناً يقدمونه في المآزرة ويؤخرونه في الإمامة، ونقل في شرح نهج البلاغة 6: 11 التعلل بحداثة السن عن أبي عبيدة، والروايات في هذا المجال كثيرة تجد بعضها في موسوعة الإمام علي(علیه السلام)71:3.

لأبي بكر، فصرّح أنه لا يقبل حجّة بعد البيعة، مع كونها عنده صحيحة وما النص إلّاحجّة، وقد صرّحوا أنهم لا يقبلون الحجّة من أمير المؤمنين(علیه السلام)لحداثة سنه ، ولسبق بيعة أبي بكر على احتجاجه.

فمن بلغ أمرهم إلى هذا المقدار من المشاغبة والعناد والاستكبار عن الإصغاء إلى سماع الحجّة والعمل بها،وهي الحجّة التي يحتجون بها على خصومهم،كيف يمتنع منهم إنكار النصّ لو أورد عليهم؟ويبعد عليهم ردّه لو احتج عليهم به؟

الثاني:أن أمير المؤمنين(علیه السلام)احتج عليهم غير القرابة بأشياء أخر كأخوة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) والعلم بكتاب اللّه،والفقه في دين اللّه،وغير ذلك مما اشتمل عليه الخبر،فلم يعرجوا ولا واحد منهم على قبول ذلك منه ، وكأنهم لم يسمعوا ما قال،وهم في السقيفة يحتجون على أحقية أبي بكر بالخلافة بفضيلته بصحبة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الغار فلمّا احتج أمير المؤمنين(علیه السلام)لنفسه عليهم بالفضل الفائق أعرضوا عنه ورفضوه،فمن لم يقبل حجّته لنفسه على نفسه،كيف يقبل غيرها من الحجج أو يلتزم بها ؟

الثالث:اقتحامهم على بيت فاطمة(علیها السلام)وإخراجهم عليّاً(علیه السلام)ومن معه يسوقونهم سوقاً عنيفاً بعد التهديد بإحراق البيت عليهم،إن لم يفتحوا الباب،وتسمية الزبير كلباً-كما مرّ ذكره في الخبر-وغيره من الأخبار وقد ذكر الخصم من ذلك في كتابه الكثير الواسع(1)وذلك كله من دون أن يقيموا عليه حجّة أو يوردوا

ص: 542


1- شرح نهج البلاغة11:6.

عليه دليلاً،ولو لم يكن من ذلك كله إلا قول عمر له(علیه السلام):لست متروكاً حتى تبايع(1)،لكفى في الدلالة على ما نسبناه إلى القوم من التغطرس والمشاغبة،وعدم استماعهم للحجة،وقبولهم للعذر أو وقوفهم عند النصّ.

الرابع: أنّ العباس بن عبد المطلّب لما احتجّ على أبي بكر بمحضر جماعة من أصحابه كعمر وأبي عبيدة،كما في رواية طويلة ذكرها الخصم من كتاب الجوهري،عن البراء بن عازب،حيث قال له(2):فإن كنت برسول اللّه طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم،ما تقدمنا في أمركم قرطاً(3)ولا حللنا وسطاً(4)ولا برحنا شحطاً (5)،فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين،فما وجب إذ كنا كارهين!وما أبعد قولك:إنّهم طعنوا فيك من قولك : إنّهم مالوا إليك.

إلى أن قال:وأما قولك:إنّ رسول اللّه منا ومنكم،فإنّ رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

ص: 543


1- شرح نهج البلاغة 6: 11.
2- أي العباس بن عبد المطلب.
3- أي لم نختر لكم رأياً وأمراً كالفرط الذي يتقدم القوم يرتاد لهم المكان.
4- أي ولا حللنا وسط مجالسكم عند المشاورة والمحاورة.
5- أي ما زلنا كنا مبعدين عنكم وعن رأيكم من شحط كمنع وفرح أي بعد، وفي بعض النسخ«ولا نزحنا»بالنون والزاي المعجمة فهو إما من نزح بمعنى بعد،والشحط بمعنى السبق أي لم تتكلم معكم حتى نسبقكم في الرأي وتبعد عنكم فيه، أو من الشحط بمعنى البعد أيضاً أي لم نكن منكم في مكان بعيد يكون ذلك عذراً لكم في ترك مشورتنا أو من نزح البئر،والشحط بمعنى الدلو المملو من قولهم:شحط الإناء أي ملأه أي لم تعمل في أمركم رأياً مصيباً،وفي بعضها بالتاء والراء المهملة«ولا ترحنا»بمعنى لم نحزن ولم نهتم المفارقتكم عنّا وتباعدكم منّا،وعلى هذا يحتمل أن يكون سخطاً بالسين المهملة والخاء المعجمة ولعلّ النسخة الأولى أصوب، أنظر بحار الأنوار294:28.

وأما قولك يا عمر:إنّك تخاف الناس علينا،فهذا الذي قدّمتموه أوّل ذلك وباللّه المستعان(1)،لم يجبه(2)هو ولا أصحابه بشيء، بل تركوا الحجّة وأعرضوا عنها،كأنهم لم يفهموها،وكانوا في أوّل الكلام يحتجون بها على العباس ويقرعونه بها،فلما أوردها عليهم وعرفوا أنها له ولأهل بيته دونهم أضربوا عنها صفحاً،ولم ينقادوا لها،ولا نزعوا عمّا هم فيه لأجلها، ولا احتجوا إلى العمل بها.

ومن يعرض عن قبول حجته التي يجادل بها على نفسه فهو بعدم قبول غيرها من الحجج أخلق،وإلى الإعراض عن النصّ وردّه أقرب،وهذه المجادلة وقعت بعد بيعة أبي بكر بيومين.

والرواية صريحة في أن بني هاشم كانوا كارهين إمارة الرجل ومكرهين علی بيعته،فأين الرضا بخلافته؟وأين رجوعه وأصحابه إلى الحجة والعمل بمقتضاها،حتى يستنكر منهم كتمان النصّ ودفعه لو أورد عليهم؟

الخامس:ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي بكر الجوهري قال:حدثني المغيرة ابن محمد المهلبي من حفظه،وعمر بن شبة من كتابه،بإستاد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال:سمعت البراء بن عازب يقول:لم أزل لبني هاشم محباً،فلما قبض رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)خفت أن تتمالاً قريش على إخراج هذا الأمر عنهم،فأخذني ما يأخذ الوالهة(3)العجول،مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فكنت أتردد إلى بني هاشم،وهم عند النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش [فإنّي

ص: 544


1- شرح نهج البلاغة 1: 221.
2- هذا جواب قوله: (لما احتج على أبي بكر).
3- الوله: ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد كما في الصحاح 2256:6،وقال في اللسان561:13،الوله:ذهاب العقل لفقدان الحبيب.

كذلك](1)إذ فقدت أبا بكر وعمر،وإذا قائل يقول:القوم في سقيفة بني ساعدة.

وإذا قائل آخر يقول:قد بويع أبو بكر،فلم ألبث،وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة،وهم محتجزون بالأزر الصنعانية(2)،لا يمرون بأحد إلّا خبطوه(3)وقدموه،فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى.

فأنكرت عقلي وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم، والباب مغلق،فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً،وقلت:قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة.

فقال العباس:تربت أيديكم(4)إلى آخر الدهر،أما إنّي قد أمرتكم فعصيتموني،فمكثت أكابد ما في نفسي،ورأيت في الليل المقداد وسلمان وأباذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعماراً،وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين(5)،إلى آخر ما قال من إخبار حذيفة الجماعة بما علمه من أمر القوم ومسير المذكورين إلى أبي بن كعب للمساعدة،وطلبهم منه فتح بابه،وقوله لهم:وباللّه ما يفتح عَلَيَّ (6)بابي حتّى تجري على ما هي عليه جارية،ولما يأتي بعدها شرّ منها، وإلى اللّه المشتكى(7).

ص: 545


1- مابين المعقوفين أضفناه من شرح نهج البلاغة .
2- أي الثياب الصنعانية.
3- أي ضربوه كما في الصحاح1121:3.
4- تربت أيديكم أي افتقرتم، وهو دعاء عليهم بالفقر والاحتياج إلى آخر الدهر، أنظر لسان العرب229:1.
5- إلى هنا ورد ذكره في شرح نهج البلاغة 1: 219.
6- في شرح نهج البلاغة 2: 52(ما أفتح عني)بابي وفي كتاب سليم بن قيس:140(فلا أفتح بابي)،بدل من:(ما يفتح علي بابي ).
7- شرح نهج البلاغة51:2.

وقد دلّ الخبر على أمور:

منها:أنّ الناس يعلمون بغض قريش لبني هاشم في حياة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،ولذا خاف البراء من تمالثهم على إخراج الخلافة عن بني هاشم،ولولا ذلك ما كان للخوف معنى.

ومنها:أن الناس يعلمون أن خلافة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لبني هاشم إما من جهة النصّ وإما من جهة القرابة، وإن إخراجها عنهم لا يكون إلا بتمالى قريش عليهم.

ومنها:أن بيعة الناس لأبي بكر لم تكن برضى واختيار، بل بالجبر والغلية القهر.

ومنها:أن أبا بكر وأصحابه لم يسمعوا لأحد حجّة،ولا يحتجوا عليه بدليل ولا يقيموا على مدعاهم بينة،بل يلزمون الناس بالبيعة ظلماً وقهراً ويصرح بهذين الأمرين من الخبر قوله:لا يمرون بأحد إلا خبطوه،إلى آخر الجملة،وذلك كله عين ما نسبناه إليهم من دون زيادة ولا نقص،فمن كانت حالهم هذه كيف يرجعون عما ملكوه بحجة أو يسلموا ما في أيديهم إلى صاحبه ومالكه بنص وبينة ؟

ومنها:أن جماعة من خيار الصحابة كسلمان ومن معه كانوا رادين بيعة أبى بكر ومنكرين خلافته،وكانوا يسعون فى خلعه وإخراجه عن الإمارة جهدهم،فما استطاعوا،فأين الإجماع والرضا؟

ومنها:أن علماء الصحابة كحذيفة وأبي(1)يرون أن بيعة أبي بكر شر،وما بعدها شرّ منها،وذلك نص ما نقول.

فهذه الوجوه كلّها شواهد حق وأدلة صدق على ما أدعيناه،وما إلى القوم

ص: 546


1- أي أبي بن كعب الأنصاري.

عزوناه من دخولهم في الأمر دخول مشاغبة وتغطرس(1)واستكبار عن استماع الحجة،لا دخول متبصر منصف يميل مع الدليل حيثما مال،ويقف مع النص أينما وقف.

[ردّ النصوص بالرأى ]

وينضاف إلى ذلك ما كان القوم عليه من الرأي والطريقة ، فإنه كان من هديهم وسجيتهم خصوصاً عمر بن الخطاب ردّ النصوص بالرأي وتخصيصها بالاستحسان،وأبو بكر يوافقه على ذلك،سيّما فيما يوطّد أساس إمارته،ويقرر قاعدة رياسته، وقد وصف ابن أبي الحديد إمامه بأقبح مما وصفناه من ردّ النص بالرأي قاطعاً و جازماً به،قال في كلام يذكره فيه ويذكر عليّاً وإنّ عمر كان مدار سیاسته على ما يراه،دون ما حكم به الشرع.

قال:ولسنا بهذا القول زارين(2)على عمر بن الخطاب،ولا ناسبين له ما هو منزه عنه،ولكنه كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة،ویری تخصیص عمومات النصّ بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضى خلاف ما يقتضيه عموم النصوص،ويكيد خصمه ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة،ويؤدب بالدرّة(3)والسوط من يغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك،ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به من(4)التأديب،كلّ ذلك بقوّة اجتهاده،وما يؤدّي إليه

ص: 547


1- المشاغبة تعنى المخاصمة والمفاتنة من الشعب بمعنى تهييج الشر والفتنة والخصام كما في لسان العرب 504:1، والتغطرس هو الظلم والتكبر كما في لسان العرب155:6.
2- أي عاتبين كما في لسان العرب 14: 356.
3- الدرة-بالكسر-التي يضرب بها عربية معروفة، لسان العرب 283:4.
4- قوله: (من) من المصدر.

نظره،ولم يكن أمير المؤمنين يرى ذلك ، وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين،ويسوق الكلّ مساقاً واحداً، ولا يضع(1)ولا يرفع إلا بالكتاب والنص(2)،انتهى.

وهو صريح فيما ذكرنا سابقاً من أن علياً(علیه السلام)لو لم يكن منصوصاً عليه لما ادعى أنه أولى بالخلافة من غيره وأحق بمقام النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)دون من سواه، لأنه لا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب والنص، واعتراف من المعتزلي بأن عمر وأصحابه كان دأبهم الاعتماد على آرائهم وردّ النصوص بها،وعدم التفاتهم إلى حكم الشرع إذا خالف ما يريدون.

وإذا كان القوم على هذه الحال فما يمنعهم من مخالفة النصّ على عليّ(علیه السلام) ؟ وماذا يصدّهم عن كتمانه وردّه؟ وأي مجال يبقى لاستبعاد ذلك منهم، ودينهم وديدنهم ردّ النصوص إذا خالفت شهواتهم وعاندت اجتهاداتهم.

وهل يخفى على أحد من أهل الروية مخالفة النصّ على أمير المؤمنين(علیه السلام)،لشهوة عمر واجتهاده، فهو إذن يرى ردّ النص على عليّ(علیه السلام)ومخالفته واجباً، وليس يجوز لأحد من أتباعه أن يستنكروا منه فعل الواجب عليه باجتهاده، بل يجب عليهم الحكم بأنه يفعله وما يهمله، ولازم ذلك أنه أنكر النص على عليّ(علیه السلام)البتة، وهو عين ما ندعي .

ولعمري لو لم يكن لنا إلا هذا الوجه لكفانا في الدلالة على مدعانا، فكيف والوجوه كثيرة كما ترى،ومن البين الذي لا شك فيه أن أمير المؤمنين(علیه السلام)كان عالماً بذلك من شأنهم ومطلعاً عليه.

ص: 548


1- في شرح نهج البلاغة:«ولا يضيع»بدل من«ولا يضع».
2- شرح نهج البلاغة 212:10 و 213 .

وكيف يخفى عليه من أمرهم مع المعاشرة المطلعة على الحال،ورؤيته منهم ما رأى سابقاً وفي ذلك الوقت ما علمه ابن أبي الحديد من أمرهم من جهة الرواية، مع بعد المدة وتطاول الزمان، فكان(علیه السلام)قاطعاً بإنكارهم النصّ لو احتج به ابتداءاً وصرح لهم به، أو إلقاؤهم بعض الشبه عليه ، كشبهة النسخ بأمر أبي بكر بالصلاة،كما زعموا، فلم يكن لذكر النصّ والحال هذه فائدة، ولم تكن في احتجاجه به عليهم مصلحة ، إذ لا تقوم به عندهم له حجّة لو ذكره.

ولو شهد به من هناك من شيعته كسلمان وأبي ذر والمقداد وأمثالهم، إن جوزنا قدرتهم في تلك الحال على الشهادة لم يقبل القوم شهادتهم، ولم يلتفتوا إليها لمخالفتها غرضهم وما أدت(1)إليه آراؤهم .

فكان مقتضى الحكمة وموجب معرفة قواعد الخصومة ترك التعرض للنص،لعدم الانتفاع به في المقام،لإنكار الخصم إيَّاه والإتيان بحجة لا يستطيع الخصم إنكارها،ولا الطعن فيها،فلذا عدل أمير المؤمنين(علیه السلام)عن الاحتجاج عليهم بالنص،واحتج تارة بأخوة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وأخرى بالأعلمية،وكلاهما سمّا لا يمكنهم التشبيه فيه.

واحتج عليهم بالقرابة التي لا يسعهم إنكارها ولا القدح فيها، لأنها حجتهم التي دفعوا بها الأنصار عن الأمر، وأبطلوا بها دعواهم حيث كانت النافعة له في المقام ، فما مثله في ذلك إلا كرجل يدعي قبل آخر شيئاً، له على دعواه حجتان،كلّ منهما تثبت دعواه منفردة، وتوجب له ما ادعاه ، إلا أنه يقطع بإنكار الخصم

ص: 549


1- في الحجرية : ( أدتهم).

واحدة من الحجّتين لو أوردها عليه،أو أن يلقي عليها شبهة تدفع عنه الاحتجاج عليها بها،والأخرى يأمن عليها من ذلك كله.

فإن الواجب العدول عن تلك الحجّة التي يخاف عليها ذلك المحذور،وإن كانت أقوى إلى ذكر الحجّة الأخرى التي لا يخشى عليها محذوراً،فالمانع الأمير المؤمنين من ذكر النصّ عليه خوفه إنكار القوم إياه،لعلمه ذلك منهم يقيناً،لا

عدم وجوده، وهو مانع قوي وصارف جليّ .

وكيف لا يكون النصّ موجوداً،وهو بعد ذلك يدعيه،ويشهد له عمّه العبّاس به،ويعترف سعد بن عبادة بسماعه،ويشهد له ابن عبّاس بادّعائه إياه وعمر بن الخطاب كذلك-كما مر فيما مضى ذكره(1)-فعدوله عن النصّ والاحتجاج عليهم في موقفه ذاك بالقرابة من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،مع أنها من جملة أسباب استحقاق الخلافة،بل من شروطه،كما ذكرناه في موضعه، ومع عدم قدرة الخصم على إنكارها وردّها والقدح فيها بوجه من الوجوه هو عين الحكمة وحقيقة المعرفة وقوة نفاذ البصيرة في قطع الخصومة فإنَّ الحجّة المذكورة كافية له فيما طلب،وافية له بصحة ما ادعى وإثبات ما رام لو قبلوها منه،كما قبلتها الأنصار منهم،أو أذعنوا لها كما أذعن لها خصمهم.

وكيف يقبلونها ويلعنون لها، وهم مصرون على العناد، متواطؤون على ابتزاز الأمر من صاحبه ، كما سمعت في الخبر من تعللاتهم العليلة.

ومما يفتد ذلك ويوضحه ويكشف عن سرّه، تدافعهم الخلافة في السقيفة،

ص: 550


1- إشارة إلى كلام وقع بين ابن عباس وعمر في أيام خلافته نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 20:12.

وتراميهم بها بعد أن غلبوا الأنصار عليها بين ثلاثة، فأشار بها أبو بكر إلى عمر أو أبي عبيدة، وعرضها أبو عبيدة على عمر وردّها عمر إلى أبي بكر(1)ولم يشيروا ولا واحد منهم إلى أحد من بني هاشم، ولا ذكروهم في الأمر ولا في المشورة، مع تحقق قرابتهم من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وظهور شرفهم وفضلهم خصوصاً علي بن أبي طالب الذي شاعت مناقبه،واشتهرت سوابقه ، وما اختفى على أحد علمه وفضله.

فإعراضهم عن ذكره وذكر بني أبيه دليل صريح على تواطئهم على سلب بني هاشم خلافة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وابتزازهم سلطانه،ودفعهم عن مقامه،ولازم ذلك تواطؤهم على إنكار النص على أهل البيت،ولم يكن علي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ليجهل ذلك منهم .

[وجه آخر على عدم ذكر النص ]

ووجه آخر، وهو أن مقصد القوم من العدول عن أهل بيت النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)إلى أبي بكر اتساع أمر الخلافة في قريش،لتنال كلّ بطن منهم،وتكون دولة بينهم يرجوها كل قوم، كما رواه ابن أبي الحديد عن الجوهري من قول المغيرة بن شعبة لأبي بكر وعمر:أتريدون أن تنتظروا حبل الحبلة(2)من أهل هذا البيت،وسعوها في قريش تتسع،فقاما إلى السقيفة(3)وقد مر الحديث بتمامه .

ص: 551


1- شرح نهج البلاغة25:2.
2- الحبلة: الكرم، قيل : معناه حمل الكرمة قبل أن تبلغ، ولعله كناية عن صغر سن عليّ(علیه السلام) ، فيكون المعنى اجعلوا الخلافة في بيوت قريش قبل أن يكبر سنّ علىّ(علیه السلام) ويقوى على أخذ الخلافة منكم، ولا تصل الخلافة إليه ولا إلى أولاده أبداً وفي لسان العرب 11: 139 معان أخرى لعبارة:(حبل الحبلة)منها نتاج النتاج وولد الولد وغير ذلك، وعلى أي حال فالمراد لا تنتظروا أن تؤخذ منكم الخلافة ولا من أولادكم، اجعلوها ووسعوها في قريش.
3- شرح نهج البلاغة 6: 43.

وكذلك ذكر أمير المؤمنين(علیه السلام)أن مقصدهم ذلك في حديث رواه ابن أبي الحديد عنه، وصرّح بعض المحققين من غير أصحابنا من جهة الاستنباط أن مقصد القوم ما ذكرناه، نقله عنه المعتزلي المذكور(1).

ومن الواضح أن هذا مقتض قوي لإنكار جميعهم النص على أمير المؤمنين،ومظاهرتهم أبا بكر وعمر عليه، وتظاهرهم على جملة بني هاشم لعلمهم أنها إذا صارت لهم واستقرت فيهم لا تخرج عنهم إلى سائر بطون قريش أبداً،بخلاف ياقي قريش، فإنها تتنقل فيهم،فربما يقدم أحدهم صاحبه لغرض، وليردها عليه عند موته،كما فعل الثلاثة في السقيفة، فلذلك استقر رأيهم على منع أهل البيت ميراثهم من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،ودفعهم عن حقهم.

ولأجل هذا كله عدل أمير المؤمنين عن ذكر النص، واستغنى عنه في مخاصمتهم بالقرابة وغيرها مما ذكره من حيث لا محيص لهم عن الاعتراف به، فحاله(علیه السلام)فى ذلك الموقف غير حال ابى بكر في السقيفة، فإن عمر و عبيدة

كانا له ظهيراً، وعويم بن ساعدة ومعن بن عدي الأنصاريين كانا له رده(2).

وهما-على ما روى خصومنا-اللذان استنهضاه على حضور السقيفة،واستحباه على المبادرة إلى طلب الخلافة وجسماه(3)الدخول في هذه الورطة مخالفة منهما لقومهما الأنصار.

وإن بشير بن سعد - وكان من رؤساء الخزرج - كان له سنداً يخاصم عنه قومه

ص: 552


1- نقله في شرح نهج البلاغة84:12 عن النقيب.
2- أي معيناً.
3- أي كلفاه، أنظر لسان العرب100:12.

وأسيد بن حضير رئيس الأوس كان إليه مائلاً، وكلهم طالبون منه الازدياد من الحجّة، ومتعطشون إلى تظاهره على دفع الأنصار بالبيئة، والباقون مصغون إلى ذكر الحجج غير مستنكفين عن قبولها منه فلا مانع له من ذكر نص عليه لو كان موجوداً،ولا صارف له عن الإتيان بقول من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يوجب له الفضيلة لو كان حاصلاً.

ومع هذا لم نره ذكر نصاً عليه،ولا قولاً من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)يوجب المدح له،ولا حجّة يختص بها تثبت له دعواه،ولا ذكر له صاحباه(1)شيئاً من ذلك،بل رأيناه وصاحبيه ذكروا حجّة كانت برمتها لغيره، وكانت يده منها خلقاً،وهي القرابة وأشياء لا توجب شيئاً من مطلبه، ولا تقضي بصحة مأربه، وهي الصحبة في الغار، والأمر بالصلاة كما زعم.

وكلّ ذلك لا يفيده شيئاً مما أراد لو كان للخصومة معه مجال، ولم يكن أمره مبنياً على التغلب ، لأن كون الحجّة الأولى (2)لعلي(علیه السلام)مما لا غبار فيه.

والثانية أيضاً لأن لقائل أن يقول لأبي بكر:إنّ كان اختصاص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بك.وخلوته معك في الغار ممّا يوجب لك خلافته،فعلى أولى منك بذلك،لأن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)اختصّ بك مرّة وخلا معك وقتاً واحداً، واختصّ بعلي مرات كثيرة،وخلا معه خلوات متعدّدة في أوقات لا تحصى، ودع ما لعلي(علیه السلام)لليلة الغار ممّا لا يوازنه فضل،وهو مبيته على الفراش(3)،فكانت هذه أيضاً كالقرابة.

ص: 553


1- أي عمر وأبو عبيدة.
2- آي القرابة المتقدم ذكرها قبل أسطر.
3- لتفصيل الكلام في ليلة المبيت يراجع الغدير 2: 48 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام)فی الكتاب والسنة والتاريخ138:1.

والثالثة يقال له : إنا لا نسلم لك أن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أمرك بالصلاة، فابعنا على ذلك بينة، وإن صح أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)قد أمرك بالصلاة ، فقد عزلك عنها إذ خرج ونحاك عن المحراب(1)،لاسيما والتقدم في الصلاة لا يوجب العدالة على مذهب القوم(2)،فضلاً عن الفضل،فأيّ حجّة في الصلاة على ما يدّعيه على مذهب أتباعه،فإذن ليس له حجّة على ما طلب وأراد.

فعدوله وصاحبيه(3)عن ذكر نص عليه من الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)أو قول منه في مدحه وفضله-مع احتياجه إليهما، وعدم المانع من ذكرهما، وانتقاء الصارف عن إيرادهما إلى ذكر حجّة هي لغيره لاله،وأخرى قريبة منها، وثالثة لا توجب عدالته إن سلمت له فضلاً عن إيجابها خلافته - دليل صريح على أنه لم يكن مما ذكروه من النصّ عليه شيء موجود ، ولا ممّا رووه في فضله بعد من فضله بعد من الأحاديث عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الحديث معروف، ولا من ذاك عين ولا أثر ، ولم يطلع هو ولا أصحابه على شيء من ذلك حتى هلكوا جميعاً.

ولو كان في يدهم شيء من ذلك وعندهم وعندهم منه خبر منه خبر لأوردوه للحاجة إليه خصوصاً لما نسبهم أمير المؤمنين إلى الظلم والتظاهر عليه،وعدم الخوف من اللّه،وغير ذلك مما في الخبر،فلم لا درؤوا عنهم قوله فيهم بخبر عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في فضل أبي بكر ؟

وأي موضع أولى بذكره من ذلك الموضع ؟ ثم في أيام مقاولة المهاجرين

ص: 554


1- راجع صحيح البخاري1: 166و169و175باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.
2- الفقه الأكبر لأبي حنيفة:13 وفيه قال:الصلاة خلف كل بر وفاجر من المؤمنين جائزة.
3- أي وعدول صاحبيه .

والأنصار، وما شاع بينهم من الخصام والجدال بعد بيعة أبي بكر مدة، وشاعت فيما بينهم في ذلك الخطب والأشعار ، حتى قال في ذلك النعمان بن عجلان الأنصاري - وكان من سادات الأنصار - يخاطب أصحاب أبي بكر:

وقلتم:حرامٌ نصب سعد وتصبكم***عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

وليس أبو بكر لها خير قائم***وإن عليّاً كان أخلق بالأمر

وكان هواناً في علي وإنه***لأهل لها ياعمرو من حيث لاتدري(1)

في أبيات كثيرة،ومثله قال غيره من الأنصار.

وما احتج عليهم أبو بكر ولا أحد من أعوانه بخبر عن النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في الشيخ يقتضي استحقاقه الخلافة،مع اقتضاء الحاجة ذكره،وعدم الصارف عنه،وانتفاء المواقع من إيراده.

وغاية ما عندهم في المدافعة ما تشبثوا به في السقيفة من قضية الغار والصلاة،فعلم من ذلك أنه ليس لهم في فضل الرجل في ذلك الوقت حديث ولا خبر،وإنما أولياؤه بعد ذلك فيه زؤروا ما أرادوه كما هي السجيّة والخلق الذي عنه أخذوه، فتبين أنه ليست حال أبي بكر في عدم إيراد نص عليه كحال أمير المؤمنين(علیه السلام)فی تركه إيراد النص، لوجود الداعي إلى تركه هنا، ووجود المانع من إيراده،وهوتحققه منهم إنكاره ورده مع قيام ما ذكره بثبوت حقه لو أنصفوه، وعدم حصول

شيء من ذلك في أبي بكر، فهذا فرق ما بين الحالين، وتمييز مابين الأمرين.

ويزيد ما بيناه توضيحاً وصراحة ما جرى يوم الشورى، فإن عليّاً(علیه السلام)ذكر له

ص: 555


1- الاستيعاب1501:4،شرح نهج البلاغة 6: 31 وفيهما: ( وأهل أبو بكر) بدل من: ( وليس أبو بكر).

جملة من النصوص عليه من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)وطائفة من مناقبه، وناشدهم ذلك،كحديث برائة والإخاء وما شابههما من الأفعال، وخبر الغدير والمنزلة وما ضارعهما(1)من الأقوال التى عددناها في ذكر النصوص، كل ذلك يقرون به ولا ينكرون منه شيئاً، والقصّة مشهورة عند الخصوم، وقد أقر بها القوشجي وابن الحديد وذكرا أنها مشتهرة(2)لكنه اقتصر في نقلها على ذكر جملة مما ذكره أمير المؤمنين من النصوص عليه، محتجا به على القوم.

و هم مع تصديقهم إيَّاه واعترافهم بصحة نصوصه لم ينصرفوا بها عن صرف الخلافة عنه إلى غيره ، بل بايعوا عثمان وتركوه، ولم يعتنوا بتلك النصوص والمناقب، عتوّاً على اللّه وخروجاً عن طاعة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وهدّدوه إن لم يبايع عثمان أن يقتلوه أو يقاتلوه(3)، وعثمان لم يذكر لنفسه فضلاً ولا أورد في استحقاقه الخلافة خبراً .

وإنّما وعدهم بأن يسير فيهم بسيرة الشيخين وما الأولون بدونهم في رد نصوص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،بل هم أدهى فيه وأمر، ومنهم تعلم ابن عوف والثلاثة الذين معه في الشورى(4)مخالفة النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ورد نصوصه، لأنهم أتباعهم ومقلدوهم، وهم على إبطال حكم النبي جرّؤوهم.

ص: 556


1- أي مثلهما، أنظر القاموس المحيط56:3.
2- شرح نهج البلاغة167:6،وانظر تاريخ مدينة دمشق 431:42،المناقب للخوارزمي: 313. كنز العمال724:5ح14243.
3- شرح نهج البلاغة54:9نقل عن الشعبي أنه اجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع فقاموا إلى عليّ (علیه السلام)فقالوا: قم فبايع عثمان قال: فإن لم أفعل، قالوا : نجاهدك.
4- أي الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه وسعد بن أبي وقاص (شرح نهج البلاغة 185:1)

وهذا من أعدل شاهد على ما قلناه من عدم اعتناء القوم بنصوص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)في حق علىّ(علیه السلام) طلباً للدنيا وحباً للرئاسة، فترك ذكره أمير المؤمنين لهذا.

[وجه آخر على عدم ذكر النص ]

ووجه آخر وهو أن علياً(علیه السلام)في ذلك الوقت غير محتاج إلى إيراد النصّ إن سلّمنا أنه لم يورده، لأن إيراده إنما هو لإثبات أنه المستحق لمقام الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)دون خصمه،وأبو بكر وأصحابه مقرون له بذلك، لأنهم قد أثبتوا استحقاق الخلافة بقرابة الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،ودفعوا الأنصار عن طلبها وخصموهم بها عن المطالبة فيها، فكان ذلك إقراراً منهم لعليّ(علیه السلام)بالحق، لأن قرابته من الرسول علي وأقربيته من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)معلومة غير مجهولة، ومعروفة غير منكورة.

فلذا قال لهم كما في الخبر: إنّي أحتج عليكم بما احتججتم به على الأنصار، فإن كانت الخلافة بالقرابة، فأنا أحق الناس بها لأنّي أقربهم من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،فلم ينكر منهم أحد ذلك، بل أقروا به لكنّهم أصروا على منعه حقه،وقالوا له:لا نسلم لك هذا الحق لأنك صغير السنّ(1)فأي حاجة بعد هذا لذكر النصّ؟وأي فائدة في إيراده و تعداده؟

وهل هو في ذلك إلا كرجل يدعي قبل آخر حقاً،وله على صحة دعواه بينة عادلة،لكن المدعى عليه فى حال المخاصمة أقرّ له بحقه وقال : لا أدفعه إليك،ولا أسلمه ؟

فهل ترى يحتاج المدعي في إثبات حقه بعد إقرار خصمه به إلى إحضار بينة،أو يحكم عليه حاكم عادل بلزوم إحضارها في ثبوت حقه ؟ مع أن البيئة لا يصار

ص: 557


1- شرح نهج البلاغة12:6.

إليها إلّا إذا لم يقر المدعى عليه بصحّة دعوى المدّعي،وإذا حصل الإقرار من المدعى عليه فلا حاجة إلى البيئة.

أفليس لا يبقى للمدعي بعد إقرار المدعى عليه له بحقه وإصراره على منعه إلا

إجباره على تسليم الحق وأخذه منه قهراً؟وإذا لم يجد المدعي من يأخذ له بحقه أو يعينه على استخراجه من خصمه ويخاف من مطالبته به وصول الضرر إليه لا يبقى له إلا الكف والسكوت إلى وقت التمكن ؟

وكذا أمير المؤمنين(علیه السلام)فعل ما يلزم فعله في الشرع والعقل، فإنه قرر خصومه بالحجة، فأقروا له بالحق لقضية القرابة،وأصروا على ترك تسليم حقه إليه، فلم يبق عليه بعد هذا إلا استخلاص حقه منهم بالجبر، واستخراجه من أيديهم بالقهر،فطلب الأعوان على ذلك وطاف على دور أهل السوابق من الصحابة، مركباً فاطمة على حمار،أخذاً بيد الحسن والحسين،یدعو الناس إلى معونته على استيفاء حقه من أبي بكر بالسيف،إذا لم يبق غيره فكان يبايعه بالليل أربعون رجلاً على ذلك،ويعدهم أن يوافوه صبحاً،فإذا أصبح لم يوافه إلا أربعة أو خمسة،حتى فعل ذلك ثلاث ليال(1).

وهذه حالهم معه كما صح عند خصومنا واشتهر بينهم، فلمّا تبيّن له الخذلان من الناس سكت وكف على ما في صدره من المضض، وفي قلبه من الألم، إذ لم يبق بعد فقد الناصر وعدم المعين على أخذ الحق من الممتنع عن تسليمه إلا الكفّ والسكوت، سيّما إذا كان الضرر في ترك الكف عنه مظنوناً وصوله إلى

ص: 558


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي:301،السقيفة وفدك : 63، شرح نهج البلاغة 14:11 ، الاحتجاج 107:1.

صاحب الحق من ذلك الظالم أو من تابعيه،فليس لذكر علي(علیه السلام)النص في المقام موضع،ولا لإيراده موقع،وهو واضح لاخفاء فيه، ومكشوف لا سترة عليه.

وهذا بخلاف أبي بكر وأصحابه،فإنّهم في تمام الحاجة إلى ذكر نص عليه،أو خبر في مدحه،لأن أميرالمؤمنين(علیه السلام)يرميهم جميعاً بالظلم والعدوان واغتصاب حقه، والعباس بن عبدالمطلب كذلك وجماعة من الأنصار هكذا،فلو كان ثمة له دليل من النصوص الأورده ومنع به خصمه عن نفسه،أو حجة من قول النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم) لناضل بها منازعه،لكنه وصحبه لم يذكروا من ذلك شيئاً، مع دعاء الحاجة إليه، فعلم أنه لا شيء منه بموجود ، فافترق الأمران، وبالله المستعان.

[تشنيع ابن أبي الحديد ورده ]

وقد وضح من هذا كله بطلان ما أورده ابن أبي الحديد في المقام،وما شنّع به على أصحابنا في موضع آخر،حيث قال: فإن قالت الإمامية:كان يخاف القتل لو ذكر ذلك-يعني النص-.قيل لهم:فهلّا خاف القتل وهو يُعتل(1)ويدفع ليبايع وهو [يمتنع و](2)يستصرخ تارة بقبر رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)، وتارة بعمه حمزة وأخيه جعفر، وهما ميتان، وتارة بالأنصار، وتارة ببني عبد مناف ويجمع الجموع في داره ويبت الرسل والدعاة ليلاً ونهاراً إلى الناس،يذكرهم فضله وقرابته ويقول للمهاجرين:«خصمتُم(3)الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)،وأنا أخصمكم يما خصمتم به الأنصار»،لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة فأنا أقرب منكم؟

ص: 559


1- أي يؤخذ بقوة إلى البيعة، أنظر العين 2: 69.
2- مابين المعقوفين من المصدر.
3- أي غليتم .

وهلا خاف من هذا الامتناع، ومن هذا الاحتجاج، ومن الخلوة(1)في داره بأصحابه و من تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ لمن عقدت له(2)؟انتهى.

وفيه مع اندفاعه بما مضى من البيان فساد واضح من وجهين:

الأوّل: دعواه أن الإماميّة يقولون : خاف على(علیه السلام)من ذكر النصّ،والحال أنه ولا واحد من الإمامية بقائل أن أمير المؤمنين(علیه السلام)لم يذكر النصّ، بل كلهم متفقون على أنه(علیه السلام)ذكر النص للقوم وذاكرهم لما سامعوه وخاصمهمبه أشد خصام،فلم يقبلوا منه، فعدل إلى القرابة التى احتجوا بها على الأنصار، فتعلّلوا عليه كما رويتم، فلم يجد شيئاً يكفهم به عن ظلمه وينتزع به من أيديهم حقه إلا السيف، فصمّم العزم على مناجزتهم، فلم يجد ناصراً، طلب أربعين رجلاً ذوي عزم فلم يوافقه ولم يجبه إلا أربعة أو خمسة(3)، فكف وسكت.

وهذا المشنّع ذكر ذلك مراراً في كتابه وصححه و اعترف به هنا كما ترى،فلیس أحد من الإمامية يقول:إن علياً(علیه السلام)لم يذكر النصّ عليه،بل يقطعون بأنه ذكره،ويجزمون بأن القوم ردّوه،ولم ينقادوا له،ورواياتهم بذلك ناطقة، ومصنفاتهم بذلك مصرحة(4).

الثاني : قوله«إنّه خاف القتل»فإنّ الإمامية إن قالوا خاف القتل فإنّهم يريدون أنه(علیه السلام)خاف القتل من استمراره على ترك بيعتهم، فضرع(5)لها وأجاب دفعاً للقتل عن نفسه، إذ لا معين له، وهو قد صرّح بهذا المعنى له، وهو قد صرّح بهذا المعنى في كثير من خطبه

ص: 560


1- فى الحجرية: (الخلق)،والمثبت عن المصدر.
2- شرح نهج البلاغة111:11.
3- شرح نهج البلاغة 14:11 .
4- أنظر الاحتجاج 1: 95-97 .
5- أي خضع وخشع واستكان للبيعة كما في لسان العرب 221:8 والقاموس المحيط 1: 28.

كالشقشقية(1)وغيرها وقد ذكرنا شطراً من كلامه في هذا المعنى فيما تقدم،وسيأتى منه الكثير إن شاء اللّه،لا أنه خاف القتل من ذكر النصّ،فإنّه لا قائل به من الإماميّة،فإن كان صادقاً فليدلّنا على هذا القائل.

نعم إن قال أحد منهم:إنه خاف من ذكر النص مجازاة للخصم،فإنّه يريد أنه خاف منهم إنكاره وردّه،وذلك صحيح، وقد أوضحنا وبيناه؛فزال تشنيعه على أصحابنا بقوله:هلّا خاف من كذا،وهلا خاف من كذا.

[من تناقضات ابن أبي الحديد]

هذا كله مع ما يعود عليه في هذا التشنيع من بطلان مذهبه وفساد عقيدته،وذلك من وجهين:

الأوّل: أنّه ملأ كتابه من الدعوى برضا عليّ(علیه السلام) بخلافة أبي بكر، وروى في ذلك أحاديث كثيرة عن أسلافه، وأن علياً(علیه السلام)لم يدع أحداً إلى نقض بيعة أبي بكر،ولا استصرخ الناس لحربه، ولا نازعه وأصحابه(2)،وقد قدمنا بعضاً من كلامه في هذا في فصل أحاديث فضل الإمام،ثم هو الآن يقول:إنه استصرخ الناس لحرب أبي بكر وكاشف ونازع وعُتل(3) ودفع ويت الرسل والدعاة يدعون الناس إلى نقض بيعة الشيخ ومحاربته(4)،فانظر إلى هذا التناقض العظيم في أقواله والتعارض الشديد في كلامه.

ص: 561


1- نهج البلاغة 1: 30 الخطبة الثالثة.
2- شرح نهج البلاغة98:3و 99 وج 6: 47 و 48 .
3- العمل : أن تأخذ بتلابيب رجل فتعتله أي تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو عذاب كما في العين 69:2.
4- شرح نهج البلاغة 12:6و 13.

الثاني: أنه شحن الكتاب أيضاً من قوله : إنّ عليّاً لو كاشف القوم ونازعهم وسخط إمارتهم ولم يرضها فضلاً عن أن يكون شهر السيف عليهم لحكمنا بضلالهم وفسقهم وهلاكهم، كما حكمنا بهذا كله على من خالفه أيام خلافته ، لأنه على الحق دائماً .

ونقل ذلك أيضاً عن مشايخه البغداديين(1)،ثم هو هنا وغير هنا يذكر أنه(علیه السلام) خالفهم ونازعهم،واستصرخ الناس عليهم،ودعا الناس إلى قتالهم،وجمع الجموع في داره لذلك، واستغاث منهم بالأموات والأحياء(2)،فلازم ذلك أن يحكم على أئمته بالضلال والفسق،ويوافقنا في ذلك،وهو لا يحكم عليهم بل يصرح في مواضع من كتابه بأنهم من الدين والإيمان،وصحة اليقين بمكان مكين(3)،وغير ذلك من الأوصاف الجميلة التي تزيد على الوصف،وكان اللازم هذا عليه تكذيبه في معتقده أو افترائه في أخباره،أو حكمه بضلال أئمته،فما كان أغناه عن كشف هذه القبائح،وبيان هذه الفضايح، ونشر هذه المعايب.

وهذا يصرّح لك عن هذا الرجل بأنه نهج منهج الخلط والتخبيط؛يقول شي وضده،ويأتي بالأمر ونقيضه،ويعتقد مذهباً ومنافيه،كل ذلك عنده صحيح،وفي خياله رجيح، لا يقف على حد محدود،ولا يقتصر على مذهب معلوم،وهذه الطريقة أشبه شيء بالزندقة، أعاذنا اللّه والمؤمنين من المضلات، ومن الانغماس في الجهالات .

ص: 562


1- شرح نهج البلاغة 98:3و 99 .
2- أنظر شرح نهج البلاغة20:6- 42.
3- شرح نهج البلاغة99:3وج 6: 48 -50.

وظنّي أن الخلط والخبط في المذاهب والأقوال والأحاديث والأخبار قد استفاده من إمامه عمر،فإنّ من دأبه نقض أحكامه وإبطال أقواله،فيفتى بالحكم وضده،وقد روى تابعوه ومنهم الرجل المذكور ذلك عنه في وقايع جمة وقضايا متعدّدة وذلك يدلك على عدم علمه بالأحكام ومداركها، فيحكم في كلّ واقعة بما دار في خلده، وما جرى على لسانه، وما استصلحته نفسه،ولا يدري في أي الحكمين أصاب،وفي أيهما أخطأ،ولا من أي مدرك شرعي أخذ(1)ما حكم به،وذلك لازم ما أخبر عنه ابن أبي الحديد في السابق من كلامه،فاتضح أن تشنيع المعتزلي على أصحابنا عاد بالآخرة تشنيعاً عليه.

[عناد القوشجي مع الحق ]

واحتجّ القوشجي على فقد النصّ مطلقاً على أمير المؤمنين، وخصوصاً قول النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلّم): «سلّموا على علي بإمرة المؤمنين»،وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لعليّ:«أنت الخليفة بعدي»،وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)مشيراً إليه:«هذا خليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»،وقوله(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)حين جمع بني عبد المطلب :«أيكم يبايعني ويوازرني يكون أخي ووصتي وخليفتي من بعدي»فبايعه على(علیه السلام).

وهي التي استدلّ بها سلطان الحكماء والمتكلّمين نصير الملّة والحق والدين،بأنّ هذه النصوص لم تثبت عمّن يوثق به من المحدثين،مع شدة محبّتهم الأمير المؤمنين(علیه السلام)ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين،ولم ينقل عنه في خطبه ورسائله و مفاخراته ومخاصماته وعند تأخره عن البيعة إشارة إلى تلك النصوص، وجعل عمر الخلافة شورى بين ستة ، ودخل

ص: 563


1- في الحجرية: (مأخذ)والمثبت أنسب.

عليّ في الشورى،وقال عباس لعلي:أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس هذا عمّ رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم) بایع ابن عمّه،فلا يختلف فيك اثنان.

وقال أبو بكر: وددت أنى سألت رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عن هذا الأمر فيمن هو،وكنا لا ننازعه،وحاج علي(علیه السلام)معاوية ببيعة الناس له لا بنص من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،انتهى كلامه(1).

والجواب : أما قول النبى(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«سلّموا على على بإمرة المؤمنين»و«أنت الخليفة بعدي»فمتواتر عند الشيعة،فضلاً عن كونه مرويّاً،وليس التواتر عند الشيعة على كثرتهم يقصر في الخبر عن كونه خيراً صحيحاً،لاسيما إذا لم يكن له مناقض يعتد به،وكان له معاضد من الأدلة الصحيحة،وقد ذكرنا في النصوص ما يصرح به عن محدثيهم.

وأما قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)«هذا خليفتي فيكم»إلى آخره،وقوله:«يا بني عبدالمطلب، أيكم يبايعني ويوازرني»إلى آخره، فكلاهما في حديث الوزارة، حين جمع النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بني عبد المطلب بعد نزول قوله تعالى:﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(2)وقد رواه الثقاة من محدّثى العامة،واستدل به متكلموهم كابن إسحاق وابن جرير الطبري(3)،وأبي جعفر الإسكافي وغيرهم(4)،فلا معنى لقول المعترض إن هذه النصوص لم تثبت عمن يوثق به من المحدثين.

ص: 564


1- شرح التجريد للقوشجى المقصد الخامس في الإمامة، ص 4.
2- الشعراء :214.
3- تاريخ الطبري 2: 63 نقله عن ابن إسحاق.
4- مسند أحمد159:1،سنن النسائى 5: 126 ، خصائص أمير المؤمنين(علیه السلام): 86، شرح نهج البلاغة212:13، شواهد التنزيل546:1،كنز العمال149:13ح 36465، مجمع الزوائد302:8،وقال في ديله : رواه أحمد ورجاله ثقات.

وأما خطب أمير المؤمنين(علیه السلام)وكلماته فهى مشتملة على ذكر النص عليه كثيراً،مثل قوله:«وإنّي لأولى الناس بالناس(1)،وإنّي وارث رسول اللّه(2)،وإني وصيّ رسول اللّه(3)،وإن رسول اللّه عهد إلى(4)»ومعناه باليقين استخلفني،وكلامه لمن سأله:بم ورثت ابن عمك دون عمك،وغير ذلك مما مضى ويأتي،ومخاصماته بالنصوص مشهورة،فإنّه كان دائماً يدعي النصّ عليه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)كما مرّ في حديث ابن عباس مع عمر بن الخطاب،ومخاصمته أهل الشورى بالنصوص أمر معلوم قد اعترف به هذا المعترض وغيره(5).

وبالجملة فدعوى على(علیه السلام)النصّ عليه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)واضحة،كالشمس الضاحية ، لا يجهله إلا جاهل محض ، ولا ينكره إلا معاند صرف ، فلا معنى لقول المعترض إنّه لم ينقل في كلامه إشارة إلى تلك النصوص ، لأنه قد اشتهر بها التصريح في كلامه دون الإشارة.

[علّة دخول أمير المؤمنين(علیه السلام)في الشورى]

وأما دخوله في الشورى فلوجهين :

الأول:أنه خاف القتل فى امتناعه من الدخول في الشورى بعد ما عينه عمر،لأن امتناعه صريح في الخروج عن طاعته، ورد إمامته،فلا يأمن أن يأمر بقتله فيُقتل،وعمر مطاع في أصحابه،وأكثرهم مبغضون لعليّ(علیه السلام)،وكيف يحاذر من

ص: 565


1- نهج البلاغة 1: 231 الخطبة: 118 .
2- الأماني للصدوق:92.
3- الأمالي للصدوق: 92 الإرشاد335:1،مدينة المعاجز 1: 487 بحار الأنوار261:41.
4- نهج البلاغة89:3 الخطية : 175.
5- شرح نهج البلاغة 20:12 و 21.

قتل علي(علیه السلام)لو خالف أمره، وقد أوصى بقتل من يخالف عبد الرحمان بن عوف من أهل الشورى، وبقتل ستتهم إن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على واحد منهم، وعلي فيهم، فأطيع في ذلك كله، وأُخِذَ الستة بذلك من أبي طلحة الأنصاري وصي عمر على إنفاذ هذه الوصيّة، ولو لم يفعلوا كما قال لقُتلوا جميعاً ، كما صح فى روايات القصّة عند الخاصة والعامة(1).

وهذا أمر ظاهر لا ينبغي التشكيك فيه، وأقل الأمور إنه(علیه السلام)يظن الضرر لو امتنع من إنقاذ قول عمر،ودفع الضرر المظنون واجب عقلاً وشرعاً.

الثاني: أنّه من الجائز أنّ أمير المؤمنين دخل في الشورى ليتمكن من المطالبة بحقه،والإدلاء بحجّته على ذلك ، وإذا لم يدخل فيها لم يتمكن من ذلك ، ولذا إنه خاصم القوم وحاجهم بالنصوص عليه لا بغيرها، وقال هناك: «إن لنا حقاً إن نُعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى»(2)(3).

وعرض عليه ابن عوف المبايعة على سيرة الشيخين فأبى إلا على كتاب اللّه

ص: 566


1- تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة 185:1 وما بعدها.
2- قال ابن الأثير في النهاية 3: 185 في ذيل الحديث أعلاه الركوب على أعجاز الإبل شاق، وإن منعنا حقنا ركبنا مركب المشقة صابرين عليها وإن طال الأمد، وقيل: ضرب أعجاز الإبل مثلاً لتأخره عن حقه الذي كان يراه له وتقدم غيره عليه، وأنه يصبر على ذلك وإن طال أمده: أي إن قدمنا للإمامة تقدمنا وإن أخرنا صبرنا على الأثرة وإن طالت الأيام. وقيل يجوز أن يريد وإن نمنعه نبذل الجهد في طلبه، فعل من يَضْرِبُ في ابتغاء طلبيه أكباد الإبل، ولا يبالي باحتمال طول السرى .
3- نهج البلاغة 4: 6 باب الكلمات القصار برقم: 22 ،تاريخ الطبري 300:3،ذیل حوادث سنة 23 ،تاريخ مدينة دمشق 429:42،غريب الحديث لابن قتيبة370:1،شرح نهج البلاغة195:1،وج6: 167وج9 : 307وج286:10وج 18: 132، الفائق في غريب الحديث 2: 336 ذيل مادة عجز.

وسنة رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وكان ذلك إما لاحتماله قبول القوم قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وإما لإلقاء الحجّة، لئلا يقول قائل من القوم : لا أدري أو نسيت، فلم يذكرني أحد، وقد أرسل اللّه موسى إلى فرعون وهو يعلم أنه لا يؤمن،فليس من المقطوع به أن يكون دخول أمير المؤمنين(علیه السلام)في الشورى لرضاه بها، وجواز الإمامة عنده بالاختيار ،بل ولا من المظنون،مع قيام الاحتمالين القوتين، وإذا لم يكن رضاه بالشورى معلوماً من دخوله فيها سقط الاحتجاج بها على مراد القوشجي .

وهنا وجه ثالث ذكره أصحابنا عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنه إنما دخل في الشورى لتكذيب عمر وصاحبه في روايتهما عن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم):ولم يكن اللّه ليجمع لنا أهل البيت بين النبوة والخلافة(1)،وهو وجه ظاهر الصحة.

[مناقشة رواية امدد يدك ]

وأما قول العباس: أمدد يدك أبايعك(2)ففيه ثلاثة وجوه :

الأول: أنها رواية يختص الخصم بنقلها فلا حجّة فيها، مع أنهم رووا ما يعارضها، وهو الخبر المتقدّم المشتمل على شهادة العباس لعليّ(علیه السلام)بالنصّ عليه من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وإبلاغ ابن عباس عمر ذلك عنه، وإقرار عمر ببعض ذلك،بل بكله،والترجيح لهذا الخبر لأنه أوضح دلالة ولاعتضاده بالأخبار الصريحة في النص على علىّ(علیه السلام).

الثاني : أن الرواية لا تدل على نفي النص بحال، لأن قوله : أمدد يدك أبايعك

ص: 567


1- نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1: 189 عن قطب الدين الراوندي، وانظر الطرائف:184.
2- شرح نهج البلاغة 1: 160 وج 9: 28.

إلى آخره،ليس فيه ما(1)يدل على عدم النصّ لا بالمطابقة ولا بالتضمن،وهما ظاهران،ولا بالالتزام،إذ لا ملازمة فى العقل بين البيعة لئلا يختلف الناس وبين عدم النص إلا بالجزم بعدم مخالفة القوم لنص النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لو كان موجوداً والمقطوع به من حالهم خلاف ذلك.نعم،هناك ظاهر ضعيف، وهو لا يعارض القاطع .

الثالث: أنّه من الجائز أن يكون العباس دعا علياً(علیه السلام)إلى المبايعة لا لفقد النص عليه، بل دعاه إلى ذلك خوفاً من اختلاف الناس عليه،لعلمه منهم ذلك،كما أشار إليه بقوله:حتى يقول الناس:هذا عم رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)بايع ابن عمه، فلا يختلفون فيك،فدعاه إلى المبايعة لدفع اختلاف الناس عليه،لا لإحداث إمامته بالبيعة.

بل ظاهر الحال أنّ إمامة على(علیه السلام)كانت معلومة عند العباس، وأراد بالبيعة توكيدها ودفع الاختلاف فيها أو لأنه خاف أن يسبق سابق بالبيعة لعلمه أن القوم لا يقفون مع قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في علي ونصه عليه لما ظهر له من الأمارات الواضحة وقرائن الأحوال،فأراد السبق بمبايعة علي(علیه السلام)ليستقر أمره،فلا تفيد بيعة غيره

بعد ذلك في النقض عليه ويزول الاختلاف،وإذا جاز ذلك بطل الاستدلال بالخبر إن صحّ،إذ لا حجّة فيه حتّى يحصل العلم بأن دعاء العباس عليّاً(علیه السلام)للبيعة لفقد النص عليه لا لفائدة أُخرى.

وليس ذلك بحاصل ولا ظاهر إن لم يكن الظاهر من ذلك خلافه،لأن تقديم العباس عليّاً على نفسه في خلافة النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم)مع كونه أسن منه يظهر منه أنه كان السماع العباس من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أن علياً هو خليفته ، والأحق بمقامه، فكان الخبر لنا لا علينا .

ص: 568


1- كلمة:(ما)أضفناها لاقتضاء السياق.

وأما قول أبي بكر: وددت أني سألت النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)إلى آخره، فإنّه قال ذلك تقريراً لإنكار النصّ على علىّ(علیه السلام)وتصنعاً منه وتشبيهاً على من لم يعلم بأنه ما ظلم واحداً بعينه في تقدّمه، ولا في استخلافه عمر من بعده، ليكون قوله هذا معارضاً الدعوى على(علیه السلام)النص عليه، ويستتم له ما أراد من حرمان أهل البيت حقهم من خلافة النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)في ظاهر الأمر عند عامة الناس في جميع الأزمنة،لما يعلم من أن الأزمنة ، لما أهل البيت إن تمكنوا من الخلافة وقتاً من الأوقات واستفرات قدمهم فيها ظهر من ظلمه لهم ما كان مستوراً عند العامة،وزال الوثوق به عندهم وفسد ما دبره.

ولو لا ما ألقاه من الشبه هو ومؤازروه بالقول والفعل لما خفي على عوام الناس النص على عليّ(علیه السلام)،ولا أنكره أحد لوضوحه،فضلاً عن أن يكون خفياً على المجيب وأمثاله من المحققين،حتى جادلوا فيه أتم الجدال،وبلغوا في إنكاره إلى الجمع بين الأمور المتناقضة والمذاهب المتخالفة،فلذلك قال الرجل ما قال ليشبه على الجهال فنال ما طلب.

ولو أنه صرّح بما علمه من النص على علىّ(علیه السلام)الطعن فيه العامة ، لتقدّمه على من نص عليه النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)، وقد حوا في استخلافه صاحبه، وهو لم يترأس ليكون مطعوناً عليه عند العوام، وإنّما فعل ذلك ليكون عندهم موثقاً مطاعاً في الحياة والممات، ليتم مقصده المذكور، وتصريحه بالنصّ يزيل ذلك كله عند سائر الناس، وهو خلاف مطلبه، فليس في قوله حجّة على فقدان النص لأن له في إخفائه غرضاً قوياً.

ثم إن استدلال القوشجي بكلام أبي بكر على انتفاء النص مطلقاً على واحد معين يعود عليه بالنقض في دعواه إجماع الصحابة على استخلاف النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)

ص: 569

أبا بكر(1)،ويكذب حديث عائشة الذي هو الدليل عندهم على ذلك،وهو:«أدعي أباك وأخاك...»المتقدّم ذكره(2)،ويبطل روايته في أبي بكر،وهو قول النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)فيه:«وخليفتي في أُمتي»(3)،وهذا دأبه متناقض الأقوال، مختل الكلام.

[المناقشة في رواية محاجة على(علیه السلام)معاوية]

وأما محاجّة علىّ(علیه السلام)معاوية ببيعة الناس له لا بنص فهي إن سلمت مثل محاجته للصدر الأوّل بالقرابة، وذلك أن النصوص الواردة من النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)على علىّ(علیه السلام)،وإن كانت صريحة واضحة ومعاوية يعلمها ولا يجهلها،ويعرفها باطناً ولا ينكرها، لكن وهَّنَ دلالتها وشبه صراحتها على تابعي معاوية من أهل الشام،وأكثر تابعي عليّ(علیه السلام)، إذ جُلّ من معه يرون أن إمامته بالبيعة لا بالنص عليه ويثبتون(4)تقدّم الثلاثة عليه في الخلافة .

فكان الفريقان يذهبان إلى أن الإمامة بالاختيار لا بالنص،وأن النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)لم ينص على واحد بعينه.

ولو احتج أمير المؤمنين(علیه السلام)بالنص على معاوية لم يسلّمه له في الظاهر، وإن كان يعلم صحته كما لم يسلّمه له الأولون،إذ ذَكَرَه،ولم يلتفت إليه أهل الشورى إذ أورده،ولا رآهم الناس من العامة خالفوا النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)،إذ ردوا نصه لتلك الشبهة المرتكزة في نفوسهم.

ص: 570


1- شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس في الإمامة: ص 15 السطر 15.
2- مسند أحمد 6: 144، المعجم الأوسط للطبراني 340:6.
3- شرح التجريد للقوشجي ، المقصد الخامس في الإمامة: ص 10 .
4- كلمة:(ويشتون) من عندنا لاقتضاء السياق

وكان يتّجه لمعاوية عند أهل الشام وأكثر أهل العراق أن يجيبه بأن يقول:إذا كنت أنت المنصوص عليك بهذه النصوص فلم تقدّم عليك فلان وفلان؟ولم قرن عمر بك في الشورى فلاناً وفلاناً إلى آخره؟ولم قدم عليك أهل الشورى فلاناً، وهؤلاء خيار الصحابة؟

أفتقول:إنّهم ظلموك وانتهبوا حقك،فإن صرّح بما لا يحتمل التأويل،بأنهم ظلموه وغصبوه حقه،وخالفوا نص رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)عليه،وقوله فيه،وتقدّموا عليه عدواناً،كانت هذه هی الطامة الكبرى،التي ودّ معاوية لو تكلم أمير المؤمنين بكلمة تدلّ عليها، ليجعلها من أعظم الموجبات لمخالفته وقتاله.

فما رضاه بقتل عثمان الذي اقتضى لزوم خلافه ووجوب حربه عند أهل الشام إلا دونها بمراتب، فيزدادون بها ضلالاً وعتوا عليه، ويتفاقم خطبهم، ويزيد فسادهم، وهو(علیه السلام)لا يريد إصلاحهم.

ثمّ ليست هذه مقصورة على فساد أهل الشام خاصة،بل يتمشى الأمر بها إلى فساد أكثر جند أمير المؤمنين(علیه السلام)عليه، لأن عامتهم يرون في الإمامة ما يرى أهل الشام،ويصححون خلافة الثلاثة،ويوثقونهم ومن معهم من الموازرين لهم فيما فعلوه،ويناقضون عليّاً(علیه السلام)في مخالفته فتاوى الشيخين،كما هو معلوم.

فكيف يتبعونه إذا صرّح بأنهما من الظالمين الغاصبين،وقد علم کافة أُلی الألباب أنّ الحجّة إذا لم يسلمها الخصم ولا تابعوه لم يكن في الاحتجاج بها عليه فائدة،وإن كانت صحيحة،وإنه يجب العدول عنها إلى حجة لا يقدر الخصم على دفعها، ولا يجد سبيلاً إلى منعها،إذا كانت موجودة.

هذا كله إذا لم يجز الاحتجاج بها على المحتج ضرراً، فكيف إذا كان ذلك يجرّ

ص: 571

الدواهي الدهم عليه، ويكون موجباً لفساد أصحابه، وزيادة ضلال أصحاب الخصم وغوايتهم.

ومع هذا لا يؤمن على معاوية أن يقيم شهوداً عند أهل الشام-مثل ابن العاص وأبي هريرة وحبيب بن مسلمة الفهري، والضحاك بن قيس،وأضرابهم-يكذبون علیّاً(علیه السلام)فى دعواه النصّ،وأنّ المنصوص عليه فلان وفلان إلى آخر من يريد معاوية .

والكذب عند هؤلاء على اللّه ورسوله اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)أهون من شرب الماء البارد على الظمآن، وخصوصاً فيما يعيبون به على أمير المؤمنين(صلى اللّه عليه وآله وسلّم)وأهل الشام يصدقونهم جميع ما قالوا،لظنهم فيهم الخير، فتبطل الحجة عند طعام أهل الشام مع حصول الضرر.

فلهذا كله عدل أمير المؤمنين(علیه السلام)عن ذكر النصّ إلى الاحتجاج ببيعة المهاجرين والأنصار له،إذ كانت هي النافعة في المقام،والمعتبرة عند العوام،وإن معاوية لا يستطيع إنكارها،ولا يسعه الطعن فيها،ولا يتيسر له إنكار ثبوت الإمامة بها،لأنه هو وجميع من معه والجم الغفير من أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام)يجعلونها هي الطريق للإمامة، ويثبتون بها إمامة المتقدمين، وبها يتعلق معاوية دعواه الطلب بدم عثمان، كما زعم وذلك لتقوم بها عليه الحجة ظاهراً، ولا يمكنه المدافعة والممانعة، ولا يقبل قوله في علي(علیه السلام)إنه يبرأ من الشيخين ويفسقهما ، كما أكثر من ذلك في كتبه إلى عليّ(علیه السلام).

وهذه عند أهل الذكى من أعظم الأدلة على بلوغ أمير المؤمنين(علیه السلام)في الحكمة ومعرفة سياسته الأمور الغاية القصوى،ولو جرى على من تقدمه من رعيته

ص: 572

ما جرى عليه، إذن، ما استقر في الإمارة شهراً، ولذا لم يتمكن معاوية ابتداء من التخلف عن بيعته(علیه السلام)عند أهل الشام إلا بطلب قتلة عثمان منه، وإنه إذا دفعهم إليه كان أسرع الناس إلى طاعته.

فتعلّق أولاً بأمر مقبول عند أهل الشام غير ثبوت إمامة على(علیه السلام)ونفيها، لعلمه أن أهل الشام لا يقبلون منه ابتداءً إيطال بيعة الصحابة لمن بايعوه، وببطلان ما دعاهم إليه من الطلب بدم عثمان لو صرّح أوّل الأمر بذلك وتيقنه أن علياً (علیه السلام)لا يجيبه إلى ما طلبه على الوجه الذي أراد، لأنه غير جائز شرعاً من وجوه لا يحسن هنا بيانها ، فتتم له الحيلة المقصودة له في باطن أمره بهذه الشبهة، فلمّا تمكن ارتفع عن ذلك إلى القدح في بيعة علي بأنه قاتل عثمان ظلماً بزعمه أو راض بقتله،ولا تصح الخلافة لقاتل خليفة مظلوم ،لا لأن بيعة الصحابة لا توجب الإمامة.

وكانت هذه أيضاً شبهة مقبولة عند أتباعه.

ثم كان كلّما تمكن من أمر ارتفع إليه حتّى تمّ له جميع ما حاول وطلب من أمر الدنيا،فكان تعلّله إذ لم يتمكن من القدح في أوّل الأمر في إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام)ببيعة المهاجرين والأنصار له بما تعلّل به شبيهاً بتعلل الأولين بحداثة السنّ إذ أعيتهم الحيلة في دفع حجّته.

فليس ترك أمير المؤمنين(علیه السلام)مخاصمة معاوية بالنص لكونه مفقوداً،بل لكونه غير نافع،بل مقتضياً للضرر يقيناً، وترك ما يوجب الضرر واجب قطعاً .

ولأن مراد أمير المؤمنين(علیه السلام)مطالبة معاوية وأصحابه بالبيعة، وذلك متوقف على ثبوت الإمامة على ما يرون، ولا يكون إلا بالبيعة، فخاصمهم ليكون قد أتاهم

ص: 573

بما يعرفون ولا ينكرون، ليستحقوا على العصيان من المطيعين القتال، ومن اللّه المقت والنكال.

وهذا في الحقيقة لا يجهله محصل،ولا يرتاب فيه محقق،وبأقل مما بيناه يتضح وجهه؛فبطل إيراد القوشجي كله،وانزاح تعلله يعون اللّه ومنه .

وقد نتج من كلامنا من أوله إلى هنا دعويان:

الأولى: أن القوم كانوا يخالفون نصوص النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)ويردونها بالرأي.

الثانية:أن النص موجود على أمير المؤمنين(علیه السلام)من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)فكتمه القوم، وأعرضوا عنه وتبدوه وراء ظهورهم(1).

ص: 574


1- سيأتي تفصيل ذلك في المجلد الثاني بعنوان:«أما الدعوى الأولى»صفحة 3 وعنوان:«وأنا الدعوى الثانية»صفحة 46.

فهرس الموضوعات

المؤلّف في سطور...5

نحن والكتاب ...39

نسخ الكتاب ...46

طريقة التحقيق ...47

مقدمة المؤلف ...53

المقدمة

وفيها مبحثان / 59

المبحث الأول : في بيان معنى الإمامة...61

تعاريف أخرى للإمامة...65

الإمامة لها حيثيتان ...67

مفهومان آخران للإمامة...68

من أنواع الإمامة ...69

ص: 575

المبحث الثاني : في نصب الإمام هل هو واجب أم لا ؟...71

نصب الإمام واجب على اللّه تعالى...72

الأول: ما دلّ على وجوب النبوة دال على وجوب الإمامة ...72

الثاني : الإمام لطف من الله...73

اعتراض المخالفين وجوابه ...74

دعوى الاستغناء عن الإمام وجوابها... 75

اعتراض آخر من القوشجى والردّ عليه...78

اعتراض آخر من القوشجي وردّه ... 82

الثالث: نصب الإمام مقتضى رحمة الله...83

نصب الإمام وظيفة العباد والردّ عليه ... 84

أدلة القوشجي...85

الأول: إجماع الصحابة ... 85

الثالث:الاجتماع في سقيفة بني ساعدة...90

الدليل الثاني للقوشجي... 94

أمور الأمة لا تتم بدون الإمام ... 94

الدليل الثالث : في نصب الإمام منافع لا تحصى... 98

نظرية الخوارج والردّ عليها... 100

فائدة جليلة هي فرع ما أصلناه ونتيجة ما أبرمناه... 101

تتمة أدلّة المصنف... 103

الدليل الأول : النبوة لطف خاص والإمامة لطف عام... 103

الدليل الثاني : الحجة الله لا تقوم بدون مرشد...107

ص: 576

المقدمة الأولى لكل واقعة حكم...108

دليلهم على عدم تعيين الحكم في كل واقعة... 108

رد دليل العامة...109

المقدمة الثانية:النبي (صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يبين جميع الأحكام للأمة...118

الدليل الأول:الاختلاف في الأحكام... 118

الدليل الثاني :مخالفة الإمام مخالفة الله تعالى... 123

الدليل الثالث:النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بين العلم لبعض ما لم يبينه لآخر...124

الدليل الرابع:النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علم جميع الأحكام لعلي(علیه السلام)...125

المقدمة الثالثة : اللّه تعالى يريد العمل بما أنزل لا بغيره...129

المقدمة الرابعة: لا تكليف إلا مع البيان...134

المقدمة الخامسة : لا طريق للأحكام غير الإمام...136

الدليل الثالث : لكل عصر إمام...139

الدليل الرابع: العصر لا يخلو من حجة...140

لا يراد من الإمام القرآن...141

لا يراد من الإمام إمام المذهب...143

لا يراد من الإمام السلطان...144

كلمات أمير المؤمنين(علیه السلام)على لزوم الحجة في كل زمان...149

دليل الخصم على خلو العصر من الحجّة وجوابه...156

أدلة وجوب وجود الإمام من طرق الإمامية...160

ص: 577

الفصل الأوّل

في شروط الإمام وهو يشتمل على مسائل / 163

المسألة الأولى:في عصمة الإمام...165

المعصوم قادر على المعصية أم لا ؟...166

الكلام في وجوب عصمة الإمام وعدمه...167

من معانى الظلم...177

دليل ابن أبي الحديد على عدم اشتراط العصمة في الإمام...184

المسألة الثانية : يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه...191

الأدلة على أن الإمام أفضل أهل زمانه...192

ومن السنة كثير...199

في تقديم المفضول وردّ ذلك...203

المسألة الثالثة:شرط الإمام أن يكون قريبا من النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...213

ابن العم للأبوين مقدم على العم للأب...215

المسألة الرابعة: في طريق الإمامة...220

وجوه إثبات الإمامة...225

الآيات الدالة على أن الإمامة بالنص...237

خيرة الناس لا تصيب الواقع...238

إبطال إمامة غير علي بن أبي طالب...241

كلام الرضا(علیه السلام)في وصف الإمامة والإمام...249

ص: 578

الفصل الثاني

في ذكر النصوص على الأئمة(علیهم السلام)وهو يشتمل على مسائل / 257

المسألة الأولى:فى إيراد النصوص على سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن

أبي طالب(علیه السلام)بالإمامة...

النصوص الواردة في إمامته من الكتاب والسنة...

في بيان معنى النصر...

النص فعلي وقولي ...

النص الفعلى على إمامة على(علیه السلام)...

قصة تبليغ سورة براءة...

شبهة ودفع...

النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لم يؤمر على على أحداً...

النص القولى على إمامة على...

على إمام البررة وراية الهدى...

سكوت الإمام الله عن الخلافة وردّ ذلك...

على خوطب بإمرة المؤمنين ...

على خاتم الوصيين...

أشعار الصحابة في أنه الله وصي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...

وجوه أخرى لإبطال قول ابن أبي الحديد...

على(علیه السلام)خليفة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...

على(علیه السلام)وزير رسول اللهّ(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...

ص: 579

أمر الرسول(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)بطاعة على(علیه السلام)...303

على(علیه السلام)نفس رسول الله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...304

أمر الرسول بالتمسك بعلى(علیه السلام)...307

علي(علیه السلام)ولي اللّه...316

من كنت مولاه فعلی مولاه...320

إشكالات على حديث الغدير وردها...329

علي منّي وأنا من عليّ....345

حديث المنزلة ...348

علي وارث رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...353

علي(علیه السلام)أحق بمقام رسول اللّه...357

إن اللّه اختار عليّاً(علیه السلام)...360

حديث السيادة...363

أحب الخلق إلى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...365

علي(علیه السلام)أعلم الناس...367

علي أقرب الناس من رسول اللّه...369

على أشد جهاداً...371

عليّ(علیه السلام)مع الحق ...372

علىّ(علیه السلام)خیر الأمة...373

نسب علىّ(علیه السلام)...380

علىّ(علیه السلام)أعلم الصحابة...381

عليّ(علیه السلام)أحلم الناس...386

عليّ(علیه السلام)الأقدم الناس إسلاماً...387

ص: 580

علىّ(علیه السلام)أشجع الصحابة...391

علىّ(علیه السلام)أسخى الناس...396

علىّ(علیه السلام)أزهد الناس...398

علىّ(علیه السلام)أعبد الناس...399

علىّ(علیه السلام)أحفظ الصحابة للقرآن...400

عليّ(علیه السلام)أفصح الناس...401

عليّ(علیه السلام)أسد الصحابة رأياً...402

علىّ(علیه السلام)أسوس الصحابة وأعدلهم في الرعية...403

عليّ(علیه السلام)أحرص الصحابة على إقامة الحدود...404

مولده(علیه السلام)في الكعبة...405

الدليل الأول للقوشجي على تفضيل أبي بكر ورده...408

الدليل الثاني للقوشجي على تفضيل أبي بكر ورده...414

الدليل الثالث للقوشجي على أفضلية أبي بكر...417

الرواية الأولى وردّها...417

كتاب معاوية إلى عماله ...418

كتاب آخر لمعاوية إلى عماله...419

الرواية الثانية وردّها...424

الرواية الثالثة وردّها...425

الرواية الرابعة وردها...425

الرواية الخامسة وردها...427

الرواية السادسة وردها...430

الرواية السابعة وردّها...437

ص: 581

الرواية الثامنة وردّها...439

الرواية التاسعة وردّها...442

الرواية العاشرة وردّها...443

الرواية الحادية عشرة وردها...444

الرواية الثانية عشرة والثالثة عشر والرابعة عشر وردّها...447

روايات في مدح علي(علیه السلام)...453

إشارة إلى رواية كلاب الحوأب...461

مناظرة بين عمر وابن عباس...463

إشكال وجواب...471

أفعال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)الكاشفة عن عظمة على(علیه السلام)...474

قصة مؤاخاة النبى(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)علياً(علیه السلام)...474

مبيت علىّ(علیه السلام)على فراش رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...477

بقاء علىّ(علیه السلام)مكان النبي فی مكة...481

سد أبواب المسجد إلا باب علىّ(علیه السلام)...482

مناجاة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)عليّاً(علیه السلام)...483

مشاركته(علیه السلام)في أمور رسول الله(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...484

احتجاجات أم سلمة على عائشة...486

علىّ(علیه السلام)يشبه الأنبياء(علیهم السلام)...489

مدح آخر لعليّ(علیه السلام)...489

تسليم الملائكة على علىّ(علیه السلام)...492

الصديقون ثلاثة ...493

شبه على(علیه السلام)بعیسی(علیه السلام)...494

ص: 582

هذا ولي وأنا وليه...494

عليّ(علیه السلام)يقاتل على التأويل...495

صلاة الملائكة على رسول اللّه وعلى(علیهما السلام)...497

دفاع عليّ(علیه السلام)عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)...497

لا فتى إلا علي...498

دعاء النبي(صلی اللّه علیه وآله وسلّم)لحفظ علىّ(علیه السلام)...500

علي الليل والنصراني الشهيد بصفين...502

إشكال وجواب ...504

الروايات الدالة على إمامته(علیه السلام)مما لم يذكره ابن أبي الحديد...506

قصة الحارث الفهري...509

اللّه عزّ وجلّ يباهى الملائكة بعلىّ(علیه السلام)...510

مدائح أخرى لعليّ(علیه السلام)...512

آيات واردة في علي(علیه السلام)...516

وصف ضرار بن ضمرة لعلىّ(علیه السلام)...522

سلوني قبل أن تفقدوني ...523

أقضاكم علىّ(علیه السلام)...524

ادعاء ابن أبى الحديد فقدان نص الولاية...526

خبر السقيفة ...526

مناقشة المصنف الدعوى ابن أبي الحديد...529

بهة ابن أبي الحديد...530

دلیل ابن أبي الحديد عليه لا له...531

تظلمات أئمة أهل البيت(علیهم السلام)...537

ص: 583

الرد على شبهة ابن أبي الحديد المتقدمة...539

رة النصوص بالرأي ...547

وجه آخر على عدم ذكر النص...551

وجه آخر على عدم ذكر النص...557

تشنيع ابن أبي الحديد ورده...559

من تناقضات ابن أبي الحديد ...561

عناد القوشجي مع الحق..563

علة دخول أمير المؤمنين(علیه السلام)فى الشورى...565

مناقشة رواية امدد يدك ...567

المناقشة في رواية محاجة على(علیه السلام)معاوية...570

ص: 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.