من حياة المعصومين عليهم السلام
الجزء التاسع
الإمام الكاظم عليه السلام
المرجع الديني الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه
الشجرة الطيبة
1443 ه 2022 م
النجف الأشرف
ص: 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی للناشر
1443 ه 2022 م
مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف
تهميش
مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد، فهذا هو الجزء التاسع من سلسلة (من حياة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويتضمن جوانب من حياة الإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) .
أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
1410ه
ص: 5
ص: 6
1
هو الإمام: موسى، ابن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر، ابن علي زين العابدين، ابن الحسين الشهيد، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
وهو سابع الأئمة المعصومين الاثني عشر، الذين نص عليهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلفاء من بعده(1).
من كناه (عليه السلام) : أبو الحسن الأول، وأبو الحسن الماضي، وأبو إبراهيم، وأبو إسماعيل، وأبو علي.
ولا يخفى أن (أبا الحسن) المطلق في الروايات يقصد به الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، كما أن (أبا الحسن) في التاريخ وما أشبه يقصد به الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .
من ألقابه (عليه السلام) : الكاظم، والصابر، والصالح، والأمين، والعليم، والحليم،
ص: 7
والعبد الصالح، والوفي، والنفس الزكية، وزين المجتهدين، والزاهر.
وكان من أسباب تسميته (عليه السلام) بالكاظم ما ورد في الرواية التالية:
عن ربيع بن عبد الرحمن، قال: (كان - واللّه - موسى بن جعفر (عليه السلام) من المتوسمين، يعلم من يقف عليه بعد موته ويجحد الإمامة بعد إمامته، وكان يكظم غيظه عليهم، ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم، فسمي الكاظم لذلك)(1).
وقال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : (سمي الكاظم؛ لما كظم من الغيظ، وصبر عليه من فعل الظالمين به، حتى مضى قتيلاً في حبسهم ووثاقهم)(2).
ولأنه (عليه السلام) مُلئ خوفاً من اللّه.
والكاظم لغة: الممتلئ خوفاً وحزناً، ومنه كظم قربته: إذا شد رأسها، والكاظمة: البئر الضيقة والسقاية المملوة.
وكان من أسباب تسميته بالزاهر: نوره (عليه السلام) ، وقيل: لأنه (عليه السلام) زهر بأخلاقه الشريفة، وكرمه المضي ء التام.
والده المكرم: الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
والدته المكرمة: حميدة البربرية الأندلسية - وهي ابنة صاعد البربري - وكانت تكنى لؤلؤة. وهي أم ولد من بربر من بلاد الأندلس، وهي أم إسحاق وفاطمة.
ص: 8
ولا يخفى أن اللّه عزَّ وجل أراد أن تكون زوجات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من مختلف البلاد واللغات، حتى يوجب تقوية تعلق تلك الأقوام بالإسلام ويؤكد على عالمية الإسلام. فكانت في زوجاتهم: الرومية والفارسية والعربية والأندلسية وغيرها.
علماً بأن الأندلس أُخذت من أيدي المسلمين وعادت مسيحية قبل مئات السنين.
وكانت أمه (عليه السلام) تسمى أيضاً: حميدة المصفاة، وقد وردت الروايات في بيان سمو مكانتها وجلالة قدرها.
فعن المعلى بن خنيس: إن أبا عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: «حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إليّ كرامة من اللّه لي، والحجة من بعدي»(1).
ولما جيء بها إلى الإمام الصادق (عليه السلام) سألها عن اسمها. فقالت: حميدة.
فقال لها: «حميدة في الدنيا، ومحمودة في الآخرة»(2).
ولما اشتراها الإمام الباقر (عليه السلام) قال لولده الصادق (عليه السلام) : «هذه لك، وسيرزقك اللّه منها ولداً هو خير أهل الأرض»(3).
وفي رواية: أن حميدة والدة الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت من أشراف وأكابر الأعاجم، ولا يخفى أن المراد بالأعاجم ليس الفُرس، بل كل من ليس بعربي يسمى أعجمياً.
ص: 9
وفي القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(1).
وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}(2).
روي أنه دخل ابن عكاشة بن محصن الأسدي على أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فكان أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قائماً عنده، فقدم إليه عنباً فقال: «حبة حبة يأكله الشيخ الكبير أو الصبي الصغير، وثلاثة وأربعة من يظن أنه لا يشبع، فكله حبتين حبتين فإنه يستحب».
فقال لأبي جعفر: لأي شي ء لا تزوج أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقد أدرك التزويج وبين يديه صرة مختومة؟
فقال: «سيجيء نخاس من أهل بربر ينزل دار ميمون فنشتري له بهذه الصرة جارية».
قال: فأتى لذلك ما أتى، فدخلنا يوماً على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: «ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم، فاذهبوا واشتروا بهذه الصرة منه جارية».
فأتينا النخاس فقال: قد بعت ما كان عندي إلاّ جاريتين مريضتين إحداهما
ص: 10
أمثل من الأخرى!
قلنا: فأخرجهما حتى ننظر إليهما، فأخرجهما، فقلنا: بكم تبيع هذه الجارية المتماثلة(1)؟
قال: بسبعين ديناراً.
قلنا: أحسن.
قال: لا أنقص من سبعين ديناراً.
فقلنا: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت، وما ندري ما فيها، فكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال: فكوا الخاتم وزنوا، فقال: النخاس لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من السبعين لم أبايعكم، قال الشيخ: زنوا، قال: ففككنا ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص، فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر (عليه السلام) وجعفر (عليه السلام) قائم عنده، فأخبرنا أبا جعفر (عليه السلام) بما كان، فحمد اللّه ثم قال لها: «ما اسمك؟».
قالت: حميدة.
فقال: «حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة، أخبريني عنك أبكر أم ثيب؟».
قالت: بكر.
قال: «كيف ولا يقع في يد النخاسين شي ء إلا أفسدوه؟».
قالت: كان يجيء فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة فيسلط اللّه عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني، ففعل بي مراراً وفعل الشيخ مراراً.
ص: 11
فقال: «يا جعفر خذها إليك، فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر (عليه السلام) »(1).
عن هشام بن أحمر، قال: أرسل إليَّ أبو عبد اللّه (عليه السلام) في يوم شديد الحر فقال لي: «اذهب إلى فلان الإفريقي فاعترض جارية عنده، مَن حالها كذا وكذا، ومن صفتها كذا وكذا»، وأتيت الرجل فاعترضت ما عنده فلم أر ما وصف لي فرجعت إليه فأخبرته، فقال: «عد إليه فإنها عنده». فرجعت إلى الإفريقي فحلف لي ما عنده شي ء إلا وقد عرضه عليَّ ثم قال عندي وصيفة مريضة محلوقة الرأس ليس مما تعرض، فقلت له: أعرضها عليَّ، فجاء بها متوكئة على جاريتين تخط برجليها الأرض فأرانيها فعرفت الصفة، فقلت: بكم هي؟. فقال لي: اذهب بها إليه فيحكم فيها - ثم قال لي - قد واللّه أدرتها منذ ملكتها فما قدرت عليها، ولقد أخبرني الذي اشتريتها منه عند ذلك أنه لم يصل إليها وحلفت الجارية أنها نظرت إلى القمر وقع في حجرها، فأخبرت أبا عبد اللّه (عليه السلام) بمقالته فأعطاني مائتي دينار فذهبت بها إليه. فقال الرجل: هي حرة لوجه اللّه إن لم يكن بعث إليِّ بشرائها من المغرب، فأخبرت أبا عبد اللّه (عليه السلام) بمقالته. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا ابن أحمر، أما أنها تلد مولوداً ليس بينه وبين اللّه حجاب»(2).
وروى الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في كتاب الإرشاد مثل هذا الخبر، ولكن فيه:
ص: 12
إن أبا الحسن موسى (عليه السلام) أمره ببيع - أي شراء - هذه الجارية، وأنها كانت أم الرضا (عليه السلام) (1).
ثم إن المشهور بين الناس أن السبب في خسران المسلمين للأندلس: إن المسيحيين أشاعوا في البلاد الخمر والقمار والفساد وما أشبه، كما فتحوا مدارس لإفساد عقيدة الناس حتى ترك المسلمون معالم دينهم فتسلطوا عليهم وأرجعوا البلاد نصرانية.
وهذا الكلام صحيح، لكن الأهم من ذلك أن المسلمين تركوا وغفلوا عن إدارة البلاد وحفظها، وإلاّ فمثل تلك الأمور قد لا تسبب بالضرورة أن يخسر الإنسان بلداً كاملاً، فإننا نرى في بلاد الغرب انتشار الأمور المذكورة ومعها لم يخسر الغربيون بلادهم، وذلك لأنهم جادون في حفظها.
وإلا فالهند كانت إسلامية وبيد الحكام المسلمين أكثر من ألف سنة، لكنها خرجت عنهم؟ وكذلك بعض البلاد الأخر التي كانت بأيدي المسلمين ثم خرجت عنهم. نعم إن المسلمين لم يهتموا بحفظ بلادهم فخسروها.
وربما يكون المعنى في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}(2)، أنه لو أعرض الإنسان عن ذكر اللّه فإنه سيصاب بالضنك في نفس الجهة التي أعرض عن أمر اللّه، لا في جميع الجهات، وإن كانت الجهات مرتبطة بعضها ببعض في الجملة.
ص: 13
كما أن المريض الذي لا يذهب إلى الطبيب ولم يأخذ العلاج والدواء يبقى مريضاً وإن كان لا يضر ذلك بعلمه وثرائه مثلاً.
وكذلك من لا يكتسب كانت معيشته ضنكاً من حيث المأكل والمشرب والملبس والمسكن وما أشبه، وإن كان عالماً وصحيحاً في جسده. وهكذا في سائر الأمور، فالضنك في الآية في الجهة التي أُعرض فيها عن ذكر اللّه.
نعم هناك ارتباط في الجملة بين الأسباب والمسببات المختلفة.
فلا يقال: إن الكفار في عصرنا هذا أعرضوا عن ذكر اللّه أكثر من إعراض المسلمين، ومع ذلك نرى أن معيشة المسلمين أكثر ضنكاً من الكفار.
ومما يؤيد ما ذكرناه أن الدنيا دار أسباب ومسببات، ولكل مسبب سبب، فإذا ترك الإنسان سبباً فاته المسبَّب الخاص بذلك السبب.
أما المسبَّب الآخر الذي أخذ بسببه فإنه يحصل عليه.
ولابد لإرجاع هذه البلاد التي أخذت عن المسلمين، من الرجوع إلى أسباب القوة والعزة والأخذ بآيات الأحكام الحيوية من الأمة الواحدة والأخوة والحرية والاستشارة ونبذ العنف وما أشبه.
أقام الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مع أبيه عشرين سنة وقيل تسع عشرة سنة، وبعد أبيه خمساً وثلاثين سنة وهي مدة خلافته وإمامته.
صفته: كان (عليه السلام) أسمر يميل إلى البياض لشدة نوره. قال ابن شهر آشوب في المناقب: (كان (عليه السلام) أزهر) وهو المشرق المتلألئ الأبيض.
ص: 14
عن الحسين بن خالد، عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: «وكان نقش خاتم أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) حسبي اللّه»(1).
قال الراوي: وبسط الرضا (عليه السلام) كفه وخاتم أبيه في إصبعه حتى أراني النقش(2).
وروى الكليني بسنده عن الرضا (عليه السلام) : (كان نقش خاتم أبي حسن (عليه السلام) : حسبي اللّه، وفيه وردة وهلال في أعلاه)(3).
وفي الفصول المهمة: (نقش خاتمه (عليه السلام) : الملك لله وحده)(4).
ص: 15
2
وُلد الإمام الكاظم (عليه السلام) في ضواحي المدينة المنورة في منطقة (الأبواء) وهي منزل بين مكة والمدينة، يوم الأحد في السابع من شهر صفر، سنة ثمان وعشرين ومائة، على المشهور.
وقيل: إنه (عليه السلام) ولد في شهر ذي الحجة، وربما كان هذا القول أصح.
روى البرقي في المحاسن: إن الإمام الصادق (عليه السلام) أولم الناس بعد ولادة ولده الكاظم (عليه السلام) وأطعمهم ثلاثة أيام(1).
عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) في السنة التي وُلد فيها ابنه موسى (عليه السلام) ، فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد اللّه (عليه السلام) الغداء ولأصحابه وأكثره وأطابه، فبينا نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة: أن الطلق قد ضربني وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا.
فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) فرحاً مسروراً، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنه، فقلنا: أضحك اللّه سنك وأقر عينك ما صنعت حميدة؟
ص: 16
فقال: «وهب اللّه لي غلاماً، وهو خير من برأ اللّه، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها».
قلت: جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة؟
قال: «ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتُها أن تلك أمارة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمارة الإمام (عليه السلام) من بعده».
فقلت: جعلت فداك وما تلك من علامة الإمام؟
فقال: «إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها أتى آت جد أبي وهو راقد فأتاه بكأس فيها شربة أرق من الماء وأبيض من اللبن وألين من الزبد وأحلى من الشهد وأبرد من الثلج فسقاه إياه وأمره بالجماع فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق فيها بجدي، ولما كان في الليلة التي علق فيها بأبي أتى آت جدي فسقاه كما سقى جد أبي وأمره بالجماع فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بأبي، ولما كان في الليلة التي علق بي فيها أتى آت أبي فسقاه وأمره كما أمرهم فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بي، ولما كان في الليلة التي علق فيها بابني هذا أتاني آت كما أتى جد أبي وجدي وأبي فسقاني كما سقاهم وأمرني كما أمرهم فقمت فرحاً مسروراً بعلم اللّه بما وهب لي فجامعت فعلق بابني هذا المولود فدونكم فهو واللّه صاحبكم من بعدي»(1).
وفي المحاسن: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: حججنا مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (عليه السلام) فلما نزل الأبواء وضع لنا الغداء، وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه، قال: فبينا نحن نأكل إذ أتاه
ص: 17
رسول حميدة فقال: إن حميدة تقول لك: إني قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرتني ولادتي وقد أمرتني أن لا أسبقك بابني هذا.
قال: فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) فانطلق مع الرسول، فلما انطلق قال له أصحابه: سرك اللّه وجعلنا فداك ما صنعت حميدة، قال: قد سلمها اللّه ووهب لي غلاماً وهو خير من برأ اللّه في خلقه، وقد أخبرتني حميدة ظنت أني لا أعرفه، ولقد كنت أعلم به منها.
فقلت: وما أخبرتك به حميدة؟
قال: ذكرت أنه لما سقط من بطنها سقط واضعاً يده على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمارة الوصي (عليه السلام) من بعده.
فقلت: وما هذا من علامة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلامة الوصي من بعده؟
فقال: يا أبا محمد إنه لما أن كانت الليلة التي علق فيها بابني هذا المولود أتاني آت فسقاني كما سقاهم، وأمرني بمثل الذي أمرهم به، فقمت بعلم اللّه مسروراً بمعرفتي ما يهب اللّه لي فجامعت فعلق بابني هذا المولود، فدونكم فهو واللّه صاحبكم من بعدي، إن نطفة الإمام مما أخبرتك فإذا سكنت النطفة في الرحم أربعة أشهر وأنشئ فيه الروح بعث اللّه تبارك وتعالى إليه ملكا يقال له حيوان فكتب على عضده الأيمن: {وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}(1) فإذا وقع من بطن أمه وقع واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء، فإذا وضع يده على الأرض فإن مناديا يناديه من بطنان العرش من قبل رب العزة
ص: 18
من الأفق الأعلى باسمه واسم أبيه: يا فلان بن فلان أثبت ثلاثا لعظيم خلقتك، أنت صفوتي من خلقي وموضع سري وعيبة علمي وأميني على وحيي وخليفتي في أرضي، لك ولمن تولاك أوجبت رحمتي ومنحت جناني وأحللت جواري، ثم وعزتي لأصلين من عاداك أشد عذابي وإن وسعت عليهم في الدنيا سعة رزقي، قال: فإذا انقضى صوت المنادي أجابه هو وهو واضع يده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ويقول: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ}(1)، قال: فإذا قال ذلك أعطاه اللّه العلم الأول والعلم الآخر واستحق زيارة الروح في ليلة القدر.
قلت: والروح ليس هو جبرئيل؟
قال: لا الروح خلق أعظم من جبرئيل، إن جبرئيل من الملائكة وإن الروح خلق أعظم من الملائكة أليس يقول اللّه تبارك وتعالى {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ}»(2)(3).
روى محمد بن سنان، عن يعقوب السراج، قال:
دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، وهو في المهد، فجعل يساره طويلاً، فجلست حتى فرغ فقمت إليه. فقال: «ادن إلى مولاك فسلم عليه!»
ص: 19
فدنوت فسلمت عليه، فرد عليَّ بلسان فصيح. ثم قال لي: «اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس فإنه اسم يبغضه اللّه»، وكانت ولدت لي بنت وسميتها بالحميراء!.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «انته إلى أمره ترشد»، فغيرت اسمها(1).
ثم قام الإمام الصادق (عليه السلام) بإطعام أهل المدينة في ولادة ولده موسى بن جعفر (عليه السلام) ثلاثة أيام.
يقول منهال القصاب: خرجت من مكة وأنا أريد المدينة، فمررت بالأبواء وقد وُلد لأبي عبد اللّه (عليه السلام) فسبقته إلى المدينة ودخل بعدي بيوم، فأطعم الناس ثلاثاً فكنت آكل فيمن يأكل، فما آكل شيئا إلى الغد حتى أعود فآكل، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتى أرتفق(2) ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد(3).
ص: 20
3
النصوص على إمامة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كثيرة، وهي بالإضافة إلى كراماته ومعاجزه، دليل على أنه (عليه السلام) حجة اللّه على الأرض، وهو سابع الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) .
قال الإمام الصادق (عليه السلام) حين ولادة ولده موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث: «... هذا المولود فدونكم، فهو واللّه صاحبكم من بعدي»(1).
* وعن زكريا بن آدم عن داود بن كثير قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : جعلت فداك وقدّمني للموت قبلك، إن كان كون فإلى من؟ قال (عليه السلام) : «إلى ابني موسى»، فكان ذلك الكون فو اللّه ما شككت في موسى (عليه السلام) طرفة عين قط(2).
* وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، قال: لقينا أبا عبد اللّه (عليه السلام) في طريق مكة ونحن جماعة، فقلت له: بأبي أنت وأمي أنتم الأئمة المطهرون والموت لا يعرى منه أحد، فأحدث إليَّ شيئاً ألقيه إلى من يخلفني، فقال لي: «نعم هؤلاء ولدي وهذا سيدهم - وأشار إلى ابنه موسى (عليه السلام) - وفيه علم الحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق وحسن الجوار
ص: 21
وهو باب من أبواب اللّه عزَّ وجل، وفيه أخرى هي خير من هذا كله»، فقال له أبي: وما هي بأبي أنت وأمي؟ قال: «يخرج اللّه تعالى منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكمها خير مولود وخيرنا، شي ء يحقن اللّه به الدماء ويصلح به ذات البين ويلم به الشعث ويشعب به الصدع ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل به القطر ويأتمر له العباد، خير كهل وخير ناشئ، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه، قوله حكم، وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه». قال فقال أبي: بأبي أنت وأمي فيكون له ولد بعده؟ قال: «نعم»، ثم قطع الكلام(1).
* وعن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر؟ قال: «صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب»، وأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه بهمة عناق مكية(2) ويقول لها: «اسجدي لربك»، فأخذه أبو عبد اللّه (عليه السلام) وضمه إليه وقال: «بأبي أنت وأمي من لا يلهو ولا يلعب»(3).
* وعن المفضل بن عمر قال: دخلت على سيدي جعفر بن محمد (عليه السلام) فقلت: يا سيدي لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك، فقال لي: «يا مفضل الإمام من بعدي ابني موسى، والخلف المأمول المنتظر م ح م د بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى»(4).
* وعن إبراهيم الكرخي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فإني لجالس
ص: 22
عنده إذ دخل أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) - وهو غلام - فقمت إليه فقبلته وجلست. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا إبراهيم، أما إنه صاحبك من بعدي، أما ليهلكن فيه قوم ويسعد آخرون، فلعن اللّه قاتله وضاعف على روحه العذاب، أما ليخرجن اللّه من صلبه خير أهل الأرض في زمانه، سمي جده، ووارث علمه وأحكامه وفضائله، معدن الإمامة، ورأس الحكمة، يقتله جبار بني فلان بعد عجائب طريفة حسداً له، ولكن اللّه بالغ أمره ولو كره المشركون، يخرج اللّه من صلبه تمام اثني عشر مهدياً، اختصهم اللّه بكرامته، وأحلهم دار قدسه، المقر بالثاني عشر منهم كالشاهر سيفه بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يذب عنه». قال: فدخل رجل من موالي بني أمية فانقطع الكلام، فعدت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) إحدى عشرة مرة أريد منه أن يستتم الكلام فما قدرت على ذلك، فلما كان قابل السنة الثانية دخلت عليه وهو جالس. فقال: «يا إبراهيم، هو المفرج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد، وبلاء طويل، وجزع وخوف، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان، حسبك يا إبراهيم»، فما رجعت بشي ء أسر من هذا لقلبي، ولا أقر لعيني(1).
* وعن عيسى بن عبد اللّه بن عمرو بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، عن خاله الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: قلت له: إن كان كون - ولا أراني اللّه يومك - فبمن آتم؟ فأومأ إلى موسى (عليه السلام) . فقلت له: فإن مضى فإلى من؟ قال: «فإلى ولده»، قلت: فإن مضى ولده وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن آتم؟. قال: «بولده ثم هكذا أبدا»ً، فقلت: فإن أنا لم أعرفه ولم أعرف موضعه فما أصنع؟، قال تقول: «اللّهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام
ص: 23
الماضي فإن ذلك يجزيك»(1).
* وعن سليمان بن خالد، قال: دعا أبو عبد اللّه (عليه السلام) أبا الحسن (عليه السلام) يوماً ونحن عنده. فقال لنا: «عليكم بهذا بعدي، فهو واللّه صاحبكم بعدي»(2).
* وعن إسحاق بن جعفر الصادق (عليه السلام) ، قال: كنت عند أبي يوماً فسأله علي بن عمر بن علي. فقال: جعلت فداك إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال: «إلى صاحب هذين الثوبين الأصفرين والغديرتين، وهو الطالع عليك من الباب»، فما لبثنا أن طلع علينا كفان آخذتان بالبابين حتى انفتحتا، ودخل علينا أبو إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وهو صبي وعليه ثوبان أصفران(3).
* وعن علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه: «استوصوا بموسى ابني خيراً؛ فإنه أفضل ولدي ومن أخلف من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجة لله عزَّ وجل على كافة خلقه من بعدي»(4).
وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى (عليه السلام) ، والانقطاع إليه والتوفر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات رواها سماعاً منه.
* وعن زرارة بن أعين، أنه قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وعند يمينه سيد ولده موسى (عليه السلام) ، وقدامه مرقد مغطى. فقال لي: «يا زرارة، جئني بداود
ص: 24
الرقي وحمران وأبي بصير». ودخل عليه المفضل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم تزل الناس يدخلون واحداً أثر واحد، حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً، فلما حشد المجلس قال: «يا داود، اكشف لي عن وجه إسماعيل». فكشفت عن وجهه، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا داود، أ حي هو أم ميت؟». قال داود: يا مولاي هو ميت. فجعل يعرض ذلك على رجل رجل حتى أتى على آخر من في المجلس، وكل يقول: هو ميت يا مولاي. فقال: «اللّهم اشهد»، ثم أمر بغسله وحنوطه وإدراجه في أثوابه، فلما فرغ منه قال للمفضل: «يا مفضل، احسر عن وجهه». فحسر عن وجهه، فقال: «أ حي هو أم ميت؟». فقال: ميت. قال: «اللّهم اشهد عليهم». ثم حمل إلى قبره، فلما وضع في لحده. قال: «يا مفضل، اكشف عن وجهه - وقال للجماعة - أ حي هو أم ميت؟». قلنا له: «ميت». فقال: «اللّهم اشهد واشهدوا؛ فإنه سيرتاب المبطلون يريدون إطفاء نور اللّه بأفواههم - ثم أومأ إلى موسى - واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ... ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ». ثم حثوا عليه التراب ثم أعاد علينا القول فقال: «الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو؟». قلنا: إسماعيل. قال: «اللّهم اشهد». ثم أخذ بيد موسى (عليه السلام) وقال: «هو حق، والحق معه ومنه إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها»(1).
* وعن الوليد بن صبيح قال: كان بيني وبين رجل يقال له: عبد الجليل صداقة في قدم. فقال لي: إن أبا عبد اللّه (عليه السلام) أوصى إلى إسماعيل، قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن عبد الجليل حدثني بأنك أوصيت إلى إسماعيل في
ص: 25
حياته قبل موته بثلاث سنين؟. فقال: «يا وليد، لا واللّه فإن كنت فعلت فإلى فلان»، يعني أبا الحسن موسى (عليه السلام) وسماه(1).
* وعن الفيض بن المختار - في حديث له طويل - عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في أمر أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) ، حتى قال له: «هو صاحبك الذي سألت عنه فقم فأقر له بحقه»، فقمت حتى قبلت رأسه ويده ودعوت اللّه له. قال أبو عبد اللّه: «أما إنه لم يؤذن له في ذلك».
فقلت: جعلت فداك فأخبر به أحداً؟. فقال: «نعم أهلك وولدك ورفقاءك»، وكان معي أهلي وولدي، وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلما أخبرتهم حمدوا اللّه على ذلك، وقال يونس: لا واللّه حتى نسمع ذلك منه - وكانت به عجلة - فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب سمعت أبا عبد اللّه يقول له - وقد سبقني -: «يا يونس، الأمر كما قال لك فيض زرقه». قال: فقلت: قد فعلت(2).
والزرقة بالنبطية: أي خذه إليك.
* وعن المفضل بن عمر، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فدخل أبو إبراهيم موسى (عليه السلام) وهو غلام. فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «استوص به، وضع أمره عند من تثق به من أصحابك»(3).
* وعن سلمة بن محرز، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن رجلاً من العجلية قال لي: كم عسى أن يبقى لكم هذا الشيخ، إنما هو سنة أو سنتين حتى يهلك ثم تصيرون ليس لكم أحد تنظرون إليه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أ لا قلت له: هذا
ص: 26
موسى بن جعفر، قد أدرك ما يدرك الرجال، وقد اشترينا له جارية تباح له، فكأنك به إن شاء اللّه وقد ولد له فقيه خلف»(1).
* وعن نصر بن قابوس، قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) : إني سألت أباك (عليه السلام) من الذي يكون بعدك، فأخبرني أنك أنت هو(2).
* وعن مسمع كردين، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: دخلت عليه وعنده إسماعيل - قال - ونحن إذ ذاك نأتم به بعد أبيه - فذكر في حديث طويل - أنه سمع رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) خلاف ما ظن فيه. قال: فأتيت رجلين من أهل الكوفة كانا يقولان به فأخبرتهما. فقال واحد منهما: سمعت وأطعت ورضيت وسلمت. وقال الآخر - وأهوى بيده إلى جيبه فشقه - ثم قال: لا واللّه لا سمعت ولا أطعت ولا رضيت حتى أسمعه منه. قال: ثم خرج متوجهاً إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال - وتبعته، فلما كنا بالباب فاستأذنا، فأذن لي فدخلت قبله، ثم أذن له فدخل، فلما دخل قال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا فلان، أ يريد كل امرئ منكم أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً، إن الذي أخبرك به فلان الحق». قال: جعلت فداك، إني أشتهي أن أسمعه منك. قال: «إن فلاناً إمامك وصاحبك من بعدي - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - فلا يدعيها فيما بيني وبينه إلا كالب مفتر». فالتفت إليَّ الكوفي - وكان يحسن كلام النبطية، وكان صاحب قبالات - فقال لي: درفه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن درفه بالنبطية: خذها، أجل فخذها»، فخرجنا من عنده(3).
* وعن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سألته وطلبت وقضيت إليه أن
ص: 27
يجعل هذا الأمر إلى إسماعيل، فأبى اللّه إلا أن يجعله لأبي الحسن موسى (عليه السلام) (1).
* وعن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد اللّه، فذكروا الأوصياء وذكر إسماعيل. فقال: «لا واللّه - يا أبا محمد - ما ذاك إلينا، وما هو إلا إلى اللّه عزَّ وجل ينزل واحد بعد واحد»(2).
* وعن الفيض، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : جعلت فداك، ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أواجرها آخرين على أن ما أخرج اللّه منها من شي ء كان لي من ذلك النصف أو الثلث أو أقل من ذلك أو أكثر؟. قال: «لا بأس». قال له إسماعيل ابنه: يا أبة لم تحفظ. قال: فقال: «يا بني، أوليس كذلك أعامل أكرتي، إني كثيراً ما أقول لك الزمني فلا تفعل». فقام إسماعيل فخرج. فقلت: جعلت فداك، وما على إسماعيل أن لا يلزمك إذا كنت أفضيت إليه الأشياء من بعدك كما أفضيت إليك بعد أبيك؟. قال: فقال: «يا فيض، إن إسماعيل ليس كأنا من أبي». قلت: جعلت فداك، فقد كنا لا نشك أن الرحال تنحط إليه من بعدك وقد قلت فيه ما قلت، فإن كان ما نخاف - وأسأل اللّه العافية - فإلى من؟. قال: فأمسك عني، فقبلت ركبته وقلت: ارحم سيدي، فإنما هي النار، وإني واللّه لو طمعت أن أموت قبلك لما باليت، ولكني أخاف البقاء بعدك. فقال لي: «مكانك». ثم قام إلى ستر في البيت فرفعه فدخل، ثم مكث قليلاً ثم صاح: «يا فيض، ادخل». فدخلت فإذا هو في المسجد قد صلى فيه، وانحرف عن القبلة. فجلست بين يديه، فدخل إليه أبو الحسن (عليه السلام) - وهو يومئذ خماسي - وفي يده درة، فأقعده على فخذه. فقال له: «بأبي أنت وأمي، ما هذه المخفقة
ص: 28
بيدك؟».
قال: «مررت بعلي أخي وهي في يده يضرب بهيمة، فانتزعتها من يده».
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا فيض، إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضيت إليه صحف إبراهيم وموسى (عليهما السلام) ، فائتمن عليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) ، وائتمن عليها علي (عليه السلام) الحسن (عليه السلام) ، وائتمن عليها الحسن (عليه السلام) الحسين (عليه السلام) ، وائتمن عليها الحسين (عليه السلام) علي بن الحسين (عليه السلام) ، وائتمن عليها علي بن الحسين (عليه السلام) محمد بن علي (عليه السلام) ، وائتمنني عليها أبي فكانت عندي، ولقد ائتمنت عليها ابني هذا على حداثته وهي عنده». فعرفت ما أراد، فقلت له: جعلت فداك زدني؟.
قال: «يا فيض، إن أبي كان إذا أراد أن لا ترد له دعوة أقعدني على يمينه فدعا، وأمنت فلا ترد له دعوة، وكذلك أصنع بابني هذا، ولقد ذكرناك أمس بالموقف فذكرناك بخير». فقلت له: يا سيدي زدني؟. قال: «يا فيض، إن أبي إذا كان سافر وأنا معه فنعس وهو على راحلته، أدنيت راحلتي من راحلته فوسدته ذراعي الميل والميلين حتى يقضي وطره من النوم، وكذلك يصنع بي ابني هذا». قال: قلت: جعلت فداك زدني؟. قال: «إني لأجد بابني هذا ما كان يجد يعقوب بيوسف». قلت: يا سيدي زدني؟. قال: «هو صاحبك الذي سألت عنه فأقر له بحقه». فقمت حتى قبلت رأسه، ودعوت اللّه له. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أما إنه لم يؤذن له في أمرك منه». قلت: جعلت فداك، أخبر به أحداً؟. قال: «نعم، أهلك وولدك ورفقاءك». وكان معي أهلي وولدي ويونس بن ظبيان من رفقائي، فلما أخبرتهم حمدوا اللّه على ذلك كثيراً. فقال يونس: لا واللّه حتى أسمع ذلك منه. وكانت فيه عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) - وقد سبقني - فقال الأمر: «كما قال لك فيض». قال: سمعت
ص: 29
وأطعت(1).
أقول: هذا التصرف من إسماعيل (عليه السلام) كان لإثبات أن الإمامة من بعد أبيه لا تكون عنده بل عند موسى بن جعفر (عليه السلام) .
* وعن معاذ بن كثير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن الوصية نزلت من السماء على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاباً، لم ينزل على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاب مختوم إلا الوصية. فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمد، هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك.
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أي أهل بيتي يا جبرئيل؟.
قال: نجيب اللّه منهم وذريته؛ ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم (عليه السلام) ، وميراثه لعلي (عليه السلام) وذريتك من صلبه.
فقال: وكان عليها خواتيم - قال: - ففتح علي (عليه السلام) الخاتم الأول ومضى لما فيها، ثم فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها، فلما توفي الحسن (عليه السلام) ومضى، فتح الحسين (عليه السلام) الخاتم الثالث، فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل، وأخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلا معك. - قال - ففعل (عليه السلام) .
فلما مضى دفعها إلى علي بن الحسين (عليه السلام) قبل ذلك، ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن اصمت وأطرق لما حجب العلم، فلما توفي ومضى دفعها إلى محمد بن علي (عليه السلام) ، ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أن فسر كتاب اللّه وصدق أباك، وورث ابنك، واصطنع الأمة، وقم بحق اللّه عزَّ وجل، وقل الحق في الخوف والأمن، ولا تخش إلا اللّه ففعل، ثم دفعها إلى الذي يليه». قال: قلت له: جعلت فداك فأنت هو؟. قال: فقال: «ما بي إلا أن تذهب - يا معاذ - فتروي
ص: 30
عليَّ». قال: فقلت: أسأل اللّه الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات. قال: «قد فعل اللّه ذلك يا معاذ». قال: فقلت: فمن هو جعلت فداك؟. قال: «هذا الراقد»، فأشار بيده إلى العبد الصالح وهو راقد(1).
* وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: دخلت على جعفر بن محمد (عليه السلام) في منزله - وهو في بيت كذا من داره - في مسجد له وهو يدعو، وعلى يمينه موسى بن جعفر (عليه السلام) يؤمن على دعائه. فقلت له: جعلني اللّه فداك، قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن ولي الأمر بعدك؟. قال: «يا عبد الرحمن، إن موسى قد لبس الدرع فاستوت عليه». فقلت له: لا أحتاج بعدها إلى شي ء(2).
* وروى عبد الأعلى، عن الفيض بن المختار، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟. قال: فدخل أبو إبراهيم وهو يومئذ غلام فقال: «هذا صاحبكم فتمسك به»(3).
* وعن ابن حازم، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : بأبي أنت وأمي إن الأنفس يغدى عليها ويراح فإذا كان ذلك فمن؟. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إذا كان ذلك فهذا صاحبكم»، وضرب بيده على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسي، وعبد اللّه بن جعفر جالس معنا(4).
وممن روى صريح النص بالإمامة من أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) على ابنه أبي الحسن موسى (عليه السلام) من شيوخ أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) وخاصته وبطانته وثقاته
ص: 31
الفقهاء الصالحين (رحمة اللّه عليهم أجمعين): المفضل بن عمر الجعفي، ومعاذ بن كثير، وعبد الرحمن بن الحجاج، والفيض بن المختار، ويعقوب السراج، وسليمان بن خالد، وصفوان الجمال، وغيرهم.
وقد روى ذلك من إخوته: إسحاق، وعلي ابنا جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان، إلى غيرها من الروايات الكثيرة المتواترة.
ص: 32
4
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أعلم أهل زمانه، فلم يصل إلى مرتبة علمه أحد.
وقد روى عنه العلماء في مختلف فنون العلم ما لا يمكن حصره، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة، وكان يعرف بين الرواة بالعالم.
قال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه(1).
وقال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) - في حق ولده موسى بن جعفر (عليه السلام) -: «فيه العلم والحكم والفهم والسخاء، والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم»(2).
وقد اعترف هارون بعلم الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث قال في قصة مفصلة:
... يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إليَّ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب اللّه، فأنتم
ص: 33
تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شي ء ألف ولا واو إلاّ وتأويله عندكم واحتججتم بقوله عزَّ وجل: {مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ}(1) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم(2).
عن هشام بن الحكم، قال: قال موسى بن جعفر (عليه السلام) لأبرهة النصراني: «كيف علمك بكتابك؟». قال: أنا عالم به وبتأويله. قال: فابتدأ موسى (عليه السلام) يقرأ الإنجيل!. فقال أبرهة: والمسيح لقد كان يقرأها هكذا، وما قرأ هكذا إلاّ المسيح، وأنا كنت أطلبه منذ خمسين سنة، فأسلم على يديه(3).
إن قلت: كيف كان يعرف أبرهة قراءة المسيح (عليه السلام) ؟
قلت: يمكن معرفة ذلك عبر التواريخ المنقولة إليه التي كان يطمئن إليها، كما أننا نعرف ما يرتبط بسيرة الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) كذلك أو بالتواتر أو ما أشبه، مثلاً ورد في سيرة الإمام علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) أنه لما كان يقرأ القرآن ويمر السقاءون على منزله يقفون ليستمعوا قراءة الإمام (عليه السلام) ، الحديث(4).
وكذلك بالنسبة إلى قراءة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كان يقرأ القرآن منتصف الليل، فيأتي كبار المشركين خفية ليستمعوا إلى القرآن وحسن قراءة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (5)..
ص: 34
دخل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بعض قرى الشام متنكراً هارباً، فوقع في غار وفيه راهب يعظ في كل سنة يوماً، فلما رآه الراهب دخله منه (عليه السلام) هيبة، فقال: يا هذا أنت غريب؟.
قال (عليه السلام) : «نعم».
قال: منا أو علينا؟.
قال (عليه السلام) : «لست منكم».
قال: أنت من الأمة المرحومة؟.
قال: «نعم».
قال: أ فمن علمائهم أنت أم من جهالهم؟.
قال (عليه السلام) : «لست من جهالهم».
فقال: كيف طوبى أصلها في دار عيسى وعندكم في دار محمد وأغصانها في كل دار؟.
فقال (عليه السلام) : «الشمس قد وصل ضوؤها إلى كل مكان وكل موضع، وهي في السماء».
قال: وفي الجنة لا ينفد طعامها وإن أكلوا منه ولا ينقص منه شي ء؟.
قال: «السراج في الدنيا يقتبس منه، ولا ينقص منه شيء».
قال: وفي الجنة ظل ممدود؟.
فقال: «الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها ظل ممدود، قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}(1)».
ص: 35
قال: ما يؤكل ويشرب في الجنة لا يكون بولاً ولا غائطاً؟.
قال (عليه السلام) : «الجنين في بطن أمه».
قال: أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟.
قال (عليه السلام) : «إذا احتاج الإنسان إلى شي ء عرفت أعضاؤه ذلك ويفعلون بمراده من غير أمر».
قال: مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟.
قال (عليه السلام) : «مفتاح الجنة لسان العبد: لا إله إلا اللّه».
قال: صدقت، وأسلم والجماعة معه(1).
قال أبو حنيفة: رأيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو صغير السن في دهليز أبيه. فقلت: أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك؟.
فنظر إليَّ ثم قال: «يتوارى خلف الجدار، ويتوقى أعين الجار، ويتجنب شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، وأفنية الدور، والطرق النافذة، والمساجد، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ويرفع ويضع بعد ذلك حيث شاء».
قال: فلما سمعت هذا القول منه نبل في عيني وعظم في قلبي، فقلت له: جعلت فداك ممن المعصية؟.
فنظر إليَّ ثم قال: «اجلس حتى أخبرك»، فجلست فقال: «إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعا، فإن كانت من اللّه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت منهما فهو شريكه
ص: 36
والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده، فعليه وقع الأمر وإليه توجه النهي، وله حق الثواب والعقاب، ووجبت الجنة والنار».
فقلت: {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ} الآية(1)(2).
وهذا يعني أن آل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من شجرة واحدة، وعلمهم لدُني وليس باكتسابي كسائر الناس، نعم قد يكتسب المعصوم من المعصوم قبله.
وفي تحف العقول: سأله رجل عن الجواد؟ فقال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «إن كنت تسأل عن المخلوقين، فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه، والبخيل من بخل بما افترض اللّه، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع؛ لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك»(3).
قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «دخلت ذات يوم من المكتب ومعي لوحي فأجلسني أبي بين يديه وقال: يا بني اكتب: تنح عن القبيح ولا ترده، ثم قال أجزه، فقلت: ومن أوليته حسناً فزده.
ثم قال: ستلقى من عدوك كل كيد، فقلت: إذا كاد العدو فلا تكده، قال: فقال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ}»(4)(5).
ص: 37
روي أنه تزوج بعض أصحابنا جارية معصراً لم تطمث، فلما افتضها سال الدم، فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام، قال الراوي: فأروها القوابل ومن ظنوا أنه يبصر ذلك من النساء فاختلفن. فقال بعض: هذا من دم الحيض، وقال بعض: هو من دم العذرة. فسألوا عن ذلك فقهاءهم مثل أبي حنيفة وغيره من فقهائهم، فقالوا: هذا شي ء قد أشكل، والصلاة فريضة واجبة فلتتوضأ ولتصل، وليمسك عنها زوجها حتى ترى البياض، فإن كان دم الحيض لم تضرها الصلاة، وإن كان دم العذرة كانت قد أدت الفريضة، ففعلت الجارية ذلك. وحججت في تلك السنة، فلما صرنا بمنى بعثت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، إن لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعاً، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيك فأسألك عنها. فبعث إليَّ إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فأقبل إن شاء اللّه. قال خلف: فرعيت الليل حتى إذا رأيت الناس قد قل اختلافهم بمنى توجهت إلى مضربه، فلما كنت قريباً إذا أنا بأسود قاعد على الطريق. فقال: من الرجل؟. فقلت: رجل من الحاج. فقال: ما اسمك؟.
قلت: خلف بن حماد. فقال: ادخل بغير إذن، فقد أمرني أن أقعد هاهنا، فإذا أتيت أذنت لك. فدخلت فسلمت، فرد عليَّ السلام وهو جالس على فراشه وحده ما في الفسطاط غيره. فلما صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله. فقلت له: إن رجلاً من مواليك تزوج جارية معصراً لم تطمث، فلما افتضها فافترعها سال الدم، فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام، وإن القوابل اختلفن في ذلك، فقال بعضهن: دم الحيض، وقال بعضهن: دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟.
ص: 38
قال: «فلتتق اللّه؛ فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها، وإن كان من العذرة فلتتق اللّه ولتتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها إن أحب ذلك».
فقلت له: وكيف لهم أن يعلموا مما هي حتى يفعلوا ما ينبغي.
قال: فالتفت يميناً وشمالاً في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد - قال - ثم نهد(1) إليَّ فقال: «يا خلف سر اللّه فلا تذيعوه، ولا تعلموا هذا الخلق أصول دين اللّه، بل ارضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال» قال ثم عقد بيده اليسرى تسعين، ثم قال: تستدخل القطنة ثم تدعها ملياً ثم تخرجها إخراجاً رفيقاً، فإن كان الدم مطوقاً في القطنة فهو من العذرة، وإن كان مستنقعاً في القطنة فهو من الحيض». قال خلف: فاستخفني الفرح فبكيت، فلما سكن بكائي. فقال: «ما أبكاك؟». قلت: جعلت فداك، من كان يحسن هذا غيرك. قال: فرفع يده إلى السماء وقال: «واللّه، إني ما أخبرك إلا عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، عن جبرئيل، عن اللّه عزَّ وجل»(2).
عن ربيع بن عبد الرحمن، قال: كان واللّه موسى بن جعفر (عليه السلام) من المتوسمين، يعلم من يقف عليه بعد موته ويجحد الإمام بعده إمامته، فكان يكظم غيظه عليهم ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم فسمي الكاظم لذلك(3).
ص: 39
وعن حماد الصائغ، قال: سمعت المفضل بن عمر يسأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) هل يفرض اللّه طاعة عبد ثم يكنه خبر السماء؟. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «اللّه أجل وأكرم وأرأف بعباده وأرحم من أن يفرض طاعة عبد ثم يكنه خبر السماء صباحاً ومساءً».
قال: ثم طلع أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يسرك أن تنظر إلى صاحب كتاب علي؟». فقال له المفضل: وأي شي ء يسرني إذاً أعظم من ذلك. فقال: «هو هذا صاحب كتاب علي، الكتاب المكنون الذي قال اللّه عزَّ وجل: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ}(1)»(2).
وحدثنا أبو عاصم ورواه عن الرضا (عليه السلام) أن موسى بن جعفر (عليه السلام) تكلم يوماً بين يدي أبيه (عليه السلام) فأحسن. فقال له: «يا بني، الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء»(3).
عن عيسى شلقان، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب. فقال لي - مبتدئاً قبل أن أجلس -: «يا عيسى، ما منعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد». قال عيسى: فذهبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) ، وهو
ص: 40
قاعد في الكتاب، وعلى شفتيه أثر المداد. فقال لي - مبتدئاً -: «يا عيسى، إن اللّه تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلم يتحولوا عنها أبداً، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً، وأعار قوماً الإيمان زماناً ثم يسلبهم إياه. وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان، ثم سلبه اللّه تعالى». فضممته إليَّ وقبلت بين عينيه، ثم قلت: بأبي أنت وأمي {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1)، ثم رجعت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: «ما صنعت يا عيسى». قلت له: بأبي أنت وأمي أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما أردت أن أسأله عنه، فعلمت واللّه عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر. فقال: «يا عيسى، إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم»، ثم أخرجه ذلك اليوم من الكتاب، فعلمت ذلك اليوم أنه صاحب هذا الأمر(2).
روي أنه اجتمعت عصابة الشيعة بنيسابور، واختاروا محمد بن علي النيسابوري، فدفعوا إليه ثلاثين ألف دينار، وخمسين ألف درهم، وشقة من الثياب، وأتت شطيطة بدرهم صحيح، وشقة خام من غزل يدها تساوي أربعة دراهم. فقالت: إن اللّه لا يستحي من الحق، قال: فثنيت درهمها، وجاءوا بجزء فيه مسائل مل ء سبعين ورقة في كل ورقة مسألة وباقي الورق بياض ليكتب الجواب تحتها، وقد حزمت كل ورقتين بثلاث حزم وختم عليها بثلاث خواتيم على كل حزام خاتم، وقالوا: ادفع إلى الإمام ليلاً وخذ منه في غد، فإن وجدت
ص: 41
الجزء صحيح الخواتيم، فاكسر منها خمسة وانظر هل أجاب عن المسائل، فإن لم تنكسر الخواتيم فهو الإمام المستحق للمال، فادفع إليه وإلاّ فرد إلينا أموالنا.
دخل على الأفطح عبد اللّه بن جعفر وجربه وخرج عنه قائلاً: رب اهدني إلى سواء الصراط، قال: فبينما أنا واقف إذا أنا بغلام يقول: أجب من تريد، فأتى بي دار موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فلما رآني قال لي: «لم تقنط يا أبا جعفر ولم تفزع إلى اليهود والنصارى، إليَّ فأنا حجة اللّه ووليه، ألم يعرفك أبو حمزة على باب مسجد جدي، وقد أجبتك عما في الجزء من المسائل بجميع ما تحتاج إليه منذ أمس، فجئني به وبدرهم شطيطة الذي وزنه درهم ودانقان الذي في الكيس الذي فيه أربعمائة درهم للوازوري، والشقة التي في رزمة الأخوين البلخيين».
قال: فطار عقلي من مقاله، وأتيت بما أمرني ووضعت ذلك قِبَله، فأخذ درهم شطيطة وإزارها ثم استقبلني وقال: «إن اللّه لا يستحيي من الحق، يا أبا جعفر أبلغ شطيطة سلامي، وأعطها هذه الصرة - وكانت أربعين درهماً ثم قال - وأهديت لها شقة من أكفاني، من قطن قريتنا صيدا قرية فاطمة (عليها السلام) ، وغزل أختي حليمة ابنة أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) - ثم قال - وقل لها ستعيشين تسعة عشر يوماً من وصول أبي جعفر، ووصول الشقة والدراهم، فأنفقي على نفسك منها ستة عشر درهماً واجعلي أربعاً وعشرين صدقة عنكِ، وما يلزم عنكِ، وأنا أتولى الصلاة عليك، فإذا رأيتني يا أبا جعفر فاكتم عليَّ؛ فإنه أبقى لنفسك - ثم قال - واردد الأموال إلى أصحابها، وافكك هذه الخواتيم عن الجزء، وانظر هل أجبناك عن المسائل أم لا من قبل أن تجيئنا بالجزء». فوجدت الخواتيم صحيحة، ففتحت منها واحداً من وسطها فوجدت فيه مكتوباً: ما يقول العالم (عليه السلام) في رجل قال: نذرت لله لأعتقن كل مملوك كان في رقي قديماً، وكان له
ص: 42
جماعة من العبيد؟، الجواب بخطه: «ليعتقن من كان في ملكه من قبل ستة أشهر، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى {والْقَمَرَ قَدَّرْناهُ} الآية، والحديث من ليس له ستة أشهر»، وفككت الختام الثاني فوجدت ما تحته: ما يقول العالم: في رجل قال: واللّه لأتصدقن بمال كثير فما يتصدق؟. الجواب تحته بخطه: «إن كان الذي حلف من أرباب شياه فليتصدق بأربع وثمانين شاة، وإن كان من أصحاب النعم فليتصدق بأربع وثمانين بعيراً، وإن كان من أرباب الدراهم فليتصدق بأربع وثمانين درهماً، والدليل عليه قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ}(1)، فعددت مواطن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل نزول تلك الآية، فكانت أربعة وثمانين موطناً»، فكسرت الختم الثالث فوجدت تحته مكتوباً: ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميت وقطع رأس الميت وأخذ الكفن؟. الجواب بخطه: «يقطع السارق لأخذ الكفن من وراء الحرز، ويلزم مائة دينار لقطع رأس الميت؛ لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح، فجعلنا في النطفة عشرين ديناراً»، المسألة إلى آخرها.
فلما وافى خراسان وجد الذين رد عليهم أموالهم ارتدوا إلى الفطحية، وشطيطة على الحق، فبلغها سلامه وأعطاها صرته وشقته، فعاشت كما قال (عليه السلام) ، فلما توفيت شطيطة جاء الإمام على بعير له، فلما فرغ من تجهيزها ركب بعيره وانثنى نحو البرية، وقال: «عرف أصحابك وأقرئهم مني السلام وقل لهم: إني ومن يجري مجراي من الأئمة لابد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم فاتقوا اللّه في أنفسكم»(2).
ص: 43
علي بن أبي حمزة، قال: كنا بمكة سنة من السنين، فأصاب الناس تلك السنة صاعقة كبيرة حتى مات من ذلك خلق كثير، فدخلت على أبي الحسن (عليه السلام) . فقال - مبتدئا من غير أن أسأله -: «يا علي، ينبغي للغريق والمصعوق أن يتربص به ثلاثاً إلى أن يجيء منه ريح يدل على موته». قلت له: جعلت فداك، كأنك تخبرني إذ دفن ناس كثير أحياء. قال: «نعم - يا علي - قد دفن ناس كثير أحياء ما ماتوا إلا في قبورهم»(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: أرسلني أبو الحسن (عليه السلام) إلى رجل قدامه طبق يبيع بفلس فلس، وقال: «أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له: يقول لك أبو الحسن انتفع بهذه الدراهم؛ فإنها تكفيك حتى تموت». فلما أعطيته بكى، فقلت: وما يبكيك؟. قال: ولم لا أبكي وقد نعيت إليَّ نفسي. فقلت: وما عند اللّه خير مما أنت فيه، فسكت وقال: من أنت يا عبد اللّه؟. فقلت: علي بن أبي حمزة. قال: واللّه لهكذا قال لي سيدي ومولاي إني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي. قال علي: فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض، فقلت: أوصني بما أحببت أنفذه من مالي. قال: إذا أنا مت فزوج ابنتي من رجل دين، ثم بع داري وادفع ثمنها إلى أبي الحسن، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة. قال: فلما دفنته زوجت ابنته من رجل مؤمن، وبعت داره وأتيت بثمنها إلى أبي الحسن (عليه السلام) فزكاه وترحم عليه، وقال: «رد هذه الدراهم
ص: 44
فادفعها إلى ابنته»(1).
عن إسحاق بن منصور، عن أبيه، قال: سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول ناعياً إلى رجل من الشيعة نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته! فالتفت إليَّ فقال: «اصنع ما أنت صانع، فإن عمرك قد فني وقد بقي منه دون سنتين، وكذلك أخوك ولا يمكث بعدك إلا شهراً واحداً حتى يموت، وكذلك عامة أهل بيتك، ويتشتت كلهم ويتفرق جمعهم، ويشمت بهم أعداؤهم، وهم يصيرون رحمة لإخوانهم، أ كان هذا في صدرك». فقلت: أستغفر اللّه مما في صدري، فلم يستكمل منصور سنتين حتى مات، ومات بعده بشهر أخوه، ومات عامة أهل بيته، وأفلس بقيتهم وتفرقوا حتى احتاج من بقي منهم إلى الصدقة(2).
روي أن إسحاق بن عمار، قال: لما حبس هارون أبا الحسن موسى (عليه السلام) دخل عليه أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة. فقال أحدهما للآخر: نحن على أحد الأمرين إما أن نساويه أو نشكله، فجلسا بين يديه. فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك فقال: إن نوبتي قد انقضت، وأنا على الانصراف، فإن كان لك حاجة أمرتني حتى آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة. فقال: «ما لي حاجة». فلما أن خرج قال لأبي يوسف: «ما أعجب هذا!
ص: 45
يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع، وهو ميت في هذه الليلة». فقاما فقال أحدهما للآخر: إن جئنا لنسأله عن الفرض والسنة، وهو الآن جاء بشي ء آخر، كأنه من علم الغيب، ثم بعثا برجل مع الرجل. فقالا: اذهب حتى تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة، وتأتينا بخبره من الغد. فمضى الرجل فنام في مسجد في باب داره، فلما أصبح سمع الواعية، ورأى الناس يدخلون داره. فقال: ما هذا؟. قالوا: قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة. فانصرف إلى أبي يوسف ومحمد وأخبرهما الخبر، فأتيا أبا الحسن (عليه السلام) فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة؟. قال: «من الباب الذي أخبر بعلمه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) ». فلما رد عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً(1).
روى واضح، عن الرضا (عليه السلام) ، قال: «قال أبي موسى (عليه السلام) للحسين بن أبي العلاء: اشتر لي جارية نوبية. فقال الحسين: أعرف واللّه جارية نوبية نفيسة أحسن ما رأيت من النوبة، فلولا خصلة لكانت من يأتيك. فقال: وما تلك الخصلة؟. قال: لا تعرف كلامك وأنت لا تعرف كلامها. فتبسم ثم قال: اذهب حتى تشتريها. قال: فلما دخلت بها إليه قال لها بلغتها: ما اسمكِ؟. قالت: مونسة. قال: أنت لعمري مونسة، قد كان لكِ اسم غير هذا، كان اسمكِ قبل هذا حبيبة. قالت: صدقت. ثم قال: يا ابن أبي العلاء إنها ستلد لي غلاماً لا يكون في ولدي أسخى منه ولا أشجع ولا أعبد منه. قال: فما تسميه حتى
ص: 46
أعرفه؟. قال: اسمه إبراهيم. فقال علي بن أبي حمزة: كنت مع موسى (عليه السلام) بمنى إذ أتاني رسوله فقال: الحق بي بالثعلبية. فلحقت به ومعه عياله وعمران خادمه. فقال: أيما أحب إليك المقام هاهنا أو تلحق بمكة؟. قلت: أحبهما إليَّ ما أحببته. قال: مكة خير لك. ثم بعثني إلى داره بمكة، وأتيته وقد صلى المغرب فدخلت. فقال: اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس. فخلعت نعلي وجلست معه، فأتيت بخوان فيه خبيص، فأكلت أنا وهو، ثم رفع الخوان، وكنت أحدثه ثم غشيني النعاس. فقال لي: قم فنم حتى أقوم أنا لصلاة الليل. فحملني النوم إلى أن فرغ من صلاة الليل، ثم جاءني فنبهني فقال: قم فتوضأ وصل صلاة الليل وخفف، فلما فرغت من الصلاة صليت الفجر، ثم قال لي: يا علي، إن أم ولدي ضربها الطلق، فحملتها إلى الثعلبية مخافة أن يسمع الناس صوتها، فولدت هناك الغلام الذي ذكرت لك كرمه وسخاءه وشجاعته. قال علي: فو اللّه لقد أدركت الغلام فكان كما وصف»(1).
قال العلامة المجلسي: قوله (عليه السلام) : «لا يكون في ولدي أسخى منه» أي من سائر أولاده سوى الرضا (عليه السلام) (2).
روي عن ابن أبي حمزة، قال: كنت عند أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اشتروا له. فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام، فأجابه موسى (عليه السلام) بلغته، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً، وظنوا أنه لا يفهم
ص: 47
كلامهم. فقال له موسى: «إني لأدفع إليك مالاً، فادفع إلى كل منهم ثلاثين درهماً». فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: إنه أفصح منا بلغاتنا، وهذه نعمة من اللّه علينا.
قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول اللّه، رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم. قال: «نعم». قال: وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشي ء دونهم. قال: «نعم، أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً؛ لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق - ثم قال - لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة». قلت: إي واللّه. قال: «لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب، وما الذي سمعته مني إلا كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة، أ فترى هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر، والإمام بمنزلة البحر لا ينفد ما عنده، وعجائبه أكثر من عجائب البحر»(1).
قال بدر مولى الرضا (عليه السلام) : إن إسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فجلس عنده إذا استأذن رجل خراساني، فكلمه بكلام لم يسمع مثله قط كأنه كلام الطير. قال إسحاق: فأجابه موسى بمثله وبلغته إلى أن قضى وطره من مساءلته فخرج من عنده. فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام؟. قال: «هذا كلام قوم من أهل الصين مثله - ثم قال - أ تعجب من كلامي بلغته». قلت: هو موضع التعجب. قال (عليه السلام) : «أخبرك بما هو أعجب منه، إن الإمام يعلم منطق
ص: 48
الطير، ومنطق كل ذي روح خلقه اللّه، وما يخفى على الإمام شيء»(1).
عن يعقوب بن جعفر بن إبراهيم، قال: كنت عند أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، إذ أتاه رجل نصراني ونحن معه بالعريض. فقال له النصراني: إني أتيتك من بلد بعيد وسفر شاق، وسألت ربي منذ ثلاثين سنة أن يرشدني إلى خير الأديان، وإلى خير العباد وأعلمهم، وأتاني آت في النوم فوصف لي رجلاً بعليا دمشق، فانطلقت حتى أتيته فكلمته، فقال: أنا أعلم أهل ديني وغيري أعلم مني. فقلت: أرشدني إلى من هو أعلم منك؛ فإني لا أستعظم السفر ولا تبعد عليَّ الشقة، ولقد قرأت الإنجيل كلها ومزامير داود، وقرأت أربعة أسفار من التوراة، وقرأت ظاهر القرآن حتى استوعبته كله.
فقال لي العالم: إن كنت تريد علم النصرانية، فأنا أعلم العرب والعجم بها، وإن كنت تريد علم اليهود فباطي بن شراحيل السامري أعلم الناس بها اليوم، وإن كنت تريد علم الإسلام وعلم التوراة وعلم الإنجيل والزبور وكتاب هود، وكلما أنزل على نبي من الأنبياء في دهرك ودهر غيرك، وما نزل من السماء من خير، فعلمه أحد أو لم يعلم به أحد، فيه تبيان كل شي ء وشفاء للعالمين، وروح لمن استروح إليه، وبصيرة لمن أراد اللّه به خيراً، وأنس إلى الحق فأرشدك إليه، فائته ولو ماشياً على رجليك، فإن لم تقدر فحبواً على ركبتيك، فإن لم تقدر فزحفاً على استك، فإن لم تقدر فعلى وجهك.
فقلت: لا بل أنا أقدر على المسير في البدن والمال. قال: فانطلق من فورك
ص: 49
حتى تأتي يثرب. فقلت: لا أعرف يثرب. فقال: فانطلق حتى تأتي مدينة النبي الذي بعث في العرب، وهو النبي العربي الهاشمي، فإذا دخلتها فسل عن بني غنم بن مالك بن النجار، وهو عند باب مسجدها، وأظهر بزة النصرانية وحليتها، فإن واليها يتشدد عليهم والخليفة أشد، ثم تسأل عن بني عمرو بن مبذول وهو ببقيع الزبير، ثم تسأل عن موسى بن جعفر، وأين منزله، وأين هو مسافر أم حاضر، فإن كان مسافراً فألحقه، فإن سفره أقرب مما ضربت إليه، ثم أعلمه أن مطران عليا الغوطة، غوطة دمشق هو الذي أرشدني إليك، وهو يقرئك السلام كثيراً، ويقول لك: إني لأكثر مناجاة ربي أن يجعل إسلامي على يديك. فقص هذه القصة وهو قائم معتمد على عصاه، ثم قال: إن أذنت لي يا سيدي كفرت لك(1) وجلست. فقال: «آذن لك أن تجلس، ولا آذن لك أن تكفر». فجلس ثم ألقى عنه برنسه، ثم قال: جعلت فداك، تأذن لي في الكلام. قال: «نعم، ما جئت إلا له». فقال له النصراني: اردد على صاحبي السلام، أ و ما ترد السلام.
فقال أبو الحسن (عليه السلام) : «على صاحبك أن هداه اللّه، فأما التسليم فذاك إذا صار في ديننا». فقال النصراني: إني أسألك أصلحك اللّه. قال: «سل». قال: أخبرني عن كتاب اللّه الذي أنزل على محمد ونطق به، ثم وصفه بما وصفه به، فقال: {حم * وَالكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(2) ما تفسيرها في الباطن؟. فقال: «أما {حم} فهو محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو في كتاب هود الذي أنزل عليه، وهو منقوص الحروف، وأما {الكِتَابِ المُبِينِ} فهو
ص: 50
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وأما الليلة ففاطمة (صلوات اللّه عليها)(1)، وأما قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، يقول: يخرج منها خير كثير، فرجل حكيم، ورجل حكيم، ورجل حكيم». فقال الرجل: صف لي الأول والآخر من هؤلاء الرجال؟. قال: «إن الصفات تشتبه، ولكن الثالث من القوم أصف لك ما يخرج من نسله، وإنه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم، إن لم تغيروا وتحرفوا وتكفروا، وقديماً ما فعلتم».
فقال له النصراني: إني لا أستر عنك ما علمت، ولا أكذبك وأنت تعلم ما أقول وكذبه، واللّه لقد أعطاك اللّه من فضله، وقسم عليك من نعمه، ما لا يخطره الخاطرون، ولا يستره الساترون، ولا يكذب فيه من كذب، فقولي لك في ذلك الحق، كلما ذكرت فهو كما ذكرت.
فقال له أبو إبراهيم (عليه السلام) : «أعجلك أيضاً خبراً لا يعرفه إلا قليل ممن قرأ الكتب، أخبرني ما اسم أم مريم، وأي يوم نفخت فيه مريم، ولكم من ساعة من النهار، وأي يوم وضعت مريم فيه عيسى (عليه السلام) ، ولكم من ساعة من النهار؟». فقال النصراني: لا أدري.
فقال أبو إبراهيم (عليه السلام) : «أما أم مريم فاسمها مرثا(2)، وهي وهيبة بالعربية. وأما اليوم الذي حملت فيه مريم فهو يوم الجمعة للزوال، وهو اليوم الذي هبط فيه الروح الأمين، وليس للمسلمين عيد كان أولى منه عظَّمه اللّه تبارك وتعالى،
ص: 51
وعظَّمه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأمر أن يجعله عيداً فهو يوم الجمعة. وأما اليوم الذي ولدت فيه مريم، فهو يوم الثلاثاء لأربع ساعات ونصف من النهار، والنهر الذي ولدت عليه مريم عيسى (عليه السلام) هل تعرفه؟». قال: لا. قال: «هو الفرات، وعليه شجر النخل والكرم، وليس يساوي بالفرات شي ء للكروم والنخيل. فأما اليوم الذي حجبت فيه لسانها، ونادى قيدوس ولده وأشياعه فأعانوه، وأخرجوا آل عمران لينظروا إلى مريم، فقالوا لها ما قص اللّه عليك في كتابه وعلينا في تابه، فهل فهمته؟». فقال: نعم وقرأته اليوم الأحدث. قال: «إذا لا تقوم من مجلسك حتى يهديك اللّه».
قال النصراني: ما كان اسم أمي بالسريانية وبالعربية؟. فقال: «كان اسم أمك بالسريانية عنقالية، وعنقورة كان اسم جدتك لأبيك، وأما اسم أمك بالعربية فهو مية، وأما اسم أبيك فعبد المسيح، وهو عبد اللّه بالعربية، وليس للمسيح عبد».
قال: صدقت وبررت، فما كان اسم جدي؟. قال: «كان اسم جدك جبرئيل، وهو عبد الرحمن سميته في مجلسي هذا». قال: أما إنه كان مسلماً. قال أبو إبراهيم: «نعم وقتل شهيداً، دخلت عليه أجناد فقتلوه في منزله غيلة، والأجناد من أهل الشام». قال: فما كان اسمي قبل كنيتي؟. قال: «كان اسمك عبد الصليب». قال: فما تسميني؟. قال: «أسميك عبد اللّه». قال: فإني آمنت باللّه العظيم، وشهدت أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، فرداً صمداً ليس كما يصفه النصارى، وليس كما يصفه اليهود، ولا جنس من أجناس الشرك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق فأبان به لأهله وعمي المبطلون، وأنه كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الناس كافة، إلى الأحمر والأسود كل فيه مشترك، فأبصر من أبصر، واهتدى من اهتدى، وعمي المبطلون، وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
ص: 52
يَدْعُونَ، وأشهد أن وليه نطق بحكمته، وأن من كان قبله من الأنبياء نطقوا بالحكمة البالغة، وتوازروا على الطاعة لله، وفارقوا الباطل وأهله، والرجس وأهله، وهجروا سبيل الضلالة، ونصرهم اللّه بالطاعة له، وعصمهم من المعصية، فهم لله أولياء، وللدين أنصار، يحثون على الخير ويأمرون به، آمنت بالصغير منهم والكبير، ومن ذكرت منهم ومن لم أذكر، وآمنت باللّه تبارك وتعالى رب العالمين.
ثم قطع زناره وقطع صليباً كان في عنقه من ذهب، ثم قال: مرني حتى أضع صدقتي حيث تأمرني.
فقال (عليه السلام) : «ها هنا أخ لك كان على مثل دينك، وهو رجل من قومك من قيس بن ثعلبة، وهو في نعمة كنعمتك، فتواسيا وتجاورا، ولست أدع أن أورد عليكما حقكما في الإسلام».
فقال: واللّه أصلحك اللّه إني لغني، ولقد تركت ثلاثمائة طروق بين فرس وفرسه، وتركت ألف بعير فحقك فيها أوفر من حقي.
فقال له: «أنت مولى اللّه ورسوله، وأنت في حد نسبك على حالك».
فحسن إسلامه، وتزوج امرأة من بني فهر، وأصدقها أبو إبراهيم خمسين ديناراً من صدقة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأخدمه وبوأه وأقام حتى أخرج أبو إبراهيم (عليه السلام) ، فمات بعد مخرجه بثمان وعشرين ليلة(1).
عن خالد، قال: خرجت وأنا أريد أبا الحسن الكاظم (عليه السلام) ، فدخلت عليه
ص: 53
وهو في عرصة داره جالس، فسلّمت عليه وجلست، وقد كنت أتيته لأسأله عن رجل من أصحابنا كنت سألته حاجة فلم يفعل. فالتفت إليَّ وقال: «ينبغي لأحدكم إذا لبس الثوب الجديد أن يمر يده عليه، ويقول: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به بين الناس، وإذا أعجبه شي ء فلا يكثر ذكره فإن ذلك مما يهده، وإذا كانت لأحدكم إلى أخيه حاجة ووسيلة لا يمكنه قضاؤها فلا يذكره إلاّ بخير، فإن اللّه يوقع ذلك في صدره فيقضي حاجته. قال: فرفعت رأسي وأنا أقول: لا إله إلا اللّه. فالتفت إليَّ فقال: «يا خالد اعمل ما أمرتك»(1).
قال هشام بن الحكم: أردت شراء جارية بمنى، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أشاوره، فلم يرد عليَّ جواباً، فلما كان في غد مر (عليه السلام) بي يرمي الجمار على حمار، فنظر إليَّ وإلى الجارية من بين الجواري، ثم أتاني كتابه: «لا أرى بشرائها بأساً إن لم يكن في عمرها قلة».
قلت: لا واللّه ما قال لي هذا الحرف إلاّ وها هنا شيء، لا واللّه لا اشتريتها.
قال: فما خرجت من مكة حتى دفنت!(2).
عن الأصبغ بن موسى، قال: بعث معي رجل من أصحابنا إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) بمائة دينار، وكانت معي بضاعة لنفسي وبضاعة له، فلما دخلت المدينة صببت عليَّ الماء وغسلت بضاعتي وبضاعة الرجل، وذررت عليها
ص: 54
مسكاً، ثم إني عددت بضاعة الرجل فوجدتها تسعة وتسعين ديناراً، فأعددت عددها وهي كذلك، فأخذت ديناراً آخر لي فغسلته وذررت عليه المسك وأعدتها في صرة كما كانت، ودخلت عليه في الليل. فقلت له: جعلت فداك، إن معي شيئا أتقرب به إلى اللّه تعالى. فقال (عليه السلام) : «هات». فناولته دنانيري وقلت له: جعلت فداك إن فلانا مولاك بعث إليك معي بشيء. فقال: «هات». فناولته الصرة، قال: «صبها» فصببتها. فنثرها بيده وأخرج ديناري منها ثم قال: «إنما بعث إلينا وزناً لا عدداً»(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) في السنة التي قُبض فيها أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فقلت له: كم أتى لك؟. قال: «تسع عشرة سنة»، قال: فقلت: إن أباك أسرَّ إليَّ سراً، وحدثني بحديث فأخبرني به! فقال: «قال لك كذا وكذا»، حتى نسق على ما أخبرني به أبو عبد اللّه (عليه السلام) (2).
روى هشام بن أحمر أنه ورد تاجر من المغرب ومعه جوار، فعرضهن على أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) ، فلم يختر منهن شيئاً، وقال: «أرنا». فقال: عندي أخرى وهي مريضة. فقال: «ما عليك أن تعرضها» فأبى فانصرف، ثم إنه (عليه السلام) أرسلني من الغد إليه، وقال: «قل له كم غايتك فيها»، فقال: ما أنقصها من كذا وكذا. فقلت: قد أخذتها وهو لك. فقال: وهي لك، ولكن مَن الرجل؟.
ص: 55
فقلت: رجل من بني هاشم. فقال: من أي بني هاشم؟. قلت: ما عندي أكثر من هذا. فقال: أخبرك عن هذه الوصيفة، إني اشتريتها من أقصى المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب. فقالت: ما هذه الوصيفة معك؟. فقلت: اشتريتها لنفسي. فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه عند مثلك، إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض، ولا تلبث عنده إلاّ قليلاً حتى تلد منه غلاماً ما يولد بشرق الأرض ولا غربها مثله، يدين له شرق الأرض وغربها. قال فأتيته بها، فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى ولدت علياً الرضا (عليه السلام) (1).
عن عبد اللّه بن يحيى الكاهلي، قال: حججت فدخلت على أبي الحسن (عليه السلام) . فقال لي: «اعمل خيراً في سنتك هذه؛ فإن أجلك قد دنا». قال: فبكيت، فقال لي: «فما يبكيك؟». قلت: جعلت فداك نعيت إليَّ نفسي. قال: «أبشر فإنك من شيعتنا وأنت إلى خير». قال: قال أخطل: فما لبث عبد اللّه بعد ذلك إلا يسيراً حتى مات(2).
عن محمد بن الحسين: أن بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) يسأله عن الصلاة على الزجاج؟. قال: فلما نفذ كتابي إليه تفكرت وقلت هو مما أنبتت الأرض، وما كان لي أن أسأل عنه. قال: فكتب إليَّ: «لا تصل على الزجاج، وإن حدثتك نفسك أنه مما أنبتت الأرض، ولكنه من الملح والرمل وهما
ص: 56
ممسوخان»(1).
أي مسخ التراب إليهما لا المسخ من البشر.
روى محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضل، قال: اختلفت الرواية بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء، هو من الأصابع إلى الكعبين أم هو من الكعبين إلى الأصابع. فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) : إن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين، فإن رأيت أن تكتب إليَّ بخطك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء اللّه. فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام) : «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره». فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب بما رسم فيه مما أجمع العصابة على خلافه، ثم قال: مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره، وكان يعمل في وضوئه على هذه الحد، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن (عليه السلام) .. وسعي بعلي بن يقطين إلى هارون وقيل: إنه رافضي مخالف لك. فقال هارون لبعض خاصته: قد كثر عندي القول في علي بن يقطين، والقرف له بخلافنا، وميله إلى الرفض، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً، وقد امتحنته مراراً، فما ظهرت منه على ما يقرف به، وأحب أن استبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز مني. فقيل له: إن الرافضة يا أمير تخالف الجماعة في الوضوء
ص: 57
فتخففه، ولا ترى غسل الرجلين، فامتحنه يا أمير من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه. فقال: أجل إن هذا الوجه يظهر به أمره، ثم تركه مدة وناطه بشي ء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته، فلما دخل وقت الصلاة، وقف هارون من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو. فدعا بالماء للوضوء، فتمضض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وخلل شعر لحيته، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه، وهارون ينظر إليه. فلما رآه وقد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه ثم ناداه: كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة. وصلحت حاله عنده، وورد عليه كتاب أبي الحسن (عليه السلام) : «ابتداءً من الآن يا علي بن يقطين فتوض كما أمر اللّه، واغسل وجهك مرة فريضة وأخرى إسباغاً، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك بفضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك والسلام»(1).
عن عثمان بن عيسى، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بالمدينة. فقال لي: «أين نزلت؟». فقلت له: نزلت أنا ورفيق لي في دار فلان. فقال: «بادروا وحولوا ثيابكم، وأخرجوا منها الساعة». قال: فبادرت وأخذت ثياباً وخرجنا، فلما صرنا خارجاً من الدار انهارت الدار(2).
ص: 58
عن مرازم، قال: دخلت المدينة، فرأيت جارية في الدار التي نزلتها فعجبتني، فأردت أن أتمتع منها، فأبت أن تزوجني نفسها - قال - فجئت بعد العتمة، فقرعت الباب فكانت هي التي فتحت لي، فوضعت يدي على صدرها، فبادرتني حتى دخلت، فلما أصبحت دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) . فقال: «يا مرازم، ليس من شيعتنا من خلا ثم لم يرع قلبه»(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: «لا واللّه لا يرى أبو جعفر الدوانيقي بيت اللّه أبداً». فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم يلبث أن خرج، فلما بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك. فقلت: لا واللّه لا يرى بيت اللّه أبداً، فلما صار إلى البستان اجتمعوا أيضاً إليَّ فقالوا بقي بعد هذا شيء؟. قلت: لا واللّه لا يرى بيت اللّه أبداً، فلما نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن (عليه السلام) ، فوجدته في المحراب قد سجد، فأطال السجود ثم رفع رأسه إليَّ. فقال: «اخرج فانظر ما يقول الناس». فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر، فرجعت فأخبرته قال: «اللّه أكبر، ما كان ليرى بيت اللّه أبداً»(2).
عن عثمان بن عيسى، قال: قال أبو الحسن - الكاظم - (عليه السلام) لإبراهيم بن عبد الحميد ولقيه سَحراً، وإبراهيم ذاهب إلى قباء وأبو الحسن (عليه السلام) داخل إلى المدينة،
ص: 59
فقال: «يا إبراهيم». فقلت: لبيك. قال: «إلى أين؟».
قلت: إلى قباء.
فقال: «في أي شيء؟».
فقلت: إنا كنا نشري في كل سنة هذا التمر، فأردت أن آتي رجلاً من الأنصار فأشتري منه من الثمار».
فقال: «وقد أمنتم الجراد؟». ثم دخل، ومضيت أنا فأخبرت أبا العز.
فقال: لا واللّه لا أشتري العام نخلة، فما مرت بنا خامسة حتى بعث اللّه جراداً فأكل عامة ما في النخل(1).
عن عثمان بن عيسى، قال: وهب رجل جارية لابنه فولدت أولاداً. فقالت الجارية بعد ذلك: قد كان أبوك وطأني قبل أن يهبني لك! فسئل أبو الحسن (عليه السلام) عنها. فقال: «لا تصدق، إنما تفر من سوء خلقه». فقيل ذلك للجارية. فقالت: صدق واللّه، ما هربت إلاّ من سوء خلقه(2).
عن أبي بصير، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) ، قال: دخلت عليه. فقلت له: جعلت فداك، بم يعرف الإمام؟. فقال: «بخصال: أما أولهن فشي ء تقدم من أبيه فيه وعرفه الناس، ونصبه لهم علماً حتى يكون حجة عليهم، لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نصب علياً (عليه السلام) علماً وعرفه الناس، وكذلك الأئمة يعرفونهم الناس
ص: 60
وينصبونهم لهم حتى يعرفوه، ويُسأل فيجيب ويُسكت عنه فيبتدي، ويخبر الناس بما في غد، ويكلم الناس بكل لسان».
فقال لي: «يا أبا محمد، الساعة قبل أن تقوم أعطيك علامة تطمئن إليها». فو اللّه ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان، فتكلم الخراساني بالعربية فأجابه هو بالفارسية. فقال له الخراساني: أصلحك اللّه، ما منعني أن أكلمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن!.
فقال: «سبحان اللّه! إذا كنت لا أحسن أجيبك فما فضلي عليك؟».
ثم قال: «يا أبا محمد، إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس، ولا طير ولا بهيمة ولا شي ء فيه روح، بهذا يعرف الإمام، فإن لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام»(1).
عن حماد بن عيسى، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بالبصرة. فقلت له: جعلت فداك، ادع اللّه تعالى أن يرزقني داراً وزوجة وولداً وخادماً، والحج في كل سنة.
قال: فرفع يده ثم قال: «اللّهم صل على محمد وآل محمد، وارزق حماد بن عيسى داراً وزوجة وولداً وخادماً، والحج خمسين سنة».
قال حماد: فلما اشترط خمسين سنة علمت أني لا أحج أكثر من خمسين سنة - قال حماد - وقد حججت ثماني وأربعين سنة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني وهذه خادمي، وقد رزقت
ص: 61
كل ذلك. فحج بعد هذا الكلام حجتين تمام الخمسين، ثم خرج بعد الخمسين حاجاً، فزامل أبا العباس النوفلي، فلما صار في موضع الإحرام دخل يغتسل، فجاء الوادي فحمله فغرق فمات (رحمنا اللّه وإياه) قبل أن يحج زيادة على الخمسين وقبره بسيالة(1).
عن إبراهيم بن وهب، قال: خرجت وأنا أريد أبا الحسن (عليه السلام) بالعريض فانطلقت حتى أشرفت على قصر بني سراة... فوجدت خمسين حيات روافع من عند الغدير، ثم استمعت فسمعت كلاماً ومراجعة، فطفقت بنعلي ليسمع وطئي، فسمعت أبا الحسن (عليه السلام) يتنحنح وتنحنحت وأجبته، ثم هجمت فإذا حية متعلقة بساق شجرة. فقال: «لا تخشى ولا ضائر». فرَمَت بنفسها ثم نهضت على منكبه، ثم أدخلت رأسها في أذنه، فأكثرت من الصفير، فأجاب: «بلى، قد فصلت بينكم، ولا يبغي خلاف ما أقول إلاّ ظالم، ومن ظلم في دنياه فله عذاب النار في آخرته، مع عقاب شديد أعاقبه إياه، وآخذ ماله إن كان له حتى يتوب».
فقلت: بأبي أنت وأمي أ لكم عليهم طاعة؟.
فقال: «نعم والذي أكرم محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة، وأعز علياً (عليه السلام) بالوصية والولاية، إنهم لأطوع لنا منكم يا معشر الإنس وقليل ما هم»(2).
عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت العبد الصالح (عليه السلام) ينعى إلى رجل نفسه.
ص: 62
فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته!.
فالتفت إليَّ شبه المغضب. فقال: «يا إسحاق، قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا، والإمام أولى بعلم ذلك» - ثم قال: - «يا إسحاق، اصنع ما أنت صانع فإن عمرك قد فني، وإنك تموت إلى سنتين، وإخوتك وأهل بيتك لا يلبثون بعدك إلا يسيراً، حتى تتفرق كلمتهم ويخون بعضهم بعضاً حتى يشمت بهم عدوهم، فكان هذا في نفسك».
فقلت: فإني أستغفر اللّه بما عرض في صدري. فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات، فما أتى عليهم إلا قليل حتى قام بنو عمار بأموال الناس فأفلسوا(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: دخل رجل من موالي أبي الحسن (عليه السلام) . فقال: جعلت فداك، أحب أن تتغدى عندي. فقام أبو الحسن (عليه السلام) حتى مضى معه فدخل البيت، فإذا في البيت سرير، فقعد على السرير، وتحت السرير زوج حمام، فهدر الذكر على الأنثى، وذهب الرجل ليحمل الطعام، فرجع وأبو الحسن (عليه السلام) يضحك. فقال: أضحك اللّه سنك بم ضحكت؟. فقال: «إن هذا الحمام هدر على هذه الحمامة. فقال لها: يا سكني وعرسي، واللّه ما على وجه الأرض أحد أحب إليَّ منكِ، ما خلا هذا القاعد على السرير». قال قلت: جعلت فداك، وتفهم كلام الطير؟. فقال: «نعم، {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْء}»(2)(3).
ص: 63
قال هارون بن موفق - مولى أبي الحسن (عليه السلام) -: أتيت أبا الحسن لأسلّم عليه. فقال لي: «اركب ندور في أموالنا». فأتيت فازة لي قد ضربت على جدول ماء،كان عنده خضرة فاستنزه ذلك، فضربت له الفازة، فجلست حتى أتى على فرس له، فقبلت فخذه، ونزل فأمسكت ركابه، وأهويت لآخذ العنان، فأبى وأخذه هو، وأخرجه من رأس الدابة، وعلقه في طنب من أطناب الفازة. فجلس وسألني عن مجيئي - وذلك عند المغرب - فأعلمت بمجيئي من القصر إلى أن حمحم الفرس. فضحك (عليه السلام) ونطق بالفارسية، وأخذ بعرفها فقال: «اذهب فبل». فرفع رأسه فنزع العنان، ومر يتخطى الجداول والزرع إلى براح حتى بال، ورجع فنظر إليَّ. فقال: «إنه لم يعط داود وآل داود شيئاً إلاّ وقد أعطي محمد وآل محمد أكثر منه»(1).
عن البطائني، قال: خرج موسى بن جعفر (عليه السلام) في بعض الأيام من المدينة إلى ضيعة له خارجة عنها فصحبته، وكان راكباً بغلة وأنا على حمار، فلما صرنا في بعض الطريق اعترضنا أسد فأحجمت خوفاً، وأقدم أبو الحسن غير مكترث به، فرأيت الأسد يتذلل لأبي الحسن ويهمهم، فوقف له أبو الحسن كالمصغي إلى همهمته، ووضع الأسد يده على كفل بغلته، وخفت من ذلك خوفاً عظيماً، ثم تنحى الأسد إلى جانب الطريق، وحول أبو الحسن وجهه إلى القبلة، وجعل يدعو ثم حرك شفتيه بما لم أفهمه، ثم أومأ إلى الأسد بيده أن امض، فهمهم الأسد همهمة طويلة، وأبو الحسن يقول: «آمين، آمين». وانصرف الأسد حتى
ص: 64
غاب عن أعيننا، ومضى أبو الحسن لوجهه واتبعته، فلما بعدنا عن الموضع لحقته. فقلت: جعلت فداك، ما شأن هذا الأسد، فلقد خفته واللّه عليك، وعجبت من شأنه معك؟. قال: «إنه خرج يشكو عسر الولادة على لبوته، وسألني أن أدعو اللّه ليفرج عنها ففعلت ذلك، وأُلقي في روعي أنها ولدت له ذكراً، فخبرته بذلك. فقال لي: امض في حفظ اللّه، فلا سلط اللّه عليك وعلى ذريتك وعلى أحد من شيعتك شيئا من السباع. فقلت: آمين»(1).
روي أن المهدي العباسي أمر بحفر بئر بقرب قبر العبادي لعطش الحاج هناك، فحفر أكثر من مائة قامة، فبينما هم يحفرون إذ خرقوا خرقاً، فإذا تحته هواء لا يدرى قعره وهو مظلم، وللريح فيه دوي، فأدخلوا رجلين، فلما خرجا تغيرت ألوانهما. فقالا: رأينا هواء، ورأينا بيوتاً قائمة، ورجالاً ونساء، وإبلاً وبقراً وغنما، كلما مسسنا شيئاً منها رأيناه هباءً. فسألنا الفقهاء عن ذلك فلم يدر أحد ما هو؟. فقدم أبو الحسن موسى (عليه السلام) على المهدي، فسأله عنه فقال (عليه السلام) : «أولئك أصحاب الأحقاف، هم بقية من قوم عاد، ساخت بهم منازلهم»، وذكر على مثل قول الرجلين(2).
وفي رواية: حج المهدي العباسي، فلما صار في فتق العبادي، ضج الناس من العطش، فأمر أن تحفر بئر، فلما بلغوا قريباً من القرار، هبت عليهم ريح من البئر، فوقعت الدلاء ومنعت من العمل، فخرجت الفعلة خوفاً على أنفسهم.
ص: 65
فأعطى علي بن يقطين لرجلين عطاءً كثيراً ليحفرا، فنزلا فأبطآ ثم خرجا مرعوبين، قد ذهبت ألوانهما، فسألهما عن الخبر. فقالا: إنا رأينا آثاراً وأثاثاً، ورأينا رجالاً ونساءً، فكلما أومأنا إلى شي ء منهم صار هباءً. فصار المهدي يسأل عن ذلك ولا يعلمون. فقال موسى بن جعفر (عليه السلام) : «هؤلاء أصحاب الأحقاف، غضب اللّه عليهم، فساخت بهم ديارهم وموالهم(1).
عن محمد بن مسلم، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال له: رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه، فلا ينهاهم وفيه ما فيه.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ادعوا لي موسى».
فدُعي فقال (عليه السلام) له: «يا بني، إن أبا حنيفة يذكر أنك كنت تصلي، والناس يمرون بين يديك، فلم تنههم؟».
فقال: «نعم يا أبت، إن الذي كنت أصلي له كان أقرب إليَّ منهم، يقول اللّه عزَّ وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ}(2)».
قال: فضمه أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى نفسه، ثم قال: «بأبي أنت وأمي يا مُودَّع الأسرار»(3).
عن جعفر بن المثنى الخطيب، عن محمد بن الفضيل وبشير بن إسماعيل،
ص: 66
قال: قال لي محمد: ألا أسرك يا ابن المثنى. قال: قلت: بلى، وقمت إليه.
قال: دخل هذا الفاسق آنفاً، فجلس قبالة أبي الحسن الكاظم، ثم أقبل عليه. فقال له: يا أبا الحسن، ما تقول في المحرم أ يستظل على المحمل؟. فقال له: «لا». قال: فيستظل في الخباء؟. فقال له: «نعم». فأعاد عليه القول شبه المستهزئ يضحك. فقال: يا أبا الحسن، فما فرق بين هذا وهذا؟. فقال: «يا با يوسف، إن الدين ليس بقياس كقياسك، أنتم تلعبون بالدين، إنا صنعنا كما صنع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقلنا كما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . كان رسول اللّه يركب راحلته فلا يستظل عليها، وتؤذيه الشمس فيستر جسده بعضه ببعض، وربما ستر وجهه بيده، وإذا نزل استظل بالخباء، وفي البيت، وفي الجدار»(1).
عن الريان بن شبيب، قال: سمعت المأمون يقول: لما حج هارون وكنت أنا ومحمد والقاسم معه، فلما كان بالمدينة استأذن عليه الناس، فكان آخر من أذن له موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فلما نظر إليه هارون تحرك، ومد بصره وعنقه إليه حتى دخل البيت الذي كان فيه، كان الإمام على حمار له، فأراد أن ينزل. فقال له هارون: ادخل عليَّ بحمارك. فدخل على بساطه، فلما قرب منه جثا هارون على ركبتيه و عانقه، ثم أقبل عليه فقال له: كيف أنت يا أبا الحسن، كيف عيالك وعيال أبيك، كيف أنتم، ما حالكم؟. فما زال يسأله عن هذا وأبو الحسن (عليه السلام) يقول: «خير، خير». قال المأمون: وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خرج أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) . قلت لأبي: يا أمير لقد رأيتك عملت بهذا
ص: 67
الرجل شيئاً ما رأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولا ببني هاشم، فمن هذا الرجل؟. فقال: يا بني، هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر بن محمد، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا(1).
يقول المأمون: ولما أراد أن يقسم هارون العطاء، فأرسل للناس ألف دينار وعشرة آلاف، ولكن أرسل لموسى بن جعفر (عليه السلام) مائتي دينار فقط، فتعجبت منه! كيف يرسل له هذا المبلغ القليل مع شدة احترامه له. فسألته فقال: هذا عين الصلاح، فإنه لو كانت له القدرة المادية لما أبقوا لنا شيئاً، ولما كنا على هذا الكرسي(2).
نعم إن اللّه يقول في كتابه العزيز: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ}(3).
ص: 68
5
العقائد الحقة الصحيحة هي عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعترة النبوية الطاهرة (عليهم السلام) دون سائر المدارس والمذاهب، وكان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مبيناً لها، ومجيباً لمن يسأل عنها. روي عن أبي حنيفة، أنه قال: أتيت الصادق (عليه السلام) لأسأله عن مسائل، فقيل لي: إنه نائم، فجلست أنتظر انتباهه، فرأيت غلاماً خماسياً أو سداسياً، جميل المنظر، ذا هيبة وحسن سمت، فسألت عنه فقالوا: هذا موسى بن جعفر. فسلمت عليه وقلت له: يا ابن رسول اللّه، ما تقول في أفعال العباد ممن هي؟. فجلس ثم تربع، وجعل كمه الأيمن على الأيسر، وقال: «يا نعمان، قد سألت فاسمع، وإذا سمعت فعه، وإذا وعيت فاعمل. إن أفعال العباد لا تعدو من ثلاث خصال: إما من اللّه على انفراده، أو من اللّه والعبد شركة، أو من العبد بانفراده. فإن كانت من اللّه على انفراده، فما باله سبحانه يعذب عبده على ما لم يفعله مع عدله ورحمته وحكمته، وإن كانت من اللّه والعبد شركة، فما بال الشريك القوي يعذب شريكه على ما قد شركه فيه وأعانه عليه - قال - استحال الوجهان يا نعمان». فقال: نعم. فقال له: «فلم يبق إلا أن يكون من العبد على انفراده - ثم أنشأ يقول -:
لم تخل أفعالنا التي نذم بها***إحدى ثلاث خصال حين نبديها
ص: 69
إما تفرد بارينا بصنعتها***فيسقط اللوم عنا حين نأتيها
أو كان يشركنا فيها فيلحقه***ما كان يلحقنا من لائم فيها
أو لم يكن لإلهي في جنايتها***ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها(1)
ص: 70
6
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) كأجداده الطاهرين (عليهم السلام) يحث على نشر العلوم الدينية، والمعارف القرآنية، وما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعترة النبوية (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، ويبين فضل ذلك وثوابه الجزيل.
قال موسى بن جعفر (عليه السلام) : «من أعان محباً لنا على عدو لنا، فقوّاه وشجعه حتى يخرج الحق الدال على فضلنا بأحسن صورة، ويخرج الباطل الذي يروم به أعداؤنا في دفع حقنا في أقبح صورة، حتى ينتبه الغافلون، ويستبصر المتعلمون، ويزداد في بصائرهم العالمون، بعثه اللّه يوم القيامة في أعلى منازل الجنان، ويقول: يا عبدي الكاسر لأعدائي، الناصر لأوليائي، المصرح بتفضيل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير أنبيائي، وبتشريف علي (عليه السلام) أفضل أوليائي، وتناوي من ناواهما، وتسمي بأسمائهما وأسماء خلفائهما، وتلقب بألقابهم، فيقول ذلك ويبلغ اللّه ذلك جميع أهل العرصات، فلا يبقى كافر ولا جبار ولا شيطان، إلا صلى على هذا الكاسر لأعداء محمد، ولعن الذين كانوا يناصبونه في الدنيا من النواصب لمحمد وعلي (عليهما السلام) »(1).
ص: 71
عن هشام بن سالم، قال: لما دخلت إلى عبد اللّه بن أبي عبد اللّه فسألته، فلم أر عنده شيئاً، فدخلني من ذلك ما اللّه به عليم، وخفت أن لا يكون أبو عبد اللّه (عليه السلام) ترك خلفاً. فأتيت قبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فجلست عند رأسه أدعو اللّه وأستغيث به، ثم فكرت فقلت: أصير إلى قول الزنادقة! ثم فكرت فيما يدخل عليهم، ورأيت قولهم يفسد، ثم قلت: لا بل قول الخوارج، فآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأضرب بسيفي حتى أموت، ثم فكرت في قولهم وما يدخل عليهم، فوجدته يفسد، ثم قلت: أصير إلى المرجئة، ثم فكرت فيما يدخل عليهم، فإذا قولهم يفسد. فبينا أنا أفكر في نفسي، وأمشي إذ مر بي بعض موالي أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: أ تحب أن أستأذن لك على أبي الحسن (عليه السلام) . فقلت: نعم. فذهب فلم يلبث أن عاد إليَّ، فقال: قم وادخل عليه. فلما نظر إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) ، فقال لي مبتدئاً: «يا هشام، لا إلى الزنادقة، ولا إلى الخوارج، ولا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولكن إلينا». قلت: أنت صاحبي، ثم سألته فأجابني عما أردت(1).
البراءة ركن مهم من الدين، وقد أكد عليه القرآن الكريم والنبي العظيم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة (صلوات اللّه عليهم أجمعين).
وقد سبق ما روي عن يعقوب السراج، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، وهو في المهد. فجعل يساره .
ص: 72
طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه. فقال: «ادن إلى مولاك فسلم عليه». فدنوت فسلمت عليه، فرد عليَّ بلسان فصيح، ثم قال لي: «اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس؛ فإنه اسم يبغضه اللّه». وكانت ولدت لي بنت وسميتها بالحميراء - وفي بعض الروايات بعائشة - فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «انته إلى أمره ترشد»، فغيرت اسمها(1).
عن عيسى شلقان، قال: كنت قاعداً، فمر أبو الحسن موسى (عليه السلام) ، ومعه بهيمة - قال - فقلت: يا غلام، ما ترى ما يصنع أبوك، يأمرنا بالشيء ثم ينهانا عنه، أمرنا أن نتولى أبا الخطاب، ثم أمرنا أن نلعنه ونتبرأ منه!. فقال أبو الحسن (عليه السلام) - وهو غلام -: «إن اللّه خلق خلقاً للإيمان لا زوال له، وخلق خلقاً للكفر لا زوال له، وخلق خلقاً بين ذلك أعارهم اللّه الإيمان، يسمون المعارين إذا شاء سلبهم، وكان أبو الخطاب ممن أعير الإيمان». قال: فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأخبرته ما قلت لأبي الحسن (عليه السلام) ، وما قال لي. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إنه نبعة نبوة»(2).
عن زياد بن أبي سلمة، قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) . فقال لي: «يا زياد، إنك لتعمل عمل السلطان». قال: قلت: أجل.
قال لي: «ولم؟». قلت: أنا رجل لي مروة وعليّ عيال، وليس وراء ظهري
ص: 73
شيء. فقال لي: «يا زياد، لأن أسقط من حالق، فأنقطع قطعة قطعة، أحب إليَّ من أن أتولى لأحد منهم عملاً، أو أطأ بساط رجل منهم، إلاّ لماذا؟».
قلت: لا أدري جعلت فداك.
قال: «إلاّ لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسره، أو قضاء دينه. يا زياد، إن أهون ما يصنع اللّه بمن تولى لهم عملاً، أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ اللّه من حساب الخلائق. يا زياد، فإن ولّيت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، واللّه من وراء ذلك. يا زياد، أيما رجل منكم تولى لأحد منهم عملاً، ثم ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحل كذاب. يا زياد، إذا ذكرت مقدرتك على الناس، فاذكر مقدرة اللّه عليك غداً، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إليهم عليك»(1).
الإمام الكاظم (عليه السلام) - كجده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآبائه الطاهرين (عليهم السلام) - كان يؤكد على قضية الإمام المهدي (عليه السلام) ، ويبشر المؤمنين بها.
وربما ذكر موضوع غيبة الإمام (عليه السلام) ، وصعوبة الامتحان، وضرورة التمسك بالدين والمعتقدات. قال (عليه السلام) : «لا يكون القائم إلاّ إمام بن إمام، ووصي بن وصي»(2).
وعنه (عليه السلام) قال: «فإذا فُقد الخامس من ولد السابع. فاللّه اللّه في أديانكم، لا يزيلكم عنها أحد. يا بُني، إنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن
ص: 74
هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من اللّه عزَّ وجل امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصح من هذا لاتبعوه». قال: فقلت: يا سيدي من الخامس من ولد السابع؟. فقال: «يا بنيّ عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه»(1).
ص: 75
7
وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) - كآبائه وأجداده الطاهرين (عليهم السلام) - سبباً لهداية الناس إلى الإسلام، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، فكم من كافر أسلم على يديه، وكم من مخالف استبصر ببركته.
وكان الإمام (عليه السلام) يستفيد من كل فرصة للهداية، وتبليغ معالم الدين، وقد اهتدى على يديه الكثيرون، كان منهم ذاك الرجل النصراني الذي التقى بالإمام (عليه السلام) في العريض، وكان قد جاء من بلد بعيد وسفر شاق، وكان منذ ثلاثين سنة يسأل عن خير الأديان، وخير العباد وأعلمهم(1).
ومنهم: رجل من قيس بن ثعلبة كان نصرانياً، فأسلم على يد الإمام الكاظم (عليه السلام) (2).
روى أبو خالد الزبالي، قال: نزل أبو الحسن (عليه السلام) منزلنا، في يوم شديد البرد، في سنة مجدبة، ونحن لا نقدر على عود نستوقد به. فقال: «يا أبا خالد، ائتنا بحطب نستوقد به». قلت: واللّه ما أعرف في هذا الموضع عوداً واحداً». فقال:
ص: 76
«كلا يا أبا خالد، ترى هذا الفج خذ فيه، فإنك تلقى أعرابياً معه حملان حطباً، فاشترهما منه ولا تماكسه». فركبت حماري وانطلقت نحو الفج الذي وصف لي، فإذا أعرابي معه حملان حطباً، فاشتريتهما منه وأتيته بهما، فاستوقدوا منه يومهم ذلك، وأتيته بطرف ما عندنا فطعم منه. ثم قال: «يا أبا خالد، انظر خفاف الغلمان ونعالهم فأصلحها، حتى نقدم عليك في شهر كذا وكذا». قال أبو خالد: فكتبت تاريخ ذلك اليوم، فركبت حماري اليوم الموعود حتى جئت إلى لزق ميل ونزلت فيه، فإذا أنا براكب يقبل نحو القطار، فقصدت إليه، فإذا يهتف بي ويقول: «يا أبا خالد». قلت: لبيك جعلت فداك. قال: «أ تراك وفيناك بما وعدناك - ثم قال - يا أبا خالد، ما فعلت بالقبتين اللتين كنا نزلنا فيهما؟». فقلت: جعلت فداك، قد هيأتهما لك». وانطلقت معه حتى نزل في القبتين اللتين كان نزل فيهما، ثم قال: «ما حال خفاف الغلمان ونعالهم؟». قلت: قد أصلحناها فأتيته بهما. فقال: «يا أبا خالد، سلني حاجتك». فقلت: جعلت فداك، أخبرك بما كنت فيه، كنت زيدي المذهب حتى قدمت عليَّ وسألتني الحطب وذكرت مجيئك في يوم كذا، فعلمت أنك الإمام الذي فرض اللّه طاعته. فقال: «يا أبا خالد، من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، وحوسب بما عمل في الإسلام»(1).
عن يعقوب بن جعفر، قال: كنت عند أبي إبراهيم (عليه السلام) ، وأتاه رجل من أهل نجران اليمن من الرهبان ومعه راهبة، فاستأذن لهما الفضل بن سوار. فقال له:
ص: 77
«إذا كان غداً فأت بهما عند بئر أم خير». قال: فوافينا من الغد، فوجدنا القوم قد وافوا، فأمر بخصفة بواري، ثم جلس وجلسوا، فبدأت الراهبة بالمسائل، فسألت عن مسائل كثيرة كل ذلك يجيبها، وسألها أبو إبراهيم (عليه السلام) عن أشياء لم يكن عندها فيه شي ء ثم أسلمت. ثم أقبل الراهب يسأله، فكان يجيبه في كل ما يسأله، وسأل الإمامُ من الراهب عن أشياء لم يكن عند الراهب فيها شي ء فأخبره بها حتى أسلم الراهب، وقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وأن ما جاء به من عند اللّه حق، وأنكم صفوة اللّه من خلقه، وأن شيعتكم المطهرون المستبدلون، ولهم عاقبة اللّه، والحمد لله رب العالمين. فدعا أبو إبراهيم (عليه السلام) بجبة خز، وقميص قوهي، وطيلسان، وخف، وقلنسوة، فأعطاها إياه وصلى الظهر، وقال له: «اختتن». فقال: قد اختتنت في سابعي(1).
عن محمد الرافعي، قال: كان لي ابن عم يقال له: الحسن بن عبد اللّه، وكان زاهداً، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يلقاه السلطان، وربما استقبل السلطان بالكلام الصعب، يعظه ويأمر بالمعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه. فلم يزل هذه حاله حتى كان يوماً دخل أبو الحسن موسى (عليه السلام) المسجد، فرآه فأدنى إليه، ثم قال له: «يا أبا علي، ما أحب إليَّ ما أنت فيه، وأسرني بك إلا أنه ليست لك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة». قال: جعلت فداك وما المعرفة؟. قال له: «اذهب وتفقه واطلب الحديث». قال: عمن؟. قال: «عن أنس
ص: 78
بن مالك، وعن فقهاء أهل المدينة، ثم اعرض الحديث عليَّ». قال: فذهب فتكلم معهم، ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كله. ثم قال له: «اذهب واطلب المعرفة». وكان الرجل معنياً بدينه، فلم يزل يترصد أبا الحسن، حتى خرج إلى ضيعة له، فتبعه ولحقه في الطريق. فقال له: جعلت فداك، إني أحتج عليك بين يدي اللّه، فدلني على المعرفة؟. قال: فأخبره بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقال له: «كان أمير المؤمنين بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ». وأخبره بأمر أبي بكر وعمر فقبل منه، ثم قال: فمن كان بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟. قال: «الحسن ثم الحسين (عليهما السلام) »، حتى انتهى إلى نفسه (عليه السلام) ، ثم سكت. قال: جعلت فداك، فمن هو اليوم؟. قال: «إن أخبرتك تقبل». قال: بلى جعلت فداك. فقال: «أنا هو». قال: جعلت فداك، فشي ء أستدل به؟. قال: «اذهب إلى تلك الشجرة - وأشار إلى أم غيلان - فقل لها: يقول لكِ موسى بن جعفر: أقبلي». قال: فأتيتها - قال - فرأيتها واللّه تجب الأرض جبوباً حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت. قال: فأقر به ثم لزم السكوت، فكان لا يراه أحد يتكلم بعد ذلك، وكان من قبل ذلك يرى الرؤيا الحسنة ويرى له، ثم انقطعت عنه الرؤيا. فرأى ليلة أبا عبد اللّه (عليه السلام) فيما يرى النائم، فشكا إليه انقطاع الرؤيا. فقال: «لا تغتم؛ فإن المؤمن إذا رسخ في الإيمان رفع عنه الرؤيا»(1).
عن هشام بن الحكم - في حديث برية - أنه لما جاء معه إلى أبي عبد اللّه، فلقي أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فحكى له هشام الحكاية، فلما فرغ. قال أبو
ص: 79
الحسن لبرية: «يا برية، كيف علمك بكتابك؟». قال: أنا به عالم. ثم قال: «كيف ثقتك بتأويله؟». قال: ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ أبو الحسن يقرأ الإنجيل. فقال برية: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك. قال: فقال: فآمن برية وحسن إيمانه، وآمنت المرأة التي كانت معه، فدخل هشام وبرية والمرأة على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فحكى له هشام الكلام الذي جرى بين أبي الحسن موسى (عليه السلام) وبين برية. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1). فقال برية: أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟!. قال: «هي عندنا وراثة من عندهم، نقرأها كما قرءوها، ونقولها كما قالوا، إن اللّه لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شي ء فيقول: لا أدري»(2).
يقول العلامة الحلي (رحمه اللّه) في منهاج الكرامة:
تاب بشر على يد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، حيث مر الإمام (عليه السلام) يوماً على باب دار بشر في بغداد، فسمع صوت الغناء والطرب من داره، وإذا بجارية خرجت من الدار لرمي القمامة.
فسألها الإمام (عليه السلام) : «هل صاحب الدار عبد أم حر؟».
فقالت: إنه حر.
فقال (عليه السلام) : «صدقتِ، لو كان عبداً لخاف من مولاه».
ص: 80
فلما رجعت الجارية سألها بشر لم تأخرتِ؟.
فقالت القصة، فأثر كلام الإمام في قلب بشر، وخرج حافياً يركض نحو الإمام، وهو يبكى، وتاب على يديه(1).
يقول المحدث القمي: إنه كان لبشر ثلاث أخوات كلهن على طريقته من الزهد والتقوى(2).
وسمي حافياً؛ لأنه كان يمشي حافياً بعد توبته دائماً، وذلك لأنه تشرف لرؤية الإمام الكاظم (عليه السلام) حافياً، وتاب حافياً.
وقد سئل بشر لماذا تمشي دائماً حافياً، فقال: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِساطاً}(3)، وليس من الأدب أن يمشي الإنسان على بساط السلاطين منتعلا(4).
أقول: السلطان بنفسه أجاز ذلك ورخص فيه، بل أمر به في غير ما استثني، وامتثاله أكثر أدباً، ولذلك كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يلبسون الحذاء، كما يفهم من قوله تعالى لموسى (عليه السلام) : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}(5).
حيث يستفاد من هذه الآية أن النبي موسى (عليه السلام) لم يكن يمشي حافياً وكان منتعلاً. نعم، ربما يكون المشي حافياً - في بعض الأوقات أو بعض الأماكن - هو الأفضل لا دائماً، كما يستفاد من الآية المذكورة.
ثم لا يخفى أن من أسرار توفيق بشر للتوبة على يد الإمام موسى بن
ص: 81
جعفر (عليه السلام) ، أن بشر كان قد أكرم القرآن واحترمه، في قصة مذكورة في التاريخ.
ينقل أن بشر كان يمشي يوماً في زقاق على هيئته من اللّهو واللعب والفسق والفجور، وإذا به يرى ورقة من القرآن الكريم على جانب الطريق، فأخذ الورقة واشترى عطراً بأربعة دراهم فعطرها، وجعلها في ثقب من الحائط، وكان هذا الاحترام سبب هدايته، وتوبته على يد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) (1).
مرّ عن يعقوب السراج أنه قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وهو واقف على رأس أبي الحسن - الكاظم - (عليه السلام) وهو في المهد، فجعل يساره طويلاً. فقال لي: «ادن إلى مولاك».
فدنوت فسلمت عليه، فرد عليّ السلام بلسان فصيح، ثم قال: «اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سميتها أمس؛ فإنه اسم يبغضه اللّه».
وكانت ولدت لي ابنة فسميتها بعائشة، فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «انته إلى أمره ترشد»، فغيرت اسمها(2).
ص: 82
8
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أعبد الناس في زمانه.
يقول محمد بن طلحة الشافعي:
الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود له بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق باب الحوائج إلى اللّه؛ لنجح مطالب المتوسلين إلى اللّه تعالى به، كرامته تحار منها العقول، وتقضي بأن له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول(1).
عن أحمد بن عبد اللّه القروي، عن أبيه، قال: دخلت على الفضل بن الربيع، وهو جالس على سطح. فقال لي: ادن مني. فدنوت حتى حاذيته ثم قال
ص: 83
لي: أشرف إلى البيت في الدار. فأشرفت، فقال: ما ترى في البيت؟.
قلت: ثوباً مطروحاً.
فقال: انظر حسناً.
فتأملت ونظرت فتيقنت فقلت: رجل ساجد.
فقال لي: تعرفه؟.
قلت: لا.
قال: هذا مولاك.
قلت: ومن مولاي؟.
فقال: تتجاهل عليَّ.
فقلت: ما أتجاهل، ولكني لا أعرف لي مولى.
فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، إني أتفقده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها، إنه يصلي الفجر فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد له الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس، إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد وضوءاً، فأعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى العصر سجد سجدة، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته، فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة، فإذا صلى العتمة أفطر على شوي يؤتى به، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد، ثم يرفع رأسه، فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدد الوضوء، ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى
ص: 84
يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام: إن الفجر قد طلع، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبه منذ حوِّل إليَّ.
فقلت: اتق اللّه، ولا تحدثن في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة.
فقال: قد أرسلوا إليَّ في غير مرة يأمرونني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني(1).
عن الثوباني، قال: كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال - قال - فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبا الحسن (عليه السلام) . فكان يرى أبا الحسن (عليه السلام) ساجداً، فقال للربيع: ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟. قال: يا أمير ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر (عليه السلام) ، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال. قال الربيع: فقال لي هارون: أما إن هذا من رهبان بني هاشم. قلت: فما لك فقد ضيقت عليه في الحبس؟. قال: هيهات لا بد من ذلك(2).
عن الخطيب البغدادي، قال: كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح؛ من عبادته واجتهاده. روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فسجد سجدة
ص: 85
في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: «عظيم الذنب عندي، فليحسن العفو عندك. يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة». فجعل يرددها حتى أصبح(1).
وقال ابن الجوزي: وكان يسمى موسى بن جعفر بالعبد الصالح؛ لعبادته واجتهاده، وقيامه في الليل، وصيامه في النهار.
روي أن الإمام الكاظم (عليه السلام) دخل مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أول ليلة وسجد فيها إلى الفجر، وهو يقول في سجوده مكرراً: «عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك»(2).
في رواية: إن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كان يسجد في الصباح إلى الزوال سجدة واحدة، ويكرر فيها قوله: «اللّهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب»(3).
وروي أنه كانت لموسى بن جعفر (عليه السلام) بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال، وكان (عليه السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن، وبكى السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية اللّه حتى تخضل لحيته بالدموع(4).
ص: 86
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : كان الإمام موسى بن جعفر أعبد أهل زمانه(1).
وقال (رحمه اللّه) : كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يبكي من خشية اللّه حتى تخضل لحيته بالدموع، وكان إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي، ويبكي السامعون لتلاوته(2).
وقال (رحمه اللّه) : كان أبو الحسن موسى (عليه السلام) أعبد أهل زمانه وأزهدهم وأفقههم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفسا، وروي أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس، وكان يبكي من خشية اللّه حتى تخضل لحيته بالدموع(3).
قال ابن شهرآشوب: كان (عليه السلام) أفقه أهل زمانه، وأحفظهم لكتاب اللّه، وأحسنهم صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ تحزن وبكى، وبكى السامعون لتلاوته، وكان أجلّ الناس شأناً، وأعلاهم في الدين مكاناً، وأفصحهم لساناً، وأشجعهم جناناً، قد خصه اللّه بشرف الولاية، وحاز إرث النبوة، وبوئ محل الخلافة، سليل النبوة، وعقيد الخلافة(4).
روي أن بعض عيون عيسى بن جعفر، رفع إليه أنه يسمع الإمام الكاظم (عليه السلام)
ص: 87
كثيراً يقول في دعائه - وهو محبوس عنده -: «اللّهم إنّكَ تَعْلَمُ أنّي كُنْتُ أسألُكَ أنْ تُفْرِغَني لِعِبادَتِكَ، اللّهُمّ وَقَدْ فَعَلْتَ فَلَكَ الحمْد»(1).
كتب عيسى بن جعفر إلى هارون يقول له: لقد طال أمر موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ومقامه في حبسي. وقد اختبرت حاله، ووضعت عليه العيون طول هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه، فما دعى عليك ولا عليَّ، ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة(2).
لما أمر هارون الفضل بن الربيع بسجن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، جعله في بعض حجر دوره، ووضع عليه الرصد. فكان (عليه السلام) مشغولاً بالعبادة، يحيي الليل كله صلاةً، وقراءةً للقرآن، ودعاءً واجتهاداً، ويصوم النهار في أكثر الأيام، ولا يصرف وجهه عن المحراب(3).
عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام) : «إني أستغفر اللّه في كل يوم خمسة آلاف مرة»(4).
ص: 88
قال علي بن جعفر: خرجنا مع أخي موسى بن جعفر (عليه السلام) في أربع عمر، يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً، وأخرى خمسة وعشرين يوماً، وأخرى أربعة وعشرين يوماً، وأخرى أحداً وعشرين يوماً(1).
في الكافي: عن هشام بن أحمر، قال: كنت أسير مع أبي الحسن (عليه السلام) في بعض أطراف المدينة، إذ ثنى رجله عن دابته فخر ساجداً، فأطال وأطال ثم رفع رأسه وركب دابته. فقلت: جعلت فداك، قد أطلت السجود؟!. فقال: «إنني ذكرت نعمة أنعم اللّه بها عليَّ، فأحببت أن أشكر ربي»(2).
قال الفضل - لما أمره هارون بجلب الإمام (عليه السلام) -: مضيت إلى منزل أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فأتيت إلى خربة فيها كوخ من جرائد النخل، فإذا أنا بغلام أسود. فقلت له: استأذن لي على مولاك يرحمك اللّه. فقال لي: لج ليس له حاجب ولا بواب. فولجت إليه، فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص، يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه؛ من كثرة سجوده(3).
ص: 89
9
عن مولى لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: كنا مع أبي الحسن (عليه السلام) حين قدم به البصرة، فلما أن كان قرب المدائن، ركبنا في أمواج كثيرة، وخلفنا سفينة فيها امرأة تزفّ إلى زوجها، وكانت لهم جلبة. فقال: «ما هذه الجلبة؟».
قلنا: عروس، فما لبثنا أن سمعنا صيحة.
فقال: «ما هذا؟».
فقالوا: ذهبت العروس لتغترف ماءً، فوقع منها سوار من ذهب فصاحت.
فقال (عليه السلام) : «احبسوا، وقولوا لملاحهم يحبس». فحبسنا وحبس ملاحهم، فاتكأ (عليه السلام) على السفينة، وهمس قليلاً وقال: «قولوا لملاحهم: يتزر بفوطة، وينزل فيتناول السوار».
فنظرنا فإذا السوار على وجه الأرض، وإذا ماء قليل فنزل الملاح فأخذ السوار.
فقال (عليه السلام) : «أعطها، وقل لها: فلتحمد اللّه ربها».
ثم سرنا فقال له أخوه إسحاق: جعلت فداك، الدعاء الذي دعوت به علمنيه.
ص: 90
قال: «نعم، ولا تعلمه من ليس له بأهل، ولا تعلمه إلاّ من كان من شيعتنا» ثم قال: «اكتب». فأملى عليَّ إنشاءً:
«يا سابقَ كلِّ فَوْت، يا سامعاً لِكُلِّ صَوْتٍ قَوي أو خَفِي، يا محُييَ النفُوسِ بَعدَ الموت، لا تَغْشاكَ الظُلُماتُ الحندسية، ولا تَشابَهُ عَلَيك اللُّغاتُ المختلفة، وَلا يَشْغُلُكَ شيء عَن شيء، يا من لا يشغله دَعْوَة دَاعٍ دعاه من السماء، يا من له عند كل شيء من خلقه سمع سامع وبصر نافذ، يا من لا تُغَلّطُه كثرة المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، يا حيُّ حين لا حيَّ في ديمومة مُلكه وبَقائه، يا من سكن العُلَى، واحتَجَبَ عَن خَلقه بنوره، يَا مَن أشرقت لنوره دُجَى الظُلَم، أسألك باسمك الواحد الأحد، الفردِ الصمد، الذي هو من جميع أركانك، صلِّ على محمد وأهل بيته»، ثم سَل حاجتك.(1).
روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) ، أنه قرأ هذا الدعاء لما أُخبر بأن موسى العباسي همّ بقتله:
«إِلَهِي كَمْ مِنْ عَدُوٍّ شَحَذَ لِي ظُبَةَ مُدْيَتِهِ، وَأَرْهَفَ لِي شَبَا حَدِّهِ، وَدَافَ لِي قَوَاتِلَ سُمُومِهِ، وَلَمْ تَنَمْ عَنِّي عَيْنُ حِرَاسَتِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتَ ضَعْفِي عَنِ احْتِمَالِ الْفَوَادِحِ، وَعَجْزِي عَنْ مُلِمَّاتِ الْجَوَائِحِ، صَرَفْتَ ذَلِكَ عَنِّي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، لاَ بِحَوْلٍ مِنِّي وَلاَ بِقُوَّةٍ، فَأَلْقَيْتَهُ فِي الْحَفِيرِ الَّذِي احْتَفَرَهُ لِي خَائِباً مِمَّا أَمَّلَهُ فِي الدُّنْيَا، مُتَبَاعِداً مِمَّا رَجَاهُ فِي الآخِرَةِ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ قَدْرَ اسْتِحْقَاقِكَ. سَيِّدِي اللَّهُمَّ فَخُذْهُ بِعِزَّتِكَ، وَافْلُلْ حَدَّهُ عَنِّي بِقُدْرَتِكَ، وَاجْعَلْ لَهُ شُغُلاً فِيمَا
ص: 91
يَلِيهِ، وَعَجْزاً عَمَّا يُنَاوِيهِ. اللَّهُمَّ وَأعذني عَلَيْهِ عَدْوَى حَاضِرَةً، تَكُونُ مِنْ غَيْظِي شِفَاءً، وَمِنْ حَنَقِي عَلَيْهِ وَفَاءً، وَصِلِ اللَّهُمَّ دُعَائِي بِالإِجَابَةِ، وَانْظِمْ شِكَايَتِي بِالتَّغْيِيرِ، وَعَرِّفْهُ عَمَّا قَلِيلٍ مَا أَوْعَدْتَ الظَّالِمِينَ، وَعَرِّفْنِي مَا وَعَدْتَ فِي إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَالْمَنِّ الْكَرِيمِ».
قال الراوي: ثم تفرق القوم، فما اجتمعوا إلا لقراءة الكتاب بموت موسى بن المهدي العباسي(1).
عن إبراهيم بن صالح، عن رجل من الجعفريين، قال: كان بالمدينة عندنا رجل يكنى أبا القمقام وكان محارفاً، فأتى أبا الحسن (عليه السلام) ، فشكا إليه حرفته، وأخبره أنه لا يتوجه في حاجة له فتقضى له. فقال له أبو الحسن (عليه السلام) : «قل في آخر دعائك من صلاة الفجر:
«سُبْحَانَ اللّهِ العَظِيمِ وَبحمْدِهِ، أستَغْفِرُ اللّهَ وَأتُوبُ إلَيه، وَأسْألُهُ مِن فَضْلِهِ»، عشر مرات.
قال أبو القمقام: فلزمت ذلك، فو اللّه ما لبثت إلاّ قليلاً حتى ورد عليَّ قوم من البادية، فأخبروني أن رجلاً من قومي مات، ولم يعرف له وارث غيري، فانطلقت فقبضت ميراثه وأنا مستغن(2).
كان الإمام موسى بن جعفر يدعو كثيراً فيقول: «اللّهُمَّ إنيّ أسألُكَ الرّاحَةَ
ص: 92
عِنْدَ المَوْتِ، وَالعَفْوَ عِنْدَ الحِسَابِ» ويكرر ذلك(1).
وكان من دعائه (عليه السلام) : «عَظُمَ الذنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنِ الْعَفْوُ مِنْ عِنْدِكَ»(2)، وكان يبكي من خشية اللّه حتى تخضل لحيته بالدموع(3).
وكان (عليه السلام) يقول أيضاً في سجوده: «قَبُحَ الذنْبُ مِنْ عَبْدِكَ، فَلْيَحْسُنِ الْعَفْوُ وَالتَّجَاوُز مِن عِنْدِك»(4).
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي، ويبكي السامعون لتلاوته(5).
في الكافي: عن حفص، قال: ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ولا أرجى للناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً(6).
وكان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أحفظ الناس لكتاب اللّه، وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأه يحزن ويبكي السامعون بتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمونه زين المجتهدين(7).
ص: 93
عن سعد بن خلف، قال: قال موسى بن جعفر (عليه السلام) : «والصلوات المفروضات في أول وقتها، إذا أقيمت حدودها أطيب ريحاً من قضيب الآس يؤخذ من شجره في طراوته وطيبه وريحه، فعليكم بالوقت الأول»(1).
روى مهج الدعوات والبحار هذا القنوت من الإمام الكاظم (عليه السلام) :
«يَا مَفْزَعَ الْفَازِعِ، وَمَأْمَنَ الْهَالِعِ، وَمَطْمَعَ الطَّامِعِ، وَمَلْجَأَ الضَّارِعِ، يَا غَوْثَ اللَّهْفَانِ، وَمَأْوَى الْحَيْرَانِ، وَمُرَوِّيَ الظَّمْئَانِ، وَمُشْبِعَ الْجَوْعَانِ، وَكَاسِيَ الْعُرْيَانِ، وَحَاضِرَ كُلِّ مَكَانٍ، بِلا دَرْكٍ وَلا عَيَانٍ، وَلا صِفَةٍ وَلا بِطَانٍ، عَجَزَتِ الأَفْهَامُ وَضَلَّتِ الأَوْهَامُ عَنْ مُوَافَقَةِ صِفَةِ دَابَّةٍ مِنَ الْهَوَامِّ، فَضْلا عَنِ الأَجْرَامِ الْعِظَامِ، مِمَّا أَنْشَأَتْ حِجَاباً لِعَظَمَتِكَ، وَأَنَّى يَتَغَلْغَلُ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لا يُرَامُ.
تَقَدَّسْتَ يَا قُدُّوسُ عَنِ الظُّنُونِ وَالْحُدُوسِ، وَأَنْتَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، بَارِي الأَجْسَامِ وَالنُّفُوسِ، وَمُنَخِّرُ الْعِظَامِ، وَمُمِيتُ الأَنَامِ وَمُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ وَالتَّطْمِيسِ، وَأَسْأَلُكَ يَا ذَا الْقُدْرَةِ وَالْعَلاءِ وَالْعِزِّ وَالثَّنَاءِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أُولِي النُّهَى وَالْمَحَلِّ الأَوْفَى وَالْمَقَامِ الأَعْلَى وَأَنْ تُعَجِّلَ مَا قَدْ تَأَجَّلَ، وَتُقَدِّمَ مَا قَدْ تَأَخَّرَ، وَتَأْتِيَ بِمَا قَدْ وَجَبَ إِتْيَانُهُ، وَتُقَرِّبَ مَا قَدْ تَأَخَّرَ فِي النُّفُوسِ الْحَصِرَةِ أَوَانُهُ، وَتَكْشِفَ الْبَأْسَ وَسُوءَ اللِّبَاسِ وَعَوَارِضَ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَتَكْفِيَنَا مَا قَدْ رَهِقَنَا وَتَصْرِفَ عَنَّا مَا قَدْ رَكِبَنَا وَتُبَادِرَ اصْطِلامَ الظَّالِمِينَ
ص: 94
وَنَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالإِدَالَةَ مِنَ الْعَانِدِينَ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ»(1).
ودعا الإمام (عليه السلام) في قنوته أيضاً:
«اللَّهُمَّ إِنِّي وَفُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ عَبْدَانِ مِنْ عَبِيدِكَ، نَوَاصِينَا بِيَدِكَ، تَعْلَمُ مُسْتَقَرَّنَا وَمُسْتَوْدَعَنَا، وَمُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، وَسِرَّنَا وَعَلاَنِيَتَنَا، تَطَّلِعُ عَلَى نِيَّاتِنَا، وَتُحِيطُ بِضَمَائِرِنَا، عِلْمُكَ بِمَا نُبْدِيهِ كَعِلْمِكَ بِمَا نُخْفِيهِ، وَمَعْرِفَتُكَ بِمَا نُبْطِنُهُ كَمَعْرِفَتِكَ بِمَا نُظْهِرُهُ، وَلاَ يَنْطَوِي عِنْدَكَ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِنَا، وَلاَ يَسْتَتِرُ دُونَكَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِنَا، وَلاَ مِنْكَ مَعْقِلٌ يُحْصِنُنُا، وَلاَ حِرْزٌ يُحْرِزُنَا، وَلاَ مَهْرَبٌ لَنَا نَفُوتُكَ بِهِ، وَلاَ يَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنْكَ حُصُونُهُ، وَلاَ يُجَاهِدُكَ عَنْهُ جُنُودُهُ، وَلاَ يُغَالِبُكَ مُغَالِبٌ بِمَنْعِهِ، وَلاَ يُعَازُّكَ مُعَازٌّ بِكَثْرَةٍ، أَنْتَ مُدْرِكُهُ أَيْنَمَا سَلَكَ، وَقَادِرٌ عَلَيْهِ أَيْنَمَا لَجَأَ، فَمَعَاذُ الْمَظْلُومِ مِنَّا بِكَ، وَتَوَكُّلُ الْمَقْهُورِ مِنَّا عَلَيْكَ، وَرُجُوعُهُ إِلَيْكَ، يَسْتَغِيثُ بِكَ إِذَا خَذَلَهُ الْمُغِيثُ، وَيَسْتَصْرِخُكَ إِذَا قَعَدَ عَنْهُ النَّصِيرُ، وَيَلُوذُ بِكَ إِذَا نَفَتْهُ الأَفْنِيَةُ، وَيَطْرُقُ بَابَكَ إِذَا غُلِّقَتْ عَنْهُ الأَبْوَابُ الْمُرْتَجَةُ، وَيَصِلُ إِلَيْكَ إِذَا احْتَجَبَتْ عَنْهُ الْمُلُوكُ الْغَافِلَةُ، تَعْلَمُ مَا حَلَّ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَشْكُوَهُ إِلَيْكَ، وَتَعْلَمُ مَا يُصْلِحُهُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَكَ لَهُ، فَلَكَ الْحَمْدُ سَمِيعاً لَطِيفاً، عَلِيماً خَبِيراً، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِكَ، وَمُحْكَمِ قَضَائِكَ، وَجَارِي قَدَرِكَ، وَنَافِذِ أَمْرِكَ، وَمَاضِي مَشِيَّتِكَ فِي خَلْقِكَ أَجْمَعِينَ، شَقِيِّهِمْ وَسَعِيدِهِمْ، وَبَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، أَنْ جَعَلْتَ لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ عَلَيَّ قُدْرَةً، فَظَلَمَنِي بِهَا، وَبَغَى عَلَيَّ بِمَكَانِهَا، وَاسْتَطَالَ وَتَعَزَّزَ بِسُلْطَانِهِ الَّذِي خَوَّلْتَهُ إِيَّاهُ، وَتَجَبَّرَ وَافْتَخَرَ بِعُلُوِّ حَالِهِ الَّذِي نَوَّلْتَهُ، وَغَرَّهُ إِمْلاَؤُكَ لَهُ،
ص: 95
وَأَطْغَاهُ حِلْمُكَ عَنْهُ، فَقَصَدَنِي بِمَكْرُوهٍ عَجَزْتُ عَنِ الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَتَعَمَّدَنِي بَشَرٍّ ضَعُفْتُ عَنِ احْتِمَالِهِ، وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى الاِنْتِصَافِ مِنْهُ لِضَعْفِي، وَلاَ عَلَى الاِنْتِصَارِ لِقِلَّتِي، فَوَكَلْتُ أَمْرَهُ إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ فِي شَأْنِهِ عَلَيْكَ، وَتَوَعَّدْتُهُ بِعُقُوبَتِكَ، وَحَذَّرْتُهُ بِبَطْشِكَ، وَخَوَّفْتُهُ نَقِمَتَكَ، فَظَنَّ أَنَّ حِلْمَكَ عَنْهُ مِنْ ضَعْفٍ، وَحَسِبَ أَنَّ إِمْلاِءَكَ لَهُ عَنْ عَجْزٍ، وَلَمْ تَنْهَهُ وَاحِدَةٌ عَنْ أُخْرَى، وَلاَ انْزَجَرَ عَنْ ثَانِيَةٍ بِأُولَى، لَكِنَّهُ تَمَادَى فِي غَيِّهِ، وَتَتَابَعَ فِي ظُلْمِهِ، وَلَجَّ فِي عُدْوَانِهِ، وَاسْتَثْرَى فِي طُغْيَانِهِ، جُرْأَةً عَلَيْكَ يَا سَيِّدِي وَمَوْلايَ، وَتَعَرُّضاً لِسَخَطِكَ الَّذِي لاَ تَرُدُّهُ عَنِ الظَّالِمِينَ، وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ بِبَأْسِكَ الَّذِي لاَ تَحْبِسُهُ عَنِ الْبَاغِينَ، فَهَا أَنَا ذَا يَا سَيِّدِي مُسْتَضْعَفٌ فِي يَدِهِ، مُسْتَضَامٌ تَحْتَ سُلْطَانِهِ، مُسْتَذِلٌّ بِفِنَائِهِ، مَغْلُوبٌ مَبْغِيٌّ عَلَيَّ، مَرْعُوبٌ وَجِلٌ، خَائِفٌ مُرَوَّعٌ مَقْهُورٌ، قَدْ قَلَّ صَبْرِي، وَضَاعَتْ حِيلَتِي، وَانْغَلَقَتْ عَلَيَّ الْمَذَاهِبُ إِلاَّ إِلَيْكَ، وَانْسَدَّتْ عَنِّي الْجِهَاتُ إِلاَّ جِهَتُكَ، وَالْتَبَسَتْ عَلَيَّ أُمُورِي فِي دَفْعِ مَكْرُوهِهِ عَنِّي، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيَّ الآرَاءُ فِي إِزَالَةِ ظُلْمِهِ، وَخَذَلَنِي مَنِ اسْتَنْصَرْتُهُ مِنْ خَلْقِكَ، وَأَسْلَمَنِي مَنْ تَعَلَّقْتُ بِهِ مِنْ عِبَادِكَ، فَاسْتَشَرْتُ نَصِيحِي، فَأَشَارَ عَلَيَّ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ، وَاسْتَرْشَدْتُ دَلِيلِي فَلَمْ يَدُلَّنِي إِلاَّ عَلَيْكَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْكَ يَا مَوْلاَيَ صَاغِراً، رَاغِماً مُسْتَكِيناً، عَالِماً أَنَّهُ لاَ فَرَجَ لِي إِلاَّ عِنْدَكَ، وَلاَ خَلاَصَ لِي إِلاَّ بِكَ، أَنْتَجِزُ وَعْدَكَ فِي نُصْرَتِي، وَإِجَابَةِ دُعَائِي؛ لأَنَّ قَوْلَكَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يُرَدُّ وَلاَ يُبَدَّلُ، وَقَدْ قُلْتَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ: وَمَنْ {بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللّهُ}(1)، وَقُلْتَ جَلَّ ثَنَاؤُكَ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُكَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2)، فَأَنَا فَاعِلٌ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ لاَ مَنّاً عَلَيْكَ، وَكَيْفَ أَمُنُّ بِهِ وَأَنْتَ عَلَيْهِ دَلَلْتَنِي، فَاسْتَجِبْ لِي
ص: 96
كَمَا وَعَدْتَنِي، يَا مَنْ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ يَا سَيِّدِي أَنَّ لَكَ يَوْماً تَنْتَقِمُ فِيهِ مِنَ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ، وَأَتَيَقَّنُ أَنَّ لَكَ وَقْتاً تَأْخُذُ فِيهِ مِنَ الْغَاصِبِ لِلْمَغْصُوبِ؛ لأَنَّهُ لاَ يَسْبِقُكَ مُعَانِدٌ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنْ قَبْضَتِكَ مُنَابِذٌ، وَلاَ تَخَافُ فَوْتَ فَائِتٍ، وَلَكِنَّ جَزَعِي وَهَلَعِي لاَ يَبْلُغَانِ الصَّبْرَ عَلَى أَنَاتِكَ، وَانْتِظَارَ حِلْمِكَ، فَقُدْرَتُكَ يَا سَيِّدِي فَوْقَ كُلِّ قُدْرَةٍ، وَسُلْطَانُكَ غَالِبٌ كُلَّ سُلْطَانٍ، وَمَعَادُ كُلِّ أَمَدٍ إِلَيْكَ وَإِنْ أَمْهَلْتَهُ، وَرُجُوعُ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَيْكَ وَإِنْ أَنْظَرْتَهُ، وَقَدْ أَضَرَّنِي يَا سَيِّدِي حِلْمُكَ عَنْ فُلاَنٍ، وَطُولُ أَنَاتِكَ لَهُ، وَإِمْهَالُكَ إِيَّاهُ، فَكَادَ الْقُنُوطُ يَسْتَوْلِي عَلَيَّ لَوْلاَ الثِّقَةُ بِكَ، وَالْيَقِينُ بِوَعْدِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي قَضَائِكَ النَّافِذِ، وَقُدْرَتِكَ الْمَاضِيَةِ، أَنَّهُ يُنِيبُ أَوْ يَتُوبُ، أَوْ يَرْجِعُ عَنْ ظُلْمِي، وَيَكُفُّ عَنْ مَكْرُوهِي، وَيَنْتَقِلُ عَنْ عَظِيمِ مَا رَكِبَ مِنِّي، فَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَوْقِعْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ السَّاعَةَ السَّاعَةَ، قَبْلَ إِزَالَةِ نِعْمَتِكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ، وَتَكْدِيرِ مَعْرُوفِكَ الَّذِي صَنَعْتَهُ عِنْدِي، وَإِنْ كَانَ عِلْمُكَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُقَامِهِ عَلَى ظُلْمِي، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ يَا نَاصِرَ الْمَظْلُومِينَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهِمْ إِجَابَةَ دَعْوَتِي، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَخُذْهُ مِنْ مَأْمَنِهِ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَأَفْجِئْهُ فِي غَفْلَتِهِ مُفَاجَأَةَ مَلِيكٍ مُنْتَصِرٍ، وَاسْلُبْهُ نِعْمَتَهُ وَسُلْطَانَهُ، وَافْضُضْ عَنْهُ جُمُوعَهُ وَأَعْوَانَهُ، وَمَزِّقْ مُلْكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَفَرِّقْ أَنْصَارَهُ كُلَّ مُفَرَّقٍ، وَأَعِرْهُ مِنْ نِعْمَتِكَ الَّتِي لاَ يُقَابِلُهَا بِالشُّكْرِ، وَانْزِعْ عَنْهُ سِرْبَالَ عِزِّكَ الَّذِي لَمْ يُجَازِهِ بِإِحْسَانٍ، وَاقْصِمْهُ يَا قَاصِمَ الْجَبَابِرَةِ، وَأَهْلِكْهُ يَا مُهْلِكَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَأَبِرْهُ يَا مُبِيرَ الأُمَمِ الظَّالِمَةِ، وَاخْذُلْهُ يَا خَاذِلَ الْفِرَقِ الْبَاغِيَةِ، وَابْتُرْ عُمُرَهُ، وَابْتَزَّهُ مُلْكَهُ، وَعِفَّ أَثَرَهُ، وَاقْطَعْ خَبَرَهُ، وَأَطْفِ نَارَهُ، وَأَظْلِمْ نَهَارَهُ، وَكَوِّرْ شَمْسَهُ، وَأَزْهِقْ نَفْسَهُ، وَاهْشِمْ سُوقَهُ، وَجُبَّ سَنَامَهُ، وَأَرْغِمْ أَنْفَهُ، وَعَجِّلْ حَتْفَهُ، وَلاَ تَدَعْ لَهُ جُنَّةً إِلاَّ هَتَكْتَهَا، وَلاَ دِعَامَةً إِلاَّ قَصَمْتَهَا،
ص: 97
وَلاَ كَلِمَةً مُجْتَمِعَةً إِلاَّ فَرَّقْتَهَا، وَلاَ قَائِمَةَ عُلُوٍّ إِلاَّ وَضَعْتَهَا، وَلاَ رُكْناً إِلاَّ وَهَنْتَهُ، وَلاَ سَبَباً إِلاَّ قَطَعْتَهُ، وَأَرِنَا أَنْصَارَهُ عَبَادِيدَ بَعْدَ الأُلْفَةِ، وَشَتَّى بَعْدَ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَمُقْنِعِي الرُّءُوسِ بَعْدَ الظُّهُورِ عَلَى الأُمَّةِ، وَاشْفِ بِزَوَالِ أَمْرِهِ الْقُلُوبَ الْوَجِلَةَ، وَالأَفْئِدَةَ اللَّهِفَةَ، وَالأُمَّةَ الْمُتَحَيِّرَةَ، وَالْبَرِّيَّةَ الضَّائِعَةَ، وَأَدِلْ بِبَوَارِهِ الْحُدُودَ الْمُعَطَّلَةَ، وَالسُّنَنَ الدَّاثِرَةَ، وَالأَحْكَامَ الْمُهْمَلَةَ، وَالْمَعَالِمَ الْمُغَيَّرَةَ، وَالآيَاتِ الْمُحَرَّفَةَ، وَالْمَدَارِسَ الْمَهْجُورَةَ، وَالْمَحَارِيبَ الْمَجْفُوَّةَ، وَالْمَشَاهِدَ الْمَهْدُومَةَ، وَأَشْبِعْ بِهِ الْخِمَاصَ السَّاغِبَةَ، وَأَرْوِ بِهِ اللَّهَوَاتِ اللاَّغِبَةَ، وَالأَكْبَادَ الظَّامِئَةَ، وَأَرِحْ بِهِ الأَقْدَامَ الْمُتْعَبَةَ، وَاطْرُقْهُ بِلَيْلَةٍ لاَ أُخْتَ لَهَا، وَبِسَاعَةٍ لاَ مَثْوَى فِيهَا، وَبِنَكْبَةٍ لاَ انْتِعَاشَ مَعَهَا، وَبِعَثْرَةٍ لاَ إِقَالَةَ مِنْهَا، وَأَبِحْ حَرِيمَهُ، وَنَغِّصْ نَعِيمَهُ، وَأَرِهِ بَطْشَتَكَ الْكُبْرَى، وَنَقِمَتَكَ الْمُثْلَى، وَقُدْرَتَكَ الَّتِي فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانَكَ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَاغْلِبْهُ لِي بِقُوَّتِكَ الْقَوِيَّةِ، وَمِحَالِكَ الشَّدِيدِ، وَامْنَعْنِي مِنْهُ بِمَنْعِكَ الَّذِي كُلُّ خَلْقٍ فِيهِ ذَلِيلٌ، وَابْتَلِهِ بِفَقْرٍ لاَ تَجْبُرُهُ، وَبِسُوءٍ لاَ تَسْتُرُهُ، وَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ فِيمَا يُرِيدُ، إِنَّكَ فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدُ، وَأَبْرِئْهُ مِنْ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَكِلْهُ إِلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَأَزِلْ مَكْرَهُ بِمَكْرِكَ، وَادْفَعْ مَشِيَّتَهُ بِمَشِيَّتِكَ، وَأَسْقِمْ جَسَدَهُ، وَأَيْتِمْ وُلْدَهُ، وَانْقُصْ أَجَلَهُ، وَخَيِّبْ أَمَلَهُ، وَأَدِلْ دَوْلَتَهُ، وَأَطِلْ عَوْلَتَهُ، وَاجْعَلْ شُغُلَهُ فِي بَدَنِهِ، وَلاَ تَفُكَّهُ مِنْ حُزْنِهِ، وَصَيِّرْ كَيْدَهُ فِي ضَلاَلٍ، وَأَمْرَهُ إِلَى زَوَالٍ، وَنِعْمَتَهُ إِلَى انْتِقَالٍ، وَجِدَّهُ فِي سَفَالٍ، وَسُلْطَانَهُ فِي اضْمِحْلاَلٍ، وَعَاقِبَتَهُ إِلَى شَرِّ مَئَالٍ، وَأَمِتْهُ بِغَيْظِهِ إِنْ أَمَتَّهُ، وَأَبْقِهِ بِحَسْرَتِهِ إِنْ أَبْقَيْتَهُ، وَقِنِي شَرَّهُ، وَهَمْزَهُ وَلَمْزَهُ، وَسَطْوَتَهُ وَعَدَاوَتَهُ، وَالْمَحْهُ لَمْحَةً تُدَمِّرُ بِهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ أَشَدُّ بَأْساً، وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً»(1).
ص: 98
حرز مروي للإمام الكاظم (عليه السلام) :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي الْهُدَى، وَثَبِّتْنِي عَلَيْهِ، وَاحْشُرْنِي عَلَيْهِ آمِناً، أَمْنَ مَنْ لا خَوْفَ عَلَيْهِ، وَلا حُزْنَ، وَلا جَزَعَ، إِنَّكَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(1).
عوذة مولانا الكاظم (عليه السلام) لما أُلقي في بركة السباع:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَصْبَحْتُ وَأَمْسَيْتُ فِي حِمَى اللَّهِ الَّذِي لاَ يُسْتَبَاحُ، وَسِتْرِهِ الَّذِي لاَ تَهْتِكُهُ الرِّيَاحُ، وَلاَ تُخْرِقُهُ الرِّمَاحُ، وَذِمَّةِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُخْفَرُ، وَفِي عِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُسْتَذَلُّ وَلاَ تُقْهَرُ، وَفِي حِزْبِهِ الَّذِي لاَ يُغْلَبُ، وَفِي جُنْدِهِ الَّذِي لاَ يُهْزَمُ، بِاللَّهِ اسْتَفْتَحْتُ، وَبِهِ اسْتَنْجَحْتُ، وَتَعَزَّزْتُ وَانْتَصَرْتُ، وَتَقَوَّيْتُ وَاحْتَرَزْتُ، وَاسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ، وَبِقُوَّةِ اللَّهِ.
ضَرَبْتُ عَلَى أَعْدَائِي وَقَهَرْتُهُمْ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَاسْتَعَنْتُ عَلَيْهِمْ بِاللَّهِ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ، شَاهَتْ وُجُوهُ أَعْدَائِي فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، غُلِبَتْ أَعْدَاءُ اللَّهِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَلَجَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ الْفَاسِقِينَ، وَجُنُودِ إِبْلِيسَ أَجْمَعِينَ، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ
ص: 99
الأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً، لاَيُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ.
تَحَصَّنْتُ مِنْهُمْ بِالْحِصْنِ الْحَصِينِ، فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً، فَأَوَيْتُ إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَالْتَجَأْتُ إِلَى الْكَهْفِ الْمَنِيعِ الرَّفِيعِ، وَتَمَسَّكْتُ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، وَتَدَرَّعْتُ بِهَيْبَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَعَوَّذْتُ بِعُوذَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ (عليه السلام) ، وَاحْتَرَزْتُ بِخَاتَمِهِ، فَأَنَا أَيْنَ كُنْتُ كُنْتُ آمِناً مُطْمَئِنّاً، وَعَدُوِّي فِي الأَهْوَالِ حَيْرَانُ، وَقَدْ حُفَّ بِالْمَهَانَةِ، وَأُلْبِسَ الذُّلَّ، وَقُمِّعَ بِالصَّغَارِ، وَضَرَبْتُ عَلَى نَفْسِي سُرَادِقَ الْحِيَاطَةِ، وَعَلِقْتُ عَلَى هَيْكَلِ الْهَيْبَةِ، وَتَتَوَّجْتُ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ، وَتَقَلَّدْتُ بِسَيْفِ الْعِزِّ الَّذِي لاَ يُفَلُّ، وَخَفِيتُ عَنِ الظُّنُونِ، وَتَوَارَيْتُ عَنِ الْعُيُونِ، وَأَمِنْتُ عَلَى رُوحِي، وَسَلِمْتُ مِنْ أَعْدَائِي وَهُمْ لِي خَاضِعُونَ، وَمِنِّي خَائِفُونَ، وَعَنِّي نَافِرُونَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، قَصُرَتْ أَيْدِيهِمْ عَنْ بُلُوغِي، وَصَمَّتْ آذَانُهُمْ عَنِ اسْتِمَاعِ كَلاَمِي، وَعَمِيَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْ رُؤْيَتِي، وَخَرِسَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَنْ ذِكْرِي، وَذَهَلَتْ عُقُولُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِي، وَتَخَوَّفَتْ قُلُوبُهُمْ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِي، وَانْفَلَّ حَدُّهُمْ، وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَنُكِسَتْ رُءُوسُهُمْ، وَانْحَلَّ عَزْمُهُمْ، وَتَشَتَّتْ جَمْعُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَتَفَرَّقَتْ أُمُورُهُمْ، وَضَعُفَ جُنْدُهُمْ، وَانْهَزَمَ جَيْشُهُمْ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ، عَلَوْتُ عَلَيْهِمْ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، وَبِعُلُوِّ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يَعْلُو بِهِ عَلِيٌّ، صَاحِبُ الْحُرُوبِ، مُنَكِّسُ الْفُرْسَانِ، وَمُبِيدُ الأَقْرَانِ، وَتَعَزَّزْتُ مِنْهُمْ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَكَلِمَاتِهِ الْعُلْيَا، وَتَجَهَّزْتُ عَلَى أَعْدَائِي بِبَأْسِ اللَّهِ، بَأْسٍ
ص: 100
شَدِيدٍ، وَأَمْرٍ عَتِيدٍ، وَأَذْلَلْتُهُمْ وَجَمَعْتُ رُءُوسَهُمْ، وَوَطِئْتُ رِقَابَهُمْ، فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لِي خَاضِعِينَ، خَابَ مَنْ نَاوَانِي، وَهَلَكَ مَنْ عَادَانِي، وَأَنَا الْمُؤَيَّدُ الْمَحْبُورُ، الْمُظَفَّرُ الْمَنْصُورُ، قَدْ كَرَّمَتْنِي كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسَكْتُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْتَصَمْتُ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، فَلاَ يَضُرُّنِي بَغْيُ الْبَاغِينَ، وَلاَ كَيْدُ الْكَائِدِينَ، وَلاَ حَسَدُ الْحَاسِدِينَ، أَبَدَ الآبِدِينَ، فَلَنْ يَصِلَ إِلَيَّ أَحَدٌ، وَلَنْ يَضُرَّنِي أَحَدٌ، وَلَنْ يَقْدِرَ عَلَيَّ أَحَدٌ، بَلْ أَنَا أَدْعُوا رَبِّي، وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً، يَا مُتَفَضِّلُ تَفَضَّلْ عَلَيَّ بِالأَمْنِ، وَالسَّلاَمَةِ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ بِالْمَلاَئِكَةِ الْغِلاَظِ الشِّدَادِ، وَمُدَّنِي بِالْجُنْدِ الْكَثِيفِ، وَالأَرْوَاحِ الْمُطِيعَةِ، يَحْصِبُونَهُمْ بِالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ، وَيَقْذِفُونَهُمْ بِالأَحْجَارِ الدَّامِغَةِ، وَيَضْرِبُونَهُمْ بِالسَّيْفِ الْقَاطِعِ، وَيَرْمُونَهُمْ بِالشِّهَابِ الثَّاقِبِ، وَالْحَرِيقِ الْمُلْتَهِبِ، وَالشُّوَاظِ الْمُحْرِقِ، وَالنُّحَاسِ النَّافِذِ، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، ذَلَّلْتُهُمْ وَزَجَرْتُهُمْ وَعَلَوْتُهُمْ بِ- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، بِ- طه وَيس، وَالذَّارِياتِ وَالطَّوَاسِينِ، وَتَنْزِيلٍ وَالْحَوَامِيمِ، وَكهيعص وَحم عسق، وَق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَتَبَارَكَ وَن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، وَبِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَبِ- الطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَعَلَى أَعْقَابِهِمْ نَاكِصِينَ، وَفِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
ص: 101
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَأَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا عِنْدَكَ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، جَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِي، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي، وَإِسْرَافِيلُ مِنْ وَرَائِي، وَمُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شَفِيعِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَاللَّهِ مُطِلٌّ عَلَيَّ، يَا مَنْ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، احْجُزْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَعْدَائِي، فَلَنْ يَصِلُوا إِلَيَّ بِسُوءٍ أَبَداً، بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ سِتْرُ اللَّهِ الَّذِي سَتَرَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ عَنِ الْفَرَاعِنَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي سِتْرِ اللَّهِ كَانَ مَحْفُوظاً، حَسْبِيَ اللَّهُ الَّذِي يَكْفِينِي مَا لاَ يَكْفِينِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً، إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
اللَّهُمَّ اضْرِبْ عَلَى سُرَادِقِ حِفْظِكَ الَّذِي لاَ تَهْتِكُهُ الرِّيَاحُ، وَلاَ تَخْرِقُهُ الرِّمَاحُ، وَوَقِّ رُوحِي بِرُوحِ قُدْسِكَ، الَّذِي مَنْ أَلْقَيْتَهُ عَلَيْهِ كَانَ مُعْظَماً فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، وَكَبِيراً فِي صُدُورِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَوَفِّقْنِي بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى، وَأَمْثَالِكَ الْعُلْيَا، لِصَلاَحِي فِي جَمِيعِ مَا أُؤَمِّلُهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاصْرِفْ عَنِّي أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، وَاصْرِفْ عَنِّي قُلُوبَهُمْ مِنْ شَرِّ مَا يُضْمِرُونَ إِلَى مَا لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ أَنْتَ مَلاَذِي فَبِكَ أَلُوذُ، وَأَنْتَ مَعَاذِي فَبِكَ أَعُوذُ. اللَّهُمَّ إِنَّ خَوْفِي أَمْسَى وَأَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِوَجْهِكَ الْبَاقِي الَّذِي لاَ يَبْلَى يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، سُبْحَانَ مَنْ أَلَجَّ الْبِحَارُ بِقُدْرَتِهِ، وَأَطْفَأَ نَارَ إِبْرَاهِيمَ بِكَلِمَتِهِ، وَاسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بِعَظَمَتِهِ، وَقَالَ لِمُوسَى: أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ، إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى، لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى، وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
ص: 102
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً، أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ»(1).
روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) ، أنه قال: «من قرأه كل يوم بنية خالصة وطويّة صادقة، صانه اللّه عن كل محذور وآفة، وإن كانت به محنة خلصه اللّه منها وكفاه شرها، ومن لم يحسن القراءة فليمسكه مع نفسه متبركاً به حتى ينفعه اللّه به، ويكفيه المحذور والمخوف، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْلَى وَأَجَلُّ مِمَّا أَخَافُ وَأَحْذَرُ، وَأَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ - يقولها ثلاث مرات -
عَزَّ جَارُ اللَّهِ، وَجَلَّ ثَنَاءُ اللَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ. اللَّهُمَّ احْرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لاَ تَنَامُ، وَاكْنُفْنِي بِرُكْنِكَ الَّذِي لاَ يُرَامُ، وَاغْفِرْ لِي بِقُدْرَتِكَ فَأَنْتَ رَجَائِي، رَبِّ كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا شُكْرِي، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ ابْتَلَيْتَنِي بِهَا قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا صَبْرِي، فَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِعْمَتِهِ شُكْرِي فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ بَلِيَّتِهِ صَبْرِي فَلَمْ يَخْذُلْنِي، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى الْخَطَايَا فَلَمْ يَفْضَحْنِي، يَا ذَا الْمَعْرُوفِ الَّذِي لاَ يَنْقَضِي أَبَداً، يَا ذَا النِّعَمِ الَّتِي لاَ تُحْصَى عَدَداً، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ بِكَ أَدْفَعُ وَأَدْرَأُ فِي نَحْرِهِ، وَأَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ. اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى دِينِي بِدُنْيَايَ، وَعَلَى آخِرَتِي بِتَقْوَايَ، وَاحْفَظْنِي فِيمَا غِبْتُ عَنْهُ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي فِيمَا حَضَرْتُهُ، يَا مَنْ لاَ
ص: 103
تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ، وَلاَ تَنْقُصُهُ الْمَغْفِرَةُ، اغْفِرْ لِي مَا لاَ يَضُرُّكَ، وَأَعْطِنِي مَا لاَ يَنْقُصُكَ إِنَّكَ وَهَّابٌ. أَسْأَلُكَ فَرَجاً قَرِيباً، وَمَخْرَجاً رَحِيباً، وَرِزْقاً وَاسِعاً، وَصَبْراً جَمِيلاً، وَعَافِيَةً مِنْ جَمِيعِ الْبَلاَيَا، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَالأَمْنَ وَالصِّحَّةَ وَالصَّبْرَ وَدَوَامَ الْعَافِيَةِ، وَالشُّكْرَ عَلَى الْعَافِيَةِ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تُلْبِسَنِي عَافِيَتَكَ فِي دِينِي، وَنَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي، وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَجَمِيعِ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ، وَأَسْتَوْدِعُكَ ذَلِكَ كُلَّهُ يَا رَبِّ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي كَنَفِكَ، وَفِي جِوَارِكَ، وَفِي حِفْظِكَ، وَحِرْزِكَ وَعِيَاذِكَ، عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ.
اللَّهُمَّ فَرِّغْ قَلْبِي لِمَحَبَّتِكَ وَذِكْرِكَ، وَانْعَشْهُ بِخَوْفِكَ أَيَّامَ حَيَاتِي كُلَّهَا، وَاجْعَلْ زَادِي مِنَ الدُّنْيَا تَقْوَاكَ، وَهَبْ لِي قُوَّةً أَحْتَمِلُ بِهَا جَمِيعَ طَاعَتِكَ، وَأَعْمَلُ بِهَا جَمِيعَ مَرْضَاتِكَ، وَاجْعَلْ فِرَارِي إِلَيْكَ، وَرَغْبَتِي فِيمَا عِنْدَكَ، وَأَلْبِسْ قَلْبِيَ الْوَحْشَةَ مِنْ شِرَارِ خَلْقِكَ، وَالأُنْسَ بِأَوْلِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ، وَلاَ تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلاَ لِكَافِرٍ عَلَيَّ مِنَّةً، وَلاَ لَهُ عِنْدِي يَداً، وَلاَ لِي إِلَيْهِ حَاجَةً. إِلَهِي قَدْ تَرَى مَكَانِي، وَتَسْمَعُ كَلاَمِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلاَنِيَتِي، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، يَا مَنْ لاَ يَصِفُهُ نَعْتُ النَّاعِتِينَ، وَيَا مَنْ لاَ يُجَاوِزُهُ رَجَاءُ الرَّاجِينَ، يَا مَنْ لاَ يَضِيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ، يَا مَنْ قَرُبَتْ نُصْرَتُهُ مِنَ الْمَظْلُومِينَ، يَا مَنْ بَعُدَ عَوْنُهُ عَنِ الظَّالِمِينَ، قَدْ عَلِمْتَ مَا نَالَنِي مِنْ فُلاَنٍ مِمَّا حَظَرْتَ، وَانْهَتَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ، بَطَراً فِي نِعْمَتِكَ عِنْدَهُ، وَاغْتِرَاراً بِسَتْرِكَ عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ فَخُذْهُ عَنْ ظُلْمِي بِعِزَّتِكَ، وَافْلُلْ حَدَّهُ عَنِّي بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، وَاجْعَلْ لَهُ شُغُلاً فِيمَا يَلِيهِ، وَعَجْزاً عَمَّا يَنْوِيهِ. اللَّهُمَّ لاَ تُسَوِّغْهُ ظُلْمِي، وَأَحْسِنْ عَلَيْهِ عَوْنِي، وَاعْصِمْنِي مِنْ مِثْلِ فِعَالِهِ، وَلاَ
ص: 104
تَجْعَلْنِي بِمِثْلِ حَالِهِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَجَرْتُ بِكَ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَضَعْفَ رُكْنِي إِلَى قُوَّتِكَ، مُسْتَجِيراً بِكَ مِنْ ذِي التَّعَزُّزِ عَلَيَّ، وَالْقُوَّةِ عَلَى ضَيْمِي، فَإِنِّي فِي جِوَارِكَ، فَلاَ ضَيْمَ عَلَى جَارِكَ، رَبِّ فَاقْهَرْ عَنِّي قَاهِرِي بِقُوَّتِكَ، وَأَوْهِنْ عَنِّي مُسْتَوْهِنِي بِعِزَّتِكَ، وَاقْبِضْ عَنِّي ضَائِمِي بِقِسْطِكَ، وَخُذْ لِي مِمَّنْ ظَلَمَنِي بِعَدْلِكَ، رَبِّ فَأَعِذْنِي بِعِيَاذِكَ، فَبِعِيَاذِكَ امْتَنَعَ عَائِذُكَ، وَأَدْخِلْنِي فِي جِوَارِكَ، عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ، وَأَسْبِلْ عَلَيَّ سِتْرَكَ، مَنْ تَسْتُرُهُ فَهُوَ الآمِنُ الْمُحْصَنُ، الَّذِي لاَ يُرَاعُ، رَبِّ وَاضْمُمْنِي فِي ذَلِكَ إِلَى كَنَفِكَ، فَمَنْ تَكْنُفُهُ فَهُوَ الآمِنُ الْمَحْفُوظُ.
لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ وَلاَ حِيلَةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، مَنْ يَكُنْ ذَا حِيلَةٍ فِي نَفْسِهِ، أَوْ حَوْلٍ يَتَقَلَّبُهُ، أَوْ قُوَّةٍ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ، فَإِنَّ حَوْلِي وَقُوَّتِي وَكُلَّ حِيلَتِي بِاللَّهِ الْوَاحِدِ الأَحَدِ الصَّمَدِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، وَكُلُّ ذِي مِلْكٍ فَمَمْلُوكٌ لِلَّهِ، وَكُلُّ قَوِيٍّ ضَعِيفٌ عِنْدَ قُوَّةِ اللَّهِ، وَكُلُّ ذِي عِزٍّ فَغَالِبُهُ اللَّهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ، ذَلَّ كُلُّ عَزِيزٍ لِبَطْشِ اللَّهِ، صَغُرَ كُلُّ عَظِيمٍ عِنْدَ عَظَمَةِ اللَّهِ، خَضَعَ كُلُّ جَبَّارٍ عِنْدَ سُلْطَانِ اللَّهِ، وَاسْتَظْهَرْتُ وَاسْتَطَلْتُ عَلَى كُلِّ عَدُوٍّ لِي بِتَوَلِّي اللَّهِ، دَرَأْتُ فِي نَحْرِ كُلِّ عَادٍ عَلَى اللَّهِ، ضَرَبْتُ بِإِذْنِ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ مُتْرَفٍ ذِي سَوْرَةٍ، وَجَبَّارٍ ذِي نَخْوَةٍ، وَمُتَسَلِّطٍ ذِي قُدْرَةٍ، وَوَالٍ ذِي إِمْرَةٍ، وَمُسْتَعْدٍ ذِي أُبَّهَةٍ، وَعَنِيدٍ ذِي ضَغِينَةٍ، وَعَدُوٍّ ذِي غِيلَةٍ، وَمُدْرِئٍ ذِي حِيلَةٍ، وَحَاسِدٍ ذِي قُوَّةٍ، وَمَاكِرٍ ذِي مَكِيدَةٍ، وَكُلِّ مُعِينٍ أَعَانَ عَلَيَّ بِمَقَالَةٍ مُغْوِيَةٍ، أَوْ سِعَايَةٍ مُشْلِيَةٍ، أَوْ حِيلَةٍ مُؤْذِيَةٍ، أَوْ غَائِلَةٍ
ص: 105
مُرْدِيَةٍ، أَوْ كُلِّ طَاغٍ ذِي كِبْرِيَاءَ، أَوْ مُعْجَبٍ ذِي خُيَلاَءَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ، وَبِكُلِّ مَذْهَبٍ، فَأَخَذْتُ لِنَفْسِي وَمَالِي حِجَاباً دُونَهُمْ بِمَا أَنْزَلْتَ مِنْ كِتَابِكَ، وَأَحْكَمْتَ مِنْ وَحْيِكَ الَّذِي لاَ يُؤْتَى مِنْ سُورَةٍ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، وَالْكِتَابُ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْعَلْ حَمْدِي لَكَ، وَثَنَائِي عَلَيْكَ فِي الْعَافِيَةِ وَالْبَلاَءِ، وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، دَائِماً لاَ يَنْقَضِي وَلاَ يَبِيدُ، تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ. اللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ، وَبِكَ أَلُوذُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَإِيَّاكَ أَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ أَسْتَعِينُ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ، وَأَدْرَأُ بِكَ فِي نَحْرِ أَعْدَائِي، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَسْتَكْفِيكَهُمْ، فَاكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، وَكَيْفَ شِئْتَ، وَمِمَّا شِئْتَ، بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما، بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ، لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى، قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، أَخَذْتُ بِسَمْعِ مَنْ يُطَالِبُنِي بِالسُّوءِ بِسَمْعِ اللَّهِ وَبَصَرِهِ، وَقُوَّتِهِ بِقُوَّةِ اللَّهِ، وَحَبْلِهِ الْمَتِينِ وَسُلْطَانِهِ الْمُبِينِ، فَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ وَلا سَبِيلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. اللَّهُمَّ يَدُكَ فَوْقَ كُلِّ ذِي قُدْرَةٍ، وَقُوَّتُكَ أَعَزُّ مِنْ كُلِّ قُوَّةٍ، وَسُلْطَانُكَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ سُلْطَانٍ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَكُنْ عِنْدَ ظَنِّي فِيمَا لَمْ أَجِدْ فِيهِ مَفْزَعاً غَيْرَكَ، وَلاَ مَلْجَأَ سِوَاكَ، فَإِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ عَدْلَكَ أَوْسَعُ مِنْ جَوْرِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ إِنْصَافَكَ مِنْ وَرَاءِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أَجْمَعِينَ، وَأَجِرْنِي مِنْهُمْ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
أُعِيذُ نَفْسِي وَدِينِي، وَأَهْلِي وَمَالِي وَوُلْدِي، وَمَنْ تَلْحَقُهُ عِنَايَتِي، وَجَمِيعَ نِعَمِ
ص: 106
اللَّهِ عِنْدِي، بِبِسْمِ اللَّهِ الَّذِي خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَبِسْمِ اللَّهِ الَّذِي خَافَتْهُ الصُّدُورُ، وَوَجِلَتْ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَبِالاسْمِ الَّذِي نَفَّسَ عَنْ دَاوُدَ كُرْبَتَهُ، وَبِسْمِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ لِلنَّارِ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الأَخْسَرِينَ، وَبِعَزِيمَةِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُحْصَى، وَبِقُدْرَةِ اللَّهِ الْمُسْتَطِيلَةِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، مِنْ شَرِّ فُلاَنٍ، وَمِنْ شَرِّ مَا خَلَقَهُ الرَّحْمَنُ، وَمِنْ شَرِّ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَحِيَلِهِمْ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ بِكَ أَسْتَعِينُ، وَبِكَ أَسْتَغِيثُ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَخَلِّصْنِي مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَفِي جَمِيعِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَاجْعَلْ لِي سَهْماً فِي كُلِّ حَسَنَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَفِي جَمِيعِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ بِكَ أَسْتَفْتِحُ، وَبِكَ أَسْتَنْجِحُ، وَبِمُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إِلَيْكَ أَتَوَجَّهُ، وَبِكِتَابِكَ أَتَوَسَّلُ، أَنْ تَلْطُفَ لِي بِلُطْفِكَ الْخَفِيِ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، جَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِي، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي، وَإِسْرَافِيلُ أَمَامِي، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ خَلْفِي وَبَيْنَ يَدَيَ، لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً»(1).
إلى غيرها من الأدعية الكثيرة الواردة عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .
ص: 107
10
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) - كأجداده الطاهرين (عليهم السلام) - في قمة الأخلاق الحسنة، حليماً كريماً سخياً، يحسن الجوار، ويقضي حوائج الناس، ويسعى في حل مشاكلهم..
قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) - في حق ولده موسى بن جعفر (عليه السلام) -: «فيه العلم والحكم والفهم والسخاء... وفيه حسن الخلق، وحسن الجوار، وهو باب من أبواب اللّه تعالى عزَّ وجل»(1).
روي أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب، كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (عليه السلام) ، ويسبّه إذا رآه، ويشتم علياً (عليه السلام) .
فقال له (عليه السلام) بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر!.
فنهاهم (عليه السلام) عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل عن العمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة. فركب إليه فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا... ونزل الإمام (عليه السلام) ، وجلس عنده، وباسطه
ص: 108
وضاحكه، وقال له: «كم غرمت على زرعك هذا؟». قال: مائة دينار. قال: «فكم ترجو أن تصيب؟». قال: لست أعلم الغيب. قال له: «إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟». قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن (عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو». قال: فقام العُمَري فقبّل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن (عليه السلام) وانصرف. قال: وراح إلى المسجد، فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته. قال: فوثب أصحابه إليه، فقالوا له: ما قضيتك قد كنت تقول غير هذا؟. قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن. وجعل يدعو لأبي الحسن (عليه السلام) ، فخاصموه وخاصمهم. فلما رجع أبو الحسن (عليه السلام) إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: «أيما كان خيراً، ما أردتم أم ما أردت؟، إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شره»(1).
في الإرشاد: كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل إليهم الزبيل فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو(2).
عن محمد بن سالم، قال: لما حمل سيدي موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى هارون،
ص: 109
جاء إليه هشام بن إبراهيم العباسي. فقال له: يا سيدي، قد كتب لي صك إلى الفضل بن يونس، فسله أن يروج أمري. قال: فركب إليه أبو الحسن (عليه السلام) ، فدخل عليه حاجبه. فقال: يا سيدي، أبو الحسن موسى بالباب. فقال: فإن كنت صادقاً فأنت حر ولك كذا وكذا. فخرج الفضل بن يونس حافياً يعدو حتى خرج إليه، فوقع على قدميه يقبلهما، ثم سأله أن يدخل فدخل. فقال له: «اقض حاجة هشام بن إبراهيم»، فقضاها(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرض له، قد استنقعت قدماه في العرق. فقلت: جعلت فداك أين الرجال!.
فقال: «يا علي، قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي».
فقلت: ومن هو؟!.
فقال: «رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وآبائي (عليهم السلام) كلهم، كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين»(2).
عن إبراهيم بن عبد الحميد، قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) في بيته الذي كان يصلي فيه، فإذا ليس في البيت شيء إلاّ خصفة، وسيف معلق، ومصحف(3).
ص: 110
كان من أخلاق الإمام الكاظم (عليه السلام) ، شراء العبيد والإماء وعتقهم في سبيل اللّه تعالى.
منهم: أحمد بن أبي خلف - مولى أبي الحسن (عليه السلام) - كان (عليه السلام) قد اشتراه وأباه وأمه وأخاه فأعتقهم(1).
وروي أنه (عليه السلام) قد أعتق ألف عبد في سبيل اللّه.
ص: 111
11
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : كان الإمام الكاظم (عليه السلام) أفقه الناس، وأسخى الناس وأكرمهم(1).
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يحسن إلى أعدائه ويكرمهم حتى أخجلهم بإحسانه جميعاً.
عن ابن الأثير قال:
وكان يلقب الكاظم؛ لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه، كان هذا عادته أبداً(2).
وقال ابن الجوزي:
كان كريماً حليماً، وإذا كان يُخبر بأنه هناك من يريد إيذاءه أرسل له مالاً وأكرمه.
يقول المؤلف: وهذا بمقتضى قوله سبحانه: {وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}(3).
ص: 112
وكان الإمام (عليه السلام) يوزع صرر المال بين الناس، فيها ثلاثمائة دينار أو أقل أو أكثر، حتى عرفت تلك الصرر بين الناس بالصرر الموسوية.
عن أبي الفرج، قال:
كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره، بعث إليه بصرة دنانير، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين دينار، فكانت صرار موسى مثلاً(1).
ولا يخفى أن المؤمنين كانوا يعطون للأئمة الأطهار (عليهم السلام) حقوقهم الشرعية، من الأخماس والزكوات وما أشبه، بكل رغبة ورضا - كما يفعلون في يومنا هذا حيث يدفعونها إلى فقهاء الشيعة ومراجع التقليد كذلك - وكان الأئمة (عليهم السلام) يصرفون تلك الحقوق لقضاء حوائج الناس.
بخلاف حكام الجور وطغاة الأمويين والعباسيين، فإنهم كانوا يأخذون أموال الناس بالجبر والإكراه، ثم يصرفونها على اللّهو واللعب والفساد والإفساد، وما يخالف الشرع المبين، وهذا مصداق ظاهر لقوله تعالى: {أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}(2).
وغالباً توجد هذه العلامات الثلاث في المتكبرين والجبارين والطغاة:
1: إنهم يبنون بيوتهم عادة في المناطق العالية؛ لتكون مشرفة على الشوارع والبساتين والمناظر الخلابة، بل على كل المدينة لينظروا من هناك على الناس ويسيطروا عليهم.
ص: 113
وربما بنوا لأنفسهم قصوراً في المناطق العالية من دون أن يسكونها، وذلك لمجرد اللّهو واللعب والعبث، مع عدم حاجتهم لتلك القصور أبداً، فإنهم ربما لا يستفيدون منها في السنة إلا بعض الأيام فقط. وهذا يعني تبذير أموال الشعب. ونحن نرى في زماننا هذا كيف أن حكام الجور ألهوا أنفسهم بمثل هذه الأمور والقصور.
2: كما أن هؤلاء الحكام يبنون لأنفسهم، المصانع والمعامل، والمطابخ الخاصة؛ لإعداد أنواع المأكولات والمشروبات، والمنسوجات والملابس الفاخرة، وكذلك المركوبات التي تخصهم، وهكذا صنع آلات اللّهو واللعب الخاصة بهم، وصنع الأدوية والمربيات والشرابت والحلويات التي تخصهم، بل وحتى السجائر الخاصة وما أشبه، وكذلك صنع الأسلحة والسيوف والخناجر مما تخصهم، ويزعمون أن هذه الأشياء توجب بقاءهم في الدنيا أكثر.
فإذا أرادوا الأطعمة الطيبة، توجد في تلك المصانع.
وإذا أرادوا سلاحاً لدفع العدو أو لكبت الشعب، فإنه متوفر لديهم.
وإذا أرادوا دواءً لمرض، فحاضر.
ولكن يأتي يومهم الذي لابد منه ولا مفر عنه، فلا تنفعهم الدنيا وما فيها.
3: وإذا عاقبوا أحداً، عاقبوه ببطش وطغيان، وظلم وحقد وانتقام، وإن كان ما صدر من الطرف أصغر عصيان، وأقل خلاف لا يُعتنى به، بل عاقبوا الناس حتى على التهمة والظنة.
وفي التاريخ الكثير من قصص هؤلاء الطغاة في هذه المجالات(1).
وعلى عكس كل ذلك نرى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، حيث كانوا قمة في الأخلاق
ص: 114
والرأفة والرحمة، والعفو والصلة والإحسان، والتواضع وخدمة الناس، والزهد في الدنيا، والإيثار على أنفسهم.
فكانوا (عليهم السلام) يصلون أرحامهم ويحسنون إليهم.
وكانوا ينفقون على الفقراء والمساكين.
وفي الليالي المظلمة يحملون الجِراب بأنفسهم، وفيه الذهب والفضة والطحين والتمر وغيرها، ويوزعونها على الفقراء سراً، من دون أن يعرفهم الفقراء.
في عمدة الطالب: كان موسى الكاظم (عليه السلام) عظيم الفضل، رابط الجأش، واسع العطاء، وكان يضرب المثل بصرار موسى، وكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرة موسى فشكا القلة(1).
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في الإرشاد:كان موسى بن جعفر (عليه السلام) أجلّ وُلد أبي عبد اللّه (عليه السلام) قدراً، وأعظمهم محلاً، وأبعدهم في الناس صيتاً، ولم ير في زمانه أسخى منه، ولا أكرم نفساً وعشرة، وكان أعبد أهل زمانه وأورعهم وأجلهم وأفقههم، واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتعظيم لحقه والتسليم لأمره، ورووا عن أبيه (عليه السلام) نصاً عليه بالإمامة وإشارة إليه بالخلافة وأخذوا عنه معالم دينهم(2).
ص: 115
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل إليهم الزبيل فيه العين والورق والأدقة والتمور فيوصل إليهم ذلك، ولا يعلمون من أي جهة هو(1).
في بعض الروايات: كان الإمام موسى (عليه السلام) يصر الصرر ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار ثم يقسمها بالمدينة، وكان يضرب المثل بصرره (عليه السلام) ، فإذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنى(2).
روي عن محمد بن عبد اللّه البكري، قال: قدمت المدينة أطلب بها دَيناً فأعياني. فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) فشكوت إليه، فأتيته في ضيعته، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصتي، فدخل فلم يقم إلاّ يسيراً حتى خرج إليَّ. فقال لغلامه: اذهب، ثم مد يده فدفع إليَّ صرة فيها ثلاثمائة دينار، ثم قام فولى فقمت فركبت دابتي وانصرفت(3).
وذكر جماعة من أهل العلم أن أبا الحسن (عليه السلام) كان يصل بالمائتي دينار إلى الثلاثمائة(4).
ص: 116
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه صرة فيها ألف دينار(1).
روي عن عيسى بن محمد بن مغيث القرظي، قال: زرعت بطيخاً وقثاءً وقرعاً، في موضع بالجوانية على بئر يقال لها: أم عظام، فلما قرب الخير واستوى الزرع، بغتني الجراد فأتى على الزرع كله، وكنت غرمت على الزرع، وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فسلم ثم قال: «أيش حالك؟».
فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي. قال: «وكم غرمت فيه؟». قلت: مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين. فقال: «يا عرفة، زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً، فنربحك ثلاثين ديناراً والجملين». فقلت: يا مبارك، ادخل وادع لي فيها. فدخل ودعا، وحدثني عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «تمسكوا ببقايا المصائب». ثم علقت عليه الجملين وسقيته، فجعل اللّه فيها البركة وزكت، فبعت منها بعشرة آلاف(2).
عن محمد بن موسى، قال: خرجت مع أبي إلى ضياعه بساية، فأصبحنا في
ص: 117
غداة باردة، وقد دنونا منها، وأصبحنا على عين من عيون ساية، فخرج إلينا من تلك الضياع عبد زنجي فصيح، مستذفر بخرقة، على رأسه قدر فخار يفور، فوقف على الغلمان. قال: أين سيدكم؟. قالوا: هو ذاك. فقال: أبو من؟. قالوا له: أبو الحسن. فوقف عليه فقال: يا سيدي، يا أبا الحسن، هذه عصيدة أهديتها إليك. قال: «ضعها عند الغلمان». فأكلوا منها، ثم ذهب فلم نقل بلغ حتى خرج على رأسه حزمة حطب. قال له: يا سيدي، هذا حطب أهديته إليك. قال: «ضعه عند الغلمان، وهي لنا ناراً». فذهب فجاء بنار، وكتب أبو الحسن اسمه واسم مولاه فدفعه إليَّ. قال: «يا بني، احتفظ بهذه الرقعة حتى أسألك عنها». فوردنا إلى ضياعه، وأقام بها ما طاب له، ثم قال: «امضوا بنا إلى زيارة البيت». فخرجنا حتى وردنا مكة، فلما قضى أبو الحسن عمرته دعا صاعداً. فقال: «اذهب فاطلب لي هذا الرجل، فإذا علمت بموضعه فأعلمني حتى أمشي إليه؛ فإني أكره أن أدعوه والحاجة لي». قال صاعد: فذهبت حتى وقفت على الرجل، فلما رآني عرفني وكنت أعرفه، وكان يتشيع. فسلم عليَّ وقال: أبو الحسن قدم؟. قلت: لا. فأيش أقدمك؟. قلت: حوائج. وقد كان علم مكانه بساية فتبعني، وجعلت أتقصى منه ويلحقني، فلما رأيت أني لا أنفلت منه مضيت إلى مولاي، ومضى معي حتى أتيته. فقال: «أ لم أقل لك لا تعلمه». فقلت: جعلت فداك، لم أعلمه. فسلم عليه فقال له أبو الحسن: «غلامك فلان تبيعه؟». فقال له: جعلت فداك، الغلام لك والضيعة وجميع ما أملك». قال: «أما الضيعة فلا أحب أن أسلبكها، وقد حدثني أبي عن جدي أن بائع الضيعة ممحوق، ومشتريها مرزوق». فجعل الرجل يعرضها عليه مدلاً بها، فاشترى أبو الحسن الضيعة والرقيق منه بألف دينار، وأعتق العبد ووهب له الضيعة. قال
ص: 118
إدريس بن أبي رافع: فهو ذا ولده في الصرافين بمكة(1).
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يتفقد فقراء أهل المدينة، فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو(2).
والعين: الذهب. والورق: الفضة.
شكا محمد البكري إلى الإمام (عليه السلام) ، فمدّ يده إليه فرجع إلى صرة فيها ثلاثمائة دينار(3).
حكي أن المنصور العباسي تقدم إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) بالجلوس للتهنية في يوم النيروز، وقبض ما يحمل إليه... وقال: سألتك باللّه العظيم إلا جلست. فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه، ويحملون إليه الهدايا والتحف، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن. فقال له: يا ابن بنت رسول اللّه إنني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك، ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدي في جدك الحسين بن علي (عليه السلام) :
ص: 119
عجبت لمصقول علاك فرنده***يوم الهياج وقد علاك غبار
ولأسهم نفذتك دون حرائر***يدعون جدك والدموع غزار
ألا تغضغضت السهام وعاقها***عن جسمك الإجلال والإكبار
قال: «قبلت هديتك، اجلس بارك اللّه فيك». ورفع رأسه إلى الخادم، وقال: «امض إلى الأمير وعرفه بهذا المال وما يصنع به». فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلها هبة مني له يفعل به ما أراد. فقال موسى بن جعفر (عليه السلام) للشيخ: «اقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك»(1).
في الكافي: أولم أبو الحسن موسى (عليه السلام) على بعض ولده، فأطعم أهل المدينة ثلاثة أيام الفالوذجات في الجفان، في المساجد والأزقة، فعابه بذلك بعض أهل المدينة، فبلغه ذلك. فقال (عليه السلام) : «ما آتى اللّه عزَّ وجل نبياً من أنبيائه شيئاً إلاّ وقد آتى محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثله وزاده ما لم يؤتهم، قال لسليمان (عليه السلام) : {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ}(2)، وقال لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}»(3)(4).
ص: 120
12
من أشهر ألقاب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : الكاظم، وسمي بذلك لأنه كان يحلم عن الجهلة، ويكظم غيضه، بل ويحسن إليهم.
فكان (عليه السلام) إذا بلغه عن الرجل ما يكرهه بعث إليه بصرة دنانير، وكانت صراره مثلاً.
وكانت تلك الصرار ما بين الثلاثمائة إلى المائتين إلى المائة الدينار، وربما أكثر.
وفي رواية: كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه صرة فيها ألف دينار(1).
وقد سبق قصة رجل من ولد عمر بن الخطاب بالمدينة، حيث كان يؤذي الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وكان يشتم علياً (صلوات اللّه عليه)، وأراد بعض حاشية الإمام (عليه السلام) أن يقتله، ولكن الإمام نهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم أشد الزجر، ثم زار (عليه السلام) العمري في مزرعته، فأعطاه ثلاثمائة دينار، فقام العمري فقبّل رأسه، وقال: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(2).
عن سعدان، عن معتب، قال: كان أبو الحسن موسى (عليه السلام) في حائط له
ص: 121
يصرم، فنظرت إلى غلام له قد أخذ كارة من تمر، فرمى بها وراء الحائط. فأتيته فأخذته وذهبت به إليه، فقلت له: جعلت فداك، إني وجدت هذا وهذه الكارة!.
فقال (عليه السلام) للغلام: «فلان».
قال: لبيك.
قال: «أ تجوع؟».
قال: لا يا سيدي.
قال: «فتعرى».
قال: لا يا سيدي.
قال: «فلأي شيء أخذت هذه؟!».
قال: اشتهيت ذلك،
قال: «اذهب فهي لك» وقال: «خلوا عنه»(1).
أقول: الكارة ما يجمع ويشد ويحمل على الظهر.
ص: 122
13
روي أنه مر الإمام الكاظم (عليه السلام) برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه ونزل عنده، وحادثه طويلاً، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت!.
فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج.
فقال (عليه السلام) : «عبد من عبيد اللّه، وأخ في كتاب اللّه، وجار في بلاد اللّه، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم (عليه السلام) ، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجتنا إليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه».
ثم قال:
«نواصل من لا يستحق وصالنا***مخافة أن نبقى بغير صديق»(1)
ص: 123
14
من أهم طرق إصلاح النفس محاسبتها، وقد ورد التأكيد عليها كثيراً، وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) يؤكد على هذه المسألة.
قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد اللّه، وحمد اللّه عليه، وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه»(1).
علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: رأيت عبد اللّه بن جندب بالموقف، فلم أر موقفاً كان أحسن من موقفه، ما زال ماداً يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خده حتى تبلغ الأرض، فلما انصرف الناس. قلت له: يا أبا محمد، ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك!.
قال: واللّه ما دعوت إلاّ لإخواني، وذلك أن أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) أخبرني: «أنه من دعا لأخيه بظهر الغيب، نودي من العرش: ها ولك مائة ألف
ص: 124
ضعف مثله». فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحد لا أدري يستجاب أم لا(1).
عن رجل من أهل الري، قال: ولي علينا بعض كتّاب يحيى بن خالد، وكان عليَّ بقايا يطالبني بها، وخفت من إلزامي إياها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: إنه ينتحل هذا المذهب. فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك، فأقع فيما لا أحب. فاجتمع رأيي على أني هربت إلى اللّه تعالى، وحججت ولقيت مولاي الصابر - يعني موسى بن جعفر (عليه السلام) - فشكوت حالي إليه، فأصحبني مكتوبا نسخته:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، اعلم أن لله تحت عرشه ظلاً لا يسكنه إلاّ من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام».
قال: فعدت من الحج إلى بلدي، ومضيت إلى الرجل ليلاً، واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر (عليه السلام) . فخرج إليَّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه وقبلني وضمني إليه، وجعل يقبل بين عيني، ويكرر ذلك كلما سألني عن رؤيته (عليه السلام) ، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر اللّه، ثم أدخلني داره، وصدَّرني في مجلسه، وجلس بين يدي، فأخرجت إليه كتابه (عليه السلام) ، فقبَّله قائماً وقرأه، ثم استدعى بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كل شيء من ذلك يقول: يا أخي،
ص: 125
هل سررتك؟. فأقول: إي واللّه، وزدت على السرور.
ثم استدعى العمل، فأسقط ما كان باسمي، وأعطاني براءة مما يتوجه عليَّ منه، وودعته وانصرفت عنه. فقلت: لا أقدر على مكافاة هذا الرجل إلا بأن أحج في قابل، وأدعو له وألقى الصابر (عليه السلام) ، وأعرفه فعله. ففعلت ولقيت مولاي الصابر (عليه السلام) ، وجعلت أحدثه ووجهه يتهلل فرحاً. فقلت: يا مولاي، هل سرك ذلك؟. فقال: «إي واللّه، لقد سرني وسر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، واللّه لقد سر جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولقد سر اللّه تعالى»(1).
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) - كجده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآبائه الطاهرين (عليهم السلام) - يؤكد على مبدأ الاستشارة، وعدم الاستبداد بالرأي، ويعلّم المؤمنين ذلك قولاً وعملاً.
عن الحسن بن الجهم، قال: كنا عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، فذكرنا أباه (عليه السلام) . قال: «كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه. فقيل له: تشاور مثل هذا؟.
فقال (عليه السلام) : «إن شاء اللّه تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه».
قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء، فيعمل به من الضيعة والبستان»(2).
قوله (عليه السلام) : «ربما» في هذه الرواية قد تدل على الكثرة، على ما ذكره بعض علماء العربية.
ص: 126
وقال موسى بن جعفر (عليه السلام) : «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً»(1).
ذكرنا في (الفقه) بعض ما يرتبط بحقوق الحيوان وأحكامه(2)،
وقد ورد التأكيد على حقوق الحيوان في الآيات الكريمة والروايات الشريفة، منها ما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في هذا الباب:
فعن علي بن جعفر، قال: سألت أخي موسى (عليه السلام) عن الهدهد وقتله وذبحه؟. فقال (عليه السلام) : «لا يؤذى ولا يذبح، فنعم الطير هو»(3).
أما روايات الأحكام في باب الحيوانات المروية عنه (عليه السلام) فكثيرة، منها:
عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ سَمَكَةٍ وَثَبَتْ مِنْ نَهَرٍ فَوَقَعَتْ عَلَى الْجُدِّ فَمَاتَتْ، أَ يَصْلُحُ أَكْلُهَا؟. قَالَ: «إِنْ أَخَذْتَهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ ثُمَّ مَاتَتْ فَكُلْهَا، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَهَا فَلاَ تَأْكُلْهَا»(4).
عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال: «لاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْجِرِّيِّ وَلاَ السُّلَحْفَاةِ وَلاَ السَّرَطَانِ». قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ اللَّحْمِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَصْدَافِ الْبَحْرِ وَالْفُرَاتِ، أَ يُؤْكَلُ؟. قَالَ: «ذَلِكَ لَحْمُ الضَّفَادِعِ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ»(5).
عن عبد الرحمن، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا تَقُولُ
ص: 127
فِي أَكْلِ الإِرْبِيَانِ؟. قَالَ: فَقَالَ لِي: «لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، وَالإِرْبِيَانُ ضَرْبٌ مِنَ السَّمَكِ». قَالَ: قُلْتُ: قَدْ رَوَى بَعْضُ مَوَالِيكَ فِي أَكْلِ الرَّبِيثَا. قَالَ: فَقَالَ: «لاَ بَأْسَ»(1).
عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الْغُرَابِ الأَبْقَعِ وَالأَسْوَدِ، أَ يَحِلُّ أَكْلُهُ؟. فَقَالَ: «لاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِنَ الْغِرْبَانِ زَاغٌ وَلاَ غَيْرُهُ»(2).
قال بعض بكراهة لحمه وقال بعض بحرمته، وتفصيل المسألة في الفقه.
عن الحسين بن خالد، قال: قلت لأبي الحسن يعني موسى بن جعفر (عليه السلام) : أَيَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِ الْفِيلِ؟. فَقَالَ: «لاَ». قُلْتُ: وَلِمَ؟. قَالَ (عليه السلام) : «لأَنَّهُ مَثُلَةٌ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَمْسَاخَ وَلَحْمَ مَا مُثِّلَ بِهِ فِي صُوَرِهَا»(3).
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يهتم بتزويج العزاب، وتسهيل أمرهم، خاصة الشباب من ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
في حديث أن هارون العباسي أمر بإحضار الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يوماً فأكرمه، وأتى بها بحقة الغالية ففتحها بيده فغلفه بيده ثم أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير، فقال موسى بن جعفر (عليه السلام) : «واللّه لولا أني أرى من أزوّجه بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها أبداً»(4).
ولا يخفى أن الإمام (عليه السلام) كان مضطراً في قبول بعض تلك الهدايا من قبل
ص: 128
الطغاة، ولكنه كان يصرفها في ما يرضي اللّه عزَّ وجل.
عن محمد بن جعفر العاصمي، عن أبيه، عن جده، قال: حججت - ومعي جماعة من أصحابنا - فأتيت المدينة، فقصدنا مكاناً ننزله. فاستقبلنا أبو الحسن موسى (عليه السلام) على حمار أخضر يتبعه طعام، ونزلنا بين النخل، وجاء ونزل وأتي بالطست والماء والأشنان، فبدأ بغسل يديه، وأدير الطست عن يمينه حتى بلغ آخرنا، ثم أعيد إلى من على يساره حتى أتي إلى آخرنا.
ثم قدم الطعام فبدأ بالملح، ثم قال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»، ثم ثنى بالخل، ثم أتي بكتف مشوي فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن هذا طعام كان يعجب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».
ثم أتي بالخل والزيت، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن هذا طعام كان يعجب فاطمة (عليها السلام) ».
ثم أتي بسكباج، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فهذا طعام كان يعجب أمير المؤمنين (عليه السلام) ».
ثم أتي بلحم مقلو فيه باذنجان، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن هذا طعام كان يعجب الحسن بن علي (عليه السلام) ».
ثم أتي بلبن حامض قد ثرد فيه، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن هذا طعام كان يعجب الحسين بن علي (عليه السلام) ».
ثم أتي بجبن مبزر، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن هذا طعام كان يعجب محمد بن علي (عليه السلام) ».
ثم أتي بتور فيه بيض كالعجة، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن
ص: 129
هذا طعام كان يعجب أبي جعفراً (عليه السلام) .
ثم أتي بحلواء، فقال: «كلوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ فإن هذا طعام كان يعجبني».
ورفعت المائدة، فذهب أحدنا ليلقط ما كان تحتها. فقال (عليه السلام) : «إنما ذلك في المنازل تحت السقوف، فأما في مثل هذا الموضع فهو لعافية الطير والبهائم».
ثم أتي بالخلال، فقال: «من حق الخلال أن تدير لسانك في فمك، فما أجابك ابتلعته، وما امتنع ثم بالخلال تخرجه فتلفظه».
وأتي بالطست والماء، فابتدأ بأول من على يساره حتى انتهي إليه فغسل، ثم غسل من على يمينه حتى أتي على آخرهم.
ثم قال: «يا عاصم، كيف أنتم في التواصل والتبار؟».
فقال: على أفضل ما كان عليه أحد.
فقال: «أ يأتي أحدكم عند الضيقة منزل أخيه فلا يجده، فيأمر بإخراج كيسه، فيخرج فيفض ختمه، فيأخذ من ذلك حاجته فلا ينكر عليه».
قال: لا.
قال: «لستم على ما أحب من التواصل والضيقة والفقر»(1).
ص: 130
15
المعجزة آية ربانية منّ اللّه تعالى يمنّ بها على الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لتكون دليلاً على صدقهم، وهذا لا يعني أنهم يتعاملون بالمعاجز في كل الأمور، بل إذا كانت هناك مصلحة في الإعجاز فيكون الإعجاز بإذن اللّه تعالى، وذلك لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، ولكي يلتف الناس حول الأئمة (عليهم السلام) ويقتدوا بهم فيصلح دينهم ودنياهم، وعلى ذلك كانت سيرة الأنبياء والأوصياء (صلوات اللّه عليهم).
وقد روي معاجز كثيرة عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) نكتفي بذكر بعضها:
في الخبر: إن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لما كان في حبس هارون، أرسل هارون جارية في غاية الحسن والجمال إلى السجن، لكي تتمكن بزعمه من جلب الإمام إلى نفسها، فيقل شأن الإمام في أنظر الناس.
فقال الإمام (عليه السلام) للسجان: «قل له: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}(1)، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها».
ص: 131
قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف.
قال: فمضى ورجع، ثم قام هارون عن مجلسه، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: قدوس سبحانك، سبحانك.
فقال هارون: سحرها واللّه موسى بن جعفر بسحره عليَّ بها، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها. فقال: ما شأنكِ؟.
قالت: شأني الشأن البديع، إني كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح اللّه ويقدسه قلت: يا سيدي، هل لك حاجة أعطيكها؟.
قال: «وما حاجتي إليكِ».
قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك.
قال: «فما بال هؤلاء؟».
قالت: فالتفت فإذا روضة مزهرة، لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائف، لم أر مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر، والأكاليل والدر والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كل الطعام، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت.
قال: فقال هارون: يا خبيثة، لعلكِ سجدتِ فنمتِ فرأيتِ هذا في منامكِ؟.
قالت: لا واللّه يا سيدي، إلا قبل سجودي رأيت، فسجدت من أجل ذلك.
فقال هارون: اقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في
ص: 132
الصلاة فإذا قيل لها في ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح (عليه السلام) .
فسئلت عن قولها قالت: إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري: يا فلانة، أبعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه، فنحن له دونكِ، فما زالت كذلك حتى ماتت، وذلك قبل موت موسى (عليه السلام) بأيام يسيرة(1).
ولا يخفى أن الكون بأجمعه تحت قدرة اللّه تعالى، فإذا أراد اللّه أن يمن على بعض عباده المطيعين العابدين له، سخر لهم الكون بإرادتهم، فيتمكنوا من تغيير الكون والتصرف فيه، كما ورد في الحديث: «عبدى أطعني تكن مثلي - أو مثلي - أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون»(2).
وهذا ما يسمى بالولاية التكوينية.
كما ورد ذلك في القرآن الكريم بالنسبة إلى الأنبياء (عليهم السلام) ، فالنبي موسى (عليه السلام) كان يجعل العصا بإذن اللّه تعالى ثعباناً بحيث يبلع آلافاً من الحيات ثم يرجع إلى ما كان عليه فتنعدم تلك الحيات ولا يكبر تكبر العصا(3).
وكذلك النبي عيسى (عليه الصلاة والسلام) حيث كان يخلق من الطين طيراً، قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام) : {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ}(4).
ص: 133
والنبي إبراهيم (عليه السلام) حيث جعل الباري عزوجل له النار برداً وسلاماً، بل جعل فيها البساتين والأنهار(1).
وهكذا الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حيث جعل السجن باختياره، فإذا أراد قلبه السجن بساتين مشتملة على القصور والحور بإذن اللّه تعالى، فلما جاؤوا بتلك الجارية، أراد الإمام (عليه السلام) أن يبين كرامته عند اللّه عزَّ وجل وعدم حاجته إلى تلك الجارية، فأراها القصور والحور، وربما أراها الإمام قطعة من الجنة بإذن اللّه.
ومن هذا القبيل خبر شقيق البلخي:
قال شقيق البلخي - واسمه إبراهيم -: خرجت حاجاً إلى بيت اللّه الحرام في سنة تسع وأربعين ومائة فنزلنا القادسية، فنظرت إلى الناس في زيّهم بالقباب والعماريات والخيم والمضارب، وكل إنسان منهم قد تزيا على قدره. فقلت: اللّهم إنهم قد خرجوا إليك فلا تردهم خائبين. فبينما أنا قائم وزمام راحلتي بيدي، وأنا أطلب موضعاً أنزل فيه منفرداً عن الناس، إذ نظرت إلى فتى حدث السن، حسن الوجه، شديد السمرة، عليه سيماء العبادة وشواهدها، وبين عينيه سجادة، كأنها كوكب دري، وعليه من فوق ثوبه شملة من صوف، وفي رجله نعل عربي، وهو منفرد في عزلة من الناس. فقلت في نفسي: هذا الفتى من هؤلاء الصوفية المتوكلة، يريد أن يكون كلاً على الناس في هذا الطريق، واللّه لأمضين إليه ولأوبخنه.
ص: 134
قال: فدنوت منه، فلما رآني مقبلا نحوه، قال لي: «يا شقيق {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا}(1)» وقرأ الآية، ثم تركني ومضى.
فقلت في نفسي: قد تكلم هذا الفتى على سري، ونطق بما في نفسي، وسماني باسمي، وما فعل هذا إلا وهو ولي اللّه، ألحقه وأسأله أن يجعلني في حل. فأسرعت وراءه فلم ألحقه، وغاب عن عيني فلم أره، وارتحلنا حتى نزلنا واقصة، فنزلت ناحية من الحاج، ونظرت فإذا صاحبي قائم يصلي على كثيب رمل وهو راكع وساجد، وأعضاؤه تضطرب، ودموعه تجري من خشية اللّه عزَّ وجل. فقلت: هذا صاحبي، لأمضين إليه ثم لأسألنه أن يجعلني في حل. فأقبلت نحوه، فلما نظر إلي مقبلاً، قال لي: «يا شقيق {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى}(2)»، ثم غاب من عيني فلم أره.
فقلت: هذا رجل من الأبدال، وقد تكلم على سري مرتين، ولو لم يكن عند اللّه فاضلاً ما تكلم على سري. ورحل الحاج وأنا معهم حتى نزلنا بزبالة، فإذا أنا بالفتى قائم على البئر، وبيده ركوة يستقي بها ماء، فانقطعت الركوة في البئر. فقلت: صاحبي واللّه، فرأيته قد رمق السماء بطرفه وهو يقول: «أنت ربي إذا ظمأت من الماء، وقوتي إذا أردت الطعام. إلهي وسيدي ما لي سواها فلا تعدمنيها».
قال شقيق: فو اللّه لقد رأيت البئر وقد فاض ماؤها حتى جرى على وجه الأرض، فمد يده فتناول الركوة، فملأها ماءً، ثم توضأ فأسبغ الوضوء، وصلى ركعات، ثم مال إلى كثيب رمل أبيض، فجعل يقبض بيده من الرمل
ص: 135
ويطرحه في الركوة، ثم يحركها ويشرب.
فقلت في نفسي: أ تراه قد حول الرمل سويقاً، فدنوت منه. فقلت له: أطعمني - رحمك اللّه - من فضل ما أنعم اللّه به عليك.
فنظر وقال: «يا شقيق، لم تزل نعمة اللّه علينا أهل البيت سابغة، وأياديه لدينا جميلة، فأحسن ظنك بربك؛ فإنه لا يضيع من أحسن به ظناً».
فأخذت الركوة من يده وشربت، فإذا سويق وسكر، فو اللّه ما شربت شيئا قط ألذ منه، ولا أطيب رائحة منه، فشبعت ورويت، وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً، فدفعت إليه الركوة، ثم غاب عن عيني، فلم أره حتى دخلت مكة، وقضيت حجي، فإذا أنا بالفتى في هدأة من الليل، وقد زهرت النجوم، وهو إلى جانب بيت فيه السراب، راكعاً و ساجداً لا يريد مع اللّه سواه. فجعلت أرعاه وأنظر إليه، وهو يصلي بخشوع وأنين وبكاء، ويرتل القرآن ترتيلاً، فكلما مرت آية فيها وعد ووعيد، ردها على نفسه ودموعه تجري على خده، حتى إذا دنا الفجر جلس في مصلاه يسبح ربه ويقدسه، ثم قام فصلى الغداة، وطاف بالبيت أسبوعاً، وخرج من باب المسجد، فخرجت فرأيت له حاشية موالي، وإذا عليه لباس خلاف الذي شاهدت، وإذا الناس من حوله يسألونه عن مسائلهم، ويسلمون عليه..
فقلت لبعض الناس - أحسبه من مواليه -: من هذا الفتى؟!.
فقال لي: هذا أبو إبراهيم عالم آل محمد.
قلت: ومن أبو إبراهيم؟.
قال: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
ص: 136
فقلت: لقد عجبت أن توجد هذه الشواهد إلاّ في هذه الذرية(1).
وقد نظم البعض قصة شقيق مع الإمام الكاظم (عليه الصلاة والسلام) في شعر طويل، وهذه بعض أبياته(2):
سل شقيق البلخي عنه بما شاهد***منه وما الذي كان أبصر
قال لما حججت عاينت شخصاً***ناحل الجسم شاحب اللون أسمر
سائراً وحده وليس له زاد***فما زلت دائباً أتفكر
وتوهمت أنه يسأل الناس***ولم أدر أنه الحج الأكبر
ثم عاينته ونحن نزول***دون فيد على الكثيب الأحمر
يضع الرمل في الإناء ويشربه***فناديته وعقلي محير
اسقني شربة فلما سقاني***منه عاينته سويقاً وسكر
فسألت الحجيج من يك هذا***قيل هذا الإمام موسى بن جعفر
* وفي كشكول الشيخ البهائي (رحمه اللّه) : أن شقيق البلخي كان صاحب ثروة كبيرة، وكان يسافر كثيراً للتجارة، فسافر مرة إلى بلاد الترك، وكانوا يعبدون الأصنام. فسأل شقيق أحدهم: لماذا تعبدون هذه الأصنام المخلوقة، فإن للكون خالقاً عالماً قادراً سمعيا يرزق العباد، وعلى الناس أن يعبدوه دون غيره.
فقال الرجل: قولك يخالف فعلك، فإذا كان لك خالق يرزق، فلماذا تحملت عناء السفر لتحصيل الرزق وقد كفله لك خالقك؟.
فلما سمع شقيق بهذا الكلام غير حياته، وتصدق بجميع ما عنده، ولازم العلماء والزهاد إلى آخر عمره، وأصبح من الزهاد.
ص: 137
ولا يخفى أن هذا الإشكال من الرجل الملحد غير وارد؛ لأن الدنيا دار أسباب ومسببات، وهذا لا ينافي كون اللّه هو الرازق، فإن اللّه الرازق هو الذي أمر عباده بالعمل وبالعبادة معاً.
يقول المحدث القمي: شقيق البلخي، وهوئ أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي الذي صاحب إبراهيم بن أدهم وأخذ عنه الطريقة... تصدق بجميع ما يملكه ولازم العلماء والزهاد إلى أن مات، وكانت وفاته سنة 153، وهو الذي رأى من دلائل موسى بن جعفر (عليه السلام) ما روته العامة والخاصة(1).
روي أنه استأذن إبراهيم الجمال على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه. فحج علي بن يقطين في تلك السنة، فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر (عليه السلام) فحجبه، فرآه ثاني يومه. فقال علي بن يقطين: يا سيدي، ما ذنبي!. فقال: «حجبتك؛ لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال، وقد أبى اللّه أن يشكر سعيك، أو يغفر لك إبراهيم الجمال».
فقلت: سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمال في هذا الوقت، وأنا بالمدينة وهو بالكوفة. فقال: «إذا كان الليل، فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك، واركب نجيباً هناك مسرجاً». قال: فوافى البقيع وركب النجيب، ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمال بالكوفة. فقرع الباب وقال: أنا علي بن يقطين.
فقال إبراهيم الجمال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي!.
ص: 138
فقال علي بن يقطين: يا هذا، إن أمري عظيم. وآلى عليه أن يأذن له، فلما دخل قال: يا إبراهيم، إن المولى (عليه السلام) أبى أن يقبلني، أو تغفر لي. فقال: يغفر اللّه لك. فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمال أن يطأ خده، فامتنع إبراهيم من ذلك، فآلى عليه ثانياً، ففعل فلم يزل إبراهيم يطأ خده، وعلي بن يقطين يقول: اللّهم اشهد. ثم انصرف وركب النجيب، وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفر (عليه السلام) بالمدينة، فأذن له ودخل عليه فقبله(1).
عن ابن سنان، قال: حمل هارون في بعض الأيام إلى علي بن يقطين ثياباً أكرمه بها، وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب. فأنفذ علي بن يقطين جل تلك الثياب إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وأنفذ في جملتها تلك الدراعة، وأضاف إليها مالاً كان أعده له على رسم له، فيما يحمله إليه من خمس ماله.
فلما وصل ذلك إلى أبي الحسن، قبل المال والثياب ورد الدراعة على يد الرسول إلى علي بن يقطين، وكتب إليه: «أن احتفظ بها ولا تخرجها عن يدك، فسيكون لك بها شأن تحتاج إليها معه». فارتاب علي بن يقطين بردها عليه، ولم يدر ما سبب ذلك، فاحتفظ بالدراعة.
فلما كان بعد أيام، تغير علي بن يقطين على غلام كان يختص به، فصرفه عن خدمته، وكان الغلام يعرف ميل علي بن يقطين إلى أبي الحسن (عليه السلام) ، ويقف على ما يحمله إليه في كل وقت من مال وثياب وألطاف وغير ذلك. فسعى به إلى
ص: 139
هارون، فقال: إنه يقول بإمامة موسى بن جعفر، ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة، وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمه بها الأمير في وقت كذا وكذا.
فاستشاط هارون لذلك، وغضب غضباً، وقال: لأكشفن عن هذه الحال، فإن كان الأمر كما يقول أزهقت نفسه. وأنفذ في الوقت بإحضار علي بن يقطين، فلما مثل بين يديه قال له: ما فعلت بالدراعة التي كسوتك بها؟.
قال: هي يا أمير عندي في سفط مختوم فيه طيب، وقد احتفظت بها، وقلما أصبحت إلا وفتحت السفط، فنظرت إليها تبركاً بها، وقبلتها ورددتها إلى موضعها، وكلما أمسيت صنعت مثل ذلك.
فقال: أحضرها الساعة. قال: نعم يا أمير. واستدعى بعض خدمه، وقال له: امض إلى البيت الفلاني من الدار، فخذ مفتاحه من خازنتي، فافتحه وافتح الصندوق الفلاني، وجئني بالسفط الذي فيه بختمه.
فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوماً، فوضع بين يدي هارون، فأمر بكسر ختمه وفتحه، فلما فتح نظر إلى الدراعة فيه بحالها مطوية مدفونة في الطيب، فسكن هارون من غضبه، ثم قال لعلي بن يقطين: ارددها إلى مكانها وانصرف راشداً، فلن أصدق عليك بعدها ساعياً. وأمر أن يتبع بجائزة سنية، وتقدم بضرب الساعي ألف سوط، فضرب نحواً من خمسمائة سوط، فمات في ذلك(1).
روي أن علي بن يقطين كتب إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) : اختلف في المسح على
ص: 140
الرجلين، فإن رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت؟. فكتب أبو الحسن (عليه السلام) : «الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك ثلاثاً، وتغسل يديك ثلاثاً، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره».
فامتثل أمره وعمل عليه.
فقال هارون: أحب أن أستبرئ أمر علي بن يقطين، فإنهم يقولون: إنه رافضي، والرافضة يخففون في الوضوء. فناطه بشيء من الشغل في الدار، حتى دخل وقت الصلاة، ووقف هارون وراء حائط الحجرة، بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء، فتوضأ كما أمره موسى.
فقام هارون وقال: كذب من زعم أنك رافضي.
فورد على علي بن يقطين كتاب موسى بن جعفر (عليه السلام) : «توضأ من الآن كما أمر اللّه: اغسل وجهك مرة فريضة، والأخرى إسباغاً، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك»(1).
عن زكريا بن آدم، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «كان أبي ممن تكلم في المهد»(2).
وقد سبق ما رواه محمد بن سنان، عن يعقوب السراج، قال: دخلت على
ص: 141
أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، وهو في المهد. فجعل يساره طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه. فقال: «ادن إلى مولاك فسلم عليه». فدنوت فسلمت عليه، فرد عليَّ بلسان فصيح، ثم قال لي: «اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس؛ فإنه اسم يبغضه اللّه». وكانت ولدت لي بنت وسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «انته إلى أمره ترشد»، فغيرت اسمها(1).
عن علي بن المغيرة، قال: مر العبد الصالح (عليه السلام) بامرأة بمنى، وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون، وقد ماتت بقرة لها. فدنا منها، ثم قال لها: «ما يبكيكِ يا أمة اللّه؟».
قالت: يا عبد اللّه، إن لي صبياناً أيتاماً، فكانت لي بقرة معيشتي ومعيشة صبياني كان منها، فقد ماتت وبقيت منقطعة بي وبولدي، ولا حيلة لنا.
فقال لها: «يا أمة اللّه، هل لكِ أن أحييها لكِ». قال: فألهمت أن قالت: نعم يا عبد اللّه.
قال: فتنحى ناحية، فصلى ركعتين ثم رفع يديه يمنة وحرك شفتيه، ثم مر بالبقرة فنخسها نخساً أو ضربها برجله، فاستوت على الأرض قائمة.
فلما نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت صاحت: عيسى ابن مريم ورب الكعبة!.
قال: فخالط الناس وصار بينهم، ومضى بينهم (صلى اللّه عليه وعلى آبائه
ص: 142
الطاهرين)(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: أخذ بيدي موسى بن جعفر (عليه السلام) يوماً، فخرجنا من المدينة إلى الصحراء، فإذا نحن برجل مغربي على الطريق يبكي، وبين يديه حمار ميت، ورحله مطروح.
فقال له موسى (عليه السلام) : «ما شأنك؟».
قال: كنت مع رفقائي نريد الحج، فمات حماري هاهنا وبقيت، ومضى أصحابي وقد بقيت متحيراً، ليس لي شيء أحمل عليه.
فقال موسى: «لعله لم يمت».
قال: أ ما ترحمني حتى تلهو بي.
قال: «إن عندي رقية جيدة».
قال الرجل: ليس يكفيني ما أنا فيه حتى تستهزئ بي!.
فدنا موسى من الحمار، ونطق بشيء لم أسمعه، وأخذ قضيباً كان مطروحاً، فضربه وصاح عليه، فوثب الحمار صحيحاً سليماً. فقال: «يا مغربي، ترى هاهنا شيئاً من الاستهزاء، ألحق بأصحابك».
ومضينا وتركناه، قال علي بن أبي حمزة: فكنت واقفاً يوماً على بئر زمزم بمكة، فإذا المغربي هناك، فلما رآني عدا إليَّ وقبل يدي فرحاً مسروراً، فقلت له: ما حال حمارك؟. فقال: هو واللّه سليم صحيح، وما أدري من أين ذلك الرجل الذي منَّ اللّه به عليَّ، فأحيا لي حماري بعد موته.
ص: 143
فقلت له: قد بلغت حاجتك، فلا تسأل عما لا تبلغ معرفته(1).
روي عن أحمد بن عمر الحلال، قال: سمعت الأخرس يذكر موسى بن جعفر (عليه السلام) بسوء، فاشتريت سكيناً وقلت في نفسي: واللّه لأقتلنه إذا خرج للمسجد. فأقمت على ذلك، وجلست فما شعرت إلاّ برقعة أبي الحسن (عليه السلام) قد طلعت عليَّ فيها:
«بحقي عليك لما كففت عن الأخرس؛ فإن اللّه يغني وهو حسبي»، فما بقي أيام إلا ومات الأخرس(2).
روى إسماعيل بن موسى، قال: كنا مع أبي الحسن في عمرة، فنزلنا بعض قصور الأمراء، فأمر بالرحلة فشدت المحامل، وركب بعض العيال، وكان أبو الحسن في بيت، فخرج فقام على بابه. فقال: «حطوا، حطوا». قال إسماعيل: وهل ترى شيئاً!. قال: «إنه سيأتيكم ريح سوداء مظلمة تطرح بعض الإبل». فجاءت ريح سوداء، فأشهد لقد رأيت جملنا عليه كنيسة كنت أركب أنا فيها وأحمد أخي، ولقد قام ثم سقط على جنبه بالكنيسة(3).
عن صفوان بن مهران، قال: أمرني سيدي أبو عبد اللّه (عليه السلام) يوماً أن أقدم ناقته
ص: 144
إلى باب الدار فجئت بها، فخرج أبو الحسن موسى (عليه السلام) مسرعاً، وهو ابن ست سنين، فاستوى على ظهر الناقة وأثارها، وغاب عن بصري. قال: فقلت: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وما أقول لمولاي إذا خرج يريد الناقة. قال: فلما مضى من النهار ساعة، إذا الناقة قد انقضت كأنها شهاب، وهي ترفض عرقاً، فنزل عنها ودخل الدار. فخرج الخادم وقال: أعد الناقة مكانها وأجب مولاك. قال: ففعلت ما أمرني فدخلت عليه. فقال: «يا صفوان، إنما أمرتك بإحضار الناقة ليركبها مولاك أبو الحسن (عليه السلام) . فقلت في نفسك كذا وكذا، فهل علمت يا صفوان أين بلغ عليها في هذه الساعة، إنه بلغ ما بلغه ذو القرنين وجاوزه أضعافاً مضاعفة، وأبلغ كل مؤمن ومؤمنة سلامي»(1).
روي عن عيسى المدائني، قال: خرجت سنة إلى مكة فأقمت بها، ثم قلت: أقيم بالمدينة مثل ما أقمت بمكة، فهو أعظم لثوابي. فقدمت المدينة فنزلت طرف المصلى إلى جنب دار أبي ذر (رحمه اللّه) ، فجعلت أختلف إلى سيدي، فأصابنا مطر شديد بالمدينة، فأتيت أبا الحسن (عليه السلام) مسلماً عليه يوماً، وإن السماء تهطل. فلما دخلت ابتدأني فقال لي: «وعليك السلام يا عيسى، ارجع فقد انهدم بيتك إلى متاعك».
فانصرفت راجعاً، فإذا البيت قد انهار، واستعملت عملة فاستخرجوا متاعي كله، ولا افتقدته غير سطل كان لي.
فلما أتيته بالغد مسلماً عليه، قال: «هل فقدت من متاعك شيئاً، فندعو اللّه
ص: 145
لك بالخلف؟».
قلت: ما فقدت شيئاً ما خلا سطلاً كان لي أتوضأ منه فقدته.
فأطرق ملياً ثم رفع رأسه إليَّ، فقال: «قد ظننت أنك أنسيت السطل، فسل جارية رب الدار عنه وقل لها: أنتِ رفعت السطل في الخلأ، فرديه فإنها سترده عليك».
فلما انصرفت، أتيت جارية رب الدار، فقلت: إني نسيت السطل في الخلأ، فرديه عليَّ أتوضأ به، فردت عليَّ سطلي(1).
روي أن علي بن أبي حمزة، قال: كنت عند موسى بن جعفر (عليه السلام) ، إذ أتاه رجل من أهل الري يقال له: جندب، فسلم عليه وجلس، وساءله أبو الحسن (عليه السلام) ، وأحسن السؤال به، ثم قال له: «يا جندب، ما فعل أخوك؟». قال له: بخير، وهو يقرئك السلام». فقال: «يا جندب، أعظم اللّه لك أجرك في أخيك».
فقال: ورد كتابه من الكوفة لثلاثة عشر يوماً بالسلامة. فقال: «إنه واللّه مات بعد كتابه بيومين، ودفع إلى امرأته مالاً، وقال: ليكن هذا المال عندكِ فإذا قدم أخي فادفعيه إليه، وقد أودعته الأرض في البيت الذي كان يكون فيه، فإذا أنت أتيتها فتلطف لها، وأطمعها في نفسك، فإنها ستدفعه إليك».
قال علي بن أبي حمزة: وكان جندب رجلاً كبيراً جميلاً، قال: فلقيت جندباً بعدما فقد أبو الحسن (عليه السلام) ، فسألته عما قال له، فقال: صدق واللّه سيدي، ما زاد
ص: 146
ولا نقص، لا في الكتاب ولا في المال(1).
روى ابن أبي حمزة، قال: كان رجل من موالي أبي الحسن (عليه السلام) لي صديقاً. قال: خرجت من منزلي يوماً، فإذا أنا بامرأة حسناء جميلة ومعها أخرى، فتبعتها فقلت لها: تمتعيني نفسكِ؟. فالتفتت إليّ وقالت: إن كان لنا عندك جنس فليس فينا مطمع، وإن لم يكن لك زوجة فامض بنا. فقلت: لكِ عندنا جنس. فانطلقت معي حتى صرنا إلى باب المنزل فدخلت، فلما أن خلعَتْ فرد خف وبقي الخف الآخر تنزعه، إذا قارع يقرع الباب، فخرجت فإذا أنا بموفق. فقلت له: ما وراك؟!.
قال: خير، يقول أبو الحسن: «أخرج هذه المرأة التي معك في البيت ولا تمسها». فدخلت فقلت لها: ألبسي خفيكِ يا هذه واخرجي، فلبست خفها وخرجت، فنظرت إلى موفق بالباب. فقال: سد الباب. فسددته، فو اللّه ما جاءت له غير بعيد - وأنا وراء الباب أستمع وأتطلع - حتى لقيها رجل مستعر. فقال لها: ما لكِ خرجت سريعاً؟ أ لست قلت: لا تخرجي؟. قالت: إن رسول الساحر جاء يأمره أن يخرجني فأخرجني. قال: فسمعته يقول: أولى له، وإذا القوم طمعوا في مال عندي، فلما كان العشاء عدت إلى أبي الحسن. قال: «لا تعد؛ فإن تلك امرأة من بني أمية أهل بيت لعنة، إنهم كانوا بعثوا أن يأخذوها من منزلك، فاحمد اللّه الذي صرفها». ثم قال لي أبو الحسن: «تزوج بابنة فلان، وهو مولى أبي أيوب البخاري؛ فإنها امرأة قد جمعت كل ما تريد من أمر
ص: 147
الدنيا والآخرة». فتزوجت فكان كما قال (عليه السلام) (1).
عن الوشاء الحسن بن علي، قال: حججت أنا وخالي إسماعيل بن إلياس، فكتبت إلى أبي الحسن الأول (عليه السلام) ، وكتب خالي: إن لي بنات وليس لي ذكر، وقد قتل رجالنا، وقد خلفت امرأتي حاملاً، فادع اللّه أن يجعله غلاماً وسمّه.
فوقّع (عليه السلام) في الكتاب: «قد قضى اللّه حاجتك، فسمه محمداً».
فقدمنا إلى الكوفة، وقد ولد له غلام قبل وصولنا الكوفة بستة أيام، دخلنا يوم سابعه.
فقال أبو محمد: هو واللّه اليوم رجل وله أولاد(2).
عن هشام بن الحكم، قال: كنت في طريق مكة وأنا أريد شراء بعير، فمر بي أبو الحسن (عليه السلام) ، فلما نظرت إليه تناولت رقعة فكتبت إليه: جعلت فداك، إني أريد شراء هذا البعير، فما ترى؟. فنظر إليه فقال: «لا أرى في شراه بأساً، فإن خفت عليه ضعفاً فألقمه». فاشتريته وحملت عليه فلم أر منكراً، حتى إذا كنت قريباً من الكوفة في بعض المنازل وعليه حمل ثقيل، رمى بنفسه واضطرب للموت، فذهب الغلمان ينزعون عنه، فذكرت الحديث فدعوت بلقم، فما ألقموه إلا سبعاً حتى قام بحمله(3).
ص: 148
عن ابن البطائني، عن أبيه، قال: دخلت المدينة، وأنا مريض شديد المرض، وكان أصحابنا يدخلون ولا أعقل بهم؛ وذلك لأنه أصابني حمى فذهب عقلي، وأخبرني إسحاق بن عمار أنه أقام عليَّ بالمدينة ثلاثة أيام، لا يشك أنه لا يخرج منها حتى يدفنني ويصلي عليَّ، وخرج إسحاق بن عمار، وأفقت بعد ما خرج إسحاق. فقلت لأصحابي: افتحوا كيسي، وأخرجوا منه مائة دينار فاقسموها في أصحابنا، وأرسل إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) بقدح فيه ماء. فقال الرسول: يقول لك أبو الحسن (عليه السلام) : «اشرب هذا الماء؛ فإن فيه شفاك إن شاء اللّه تعالى». ففعلت فأسهل بطني، فأخرج اللّه ما كنت أجده من بطني من الأذى، ودخلت على أبي الحسن (عليه السلام) . فقال: «يا علي، أما أجلك قد حضر مرة بعد مرة». فخرجت إلى مكة فلقيت إسحاق بن عمار، فقال: واللّه لقد أقمت بالمدينة ثلاثة أيام ما شككت إلا أنك ستموت، فأخبرني بقصتك؟. فأخبرته بما صنعت، وما قال لي أبو الحسن (عليه السلام) مما أنشأ اللّه في عمري مرة بعد مرة من الموت، وأصابني مثل ما أصاب. فقلت: يا إسحاق، إنه إمام ابن إمام، وبهذا يعرف الإمام(1).
عن خالد السمان - في خبر - أنه دعا هارون العباسي رجلاً يقال له: علي بن صالح الطالقاني، وقال له: أنت الذي تقول: إن السحاب حملتك من بلد الصين إلى طالقان؟. فقال: نعم. قال: فحدثنا كيف كان؟.
قال: كسر مركبي في لجج البحر، فبقيت ثلاثة أيام على لوح تضربني
ص: 149
الأمواج، فألقتني الأمواج إلى البر، فإذا أنا بأنهار وأشجار، فنمت تحت ظل شجرة، فبينا أنا نائم إذ سمعت صوتاً هائلاً، فانتبهت فزعاً مذعوراً، فإذا أنا بدابتين يقتتلان على هيئة الفرس، لا أحسن أن أصفهما، فلما بصرا بي دخلتا في البحر، فبينما أنا كذلك إذ رأيت طائراً عظيم الخلق، فوقع قريباً مني بقرب كهف في جبل، فقمت مستتراً في الشجر، حتى دنوت منه لأتأمله، فلما رآني طار، وجعلت أقفو أثره، فلما قمت بقرب الكهف سمعت تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً وتلاوة قرآن، ودنوت من الكهف، فناداني مناد من الكهف: ادخل يا علي بن صالح الطالقاني رحمك اللّه. فدخلت وسلمت، فإذا رجل فخم ضخم، غليظ الكراديس، عظيم الجثة، أنزع أعين، فرد عليَّ السلام، وقال: يا علي بن صالح الطالقاني، أنت من معدن الكنوز، لقد أقمت ممتحناً بالجوع والعطش والخوف لولا أن اللّه رحمك في هذا اليوم، فأنجاك وسقاك شراباً طيباً، ولقد علمت الساعة التي ركبت فيها، وكم أقمت في البحر، وحين كسر بك المركب، وكم لبثت تضربك الأمواج، وما هممت به من طرح نفسك في البحر لتموت اختياراً للموت، لعظيم ما نزل بك، والساعة التي نجوت فيها، ورؤيتك لما رأيت من الصورتين الحسنتين، واتباعك للطائر الذي رأيته واقعاً، فلما رآك صعد طائراً إلى السماء، فهلم فاقعد رحمك اللّه. فلما سمعت كلامه قلت: سألتك باللّه ما أعلمك بحالي؟. فقال: عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ، والَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ - ثم قال - أنت جائع. فتكلم بكلام تململت به شفتاه، فإذا بمائدة عليها منديل، فكشفه وقال: هلم إلى ما رزقك اللّه فكل. فأكلت طعاماً ما رأيت أطيب منه، ثم سقاني ماء ما رأيت ألذ منه ولا أعذب، ثم صلى ركعتين، ثم قال: يا علي أ تحب الرجوع إلى بلدك؟. فقلت:
ص: 150
ومن لي بذلك!. فقال: وكرامة لأوليائنا أن نفعل بهم ذلك. ثم دعا بدعوات، ورفع يده إلى السماء، وقال: الساعة، الساعة. فإذا سحاب قد أظلت باب الكهف قطعاً قطعاً، وكلما وافت سحابة قالت: سلام عليك يا ولي اللّه وحجته. فيقول: وعليكِ السلام ورحمة اللّه وبركاته، أيتها السحابة السامعة المطيعة. ثم يقول لها: أين تريدين؟. فتقول: أرض كذا. فيقول: أ لرحمة أو سخط؟. فتقول: لرحمة أو سخط. وتمضي حتى جاءت سحابة حسنة مضيئة، فقالت: السلام عليك يا ولي اللّه وحجته. قال: وعليكِ السلام أيتها السحابة السامعة المطيعة، أين تريدين؟. فقالت: أرض طالقان. فقال: لرحمة أو سخط. فقالت: لرحمة. فقال لها: احملي ما حملتِ مودعاً في اللّه. فقالت: سمعاً وطاعة. قال لها: فاستقري بإذن اللّه على وجه الأرض. فاستقرت فأخذ بعض عضدي فأجلسني عليها، فعند ذلك قلت له: سألتك باللّه العظيم، وبحق محمد خاتم النبيين، وعلي سيد الوصيين، والأئمة الطاهرين، من أنت فقد أعطيت واللّه أمراً عظيماً؟. فقال: ويحك يا علي بن صالح إن اللّه لا يخلي أرضه من حجة طرفة عين، إما باطن وإما ظاهر، أنا حجة اللّه الظاهرة وحجته الباطنة، أنا حجة اللّه يوم الوقت المعلوم، وأنا المؤدي الناطق عن الرسول، أنا في وقتي هذا موسى بن جعفر. فذكرت إمامته وإمامة آبائه، وأمر السحاب بالطيران، فطارت فو اللّه ما وجدت ألماً ولا فزعت، فما كان بأسرع من طرفة العين، حتى ألقتني بالطالقان، في شارعي الذي فيه أهلي وعقاري، سالماً في عافية. فقتله هارون، وقال: لا يسمع بهذا أحد(1).
ص: 151
عن علي بن يقطين، قال: استدعى هارون رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ويقطعه ويخجله في المجلس. فانتدب له رجل معزم، فلما أحضرت المائدة، عمل ناموساً على الخبز، فكان كلما رام خادم أبي الحسن (عليه السلام) تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه، واستفز هارون الفرح والضحك لذلك.
فلم يلبث أبو الحسن (عليه السلام) أن رفع رأسه إلى أسد مصور على بعض الستور. فقال له: «يا أسد اللّه، خذ عدو اللّه».
قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع، فافترست ذلك المعزم، فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشياً عليهم، وطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه.
فلما أفاقوا من ذلك بعد حين، قال هارون لأبي الحسن (عليه السلام) : أسألك بحقي عليك لما سألت الصورة أن ترد الرجل.
فقال (عليه السلام) : «إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم، فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل».
فكان ذلك أعمل الأشياء في إفاقة نفسه(1).
عن عثمان بن عيسى، قال: قلت لأبي الحسن الأول الإمام الكاظم (عليه السلام) : إن الحسن بن محمد له إخوة من أبيه، وليس يولد له ولد إلا مات، فادع اللّه له.
ص: 152
فقال: «قضيت حاجته». فولد له غلامان(1).
عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: استقرضت من غالب مولى الربيع ستة آلاف درهم تمت بها بضاعتي، ودفع إليَّ شيئاً أدفعه إلى أبي الحسن الأول (عليه السلام) ، وقال: إذا قضيت من الستة آلاف درهم حاجتك، فادفعها أيضاً إلى أبي الحسن. فلما قدمت المدينة بعثت إليه بما كان معي، والذي من قبل غالب. فأرسل إليَّ: «فأين الستة آلاف درهم؟». فقلت: استقرضتها منه، وأمرني أن أدفعها إليك، فإذا بعت متاعي بعثت بها إليك. فأرسل إليَّ: «عجلها لنا، وإنا نحتاج إليها». فبعثت بها إليه(2).
عن إسماعيل بن سلام وفلان بن حميد، قالا: بعث إلينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين وتجنبا الطريق. ودفع إلينا أموالاً وكتباً حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، ولا يعلم بكما أحد. قال: فأتينا الكوفة، واشترينا راحلتين، وتزودنا زاداً، وخرجنا نتجنب الطريق، حتى إذا صرنا ببطن الرمة، شددنا راحلتنا ووضعنا لها العلف، وقعدنا نأكل، فبينا نحن كذلك إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري، فلما قرب منا فإذا هو أبو الحسن موسى (عليه السلام) ، فقمنا إليه وسلمنا عليه، ودفعنا إليه الكتب، وما كان معنا، فأخرج من كمه كتباً فناولنا إياها. فقال: «هذه جوابات كتبكم». قال: فقلنا: إأن زادنا
ص: 153
قد فني، فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة، فزرنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتزودنا زاداً. فقال: «هاتا ما معكما من الزاد». فأخرجنا الزاد إليه، فقلبه بيده. فقال: «هذا يبلغكما إلى الكوفة»، الحديث(1).
عن شعيب العقرقوفي، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام) - مبتدئاً من غير أن أسأله عن شيء -: «يا شعيب، غداً يلقاك رجل من أهل المغرب يسألك عني، فقل هو واللّه الإمام الذي قال لنا أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، فإذا سألك عن الحلال والحرام فأجبه مني».
فقلت: جعلت فداك، فما علامته؟.
قال: «رجل طويل جسيم، يقال له: يعقوب، فإذا أتاك فلا عليك أن تجيبه عن جميع ما سألك، فإنه واحد قومه، فإن أحب أن تدخله إليَّ فأدخله».
قال: فو اللّه إني لفي طوافي، إذ أقبل إليَّ رجل طويل من أجسم ما يكون من الرجال، فقال لي: أريد أن أسألك عن صاحبك.
فقلت: عن أي صاحب؟.
قال: عن فلان بن فلان.
قلت: ما اسمك؟. قال: يعقوب.
قلت: ومن أين أنت؟. قال: رجل من أهل المغرب.
قلت: فمن أين أنت عرفتني؟.
قال: أتاني آت في منامي ألق شعيباً، فسله عن جميع ما تحتاج إليه، فسألت
ص: 154
عنك فدللت عليك. فقلت: اجلس في هذا الموضع حتى أفرغ من طوافي، وآتيك إن شاء اللّه تعالى. فطفت ثم أتيته، فكلمت رجلاً عاقلاً، ثم طلب إليَّ أن أدخله على أبي الحسن (عليه السلام) ، فأخذت بيده، فاستأذنت على أبي الحسن (عليه السلام) فأذن لي، فلما رآه أبو الحسن (عليه السلام) . قال له: «يا يعقوب، قدمت أمس ووقع بينك وبين أخيك شر في موضع كذا وكذا، حتى شتم بعضكم بعضاً، وليس هذا ديني ولا دين آبائي، ولا نأمر بهذا أحداً من الناس، فاتق اللّه وحده لا شريك له، فإنكما ستفترقان بموت، أما إن أخاك سيموت في سفره قبل أن يصل إلى أهله، وستندم أنت على ما كان منك، وذلك أنكما تقاطعتما، فبتر اللّه أعماركما». فقال له الرجل: فأنا جعلت فداك متى أجلي؟. فقال: «أما إن أجلك قد حضر، حتى وصلت عمتك بما وصلتها به في منزل كذا وكذا، فزيد في أجلك عشرون». قال: فأخبرني الرجل ولقيته حاجاً أن أخاه لم يصل إلى أهله حتى دفنه في الطريق(1).
روي أن هشام بن الحكم، قال: لما مضى أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، وادعى الإمامة عبد اللّه بن جعفر، وأنه أكبر من ولده. دعاه موسى بن جعفر (عليه السلام) وقال: «يا أخي، إن كنت صاحب هذا الأمر، فهلم يدك فأدخلها النار». وكان حفر حفيرة، وألقى فيها حطباً، وضربها بنفط ونار، فلم يفعل عبد اللّه، وأدخل أبو الحسن (عليه السلام) يده في تلك الحفيرة، ولم يخرجها من النار إلا بعد احتراق الحطب وهو يمسحها(2).
أقول: كان ادعاء الإمامة من عبد اللّه تظاهراً منه؛ لإثبات إمامة أخيه موسى
ص: 155
بن جعفر (عليه السلام) .
وروي عن المفضل بن عمر، قال: لما قضى الصادق (عليه السلام) ، كانت وصيته في الإمامة إلى موسى الكاظم، فادعى أخوه عبد اللّه الإمامة، وكان أكبر ولد جعفر في وقته ذلك، وهو المعروف بالأفطح. فأمر موسى بجمع حطب كثير في وسط داره، فأرسل إلى أخيه عبد اللّه يسأله أن يصير إليه، فلما صار عنده ومع موسى جماعة من وجوه الإمامية، وجلس إليه أخوه عبد اللّه، أمر موسى أن يجعل النار في ذلك الحطب كله فاحترق كله، ولا يعلم الناس السبب فيه، حتى صار الحطب كله جمراً، ثم قام موسى وجلس بثيابه في وسط النار، وأقبل يحدث الناس ساعة، ثم قام فنفض ثوبه، ورجع إلى المجلس. فقال لأخيه عبد اللّه: «إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك، فاجلس في ذلك المجلس». فقالوا: فرأينا عبد اللّه قد تغير لونه، فقام يجر رداءه حتى خرج من دار موسى (عليه السلام) (1).
روي عن محمد بن عبد اللّه، عن صالح بن واقد الطبري، قال: دخلت على موسى بن جعفر (عليه السلام) . فقال: «يا صالح، إنه يدعوك الطاغية - يعني هارون - فيحبسك في محبسه، ويسألك عني فقل: إني لا أعرفه! فإذا صرت إلى محبسه، فقل: من أردت أن تخرجه، فأخرجه بإذن اللّه تعالى». قال صالح: فدعاني هارون من طبرستان. فقال: ما فعل موسى بن جعفر، فقد بلغني أنه كان عندك؟. فقلت: وما يدريني من موسى بن جعفر، أنت يا أمير أعرف به وبمكانه. فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فو اللّه إني لفي بعض الليالي قاعد وأهل الحبس
ص: 156
نيام، إذا أنا به يقول: يا صالح. قلت: لبيك. قال: صرت إلى هاهنا. فقلت: نعم يا سيدي. قال: «قم فاخرج واتبعني». فقمت وخرجت، فلما صرنا إلى بعض الطريق. قال: «يا صالح، السلطان سلطاننا، كرامة من اللّه أعطاناها». قلت: يا سيدي، فأين أحتجز من هذا الطاغية؟. قال: «عليك ببلادك فارجع إليها؛ فإنه لن يصل إليك». قال صالح: فرجعت إلى طبرستان، فو اللّه ما سأل عني، ولا درى أ حبسني أم لا(1).
قال خالد بن نجيح: قلت لموسى (عليه السلام) : إن أصحابنا قدموا من الكوفة، وذكروا أن المفضل شديد الوجع، فادع اللّه له. قال: «قد استراح». وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيام(2).
قال بيان بن نافع التفليسي: خلفت والدي مع الحرم في الموسم، وقصدت موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه، فأقبل عليَّ بوجهه وقال: «بر حجك يا ابن نافع، آجرك اللّه في أبيك؛ فإنه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه».
فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلفته وما به علة، فقال: «يا ابن نافع أ فلا تؤمن».
فرجعت فإذا أنا بالجواري يلطمن خدودهن، فقلت: ما وراكن؟. قلن: أبوك
ص: 157
فارق الدنيا.
قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عما أخفاه وأراني. فقال لي: «أبد ما أخفاه وأراك - ثم قال - يا ابن نافع إن كان في أمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه، فأنا جنب اللّه، وكلمته الباقية، وحجته البالغة»(1).
شعيب العقرقوفي، قال: بعثت مباركاً مولاي إلى أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) ومعه مائتا دينار، وكتبت معه كتاباً. فذكر لي مبارك أنه سأل عن أبي الحسن (عليه السلام) ، فقيل قد خرج إلى مكة. فقلت: لأسير بين مكة والمدينة بالليل، إذا هاتف يهتف بي: يا مبارك، مولى شعيب العقرقوفي. فقلت: من أنت يا عبد اللّه؟!. فقال: أنا معتب، يقول لك أبو الحسن: «هات الكتاب الذي معك، وواف بالذي معك إلى منى». فنزلت من محملي، ودفعت إليه الكتاب، وصرت إلى منى، فأدخلت عليه، وصببت الدنانير التي معي قدامه، فجر بعضها إليه ودفع بعضها بيده، ثم قال لي: «يا مبارك، ادفع هذه الدنانير إلى شعيب، وقل له: يقول لك أبو الحسن: ردها إلى موضعها الذي أخذتها منه؛ فإن صاحبها يحتاج إليها».
فخرجت من عنده، وقدمت على سيدي، وقلت: ما قصة هذه الدنانير؟. قال: إني طلبت من فاطمة خمسين ديناراً؛ لأتم بها هذه الدنانير، فامتنعت عليَّ وقالت: أريد أن أشتري بها قراح فلان بن فلان، فأخذتها منها سراً، ولم ألتفت إلى كلامها. ثم دعا شعيب بالميزان، فوزنها فإذا هي خمسون ديناراً(2).
ص: 158
عن محمد بن الفضل، عن داود الرقي، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : حدثني عن أعداء أمير المؤمنين، وأهل بيت النبوة؟. فقال: «الحديث أحب إليك أم المعاينة». قلت: المعاينة. فقال لأبي إبراهيم موسى (عليه السلام) : «ائتني بالقضيب». فمضى وأحضره إياه، فقال له: «يا موسى، اضرب به الأرض وأرهم أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعداءنا». فضرب به الأرض ضربة، فانشقت الأرض عن بحر أسود، ثم ضرب البحر بالقضيب، فانفلق عن صخرة سوداء، فضرب الصخرة فانفتح منها باب، فإذا بالقوم جميعاً لا يحصون لكثرتهم، ووجوههم مسودة، وأعينهم زرق، كل واحد منهم مصفد مشدود في جانب من الصخرة، وهم ينادون: يا محمد، والزبانية تضرب وجوههم، ويقولون لهم: كذبتم ليس محمد لكم ولا أنتم له.
فقلت له: جعلت فداك من هؤلاء؟. فقال: «الجبت والطاغوت، والرجس واللعين ابن اللعين». ولم يزل يعددهم كلهم من أولهم إلى آخرهم، حتى أتى على أصحاب السقيفة، وأصحاب الفتنة، وبني الأزرق، والأوزاع، وبني أمية، جدد اللّه عليهم العذاب بكرة وأصيلاً، ثم قال (عليه السلام) للصخرة: «انطبقي عليهم إلى الوقت المعلوم»(1).
جليداً(1) فأذابه بدواء، ثم أخذ ماءً وعقده بدواء، وقال: هذا الطب إلا أن يكون مستجاب دعاء، ذا منزلة عند اللّه يدعو لك.
فقال الخليفة: عليَّ بموسى بن جعفر (عليه السلام) .
فأُتي به فسمع في الطريق أنينه، فدعا اللّه سبحانه وزال مغص الخليفة. فقال له: بحق جدك المصطفى أن تقول بم دعوت لي؟. فقال (عليه السلام) : «قلت: اللّهم كما أريته ذل معصيته، فأره عز طاعتي»، فشفاه اللّه من ساعته(2).
عن حماد بن عيسى، قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) . فقلت له: جعلت فداك، ادع اللّه لي أن يرزقني داراً، وزوجةً، وولداً، وخادماً، والحج في كل سنة.
فقال (عليه السلام) : «اللّهم صل على محمد وآل محمد، وارزقه داراً، وزوجةً، وولداً، وخادماً، والحج خمسين سنة».
قال حماد: فلما اشترط خمسين سنة، علمت أني لا أحج أكثر من خمسين سنة - قال حماد - وحججت ثمان وأربعين حجة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني، وهذه خادمتي، قد رزقت كل ذلك.
فحج بعد هذا الكلام حجتين تمام الخمسين، ثم خرج بعد الخمسين حاجاً، فزامل أبا العباس النوفلي القصير، فلما صار في موضع الإحرام، دخل يغتسل في
ص: 160
الوادي، فحمله فغرقه الماء (رحمه اللّه وأباه)، قبل أن يحج زيادة على خمسين(1).
روي عن أبي الأزهر، قال: جمعني مسجد بإزاء دار السندي بن شاهك وابن السكيت، فتفاوضنا في العربية، ومعنا رجل لا نعرفه. فقال: يا هؤلاء، أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم، وساق الكلام إلى إمام الوقت، وقال: ليس بينكم وبينه غير هذا الجدار.
قلنا: تعني هذا المحبوس موسى؟. قال: نعم. قلنا: سترنا عليك، فقم من عندنا خيفة أن يراك أحد جليسنا فنؤخذ بك. قال: واللّه لا يفعلون ذلك أبداً، واللّه ما قلت لكم إلاّ بأمره، وإنه ليرانا ويسمع كلامنا، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان.
قلنا: فقد شئنا، فادعه إلينا. فإذا قد أقبل رجل من باب المسجد داخلاً، كادت لرؤيته العقول أن تذهل، فعلمنا أنه موسى بن جعفر (عليه السلام) . ثم قال: أنا هذا الرجل، وتركنا وخرجنا من المسجد مبادراً، فسمعنا وجيباً شديداً، وإذا السندي بن شاهك يعدو داخلاً إلى المسجد معه جماعة. فقلنا: كان معنا رجل فدعانا إلى كذا وكذا، ودخل هذا الرجل المصلي، وخرج ذاك الرجل ولم نره، فأمر بنا فأمسكنا.
ثم تقدم السندي - وكان الإمام (عليه السلام) قائماً في المحراب - فأتاه من قبل وجهه. فقال السندي (لعنه اللّه): يا ويحك، كم تخرج بسحرك هذا وحيلتك من وراء
ص: 161
الأبواب والأغلاق والأقفال وأردّك، فلو كنت هربت كان أحب إليَّ من وقوفك هاهنا، أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة(1).
وكم مرة كان يأتي السندي بن شاهك فلم ير الإمام (عليه السلام) في السجن، حيث كان يخرج الإمام (عليه السلام) بالإعجاز إلى قضاء بعض الأمور الضرورية.
ص: 162
16
كان العباسيون ومَن قبلهم مِن الأمويين وأصحاب السقيفة، يخافون من التفاف الناس حول أهل البيت (عليهم السلام) ، وكانوا يحملون أشد الحقد على ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليهم السلام) ، وإن تظاهروا في بعض الأحيان - ولمصالح سياسية أو ما أشبه - بحبهم لآل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقتلوا من قتلوا منهم، وسبوا من سبوا، وأقصوا من أقصوا(1).
وهكذا عاش الإمام الكاظم (عليه السلام) في أكبر الضغوط والأذى من هؤلاء الطغاة العباسيين.
ومما يدل على ظلامة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، أنه كان يضطر أحياناً للهروب من ظلم بني العباس إلى بعض القرى والأرياف البعيدة متنكراً، وربما فر إلى الشام كما ورد في النص:
«إنه دخل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بعض قرى الشام متنكراً هارباً، فوقع
ص: 163
في غار وفيه راهب»، الحديث(1).
عاصر الإمام الكاظم (عليه السلام) فترة إمامته بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) عدداً من طغاة بني العباس، كان منهم:
* أبو جعفر المنصور الدوانيقي.
* وابنه محمد المهدي، عشر سنين وشهراً وأياماً.
* وموسى الهادي ابن محمد المهدي سنة وشهراً، وقيل: سنة وخمسة عشر يوماً.
* ثم ملك هارون العباسي الملقب بالرشيد ابن محمد المهدي ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وسبعة عشر يوماً، وبعد مضي خمس عشرة سنة من ملك هارون استشهد الإمام (عليه السلام) مسموماً في حبس هارون على يدي السندي بن شاهك.
إن الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) تصدى للإمامة الإلهية في أيام حكم المنصور العباسي، ولاقى منه أشد الضغوط، واستمر ذلك عشر سنوات، وكان المنصور ينوي قتل الإمام (عليه السلام) ولكنه لم يتمكن من ذلك.
وبعد عشر سنوات جاء دور المهدي العباسي، فلم يترك الإمام الكاظم (عليه السلام) في مدينة جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل نقل الإمام إلى العراق، وحبسه في سجون بغداد، وأخذ
ص: 164
يضيق على مولانا موسى بن جعفر (عليه السلام) في السجن ويخطط لقتله.
وفي ليلة من الليالي، عزم المهدي على قتل الإمام (عليه السلام) ، فأرسل إلى حميد بن قحطبة - وهو من جلاوزته - في منتصف الليل، وقال له:
إن إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوف. فقال: أفديك بالمال والنفس. فقال: هذا لسائر الناس. قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد. فلم يجبه المهدي، فقال: أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين!. فقال: لله درك. فعاهده على ذلك، وأمره بقتل الكاظم (عليه السلام) في السحر بغتة. فنام - المهدي العباسي - فرأى في منامه علياً (عليه السلام) يشير إليه، ويقرأ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}(1)، فانتبه مذعوراً ونهى حميداً عما أمره، وأكرم الكاظم (عليه السلام) ووصله(2).
وربما تكررت هذه القصة، وكذلك سجن الإمام (عليه السلام) عدة مرات؛ لأن المهدي العباسي أرسل على الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى سجن بغداد أكثر من مرة.
يقول الفضل بن الربيع: أنه أخبر عن أبيه أن المهدي لما حبس موسى بن جعفر (عليه السلام) في بعض الليالي، رأى المهدي في منامه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول له: يا محمد {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}(3)، وأخذ الإمام (عليه السلام) يهدد المهدي، ويأمره بإطلاق سراح ولده.
قال الربيع: فأرسل المهدي إليَّ ليلاً، فراعني وخفت من ذلك، وجئت إليه وإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً. فقال: عليَّ الآن بموسى بن
ص: 165
جعفر. فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جانبه. وقال: يا أبا الحسن، رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النوم، فقرأ عليَّ كذا، فتؤمنني أن لا تخرج عليَّ أو على أحد من ولدي!.
فقال: «واللّه لا فعلت ذلك، ولا هو من شأني».
قال: صدقت، يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار، وزوده إلى أهله إلى المدينة.
قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلاّ وهو في الطريق خوف العوائق(1).
أي كان يخاف من أن يتبدل رأي المهدي العباسي، ويأمر بإرجاع الإمام إلى السجن مرة ثانية.
روي عن أبي خالد الزبالي، قال: قدم أبو الحسن موسى (عليه السلام) زبالة(2)،
ومعه جماعة من أصحاب المهدي، بعثهم في إشخاصه إليه - قال - وأمرني بشراء حوائج، ونظر إليَّ وأنا مغموم. فقال: «يا أبا خالد، ما لي أراك مغموماً؟».
قلت: هو ذا تصير إلى هذا الطاغية ولا آمنك منه.
قال: «ليس عليَّ منه بأس، إذا كان يوم كذا فانتظرني في أول الميل». قال: فما كانت لي همة إلا إحصاء الأيام، حتى إذا كان ذلك اليوم، وافيت أول الميل، فلم أر أحداً حتى كادت الشمس تجب، فشككت ونظرت بعد إلى شخص قد أقبل، فانتظرته فإذا هو أبو الحسن موسى (عليه السلام) على بغلة، قد تقدم فنظر إليَّ. فقال: «لا تشكن». فقلت: قد كان ذلك. ثم قال: «إن لي عودة، ولا أتخلص
ص: 166
منهم». فكان كما قال(1).
وفي رواية عن أبي خالد الزبالي وأبي يعقوب الزبالي، قال كل واحد منهما: استقبلت أبا الحسن (عليه السلام) بالأجفر في المقدمة الأولى على المهدي، فلما خرج ودعته وبكيت. فقال لي: «ما يبكيك؟».
قلت: حملك هؤلاء، ولا أدري ما يحدث. قال لي: «لا بأس عليَّ منه في وجهي هذا، ولا هو بصاحبي، وإني لراجع إلى الحجاز، ومار عليك في هذا الموضع راجعاً، فانتظرني في يوم كذا وكذا في وقت كذا، فإنك تلقاني راجعاً».
قلت له: خير البشرى، لقد خفته عليك.
قال: «فلا تخف». فترصدته ذلك الوقت في ذلك الموضع، فإذا بالسواد قد أقبل، ومناد ينادي من خلفي فأتيته، فإذا هو أبو الحسن (عليه السلام) على بغلة له. فقال لي: «إيهاً أبا خالد». قلت: لبيك يا ابن رسول اللّه، الحمد لله الذي خلصك من أيديهم. فقال: «أما إن لي عودة إليهم، لا أتخلص من أيديهم»(2).
عن علي بن أسباط، قال: لما ورد أبو الحسن موسى (عليه السلام) على المهدي العباسي رآه يرد المظالم. فقال (عليه السلام) : «يا أمير، ما بال مظلمتنا لا ترد!».
فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟.
قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لما فتح على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل اللّه على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ}(3)، فلم
ص: 167
يدر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل (عليه السلام) ربه. فأوحى اللّه إليه أن أدفع فدك إلى فاطمة (عليه السلام) ، فدعاها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال لها: «يا فاطمة، إن اللّه أمرني أن أدفع إليكِ فدك. فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردها عليها. فقال لها: ايتيني بأسود أو أحمر يشهد لكِ بذلك. فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام) وأم أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرض، فخرجت والكتاب معها. فلقيها عمر فقال: ما هذا معكِ يا بنت محمد؟. قالت: كتاب كتب لي ابن أبي قحافة. قال: أرينيه. فأبت فانتزعه من يدها، ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه. فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوكِ بخيل ولا ركاب، فضعي الجبال في رقابنا».
فقال له المهدي: يا أبا الحسن، حدها إليَّ. فقال: «حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل». فقال له: كل هذا؟!. قال: «نعم يا أمير هذا كله، إن هذا مما لم يوجف أهله على رسول اللّه بخيل ولا ركاب». فقال: كثير وأنظر فيه(1).
كان العباسيون من أفسد الناس، يشربون الخمور، ويزنون بنساء الناس، ويلوطون بشبابهم، ويقتلون النفس التي حرّم اللّه، وكانت سجونهم مليئة بالأبرياء.
وربما كان بعضهم يسعى في تغيير الحكم الشرعي وإنكار المحرمات.
ص: 168
عن علي بن يقطين، قال: سأل المهدي العباسي أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب اللّه عزَّ وجل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم لها!.
فقال له أبو الحسن (عليه السلام) : «بل هي محرمة في كتاب اللّه عزَّ وجل يا أمير».
فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب اللّه عزَّ وجل يا أبا الحسن؟.
فقال: «قول اللّه عزَّ وجل: {إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ والْإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ}، فأما قوله: {ما ظَهَرَ مِنْها} يعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية. وأما قوله عزَّ وجل: {وما بَطَنَ} يعني ما نكح الآباء؛ لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه، فحرم اللّه عزَّ وجل ذلك. وأما {الْإِثْمَ} فإنها الخمرة بعينها، وقد قال اللّه تبارك وتعالى في موضع آخر: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ}، فأما الإثم في كتاب اللّه فهي الخمر والميسر، وإثمهما كبير كما قال اللّه عزَّ وجل».
قال: فقال المهدي: يا علي بن يقطين، هذه واللّه فتوى هاشمية.
قال: فقلت له: صدقت واللّه يا أمير، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت.
قال: فو اللّه ما صبر المهدي أن قال لي: صدقت يا رافضي(1).
ثم حكم موسى الهادي العباسي من بعد أبيه المهدي العباسي، سنة وخمسة
ص: 169
عشر يوماً، فكان على سيرة من قبله من الظلم والطغيان، وإيذاء أهل البيت (عليهم السلام) ، وإن لم يرد في التاريخ الذي بأيدينا - حسب ما رأيت - أنه سجن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ولكن سيرتهم العدائية واضحة لمن راجعها، وهكذا يكون الطغاة في كل زمان ومكان، حيث لا يمتنعون عن ظلم الناس ومضايقة الأخيار.
وكان موسى الهادي العباسي، من أشد أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ، فلما تسلم الخلافة أخذ يلاحق ذرية علي (عليه السلام) ، ويقتل ذراري رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أينما وجدهم، بل أراد الملعون أن ينبش قبر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ويحرقه! ولكنه لم يتمكن من ذلك.
قال أبو الوضاح، عن أبيه، قال: لما قتل الحسين بن علي صاحب فخ، وهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن (عليهم السلام) بفخ، وتفرق الناس عنه، حمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى بن المهدي العباسي... أمر برجل من الأسرى فوبخه ثم قتله، ثم صنع مثل ذلك بجماعة من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه)، وأخذ من الطالبيين، وجعل ينال منهم، إلى أن ذكر موسى بن جعفر (صلوات اللّه عليه) فنال منه، وقال: واللّه ما خرج حسين إلاّ عن أمره، ولا اتبع إلا محبته؛ لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، قتلني اللّه إن أبقيت عليه!.
فقال له أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وكان جريئاً عليه: يا أمير أقول أم أسكت؟.
فقال: قتلني اللّه إن عفوت عن موسى بن جعفر، ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور، بما كان به جعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعلمه
ص: 170
وفضله، وما بلغني عن السفاح فيه من تقريظه وتفضيله، لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً!.
فقال أبو يوسف: نساؤه طوالق، وعتق جميع ما يملك من الرقيق، وتصدق بجميع ما يملك من المال، وحبس دوابه، وعليه المشي إلى بيت اللّه الحرام إن كان مذهب موسى بن جعفر الخروج، لا يذهب إليه ولا مذهب أحد من ولده، ولاينبغي أن يكون هذا منهم.
ثم ذكر الزيدية وما ينتحلون فقال: وما كان بقي من الزيدية إلا هذه العصابة، الذين كانوا قد خرجوا مع حسين، وقد ظفر الأمير بهم، ولم يزل يرفق به حتى سكن غضبه(1).
ثم لا يخفى أن أبا يوسف ومن أشبه، كانوا يخافون الفتنة في قتل الإمام (عليه السلام) .
ولما رأى علي بن يقطين تلك المؤامرات من قبل موسى العباسي على الإمام (عليه السلام) ، كتب إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بصورة الأمر، فورد الكتاب، فلما أصبح الإمام (عليه السلام) ، أحضر أهل بيته وشيعته، فأطلعهم أبو الحسن (عليه السلام) على ما ورد عليه من الخبر، وقال لهم: «ما تشيرون في هذا؟».
فقالوا: نشير عليك أصلحك اللّه وعلينا معك أن تباعد شخصك عن هذا الجبار، وتغيب شخصك دونه؛ فإنه لا يؤمن شره وعاديته وغشمه، سيما وقد توعدك وإيانا معك.
فتبسم موسى (عليه السلام) ، ثم تمثل ببيت كعب بن مالك أخي بني سلمة، وهو:
ص: 171
زعمت سخينة(1) أن ستغلب ربها فليغلبن مغالب الغلاب ثم أقبل على من حضره من مواليه وأهل بيته فقال: «ليفرخ روعكم(2)، إنه لا يرد أول كتاب من العراق إلا بموت موسى بن المهدي وهلاكه». فقال: وما ذلك أصلحك اللّه. قال: «قد - وحرمة هذا القبر - مات في يومه هذا، واللّه {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}(3) سأخبركم بذلك، بينما أنا جالس في مصلاي بعد فراغي من وردي، وقد تنومت عيناي، إذ سنح جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامي، فشكوت إليه موسى بن المهدي، وذكرت ما جرى منه في أهل بيته، وأنا مشفق من غوائله. فقال لي: لتطب نفسك يا موسى، فما جعل اللّه لموسى عليك سبيلاً. فبينما هو يحدثني إذ أخذ بيدي وقال لي: قد أهلك اللّه آنفاً عدوك، فليحسن لله شكرك». قال: ثم استقبل أبو الحسن (عليه السلام) القبلة، ورفع يديه إلى السماء يدعو.
فقال أبو الوضاح: فحدثني أبي، قال: كان جماعة من خاصة أبي الحسن (عليه السلام) من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن (عليه السلام) بكلمة، وأفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك - قال - فسمعناه وهو يقول في دعائه: «شكراً لله جلت عظمته». ثم ذكر الدعاء، وقال:
ثم أقبل علينا مولانا أبو الحسن (عليه السلام) ثم قال: «سمعت من أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يحدث عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام) ، عن أبيه (عليه السلام) ، عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أنه قد سمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: اعترفوا بنعمة اللّه ربكم عزَّ
ص: 172
وجل، وتوبوا إليه من جميع ذنوبكم؛ فإن اللّه يحب الشاكرين من عباده».
قال: ثم قمنا إلى الصلاة، وتفرق القوم، فما اجتمعوا إلا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى بن المهدي، والبيعة لهارون(1).
كان علي بن يقطين من شيعة الإمام الكاظم (عليه السلام) ، وكان وزيراً للعباسيين لهارون وغيره.
روي أنه استأذن علي بن يقطين مولاي الكاظم (عليه السلام) في ترك عمل السلطان، فلم يأذن له وقال (عليه السلام) : «لا تفعل فإن لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزاً، وعسى أن يجبر اللّه بك كسراً، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه. يا علي، كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثاً. اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلاّ قضيت حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبداً، ولا ينالك حد سيف أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً. يا علي، من سر مؤمناً فباللّه بدأ، وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثنى، وبنا ثلث»(2).
عن علي بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : ما تقول في أعمال هؤلاء؟. قال: «إن كنت لابد فاعلاً، فاتق أموال الشيعة». وكان علي يجبيها من الشيعة علانية، ويردها عليهم في السر(3).
ص: 173
كتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) : إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان - وكان وزيراً لهارون - فإن أذنت لي جعلني اللّه فداك هربت منه. فرجع الجواب: «لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق اللّه»(1).
ولما جاء دور هارون العباسي، قام بأكبر وأشد وأكثر الإيذاء والتضييق على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فجاء بالإمام إلى بغداد قهراً، وحبسه في سجونه المظلمة، وكان يأمر بتعذيب الإمام (عليه السلام) في تلك السجون، بل جاء ببعض اليهود لكي يقوم بتعذيب الإمام (صلوات اللّه عليه)، وفي السنة الخامسة عشر من حكمه الجائر قتل الإمام بالسم بعد تلك السجون الطويلة.
وكان هارون من أكبر الطواغيت المجرمين، وكان يشرب الخمر، ويزني ويلوط ويلاط به، وكانت له كلبة تعز عليه قد ألبسها أفخر الملابس، وكانت سلاسلها من ذهب وجواهر.
وصل الظلم في حكومة بني العباس مرحلة قل نظيرها، فمضافاً إلى المضايقات الشديدة والكثيرة على رجال العلويين، واعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم، وقتلهم ومضايقة عوائلهم اقتصادياً، لم يتركوا النساء والعلويات من ذراري رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فربما أمروا جلاوزتهم بسلبهن، وأخذ ما يملكن من حلي ونقود، بل حتى الملابس التي يلبسنها.
ص: 174
فهذا الجلودي - من جلاوزة النظام العباسي - ذهب إلى المدينة بأمر هارون العباسي ليسلب نساء آل أبي طالب (عليهم السلام) ، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً(1).
عن عبيد اللّه البزاز النيسابوري - وكان مسناً - قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام، فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعليَّ ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه وجلست، فأتي بطست وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة، وذهب عني أني صائم، وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي. فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟!. فقلت: أيها الأمير، هذا شهر رمضان، ولست بمريض، ولا بي علة توجب الإفطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك أو علة توجب الإفطار!.
فقال: ما بي علة توجب الإفطار، وإني لصحيح البدن. ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له - بعد ما فرغ من طعامه -: ما يبكيك أيها الأمير؟!.
فقال: أنفذ إليَّ هارون وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفاً أحضر مسلولاً، وبين يديه خادم واقف. فلما قمت بين يديه، رفع رأسه إليَّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟.
فقلت: بالنفس والمال. فأطرق ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي
ص: 175
حتى عاد الرسول إليَّ وقال: أجب الأمير.
فقلت في نفسي: إنا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي. وإنه لما رآني استحيا مني، فعدت إلى بين يديه، فرفع رأسه إليَّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟.
فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد. فتبسم ضاحكاً، ثم أذن لي في الانصراف. فلما دخلت منزلي، لم ألبث أن عاد الرسول إليَّ فقال: أجب الأمير. فحضرت بين يديه وهو على حاله، فرفع رأسه إليَّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟.
فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين! فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف، وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم.
قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه، فإذا فيه بئر في وسطه، وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب، شيوخ وكهول، وشبان مقيدون. فقال لي: إن أمير المؤمنين - هارون - يأمرك بقتل هؤلاء. وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) ، فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه، حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر.
ثم فتح باب بيت آخر، فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلوية من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيدون. فقال لي: إن أمير المؤمنين - هارون - يأمرك بقتل هؤلاء. فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت على آخرهم.
ثم فتح باب البيت الثالث، فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي
ص: 176
وفاطمة (عليهما السلام) ، مقيدون عليهم الشعور والذوائب. فقال لي: إن أمير المؤمنين - هارون - يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً. فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه، فيرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على تسع عشرة نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر. فقال لي: تباً لك يا مشوم، أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً، قد ولدهم علي وفاطمة (عليهما السلام) . فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إليَّ الخادم مغضباً وزبرني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته، ورمى به في تلك البئر. فإذا كان فعلي هذا، وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فما ينفعني صومي وصلاتي، وأنا لا أشك أني مخلد في النار(1).
كان هارون العباسي لا يتحمل أن يقول الناس للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : يا بن رسول اللّه.
فإن ذلك من أدلة أن الخلافة هي لأهل البيت (عليهم السلام) دون غيرهم.
فقال هارون للإمام الكاظم (عليه السلام) يوماً: لم لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم: يا ابن رسول اللّه، وأنتم ولد علي، وفاطمة إنما هي وعاء، والولد ينسب إلى الأب لا إلى الأم؟.
فقال الإمام (عليه السلام) : «إن رأى الأمير أن يعفيني من هذه المسألة فعل».
فقال: لست أفعل أو أجبت.
فقلت: «فأنا في أمانك أن لا يصيبني من آفة السلطان شيء».
ص: 177
فقال: لك الأمان.
قلت: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى}(1)، فمن أبو عيسى؟».
فقال: ليس له أب، إنما خلق من كلام اللّه عزَّ وجل وروح القدس.
فقلت: «إنما ألحق عيسى بذراري الأنبياء من قبل مريم، وألحقنا بذراري الأنبياء من قبل فاطمة (عليها السلام) ، لا من قبل علي (عليه السلام) ».
فقال: أحسنت، أحسنت، يا موسى زدني من مثله.
فقلت: «اجتمعت الأمة برها وفاجرها أن حديث النجراني حين دعاه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المباهلة لم يكن في الكساء إلاّ النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فقال اللّه تبارك وتعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ}(2)، فكان تأويل أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي طالب».
فقال: أحسنت(3).
لما دخل هارون العباسي المدينة، أراد أن يخدع الناس ويتظاهر بالشرعية، فتوجه لزيارة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعه الناس، فتقدم هارون إلى قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال:
ص: 178
السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا ابن عم. مفتخراً بذلك على غيره.
فتقدم أبو الحسن (عليه السلام) فقال: «السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا أبه»(1).
وبذلك عرف الناس أن الأولى برسول اللّه وخلافته هو الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لا هارون.
فتغير وجه هارون وتبين الغيظ فيه.
قال هارون لأبي الحسن موسى (عليه السلام) حين أدخل عليه: ما هذه الدار؟. قال: «هذه دار الفاسقين». قال: وقرأ {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}(2).
فقال له هارون: فدار من هي؟.
قال: «هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة».
قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟.
قال: «أخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلاّ معمورة»(3).
وكان هارون يعلم بأن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو حجة اللّه على الخلق،
ص: 179
وهو الذي يستحق الخلافة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دون غيره، ومع ذلك استبد هارون بالحكم وأخذ بالظلم والجور.
قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ}(1).
وقد صرح هارون بحق الإمام (عليه السلام) لولده عبد اللّه المأمون في قصة مفصلة، حيث سأله المأمون: من هذا الرجل الذي قد عظّمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟!.
قال هارون: هذا إمام الناس، وحجة اللّه على خلقه، وخليفته على عباده.
قال المأمون: يا أمير، أ و ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟.
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، واللّه يا بني إنه لأحق بمقام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعاً، وواللّه لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم(2).
كان هارون العباسي يخطط لاعتقال الإمام (عليه السلام) والتضييق عليه، وكان يفتري على الإمام، ويتهمه بأنه يخطط للثورة ضد حكومة العباسيين، وأنه يجمع الأموال والسلاح لذلك.
يقول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «لما أُدخلت على هارون سلمت عليه، فرد
ص: 180
عليَّ السلام، ثم قال: يا موسى بن جعفر، خليفتين يُجبى إليهما الخراج!.
فقلت: يا أمير، أعيذك باللّه أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كُذب علينا منذ قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما علم ذلك عندك»(1).
أقول: في بعض الأخبار ورد لفظ (أمير المؤمنين) خطاباً للظلمة، الظاهر أنه من زيادة الراوي، وليس من لفظ المعصوم (عليه السلام) .
وقال هارون للإمام الكاظم (عليه السلام) يوماً:
أخبرني لم فضلتم علينا، ونحن وأنتم من شجرة واحدة وبنو عبد المطلب، ونحن وأنتم واحد إنا بنو العباس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عما رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقرابتهما منه سواء؟.
قال الإمام (عليه السلام) : فقلت: «نحن أقرب».
قال: وكيف ذلك؟.
قلت: «لأن عبد اللّه وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد اللّه ولا من أم أبي طالب».
إلى أن قال هارون: لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقولون لكم: يا بني رسول اللّه، وأنتم بنو علي وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جدكم من قبل أمكم؟.
فقلت: «يا أمير، لو أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت
ص: 181
تجيبه؟».
فقال: سبحان اللّه! ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
فقلت: «لكنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يخطب إليّ ولا أزوّجه». فقال: ولم؟!. فقلت: «لأنه ولّدني ولم يلدك».
فقال: أحسنت يا موسى(1).
وفي حديث على ما مر:
ثم قال هارون: كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يعقب، وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة ولا يكون لها عقب؟.
فقلت: «أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلاّ ما أعفيتني عن هذه المسألة».
فقال: لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إليَّ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب اللّه، فأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شي ء ألف ولا واو إلاّ وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزَّ وجل: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}(2)، وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: «تأذن لي في الجواب؟».
قال: هات.
فقلت: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {وَمِنْ ذُرِّيِّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا
ص: 182
وَيَحْيى وَعِيسى}(1) مَن أبو عيسى يا أمير؟.
فقال: ليس لعيسى أب.
فقلت: «إنما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام) وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قبل أمنا فاطمة (عليها السلام) ، أزيدك يا أمير؟.
قال: هات.
قلت: «قول اللّه عزَّ وجل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ}(2).
ولم يدّع أحد أنه أدخل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فكان تأويل قوله عزَّ وجل: {أَبْناءَنا} الحسن والحسين (عليهما السلام) ، و{نِساءَنا} فاطمة (عليها السلام) ، و{أَنْفُسَنا} علي بن أبي طالب (عليه السلام) . إن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحُد: يا محمد إن هذه لهي المواساة من علي. قال: لأنه مني وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول اللّه - ثم قال - لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي. فكان كما مدح اللّه عزَّ وجل به خليله (عليه السلام) إذ يقول: {فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ}(3)، إنا معشر بني عمك نفتخر بقول جبرئيل إنه منا».
فقال: أحسنت يا موسى ارفع إلينا حوائجك.
فقلت له: «أول حاجة أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى
ص: 183
عياله».
فقال: ننظر إن شاء اللّه(1).
فروي أنه أنزله عند السندي بن شاهك وأمر بقتله.
وهكذا عاش الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في عهد هارون العباسي في أشد الضيق، وقد صرح بذلك عندما أمر هارون بجلب الإمام (عليه السلام) ، واتهمه بأنه تجبى إليه الأموال، فأجاب الإمام (عليه السلام) : «بأنها هدايا، ونحن نقبل الهدية كجدنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ثم قال -
وقد علم الأمير ضيق ما نحن فيه، وكثرة عدونا، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب، فضاق بنا الأمر، وحرمت علينا الصدقة، وعوضنا اللّه عزَّ وجل عنها الخمس، واضطررنا إلى قبول الهدية، وكل ذلك مما علمه الأمير»(2).
روي أنه لما مضى فترة من حجز الإمام، سأله هارون في قصة: فما حاجتك؟.
فقال (عليه السلام) : «يا أمير، أول حاجتي إليك أن تأذن لي في الانصراف إلى أهلي، فإني تركتهم باكين آيسين من أن يروني أبداً»(3).
ص: 184
قال علي بن أبي حمزة: كان يتقدم هارون إلى خدمه، إذا خرج موسى بن جعفر (عليه السلام) من عنده أن يقتلوه، فكانوا يهمون به فيتداخلهم من الهيبة والزمع، فلما طال ذلك أمر بتمثال من خشب، وجعل له وجهاً مثل وجه موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وكانوا إذا سكروا أمرهم أن يذبحوها بالسكاكين، وكانوا يفعلون ذلك أبداً.
فلما كان في بعض الأيام جمعهم في الموضع وهم سكارى، وأخرج سيدي إليهم، فلما بصروا به هموا به على رسم الصورة، فلما علم منهم ما يريدون كلمهم بالخزرية والتركية، فرموا من أيديهم السكاكين، ووثبوا إلى قدميه فقبلوهما، وتضرعوا إليه، وتبعوه إلى أن شيعوه إلى المنزل الذي كان ينزل فيه، فسألهم الترجمان عن حالهم. فقالوا: إن هذا الرجل يصير إلينا في كل عام، فيقضي أحكامنا، ويرضي بعضا من بعض، ونستسقي به إذا قحط بلدنا، وإذا نزلت بنا نازلة فزعنا إليه.
فعاهدهم أنه لا يأمرهم بذلك فرجعوا(1).
في بعض الأخبار أن هارون العباسي قال يوماً لموسى بن جعفر (عليه السلام) : حد فدكاً حتى أردها إليك؟. فكان يأبى الإمام (عليه السلام) ، حتى ألح هارون عليه فقال (عليه السلام) : «لا آخذها إلا بحدودها».
قال: وما حدودها؟. قال: «إن حددتها لم تردها».
ص: 185
قال: بحق جدك إلا فعلت.
قال: «أما الحد الأول فعدن». فتغير وجه هارون وقال: أيهاً.
قال: «والحد الثاني سمرقند». فاربد وجهه.
قال: «والحد الثالث إفريقية». فاسود وجهه وقال: هيه.
قال: «والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية».
قال هارون: فلم يبق لنا شيء، فتحول إلى مجلسي. قال موسى: «قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها». فعند ذلك عزم على قتله.
وفي رواية ابن أسباط، أنه (عليه السلام) قال: «أما الحد الأول فعريش مصر، والثاني دومة الجندل، والثالث أحد، والرابع سيف البحر». فقال: هذا كلهّ هذه الدنيا. فقال (عليه السلام) : «هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة، فأفاءه اللّه على رسوله بلا خيل ولا ركاب، فأمره اللّه أن يدفعه إلى فاطمة (عليها السلام) (1).
قال هارون يوماً للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : باللّه عليك أخبرني، بحق القبر والمنبر، وبحق قرابتك من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبرني أنت تموت قبلي أو أنا أموت قبلك؛ لأنك تعرف هذا من علم النجوم!.
فقال له موسى (عليه السلام) : «آمني حتى أخبرك».
فقال: لك الأمان.
فقال: «أنا أموت قبلك، وما كذبت ولا أكذب، ووفاتي قريب»(2).
ص: 186
ويظهر من قوله (عليه السلام) : «آمني حتى أخبرك»، أنه لم يكن للإمام (عليه السلام) حرية الكلام في عهد هؤلاء الطغاة.
قال هارون العباسي يوماً للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : قد بقي مسألة تخبرني بها، ولا تضجر.
فقال له: «سل».
فقال: خبروني أنكم تقولون: إن جميع المسلمين عبيدنا وجوارينا، وأنكم تقولون: من يكون لنا عليه حق ولا يوصله إلينا فليس بمسلم.
فقال له موسى (عليه السلام) : «كذب الذين زعموا أننا نقول ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يصح البيع والشراء عليهم، ونحن نشتري عبيداً وجواري، ونعتقهم ونقعد معهم ونأكل معهم، ونشتري المملوك ونقول له: يا بني، وللجارية: يا بنتي، ونقعدهم يأكلون معنا تقرباً إلى اللّه سبحانه، فلو أنهم عبيدنا وجوارينا ما صح البيع والشراء، وقد قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما حضرته الوفاة: اللّه اللّه في الصلاة وما ملكت أيمانكم، يعني صلوا وأكرموا مماليككم وجواريكم، ونحن نعتقهم، وهذا الذي سمعته غلط من قائله ودعوى باطلة، ولكن نحن ندعي أن ولاء جميع الخلائق لنا، يعني ولاء الدين، وهؤلاء الجهال يظنونه ولاء الملك، حملوا دعواهم على ذلك، ونحن ندعي ذلك لقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وما كان يطلب بذلك إلا ولاء الدين، والذي يوصلونه إلينا من الزكاة والصدقة فهو حرام علينا مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، وأما الغنائم والخمس من بعد موت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد منعونا ذلك، ونحن محتاجون إلى ما في يد بني آدم الذين لنا ولاؤهم بولاء الدين ليس بولاء الملك،
ص: 187
فإن نفذ إلينا أحد هدية ولا يقول إنها صدقة نقبلها، لقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي لي كراع لقبلت، والكراع اسم القرية، والكراع يد الشاة، وذلك سنة إلى يوم القيامة، ولو حملوا إلينا زكاة وعلمنا أنها زكاة رددناها، وإن كانت هدية قبلناها». ثم إن هارون أذن له في الانصراف، فتوجه إلى الرقة، ثم تقولوا عليه أشياء، فاستعاده هارون وأطعمه السم فتوفي (عليه السلام) (1).
روي أنه بعث الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى هارون من الحبس برسالة كانت: «إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون»(2).
عن حماد بن عثمان، قال: بينا موسى بن عيسى في داره التي في المسعى - تشرف على المسعى - إذ رأى أبا الحسن موسى (عليه السلام) مقبلاً من المروة على بغلة، فأمر ابن هياج رجلاً من همدان منقطعاً إليه أن يتعلق بلجامه ويدعي البغلة. فأتاه فتعلق باللجام وادعى البغلة، فثنى أبو الحسن (عليه السلام) رجله فنزل عنها، وقال لغلمانه: «خذوا سرجها وادفعوها إليه». فقال: والسرج أيضاً لي. فقال له أبو الحسن (عليه السلام) : «كذبت، عندنا البينة بأنه سرج محمد بن علي، وأما البغلة فأنا اشتريتها منذ قريب، وأنت أعلم وما قلت»(3).
ص: 188
كان لهارون العباسي بركة تدعى بركة السباع، فيها مجموعة من السباع، حيث كانوا يجوعونها، ثم يلقون إليها الموالين من شيعة علي (عليه السلام) ، وكذلك بعض العلويين من ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال الفضل بن الربيع: لما اصطبح هارون العباسي يوماً استدعى حاجبه. فقال له: امض إلى موسى بن جعفر العلوي، وأخرجه من الحبس، وألقه في بركة السباع!. فما زلت ألطف به وأرفق، ولا يزداد إلا غضباً. وقال: واللّه لئن لم تلقه إلى السباع لألقينك عوضه. قال: فمضيت إلى موسى بن جعفر. فقلت له: إن الأمير أمرني بكذا وبكذا. قال: «افعل ما أمرت به؛ فإني مستعين باللّه تعالى عليه». وأقبل بهذه العوذة، وهو يمشي معي إلى أن انتهيت إلى البركة، ففتحت بابها وأدخلته فيها، وفيها أربعون سبعاً، وعندي من الغم والقلق أن يكون قتل مثله على يدي، وعدت إلى موضعي، فلما انتصف الليل أتاني خادم فقال لي: إن الأمير يدعوك. فصرت إليه فقال: لعلي أخطأت البارحة بخطيئة، أو أتيت منكراً؛ فإني رأيت البارحة مناماً هالني، وذلك إني رأيت جماعة من الرجال دخلوا عليَّ، وبأيديهم سائر السلاح، وفي وسطهم رجل كأنه القمر، ودخل إلى قلبي هيبته. فقال لي قائل: هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه وعلى أبنائه)، فتقدمت إليه لأقبل قدميه فصرفني عنه. فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}(1)، ثم حول وجهه فدخل باباً، فانتبهت مذعوراً لذلك.
ص: 189
فقلت: يا أمير، أمرتني أن ألقي موسى بن جعفر (عليه السلام) للسباع.
فقال: ويلك ألقيته؟!.
فقلت: إي واللّه.
فقال: امض وانظر ما حاله، فأخذت الشمع بين يدي وطالعته، فإذا هو قائم يصلي والسباع حوله. فعدت إليه فأخبرته فلم يصدقني، ونهض واطلع إليه فشاهده في تلك الحال. فقال: السلام عليك يا ابن عمّ. فلم يجبه حتى فرغ من صلاته، ثم قال: «وعليك السلام يا ابن عم، قد كنت أرجو أن لا تسلم عليَّ في مثل هذا الموضع». فقال: أقلني؛ فإني معتذر إليك. فقال له: «قد نجانا اللّه تعالى بلطفه، فله الحمد». ثم أمر بإخراجه فأخرج، فقال: فلا واللّه ما تبعه سبع. فلما حضر بين يدي هارون عانقه، ثم حمله إلى مجلسه، ورفعه فوق سريره. وقال: يا ابن عم، إن أردت المقام عندنا ففي الرحب والسعة، وقد أمرنا لك ولأهلك بمال وثياب. فقال له: «لا حاجة لي في المال ولا الثياب، ولكن في قريش نفر يفرق ذلك عليهم». وذكر له قوله فأمر له بصلة وكسوة، ثم سأله أن يركبه على بغال البريد إلى الموضع الذي يحب، فأجابه إلى ذلك وقال لي: شيعه. فشيعته إلى بعض الطريق، وقلت له: يا سيدي، إن رأيت أن تطول عليَّ بالعوذة. فقال: «منعنا أن ندفع عوذنا وتسبيحنا إلى كل أحد، ولكن لك عليَّ حق الصحبة والخدمة، فاحتفظ بها». فكتبتها في دفتر، وشددتها في منديل في كمي، فما دخلت إلى الأمير إلا ضحك إليَّ وقضى حوائجي، ولا سافرت إلاَّ كانت حرزاً وأماناً من كل مخوف، ولا وقعت في الشدة إلا دعوت بها ففرج عني، ثم ذكرها.
ورويت القصة أيضا في الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) (1)، ولا يبعد أن
ص: 190
تكون حدثت هذه الظلامة مرة للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ومرة للإمام الرضا (عليه السلام) في عهد المأمون (عليه السلام) أو هارون، لأن الإمام الرضا (عليه السلام) عاش في عهد هارون عشر سنوات فقد كانت شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام) في سنة 183ه، وهلاك هارون في سنة 193ه.
قال هارون لأبي الحسن الكاظم (عليه السلام) حين أُدخل عليه: ما هذه الدار؟.
فقال: «هذه دار الفاسقين، قال اللّه تعالى {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}(1)، الآية». فقال له هارون: فدار من هي؟.
قال: «هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة».
قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟. فقال: «أخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلا معمورة».
قال: فأين شيعتك؟. فقرأ أبو الحسن (عليه السلام) : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}(2). قال: فقال له: فنحن كفار؟. قال: «لا، ولكن كما قال اللّه: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوار}(3)». فغضب عند ذلك وغلظ عليه، فقد لقيه أبو الحسن (عليه السلام) بمثل هذه المقالة وما رهبه(4).
ص: 191
عن ذي النون المصري، قال: خرجت في بعض سياحتي حتى كنت ببطن السماوة، فأفضى لي المسير إلى تدمر، فرأيت بقربها أبنية عادية قديمة، فساورتها فإذا هي من حجارة منقورة، فيها بيوت وغرف من حجارة، وأبوابها كذلك بغير ملاط، وأرضها كذلك حجارة صلدة، فبينا أجول فيها إذ بصرت بكتابة غريبة على حائط منها، فقرأته فإذا هو:
أنا ابن منى والمشعرين وزمزم***ومكة والبيت العتيق المعظم
وجدي النبي المصطفى وأبي الذي***ولايته فرض على كل مسلم
وأمي البتول المستضاء بنورها***إذا ما عددناها عديلة مريم
وسبطا رسول اللّه عمي ووالدي***وأولاده الأطهار تسعة أنجم
متى تعتلق منهم بحبل ولاية***تفز يوم يجزى الفائزون وتنعم
أئمة هذا الخلق بعد نبيهم***فإن كنت لم تعلم بذلك فاعلم
أنا العلوي الفاطمي الذي ارتمى***به الخوف والأيام بالمرء ترتمي
فضاقت بي الأرض الفضاء برحبها***ولم أستطع نيل السماء بسلم
فألممت بالدار التي أنا كاتب***عليها بشعري فاقرأ إن شئت وألمم
لأمر اللّه في كل حالة***فليس أخو الإسلام من لم يسلم
قال ذو النون: فعلمت أنه علوي قد هرب، وذلك في خلافة هارون، ووقع إلى ما هناك، فسألت من ثم من سكان هذه الدار، وكانوا من بقايا القبط الأول، هل تعرفون من كتب هذا الكتاب؟.
قالوا: لا واللّه ما عرفناه إلا يوماً واحداً، فإنه نزل بنا فأنزلناه، فلما كان صبيحة ليلته غداً، فكتب هذا الكتاب ومضى.
قلت: أي رجل كان؟.
ص: 192
قالوا: رجل عليه أطمار رثة، تعلوه هيبة وجلالة، وبين عينيه نور شديد، لم يزل ليلته قائماً وراكعاً وساجداً إلى أن انبلج له الفجر، فكتب وانصرف(1).
قال بعض العلماء: ولا يبعد كونه الكاظم (عليه السلام) ، ذهب وكتب لإتمام الحجة عليهم.
روي أن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن (عليه السلام) استتر مدة بعد ما قُتل أصحاب فخ، وأخذ يجول في البلدان، ويطلب موضعاً يلجأ إليه. فمضى متنكراً حتى ورد الديلم، وبلغ هارون خبره، فولى الفضل بن يحيى نواحي المشرق، وأمره بالخروج إلى يحيى، والجد به، وبذل الأمان والصلة له إن قبل ذلك، وكان أمانه وصلته خدعة منه.
فمضى الفضل فيمن ندب معه، وراسل يحيى، فأجابه إلى قبوله؛ لما رأى من تفرق أصحابه، وسوء رأيهم فيه، وكثرة خلافهم عليه، إلا أنه لم يرض الشرائط التي شرطت له، ولا الشهود الذين شهدوا له، وبعث بالكتاب إلى الفضل. فبعث به إلى هارون، فكتب له على ما أراد، وشهد له من التمس، فلما ورد كتاب هارون على الفضل، وقد كتب الأمان على ما رسم يحيى، وأشهد الشهود الذين التمسهم، وجعل الأمان على نسختين إحداهما مع يحيى والأخرى معه، شخّص يحيى مع الفضل حتى وافى بغداد، ودخلها معادله في عمارية على بغل. فلما قدم يحيى أجازه هارون بجوائز سنية، يقال: إن مبلغها مائتا ألف دينار(2)، وغير ذلك من الخلع والحملان - ليتظاهر بحبه له، وكان يضمر في نفسه
ص: 193
المكر - فأقام على ذلك مدة، وفي نفسه الحيلة على يحيى والتتبع له، وطلب العلل عليه وعلى أصحابه.
ثم جمع هارون الفقهاء وفيهم: محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو البختري. فجمعوا في مجلس، فخرج إليهم مسرور الكبير بالأمان الذي أعطي ليحيى بن عبد اللّه بن الحسن. فبدأ بمحمد بن الحسن، فنظر فيه فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه. فصاح عليه مسرور هاته، فدفعه إلى الحسن بن زياد فقال: بصوت ضعيف هو أمان. فاستلبه أبو البختري وقال: هذا باطل منتقض، قد شق العصا وسفك الدم، فاقتله ودمه في عنقي!.
فدخل مسرور إلى هارون وأخبره، فقال: اذهب وقل له: خرّفه إن كان باطلاً بيدك. فجاء مسرور فقال له ذلك، فقال: شقه أبا هاشم. قال له مسرور: بل شقه أنت إن كان منتقضاً. فأخذ سكيناً وجعل يشقه ويده ترتعد، حتى صيره سيوراً، فأدخله مسرور على هارون. فوثب فأخذه من يده وهو فرح، ووهب لأبي البختري ألف ألف وستمائة ألف، وولاه قضاء القضاة، وصرف الآخرين، ومنع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة، وأجمع على إنفاذ ما أراد في يحيى.
فروي عن رجل كان مع يحيى في المطبق، قال: كنت منه قريباً فكان في أضيق البيوت وأظلمها، فبينا نحن ذات ليلة كذلك، إذ سمعنا صوت الأقفال وقد مضى من الليل هجعة، فإذا هارون قد أقبل على برذون له، فوقف ثم قال: أين هذا؟، يعني يحيى. قالوا: في هذا البيت. قال: عليَّ به. فأدني إليه، فجعل هارون يكلمه بشيء لم أفهمه. فقال: خذوه. فأخذ فضربه مائة عصا، ويحيى يناشده اللّه والرحم، والقرابة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويقول: بقرابتي منك، فيقول: ما بيني وبينك قرابة. ثم حمل فرد إلى موضعه، فقال: كم أجريتم
ص: 194
عليه؟. قالوا: أربعة أرغفة وثمانية أرطال ماء. قال: اجعلوه على النصف. ثم خرج ومكث ليالي، ثم سمعنا وقعاً، فإذا نحن به حتى دخل فوقف موقفه. فقال: عليَّ به. فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك، وضربه مائة عصا أخرى، ويحيى يناشده. فقال: كم أجريتم عليه؟. قالوا: رغيفين وأربعة أرطال ماء. قال: اجعلوه على النصف. ثم خرج وعاود الثالثة، وقد مرض يحيى وثقل، فلما دخل قال: عليَّ به. قالوا: هو عليل مدنف لما به. قال: كم أجريتم عليه؟. قالوا: رغيفاً ورطلين ماء. قال: اجعلوه على النصف. ثم خرج، فلم يلبث يحيى أن مات، فأخرج إلى الناس فدفن(1).
وكان من ظلم هارون أنه كان يأخذ العلويين ويبني عليهم الأسطوانات وهم أحياء.
كما أنه دس إلى بعضهم السم في السجون فقتلهم.
وربما أرسل إليهم في الليل من يخنقهم حتى الموت.
وربما أجاع السباع ثم يلقي بهم إليها فأكلتهم.
وعن عبد اللّه بن عمر العمري، قال: دعينا لمناظرة يحيى بن عبد اللّه بن الحسن بحضرة هارون، فجعل هارون يقول له: يا يحيى، اتق اللّه وعرفني أصحابك السبعين؛ لئلا ينتقض أمانك. وأقبل علينا فقال: إن هذا لم يسم أصحابه. فقال يحيى: يا أمير، أنا رجل من السبعين، فما الذي نفعني من الأمان، أ فتريد أن أدفع إليك قوماً تقتلهم معي لا يحل لي هذا.
قال العمري: ثم خرجنا ذلك اليوم، ودعانا له يوماً آخر، فرأيته أصفر
ص: 195
اللون، متغيراً. فجعل الرشيد يكلمه فلا يجيبه، فقال: أ لا ترون إليه لا يجيبني. فأخرج إلينا لسانه قد صار أسود مثل الحممة، يرينا أنه لا يقدر على الكلام، فاستشاط الرشيد، وقال: إنه يريكم أني سقيته السم، وواللّه لو رأيت عليه القتل لضربت عنقه صبراً. ثم خرجنا من عنده، فما صرنا في وسط الدار حتى سقط على وجهه لآخر ما به.
وعن إدريس بن محمد بن يحيى كان يقول: قُتل جدي بالجوع والعطش في الحبس(1).
وكان قد خرج مع يحيى بن عبد اللّه بن الحسن: عامر بن كثير السراج، وسهل بن عامر البجلي، ويحيى بن عبد اللّه بن يحيى بن مساور، وكان من أصحابه علي بن هاشم بن البريد، وعبد اللّه بن علقمة، ومخول بن إبراهيم النهدي. فحبسهم جميعاً هارون في المطبق، فمكثوا فيه اثنتي عشرة سنة، ثم قتلهم هارون(2).
إلى غير ذلك من الظلم والطغيان والتعذيب والقتل مما هو كثير في تاريخ هارون العباسي (لعنه اللّه).
ص: 196
17
في السنة 179 هجرية عزم هارون العباسي على حج بيت اللّه الحرام، وذلك بقصد اعتقال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، حقداً على آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولإحكام قبضة حكومته، وبقائها في ذريته، وأخذ البيعة من الناس لأولاده.
وقد كتب هارون إلى مختلف البلاد بحضور علمائها وكبارها وأعيانها وأشرافها لذلك الموسم في مكة المكرمة، ليأخذ منهم البيعة لأولاده، ولينشروا هذا الحكم في سائر البلاد.
فجاء هارون إلى المدينة المنورة أولاً، يقول يعقوب بن داود: دخلت على يحيى البرمكي في ليلة. فقال لي: إن هارون اليوم جاء عند قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال له: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنا أعتذر منك في أمر موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فإني عزمت على حبسه، لأنني أخاف منه الفتنة، وأن يقوم بما لا يحمد عقباه من إراقة دماء أمتك!.
يقول: يحيى بن خالد البرمكي أنه سمع هارون يقول عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كالمخاطب له: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه وإني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم.
ص: 197
وكان هذا الموقف ضمن الخطة الخبيثة التي قام بها هارون، حتى يخدع الناس في اعتقاله للإمام الكاظم (عليه السلام) ، فافترى على الإمام (عليه السلام) بأنه يريد الفتنة وما أشبه، فمن جانب يزور هارون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويسلم عليه، ومن جانب يقوم بإيذاء أهل بيته، وقد وصى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم، وجعل القرآنُ مودتهم أجر الرسالة.
قال يحيى: فظننت أن هارون سيعتقل الإمام الكاظم (عليه السلام) غداً.
وبالفعل في يوم غد، أرسل هارون الفضل بن ربيع لاعتقال الإمام (عليه السلام) بكل شدة وقساوة، وكان الإمام (عليه السلام) يصلي عند قبر جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهجموا على الإمام (عليه السلام) في وسط صلاته، ولم يمهلوه كي يتم صلاته بل قطعوا عليه الصلاة، وسحبوا الإمام وأخرجوه من مسجد جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فتوجه الإمام (عليه السلام) إلى القبر الشريف، وقال:
«يا رسول اللّه، إليك أشكو ما ألقى من أشرار أمتك»(1).
وأخذ الناس بالبكاء والنحيب.
ولما جاؤوا بالإمام (عليه السلام) إلى هارون، أخذ هارون يسب الإمام (عليه السلام) ويشتمه، ثم أمر بتقييد الإمام بالحبال والأغلال، ثم جهز محملين أحدهما نحو البصرة والآخر نحو بغداد، حتى لا يعرف الناس أن الإمام الكاظم (عليه السلام) أُرسل إلى أي مكان.
وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) في المحمل الذي بُعث نحو البصرة، وقد أرسل هارون جملة من جلاوزته مع الإمام، كان منهم حسان السروي، لكي يسلموه إلى أمير البصرة، وهو عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكان ابن عم هارون العباسي.
وهكذا قام هارون باعتقال الإمام (عليه السلام) وسجنه حقداً وحسداً، فإنه كان يعلم
ص: 198
بأن الإمام (عليه السلام) هو حجة اللّه على الأرض، وأن الناس تميل إليه بفطرتهم، وإلا فلم تكن هناك أية فتنة من قبل الإمام (عليه السلام) يخاف هارون منها، فلم يجهز الإمام جيشاً، ولا جمع سلاحاً لمحاربة السلطة، ولم يشجع على ذلك أبداً.
وكان قول هارون للإمام الكاظم (عليه السلام) كقول فرعون في قصة موسى (عليه السلام) ، حيث قال: {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسادَ}(1).
ومن المعلوم أن سبّ الأخيار والتضييق عليهم هو سيرة الطغاة والمفسدين.
أما ما ورد من لعن المبطلين في القرآن الكريم، فلأن اللّه أراد بذلك أن يبين الحق من الباطل، ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم. وكذلك ما جاء في الروايات من جواز ما يذكر حول أهل البدع، والحث على لعنهم؛ فإنه لهداية الناس، وعدم الانخداع بهم.
ثم إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن يريد أن يهدي الآخرين بالإكراه، والسجن والتعزير، ومصادرة الأموال، وحرق البيوت، كما أنها دأب الطغاة والحكام في يومنا هذا، فكان يكتفي بأقل ما يمكن ضد الطغاة في سبيل هداية الناس، وإرشادهم وتقويمهم، وردعهم عن الباطل، وهو اللعن للمبطلين.
فإن اللعن هو الدعاء عليه بأن يكون بعيداً عن الخير.
أما السبّ من غير غرض الهداية وإرشاد الناس، فقد نهى القرآن عنه، قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}(2). وقال أمير
ص: 199
المؤمنين (عليه السلام) : «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(1).
فإن في مثل تلك الموارد لا يبقى أمل بالهداية، فكان مجرد السب بلا فائدة، بل ربما يكون ضاراً، فنُهي عنه.
روى الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) ، قال: كان السبب في وقوع موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى بغداد، أن هارون العباسي أراد أن يعقد الأمر لابنه محمد بن زبيدة، وكان له من البنين أربعة عشر ابناً، فاختار منهم ثلاثة: محمد بن زبيدة وجعله ولي عهده، وعبد اللّه المأمون وجعل الأمر له بعد ابن زبيدة، والقاسم المؤتمن وجعل الأمر له بعد المأمون. فأراد أن يحكم الأمر في ذلك، ويشهره شهرة يقف عليها الخاص والعام، فحج في سنة تسع وسبعين ومائة، وكتب إلى جميع الآفاق يأمر الفقهاء والعلماء والقراء والأمراء أن يحضروا مكة أيام الموسم، فأخذ هو طريق المدينة(2).
وكان السبب في قتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالسم من قبل هارون العباسي، هو نفس السبب الذي حدى بسائر الأمويين والعباسيين لقتل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بالسيف أو السم، من الحقد والحسد وما أشبه.
أما ما ذكره البعض من وشاية ابن أخ الإمام: علي بن إسماعيل بن جعفر، أو أخيه محمد بن جعفر فهو غير صحيح، بل هو تبرير لفعل هارون، وتغطية لجرمه
ص: 200
وظلمه، وهذا وأمثاله من مفتريات العباسيين أنفسهم.
ويؤيده التضارب الموجود في بعض التواريخ التي كتب أغلبها برعاية تلك الحكومات الجائرة، وقد ورد في بعضها: إن السبب كان سعاية يعقوب بن داود، وفي بعضها: إن السبب هو سعاية يحيى بن خالد البرمكي بالإمام (عليه السلام) ، وذلك في قصة مفصلة مذكورة في مظانها(1).
ص: 201
نعم قد تكون لسعاية يحيى بعض التأثير، ولكن السبب الأصلي هو حقد هارون نفسه.
فلا صحة لما قالوا: من أن محمد بن إسماعيل بن الصادق (عليه السلام) - وكان عند عمه موسى الكاظم (عليه السلام) يكتب له الكتب إلى شيعته في الآفاق - لما ورد هارون الحجاز سعى بعمه إلى هارون. فقال: أما علمت أن في الأرض خليفتين يجبى إليهما الخراج؟.
فقال هارون: ويلك أنا ومن؟.
قال: موسى بن جعفر. وأظهر أسراره، فقبض عليه(1).
حيث قد سبق بأن هارون جاء إلى الحجاز بقصد ترسيخ ولاية عهد ابنه محمد، والقضاء على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ..
ومما يؤيد عدم صحة هذه الرواية ما ذكره البعض من أن محمد بن إسماعيل خرج إلى العراق وسعى بعمه عند هارون، وليست القصة في الحجاز، وذكر البعض هذه القصة ونسبها إلى محمد بن جعفر أخ الإمام الكاظم (عليه السلام) ، فهذا التضارب يدل على أن لا أساس لأصل الخبر(2).
ص: 202
ففي التاريخ أن هارون لما أراد أن يعلن ولاية عهده لابنه محمد بن زبيدة، خرج في تلك السنة إلى الحج، وبدأ بالمدينة فقبض فيها على الإمام أبي الحسن موسى (عليه السلام) ..
ولما صار هارون إلى قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: يا رسول اللّه إني أعتذر إليك من شي ء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإن التشتيت بين أمتك وسفك دمائها. ثم أمر به فأخذ من المسجد، فأدخل عليه فقيّده، واستدعى قبتين جعله في إحداهما على بغل، وجعل القبة الأخرى على بغل آخر، وأخرج
ص: 203
البغلين من داره عليهما القبتان مستورتان، ومع كل واحدة منهما خيل، فافترقت الخيل، فمضى بعضها مع إحدى القبتين على طريق البصرة، والأخرى على طريق الكوفة. وكان أبو الحسن (عليه السلام) في القبة التي مضى بها على طريق البصرة، وإنما فعل ذلك هارون ليعمي على الناس أمر أبي الحسن (عليه السلام) .
لما نفى هارون الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى البصرة، بعدما اعتقله من مدينة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلاً، ووجهه إلى البصرة خفية، كتب إلى عيسى بن جعفر بن المنصور - وكان على البصرة حينذاك - بسجن الإمام والتضييق عليه.
فقدم حسان - وهو من جلاوزة هارون - بالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) البصرة قبل التروية بيوم، فدفعه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر نهاراً علانية، حتى عرف ذلك وشاع أمره، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المحبس الذي كان يحبس فيه، وأقفل عليه وشغله عنه العيد، فكان لا يفتح عنه الباب إلاّ في حالتين، حال يخرج فيها إلى الطهور، وحال يدخل إليه فيها الطعام.
وحبسه عيسى سنة.
ثم كتب هارون إلى عيسى بقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في سجنه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خاصته وثقاته، فاستشارهم فيما كتب إليه هارون، فأشار عليه خاصته بالتوقف عن ذلك والاستعفاء منه. فكتب عيسى بن جعفر إلى هارون يقول له: لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله، ووضعت عليه العيون طول هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، وقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما قدرت على ذلك، ووضعت من
ص: 204
يسمع منه ما يقوله في دعائه، فما دعا عليك ولا عليّ ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلمه مني وإلاّ خليت سبيله، فإني متحرج من حبسه.
وقد كتب هارون مكرراً وأمر عيسى بأن يقتل الإمام الكاظم (عليه السلام) بالسم، ولكن لم يجرأ عيسى على ذلك.
وكان عيسى يفتح للإمام (عليه السلام) باب الغرفة في السجن مرتين، مرة لكي يتوضأ الإمام، ومرة لكي يقدم له الطعام.
وبعدما لم تنجح خطة هارون في قتل الإمام (عليه السلام) في سجن البصرة، وجّه بعض جلاوزته لتسلم الإمام (عليه السلام) من عيسى بن جعفر المنصور، وأن يصيره إلى بغداد، فجاء بالإمام (عليه السلام) وسلّمه إلى الفضل بن الربيع، فبقي عنده مدة طويلة تحت التعذيب.
لما لم يتمكن هارون من قتل الإمام (عليه السلام) في البصرة، أرسل بعض جلاوزته لكي يستلموا الإمام (عليه السلام) من عيسى ويأتوا به إلى بغداد، فجاؤوا بالإمام (عليه السلام) بكل قساوة من البصرة، ومن دون أن يراعوا في حقه حرمة جدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وسجنوه بأمر هارون عند الفضل بن الربيع.
فكان الإمام (عليه السلام) في حبس الفضل في شدة وضيق، ولكنه كان مشغولاً بالعبادة والتضرع، والبكاء من خوف اللّه تعالى، وكان أغلب أوقاته في السجدة الطويلة لله تعالى.
فأمر هارون عدة مرات الفضل بأن يقتل الإمام (عليه السلام) بالسم، ولكن الفضل أبى ذلك وقال: إنني لا أقدم على هذه الجريمة الكبرى.
ص: 205
وقيل: إن الفضل لما رأى الإمام (عليه السلام) مشغولاً بالعبادة، يحيي الليل كله صلاةً، وقراءةً للقرآن ودعاءً واجتهاداً، يصوم النهار، ولا يصرف وجهه عن المحراب. وسع بعض الشيء على الإمام (عليه السلام) ، وخفف من التضييق عليه، فاتصل ذلك بهارون وهو في الرقة، فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى (عليه السلام) ، ويأمره بقتل الإمام (عليه السلام) ، فتوقف الفضل عن ذلك ولم يقدم عليه.
فاغتاظ هارون لذلك، ودعا مسرور الخادم فقال له: اخرج على البريد في هذا الوقت إلى بغداد، وادخل من فورك على موسى بن جعفر، فإن وجدته في دعة ورفاهية، فأوصل هذا الكتاب إلى العباس بن محمد وأمره بامتثال ما فيه، وسلّم إليه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره فيه بطاعة العباس.
فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد ثم دخل على موسى (عليه السلام) ، فوجده على ما أبلغ هارون، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك فأوصل الكتابين إليهما. فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض ركضاً إلى الفضل بن يحيى، فركب معه وخرج مدهوشاً دهشاً حتى دخل على العباس بن محمد، فدعى العباس بسياط وعابين، وأمر بالفضل فجرد، وضربه السندي بين يديه مائة سوط، وخرج متغير اللون خلاف ما دخل، وجعل يسلم على الناس يميناً وشمالاً.
وكتب مسرور بالخبر إلى هارون، فأمر بتسليم موسى إلى السندي بن شاهك، وجلس هارون مجلساً حافلاً. وقال: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه. فلعنه الناس من كل ناحية حتى ارتج البيت والدار بلعنه.
وبلغ يحيى بن خالد الخبر، فركب إلى هارون، فدخل من غير الباب الذي
ص: 206
يدخل الناس منه حتى جاء من خلفه وهو لا يشعر به، ثم قال له: التفت يا أمير إليَّ، فأصغى إليه فزعاً، فقال: إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد. فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس. فقال: إن الفضل كان قد عصاني في شي ء فلعنته، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه. فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وقد توليناه.
ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد، فماج الناس وأرجفوا بكل شي ء، وأظهر أنه ورد لتعديل السواد، والنظر في أمر العمال، وتشاغل ببعض ذلك أياماً، ثم دعا السندي بن شاهك، فأمره فيه بأمره فامتثله(1).
ثم إن هارون كان يضطر أحياناً لإطلاق سراح الإمام (عليه السلام) من السجن، ولكن بعد فترة كان يأمر بالقبض على الإمام (عليه السلام) ، وفي كل مرة يخطط لقتل الإمام (صلوات اللّه عليه).
ففي مهج الدعوات: عن عبد اللّه بن مالك الخزاعي، قال: دعاني هارون فقال: يا أبا عبد اللّه، كيف أنت وموضع السر منك؟.
فقلت: يا أمير ما أنا إلاّ عبد من عبيدك.
فقال: امض إلى تلك الحجرة، وخذ من فيها، واحتفظ به إلى أن أسألك عنه.
قال: فدخلت، فوجدت موسى بن جعفر (عليه السلام) . فلما رآني سلمت عليه، وحملته على دابتي إلى منزلي، فأدخلته داري وجعلته مع حرمي، وقفلت عليه والمفتاح معي، وكنت أتولى خدمته، ومضت الأيام، فلم أشعر إلا برسول
ص: 207
هارون يقول: أجب الأمير.
فنهضت ودخلت عليه، وهو جالس وعن يمينه فراش، وعن يساره فراش، فسلمت عليه، فلم يرد غير أنه قال: ما فعلت بالوديعة؟.
فكأني لم أفهم ما قال، فقال: ما فعل صاحبك؟.
فقلت: صالح.
فقال: امض إليه وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم، واصرفه إلى منزله وأهله. فقمت وهممت بالانصراف، فقال لي: أ تدري ما السبب في ذلك وما هو؟.
قلت: لا يا أمير.
قال: نمت على الفراش الذي عن يميني، فرأيت في منامي قائلاً يقول لي: يا هارون، أطلق موسى بن جعفر. فانتبهت فقلت لعلها لما في نفسي منه، فقمت إلى هذا الفراش الآخر، فرأيت ذلك الشخص بعينه وهو يقول: يا هارون، أمرتك أن تطلق موسى بن جعفر فلم تفعل. فانتبهت وتعوذت من الشيطان، ثم قمت إلى هذا الفراش الذي أنا عليه، وإذا بذلك الشخص بعينه وبيده حربة، كان أولها بالمشرق وآخرها بالمغرب، وقد أومأ إليَّ وهو يقول: واللّه يا هارون لئن لم تطلق موسى بن جعفر، لأضعن هذه الحربة في صدرك، وأطلعها من ظهرك. فأرسلت إليك فامض فيما أمرتك به، ولا تظهره إلى أحد فأقتلك، فانظر لنفسك.
قال: فرجعت إلى منزلي، وفتحت الحجرة، ودخلت على موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فوجدته قد نام في سجوده، فجلست حتى استيقظ، ورفع رأسه وقال: «يا أبا عبد اللّه، افعل ما أمرت به».
فقلت له: يا مولاي، سألتك باللّه وبحق جدك رسول اللّه، هل دعوت اللّه عزَّ وجل في يومك هذا بالفرج؟.
ص: 208
فقال (عليه السلام) : «أجل إني صليت المفروضة، وسجدت وغفوت في سجودي، فرأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال: يا موسى، أ تحب أن تطلق؟.
فقلت: نعم يا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فقال: ادع بهذه الدعاء - ثم ذكر الدعاء - فلقد دعوت به ورسول اللّه يلقنيه حتى سمعتك.
فقلت: قد استجاب اللّه فيك، ثم قلت له: ما أمرني به هارون وأعطيته ذلك(1).
سبق إن هارون العباسي أنفذ إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) جارية خصيفة، لها جمال ووضاءة، لتخدعه في السجن. فقال (عليه السلام) : «قل له: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}(2)، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها. قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف.
قال: فمضى ورجع، ثم قام هارون عن مجلسه، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: قدوس، سبحانك، سبحانك. فقال هارون: سحرها واللّه موسى بن جعفر بسحره، عليَّ بها. فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها. فقال: ما شأنكِ؟. قالت: شأني
ص: 209
الشأن البديع، إني كنت عنده واقفة، وهو قائم يصلي ليله ونهاره، فلما انصرف عن صلاته بوجهه، وهو يسبح اللّه ويقدسه. قلت: يا سيدي، هل لك حاجة أعطيكها؟. قال: «وما حاجتي إليكِ». قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك. قال: «فما بال هؤلاء». قالت: فالتفت، فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائف، لم أر مثل وجوههم حسناً ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر، والأكاليل والدر والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كل الطعام. فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت.
قال: فقال هارون: يا خبيثة، لعلكِ سجدتِ فنمتِ فرأيتِ هذا في منامكِ. قالت: لا واللّه يا سيدي إلا قبل سجودي رأيت، فسجدت من أجل ذلك. فقال هارون: اقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد. فأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك، قالت: هكذا رأيت العبد الصالح (عليه السلام) . فسئلت عن قولها قالت: إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري: يا فلانة، ابعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه، فنحن له دونكِ. فما زالت كذلك حتى ماتت، وذلك قبل موت موسى (عليه السلام) بأيام يسيرة(1).
عن بشار مولى السندي بن شاهك، قال: كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب، فدعاني السندي بن شاهك يوماً. فقال لي: يا بشار، إني أريد أن
ص: 210
أئتمنك على ما ائتمنني عليه هارون. قلت: إذن لا أبقي فيه غاية. فقال: هذا موسى بن جعفر قد دفعه إليِّ، وقد وكلتك بحفظه. فجعله في دار دون حرمه ووكلني عليه، فكنت أقفل عليه عدة أقفال، فإذا مضيت في حاجة، وكلت امرأتي بالباب، فلا تفارقه حتى أرجع. قال بشار: فحول اللّه ما كان في قلبي من البغض حباً. قال: فدعاني (عليه السلام) يوماً. فقال: «يا بشار، امض إلى سجن القنطرة، فادع لي هند بن الحجاج، وقل له: أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه، فإنه سينهرك ويصيح عليك، فإذا فعل ذلك فقل له: أنا قد قلت لك وأبلغت رسالته، فإن شئت فافعل ما أمرني، وإن شئت فلا تفعل، واتركه وانصرف». قال: ففعلت ما أمرني، وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل، وأقعدت امرأتي على الباب، وقلت لها: لا تبرحي حتى آتيكِ. وقصدت إلى سجن القنطرة، فدخلت إلى هند بن الحجاج. فقلت: أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه. قال: فصاح عليَّ وانتهرني. فقلت له: أنا قد أبلغتك وقلت لك، فإن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل، وانصرفت وتركته. وجئت إلى أبي الحسن (عليه السلام) ، فوجدت امرأتي قاعدة على الباب، والأبواب مغلقة، فلم أزل أفتح واحداً واحداً منها، حتى انتهيت إليه فوجدته، وأعلمته الخبر. فقال: «نعم قد جاءني وانصرف». فخرجت إلى امرأتي، فقلت لها: جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب!. فقالت: لا واللّه، ما فارقت الباب، ولا فتحت الأقفال حتى جئت(1).
ثم إن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) - وهو في السجن - كان يكاتب بعض الشيعة
ص: 211
سراً، ويرشدهم إلى تكاليفهم. ففي الكافي: عن علي بن سويد، قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) - وهو في الحبس - كتاباً أسأله عن حاله، وعن مسائل كثيرة. فاحتبس الجواب عليَّ، ثم أجابني بجواب هذه نسخته:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي العظيم، الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ، وضال ومهتد، وسميع وأصم، وبصير وأعمى حيران، فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . أما بعد، فإنك امرؤ أنزلك اللّه من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشدك، وبصرك من أمر دينك، وبتفضيلك إياهم، وبردك الأمور إليهم. كتبت تسألني عن أمور كنت منها في تقية، ومن كتمانها في سعة، فلما انقضى سلطان الجبابرة، وجاء سلطان ذي السلطان العظيم، بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم، رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه، مخافة أن يدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا من قبل جهالتهم، فاتق اللّه جل ذكره، وخص بذلك الأمر أهله، واحذر أن تكون سبب بلية الأوصياء، أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك، وإظهار ما استكتمتك، ولن تفعل إن شاء اللّه. إن أول ما أنهي إليك أني أنعى إليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع ولا نادم ولا شاك، فيما هو كائن مما قد قضى اللّه جل وعز وحتم، فاستمسك بعروة الدين آل محمد، والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي، والمسالمة لهم، والرضا بما قالوا، ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحبن دينهم؛ فإنهم الخائنون الذين خانوا اللّه ورسوله، وخانوا أماناتهم، وتدري ما خانوا
ص: 212
أماناتهم، ائتمنوا على كتاب اللّه فحرفوه وبدلوه، ودلوا على ولاة الأمر منهم، فانصرفوا عنهم فأذاقهم اللّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وسألت عن رجلين اغتصبا رجلاَ مالاً، كان ينفقه على الفقراء والمساكين، وأبناء السبيل وفي سبيل اللّه، فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه، حتى حملاه إياه كرهاً فوق رقبته إلى منزلهما، فلما أحرزاه توليا إنفاقه، أ يبلغان بذلك كفراً، فلعمري لقد نافقا قبل ذلك، وردا على اللّه جل وعز كلامه، وهزءا برسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهما الكافران عليهما لَعْنَةُ اللّهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، واللّه ما دخل قلب أحد منهما شي ء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما، وما ازدادا إلاّ شكاً، كانا خداعين مرتابين منافقين، حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام. وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله، ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر، فأولئك أهل الردة الأولى ومن هذه الأمة، فعليهم لَعْنَةُ اللّهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وسألت عن مبلغ علمنا، وهو على ثلاثة وجوه: ماض، وغابر، وحادث. فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمكتوب، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وسألت عن أمهات أولادهم، فهن عواهر إلى يوم القيامة، نكاح بغير ولي، وطلاق لغير عدة. وأما من دخل في دعوتنا، فقد هدم إيمانه ضلاله، ويقينه شكه. وسألت عن الزكاة فيهم، فما كان من الزكوات فأنتم أحق به؛ لأنا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان. وسألت عن الضعفاء، فالضعيف من لم ترفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وسألت عن الشهادات لهم، فأقم الشهادة لله عزَّ وجل ولو على نفسك، أَوِ الْوالِدَيْنِ
ص: 213
والْأَقْرَبِينَ، فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا، وادع إلى شرائط اللّه عز ذكره بمعرفتنا من رجوت إجابته، ولا تحضر حصن زنا، ووال آل محمد، ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطل، وإن كنت تعرف منا خلافه؛ فإنك لا تدري لما قلناه، وعلى أي وجه وصفناه، آمن بما أخبرك، ولا تفش ما استكتمناك من خبرك. إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك، ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس، وإن كان أقرب إليه منك، وعده في مرضه. ليس من أخلاق المؤمنين الغش، ولا الأذى، ولا الخيانة، ولا الكبر، ولا الخنا، ولا الفحش، ولا الأمر به، فإذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين، فإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء، وانظر ما فعل اللّه عزَّ وجل بالمجرمين، فقد فسرت لك جملاً جملاً، وصلى اللّه على محمد وآله الأخيار(1).
عزم هارون العباسي على قتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أكثر من مرة، وقد نجاه اللّه تعالى من شر هارون، حتى أمر السندي بن شاهك فقتل الإمام (عليه السلام) بالسم.
عن عبد اللّه بن الفضل، عن أبيه الفضل، قال: كنت أحجب للرشيد، فأقبل عليَّ يوماً غضبان وبيده سيف يقلبه. فقال لي: يا فضل، بقرابتي من رسول اللّه لئن لم تأتني بابن عمي، لآخذن الذي فيه عيناك. فقلت: بمن أجيئك؟. فقال:
ص: 214
بهذا الحجازي!. قلت: وأي الحجازيين؟. قال: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال الفضل: فخفت من اللّه عزَّ وجل إن جئت به إليه، ثم فكرت في النقمة، فقلت له: أفعل.
فقال: ائتني بسواطين وهبنازين وجلادين. قال: فأتيته بذلك، ومضيت إلى منزل أبي إبراهيم موسى بن جعفر. فأتيت إلى خربة، فيها كوخ من جرائد النخل، فإذا أنا بغلام أسود. فقلت له: استأذن لي على مولاك يرحمك اللّه. فقال لي: لج ليس له حاجب ولا بواب. فولجت إليه، فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه، من كثرة سجوده. فقلت له: السلام عليك يا ابن رسول اللّه، أجب هارون.
فقال: «ما لهارون وما لي، أ ما تشغله نعمته عني».
ثم قام مسرعاً وهو يقول: «لولا أني سمعت في خبر عن جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن طاعة السلطان للتقية واجبة إذاً ما جئت».
فقلت له: استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك اللّه.
فقال (عليه السلام) : «أ ليس معي من يملك الدنيا والآخرة، ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء اللّه».
قال الفضل بن الربيع: فرأيته وقد أدار يده يلوح على رأسه ثلاث مرات، فدخلت إلى هارون، فإذا هو كأنه امرأة ثكلى قائم حيران، فلما رآني قال لي: يا فضل.
فقلت: لبيك.
فقال: جئتني بابن عمي.
ص: 215
قلت: نعم.
قال: لا تكون أزعجته!.
فقلت: لا.
قال: لا تكون أعلمته أني عليه غضبان؛ فإني قد هيجت على نفسي ما لم أرده، ائذن له بالدخول. فأذنت له.
فلما رآه وثب إليه قائماً وعانقه. وقال له: مرحباً بابن عمي وأخي ووارث نعمتي. ثم أجلسه بجنبه وقال له: ما الذي قطعك عن زيارتنا.
فقال: «سعة ملكك وحبك للدنيا».
فقال: ايتوني بحقه الغالية، فأتي بها فغلفه بيده ثم أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير.
فقال موسى بن جعفر (عليه السلام) : «واللّه لولا أني أرى من أزوجه بها من عزاب بني أبي طالب - لئلا ينقطع نسله أبداً - ما قبلتها - ثم تولى (عليه السلام) وهو يقول - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
فقال الفضل: يا أمير، أردت أن تعاقبه فخلعت عليه وأكرمته!.
فقال لي: يا فضل، إنك لما مضيت لتجيئني به رأيت أقواما قد أحدقوا بداري بأيديهم حراب قد غرسوها في أصل الدار، يقولون: إن آذى ابن رسول اللّه خسفنا به، وإن أحسن إليه انصرفنا عنه وتركناه.
يقول الفضل: فتبعته (عليه السلام) فقلت له: ما الذي قلت حتى كفيت أمر هارون؟.
فقال: «دعاء جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، كان إذا دعا به ما برز إلى عسكر إلاّ هزمه، ولا إلى فارس إلاّ قهره، وهو دعاء كفاية البلاء».
قلت: وما هو؟. قال: «قلت: اللّهم بك أساور، وبك أحاول، وبك
ص: 216
أحاور، وبك أصول، وبك أنتصر، وبك أموت، وبك أحيا، أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم. اللّهم إنك خلقتني ورزقتني وسترتني، وعن العباد بلطف ما خولتني أغنيتني، وإذا هويت رددتني، وإذا عثرت قومتني، وإذا مرضت شفيتني، وإذا دعوت أجبتني، يا سيدي ارض عني فقد أرضيتني»(1).
روي أنه لما هم هارون العباسي بقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، دعا الفضل بن الربيع وقال له: قد وقعت لي إليك حاجة أسألك أن تقضيها، ولك مائة ألف درهم. قال: فخر الفضل عند ذلك ساجداً، وقال: أمر أم مسألة؟. قال: بل مسألة. ثم قال: أمرت بأن تحمل إلى دارك في هذه الساعة مائة ألف درهم، وأسألك أن تصير إلى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه.
قال الفضل: فذهبت إلى ذلك البيت، فرأيت فيه موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو قائم يصلي، فجلست حتى قضى صلاته، وأقبل إليَّ وتبسّم وقال:
«عرفتُ لما ذا حضرتَ، أمهلني حتى أصلي ركعتين». قال: فأمهلته، فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين، وأتم الصلاة بحسن ركوعها وسجودها، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز، فاندرس وساخ في مكانه، فلا أدري أ أرض ابتلعته أم السماء اختطفته.
فذهبت إلى هارون وقصصت عليه القصة، قال: فبكى هارون، ثم قال: قد أجاره اللّه مني(2).
ص: 217
روي أن هارون العباسي لما أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، عرض قتله على سائر جنده وفرسانه، فلم يقبله أحد منهم. فأرسل إلى عماله في بلاد الأفرنج يقول لهم: التمسوا لي قوماً لا يعرفون اللّه ورسوله؛ فإني أريد أن أستعين بهم على أمر. فأرسلوا إليه قوماً لا يعرفون من الإسلام، ولا من لغة العرب شيئاً، وكانوا خمسين رجلاً. فلما دخلوا إليه أكرمهم، وسألهم من ربكم ومن نبيكم؟. فقالوا: لا نعرف لنا رباً ولا نبياً أبداً. فأدخلهم البيت الذي فيه الإمام (عليه السلام) ليقتلوه، وهارون ينظر إليهم من روزنة البيت، فلما رأوه رموا أسلحتهم، وارتعدت فرائصهم، وخروا سجداً يبكون رحمة له. فجعل الإمام يمر يده على رؤوسهم، ويخاطبهم بلغتهم وهم يبكون، فلما رأى هارون خشي الفتنة، وصاح بوزيره أخرجهم، فخرجوا وهم يمشون القهقرى إجلالاً له، وركبوا خيولهم ومضوا نحو بلادهم من غير استئذان(1).
عن علي بن يقطين: قال: كنت واقفاً على رأس هارون العباسي، إذ دعا موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو يتلظى عليه، فلما دخل حرّك (عليه السلام) شفتيه بشيء، فأقبل هارون عليه ولاطفه وبرّه، وأذن له في الرجوع. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، جعلني اللّه فداك إنك دخلت على هارون وهو يتلظى عليك، فلم أشك إلا أنه يأمر بقتلك، فسلّمك اللّه منه، فما الذي كنت تحرك به شفتيك؟.
فقال (عليه السلام) : «إني دعوت بدعاءين، أحدهما خاص، والآخر عام، فصرف اللّه
ص: 218
شره عني».
فقلت: ما هما يا ابن رسول اللّه؟.
فقال: «أما الخاص: اللَّهُمَّ إِنَّكَ حَفِظْتَ الْغُلاَمَيْنِ لِصَلاَحِ أَبَوَيْهِمَا، فَاحْفَظْنِي لِصَلاَحِ آبَائِي.
وأما العام: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَكْفِي مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلا يَكْفِي مِنْكَ أَحَدٌ، فَاكْفِنِيهِ بِمَا شِئْتَ وَكَيْفَ شِئْتَ وَأَنَّى شِئْتَ، فكفاني اللّه شره»(1).
عن عمر بن واقد، قال: إن هارون العباسي لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وما كان يبلغه عنه من قول الشيعة بإمامته، واختلافهم في السر إليه بالليل والنهار، خشية على نفسه وملكه، ففكر في قتله بالسم. فدعا برطب فأكل منه، ثم أخذ صينية فوضع فيها عشرين رطبة، وأخذ سلكان فعركه في السم، وأدخله في سم الخياط، وأخذ رطبة من ذلك الرطب، فأقبل يردد إليها ذلك السم بذلك الخيط، حتى علم أنه قد حصل السم فيها، فاستكثر منه ثم ردها في ذلك الرطب، وقال لخادم له: احمل هذه الصينية إلى موسى بن جعفر، وقل له: إن الأمير أكل من هذا الرطب، وتنغص لك به، وهو يقسم عليك بحقه لما أكلتها عن آخر رطبة، فإني اخترتها لك بيدي، ولا تتركه يبقي منها شيئاً، ولا يطعم منها أحداً.
فأتاه بها الخادم وأبلغه الرسالة. فقال له: «ائتني بخلال». فناوله خلالاً، وقام بإزائه وهو يأكل من الرطب، وكانت لهارون كلبة تعز عليه، فجذبت نفسها
ص: 219
وخرجت تجر سلاسلها من ذهب وجوهر، حتى حاذت موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة، ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها. فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض، وعوت وتهرت قطعة قطعة، واستوفى (عليه السلام) باقي الرطب، وحمل الغلام الصينية حتى صار بها إلى هارون. فقال له: قد أكل الرطب عن آخره؟. قال: نعم يا أمير. قال: فكيف رأيته؟. قال: ما أنكرت منه شيئاً يا أمير.
قال: ثم ورد عليه خبر الكلبة، وأنها قد تهرت وماتت، فقلق هارون لذلك قلقاً شديداً، واستعظمه ووقف على الكلبة، فوجدها متهرئة بالسم، فأحضر الخادم ودعا له بسيف ونطع. وقال له: لتصدقني عن خبر الرطب أو لأقتلنك.
فقال: يا أمير، إني حملت الرطب إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وأبلغته سلامك وقمت بإزائه، فطلب مني خلالاً فدفعته إليه، فأقبل يغرز في الرطبة بعد الرطبة ويأكلها، حتى مرت الكلبة فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرطب، فرمى بها فأكلتها الكلبة، وأكل هو باقي الرطب، فكان ما ترى يا أمير.
فقال هارون: ما ربحنا من موسى إلا أنا أطعمناه جيد الرطب، وضيعنا سمنا، وقتل كلبتنا، ما في موسى حيلة(1).
عن الفضل بن الربيع، قال: كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواري، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة فراعني ذلك. فقالت الجارية: لعل هذا من الريح. فلم يمض إلا يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت
ص: 220
فيه قد فتح، وإذا مسرور الكبير قد دخل عليَّ. فقال لي: أجب الأمير. ولم يسلم عليَّ، فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور ودخل إليَّ بلا إذن، ولم يسلم ما هو إلاّ القتل، وكنت جنباً فلم أجسر أن أسأله إنظاري حتى أغتسل.
فقالت لي الجارية - لما رأت تحيري وتبلدي -: ثق باللّه عزَّ وجل وانهض. فنهضت ولبست ثيابي، وخرجت معه حتى أتيت الدار، فسلمت على الأمير - هارون - وهو في مرقده. فرد عليَّ السلام فسقطت. فقال: تداخلك رعب؟. قلت: نعم يا أمير. فتركني ساعة حتى سكنت، ثم قال لي: صر إلى حبسنا فأخرج موسى بن جعفر بن محمد، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله على ثلاثة مراكب، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أي بلد أراد وأحب.
فقلت: يا أمير، تأمر بإطلاق موسى بن جعفر!.
قال: نعم، فكررت ذلك عليه ثلاث مرات. فقال لي: نعم، ويلك أ تريد أن أنكث العهد. فقلت: يا أمير، وما العهد؟. قال: بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسود، ما رأيت من السودان أعظم منه، فقعد على صدري وقبض على حلقي، وقال لي: حبست موسى بن جعفر ظالماً له. فقلت: فأنا أطلقه وأهب له وأخلع عليه. فأخذ عليَّ عهد اللّه عزَّ وجل وميثاقه، وقام عن صدري، وقد كادت نفسي تخرج.
يقول الفضل: فخرجت من عنده، ووافيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في حبسه، فرأيته قائماً يصلي، فجلست حتى سلم، ثم أبلغته سلام الأمير، وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وأني قد أحضرت ما وصله به. فقال (عليه السلام) : «إن كنت أمرت بشيء غير هذا فافعله». فقلت: لا وحق جدك رسول اللّه، ما أمرت
ص: 221
إلا بهذا. فقال: «لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذ كانت فيه حقوق الأمة».
فقلت: ناشدتك باللّه أن لا ترده فيغتاظ. فقال: «اعمل به ما أحببت». وأخذت بيده (عليه السلام) ، وأخرجته من السجن، ثم قلت له: يا ابن رسول اللّه أخبرني بالسبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل، فقد وجب حقي عليك لبشارتي إياك، ولما أجراه اللّه عزَّ وجل على يدي من هذا الأمر؟.
فقال (عليه السلام) : «رأيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلة الأربعاء في النوم. فقال لي: يا موسى، أنت محبوس مظلوم. فقلت: نعم يا رسول اللّه محبوس مظلوم. فكرر عليَّ ذلك ثلاثاً، ثم قال: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}(1)، أصبح غداً صائماً، وأتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار، فصل اثنتي عشرة ركعة، تقرأ في كل ركعة الحمد واثنتي عشرة مرة {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ}، فإذا صليت منها أربع ركعات فاسجد، ثم قل: (يا سابق الفوت، يا سامع كل صوت، يا محيي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وأن تعجل لي الفرج مما أنا فيه) ففعلت فكان الذي رأيت»(2).
ومرة أخرى لما حبس هارون موسى بن جعفر (عليه السلام) ، جن عليه الليل، فخاف ناحية هارون أن يقتله. فجدد موسى (عليه السلام) طهوره، واستقبل بوجهه القبلة، وصلى لله عزَّ وجل أربع ركعات، ثم دعا بهذه الدعوات. فقال: «يا سيدي نجني
ص: 222
من حبس هارون، وخلصني من يده، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني من يدي هارون».
قال الراوي: فلما دعا موسى (عليه السلام) بهذه الدعوات، أتى هارون رجل أسود في منامه، وبيده سيف قد سله، فوقف على رأس هارون وهو يقول: يا هارون. أطلق عن موسى بن جعفر وإلا ضربت علاوتك بسيفي هذا. فخاف هارون من هيبته، ثم دعا الحاجب، فجاء الحاجب فقال له: اذهب إلى السجن فأطلق عن موسى بن جعفر. إلى أن حبسه مرة أخرى فلم يطلق سراحه حتى سلمه إلى السندي بن شاهك وقتله بالسم(1).
في بعض التواريخ: لما علم هارون بأن الفضل بن الربيع لا يقوم بقتل الإمام الكاظم (عليه السلام) ، ولا يمتثل أمر هارون في ذلك. أخرج الإمام (عليه السلام) من سجن الفضل إلى سجن يحيى البرمكي، وأمر يحيى بقتل الإمام، ولكن يحيى أيضاً لم يتجرأ على ذلك.
عن محمد بن غياث المهلبي، قال: لما حبس هارون العباسي أبا إبراهيم موسى (عليه السلام) ، وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس، تحير هارون فدعا يحيى بن خالد البرمكي. فقال له: أ ما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب، أ لا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً تريحنا من غمه(2).
ص: 223
وهكذا كان ينتقل الإمام الكاظم (عليه السلام) من سجن إلى سجن، وكان فيها معذباً محروماً من أبسط الحقوق العادية للإنسان.
إلى أن أمر هارون بنقل الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى سجن أقسى جلاوزته، وهو السندي بن شاهك اليهودي، وأمره بأن يضيق على الإمام (عليه السلام) أشد الضيق، ويقتل الإمام (عليه السلام) بالسم.
وأراد هارون قبل أن يقوم بقتل الإمام (عليه السلام) بالسم، أن يعترف الإمام (عليه السلام) له بالإساءة وطلب العفو منه. فأرسل يحيى بن خالد إلى السجن. وقال له: يا يحيى، انطلق إليه وأطلق عنه الحديد، وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك: أنه قد سبق مني فيك يمين أني لا أخليك حتى تقر لي بالإساءة، وتسألني العفو عما سلف منك، وليس عليك في إقرارك عار، ولا في مسألتك إياي منقصة، وهذا يحيى بن خالد هو ثقتي ووزيري وصاحب أمري، فسله بقدر ما أخرج من يميني، وانصرف راشداً. فقال الإمام (عليه السلام) ليحيى: «أنا ميت، وإنما بقي من أجلي أسبوع»(1).
ص: 224
18
كان السندي بن شاهك يهودياً فضاً غليظاً، قسي القلب، سيء الخلق والعمل، وقد أمره هارون بسجن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عنده، وإيذائه أشد الإيذاء. فكان السندي يقوم بتعذيب الإمام (عليه السلام) في سجنه كثيراً، إلى أن جاءه أمر هارون بقتل الإمام (عليه السلام) بالسم.
فقام السندي بجعل السم في طعام قدمه إلى الإمام (عليه السلام) ، قيل: إنه جعله في رطب، فأكل الإمام (عليه السلام) منه فأحس بالسم، ولبث ثلاثاً بعده موعوكاً منه، ثم مات مسموماً مظلوماً في اليوم الثالث.
هذا وقام السندي بخطة خبيثة للتغطية على جرمه حين ما دفع السم إلى الإمام (عليه السلام) ، حيث جمع ثمانين رجلاً من مشايخ وعلماء ووجهاء بغداد إلى بيته، وجاء بالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من السجن إلى غرفة أخرى. وقال: انظروا إلى موسى بن جعفر هو عندنا معزز مكرم، وكلما تسمعون من هنا وهناك بأنه في الشدة وتحت التعذيب فهو كذب محض، ولم ينو الخليفة هارون بالنسبة إليه سوءاً أبداً، وإذا حصل شيء بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام) فهو من أمر اللّه، فإنه الآن في صحة وعافية تامة.
يقول الراوي: وكان أهل المجلس ينتظرون رد الإمام موسى بن جعفر (عليه
ص: 225
الصلاة والسلام)، وقد رأوا في الإمام سيماء الأنبياء، وآثار العلم والعبادة، وأنوار السيادة والنجابة، والزهد والتقوى، وإذا بالإمام (عليه السلام) نطق بعد كلام السندي وقال: «ما سمعتموه فهو تظاهر منه وكذب، وما ترونه من البيت والفرش فهو تصنع، وإنه قد أطعمني تسعة تمرات مسمومات، وسينقلب لوني يوم غد إلى الأخضر، وسأموت بعده بيوم، وأتخلص من الدنيا ومآسيها، وانتقل إلى جوار ربي، وأرد على جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلا تصدقوا السندي فيما يقول».
فلما سمع السندي بكلام الإمام (عليه السلام) ، أخذ يرتجف حيث افتضح أمام الجميع، وعلم الناس بخبث هارون ومكره، وأنه قام بقتل الإمام (عليه السلام) .
فانتظر السندي إلى أن خرج الناس من بيته، فجاء مغضباً نحو الإمام (عليه السلام) وأخذ يضربه بالسياط، ويكثر من تعذيبه الوحشي.
وفي رواية: جاء بالطعام المسموم للإمام (عليه السلام) ، وأجبروه على التناول منه. فرفع الإمام (عليه السلام) يده إلى السماء وقال: «يا رب إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي». فلما أكل منه مرض، ولما سأله الطبيب عن العلة، أخرج إليه راحته فأراها الطبيب، ثم قال: «هذه علتي». وكانت خضرة وسط راحته تدل على أنه سم، قال: فانصرف الطبيب إليهم وقال: واللّه لهو أعلم بما فعلتم به منكم، ثم توفي (عليه السلام) مسموماً(1).
عن الحسن بن محمد بن بشار، قال: حدثني شيخ من أهل قطيعة الربيع من العامة، ممن كان يقبل قوله. قال: جُمعنا أيام السندي بن شاهك ثمانين رجلاً من
ص: 226
الوجوه، ممن ينسب إلى الخير، فأدخلنا على موسى بن جعفر. فقال لنا السندي: يا هؤلاء، انظروا إلى هذا الرجل، هل حدث به حدث، فإن الناس يزعمون أنه قد فُعل مكروه به، ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفرشه، موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به الأمير سوءاً، وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره الأمير، وها هو ذا صحيح موسع عليه في جميع أمره، فاسألوه. قال: ونحن ليس لنا هم إلا النظر إلى الرجل، وإلى فضله وسمته. فقال (عليه السلام) : «إني أخبركم أيها النفر، أني قد سقيت السم في تسع تمرات، وأني أخضر غداً، وبعد غد أموت». قال: فنظرت إلى السندي بن شاهك يرتعد ويضطرب مثل السعفة(1).
وفي رواية: لما توفي أبو إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) ، جمع هارون العباسي شيوخ الطالبية، وبني العباس، وسائر أهل المملكة والحكام، وأحضر أبا إبراهيم موسى بن جعفر. فقال: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه، وما كان بيني وبينه ما أستغفر اللّه منه في أمره - يعني في قتله - فانظروا إليه. فدخل عليه سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) وليس به أثر جراحة ولا خنق(2).
وروي أن السندي بن شاهك حضر بعدما كان بين يديه السم في الرطب، وأنه (عليه السلام) أكل منها عشر رطبات. فقال له السندي: تزداد؟. فقال (عليه السلام) له: «حسبك قد بلغت ما يحتاج إليه فيما أمرت به». ثم إنه أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام وأخرجه إليهم، وقال: إن الناس يقولون: إن أبا الحسن موسى
ص: 227
في ضنك وضر وها هوذا، لا علة به ولا مرض ولا ضر. فالتفت (عليه السلام) فقال لهم: «اشهدوا عليَّ أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، وأصفر غداً صفرة شديدة، وأبيض بعد غد، وأمضي إلى رحمة اللّه ورضوانه». فمضى (عليه السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث(1).
قُتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ببغداد، شهيداً مسموماً في حبس هارون العباسي، بعد مضي خمسة عشرة سنة من ملكه، على يد السندي بن شاهك، وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة على المشهور، وعمره الشريف خمس وخمسون سنة.
عن عبد اللّه بن طاووس، قال: قلت للرضا (عليه السلام) : إن يحيى بن خالد سم أباك موسى بن جعفر (صلوات اللّه عليه)؟. قال: «نعم، سمه في ثلاثين رطبة»(2).
وقد سبق أن السندي بن شاهك سم الإمام (عليه السلام) بأمر من هارون ويحيى.
وبعد ما توفي الإمام (عليه السلام) مسموماً، أراد هارون أن يغطي على جريمة قتله للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .
فأمر السندي بن شاهك بعد مقتل الإمام بدعوة جمع من فقهاء بغداد ووجهائها؛ ليؤكد لهم بأن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) توفي بالموت الطبيعي من
ص: 228
دون تقصير من السلطات الظالمة. فقال السندي: انظروا إلى جسده حيث لا جراحة فيها، ولا آثار تعذيب.. ولكن فشلت هذه الخطة أيضاً.
روي أنه لما مات الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالسم، أدخل السندي بن شاهك عليه الفقهاء، ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره، فنظروا إليه لا أثر به من جراح ولا خمش، وأشهدهم على أنه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك، ولكن اللّه فضحهم بعد ذلك(1).
وكان من شدة ظلمهم، أنهم أرادوا إهانة الإمام (عليه السلام) والاستخفاف به، فجاءوا بأربعة حمالين حملوا النعش الطاهر من السجن، وجعلوا الجنازة المقدسة على جسر بغداد، ونادى المنادي:
هذا إمام الرافضة موسى بن جعفر، وقد مات بموت طبيعي، فليأت كل من يريد أن ينظر إليه، كما نادوا بنداءات أخرى تتضمن إهانة الإمام (عليه السلام) .
فجعل الناس يتفرسون في وجه الإمام (عليه السلام) ، وهم شاكون في سبب موت الإمام (عليه السلام) ، إلى أن جاء طبيب نصراني ونظر إلى راحة كف الإمام الكاظم (عليه السلام) . فقال للناس: إن هذا الرجل قتل بالسم، فقولوا لعشيرته أن يطالبوا بدمه.
وهكذا فضح اللّه هارون وجلاوزته، وعرف الناس أن الإمام (عليه السلام) مات مسموماً في سجونهم.
فصارت الضجة في الناس، وانقلب السحر على الساحر، حتى خاف هارون من الفتنة والقيام ضده، فخرج من بغداد، وأمر بعض جلاوزته بأن يتظاهروا بإكرام جنازة الإمام (عليه السلام) ، ويدفنوه في مقابر قريش في كاظمية اليوم.
ص: 229
لما توفي الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مسموماً، أخرجوه للناس وعملوا محضراً بأنه مات حتف أنفه، وتركوا جثمان الإمام (عليه السلام) ثلاثة أيام على الطريق، يأتي من يأتي فينظر إليه ثم يكتب في المحضر(1).
عن عمر بن واقد، قال: أرسل إليَّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد يستحضرني، فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم ركبت إليه، فلما رآني مقبلاً قال: يا أبا حفص، لعلنا أرعبناك وأفزعناك. قلت: نعم. قال: فليس هنا إلاّ خير. قلت: فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري. فقال: نعم. ثم قال: يا أبا حفص، أتدري لم أرسلت إليك؟. فقلت: لا. فقال: أ تعرف موسى بن جعفر؟. فقلت: إي واللّه إني لأعرفه، وبيني وبينه صداقة منذ دهر. فقال: مَن هاهنا ببغداد يعرفه ممن يقبل قوله؟. فسميت له أقواماً، ووقع في نفسي أنه (عليه السلام) قد مات. قال: فبعث وجاء بهم كما جاء بي. فقال: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟. فسموا له قوماً، فجاء بهم فأصبحنا ونحن في الدار نيف وخمسون رجلاً ممن يعرف موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد صحبه. قال: ثم قام فدخل وصلينا، فخرج كاتبه ومعه طومار، فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا وحلانا، ثم دخل إلى السندي. قال: فخرج السندي فضرب يده إليَّ. فقال لي: قم يا أبا حفص. فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا. فقال لي: يا أبا حفص، اكشف الثوب عن وجه موسى بن
ص: 230
جعفر. فكشفته فرأيته ميتاً، فبكيت واسترجعت، ثم قال للقوم: انظروا إليه. فدنا واحد بعد واحد، فنظروا إليه. ثم قال: تشهدون كلكم أن هذا موسى بن جعفر بن محمد. فقلنا: نعم نشهد أنه موسى بن جعفر بن محمد (عليه السلام) . ثم قال: أ ترون به أثراً تنكرونه؟. فقلنا: لا ما نرى به شيئاً، ولا نراه إلاّ ميتاً(1).
وهكذا أرادوا أن يغطوا على ما قام به هارون ولكن اللّه فضحهم.
واستمرت هذه الخطة حتى على شفير القبر، فعن يونس بن عبد الرحمن، قال: حضر الحسين بن علي الرواسي جنازة أبي إبراهيم (عليه السلام) ، فلما وضع على شفير القبر، إذا رسول من السندي بن شاهك قد أتى أبا المضا خليفته، وكان مع الجنازة أن اكشف وجهه للناس قبل أن تدفنه حتى يروه صحيحاً لم يحدث به حدث(2).
ثم إنه لما حصل هذا الظلم من هارون بالنسبة إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وجنازته، خاف الفتنة وثورة الناس والهاشميين عليه. فإنهم لما قتلوا موسى بن جعفر (عليه السلام) نادوا عليه بذلّ الاستخفاف: هذا إمام الرافضة فاعرفوه، ولما أتي به مجلس الشرطة أقاموا عليه أربعة نفر ونادوا: ألا من أراد أن يرى الخبيث ابن الخبيث! - والعياذ باللّه - فليخرج.
فلم يتحمل الناس هذا الجفاء على أولاد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وخاف هارون الفتنة.
ص: 231
فأرسل سليمان ليتدارك الوضع، وأخذ هارون يلعن السندي بن شاهك، ويتظاهر بأنه هو الذي قتل الإمام (عليه السلام) بالسم من دون علم هارون.
وكان سليمان بن أبي جعفر أحد جلاوزة هارون، ومن السفاكين والمجرمين، ومن أعوان السلطة الظالمة، وقد جنى جنايات كبيرة في قصة الشهيد حسين الفخ.
وقد أشار إليه هارون بأن يتدارك الموقف، فأخذ سليمان يتظاهر بالحزن واحترام جنازة الإمام، حيث نزل من قصره، ورمى العمامة من رأسه، وشق جيبه في مصيبة الإمام ليخدع الناس، وأمر غلمانه وشرطته بإبعاد تلك الزمرة المجرمة عن جنازة الإمام، ثم أخذ يمشي حافياً في التشييع، وأمر المنادي أن ينادي: من أراد أن ينظر إلى الطيب بن الطيب والطاهر بن الطاهر فليحضر جنازة الإمام.
ثم هيأ سليمان كفناً ثميناً، قيل إنه يقدر بخسمة آلاف دينار، وقد كتب عليه القرآن الكريم بأكمله، كل ذلك لكي يمتص النقمة الشعبية ضد الحكم العباسي.
فاجتمع أهل بغداد بأجمعهم وأخذوا بالبكاء والنحيب، فعلت أصواتهم من الأرض إلى السماء في تشييع الإمام (عليه السلام) ، حتى أوصلوا الجثمان إلى مقابر قريش، حيث مرقده الشريف الآن في الكاظمية المقدسة.
وفي رواية: خرج سليمان بن أبي جعفر من قصره إلى الشط، فسمع الصياح والضوضاء. فقال لولده وغلمانه: ما هذا؟.
قالوا: السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش.
فقال لولده وغلمانه: يوشك أن يفعل هذا به في الجانب الغربي، فإذا عبر به فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من السواد.
ص: 232
فلما عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم، وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم، ووضعوه في مفرق أربعة طرق، وأقام المنادين ينادون: ألا من أراد الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليخرج.
وحضر الخلق وغسل وحنط بحنوط فاخر، وكفنه بكفن فيه حبرة استعملت له بألفين وخمسمائة دينار عليها القرآن كله، واحتفى ومشى في جنازته متسلباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه هناك.
ثم كتب سليمان بخبره إلى هارون، فكتب هارون إلى سليمان بن أبي جعفر وهو يريد أن يبرأ نفسه كما أراد يزيد أن يبرأ نفسه من دم الإمام الحسين (عليه السلام) : وصلتك رحم يا عم، وأحسن اللّه جزاءك، واللّه ما فعل السندي بن شاهك لعنه اللّه ما فعله عن أمرنا(1).
لقد قام الإمام الرضا (صلوات اللّه عليه) بتجهيز والده الإمام الكاظم (عليه السلام) من غسل وتكفين وصلاة ودفن، كما في الرواية، فإن المعصوم (عليه السلام) لا يلي أمره إلا المعصوم (عليه السلام) (2).
ص: 233
19
حبس الإمام الكاظم (عليه السلام) في سجون هارون في البصرة وبغداد وغيرهما، أربعة عشر عاماً، وفي بعض التواريخ أربع سنوات وأكثر منها، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه.
وكان الإمام (عليه السلام) في هذه الفترة تحت الشدة والتعذيب الروحي والجسدي، ولكن التعذيب في سجن السندي بن شاهك اليهودي كان أكثر وأشد.
وكان هارون قد أمر بسجن الإمام في طوامير الأرض، بحيث لم يمكن تمييز الليل من النهار، كما ورد ذلك في زيارة الإمام (عليه السلام) والصلوات الخاصة عليه:
«السّلامُ عَلَى المُعَذّبِ في قَعْرِ السُّجُونِ، وَظُلَمِ المَطامير، ذِي السّاقِ المَرْضُوضِ بِحِلَقِ القُيود»(1).
وقد ذكر بعض المؤرخين إن القيود التي وضعت على الإمام في رقبته ويديه ورجليه كانت قرابة أربعمائة كيلو.
كان هارون العباسي هو الذي أمر بقتل الإمام، ويحيى بن خالد البرمكي هو
ص: 234
المنفذ للأمر، والسندي بن شاهك هو المباشر للقتل عبر إطعام الإمام الرطب المسموم.. وكل هؤلاء شركاء في جريمة قتل الإمام (عليه السلام) ، كما أن يزيد وابن زياد وعمر بن سعد وشمر كلهم شركاء في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) .
وقد لاقوا قتلة الإمام الكاظم (عليه السلام) بعض جزاء عملهم في الدنيا قبل الآخرة:
أما السندي بن شاهك، فعلى ما ذكره الشيخ المفيد (رحمه اللّه) ، ففي نفس اليوم الذي وضع نعش الإمام الكاظم (عليه السلام) على جسر بغداد ونادى عليه بذل الاستخفاف جره فرسه إلى الدجلة وغرق فيها، كما قال تعالى: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً}(1).
وأما يحيى البرمكي وعشيرته فقد تفرق جمعهم، وذهبت عزتهم، وذلوا أكبر مذلة، على ما نقله التاريخ مما جرى عليهم من القتل والمهانة والذل في كل مكان.
أما هارون العباسي، فروى سهل بن صائب قال: كنت حاضراً في سكرات هارون. فقال: ائتوني بملحفة، وكان يلوج بنفسه من الوجع، ولكنه لشدة قساوة قلبه وهو يعالج سكرات الموت، أمر بإحضار بشير بن ليث، وكان يحمل عداوة له. فقال له: سأقتلك شر قتلة. فأمر بقصاب فجاء وقطّعه قطعاً قطعاً. ثم أغمي على هارون، فلما أفاق وأيس من الحياة، أمر بإحضار أكفانه واختار بعضها، وقال: ادفنوني في هذا البيت الذي أنا فيه.
فحفروا له قبراً وكان ينظر إلى قبره ويقول: واحيائاه من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
وآخر ما قاله كانت الآية الكريمة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}(2).
ص: 235
20
روى المحدث الحاج النوري (رحمه اللّه) من كتاب الفرق في تاريخ الإمام الكاظم (عليه الصلاة والسلام) أن الإمام (عليه السلام) وصى بأن يدفن مع تلك القيود والسلاسل التي كانت عليه، فدفن معها(1).
ثم قال: هذا نظير ما رواه السيد علي خان في كتابه (الدرجات الرفيعة) في ترجمة حجر بن عدي (رضوان اللّه عليه) الذي قتله معاوية، فأوصى بأن لا يفك عنه تلك الأغلال والسلاسل وأن لا يغسلوا الدماء من نعشه، بل يدفنوه كما هو عليه ليخاصم معاوية يوم القيامة بها(2).
وجاء في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) : «أنه (عليه السلام) يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الحساب والقصاص حق، وأن الوقوف بين يدي اللّه عزَّ وجل حق، وأن ما جاء به محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق حق حق، وأن ما نزل به الروح الأمين حق، على ذلك أحيا وعليه أموت، وعليه
ص: 236
أبعث إن شاء اللّه. أشهدهم أن هذه وصيتي بخطي، وقد نسخت وصية جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ووصايا الحسن والحسين، وعلي بن الحسين ووصيه محمد بن علي ووصيه جعفر بن محمد (عليه السلام) قبل ذلك حرفاً بحرف. وأوصيت بها إلى علي ابني وبني بعده إن شاء، وآنس منهم رشداً، وأحب إقرارهم فذلك له، وإن كرههم وأحب أن يخرجهم فذلك له، ولا أمر لهم معه، وأوصيت إليه بصدقاتي وأموالي، وصبياني الذين خلفت وولدي...»(1).
عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: بعث إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) بوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبعث إليَّ بصدقة أبيه مع أبي إسماعيل مصادف، وذكر صدقة جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وصدقة نفسه:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به موسى بن جعفر، تصدق بأرضه مكان كذا وكذا، وحدود الأرض كذا وكذا، كلها ونخلها وأرضها ومائها، وأرجائها وحقوقها، وشربها من الماء، وكل حق هو لها في مرفع أو مظهر، أو عنصر أو مرفق، أو ساحة أو مسيل، أو عامر أو غامر، تصدق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء، يقسم واليها ما أخرج اللّه عزَّ وجل من غلتها بعد الذي يكفيها في عمارتها ومرافقها، وبعد ثلاثين عذقا يقسم في مساكين أهل القرية، بين ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الأنثيين...
... تصدق موسى بن جعفر (عليه السلام) بصدقته هذه وهو صحيح، صدقةً حبيساً بتاً بتلاً، لا مثنوية فيها ولا رد أبداً، ابتغاء وجه اللّه تعالى والدار الآخرة، ولا يحل
ص: 237
لمؤمن يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها، أو يهبها أو ينحلها، أو يغير شيئاً مما وضعتها عليه، حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها»(1).
ولا يخفى أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والصديقة فاطمة (عليها السلام) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) كانوا يعلمون الغيب، فيعلمون وقت شهادتهم وسببها، على ما ثبت ذلك بمتواتر الروايات.
فالإمام الكاظم (عليه السلام) كان يعلم بالرطب المسمومة، ومع ذلك تناولها ولم يكن ذلك من إلقاء النفس في التهلكة؛ لأن علم الغيب عندهم كان كالقدرة الغيبية التي يمتلكونها، ولكنهم لم يعملوا بذلك إلاّ بإذن اللّه تعالى، لتكون حياتهم حياة طبيعية يتخذهم الناس أسوةً يقتدون بهم.
وإلاّ فكان بإمكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يقضي على جميع الكفار بطرفة عين من دون حاجة إلى الحروب، كما كان بإمكانه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يستخرج جميع كنوز الأرض، بل يحول الرمال والحصى إلى الذهب والأحجار الكريمة، ويقضي على فقر المسلمين.
وكان بإمكان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أن يفوض الصلاة من فجر يوم 19رمضان إلى شخص آخر، أو يأخذ معه بعض الشرطة المسلحين وما أشبه.
وهذا بحث مفصل ذكرناه في بعض كتبنا، وأشرنا إلى أن ما ورد على خلاف ذلك؛ فإنه محمول على التقية، أو من باب «كلّم الناس على قدر عقولهم»(2)،
ص: 238
وفي الرواية: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»(1).
قال السندي: كنت سألته - أي الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) - في الإذن لي أن أكفّنه، فأبى وقال: «إنا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا، من طاهر أموالنا، وعندي كفن أريد أن يتولى غسلي وجهازي مولاي فلان»، فتولى ذلك منه(2).
وفي رواية لما حضرته الوفاة سأل الإمام (عليه السلام) السندي بن شاهك أن لا يغسله ولا يكفنه هو، بل سيأتي من يتولى غسله وتكفينه، أي ولده الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) .
وهكذا حضر الإمام الرضا (عليه السلام) ، وتولى تجهيز والده الكاظم (صلوات اللّه عليه).
وفي الحديث: لما علم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بقرب وفاته، دعا بالمسيب قبل وفاته بثلاثة أيام - وكان موكلاً به من قبل هارون، وقد هداه اللّه إلى التشيع، لما رأى المعاجز الكثيرة من الإمام (عليه السلام) في السجن - فقال له: «يا مسيب». فقال: لبيك يا مولاي. قال: «إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأعهد إلى علي ابني ما عهده إليَّ أبي، وأجعله وصيي وخليفتي، وآمره بأمري».
قال المسيب: فقلت: يا مولاي، كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها، والحرس معي على الأبواب؟.
ص: 239
فقال: «يا مسيب، ضعف يقينك في اللّه عزَّ وجل وفينا».
فقلت: لا يا سيدي. قال: «فمه؟». قلت: يا سيدي، ادع اللّه أن يثبتني. فقال: «اللّهم ثبته».
ثم قال (عليه السلام) : «إني أدعو اللّه عزَّ وجل باسمه العظيم، الذي دعا به آصف حتى جاء بسرير بلقيس، فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه، حتى يجمع بيني وبين ابني علي بالمدينة».
قال المسيب: فسمعته (عليه السلام) يدعو، ففقدته عن مصلاه، فلم أزل قائماً على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه، وأحاد الحديد إلى رجليه، فخررت لله ساجداً لوجهي شكراً على ما أنعم به عليَّ من معرفته. فقال لي: «ارفع رأسك يا مسيب، واعلم أني راحل إلى اللّه عزَّ وجل في ثالث هذا اليوم».
قال: فبكيت. فقال لي: «لا تبك يا مسيب؛ فإن علياً ابني هو إمامك ومولاك بعدي فاستمسك بولايته، فإنك لا تضل ما لزمته». فقلت: الحمد لله. قال: ثم إن سيدي (عليه السلام) دعاني في ليلة اليوم الثالث. فقال لي: «إني على ما عرفتك من الرحيل إلى اللّه عزَّ وجل، فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها، ورأيتني قد انتفخت، وارتفع بطني، واصفر لوني واحمر واخضر وتلون ألواناً، فخبر الطاغية بوفاتي، فإذا رأيت بي هذا الحدث، فإياك أن تظهر عليه أحداً، ولا على من عندي إلاّ بعد وفاتي».
قال المسيب بن زهير: فلم أزل أرقب، وعده حتى دعا (عليه السلام) بالشربة فشربها، ثم دعاني فقال لي: «يا مسبب، إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها».
ص: 240
قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به (عليه السلام) ، جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام، فأردت سؤاله. فصاح بي سيدي موسى (عليه السلام) وقال لي: «أ ليس قد نهيتك يا مسيب». فلم أزل صابراً حتى مضى وغاب الشخص، ثم أنهيت الخبر إلى هارون، فوافى السندي بن شاهك، فو اللّه لقد رأيتهم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه، فلا تصل أيديهم إليه، ويظنون أنهم يحنطونه ويكفنونه، وأراهم لا يصنعون به شيئاً، ورأيت ذلك الشخص يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه، وهو يظهر المعاونة لهم، وهم لا يعرفونه. فلما فرغ من أمره قال لي ذلك الشخص: «يا مسيب، مهما شككت فيه فلا تشكن فيَّ، فإني إمامك ومولاك وحجة اللّه عليك بعد أبي. يا مسيب، مثلي مثل يوسف الصديق (عليه السلام) ، ومثلهم مثل إخوته حين دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون»، ثم حُمل (عليه السلام) حتى دفن في مقابر قريش(1).
في الكافي: عن يونس، عن طلحة، قال: قلت للرضا (عليه السلام) : إن الإمام لا يغسله إلاّ الإمام،؟. فقال: «أما تدرون من حضر يغسله، قد حضره خير ممن غاب عنه، الذين حضروا يوسف في الجب حين غاب عنه أبواه وأهل بيته»(2).
أقول: والجمع بين الروايات دليل على حضور الملائكة مع المعصوم (عليه السلام) في تجهيزه (عليه السلام) .
ص: 241
21
دُفن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بمدينة السلام ببغداد، في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش، مما عرف بعد ذلك بالكاظمية المقدسة.
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : وكانت هذه المقبرة لبني هاشم، والأشراف من الناس قديماً(1).
قال الشيخ البهائي (رحمه اللّه) لما وقع نظره على القبتين المباركتين:
ألا يا قاصد الزوراء عرج***على الغربي من تلك المغاني
ونعليك اخلعن واسجد خضوعاً***إذا لاحت لديك القبتان
فتحتهما لعمرك نار موسى***ونور محمد متقارنان(2)
وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) ، أنه قال: «قبر أبي ببغداد أمان لأهل الجانبين»(3).
ص: 242
22
قال بعض المؤرخين: إنه كان لأبي الحسن موسى (عليه السلام) سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى(1).
وعن (عمدة الطالب) أن أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كانوا ستين نفراً بين ذكر وأنثى، سبعة وثلاثون منهم من الإناث، وثلاثة وعشرون منهم من الذكور(2).
وهكذا ذكر صاحب (الفصول المهمة)(3).
وإن كان المشهور أن أولاد الإمام الكاظم (عليه السلام) بأجمعهم كانوا سبعة وثلاثين شخصاً، منهم ثمانية عشر ولداً، وتسع عشرة بنتاً.
وفي رواية: قال هارون: يا أبا الحسن، ما عليك من العيال؟. فقال: «يزيدون على الخمسمائة». قال: أولاد كلهم؟ قال: «لا، أكثرهم موالي وحشم، فأما الولد فلي نيف وثلاثون، الذكران منهم كذا، والنسوان منهم كذا»(4).
ص: 243
قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : كان لأبي الحسن (عليه السلام) سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى، وعد الذكور ثمانية عشر والإناث تسع عشرة(1).
وهم حسب ما ذكره بعض العلماء:
علي الرضا (عليه السلام) ، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، لأمهات أولاد.
وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن، لأم ولد.
وأحمد، ومحمد، وحمزة، لأم ولد.
وعبد اللّه، وإسحاق، وعبيد اللّه، وزيد، والحسن، والفضل، وسليمان، لأمهات أولاد.
وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، وفاطمة الوسطى، ورقية، وحكيمة، وأم أبيها، ورقية الصغرى، وكلثم، وأم جعفر، ولبابة، وزينب، وخديجة، وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم.
وغيرهم من الأولاد والبنات.
أقول: ما ذكره البعض من (عائشة) في بنات الإمام (عليه السلام) ليس بصحيح، فإنه لم يكن في أولاد الأئمة (عليهم السلام) من تسمى بعائشة، ولا من يسمى بعمر وأبي بكر.
وقال بعض: ولد له (عليه السلام) عشرون ابناً وثمان عشرة بنتاً. وهم: علي الرضا (عليه السلام) الإمام، وزيد، وإبراهيم، وعقيل، وهارون، والحسن، والحسين، وعبد اللّه، وإسماعيل، وعبيد اللّه، وعمار، وأحمد، وجعفر، ويحيى، وإسحاق، والعباس، وعبد الرحمن، والقاسم، وجعفر الأصغر.
أقول: ما ذكره البعض من عمر، فهو تصحيف وتحريف، بل هو محمد، أو
ص: 244
عمار.
والبنات: خديجة، وأم فروة، وأسماء، وعلية، وفاطمة، وأم كلثوم، وآمنة، وزينب، وأم عبد اللّه، وزينب الصغرى، وأم القاسم، وحكيمة، وأسماء الصغرى، ومحمودة، وأمامة، وميمونة.
وعدّ البعض الفواطم أربعاً.
وقال بعض علماء السير: له (عليه السلام) عشرون ذكراً وعشرون أنثى.
وقال ابن شهر آشوب في المناقب: أولاده ثلاثون فقط، ويقال سبعة وثلاثون، فأبناؤه ثمانية عشر، ولكنه عدّهم عشرين، وجعل الحسن بدل الحسين، وزاد الفضل، ونقص جعفر الأصغر، وذكر محمداً ولم يذكر عمر.
قال: وبناته تسع عشرة، إلاّ أنه عدهن عشرين: خديجة، وأم فروة، وأم أبيها، وعلية، وفاطمة، وفاطمة، وبريهة، وكلثم، وأم كلثوم، وزينب، وأم القاسم، وحكيمة، ورقية الصغرى، وأم دحية، وأم سلمة، وأم جعفر، ولبابة، وأسماء، وأمامة، وميمونة(1).
وقيل أكثر من ذلك(2)، فذكر منهم: عبد الرحمن وعقيل والقاسم ويحيى وداود، ولم يعقبوا.
ومنهم: سليمان والفضل وأحمد، قيل: إن لهم أناث وليس لأحد منهم ذكر.
ومنهم: الحسين وإبراهيم الأكبر وهارون وزيد والحسن، وفي أعقابهم خلاف.
ومنهم علي وإبراهيم الأصغر والعباس وإسماعيل ومحمد وإسحاق وحمزة
ص: 245
وعبد اللّه وعبيد اللّه وجعفر، وقد أعقبوا بغير خلاف.
وقال بعض: أعقب موسى الكاظم (عليه السلام) من ثلاثة عشر ولداً رجلاً، منهم أربعة مكثرون وهم علي الرضا وإبراهيم المرتضى ومحمد العابد وجعفر، وأربعة متوسطون وهم زيد النار وعبد اللّه وعبيد اللّه وحمزة، وخمسة مقلون وهم العباس وهارون وإسحاق وإسماعيل والحسن.
وكان لكل واحد من ولد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضل ومنقبة مشهورة، وكان الإمام الرضا (عليه السلام) المقدم عليهم في الفضل، فهو (عليه السلام) أنبههم وأعظمهم قدراً وأجمعهم فضلاً، وهو الإمام من بعد أبيه، وحجة اللّه على الخلق أجمعين. وقد أشرنا إلى بعض أحواله في كتاب مختصر(1).
وأفضل بناته: السيدة فاطمة المعصومة (صلوات اللّه عليها) المدفونة في قم المقدسة.
وهذه إشارة إلى بعض أحوالهم (عليهم السلام) .
كان إسماعيل أكبر أولاد الإمام الصادق (عليه السلام) ، وكان الإمام شديد المحبة له والبر به والإشفاق عليه.
مات إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام) في حياة أبيه (عليه السلام) ، وكان يتصور البعض أنه هو الإمام من بعد أبيه، وقد شاء اللّه تعالى أن يكون إسماعيل فداءً للإمام
ص: 246
موسى بن جعفر (عليه السلام) .
كما هو كذلك في قصة موت السيد محمد والإمام العسكري (عليهما السلام) ، فكان السيد محمد (عليه السلام) فداءً للإمام العسكري (عليه السلام) ، وذلك للحفاظ على الإمام من أيدي الطغاة، وكذلك للحفاظ على إمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) الذي يكون من نسله (عليه السلام) ، والظاهر أن بني العباس هم الذين سمموا السيد محمد بن الإمام الهادي (عليه السلام) فقتلوه بالسم.
يقول أبو هاشم الجعفري: في المعزين كنت... وهكذا خطر ببالي أن السيد محمد أصبح فداءً للإمام العسكري (عليه السلام) كما أصبح إسماعيل فداءً لموسى بن جعفر (عليه السلام) ، فقال لي الإمام (عليه السلام) : «كما حدثتك نفسك»(1).
ثم إن قوماً من الشيعة ظنوا أن إسماعيل (عليه السلام) القائم بعد أبيه بالإمامة، لذلك البرّ من قبل أبيه، وتلك الرعاية منه، ولأنه (عليه السلام) أكبر إخوته سنّاً، ولكن موته أيام أبيه أزال ذلك الظن.
وقد أكد الإمام الصادق (عليه السلام) على موت إسماعيل كراراً لتتم الحجة.
فإنه (عليه السلام) بعد أن مات إسماعيل وغُطّي، أمر (عليه السلام) بأن يكشف عن وجهه وهو مسجّى، ثمّ قبّل جبهته وذقنه ونحره، ثمّ أمر به فكشف وفعل به مثل الأوّل، ولمّا غسّل وأدرج في أكفانه، أمر به فكشف عن وجهه ثمّ قبّله في تلك المواضع ثالثاً، ثمّ عوّذه بالقرآن، ثمّ أمر بإدراجه.
وفي رواية أخرى: إنه (عليه السلام) أمر المفضّل بن عمر فجمع له جماعة من أصحابه
ص: 247
حتّى صاروا ثلاثين، وفيهم أبو بصير وحمران بن أعين وداود الرقي، فقال (عليه السلام) لداود: «اكشف عن وجهه». فكشف داود عن وجه إسماعيل، فقال (عليه السلام) : «تأمّله يا داود فانظره أحيّ هو أم ميّت؟».
فقال: بل هو ميّت.
فجعل (عليه السلام) يعرض على رجل رجل حتّى أتى على آخرهم. فقال: «اللّهمّ اشهد». ثمّ أمر (عليه السلام) بغسله وتجهيزه. ثمّ قال: «يا مفضّل احسر عن وجهه».
فحسر عن وجهه، فقال: «حيّ هو أم ميّت؟، انظروه جميعكم».
فقالوا: بل هو يا سيّدنا ميّت.
فقال: «شهدتم بذلك وتحققتموه؟».
قالوا: نعم، وقد تعجّبوا من فعله.
فقال (عليه السلام) : «اللّهمّ اشهد عليهم».
ثمّ حُمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه». فكشف فقال للجماعة: «انظروا أ حيّ هو أم ميّت؟».
فقالوا: بل ميّت يا وليّ اللّه.
فقال: «اللّهمّ اشهد».
ثمّ أعاد عليهم القول في ذلك بعد دفنه، فقال لهم: «الميّت المكفّن المحنّط المدفون في هذا اللحد من هو؟».
فقالوا: إسماعيل ولدك.
فقال: «اللّهمّ اشهد»(1).
ص: 248
وكان هذا الإصرار من الإمام (عليه السلام) على أن يعرف الناس موت إسماعيل، حتّى لا تبقى شبهة ولا ريب بموته، وكان يعلم الإمام (عليه السلام) أن قوماً سيقولون بإمامته؛ لأنه الأكبر زعماً منهم أنه لم يمت، فما فعل ذلك إلاّ ليقيم الحجّة عليهم. وقد قال (عليه السلام) بعد أن وضع إسماعيل في لحده وأشهد القوم على موته: «فإنه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور اللّه»، ثمّ أومى إلى موسى (عليه السلام) ، ولمّا أن دفن إسماعيل وأشهدهم، أخذ بيد موسى (عليه السلام) فقال: «هو حقّ والحقّ معه إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها»(1).
وقد حزن الإمام الصادق (عليه السلام) على ولده كثيراً، روي أنه ظهر على الصادق (عليه السلام) الحزن الشديد حين حضر إسماعيل الموت، وسجد سجدة طويلة، ثمّ رفع رأسه فنظر الى إسماعيل قليلاً، ونظر الى وجهه، ثمّ سجد أخرى أطول من الأولى، ثمّ رفع رأسه فغمضه، وربط لحييه، وغطّى عليه ملحفته، ثمّ قام ووجهه قد دخله شيء عظيم حتّى أحسّ ذلك منه من رآه(2).
هذا ومدفن إسماعيل (عليه السلام) في البقيع، وقد قام الوهابيون بهدم ضريحه، نسأل اللّه عزوجل أن يوفق المسلمين لإعادة تلك القباب الطاهرة في بقيع الغرقد.
ومن المحتمل قريباً أن بني العباس هم الذين سمموا إسماعيل (عليه السلام) وقتلوه، فإنهم كانوا يتصورون أنه هو الإمام من بعد أبيه الصادق (عليه السلام) فقضوا عليه، وهذا ربما يفسر قوله (عليه السلام) : «إن إسماعيل أصبح فداءً لموسى بن جعفر (عليه السلام) ».
ص: 249
السيدة الجليلة فاطمة المعصومة (عليها الصلاة والسلام) بنت الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) المدفونة في بلدة قم الطيبة، ولها قبة عالية وضريح مجلل، وأروقة وصحون متعددة، وعشرات الخدام والخادمات، والموقوفات العديدة الكثيرة، ويقصدها الزوار المؤمنون من كل بلاد الشيعة في العالم.
وفي جوار مرقدها حوزة علمية كبيرة يدرّس فيها علوم أهل البيت (عليهم السلام) .
وقد ذكر العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في سبب مجيء السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) إلى قم، أنه لما طلب المأمون العباسي الإمام الرضا (عليه السلام) نحو خراسان في سنة 200 هجرية، خرجت أخته فاطمة المعصومة (عليها الصلاة والسلام) بعد سنة من ذلك؛ لزيارة أخيها (عليها السلام) من المدينة نحو خراسان، فلما وصلت إلى منطقة ساوة تمرضت.
أقول: كان مرضها على أثر السم، حيث أمر المأمون العباسي جلاوزته بجعل السم في طعامها، فماتت بعد ذلك بأيام في قم المقدسة.
روي أنه لما أخرج المأمون علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى المرو في سنة مائتين خرجت فاطمة (عليها السلام) أخته في سنة إحدى ومائتين تطلبه. فلما وصلت إلى ساوه مرضت، فسألت كم بيني وبين قم؟. قالوا: عشرة فراسخ. فأمرت خادمها فذهب بها إلى قم، وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن سعد(1).
وفي رواية: إنه لما وصل الخبر إلى آل سعد اتفقوا وخرجوا إليها (عليها السلام) ، فطلبوا منها النزول في بلدة قم، فخرج من بينهم موسى بن خزرج، فلما وصل إليها
ص: 250
أخذ بزمام ناقتها، وجرها إلى قم، وأنزلها في داره. فكانت فيها ستة عشر يوماً - وقيل سبعة أيام - ثم مضت إلى رحمة اللّه ورضوانه، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له، وهي التي الآن مدفنها، وبنى على قبرها سقفاً من البواري(1).
وفي رواية: لما توفيت فاطمة (عليها السلام) وغسلوها وكفنوها ذهبوا بها إلى بابلان ووضعوها على سرداب حفروه لها، فاختلف آل سعد بينهم في من يدخل السرداب ويدفنها فيه، فاتفقوا على خادم لهم شيخ كبير صالح يقال له: قادر، فلما بعثوا إليها رأوا راكبين سريعين متلثمين يأتيان من جانب الرملة فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها ودخلا السرداب وأخذا الجنازة فدفناها ثم خرجا وركبا وذهبا ولم يعلم أحد من هما، والمحراب الذي كانت فاطمة (عليها السلام) تصلي إليها موجود إلى الآن في دار موسى بن الخزرج، ثم ماتت أم محمد بنت موسى بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) فدفنوها في جنب فاطمة (عليها السلام) . ثم توفيت ميمونة أختها فدفنوها هناك أيضاً، وبنوا عليهما أيضا قبة، ودفن فيها أم إسحاق جارية محمد وأم حبيب جارية محمد بن أحمد الرضا وأخت محمد بن موسى (عليهم السلام) (2).
وروى المحقق القمي (رحمه اللّه) في كتابه (جامع الشتات) أن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ماتت قبل الإمام الرضا (عليه السلام) وفي حياته.
أقول: وقد رأيت في كتاب أن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ماتت مسمومة بسم بعثه المأمون العباسي(3).
ص: 251
كما ورد في التاريخ أن أكثر ذراري أهل البيت (عليهم السلام) الذين جاؤوا نحو إيران ليتشرفوا بزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) ، قد ماتوا بالسيف أو بالسم على يد جلاوزة المأمون العباسي وبأمر منه.
ومن هنا نرى كثرة قبور ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مختلف مدن إيران خاصة ما يقع في طريق خراسان من جانب الحجاز.
وقد قال لي أحد العلماء المتتبعين الثقات:
إن قبور ذراري أهل البيت (عليهم السلام) في إيران تصل إلى ثلاثة آلاف قبر، والعلم عند اللّه(1).
ونقل القاضي نور اللّه (رحمه اللّه) (2) في كتابه..
ص: 252
(مجالس المؤمنين)(1) عن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام):
ص: 253
«إن لله حرماً وهو مكة، ألا إن لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرماً وهو المدينة، ألا وإن لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرماً وهو الكوفة، ألا وإن قم الكوفة الصغيرة. ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم»(1).
وربما يكون المراد بتمام الشيعة، جميع من لم يشمله شفاعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والصديقة فاطمة (عليها السلام) ، وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، فتشملهم شفاعة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) .
أو أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بإضافة السيدة معصومة (عليها السلام) بأجمعهم يشفعون للشيعة بجميعهم، فكل الشيعة يدخلون الجنة بسبب الشفاعة.
ص: 254
أو أنه تجتمع الشفاعات من قبل أكثر من معصوم (عليه السلام) في شخص واحد فترتفع درجاته أكثر فأكثر، فكل منهم (عليهم السلام) يشفع لكل من الشيعة.
وقد رأى أحد العلماء السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في المنام فسألها: هل صحيح أنك تشفعين لأهل قم.
فقالت: الذي يشفع لأهل قم هو الميرزا القمي (رحمه اللّه) ، أما أنا فأشفع لأهل العالم.
وربما يكون المراد - والعلم عند اللّه - أن الميرزا القمي له هذه الصلاحية، كما أن السيدة المعصومة (عليها السلام) لها تلك الصلاحية الكبرى.
ومن أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : زيد.
ولا يخفى أن ما نسبه البعض إلى زيد النار، وكذلك ما نسبوه إلى علي بن إسماعيل، أو سائر أولاد الإمام (عليه السلام) ، أو ذراري الأئمة (عليهم السلام) ، لا سند صحيح له، مضافاً إلى اختلاف المؤرخين في ما ذكر، فأولاً لم يثبت تاريخياً، وثانياً لا صحة لذلك، فإنه وأمثاله من مفتريات بني العباس، كما كانت هناك مفتريات من قبل بني أمية ومن أشبه ضد العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، أو من ينتسب إليهم.
وقد أشرنا إلى ذلك في حياة الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وبعض الكتب الأخرى.
وهكذا ما ورد في محمد بن عبد اللّه الأرقط، فإنه من مقتضيات التقية.
ومن أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) هو: القاسم.
روى الكافي في أصوله عن الإمام الكاظم (عليه السلام) ، قال: «ولو كان الأمر إليَّ
ص: 255
لجعلته في القاسم ابني، لحبي إياه ورأفتي عليه، ولكن ذلك لله عزوجل»(1).
وهذا المعنى تأكيد على أن الإمامة من اللّه، وكناية عن جلالة قاسم وعظم شأنه، ليس المراد المعنى المطابقي، وذلك مثل قولهم: (فلان كثير الرماد)، أو (جبان الكلب)، أو (طويل النجاد)، حيث أريد منها المعاني الكنائية لا المعاني الحقيقية تحت اللفظية.
قال علماؤنا: إن القاسم بن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، هو من أولاد الأئمة (عليهم السلام) الذين يعلم بجلالتهم، ويعرف موضع قبرهم، فإن قبره على ثمانية فراسخ من الحلة في العراق، وله مزار يزوره مختلف الناس، وكبار العلماء والأخيار.
وفي البحار:
القاسم بن موسى بن جعفر (عليه السلام) : كان يحبه أبوه حباً شديداً، وأدخله في وصاياه.
وقد نص السيد الجليل النقيب الطاهر رضي الدين علي بن موسى بن طاووس في كتابه مصباح الزائر على استحباب زيارته، وقرنه بأبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين الأكبر (عليهم السلام) المقتول بالطف، وذكر لهم ولمن يجري مجراهم زيارة ذكرها في كتابه «مصباح الزائر» مخطوط، وقبر القاسم قريب من الحلة السيفية عند الهاشمية، وهو مزار متبرك به، يقصده الناس للزيارة وطلب البركة، وقد ذكر قبره ياقوت في معجم البلدان والبغدادي في مراصد الاطلاع أن شوشة قرية بأرض بابل أسفل من حلة بني مزيد بها قبر القاسم بن موسى بن جعفر، إلخ.
وقد جعله الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) متولياً على صدقته بعد وفاة علي أو
ص: 256
إبراهيم.
ومن أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو: محمد.
في الإرشاد(1):
عن هاشمية مولاة رقية بنت موسى قالت: كان محمد بن موسى صاحب وضوء وصلاة، وكان ليله كله يتوضأ ويصلي، ويسمع سكب الماء، ثم يصلي ليلاً ثم يهدأ ساعة، فيرقد فيقوم ويسمع سكب الماء والوضوء، ثم يصلي ليلاً، ثم يرقد سويعة، ثم يقوم فيسمع سكب الماء والوضوء، ثم يصلي ولا يزال ليله كذلك حتى يصبح، وما رأيته إلا ذكرت قول اللّه عزَّ وجل {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ}(2).
ومن أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو: إبراهيم.
وكان إبراهيم بن موسى سخياً كريماً، وتقلد الإمرة على اليمن في أيام المأمون من قبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي بايعه أبو السرايا بالكوفة، ومضى إليها ففتحها، وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، فأخذ له الأمان من المأمون(3).
ومن أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : السيد أحمد بن موسى المعروف ب
ص: 257
(شاه جراغ) المدفون في مدينة شيراز، وكان سيداً كريماً جليل القدر كثير الورع، وكان يكرمه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ويحبه، ويقدمه على بعض أولاده. ووهب له ضيعته المعروفة باليسيرة(1).
وفي التاريخ أن السيد أحمد بن موسى أعتق ألف مملوك في سبيل اللّه، وقد قال الشعراء في ذلك:
شاه جراغ أحمد بن كاظم***أعتق ألفاً سيد الأعاظم
أما سبب تسميته بشاه جراغ فهو مذكور في الكتب المفصلة(2).
ص: 258
23
كان مما وقع في عصر الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) قصة الحسين شهيد فخ (رضوان اللّه عليه).
والفَخّ بئر قريب من مكة بفرسخ تقريباً، وشهيد فخ هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) ، وأمه زينب بنت عبد اللّه بن الحسن.
خرج في أيام موسى الهادي العباسي ابن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور الدوانيقي، وخرج معه جماعة كثيرة من العلويين. وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة تسع وستين ومائة وذلك بعد موت المهدي بمكة وخلافة الهادي ابنه.
وكان الحسين شهيد فخ سيد السادة من ولد الإمام الحسن (عليه السلام) .
وقد ورد في أحواله أنه جاء إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) واستأذنه في الثورة، فالتفت إليه الإمام (عليه السلام) ، وقال: «يا بن عم، إنك مقتول فأجد الضراب، فإن القوم فسّاق، يظهرون إيماناً، ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند اللّه عزَّ وجل أحتسبكم من عصبة»(1).
وعندما جاء الجند برؤوس شهداء فخ عند موسى بن عيسى والعباس بن أبي محمد، وعندهما جماعة من ولد الحسن والحسين، فلم يتكلم أحد منهم بشيء
ص: 259
إلاّ موسى بن جعفر (عليه السلام) . قيل له: هذا رأس الحسين؟. قال: «نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى واللّه مسلماً صالحاً، صواماً، قواماً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله»(1).
وروى أبو الفرج بإسناده عن إبراهيم بن إسحاق القطان، قال: سمعت الحسين بن علي ويحيى بن عبد اللّه يقولان: ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر، فأمرنا بالخروج(2).
وكان الحسين صاحب فخ في السادسة والعشرين من عمره الشريف عندما استشهد (رضوان اللّه تعالى عليه).
وقد رثاه دعبل الخزاعي(3) في قصيدته التائية المشهورة، حيث قال:
ص: 260
ص: 261
قبور بكوفان وأخرى بطيبة***وأخرى بفخ نالها صلواتِ(1)
عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال: «مر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بفخ، فنزل فصلى ركعة، فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة، فلما رأى الناس النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي بكوا. فلما انصرف قال: ما يبكيكم؟.
قالوا: لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول اللّه.
قال: نزل عليَّ جبرئيل لما صليت الركعة الأولى فقال لي: يا محمد، إن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان، وأجر الشهيد معه أجر شهيدين»(2).
وفي رواية عن النضر بن قرواش، قال: أكريت جعفر بن محمد (عليه السلام) من المدينة، فلما رحلنا من بطن مر. قال لي: «يا نصر إذا انتهيت إلى فخ فأعلمني».
قلت: أ و لست تعرفه!.
ص: 262
قال: «بلى، ولكن أخشى أن تغلبني عيني».
فلما انتهينا إلى فخ، دنوت من المحمل فإذا هو نائم، فتنحنحت فلم ينتبه، فحركت المحمل فجلس. فقلت: قد بلغت.
فقال: «حل محملي - ثم قال - صل القطار».
فوصلته ثم تنحيت به عن الجادة، فأنخت بعيره. فقال: «ناولني الإداوة والركوة»، فتوضأ (عليه السلام) وصلى ثم ركب.
فقلت له: جعلت فداك، رأيتك قد صنعت شيئا أ فهو من مناسك الحج؟.
قال: «لا، ولكن يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة»(1).
وعن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) أنه قال: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ»(2).
ويستفاد من هذه الروايات وغيرها أن ثورة الحسين شهيد فخ وأصحابه كانت بإذن المعصوم (عليه السلام) ، فكل منهم عمل بوظيفته، شهيد فخ بالثورة، والإمام (عليه السلام) بعدم المشاركة الظاهرية.
قيل(3): كان سبب خروج الحسين (عليه السلام) شهيد فخ أن الهادي العباسي ولّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز، فحمل على الطالبيين وأساء إليهم، وطالبهم
ص: 263
بالعرض كل يوم في المقصورة. ووافى أوائل الحاج، وقدم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً، ولقوا حسيناً وغيره. فبلغ ذلك العمري، وأغلظ أمر العرض وألجأهم إلى الخروج. فجمع الحسين يحيى وسليمان وإدريس بني عبد اللّه بن الحسن وعبد اللّه بن الحسن الأفطس وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن المثلث وعبد اللّه بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن المثنى وعبد اللّه بن جعفر الصادق (عليه السلام) ، ووجهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم، فاجتمعوا ستة وعشرين رجلاً من ولد علي (عليه السلام) ، وعشرة من الحاج وجماعة من الموالي. فلما أذن المؤذن الصبح دخلوا المسجد ونادوا: أجد أجد. وصعد الأفطس المنارة، وجبر المؤذن على قول «حي على خير العمل». فلما سمعه العمري أحس بالشر ودهش، ومضى هارباً على وجهه يسعى ويضرط حتى نجا. وصلى الحسين بالناس الصبح، ولم يتخلف عنه أحد من الطالبيين إلاّ الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن وموسى بن جعفر (عليه السلام) . فخطب بعد الصلاة وقال بعد الحمد والثناء:
أنا ابن رسول اللّه، على منبر رسول اللّه، وفي حرم رسول اللّه، أدعوكم إلى سنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . أيها الناس، أ تطلبون آثار رسول اللّه في الحجر والعود تمسحون بذلك وتضيعون بضعة منه!.
ثم خرج الحسين قاصداً إلى مكة، ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه وهم زهاء ثلاثمائة، واستخلف رجلاً على المدينة، فلما صاروا بفخ تلقتهم الجيوش من قبل بني العباس، وعرضوا على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشد الإباء. فبدأ الجيش العباسي بالحرب.. وحملوا عليهم من عدة جهات، وطحنوهم طحنة واحدة، حتى قُتل أكثر أصحاب الحسين، وكان
ص: 264
الحسين يقاتلهم قتال الأبطال، ولم يعتن بمكرهم حيث قالوا له: يا حسين لك الأمان.
فكان يقول: لا أمان أريد.
وكان يحمل عليهم ويحاربهم محاربة الأبطال، حتى قُتل (رضوان اللّه عليه)، وقُتل معه سليمان بن عبد اللّه بن الحسن وعبد اللّه بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، وأصابت الحسن بن محمد نشابة في عينه فتركها، وجعل يقاتل أشد القتال حتى أمنوه ثم قتلوه! وجاء الجند بالرءوس إلى موسى الهادي العباسي.
ولما رأى الإمام الكاظم (عليه السلام) رأس الحسين شهيد فخ، قال:
«إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، مضى واللّه مسلماً صالحاً صواماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله».
وأمر موسى الهادي العباسي بقتل جميع الأسرى.
وروي أن محمد بن سليمان أحد جلاوزة العباسيين وقادة جيشهم في محاربة الحسين شهيد فخ، لما حضرته الوفاة جعلوا يلقنونه الشهادة فلم يقلها، وكان يقول: ألا ليت أمي لم تلدني، ولم أكن لقيت حسيناً يوم فخ ولا الحسن. فجعل يرددها حتى مات.
ص: 265
24
الواقفة هم الذين وقفوا على إمامة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ولم يقولوا بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام) ، وسائر الأئمة من بعده (عليهم السلام) .
قيل: وكان من وجوه تسمية الإمام (عليه السلام) بالكاظم، كظمه عمن سيقف من بعده مع علمه بذلك.
عن ربيع بن عبد الرحمن، قال: كان واللّه موسى بن جعفر (عليه السلام) من المتوسمين، يعلم من يقف عليه بعد موته، ويجحد الإمام بعد إمامته، فكان يكظم غيظه عليهم، ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم، فسمي الكاظم لذلك(1).
من أهم ما كان سبباً للقول بالوقف وظهور مذهب الواقفية، هو الإغراءات المالية، حيث كان قد اجتمع عند كبار وكلاء الإمام الكاظم (عليه السلام) مبلغاً كثيراً من المال؛ لأن الإمام (عليه السلام) كان مسجوناً لعدة سنوات، وكان الشيعة يدفعون حقوقهم الشرعية للوكلاء، ولم يكن بإمكان الإمام (عليه السلام) أن يصرف تلك الأموال من داخل السجن، فأخذ بعض الوكلاء يحتفظ بالأموال ربما ليسلمها للإمام (عليه السلام) بعد
ص: 266
خروجه من السجن، ولكن الشيطان أغره.
وربما كان هناك محذور في الصرف من قبل الوكلاء؛ لأن الحكومات كانت سوف تعلم بموارد الصرف، وتقضي على الشيعة بذلك..
وبعض هذه الأموال كانت مجتمعة عند الشيعة، ثم سلموها إلى الوكلاء فأصبحت مبالغ كثيرة.
فلما استشهد الإمام (عليه السلام) ، وأوصى بابنه علي بن موسى الرضا (عليه السلام) .. رأى هؤلاء الوكلاء بأنه يلزم تسليم تلك الأموال الطائلة للإمام الرضا (صلوات اللّه عليه)، فغرهم الشيطان، وأنكروا إمامته، وقالوا بالوقف؛ لكي يحافظوا على الأموال في أيديهم.
قال الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) : لم يكن موسى بن جعفر (عليه السلام) ممن يجمع المال، ولكنه حصل في وقت الرشيد وكثر أعداؤه، ولم يقدر على تفريق ما كان يجتمع إلاّ على القليل ممن يثق بهم في كتمان السرّ، فاجتمعت هذه الأموال لأجل ذلك. وأراد أن لا يحقق على نفسه قول من كان يسعى به إلى الرشيد، ويقول إنه تحمل عليه الأموال، ويُعتقد له الإمامة، ويحمل على الخروج عليه. ولولا ذلك لفرق ما اجتمع من هذه الأموال، على أنها لم تكن أموال الفقراء، وإنما كانت أموالاً يصل بها مواليه؛ ليكون له إكراماً منهم له، وبراً منهم به (عليه السلام) (1).
إن أول من أظهر اعتقاد الوقف هو: علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي. طمعوا في الدنيا ومالوا إلى
ص: 267
حطامها، واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال، نحو: حمزة بن بزيع، وابن المكاري، وكرام الخثعمي، وأمثالهم.
روي عن يونس بن عبد الرحمن، قال: مات أبو إبراهيم - الكاظم - (عليه السلام) ، وليس من قوامه أحد إلاّ وعنده المال الكثير، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته طمعاً في الأموال. كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار. فلما رأيت ذلك وتبينت الحق، وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ما علمت، تكلمت ودعوت الناس إليه. فبعثا إليَّ وقالا: ما يدعوك إلى هذا، إن كنت تريد المال فنحن نغنيك. وضمنا لي عشرة آلاف دينار، وقالا لي: كف. فأبيت وقلت لهما: إنا روينا عن الصادقين (عليهم السلام) أنهم قالوا: «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه؛ فإن لم يفعل سلب نور الإيمان»، وما كنت لأدع الجهاد في أمر اللّه على كل حال، فناصباني وأضمرا لي العداوة(1).
وفي الغيبة للشيخ الطوسي (رحمه اللّه) : مضى أبو إبراهيم (عليه السلام) وعند زياد القندي سبعون ألف دينار، وعند عثمان بن عيسى الرواسي ثلاثون ألف دينار، وخمس جوار ومسكنه بمصر. فبعث إليهم أبو الحسن الرضا (عليه السلام) : «أن احملوا ما قبلكم من المال، وما كان اجتمع لأبي عندكم من أثاث وجوار؛ فإني وارثه وقائم مقامه، وقد اقتسمنا ميراثه، ولا عذر لكم في حبس ما قد اجتمع لي ولوراثه قبلكم»، أو كلام يشبه هذا.
فأما ابن أبي حمزة فإنه أنكره ولم يعترف بما عنده.
ص: 268
وكذلك زياد القندي.
وأما عثمان بن عيسى فإنه كتب إليه: إن أباك (صلوات اللّه عليه) لم يمت وهو حي قائم، ومن ذكر أنه مات فهو مبطل، وأعمل على أنه قد مضى كما تقول، فلم يأمرني بدفع شيء إليك، وأما الجواري فقد أعتقتهن وتزوجت بهن(1).
وفي علل الشرائع، قال: كان أحد القوام عثمان بن عيسى، وكان عنده مال كثير، وست جواري. قال: فبعث إليه أبو الحسن الرضا (عليه السلام) فيهن وفي المال.
قال: فكتب إليه: إن أباك لم يمت!.
قال فكتب إليه: «إن أبي قد مات، وقد اقتسمنا ميراثه، وقد صحت الأخبار بموته، واحتج عليه فيه». قال: فكتب إليه: إن لم يكن أبوك مات، فليس لك من ذلك شيء، وإن كان قد مات على ما تحكي، فلم يأمرني بدفع شيء إليك، وقد أعتقت الجواري وتزوجتهن(2).
وقد ذكرنا أن السبب في اجتماع هذه الأموال هو ظلم بني العباس؛ فإن الإمام (عليه السلام) كان مسجوناً، ولم يمكن للوكلاء أن يرسلوها له.
ويستفاد من بعض النصوص أن هذه الأموال كانت مجتمعة عند بعض الشيعة، ثم أرسلوها للوكلاء، فلم يصرفوها في موارده المقررة شرعاً.
فعن أبي علي عن الحسين بن محمد بن عمر بن يزيد، عن عمه، قال: كان بدع بدء الواقفة أنه كان اجتمع ثلاثون ألف دينار عند الأشاعثة، زكاة أموالهم وما كان يجب عليهم فيها. فحملوا إلى وكيلين لموسى (عليه السلام) بالكوفة، أحدهما حيان السراج والآخر كان معه. وكان موسى (عليه السلام) في الحبس، فاتخذوا بذلك
ص: 269
دوراً، وعقدوا العقود، واشتروا الغلات. فلما مات موسى (عليه السلام) ، فانتهى الخبر إليهما أنكرا موته، وأذاعا في الشيعة أنه لا يموت؛ لأنه هو القائم. فاعتمدت عليه طائفة من الشيعة، وانتشر قولهما في الناس، حتى كان عند موتهما أوصيا بدفع المال إلى ورثة موسى (عليه السلام) ، واستبان للشيعة أنهما قالا ذلك حرصاً على المال(1).
عن علي بن رباط، قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) : إن عندنا رجلاً يذكر أن أباك (عليه السلام) حي، وأنت تعلم من ذلك ما يعلم. فقال (عليه السلام) : «سبحان اللّه! مات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يمت موسى بن جعفر (عليه السلام) ، بلى واللّه واللّه لقد مات، وقسمت أمواله، ونكحت جواريه»(2).
عن محمد بن سنان، قال: ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضا (عليه السلام) فلعنه، ثم قال: «إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد اللّه في سمائه وأرضه، فأبى اللّه إلا أن يتم نوره... ولو كره المشركون، ولو كره اللعين المشرك».
قلت: المشرك!.
قال: «نعم واللّه رغم أنفه، كذلك هو في كتاب اللّه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ}(3)، وقد جرت فيه وفي أمثاله، أنه أراد أن يطفئ نور اللّه»(4).
ص: 270
عن جعفر بن محمد النوفلي، قال: أتيت الرضا (عليه السلام) وهو بقنطرة إبريق، فسلمت عليه ثم جلست. وقلت: جعلت فداك، إن أناساً يزعمون أن أباك (عليه السلام) حي. فقال: «كذبوا لعنهم اللّه، لو كان حياً ما قسم ميراثه، ولا نكح نساؤه، ولكنه واللّه ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي طالب (عليه السلام) »(1).
عن علي بن عبد اللّه الزبيري، قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الواقفة. فكتب: «الواقف حائد عن الحق، ومقيم على سيئة، إن مات بها كانت جهنم مأواه وبئس المصير»(2).
في رجال الكشي: عن محمد بن عاصم، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «يا محمد بن عاصم، بلغني أنك تجالس الواقفة». قلت: نعم جعلت فداك، أجالسهم وأنا مخالف لهم. قال: «لا تجالسهم؛ فإن اللّه عزَّ وجل يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ}(3) يعني بالآيات الأوصياء الذين كفروا بها الواقفة»(4).
عن الحكم بن عيص، قال: دخلت مع خالي سليمان بن خالد على أبي عبد
ص: 271
اللّه (عليه السلام) ، فقال: «يا سليمان، من هذا الغلام؟». فقال: ابن أختي. فقال: «هل يعرف هذا الأمر؟». فقال: نعم. فقال: «الحمد لله الذي لم يخلقه شيطاناً - ثم قال - يا سليمان، عوّذ باللّه ولدك من فتنة شيعتنا». فقلت: جعلت فداك، وما تلك الفتنة!. قال: «إنكارهم الأئمة (عليهم السلام) ، ووقوفهم على ابني موسى - قال - ينكرون موته، ويزعمون أن لا إمام بعده، أولئك شر الخلق»(1).
عن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) ، قال: «الواقفة هم حمير الشيعة - ثم تلا هذه الآية - {إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا}(2)»(3).
عن عمرو بن فرات، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الواقفة؟. قال: «يعيشون حيارى، ويموتون زنادقة»(4).
عن يحيى بن المبارك، قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) بمسائل فأجابني، وذكرت في آخر الكتاب قول اللّه عزَّ وجل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ}(5). فقال: «نزلت في الواقفة». ووجدت الجواب كله بخطه: «ليس هم من المؤمنين
ص: 272
ولا من المسلمين، هم ممن كذب بآيات اللّه، ونحن أشهر معلومات، فلا جدال فينا، ولا رفث ولا فسوق فينا. انصب لهم يا يحيى من العداوة ما استطعت»(1).
عن ابن أبي يعفور، قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) ، إذ دخل موسى (عليه السلام) فجلس. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا ابن أبي يعفور، هذا خير ولدي وأحبهم إليَّ، غير أن اللّه جلَّ وعز يضل قوماً من شيعتنا، فاعلم أنهم قوم {لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ولا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ... يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}(2)». قلت: جعلت فداك، قد أزغت قلبي عن هؤلاء. قال: «يضل به قوم من شيعتنا بعد موته جزعاً عليه، فيقولون: لم يمت وينكرون الأئمة (عليهم السلام) من بعده، ويدعون الشيعة إلى ضلالتهم، وفي ذلك إبطال حقوقنا، وهدم دين اللّه. يا ابن أبي يعفور، فاللّه ورسوله منهم بريء، ونحن منهم براء»(3).
ص: 273
25
قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية، ولكن إلينا»(1).
وقال (عليه السلام) : «إن الأمور كلها بيد اللّه عزَّ وجل، يمضيها ويقدرها بقدرته فيها والسلطان عليها، توكل بحفظ ماضيها وتمام باقيها، فلا مقدم لما أخر منها، ولا مؤخر لما قدم، استأثر بالبقاء وخلق خلقه للفناء، أسكنهم دنياً سريعاً زوالها، قليلاً بقاؤها، وجعل لهم مرجعاً إلى دار لا زوال لها ولا فناء، وكتب الموت على جميع خلقه، وجعلهم أسوة فيه، عدلاً منه عليهم عزيزاً، وقدرة منه عليهم، لا مدفع لأحد منهم، ولا محيص له عنه، حتى يجمع اللّه تبارك وتعالى بذلك إلى دار البقاء خلقه، ويرث به أرضه ومن عليها، وإليه يرجعون»(2).
وقال (عليه السلام) : «إن نوحاً (عليه السلام) كان في السفينة، وكان ما شاء اللّه، وكانت السفينة
ص: 274
مأمورة، فطاف بالبيت وهو طواف النساء، وخلى سبيلها نوح (عليه السلام) ، فأوحى اللّه عزَّ وجل إلى الجبال: إني واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكن، فتطاولت وشمخت، وتواضع الجودي، وهو جبل عندكم، فضربت السفينة بجؤجؤها الجبل»(1).
وقال (عليه السلام) : «إن اللّه جلَّ وعز يبغض العبد النوام الفارغ»(2).
وقال (عليه السلام) : «حدثني أبي (عليه السلام) ، عن جدي (عليه السلام) ، يرفعه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن الرحم إذا مست رحماً تحركت واضطربت»(3).
وقال (عليه السلام) - في حديث -: «لكنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي أحلها اللّه عزَّ وجل لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، في قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لو أهدي لي كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع لأجبت»(4).
وقال (عليه السلام) : «إن اللّه عزَّ وجل قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء الأمة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى
ص: 275
العاني»(1).
وقال (عليه السلام) : «قال لي هارون: أ تقولون إن الخمس لكم!. قلت: نعم. قال: إنه لكثير. قال: قلت: إن الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير»(2).
وقال (عليه السلام) : «التحدث بنعم اللّه شكر، وترك ذلك كفر، فارتبطوا نعم ربكم تعالى بالشكر، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا البلاء بالدعاء؛ فإن الدعاء جُنة منجية ترد البلاء وقد أبرم إبراماً»(3).
عن علي بن يقطين، قال: أردت أن أكتب إليه (عليه السلام) أسأله يتنور الرجل وهو جنب؟. قال: فكتب إليَّ ابتداءً: «النورة تزيد الجنب نظافة، ولكن لا يجامع الرجل مختضباً، ولا تجامع امرأة مختضبة»، أي يكره ذلك(4).
قال أبو حنيفة يوماً للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) - وهو يريد الاستهزاء بالإمام -: أخبرني أي شيء كان أحب إلى أبيك العود أم الطنبور؟. قال (عليه السلام) : «لا، بل
ص: 276
العود». فسُئل عن ذلك فقال: «يحب عود البخور، ويبغض الطنبور»(1).
عن الحسين بن الحسن بن عاصم، عن أبيه، قال: دخلت على أبي إبراهيم (عليه السلام) - وفي يده مشط عاج يتمشط به - فقلت له: جعلت فداك، إن عندنا بالعراق من يزعم أنه لا يحل التمشط بالعاج؟. قال: «ولِمَ، فقد كان لأبي منها مشط أو مشطان - فقال - تمشطوا بالعاج؛ فإن العاج يذهب بالوباء»(2).
عن يونس بن يعقوب، عن معتب، قال: كان أبو الحسن (عليه السلام) يأمرنا إذا أدركت الثمرة أن نخرجها فنبيعها، ونشتري مع المسلمين يوماً بيوم(3).
خرج عبد الصمد بن علي - ومعه جماعة - فبصر بأبي الحسن (عليه السلام) مقبلاً راكباً بغلاً. فقال لمن معه: مكانكم حتى أضحككم من موسى بن جعفر!. فلما دنا منه قال له: ما هذه الدابة التي لا تدرك عليها الثأر، ولا تصلح عند النزال. فقال له أبو الحسن (عليه السلام) : «تطأطأت عن سمو الخيل، وتجاوزت قموء العير، وخير الأمور أوسطها». فأفحم عبد الصمد، فما أحار جواباً(4).
عن علي بن سويد السائي، قال: كتب إليَّ أبو الحسن الأول (عليه السلام) في كتاب:
ص: 277
«إن أول ما أنعى إليك نفسي في ليالي هذه غير جازع ولا نادم، ولا شاك فيما هو كائن مما قضى اللّه وحتم، فاستمسك بعروة الدين آل محمد والعروة الوثقى، الوصي بعد الوصي، والمسالمة والرضا بما قالوا»(1).
في الكافي: عن يونس بن يعقوب، قال: لما رجع أبو الحسن موسى (عليه السلام) من بغداد ومضى إلى المدينة، ماتت له ابنة بفيد فدفنها، وأمر بعض مواليه أن يجصص قبرها، ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر(2).
عن سليمان الجوهري، قال: رأيت أبا الحسن الكاظم (عليه السلام) يقول لابنه القاسم: «قم يا بني فاقرأ عند رأس أخيك {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}(3) حتى تستتمها». فقرأ فلما بلغ {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا}(4) قضى الفتى. فلما سجي وخرجوا، أقبل عليه يعقوب بن جعفر، فقال له: كنا نعهد الميت إذا نزل به الموت يقرأ عنده {يس وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ}(5)، فصرت تأمرنا بالصافات؟!. فقال: «يا بني، لم تقرأ عند مكروب من موت قط إلاّ عجل اللّه راحته»(6).
ص: 278
بسند مُعتبر عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنّه قال لإبراهيم بن أبي البلاد: ماذا تقول إذا زرت الحسين (عليه السلام) ؟
فأجاب: أقول:
«اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا بْنَ رَسُولِ اللّهِ، اَشْهَدُ اَنَّكَ قَدْ اَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَاَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ، وَدَعَوْتَ اِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَاَشْهَدُ اَنَّ الَّذينَ سَفَكُوا دَمَكَ وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَكَ مَلْعُونُونَ مُعَذَّبُونَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعيسَى بْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ».
فقال (عليه السلام) : «بلى».
* * *
وهذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الكتاب، واللّه الموفق للصواب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 279
ص: 280
المقدمة... 5
1- النسب الشريف... 7
اسمه الشريف... 7
كنيته (عليه السلام) ... 7
لقبه (عليه السلام) ... 7
والده (عليه السلام) ... 8
والدته (عليها السلام) ... 8
الجارية المقدسة... 10
الوصيفة المصونة... 12
من أسباب خسارة الأندلس... 13
مدة إمامته (عليه السلام) ... 14
صفته (عليه السلام) ... 14
نقش خاتمه (عليه السلام) ... 15
2- الولادة المباركة... 16
خير من برأ اللّه... 16
ص: 281
التكلم في المهد... 19
إطعام الناس في الولادة... 20
3- النص على الإمامة... 21
4- علم الإمام (عليه السلام) ... 33
مع أبرهة النصراني... 34
شجرة طوبى... 35
مع أبي حنيفة... 36
من هو الجواد؟... 37
ذرية بعضها من بعض... 37
علم متصل بالسماء... 38
شمولية علم الإمام (عليه السلام) ... 39
صاحب الكتاب المكنون... 40
خلف الآباء في العلم... 40
علم الكتاب... 40
درهم شطيطة... 41
تربصوا ثلاثاً... 44
علم المنايا والبلايا... 44
إن عمرك قد فني... 45
إنه يموت الليلة... 45
اللغة النوبية... 46
ص: 282
لغة أهل الحبشة... 47
كلام أهل الصين... 48
أعلم الناس على الإطلاق... 49
اعمل ما أمرتك... 53
قلة عمرها... 54
إنما بعث إلينا وزناً لا عدداً... 54
أخبرني بالسر... 55
مع والدة الرضا (عليه السلام) ... 55
قد دنا أجلك... 56
لا تصل على الزجاج... 56
مع علي بن يقطين... 57
حوّل فوراً... 58
ليس من شيعتنا من لم يرع قلبه... 59
لا يرى بيت اللّه أبداً... 59
هل أمنتم الجراد؟... 59
إنها لا تصدق... 60
بهذا يُعرف الإمام... 60
تحج خمسين عاماً... 61
من مصاديق الولاية التكوينية والتشريعية... 62
الإمام أولى بعلم المنايا... 62
ص: 283
علمنا منطق الطير... 63
حمحمة الفرس... 64
همهمة الأسد... 64
أولئك أصحاب الأحقاف... 65
المرور أمام المصلي... 66
من أحكام الحج... 66
إنه وارث علم الأنبياء... 67
5- العقائد الحقة... 69
6- علوم آل محمد (عليهم السلام) ... 71
لا إلى غيرنا ولكن إلينا... 72
البراءة من أعداء اللّه... 72
إعارة الإيمان... 73
معونة الظالمين... 73
البشارة بالمهدي (عليه السلام) ... 74
7- هداية الناس... 76
زيدي يهتدي... 76
إسلام راهب وراهبة... 77
بكري يطلب المعرفة... 78
كتب الأنبياء (عليهم السلام) عندنا... 79
توبة بشر الحافي... 80
ص: 284
غيّر اسمها... 82
8- أعبد الناس... 83
ثوب مطروح... 83
من رهبان بني هاشم... 85
العبد الصالح... 85
سجدة إلى الفجر... 86
سجدة إلى الزوال... 86
كلام الشيخ المفيد (رحمه اللّه) ... 87
كلام ابن شهر آشوب... 87
لك الحمد... 87
كثير الدعاء والعبادة... 88
إحياء الليل... 88
كثرة الاستغفار... 88
الحج والعمرة ماشياً... 89
سجدة الشكر الطويلة... 89
كثرة السجود... 89
9- أدعية مأثورة... 90
يا سابق كل فوت... 90
دعاء لدفع العدو... 91
لقضاء الحوائج... 92
ص: 285
العفو العفو... 92
قراءة القرآن الكريم... 93
الحث على الفرائض... 94
قنوت الإمام (عليه السلام) ... 94
قنوت آخر... 95
حرز الإمام (عليه السلام) ... 99
عوذة للحفظ... 99
حرز آخر... 103
10- الأخلاق الطيبة... 108
التعامل مع العمري... 108
صلة الأرحام... 109
قضاء حوائج الناس... 109
العمل بلا تكبر... 110
الزهد هذا... 110
العتق في سبيل اللّه... 111
11- الجود والكرم... 112
حتى مع الأعداء... 112
بين الأئمة (عليهم السلام) وحكام الجور... 113
صرار موسى (عليه السلام) ... 115
أسخى الناس... 115
ص: 286
أوصل الناس... 116
الثلاثمائة والأربعمائة... 116
ألف دينار... 117
أيش حالك؟... 117
العصيدة المهداة... 117
تفقد الفقراء... 119
مع البكري... 119
كلها لك... 119
وليمة الأنبياء والأولياء... 120
12- كظم الغيظ... 121
اذهب فهي لك... 121
13- التواضع... 123
14- الآداب الكاظمية... 124
محاسبة النفس... 124
من آداب الدعاء... 124
قضاء حوائج المؤمنين... 125
الاستشارة... 126
حقوق الحيوان وأحكامه... 127
الاهتمام بالزواج... 128
من آداب الطعام... 129
ص: 287
15- المعاجز الكاظمية... 131
القصور والأنهار... 131
مع شقيق البلخي... 134
مع علي بن يقطين... 138
الدراعة الثمينة... 139
هكذا توضأ... 140
التكلم في المهد... 141
إحياء البقرة الميتة... 142
إحياء الحيوان الميت... 143
اكفف عن الأخرس... 144
حطوا حطوا... 144
إنه بلغ ما بلغه ذو القرنين... 144
أين السطل؟... 145
أعظم اللّه أجرك في أخيك... 146
أخرجها من بيتك... 147
قد قضى اللّه حاجتك... 148
إن خفت عليه ضعفا فألقمه... 148
إن فيه شفاؤك... 149
سحابة طالقان... 149
أسد الصورة... 152
ص: 288
دعاء مستجاب... 152
إنا نحتاج إليها... 153
هذه جوابات كتبكم... 153
غداً يلقاك رجل من أهل المغرب... 154
يا نار كوني برداً وسلاماً... 155
يحبسك الطاغية... 156
قد استراح... 157
آجرك اللّه في أبيك... 157
يا مبارك هات الكتاب... 158
يا موسى اضرب به الأرض... 159
عند ما يعجز الأطباء... 159
ترزق الحج خمسين سنة!... 160
السجن والإعجاز... 161
16- مع الحكام الطغاة... 163
الخروج متنكراً... 163
حكام عصره (عليه السلام) ... 164
المنصور العباسي... 164
المهدي العباسي... 164
لا أتخلص منهم... 166
المطالبة بفدك... 167
ص: 289
المهدي العباسي والخمور... 168
موسى العباسي... 169
كتاب علي بن يقطين... 171
الوزير الشيعي... 173
اتق أموال الشيعة... 173
اتق اللّه... 174
هارون العباسي... 174
ظلامة النساء العلويات... 174
هارون يقتل ذرية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 175
نحن أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 177
وعند قبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 178
دار الفاسقين... 179
هذا حجة اللّه على الخلق... 179
هارون يخطط لاعتقال الإمام... 180
هارون يحاجج الإمام (عليه السلام) ... 181
أشد المضايقات... 184
بعيداً عن الأهل والعيال... 184
مقدمات لقتل الإمام (عليه السلام) ... 185
حدود فدك... 185
من يموت منا أولاً؟... 186
ص: 290
اتهامات... 187
تحذير الطغاة... 188
مصادرة الأموال... 188
الإمام (عليه السلام) في بركة السباع... 189
كلمة حق عند سلطان جائر... 191
من ظلم هارون... 192
هارون وظلم ذرية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 193
سجن العلويين وأصحابهم... 196
17- اعتقال الإمام (عليه السلام) ... 197
فلسفة اللعن... 199
مؤامرة هارون... 200
سبب قتل الإمام (عليه السلام) ... 200
في سجن البصرة... 204
هارون يأمر بقتل الإمام... 204
في حبس فضل بن ربيع... 205
اعتقال واعتقال... 207
بل أنتم بهديتكم تفرحون... 209
كرامات في السجن... 210
مكاتبات من السجن... 211
هارون يعزم على قتل الإمام مكرراً... 214
ص: 291
محاولة أخرى فاشلة... 217
قوم من الإفرنج... 218
من مكر هارون... 218
موت كلبة هارون... 219
اعتقالات مكررة... 220
في حبس يحيى البرمكي... 223
من حبس إلى حبس... 224
خطط شيطانية... 224
18- استشهاد الإمام (عليه السلام) ... 225
إني قد سُقيت السم... 226
يوم قتل الإمام (عليه السلام) ... 228
خطوات لتغطية الجريمة... 228
ثلاثة أيام على جسر بغداد... 230
محاولة أخرى لإخفاء الجريمة... 230
خطة سليمان بن أبي جعفر... 231
الإمام الرضا (عليه السلام) يقوم بتجهيز والده... 233
19- مدة حبس الإمام (عليه السلام) ... 234
قتلة الإمام (عليه السلام) والجزاء الدنيوي... 234
20- من وصية الإمام (عليه السلام) ... 236
وصايا أخرى... 236
ص: 292
وصية في صدقاته (عليه السلام) ... 237
رد شبهة... 238
تجهيز الإمام (عليه السلام) ... 239
الملائكة في تجهيز الإمام (عليه السلام) ... 241
21- المرقد الشريف... 242
اسجد خضوعاً... 242
أمان لأهل الجانبين... 242
22- أولاد الإمام (عليه السلام) ... 243
أفضل أولاده (عليهم السلام) ... 246
إسماعيل (عليه السلام) ... 246
احتمال في موت إسماعيل... 249
السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ... 250
زيد النار (عليه السلام) ... 255
القاسم (عليه السلام) ... 255
محمد (عليه السلام) ... 257
إبراهيم (عليه السلام) ... 257
أحمد (عليه السلام) ... 257
23- قصة الحسين شهيد فخ... 259
النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشهداء فخ... 262
ص: 293
24- الواقفية... 266
لماذا الوقف؟... 266
أول من قال بالوقف... 267
واللّه لقد مات... 270
إنه ملعون... 270
كذبوا لعنهم اللّه... 271
الواقفة في النار... 271
لا تجالسهم... 271
أولئك شر الخلق... 271
إنهم الحمير... 272
إنهم زنادقة... 272
المذبذبون... 272
نحن منهم براء... 273
25- درر من كلمات الإمام (عليه السلام) ... 274
طريق الحق... 274
الأمور بيد اللّه... 274
من ثمار التواضع... 274
الحث على العمل... 275
الرحم... 275
قبول الهدية... 275
ص: 294
من واجب الولاة... 275
الخمس لنا... 276
التحدث بنعم اللّه... 276
فقهيات... 276
عود البخور... 276
مشط العاج... 277
يوماً بيوم... 277
خير الأمور أوسطها... 277
عروة الدين... 277
تجصيص القبر ووضع العلامة عليه... 278
سورة الصافات على المحتضر... 278
زيارة الحسين (عليه السلام) ... 279
الفهرس... 281
ص: 295