من حياة المعصومين عليهم السلام
الجزء الثالث عشر
الإمام العسكري عليه السلام
المرجع الديني الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه
الشجرة الطيبة
1443 ه 2022 م
النجف الأشرف
ص: 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی للناشر
1443 ه 2022 م
مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف
تهميش
مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد، فهذا هو الجزء الثالث عشر من سلسلة (من حياة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين)، ويتضمن بعض الإشارات المختصرة لجوانب من حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 5
ص: 6
1
هو الإمام الحسن، بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين)، قادة الأُمم وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد وأركان البلاد، وأبواب الإيمان وأُمناء الرحمن، وسلالة النبيين وصفوة المرسلين، وعترة خيرة رب العالمين، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
كنيته (عليه السلام) : أبو محمد، كُنّي باسم ولده الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
وفي مناقب ابن شهر آشوب: «كان الحسن العسكري (عليه السلام) هو وأبوه وجدّه (عليهم السلام) يُعرف كلٌ منهم في زمانه بابن الرضا»(1).
لقبه (عليه السلام) : العسكري، والخالص، والهادي، والزكي، والصامت، والسراج،
ص: 7
والتقي، والخاص، وغيرها.
أما العسكري - وهو الأشهر من بين ألقابه -: فلأنه (عليه السلام) كان تحت الإقامة الجبرية في ثكنة عسكرية بسامراء، فلُقّب بالعسكري.
وأما الخالص: فقد كان (عليه السلام) معصوماً كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) وخالصاً من كل دنس، ومنزهاً عن كل عيب وذنب، فلُقّب بالخالص.
وأما الهادي: فقد كان (عليه السلام) عَلَماً لهداية الناس وإرشادهم إلى سعادة الدارين، فلُقّب بالهادي.
وأما الزكي: فقد كان (عليه السلام) أزكى إنسان في عصره، فقد زكا نفسه ونمّاها في الخير، فلُقب بالزكي.
وأما الصامت: فقد كان (عليه السلام) صامتاً لا ينطق إلاّ بالحكمة والعلم وذكر اللّه وما فيه خيرٌ للعباد، فلُقّب بالصامت.
وأما السراج: فقد كان (عليه السلام) كجده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سراجاً منيراً(1)،
يضيء معالم الطريق، ويهدي الحائرين والضالين إلى التُقى والصلاح، فلُقّب بالسراج.
وأما التقي: فقد كان (عليه السلام) أتقى إنسان في عصره، وأشدّ الناس تمسكاً بالدين، واعتصاماً باللّه والشرع المبين، فلُقّب بالتقي.
وأما الخاص: قد فقد خصّه اللّه بالفضائل والعصمة والإمامة واستجابة الدعاء، فلُقب (عليه السلام) بالخاص.
وفي مناقب ابن شهر آشوب: (ألقابه (عليه السلام) : الصامت، الهادي، الرفيق،
ص: 7
الزكي، التقي)(1).
وفي علل الشرائع: (سمعت مشايخنا (رضي اللّه عنهم) أن المحلة التي يسكنها الإمامان علي بن محمد والحسن بن علي (عليهما السلام) بسر من رأى كانت تسمى عسكر فلذلك قيل لكل واحد منهما: العسكري)(2).
والدته (عليه السلام) : سليل النوبية (عليها السلام) - وهي منسوبة إلى منطقة في جنوب مصر - كانت من أفضل نساء عصرها، ومن السيدات الزاكيات في عفتها وورعها وطهارتها، وكانت قمةً في الصلاح والتقوى، وقد أثنى عليها الإمام علي الهادي (عليه السلام) حيث قال: «سليل مسلولةٌ من الآفات والأرجاس والأنجاس».
وأيضاً من أسمائها (عليها السلام) :
(حديث) أو (حديثة) و(سوسن)؛ فإنه كان من المتعارف آنذاك أن يُسمّى الشخص بعدة أسماء، سواء كان رجلاً أم امرأة.
ص: 9
2
وُلد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في يوم الجمعة، الثامن من ربيع الثاني سنة 232 هجرية في المدينة المنورة على الأشهر، كما ذكره العلامة المجلسي (رحمه اللّه) .
وقيل: وُلد الإمام (عليه السلام) في سامراء.
بقي الإمام العسكري (عليه السلام) في مدينة جدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السنة الرابعة من حياته الشريفة، ثم شخص إلى العراق بشخوص والده الإمام الهادي (عليه السلام) وذلك بضغط وجبر من الحكومة العباسية الظالمة.
ص: 10
3
نشأ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في بيت الهداية، وشجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومركز الإمامة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي، ذلك بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرفيع الذي أذهب اللّه عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً.
يقول الشبراوي في البيت الذي نشأ فيه الإمام (عليه السلام) وترعرع:
«فللّه دُرّ هذا البيت الشريف، والنسب الخضمّ المنيف، وناهيك به من فخار، وحسبك فيه من علوّ مقدار، فهُم جميعاً في كرم الأرومة، وطيب الجرثومة كأسنان المشط متعادلون، ولسهام المجد مقتسمون، فيا له من بيت عالي الرتبة، فلقد طاول السماء عُلاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاً، واستغرق صفات الكمال فلا يُستثنى فيه ب- «غير» ولا ب- «إلاّ»، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأول والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم واللّه يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم واللّه يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله اللّه ولايضيعه..»(1).
تربى الإمام الزكي أبو محمد العسكري (عليه السلام) في حِجر أبيه الإمام الهادي (عليه السلام)
ص: 8
ولم يفارقه في حلّه وترحاله، وعاش معه ثلاث وعشرون سنة، فأخذ منه مواريث الأنبياء (عليهم السلام) وعلوم جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
وكان الإمام (عليه السلام) يرى في والده (عليهما السلام) صورةً صادقةً لأخلاق جده النبي المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي امتاز بها على سائر النبيين (عليهم السلام) .. كما كان يرى فيه أخلاقيات آبائه الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ..
وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يرى في ولده الزكي (عليه السلام) امتداداً للإمامة الكبرى والنيابة العظمى عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاهتمّ بأمره، وأشاد بفضله قائلاً فيه:
«أبو محمد ابني أصح آل محمد غريزةً، وأوثقهم حجةً، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامنا»(1).
ومن المؤكد أن مقام الإمام الهادي (عليه السلام) بعيد كل البعد عن المحاباة، أو الاندفاع لأية عاطفة من عواطف الهوى، فلم يشد بمنزلة ولده الزكي (عليه السلام) ويذع فضله إلاّ بعدما توفرت فيه جميع النزعات الكريمة والصفات الرفيعة، مضافاً إلى أنه حجة اللّه على الأرض من بعده، بحسب النص الوارد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).
ص: 12
4
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين نصّ على إمامتهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه عزوجل، حيث قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :
«خلفائي من بعدي اثنا عشر»(1)..
ص: 13
وسمّاهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأسمائهم واحداً واحدا(1).
كما نص على الإمام العسكري (عليه السلام) والده الإمام الهادي (عليه السلام) ومن سبقه من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) حيث كان ينص كل إمام على خليفته من بعده بأمر من اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
عن عبد الرحمن بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «قال أبي لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: إن لي إليك حاجة، فمتى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟.
فقال له جابر: أي الأوقات أحببته. فخلا به في بعض الأيام. فقال (عليه السلام) له: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب؟.
فقال جابر: أشهد باللّه أني دخلت على أمك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهنّيتها بولادة الحسين (عليه السلام) ، ورأيت في يديها لوحاً أخضر ظننت أنه من
ص: 14
زمرد، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه لون الشمس. فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ما هذا اللوح؟.
فقالت (عليها السلام) : هذا لوح أهداه اللّه إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك.
قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة (عليها السلام) فقرأته واستنسخته.
فقال له أبي (عليه السلام) : فهل لك يا جابر أن تعرضه عليَّ؟.
قال: نعم.
فمشى معه أبي (عليه السلام) إلى منزل جابر، فأخرج صحيفة من رق. فقال (عليه السلام) : يا جابر، انظر في كتابك لأقرأ أنا عليك.
فنظر جابر في نسخة فقرأه أبي فما خالف حرف حرفاً.
فقال جابر: فأشهد باللّه أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من اللّه العزيز الحكيم لمحمد نبيه، ونوره وسفيره، وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظّم يا محمد أسمائي، واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي. إني أنا اللّه لا إله إلا أنا قاصم الجبارين، ومديل المظلومين، وديان الدين. إني أنا اللّه لا إله إلا أنا، فمن رجا غير فضلي، أو خاف غير عدلي عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. فإياي فاعبد، وعليَّ فتوكل، إني لم أبعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلاّ جعلت له وصياً، وإني فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيّك على الأوصياء، وأكرمتك بشبلَيك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة
ص: 15
معه، وحجتي البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب، أولهم علي سيد العابدين، وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده المحمود محمد، الباقر علمي، والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد عليَّ، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر، ولأسرّنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، أتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس، لأن خيط فرضي لا ينقطع، وحجتي لا تخفى، وأن أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي، ومن غيّر آية من كتابي فقد افترى عليَّ، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي في علي وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة، وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي، حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه، وخليفته من بعده، ووارث علمه، فهو معدن علمي، وموضع سري، وحجتي على خلقي، لا يؤمن عبد به إلاّ جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي، والخازن لعلمي الحسن، وأكمل ذلك بابنه م ح م د رحمة للعالمين، عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيوب، فيذل أوليائي في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم، ويفشو الويل والرنة في نسائهم، أولئك أوليائي حقاً، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأدفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون».
قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلاّ هذا
ص: 16
الحديث لكفاك، فصنه إلاّ عن أهله(1).
عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديثه لجابر بن عبد اللّه الأنصاري (رحمه اللّه) وهو يشير إلى الأئمة (عليهم السلام) من بعده - قال جابر: يا رسول اللّه، ومن الأئمة من ولد علي (عليه السلام) ؟.
فعدّدهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحداً وحداً بأسمائهم وكناهم وألقابهم، إلى أن وصل إلى الإمام الحادي عشر فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثم الزكي الحسن بن علي»(2).
وعن أبي هريرة، قال: كنت عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... إذ دخل الحسين بن علي (عليه السلام) فأخذه وقبّله... وقال: «اللّهم إني أُحبّه فأَحبّه، وأُحبّ من يُحبّه، يا حسين أنت الإمام ابن الإمام أبو الأئمة، تسعة من ولدك أئمة أبرار... - إلى أن قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ويخرج من صلب علي، الحسن الميمون النقي الطاهر الناطق عن اللّه وأبو حجة اللّه»(3)، الحديث.
وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث له: «ومن أحبَّ أن يَلقى اللّه وهو من الفائزين فليتولَّ الحسن العسكري»(4).
* روى علي بن عمر النوفلي، قال: كنت مع أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام) في
ص: 16
صحن داره، فمر بنا محمد ابنه. فقلت له: جُعلت فداك هذا صاحبنا بعدك؟.
فقال (عليه السلام) له: «صاحبكم بعدي الحسن»(1).
* روى الصقر بن دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: «الإمام بعدي الحسن، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً...»(2).
* قال أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) : «إن الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمامة بعده في ابنه الحسن»(3).
* عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني (عليه السلام) ، عن علي بن محمد (عليه السلام) ، أنه قال: «الإمام من بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده»، الخبر(4).
* عن أبي هاشم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟».
فقلت: ولِمَ جعلني اللّه فداك؟.
فقال: «لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه».
قلت: فكيف نذكره؟.
قال: «قولوا: الحجة من آل محمد (عليهم السلام) »(5).
ص: 17
* قال أبو الحسن الهادي (عليه السلام) : «الحسن ابني القائم من بعدي»(1).
* عن أحمد بن عيسى العلوي - من ولد علي بن جعفر - قال: دخلت على أبي الحسن - الهادي - (عليه السلام) بصريا، فسلمنا عليه فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمد قد دخلا، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلّم عليه، فقال أبو الحسن (عليه السلام) : «ليس هذا صاحبكم، عليكم بصاحبكم، وأشار إلى أبي محمد (عليه السلام) »(2).
* عن إسحاق بن محمد النخعي، عن شاهويه بن عبد اللّه الجلاب، قال: كنت رويت عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) في أبي جعفر ابنه روايات تدل عليه(3)، فلما مضى أبو جعفر قلقت لذلك وبقيت متحيراً لا أتقدم ولا أتأخر، وخفت أن أكتب إليه في ذلك فلا أدري ما يكون، فكتبت إليه أسأله الدعاء أن يفرج اللّه عنا في أسباب من قبل السلطان كنا نغتم بها في غلماننا، فرجع الجواب بالدعاء وردّ الغلمان علينا، وكتب في آخر الكتاب:
«أردتَ أن تسأل عن الخلف بعد مضي أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تغتم فإن اللّه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يتبين لهم ما يتقون، صاحبكم بعدي أبو محمد ابني، وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم اللّه ما يشاء ويؤخر ما يشاء، {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِها}(4)، قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل
ص: 18
يقظان»(1).
أقول: أما ما كان يدل على أبي جعفر (عليه السلام) فلعلّها كانت تقيةً وللحفاظ على أبي محمد العسكري (عليه السلام) ، وكما يفهم بعض تلك الظروف الصعبة من الرواية التالية وغيرها:
* عن عبد اللّه بن محمد الأصفهاني، قال: قال لي أبو الحسن - الهادي - (عليه السلام) : «صاحبكم بعدي الذي يصلي عليَّ».
قال: ولم نعرف أبا محمد (عليه السلام) قبل ذلك، قال: فخرج أبو محمد (عليه السلام) بعد وفاته فصلى عليه(2).
* عن علي بن مهزيار قال: قلت لأبي الحسن - الهادي - (عليه السلام) : إن كان كون - وأعوذ باللّه - فإلى من؟.
قال: «عهدي إلى الأكبر من ولدي يعني الحسن (عليه السلام) »(3).
* عن علي بن عمرو العطار، قال دخلت على أبي الحسن - الهادي (عليه السلام) وابنه أبو جعفر في الأحياء - وأنا أظن أنه الخلف من بعده - فقلت: جعلت فداك من أخص من ولدك؟.
فقال (عليه السلام) : «لا تخصوا أحداً من ولدي حتى يخرج إليكم أمري».
قال: فكتبت إليه بعدُ فيمن يكون هذا الأمر؟.
ص: 19
قال: فكتب إليَّ: «الأكبر من ولدي»، وكان أبو محمد (عليه السلام) أكبر من جعفر(1).
* قال الفهفكي: كتب إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) : «أبو محمد ابني أصح آل محمد غريزةً، وأوثقهم حجةً، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه ينتهي عُرى الإمامة وأحكامها، فما كنت سائلي منه فاسأله عنه وعنده ما تحتاج إليه»(2).
* عن يحيى بن يسار القنبري، قال: أوصى أبو الحسن (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام) قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشار إليه بالأمر من بعده، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي(3).
إلى غيرها من الروايات الكثيرة التي نصت على إمامة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
ص: 20
5
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في قمة الأخلاق ومكارمها، كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) ، وهي متواترة عنه وعنهم (عليهم السلام) .. وقد اعترف الجميع من أوليائه وأعدائه بعلو مكانته وعظيم خُلُقه وعلمه.
قال أحمد بن عبيد اللّه بن خاقان - وكان من أشدّ النواصب عداوةً لأهل البيت (عليهم السلام) ، وكان من ولاة بني العباس -: (ما رأيتُ ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) ، ولا سمعتُ به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتّاب وعوام الناس.
وما سألت عنه أحداً من بني هاشم والقواد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشايخه وغيرهم، ولم أرَ له ولياً ولا عدواً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه)(1).
ص: 21
يقول: كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل حجّابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت منه ومنهم من جسارتهم أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكن يُكنّى عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يُكنّى.
فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة، فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطوات، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد وأولياء العهد، فلما دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ومنكبيه وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب فقال: جاء الموفق، وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي، وكان الموفق إذا دخل على أبي تقدمه حجابه وخاصة قواده فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد العسكري (عليه السلام) يحدثه حتى نظر إلى غلمان الموفق.
فقال له حينئذ: إذا شئتَ جعلني اللّه فداك أبا محمد، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا - يعني الموفق - فقام وقام أبي فعانقه ومضى.
فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحكم من هذا الذي كنّيتموه بحضرة أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟.
فقالوا: هذا علوي يقال له: الحسن بن علي.. يُعرف بابن الرضا.
فازددت تعجباً ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيته منه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من الأمور وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه،
ص: 22
فقال: ألك حاجة؟.
قلت: نعم، فإن أذنت سألتك عنها؟.
قال: قد أذنت.
قلت: مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة، وفديته بنفسك وأبويك؟.
فقال: يا بنيّ، ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي (عليه السلام) المعروف بابن الرضا - وسكت ساعةً ثم قال - لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به، فلم تكن لي همة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي إذ لم أرَ له ولياً ولا عدواً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه(1).
ويقول ابن حجر الهيتمي - وهو من علماء العامة المتعصبين ومن أشد الناس على شيعة علي (عليه السلام) - في كتابه (الصواعق المحرقة):
أبو محمد الحسن الخالص - وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري - ولد سنة
ص: 23
اثنتين وثلاثين ومائتين، ووقع لبهلول معه أنه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر على ما في أيديهم. فقال: اشتري لك ما تلعب به؟.
فقال: «يا قليل العقل، ما للّعب خلقنا».
فقال له: فلماذا خلقنا؟. قال (عليه السلام) : «للعلم والعبادة».
فقال له: من أين لك ذلك؟. قال: «من قول اللّه عزوجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}(1)»، ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات، ثم خرّ الحسن (عليه السلام) مغشياً عليه، فلما أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟. فقال (عليه السلام) : «إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب نار جهنم».
ولما حبس قحط الناس بسر من رأى قحطاً شديداً، فأمر الخليفة المعتمد ابن المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام فلم يسقوا، فخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدّ يده إلى السماء هطلت، ثم في اليوم الثاني كذلك، فشك بعض الجهلة وارتد بعضهم، فشق ذلك على الخليفة، فأمر بإحضار الحسن الخالص (عليه السلام) ، وقال له: أدرك أمة جدك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يهلكوا.
فقال الحسن (عليه السلام) : «يخرجون غداً وأنا أزيل الشك إن شاء اللّه». وكلم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن فأطلقهم، فلما خرج الناس للاستسقاء ورفع الراهب يده مع النصارى غيمت السماء، فأمر الحسن بالقبض على يده فإذا فيها عظم آدمي، فأخذه من يده وقال: «استسق». فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك.
ص: 23
فقال الخليفة للحسن: ما هذا يا أبا محمد؟. فقال (عليه السلام) : «هذا عظم نبي ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كشف من عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر». فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال وزالت الشبهة عن الناس.
ورجع الحسن (عليه السلام) إلى داره وأقام عزيزاً مكرماً وصلات الخليفة تصل إليه كل وقت إلى أن مات بسر من رأى، ودفن عند أبيه وعمه وعمره ثمانية وعشرون سنة، ويقال: إنه سُمّ أيضاً. ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه اللّه فيها الحكمة ويسمى القائم المنتظر. انتهى ما في الصواعق(1).
* أرسل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى داود بن الأسود: «إذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرفه من أنت»(2).
* روي عن إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العباس، قال: قعدت لأبي محمد - العسكري - (عليه السلام) على ظهر الطريق، فلما مر بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أنه ليس عندي درهم واحد فما فوقه، ولا غداء ولا عشاء!.
ص: 24
قال: فقال (عليه السلام) : «تحلف باللّه كاذباً وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية، أعطه يا غلام ما معك».
فأعطاني غلامه مائة دينار(1).
* في كتاب (إعلام الورى) بسنده عن أبي هاشم الجعفري - في حديث - قال: كنت مضيقاً فأردت أن أطلب من أبي محمد - العسكري (عليه السلام) - دنانير فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليَّ بمائة دينار وكتب إليَّ: «إذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم واطلبها، فإنك ترى ما تحب»(2).
* روى الحميري في (الدلائل): عن أبي يوسف الشاعر القصير - شاعر المتوكل - قال: وُلد لي غلام وكنت مضيقاً، فكتبت رقاعاً إلى جماعة أسترفدهم فرجعت بالخيبة، فقلت: أجيء فأطوف حول دار أبي محمد العسكري (عليه السلام) طوفة لعل اللّه يفرج عني، وصرت إلى الباب فخرج أبو حمزة ومعه صرة سوداء فيها أربعمائة درهم فقال: يقول لك سيدي - الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) -: «انفق هذه على المولود بارك اللّه لك فيه»(3).
وهذا من عظيم أخلاق الإمام (عليه السلام) حيث كان ينفق حتى على مثل شاعر المتوكل العباسي.
* قال علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر لابنه محمد: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل - يعني أبا محمد العسكري (عليه السلام) - فإنه قد وصف عنه سماحة،
ص: 25
فأعطاهما ثمانمائة درهم(1).
* قال أبو جعفر العَمري: حج أبو طاهر بن بلال فنظر إلى علي بن جعفر وهو ينفق النفقات العظيمة، فلما انصرف كتب بذلك إلى أبي محمد - العسكري - (عليه السلام) فوقع في رقعته: «قد كنا أمرنا له بمائة ألف دينار، ثم أمرنا لك بمثلها»(2).
وفي رواية قال: ودخل على أبي الحسن العسكري (عليه السلام) فأمر له بثلاثين ألف دينار(3).
* قال محمد الشاكري: كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قليل الأكل، كان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله، فيأكل منه الواحدة والاثنين ويقول: «شل هذا يا محمد إلى صبيانك».
فأقول: هذا كله؟.
فيقول: «خذه».
قال: ما رأيت قط أسدى منه(4).
* أعطى الإمام العسكري (عليه السلام) لعلي بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي مائتي دينار وقال: «اصرفها في ثمن جارية»(5).
* بعث الإمام (عليه السلام) إلى عمرو بن أبي مسلم خمسين ديناراً وقال: «اشتر بهذا جارية»(6).
ص: 26
* أعطى الإمام (عليه السلام) أحمد بن صالح الكوفي ثلاثة آلاف درهم.
* أمر الإمام (عليه السلام) أن يُعقّ عن ولده المهدي (عليه السلام) ثلاثمائة شاة ويوزع على الفقراء والمؤمنين(1).
إلى غيرها وغيرها..
ص: 27
6
ورث الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) علوم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآبائه الطاهرين (عليهم السلام) ، وقد منحه اللّه العلم اللدني وعلم الغيب وأطلعه على الأسرار والنوايا، فكان أعلم أهل زمانه.
وروي عنه (عليه السلام) من أنواع العلوم والمعارف ما فيه هداية البشر نحو الخير والفضيلة.. وإن كان الإمام (عليه السلام) يعيش فترة صعبة جداً، وفي ظروف قاسية قلّ نظيرها، حيث أحرم الطغاةُ العالَم والبشرية من الاستفادة اللازمة من علوم الإمام (عليه السلام) وهديه.
وكان مما روي من علوم الإمام (عليه السلام) كتاب في تفسير القرآن الكريم، المعروف بتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) .
وقد جمع الأخ الشهيد السيد حسن (رضوان اللّه عليه)(1) بعض الروايات
ص: 28
المروية عن الإمام (عليه السلام) في كتاب له سمّاه (كلمة الإمام العسكري (عليه السلام) )(1)، وغيره
ص: 29
في غيره(1).
ولا يخفى أن التفسير المنسوب إلى الإمام (عليه الصلاة والسلام) المسمى ب- (تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ) تفسير معتبر وحجة، يصح الاعتماد عليه، وإن كان البعض أراد تضعيفه من حيث السند أو المتن والدلالة, ولكنا نرى أن لا إشكال فيه، وأن هذين الإشكالين غير واردين.
أما بالنسبة إلى ضعف السند، فلا مجال له بعد تلقي الأصحاب له بالقبول من القدماء وإلى يومنا هذا، وهذا يكفي في صحة النسبة والإسناد على ما ذكرناه في (الأصول).
أما ضعف المتن والدلالة، بحيث أن بعض فقراتها ربما تكون أشبه بكلام الراوي من كلام الإمام (عليه السلام) ، فهو لا يختص بهذا التفسير بل هناك روايات أخرى تكون كذلك، ومن أسبابه أن كثيراً من الرواة لم ينقلوا نص ألفاظ الإمام (عليه السلام) بل كانوا ينقلونها بالمعنى، وهو جائز على ما ذكره الفقهاء وعلماء الحديث، ومن الواضح أن النقل بالمعنى لا يكون بقوة النقل بالنص، وهذا لايضر بالحجية كما
ص: 30
لا يخفى.
ومن هنا اعتمد جمع من كبار علماء الإمامية (رضوان اللّه عليهم) على هذا التفسير:
كالشيخ الصدوق(1)..
والشيخ الطبرسي(2)..
والمحقق الكركي صاحب (جامع المقاصد)(3)..
ص: 30
والشهيد الثاني(1)..
محمد تقي المجلسي(2) والد العلامة المجلسي(3)..
وابن شهر آشوب(4)..
والشيخ آغا بزرك الطهراني(5)، وغيرهم.
ص: 31
وقد أشير إلى هذا البحث في الذريعة(1)، وخاتمة المستدرك(2).
وفي قصة هذا التفسير دلالات على اهتمام الإمام (عليه السلام) بنشر علوم القرآن، وعلمه بالغيب بإذن اللّه تعالى، وعطفه على شيعته، وغيرها من الفوائد.
عن أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار - وكانا من الشيعة الإمامية - قالا:
كان أبوانا إماميين وكانت الزيدية هم الغالبون بأسترآباذ، وكنا في إمارة الحسن بن زيد العلوي الملقب بالداعي إلى الحق إمام الزيدية، وكان كثير الإصغاء إليهم، يقتل الناس بسعاياتهم، فخشينا على أنفسنا، فخرجنا بأهلينا إلى حضرة الإمام أبي محمد الحسن بن علي بن محمد أبي القائم (عليه السلام) ، فأنزلنا عيالاتنا في بعض الخانات، ثم استأذنا على الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) فلما رآنا قال:
«مرحباً بالآوين إلينا، الملتجئين إلى كنفنا، قد تقبل اللّه تعالى سعيكما، وآمن
ص: 32
روعكما، وكفاكما أعداءكما، فانصرفا آمنين على أنفسكما وأموالكما».
فعجبنا من قوله ذلك لنا مع أنا لم نشك في صدق مقاله، فقلنا: فماذا تأمرنا أيها الإمام أن نصنع في طريقنا إلى أن ننتهي إلى بلد خرجنا من هناك، وكيف ندخل ذلك البلد ومنه هربنا، وطلب سلطان البلد لنا حثيث ووعيده إيانا شديد؟.
فقال (عليه السلام) : «خلّفا عليَّ ولديكما هذين لأفيدهما العلم الذي يشرفهما اللّه تعالى به، ثم لا تحفلا بالسعاة، ولا بوعيد المسعى إليه، فإن اللّه عزوجل يقصم السعاة ويلجئهم إلى شفاعتكم فيهم عند من قد هربتم منه».
قال أبو يعقوب وأبو الحسن: فأتمرا لما أمر وقد خرجا وخلفانا هناك، وكنا نختلف إليه فيتلقانا ببر الآباء وذوي الأرحام الماسة. فقال (عليه السلام) لنا ذات يوم:
«إذا أتاكما خبر كفاية اللّه عزوجل أبويكما وإخزائه أعداءهما وصدق ودي إياهما، جعلت من شكر اللّه عزوجل أن أفيدكما تفسير القرآن مشتملا على بعض أخبار آل محمد (عليهم السلام) فيعظم اللّه تعالى بذلك شأنكما». قالا: ففرحنا، وقلنا: يا ابن رسول اللّه، فإذاً نأتي على جميع علوم القرآن ومعانيه؟.
قال (عليه السلام) : «كلا، إن الصادق (عليه السلام) علّم ما أريد أن أعلمكما بعض أصحابه ففرح بذلك، وقال: يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد جمعتُ علم القرآن كله؟. فقال (عليه السلام) : قد جمعتَ خيراً كثيراً، وأوتيتَ فضلاً واسعاً، لكنه مع ذلك أقل قليل من أجزاء علم القرآن، إن اللّه عزوجل يقول: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}(1)، ويقول: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي
ص: 33
الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}(1)، وهذا علم القرآن ومعانيه وما أودع من عجائبه، فكم ترى مقدار ما أخذتَه من جميع هذا القرآن، ولكن القدر الذي أخذتَه قد فضلك اللّه تعالى به على كل من لا يعلم كعلمك، ولايفهم كفهمك».
قالا: فلم نبرح من عنده (عليه السلام) حتى جاءنا فيج قاصد من عند أبوينا بكتاب يذكر فيه أن الحسن بن زيد العلوي قتل رجلاً بسعاية أولئك الزيدية، واستصفى ماله ثم أتته الكتب من النواحي والأقطار المشتملة على خطوط الزيدية بالعذل الشديد، والتوبيخ العظيم يذكر فيها أن ذلك المقتول كان من أفضل زيدي على ظهر الأرض، وأن السعاة قصدوه لفضله وثروته. فتنكر لهم وأمر بقطع آنافهم وآذانهم، وأن بعضهم قد مثل به لذلك وآخرين قد هربوا. وأن العلوي ندم واستغفر، وتصدق بالأموال الجليلة بعد أن رد أموال ذلك المقتول على ورثته، وبذل لهم أضعاف دية وليهم المقتول واستحلهم. فقالوا: أما الدية فقد أحللناك منها، وأما الدم فليس إلينا إنما هو إلى المقتول واللّه الحاكم. وأن العلوي نذر لله عزوجل أن لا يعرض للناس في مذاهبهم. وفي كتاب أبويهما: أن الداعي إلى الحق الحسن بن زيد قد أرسل إلينا ببعض ثقاته بكتابه وخاتمه وأمانه، وضمن لنا رد أموالنا وجبر النقص الذي لحقنا فيها وأنا صائران إلى البلد ومتنجزان ما وعدنا.
فقال الإمام (عليه السلام) : «إن وعد اللّه حق». فلما كان اليوم العاشر جاءنا كتاب أبوينا أن الداعي إلى الحق قد وفى لنا بجميع عداته، وأمرنا بملازمة الإمام العظيم
ص: 34
البركة الصادق الوعد. فلما سمع الإمام (عليه السلام) بهذا قال: «هذا حين إنجازي ما وعدتكما من تفسير القرآن - ثم قال (عليه السلام) - قد وظفت لكما كل يوم شيئاً منه تكتبانه، فالزماني وواظبا عليَّ يوفر اللّه تعالى من السعادة حظوظكما». فأول ما أملى علينا أحاديث في فضل القرآن وأهله، ثم أملى علينا التفسير بعد ذلك، فكتبنا في مدة مقامنا عنده وذلك سبع سنين، نكتب في كل يوم منه مقدار ما ننشط له.
ص: 35
7
يشتمل تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) على علوم كثيرة وروايات جمة، رواها الإمام (عليه السلام) عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) وعن جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، نشير إلى بعضها:
في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : عن آبائه (عليهم السلام) ، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - قال:
«لقد أوحى اللّه تعالى إلى جبرئيل وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجار. فقال جبرئيل: يا رب، أخسف بهم إلا بفلان الزاهد؟. ليعرف ماذا يأمره اللّه فيه.
فقال: أخسف بفلان قبلهم!.
فسأل ربه فقال: يا رب، عرّفني لِمَ ذلك وهو زاهد عابد؟.
قال: مكنت له وأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف لا ينهى عن المنكر، وكان يتوفر على حبهم في غضبي.
فقالوا: يا رسول اللّه، فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟.
ص: 36
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمنكم عذاب اللّه!
ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنه لذلك كاره»(1).
قال الإمام العسكري (عليه السلام) في تفسيره: قال علي بن موسى (عليه السلام) : «يقال للعابد يوم القيامة: نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك»...
إلى أن قال: «ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد (عليهم السلام) ، الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك أو تعلّم منك. فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً حتى قال عشراً، وهم الذين أخذوا عنه علومه، وأخذوا عمن أخذ عنه، وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظروا كم فرق بين المنزلتين»(2).
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في تفسيره عن أبيه (عليه السلام) : «يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم - إلى أن قال - فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل أنقذوه، ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم»(3).
ص: 36
وفي تفسير العسكري (عليه السلام) قال الإمام (عليه السلام) : «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»(1).
وفي التفسير أيضاً عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن ولاية علي حسنة لا يضر معها شيء من السيئات وإن جلت إلاّ ما يصيب أهلها من التطهير منها بمحن الدنيا وببعض العذاب في الآخرة إلى أن ينجو منها بشفاعة مواليه الطيبين الطاهرين. وإن ولاية أضداد علي ومخالفة علي (عليه السلام) سيئة لا ينفع معها شيء إلاّ ما ينفعهم بطاعاتهم في الدنيا بالنعم والصحة والسعة فيردون الآخرة ولا يكون لهم إلاّ دائم العذاب»(2).
وفي التفسير أيضا، قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «وإن من محبي محمد وعلي مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقراء، وهم الذين سكنت جوارحهم، وضعفت قواهم عن مقاتلة أعداء اللّه الذين يعيرونهم بدينهم، ويسفهون أحلامهم، ألا فمن قواهم بفقهه وعلمه حتى أزال مسكنتهم، ثم سلطهم على الأعداء الظاهرين النواصب، وعلى الأعداء الباطنين إبليس ومردته
ص: 38
حتى يهزموهم عن دين اللّه، ويذودوهم عن أولياء آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حول اللّه تعالى تلك المسكنة إلى شياطينهم فأعجزهم عن إضلالهم، قضى اللّه تعالى بذلك قضاءً حقاً على لسان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).
وفي التفسير أيضا: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «من قوى مسكيناً في دينه، ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه، لقّنه اللّه تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: اللّه ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدّتي، والمؤمنون إخواني. فيقول اللّه: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة. فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة»(2).
وفي التفسير أيضا: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن هذا القرآن هو النور المبين، والحبل المتين، والعروة الوثقى، والدرجة العليا، والشفاء الأشفى، والفضيلة الكبرى، والسعادة العظمى. من استضاء به نوّره اللّه، ومن اعتقد به في أموره عصمه اللّه، ومن تمسك به أنقذه اللّه، ومن لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، ومن استشفى به شفاه اللّه، ومن آثره على ما سواه هداه اللّه، ومن طلب الهدى في غيره أضله اللّه، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده اللّه، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه اللّه إلى جنات النعيم والعيش السليم»(3).
ص: 39
وفي التفسير أيضا: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن العبد إذا توضأ فغسل وجهه تناثرت عنه ذنوب وجهه، وإذا غسل يديه إلى المرفقين تناثرت عنه ذنوب يديه، وإذا مسح برأسه تناثرت عنه ذنوب رأسه، وإذا مسح رجليه، أو غسلها للتقية، تناثرت عنه ذنوب رجليه، وإن قال في أول وضوئه: (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، طهرت أعضاؤه كلها من الذنوب، وإن قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة: (سبحانك اللّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك على خليقتك، وأن أولياءَه وأوصياءَه خلفاؤك)، تحاتت عنه ذنوبه كلها كما يتحات ورق الشجر، وخلق اللّه بعدد كل قطرة من قطرات وضوئه أو غسله ملكاً يسبح اللّه ويقدسه ويهلله ويكبره، ويصلي على محمد وآله الطيبين، وثواب ذلك لهذا المتوضئ. ثم يأمر اللّه بوضوئه أو غسله فيختم عليه بختم من خواتم رب العزة، ثم يرفع تحت العرش حيث لا تناله اللصوص، ولا يلحقه السوس، ولايفسده الأعداء، حتى يرد عليه ويسلّم إليه أو في ما هو أحوج وأفقر ما يكون إليه، فيعطى بذلك في الجنة ما لا يحصيه العادون ولا يعي عليه الحافظون، ويغفر اللّه له جميع ذنوبه حتى تكون صلاته نافلة»(1).
وفي التفسير أيضا: قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «قال اللّه عزوجل - في صفة الكاتمين لفضلنا أهل البيت (عليهم السلام) -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ}
ص: 40
المشتمل على ذكر فضل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على جميع النبيين، وفضل علي (عليه السلام) على جميع الوصيين {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} بالكتمان {ثَمَناً قَلِيلاً} يكتمونه ليأخذوا عليه عرضاً من الدنيا يسيراً، وينالوا به في الدنيا عند جهال عباد اللّه رئاسة، قال اللّه تعالى: {أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} يوم القيامة {إِلاَّ النَّارَ} بدلاً من إصابتهم اليسير من الدنيا لكتمانهم الحق {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} بكلام خير، بل يكلّمهم بأن يلعنهم ويخزيهم ويقول: بئس العباد أنتم غيرتم ترتيبي، وأخّرتم من قدمتُه، وقدمتم من أخّرتُه، وواليتم من عاديتُه، وعاديتم من واليتُه {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} من ذنوبهم؛ لأن الذنوب إنما تذوب وتضمحل إذا قرن بها موالاة محمد وعلي وآلهما الطيبين (عليهم السلام) ، فأما ما يقرن بها الزوال عن موالاة محمد وآله فتلك ذنوب تتضاعف، وأجرام تتزايد، وعقوباتها تتعاظم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع في النار {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدى} أخذوا الضلالة عوضاً عن الهدى، والردى في دار البوار بدلاً من السعادة في دار القرار ومحل الأبرار {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} اشتروا العذاب الذي استحقوه بموالاتهم لأعداء اللّه بدلاً من المغفرة التي كانت تكون لهم لو والوا أولياء اللّه {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ما أجراهم على عمل يوجب عليهم عذاب النار»(1).
ص: 41
8
إن علم الإمام المعصوم (عليه السلام) كعلم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علم شمولي لدني، وهو دون علم الباري عزوجل وفوق علم جميع الخلائق.
وقد منحهم اللّه تعالى هذا العلم، وأطلعهم على الغيب، كما قال سبحانه: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ}(1).
وهناك الكثير من الروايات التي تبين جانباً من علم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالغيب، نشير إلى بعضها:
كتب أبو محمد العسكري (عليه السلام) إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً: «ألزم بيتك حتى يحدث الحادث».
فلما قُتل تريخة كتب إليه قال: حدث الحادث فما تأمرني؟.
فكتب (عليه السلام) إليه: «ليس هذا الحادث، الحادث الآخر» فكان من المعتز ما كان(2).
وكتب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى رجل آخر: «يُقتل محمد بن عبد اللّه بن
ص: 40
داود» قبل قتله بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر قُتل(1).
عن محمد بن عبد اللّه، قال: لما أمر سعيد بحمل أبي محمد - العسكري (عليه السلام) - إلى الكوفة، قد كتب إليه أبو الهيثم: جُعلت فداك بلغنا خبر قلقنا وبلغ منا.
فكتب (عليه السلام) : «بعد ثلاث يأتيكم الفرج».
فقُتل المعتز يوم الثالث(2).
عن عيسى بن صبيح، قال: دخل العسكري (عليه السلام) علينا الحبس وكنت به عارفاً، فقال لي: «لك خمس وستون سنة وشهر ويومان»! وكان معي كتاب دعاء عليه تاريخ مولدي وإني نظرت فيه فكان كما قال.
ثم قال (عليه السلام) : «هل رزقت من ولد؟».
قلت: لا.
قال: «اللّهم ارزقه ولداً يكون له عضداً، فنعم العضد الولد».
ثم قال:
«من كان ذا ولد يدرك ظلامته***إن الذليل ليس له ولد»(3)
عن محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر، قال: ضاق بنا الأمر فقال
ص: 43
لي أبي: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل - يعني أبا محمد العسكري (عليه السلام) - فإنه قد وصف عنه سماحة.
فقلت: تعرفه.
قال: ما أعرفه ولا رأيته قط.
قال: فقصدناه، فقال أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم، مائتي درهم للكسوة، ومائتي درهم للدقيق، ومائة درهم للنفقة.
وقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاثمائة درهم، مائة أشتري بها حماراً، ومائة للنفقة، ومائة للكسوة، فأخرج إلى الجبل.
قال: فلما وافينا الباب، خرج إلينا غلامه فقال: يدخل علي بن إبراهيم ومحمد ابنه!، فلما دخلنا عليه وسلمنا قال لأبي: «يا علي، ما خلفك عنا إلى هذا الوقت؟».
قال: يا سيدي، استحييت أن ألقاك على هذه الحال.
فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة فيها دراهم وقال: هذه خمسمائة درهم، مائتان للكسوة، ومائتان للدقيق، ومائة للنفقة!!.
وأعطاني صرة وقال: هذه ثلاثمائة درهم، اجعل مائة في ثمن حمار، ومائة للكسوة، ومائة للنفقة، ولا تخرج إلى الجبل وصر إلى سوراء!!.
قال: فصار إلى سوراء وتزوج امرأة منها فدخله اليوم ألفا دينار، ومع هذا يقول بالوقف.
قال محمد بن إبراهيم الكردي: فقلت له: ويحك أتريد أمراً أبين من هذا؟!.
قال: فقال: صدقت ولكنا على أمر جرينا عليه.
قلت: هذا هو التقليد الذي ذمه اللّه عز وعلا في شريف كتابه، فقال حكاية
ص: 43
عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}(1)(2).
عن أبي هاشم قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد - العسكري (عليه السلام) - عن قول اللّه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(3)؟.
فقال أبو محمد (عليه السلام) : «هل يمحو اللّه إلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن».
فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقول هشام بن الحكم لا يعلم الشيء حتى كون.
فنظر إليَّ أبو محمد فقال: «تعالى الجبار الحاكم، العالم بالأشياء قبل كونها، الخالق إذ لا مخلوق، والرب إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه».
فقلت: أشهد أنك ولي اللّه وحجته والقائم بقسطه وأنك على منهاج أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلمه(4).
عن محمد بن الحسن المكفوف، قال: حدثني بعض أصحابنا عن بعض فصّادي العسكر من النصارى: أن أبا محمد (عليه السلام) بعث إليَّ يوماً في وقت صلاة الظهر، فقال لي:«افصد هذا العرق».
قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد، فقلت في نفسي: ما
ص: 45
رأيت أمراً أعجب من هذا، يأمرني أن أفصد في وقت الظهر وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه.
ثم قال لي: «انتظر وكن في الدار».
فلما أمسى دعاني وقال لي: «سرِّح الدم» فسرحت.
ثم قال لي: «أمسك» فأمسكت.
ثم قال لي: «كن في الدار»، فلما كان نصف الليل أرسل إليَّ وقال لي: «سرِّح الدم».
قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول، وكرهت أن أسأله، قال: فسرحت، فخرج دم أبيض كأنه الملح.
قال: ثم قال لي: «احبس». قال: فحبست.
قال: ثم قال: «كن في الدار»، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير فأخذتها وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني فقصصت عليه القصة.
قال: فقال لي: واللّه ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شيء من الطب ولا قرأته في كتاب، ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي فاخرج إليه.
قال: فاكتريت زورقاً إلى البصرة وأتيت الأهواز، ثم صرت إلى فارس - إلى صاحبي - فأخبرته الخبر.
قال: وقال: أنظرني أياماً. فأنظرته ثم أتيته متقاضياً.
قال: فقال لي: إن هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعله المسيح (عليه السلام) في دهره مرةً(1).
ص: 45
قال أبو هاشم - قلت في نفسي وقد كتب الإمام (عليه السلام) -: يا أسمع السامعين - إلى آخره - اللّهم اجعلني في حزبك وفي زمرتك، فأقبل عليَّ أبو محمد العسكري (عليه السلام) فقال: «أنت في حزبه وفي زمرته إذ كنت باللّه مؤمناً، ولرسوله مصدقاً، ولأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً، فأبشر ثم أبشر»(1).
قال محمد بن الحسن: لقيت من علة عيني شدة فكتبت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أسأله أن يدعو لي.
فلما نفذت الكتاب قلت في نفسي: ليتني كتبت إليه أن يصف لي كحلاً أكحلها.
فوقع (عليه السلام) بخطه يدعو لي سلامتها إذ كانت إحداهما ذاهبة، وكتب بعده أردتَ أن أصف لك كحلاً!: «عليك أن تصير مع الإثمد كافوراً وتوتيا؛ فإنه يجلو ما فيها من الغشاء وييبس من الرطوبة». قال: فاستعملت ما أمرني به فصحت(2).
فُصاً أصوغ به خاتماً أتبرك به، فجلست وأنسيت ما جئت له.
فلما ودعته ونهضت أومى (عليه السلام) إليَّ بخاتم وقال: «أردتَ فصاً فأعطيناك خاتماً وربحت الفص والكراء، هنأك اللّه يا أبا هاشم».
قال أحمد بن إسحاق: دخلت على أبي محمد العسكري (عليه السلام) فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطه فأعرفه إذا ورد. فقال: «نعم - ثم قال - يا أحمد، إن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق، فلا تشكن». ثم دعا بالدواة، فقلت في نفسي: أستوهبه القلم الذي كتب به، فلما فرغ من الكتابة أقبل يحدثني وهو يمسح القلم بمنديل الدواة ساعة ثم قال: «هاك يا أحمد» فناولنيه، الخبر(1).
قال أبو هاشم: سمعت أبا محمد العسكري (عليه السلام) يقول: «إن في الجنة باباً يقال له: المعروف، لا يدخله إلا أهل بيت المعروف». فحمدت اللّه تعالى في نفسي وفرحت مما أتكلفه من حوائج الناس، فنظر إليَّ أبو محمد العسكري (عليه السلام) فقال: «نعم قد علمت ما أنت عليه، وأن أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، جعلك اللّه منهم يا أبا هاشم ورحمك»(2).
إلى غيرها(3)
مما يدل على علم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالغيب وبالنوايا
ص: 47
والخفايا، وذلك بإذن اللّه تعالى.
ولا يخفى أن ما يمر في قلب الإنسان من النوايا قد يكون طاعةً، وقد يكون معصيةً بالمعنى اللغوي، وقد لا يكون أحدهما، والمراد بالمعنى اللغوي الحُسن أو القُبح الفاعلي لا الفعلي. فليس المقصود المعصية الاصطلاحية مما يترتب عليها العقاب، وإن ترتب الثواب على نية الخير تفضلاً من اللّه، كما في الروايات.
ثم إن الإنسان مسؤول عن نواياه، وقد يُعاتب عليها وإن لم يُعاقب عليها في الجملة.
قال تعالى في مسائلة القلب وهو مركز النوايا: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}(1).
نعم، إذا طرأ ذلك في القلب من دون اختيار المكلف، ولم تكن المقدمات باختياره فلا شيء عليه، أما إذا كانت مقدمات النوايا باختياره فذو المقدمة اختياري باختيارية المقدمة فيُسأل عنه، على تفصيل مذكور في علم الكلام.
قالوا: ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فمثلاً لو رمى شخص ورقة في النار فهو فاعل الإحراق؛ لأنه اختار مقدمة الإحراق وهي الإلقاء في النار.
ومن هنا ورد أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لا يفكرون في المعصية فكيف بعملها، فنواياهم طاهرة مطهرة ولم تكن سيئة أبداً؛ لأنهم (عليهم السلام) اختاروا المقدمات الطيبة الطاهرة والتي لا تؤدي إلى نية السوء، وابتعدوا عن مقدمات توجب خطور
ص: 48
النوايا السيئة. فلا يمكن لهم - باختيارهم - أن تكون حتى نواياهم نوايا الذنب والمعصية والسوء.
ثم إن إخبار الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ببعض نوايا الناس - كما أخبر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بما أراده أبو هاشم من الفص وغيره - قد يكون من باب المعاجز والكرامات التي منحهم اللّه تعالى إثباتاً للحجة وإتماماً لها، وقد يكون من باب الإشعار بأن الإنسان مسؤول حتى عن نواياه، وعليه أن يختار الحسن من النوايا باختيارها أو باختيار مقدماتها، ويترك النوايا السيئة بتركها أو بترك مقدماتها؛ فإن الإنسان مراقَب حتى في قلبه.
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله، وكل عامل يعمل على نيته»(1).
وفي الآية المباركة: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}(2).
وقال عزوجل: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(3).
ثم إن علم الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) - ومنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - بالنوايا نوع من علم الغيب الذي منحهم اللّه عزوجل - كما سبق - قال تعالى: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ}(4).
ص: 49
وهنا سؤال يقول: إن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مع علمهم بالغيب وقدرتهم على التصرف في الكون - وهو ما يسمى بالولاية التكوينية - فلماذا نرى في أغلب الأحيان يعيشون في غاية الصعوبات، في السجون والمنافي وتحت التعذيب، وربما قُتلوا بالسيف أو السمّ على يد الأعداء والمشركين، كما تقول الآية الكريمة: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ}(1).
حيث تدل هذه الآية على أنهم كانوا يقتلون الأنبياء (عليهم السلام) ، وهذا ما ينص عليه التاريخ أيضاً.
وكما عاش الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حياته في منطقة العسكر، وكان تحت المراقبة الشديدة من قبل طغاة بني العباس، وربما سجنوه في سجونهم وعذبوه بتعذيبهم، حتى قتله المعتمد العباسي بالسمّ ظلماً وجوراً؟.
الجواب: إن اللّه عزوجل خلق الدنيا دار امتحان واختبار وفتنة، فإذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يستخدمون القدرة الغيبية والإعجاز في جميع أمورهم وفي إيمان الناس وهدايتهم بأن يتصرفوا في قلوب الناس حتى يؤمنوا أو ما أشبه، لم يُعرف أن هؤلاء المؤمنين هل آمنوا رغبةً وعن قناعة، وبكامل رضاهم واختيارهم، أم أنهم آمنوا كرهاً وجبراً وتصرفاً فيهم؟. مع أن اللّه عزوجل خلق الدنيا دار امتحان.
قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(2).
ص: 50
ولا يُعلم هل التفافهم حول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان لإيمانهم - أم لأنهم رأوا أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يملك القوة والقدرة والسلاح والمال والجاه والملك وما أشبه فالتفوا حوله؛ فإن الناس غالباً يلتفون حول الأقوياء؟.
من هنا كان استخدام المعجزة وعلم الغيب من قبل المعصومين (عليهم السلام) ينحصر في الموارد المقررة التي أذن اللّه فيها فحسب دون سائر الموارد، وذلك {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ}(1).
مضافاً إلى أنهم (عليهم السلام) أسوة للبشرية جمعاء، فإذا كانوا يعملون دائماً بالغيب والإعجاز في أعمالهم لم يكونوا أسوةً؛ لأن الناس يقولون: لا يمكننا أن نتأسى بهم لأنهم يعملون بالغيب والقدرة الإعجازية ونحن نفقدهما.
قال تعالى: {لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}(2).
ومن هنا جاءت شوكة المسلمين وقدرتهم، وذلك لواقعيتهم وصدقهم، ولحقيقة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، لا لقوة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المادية أو ثروته وملكه وجاهه الدنيوي، فإن الإسلام هو الدين السماوي الإلهي الذي نزل على النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمنطق والحكمة، وهو يطابق العقل والفطرة تماماً..
وكذلك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما عَيّن بأمر اللّه تعالى أوصياءه الاثني عشر (عليهم السلام) فإن العقل والفطرة تدعو إلى إتباع هؤلاء الأطهار (عليهم السلام) مضافا إلى النص، وقد منحهم اللّه العلم والقدرة إبلاغاً وإتماما للحجة، ولكنهم لا يستخدمون الغيب والإعجاز
ص: 51
إلاّ بإرادة اللّه وإذنه، ومن هنا تأتي فلسفة المعاجز والقبول بها.
أما من ينكر المعجزة وعلم الغيب فإنه لا يملك إيماناً كاملاً صحيحاً، ومن هنا نرى المؤمنين يقبلون بالمعاجز ويعترفون بها سمعاً وطاعة، وفهماً وقناعةً، وذلك للأدلة العقلية والنقلية عليها.
أما في عالمنا اليوم حيث نرى ابتعاد الناس عن الدين في الغرب والشرق وحتى في بلادنا الإسلامية؛ فإنه ليس لإشكال في الدين أو أنه لا يطابق العقل والمنطق والفطرة، بل هذه ردة فعل عما لاقى الناس من ظلم الكنائس في القرون الوسطى وغيرها، فرأوا أن يحصروا الدين في معتقدات قلبية وارتباط باللّه عزوجل في بعض العبادات فقط.
هكذا رأت النصارى ومن شابههم، ولكن ابتلي المسلمون بهذا الداء أيضاً؛ لأنهم رأوا من حكام الجور والظلم من بني أمية وبني العباس وبني عثمان ومن شاكلهم إلى يومنا هذا من الويلات والمصائب ما أبعدهم عن الدين، مع أن الإسلام بريء عن هؤلاء أشد البراءة.
ومن جانب آخر أخذ الغرب يحث المسلمين على الابتعاد عن الدين وينشر فيهم ثقافة: (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر).
وقد دخل الغرب بلادنا بأشكال مختلفة، فيوم باسم الديمقراطية، ويوم باسم القومية، ويوم باسم البعثية، ويوم باسم الشيوعية، ويوم باسم الوجودية، ويوم باسم الحرية، ويوم باسم العولمة، ويوم باسم الصناعة والتكنولوجية، ويوم باسم الدين أيضاً!.
ومن هنا يلزم على المسلمين إذا أرادوا العزة في الدارين أن يرجعوا إلى دينهم
ص: 52
وإلى نبيهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى ما تركه فيهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الثقلين: كتاب اللّه وعترته الطاهرة (عليهم السلام) ، ومن هؤلاء العترة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
وبذلك يكون الخلاص من هذه المشاكل والصعوبات والويلات والمخازي.
فإن الدين الذي ندعو إليه ونقول بأنه يطابق العقل والفطرة، هو ما جاء به القرآن الكريم، والنبي الأعظم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وطبّقه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحافظ عليه ذريته المعصومون (عليهم السلام) ومنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، لا ما قام به حكام بني أمية والعباسيون والعثمانيون من أعمال شنيعة نسبوها إلى الدين، ومن غصب الخلافة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ثم إن الناس إذا عرفوا محاسن كلام أهل البيت (عليهم السلام) اتبعوهم، كما قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا». قلت: كيف يحيي أمركم؟. قال: «يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).
إن عقلاء الناس يبحثون عن ثلاثة أمور، وكلها متوفرة في تعاليم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وآبائه الطاهرين (عليهم السلام) :
أولاً: أصل الخير، بأن يصبح المجتمع مجتمعاً صالحاً، يعيش الإنسان فيه بكرامة، ولا يرضخ للجهل البسيط ولا المركب، ولا لهدر الحقوق وقمعها.
ومن هنا تبدأ رسالة الأنبياء ثم الأوصياء والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، وكذلك من يسير بهديهم من العلماء والمؤمنين، حيث عليهم إرشاد الناس إلى الخير، وإن كان الشخص لا يرغب بالخير، أو كان بالجهل المركب يرى نفسه في الخير فإنه
ص: 53
يلزم إرشاده وإن كان لا يجوز جبره.
قال تعالى: {فَذَكّرْ إِنّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ * لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1).
فإذا كان هناك من يتصور أنه يعيش في مجتمع سليم - بالجهل المركب - ولكنه واقعاً كان في مجتمع مريض، يلزم إرشاده والسعي لإصلاح المجتمع.
فربما بعض الأشخاص لا يلتفتون إلى المحيط السيئ الذي يعيشون فيه، كما أن المجنون قد لا يرى بأساً في جنونه وهذا لا يعني أنه صاح.
ثانيا: استمرار الخير، فإن أصل الخير دون استمراره لا يكفي، ومن هنا يسعى العقلاء لديمومة حياة أفضل للناس في هذه الدنيا أو في الدارين معاً.
ومن مصاديق ذلك إرسال الآباء أولادهم إلى المدرسة وإن كره الطفل ذلك؛ فإن الطفل يرجح أن يلعب ويلهو ولا يدرس، ولكن الوالدين يعلمون بأن هذه الراحة الوقتية للطفل لا تدوم إلا إذا درس وتعلم، فاستمرار الراحة بالذهاب إلى المدرسة وما أشبه.
وكما يمنعون طفلهم إذا تمرض مما يضره، ولو أن الطفل يحب تلك الأكلات التي تضره وذلك لضمان راحة المستقبل.
فالراحة التي لا تدوم وتليها مشقة أو مشقات لا خير فيها.
ثالثاً: شمولية الخير، بأن لا يقتصر الخير على بعض دون بعض بل يستوعب الكل، أما انحصار الخير على شخص أو جماعة معينة وحرمان الآخرين منه فهذا مرفوض عند العقلاء، ومن هنا يسعون في تحديد الأثرياء من طغيانهم، وتحديد من يريد السوء بالناس من ظلمه وإن كان يريد خيراً لفئة معينة.
ص: 54
ومن هنا يتبين دور الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) فإنهم جاءوا بأصل الخير للناس، كما بينوا ما يوجب لهم استمرارية الخير في الدنيا والآخرة، مضافاً إلى أن ما دعوا إليه هو الخير الشمولي الذي لا يختص بشخص دون شخص أو فئة دون فئة، أو طبقة دون غيرها.
والإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو حجة اللّه على الأرض لبيان الخير واستمراريته وشموليته.
من أهم الواجبات: هداية المخالفين والكفار بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الخير وإتباع ما رضيه الباري من الإسلام ديناً، وما أتمه عزوجل من النعمة، وهو لا يكون إلاّ بولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من ذريته، ومنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ..
قال تعالى في يوم الغدير: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).
وقد عُلم مما سبق أن لزوم هداية الآخرين غير مشروط برغبتهم، نعم {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ}(2) أما أصل الإرشاد وإراءة الطريق فهو لازم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن باب تبليغ رسالات اللّه، وتنبيه الغافل، وإرشاد الجاهل، وما أشبه.
وربما يكون بعض الضغوط على غير المسلمين كالجزية مثلا، من هذا الباب،
ص: 55
أي لينتبهوا ويبحثوا عن الخير، وربما يكون ذلك سبباً لهدايتهم إلى نور الحق.
فإن غير المسلمين ابتلوا بخرافات كثيرة، وهكذا كل من ابتعد عن الكتاب والعترة الطاهرة (عليهم السلام) .
وتتبين هذه الخرافات والأباطيل بوضوح في الحوارات العلمية التي تقع بين الأديان والمذاهب، فإنها(1) شملت العقائد والشرائع والأخلاق والعبادات والمعاملات وغيرها، وأيضا شملت المرأة ومكانتها، ويلزم على البشرية الخلاص من هذه الخرافات.
فمثلاً الغربيون أفرطوا بالنسبة إلى المرأة وسلبوا منها كرامتها وشرفها، ومنحوها ما سبّب هدم كيان أسرتها وفسادها، فأصبحت سلعة رخيصة بيد التجار وأهل الهوى.
وإذا وصلت امرأة في بلادهم إلى الرئاسة وما أشبه، فهذا لا يكون إلاّ على حساب إفساد عشرات الآلاف من النساء، فإن هذه الحرية غير المدروسة قد توجب للبعض النادر أن تصل إلى الرئاسة ولكنها توجب للآخرين المشاكل والويلات، فإن هذه الحريات تعني بيوت الدعارة وهدم الأسرة والأمراض الجنسية والنفسية كالكآبة وما إلى ذلك، مضافا إلى الملايين من الفتيات اللاتي حُرمن من الزوج ودفء البيت الزوجي، وابتلين بالأعمال الشاقة لتحصيل لقمة العيش، والتي تنافي شخصية المرأة وكرامتها، فإنها ريحانة وليست بقهرمانة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (2).
ص: 56
فهذه الخرافات والانحرافات لم تحصل إلاّ بالابتعاد عن مدرسة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، وهي مدرسة الكتاب والعترة الطاهرة (عليهم السلام) .
من هنا نعلم بأنه وإن كان الأصل الأولي في الإسلام هو التساوي بين الرجل والمرأة في التكاليف وغيرها، إلاّ أن هناك بعض المستثنيات التي استثناها خالق الإنسان العارف بما يحتاجه وما يسعده، وهي ضرورية.
فالتساوي في كل المفردات بالنسبة إليهما على خلاف العدالة، بل العدالة والحكمة تقتضي جعل كل شيء في مكانه، والتعامل مع كل شيء بحسبه.
وذلك كالسيارات الكبيرة المخصصة لحمل الأثقال، والسيارات الصغيرة التي خصصت للركاب، فإذا حملنا الركاب في الشاحنات الكبيرة والقاطرات ظلمناهم، وإذا ملئنا السيارة الصغيرة بالرمل والجص والطابوق(1) وما أشبه ظلمنا السيارة كما لا يخفى.
قال أبو هاشم الجعفري: إن الفهفكي سأل أبا محمد العسكري (عليه السلام) فقال: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل القوي سهمين؟.
فقال أبو محمد (عليه السلام) : «لأن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة، إنما ذلك على الرجال».
فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إن ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب.
فأقبل (عليه السلام) عليَّ وقال: «نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منا واحد
ص: 56
إذا كان معنى المسألة واحدا»(1).
ومن هنا يعلم بعض الوجه في فلسفة الحجاب للمرأة.
لا يقال: هذا نوع من الجبر والإكراه؟.
لأنه يقال: تطبيق القانون الصحيح لا يعني الجبر والإكراه، وإلا فكل الدول وجميع الأنظمة تجبر رعاياها على تطبيق قوانينها.
ومن جانب آخر، فإن الإسلام لا يجبر أحداً بالمقام في بلد معين، فإن من حريات الإسلام حرية السفر والإقامة وما أشبه، فإذا كان هناك من لا يرغب بالقانون الإسلامي لم تمنعه الدولة الإسلامية من السفر واختيار بلد آخر.
لأن الإسلام لا يعترف بهذه الحدود المصطنعة بين البلاد الإسلامية وغيرها، فالأرض كلها لله ولمن عمرها، والإنسان - المسلم وغير المسلم أيضاً - حرٌ في أن يسكن أي مكان شاء ويختار أي بلد أراد، من دون حاجة إلى مراجعة دائرة أو أخذ تأشيرة أو إقامة أو دفع رسوم أو ما أشبه.
نعم الإسلام نبه على أن من يتبع الشهوات ويترك قوانين السماء فإنه يبتلى بالمشاكل ويعيش معيشة ضنكاً، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}(2).
وقال عزوجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(3).
وهذا لا يعني الجبر والإكراه كما لا يخفى.
ص: 57
عندما أخذ بنو العباس وبنو أمية وغيرهم بالضغط على القادة الشرعية - وهم الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) ومنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - وأقصوهم عن التصدي لأمر الخلافة وإدارة العباد والبلاد، حيث ضيقوا على الإمام (عليه السلام) وسجنوه وجعلوا العيون والجواسيس عليه، واعتقلوا شيعته وطاردوهم في كل مكان؛ فإن ذلك كان سبباً لغرق العالم - الإسلامي وغيره - في بحار من المشاكل والحروب، وسفك الدماء، وعدم الأمن، وفقد الحريات، وكبت الكفاءات، وخسارة الدنيا والآخرة.
قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) - عندما غصب القوم خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) -: «وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وزرعكم حصيداً، فيا حسرتى لكم وأنى بكم وقد عميت قلوبكم عليكم {أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}(1)»(2).
أما بعض الراحة النسبية الموجودة في بلاد الغرب وما أشبه، فإنها في بعض الأمور وعلى حساب البعض الآخر، كما أنها غارقة في بحر من المشاكل الأخرى كالكآبة والفقر والمرض والفساد.
ففي بعض الإحصاءات أن في أمريكا ثلاثين مليون فقير، وخمسة وعشرين مليون أمّي، وفي كل ستة آلاف شخص مبتلى بالسرطان، وما أكثر السرقات والجرائم في بلادهم.
ص: 58
وهكذا الحال في دول أوروبا وما أشبه(1).
ص: 59
ومن هنا أخذ عقلاء الغرب يفكرون في طرق الخلاص من هذه الويلات، كما أن عقلاءهم لا يرضون باستعمار بلادهم لبلاد الآخرين ونهب ثرواتها.
بعد ما أشرنا إلى أن الدين الإسلامي الذي جاء به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبينه خلفاؤه الطاهرون من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) - ومنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - هو الدين الذي يطابق العقل والفطرة السليمة، ويضمن سعادة الدارين، بقي هناك ثلاثة أسئلة ينبغي الإجابة عليها:
السؤال الأول: إن في أحكام الحدود والقصاص نوعاً من الخشونة والعنف، وهذه لا تناسب إنسانية الإنسان؟.
السؤال الثاني: المحرمات في الإسلام كثيرة وهي تقيد الإنسان وتخالف حرياته؟.
ص: 60
السؤال الثالث: إن الأحكام في الإسلام بيد اللّه عزوجل وليست بيد الناس، أما في الديموقراطية الغربية فسنّ الأحكام بيد الناس، والشعب هو الذي يحكم ويقنن عبر وكلائه ونوابه في البرلمان ومجالس التشريع.
وعليه نقول:
جواب الأول: الحدود في الإسلام وكذلك القصاص تعتبر كالعملية الجراحية للشخص المريض، فإن خشونة العملية الجراحية لابد منها لأجل أمر أهم وهو حياة الشخص.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحدود والقصاص فإنها كعملية جراحية في جسم المجتمع لأمر أهم وهو حفظه عن المخاطر الأكبر، وعن الفوضى وعدم الأمن، ولكي لا يصبح المجتمع غابة يفترس فيها القوي الضعيف، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُوْلِي الألْبَابِ}(1).
مضافاً إلى أنه قد بينا في (الفقه)(2)، وفي كتاب (ممارسة التغيير)(3) بأن هذه
ص: 62
الحدود لا تجرى إلا بشروط كثيرة يصعب اجتماعها، فهي أشبه بالتخويف من التطبيق في كثير من الأحيان.
فمثلاً ذكرنا في (الممارسة) بأن لقطع يد السارق ستة وأربعين شرطاً يلزم توفرها حتى تقطع يد السارق، ومن هنا يرى ندرة إجراء هذه الحدود في بلاد الإسلام طول التاريخ.
أما في مثل هذا الزمان فالغالب عدم توفر شروط إجراء الحدود على تفصيل مذكور في الفقه.
جواب الثاني: أما المحرمات في الإسلام فهي قليلة جداً، إذا ما لوحظت بمحرمات الغرب والشرق، على تفصيل ذكرناه في كتاب (الصياغة)(1) حيث قلنا
ص: 62
بأن الحريات في الإسلام أكثر من عشرة أضعاف حريات الغرب والشرق.
جواب الثالث: أما أن وضع الأحكام في الإسلام ليس بيد الناس فنعم، إنه صحيح في الجملة، لكن الأحكام في الإسلام توضع من قبل خالق الإنسان العارف بجميع مصالحه ومفاسده، والعالم بمختلف جوانب الأمور حتى المستقبلية منها، فهو أولى بوضع القانون من البشر الذي يعترف بجهله وعدم استيعابه لجوانب الأمور، مضافاً إلى اعترافه بالأخطاء الكثيرة في قوانينه الوضعية، حتى إنه يضطر بين فترة وأخرى لتغيير القانون وإلحاق مادة بها، أو نسفها وإلغائها تماماً.
علماً بأن الأحكام الإسلامية كلها مطابقة للعقل وموافقة لفطرة الإنسان السليمة، وإذا ما تشكلت مؤتمرات عالمية من قبل علماء البشر والمتخصصين لدراسة القوانين الإسلامية ومقارنتها بقوانين الغرب والشرق تبين صحة القوانين الإسلامية ورجحانها على غيرها.
ص: 63
هذا مع قطع النظر عن الآخرة، أي بأن نفرض الدنيا هي آخر مطاف الإنسان، مع ذلك فالقوانين الإلهية هي الأصح والأولى بالتطبيق دون غيرها، فكيف مع الإيمان بالآخرة؛ فإن القوانين الوضعية لا تشمل ما يرتبط بآخرة الإنسان كما هو واضح.
من هنا نعلم بصحة جميع الأحكام الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوضحتها عترته الطاهرة (عليهم السلام) - ومن هؤلاء الأطهار الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - فإنه حجة اللّه على الخلق، وقوله وفعله وتقريره حجة يُستنبط منها القوانين الشرعية وغيرها.
ص: 64
9
إن اللّه تعالى قد أمكن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) وكجدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المعاجز، إثباتاً للحجة وتثبيتاً للإمامة:
قال أبو حمزة نصر الخادم: سمعت أبا محمد العسكري (عليه السلام) يكلّم غلمانه بلغاتهم، فيهم: ترك وروم وصقالبة. فقلت في نفسي: هذا وُلد بالمدينة ولم يظهر حتى مضى أبو الحسن (عليه السلام) ، فكيف هذا؟.
فأقبل عليَّ فقال: «إن اللّه بيّن حجته من سائر خلقه، وأعطاه معرفة كل شيء، فهو يعرف اللغات والأنساب والحوادث، ولولا ذلك لما كان بين الحجة والمحجوج فرق»(1).
قعد إسماعيل - وهو من بني العباس - لأبي محمد (العسكري) (عليه السلام) على ظهر الطريق، وشكا إليه الحاجة وحلف على فقره وأنه ليس له درهم واحد فما فوقه، ولا غداء ولا عشاء!.
ص: 65
فأعطاه الإمام (عليه السلام) ما معه وكان مائة دينار، وقال: «لماذا تحلف باللّه كاذباً وقد دفنت مائتي دينار؟».
ثم قال (عليه السلام) : «إنك تحُرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها».
يقول إسماعيل: صدق (عليه السلام) وذلك أني أنفقت ما وصلني به واضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه وانغلقت عليَّ أبواب الرزق، فنبشت عن الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها، فنظرت فإذا ابن لي(1)
قد عرف موضعها فأخذها وهرب، فما قدرت منها على شيء(2).
حدث أحمد بن الحرث القزويني، قال: كنت مع أبي بسر من رأى وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمد - العسكري - (عليه السلام) .
قال: وكان عند المستعين(3) بغل لم ير مثله حسناً وكبراً وكان يمنع ظهره واللجام، وكان قد جمع عليه الرواض فلم تكن لهم حيلة في ركوبه، فقال له بعض ندمائه: يا أمير، ألا تبعث إلى الحسن بن علي ابن الرضا حتى تجيء فإما أن يركبه وإما أن يقتله!!.
قال: فبعث إلى أبي محمد (عليه السلام) ومضى أبي معه، فلما دخل أبو محمد (عليه السلام) الدار كنت مع أبي، فنظر أبو محمد (عليه السلام) إلى البغل واقفاً في صحن الدار، فعدا إليه فوضع يده على كفله، قال: فنظرت إلى البغل قد عرق حتى سال العرق منه.
ص: 66
ثم صار (عليه السلام) إلى المستعين فسلم عليه، فرحب به وقربه وقال: يا أبا محمد ألجم هذا البغل.
فقال أبو محمد (عليه السلام) لأبي: «ألجمه يا غلام».
فقال له المستعين: ألجمه أنت.
فوضع أبو محمد (عليه السلام) طيلسانه وقام فألجمه، ثم رجع إلى مجلسه وجلس.
قال له: يا أبا محمد أسرجه.
فقال (عليه السلام) لأبي: «يا غلام أسرجه».
فقال المستعين: أسرجه أنت.
فقام (عليه السلام) ثانية فأسرجه ورجع إلى مجلسه.
فقال له: ترى أن تركبه.
فقال أبو محمد (عليه السلام) : «نعم».
فركبه من غير أن يمتنع عليه، ثم ركضه في الدار، ثم حمله على الهملجة فمشى أحسن مشي يكون، ثم رجع فنزل.
فقال له المستعين: كيف رأيته؟.
قال: ما رأيت مثله حسناً وفراهةً.
فقال له المستعين: فإن الأمير قد حملك عليه.
فقال أبو محمد (عليه السلام) لأبي: «يا غلام، خذه»، فأخذه أبي فقاده(1).
عن أشجع بن الأقرع، قال: كتبت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أسأله أن
ص: 67
يدعو اللّه لي من وجع عيني، وكانت إحدى عيني ذاهبة والأخرى على شرف هار. فكتب (عليه السلام) إليَّ: «حبس اللّه عليك عينك، وأقامت الصحيحة» ووقّع (عليه السلام) في آخر الكتاب: «أعزك اللّه، آجرك اللّه وأحسن ثوابك».
فاغتممت بذلك ولم أعرف في أهلي أحداً مات، فلما كان بعد أيام جاءني خبر وفاة ابني طيب، فعلمت أن التعزية له(1).
عمر بن مسلم، قال: قدم علينا بسر من رأى رجل من أهل مصر يقال له: سيف بن الليث يتظلم إلى المهتدي في ضيعة له غصبها شفيع الخادم وأخرجه منها. فأشرنا إليه أن يكتب إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) يسأله تسهيل أمرها..
فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام) : «لا بأس عليك ضيعتك ترد عليك، فلا تقدم إلى السلطان وأت الوكيل الذي في يده الضيعة وخوفه بالسلطان الأعظم اللّه رب العالمين».
فلقيه فقال له الوكيل - الذي في يده الضيعة -: قد كتب إليَّ عند خروجك أن أطلبك وأن أرد الضيعة عليك. فردها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود، ولم يحتج أن يتقدم إلى المهتدي فصارت الضيعة له(2).
قال سيف بن الليث: خلفت ابناً لي عليلاً بمصر عند خروجي منها، وابناً آخر أسن منه كان وصيي، فكتبت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أسأله الدعاء لابني
ص: 68
العليل.
فكتب إلي (عليه السلام) : «قد عوفي ابنك العليل ومات الكبير وصيك وقيمك، فاحمد اللّه ولا تجزع فيحبط أجرك»، فكان كما قال(1).
قال أبو العيناء الهاشمي: كنت أدخل على أبي محمد العسكري (عليه السلام) فأعطش وأنا عنده وأُجلّه أن أدعو بالماء، ثم يقول (عليه السلام) : «يا غلام اسقه». وربما حدثتني نفسي بالنهوض فأفكر في ذلك، فيقول (عليه السلام) : «يا غلام دابته»(2).
قال علي بن زيد بن علي بن الحسين: كان لي فرس وكنت به معجباً أكثر ذكره في المحافل، فدخلت على أبي محمد - العسكري - (عليه السلام) يوماً، فقال: «ما فعل فرسك»؟.
فقلت: ها هو على بابك، الآن نزلت عنه.
فقال: «استبدل به قبل المساء إن قدرت على مشترٍ لا تؤخر ذلك».
ودخل علينا داخل فانقطع الكلام، فقمت من مكاني مفكراً ومضيت إلى منزلي فأخبرت أخي، قال لي: ما أدري ما أقول في هذا، وشححت به ونفست على الناس ببيعه وأمسينا، فلما صلينا العتمة جاءني السائس فقال: نفق فرسك الساعة، فاغتممت وعلمت أنه (عليه السلام) عنى هذا بذلك القول.
ثم دخلت على أبي محمد (عليه السلام) بعد أيام وأنا أقول في نفسي: ليته أخلف عليَّ دابة.
ص: 69
فلما جلست قال (عليه السلام) قبل أن أحدث بشيء: «نعم نخلف عليك، يا غلام أعطه برذوني الكميت» - ثم قال: - «هذا خير من فرسك وأوطأ وأطول عمراً»(1).
قال محمد بن صالح الخثعمي: عزمت أن أسأل في كتابي إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) عن أكل البطيخ على الريق وعن صاحب الزنج، فأنسيت، فورد عليَّ جوابه (عليه السلام) : «لا تأكل البطيخ على الريق؛ فإنه يورث الفالج، وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت»(2).
قال محمد بن موسى: شكوت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) مطل غريم لي، فكتب إليَّ: «عن قريب يموت، ولا يموت حتى يسلم إليك مالك عنده».
فما شعرت إلاّ وقد دق عليَّ الباب ومعه مالي وجعل يقول: اجعلني في حل مما مطلتك. فسألته عن موجبه فقال: إني رأيت أبا محمد العسكري (عليه السلام) في منامي وهو يقول لي: «ادفع إلى محمد بن موسى ماله عندك؛ فإن أجلك قد حضر واسأله أن يجعلك في حلّ من مطلك»(3).
قال حمزة بن محمد السروي: أملقت وعزمت على الخروج إلى يحيى بن محمد ابن عمي بحرّان، وكتبت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أسأله أن يدعو لي. فجاء
ص: 70
الجواب: «لا تبرح فإن اللّه يكشف ما بك، وابن عمك قد مات»، وكان كما قال ووصلت إليَّ تركته(1).
قال علي بن زيد العلوي الزيدي: أعطاني أبو محمد العسكري (عليه السلام) دنانير وقال: «اشتر بهذه الدنانير جارية؛ فإن جاريتك قد ماتت»!.
فأتيت داري وإذا بالجارية قد شرقت وماتت(2).
قال الحسن بن ظريف: اختلج في صدري أن أكتب إلى أبي محمد (العسكري) (عليه السلام) : أن القائم (عليه السلام) إذا قام بم يقضي وأين مجلسه للقضاء؟، وأن أسأله عن شيء لحمى الربع فأغفلت عنها.
فجاء الجواب:
«سألت عن القائم (عليه السلام) إذا قام بالناس بم يقضي، يقضي بعلمه كقضاء داود لا يسأل عن بينة. وأردت أن تسأل عن حمى الربع فاكتب في ورقة وعلقها على المحموم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(3)»(4).
كتب أبو علي المطهري إلى الإمام العسكري (عليه السلام) من القادسية يعلمه انصراف
ص: 70
الناس عن المضي إلى الحج، وأنه يخاف العطش إن مضى. فكتب (عليه السلام) : «امضوا فلا خوف عليكم إن شاء اللّه»، فمضوا ولم يجدوا عطشاً(1).
قال أبو هاشم: سمعت أبا محمد العسكري (عليه السلام) يقول: «من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لم أؤاخذ إلاّ بهذا». فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق، وقد ينبغي للرجل أن يتفقد من أمره ومن نفسه كل شيء.
فأقبل عليَّ أبو محمد (عليه السلام) فقال: «صدقت يا أبا هاشم، فالزم ما حدثتك به نفسك، فإن الإشراك في أناس أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة الظلماء، أو من دبيب الذر على المسح الأسود»(2).
قال محمد بن الربيع الشيباني: ناظرت رجلاً من الثنوية، فقويت في نفسي حجته هذا وأنا بالأهواز، ثم قدمت سامراء فحين رأيت أبا محمد العسكري (عليه السلام) أومى بسبابته: أحداً فوحّده، فخررت مغشياً عليَّ(3).
عن هارون بن مسلم، قال: ولد لابني أحمد ابن. فكتبت إلى أبي محمد - العسكري (عليه السلام) - وذلك بالعسكر اليوم الثاني من ولادته أسأله أن يسمّيه ويكنّيه، وكان محبتي أن أسميه جعفراً وأكنيه بأبي عبد اللّه.
ص: 72
فوافاني رسوله في صبيحة اليوم السابع ومعه كتاب: «سمّه جعفراً، وكنّه بأبي عبد اللّه»، ودعا لي(1).
عن علي بن محمد بن زياد أنه خرج إليه توقيع أبي محمد - العسكري (عليه السلام) -: «فتنة تخصك فكن حلساً من أحلاس بيتك»(2).
قال: فنابتني نائبة فزعت منها، فكتبت إليه: أهي هذه؟.
فكتب (عليه السلام) : «لا.. أشد من هذه».
فطلبت بسبب جعفر بن محمد ونودي على من أصابني فله مائة ألف درهم(3).
عن محمد بن علي السمري، قال: دخلت على أبي أحمد عبيد اللّه بن عبد اللّه وبين يديه رقعة أبي محمد العسكري (عليه السلام) فيها: «إني نازلت اللّه في هذا الطاغي - يعني الزبيري - وهو آخذه بعد ثلاث»، فلما كان في اليوم الثالث فُعل به ما فعل(4).
قال أبو هاشم الجعفري: شكوت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) الحاجة، فحكّ بسوطه الأرض فأخرج منها سبيكة فيها نحو الخمسمائة دينار، فقال: «خذها يا
ص: 73
أبا هاشم واعذرنا»(1).
عن محمد بن علي السمري، قال: كتب إليَّ أبو محمد - العسكري (عليه السلام) -: «فتنة تظلكم فكونوا على أهبة».
فلما كان بعد ثلاثة أيام وقع بين بني هاشم - وكانت لهم هنة لها شأن - فكتبت إليه: أهي هذه؟.
قال: «لا ولكن غير هذه فاحترسوا».
فلما كان بعد أيام كان من أمر المعتز ما كان(2).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي محمد - العسكري (عليه السلام) - إذ دخل عليه شاب حسن الوجه، فقلت في نفسي: من هذا؟.
فقال أبو محمد (عليه السلام) : «هذا ابن أم غانم صاحبة الحصاة التي طبع فيها آبائي (عليهم السلام) وقد جاءني أطبع فيها، هات حصاتك».
فأخرج حصاةً فإذا فيها موضع أملس، فطبع فيها بخاتم معه فانطبع.
قال: واسم اليماني مهجع بن سفيان بن علم ابن أم غانم اليمانية(3).
عن جعفر بن محمد القلانسي، قال: كتب محمد أخي إلى أبي محمد -
ص: 73
العسكري (عليه السلام) - وامرأته حامل مقرب: أن يدعو اللّه أن يخلصها ويرزقه ذكراً ويسميه.
فكتب (عليه السلام) يدعو اللّه بالصلاح ويقول: «رزقك اللّه ذكراً سوياً، ونعم الاسم محمد وعبد الرحمن». فولدت اثنين في بطن، أحدهما في رجله زوائد في أصابعه والآخر سوي، فسمى واحداً محمداً، والآخر صاحب الزوائد عبد الرحمن(1).
عن جعفر بن محمد القلانسي، قال: كتبت إلى أبي محمد - العسكري (عليه السلام) - مع محمد بن عبد الجبار - وكان خادماً - يسأله عن مسائل كثيرة ويسأله الدعاء لأخ له خرج إلى أرمنية يجلب غنماً.
فورد الجواب بما سأل، ولم يذكر (عليه السلام) أخاه فيه بشيء.
فورد الخبر بعد ذلك أن أخاه مات يوم كتب أبو محمد (عليه السلام) جواب المسائل، فعلمنا أنه لم يذكر لأنه علم بموته(2).
عن داود بن القاسم الجعفري، قال: سألت أبا محمد - العسكري (عليه السلام) - عن قول اللّه عزوجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}(3)؟.
قال: «كلهم من آل محمد، الظالم لنفسه الذي لا يقر بالإمام».
ص: 74
قال: فدمعت عيني وجعلتُ أفكر في نفسي في عظم ما أعطى اللّه آل محمد (على محمد وآله السلام).
فنظر إليَّ أبو محمد (عليه السلام) فقال: «الأمر أعظم مما حدثتك نفسك من عظيم شأن آل محمد، فاحمد اللّه فقد جُعلت متمسكاً بحبلهم، تدعى يوم القيامة بهم إذا دُعي كل أناس بإمامهم، فأبشر يا أبا هاشم فإنك على خير»(1).
قال علي بن أحمد بن حماد: خرج أبو محمد العسكري (عليه السلام) في يوم مصيف راكباً وعليه تجفاف وممطر، فتكلموا في ذلك، فلما انصرفوا من مقصدهم أمطروا في طريقهم وابتلوا سواه(2).
كان عروة الدهقان كذب على علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) ، وعلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) بعده، ثم إنه أخذ بعض أمواله..
فلعنه أبو محمد العسكري (عليه السلام) ودعا عليه، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتى قُبض إلى النار(3).
قال إدريس بن زياد: كنت أقول فيهم (عليهم السلام) قولاً عظيماً، فخرجت إلى العسكر للقاء أبي محمد العسكري (عليه السلام) فقدمت وعليَّ أثر السفر ووعثائه، فألقيت نفسي
ص: 75
على دكان حمام فذهب بي النوم، فما انتبهت إلاّ بمقرعة أبي محمد (عليه السلام) قد قرعني بها حتى استيقظت فعرفته، فقمت قائماً أقبّل قدميه وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله، فكان أول ما تلقاني به أن قال: «يا إدريس، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(1)».
فقلت: حسبي يا مولاي وإنما جئت أسألك عن هذا. قال: فتركني ومضى(2).
عن علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، قال: كتب محمد بن حجر إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) يشكو عبد العزيز بن دلف ويزيد بن عبد اللّه. فكتب (عليه السلام) إليه: «أما عبد العزيز فقد كفيته، وأما يزيد فإن لك وله مقاماً بين يدي اللّه عزوجل». فمات عبد العزيز وقتل يزيد محمد بن حجر(3).
قال الفضل بن الحرث: كنت بسر من رأى وقت خروج سيدي أبي الحسن (عليه السلام) ، فرأينا أبا محمد العسكري (عليه السلام) ماشياً قد شق ثيابه، فجعلت أتعجب من جلالته وما هو له أهل ومن شدة اللون والأدمة وأشفق عليه من التعب..
فلما كان الليلة رأيته (عليه السلام) في منامي فقال (عليه السلام) : «اللون الذي تعجبت منه اختيار من اللّه لخلقه يجريه كيف يشاء وإنها لعبرة في الأبصار لا يقع فيه غير المختبر، ولسنا كالناس فنتعب كما يتعبون، فاسأل اللّه الثبات وتفكر في خلق اللّه فإن فيه
ص: 76
متسعاً، واعلم أن كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة»(1).
قال أبو هاشم: خطر ببالي أن القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟.
فقال أبو محمد (عليه السلام) : «يا أبا هاشم، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(2) وما سواه مخلوق»(3).
عن شاهويه بن عبد ربه، قال: كان أخي صالح محبوساً. فكتبت إلى سيدي أبي محمد العسكري (عليه السلام) أسأله عن أشياء أجابني عنها، وكتب (عليه السلام) :
«إن أخاك يخرج من الحبس يوم يصلك كتابي هذا، وقد كنتَ أردت أن تسألني عن أمره فأنسيت». فبينا أنا أقرأ كتابه إذا أناس جاءوني يبشرونني بتخلية أخي، فتلقيته وقرأت عليه الكتاب(4).
قال أبو العباس: عطشت عند أبي محمد العسكري (عليه السلام) ولم تطب نفسي أن يفوتني حديثه وصبرت على العطش وهو يتحدث، فقطع (عليه السلام) الكلام وقال: «يا غلام اسق أبا العباس ماءً»(5).
ص: 77
قال محمد بن عياش: تذاكرنا آيات الإمام العسكري (عليه السلام) ..
فقال ناصبي: إن أجاب عن كتاب بلا مداد علمت أنه حق.
فكتبنا مسائل وكتب الرجل بلا مداد على ورق وجعل في الكتب وبعثنا إليه، فأجاب (عليه السلام) عن مسائلنا وكتب على ورقه اسمه واسم أبويه، فدهش الرجل، فلما أفاق اعتقد الحق(1).
ص: 78
10
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) قمة في عبادة اللّه عزوجل والخوف والخشية منه تعالى، فإنهم (عليهم السلام) هم الذين عرفوا اللّه حق معرفته بما هو ممكن للممكن.
روي أنه لما دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمد - العسكري - (عليه السلام) ، فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع.
قال صالح: ما أصنع به، قد وكّلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم!
ثم أمر بإحضار الموكلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟.
فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله!، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا أرعدت فرائصنا، وأدخلنا ما لا نملكه من أنفسنا.
فلما سمع العباسيون ذلك انصرفوا خائبين(1).
قال جمع من العلماء: يستفاد من هذه الرواية ونحوها أن الإمام الحسن
ص: 79
العسكري (عليه السلام) كان أكثر أوقاته في حبس بني العباس، وكان ممنوعاً من معاشرة الناس واللقاء بهم، وكان مشغولاً بعبادة اللّه عزوجل، انتهى.
ثم إن الخشية من اللّه عزوجل في درجاتها العالية، هي من أهم ما يميز حياة المعصومين (عليهم السلام) منذ طفولتهم، عمن سواهم.
روى المؤرخون: أن شخصاً مَرَّ بالإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في طفولته، وكان (عليه السلام) واقفاً مع أترابه من الصبيان يبكي، فظن ذلك الشخص أن هذا الصغير يبكي متحسراً على ما في أيدي أترابه، ولذا فهو لا يشاركهم لعبهم، فقال له: اشتري لك ما تلعب به؟.
فرد عليه الإمام (عليه السلام) : «لا، ما للعب خُلقنا!».
فبهر الرجل فقال له: «لماذا خلقنا؟».
قال (عليه السلام) :«للعلم والعبادة».
قال الرجل: «من أين لك هذا؟».
قال (عليه السلام) : «من قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}(1)».
وبهت الرجل ووقف حائراً، وانطلق يقول له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك!».
قال (عليه السلام) : «إليك عني، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلاتتقد إلاّ بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم...»!(2).
نعم هكذا تكون الخشية من اللّه عزوجل.
ص: 79
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كثير السجود لله عزوجل.. وكان يطيل سجوده خشوعاً وخضوعا، قال محمد الشاكري - وهو يصف الإمام (عليه السلام) -: (... كان (عليه السلام) أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين،... كان يجلس في المحراب ويسجد، فأنام وأنتبه وأنام وهو ساجد...)(1).
عن علي بن محمد، عن جماعة من أصحابنا، قالوا: سُلّم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير وكان يضيق عليه ويؤذيه. فقالت له امرأته: اتق اللّه! فإنك لا تدري من في منزلك - وذكرت له صلاحه وعبادته، وقالت - إني أخاف عليك منه.
فقال: واللّه لأرمينه بين السباع. ثم استأذن في ذلك فأذن له فرمى به (عليه السلام) إليها، ولم يشكّوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلي وهي حوله، فأمر بإخراجه إلى داره(2).
وروي: أن يحيى بن قتيبة الأشعري أتاه بعد ثلاث مع الأستاذ فوجداه يصلي والأسود حوله، فدخل الأستاذ الغيل فمزقوه وأكلوه، وانصرف يحيى في قومه إلى المعتمد، فدخل المعتمد على العسكري (عليه السلام) وتضرع إليه وسأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة. فقال (عليه السلام) : «مدّ اللّه في عمرك». فأجيب وتوفي بعد عشرين سنة(3).
ص: 80
روي: أنه لما حبس المعتمدُ الإمامَ العسكري (عليه السلام) في يدي علي بن جرين وحبس جعفراً أخاه معه، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كل وقت، فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل…(1).
عن أبي هاشم داود بن القاسم، قال: كنت في الحبس المعروف بحبس صالح بن وصيف الأحمر أنا، والحسن بن محمد العقيقي، ومحمد بن إبراهيم العمري، وفلان وفلان إذ ورد علينا أبو محمد الحسن (عليه السلام) وأخوه جعفر، فحففنا له إلى خدمته... وكان الحسن (عليه السلام) يصوم، فإذا أفطر أكلنا معه من طعام كان يحمله غلامه إليه في جونة مختومة وكنت أصوم معه.
فلما كان ذات يوم ضعفت فأفطرت في بيت آخر على كعكة وما شعر بي واللّه أحد، ثم جئت فجلست معه، فقال (عليه السلام) لغلامه: «أطعم أبا هاشم شيئاً فإنه مفطر»(2).
ص: 82
11
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) زاهداً في الدنيا، راغباً عنها، تاركاً لملذاتها، مشتغلاً بالعبادة والتضرع إلى اللّه عزوجل.
قال كامل بن ابراهيم المدني: دخلت على سيدي أبي محمد العسكري (عليه السلام) ونظرت إلى ثياب بياض ناعمة، فقلت في نفسي: ولي اللّه وحجته يلبس الناعم من الثياب! ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان، وينهانا عن لبس مثله!.
فقال (عليه السلام) مبتسماً: «يا كامل - وحسّر عن ذراعيه، فإذا مسح أسود خشن على جلده، فقال - هذا لله، وهذا لكم»(1).
ص: 83
12
ابتلي الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحكّام طغاة غصبوا خلافة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واستبدوا بالحكم ظلماً وجوراً، وضيّقوا على العترة الطاهرة (عليهم السلام) .
وكان هؤلاء الظلمة يفقدون القيم الأخلاقية والإنسانية، ويخالفون الموازين الشرعية، ولا يراعون الحلال والحرام، وعانت الأمة في حكمهم ألواناً رهيبةً من الجور والاستبداد، وحُرموا من معين الإسلام الصافي الذي كان من بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام) .
كما قام هؤلاء الحكام بنهب ثروات الأمة، وإنفاقها بسخاء على شهواتهم ولذائذهم، وأشاعوا الفسق والفجور في أوساط المسلمين.
وهذا ما يؤكده تاريخ ملوك الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن تبعهم إلى يومنا هذا.
وقد عاشر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مجموعة من هؤلاء الطغاة، منهم في حياة أبيه الهادي (عليه السلام) ومنهم بعد تصديه لمهام الإمامة، وقد تجرع منهم أشد أنواع الظلم، كان منهم: المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد.
وإليك بعض جرائهم:
ص: 81
كان المستعين العباسي شديد الحقد على العترة الطاهرة (عليهم السلام) فإنه أحضر الإمام العسكري (عليه السلام) يوماً في بغل كان يمنع ظهره واللجام، وكان قد جمع عليه الرواض فلم تكن لهم حيلة في ركوبه، فقال له بعض ندمائه: يا أمير، ألا تبعث إلى الحسن بن علي ابن الرضا حتى تجيء فإما أن يركبه وإما أن يقتله!!(1).
وفي حديث قال علي بن محمد بن زياد الصيمري: دخلت على أبي أحمد بن عبد اللّه بن طاهر، وفي يديه رقعة أبي محمد العسكري (عليه السلام) فيها: «إني نازلت اللّه في هذا الطاغي - يعني المستعين - وهو آخذه بعد ثلاث».
فلما كان اليوم الثالث خلع وكان من أمره ما كان إلى أن قُتل(2).
أما المتوكل العباسي واسمه جعفر، فهو كان من أشد العباسيين حقداً على أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد هدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) مرات عديدة(3).
روي أنه لم يزل المتوكل يأمر بحرث قبر الحسين (عليه السلام) مدة عشرين سنة والقبر على حاله لم يتغير ولا يعلوه قطرة من الماء(4).
وأمر المتوكل بسجن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) والضغط عليه ضغطاً متزايداً، ولم يكتف بما فرض على الإمام (عليه السلام) من الإقامة الجبرية في منطقة
ص: 84
العسكر المراقبة من قبل عيون الحكومة(1)، وإحاطة داره بقوى مكثفة من المباحث والأمن تحصي عليه أنفاسه،وتمنع العلماء والفقهاء وسائر الشيعة من الاتصال به.
كما شاهد الإمام العسكري (عليه السلام) من قبلُ ما جرى على والده الإمام الهادي (عليه السلام) من صنوف التعذيب والإيذاء والتضييق من ملوك بني العباس.. وخاصة من المتوكل حيث كان يأمر بتفتيش دار الإمام (عليه السلام) بين حين وآخر، وحمل الإمام إليه بالكيفية التي هو فيها..
وهكذا استمرت الظلامة على الإمام العسكري (عليه السلام) بعد المتوكل أيضا.
ومنهم: المعتز العباسي، وكان يسعى دائماً في قتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، فإنه كان في سني إمامته (عليه السلام) بقية أيام المعتز العباسي أشهراً، ثم ملك المهتدي العباسي، ثم المعتمد العباسي.
وفي التاريخ أن المعتز تقدم إلى سعيد الحاجب: أن أخرج أبا محمد العسكري إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق! فجاء توقيع الإمام (عليه السلام) إلينا: «الذي سمعتموه تكفونه» فخلع المعتز بعد ثلاث وقتل(2).
وعلى نفس السيرة العدوانية كان المهتدي العباسي.
قال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري (عليه السلام) في حبس
ص: 86
المهتدي بن الواثق، فقال (عليه السلام) لي: «في هذه الليلة يبتر اللّه عمره». فلما أصبحنا شغب الأتراك وقُتل المهتدي وولي المعتمد مكانه(1).
وكتب محمد بن شمون البصري فسأل أبا محمد العسكري (عليه السلام) عن الحال وقد اشتدت على الموالي من محمد المهتدي، فكتب (عليه السلام) إليه: «عد من يومك خمسة أيام، فإنه يقتل في اليوم السادس من بعد هوان يلاقيه». فكان كما قال(2).
ومنهم: المعتمد العباسي واسمه أحمد، وهو ابن المتوكل، وهو الذي قضى على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالسم.
وكم لاقى الإمام (عليه السلام) في عهده من الظلامات..
هذا وكان الإمام (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) وكجده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمةً للعالمين، حتى لمثل المعتمد العباسي قاتل الإمام.
حيث روي أن المعتمد دخل على الإمام العسكري (عليه السلام) وتضرع إليه وسأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة! فقال (عليه السلام) : «مد اللّه في عمرك» فأجيب وتوفي بعد عشرين سنة(3).
وهذا يكون كالحرز الذي كتبه الإمام الجواد (عليه السلام) للمأمون العباسي(4)، فلا يقال: كيف يدعو الإمام (عليه السلام) لمثل المعتمد.
ص: 86
وربما اجتمع جمع من العباسيين لتعذيب الإمام (عليه السلام) وهو في سجونهم، كما ورد أنه دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمد - العسكري - (عليه السلام) ، فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع(1).
وربما سلّموا الإمام (عليه السلام) لأحد جلاوزتهم ليسجنه ويعذبه، وربما رموا الإمام (عليه السلام) إلى السباع ليأكلنه!
ورد أنه سُلم أبو محمد - العسكري - (عليه السلام) إلى نحرير، وكان يضيّق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق اللّه فإنك لا تدري من في بيتك، وذكرت له صلاحه وعبادته، وقالت: إني أخاف عليك منه.
فقال: واللّه لأرمينه للسباع. ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها ولم يشكوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلي وهي حوله، فأمر بإخراجه إلى داره(2).
ومع كل هذا القمع والاستبداد والظلم بحق الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أخذ نور اللّه يتلألأ في الأرض، وخلد الإمام (عليه السلام) في تاريخ الشرفاء، وبقي علماً للهداية إلى يوم يبعثون. قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(3).
ص: 87
ذكر الصيمري عن المحمودي قال: رأيت خط أبي محمد - العسكري - (عليه السلام) لما خرج من حبس المعتمد: «{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(1)»(2).
ص: 88
13
تكرر حبس الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من قبل طغاة العباسيين، كما سبق بعض الإشارة إلى ذلك، فكل من تصدى منهم للحكم لم يكتف بما كان فيه الإمام (عليه السلام) من الإقامة الجبرية في سامراء وكثرة العيون عليه، بل كان يحبس الإمام (عليه السلام) بين حين وآخر، للتضييق الأكثر عليه.
وربما حبسوا مع الإمام (عليه السلام) بعض أخوته وذويه.
وربما حبسوا الإمام (عليه السلام) مع بعض شيعته وأصحابه.
وكانوا يجعلون في السجن بعض جواسيسهم ليكتب عنهم.
فهذا المعتمد العباسي حبس الإمام العسكري (عليه السلام) وأخاه جعفراً معه في يدي علي بن جرين وهو من جلاوزة الحكومة.
وكان المعتمد يسأل علياً عن أخبار الإمام في كل وقت، فيخبره أنه (عليه السلام) يصوم النهار ويصلي الليل، فسأله يوماً من الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك، وكانت الظروف السياسية لا تتحمل المزيد من الضغط على الإمام (عليه السلام) فقال له: امض الساعة إليه وأقرئه مني السلام وقل له: انصرف إلى منزلك مصاحباً.
قال علي بن جرين: فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً، فدخلت
ص: 89
على الإمام (عليه السلام) فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشته كأنه كان يعلم بخروجه، فلما رآني نهض فأديت إليه الرسالة، فركب فلما استوى على الحمار وقف. فقلت له: ما وقوفك يا سيدي؟.
فقال لي: «حتى يجيء جعفر أخي».
فقلت: إنما أمرني بإطلاقك دونه!.
فقال لي: ترجع إليه فتقول له: خرجنا من دار واحدة جميعاً، فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك».
فمضى وعاد فقال له: يقول لك: قد أطلقت جعفراً لك(1).
أقول: الظاهر أن ما نُسب إلى جعفر ابن الإمام الهادي (عليه السلام) من بعض الأمور التي لا تليق بذوي أهل البيت (عليهم السلام) كلها من أكاذيب بني العباس (عليه السلام) ومن شاكلهم ومن يدور في فلكهم، وقد اشتبه الأمر على بعض أصحابنا.
وإلاّ فقد كان جعفر من الصادقين المؤمنين بولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، وكان يعلم بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ، وقد تحمل الصعاب الكثيرة في توجيه أنظار الحكومة عن الإمام المهدي (عليه السلام) إليه ليدرأ الأخطار عن ابن أخيه المهدي الموعود (عليه السلام) ، ولكي تتصور الحكومة بأنه سيتصدى للإمامة بعد أخيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
وكان كل ذلك بأمر من أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) وأخيه الإمام العسكري (عليه السلام) .
ولذلك عندما كان يتردد بعض الشيعة على جعفر (عليه السلام) لم ينف كونه الخلف
ص: 90
للإمام العسكري (عليه السلام) في بدو الأمر، رعايةً للخلف (عليه السلام) وحفظاً له، بل كان يجيبهم بأجوبة غير دقيقة بحيث يعرفون أنه ليس بإمام حتى يبحثوا عن إمام زمانهم.
وفي قصة الصلاة على جنازة الإمام العسكري (عليه السلام) لما خرج الصبي المبارك قائلاً: «تنح يا عم، فأنا أولى بالصلاة على أبي منك»، تنحى جعفر فوراً واقتدى بابن أخيه ولم ينكر ذلك، بل كان فعله هذا أكبر إقرار على ولادة المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وإقرار عملي بأنه (عليه السلام) الإمام والحجة من بعد الحسن العسكري (عليه السلام) .
وإلا فكان بإمكانه أن يقول: من أنت؟ وأنا لا اعترف بك، ومن الذي يقول أنت ابن أخي؟ وهكذا.. فينكر أصل ولادة الإمام ويثير العديد من الشبهات في أذهان الشيعة، ولكنه عمل عكس ذلك تماماً، بحيث تيقنت الشيعة بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) ، وأنه بلغ من العمر ست سنين وهو الذي صلى على جنازة أبيه، لتستعد الشيعة للغيبة الصغرى ومن بعده الكبرى، كما علمت الطغاة بأن المهدي الموعود قد وُلد، وأنه لا يمكن إطفاء نور اللّه عزوجل.
إذن ربما كان يتظاهر جعفر (عليه السلام) ببعض الأمور، كتردده على الحكام، وعدم نفي كونه الخلف وما أشبه، لكي يبقى الإمام المهدي (عليه السلام) محفوظاً عن أنظار الحكومة وجواسيسها، وفي اللحظة الحاسمة حيث بدأت الغيبة، اعترف عملياً بوجود الإمام (عليه السلام) ولم ينكره.
ومن هنا لا يصح أن يسمى جعفر بالكذاب أو الكاذب، وما روي في هذا الصدد فهو من غير طريقنا، أو ضعيف، أو مؤول، أو كانت لظروف التقية، أو دس في الأحاديث، أو لا سند لها، أو ما أشبه؛ فإن جعفراً (عليه السلام) كان مؤمناً مطيعاً لأئمته الطاهرين من أبيه وأخيه وابن أخيه (عليهم أفضل الصلاة وأزكى
ص: 91
السلام).
وقد أشرنا إلى هذا البحث في بعض كتبنا الفقهية وغيرها(1).
قال أحمد بن عبيد اللّه بن خاقان - وكان من أشد النواصب عداوةً لأهل البيت (عليهم السلام) ، وكان من ولاة بني العباس -: لما دُفن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) جاء جعفر أخوه إلى أبي وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي وأسمعه ما كره، وقال له: إن السلطان أعزه اللّه! جرد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمةً ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك؛ فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى سلطان يرتبك مراتبهما ولا غير سلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها، واستقله أبي عند ذلك واستضعفه، وأمر أن يحجب عنه فلم يؤذن له بالدخول عليه حتى مات أبي وخرجنا وهو على تلك الحال(2).
فهذه مقولة ناصبي، لا اعتبار بها، وعلى تقدير صحتها، أراد جعفر (عليه السلام) التمويه عليهم.
وهكذا ما قيل من أنه - والعياذ باللّه - رؤي فيه آثار السكر، فإنه من أكاذيب بني العباس ودسهم في بعض الروايات.
أما ما روي من منازعته في ميراث العسكري (عليه السلام) ودفن الجدة (عليها السلام) (3)، فعلى
ص: 92
تقدير تمامية السند والدلالة، أراد منها إثبات وجود الإمام الغائب (عليه السلام) بتظاهره بالمنازعة؛ لأن الإمام (عليه السلام) حضره وردعه فارتدع، وهو إقرار عملي بوجود المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) كما لا يخفى.
ص: 93
14
كان من سياسة طغاة بني أمية وبني العباس ومن قبلهم ممن غصب الخلافة، ملاحقة شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) في كل مكان وزمان، وبكل قساوة وجرأة، فسجنوهم وعذبوهم وقتلوهم ومثّلوا بهم وأحرقوا أجسادهم، وربما دفنوهم أحياءً وخاصة في عهد العباسيين، فكم بنوا من قصور على أجسادهم الطاهرة، وكم جعلوهم أحياءً في الاسطوانات وبنوا عليهم(1).
يقول أحمد بن عبيد اللّه بن خاقان نقلاً عن أبيه: وهما من ولاة بني العباس ومن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) :إن السلطان أعزه اللّه! جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن الإمام الهادي والعسكري أئمةً ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه(2).
وقال أبو هاشم الجعفري - وهو من أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) -: شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) ضيق الحبس وكلب القيد، فكتب إليَّ: «تصلي اليوم الظهر في منزلك». فأخرجت وقت الظهر وصليت في منزلي(3).
ص: 94
ومما يبين لنا بعض تلك الظروف القاسية، ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حيث يأمر بعض شيعته بأن لا يُعرّف نفسه ولا يكشف عن معتقده، بل يسكت حتى على شتم الإمام (عليه السلام) لكي لا يُعتقل.
روي أنه أرسل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى داود بن الأسود: «إذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرّفه من أنت»(1).
إن الحكومة العباسية أخذت باعتقال شيعة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وسجنهم، وخاصة الطالبيين وذراري رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وربما سجنوا بعض الشيعة والسادة مع إمامهم العسكري (عليه السلام) في زنزانة واحدة.
روي أن أبا هاشم الجعفري حُبس مع أبي محمد العسكري (عليه السلام) وكان المعتز العباسي - وقيل المعتمد، وربما تكررت القضية في عهد كل منهما - حبسهما مع عدة من الطالبيين في سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل: قبل ذلك أيضاً؛ فإن الاعتقالات كانت تكرر.
وفي رواية عن داود بن القاسم، قال: كنت في الحبس المعروف بحبس خشيش في الجوسق الأحمر أنا والحسن بن محمد العقيقي ومحمد بن إبراهيم العَمري وفلان وفلان... إذ دخل علينا أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) وأخوه جعفر فحففنا به، وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف، وكان معنا في الحبس رجل جمحي يقول: إنه علوي.
قال: فالتفت أبو محمد العسكري (عليه السلام) فقال: لولا أن فيكم من ليس منكم
ص: 95
لأعلمتكم متى يفرج عنكم، وأومأ إلى الجمحي أن يخرج، فخرج.
فقال أبو محمد: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، فإن في ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه.
فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد فيها القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة(1).
ص: 96
15
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) - مدافعاً عن القرآن الكريم، حافظاً لكتاب اللّه عن التحريف والتغيير، ناشراً لأحكامه ومعانيه وتفسيره.
روي: أن إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، فأخذ في تأليف كتاب سماه ب- (تناقض القرآن)، وربما كان ذلك بإيعاز من الحكومة آنذاك؛ لأنهم أرادوا القضاء على الكتاب والعترة معاً، فشغل الكندي نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وأن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فقال له أبو محمد (عليه السلام) : «أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟».
فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟. فقال له أبو محمد (عليه السلام) : «أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟».
قال: نعم. قال (عليه السلام) : «فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها.
ص: 97
فإنه سيقول لك إنه من الجائز؛ لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه».
فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة.
فقال له: أعد عليَّ. فأعاد عليه. فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت إليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟.
فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.
فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من أين لك هذا؟.
فقال: أمرني به أبو محمد العسكري (عليه السلام) .
فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت.
ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألفه(1).
ولا يخفى أن الإمام (عليه السلام) قد طرح عليه مسألة علمية هي من أسس المسائل المنطقية؛ لأن التضاد والتناقض لا يكون إلا بشروط مذكورة في المنطق، فإذا كان الكلامان صريحين في المرادين المتضادين أو المتناقضين كان مورداً للتناقض والتضاد مع رعاية سائر الشروط، أما إذا لم يكن كلاهما أو أحدهما صريحاً في المراد، فالعقلاء يحتملون إرادة خلاف الظاهر، ويحملون غير الصريح على الصريح، أو يحملون الظاهر على الأظهر، أو ما ليس فيه ظهور على الظاهر، أو غير ذلك مما هو مذكور في محله.
ص: 98
وإذا كانا ظاهرين فيلتمسون القرائن الخارجية والداخلية للجمع بينهما، فإن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، على ما هو مبين في بحث التعادل والتراجيح من الأصول.
ويبدو أن الكندي هذا كان يتمتع ببعض الإنصاف، فلما عرف بخطئه تدارك الأمر وأحرق ما كتبه من الأباطيل، وذلك ببركة كلام الإمام (عليه السلام) حيث نسف بهذه الحجة الدامغة شبهة الكندي، وسدّ فيها كل ثغرة يسلك منها لإثبات التناقض في كتاب اللّه العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}(1) فإن ذلك إنما كان حسب ما زعمه الكندي من المعنى، ويجوز أن يكون له معنى آخر لم يفهمه، ولم يتوصل إلى معرفته يرتفع به التناقض ولا يبقى حينئذ أي مجال للإشكال.
المروي عن العسكري (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) - في حديث - أنه (عليه السلام) قال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات تمامها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(2).
وهذا الحديث إثبات لكون البسملة آية، وقد منع الإمام (عليه السلام) بذلك ما كان يحاوله البعض من حذف البسملة من القرآن، وربما أرادوا تحريف القرآن بدءً بحذف البسملة.
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أقرب إلى اسم اللّه
ص: 99
الأعظم من سواد العين إلى بياضها»(1).
وقيل لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) : أخبرنا عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أهي من فاتحة الكتاب؟. قال: «نعم، كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤها ويعُدها آية منها ويقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني»(2).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كتموا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فنعم واللّه الأسماء كتموها»(3).
ص: 99
16
كثرت الشبهات العقائدية في عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
وذلك لأن طغاة بني العباس ضيقوا على معادن العلم وأهل بيت الوحي، ومنعوا الناس من الاستفادة من علوم آل محمد (عليهم السلام) .
وفي المقابل قام بعض المشعوذين من غير المسلمين بتضليل المسلمين وإفساد عقيدتهم..
ومع كل ذلك فقد تصدى الإمام أبو محمد العسكري (عليه السلام) للذب عن الإسلام والدفاع عنه بكل ما يمكنه، فأبطل أوهامهم، وزيف شبههم.
كما قام بعض الدجالين بالكذب على الإمام (عليه السلام) وعلى أبيه (عليه السلام) من قبله، وذلك لإفساد عقيدة أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، والظاهر أن ذلك كان بأمر من الحكومة العباسية، فانبرى الإمام (عليه السلام) إلى لعنه، وأمر شيعته بلعنه والبراءة منه.
وكان من أشهر الوضاعين والكذابين عليه:
عروة بين يحيى الدهقان البغدادي، فقد كان يكذب على أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) وعلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) من بعده، وكان يختلس الأموال التي ترد للإمام (عليه السلام) من شيعته ويكذب عليه، وقد لعنه الإمام (عليه السلام) وأمر الشيعة
ص: 100
بلعنه والبراءة منه، لئلا يفسد عقيدتهم(1).
وأخذ البعض بالانحراف عن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بإغراء من الحكومة وما أشبه كبني فضال، فلما سُئل الإمام العسكري (عليه السلام) عن كتب بني فضال، قال (عليه السلام) : «خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا»(2).
ص: 101
17
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) سداً منيعا أمام مخططات أعداء الإسلام، والشبهات التي كان يلقيها الكفار والمشركون والزنادقة.
فقد كشف (عليه السلام) النقاب عن شعوذة راهب أراد أن يضلل المسلمين، ويشكّكهم في دينهم، وبيان ذلك حسبما ورد في التاريخ وكتب الحديث:
إن الناس في سامراء أصابهم قحط شديد، فأمر المعتمد العباسي - وقيل المتوكل(1) - بالخروج إلى الاستسقاء ثلاثة أيام فخرجوا ولم يغاثوا بالمطر، وخرج النصارى ومعهم راهب كلما مد يده إلى السماء هطلت، وفعل ذلك مكرراً.
فشك بعض الجهلة في دينهم، وارتد البعض الآخر، وشق ذلك على المعتمد، ففزع إلى الإمام العسكري (عليه السلام) وكان الإمام في سجنه! وقال له: أدرك أمة جدك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يهلكوا.
فقال له الإمام (عليه السلام) : «يخرجون غداً، وأنا أزيل الشك إن شاء اللّه».
وأخرجه المعتمد من السجن، وطلب الإمام (عليه السلام) أن يُطلق سراح أصحابه وشيعته من السجن، فاستجاب له وأخرجهم.
ص: 102
وفي اليوم الثاني خرج الناس للاستسقاء، فرفع الراهب يده إلى السماء فغيمت ومطرت، فأمر الإمام (عليه السلام) بإلقاء القبض على يده وأخذ ما فيها، وإذا فيها عظم آدمي فأخذه منه وأمره بالاستسقاء، فرفع يده إلى السماء، فزال ما فيها من غيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك، وبادر المعتمد قائلاً: ما هذا يا أبا محمد؟.
قال الإمام (عليه السلام) : «هذا عظم نبي ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كشف عظم نبي تحت السماء إلاّ هطلت بالمطر...».
فزالت الشبهة، وانتفى الشك(1).
وفي رواية: ثم صلى الإمام (عليه السلام) صلاة الاستسقاء بالناس فمطرت السماء كثيراً وارتفع القحط والغلاء.
ص: 103
18
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يؤكد كثيراً على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وضرورة التمسك بالعترة الطاهرة التي جعلها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عِدلاً للقرآن، كما في حديث الثقلين المتواتر والمروي عند الفريقين(1).
قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوة والولاية، ونورنا السبع الطرائق بأعلام الفتوة، فنحن ليوث الوغى، وغيوث الندى، وفينا السيف والقلم في العاجل، ولواء الحمد والعلم في الآجل، وأسباطنا خلفاء الدين، وحلفاء اليقين، ومصابيح الأمم، ومفاتيح الكرم، والكليم لبس حلة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء، وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة، وشيعتنا الفئة الناجية، والفرقة الزاكية، صاروا لنا رداءً وصوناً، وعلى الظلمة إلباً.. وسينفجر لهم ينابيع الحيوان، بعد لظى النيران، لتمام الرواية، والغواشي من السنين...»(2).
ص: 104
قال أبو هاشم: كنت عند أبي محمد - العسكري (عليه السلام) - فسأله محمد بن صالح الأرمني عن قول اللّه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}(1)؟.
قال أبو محمد (عليه السلام) : «ثبتت المعرفة ونسوا ذلك الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه، ولا من رازقه».
قال أبو هاشم: فجعلت أتعجب في نفسي من عظيم ما أعطى اللّه وليه وجزيل ما حمله.
فأقبل أبو محمد (عليه السلام) عليَّ فقال: «الأمر أعجب مما عجبت منه يا أبا هاشم وأعظم، ما ظنك بقوم من عرفهم عرف اللّه، ومن أنكرهم أنكر اللّه، فلا مؤمن إلاّ وهو بهم مصدق، وبمعرفتهم موقن»(2).
روى محمد بن الريان، عن العسكري (عليه السلام) ، قال: جعلت فداك روي لنا: أن ليس لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الدنيا إلا الخمس؟. فجاء الجواب: «إن الدنيا وما عليها لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(3).
قال محمد بن الأقرع: كتبت إلى أبي محمد - العسكري - (عليه السلام) أسأله عن
ص: 104
الإمام (عليه السلام) هل يحتلم؟.
وقلت في نفسي بعدما فصل الكتاب: الاحتلام شيطنة وقد أعاذ اللّه أولياءه من ذلك.
فرد (عليه السلام) الجواب: «الأئمة حالهم في المنام حالهم في اليقظة لا يغير النوم منهم شيئاً، قد أعاذ اللّه أولياءه من لمة الشيطان كما حدثتك نفسك»(1).
عن أبي الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) : «من زار جعفراً(2) وأباه (عليهما السلام) لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى»(3).
عن سفيان بن محمد الصيفي، قال: كتبت إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أسأله عن الوليجة وهو قول اللّه عزوجل: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}(4)؟.
قلت في نفسي: لا في الكتاب من يرى المؤمن ها هنا؟.
فرجع الجواب: «الوليجة التي تقام دون ولي الأمر، وحدثتك نفسك عن المؤمنين من هم في هذا الموضع، فهم الأئمة الذين يؤمنون على اللّه، فنحن إياهم»(5).
ص: 105
عن محمد بن الحسن، قال: كتبت إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أشكو الفقر، ثم قلت في نفسي: أليس قد قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا، والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا؟.
فرجع الجواب:
«إن اللّه عزوجل يخص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد يعفو عن كثير منهم، وهو كما حدثتك نفسك: الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا، ونحن كهف من التجأ إلينا، ونور لمن استضاء بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبنا كان معنا في السنام الأعلى، ومن انحرف عنا مال إلى النار»(1).
ص: 107
19
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يسعى في هداية الناس إلى نور أهل البيت (عليهم السلام) وولايتهم. ولم ينقطع هذا السعي حتى في السجن، حيث قام بهداية سجّانه وكان من أشد النواصب.
عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: حُبس أبو محمد العسكري (عليه السلام) عند علي بن أوتامش وكان شديد العداوة لآل محمد (عليهم السلام) غليظاً على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل.
فما أقام إلاّ يوماً حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه(1).
وقد مر سابقا حديث محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر، قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف، ودخل صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عند ما حبس أبو محمد (عليه السلام) . فقال له: ضيق عليه ولا توسع. فقال لهم صالح: ما أصنع به وقد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، ثم أمر
ص: 108
بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟. فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا. فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين(1).
ص: 109
20
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) يؤكد على الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية, وإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) وإقامة العزاء عليهم وحتى شق الجيب في مصابهم؛ فإنه يجوز ذلك في مصاب المعصوم (عليه السلام) .
روى الشيخ الكليني (رحمه اللّه) في (الكافي الشريف)، بسنده عن جماعة من بني هاشم - منهم الحسن بن الحسن بن الحسن الأفطس -:
(أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد باب أبي الحسن (عليه السلام) يعزونه - إلى أن قال - إذ نظر إلى الحسن بن علي (عليه السلام) قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه)(1)،
الحديث.
وقال الصدوق (رحمه اللّه) : (لما قُبض علي بن محمد العسكري (عليه السلام) رؤي الحسن بن علي (عليه السلام) قد خرج من الدار وقد شق قميصه من خلف ومن قدام)(2).
وهذا يدل على جواز شق الجيب في عزاء أهل البيت (عليهم السلام) وذويهم.
وروى الأربلي في (كشف الغمة) من كتاب (الدلائل) لعبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أبي هاشم الجعفري، قال:
ص: 110
(خرج أبو محمد - العسكري (عليه السلام) - في جنازة أبي الحسن (عليه السلام) وقميصه مشقوق. فكتب إليه ابن عون: من رأيت أو بلغك من الأئمة (عليهم السلام) شق قميصه في مثل هذا؟. فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام) : «وما يدريك ما هذا؟ قد شق موسى بن عمران على هارون (عليهم السلام) »(1).
وعن محمد بن يحيى قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) بعد مضي أبي جعفر فعزيته عنه وأبو محمد (عليه السلام) جالس، فبكى أبو محمد (عليه السلام) .. فأقبل عليه أبو الحسن (عليه السلام) فقال له: «إن اللّه تبارك وتعالى قد جعل فيك خلفا منه فاحمد اللّه»(2).
ص: 111
21
شيئاً فشيئاً كانت الشيعة تتمهد لغيبة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) ، وذلك لأن الإمام الهادي (عليه السلام) ، ومن بعده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كانا يعيشان في منطقة العسكر وتحت رقابة مشددة من الحكومة، فلم تتمكن الشيعة من رؤيتهم واللقاء بهم إلاّ قليلاً. وربما كان الإمام (عليه السلام) وللظروف الصعبة آنذاك يخفي نفسه عن البعض، أو لا يُسمح له بلقاء الناس.
نقل المسعودي: أن الإمام علي الهادي (عليه السلام) كان يختفي عن كثير من شيعته إلاّ بعض الخواص، وكان الإمام العسكري (عليه السلام) أحياناً يكلم بعض مواليه من خلف ستار وما أشبه.
وربما كان هذا تمهيداً لغيبة الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
فإن اللّه أراد أن يحفظ خاتم الأوصياء والحجج بغيبته؛ لأن طواغيت العباسيين صمموا على القضاء على أهل بيت النبوة (عليهم السلام) ليقضوا على الإسلام، فحبسوا الأئمة (عليهم السلام) وذويهم وقتلوهم بالسيف والسم، وجعلوا العيون في بيت الإمام العسكري (عليه السلام) وعلى نسائه، حتى لا يولد الإمام المهدي (عليه السلام) .
وفي الحديث عندما ولد المهدي (عليه السلام) قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل كيف رأوا قدرة القادر، وسماه
ص: 112
المؤمّل»(1).
حيث يستفاد منه أن الطغاة قتلوا الإمام (عليه السلام) حتى لا يولد المهدي (عليه السلام) .. ولكن وُلد الإمام (عليه السلام) ...
ولما علموا بالمولد الشريف أرسلوا جيشاً لاعتقال الإمام (عليه السلام) وقتله، فغيّبه اللّه عن الأنظار إلى يوم يأذن اللّه له بالفرج، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
وكان الإمام العسكري (عليه السلام) وقبله الإمام الهادي (عليه السلام) يمهدون للشيعة مسألة غيبة الإمام الحجة المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
وإليكم بعض ما يدل عليه من الروايات:
عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف». فقلت: ولِمَ جعلني اللّه فداك؟. فقالك «لأنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه». قلت: وكيف نذكره؟. قال: «قولوا: الحجة من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(2).
وعن علي بن محمد بن زياد، قال: كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) أسأله عن الفرج؟. فكتب إليَّ: «إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقعوا الفرج»(3).
ص: 113
وعن إسحاق بن أيوب، قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد (عليه السلام) يقول: «صاحب هذا الأمر من يقول الناس لم يولد بعد»(1).
وعن علي بن عبد الغفار، قال: لما مات أبو جعفر الثاني (عليه السلام) كتبت الشيعة إلى أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يسألونه عن الأمر. فكتب (عليه السلام) : «الأمر لي ما دمت حياً، فإذا نزلت بي مقادير اللّه تبارك وتعالى أتاكم الخلف مني، فأنى لكم بالخلف من بعد الخلف»(2).
وعن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) يقول: «كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف مني، ألا إن المقر بالأئمة (عليهم السلام) بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنكر لولدي كمن أقر بجميع الأنبياء ورسله ثم أنكر نبوة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا، أما إن لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمه اللّه»(3).
وعن محمد بن عثمان العمري، قال: سمعت أبي يقول: سُئل أبو محمد الحسن بن علي وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام) : أن الأرض لاتخلو من حجة اللّه على جميع خلقه إلى يوم القيامة، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. فقال: «إن هذا حق كما أن النهار حق». فقيل له: يا ابن رسول اللّه، فمن الحجة والإمام بعدك؟. فقال: «ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي، فمن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إن له غيبة يحار فيها
ص: 114
الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(1).
وعن أحمد بن إسحاق، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) يقول: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه اللّه تبارك وتعالى في غيبته ثم يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»(2).
وعن جماعة من الشيعة منهم: علي بن بلال، وأحمد بن هلال، ومحمد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيوب بن نوح - في خبر طويل مشهور - قالوا جميعاً:
اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) نسأله عن الحجة من بعده، وفي مجلسه أربعون رجلاً. فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري فقال له: يا ابن رسول اللّه، أريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به مني.
فقال له: «اجلس يا عثمان».
فقام مغضباً ليخرج.
فقال: «لا يخرجن أحد».
فلم يخرج منا أحد إلى أن كان بعد ساعة فصاح (عليه السلام) بعثمان فقام على قدميه، فقال: «أخبركم بما جئتم؟».
قالوا: نعم يا ابن رسول اللّه.
قال: «جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي».
ص: 114
قالوا: نعم..
فإذا غلام كأنه قطع قمر أشبه الناس بأبي محمد (عليه السلام) ، فقال: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره، واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه»(1).
وروى محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد اللّه الحسينان، قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن (عليه السلام) بسر من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي، بالباب قوم شعث غبر. فقال لهم: «هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن - في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر - فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العمري». فما لبثنا إلا يسيراً حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا أبو محمد (عليه السلام) : «امض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال اللّه، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال».
ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا، واللّه إن عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وإنه وكيلك وثقتك على مال اللّه؟.
قال (عليه السلام) : «نعم، واشهدوا عليَّ أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي، وأن ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم»(2).
ص: 116
22
تزوّج الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالسيدة نرجس (عليها السلام) بنت ملك الروم، وهي من أحفاد شمعون الصفا وصي النبي عيسى (عليه السلام) ، فولدت له الإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
وكان بشر بن سليمان النخاس من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي الإمام الهادي أبي الحسن والإمام العسكري أبي محمد (عليهما السلام) ، فدعاه أبو الحسن (عليه السلام) وكان يحدث ابنه أبا محمد (عليه السلام) فقال: «يا بشر، إنك من ولد الأنصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت». وكتب (عليه السلام) كتاباً لطيفاً بخط رومي ولغة رومية وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً وأنفذه إلى بغداد وقال له: «احضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا ويأتي البيع فعند ذلك تعطيها الكتاب».
قال: ففعلت كذا، فلما نظرت إلى الكتاب بكت بكاءً شديداً وقالت للنخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر واستوفى مني الدنانير وتسلمت منه الجارية مستبشرةً، فكانت تلثم الكتاب وتضعه على خدها.
فقلت: تعرفين صاحبه؟.
ص: 117
قالت: أعرني سمعك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون، إن قيصراً أراد أن يزوجني من ابن أخيه، فجمع من نسل الحواريين ثلاثمائة رجل، ومن الملوك والقواد أربعة آلاف، ونصب عرشاً مصوغاً من أصناف الجواهر فوق أربعين مرقاةً، فلما استقام أمرهم للخطبة تسافلت الصلبان من الأعالي على وجوهها وانهارت الأعمدة، وخر الصاعد من العرش مغشياً عليه. فتغيرت ألوان الأساقفة وقالوا: أيها الملك، اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
فتطير جدي من ذلك وأمر أن يزوّج أخاه، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول.
فقام جدي وتفرق الناس، فرأيت من تلك الليلة المسيح (عليه السلام) وشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي، ونصبوا فيه منبراً من نور يباري السماء علواً وارتفاعاً، فدخل عليهم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع فئة فتقدم إليه المسيح (عليه السلام) فاعتنقه، وخطب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وزوجني من ابنه وشهد بنو محمد والحواريون، فلما استيقظت كنت أشفق على نفسي مخافة القتل حتى مرضت وضعفت نفسي وعجزت الأطباء عن دوائي.
فقال قيصر: يا بنية، هل تخطر ببالك شهوة؟.
فقلت: لو كشفت عمن في سجنك من أسارى المسلمين رجوت أن يهب المسيح وأمه (عليهما السلام) لي عافية.
فلما فعل ذلك تجلدت في إظهار الصحة من بدني وتناولت يسيراً من الطعام، فأقبل على إكرام الأسارى. فأريت أيضاً كأن فاطمة (عليها السلام) زارتني ومعها مريم (عليها السلام)
ص: 117
وألف وصيفة من وصائف الجنان، فيقال لي: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد العسكري (عليه السلام) .. فأتعلق بها وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي، فتقول: «إن ابني لا يزوركِ وأنتِ مشركة باللّه على مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى اللّه من دينكِ، فقولي: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه».
فلما تكلمت بها ضمتني إلى صدرها وطيبت نفسي، وكانت بعد ذلك كل ليلة يزورني أبو محمد (عليه السلام) ، إذ أخبرني أن جدك سيسري جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا فعليك باللحاق به متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا ففعلت، فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما شاهدت.
قال بشر: فلما دخلت على أبي الحسن الهادي (عليه السلام) قال لها: «كيف أراكِ اللّه عز الإسلام وذل النصرانية، وشرف أهل بيت نبيه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟».
قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول اللّه ما أنت أعلم به مني؟.
قال: «فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. يا كافور، ادع لي أختي حكيمة». فلما دخلت عليه قال لها: «ها هيه». فاعتنقتها طويلاً، قال (عليه السلام) : «خذيها إلى منزلكِ وعلّميها الفرائض والسنن؛ فإنها زوجة أبي محمد العسكري (عليه السلام) »(1).
ص: 119
23
للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ولد واحد فقط، وهو الإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالى فرجه وسهل مخرجه) المسمى باسم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمكنى بكنيته، ليس له ولد غيره.
وقد أخبر الإمام العسكري (عليه السلام) عمته حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) لكي تحضر الولادة الطاهرة.
عن موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر، قال: حدثتني حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قالت:
بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي - العسكري - (عليه السلام) ، فقال: «يا عمة، اجعلي إفطاركِ الليلة عندنا؛ فإنها ليلة النصف من شعبان، فإن اللّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجته في أرضه».
قالت: فقلت له: ومن أمه؟.
قال لي: «نرجس».
قلت له: واللّه جعلني اللّه فداك ما بها أثر!
فقال: «هو ما أقول لكِ».
قالت: فجئت، فلما سلّمت وجلست، جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي، كيف أمسيتِ؟.
ص: 118
فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
قالت: فأنكرَت قولي، وقالت: ما هذا يا عمة؟.
قالت: فقلت لها: يا بنية، إن اللّه تبارك وتعالى سيهب لكِ في ليلتكِ هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة.
قالت: فجلست واستحيت..
فلما أن فرغتُ من صلاة العشاء الآخرة وأفطرت وأخذت مضجعي فرقدت، فلما أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث، ثم جلست معقبة ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة وهي راقدة، ثم قامت فصلت.
قالت حكيمة: فدخلتني الشكوك!
فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) من المجلس فقال: «لا تعجلي يا عمة فإن الأمر قد قرب».
قالت: فقرأت (الم السجدة) و(يس)، فبينما أنا كذلك إذا انتبهَتْ فزعة، فوثبت إليها فقلت: اسم اللّه عليك، ثم قلت لها: تحسين شيئاً؟.
قالت: نعم يا عمة.
فقلت لها: اجمعي نفسكِ واجمعي قلبكِ فهو ما قلت لكِ.
قالت حكيمة: ثم أخذتني فترة وأخذتها فطرة، فانتبهت بحس سيدي (عليه السلام) فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به (عليه السلام) ساجداً يتلقى الأرض بمساجده، فضممته إليَّ فإذا أنا به نظيف منظف، فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) : «هلمي إليَّ ابني يا عمة».
فجئت به إليه، فوضع (عليه السلام) يديه تحت أليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره، ثم أدلى لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثم قال: «تكلّم يا بني».
فقال: «أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول
ص: 120
اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »، ثم صلّى على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وعلى الأئمة (عليهم السلام) إلى أن وقف على أبيه (عليه السلام) ، ثم أحجم.
قال أبو محمد (عليه السلام) : «يا عمة، اذهبي به إلى أمّه ليسلّم عليها وائتني به»، فذهبت به فسلّم عليها ورددته ووضعته في المجلس.
ثم قال (عليه السلام) : «يا عمة، إذا كان يوم السابع فأتينا».
قالت حكيمة: فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد (عليه السلام) فكشفت الستر لأفتقد سيدي (عليه السلام) فلم أره. فقلت له: جعلت فداك، ما فعل سيدي؟.
فقال: «يا عمة، استودعناه الذي استودعته أم موسى (عليه السلام) ».
قالت حكيمة: فلما كان في اليوم السابع جئت وسلمت وجلست. فقال: «هلمي إليَّ ابني»، فجئت بسيدي في الخرقة ففعل به كفعلته الأولى، ثم أدلى لسانه في فيه كأنه يغذيه لبناً أو عسلاً، ثم قال: «تكلّم يا بني».
فقال (عليه السلام) : «أشهد أن لا إله إلا اللّه - وثنّى بالصلاة على محمد وعلى أمير المؤمنين والأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) حتى وقف على أبيه (عليه السلام) ، ثم تلا هذه الآية -: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(1)»(2).
عن أبي جعفر العَمْري، قال: لما وُلد السيد - أي الإمام المهدي (عليه السلام) - قال أبو
ص: 121
محمد (عليه السلام) : «ابعثوا إلى أبي عمرو». فبعث إليه فسارَّ إليه فقال له: «اشتر عشرة آلاف رطل خبز، وعشرة آلاف رطل لحم، وفرقه حسبة على بني هاشم، وعقّ عنه كذا وكذا»(1).
ثم إن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أخبر خواص الشيعة بولادة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) وعيّنه خليفة من بعده وإماماً على الناس وذكر لهم غيبته.
قال أبو محمد العسكري (عليه السلام) : «ابني الخلف من بعدي عنده ما تحتاجون إليه، ومعه آلة الإمامة والحمد لله»(2).
وعن أحمد بن إسحاق بن مصقلة، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) . فقال لي: «يا أحمد، ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتياب؟». قلت: لما ورد الكتاب بخبر مولد سيدنا (عليه السلام) - في قم - لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلاّ قال بالحق. قال (عليه السلام) : «أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة اللّه تعالى»(3).
وقال أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : «أما إن لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه اللّه»(4).
وعند ما سُئل أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام) : أن الأرض لا تخلو من حجة اللّه على جميع خلقه إلى يوم القيامة،
ص: 122
وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية؟...
قال (عليه السلام) : «ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي، فمن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية»(1).
وعن أحمد بن إسحاق، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) يقول: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه اللّه تبارك وتعالى في غيبته، ثم يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»(2).
وعن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي العسكري وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده. فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إن اللّه تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة اللّه على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض». قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فمن الخليفة والإمام بعدك؟. فنهض مسرعاً فدخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين. وقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على اللّه وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنه سمي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأمة مثل الخضر ومثله مثل ذي القرنين، واللّه ليغيبن غيبة لاينجو من الهلكة فيها إلاّ من ثبّته اللّه على القول بإمامتهم، ووفقه للدعاء بتعجيل الفرج».
ص: 123
قال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي، فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟. فنطق الغلام بلسان عربي فصيح فقال: «أنا بقية اللّه في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق».
قال أحمد: فخرجت مسروراً فرحاً، فلما كان من الغد عدت إليه. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، لقد عظم سروري بما مننت عليَّ، فما السنة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟.
فقال (عليه السلام) : «طول الغيبة يا أحمد».
فقلت له: يا ابن رسول اللّه، وإن غيبته لتطول؟!
قال (عليه السلام) : «إي وربي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يبقى إلاّ من أخذ اللّه عهده بولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من اللّه، وسر من سر اللّه، وغيب من غيب اللّه، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين»(1).
وفي الحديث: أمر الإمام أبو محمد العسكري (عليه السلام) والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومائتين، وعرفها ما يناله في سنة ستين ومائتين، ثم سلم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إلى القائم الصاحب (عليه السلام) .
وخرجت أم أبي محمد إلى مكة، وقُبض الإمام (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين.
ص: 125
24
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) على رغم تلك الظروف الصعبة التي عاشها يهتم بشيعته دائماً، فكان يعلّمهم القرآن وأحكامه، ويبين لهم التعاليم الإسلامية، والأمور الشرعية، وما ينفع دينهم ودنياهم، وما يضمن لهم سعادة الدارين. وقد حافظ الإمام (عليه السلام) على تراث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الضياع.
كما كان الإمام العسكري (عليه السلام) يدعو لشيعته ويتضرع إلى اللّه عزوجل في خلاصهم من طغاة بني العباس.
قال (عليه السلام) في بعض رسائله لشيعته:
«أوصيكم بتقوى اللّه، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم؛ فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك.
اتقوا اللّه وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً. جروا إلينا كل مودة، وارفعوا عنا كل قبيح؛ فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن
ص: 124
ذلك.
لنا حق في كتاب اللّه، وقرابة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتطهير من اللّه، لا يدعيه أحد غيرنا إلاّ كذاب.
أكثروا ذكر اللّه، وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فإن في الصلاة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر حسنات، احفظوا ما وصيتكم به، واستودعكم اللّه وأقرأ عليكم السلام»(1).
كتب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: «سترنا اللّه وإياك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، فهمت كتابك يرحمك اللّه، ونحن بحمد اللّه ونعمته أهل بيت نرق على أوليائنا، ونسر بتتابع إحسان اللّه إليهم وفضله لديهم، ونعتد بكل نعمة ينعمها اللّه تبارك وتعالى عليهم، فأتم اللّه عليك يا إسحاق وعلى من كان مثلك ممن قد رحمه اللّه وبصره بصيرتك نعمته، وقدر تمام نعمته دخول الجنة، وليس من نعمة وإن جل أمرها وعظم خطرها إلا والحمد لله تقدست أسماؤه عليها مؤد شكرها...»(2).
قال كافور الخادم: كان يونس النقاش يغشى سيدنا الإمام العسكري (عليه السلام) ويخدمه، فجاءه يوماً يرعد، فقال: يا سيدي، أوصيك بأهلي خيراً.
قال (عليه السلام) : «وما الخبر؟». قال: عزمت على الرحيل.
ص: 127
قال (عليه السلام) : «ولِمَ يا يونس؟»، وهو يتبسم.
قال: وجّه إليَّ ابن بغي - من حكام بني العباس - بفصّ ليس له قيمة أقبلت نقشه، فكسرته باثنين وموعده غد، وهو ابن بغي، إما ألف سوط أو القتل.
قال: «امض إلى منزلك إلى غد فرُح فما يكون إلاّ خيراً».
فلما كان من الغد وافاه بكرة يرعد، فقال: قد جاء الرسول يلتمس الفص!.
قال (عليه السلام) : «امض إليه فلن ترى إلاّ خيراً».
قال: وما أقول له يا سيدي؟. قال: فتبسم (عليه السلام) وقال: «امض إليه واسمع ما يخبرك به فلا يكون إلاّ خيراً».
قال: فمضى وعاد وقال: قال لي يا سيدي: الجواري اختصمن، فيمكنك أن تجعله اثنين حتى نغنيك؟.
فقال الإمام (عليه السلام) : «اللّهم لك الحمد إذ جعلتنا ممن يحمدك حقاً، فأي شيء قلت له؟». قال: قلت له: أمهلني حتى أتأمل أمره.
فقال (عليه السلام) : «أصبت»(1).
ص: 128
25
بما أن الفرصة لم تسمح للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كي يلتقي مباشرة بشيعته ومواليه في كثير من الأحيان، كان الإمام (عليه السلام) يكتب لهم المكاتبات والرسائل ويوصيهم بوصاياه، ثم يرسل تلك الكتب إليهم.
وأحياناً كان يقتضي الأمر بأن يخفي الرسائل في شيء حتى لا تفهم بها حكومة الطغيان.
روى أبو هاشم الجعفري، عن داود بن الأسود، قال: دعاني سيدي أبو محمد العسكري (عليه السلام) فدفع إليَّ خشبة كأنها رجل باب مدورة طويلة ملء الكف. فقال: «صر بهذه الخشبة إلى العَمري».
فمضيت فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سقاء معه بغل فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقاء صح على البغل، فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت البغل فانشقت، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمي، فجعل السقاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي.
فلما دنوت من الدار راجعاً، استقبلني عيسى الخادم عند الباب فقال: يقول لك مولاي أعزه اللّه: «لِمَ ضربت البغل وكسرت رجل الباب؟».
ص: 129
فقلت له: يا سيدي، لم أعلم ما في رجل الباب.
فقال: «ولِمَ احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه، إياك بعدها أن تعود إلى مثلها... فإنا ببلد سوء ومصر سوء»(1).
كتب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: «سترنا اللّه وإياك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه... إلى قوله (عليه السلام) :
وأنا أقول: الحمد لله أفضل ما حمده حامده إلى أبد الأبد، بما منَّ اللّه عليك من رحمته، ونجاك من الهلكة، وسهل سبيلك على العقبة، وأيم اللّه إنها لعقبة كئود، شديد أمرها، صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، قديم في الزبر الأولى ذكرها، ولقد كانت منكم في أيام الماضي (عليه السلام) إلى أن مضى لسبيله وفي أيامي هذه أمور، كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي ولا مسددي التوفيق، فاعلم يقيناً يا إسحاق أنه من خرج من هذه الدنيا أعمى {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا}(2).
يا إسحاق، ليس {تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(3)، وذلك قول اللّه في محكم كتابه حكاية عن الظالم إذ يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}(4).
وأي آية أعظم من حجة اللّه على خلقه، وأمينه في بلاده، وشهيده على عباده من بعد من سلف من آبائه الأولين النبيين، وآبائه الآخرين الوصيين عليهم
ص: 130
أجمعين السلام ورحمة اللّه وبركاته.
فأين يُتاه بكم، وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحق تصدفون، وبالباطل تؤمنون، وبنعمة اللّه تكفرون، أو تكونون ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ}(1) ومن غيركم {إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(2) وطول عذاب في الآخرة الباقية، وذلك واللّه الخزي العظيم.
إن اللّه بمنّه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليكم، بل رحمةً منه لا إله إلا هو عليكم ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، لتسابقوا إلى رحمة اللّه ولتتفاضل منازلكم في جنته.
ففرض عليكم الحج والعمرة، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والولاية، وجعل لكم باباً تستفتحون به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله.
لولا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء من ولده (عليهم السلام) لكنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخل مدينة إلا من بابها، فلما منَّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال اللّه في كتابه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(3)، ففرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها؛ ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومآكلكم ومشاربكم، قال اللّه: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(4)، واعلموا أن من يبخل
ص: 130
{فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}(1) لا إله إلا هو.
ولقد طالت المخاطبة فيما هو لكم وعليكم، ولولا ما يحب اللّه من تمام النعمة من اللّه عليكم لما رأيتم لي خطاً، ولا سمعتم مني حرفاً من بعد مضي الماضي (عليه السلام) ، وأنتم في غفلة مما إليه معادكم».
ثم قال (عليه السلام) : «واللّه المستعان على كل حال، وإياكم أن تفرطوا في جنب اللّه فتكونوا من الخاسرين، فبُعداً وسحقاً لمن رغب عن طاعة اللّه ولم يقبل مواعظ أوليائه، فقد أمركم اللّه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، رحم اللّه ضعفكم وغفلتكم، وصبركم على أمركم، فما أغر الإنسان بربه الكريم، ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدعت قلقاً وخوفاً من خشية اللّه ورجوعاً إلى طاعة اللّه. اعملوا ما شئتم {فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}(2) والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله أجمعين»(3).
ومما كتب (عليه السلام) إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي (رحمه اللّه) :
«اعتصمت بحبل اللّه، بسم اللّه الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والجنة للموحدين، والنار للملحدين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا اللّه أحسن الخالقين، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته
ص: 131
الطاهرين منها، عليك بالصبر وانتظار الفرج، قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج)، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.. فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة اللّه وبركاته وصلى اللّه على محمد وآله»(1).
وكتب الإمام العسكري (عليه السلام) إلى رجل سأله دليلاً: «من سأل آية أو برهاناً فأعطي ما سأل ثم رجع عمن طلب منه الآية عذب ضعف العذاب، ومن صبر أعطي التأييد من اللّه، والناس مجبولون على حيلة إيثار الكتب المنشرة، نسأل اللّه السداد؛ فإنما هو التسليم أو العطب، {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}(2)»(3).
وكتب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) بعض شيعته يعرفه اختلاف الشيعة. فكتب (عليه السلام) : «إنما خاطب اللّه العاقل، والناس فيَّ على طبقات. المستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق، متعلق بفرع الأصل، غير شاك ولا مرتاب لا يجد عني ملجأ. وطبقة لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه، ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل
ص: 132
الحق، ودفع الحق بالباطل حسداً من عند أنفسهم. فدع من ذهب يميناً وشمالاً؛ فإن الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي. وإياك والإذاعة وطلب الرئاسة؛ فإنهما يدعوان إلى الهلكة»(1).
وخرج في بعض توقيعات الإمام العسكري (عليه السلام) عند اختلاف قوم من شيعته في أمره: «ما مني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من شك هذه العصابة فيَّ؛ فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع، وإن كان متصلاً ما اتصلت أمور اللّه فما معنى هذا الشك!»(2).
ص: 134
26
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : «علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم»(1).
ومن المعلوم أن أربعة من هذه العلائم خلاف أبناء العامة، فهم لا يسجدون على الأرض بل على الفرش، ولا يتختمون باليمين، ولا يجهرون بالبسملة، ولا يؤدون النوافل كما وردت في فقه أهل البيت (عليهم السلام) ، ولذلك فهي من علائم الإيمان والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) ، أما زيارة الأربعين للإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) فلماذا ورد التأكيد عليها؟.
ربما تكون الخصوصية فيها أن الأربعين مصداق واضح لانتصار الحق وبقاء الإمام الحسين (عليه السلام) خالداً بخلود الحق، فإن الأعداء فعلوا ما فعلوا بالإمام االحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، حتى أنه لم تكن مصيبة بأعظم منها، فقتلوهم عطاشى وقتلوا أطفالهم ولم ينج منهم حتى الطفل الرضيع، حيث ذبحوه على يد والده الحسين (عليه السلام) من الوريد إلى الوريد، وبعد القتل سحقوهم بجرد الخيول، وتركوا أجسادهم الطاهرة في الشمس بلا غسل ولا كفن ولا دفن، ولعلهم
ص: 135
أرادوا أن تأكلها الحيوانات المفترسة.. كما أحرقوا الخيام وسرقوا ما فيها، ثم سبوا النساء وأخذوا برؤوس الأطهار إلى الشام، وقاموا بإضلال الناس وبث دعاية كاذبة فيهم أن هؤلاء الأطهار (عليهم السلام) خوارج على دين اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأعلنوا الفرح والسرور واتخذوه يوم قتل الحسين (عليه السلام) عيداً!.
مع كل ذلك لم يمض إلاّ أربعون يوماً وإذا بركب العترة الطاهرة (عليها السلام) ترجع إلى كربلاء منتصرة على طغاة عصرها وطغاة العصور إلى يوم القيامة، فرجعت وقد أدت رسالتها إلى العالم وفضحت يزيد وبني أمية، وسجلت الخلود في كل أرض نزلوها من العراق إلى الشام، وأصبحوا رمزاً للتضحية في سبيل اللّه والجهاد ضد أعداء اللّه وأعداء الإنسانية إلى يوم القيامة.
فيوم الأربعين يوم انتصار الدم على السيف، وانتصار الفضيلة على الرذيلة، وانتصار القيم على الانحطاط، وهو يوم انتصار الحسين (عليه السلام) على يزيد، ومن هنا جاء التأكيد على زيارة الأربعين حتى لا ينسى الإنسان ثمرة الجهاد في سبيل اللّه والتضحية لأجل الدين. فإن الجهاد وإن كان صعباً ولكن ثماره محمودة وهو يوجب العز والسعادة في الدنيا والآخرة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «جاهدوا تورثوا أبنائكم عزاً»(1).
وهكذا كان يجاهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) طغاة عصره بنشر علوم القرآن وعلوم الإسلام وتعاليم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ، وكان الإمام يضحي بنفسه وبأهله وبشيعته في سبيل اللّه عزوجل، وقد انتصر الإمام (عليه السلام) على الطغاة حيث بقي خالداً وذهبوا إلى مزابل التاريخ.
ص: 136
27
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
«ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك؛ فإن لكل يوم خيراً جديداً، والإلحاح في المطالب يسلب البهاء، إلاّ أن يفتح لك باب يحسن الدخول فيه، فما أقرب الصنع من المهلوف، وربما كانت الغير نوعاً من آداب اللّه عزوجل، وللحظوظ مراتب فلا تجعل على ثمرة لم تدرك فإنها تنال في أوانها، والمدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح لك فيه، فثق بخبرته في أمورك، ولا تعجل حوائجك في أول وقتك فيضيق قلبك، ويغشاك القنوط. واعلم أن للحياء مقداراً فإن زاد على ذلك فهو ضعف، وللجود مقداراً فإن زاد علي ذلك فهو سرف، وللاقتصاد مقداراً فإن زاد عليه فهو بخل، وللشجاعة مقداراً فإن زاد فهو التهور»(1).
وقال (عليه السلام) : «إنكم في آجال منقوصة، وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع، لايسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من اُعطي خيراً فاللّه
ص: 135
أعطاه، ومن وُقي شراً فاللّه وقاه»(1).
وقال (عليه السلام) : «من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي»(1).
وقال (عليه السلام) : «لا تطلب الصفاء ممن كدرت عليه، ولا النصح من صرفت سوء ظنك إليه؛ فإنما قلب غيرك لك كقلبك له»(2).
وقال (عليه السلام) : «الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة»(1).
وقال (عليه السلام) : «لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض»(1).
وقال (عليه السلام) : «خير من الحياة ما إذا فقدته بغضت الحياة، وشر من الموت ما إذا نزل بك أحببت الموت»(1).
وقال الإمام العسكري (عليه السلام) لشيعته في سنة ستين ومائتين:
«أمرناكم بالتختم في اليمين ونحن بين ظهرانيكم، والآن نأمركم بالتختم في الشمال لغيبتنا عنكم إلى أن يظهر اللّه أمرنا وأمركم؛ فإنه من أدل دليل عليكم في ولايتنا أهل البيت». فخلعوا خواتيمهم من أيمانهم بين يديه ولبسوها في شمائلهم، وقال (عليه السلام) لهم: «حدثوا بهذا شيعتنا»(2).
أقول: يكون ذلك في ظروف التقية دون غيرها.
أمر اللّه»(1).
وقال (عليه السلام) : «لا يعرف النعمة إلاّ الشاكر، ولا يشكر النعمة إلاّ العارف»(1).
وقال (عليه السلام) : «أعبد الناس من أقام على الفرائض»(2).
وقال (عليه السلام) : «لا تكرم الرجل بما يشق عليه»(3).
وقال (عليه السلام) : «من ركب ظهر الباطل نزل به دار الندامة»(4).
كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) : رجل حلف بالبراءة من اللّه ورسوله فحنث، ما توبته وكفارته؟.
فوقع (عليه السلام) : «يطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد، ويستغفر اللّه عزوجل»(5).
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها إن
ص: 145
شاء اللّه»(1).
مكاتبة الصفار - في الصحيح - إلى مولانا العسكري (عليه السلام) : هل يجوز أن يغسل الميت وماءه الذي يصب عليه يدخل إلى بئر كنيف؟.
فوقع (عليه السلام) : «يكون ذلك في بلاليع»(2).
روي عن مولانا الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) في تفسيره، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن علي (عليه السلام) ، قال: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدعي: ألك حجة؟، فإن أقام بينة يرضى ويعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه».
إلى أن قال: «وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر، بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كلا منهما من حيث لا يشعر الآخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحلاتهم، فإذا أثنوا عليه قضى حينئذ على المدعى عليه، وإن رجعا بخبر سيء وثناء قبيح لم يفضحهم ولكن يدعو الخصم إلى الصلح، وإن كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون أقبل على المدعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟، فإن قال: ما عرفنا إلاّ خيراً، غير أنهما غلطا فيما شهدا عليَّ أنفذ شهادتهما، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصمين، أو أحلف المدعى عليه وقطع الخصومة بينهما»(3).
ص: 146
قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «يجب على المسافر أن يقول في دبر كل صلاة: (سبحان اللّه والحمد اللّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر) ثلاثين مرة لتمام الصلاة»(1).
أقول: الوجوب هنا بمعنى الثبوت ويراد به الاستحباب.
روى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من رأى منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنه لذلك كاره»(2).
مكاتبة محمد بن أحمد بن مطهر إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : إني تزوجت بأربع نسوة لم أسأل عن أسمائهن، ثم أريد طلاق إحداهن وتزويج امرأة أخرى.
فكتب (عليه السلام) : «انظر إلى علامة إن كانت بواحدة منهن، فتقول: اشهدوا أن فلانة التي بها علامة كذا وكذا هي طالق، ثم تزوج الأخرى إذا انقضت العدة»(3).
خبر محمد بن عيسى، عن الرجل (عليه السلام) - والظاهر أنه الهادي أو العسكري (عليهما السلام) -
ص: 147
إنه سُئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة، قال (عليه السلام) : «إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها»(1).
قال الإمام العسكري (عليه السلام) في تفسيره: «من قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة: (سبحانك اللّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك، وأن أولاده خلفاؤك وأوصياؤه)، تحاتت عنه الذنوب كما يتحات أوراق الأشجار، وخلق اللّه بكل قطرة من قطرات وضوئه أو غسله ملكاً يسبح اللّه ويقدّسه ويهلّله ويكبّره ويصلي على محمد وآله الطيبين، وثواب ذلك لهذا المتوضئ، ثم يأمر اللّه بوضوئه وغسله ويختم عليه بخاتم من خواتيم رب العزة»(2).
صحيحة محمد بن الحسن الصفار: إنه كتب إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) في رجل باع له قطاع أرضين وعرف حدود القرية الأربعة، وإنما له في هذه القرية قطاع أرضين، فهل يصلح للمشتري ذلك وإنما له بعض هذه القرية وقد أقر له بكلها؟.
فوقع (عليه السلام) : «لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجب الشراء من البايع على ما يملك»(3).
ص: 148
في مكاتبة الصفار العسكري (عليه السلام) : «لا يحمل الرجل مع المرأة على سرير واحد»(1)، أي يُكره ذلك.
صحيح الحميري كتب إلى العسكري (عليه السلام) : امرأة ماتت وتركت زوجها وأبويها وجدها أو جدتها كيف يقسم ميراثها؟. فوقع (عليه السلام) : «للزوج النصف وما بقي للأبوين»(2).
قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «إذا كان الرجل صالحاً عفيفاً، مميزاً، محصلاً، مجانباً للمعصية والهوى، والميل والمخائل، فذلك الرجل الفاضل»(3).
28
توفي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مسموماً شهيداً في سامراء فجر يوم الجمعة، الثامن من ربيع الأول عام 260 من الهجرة النبوية الشريفة.
وقد دسّ إليه السُمّ المعتمدُ العباسي وهو ابن المتوكل.
ودُفن الإمام (عليه السلام) - بعد تشييع عظيم - في داره بسامراء إلى جنب قبر أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) حيث مزاره الشريف الآن.
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في الإرشاد: مرض أبو محمد (عليه السلام) في أول شهر ربيع الأول، وتوفي في الثامن منه(1).
وكان مرضه (عليه السلام) بسبب السمّ الذي سقاه المعتمد، كما رواه الشيخ الصدوق ابن بابويه (رحمه اللّه) .
وكان الإمام (عليه السلام) شاباً حينما توفي مسموماً، فعمره المبارك تسع وعشرون سنة، وقيل ثمان وعشرون فقط. وكانت فترة إمامة الإمام (عليه السلام) ست سنوات حيث عاشها بعد أبيه الهادي (عليه السلام) .
وهذا يدل على مدى خوف العباسيين من الإمام (عليه السلام) ومن ولادة المهدي
ص: 150
المنتظر (عليه السلام) ، حيث قضوا على الإمام العسكري (عليه السلام) في شبابه، بعد ما ملؤوا بيته بالعيون على أهله وعياله لمراقبة حمل أو مولود.
قال الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) في (إكمال الدين): وجدت في بعض كتب التواريخ أنه لما توفي أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) كان في ليلة وفاته قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ولم يحضره في ذلك الوقت إلاّ صقيل الجارية وعقيد الخادم ومن علم اللّه غيرهما. قال عقيد: فدعا (عليه السلام) بماء قد أغلي بالمصطكي، فجئنا به إليه. فقال (عليه السلام) : «أبدأ بالصلاة»، وبسطنا في حجره المنديل وأخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه وذراعيه مرة مرة، ومسح على رأسه وقدميه مسحاً، وصلى صلاة الصبح على فراشه، وأخذ القدح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد. فأخذت صقيل القدح من يده، ومضى من ساعته (عليه السلام) وصار إلى كرامة اللّه جل جلاله(1).
وقال أحمد بن عبيد اللّه بن خاقان - وكان من أشدّ النواصب عداوة لأهل البيت (عليهم السلام) وكان من ولاة بني العباس -:
لما اعتلّ الحسن (عليه السلام) بعث - الحاكم العباسي - إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم الأمير كلهم من ثقاته وخاصته فيهم نحرير، وأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف حاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعهده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أخبر أنه قد ضعف، فركب حتى بكر إليه وأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة وأمره أن يختار عشرة ممن
ص: 151
يوثق به في دينه وورعه وأمانته فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي.
فلما ذاع خبر وفاته صارت سر من رأى ضجة واحدة: مات ابن الرضا، ثم أخذوا في تجهيزه وعطلت الأسواق وركب بنو هاشم والقواد والكتّاب والقضاة والمعدلون وسائر الناس إلى جنازته فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة.
فلما وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى وهو مبعوث المتوكل منه، فكشف عن وجهه (عليه السلام) فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتّاب والقضاة والمعدلين وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد الرضا مات حتف أنفه على فراشه! وحضره من خدم الأمير فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان ثم غطّى وجهه.
وهكذا أرادوا أن يبرؤوا أنفسهم من قتل الإمام (عليه السلام) .
ثم حضرت الجنازة المطهرة للصلاة، وقام جعفر لكي يصلي على أخيه، وإذا بصبي عليه سيماء الأنبياء خرج وقال: «تنحّ يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي منك»، فتأخر جعفر وتقدم الصبي (عليه السلام) فصلى عليه، ثم دفن الإمام (عليه السلام) في داره إلى جنب والده (عليه السلام) .
ص: 152
29
بعد ما استشهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وصلّى عليه ولده المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ودفنه، علمت الحكومة بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) وأن له من العمر ست سنوات، فأرسلت جيشاً لاعتقاله وقتله.
روي عن أبي الحسن بن وجنا، عن أبيه، عن جده: أنه كان في دار الحسن ابن علي (عليه السلام) فكبستنا الخيل واشتغلوا بالنهب والغارة، وكانت همتي في مولاي القائم (عليه السلام) قال: فإذا أنا به (عليه السلام) قد أقبل وخرج عليهم من الباب وأنا أنظر إليه وهو (عليه السلام) ابن ست سنين فلم يره أحد حتى غاب(1).
ولما لم يعثروا على الإمام (عليه السلام) اعتقلوا والدته السيدة نرجس (عليها السلام) - واسمها الآخر صقيل - وأودعوها السجن، كما اعتقلوا جعفراً أخ الإمام (عليه السلام) لعدم إخبارهم بولادة المهدي (عليه السلام) من قبل، فأنكر علمه بذلك.
واعتقلوا أيضاً جمعاً من الشيعة والموالين.
روى الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) في (إكمال الدين):
قال أبو الأديان: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن
ص: 153
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علته التي توفي فيها (صلوات اللّه عليه)، فكتب معي كتباً وقال: «تمضي بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل»!.
قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي، فإذا كان ذلك فمن؟.
قال: «من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي».
فقلت: زدني.
فقال: «من يصلّي عليّ فهو القائم بعدي».
فقلت: زدني.
فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.
ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان، وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي (عليه السلام) ، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعة حوله يعزونه ويهنئونه. فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة، فتقدمت فعزيت وهنيت فلم يسألني عن شيء.
ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي، قد كُفن أخوك فقم للصلاة عليه، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم: السمان، والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة. فلما صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن علي (عليه السلام) على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ رداء جعفر بن علي وقال: «تأخر يا عمّ، فأنا أحق بالصلاة على أبي». فتأخر جعفر وقد اربد
ص: 154
وجهه، فتقدم الصبي فصلى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه.
ثم قال الصبي: «يا بصري، هات جوابات الكتب التي معك»، فدفعتها إليه وقلت في نفسي: هذه اثنتان، بقي الهميان.
فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي (عليه السلام) فعرفوا موته. فقالوا: فمن؟. فأشار الناس إلى جعفر بن علي، فسلموا عليه وعزوه وهنئوه. وقالوا: معنا كتب ومال، فتقول ممن الكتب وكم المال؟.
فقام ينفض أثوابه ويقول: يريدون منا أن نعلم الغيب!.
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار عشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا الكتب والمال وقالوا الذي وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.
ووجه المعتمد العباسي خدمه فقبضوا على صقيل الجارية - وهي أم الإمام المهدي (عليه السلام) - وطالبوها بالصبي، فأنكرته وادعت حملاً بها لتغطي على حال الصبي، فسُلّمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي ليسجنها إلى أن يولد الطفل فيقتله..
فسجنت السيدة صقيل وجعلن نساء المعتمد وخدمه ونساء الموفق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت، إلى أن دهمهم أمر الصفار، وموت عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان بغتة، وخروجهم عن سر من رأى، وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك، فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت عن أيديهم ورجعت إلى بيت الإمام (عليه السلام) (1).
ص: 155
30
دفن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في بيته بسامراء التي تشرفت به، وبجوار والده الإمام الهادي (عليه السلام) .
وفي نفس الضريح المقدس قبر حكيمة بنت الإمام الجواد عمة الإمام العسكري (عليه السلام) ، وقبر السيدة نرجس والدة المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
روى الجعفري، قال: قال لي أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : «قبري بسر من رأى أمان لأهل الجانبين»(1).
وقال أبو يحيى المغربي(2):
يا راكب الشهباء تعمل علبة***سلم على قبر بسامراء
قبر الإمام العسكري وابنه***وسمي أحمد خاتم الخلفاء
وقد سعى علماؤنا الأبرار لتأسيس الحوزة العلمية في سامراء وتقويتها ودعمها، ليكثر الموالون بجوار الإمامين العسكريين (عليهما السلام) وتقل مظلومية المشهد الشريف.
حيث كان يستولي على المشهد المبارك في برهة من الأزمان جمع من الطغاة
ص: 156
والظلمة وربما بعض النواصب، فيهملون رعاية المشهد ويتعمدون في الإضرار به، ففي عام 1106 ه- احترق المشهد الشريف بسامراء، وربما أحرقوها متعمدين.
فمن اللازم السعي الجاد لتقوية الحوزات العلمية في سامراء كما فعل الميرزا المجدد الشيرازي (قدس سره) حيث نقل الحوزة العلمية من النجف إلى سامراء(1). وقد اهتدى ببركة الميرزا كثير من الناس إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
كما يلزم بناء الكثير من المؤسسات الدينية هناك من الحسينيات ودور النشر والمراكز الثقافية التي تنشر تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ، قال (عليه السلام) : «إن الناس إذا علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(2).
فإن عموم الناس يرغبون ويشتاقون في إتباع أهل البيت (عليهم السلام) إذا عرفوا الحق، وإن كان بعض النواصب وعلماء السوء يمنعونهم من ذلك.
قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في (البحار): قد وقعت داهية عظمى وفتنة كبرى في سنة ست ومائة بعد الألف من الهجرة في الروضة المنورة بسر من رأى، وذلك أنه
ص: 157
لغلبة الأروام وأجلاف العرب - من غير أتباع أهل البيت (عليهم السلام) - على سر من رأى وقلة اعتنائهم بإكرام الروضة المقدسة وجلاء السادات والأشراف لظلم الأروام عليهم منها، وضعوا ليلة من الليالي سراجاً داخل الروضة المطهرة في غير المحل المناسب له، فوقعت من الفتيلة نار على بعض الفروش أو الأخشاب ولم يكن أحد في حوالي الروضة فيطفيها. فاحترقت الفروش والصناديق المقدسة والأخشاب والأبواب، وصار ذلك فتنة لضعفاء العقول من الشيعة والنصاب من المخالفين جهلاً منهم بأن أمثال ذلك لا يضر بحال هؤلاء الأجلة الكرام، ولا يقدح في رفعة شأنهم عند الملك العلام، وإنما ذلك غضب على الناس ولا يلزم ظهور المعجز في كل وقت، وإنما هو تابع للمصالح الكلية والأسرار في ذلك خفية وفيه شدة تكليف وافتتان وامتحان للمكلفين.
وقد وقع مثل ذلك في الروضة المقدسة النبوية بالمدينة أيضا صلوات اللّه على مشرفها وآله. قال الشيخ الفاضل الكامل السديد يحيى بن سعيد (قدس اللّه روحه) في كتاب (جامع الشرائع في باب اللعان): إنه إذا وقع بالمدينة يستحب أن يكون بمسجدها عند منبره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ثم قال - وفي هذه السنة وهي سنة أربع وخمسين وستمائة في شهر رمضان احترق المنبر وسقوف المسجد ثم عمل بدل المنبر.
وقال صاحب كتاب (عيون التواريخ) - من أفاضل المخالفين في وقائع السنة الرابع والخمسين والستمائة -: وفي ليلة الجمعة أول ليلة من شهر رمضان احترق مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة، وكان ابتداء حريقه من زاوية الغربية من الشمال، وكان أحد القومة قد دخل إلى خزانة ومعه نار فعلقت في بعض الآلات ثم اتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف آخذة مقبلة فأعجلت الناس عن قطعها. فما كان إلاّ ساعة حتى احترق سقوف المسجد أجمع، ووقع بعض
ص: 158
أساطينه وذاب رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ووقع ما وقع منه بالحجرة وبقي على حاله، وأصبح الناس يوم الجمعة فعزلوا موضع الصلاة، انتهى.
والقرامطة هدموا الكعبة ونقلوا الحجر الأسود ونصبوها في مسجد الكوفة.
وفي كل ذلك لم تظهر معجزة في تلك الحال، ولم يمنعوا من ذلك على الاستعجال، بل ترتب على كل منها آثار غضب اللّه تعالى في البلاد والعباد بعدها بزمان، كما أن في هذا الاحتراق ظهرت آثار سخط اللّه على المخالفين في تلك البلاد، فاستولى الأعراب على الروم وأخذوا منهم أكثر البلاد، وقتلوا منهم جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، وتزداد في كل يوم نائرة الفتنة والنهب والغارة في تلك الناحية اشتعالاً. وقد استولى الأفرنج على سلطانهم مراراً وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وكل هذه الأمور من آثار مساهلتهم في أمور الدين، وقلة اعتنائهم بشأن أئمة الدين (سلام اللّه عليهم أجمعين).
ص: 159
وقال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : ثم إن هذا الخبر الموحش - يعني خبر احتراق المشهد في سامراء - لما وصل إلى السلطان حسين الصفوي الموسوي، أمر بترميم تلك الروضة البهية وتشييدها، وأمر بعمل أربعة صناديق وضريح مشبك في غاية الإتقان وأرسلها إلى المشهد المشرف بسامراء(1).
ص: 160
ومما جرى على المرقد الشريف أن النواصب سرقوا مشهد العسكريين (عليهما السلام) في أواخر سنة 1355 ه- حيث سطا جماعة منهم ليلاً على المشهد المقدس فاقتلعوا عدة ألواح من الذهب المذهبة به القبة الشريفة.
وفي شهر صفر سنة 1356 ه- سطا جماعة من النواصب ليلاً على المشهد، فكسروا القفل الموضوع على باب المشهد وأخذوا شمعدانين من الفضة الخالصة
ص: 161
عن زيد الشحام، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : ما لمن زار أحداً منكم؟. قال: «كمن زار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «من زار إماماً مفترض الطاعة بعد وفاته وصلّى عنده أربع ركعات، كتبت له حجة وعمرة»(2).
وروى الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، قال: «إن لكل إمام عهداًً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاًً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(3).
وعن الفحام، عن المنصوري، عن عم أبيه، قال: قلت للإمام علي بن محمد (عليه السلام) : علّمني يا سيدي دعاءً أتقرب إلى اللّه عزوجل به؟. فقال لي: «هذا
ص: 162
دعاء كثيراً ما أدعو به، وقد سألت اللّه عزوجل أن لا يخيب من دعا به في مشهدي، وهو: (يا عُدّتي عند العُدَد، ويا رجائي والمعتمَد، ويا كهفي والسَنَد، ويا واحدُ يا أحد، ويا قُل هو اللّه أحَد، أسألك بحق من خلقتَه من خلقك ولم تجعل في خلقك مثلَهم أحداً صلّ على جماعتهم وافعل بي كذا وكذا)»(1).
وعن أبي محمد الحسن بن محمد بن يحيى الفحام، قال: حدثني أبو الطيب أحمد بن محمد بن بويطة وكان لا يدخل المشهد، ويزور من وراء الشباك. فقال لي: جئت يوم عاشوراء نصف النهار ظهراً والشمس تغلي والطريق خال من واحد، وأنا فزع من الذعار ومن أهل البلد، أتخفى إلى أن بلغت الحائط الذي أمضي منه إلى الشباك، فمددت عيني فإذا أنا برجل جالس على الباب ظهره إليَّ كأنه ينظر في دفتر. فقال لي: «إلى أين يا أبا الطيب؟». بصوت يشبه صوت حسين بن علي بن محمد بن الرضا، فقلت: هذا حسين قد جاء يزور أخاه.
فقلت: يا سيدي، أمضي أزور من الشباك وأجيئك فأقضي حقك.
فقال: «ولِمَ لا تدخل يا أبا الطيب، تكون مولى لنا ورقاً وتوالينا حقاً ونمنعك تدخل الدار، ادخل يا أبا الطيب».
فقلت: أمضي أسلم عليه ولا أقبل منه، فجئت إلى الباب وليس عليه أحد فيشعر بي، وبادرت إلى عند البصري خادم الموضع ففتح لي الباب فدخلت، فكنا نقول له: أ ليس كنت لا تدخل! فقال: أما أنا فقد أذنوا لي، بقيتم أنتم(2).
***
ص: 163
نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا للاهتداء بهدي الأئمة الطاهرين (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين).
وهذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الكتاب، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 164
المقدمة... 5
1- النسب الشريف... 7
الإسم المبارك... 7
الكنية الشريفة... 7
الألقاب الطاهرة... 7
والدة الإمام (عليه السلام) ... 9
2- الولادة المباركة... 10
3- النشأة الطاهرة... 11
4- النص على الإمامة... 13
نص من اللّه... 14
نص من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 17
نص من الإمام الهادي (عليه السلام) ... 17
5- أخلاق الإمام (عليه السلام) ... 22
كلام ابن حجر... 24
عفو وصفح... 26
ص: 164
جود وسخاء... 26
6- علم الإمام (عليه السلام) ... 30
تفسير الإمام (عليه السلام) ... 32
قصة التفسير... 35
7- نماذج من كتاب التفسير... 39
زاهد لا ينهى عن المنكر... 39
بين العابد والعالم... 40
علماء الشيعة... 40
المراجع الفقهاء... 41
ولاية علي (عليه السلام) ... 41
مواساة الشيعة... 41
القرآن الكريم... 42
من بركات الوضوء... 43
أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ... 43
8- الإمام (عليه السلام) وعلم الغيب... 45
ألزم بيتك... 45
الفرج بعد ثلاثة أيام... 46
نعم العضد الولد... 46
لا تخرج إلى الجبل... 46
تعالى الجبار الحاكم... 48
ص: 164
افصد هذا العرق... 48
أبشر ثم أبشر... 50
وصف الكحل... 50
فص للخاتم... 50
هاك يا أحمد... 51
جعلك اللّه منهم... 51
بحث في النوايا... 52
علمهم (عليهم السلام) بالغيب... 53
لماذا ابتعد الناس عن الدين؟... 56
ما يبحث عنه العقلاء... 57
هداية المخالفين والكفار... 59
أصل التساوي وضرورة المستثنيات... 61
خسارة العالم بترك قادة الإسلام... 63
أسئلة أخرى... 65
9- كرامات ومعاجز... 70
معرفة اللغات كلها... 70
ستُحرم منها... 70
معرفة الحيوان بالإمام (عليه السلام) ... 71
آجرك اللّه... 72
ضيعتك ترد عليك... 73
عوفي العليل... 73
ص: 164
يا غلام اسقه... 74
استبدله قبل المساء... 74
جواب ما لم يسأل... 75
يموت قريباً... 75
لا تبرح... 75
ماتت جاريتك... 76
أردت أن تسأل... 76
لا خوف عليكم... 76
صدقت يا أبا هاشم... 77
وحّد اللّه... 77
سمه جعفراً... 77
فتنة تخصك... 78
مع الزبيري الطاغي... 78
سبيكة من الأرض... 78
كونوا على أهبة... 79
الطبع في الحصاة... 79
محمد وعبد الرحمن... 79
مسافر أرمينة... 80
أبشر يا أبا هاشم... 80
مطر في يوم مصيف... 81
استجابة دعائه (عليه السلام) ... 81
ص: 164
بل عباد مكرمون... 81
مع الولاة الظلمة... 82
في جنازة الإمام الهادي (عليه السلام) ... 82
القرآن مخلوق... 83
أخوك يخرج من الحبس... 83
عندما عطشت... 83
كتاب بلا مداد... 84
10- عبادة الإمام (عليه السلام) ... 85
طول السجدة... 87
العبادة بين السباع... 87
في حبس المعتمد... 88
وفي الحبس أيضا... 88
11- زهد الإمام (عليه السلام) ... 89
12- طغاة عصر الإمام (عليه السلام) ... 90
المستعين باللّه... 91
المتوكل على اللّه... 91
المعتز باللّه... 92
المهتدي باللّه... 92
المعتمد على اللّه... 93
نماذج من عدوان العباسيين... 94
ص: 164
نور اللّه لا يطفأ... 94
13- الإمام (عليه السلام) في حبس الطغاة... 96
مع أخيه جعفر... 97
14- ملاحقة شيعة الإمام (عليه السلام) ... 101
15- دفاعاً عن القرآن... 104
البسملة آية... 106
16- التصدي للشبهات... 108
خذوا بما رووا... 109
17- فضح النصارى والقساوسة... 110
18- ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ... 112
الأمر أعجب... 113
الولاية التكوينية والتشريعية... 113
وفي حال المنام... 113
زيارة قبورهم (عليهم السلام) ... 114
من هم المؤمنون؟... 114
من أحبنا كان معنا... 115
19- هداية الناس... 116
20- الشعائر الدينية... 118
21- تمهيداً للغيبة... 120
22- الزواج المبارك... 125
ص: 164
23- في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ... 128
العقيقة والوليمة... 130
الوصية بالمهدي (عليه السلام) ... 131
والدة الإمام (عليه السلام) في الحج... 133
24- وصية الإمام (عليه السلام) لشيعته... 134
لطفاً بشيعته... 135
لن ترى إلا خيراً... 135
25- رسائل ومكاتبات... 137
رسائل سرية... 137
إلى إسحاق النيسابوري... 138
فاصبر يا شيخي... 140
إما التسليم أو العطب... 141
طبقات الناس... 141
ما معنى هذا الشك... 142
26- علامات المؤمن... 143
27- درر من كلام الإمام (عليه السلام) ... 145
لا تنس الآخرة... 145
بئس العبد... 146
حسن العقل... 146
الأنس باللّه... 146
ص: 164
اتق وجوه الناس... 146
الكذب مفتاح الشر... 146
نشاط القلوب... 146
اللحاق بمن ترجو... 147
الجهل خصم... 147
أزهد الناس... 147
أشد الناس اجتهادا... 147
السهر والجوع... 147
سفر إلى اللّه... 147
حسن العطاء... 148
قلب غيرك... 148
من مصاديق الجهل... 148
كلامنا نور... 148
من مصاديق التواضع... 148
الأولى بالمحبة... 148
جار السوء... 149
الوعظ سراً... 149
البلية والنعمة... 149
رغبة مذلة... 149
لا تمزح... 149
ثواب المتواضعين... 149
ص: 164
الشرك الخفي... 150
التجارب... 150
الرزق المقسوم... 150
مما لا يغفر... 150
المؤمن بركة... 150
قلب الأحمق... 150
الرزق مضمون... 151
لا إفراط ولا تفريط... 151
الحق معيار العز... 151
أفضل الخصال... 151
خير إخوانك... 151
من أسباب العقوق... 151
من مصاديق الأدب... 151
خير من الحياة... 152
حفظا لشيعته... 152
رد المعتاد... 152
نعمة لا تُحسد... 152
هذه هي العبادة... 152
مفتاح الشر... 153
أقل الناس راحة... 153
أورع الناس... 153
ص: 164
نائل الكريم... 153
كيف الانتصار؟... 153
لا تمدح من لا يستحق... 153
الشاكر والعارف... 154
أعبد الناس... 154
لا تشق عليه... 154
من ركب الباطل... 154
مسائل شرعية... 154
من أحكام اليمين... 154
من أحكام الوقف... 154
غسل الميت... 155
من أحكام القضاء... 155
مستحبات للمسافر... 156
مراتب النهي عن المنكر... 156
من أحكام الطلاق... 156
راع نزا على شاة... 156
دعاء الوضوء والغسل... 157
من أحكام البيع... 157
من أحكام الأموات... 158
من أحكام الإرث... 158
الرجل الفاضل... 158
ص: 164
حرمة الغيبة... 158
28- استشهاد الإمام (عليه السلام) ... 159
29- اعتقالات في بيت الإمام (عليه السلام) ... 162
30- المشهد الشريف في سامراء... 165
فضل زيارة الإمام العسكري (عليه السلام) ... 172
الفهرس... 175
ص: 165