من حياة المعصومين عليهم السلام
الجزء الثامن
الإمام الصادق عليه السلام
المرجع الديني الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه
الشجرة الطيبة
1443 ه 2022 م
النجف الأشرف
ص: 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی للناشر
1443 ه 2022 م
مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف
تهميش
مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد، فهذا هو الجزء الثامن من سلسلة (من حياة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويتضمن جوانب من حياة الإمام محمد الصادق (عليه السلام) .
أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
1410ه
ص: 5
ص: 6
1
هو الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام علي بن الحسين زين العابدين، ابن الإمام الحسين بن علي الشهيد بكربلاء، ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
كنيته: أبو عبد اللّه، وهي المشهورة، وقيل: أبو إسماعيل وأبو موسى أيضاً(1).
أشهر ألقابه: الصادق.
ومنها أيضاً: الصابر، والطاهر، والفاضل، والقائم، والكافل، والمنجي، والقاهر، وغيرها(2).
ص: 7
والده: الإمام محمد بن علي الباقر (صلوات اللّه عليه).
والدته: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، واسمها فاطمة، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، قيل: وهذا معنى قول الصادق (عليه السلام) إن أبا بكر ولدني مرتين(1)، لو فرض صحة الخبر.
وكان القاسم والدها من ثقات أصحاب علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام)، ومن فقهاء المدينة السبعة المعروفين بالعلم والفضل.
وكانت أم فروة من أفضل النساء التقيات النقيات في زمانها، وقد روت بعض الأحاديث عن الإمام علي بن الحسين (عليهما الصلاة والسلام).
قال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) في حق أُمه أُم فروة: (كانت أُمي ممن آمنت واتقت وأحسنت، واللّه يحب المحسنين)(2).
وكان من جلالها ومكانتها أن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) يكنى ب- «ابن المكرمة»(3).
يقول عبد الأعلى: رأيت أم فروة تطوف بالكعبة عليها كساء متنكرة،
ص: 8
فاستلمت الحجر بيدها اليسرى. فقال لها رجل ممن يطوف: يا أمة اللّه، أخطأت السنة. فقالت: إنا لأغنياء عن علمك(1).
ومن الواضح أن هذه المخدرة هي زوجة باقر علوم الأولين والآخرين، وعمها (أبو زوجها) الإمام زين العابدين، وولدها ينبوع العلم ومعدن الحكمة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، فهي غنية عن علوم الآخرين ما دامت متصلة بالعلوم الربانية المحمدية العلوية.
وكانت لأم فروة أخت تعرف بأم حكيم، وهي زوجة إسحاق العريضي ابن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكان لأم حكم من إسحاق ولد سُمِّيَ القاسم، وكان القاسم جليل القدر، وكان فترة أميراً على اليمن.
فإن في فترة الإمام الصادق (عليه السلام) كان جملة من العلويين من الأمراء والحكام، ففي زمانه حكم على المغرب السيد إدريس وهو ابن عم الإمام.
فإن كثرة ظلم بني العباس؛ سببت في أن بعض العلويين يخرجون عليهم، ويشكلون حكومات عادلة في منطقتهم، أو بعض المناطق التي كان بالإمكان فيها ذلك.
لُقِّب الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) بالصادق؛ لصدق حديثه.
وقيل: إنما سُمِّي صادقاً؛ لأنه ما جرب عليه قط زلل ولا تحريف.
وفي علل الشرائع للشيخ الصدوق (رحمه اللّه) : أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه صادقاً؛ لأنه
ص: 9
سيظهر من أولاده من يُسمى جعفراً، لكنه يدعي الإمامة من غير حق»(1).
وفي معاني الأخبار: (سُمِّي الصادق صادقاً؛ ليتميز من المدعي للإمامة بغير حقها، وهو جعفر بن علي إمام الفطحية الثانية)(2).
ولكن لم يثبت مثل هذا الأمر، وقد ذكرنا تفصيله في بعض كتبنا، وأنه لا صحة لما نسب إلى جعفر بن علي الثاني، وإنما كان يتصور البعض منه ذلك.
فإن كل ما ورد في ذم بعض أولاد الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، وكذلك أصحابهم الأتقياء والحواريون منهم، لابد من الدقة والتأمل في دليلها سنداً ودلالةً، وبعد التدقيق يتبين عدم حجيتها.
بل كل نقد وجرح ورد في حق من كان يخالف النظام الحاكم، لابد من الدقة فيه وعدم التسرع في قبوله؛ لأن أسلوب الطغاة كان ولا يزال في اتهام الأبرياء، تبريراً لجرائمهم في حقهم.
مضافاً إلى أن أصل اتهام المسلم من دون دليل شرعي وبينة عادلة، غير جائز.
فإذا قال الأكثر - اعتماداً على قول مؤرخ واحد -: بأن فلاناً كان فاسقاً يشرب الخمور، أو كان زنديقاً. فإن مجرد ذلك لا يكفي في اتهامه، فإذا جاء يوم القيامة وطالبنا بالدليل على التهمة، فما هو الجواب، مع العلم بلزوم توفر شاهدين عادلين في الموضوعات الخارجية.
ومن المعلوم أن أصحاب السلطة، تغطيةً على جرائمهم، كانوا يتهمون من يخالفهم ويعارضهم بشتى التهم، ولينفروا ويبعدوا الناس عنهم.
ص: 10
والاتهام بشرب الخمر، واللعب بالقمار، والزندقة، والكفر، ومخالفة المعصومين (عليهم السلام) ، والكيد ضدهم، وما أشبه، كانت من التهم التي تستخدمها الحكومة الأموية والعباسية، وكذلك حكام بني عثمان، وهكذا الكثير من الحكام الظلمة الذين تسلطوا على الرقاب بالطرق غير الشرعية.
من هنا لا يجوز القبول بالاتهامات من غير دليل شرعي، خاصة ما ينسب منها بمن يرتبط بالأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) وذويهم، وأصحابهم المؤمنين.
وهذه سيرة الأعداء من بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل وفي زمانه أيضاً. أ لم يقولوا بأن في علي (عليه السلام) الدعابة!.
وأ لم يتهموه والعياذ باللّه بأنه متكبر وسفاك وكذاب وتارك للصلاة!.
وقد ورد في التاريخ، أن شخصاً رأى في إحدى قرى الشام رجلاً ظاهر الصلاح راكباً على حمار، وهو ينادي الناس ويحذرهم من لص اسمه علي بن أبي طالب! والعياذ باللّه.
فتقدم إليه وقال: أين هذا اللص، هل من أهل هذه القرية وسكنتها؟. قال: لا. قال: هل هو من أهل الشام؟. قال: لا. ثم قال: إنه رجل في العراق، وهو من قطاع الطرق. فقال السائل: إذا لم يكن في هذه البلاد، فلم التحذير منه! فلم يملك الرجل جواباً.
عند ذلك قام السائل بالتحقيق حول الموضوع فتبين له أن معاوية بن أبي سفيان يصرف أموالاً طائلة ويرسل جماعة ليكذبوا على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى يبتعد الناس عن علي (صلوات اللّه عليه).
ثم واصل التحقيق ليعرف أكثر عن الإمام (صلوات اللّه عليه)، وكان ذلك
ص: 11
سبباً لهدايته إلى التشيع والولاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) .
وفي التاريخ أيضاً: أن معاوية أمر بأن يوزعوا على الأطفال بعض الأغنام الصغيرة الجميلة باسم معاوية. فكانوا يقولون: إنها هدية معاوية لكم أيها الأطفال.
وبعد مرور فترة حيث كانت الأطفال تستأنس بهذه الأغنام، كان يأمر معاوية بعض جلاوزته العنيفين، بسحب هذه الأغنام بكل قسوة مع ضرب الأطفال وإيذائهم، وكانوا يعرفون أنفسهم بأنهم علي بن أبي طالب!
وهكذا زعم معاوية بأنه يزرع حقد علي (عليه السلام) في قلوب الأطفال.
نعم، هكذا كانت الاتهامات والافتراءات ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل معاوية وغيره من الأعداء.
وكذلك كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) متهماً بالجنون، والشاعر، والكاهن، والعاق، وقاطع الرحم والكذاب. أ لا تكون هذه السياسة المعادية، سبباً لأن يشكك الإنسان في ما نُسِبَ إلى بعض أولاد المعصومين (عليهم السلام) وذويهم.
إذن لابد من التأمل في مثل هذه المرويات، والفحص في أسنادها ودلالاتها.
أ لم يأتِ بعض الشيبة من ظاهري الصلاح، وشهدوا لعائشة بأن تلك المنطقة التي نبح كلابها لا تسمى حوأباً،
قال أبو مخنف: لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب - وهو ماء لبني عامر بن صعصعة - نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها. فقال قائل من أصحابها: أ لا ترون ما أكثر كلاب الحوأب، وما أشد نباحها!. فأمسكت زمام بعيرها، وقالت: وإنها لكلاب الحوأب! ردوني ردوني؛ فإني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول وذكرت الخبر. فقال لها قائل: مهلاً - يرحمك اللّه - فقد جزنا ماء الحوأب.
ص: 12
فقالت: فهل من شاهد؟. فلفقوا لها خمسين أعرابياً، جعلوا لهم جُعلاً، فحلفوا لها أن هذا ليس بماء الحوأب، فسارت لوجهها(1).
أ لم يقل ذلك الرجل للحجاج بأننا نسبُّ - والعياذ باللّه - علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فقال الحجاج في جوابه: منقبة واللّه.
روى ابن الكلبي، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن السائب، قال: قال الحجاج يوماً لعبد اللّه بن هانئ - وهو رجل من بني أود حي من قحطان، وكان شريفاً في قومه، قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها، وكان من أنصاره وشيعته: واللّهِ ما كافأتك بعدُ. ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة - سيد بني فزارة - أن زوّج عبد اللّه بن هانئ بابنتك. فقال: لا واللّه ولا كرامة. فدعا بالسياط، فلما رأى الشر. قال: نعم أزوجه. ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية: زوّج ابنتك من عبد اللّه بن أود. فقال: ومن أود، لا واللّه لا أزوجه ولا كرامة. فقال: عليَّ بالسيف. فقال: دعني حتى أشاور أهلي. فشاورهم، فقالوا: زوِّجه، ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق. فزوَّجه، فقال الحجاج لعبد اللّه: قد زوّجتك بنت سيد فزارة، وبنت سيد همدان، وعظيم كهلان، وما أود هناك. فقال: لا تقل أصلح اللّه الأمير ذاك؛ فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب. قال: وما هي؟. قال: ما سُبَّ أمير المؤمنين عبد الملك في نادٍ لنا قط. قال: منقبة واللّه. قال: وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلاً، ما شهد منا مع أبي تراب إلاّ رجل واحد، وكان واللّه ما علمته امرأ سوء. قال: منقبة واللّه. قال: ومنا نسوة نذرن إن قُتِلَ الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص، ففعلن. قال:
ص: 13
منقبة واللّه. قال: وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه، إلاّ فعل وزاد ابنيه حسناً وحسيناً وأمهما فاطمة. قال: منقبة واللّه. قال: وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة ما لنا. فضحك الحجاج، وقال: أما هذه يا أبا هانئ فدعها. وكان عبد اللّه دميماً، شديد الأدمة، مجدوراً، في رأسه عجر، مائل الشدق، أحول، قبيح الوجه، شديد الحول(1).
وفي التاريخ أن الصليبيين لما أرادوا أن يحاربوا المسلمين، وأن يستغلوا مشاعر عامة النصارى في هذه الحرب، ويسيطروا على بيت المقدس، صنعوا تمثالاً للسيد المسيح (عليه السلام) على هيئة رجل جميل جداً، وتمثالاً لنبي الإسلام محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على شكل رجل عنيف سفاك - والعياذ باللّه - وكان بيد الرسول سيفاً ضرب به رأس السيد المسيح وشقه نصفين، والدماء جارية على وجهه، وجعلوا التمثال على خشبة، وأداروها في شوارع وأزقة وأسواق مدنهم، وبذلك تمكنوا من التلاعب بعواطف الناس، وتحشيد جمع غفير منهم للحرب، كما جمعوا الكثير من الأموال لأجل الحرب.
من هنا، لا يمكن لنا القبول ببعض المرويات التي تنسب لأولاد الأئمة، أو ذويهم، أو من يقرب إليهم، ما لا يناسب شأنهم؛ فإنهم ليسوا بأعظم من النبي والمعصومين (عليهم السلام) وقد نالتهم الافتراءات. نعم، لابد من حصول القطع، أو ما هو بمثابته، على مثل هذه الأمور؛ لكي يقبل بها الإنسان.
يقول اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ
ص: 14
وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(1).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) ، قال: «كان نقش خاتم جعفر بن محمد (عليه السلام) : اللّه وليي وعصمتي من خلقه»(2).
وفي بعض الروايات إن نقش خاتمه (عليه السلام) : (مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللّهِ أسْتَغْفِرُ اللّهَ)(3)، و(اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(4)، و(أَنْتَ ثِقَتِي فَاعْصِمْنِي مِنْ خَلْقِكَ)(5)، و(يَا ثِقَتِي قِنِي شَرَّ جَمِيعِ خَلْقِكَ)(6)، و(اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فَقِنِي شَرَّ خَلْقِكَ)(7)، و(أَنْتَ ثِقَتِي فَاعْصِمْنِي مِنَ النَّاسِ)(8)، و(اللّهُ عَوْنِي وَعِصْمَتِي مِنَ النَّاسِ)(9)، و(رَبِّي عَصَمَنِي مِنْ خَلْقِهِ)(10).
ص: 15
والظاهر أنه كانت له عدة خواتيم، ولكل خاتم منها نقش خاص.
عن صفوان، قال: أُخرج إلينا خاتم أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وكان نقشه: «أَنْتَ ثِقَتِي فَاعْصِمْنِي مِنْ خَلْقِكَ»(1).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «في خاتمي مكتوب: اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»(2).
وعن إسماعيل بن موسى، قال: كان خاتم جدي جعفر بن محمد (عليه السلام) فضةً كله، وعليه: يَا ثِقَتِي قِنِي شَرَّ جَمِيعِ خَلْقِكَ، وإنه بلغ في الميراث خمسين ديناراً زائداً أبي على عبد اللّه بن جعفر فاشتراه أبي(3).
وفي مكارم الأخلاق من كتاب اللباس، عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال: «قاوموا خاتم أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأخذه أبي بسبعة». قال: قلت: سبعة دراهم!. قال: «سبعة دنانير»(4).
وعن إبراهيم بن عبد الحميد، قال: مر بي معتب ومعه خاتم. فقلت له: أي شيء؟. فقال: خاتم أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فأخذت لأقرأ ما فيه فإذا فيه: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فَقِنِي شَرَّ خَلْقِكَ(5).
وعن البزنطي، قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) ، فأخرج إلينا خاتم أبي عبد
ص: 16
اللّه (عليه السلام) ، فإذا عليه: «أَنْتَ ثِقَتِي فَاعْصِمْنِي مِنَ النّاسِ»(1).
وعن العُدد القوية: نقش خاتمه: «اللّه عَوْنِي وَعِصْمَتي مِنَ النَّاسِ»(2).
ص: 17
2
وُلد الإمام الصادق (عليه السلام) في المدينة المنورة يوم الجمعة. وقيل: يوم الاثنين، عند طلوع الفجر، في السابع عشر من ربيع المولود، سنة ثمانين من الهجرة عام الجحاف(1). وفي رواية: إنه (عليه السلام) وُلد سنة ثلاث وثمانين كما في الكافي(2). وقيل: سنة ست وثمانين.
وكان يوافق مولده مولد جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنه ولد في السابع عشر من ربيع الأول.
قال الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس: وُلد (عليه السلام) بالمدينة يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين(3).
روي عن الإمام الهادي (عليه الصلاة والسلام)، أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وُلد في عام ثلاثة وثمانين هجرية، وفي حياة جده الإمام زين
ص: 18
العابدين (عليه السلام) (1).
وقد أقام مع جده علي بن الحسين (عليه السلام) اثنتي عشرة سنةً وأياماً، أو خمس عشرة سنة، ومع أبيه بعد جده تسع عشرة سنةً، وبعد أبيه أربعاً وثلاثين سنةً، وهي مدة خلافته وإمامته (عليه الصلاة والسلام).
وفي المصباح للكفعمي: وُلد (عليه السلام) بالمدينة، يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وكانت ولادته في زمن عبد الملك بن مروان(2).
ص: 19
3
الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ناب عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) في الإمامة بالنص من أبيه، وممن تقدمه من المعصومين (عليهم السلام) ، وبروايات نبوية نصت على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بأسمائهم، وجعلتهم حجة على الخلق أجمعين، مضافاً إلى الأحاديث القدسية كحديث اللوح، وما أشبه.
وقد ورث خصائص الإمامة من آبائه الطاهرين (عليهم السلام) .
روي عن أبي خالد، أنه قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) : من الإمام بعدك؟. قال: «محمد ابني، يبقر العلم بقراً، ومن بعد محمد جعفر، اسمه عند أهل السماء الصادق»(1).
وعن أبي نضرة، قال: لما احتضر أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) عند الوفاة، دعا بابنه الصادق (عليه السلام) ؛ ليعهد إليه عهداً. فقال له أخوه زيد بن علي (عليه السلام) : لو امتثلت في تمثال الحسن والحسين (عليهما السلام) رجوت أن لا تكون أتيت منكراً. فقال له: يا أبا الحسين، إن الأمانات ليست بالمثال، ولا العهود بالرسوم، وإنما هي أمور
ص: 20
سابقة عن حجج اللّه عز وجل»(1).
وقال في الإرشاد: وصى إلى الصادق (عليه السلام) أبوه أبو جعفر (عليه السلام) وصيةً ظاهرةً، ونص عليه بالإمامة نصاً جلياً(2).
عن أبي الصباح الكناني، قال: نظر أبو جعفر إلى ابنه أبي عبد اللّه (عليهما السلام) ، فقال: «ترى هذا، هذا من الذين قال اللّه تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ}(3)»(4).
روى محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «لما حضرت أبي الوفاة. قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جعلت فداك، واللّه لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً»(5).
ص: 21
عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سُئل أبو جعفر (عليه السلام) عن القائم بعده، فضرب بيده على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وقال: «هذا واللّه ولدي قائم آل بيت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).
روى علي بن الحكم، عن طاهر صاحب أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: كنت عنده، فأقبل جعفر (عليه السلام) . فقال أبو جعفر: «هذا خير البرية»(2).
في رواية عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن أبي استودعني ما هناك. فلما حضرته الوفاة، قال: ادع لي شهوداً. فدعوت أربعةً من قريش، فيهم: نافع مولى عبد اللّه بن عمر. فقال: اكتب هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(3)، وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد، وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه يوم الجمعة، وأن يعممه بعمامته، وأن يربع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحل عنه أطماره عند دفنه. ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم اللّه. فقلت له: يا أبت، ما كان في هذا بأن يشهد عليه!. فقال: يا بني، كرهت أن تغلب، وأن يقال: لم
ص: 22
يوصَ إليه، وأردت أن تكون لك الحجة»(1).
عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، أنه سُئل عن القائم (عليه السلام) ، فضرب بيده على أبي عبد اللّه، ثم قال: «هذا واللّه قائم آل محمد».
قال عنبسة بن مصعب: فلما قبض أبو جعفر (عليه السلام) ، دخلت على ابنه أبي عبد اللّه، فأخبرته بذلك. فقال: «صدق جابر على أبي - ثم قال (عليه السلام) - ترون أن ليس كل إمام هو القائم بعد الإمام الذي قبله»(2).
عن محمد بن مسلم، قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) . إذ دخل جعفر ابنه - وعلى رأسه ذؤابة، وفي يده عصاً يلعب بها - فأخذه الباقر (عليه السلام) وضمه إليه ضماً، ثم قال: «بأبي أنت وأمي، لا تلهو ولا تلعب - ثم قال لي - يا محمد، هذا إمامك بعدي فاقتد به، واقتبس من علمه. واللّه، إنه لهو الصادق الذي وصفه لنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . إن شيعته منصورون في الدنيا والآخرة، وأعداؤه ملعونون على لسان كل نبي». فضحك جعفر (عليه السلام) واحمر وجهه، فالتفت إليَّ أبو جعفر وقال لي: «سله». قلت له: يا ابن رسول اللّه، من أين الضحك؟. قال: «يا محمد، العقل من القلب، والحزن من الكبد، والنفس من الرئة، والضحك
ص: 23
من الطحال». فقمت وقبلت رأسه(1).
عن همام بن نافع، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) لأصحابه يوماً: «إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا، فهو الإمام والخليفة بعدي»، وأشار إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) (2).
في رواية الأعمش، قال الصادق (عليه السلام) : «ألواح موسى عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين»(3).
روي: أنه جاء أبو حنيفة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) ؛ ليسمع منه، وخرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) يتوكأ على عصاً. فقال له أبو حنيفة: يا ابن رسول اللّه، ما بلغت من السن ما تحتاج معه إلى العصا. قال: «هو كذلك، ولكنها عصا رسول اللّه، أردت التبرك بها». فوثب أبو حنيفة إليه، وقال له: أقبلها يا ابن رسول اللّه. فحسر أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن ذراعه، وقال له: «واللّه، لقد علمتَ أن هذا بشر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأن هذا من شعره، فما قبلته وتقبل عصاً»(4).
ص: 24
عن عبد الرحمن بن كثير - في خبر طويل -: إن رجلاً دخل المدينة يسأل عن الإمام، فدلوه على عبد اللّه بن الحسن، فسأله هنيئةً ثم خرج، فدلوه على جعفر بن محمد (عليه السلام) فقصده. فلما نظر إليه جعفر (عليه السلام) ، قال: «يا هذا، إنك كنت دخلت مدينتنا هذه تسأل عن الإمام، فاستقبلك فتية من ولد الحسن، فأرشدوك إلى عبد اللّه بن الحسن، فسألته هنيئةً ثم خرجت. فإن شئت أخبرتك عما سألته وما رد عليك، ثم استقبلك فتية من ولد الحسين، فقالوا لك: يا هذا، إن رأيت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل». فقال: صدقت قد كان كما ذكرت. فقال له: ارجع إلى عبد اللّه بن الحسن، فسله عن درع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعمامته.
فذهب الرجل، فسأله عن درع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعمامة. فأخذ درعاً من كندوج له، فلبسها فإذا هي سابغة. فقال: كذا كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلبس الدرع. فرجع إلى الصادق (عليه السلام) فأخبره. فقال: «ما صدق». ثم أخرج خاتماً، فضرب به الأرض، فإذا الدرع والعمامة ساقطين من جوف الخاتم، فلبس أبو عبد اللّه (عليه السلام) الدرع، فإذا هي إلى نصف ساقه، ثم تعمم بالعمامة، فإذا هي سابغة، فنزعها ثم ردهما في الفص، ثم قال: «هكذا كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلبسها. إن هذا ليس مما غزل في الأرض، إن خزانة اللّه في كن، وإن خزانة الإمام في خاتمه، وإن اللّه عنده الدنيا كسكرجة، وإنها عند الإمام كصحيفة، ولو لم يكن الأمر هكذا، لم نكن أئمةً وكنا كسائر الناس»(1).
ص: 25
قال الصادق (عليه السلام) : «إن عندي سيف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإن عندي لراية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المغلبة، وإن عندي لخاتم سليمان بن داود (عليهما السلام) ، وإن عندي الطشت الذي كان موسى يقرب بها القربان، وإن عندي الاسم الذي كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة، وإن عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة، ومثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل». يعني أنه كان دلالةً على الإمامة(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «واللّهِ، عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش، إملاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكتبه علي (عليه السلام) بيده (صلوات اللّه عليه)»(2).
وعن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ذات يوم جالساً إذ قال: «يا أبا محمد، هل تعرف إمامك؟». قلت: إي واللّه الذي لا إله إلا هو وأنت هو، ووضعت يدي على ركبته أو فخذه. فقال (عليه السلام) : «صدقت، قد عرفت فاستمسك به». قلت: أريد أن تعطيني علامة الإمام؟. قال: «يا أبا محمد، ليس بعد المعرفة علامة». قلت: أزداد إيماناً ويقيناً. قال: «يا أبا محمد، ترجع إلى الكوفة وقد ولد
ص: 26
لك عيسى، ومن بعد عيسى محمد، ومن بعدهما ابنتان. واعلم أن ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع أسماء شيعتنا، وأسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وأنسابهم، وما يلدون إلى يوم القيامة». وأخرجها فإذا هي صفراء مدرجة(1).
عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) - في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}(2) - قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أما واللّه لربما وسدنا لهم الوسائد في منازلنا»(3).
عن الحسين بن العلاء القلانسي، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا حسين»، وضرب بيده إلى مساور في البيت، فقال: «مساور طالما واللّه اتكأت عليها الملائكة، وربما التقطنا من زغبها»(4).
ص: 27
عن عبد اللّه بن النجاشي، قال: كنت في حلقة عبد اللّه بن الحسن. فقال: يا ابن النجاشي، اتقوا اللّه ما عندنا إلا ما عند الناس. قال: فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأخبرته بقوله. فقال: «واللّهِ، إن فينا من ينكت في قلبه، وينقر في أذنه، وتصافحه الملائكة». فقلت: اليوم أو كان قبل اليوم؟. فقال: «اليوم - واللّه - يا ابن النجاشي»(1).
روي: أن صفوان بن يحيى، قال: قال لي العبدي: قالت أهلي: قد طال عهدنا بالصادق (عليه السلام) ، فلو حججنا وجددنا به العهد. فقلت لها: واللّهِ، ما عندي شيء أحج به. فقالت: عندنا كسوة وحُلي، فبع ذلك وتجهز به. ففعلت، فلما صرنا قرب المدينة، مرضت مرضاً شديداً، وأشرفت على الموت. فلما دخلنا المدينة، خرجت من عندها، وأنا آيس منها، فأتيت الصادق (عليه السلام) ، وعليه ثوبان ممصران. فسلمت عليه، فأجابني وسألني عنها، فعرفته خبرها. وقلت: إني خرجت، وقد أيست منها. فأطرق ملياً ثم قال: «يا عبدي، أنت حزين بسببها؟». قلت: نعم. قال: «لا بأس عليها، فقد دعوت اللّه لها بالعافية، فارجع إليها، فإنك تجدها قاعدةً والخادمة تلقمها الطبرزد». قال: فرجعت إليها مبادراً، فوجدتها قد أفاقت، وهي قاعدة والخادمة تلقمها الطبرزد. فقلت: ما حالكِ؟. قالت: قد صب اللّه عليَّ العافية صباً، وقد اشتهيت هذا السكر.
ص: 28
فقلت: خرجت من عندك آيساً، فسألني الصادق (عليه السلام) عنكِ فأخبرته بحالكِ. فقال: لا بأس عليها، ارجع إليها فهي تأكل السكر. قالت: خرجت من عندي، وأنا أجود بنفسي، فدخل عليَّ رجل عليه ثوبان ممصران. قال: ما لكِ؟. قلت: أنا ميتة، وهذا ملك الموت قد جاء يقبض روحي. فقال: يا ملك الموت. قال: لبيك أيها الإمام. قال: أ لست أمرت بالسمع والطاعة لنا. قال: بلى. قال: فإني آمرك أن تؤخر أمرها عشرين سنةً. قال: السمع والطاعة. قال: فخرج هو وملك الموت، فأفقت من ساعتي(1).
عن داود بن كثير الرقي، قال: كنت جالساً عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، إذ قال لي مبتدئاً من قبل نفسه: «يا داود، لقد عرضت عليَّ أعمالكم يوم الخميس، فرأيت فيما عرض عليَّ من عملك صلتك لابن عمك فلان، فسرني ذلك. إني علمت أن صلتك له أسرع لفناء عمره، وقطع أجله». قال داود: وكان لي ابن عم معانداً ناصباً خبيثاً، بلغني عنه وعن عياله سوء حال، فصككت له نفقةً قبل خروجي إلى مكة. فلما صرت بالمدينة، خبرني أبو عبد اللّه (عليه السلام) بذلك(2).
ومن خصائصهم (عليهم السلام) إحياء الموتى بإذن اللّه، روى محمد بن راشد، عن جده، قال: قصدت إلى جعفر بن محمد، أسأله عن مسألة. فقالوا: مات السيد الحميري
ص: 29
الشاعر، وهو في جنازته، فمضيت إلى المقابر، فاستفتيته فأفتاني. فلما أن قمت، أخذ بثوبي فجذبني إليه، ثم قال: «إنكم معاشر الأحداث تركتم العلم». فقلت: أنت إمام هذا الزمان؟. قال: «نعم». قلت: فدليل أو علامة؟. فقال: «سلني عما شئت، أخبرك به إن شاء اللّه». قال: إني أصبت بأخ لي، قد دفنته في هذه المقابر، فأحيه لي بإذن اللّه؟. قال: «ما أنت بأهل لذلك، ولكن أخوك كان مؤمناً، واسمه كان عندنا أحمد». ثم دنا من قبره، فانشق عنه قبره، وخرج إليَّ وهو يقول: يا أخي، اتبعه ولا تفارقه. ثم عاد إلى قبره، واستحلفني على أن لا أخبر أحداً به(1).
روى أحمد بن فارس، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: دخل إليه قوم من أهل خراسان. فقال ابتداءً قبل أن يُسأل: «من جمع مالاً يحرسه، عذبه اللّه على مقداره». فقالوا له بالفارسية: لا نفهم بالعربية. فقال لهم: «هر كه درم اندوزد جزايش دوزخ باشد - وقال - إن لله مدينتين، إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، على كل مدينة سور من حديد، فيها ألف ألف باب من ذهب، كل باب بمصراعين، وفي كل مدينة سبعون ألف لسان مختلفات اللغات، وأنا أعرف جميع تلك اللغات، وما فيها وما بينهما حجة غيري، وغير آبائي، وغير أبنائي بعدي»(2).
ص: 30
عن عمرو بن خالد، قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه، ولا يهتدي من خالفه»(1).
ص: 31
4
كان الإمام الصادق (عليه السلام) عالماً بالعلم اللدني بإذن اللّه تعالى، وكان (عليه السلام) أعلم أهل زمانه على الإطلاق.
ومن الواضح أن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كانوا كرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، يعلمون بما كان وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وذلك بإذن اللّه المتعال.
وهذا ما يقر به كل من يعرف مقام الإمامة والعصمة، أما من يستبعد ذلك، فإن كان من سائر المذاهب كالمخالفين، والأديان كأهل الكتاب، فيجاب بأنه في مذهبه ودينه أن الأنبياء (عليهم السلام) كان لهم العلم اللدني بإذن اللّه عز وجل.
يقول تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(1).
وإن كان من الملحدين والدهريين، فلابد أولاً من إثبات التوحيد والنبوة له، ثم إثبات العلم لهم (عليهم السلام) .
وإلا فمثل من لا يعترف بأن ابن سينا كان طبيباً حاذقاً، لا يقبل بوصفته العلاجية، وحينئذٍ لابد من إثبات كونه طبيباً، ثم القبول بوصفته.
ص: 32
ويمكن تقريب المعنى لغير المعتقدين، بأنه كيف يمكن لجهاز صامت ميت أن يحمل الملايين من العلوم كما في الحاسوب، ولا يمكن للإنسان الذي هو فوق الأجهزة الصامتة أن لا يحمل الملايين من العلوم.
نعم، الاستغراب قد يكون لأنهم لم يشاهدوا مثل هؤلاء الأطهار (صلوات اللّه عليهم أجمعين).
عن عبد الأعلى وعبيدة بن بشر، قالا: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) ابتداءً منه: «واللّهِ، إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة - ثم سكت ثم قال - أعلمه عن كتاب اللّه، أنظر إليه هكذا - ثم بسط كفه وقال - إن اللّه يقول: فيه تبيان كل شيء»(1).
عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إن اللّه بعث محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبياً فلا نبي بعده، أنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم - ثم أومأ بيده إلى صدره وقال - نحن نعلمه»(2).
ص: 33
عن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام، فأقبلت أقول: يقولون كذا وكذا. قال: فيقول لي: «قل كذا». فقلت: هذا الحلال والحرام، والقرآن أعلم أنك صاحبه وأعلم الناس به، فهذا الكلام من أين؟. فقال: «يحتج اللّه على خلقه بحجة لا يكون عنده كلما يحتاجون إليه؟»(1).
على صيغة الاستفهام.
روي عن صفوان الجمال، قال: كنت بالحيرة مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، إذ أقبل الربيع وقال: أجب الأمير. فلم يلبث أن عاد، قلت: أسرعت الانصراف!. قال: «إنه سألني عن شيء، فاسأل الربيع عنه».
فقال صفوان: وكان بيني وبين الربيع لطف، فخرجت إلى الربيع وسألته. فقال: أخبرك بالعجب. إن الأعراب خرجوا يجتنون الكمأة، فأصابوا في البر خلقاً ملقى فأتوني به، فأدخلته على الخليفة، فلما رآه قال: نحه وادع جعفراً. فدعوته فقال: يا أبا عبد اللّه، أخبرني عن الهواء ما فيه؟. قال: «في الهواء موج مكفوف». قال: ففيه سكان؟. قال: «نعم». قال: وما سكانه؟. قال: «خلق أبدانهم أبدان الحيتان، ورؤوسهم رؤوس الطير، ولهم أعرفة كأعرفة الديكة، ونغانغ كنغانغ الديكة، وأجنحة كأجنحة الطير، من ألوان أشد بياضاً من الفضة
ص: 34
المجلوة». فقال الخليفة: هلم الطشت. فجئت بها وفيها ذلك الخلق، وإذا هو واللّه كما وصفه جعفر (عليه السلام) . فلما نظر إليه جعفر (عليه السلام) قال: «هذا هو الخلق الذي يسكن الموج المكفوف». فأذن له بالانصراف، فلما خرج قال: ويلك يا ربيع، هذا الشجا المعترض في حلقي من أعلم الناس(1).
عن الحسن بن زياد، قال: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيته؟. قال: جعفر بن محمد (عليه السلام) ، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ. فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الشداد. فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فأتيته فدخلت عليه وجعفر (عليه السلام) جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلت من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت عليه، فأومأ إليَّ فجلست، ثم التفت إليه. فقال: يا أبا عبد اللّه، هذا أبو حنيفة. قال (عليه السلام) : «نعم أعرفه». ثم التفت إليَّ فقال: يا أبا حنيفة، ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك.
فجعلتُ ألقي عليه فيجيبني، فيقول: «أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا». فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخل منها بشيء.
ثم قال أبو حنيفة: أ ليس أن أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس(2).
ص: 35
عن أبان بن تغلب - في خبر - أنه دخل يماني على الصادق (عليه السلام) . فقال له: «مرحباً بك يا سعد». فقال الرجل: بهذا الاسم سمتني أمي، وقلَّ من يعرفني به.
فقال: «صدقت يا سعد المولى». فقال: جعلت فداك، بهذا كنت ألقب. فقال: «لا خير في اللقب. إن اللّه يقول: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}(1)، ما صناعتك يا سعد؟». قال: أنا من أهل بيت ننظر في النجوم. فقال: «كم ضوء الشمس على ضوء القمر درجة؟». قال: لا أدري. قال: «فكم ضوء القمر على ضوء الزهرة درجة؟». قال: لا أدري. قال: «فكم للمشتري من ضوء عطارد؟». قال: لا أدري. قال: «فما اسم النجوم التي إذا طلعت هاجت البقر؟». قال: لا أدري. فقال (عليه السلام) : «يا أخا أهل اليمن، عندكم علماء؟». قال: نعم، إن عالمهم ليزجر الطير، ويقفو الأثر في الساعة الواحدة، مسيرة سير الراكب المجد.
فقال (عليه السلام) : «إن عالم المدينة أعلم من عالم اليمن؛ لأن عالم المدينة ينتهي إلى حيث لا يقفو الأثر، ويزجر الطير، ويعلم ما في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس، يقطع اثني عشر برجاً، واثني عشر بحراً، واثني عشر عالماً». قال: ما ظننت أن أحداً يعلم هذا ويدري(2).
عن هشام الخفاف، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كيف بصرك بالنجوم؟».
ص: 36
قال: قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني. فقال: «كيف دوران الفلك عندكم؟». قال: فأخذت قلنسوتي عن رأسي فأدرتها. قال: فقال: «فإن كان الأمر على ما تقول، فما بال بنات نعش والجدي والفرقدين لا يرون يدورون يوماً من الدهر في القبلة؟». قال: قلت: واللّه، هذا شيء لا أعرفه، ولا سمعت أحداً من أهل الحساب يذكره.
فقال لي: «كم السكينة من الزهرة جزءاً في ضوئها؟». قال: قلت: هذا واللّه نجم ما سمعت به، ولا سمعت أحداً من الناس يذكره». فقال: «سبحان اللّه! فأسقطتم نجماً بأسره فعلى ما تحسبون - ثم قال - فكم الزهرة من القمر جزءاً في ضوئه؟». قال: فقلت: هذا شيء لا يعلمه إلا اللّه عز وجل. قال: «فكم القمر جزءاً من الشمس في ضوئها؟». قال: فقلت: ما أعرف هذا. قال: «صدقت».
ثم قال: «ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب، وفي هذا حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ويحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثم يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النجوم؟». قال: فقلت: لا واللّه ما أعلم ذلك.
قال: فقال (عليه السلام) : «صدقت، إن أصل الحساب حق، ولكن لا يعلم ذلك إلا من علم مواليد الخلق كلهم»(1).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «أنا امرؤ من قريش، قد ولدني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعلمت كتاب اللّه، وفيه تبيان كل شيء، بدء الخلق، وأمر السماء، وأمر الأرض، وأمر الأولين، وأمر الآخرين، وأمر ما كان وما يكون، كأني أنظر إلى
ص: 37
ذلك نصب عيني»(1).
عن كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: إن الإمام الصادق (عليه السلام) كتب كتاباً في الجفر، (وهو جلد جفر، ادعوا أنه كتب فيه لهم الإمام كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة)(2).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلوب، ونقر في الأسماع. وإن عندنا الجفر الأحمر، والجفر الأبيض، ومصحف فاطمة (عليها السلام) . وإن عندنا الجامعة، فيها جميع ما يحتاج الناس إليه»(3).
ثم يسأل الراوي تفسير هذه الكلمات من الإمام (صلوات اللّه عليه)، فقال: «أما الغابر فالعلم بما يكون، وأما المزبور فالعلم بما كان، وأما النكت في القلوب فهو الإلهام، والنقر في الأسماع حديث الملائكة، نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم. وأما الجفر الأحمر، فوعاء فيه سلاح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولن يظهر حتى يقوم قائمنا أهل البيت. وأما الجفر الأبيض، فوعاء فيه توراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود، وكتب اللّه الأولى. وأما مصحف فاطمة (عليها السلام) ، ففيه ما يكون من حادث، وأسماء كل من يملك إلى أن تقوم الساعة. وأما الجامعة، فهي كتاب طوله سبعون ذراعاً، إملاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من فلق فيه، وخط علي
ص: 38
بن أبي طالب (عليه السلام) بيده، فيه واللّه جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، حتى إن فيه أرش الخدش، والجلدة، ونصف الجلدة»(1).
عن علي بن رئاب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه سئل عن الجامعة. قال: «تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم، مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش»(2).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول - وذكر ابن شبرمة - فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أين هو من الجامعة، إملاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وخطه علي (عليه السلام) بيده، فيها الحلال والحرام حتى أرش الخدش»(3).
ولا يستغرب ذلك على الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، فإنهم أفضل من الأنبياء - ما عدا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فإذا كان هناك إلهام ووحي للأنبياء، فيجوز لهم أيضاً.
بل إن الإلهام والوحي يكون لغير الأنبياء والأئمة أيضاً، بل ولغير البشر.
قال تعالى في قصة موسى (عليه السلام) : {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}(4).
وقال عزوجل في النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}(5).
ص: 39
وأما حديث الملائكة ونزولها، فيكون لغير الأنبياء أيضاً، يقول تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}(1).
وأما الجفر: فهو جلد الكبش، كما في اللغة(2). وكان عندهم (عليهم السلام) جلد كبش أحمر، فيه سلاح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
وربما يكون السلاح، كناية عن ضرورة القوة في محلها، وذلك لردع من يعتدي على الناس، يقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}(3).
وربما كان احمرار الجفر لمناسبة السلاح.
والجفر الأبيض: هو جلد أبيض، فيه كتب الأنبياء السابقين (عليهم السلام) .
أما مصحف الصديقة فاطمة (عليها السلام) فلا يعني القرآن، ولا قرآن آخر، بل المصحف في اللغة هو الكتاب، وسُمِّيَ بفاطمة؛ لأن هذا الكتاب كتب لأجل الصديقة الطاهرة، وهي أيضاً كتبت قسماً منها، فكانت الزهراء (عليها السلام) أول امرأة مؤلفة وكاتبة في الإسلام؛ لتكون أسوة لسائر النساء. كما أن أول رجل ألَّف الكتاب في الإسلام، هو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وكتابه مشهور بكتاب علي (عليه السلام) ، وفي بعض الروايات أن المعصوم (عليه السلام) نقل عنه(4).
ص: 40
أما ما كان طوله سبعين ذراعاً، فالظاهر أن بعض الكتب سابقاً كان على نحو الطومار.
ثم إن الظاهر أن كل هذه العلوم كانت مكتوبة في الكتاب على نحو الرموز، وربما يقرب المعنى في يومنا هذا بالكتابة في الحاسوب، فالكتب التي هي من خصائص الإمامة ربما كانت على نحو الإعجاز.
وفي بعض الروايات أن في مصحف فاطمة (عليها السلام) من التفسير والتأويل والعلوم ما لم يذكر في القرآن الكريم(1).
نعم القرآن يشتمل على جميع العلوم، ولكن الظاهر أنها على شكل رموز، لا على نحو الظهور والتفصيل، كعشرات الآلاف من المسائل الطبية والهندسية والفلكية والجغرافية والرياضية والتربوية والعسكرية وغيرها، فهي لم تذكر صراحة في القرآن، وربما ذكرت في مصحف فاطمة (عليها الصلاة والسلام).
وقال الصادق (عليه السلام) : «ما من نبي ولا وصي ولا ملك إلا وهو في كتاب عندي، يعني مصحف فاطمة (عليها السلام) »(2).
وعن حماد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «تظهر الزنادقة سنة ثمانية وعشرين ومائة؛ وذلك لأني نظرت في مصحف فاطمة (عليه السلام) »(3).
ص: 41
قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : لعل المراد ابن أبي العوجاء وأضرابه الذين ظهروا في أواسط زمانه (عليه السلام) (1).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) - في حديث -: «وعندنا واللّه صحيفة طولها سبعون ذراعاً، ما خلق اللّه من حلال وحرام إلا وهو فيها، حتى إن أرش الخدش، وقال بظفره على ذراعه، فخط به، وعندنا مصحف فاطمة (عليها السلام) أما واللّه ما هو في القرآن»(2).
وقال الصادق (عليه السلام) - في حديث -: «واللّه - وأهوى بيده إلى صدره - إن عندنا سلاح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيفه ودرعه، وعندنا واللّه مصحف فاطمة ما فيه آية من كتاب اللّه، وإنه لإملاء من إملاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وخطه علي (عليه السلام) بيده، والجفر وما يدرون ما هو مسك شاة أو مسك بعير»(3).
عن سورة بن كليب، قال: قال لي زيد بن علي (عليه السلام) : يا سورة، كيف علمتم أن صاحبكم على ما تذكرون؟. قال: فقلت: على الخبير سقطت. قال: فقال: هات. فقلت له: كنا نأتي أخاك محمد بن علي (عليه السلام) نسأله، فيقول: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقال اللّه جل وعز في كتابه»، حتى مضى أخوك فأتيناكم آل محمد، وأنت فيمن أتينا، فتخبرونا ببعض، ولا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه، حتى
ص: 42
أتينا ابن أخيك جعفراً (عليه السلام) ، فقال لنا كما قال أبوه: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقال تعالى». فتبسم وقال: أما واللّه إن قلت هذا؛ فإن كتب علي (صلوات اللّه عليه) عنده(1).
عن سالم بن أبي حفصة، قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) . قلت لأصحابي: انتظروني حتى أدخل على أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) فأعزيه، فدخلت عليه فعزيته، ثم قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب واللّه من كان يقول: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلا يسأل عمن بينه وبين رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لا واللّه لا يرى مثله أبداً. قال: فسكت أبو عبد اللّه (عليه السلام) ساعةً، ثم قال: «قال اللّه عز وجل: إن من عبادي من يتصدق بشق تمرة، فأربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى أجعلها له مثل أحد».
فخرجت إلى أصحابي. فقلت: ما رأيت أعجب من هذا، كنا نستعظم قول أبي جعفر (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلا واسطة، فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : قال اللّه عز وجل بلا واسطة»(2).
عن سدير الصيرفي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وقد اجتمع إليَّ ماله، فأحببت دفعه إليه، وكنت حبست منه ديناراً؛ لكي أعلم أقاويل الناس،
ص: 43
فوضعت المال بين يديه.
فقال لي: «يا سدير، خنتنا ولم ترد بخيانتك إيانا قطيعتنا». قلت: جعلت فداك، وما ذاك؟!. قال: «أخذت شيئاً من حقنا؛ لتعلم كيف مذهبنا». قلت: صدقت جعلتُ فداك، إنما أردت أن أعلم قول أصحابي. فقال لي: «أما علمت أن كل ما يُحتاج إليه نعلمه، وعندنا ذلك، أما سمعت قول اللّه تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(1). اعلم أن علم الأنبياء محفوظ في علمنا، مجتمع عندنا، وعلمنا من علم الأنبياء، فأين يذهب بك».
قلت: صدقت جعلت فداك(2).
عن إسماعيل بن عبد اللّه القرشي، قال: أتى إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) رجل. فقال: يا ابن رسول اللّه، رأيت في منامي كأني خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه، وكان شبحاً من خشب أو رجلا منحوتاً من خشب، على فرس من خشب يلوح بسيفه، وأنا أشاهده فزعاً مرعوباً.
فقال له (عليه السلام) : «أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته، فاتق اللّه الذي خلقك ثم يميتك».
فقال الرجل: أشهد أنك قد أوتيت علماً، واستنبطته من معدنه، أخبرك يا ابن رسول اللّه عما قد فسرت لي. إن رجلاً من جيراني، جاءني وعرض عليَّ ضيعته، فهممت أن أملكها بوكس كثير؛ لما عرفت أنه ليس لها طالب غيري.
ص: 44
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «وصاحبك يتوالانا ويبرأ من عدونا». فقال: نعم يا ابن رسول اللّه، لو كان ناصبياً حل لي اغتياله؟. فقال: «أد الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة، ولو إلى قاتل الحسين (عليه السلام) »(1).
ورد في بعض الكتب، أنه كان للإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) مجلس لعامة الناس، ومجلس للخواص، ولتلامذته في مختلف العلوم.
وكان (عليه السلام) يحث على طلب العلم، ويجيب على أي سؤال يطرح عليه من دون تفكر، وكان الناس ومن جميع الطوائف والمذاهب والفرق والأديان يسألونه، ويستفيدون من علمه.
في المناقب لابن شهرآشوب، قال: (ينقل عن الصادق (عليه السلام) من العلوم ما لا ينقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات وكانوا أربعة آلاف رجل)(2).
وفي بعض الروايات: عشرين ألفاً، بل أكثر.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «تلاقوا وتحادثوا العلم؛ فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا، فرحم اللّه من أحيا أمرنا»(3).
ص: 45
وعن الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «إن اللّه عز وجل يقول لملائكته - عند انصراف أهل مجالس الذكر والعلم إلى منازلهم -: اكتبوا ثواب ما شاهدتموه من أعمالهم. فيكتبون لكل واحد ثواب عمله، ويتركون بعض من حضر معهم فلا يكتبونه. فيقول اللّه عز وجل: ما لكم لم تكتبوا فلانا، أ ليس كان معهم وقد شهدهم!. فيقولون: يا رب، إنه لم يشرك معهم بحرف، ولا تكلم معهم بكلمة. فيقول الجليل جل جلاله: أ ليس كان جليسهم؟. فيقولون: بلى يا رب. فيقول: اكتبوه معهم، إنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم. فيكتبونه معهم، فيقول تعالى: اكتبوا له ثواباً مثل ثواب أحدهم»(1).
كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يأمرون بالكتابة، ويشجعون على التأليف، ويحثون على تدوين الأحاديث، وتسجيل العلوم. وقد سجل التاريخ كتباً لهم بإملائهم، أو ما أشبه.
ذكر السيد الأمين (رحمه اللّه) في الأعيان مؤلفات عديدة للإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) فقال: (الأول: رسالته (عليه السلام) إلى النجاشي والي الأهواز، المعروفة برسالة عبد اللّه بن النجاشي.
والثاني: رسالة له (عليه الصلاة والسلام) أوردها الصدوق في الخصال، وأورد سنده إليها عن الأعمش، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، تتضمن شرائع الدين من: الوضوء، والغسل بأقسامه، والصلاة بأقسامها، والزكاة - زكاة المال وزكاة
ص: 46
الفطرة -، والحيض، والصيام، والحج، والجهاد، والنكاح، الطلاق، وأحكام الصلاة على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وحب أولياء اللّه، والبراءة من أعداء اللّه، وبر الوالدين، وحكم المتعتين، وأحكام الأولاد، وأفعال العباد، والجبر والتفويض، وحكم الأطفال، وعصمة الأنبياء والأئمة، وخلق القرآن، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعنى الإيمان، وعذاب القبر، والبعث، والتكبير في العيدين، وأحكام النفساء، والأطعمة والأشربة، والصيد والذباحة، والكبائر، وغير ذلك.
الثالث: الكتاب المسمى بتوحيد المفضل؛ لأنه راويه، وإلا فهو من تأليف الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام)، وهو أحسن كتاب في رد الدهرية وإثبات الصانع، موجود بتمامه في ضمن البحار.
الرابع: كتاب الأهليلجة، برواية المفضل بن عمر أيضاً، وهو موجود في ضمن البحار.
الخامس: كتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، منسوب إلى الصادق (عليه الصلاة والسلام) وهو مطبوع مع (جامع الأخبار) - إلى أن قال - وظاهر السيد علي بن طاووس في أمان الأخطار الاعتماد عليه، حيث قال: ويصحب المسافر معه كتاب الأهليلجة... ويصحب معه كتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة عن الصادق (عليه الصلاة والسلام)؛ فإنه كتاب لطيف شريف في التعريف بالتسليك إلى اللّه جل جلاله، والإقبال إليه، والظفر بالأسرار التي اشتملت عليه. وعن الكفعمي في مجموع الغرائب، أنه قال: ومن كتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، قال الصادق (عليه السلام) ، ونقل منه أشياء كثيرة بلفظ قال الصادق. وعن الشهيد الثاني في كشف الريبة، ومنية المريد، ومسكن الفؤاد، وأسرار الصلاة،
ص: 47
أنه نقل جملة من أخباره ناسباً لها إلى الصادق (عليه السلام) بصورة الجزم. وقال في آخر بعضها: هذا كله من كلام الصادق (عليه السلام) . وعن السيد حسين القزويني في كتابه جامع الشرائع، أنه قال - عند بيان الكتب المأخوذ كتابه منها -: ومصباح الشريعة المنسوب إليه يعني الصادق (عليه السلام) ، بشهادة الشارح الفاضل يعني: الشهيد الثاني، والسيد ابن طاووس، ومولانا محسن الكاشاني، وغيرهم، فلا وجه لتشكيك بعض المتأخرين بعد ذلك.
السادس: رسالته إلى أصحابه، رواها الكليني في أول روضة الكافي بسنده، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه، وأمرهم بمدارستها، والنظر فيها، وتعاهدها، والعمل بها، وكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.
السابع: رسالته إلى أصحاب الرأي والقياس.
الثامن: رسالته (عليه السلام) في الغنائم، ووجوب الخمس، أوردها وما بعدها إلى السادس عشر في تحف العقول.
التاسع: وصيته لعبد اللّه بن جندب.
العاشر: وصيته لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول.
الحادي عشر: نثر الدرر، كما سماه بعض الشيعة.
الثاني عشر: كلامه في وصف المحبة لأهل البيت، والتوحيد، والإيمان، والإسلام، والفسق.
الثالث عشر: رسالته في وجوه معايش العباد، ووجوه إخراج الأموال، جواباً لسؤال من سأله: كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب، والتعامل بينهم، ووجوه النفقات.
ص: 48
الرابع عشر: رسالته في احتجاجه على الصوفية فيما ينهون عنه من طلب الرزق.
الخامس عشر: كلامه في خلق الإنسان وتركيبه.
السادس عشر: حِكَمه القصيرة.
السابع عشر: نسخة ذكرها النجاشي في ترجمة محمد بن ميمون الزعفراني، حيث روى عن أبي عبد اللّه (عليه الصلاة والسلام) هذه النسخة.
الثامن عشر: نسخة رواها الفضيل بن عياض عنه (عليه السلام) .
التاسع عشر: نسخة رواها عبد اللّه بن أبي أويس بن مالك بن عامر الأصبحي - حليف بني تميم بن مرة - عنه (عليه السلام) .
العشرون: نسخة رواها سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي.
الواحد والعشرون: نسخة يرويها إبراهيم بن رجاء الشيباني.
الثاني والعشرون: كتاب يرويه جعفر بن بشر البجلي. قال الشيخ في الفهرست: له كتاب ينسب إلى جعفر بن محمد، رواية علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) .
الثالث والعشرون: كتاب رسائله، رواه عنه جابر بن حيان الكوفي. قال اليافعي في مرآة الجنان: له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد ألَّف تلميذه جابر بن حيان كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائله، وهي خمسمائة رسالة.
وفي فهرست ابن النديم: قالت الشيعة: إن جابر بن حيان من كبارهم وأحد الأبواب - قال - وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق - إلى أن قال - ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة أنا أوردها في مواضعها - إلى أن قال السيد الأمين -
ص: 49
وقد تحقق لنا أن جابر بن حيان كان من تلاميذ الصادق (عليه السلام) .
الرابع والعشرون: تقسيم الرؤيا. ففي كشف الظنون، قال: تقسيم الرؤيا للإمام جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام).
قال السيد الأمين: هذا ما عرف من الكتب التي دونت وحدها، وعرفت بأسماء مخصوصة، وإلا فالذي جمع مما رواه عنه العلماء في فنون شتى من فنون العلم، في: الكلام، والتوحيد، والفقه، والطب، والاحتجاج، والحِكَم، والمواضع، والآداب، وغير ذلك لا يكاد يحيط به الحصر، وتكفلت بجمعه كتب الأخبار والأحاديث)(1)، انتهى كلام السيد الأمين.
ويستحسن جمع هذه الكتب القيمة في موسوعة واحدة مع سائر خصوصياتها.
قال الجاحظ: (وفجر الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل، وقد ملأ الدنيا بعلمه).
وفي الصواعق المحرقة: (ونقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان)(2).
وفي تاريخ العرب للسيد ميرعلي: (وهو - الإمام الصادق - رجل رحب أفق التفكير، بعيد أغوار العقل، ملم كل الإلمام بعلوم عصره. ويعتبر في الواقع أول
ص: 50
من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة، والمتفلسفون من الأنحاء القاصية)(1).
وفي مناقب ابن شهرآشوب: (ينقل عنه من العلوم ما لا ينقل عن أحد)(2).
وقال أيضاً: (قال نوح بن دراج لابن أبي ليلى: أ كنتَ تاركاً قولاً قلتَه، أو قضاء قضيتَه لقول أحد؟. قال: لا، إلا رجلاً واحداً. قال: من هو؟. قال: جعفر بن محمد (عليه السلام) )(3).
وقال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في الإرشاد: (نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل)(4).
والحافظ بن عقدة الزيدي جمع في كتاب رجاله: (أربعة آلاف رجل من الثقات الذين رووا عن جعفر بن محمد، فضلاً عن غيرهم، وذكر مصنفاتهم)(5).
ص: 51
وقال المحقق (رحمه اللّه) في المعتبر: (انتشر عن جعفر بن محمد (عليه السلام) من العلوم الجمة ما بهر به العقول)(1).
وروى عنه راوٍ واحد وهو أبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، روى النجاشي في رجاله بسنده، عن الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث»(2).
و روى النجاشي أيضاً في رجاله بسنده، عن الحسن بن علي الوشاء - في حديث - أنه قال: (أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ، كل يقول: حدثني جعفر بن محمد)(3). وكان (عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، وحديث علي حديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وحديث رسول اللّه قول اللّه عزوجل»(4).
وقال ابن شهرآشوب في المناقب: (ولا تخلو كتب أحاديث وحكمة وزهد وموعظة من كلامه، يقولون: قال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) )(5).
ولا بأس هنا لبيان شيء من مختلف علومه في مختلف الأبواب، أن نشير إلى
ص: 52
فهرسة كتاب (الإمام الصادق (عليه السلام) كما عرفه علماء الغرب)(1).
ولا يخفى أن هذا الكتاب فيه ما هو الصحيح، وفيه ما ليس كذلك، ولسنا نريد تصحيح كل ما هو في هذا الكتاب، بل الإشارة إلى شمولية وتنوع ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) .
وهذا العلم الغزير ونشره بما تيسر للبعض؛ سبب للحفاظ على المذهب الشيعي، وتوسعه يوماً بعد يوم.
وهذه فهرسة الكتاب المعرب:
* تمهيد
* الإمام أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام)
* الإمام الصادق (عليه السلام) جوانب من علومه وثقافته
1: معرفته باللغات
أ: الفارسية
ب: العبرية
ج: النبطية
2: الطب
3: الكيمياء
4: علم الهيئة النجوم
* تدوين العلوم في عصر الصادق (عليه السلام)
* موقف الإمام (عليه السلام) من الخلافة والخلفاء
ص: 53
* الصادق (عليه السلام) ونظرته الاقتصادية إلى الحياة
* مولد العبقري
دراساته الأولى
الدراسة في هذه الفترة
جعفر الصادق في مدرسة الإمام الباقر (عليهما السلام)
* حرية البحث العلمي في الإسلام
* الخليفة الأموي ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)
* العلوم التجريبية في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)
المذكرات اليومية
* العناصر الأربعة
الأوكسجين وأول من اكتشفه
* الإمام الصادق (عليه السلام) مؤسس العلوم العرفانية في الإسلام
* خطط الإمام الصادق (عليه السلام) لإنقاذ الشيعة
1: النهي عن المغالاة وتأليه العباد
2: النهي عن المجابهة والخلاف والعزلة عن الناس
* الإمام الصادق (عليه السلام) وانبعاث عصر التجديد في تاريخ العلوم
* نظرية الصادق (عليه السلام) بشأن الأرض
* الإمام الصادق (عليه السلام) ونظرية نشأة الكون
* الإمام الصادق (عليه السلام) والمعارف الجعفرية الشيعية
* مكانة حرية الرأي في مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
* ابن الراوندي وآراؤه الجريئة
ص: 54
* ابن الراوندي في نظر معاصريه
* ابن الراوندي والكيمياء
* الموت في رأي ابن الراوندي
* الأدب عند الإمام الصادق (عليه السلام)
* نقد التاريخ عند الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
* الإنسان وخلقه في رأي الإمام الصادق (عليه السلام)
* نظرية الضوء عند الإمام الصادق (عليه السلام)
* نسبية الزمن عند الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
* نظرية الصادق (عليه السلام) حول أسباب بعض الأمراض
* نظرية الصادق (عليه السلام) بشأن أشعة النجوم
* نظرية الصادق (عليه السلام) بشأن البيئة
* النية والعمل في رأي الإمام الصادق (عليه السلام)
* الفلسفة والحكمة والفرق بينهما في رأي الإمام الصادق (عليه السلام)
* الشك واليقين عند الإمام الصادق (عليه السلام)
* في رأي الصادق (عليه السلام) أن الإنسان يعمل على تقصير عمره
* الرضاعة السليمة في رأي الإمام الصادق (عليه السلام)
* حركة الموجودات في رأي الصادق (عليه السلام)
* الإمام الصادق (عليه السلام) في دروسه
* مناظرات الإمام (عليه السلام) مع الملحدين
* الموت والفناء في نظر الصادق (عليه السلام)
ص: 55
ولا يخفى أن في مطلق الروايات: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والصحيح والسقيم، والصادر لبيان الحكم الواقعي، والصادر لجهة التقية والاضطرار، وما أشبه.
وهكذا كانت الروايات منذ عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان البعض ممن يتعمد الكذب على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حتى قال: «لقد كثرت عليَّ الكذابة، ألا ومن كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار»(1).
نعم، هناك طائفتان من الروايات تم تنقيحها وتحقيقها، ومراجعتها وتدقيقها من قبل العلماء الأخصائيين، وهي: روايات الفقه من الطهارة إلى الديات، وروايات العقائد. فالأولى تكفل بها الفقهاء، والثانية المتكلمون، ولكن بقيت سائر الروايات: كروايات الطب، والتاريخ، وما أشبه لم تنقح.
من هنا لابد من مراجعة أهل الخبرة في مثل هذه الروايات، ولا يمكن الاعتماد على إطلاقاتها، ولا يمكن نفيها وردها.
كما لا يمكن الإشكال على العلماء الذين جمعوها في كتبهم قبل التحقيق في خصوصيتها، فإنهم كمن يلقي الشبك في البحر ويجمع ما حصل، ليقوم الخبير بعد ذلك بتمييزها، أو كمن يجمع الآجر والجص والتراب والحديد وما أشبه لأجل البناء، فيقوم البناء بجعل الشيء المناسب في مكانه المناسب.
يقول الشاعر المعروف، ما معناه(2):
ص: 56
الكون كالعين والأذن والشامة والحاجب***وكل شيء منه حسن في مكانه المناسب
مضافاً إلى أن الأحاديث لابد من ملاحظة بعضها مع بعض، لا أن يلاحظ رواية ولا ينظر إلى غيرها من الروايات، فإن الروايات كأعضاء الإنسان، عندما تكون مع بعض تعطي الجمال والحياة والحيوية، أما مع انفصالها فالأعضاء تفقد جماليتها، بل قد تكون قبيحة منفرة.
عن بعض أصحابنا، قال شكوت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) الوجع. فقال: «إذا أويت إلى فراشك، فكل سكرتين». قال: ففعلت ذلك فبرأت، فخبرت بعض المتطببين، وكان أفره أهل بلادنا. فقال: من أين عرف أبو عبد اللّه (عليه السلام) هذا، هذا من مخزون علمنا. أما إنه صاحب كتب، فينبغي أن يكون أصابه في بعض كتبه(1).
روي عن علي بن أبي حمزة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) مع أبي بصير، فبينما نحن قعود، إذ تكلم أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، فقلت في نفسي: هذا واللّه مما أحمله إلى الشيعة، هذا حديث لم أسمع بمثله قط. قال: فنظر في وجهي، ثم قال: «إني أتكلم بالحرف الواحد فيه سبعون وجهاً، إن شئت أحدث كذا، وإن شئت أحدث كذا»(2).
ص: 57
روي أن جماعةً من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء، منهم: إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وأبو جعفر المنصور، وعبد اللّه بن الحسن، وابناه محمد وإبراهيم، وأرادوا أن يعقدوا لرجل منهم. فقال عبد اللّه: هذا ابني هو المهدي. وأرسلوا إلى جعفر، فجاء فقال: «لما ذا اجتمعتم؟». قالوا: نبايع محمد بن عبد اللّه فهو المهدي. قال جعفر: «لا تفعلوا». قال: «ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم». وضرب بيده على ظهر أبي العباس، ثم قال لعبد اللّه: «ما هي إليك ولا إلى ابنيك، ولكنها لبني العباس، وإن ابنيك لمقتولان». ثم نهض وقال: «إن صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر - يقتله».
فقال عبد العزيز بن علي: واللّهِ، ما خرجت من الدنيا حتى رأيت قتله، وانفض القوم فقال أبو جعفر: تتم الخلافة لي؟. فقال: «نعم، أقوله حقاً»(1).
قال الصادق (عليه السلام) لشخص: «نعلم أنك خلفت في منزلك ثلاثمائة درهم، وقلت: إذا رجعت أصرفها، أو أبعث بها إلى محمد بن عبد اللّه الدعبلي».
قال: واللّهِ، ما تركت في بيتي شيئاً إلاّ وقد أخبرتني به(2).
ص: 58
5
الإمام جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام) تمكن في فترة معينة من تأسيس جامعات علمية كبيرة، ونشر العلوم التي يحتاجها البشر، وثقف المسلمين علمياً، وطور الأمة الإسلامية في مختلف العلوم. حيث روي عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر: إن المنصور قد كان همَّ بقتل أبي عبد اللّه (عليه السلام) غير مرة، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله، فإذا نظر إليه هابه ولم يقتله. غير أنه منع الناس عنه (عليه السلام) ، ومنعه (عليه السلام) من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح، أو طلاق، أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون إليه، فيعتزل الرجل وأهله. فشق ذلك على شيعته وصعب عليهم، حتى ألقى اللّه عزوجل في روع المنصور، أن يسأل الصادق (عليه السلام) ليتحفه بشيء من عنده، لا يكون لأحد مثله, فبعث إليه بمخصرة كانت للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تشق له أربعة أرباع، وقسمها في أربعة مواضع، ثم قال له: ما جزاؤك عندي، إلا أن أطلق لك، وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرض لك ولا لهم، فاقعد غير محتشم، وأفت الناس، ولا تكن في بلد أنا فيه، ففشى العلم عن الصادق (عليه السلام) (1).
ص: 59
ثم إن العلم هو الأساس في تقدم الأمم وتطورها، وفي المقابل من أهم أسباب الاستبداد والدكتاتورية الجهل.
الجهل باللّه، الجهل بيوم المعاد، الجهل بفقه الحياة، الجهل بأن الاستبداد يضر حتى الدكتاتور، الجهل بمحكمة التاريخ.
والمتصور أن من أهم أسباب تخلف وتأخر المسلمين في زماننا هذا ناشئ من جهلهم، وقد استغل الحكام الظلمة هذا الجهل وسيطروا عليهم، وقاموا بتأخير الأمة، واضطهادها أكثر فأكثر.
ربما يتعجب الكثير، من أنه كيف لا تتمكن الأمة الإسلامية، وهم أكثر من مليار وخمسمائة مليون نسمة، أن يقفوا أمام إسرائيل الغاصبة ذات الثلاثة ملايين فقط، ويسترجعوا فلسطين منها.
وأصبحت الدول الإسلامية أمام الصهيونية لا حول لها ولا قوة، مع أن المسلمين يمتلكون من الثروات آلاف المليارات، وارتباطهم ومصالحهم مع دول الغرب والشرق أكثر بكثير من اليهود.
من أهم أسباب ذلك: أن اليهود تحكمهم الديمقراطية، والحرية السياسية، ولو بنسبة كبيرة، وكلهم شركاء في الحكم. أما الأمة الإسلامية، فتخضع لأبشع أنواع الاستبداد من قبل حكامهم، والحكام زمرة قليلة لا يتجاوزون في كل البلاد ربع مليون، إذ لو فرضنا أن الدول الإسلامية خمسون دولة، وفي كل دولة خمسة آلاف هم الذين يديرون الحكم، وهذا العدد مبالغ فيه كثيراً بلا شك، فالمجموع
ص: 60
يكون ربع مليون، وهذا رقم يعتبر أقل من عُشر ثلاثة ملايين الذين يحكمون إسرائيل بأجمعهم، ومن الواضح أن ربع مليون لا يقاوم ثلاثة ملايين. أما سائر المسلمين، فهم المستضعفون في دولهم، لا حول لهم ولا قوة، وكلهم كالعبيد والأسرى في أغلال قوانين حكوماتهم الجائرة.
ومما يدل على ذلك، أن مصر - وكان نفوسها أكثر من ستين مليوناً - لم تتغير بموت عبد الناصر، ولا تغيرت بموت أنور السادات، هذا يعني أن الحاكم شخص واحد والباقي صفر.
وكذلك في الباكستان، حيث لم تتغير بموت ضياء الحق، وهكذا في العراق بقتل فيصل، ثم عبد الكريم قاسم، ثم عبد السلام عارف، ثم من جاء بعده، فلم يتغير نحو الأفضل. ومثلها سائر الدول الإسلامية، وهذا كله دليل واضح على أن أشد وأقسى الديكتاتوريات هي الحاكمة في بلادنا.
ومن أهم العلل المحدثة والمبقية للاستبداد: جهل الأمم، والمقصود هو الجهل بفقه الحياة وسبل العيش الكريم، وإن كان فيهم الكثير من الدكاترة والمهندسين والمحامين وخريجو الجامعات وما أشبه.
ومشكلة اليهود ستبقى ما دامت هذه المشكلة في بلادنا، أي ما دامت الدكتاتورية والاستبداد يحكمنا، فلا حل للقضية الفلسطينية.
ثم لا يخفى أن هذا التأخر في بلادنا لا ربط له بالدين أساساً، فإن الإسلام بريء من عمل حكامنا، فلا استبداد ولا ظلم، ولا إجحاف ولا فقر في الإسلام.
أما بلادنا فهي غارقة بكل تأخر، وبعيدة عن أي تقدم، فهي وإن ادعت
ص: 61
الإسلام لكنها كاذبة، كما في السعودية. فالدين يعني فقه الحياة، والتقدم والتطور، والغنى والثروة، والأمن والأمان، والسلم والسلام. وليس الدين مجرد عبادات شكلية، أو عقائد مخترعة كما نراها عندهم، حيث زعموا أن الدين يعني هدم القبور الطاهرة، وتكفير جميع المسلمين، وقتل الأبرياء، وإضاعة المال العام، وما أشبه.
فلا حكومة إسلامية في زماننا وإن ادعت الإسلام، فمجرد الاسم من دون الواقع، لا يحقق شيئاً، بل يضر أكثر مما ينفع.
ومن الواضح أن اسم العسل لا يوجب حلاوة الفم، واسم الماء لا يرفع العطش، وإنما لابد من العسل الحقيقي والماء الواقعي.
ومن المشاكل في عصرنا هذا، ابتعاد الناس عن الدين، ومن أسباب ذلك:
1: ما قام به الحكام منذ أكثر من ألف سنة في البلاد الإسلامية، من: الظلم والجور، والاستبداد، والقتل والتعذيب، ومصادرة الأموال، وهتك الأعراض، وسلب حقوق الناس، وكانوا يدعون الإسلام، ويزعمون أنهم خلفاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
وهذا من أهم أسباب فرار الناس في مختلف بلاد العالم عن الدين، حيث زعموا أن هؤلاء الحكام يمثلون الدين.
2: ما قام به الغرب من التخطيط الدقيق لإبعاد الناس، والأمة الإسلامية عن الدين الواقعي؛ ليتمكنوا من السيطرة على البلاد، واستعمارها، ونهب ثرواتها.
وسعوا بأن يحصروا الدين والمتدينين في وظائف ثانوية هامشية، بعيدة عن أسس الحياة، والأخذ بأزمة الأمور وقيادتها.
ص: 62
ومن تلك الأمور الثانوية:
إمامة المساجد، وإدارة الأوقاف، وإقامة الأذان، وقراءة القرآن في الإذاعات والتلفزيونات، وإلقاء بحوث دينية محضة كالأخلاقيات وما أشبه في بعض المجاميع، وإدارة المدارس الدينية والحسينيات، وإدارة بعض المجلات الدينية، وإدارة الجمعيات الدينية، والإشراف على الحوزات العلمية، وإقامة شعيرة الحج والعمرة، والإشراف على العتبات المقدسة، وإجراء مثل: عقد النكاح والطلاق وتقسيم الإرث، وإدارة المحاكم الشرعية المرتبطة بالأمور العادية، وإرسال المبلغين لبعض القرى والأرياف، وطبع القرآن الكريم وكتب الحديث، والعلوم المرتبطة بهما، وإدارة سياحة الأماكن الأثرية الإسلامية، ومسابقات القرآن الكريم حفظاً وقراءةً وتجويداً، والحكم في ثبوت الهلال في مثل: شهر رمضان وشوال وذي الحجة، وتربية المعلمين الدينيين للمدارس الدينية والتدريس فيها، وتجهيز الموتى غسلاً وتكفيناً وصلاة ودفناً وما أشبه، وإدارة مقابر المسلمين، وتنظيم الكتب الدينية للصفوف الابتدائية في المدارس، وتكوين هيئات وجمعيات دينية، وإنشاء صناديق قرض الحسنة، وإدارة شؤون الفتاوى الشرعية، وما أشبه.
كل ذلك في نطاق ضيق، لا يرتبط بنحو أو آخر بأمر إدارة البلاد والعباد، ولا فقه الحياة، بل كما قال الإمام (عليه الصلاة والسلام): «حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده»(1).
ومن تلك المهام الثانوية أيضاً:
غلق مراكز القمار، وغلق مراكز الفساد والفحشاء، ومنع ترويج الخمور عبر
ص: 63
الإعلانات في الشوارع والصحف والإذاعات وما أشبه، ومنع الإفطار العلني في شهر رمضان المبارك، وغلق المطاعم والمقاهي فيه، ومنع الأغاني في البلاد المقدسة أو بقرب الأضرحة المشرفة والمساجد وما أشبه، إلى غير ذلك من الأمور، التي هي جزء بسيط من الدين فقط، وترك البعد الواقعي في الدين، وهو فقه الحياة، والتقدم والتطور، وعدم الظلم، والاستبداد؛ فإن الدين برنامج متكامل لسعادة البشر في جميع الأبعاد: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، وغيرها. فلابد من الحريات السياسية، وحرية الأحزاب، وحرية الحكم، وحرية التصدي لمختلف المناصب الحكومية من الوزارات والرئاسات وغيرها.
ولا يخفى، أن ما ذكرناه من التصدي للجهات الثانوية التي أشرنا إليها، هي على أحسن الفروض، فهي ليست في جميع بلادنا، بل في بعضها وبنسب مختلفة، أما البعض الآخر فلا مجال لها على الإطلاق.
وعادة البلاد التي تحكم باسم الإسلام كذباً، تسعى في أن تلهي الناس بمثل هذه الأمور الثانوية، وتمنعهم عن أسس الدين ومقوماته في الحياة السعيدة.
نقل بعض المؤرخين: أنه كان للإمام الصادق (عليه السلام) اثنا عشر ألف تلميذ، رباهم على العلم والعمل، وأصبحوا فضلاء علماء، وانتشروا في مختلف أنحاء الأرض.
وفي بعض التواريخ: (إنهم قد جمعوا أصحاب الإمام والرواة منهم الثقاة على اختلافهم في الآراء فكانوا أربعة آلاف رجل).
وفي بعض الكتب: (كان أصحاب الإمام عشرين ألفاً).
ولا يبعد الأخير؛ لأن الإمام (عليه السلام) فترة انتقال الحكم من بني أمية إلى بني العباس حصل على بعض الحرية النسبية في نشر العلوم، فتمكن من تربية الآلاف من التلامذة والعلماء.
مضافاً إلى أن المسلمين من مختلف العالم، كانوا يأتون لزيارة قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، وكانوا يستفيدون من علمائها الذين بقي عندهم شيء من آثار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) هو ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو أعلم العلماء على الإطلاق، فمن الطبيعي أن تكون له عشرات الآلاف من التلامذة.
قال أبو نعيم في حلية الأولياء: (ومنهم الإمام الناطق، ذو الزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق. أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع، ونهى عن الرئاسة والجموع)(1).
وفي مرآة الجنان لليافعي: (السيد الجليل سلالة النبوة، ومعدن الفتوة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق)(2).
وفي مناقب ابن شهرآشوب: (قال مالك بن أنس: ما رأت عيني أفضل من
ص: 65
جعفر بن محمد فضلاً، وعلماً، وعبادةً، وورعاً. وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً. وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد)(1).
وروى أبو نعيم في الحلية بسنده، عن عمرو بن أبي المقدام، قال: (كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق، علمتُ أنه من سلالة النبيين)(2).
قال الشبلنجي الشافعي: (ومناقبه كثيرة تكاد تفوت عدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب)(3).
ص: 66
6
عن سليمان بن خالد - في خبر طويل -: أنه دخل على الصادق (عليه السلام) آذنه، وأذن لقوم من أهل البصرة. فقال (عليه السلام) : «كم عدتهم؟». فقال: لا أدري. فقال (عليه السلام) : «اثنا عشر رجلاً». فلما دخلوا عليه، سألوا في حرب علي وطلحة والزبير وعائشة. قال (عليه السلام) : «وما تريدون بذلك؟». قالوا: نريد أن نعلم علم ذلك. قال: «إذاً تكفرون يا أهل البصرة - فقال - علي (عليه السلام) كان مؤمناً منذ بعث اللّه نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أن قبضه إليه، ثم لم يؤمر عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحداً قط، ولم يكن في سرية قط إلا كان أميرها». وذكر فيه أن طلحة والزبير بايعاه وغدرا به، وأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
فقالوا: لئن كان هذا عهداً من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لقد ضل القوم جميعاً. فقال (عليه السلام) : «أ لم أقل لكم إنكم ستكفرون إن أخبرتكم. أما إنكم سترجعون إلى أصحابكم من أهل البصرة، فتخبرونهم بما أخبرتكم، فيكفرون أعظم من كفركم». فكان كما قال(1).
ص: 67
عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كنت عند زياد بن عبيد اللّه، وجماعة من أهل بيتي». فقال: يا بني علي وفاطمة، ما فضلكم على الناس؟. فسكتوا، فقلت: «إن من فضلنا على الناس، أنا لا نحب أن نكون من أحد سوانا، وليس أحد من الناس لا يحب أن يكون منا إلا أشرك - ثم قال - ارووا هذا الحديث»(1).
في خبر: أنه لما دخل هشام بن الوليد المدينة، أتاه بنو العباس، وشكوا من الصادق (عليه السلام) ، أنه أخذ تركات ماهر الخصي دوننا. فخطب أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، فكان مما قال: «إن اللّه تعالى لما بعث رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كان أبونا أبو طالب المواسي له بنفسه والناصر له، وأبوكم العباس وأبو لهب يكذبانه، ويؤلبان عليه شياطين الكفر، وأبوكم يبغي له الغوائل، ويقود إليه القبائل في بدر. وكان في أول رعيلها، وصاحب خيلها ورجلها، المطعم يومئذٍ، والناصب الحرب له - ثم قال - فكان أبوكم طليقنا وعتيقنا، وأسلم كارهاً تحت سيوفنا، لم يهاجر إلى اللّه ورسوله هجرةً قط، فقطع اللّه ولايته منا بقوله: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}(2) - في كلام له ثم قال - هذا مولًى لنا مات، فحزنا تراثه إذ كان مولانا؛ ولأنا ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأُمنا فاطمة أحرزت ميراثه»(3).
ص: 68
عن سماعة، قال: قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : كم بين المشرق والمغرب؟. قال: «مسيرة يوم بل أقل من ذلك». فاستعظمه، فقال (عليه السلام) : «يا عاجز، لم تنكر هذا. إن الشمس تطلع من المشرق، وتغرب إلى المغرب في أقل من يوم»(1).
عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) بمكة، إذ دخل عليه أناس من المعتزلة، فيهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا، وحفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم، وذلك حين قتل الوليد، واختلف أهل الشام بينهم، فتكلموا وأكثروا، وخطبوا فأطالوا. فقال لهم أبو عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) : «إنكم قد أكثرتم عليَّ وأطلتم، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم، فليتكلم بحجتكم وليوجز».
فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد، فأبلغ وأطال، فكان فيما قال أن قال: قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب اللّه بعضهم ببعض، وتشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل، ومروة، ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد اللّه بن الحسن، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان معنا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه، ونصبنا له على بغيه، ورده إلى الحق وأهله، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك؛ فإنه لا غنى بنا عن مثلك، لفضلك وكثرة شيعتك.
ص: 69
فلما فرغ، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أ كلكم على مثل ما قال عمرو؟». قالوا: نعم. فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم قال: «إنما نسخط إذا عُصي اللّه، فإذا أطيع رضينا. أخبرني - يا عمرو - لو أن الأمة قلدتك أمرها، فملكته بغير قتال ولا مئونة، فقيل لك ولها من شئت، من كنت تولي؟». قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين. قال: «بين كلهم؟». قال: نعم. قال: «بين فقهائهم وخيارهم؟». قال: نعم. قال: «قريش وغيرهم». قال: العرب والعجم.
قال: «أخبرني - يا عمرو - أ تتولى أبا بكر وعمر أو تتبرأ منهما؟». قال: أتولاهما. قال: «يا عمرو، إن كنت رجلاً تتبرأ منهما، فإنه يجوز لك الخلاف عليهما. وإن كنت تتولاهما، فقد خالفتهما. قد عهد عمر إلى أبي بكر، فبايعه ولم يشاور أحداً، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحداً. ثم جعلها عمر شورى بين ستة، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش، ثم أوصى فيهم الناس بشيء، ما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك».
قال: وما صنع؟. قال: «أمر صهيباً أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر ويشاورونه، وليس له من الأمر شيء، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار، إن مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا ويبايعوا، أن يضرب أعناق الستة جميعاً، وإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان، أن يضرب أعناق الاثنين. أ فترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟». قالوا: لا.
قال: «يا عمرو دع ذا، أ رأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه، ثم اجتمعت لكم الأمة، ولم يختلف عليكم فيها رجلان، فأفضيتم إلى المشركين الذين لم يسلموا ولم يؤدوا الجزية، أ كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما
ص: 70
تسيرون فيهم بسيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المشركين في حربه؟». قالوا: نعم. قال: «فتصنعون ما ذا؟». قالوا: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا، دعوناهم إلى الجزية. قال: «وإن كانوا مجوساً وأهل الكتاب؟». قالوا: وإن كانوا مجوساً وأهل الكتاب. قال: «وإن كانوا أهل الأوثان وعبدة النيران والبهائم، وليسوا بأهل الكتاب؟». قالوا: سواء. قال: «فأخبرني عن القرآن أ تقرؤه؟». قال: نعم. قال: «اقرأ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(1) - قال - فاستثنى اللّه عز وجل واشترط من الذين أوتوا الكتاب، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟». قال: نعم. قال (عليه السلام) : «عمن أخذت هذا؟». قال: سمعت الناس يقولونه. قال: «فدع ذا، فإنهم إن أبوا الجزية، فقاتلتهم وظهرت عليهم، كيف تصنع بالغنيمة؟». قال: أخرج الخمس، وأخرج أربعة أخماس بين من قاتل عليها. قال: «تقسمه بين جميع من قاتل عليها؟». قال: نعم. قال: «قد خالفت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فعله وفي سيرته، وبيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم، فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون، في أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم، وأن لا يهاجروا، على أنه إن دهمه من عدوه دهم، فيستفزهم فيقاتل بهم، وليس لهم من الغنيمة نصيب، وأنت تقول بين جميعهم، فقد خالفت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سيرته في المشركين.
دع ذا، ما تقول في الصدقة؟». قال: فقرأ عليه هذه الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
ص: 71
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}(1) إلى آخرها. قال: «نعم، فكيف تقسم بينهم؟». قال: أقسمها على ثمانية أجزاء، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً. قال (عليه السلام) : «إن كان صنف منهم عشرة آلاف، وصنف رجلاً واحداً، ورجلين وثلاثةً. جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟». قال: نعم. قال: «وكذا تصنع بين صدقات أهل الحضر وأهل البوادي، فتجعلهم فيها سواءً؟». قال: نعم. قال: فخالفت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل ما به أتى في سيرته. كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقسم صدقة البوادي في أهل البوادي، وصدقة الحضر في أهل الحضر، لا يقسمه بينهم بالسوية، إنما يقسم على قدر ما يحضره منهم، وعلى ما يرى. فإن كان في نفسك شيء مما قلت، فإن فقهاء أهل المدينة ومشيختهم كلهم لا يختلفون في أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذا كان يصنع».
ثم أقبل على عمرو، وقال: «اتق اللّه يا عمرو. وأنتم أيها الرهط فاتقوا اللّه؛ فإن أبي حدثني - وكان خير أهل الأرض، وأعلمهم بكتاب اللّه وسنة رسوله -: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف»(2).
قال بعض الخوارج لهشام بن الحكم: العجم تتزوج في العرب؟. قال: نعم. قال: فالعرب تتزوج في قريش؟. قال: نعم. قال: فقريش تتزوج في بني هاشم؟.
ص: 72
قال: نعم. فجاء الخارجي إلى الصادق (عليه السلام) فقص عليه، ثم قال: أسمعه منك. فقال (عليه السلام) : «نعم، قد قلت ذاك». قال الخارجي: فها أنا ذا قد جئتك خاطباً. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إنك لكفو في دينك، وحسبك في قومك، ولكن اللّه عز وجل صاننا عن الصدقات، وهي أوساخ أيدي الناس، فنكره أن نشرك فيما فضلنا اللّه به من لم يجعل اللّه له مثل ما جعل لنا». فقام الخارجي وهو يقول: باللّه ما رأيت رجلاً مثله، ردني واللّه أقبح رد، وما خرج من قول صاحبه(1).
سأل زنديق، فقال: ما علة الغسل من الجنابة، وإنما أتى حلالاً، وليس في الحلال تدنيس؟. فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «لأن الجنابة بمنزلة الحيض، وذلك أن النطفة دم لم يستحكم، ولا يكون الجماع إلا بحركة غالبة، فإذا فرغ تنفس البدن، ووجد الرجل من نفسه رائحةً كريهةً، فوجب الغسل لذلك. غسل الجنابة أمانة ائتمن اللّه عليها عبيده؛ ليختبرهم بها»(2).
عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن الصادق (عليهم السلام) ، أنه قال: «قوله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(3)، يقول: أرشدنا الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، من أن نتبع أهواءنا فنعطب،
ص: 73
أو نأخذ بآرائنا فنهلك، فإن من اتبع هواه، وأعجب برأيه، كان كرجل سمعتُ غثاء الناس تعظمه وتصفه، فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني؛ لأنظر مقداره ومحله.
فرأيته في موضع، قد أحدق به خلق من غثاء العامة، فوقفت منتبذاً عنهم، مغشياً بلثام، أنظر إليه وإليهم. فما زال يراوغهم، حتى خالف طريقهم، وفارقهم ولم يقر، فتفرقت العوام عنه لحوائجهم، وتبعته أقتفي أثره. فلم يلبث أن مر بخباز، فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقةً، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة. ثم مر من بعده بصاحب رمان، فما زال به حتى تغفله، فأخذ من عنده رمانتين مسارقةً، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة. ثم أقول: وما حاجته إذاً إلى المسارقة، ثم لم أزل أتبعه، حتى مر بمريض، فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه ومضى.
وتبعته حتى استقر في بقعة من صحراء. فقلت له: يا عبد اللّه، لقد سمعت بك، وأحببت لقاءك فلقيتك، لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وإني سائلك عنه؛ ليزول به شغل قلبي.
قال: ما هو؟. قلت: رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمان فسرقت منه رمانتين.
فقال لي: قبل كل شيء حدثني من أنت؟. قلت: رجل من ولد آدم، من أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: حدثني ممن أنت؟. قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: أين بلدك؟. قلت: المدينة. قال: لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؟. قلت: بلى. قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرفت به، وتركك علم جدك وأبيك، لأن لا تنكر ما يجب أن يحمد
ص: 74
ويمدح فاعله. قلت: وما هو؟. قال: القرآن كتاب اللّه. قلت: وما الذي جهلتُ!. قال: قول اللّه عزوجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}(1)، وإني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحد منها كانت أربعين حسنةً، فانتقص من أربعين حسنةً أربع سيئات، بقي لي ست وثلاثون!.
قلت: ثكلتك أُمك، أنت الجاهل بكتاب اللّه. أما سمعت اللّه عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2)؛ إنك لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتهما إلى غير صاحبهما بغير أمر صاحبهما، كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنةً إلى أربع سيئات، فجعل يلاحيني، فانصرفت وتركته»(3).
عن سماعة، قال: سأل رجل أبا حنيفة عن اللاشيء، وعن الذي لا يقبل اللّه غيره. فعجز عن لا شيء، فقال: اذهب بهذه البغلة إلى إمام الرافضة، فبعها منه بلا شيء، واقبض الثمن. فأخذ بعذارها، وأتى بها أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال له أبو عبد اللّه (عليه الصلاة والسلام): «استأمر أبا حنيفة في بيع هذه البغلة؟». قال: فأمرني ببيعها. قال: «بكم؟». قال: بلا شيء. قال: «لا، ما تقول!». قال: الحق أقول. فقال: «قد اشتريتها منك بلا شيء». قال: وأمر غلامه أن
ص: 75
يدخله المربط. قال: فبقي محمد بن الحسن ساعةً ينتظر الثمن، فلما أبطأ الثمن، قال: جعلت فداك، الثمن. قال: «الميعاد إذا كان الغداة، فرجع إلى أبي حنيفة، فأخبره فسر بذلك فريضةً منه». فلما كان من الغد، وافى أبو حنيفة. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «جئت لتقبض ثمن البغلة لا شيء؟». قال: نعم. قال: «ولا شيء ثمنها؟». قال: نعم.
فركب أبو عبد اللّه (عليه السلام) البغلة، وركب أبو حنيفة بعض الدواب، فتصحرا جميعاً، فلما ارتفع النهار، نظر أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى السراب يجري، قد ارتفع كأنه الماء الجاري. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا أبا حنيفة، ما ذا عند الميل، كأنه يجري؟». قال: ذاك الماء يا ابن رسول اللّه. فلما وافيا الميل، وجداه أمامهما فتباعد، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «اقبض ثمن البغل. قال اللّه تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ}(1)».
قال: خرج أبو حنيفة إلى أصحابه كئيباً حزيناً. فقالوا له: ما لك يا أبا حنيفة؟. قال: ذهبت البغلة هدراً. وكان قد أعطي بالبغلة عشرة آلاف درهم(2).
عن سعيد بن أبي الخصيب، قال: دخلت أنا وابن أبي ليلى المدينة، فبينا نحن في مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذ دخل جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فقمنا إليه. فسألني عن نفسي وأهلي، ثم قال: «من هذا معك؟». فقلت: ابن أبي ليلى، قاضي المسلمين. فقال: «نعم - ثم قال له - تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتفرق بين المرء
ص: 76
وزوجه، لا تخاف في هذا أحداً؟». قال: نعم. قال: «بأي شيء تقضي؟». قال: بما بلغني عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعن أبي بكر وعمر. قال: «فبلغك أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أقضاكم علي؟». قال: نعم. قال: «فكيف تقضي بغير قضاء علي (عليه السلام) ، وقد بلغك هذا؟». قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلى. ثم قال: «التمس زميلاً لنفسك، واللّه لا أكلمك من رأسي كلمةً أبداً»(1).
عن رجل من قريش من أهل مكة، قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) . قال: فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابته. فقال له سفيان: يا أبا عبد اللّه، حدثنا بحديث خطبة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف؟. قال: «دعني حتى أذهب في حاجتي، فإني قد ركبت، فإذا جئت حدثتك». فقال: أسألك بقرابتك من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما حدثتني. قال: فنزل. فقال له سفيان: مر لي بدواة وقرطاس، حتى أثبته. فدعا به، ثم قال: «اكتب، بسم اللّه الرحمن الرحيم خطبة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف: نصر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم تبلغه. يا أيها الناس، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم؛ فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. المؤمنون إخوة، تتكافؤ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم». فكتبه ثم عرضه عليه، وركب أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، وجئت أنا وسفيان. فلما كنا في بعض الطريق، فقال
ص: 77
لي: كما أنت؛ حتى أنظر في هذا الحديث. فقلت له: قد واللّه ألزم أبو عبد اللّه (عليه السلام) رقبتك شيئاً، لا يذهب من رقبتك أبداً. فقال: وأي شيء ذلك؟!. فقلت له: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله قد عرفناه، والنصيحة لأئمة المسلمين، من هؤلاء الأئمة الذين تجب علينا نصيحتهم! معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وكل من لا تجوز شهادته عندنا، ولا تجوز الصلاة خلفهم. وقوله: واللزوم لجماعتهم، فأي الجماعة! مرجئ يقول: من لم يصل، ولم يصم، ولم يغتسل من جنابة، وهدم الكعبة، ونكح أمه، فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل. أو قدري يقول: لا يكون ما شاء اللّه عز وجل، ويكون ما شاءه إبليس. أو حروري يبرأ من علي بن أبي طالب، وشهد عليه بالكفر. أو جهمي يقول: إنما هي معرفة اللّه وحده، ليس الإيمان شيء غيرها. قال: ويحك! وأي شيء يقولون؟. فقلت: يقولون: إن علي بن أبي طالب واللّه الإمام، الذي يجب علينا نصيحته، ولزوم جماعة أهل بيته. قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لا تخبر بها أحداً(1).
عن الربيع صاحب المنصور، قال: بعث المنصور إلى الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يستقدمه لشيء بلغه عنه، فلما وافى بابه، خرج إليه الحاجب. فقال: أعيذك باللّه من سطوة هذا الجبار؛ فإني رأيت حرده عليك شديداً. فقال الصادق (عليه السلام) : «عليَّ من اللّه جُنَّة واقية تعينني عليه إن شاء اللّه، استأذن لي
ص: 78
عليه». فاستأذن، فأذن له. فلما دخل سلم، فرد عليه السلام، ثم قال له: يا جعفر، قد علمت أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأبيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) : لو لا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح، لقلت فيك قولاً، لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب قدميك يستشفون به. وقال علي (عليه السلام) : يهلك فيَّ اثنان ولا ذنب لي: محب غالٍ، ومبغض مفرط. قال: قال ذلك اعتذاراً منه، أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط. ولعمري، إن عيسى ابن مريم (عليه السلام) لو سكت عما قالت فيه النصارى لعذبه اللّه، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان، وإمساكك عن ذلك ورضاك به، سخط الديان. زعم أوغاد الحجاز، ورعاع الناس، أنك حبر الدهر وناموسه، وحجة المعبود وترجمانه، وعيبة علمه وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور، وأن اللّه لا يقبل من عامل جهل حدك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً. فنسبوك إلى غير حدك، وقالوا فيك ما ليس فيك، فقل فإن أول من قال الحق جدك، وأول من صدقه عليه أبوك، وأنت حري أن تقتص آثارهما، وتسلك سبيلهما.
فقال الصادق (عليه السلام) : «أنا فرع من فرع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت النبوة، وأديب السفرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصابيح المشكاة، التي فيها نور النور، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر».
فالتفت المنصور إلى جلسائه، فقال: هذا قد أحالني على بحر مواج، لا يدرك طرفه، ولا يبلغ عمقه، تحار فيه العلماء، ويغرق فيه السبحاء، ويضيق بالسابح عرض الفضاء. هذا الشجا المعترض في حلوق الخلفاء، الذي لا يجوز نفيه، ولا يحل قتله، ولولا ما يجمعني وإياه شجرة طاب أصلها، وبسق فرعها، وعذب
ص: 79
ثمرها، وبوركت في الذر، وقدست في الزبر، لكان مني إليه ما لا يحمد في العواقب؛ لما يبلغني عنه من شدة عيبه لنا، وسوء القول فينا.
فقال الصادق (عليه السلام) : «لا تقبل في ذي رحمك، وأهل الرعاية من أهل بيتك، قول من حرم اللّه عليه الجنة، وجعل مأواه النار؛ فإن النمام شاهد زور، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس، فقد قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(1)، ونحن لك أنصار وأعوان، ولملكك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف والإحسان، وأمضيت في الرعية أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان. وإن كان يجب عليك في سعة فهمك، وكثرة علمك، ومعرفتك بآداب اللّه، أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك؛ فإن المكافي ليس بالواصل، إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها، فصل رحمك يزد اللّه في عمرك، ويخفف عنك الحساب يوم حشرك».
فقال المنصور: قد صفحت عنك لقدرك، وتجاوزت عنك لصدقك. فحدثني عن نفسك بحديث أتعظ به، ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات. فقال الصادق (عليه السلام) : «عليك بالحلم؛ فإنه ركن العلم. واملك نفسك عند أسباب القدرة؛ فإنك إن تفعل ما تقدر عليه، كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً، أو يحب أن يذكر بالصولة. واعلم أنك إن عاقبت مستحقاً، لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل، والحال التي توجب الشكر، أفضل من الحال التي توجب الصبر». فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت فأوجزت. فحدثني عن فضل
ص: 80
جدك علي بن أبي طالب (عليه السلام) حديثاً، لم تأثره العامة. فقال الصادق (عليه السلام) : «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لما أسري بي إلى السماء، عهد إليَّ ربي جل جلاله في علي ثلاث كلمات. فقال: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك. فقال عز وجل: إن علياً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب المؤمنين، فبشره بذلك. فبشره النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، فخر علي (عليه السلام) ساجداً شكراً لله عز وجل، ثم رفع رأسه فقال: يا رسول اللّه، بلغ من قدري حتى أني أذكر هناك!. قال: نعم، وإن اللّه يعرفك، وإنك لتذكر في الرفيق الأعلى». فقال المنصور: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء(1).
ص: 81
7
روي: أن أبا عمارة المعروف بالطيار، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : رأيت في النوم كأن معي قناةً. قال: «كان فيها زج؟». قلت: لا. قال: «لو رأيت فيها زجاً لولد لك غلام، لكنه يولد جارية». ثم مكث ساعة يتحدث، ثم قال: «كم في القناة من كعب؟». قلت: اثنا عشر كعباً. قال: «تلد الجارية اثنتي عشرة بنتاً». قال محمد بن يحيى: فحدثت بهذا الحديث العباس بن الوليد. فقال: أنا من واحدة منهن، ولي إحدى عشرة خالةً، وأبو عمارة جد أُمي(1).
عن حنان بن سدير، قال: سمعت أبي سدير الصيرفي يقول: رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيما يرى النائم، وبين يديه طبق مغطى بمنديل. فدنوت منه وسلمت عليه، فرد السلام، ثم كشف المنديل عن الطبق، فإذا فيه رطب، فجعل يأكل منه. فدنوت منه فقلت: يا رسول اللّه، ناولني رطبةً. فناولني واحدةً فأكلتها، ثم
ص: 82
قلت: يا رسول اللّه، ناولني أخرى. فناولنيها فأكلتها، وجعلت كلما أكلت واحدةً سألته أخرى، حتى أعطاني ثماني رطبات فأكلتها، ثم طلبت منه أخرى، فقال لي: حسبك. قال: فانتبهت من منامي، فلما كان من الغد، دخلت على جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، وبين يديه طبق مغطى بمنديل، كأنه الذي رأيته في المنام بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم كشف عن الطبق، فإذا فيه رطب، فجعل يأكل منه، فعجبت لذلك. فقلت: جعلت فداك، ناولني رطبةً. فناولني فأكلتها، ثم طلبت أخرى، فناولني فأكلتها، وطلبت أخرى حتى أكلت ثماني رطبات، ثم طلبت منه أخرى. فقال لي: «لو زادك جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لزدناك». فأخبرته الخبر، فتبسم تبسم عارف بما كان(1).
عن سدير الصيرفي، قال: جاءت امرأة إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقالت له: جعلت فداك، أبي وأمي وأهل بيتي نتولاكم.
فقال لها أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «صدقتِ، فما الذي تريدين؟».
قالت له المرأة: جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، أصابني وضح في عضدي، فادع اللّه أن يذهب به عني.
قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «اللّهم إنك تبرئ الأكمه والأبرص، وتحيي العظام وهي رميم، ألبسها من عفوك وعافيتك، ما ترى أثر إجابة دعائي». فقالت المرأة: واللّهِ لقد قمت وما بي منه قليل ولا كثير(2).
ص: 83
عن المفضل بن عمر، قال: حمل إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) مال من خراسان مع رجلين من أصحابه، لم يزالا يتفقدان المال حتى مرا بالري، فرفع إليهما رجل من أصحابهما كيساً فيه ألفا درهم، فجعلا يتفقدان في كل يوم الكيس، حتى دنيا من المدينة. فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى ننظر ما حال المال، فنظرا فإذا المال على حاله، ما خلا كيس الرازي. فقال أحدهما لصاحبه: اللّه المستعان، ما نقول الساعة لأبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال أحدهما: إنه (عليه السلام) كريم، وأنا أرجو أن يكون علم ما نقول عنده. فلما دخلا المدينة، قصدا إليه، فسلما إليه المال. فقال لهما: «أين كيس الرازي؟». فأخبراه بالقصة، فقال لهما: «إن رأيتما الكيس تعرفانه؟». قالا: نعم. قال: «يا جارية، عليَّ بكيس كذا وكذا». فأخرجت الكيس، فرفعه أبو عبد اللّه (عليه السلام) إليهما. فقال: «أ تعرفانه؟». قالا: هو ذاك. قال: «إني احتجت في جوف الليل إلى مال، فوجهت رجلاً من الجن من شيعتنا، فأتاني بهذا الكيس من متاعكما»(1).
عن عمر بن يزيد، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فبسط رجليه وقال: «اغمزها يا عمر». قال: فأضمرت في نفسي أن أسأله عن الإمام بعده. قال: فقال: «يا عمر، ألا أخبرك عن الإمام بعدي؟»(2).
ص: 84
عن شهاب بن عبد ربه، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أريد أسأله عن الجنب يغرف الماء من الحب، فلما صرت عنده أنسيت المسألة. فنظر إليَّ أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا شهاب، لا بأس أن يغرف الجنب من الحب»(1).
عن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا إسماعيل، ضع لي في المتوضأ ماءً». قال: فقمت فوضعت له. قال: فدخل - قال - فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا، ويدخل المتوضأ يتوضأ، قال: فلم يلبث أن خرج. فقال: «يا إسماعيل، لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا». فقال إسماعيل: وكنت أقول إنه، وأقول وأقول(2).
عبد الرحمن بن سالم، عن أبيه، قال: لما قدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى أبي جعفر المنصور. فقال أبو حنيفة لنفر من أصحابه: انطلقوا بنا إلى إمام الرافضة، نسأله عن أشياء نحيره فيها. فانطلقوا، فلما دخلوا إليه نظر إليه أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «أسألك باللّه يا نعمان لما صدقتني عن شيء أسألك عنه، هل قلت لأصحابك مروا بنا إلى إمام الرافضة فنحيره؟». فقال: قد كان ذلك. قال: «فسل ما شئت»،
ص: 85
القصة(1).
روي: أن محمد بن عبد اللّه بن الحسن قال لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : واللّهِ إني لأعلم منك وأسخى وأشجع. فقال له: «أما ما قلت إنك أعلم مني، فقد أعتق جدي وجدك ألف نسمة من كد يده فسمهم لي، وإن أحببت أن أسميهم لك إلى آدم فعلت.
وأما ما قلت: إنك أسخى مني، فو اللّهِ ما بت ليلةً ولله عليَّ حق يطالبني به.
وأما ما قلت: إنك أشجع مني، فكأني أرى رأسك وقد جيء به، ووضع على جحر الزنابير، يسيل منه الدم إلى موضع كذا وكذا».
قال: فحكى ذلك لأبيه. فقال: يا بني، آجرني اللّه فيك. إن جعفراً أخبرني أنك صاحب جحر الزنابير(2).
عن هشام بن أحمد، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أريد أن أسأله عن المفضل بن عمر، وهو في مصنعة له في يوم شديد الحر، والعرق يسيل على خده، فيجري على صدره. فابتدأني فقال: «نعم واللّه الرجل المفضل بن عمر، نعم واللّه الذي لا إله إلا هو الرجل المفضل بن عمر الجعفي»، حتى أحصيت
ص: 86
بضعاً وثلاثين مرةً يقولها ويكررها، وقال: «إنما هو والد بعد والد»(1).
عن زياد بن أبي الحلال، قال: اختلف الناس في جابر بن يزيد، وأحاديثه وأعاجيبه. قال: فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أريد أن أسأله عنه، فابتدأني من غير أن أسأله: «رحم اللّه جابر بن يزيد الجعفي، كان يصدق علينا. ولعن اللّه المغيرة بن سعيد، كان يكذب علينا»(2).
عن عمر بن يزيد، قال: كنت عند أبي عبد اللّه وهو وجع، فولاني ظهره ووجهه إلى الحائط. فقلت في نفسي: ما أدري ما يصيبه في مرضه، وما سألته عن الإمام بعده، فأنا أفكر في ذلك، إذ حول وجهه إليَّ. فقال: «إن الأمر ليس كما تظن، ليس عليَّ من وجعي هذا بأس»(3).
عن الحسين بن موسى الحناط، قال: خرجت أنا وجميل بن دراج وعائذ الأحمسي حاجين. قال: وكان يقول عائذ لنا: إن لي حاجةً إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أريد أن أسأله عنها. قال: فدخلنا عليه، فلما جلسنا. قال مبتدئاً: «من أتى اللّه بما افترض عليه، لم يسأله عما سوى ذلك». قال: فغمزنا عائذ، فلما
ص: 87
قمنا قلنا: ما كانت حاجتك؟. قال: الذي سمعتم منه، إني رجل لا أطيق القيام بالليل، فخفت أن أكون مأثوماً مأخوذاً به فأهلك(1).
وعن عائذ الأحمسي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أريد أن أسأله عن صلاة الليل ونسيت. فقلت: السلام عليك يا ابن رسول اللّه. فقال: «أجل واللّه إنا ولده، وما نحن بذي قرابة. من أتى اللّه بالصلوات الخمس المفروضات، لم يسأل عما سوى ذلك». فاكتفيت بذلك(2).
عن جعفر بن هارون الزيات، قال: كنت أطوف بالكعبة. فرأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، فقلت في نفسي: هذا هو الذي يُتبع، والذي هو الإمام، وهو كذا وكذا - قال - فما علمت به حتى ضرب يده على منكبي، ثم أقبل عليَّ وقال: «{أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}(3)»(4).
عن يونس بن أبي يعفور، عن أخيه عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مروان خاتم بني مروان، وإن خرج محمد بن عبد اللّه قُتل»(5).
ص: 88
قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: (لما بويع محمد بن عبد اللّه بن الحسن على أنه مهدي هذه الأمة. جاء أبوه عبد اللّه إلى الصادق (عليه السلام) ، وقد كان ينهاه، وزعم أنه يحسده. فضرب الصادق (عليه السلام) يده على كتف عبد اللّه، وقال: «إيهاً واللّه ما هي إليك، ولا إلى ابنك، وإنما هي لهذا - يعني السفاح - ثم لهذا - يعني المنصور - يقتله على أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه بالطفوف، وقوائم فرسه في الماء». فتبعه المنصور، فقال: ما قلت يا أبا عبد اللّه؟.
فقال: «ما سمعته، وإنه لكائن».
قال: فحدثني من سمع المنصور، أنه قال: انصرفت من وقتي فهيأت أمري، فكان كما قال)(1).
وروي: أنه لما أكبر المنصور أمر ابني عبد اللّه، استطلع حالهما منه. فقال الصادق (عليه السلام) : «ما يئول إليه حالهما، أتلو عليك آيةً فيها منتهى علمي - وتلا - {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}(2)».
فخر المنصور ساجداً، وقال: حسبك أبا عبد اللّه(3).
روي: أن أبا مسلم الخلال - وزير آل محمد - عرض الخلافة على الصادق (عليه السلام) ،
ص: 89
قبل وصول الجند إليه، فأبى وأخبره: «أن إبراهيم الإمام لا يصل من الشام إلى العراق، وهذا الأمر لأخويه، الأصغر ثم الأكبر، ويبقى في أولاد الأكبر، وأن أبا مسلم بقي بلا مقصود». فلما أقبلت الرايات، كتب أيضاً بقوله وأخبره: أن سبعين ألف مقاتل وصل إلينا فننتظر أمرك. فقال: «إن الجواب كما شافهتك». فكان الأمر كما ذكر، فبقي إبراهيم الإمام في حبس مروان، وخطب باسم السفاح(1).
عن عيسى بن عبد اللّه، قال: حدثتني أمي أم حسين بنت عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسين، قالت: قلت لعمي جعفر بن محمد: إني فديتك، ما أمر محمد هذا؟. قال: «فتنة يُقتل محمد عند بيت رومي، ويقتل أخوه لأمه وأبيه بالعراق، حوافر فرسه في الماء»(2).
عن فضيل سكرة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «يا فضيل، أ تدري في أي شيء كنت أنظر فيه قبل؟». قال: قلت: لا.
قال: «كنت أنظر في كتاب فاطمة (عليها السلام) ، فليس ملك يملك إلا وفيه مكتوب اسمه واسم أبيه، فما وجدت لولد الحسن فيه شيئاً»(3).
قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : لعل المراد أولاد الحسن (عليه السلام) الذين كانوا في ذلك
ص: 90
الزمان(1).
وفي رواية عن ابن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ما من نبي ولا وصي ولا ملك، إلا في كتاب عندي. لا واللّه ما لمحمد بن عبد اللّه بن الحسن فيه اسم»(2).
عن خالد بن نجيح الجوان، قال: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أقول في نفسي: ليس يدرون هؤلاء بين يدي من هم. قال: فأدناني حتى جلست بين يديه، ثم قال: «يا هذا، إن لي رباً أعبده ثلاث مرات»(3).
عن عبد اللّه النجاشي، قال: أصابت جبة لي من نضح بول شككت فيه، فغمرتها ماءً في ليلة باردة، فلما دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ابتدأني. فقال: «إن الفرو إذا غسلته بالماء فسد»(4).
عن أبي كهمس، قال: كنت نازلاً بالمدينة في دار، فيها وصيفة كانت تعجبني. فانصرفت ليلاً ممسياً، فاستفتحت الباب، ففتحت لي، فمددت يدي
ص: 91
فقبضت على ثديها. فلما كان من الغد، دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا أبا كهمس، تُب إلى اللّه مما صنعت البارحة»(1).
وعن مهزم، قال: كنا نزولاً بالمدينة، وكانت جارية لصاحب المنزل تعجبني، وإني أتيت الباب، فاستفتحت ففتحت لي الجارية، فغمزت ثديها. فلما كان من الغد، دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا مهزم، أين كان أقصى أثرك اليوم؟». فقلت له: ما برحت المسجد. فقال: «أما تعلم أن أمرنا هذا لا ينال إلا بالورع»(2).
عن إبراهيم بن مهزم، قال: خرجت من عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ليلةً ممسياً، فأتيت منزلي بالمدينة، وكانت أمي معي، فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها. فلما أن كان من الغد، صليت الغداة، وأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) . فلما دخلت عليه فقال لي مبتدئاً: «يا أبا مهزم، ما لك والوالدة أغلظت في كلامها البارحة!. أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، وأن حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته». قال: قلت: بلى. قال: «فلا تغلظ لها»(3).
عن حارث الطحان، قال: أخبرني أحمد - وكان من أصحاب أبي الجارود - عن الحارث بن حصيرة الأزدي، قال: قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان.
ص: 92
فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد (عليه السلام) ، ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت، وفرقة ورعت ووقفت. قال: فخرج من كل فرقة رجل، فدخلوا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: فكان المتكلم منهم الذي ورع ووقف، وقد كان مع بعض القوم جارية، فخلا بها الرجل ووقع عليها. فلما دخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وكان هو المتكلم. فقال له: أصلحك اللّه، قدم علينا رجل من أهل الكوفة، فدعا الناس إلى طاعتك وولايتك، فأجاب قوم، وأنكر قوم، وورع قوم ووقفوا. قال: «فمن أي الثلاث أنت؟». قال: أنا من الفرقة التي ورعت ووقفت. قال: «فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا؟». قال: فارتاب الرجل(1).
عن عمار السجستاني، قال: كان عبد اللّه النجاشي منقطعاً إلى عبد اللّه بن الحسن يقول بالزيدية. فقضى أني خرجت وهو إلى مكة، فذهب هذا إلى عبد اللّه بن الحسن، وجئت أنا إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . قال: فلقيني بعد فقال: استأذن لي على صاحبك. قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنه سألني الإذن له عليك. قال: فقال: «ائذن له». قال: فدخل عليه فسأله. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ما دعاك إلى ما صنعت، تذكر يوم كذا يوم مررت على باب قوم، فسال عليك ميزاب من الدار فسألتهم. فقالوا: إنه قذر، فطرحت نفسك في النهر مع ثيابك، وعليك مصبغة، فاجتمعوا عليك الصبيان يضحكونك، ويضحكون منك. قال عمار: فالتفت الرجل إليَّ فقال: ما دعاك أن تخبر بخبري أبا عبد اللّه (عليه السلام) ؟!. قال: قلت: لا واللّه
ص: 93
ما أخبرته، هو ذا قدامي يسمع كلامي. قال: فلما خرجنا. قال لي: يا عمار، هذا صاحبي دون غيره(1).
عن شعيب العقرقوفي، قال: بعث معي رجل بألف درهم. فقال: إني أحب أن أعرف فضل أبي عبد اللّه على أهل بيته. قال: خذ خمسة دراهم ستوقة اجعلها في الدراهم، وخذ من الدراهم خمسةً فصرها في لبنة قميصك؛ فإنك ستعرف فضله. فأتيت بها أبا عبد اللّه (عليه السلام) فنشرها، وأخذ الخمسة. فقال: «هاك خمستك، وهات خمستنا»(2).
عن أبي بصير، قال: قدم إلينا رجل من أهل الشام، فعرضت عليه هذا الأمر فقبله، فدخلت عليه وهو في سكرات الموت. فقال لي: يا أبا بصير، قد قبلت ما قلت لي، فكيف لي بالجنة؟. فقلت: أنا ضامن لك على أبي عبد اللّه (عليه السلام) بالجنة. فمات، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فابتدأني فقال لي: «قد وفي لصاحبك بالجنة»(3).
عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: كان أبو عبد اللّه البلخي
ص: 94
معه، فانتهى إلى نخلة خاوية. فقال: «أيتها النخلة السامعة المطيعة لربها، أطعمينا مما جعل اللّه فيكِ - قال - فتساقط علينا رطب مختلف ألوانه، فأكلنا حتى تضلعنا». فقال البلخي: جعلت فداك، سنة فيكم كسنة مريم(1).
عن أبي أسامة، قال: قال لي أبو عبد اللّه: «يا زيد، كم أتى عليك من سنة؟». قلت: جعلت فداك، كذا سنةً. قال: «يا أبا أسامة، جدد عبادة ربك، وأحدث توبةً». فبكيت، فقال لي: «ما يبكيك يا زيد؟!». قلت: نعيت إليَّ نفسي. قال: «يا زيد، أبشر فإنك من شيعتنا، وأنت في الجنة»(2).
وعن زيد الشحام، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا زيد، جدد عبادةً، وأحدث توبةً». قال: نعيت إليِّ نفسي جعلت فداك. قال: فقال: «يا زيد، ما عندنا خير لك، وأنت من شيعتنا». قال: وقلت: وكيف لي أن أكون من شيعتكم؟!. قال: فقال لي: «أنت من شيعتنا، إلينا الصراط والميزان وحساب شيعتنا. واللّهِ، لأنا أرحم بكم منكم بأنفسكم، كأني أنظر إليك ورفيقك في درجتك في الجنة»(3).
عن خالد بن نجيح، قال: قلت: إن أصحابنا قد قدموا من الكوفة، فذكروا
ص: 95
أن المفضل شديد الوجع، فادع اللّه له. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «قد استراح». وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيام(1).
عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا أبا محمد، ما فعل أبو حمزة الثمالي؟». قال: جعلت فداك، خلفته صالحاً. فقال: «فإذا رجعت إليه فأقرئه مني السلام، وأعلمه أنه يموت في شهر كذا، في يوم كذا». قال أبو بصير: جعلت فداك، لقد كان فيه أنس، وكان لكم شيعةً. قال: «صدقت يا أبا محمد، وما عندنا خير له». قلت: شيعتكم معكم. قال: «نعم، إذا خاف اللّه وراقب اللّه، وتوقى الذنوب، كان معنا في درجتنا». قال أبو بصير: فرجعنا تلك السنة، فما لبث أبو حمزة الثمالي إلا يسيراً حتى مات(2).
عن ميسر، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا ميسر، لقد زيد في عمرك. فأي شيء تعمل؟». قال: كنت أجيراً - وأنا غلام - بخمسة دراهم، فكنت أجريها على خالي(3).
عن أبي بصير، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «تريد أن تنظر بعينك إلى
ص: 96
السماء؟». قلت: نعم. قال: فمسح يده على عيني، فنظرت إلى السماء(1).
عن أبي بصير، قال: تجسست جسد أبي عبد اللّه (عليه السلام) ومناكبه. قال: فقال: «يا أبا محمد، تحب أن تراني؟». فقلت: نعم جعلت فداك. قال: فمسح يده على عيني، فإذا أنا أنظر إليه. قال: فقال: «يا أبا محمد، لولا شهرة الناس لتركتك بصيراً على حالتك، ولكن لا يستقيم». قال: ثم مسح يده على عيني، فإذا أنا كما كنت»(2).
عن جميل بن دراج، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) , فدخلت عليه امرأة، فذكرت أنها تركت ابنها بالملحفة على وجهه ميتاً. قال لها: «لعله لم يمت، فقومي فاذهبي إلى بيتك، واغتسلي وصلي ركعتين، وادعي وقولي: يا من وهبه لي ولم يك شيئاً، جدد لي هبته، ثم حركيه، ولا تخبري بذلك أحداً». قال: ففعلت، فجاءت فحركته، فإذا هو قد بكى(3).
عن داود بن كثير الرقي، قال: حج رجل من أصحابنا. فدخل على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: فداك أبي وأمي، إن أهلي قد توفيت وبقيت وحيداً. فقال أبو
ص: 97
عبد اللّه (عليه السلام) : «أ فكنت تحبها؟». قال: نعم جعلت فداك. قال: «ارجع إلى منزلك، فإنك سترجع إلى المنزل وهي تأكل». قال: فلما رجعت من حجتي، ودخلت منزلي رأيتها وبين يديها طبق عليه تمر وزبيب وهي تأكل(1).
عن عمار الساباطي، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا عمار، أبو مسلم فظلله وكساه فكسحه بساطورا». قلت: جعلت فداك، ما رأيت نبطياً أفصح منك!. فقال: «يا عمار وبكل لسان»(2).
وعن رجل من أهل بيرما، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فودعته، وخرجت حتى بلغت الأعوص، ثم ذكرت حاجةً لي، فرجعت إليه والبيت غاص بأهله، وكنت أردت أن أسأله عن بيوض ديوك الماء. فقال لي: «يابت - يعني البيض - دعانا ميتا - يعني ديوك الماء - بناحل - يعني لا تأكل -»(3).
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: حدثني رجل من أهل جسر بابل. قال: كان في القرية رجل يؤذيني، ويقول: يا رافضي، ويشتمني، وكان يلقب بقرد القرية. قال: فحججت سنةً، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال ابتداءً: «قوفه ما نامت». قلت: جعلت فداك متى؟. قال: «في الساعة». فكتبت اليوم
ص: 98
والساعة، فلما قدمت الكوفة، تلقاني أخي، فسألته عمن بقي، وعمن مات. فقال لي: قوفه ما نامت. وهي بالنبطية: قرد القرية مات. فقلت له: متى؟. فقال لي: يوم كذا وكذا. وكان في الوقت الذي أخبرني به أبو عبد اللّه (عليه السلام) (1).
عن مسمع كردين، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: دخلت عليه وعنده إسماعيل - قال - ونحن إذ ذاك نأتم به بعد أبيه، فذكر في حديث طويل، أنه سمع رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) خلاف ما ظن فيه. قال: فأتيت رجلين من أهل الكوفة كانا يقولان به، فأخبرتهما فقال واحد منهما: سمعت وأطعت، ورضيت وسلمت. وقال الآخر - وأهوى بيده إلى جيبه فشقه ثم قال -: لا واللّه لا سمعت ولا أطعت، ولا رضيت حتى أسمعه منه. قال: ثم خرج متوجهاً إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال - وتبعته، فلما كنا بالباب، فاستأذنا فأذن لي، فدخلت قبله، ثم أذن له فدخل، فلما دخل قال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا فلان، أ يريد كل امرئ منكم أن يؤتى صحفاً منشرةً. إن الذي أخبرك به فلان الحق». قال: جعلت فداك، إني أشتهي أن أسمعه منك. قال: «إن فلاناً إمامك، وصاحبك من بعدي - يعني أبا الحسن - فلا يدعيها فيما بيني وبينه إلا كاذب مفتر». فالتفت إلى الكوفي، وكان يحسن كلام النبطية، وكان صاحب قبالات، فقال لي: ذرقه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن ذرقه بالنبطية خذها، أجل فخذها». فخرجنا من عنده(2).
ص: 99
عن الفيض بن المختار - في حديث له طويل - في أمر أبي الحسن (عليه السلام) ، حتى قال له: «هو صاحبك الذي سألت عنه، فقم فأقر له بحقه». فقمت حتى قبلت رأسه ويده، ودعوت اللّه له. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أما إنه لم يؤذن له في ذلك». فقلت: جعلت فداك، فأخبر به أحداً؟. فقال: «نعم، أهلك وولدك ورفقاءك». وكان معي أهلي وولدي، وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلما أخبرتهم حمدوا اللّه على ذلك. وقال يونس: لا واللّهِ حتى نسمع ذلك منه. وكانت به عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب، سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول له - وقد سبقني -: «يا يونس، الأمر كما قال لك فيض، رزقه رزقه». قال: فقلت: قد فعلت. والرزقه بالنبطية أي: خذه إليك(1).
روى الأعمش، والربيع، وابن سنان، وعلي بن أبي حمزة، وحسين بن أبي العلاء، وأبو المغراء، وأبو بصير: أن داود بن علي بن عبد اللّه بن العباس، لما قتل المعلى بن خنيس وأخذ ماله. قال الصادق (عليه السلام) : «قتلتَ مولاي وأخذتَ مالي. أ ما علمت أن الرجل ينام على الثكل، ولا ينام على الحرب. أ ما واللّه لأدعون اللّه عليك».
فقال له داود: تهددنا بدعائك، كالمستهزئ بقوله.
فرجع أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى داره، فلم يزل ليله كله قائماً وقاعداً، فبعث إليه داود خمسةً من الحرس، وقال: ائتوني به، فإن أبى فأتوني برأسه. فدخلوا عليه
ص: 100
وهو يصلي، فقالوا له: أجب داود.
قال: «فإن لم أجب». قالوا: أمرنا بأمر. قال: «فانصرفوا؛ فإنه هو خير لكم في دنياكم وآخرتكم». فأبوا إلا خروجه، فرفع يديه فوضعهما على منكبيه، ثم بسطهما، ثم دعا بسبابته، فسمعناه يقول: «الساعة، الساعة»، حتى سمعنا صراخاً عالياً. فقال لهم: «إن صاحبكم قد مات فانصرفوا». فسئل فقال: «بعث إليَّ ليضرب عنقي، فدعوت عليه بالاسم الأعظم، فبعث اللّه إليه ملكاً بحربة، فطعنه في مذاكيره فقتله»(1).
وعن المسمعي، قال: لما قتل داودُ بن علي المعلىَ بنَ خنيس. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لأدعون اللّه تعالى على من قتل مولاي، وأخذ مالي». فقال له داود بن علي: إنك لتهددني بدعائك. قال حماد: قال المسمعي: فحدثني معتب: أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) لم يزل ليلته راكعاً وساجداً، فلما كان في السحر سمعته يقول - وهو ساجد -: «اللّهم إني أسألك بقوتك القوية، وبجلالك الشديد، الذي كل خلقك له ذليل، أن تصلي على محمد وأهل بيته، وأن تأخذه الساعة الساعة». فما رفع رأسه حتى سمعنا الصيحة في دار داود بن علي، فرفع أبو عبد اللّه (عليه السلام) رأسه، وقال: «إني دعوت اللّه عليه بدعوة، بعث اللّه عز وجل عليه ملكاً، فضرب رأسه بمرزبة من حديد، انشقت منها مثانته فمات»(2).
وفي رواية لبابة بنت عبد اللّه بن العباس: بات داود تلك الليلة حائراً قد أغمي
ص: 101
عليه، فقمت أفتقده في الليل، فوجدته مستلقياً على قفاه، وثعبان قد انطوى على صدره، وجعل فاه على فيه، فأدخلت يدي في كمي فتناولته، فعطف فاه إليَّ فرميت به، فانساب في ناحية البيت، وأنبهت داود، فوجدته حائراً قد احمرت عيناه، فكرهت أن أخبره بما كان، وجزعت عليه. ثم انصرفت، فوجدت ذلك الثعبان كذلك، ففعلت به مثل الذي فعلت المرة الأولى، وحركت داود فأصبته ميتاً، فما رفع جعفر (عليه السلام) رأسه من سجوده حتى سمع الواعية(1).
عن يونس بن ظبيان، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «أول خارجة خرجت على موسى بن عمران بمرج دانق وهو بالشام، وخرجت على المسيح بحران، وخرجت على أمير المؤمنين بالنهروان، ويخرج على القائم بالدسكرة دسكرة الملك». ثم قال لي: «كيف مالح دير بيرما كي مالح». يعني عند قريتك، وهو بالنبطية، وذاك أن يونس كان من قرية دير بيرما، فقال: الدسكرة أي عند دير بيرما(2).
روي عن أبي عبد اللّه، قال: دخل عليه قوم من أهل خراسان. فقال - ابتداءً من غير مسألة -: «من جمع مالاً من مهاوش، أذهبه اللّه في نهابر». فقالوا: جعلنا
ص: 102
اللّه فداك، لا نفهم هذا الكلام. فقال (عليه السلام) : «از باد آيد بدم بشود»(1).
عن فرقد، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وقد بعث غلاماً أعجمياً، فرجع إليه، فجعل يغير الرسالة فلا يخبرها، حتى ظننت أنه سيغضب. فقال له: «تكلم بأي لسان شئت؛ فإني أفهم عنك»(2).
روي: أن أبان بن تغلب قال: غدوت من منزلي بالمدينة، وأنا أريد أبا عبد اللّه (عليه السلام) . فلما صرت بالباب، خرج عليَّ قوم من عنده، لم أعرفهم، ولم أر قوماً أحسن زياً منهم، ولا أحسن سيماء منهم، كأن الطير على رءوسهم. ثم دخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فجعل يحدثنا بحديث، فخرجنا من عنده، وقد فهم خمسة عشر نفراً منا متفرقو الألسن، منها: اللسان العربي، والفارسي، والنبطي، والحبشي، والسقلبي. قال بعض: ما هذا الحديث الذي حدثنا به!. قال له آخر - من لسانه عربي -: حدثني بكذا بالعربية. وقال له الفارسي: ما فهمت، إنما حدثني كذا وكذا بالفارسية. وقال الحبشي: ما حدثني إلا بالحبشية. وقال السقلبي: ما حدثني إلا بالسقلبية. فرجعوا إليه فأخبروه. فقال (عليه السلام) : «الحديث واحد، ولكنه فسر لكم بألسنتكم»(3).
ص: 103
عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: كنت عنده، إذ نظرت إلى زوج حمام عنده، فهدر الذكر على الأنثى. فقال لي: «أ تدري ما يقول؟». قلت: لا. قال: «يقول: يا سكني وعرسي، ما خلق أحب إليَّ منكِ، إلا أن يكون مولاي جعفر بن محمد (عليه السلام) »(1).
عن سالم - مولى أبان بياع الزطي - قال: كنا في حائط لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ونفر معي - قال - فصاحت العصافير. فقال: «أ تدري ما تقول؟». فقلنا: جعلنا اللّه فداك، لا ندري ما تقول. قال: «تقول: اللّهم إنا خلق من خلقك، لا بد لنا من رزقك، فأطعمنا واسقنا»(2).
عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: كان معنا أبو عبد اللّه البلخي ومعه، إذا هو بظبي يثغو، ويحرك ذنبه. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أفعل إن شاء اللّه». قال: ثم أقبل علينا، فقال: «علمتم ما قال الظبي؟». قلنا: اللّه ورسوله وابن رسوله أعلم. فقال: «إنه أتاني فأخبرني، أن بعض أهل المدينة نصب شبكةً لأنثاه، فأخذها ولها خشفان، لم ينهضا ولم يقويا للرعي - قال - فيسألني أن أسألهم أن يطلقوها، وضمن لي أن إذا أرضعت خشفيها حتى يقويا
ص: 104
أن يردها عليهم. قال: فاستحلفته. قال: برئت من ولايتكم أهل البيت إن لم أفِ، وأنا فاعل ذلك به إن شاء اللّه». فقال البلخي: سنة فيكم كسنة سليمان (عليه السلام) (1).
وروى داود بن كثير الرقي - في حديث - عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ثم سارا، فإذا نحن بظبي قد أقبل يبصبص بذنبه، قد أقبل إلى الصادق (عليه السلام) وينغم. فقال: «أفعل إن شاء اللّه». فانصرف الظبي، فقال البلخي: لقد رأينا عجباً، فما سألك الظبي؟. قال: «استجار بي الظبي، وأخبرني أن بعض من يصيد الظباء بالمدينة صاد زوجته، وأن لها خشفين صغيرين، وسألني أن أشتريها وأطلقها إليه، فضمنت له ذلك، واستقبل القبلة ودعا، وقال: «الحمد لله كثيراً كما هو أهله ومستحقه»،... ثم انصرف ونحن معه، فاشترى الظبية وأطلقها(2).
روي عن صفوان بن يحيى، عن جابر، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فإذا نحن برجل قد أضجع جدياً ليذبحه، فصاح الجدي. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كم ثمن هذا الجدي؟». فقال: أربعة دراهم. فحلها من كمه، ودفعها إليه، وقال: «خل سبيله». قال: فسرنا، فإذا الصقر قد انقض على دراجة، فصاحت الدراجة، فأومأ أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى الصقر بكمه، فرجع عن الدراجة. فقلت: لقد رأينا عجيباً من أمرك!. قال: «نعم، إن الجدي لما أضجعه الرجل وبصر بي،
ص: 105
قال: أستجير باللّه وبكم أهل البيت مما يراد مني، وكذلك قالت الدراجة، ولو أن شيعتنا استقامت؛ لأسمعتهم منطق الطير»(1).
عن يونس بن ظبيان، والمفضل بن عمر، وأبي سلمة السراج، والحسين بن ثوير ابن أبي فاختة، قالوا: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «لنا خزائن الأرض ومفاتيحها، ولو شئت أن أقول بإحدى رجلي: أخرجي ما فيك من الذهب لأخرجت».
قال: فقال بإحدى رجليه، فخطها في الأرض خطاً، فانفجرت الأرض، ثم قال بيده، فأخرج سبيكة ذهب قدر شبر، فتناولها. فقال: «انظروا فيها حساً حسناً، حتى لا تشكوا - ثم قال: - انظروا في الأرض». فإذا سبائك في الأرض كثيرة، بعضها على بعض يتلألأ.
فقال له بعضنا: جعلت فداك، أعطيتم كل هذا وشيعتكم محتاجون. فقال: «إن اللّه سيجمع لنا ولشيعتنا الدنيا والآخرة، ويدخلهم جنات النعيم، ويدخل عدونا الجحيم»(2).
عن حفص الأبيض التمار، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيام صلب المعلى بن خنيس. قال: فقال لي: «يا أبا حفص، إني أمرت المعلى بن خنيس بأمر فخالفني، فابتلي بالحديد. إني نظرت إليه يوماً وهو كئيب حزين، فقلت
ص: 106
له: ما لك يا معلى، كأنك ذكرت أهلك ومالك وولدك وعيالك». قال: أجل. قلت: «ادن مني. فدنا مني، فمسحت وجهه. فقلت: أين تراك. قال: أراني في بيتي، هذه زوجتي، وهذا ولدي. فتركته حتى تملأ منهم، واستترت منهم حتى نال منها ما ينال الرجل من أهله. ثم قلت له: ادن مني. فدنا مني فمسحت وجهه، فقلت: أين تراك. فقال: أراني معك في المدينة، هذا بيتك - قال - قلت له: يا معلى، إن لنا حديثاً من حفظ علينا حفظ اللّه عليه دينه ودنياه. يا معلى، لا تكونوا أسرى في أيدي الناس بحديثنا، إن شاءوا آمنوا عليكم، وإن شاءوا قتلوكم. يا معلى، إنه من كتم الصعب من حديثنا، جعله اللّه نوراً بين عينيه، ورزقه اللّه العزة في الناس. ومن أذاع الصعب من حديثنا، لم يمت حتى يعضه السلاح، أو يموت كبلاً. يا معلى بن خنيس، وأنت مقتول فاستعد»(1).
عن الحسن بن عطية، قال: كان أبو عبد اللّه (عليه السلام) واقفاً على الصفا. فقال له عباد البصري: حديث يروى عنك. قال: «وما هو؟». قال: قلت: حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية. قال: «قد قلت ذلك. إن المؤمن لو قال لهذه الجبال أقبلي أقبلت». قال: فنظرت إلى الجبال قد أقبلت. فقال لها: «على رسلك، إني لم أردك»(2).
عن المعلى بن خنيس، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) في بعض حوائجي -
ص: 107
قال - فقال لي: «ما لي أراك كئيباً حزيناً؟». قال: فقلت: ما بلغني عن العراق من هذا الوباء، أذكر عيالي. قال: «فاصرف وجهك». فصرفت وجهي، قال: ثم قال: «أدخل دارك». قال: فدخلت، فإذا أنا لا أفقد من عيالي صغيراً ولا كبيراً، إلا وهو في داري بما فيها. قال: ثم خرجت. فقال لي: «اصرف وجهك». فصرفته، فنظرت فلم أر شيئاً(1).
عن داود الرقي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: «يا داود، أعمالكم عرضت عليَّ يوم الخميس، فرأيت لك فيها شيئاً فرحني، وذلك صلتك لابن عمك. أما إنه سيمحق أجله، ولا ينقص رزقك». قال داود: وكان لي ابن عم ناصب، كثير العيال محتاج، فلما خرجت إلى مكة، أمرت له بصلة، فلما دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) أخبرني بهذا(2).
عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: كان معه أبو عبد اللّه البلخي في سفر. فقال له: «انظر هل ترى هاهنا جباً». فنظر البلخي يمنةً ويسرةً، ثم انصرف فقال: ما رأيت شيئاً. قال: «بلى انظر». فعاد أيضاً ثم رجع إليه، ثم قال (عليه السلام) بأعلى صوته: «أ لا يا أيها الجب الزاخر السامع المطيع لربه، اسقنا مما جعل اللّه فيك». قال: فنبع منه أعذب ماء، وأطيبه وأرقه وأحلاه. فقال له
ص: 108
البلخي: جعلت فداك، سنة فيكم كسنة موسى(1).
روي عن عبد اللّه بن يحيى الكاهلي، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إذا لقيت السبع ما تقول له؟». قلت: لا أدري. قال: «إذا لقيته فاقرأ في وجهه آية الكرسي، وقل: عزمت عليك بعزيمة اللّه، وعزيمة محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعزيمة سليمان بن داود، وعزيمة علي أمير المؤمنين، والأئمة من بعده؛ فإنه ينصرف عنك». قال عبد اللّه الكاهلي: فقدمت إلى الكوفة، فخرجت مع ابن عم لي إلى قرية، فإذا سبع قد اعترض لنا في الطريق، فقرأت في وجهه آية الكرسي، وقلت: عزمت عليك بعزيمة اللّه، وعزيمة محمد رسول اللّه، وعزيمة سليمان بن داود، وعزيمة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والأئمة من بعده، إلا تنحيت عن طريقنا، ولم تؤذنا؛ فإنا لا نؤذيك. قال: فنظرت إليه وقد طأطأ رأسه، وأدخل ذنبه بين رجليه، وركب الطريق راجعاً من حيث جاء. فقال ابن عمي: ما سمعت كلاماً أحسن من كلامك هذا الذي سمعته منك. فقلت: أي شيء سمعت، هذا كلام جعفر بن محمد. فقال: أنا أشهد أنه إمام فرض اللّه طاعته. وما كان ابن عمي يعرف قليلاً ولا كثيراً. قال: فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) من قابل، فأخبرته الخبر. فقال: «ترى أني لم أشهدكم، بئسما رأيت - ثم قال - إن لي مع كل ولي أذناً سامعةً، وعيناً ناظرةً، ولساناً ناطقاً - ثم قال - يا عبد اللّه، أنا واللّه صرفته عنكما، وعلامة ذلك أنكما كنتما في البرية على شاطئ النهر، واسم ابن عمك مثبت عندنا، وما كان اللّه ليميته حتى يعرف هذا الأمر». قال: فرجعت إلى الكوفة، فأخبرت ابن
ص: 109
عمي بمقالة أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ففرح فرحاً شديداً وسر به، وما زال مستبصراً بذلك إلى أن مات(1).
روي عن الحسين بن أبي العلاء، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، إذ جاءه رجل أو مولًى له يشكو زوجته وسوء خلقها. قال: «فأتني بها». فقال لها: «ما لزوجكِ؟». قالت: فعل اللّه به وفعل. فقال لها: «إن ثبت على هذا لم تعيشي إلا ثلاثة أيام». قالت: ما أبالي أن لا أره أبداً. فقال له: خذ بيد زوجتك، فليس بينك وبينها إلا ثلاثة أيام». فلما كان اليوم الثالث دخل عليه الرجل. فقال (عليه السلام) : «ما فعلت زوجتك؟». قال: قد واللّه دفنتها الساعة. قلت: ما كان حالها؟. قال: «كانت متعديةً، فبتر اللّه عمرها، وأراحه منها»(2).
قال الميثمي: إن رجلاً حدثه. قال: كنا نتغدى مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال لغلامه: «انطلق وائتنا بماء زمزم». فانطلق الغلام، فما لبث أن جاء وليس معه ماء. فقال: إن غلاماً من غلمان زمزم منعني الماء، وقال: تريد لإله العراق. فتغير لون أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ورفع يده عن الطعام، وتحركت شفتاه، ثم قال للغلام: «ارجع فجئنا بالماء». ثم أكل، فلم يلبث أن جاء الغلام بالماء، وهو
ص: 110
متغير اللون. فقال: «ما وراءك؟». قال: سقط ذاك الغلام في بئر زمزم فتقطع، وهم يخرجونه، فحمد اللّه عليه(1).
روي عن صفوان، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأتاه غلام. فقال: أمي ماتت. فقال له (عليه السلام) : «لم تمت». قال: تركتها مسجى. فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) ودخل عليها، فإذا هي قاعدة. فقال لابنها: «ادخل إلى أمك، فشهها من الطعام ما شاءت فأطعمها». فقال الغلام: يا أماه، ما تشتهين؟. قالت: أشتهي زبيباً مطبوخاً. فقال له: «ائتها بغضارة مملؤة زبيباً». فأكلت منها حاجتها، وقال لها: إن ابن رسول اللّه بالباب يأمرك أن توصي. فأوصت ثم توفيت، فما خرجنا حتى صلى عليها أبو عبد اللّه (عليه السلام) ودفنت(2).
روي: أن داود بن كثير الرقي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فدخل عليه موسى ابنه وهو ينتفض. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كيف أصبحت؟». قال: «أصبحت في كنف اللّه، متقلباً في نعم اللّه، أشتهي عنقود عنب جرشي ورمانةً». قلت: سبحان اللّه! هذا الشتاء. فقال: «يا داود، إن اللّه قادر على كل شيء، ادخل البستان». فإذا شجرة عليها عنقود من عنب جرشي ورمانة. فقلت: آمنت
ص: 111
بسركم وعلانيتكم. فقطعتها وأخرجتها إلى موسى، فقعد يأكل. فقال: «يا داود، واللّه لهذا فضل من رزق قديم، خص اللّه به مريم بنت عمران من الأفق الأعلى»(1).
روي عن بعض أصحابنا، قال: حملت مالاً لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فاستكثرته في نفسي. فلما دخلت عليه، دعا بغلام، وإذا طشت في آخر الدار، فأمره أن يأتي به، ثم تكلم بكلام لما أتى بالطشت، فانحدر الدنانير من الطشت، حتى حالت بيني وبين الغلام.
ثم التفت إليَّ وقال: «أ ترى نحتاج إلى ما في أيديكم، إنما نأخذ منكم ما نأخذ لنطهركم به»(2).
روي أن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) بين مكة والمدينة، وهو على بغلة، وأنا على حمار، وليس معنا أحد. فقلت: يا سيدي، ما علامة الإمام؟. قال: «يا عبد الرحمن، لو قال لهذا الجبل سر لسار». فنظرت واللّه إلى الجبل يسير، فنظر إليه فقال: «إني لم أعنك»(3).
ص: 112
روي أن إبراهيم بن مهزم الأسدي قال: قدمت المدينة، فأتيت باب أبي عبد اللّه (عليه السلام) استفتحه، فدنت جارية لفتح الباب، فقرصت ثديها ودخلت. فقال: «يا ابن مهزم، أ ما علمت أن ولايتنا لا تنال إلا بالورع». فأعطيت اللّه عهداً أني لا أعود إلى مثلها أبداً(1).
روي أن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، إذ دخل عليه المعلى بن خنيس باكياً. قال: «وما يبكيك؟». قال: بالباب قوم يزعمون أن ليس لكم علينا فضل، وأنكم وهم شيء واحد. فسكت، ثم دعا بطبق من تمر، فحمل منه تمرةً فشقها نصفين، وأكل التمر وغرس النوى في الأرض، فنبتت فحملت بسراً، وأخذ منها واحدةً، فشقها وأخرج منه ورقاً، ودفعه إلى المعلى وقال: «اقرأه». فإذا فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي المرتضى، الحسن والحسين، وعلي بن الحسين، واحداً واحداً إلى الحسن بن علي وابنه»(2).
روي أن أبا مريم المدني قال: خرجت إلى الحج، فلما صرت قريباً من
ص: 113
الشجرة، خرجت على حمار لي، قلت: أدرك الجماعة، وأصلي معهم. فنظرت إلى الجماعة يصلون، فأتيتهم فإذا أبو عبد اللّه (عليه السلام) محتب بردائه يسبح. فقال: «صليت يا أبا مريم؟». قلت: لا. قال: «صل». فصليت ثم ارتحلنا، فسرت تحت محمله، فقلت في نفسي: قد خلوت به اليوم، فأسأله عما بدا لي. فقال: «يا أبا مريم، تسير تحت محملي؟». قلت: نعم. وكان زميله غلاماً له، يقال له: سالم. فرآني كثير الاختلاف، قال: أراك كثير الاختلاف، أ بك بطن؟!. قلت: نعم. قال: «أكلت البارحة حيتاناً؟». قلت: نعم. قال: «فأتبعتها بتمرات». قلت: لا. قال: «أ ما إنك لو أتبعتها بتمرات ما ضرك». فسرنا حتى إذا كان وقت الزوال نزل. فقال: «يا غلام، هات ماءً أتوضأ به». فناوله، فدخل إلى موضع يتوضأ، فلما خرج إذا هو بجذع، فدنا منه. فقال: «يا جذع، أطعمنا مما خلق اللّه فيك». قال: رأيت الجذع يهتز، ثم اخضر، ثم أطلع، ثم اصفر، ثم ذهب فأكل منه وأطعمني، كل ذلك أسرع من طرفة عين(1).
روي أن عيسى بن مهران قال: كان رجل من أهل خراسان من وراء النهر، وكان موسراً، وكان محباً لأهل البيت، وكان يحج في كل سنة، وقد وظف على نفسه لأبي عبد اللّه (عليه السلام) في كل سنة ألف دينار من ماله، وكانت تحته ابنة عم له تساويه في اليسار والديانة. فقالت في بعض السنين: «يا ابن عم، حج بي في هذه السنة». فأجابها إلى ذلك، فتجهزت للحج، وحملت لعيال أبي عبد اللّه (عليه السلام)
ص: 114
وبناته من فواخر ثياب خراسان، ومن الجواهر والبز أشياء كثيرةً خطيرةً، وأعد زوجها ألف دينار في كيس كعادته لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وجعل الكيس في ربعة فيها حلي وطيب، وشخص يريد المدينة. فلما وردها صار إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فسلم عليه، وأعلمه أنه حج بأهله، وسأله الإذن لها في المصير إلى منزله؛ للتسليم على أهله وبناته. فأذن لها أبو عبد اللّه (عليه السلام) في ذلك، فصارت إليهم، وفرقت عليهم وأجملت، وأقامت يوماً عندهم وانصرفت، فلما كان من الغد، قال لها زوجها: «أخرجي تلك الربعة؛ لتسليم ألف دينار إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ». فقالت: في موضع كذا. فأخذها، وفتح القفل، فلم يجد الدنانير، وكان فيها حليها وثيابها، فاستقرض ألف دينار من أهل بلده، ورهن الحلي بها، وصار إلى أبي عبداللّه (عليه السلام) . فقال: «قد وصلت إلينا الألف». قال: يا مولاي، وكيف ذلك وما علم بها غيري وغير بنت عمي؟!. فقال: «مستنا ضيقة، فوجهنا من أتى بها من شيعتي من الجن؛ فإني كلما أريد أمراً بعجلة، أبعث واحداً منهم، فزاد في بصيرة الرجل، وسر به، واسترجع الحلي ممن رهنه، ثم انصرف إلى منزله، فوجد امرأته تجود بنفسها، فسأل عن خبرها. فقالت خدمتها: أصابها وجع في فؤادها، وهي في هذه الحال، فغمضها وسجاها، وشد حنكها، وتقدم في إصلاح ما يحتاج إليه من الكفن والكافور، وحفر قبرها، وصار إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأخبره وسأله أن يتفضل بالصلاة عليها. فصلى أبو عبد اللّه (عليه السلام) ركعتين ودعا، ثم قال للرجل: «انصرف إلى رحلك، فإن أهلك لم تمت، وستجدها في رحلك تأمر وتنهى، وهي في حال سلامة». فرجع الرجل فأصابها كما وصف أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، ثم خرج يريد مكة، وخرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) للحج أيضاً، فبينما المرأة تطوف بالبيت، إذا رأت أبا عبد اللّه يطوف، والناس قد حفوا به. فقالت
ص: 115
لزوجها: من هذا الرجل؟. قال: أبو عبد اللّه (عليه السلام) . قال: هذا واللّه الرجل الذي رأيته يشفع إلى اللّه، حتى رد روحي في جسدي(1).
وفي رواية: أن داود الرقي قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، إذ دخل شاب يبكي ويقول: نذرت على أن أحج بأهلي، فلما أن دخلت المدينة ماتت.
قال (عليه السلام) : «اذهب؛ فإنها لم تمت».
قال: ماتت وسجيتها!.
قال: «اذهب». فخرج ورجع ضاحكاً، وقال: دخلت عليها وهي جالسة.
قال: «يا داود، أولم تؤمن».
قلت: بلى ولكن ليطمئن قلبي.
فلما كان يوم التروية، قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «قد اشتقت إلى بيت ربي». قلت: يا سيدي، هذه عرفات». قال: «إذا صليت العشاء الآخرة، فأرحل ناقتي، وشد زمامها». ففعلت، فخرج وقرأ: قل هو اللّه أحد، ويس، ثم استوى عليها، وأردفني خلفه، فسرنا هوناً في الليل، وفعل في مواضع ما كان ينبغي. فقال: «هذا بيت اللّه». ففعل ما كان ينبغي، فلما طلع الفجر، قام فأذن وأقام، وأقامني عن يمينه، وقرأ في أول الركعة الحمد والضحى، وفي الثانية الحمد وقل هو اللّه أحد، ثم قنت، ثم سلم وجلس، فلما طلعت الشمس، مر الشاب ومعه المرأة. فقالت لزوجها: هذا الذي شفع إلى اللّه في إحيائي(2).
ص: 116
روي أن شعيب العقرقوفي قال: دخلت أنا وعلي بن أبي حمزة وأبو بصير على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ومعي ثلاثمائة دينار قبضتها قدامه.
فأخذ أبو عبد اللّه (عليه السلام) قبضةً منها لنفسه، ورد الباقي عليَّ وقال: «رد هذه إلى موضعها الذي أخذتها منه».
وقال أبو بصير: يا شعيب، ما حال هذه الدنانير التي ردها عليك؟.
قلت: أخذتها من عروة أخي سراً، وهو لا يعلم.
فقال أبو بصير: أعطاك أبو عبد اللّه (عليه السلام) علامة الإمامة. فعد الدنانير، فإذا هي مائة لا تزيد ولا تنقص(1).
روي أن عثمان بن عيسى قال: قال رجل لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : ضيق إخوتي وبنو عمي عليَّ الدار، فلو تكلمت. قال: «اصبر». فانصرفت سنتي، ثم عدت من قابل، فشكوتهم إليه. قال: «اصبر». ثم عدت في السفرة الثالثة. فقال: «اصبر؛ سيجعل اللّه لك فرجاً». فماتوا كلهم، فخرجت إليه. فقال: «ما فعل أهل بيتك؟». قلت: ماتوا. قال: «هو ما صنعوا بك؛ لعقوقهم إياك، وقطعهم رحمك»(2).
ص: 117
روي أن الطيالسي قال: جئت من مكة إلى المدينة، فلما كنت على ليلتين من المدينة، ذهبت راحلتي، وعليها نفقتي ومتاعي، وأشياء كانت للناس معي. فأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فشكوت إليه. فقال: «ادخل المسجد، فقل: اللّهم إني أتيتك زائراً لبيتك الحرام، وإن راحلتي قد ذهبت، فردها عليَّ». فجعلت أدعو، فإذا مناد ينادي على باب المسجد: يا صاحب الراحلة، اخرج فخذ راحلتك، فقد آذيتنا منذ الليلة، فأخذتها وما فقدت منها خيطاً واحداً(1).
روي أن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن لنا أموالاً نعامل بها الناس، وأخاف حدثاً يفرق أموالنا. قال: «اجمع مالك إلى شهر ربيع». فمات إسحاق في شهر ربيع(2).
روى ابن سماعة بن مهران قال: كنا عنده (عليه السلام) . فقال: «يا غلام، ائتنا بماء زمزم». ثم سمعته يقول: «اللّهم أعم بصره، اللّهم أخرس لسانه، اللّهم أصم سمعه». قال: فرجع الغلام يبكي. فقال: «ما لك؟». قال: إن فلان القرشي ضربني، ومنعني من السقاء. قال: «ارجع فقد كفيته». فرجع وقد عمي وصم
ص: 118
وخرس، وقد اجتمع عليه الناس(1).
روي أن بحر الخياط قال: كنت قاعداً عند فطر بن خليفة، فجاء ابن الملاح، فجلس ينظر إليَّ. فقال لي فطر: حدث إن أردت، وليس عليك بأس. فقال ابن الملاح: أخبرك بأعجوبة رأيتها من ابن البكرية يعني الصادق. قال: ما هو؟. قال: كنت قاعداً وحدي أحدثه ويحدثني، إذ ضرب يده إلى ناحية المسجد شبه المتفكر، ثم استرجع. فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون». قلت: ما لك؟!. قال: «قتل عمي زيد الساعة». ثم نهض فذهب، فكتبت قوله في تلك الساعة، وفي ذلك الشهر، ثم أقبلت إلى الفرات، فلما كنت في الطريق استقبلني راكب. فقال: قتل زيد بن علي في يوم كذا، في ساعة كذا، على ما قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فقال فطر بن خليفة: إن عند الرجل علماً جماً(2).
روي أن العلاء بن سيابة قال: جاء رجل إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) وهو يصلي، فجاء هدهد فوقع عند رأسه حتى سلم، والتفت إليها. فقلت: جئت لأسألك فرأيت ما هو أعجب.
قال: «ما هو؟».
قلت: ما صنع الهدهد؟.
ص: 119
قال: «جاءني فشكا إليَّ حيةً تأكل فراخه، فدعوت اللّه عليها فأماتها».
قلت: يا مولاي، إني لا يعيش لي ولد، وكلما ولدت امرأتي مات ولدها. قال: «هذا ليس من ذلك الجنس، ولكن إذا رجعت إلى منزلك، فإنه ستدخل كلبة إليك، فتريد امرأتك أن تطعمها، فمرها أن لا تطعمها، فقل للكلبة: إن أبا عبد اللّه (عليه السلام) أمرني أن أقول أميطي عنا لعنكِ اللّه؛ فإنه يعيش ولدك إن شاء اللّه». فعاش أولادي، وخلفت غلماناً ثلاثة(1).
عن إبراهيم بن عبد الحميد، قال: اشتريت من مكة بردةً، وآليت على نفسي أن لا تخرج عن ملكي حتى تكون كفني. فخرجت فيها إلى عرفة، فوقفت فيها الموقف، ثم انصرفت إلى جمع، فقمت إليها في وقت الصلاة، فرفعتها أو طويتها شفقةً مني عليها، وقمت لأتوضأ، ثم عدت فلم أرها. فاغتممت لذلك غماً شديداً.
فلما أصبحت وقمت لأتوضأ، أفضت مع الناس إلى منى، فإني واللّه لفي مسجد الخيف، إذ أتاني رسول أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: يقول لك أبو عبد اللّه: «أقبل إلينا الساعة».
فقمت مسرعاً حتى دخلت إليه، وهو في فسطاط، فسلمت وجلست. فالتفت إليَّ أو رفع رأسه إليَّ.
فقال: «يا إبراهيم، أ تحب أن نعطيك بردةً تكون كفنك؟».
ص: 120
قال: قلت: والذي يحلف به إبراهيم، لقد ضاعت بردتي. قال: فنادى غلامه فأتى ببردة، فإذا هي واللّه بردتي بعينها، وطيي واللّه بيدي. قال: فقال: «خذها يا إبراهيم واحمد اللّه»(1).
روي عن بشير النبال، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، إذا استأذن عليه رجل، ثم دخل المسجد. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ما أنقى ثيابك هذه». قال: هي لباس بلادنا - ثم قال - جئتك بهدية. فدخل غلام ومعه جراب فيه ثياب فوضعه، ثم تحدث ساعةً، ثم قام. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن بلغ الوقت وصدق الوصف، فهو صاحب الرايات السود من خراسان يتقعقع». ثم قال لغلام قائم على رأسه: «الحقه فسله ما اسمك؟». فقال: عبد الرحمن. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «عبد الرحمن واللّه - ثلاث مرات - هو، هو، ورب الكعبة».
قال بشر: فلما قدم أبو مسلم، جئت حتى دخلت عليه، فإذا هو الرجل الذي دخل علينا(2).
روي عن علي بن أبي حمزة قال: حججت مع الصادق (عليه السلام) ، فجلسنا في بعض الطريق تحت نخلة يابسة، فحرك شفتيه بدعاء لم أفهمه، ثم قال: «يا نخلة،
ص: 121
أطعمينا مما جعل اللّه فيك من رزق عباده». قال: فنظرت إلى النخلة، وقد تمايلت نحو الصادق (عليه السلام) ، وعليها أوراقها، وعليها الرطب. قال: «ادن وسم وكل». فأكلنا منها رطباً، أعذب رطب وأطيبه، فإذا نحن بأعرابي يقول: ما رأيت كاليوم سحراً أعظم من هذا.
فقال الصادق (عليه السلام) : «نحن ورثة الأنبياء، ليس فينا ساحر ولا كاهن، بل ندعو اللّه فيجيب، فإن أحببت أن أدعو اللّه، فيمسخك كلباً تهتدي إلى منزلك، وتدخل عليهم وتبصبص لأهلك».
قال الأعرابي بجهله: بلى فادع اللّه. فصار كلباً في وقته، ومضى على وجهه.
فقال لي الصادق (عليه السلام) : «اتبعه». فاتبعته حتى صار إلى منزله، فجعل يبصبص لأهله وولده، فأخذوا له عصاً فأخرجوه.
فانصرفت إلى الصادق (عليه السلام) فأخبرته بما كان، فبينما نحن في حديثه، إذ أقبل حتى وقف بين يدي الصادق (عليه السلام) ، وجعلت دموعه تسيل، فأقبل يتمرغ في التراب فيعوي، فرحمه فدعا اللّه فعاد أعرابياً. فقال له الصادق (عليه السلام) : «هل آمنت يا أعرابي؟». قال: نعم، ألفاً وألفاً»(1).
روي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) مع جماعة. فقلت: قول اللّه لإبراهيم: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ}(2)، أ كانت أربعةً من أجناس مختلفة أو من جنس؟. قال: «أ تحبون أن أريكم مثله». قلنا: بلى. قال: «يا
ص: 122
طاوس». فإذا طاوس طار إلى حضرته، ثم قال: «يا غراب». فإذا غراب بين يديه، ثم قال: «يا بازي». فإذا بازي بين يديه، ثم قال: «يا حمامة». فإذا حمامة بين يديه، ثم أمر بذبحها كلها، وتقطيعها ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كله بعضه ببعض، ثم أخذ برأس الطاوس، فرأينا لحمه وعظامه وريشه يتميز من غيرها، حتى ألصق ذلك كله برأسه، وقام الطاوس بين يديه حياً.
ثم صاح بالغراب كذلك، وبالبازي والحمامة كذلك، فقامت كلها أحياءً بين يديه(1).
روي عن داود بن كثير الرقي - في حديث - عن الصادق (عليه السلام) ، أنه قال للبلخي: «فهلا كان الإنكار منك ليلة دفع إليك فلان بن فلان البلخي جاريته فلانة لتبيعها، فلما عبرت النهر افترشتها في أصل شجرة. فقال البلخي: قد مضى واللّه لهذا الحديث أكثر من عشرين سنةً، ولقد تبت إلى اللّه من ذلك. فقال الصادق (عليه السلام) : «لقد تبت، وما تاب اللّه عليك، ولقد غضب اللّه لصاحب الجارية»(2).
روى داود بن كثير الرقي في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: فلما برزنا إلى الصحراء، فإذا نحن بجب كبير، ثم التفت الصادق (عليه السلام) إلى البلخي. فقال: «اسقنا من هذا الجب».
ص: 123
فدنا البلخي، ثم قال: هذا جب بعيد القعر، لا أرى ماءً به. فتقدم الصادق (عليه السلام) فقال: «أيها الجب السامع المطيع لربه، اسقنا مما جعل اللّه فيك من الماء بإذن اللّه». فنظرنا الماء يرتفع من الجب فشربنا منه(1).
روى داود بن كثير الرقي - في حديث - عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ثم سار حتى انتهى إلى موضع فيه نخلة يابسة، فدنا منها. فقال: «أيتها النخلة، أطعمينا مما جعل اللّه فيكِ». فانتثرت رطباً جنياً، ثم جاء فالتفت فلم ير فيها شيئاً(2).
روي: أن أبا الصلت الهروي روى عن الرضا (عليه السلام) ، أنه قال: قال لي أبي موسى: «كنت جالساً عند أبي (عليه السلام) ، إذ دخل عليه بعض أوليائنا. فقال: في الباب ركب كثير يريدون الدخول عليك. فقال لي: انظر في الباب. فنظرت إلى جمال كثيرة عليها صناديق، ورجل ركب فرساً. فقلت: من الرجل؟. قال: رجل من السند والهند، أردت الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) . فأعلمت والدي بذلك، فقال: لا تأذن للنجس الخائن. فأقام بالباب مدةً مديدةً فلم يؤذن له، حتى شفع يزيد بن سليمان ومحمد بن سليمان فأذن له. فدخل الهندي وجثى بين يديه. فقال: أصلح اللّه الإمام، أنا رجل من الهند من قبل ملكها، بعثني إليك بكتاب مختوم، وكنت بالباب حولاً لم تأذن لي، فما ذنبي أ هكذا يفعل أولاد الأنبياء. قال: فطأطأ
ص: 124
رأسه، ثم قال: ولتعلمن نبأه بعد حين. قال موسى (عليه السلام) : فأمرني أبي بأخذ الكتاب وفكه، فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلى جعفر بن محمد الطاهر من كل نجس من ملك الهند. أما بعد، فقد هداني اللّه على يديك، وإنه أهدي إليَّ جارية لم أر أحسن منها، ولم أجد أحداً يستأهلها غيرك، فبعثتها إليك مع شيء من الحلي والجوهر والطيب، ثم جمعت وزرائي، فاخترت منهم ألف رجل يصلحون للأمانة، واخترت من الألف مائةً، واخترت من المائة عشرةً، واخترت من العشرة واحداً، وهو ميزاب بن حباب، لم أر أوثق منه، فبعثت على يده هذه. فقال جعفر (عليه السلام) : ارجع أيها الخائن، فما كنت بالذي أتقبلها؛ لأنك خائن فيما ائتمنت عليه. فحلف أنه ما خان. فقال (عليه السلام) : إن شهد بعض ثيابك بما خنت، تشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: أ وتعفيني من ذلك. قال: أكتب إلى صاحبك بما فعلت. قال الهندي: إن علمت شيئاً فاكتب. فكان عليه فروة، فأمره بخلعها، ثم قام الإمام فركع ركعتين، ثم سجد. قال موسى (عليه السلام) : فسمعته في سجوده يقول: اللّهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وأمينك في خلقك وآله، وأن تأذن لفرو هذا الهندي أن ينطق بفعله، وأن يحكم بلسان عربي مبين، يسمعه من في المجلس من أوليائنا؛ ليكون ذلك عندهم آيةً من آيات أهل البيت، فيزدادوا إيماناً مع إيمانهم. ثم رفع رأسه فقال: أيها الفرو، تكلم بما تعلم من الهندي.
قال موسى (عليه السلام) : فانتفضت الفروة، وصارت كالكبش، وقالت: يا ابن رسول اللّه، ائتمنه الملك على هذه الجارية وما معها، وأوصاه بحفظها، حتى صرنا إلى بعض الصحاري، أصابنا المطر، وابتل جميع ما معنا، ثم احتبس
ص: 125
المطر، وطلعت الشمس، فنادى خادماً كان مع الجارية يخدمها، يقال له: بشر. وقال: لو دخلت هذه المدينة، فأتيتنا بما فيها من الطعام، ودفع إليه الدراهم، ودخل الخادم المدينة، فأمر ميزاب هذه الجارية، أن تخرج من قبتها إلى مضرب قد نصب في الشمس، فخرجت وكشفت عن ساقيها، إذ كان في الأرض وحل، ونظر هذا الخائن إليها، فراودها عن نفسها، فأجابته وفجر بها وخانك.
فخر الهندي، فقال: ارحمني، فقد أخطأت وأقر بذلك. ثم صارت فروةً كما كانت، وأمره أن يلبسها، فلما لبسها انضمت في حلقه، وخنقته حتى اسود وجهه. فقال الصادق (عليه السلام) : أيها الفرو، خل عنه حتى يرجع إلى صاحبه، فيكون هو أولى به منا. فانحل الفرو وقال الهندي: اللّه، اللّه فيَّ، وإنك إن رددت الهدية، خشيت أن ينكر ذلك عليَّ؛ فإنه بعيد العقوبة. فقال: أسلم أعطك الجارية. فأبى، فقبل الهدية ورد الجارية، فلما رجع إلى الملك، رجع الجواب إلى أبي بعد أشهر، فيه مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلى جعفر بن محمد الإمام (عليه السلام) من ملك الهند. أما بعد، فقد أهديت إليك جاريةً، فقبلت مني ما لا قيمة له ورددت الجارية، فأنكر ذلك قلبي، وعلمت أن الأنبياء وأولاد الأنبياء معهم فراسة، فنظرت إلى الرسول بعين الخيانة، فاخترعت كتاباً، وأعلمته أنه أتاني منك الخيانة، وحلفت أنه لا ينجيه إلا الصدق، فأقر بما فعل، وأقرت الجارية بمثل ذلك، وأخبرت بما كان من الفروة، فتعجبت من ذلك، وضربت عنقها وعنقه، وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. واعلم أني في أثر الكتاب، فما أقام إلا مدةً يسيرةً، حتى ترك ملك الهند، وأسلم وحسن إسلامه(1).
ص: 126
روي عن المفضل بن عمر، قال: كنت أمشي مع أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) بمكة أو بمنى، إذ مررنا بامرأة بين يديها بقرة ميتة، وهي مع صبية لها تبكيان. فقال (عليه السلام) : «ما شأنكِ؟». قالت: كنت وصباياي نعيش من هذه البقرة، وقد ماتت، لقد تحيرت في أمري. قال: «أ فتحبين أن يحييها اللّه لكِ؟». قالت: أ وتسخر مني مع مصيبتي. قال: «كلا، ما أردت ذلك». ثم دعا بدعاء، ثم ركضها برجله، وصاح بها، فقامت البقرة مسرعةً سويةً. فقالت: عيسى ابن مريم ورب الكعبة. فدخل الصادق (عليه السلام) بين الناس، فلم تعرفه المرأة(1).
روي: أن حماد بن عيسى سأل الصادق (عليه السلام) ، أن يدعو له ليرزقه اللّه ما يحج به كثيراً، وأن يرزقه ضياعاً حسنةً، وداراً حسناً، وزوجةً من أهل البيوتات صالحةً، وأولاداً أبراراً.
فقال الصادق (عليه السلام) : «اللّهم ارزق حماد بن عيسى ما يحج به خمسين حجةً، وارزقه ضياعاً، وداراً حسناً، وزوجةً صالحةً من قوم كرام، وأولاداً أبراراً».
قال بعض من حضره: دخلت بعد سنين على حماد بن عيسى في داره بالبصرة، فقال لي: أ تذكر دعاء الصادق (عليه السلام) لي؟.
قلت: نعم. قال: هذه داري ليس في البلد مثلها، وضياعي أحسن الضياع، وزوجتي من تعرفها من كرام الناس، وأولادي تعرفهم، وقد حججت ثمانياً وأربعين حجةً. قال: فحج حماد حجتين بعد ذلك، فلما حج في الحادية
ص: 127
والخمسين، ووصل إلى الجحفة، وأراد أن يحرم دخل وادياً ليغتسل، فأخذه السيل ومر به، فتبعه غلمانه فأخرجوه من الماء ميتاً، فسمي حماد: غريق الجحفة(1).
روي عن أبي الصامت الحلواني، قال: قلت للصادق (عليه السلام) : أعطني الشيء ينفي الشك عن قلبي؟. قال (عليه السلام) : «هات المفتاح الذي في كمك». فناولته، فإذا المفتاح أسد، فخفت. قال: «خذ لا تخف». فأخذته، فعاد مفتاحاً كما كان(2).
روي: أن رجلاً دخل على الصادق (عليه السلام) ، وشكا إليه فاقته. فقال (عليه السلام) : «طب نفساً؛ فإن اللّه يسهل الأمر». فخرج الرجل، فلقي في طريقه همياناً فيه سبع مائة دينار، فأخذ منه ثلاثين ديناراً، وانصرف إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) وحدثه بما وجد. فقال له: «اخرج وناد عليه سنةً؛ لعلك تظفر بصاحبه». فخرج الرجل وقال: لا أنادي في الأسواق، وفي مجمع الناس، وخرج إلى سكة في آخر البلد، وقال: من ضاع له شيء. فإذا رجل قال: ذهب مني سبعمائة دينار في كذا. قال: معي ذلك. فلما رآه، وكان معه ميزان فوزنها، فكان كما كان لم تنقص، فأخذ منها سبعين ديناراً وأعطاها الرجل. فأخذها وخرج إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فلما رآه تبسم.
ص: 128
وقال: «يا هذه هاتي الصرة». فأتي بها، فقال: «هذا ثلاثون، وقد أخذت سبعين من الرجل، وسبعون حلالاً خير من سبعمائة حرام»(1).
روي عن سدير: أن كثير النواء دخل على أبي جعفر (عليه السلام) ، وقال: زعم المغيرة بن سعيد، أن معك ملكاً يعرفك المؤمن من الكافر - في كلام طويل - فلما خرج قال (عليه السلام) : «ما هو إلا خبيث الولادة». وسمع هذا الكلام جماعة من أهل الكوفة، قالوا: ذهبنا حتى نسأل عن كثير فله خبر سوء، فمضينا إلى الحي الذي هو فيهم، فدللنا إلى عجوز صالحة. فقلنا لها: نسألك عن أبي إسماعيل؟. قالت: كثير. فقلنا: نعم. قالت: تريدون أن تزوجوه؟. قلنا: نعم. قالت: لا تفعلوا؛ فإني واللّه قد وضعته في ذلك البيت، رابعة أربعة من الزنا. وأشارت إلى بيت من بيوت الدار(2).
قال ابن فرقد: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وقد جاءه غلام أعجمي برسالة، فلم يزل يهذي ولا يعبره، حتى ظننت أنه لا يظهره. فقال له: «تكلم بأي لسان شئت سوى العربية؛ فإنك لا تحسنها، فإني أفهم بكلمة التركية». فرد عليه الجواب، فمضى الغلام متعجباً(3).
ص: 129
روي عن عبد الرحمن بن كثير: أن رجلاً منا دخل يسأل عن الإمام بالمدينة... فاستقبله رجل من ولد الحسين. فقال له: يا هذا، إني أراك تسأل عن الإمام. قال: نعم. قال: فأصبته؟. قال: لا. قال: فإن أحببت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل. فاستدله فأرشده إليه، فلما دخل عليه، قال له: «إنك دخلت مدينتنا هذه تسأل عن الإمام، فاستقبلك فتى من ولد الحسن، فأرشدك إلى محمد بن عبد اللّه، فسألته وخرجت. فإن شئت أخبرتك بما سألته عنه، وما رده عليك. ثم استقبلك فتى من ولد الحسين، وقال لك: إن أحببت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل». قال: صدقت، كان كل ما ذكرت ووصفت(1).
عن داود الرقي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، فدخلت عليه حبابة الوالبية، وكانت خيرةً. فسألته عن مسائل في الحلال والحرام، فتعجبنا من حسن تلك المسائل، إذ قال لنا: «أ رأيتم مسائل أحسن من مسائل حبابة الوالبية!». فقلنا: جعلنا فداك، لقد وقرت ذلك في عيوننا وقلوبنا. قال: فسالت دموعها. فقال الصادق (عليه السلام) : «ما لي أرى عينيك قد سالتا؟». قالت: يا ابن رسول اللّه، داء قد ظهر بي من الأدواء الخبيثة، التي كانت تصيب الأنبياء (عليه السلام) والأولياء، وإن قرابتي وأهل بيتي يقولون: قد أصابتها الخبيثة، ولو كان صاحبها كما قالت مفروض الطاعة لدعا لها، فكان اللّه تعالى يذهب عنها، وأنا واللّه سررت بذلك، وعلمت أنه تمحيص وكفارات، وأنه داء الصالحين. فقال لها
ص: 130
الصادق (عليه السلام) : «وقد قالوا ذلك، قد أصابتك الخبيثة؟».
قالت: نعم يا ابن رسول اللّه.
قال: فحرك الصادق (عليه السلام) شفتيه بشيء، ما أدري أي دعاء كان.
فقال: «ادخلي دار النساء، حتى تنظرين إلى جسدك». قال: فدخلت فكشفت عن ثيابها، ثم قامت ولم يبق في صدرها، ولا في جسدها شيء.
فقال (عليه السلام) : «اذهبي الآن إليهم، وقولي لهم: هذا الذي يتقرب إلى اللّه بإمامته»(1).
مغيث قال لأبي عبد اللّه (عليه السلام) - ورآه يضحك في بيته -: جعلت فداك، لست أدري بأيهما أنا أشد سروراً بجلوسك في بيتي، أو لضحكك!. قال: «إنه هدر الحمام الذكر على الأنثى. فقال: أنتِ سكني وعرسي، والجالس على الفراش أحب إليَّ منكِ، فضحكتُ من قوله»(2).
وروى الفضيل بن يسار - في حديث برد الإسكاف - أن الطير قال: يا سكني وعرسي، ما خلق اللّه خلقاً أحب إليَّ منكِ، وما حرصي عليكِ هذا الحرص، إلا طمعاً أن يرزقني اللّه ولداً منكِ يحبون أهل البيت(3).
عن شعيب بن ميثم، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا شعيب، أحسن إلى نفسك، وصل قرابتك، وتعاهد إخوانك، ولا تستبد بالشيء، فتقول: ذا لنفسي
ص: 131
وعيالي. إن الذي خلقهم هو الذي يرزقهم». فقلت: نعى واللّه إليَّ نفسي. فرجع شعيب، فو اللّه ما لبث إلا شهراً حتى مات(1).
عن أبي بصير، قال: دخلت المدينة، وكانت معي جويرية لي، فأصبت منها. ثم خرجت إلى الحمام، فلقيت أصحابنا الشيعة، وهم متوجهون إلى الصادق (عليه السلام) ، فخفت أن يسبقوني ويفوتني الدخول عليه، فمشيت معهم حتى دخلت الدار معهم. فلما مثلت بين يدي أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، نظر إليَّ ثم قال: «يا أبا بصير، أ ما علمت أن بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب». فاستحييت وقلت: يا ابن رسول اللّه، إني لقيت أصحابنا وخفت أن يفوتني الدخول معهم، ولن أعود إلى مثلها وخرجت(2).
وعن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني، قال أبو بصير: اشتهيت دلالة الإمام، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وأنا جنب. فقال: «يا أبا محمد، ما كان لك فيما كنت فيه شغل، تدخل على إمامك وأنت جنب». فقلت: جعلت فداك، ما عملته إلا عمداً. قال: «أ ولم تؤمن؟». قلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي. قال: «فقم يا أبا محمد فاغتسل»، الخبر(3).
ص: 132
وعن ابن سعد عن الأزدي، قال: خرجنا من المدينة نريد منزل أبي عبد اللّه، فلحقنا أبو بصير خارجاً من زقاق من أزقة المدينة، وهو جنب ونحن لا علم لنا، حتى دخلنا على أبي عبد اللّه. فسلمنا عليه، فرفع رأسه إلى أبي بصير، فقال له: «يا أبا بصير، أ ما تعلم أنه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت الأنبياء». فرجع أبو بصير ودخلنا(1).
عن إبراهيم بن عبد الحميد، قال: خرجت إلى قبا لأشتري نخلاً، فلقيته (عليه السلام) وقد دخل المدينة. فقال: «أين تريد؟». فقلت: لعلنا نشتري نخلاً. فقال: «أ وأمنتم الجراد؟». فقلت: لا واللّهِ لا أشتري نخلةً، فو اللّه ما لبثنا إلا خمساً حتى جاء من الجراد ما لم يترك في النخل حملاً(2).
زكار بن أبي زكار الواسطي، قال: قبّل رجل رأس أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فمس أبو عبد اللّه ثيابه. وقال: «ما رأيت كاليوم أشد بياضاً، ولا أحسن منها!». فقال: جعلت فداك، هذه ثياب بلادنا، وجئتك منها بخير من هذه. قال: فقال: «يا معتب، اقبضها منه». ثم خرج الرجل. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «صدق الوصف وقرب الوقت، هذا صاحب الرايات السود، الذي يأتي بها من خراسان - ثم قال - يا معتب، الحقه فسله ما اسمه - ثم قال - إن كان عبد الرحمن، فهو واللّه هو».
ص: 133
قال: فرجع معتب. فقال: قال: اسمي عبد الرحمن. قال: فلما ولي ولد العباس نظرت إليه، فإذا هو عبد الرحمن أبو مسلم(1).
عن معاوية بن وهب: صدع ابن لرجل من أهل مرو، فشكا ذلك إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «أدنه مني». قال: فمسح على رأسه، ثم قال: «{إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}(2)». فبرأ بإذن اللّه(3).
وبلغ الصادق (عليه السلام) قول الحكيم بن العباس الكلبي:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة***ولم أر مهدياً على الجذع يصلب
وقستم بعثمان علياً سفاهةً***وعثمان خير من علي وأطيب
فرفع الصادق (عليه السلام) يديه إلى السماء وهما يرعشان، فقال: «اللّهم إن كان عبدك كاذباً، فسلط عليه كلبك». فبعثه بنو أمية إلى الكوفة، فبينما هو يدور في سككها، إذا افترسه الأسد. واتصل خبره بجعفر (عليه السلام) ، فخر لله ساجداً، ثم قال: «الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا»(4).
ص: 134
قال أبو الصباح الكناني: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن لنا جاراً من همدان يقال له: الجعد بن عبد اللّه، يسب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أ فتأذن لي أن أقتله؟. قال: «إن الإسلام قيد الفتك، ولكن دعه فستكفى بغيرك». قال: فانصرفت إلى الكوفة، فصليت الفجر في المسجد، وإذا أنا بقائل يقول: وجد الجعد بن عبد اللّه على فراشه مثل الزق المنفوخ ميتاً. فذهبوا يحملونه، إذا لحمه سقط عن عظمه، فجمعوه على نطع، وإذا تحته أسود، فدفنوه(1).
عن محمد بن راشد، عن أبيه، عن جده، قال: سألت جعفر بن محمد (عليه السلام) علامةً؟. فقال: «سلني ما شئت أخبرك إن شاء اللّه». فقلت: أخاً لي بات في هذه المقابر، فتأمره أن يجيئني. قال: «فما كان اسمه؟». قلت: أحمد. قال: «يا أحمد، قم بإذن اللّه، وبإذن جعفر بن محمد». فقام واللّه وهو يقول: أتيته(2).
عن داود الرقي، قال: خرج أخوان لي يريدان المزار، فعطش أحدهما عطشاً شديداً، حتى سقط من الحمار، وسقط الآخر في يده. فقام فصلى، ودعا اللّه ومحمداً وأمير المؤمنين والأئمة (عليه السلام) ، كان يدعو واحداً بعد واحد، حتى بلغ إلى آخرهم جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فلم يزل يدعوه ويلوذ به، فإذا هو برجل قد قام
ص: 135
عليه، وهو يقول: «يا هذا، ما قصتك؟». فذكر له حاله، فناوله قطعة عود. وقال: «ضع هذا بين شفتيه». ففعل ذلك، فإذا هو قد فتح عينيه، واستوى جالساً ولا عطش به، فمضى حتى زار القبر. فلما انصرفا إلى الكوفة، أتى صاحب الدعاء المدينة، فدخل على الصادق (عليه السلام) . فقال له: «اجلس، ما حال أخيك، أين العود؟». فقال: يا سيدي، إني لما أصبت بأخي اغتممت غماً شديداً، فلما رد اللّه عليه روحه، نسيت العود من الفرح. فقال الصادق (عليه السلام) : «أما إنه ساعة صرت إلى غم أخيك، أتاني أخي الخضر، فبعثت إليك على يديه قطعة عود من شجرة طوبى». ثم التفت إلى خادم له فقال: «عليَّ بالسفط». فأتى به ففتحه، وأخرج منه قطعة العود بعينها، ثم أراها إياه حتى عرفها، ثم ردها إلى السفط(1).
عن داود النيلي، قال: خرجت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) إلى الحج، فلما كان أوان الظهر. قال لي: «يا داود، اعدل عن الطريق؛ حتى نأخذ أهبة الصلاة». فقلت: جعلت فداك، أ وليس نحن في أرض قفر لا ماء فيها!». فقال لي: «ما أنت وذاك». قال: فسكت وعدلنا عن الطريق، فنزلنا في أرض قفر لا ماء فيها، فركضها برجله، فنبع لنا عين ماء يسيب، كأنه قطع الثلج، فتوضأ وتوضيت، ثم أدينا ما علينا من الفرض، فلما هممنا بالمسير، التفت فإذا بجذع نخر. فقال لي: «يا داود، أ تحب أن أطعمك منه رطباً؟». فقلت: نعم. قال: فضرب بيده إلى الجذع فهزه، فاخضر من أسفله إلى أعلاه - قال - ثم اجتذبه الثانية، فأطعمنا
ص: 136
اثنين وثلاثين نوعاً من أنواع الرطب، ثم مسح بيده عليه. فقال: «عد نخراً بإذن اللّه تعالى». قال: فعاد كسيرته الأولى(1).
قال أبو حازم عبد الغفار بن الحسن: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة وأنا معه، وذلك على عهد المنصور، وقدمها جعفر بن محمد العلوي. فخرج جعفر (عليه السلام) يريد الرجوع إلى المدينة، فشيعه العلماء وأهل الفضل من أهل الكوفة، وكان فيمن شيعه: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم. فتقدم المشيعون له، فإذا هم بأسد على الطريق. فقال لهم إبراهيم بن أدهم: قفوا حتى يأتي جعفر، فننظر ما يصنع. فجاء جعفر (عليه السلام) ، فذكروا له الأسد، فأقبل حتى دنا من الأسد، فأخذ بأذنه فنحاه عن الطريق، ثم أقبل عليهم. فقال: «أما إن الناس لو أطاعوا اللّه حق طاعته، لحملوا عليه أثقالهم»(2).
عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) قال: أبي قال لي ذات يوم: «إنما بقي من أجلي خمس سنين». فحسبت ذلك فما زاد ولا نقص(3).
عن محمد بن طلحة، قال: قال ليث بن سعد: حججت سنة ثلاث عشرة
ص: 137
ومائة، فأتيت مكة، فلما صليت العصر رقيت أبا قبيس، وإذا أنا برجل جالس وهو يدعو. فقال: «يا رب، يا رب» حتى انقطع نفسه، ثم قال: «رب، رب» حتى انقطع نفسه، ثم قال: «يا اللّه، يا اللّه» حتى انقطع نفسه، ثم قال: «يا حي، يا حي» حتى انقطع نفسه، ثم قال: «يا رحيم، يا رحيم» حتى انقطع نفسه، ثم قال: «يا أرحم الراحمين» حتى انقطع نفسه سبع مرات، ثم قال: «اللّهم إني أشتهي من هذا العنب فأطعمنيه، اللّهم وإن بردي قد أخلقا». قال الليث: فو اللّه، ما استتم كلامه حتى نظرت إلى سلة مملؤة عنباً، وليس على الأرض يومئذٍ عنب، وبردين جديدين موضوعين، فأراد أن يأكل. فقلت له: أنا شريكك. فقال لي: «ولِمَ؟». فقلت: لأنك كنت تدعو، وأنا أؤمن. فقال لي: «تقدم فكل، ولا تخبأ شيئاً». فتقدمت فأكلت شيئاً لم آكل مثله قط، وإذا عنب لا عجم له، فأكلت حتى شبعت، والسلة لم تنقص. ثم قال لي: «خذ أحد البردين إليك». فقلت: أما البردان فإني غني عنهما. فقال لي: «توار عني حتى ألبسهما». فتواريت عنه، فاتزر بالواحد وارتدى بالآخر، ثم أخذ البردين اللذين كانا عليه، فجعلهما على يده ونزل، فاتبعته حتى إذا كان بالمسعى لقيه رجل. فقال: اكسني، كساك اللّه. فدفعهما إليه، فلحقت الرجل. فقلت: من هذا؟. قال: هذا جعفر بن محمد (عليه السلام) . قال الليث: فطلبته لأسمع منه فلم أجده(1).
كان عبد الحميد بن أبي العلاء صديقاً لمحمد بن عبد اللّه بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) ، وكان به خاصاً. فأخذه أبو جعفر المنصور، فحبسه في المضيق زماناً،
ص: 138
ثم إنه وافى الموسم، فلما كان يوم عرفة لقيه أبو عبد اللّه (عليه السلام) في الموقف. فقال: «يا أبا محمد، ما فعل صديقك عبد الحميد؟». فقلت: أخذه أبو جعفر، فحبسه في المضيق زماناً. فرفع أبو عبد اللّه (عليه السلام) يده ساعةً، ثم التفت إلى محمد بن عبد اللّه. فقال: «يا محمد، قد واللّه خلي سبيل صاحبك». قال محمد: فسألت عبد الحميد أي ساعة أخرجك أبو جعفر (عليه السلام) ؟. قال: أخرجني يوم عرفة بعد العصر(1).
عن رفاعة بن موسى، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ذات يوم جالساً، فأقبل أبو الحسن إلينا، فأخذته فوضعته في حجري، وقبلت رأسه، وضممته إليَّ. فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا رفاعة، أما إنه سيصير في يد آل العباس، ويتخلص منهم، ثم يأخذونه ثانيةً، فيعطب في أيديهم»(2).
عن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) فيما بين مكة والمدينة، فالتفت عن يساره، فإذا كلب أسود. فقال: «ما لك قبحك اللّه، ما أشد مسارعتك». وإذا هو شبيه بالطائر. فقلت: ما هذا جعلني اللّه فداك؟!. فقال: «هذا عثم بريد الجن، مات هشام الساعة، وهو يطير ينعاه في كل بلد»(3).
ص: 139
عن أبي بصير، قال: دخل شعيب العقرقوفي على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ومعه صرة فيها دنانير، فوضعها بين يديه. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أزكاة أم صلة؟». فسكت، ثم قال: زكاة وصلة. قال: «فلا حاجة لنا في الزكاة». قال: فقبض أبو عبد اللّه قبضةً فدفعها إليه. فلما خرج، قال أبو بصير: قلت له: كم كانت الزكاة من هذه؟. قال: «بقدر ما أعطاني، واللّه لم يزد حبةً ولم ينقص حبةً»(1).
أحمد بن محمد، عن محمد بن فضيل، عن شهاب بن عبد ربه، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كيف أنت إذا نعاني إليك محمد بن سليمان». قال: فلا واللّه ما عرفت محمد بن سليمان، ولا علمت من هو. قال: ثم كثر مالي، وعرضت تجارتي بالكوفة والبصرة، فإني يوماً بالبصرة عند محمد بن سليمان - وهو والي البصرة - إذ ألقى إليَّ كتاباً، وقال لي: يا شهاب، أعظم اللّه أجرك وأجرنا في إمامك جعفر بن محمد. قال: فذكرت الكلام، فخنقتني العبرة، فخرجت فأتيت منزلي، وجعلت أبكي على أبي عبد اللّه (عليه السلام) (2).
عن عروة بن موسى الجعفي، قال: قال لنا يوماً ونحن نتحدث: «الساعة انفقأت عين هشام في قبره». قلنا: ومتى مات؟!. قال: «اليوم الثالث». قال:
ص: 140
حسبنا موته، وسألنا عنه فكان كذلك(1).
عن محمد الأصفهاني، قال: كنت قاعداً مع معروف بن خربوذ بمكة ونحن جماعة، فمر بنا قوم على حمير معتمرون من أهل المدينة. فقال لنا معروف: سلوهم هل كان بها خبر؟. فسألناهم، فقالوا: مات عبد اللّه بن الحسن. فأخبرناه بما قالوا، قال: فلما جازوا مر بنا قوم آخرون. فقال لنا معروف: فسلوهم هل كان بها خبر؟. فسألناهم، فقالوا: كان عبد اللّه بن الحسن أصابته غشية، وقد أفاق. فأخبرناه بما قالوا، فقال: ما أدري ما يقول هؤلاء وأولئك، أخبرني ابن المكرمة - يعني أبا عبد اللّه (عليه السلام) - «أن قبر عبد اللّه بن الحسن وأهل بيته على شاطئ الفرات». قال: فحملهم أبو الدوانيق، فقبروا على شاطئ الفرات(2).
عن إسماعيل البصري، عن أبي غيلان، قال: أتيت الفضيل بن يسار، فأخبرته أن محمداً وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن قد خرجا. فقال لي: ليس أمرهما بشيء. قال: فصنعت ذلك مراراً، كل ذلك يرد عليَّ مثل هذا الرد. قال: قلت: رحمك اللّه، قد أتيتك غير مرة أخبرك فتقول: ليس أمرهما بشيء، أ فبرأيك تقول هذا؟. قال: فقال: لا واللّهِ، ولكن سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن خرجا قتلا»(3).
ص: 141
عن بشر بن طرخان، قال: لما قدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) أتيته، فسألني عن صناعتي. فقلت: نخاس. فقال: «نخاس الدواب». فقلت: نعم، وكنت رث الحال. فقال: «اطلب لي بغلةً فضحاء، بيضاء الأعفاج، بيضاء البطن».
فقلت: ما رأيت هذه الصفة قط، فخرجت من عنده، فلقيت غلاماً تحته بغلة بهذه الصفة، فسألته عنها فدلني على مولاه، فأتيته فلم أبرح حتى اشتريتها، ثم أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «نعم، هذه الصفة طلبت». ثم دعا لي، فقال: «أنمى اللّه ولدك، وكثر مالك». فرُزقت من ذلك ببركة دعائه، وقنيت من الأولاد ما قصرت عنه الأمنية(1).
عن عمار السجستاني، قال: زاملت أبا بجير عبد اللّه بن النجاشي من سجستان إلى مكة، وكان يرى رأي الزيدية، فدخلت معه على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال له: «يا أبا بجير، أخبرني حين أصابك الميزاب، وعليك الصدرة من فراء، فدخلت النهر، فخرجت وتبعك الصبيان يعيطون، أي شيء صبرك على هذا؟».
قال عمار: فالتفت إليَّ أبو بجير، وقال لي: أي شيء كان هذا من الحديث، حتى تحدثه أبا عبد اللّه!. فقلت: لا واللّهِ، ما ذكرت له ولا لغيره، وهذا هو يسمع كلامي.
فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لم يخبرني بشيء يا أبا بجير». فلما خرجنا من
ص: 142
عنده، قال لي أبو بجير: يا عمار، أشهد أن هذا عالم آل محمد، وأن الذي كنت عليه باطل، وأن هذا صاحب الأمر(1).
روي أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) قال لسماعة بن مهران سنة خمس وأربعين ومائة: «إن رجعت لم ترجع إلينا». فأقام عنده فمات في تلك السنة(2).
روى البرسي في مشارق الأنوار، عن محمد بن سنان: أن رجلاً قدم إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) من خراسان، ومعه صرر من الصدقات معدودة مختومة، وعليها أسماء أصحابها مكتوبة. فلما دخل الرجل، جعل أبو عبد اللّه (عليه السلام) يسمي أصحاب الصرر، ويقول: «أخرج صرة فلان فإن فيها كذا وكذا - ثم قال - أين صرة المرأة التي بعثتها من غزل يدها، أخرجها فقد قبلناها - ثم قال للرجل - أين الكيس الأزرق فيه ألف درهم». وكان الرجل قد فقده في بعض طريقه، فلما ذكره الإمام (عليه السلام) استحيا الرجل، وقال: يا مولاي، في بعض الطريق قد فقدته. فقال له الإمام (عليه السلام) : «تعرفه إذا رأيته؟». فقال: نعم. فقال: «يا غلام، أخرج الكيس الأزرق». فأخرجه، فلما رآه الرجل عرفه. فقال له الإمام: «إنا احتجنا إلى ما فيه، فأحضرناه قبل وصولك إلينا». فقال الرجل: يا مولاي، إني ألتمس
ص: 143
الجواب بوصول ما حملته إلى حضرتك. فقال له: «إن الجواب كتبناه وأنت في الطريق»(1).
وروي أن المنصور يوماً دعاه، فركب معه إلى بعض النواحي، فجلس المنصور على تل هناك، وإلى جانبه أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فجاء رجل، وهم أن يسأل المنصور، ثم أعرض عنه، وسأل الصادق (عليه السلام) . فحثى له من رمل هناك ملء يده ثلاث مرات، وقال له: «اذهب وأغل». فقال له بعض حاشية المنصور: أعرضت عن الملك، وسألت فقيراً لا يملك شيئاً!. فقال الرجل - وقد عرق وجهه خجلاً مما أعطاه -: إني سألت من أنا واثق بعطائه. ثم جاء بالتراب إلى بيته، فقالت له زوجته: من أعطاك هذا؟. فقال: جعفر. فقالت: وما قال لك؟. قال: قال لي: أغل. فقالت: إنه صادق، فاذهب بقليل منه إلى أهل المعرفة، وإني أشم فيه رائحة الغنى. فأخذ الرجل منه جزءاً، ومر به إلى بعض اليهود، فأعطاه فيما حمل منه إليه عشرة آلاف درهم، وقال له: ائتني بباقيه على هذه القيمة(2).
عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فورد عليه رجل من أهل الشام، فناظر أصحابه (عليه السلام) حتى انتهى إلى هشام بن الحكم. فقال الشامي: يا
ص: 144
هذا، من أنظر للخلق أ ربهم أو أنفسهم؟. فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم. قال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم، ويقيم أودهم، ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟. فقال هشام: هذا القاعد، الذي تشد إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء، وراثة عن أب عن جد. قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟. قال هشام: سله عما بدا لك. قال الشامي: قطعت عذري، فعليَّ السؤال. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا شامي، أخبرك كيف كان سفرك، وكيف كان طريقك، وكان كذا، وكان كذا». فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «بل آمنت باللّه الساعة. إن الإسلام قبل الإيمان، وعليه يتوارثون ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون». فقال الشامي: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وأنك وصي الأوصياء(1).
هارون بن رئاب، قال: كان لي أخ جارودي، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: «ما فعل أخوك الجارودي؟». قلت: صالح، هو مرضي عند القاضي والجيران في الحالات، غير أنه لا يقر بولايتكم. فقال: «ما يمنعه من ذلك!». قلت: يزعم أنه يتورع. قال: «فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ». فقدمت على أخي، فقلت له: ثكلتك أمك دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وسألني عنك، وأخبرته أنه مرضي عند الجيران في الحالات كلها، غير أنه لا يقر بولايتكم. فقال: ما يمنعه ذلك. قلت: يزعم أنه يتورع. قال: فأين كان ورعه
ص: 145
ليلة نهر بلخ. فقال: أخبرك أبو عبد اللّه بهذا!. قلت: نعم. قال:
أشهد أنه حجة رب العالمين.
قلت: أخبرني عن قصتك؟. قال: أقبلت من وراء نهر بلخ، فصحبني رجل معه وصيفة فارهة. فقال: إما أن تقتبس لنا ناراً فأحفظ عليك، وإما أن أقتبس ناراً فتحفظ عليَّ. قلت: اذهب واقتبس وأحفظ عليك، فلما ذهب قمت إلى الوصيفة، وكان مني إليها ما كان، واللّه ما أفشت ولا أفشيت لأحد، ولم يعلم إلا اللّه. فخرجت من السنة الثانية وهو معي، فأدخلته على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فما خرج من عنده حتى قال بإمامته(1).
عن سفيان الثوري، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وهو بعرفة يقول: «اللّهم اجعل خطواتي هذه التي خطوتها في طاعتك، كفارةً لما خطوتها في معصيتك - وساق الدعاء إلى قوله - وأنا ضيفك، فاجعل قراي الجنة، وأطعمني عنباً ورطباً». قال سفيان: فو اللّه، لقد هممت أن أنزل وأشتري له تمراً وموزاً، وأقول له: هذا عوض العنب والرطب، وإذا أنا بسلتين مملؤتين قد وضعتا بين يديه، إحداهما رطب، والأخرى عنب(2). تمام الخبر.
عن إسماعيل بن الأرقط - وأمه أم سلمة أخت أبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال:
ص: 146
مرضت في شهر رمضان مرضاً شديداً حتى ثقلت، واجتمعت بنو هاشم ليلاً للجنازة، وهم يرون أني ميت، فجزعت أمي عليَّ. فقال لها أبو عبد اللّه (عليه السلام) خالي: «اصعدي إلى فوق البيت، فابرزي إلى السماء، وصلي ركعتين، فإذا سلمت قولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ وَهَبْتَهُ لِي وَلَمْ يَكُ شَيْئاً، اللّهُمَّ وَإنّي أَسْتَوْهِبْكَهُ مُبْتَدِئاً فَأَعِرْنِيهِ». قال: ففعلت، فأفقت وقعدت، ودعوا بسحور لهم هريسة، فتسحروا بها وتسحرت معهم(1).
عن داود الرقي: بلغ السيد الحميري أنه ذكر عند الصادق (عليه السلام) ، فقال: «السيد كافر». فأتاه وقال: يا سيدي، أنا كافر مع شدة حبي لكم، ومعاداتي الناس فيكم!. قال: «وما ينفعك ذاك، وأنت كافر بحجة الدهر والزمان». ثم أخذ بيده، وأدخله بيتاً، فإذا في البيت قبر، فصلى ركعتين، ثم ضرب بيده على القبر، فصار القبر قطعاً، فخرج شخص من قبره، ينفض التراب عن رأسه ولحيته. فقال له الصادق (عليه السلام) : «من أنت؟». قال: أنا محمد بن علي المسمى بابن الحنفية. فقال: «فمن أنا؟». قال: جعفر بن محمد حجة الدهر والزمان. فخرج السيد يقول: تجعفرت باسم اللّه فيمن تجعفرا(2).
روي عن زيد الشحام، أنه قال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كم أتى عليك من
ص: 147
سنة؟». قال: قلت: كذا وكذا. قال: «جدد عبادة ربك، وأحدث توبةً». فبكيت، فقال: «ما يبكيك!». فقلت: نعيت إليَّ نفسي. قال: «أبشر؛ فإنك من شيعتنا ومعنا في الجنة، إلينا الصراط والميزان وحساب شيعتنا. واللّهِ، أنا أرحم بكم منكم بأنفسكم، وإني أنظر إليك وإلى رفيقك الحارث بن المغيرة النضري في درجتك في الجنة»(1).
ص: 148
8
عن بكر بن محمد، عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول لخيثمة: «يا خيثمة، أقرئ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى اللّه العظيم عزوجل، وأن يشهد أحياؤهم جنائز موتاهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقياهم حياة أمرنا».
قال: ثم رفع (عليه السلام) يده، فقال: «رحم اللّه امرأ أحيا أمرنا»(1).
عن جميل بن دراج، عن معتب مولى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: «يا داود، أبلغ موالي عني السلام، وأني أقول: رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا؛ فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما. وما اجتمع اثنان على ذكرنا، إلا باهى اللّه تعالى بهما الملائكة. فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر؛ فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس من بعدنا، من ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا»(2).
ص: 149
عن ابن أبي حمزة، قال: خرجت بأبي بصير أقوده إلى باب أبي عبد اللّه (عليه السلام) . قال: فقال لي: لا تتكلم ولا تقل شيئاً. فانتهيت به إلى الباب، فتنحنح فسمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «يا فلانة، افتحي لأبي محمد الباب». قال: فدخلنا والسراج بين يديه، فإذا سفط بين يديه مفتوح - قال - فوقعت عليَّ الرعدة، فجعلت أرتعد، فرفع رأسه إليَّ. فقال: «أ بزاز أنت؟». قلت: نعم، جعلني اللّه فداك». قال: فرمى إليَّ بملاءة قوهية كانت على المرفقة. فقال: «اطو هذه». فطويتها ثم قال: «أ بزاز أنت؟». وهو ينظر في الصحيفة. قال: فازددت رعدةً. قال: فلما خرجنا. قلت: يا أبا محمد، ما رأيت كما مر بي الليلة. إني وجدت بين يدي أبي عبد اللّه (عليه السلام) سفطاً، قد أخرج منه صحيفةً، فنظر فيها، فكلما نظر فيها أخذتني الرعدة. قال: فضرب أبو بصير يده على جبهته - ثم قال - ويحك أ لا أخبرتني، فتلك واللّه الصحيفة التي فيها أسامي الشيعة، ولو أخبرتني لسألته أن يريك اسمك فيها(1).
روي: أن أبا جعفر (عليه السلام) كان في الحج، ومعه ابنه جعفر (عليه السلام) . فأتاه رجل فسلَّم عليه، وجلس بين يديه، ثم قال: إني أريد أن أسألك. قال: «سل ابني جعفراً». قال: فتحول الرجل فجلس إليه، ثم قال: أسألك. قال: «سل عما بدا لك».
قال: أسألك عن رجل أذنب ذنباً عظيماً. قال: «أفطر يوماً في شهر رمضان متعمداً؟». قال: أعظم من ذلك. قال: «زنى في شهر رمضان؟». قال: أعظم من
ص: 150
ذلك. قال: «قتل النفس؟». قال: أعظم من ذلك. قال: «إن كان من شيعة علي (عليه السلام) ، مشى إلى بيت اللّه الحرام وحلف أن لا يعود، وإن لم يكن من شيعته فلا بأس».
فقال له الرجل: رحمكم اللّه يا ولد فاطمة - ثلاثاً - هكذا سمعته من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . ثم إن الرجل ذهب، فالتفت أبو جعفر (عليه السلام) فقال: «عرفت الرجل؟». قال: «لا». قال: «ذلك الخضر؛ إنما أردت أن أعرفكه»(1).
قوله (عليه السلام) : «لا بأس»، لعله بمعنى عدم الفائدة في توبته.
روي عن منصور الصيقل، قال: حججت فمررت بالمدينة، فأتيت قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسلمت عليه، ثم التفت فإذا أنا بأبي عبد اللّه (عليه السلام) ساجداً، فجلست حتى مللت، ثم قلت: لأسبحن قدامه ساجداً. فقلت: سبحان ربي وبحمده، أستغفر ربي وأتوب إليه، ثلاثمائة مرة ونيفاً وستين مرةً. فرفع رأسه ثم نهض، فاتبعته وأنا أقول في نفسي: إن أذن لي. فدخلت عليه، ثم قلت له: جعلت فداك، أنتم تصنعون هكذا، فكيف ينبغي لنا أن نصنع!. فلما أن وقفت على الباب، خرج إلي مصادف، فقال: ادخل يا منصور. فدخلت فقال لي مبتدئاً: «يا منصور، إن أكثرتم أو أقللتم، فو اللّه ما يقبل إلا منكم»(2).
عن أبي بصير، قال: حججت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فلما كنا في الطواف.
ص: 151
قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، يغفر اللّه لهذا الخلق؟!. فقال: «يا أبا بصير، إن أكثر من ترى قردة وخنازير». قال: قلت له: أرنيهم؟. قال: فتكلم بكلمات، ثم أمرَّ يده على بصري، فرأيتهم قردةً وخنازير، فهالني ذلك، ثم أمرَّ يده على بصري، فرأيتهم كما كانوا في المرة الأولى. ثم قال: «يا أبا محمد، أنتم في الجنة تحبرون، وبين أطباق النار تطلبون فلا توجدون. واللّهِ، لا يجتمع في النار منكم ثلاثة، لا واللّه ولا اثنان، لا واللّه ولا واحد»(1).
عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الحوض. فقال لي: «هو حوض ما بين بصرى إلى صنعاء، أ تحب أن تراه؟». قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظهر المدينة، ثم ضرب برجله، فنظرت إلى نهر يجري، لا ندرك حافتيه إلا الموضع الذي أنا فيه قائم، فإنه شبيه بالجزيرة، فكنت أنا وهو وقوفاً، فنظرت إلى نهر يجري جانبه ماء أبيض من الثلج، ومن جانبه هذا لبن أبيض من الثلج، وفي وسطه خمر أحسن من الياقوت، فما رأيت شيئاً أحسن من تلك الخمر بين اللبن والماء. فقلت له: جعلت فداك، من أين يخرج هذا ومجراه؟!. فقال: «هذه العيون التي ذكرها اللّه في كتابه، أنهار في الجنة، عين من ماء، وعين من لبن، وعين من خمر، تجري في هذا النهر». ورأيت حافتيه عليهما شجر، فيهن حور معلقات، برؤوسهن شعر ما رأيت شيئاً أحسن منهن، وبأيديهن آنية ما رأيت آنيةً أحسن منها، ليست من آنية الدنيا، فدنا من إحداهن، فأومأ بيده لتسقيه، فنظرت إليها وقد مالت لتغرف من النهر،
ص: 152
فمالت الشجرة معها، فاغترفت ثم ناولته، فشرب ثم ناولها، وأومأ إليها فمالت لتغرف، فمالت الشجرة معها، ثم ناولته فناولني، فشربت فما رأيت شراباً كان ألين منه، ولا ألذ منه، وكانت رائحته رائحة المسك، فنظرت في الكأس، فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب. فقلت له: جعلت فداك، ما رأيت كاليوم قط! ولا كنت أرى أن الأمر هكذا!. فقال لي: «هذا أقل ما أعده اللّه لشيعتنا. إن المؤمن إذا توفي، صارت روحه إلى هذا النهر، ورعت في رياضه، وشربت من شرابه. وإن عدونا إذا توفي صارت، روحه إلى وادي برهوت، فأخلدت في عذابه، وأطعمت من زقومه، وأسقيت من حميمه. فاستعيذوا باللّه من ذلك الوادي»(1).
عن سورة بن كليب، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا سورة، كيف حججت العام». قال: استقرضت حجتي، واللّه إني لأعلم أن اللّه سيقضيها عني، وما كان حجتي إلا شوقاً إليك وإلى حديثك. قال: «أما حجتك فقد قضاها اللّه، فأعطكها من عندي». ثم رفع مصلى تحته فأخرج دنانير، فعد عشرين ديناراً. فقال: «هذه حجتك». وعد عشرين ديناراً، وقال: «هذه معونة لك حياتك حتى تموت».
قلت: أخبرتني أن أجلي قد دنا. فقال: «يا سورة، أ ما ترضى أن تكون معنا». فقال صندل: فما لبث إلا سبعة أشهر حتى مات(2).
ص: 153
هشام بن الحكم، قال: كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق (عليه السلام) في حجه كل سنة، فينزله أبو عبد اللّه (عليه السلام) في دار من دوره في المدينة، وطال حجه ونزوله، فأعطى أبا عبد اللّه (عليه السلام) عشرة آلاف درهم؛ ليشتري له داراً، وخرج إلى الحج. فلما انصرف قال: جعلت فداك، اشتريت لي الدار؟. قال: «نعم». وأتى بصك فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى جعفر بن محمد، لفلان بن فلان الجبلي، اشترى له داراً في الفردوس، حدها الأول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والحد الثاني أمير المؤمنين، والحد الثالث الحسن بن علي، والحد الرابع الحسين بن علي». فلما قرأ الرجل ذلك، قال: قد رضيت جعلني اللّه فداك. قال: فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إني أخذت ذلك المال، ففرقته في ولد الحسن والحسين، وأرجو أن يتقبل اللّه ذلك، ويثيبك به الجنة». قال: فانصرف الرجل إلى منزله، وكان الصك معه، ثم اعتل علة الموت، فلما حضرته الوفاة، جمع أهله وحلفهم أن يجعلوا الصك معه. ففعلوا ذلك، فلما أصبح القوم غدوا إلى قبره، فوجدوا الصك على ظهر القبر، مكتوب عليه: وفى لي واللّه جعفر بن محمد بما قال(1).
عن سدير، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) - وهو داخل وأنا خارج - وأخذ بيدي، ثم استقبل البيت فقال: «يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللّه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ
ص: 154
وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(1) - ثم أومأ بيده إلى صدره - إلى ولايتنا». ثم قال: «يا سدير، أفأريك الصادين عن دين اللّه؟». ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان، وهم حلق في المسجد. فقال: «هؤلاء الصادون عن دين اللّه، بلا هدى من اللّه، ولا كتاب مبين. إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم، فجال الناس فلم يجدوا أحداً يخبرهم عن اللّه تبارك وتعالى وعن رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى يأتونا، فنخبرهم عن اللّه تبارك وتعالى وعن رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(2).
عن مالك الجهني، قال: إني يوماً عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أحدث نفسي بفضل الأئمة من أهل البيت، إذ أقبل عليَّ أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا مالك، أنتم واللّه شيعتنا حقاً، لا ترى أنك أفرطت في القول وفي فضلنا. يا مالك، إنه ليس يقدر على صفة اللّه وكنه قدرته وعظمته، ولله المثل الأعلى»(3).
عن عيص بن القاسم، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) مع خالي سليمان بن خالد. فقال لخالي: «من هذا الفتى؟». قال: هذا ابن أختي. قال: «فيعرف أمركم؟». فقال له: نعم. فقال: «الحمد لله الذي لم يجعله شيطاناً - ثم قال - يا ليتني وإياكم بالطائف، أحدثكم وتؤنسوني، وأضمن لهم أن لا نخرج عليهم
ص: 155
أبداً»(1).
روى الصدوق في كتاب صفات الشيعة بإسناده، قال أبو جعفر الدوانيقي بالحيرة أيام أبي العباس للصادق (عليه السلام) : يا أبا عبد اللّه، ما بال الرجل من شيعتكم يستخرج ما في جوفه في مجلس واحد حتى يعرف مذهبه؟. فقال (عليه السلام) : «ذلك لحلاوة الإيمان في صدورهم، من حلاوته يبدونه تبدياً»(2).
عن عمار السجستاني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: كنت أجيء فأستأذن عليه، فجئت ذات ليلة، فجلست في فسطاطه بمنى، فاستؤذن لشباب كأنهم رجال زط، وخرج عليَّ عيسى شلقان، فذكرني له فأذن لي. فقال: «يا عمار، متى جئت؟». قلت: قبل أولئك الشباب الذين دخلوا عليك، وما رأيتهم خرجوا. قال: «أولئك قوم من الجن، سألوا عن مسائل، ثم ذهبوا»(3).
عن مسمع كردين البصري، قال: كنت لا أزيد على أكلة بالليل والنهار، فربما استأذنت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وأجد المائدة قد رفعت، لعلي لا أراها بين يديه،
ص: 156
فإذا دخلت دعا بها، فأصيب معه من الطعام ولا أتأذى بذلك، وإذا أعقبت بالطعام عند غيره، لم أقدر على أن أقر، ولم أنم من النفخة. فشكوت ذلك إليه، وأخبرته بأني إذا أكلت عنده لم أتأذ به. فقال: «يا أبا سيار، إنك تأكل طعام قوم صالحين، تصافحهم الملائكة على فرشهم». قال: قلت: ويظهرون لكم؟. قال: فمسح يده على بعض صبيانه فقال: «هم ألطف بصبياننا منا بهم»(1).
عن يونس بن يعقوب، قال: كنت بالمدينة، فاستقبلني جعفر بن محمد (عليه السلام) في بعض أزقتها. فقال: «اذهب يا يونس؛ فإن بالباب رجلاً منا أهل البيت». قال: فجئت إلى الباب، فإذا عيسى بن عبد اللّه جالس. فقلت له: من أنت؟. قال: رجل من أهل قم. قال: فلم يكن بأسرع أن أقبل أبو عبد اللّه (عليه السلام) على حمار، فدخل على الحمار الدار، ثم التفت إلينا، فقال: «ادخلا - ثم قال - يا يونس، أحسب أنك أنكرت قولي لك إن عيسى بن عبد اللّه منا أهل البيت». قال: إي واللّه جعلت فداك؛ لأن عيسى بن عبد اللّه رجل من أهل قم، فكيف يكون منكم أهل البيت!. قال: «يا يونس، عيسى بن عبد اللّه رجل منا حياً، وهو منا ميتاً»(2).
عن يونس بن يعقوب، قال: دخل عيسى بن عبد اللّه القمي على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فلما انصرف، قال لخادمه: «ادعه». فانصرف إليه، فأوصاه بأشياء. ثم
ص: 157
قال: «يا عيسى بن عبد اللّه، إن اللّه يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ}(1)، وإنك منا أهل البيت، فإذا كانت الشمس من هاهنا مقدارها من هاهنا من العصر، فصل ست ركعات». قال: ثم ودعه وقبَّل ما بين عيني عيسى وانصرف(2).
عن أبي بصير، قال: أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) بعد أن كبرت سني، ودق عظمي، واقترب أجلي، مع أني لست أرى ما أصير إليه في آخرتي. فقال: «يا أبا محمد، إنك لتقول هذا القول!». فقلت: جعلت فداك، كيف لا أقوله. فقال: «أ ما علمت أن اللّه تبارك وتعالى يكرم الشباب منكم، ويستحيي من الكهول». قلت: جعلت فداك، كيف يكرم الشباب منا، ويستحيي من الكهول؟!. قال: «يكرم الشباب منكم أن يعذبهم، ويستحيي من الكهول أن يحاسبهم، فهل سررتك؟». قال: قلت: جعلت فداك زدني؛ فإنا قد نبزنا نبزاً انكسرت له ظهورنا، وماتت له أفئدتنا، واستحلت به الولاة دماءنا، في حديث رواه فقهاؤهم هؤلاء؟. قال: فقال: «الرافضة». قلت: نعم. قال: فقال: «واللّهِ ما هم سموكم، بل اللّه سماكم. أ ما علمت أنه كان مع فرعون سبعون رجلاً من بني إسرائيل يدينون بدينه، فلما استبان لهم ضلال فرعون وهدى موسى، رفضوا فرعون ولحقوا موسى، وكانوا في عسكر موسى أشد أهل ذلك العسكر عبادةً، وأشدهم اجتهاداً، إلا أنهم رفضوا فرعون، فأوحى اللّه إلى موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة؛ فإني قد نحلتهم، ثم ذخر اللّه هذا الاسم حتى سماكم به، إذ رفضتم فرعون وهامان وجنودهما، واتبعتم
ص: 158
محمداً وآل محمد. يا أبا محمد، فهل سررتك؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟.
فقال: «افترق الناس كل فرقة، واستشيعوا كل شيعة، فاستشيعتم مع أهل بيت نبيكم، فذهبتم حيث ذهب اللّه، واخترتم ما اختار اللّه، وأحببتم من أحب اللّه، وأردتم من أراد اللّه، فأبشروا، ثم أبشروا، ثم أبشروا، فأنتم واللّه المرحومون، المتقبل من محسنكم، والمتجاوز عن مسيئكم، من لم يلق اللّه بمثل ما أنتم عليه، لم يتقبل اللّه منه حسنةً، ولم يتجاوز عنه سيئةً. يا أبا محمد، فهل سررتك؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟. فقال: «إن اللّه وملائكته يسقطون الذنوب من ظهور شيعتنا، كما تسقط الريح الورق عن الشجر في أوان سقوطه؛ وذلك قول اللّه والملائكة: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}(1)، فاستغفارهم واللّه لكم دون هذا العالم، فهل سررتك يا أبا محمد؟». قال: قلت: جعلت فداك زدني؟. فقال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه، فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(2)، واللّه ما عنى غيركم، إذ وفيتم بما أخذ عليكم ميثاقكم من ولايتنا، إذ لم تبدلوا بنا غيرنا، ولو فعلتم لعيركم اللّه، كما عير غيركم في كتابه، إذ يقول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}(3)، فهل سررتك؟». قال: قلت: جعلت فداك زدني؟. قال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه، فقال: {الأَخِلَّاءُ
ص: 159
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(1)، فالخلق واللّه أعداء غيرنا وشيعتنا، وما عنى بالمتقين غيرنا وغير شيعتنا، فهل سررتك يا أبا محمد؟. قال: قلت: جعلت فداك زدني؟. فقال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(2)، فمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) النبيين، ونحن الصديقين والشهداء، وأنتم الصالحون، فتسموا بالصلاح كما سماكم اللّه، فو اللّه ما عنى غيركم، فهل سررتك؟. قال: قلت: جعلت فداك زدني؟. فقال: لقد جمعنا اللّه وولينا وعدونا في آية من كتابه، فقال: قل يا محمد {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(3)، فهل سررتك؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟.
فقال: «ذكركم اللّه في كتابه، فقال: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ}(4)، فأنتم في النار تطلبون، وفي الجنة واللّه تحبرون، فهل سررتك يا أبا محمد؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟.
قال: فقال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه، فأعاذكم من الشيطان، فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(5)، واللّهِ ما عنى غيرنا وغير شيعتنا، فهل
ص: 160
سررتك؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟.
قال: «واللّهِ لقد ذكركم اللّه في كتابه، فأوجب لكم المغفرة، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(1) - قال - يا أبا محمد، فإذا غفر اللّه الذنوب جميعاً فمن يعذب، واللّه ما عنى غيرنا وغير شيعتنا، وإنها لخاصة لنا ولكم، فهل سررتك؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟.
قال: «واللّهِ ما استثنى اللّه أحداً من الأوصياء ولا أتباعهم، ما خلا أمير المؤمنين وشيعته، إذ يقول: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللّهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ}(2)، واللّهِ ما عنى بالرحمة غير أمير المؤمنين وشيعته، فهل سررتك؟».
قال: قلت: جعلت فداك زدني؟.
قال: «قال علي بن الحسين (عليه السلام) : ليس على فطرة الإسلام غيرنا وغير شيعتنا، وسائر الناس من ذلك براء»(3).
ص: 161
9
كان الإمام الصادق (عليه السلام) قمةً في مكارم الأخلاق، فهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق.
قالوا في وصفه (عليه السلام) : (الإمام الصادق، والعلم الناطق، بالمكرمات سابق، وباب السيئات راتق، وباب الحسنات فاتق، لم يكن عياباً، ولا سباباً، ولا صخاباً، وطماعاً، ولا خداعاً، ولا نماماً، ولا ذماماً، ولا أكولاً، ولا عجولاً، ولا ملولاً، ولا مكثاراً، ولا ثرثاراً، ولا مهذاراً، ولا طعاناً، ولا لعاناً، ولا همازاً، ولا لمازاً، ولا كنازاً)(1).
عن حماد اللحام، قال: أتى رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: إن فلاناً ابن عمك ذكرك، فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلا قاله فيك. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) للجارية: «ايتيني بوضوء». فتوضأ ودخل، فقلت في نفسي: يدعو عليه، فصلى ركعتين. فقال: «يا رب، هو حقي قد وهبتُه له، وأنت أجود مني وأكرم، فهبه
ص: 162
لي، ولا تؤاخذه بي، ولا تقايسه». ثم رق، فلم يزل يدعو، فجعلت أتعجب(1).
روي: أنه دخل سفيان الثوري على الصادق (عليه السلام) ، فرآه متغير اللون، فسأله عن ذلك؟. فقال: «كنتُ نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي، قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت بي، ارتعدت وتحيرت، وسقط الصبي إلى الأرض فمات. فما تغير لوني لموت الصبي، وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب». وكان (عليه السلام) قال لها: «أنتِ حرة لوجه اللّه، لا بأس عليك»، مرتين(2).
روى الكليني في الكافي، بسنده: أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ. فخرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) على أثره؛ لما أبطأ عليه، فوجده نائماً. فجلس عند رأسه يروحه، حتى انتبه. فلما انتبه، قال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا فلان، واللّهِ ما ذلك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار»(3).
روى الكليني في الكافي، بإسناده عن قتيبة الأعشى، قال: أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) أعود ابناً له، فوجدته على الباب، فإذا هو مهتم حزين. فقلت: جعلت
ص: 163
فداك كيف الصبي؟. فقال: «إنه لما به». ثم دخل فمكث ساعة، ثم خرج إلينا وقد أسفر وجهه، وذهب التغير والحزن، فطمعت أن يكون قد صلح الصبي. فقلت: كيف الصبي جعلت فداك؟. فقال: «قد مضى الصبي لسبيله». فقلت: جعلت فداك، لقد كنت وهو حي مغتماً حزيناً، وقد رأيت حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال، فكيف هذا؟!. فقال: «إنا أهل البيت إنما نجزع قبل المصيبة، فإذا وقع أمر اللّه رضينا بقضائه، وسلمنا لأمره»(1).
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : عن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال: «نعي إلى الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ابنه إسماعيل بن جعفر - وهو أكبر أولاده - وهو يريد أن يأكل، وقد اجتمع ندماؤه، فتبسم ثم دعا بطعامه، وقعد مع ندمائه، وجعل يأكل أحسن من أكله سائر الأيام، ويحث ندماءه، ويضع بين أيديهم، ويعجبون منه أن لا يروا للحزن أثراً. فلما فرغ قالوا: يا ابن رسول اللّه، لقد رأينا عجباً، أصبت بمثل هذا الابن وأنت كما تُرى؟!. قال: «وما لي لا أكون كما ترون، وقد جاء في خبر أصدق الصادقين، أني ميت وإياكم. إن قوماً عرفوا الموت، فجعلوه نصب أعينهم، ولم ينكروا من يخطفه الموت منهم، وسلموا لأمر خالقهم عز وجل»(2).
وعن العلاء بن كامل، قال: كنت جالساً عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فصرخت الصارخة من الدار. فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، ثم جلس فاسترجع، وعاد في حديثه حتى فرغ منه، ثم قال: «إنا لنحب أن نعافى في أنفسنا وأولادنا وأموالنا، فإذا
ص: 164
وقع القضاء فليس لنا أن نحب ما لم يحب اللّه لنا»(1).
عن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: كان أصحابنا يدفعون إليه - إلى الإمام الصادق (عليه السلام) - الزكاة يقسمها في أصحابه، فكان يقسمها فيهم وهو يبكي. قال سليمان: فأقول له: ما يبكيك؟!. قال: فيقول: «أخاف أن يروا أنها من قبلي»(2).
عن ابن رئاب، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول - وهو ساجد -: «اللّهم اغفر لي ولأصحاب أبي؛ فإني أعلم أن فيهم من ينقصني»(3).
عن أبي بصير، قال: دخل أبو عبد اللّه (عليه السلام) الحمام. فقال له صاحب الحمام: أخليه لك؟. فقال: «لا حاجة لي في ذلك؛ المؤمن أخف من ذلك»(4).
عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: استقبلت أبا عبد اللّه (عليه السلام) في بعض طرق المدينة، في يوم صائف شديد الحر. فقلت: جعلت فداك، حالك عند اللّه عز
ص: 165
وجل وقرابتك من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟!. فقال: «يا عبد الأعلى، خرجت في طلب الرزق؛ لأستغني به عن مثلك»(1).
وعن إسماعيل بن جابر، قال: أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، وإذا هو في حائط له، بيده مسحاة، وهو يفتح بها الماء، وعليه قميص شبه الكرابيس، كأنه مخيط عليه من ضيقه(2).
وعن جميل بن صالح، عن أبي عمرو الشيباني، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) وبيده مسحاة، وعليه إزار غليظ، يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره. فقلت: جعلت فداك، أعطني أكفك. فقال لي: «إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة»(3).
وعن داود بن سرحان، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يكيل تمراً بيده. فقلت: جعلت فداك، لو أمرت بعض ولدك، أو بعض مواليك، فيكفيك»(4) الحديث.
عن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وعنده المعلى بن خنيس، إذ دخل عليه رجل من أهل خراسان. فقال: يا ابن رسول اللّه، أنا من مواليكم أهل البيت، وبيني وبينكم شقة بعيدة، وقد قل ذات يدي،
ص: 166
ولا أقدر أن أتوجه إلى أهلي إلا أن تعينني. قال: فنظر أبو عبد اللّه (عليه السلام) يميناً وشمالاً وقال: «أ لا تسمعون ما يقول أخوكم. إنما المعروف ابتداء، فأما ما أعطيت بعد ما سأل، فإنما هو مكافأة لما بذل لك من ماء وجهه - ثم قال - فيبيت ليلته متأرقاً متململاً بين اليأس والرجاء، لا يدري أين يتوجه بحاجته، فيعزم على القصد إليك، فأتاك وقلبه يجب، وفرائصه ترتعد، وقد نزل دمه في وجهه، وبعد هذا فلا يدري، أينصرف من عندك بكآبة الرد أم بسرور النجح، فإن أعطيته رأيت أنك قد وصلته، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وبعثني بالحق نبياً، لما يتجشم من مسألته إياك، أعظم مما ناله من معروفك». قال: فجمعوا للخراساني خمسة آلاف درهم ودفعوها إليه(1).
عن مرازم، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) - وهو بمكة -: «يا مرازم، لو سمعت رجلاً يسبني ما كنت صانعاً؟». قلت: كنت أقتله. قال: «يا مرازم، إن سمعت من يسبني فلا تصنع به شيئاً». قال: فخرجت من مكة عند الزوال في يوم حار، فألجأني الحر إلى أن صرت إلى بعض القباب، وفيها قوم فنزلت معهم، فسمعت بعضهم يسب أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، فذكرت قوله فلم أقل شيئاً، ولولا ذلك لقتلته(2).
عن الحسين بن محمد، قال: سخط علي بن هبيرة على رفيد، فعاذ بأبي عبد
ص: 167
اللّه (عليه السلام) . فقال له: «انصرف إليه، أقرئه مني السلام، وقل له: إني آجرت عليك مولاك رفيداً، فلا تهجه بسوء». فقال: جعلت فداك، شامي خبيث الرأي. فقال: «اذهب إليه كما أقول لك». قال: فاستقبلني أعرابي ببعض البوادي، فقال: أين تذهب، إني أرى وجه مقتول - ثم قال لي - أخرج يدك. ففعلت، فقال: يد مقتول - ثم قال لي - أخرج لسانك. ففعلت، فقال: امض فلا بأس عليك؛ فإن في لسانك رسالةً لو أتيت بها الجبال الرواسي لانقادت لك. قال: فجئت، فلما دخلت عليه أمر بقتلي. فقلت: أيها الأمير، لم تظفر بي عنوةً، وإنما جئتك من ذات نفسي، وهاهنا أمر أذكره لك، ثم أنت وشأنك.
فأمر من حضر فخرجوا. فقلت له: مولاك جعفر بن محمد يقرئك السلام، ويقول لك: قد آجرت عليك مولاك رفيداً، فلا تهجه بسوء. فقال: واللّهِ لقد قال لك جعفر هذه المقالة، وأقرأني السلام!. فحلفت، فرددها عليَّ ثلاثاً، ثم حل أكتافي، ثم قال: لا يقنعني منك حتى تفعل بي ما فعلت بك. قلت: ما تكتف يدي يديك، ولا تطيب نفسي. فقال: واللّه ما يقنعني إلا ذلك. ففعلت كما فعل، وأطلقته فناولني خاتمه، وقال: أمري في يدك، فدبر فيها ما شئت(1).
عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أبيه، عن جده، قال: ولي علينا بالأهواز رجل من كتاب يحيى بن خالد، وكان عليَّ بقايا من خراج، كان فيها زوال نعمتي، وخروجي من ملكي. فقيل لي: إنه ينتحل هذا الأمر، فخشيت أن ألقاه
ص: 168
مخافة أن لا يكون ما بلغني حقاً، فيكون خروجي من ملكي وزوال نعمتي. فهربت منه إلى اللّه تعالى، وأتيت الصادق (عليه السلام) مستجيراً. فكتب إليه رقعةً صغيرةً، فيها: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، إن لله في ظل عرشه ظلاً لا يسكنه إلا من نفس عن أخيه كربةً، وأعانه بنفسه، أو صنع إليه معروفاً ولو بشق تمرة. وهذا أخوك المسلم». ثم ختمها ودفعها إليَّ، وأمرني أن أوصلها إليه، فلما رجعت إلى بلادي، صرت إلى منزله، فاستأذنت عليه، وقلت: رسول الصادق (عليه السلام) بالباب. فإذا أنا به وقد خرج إليَّ حافياً، فلما بصر بي سلَّم عليَّ، وقبل ما بين عيني، ثم قال لي: يا سيدي، أنت رسول مولاي؟!. فقلت: نعم. فقال: هذا عتقي من النار إن كنت صادقاً. فأخذ بيدي وأدخلني منزله، وأجلسني في مجلسه، وقعد بين يدي، ثم قال: يا سيدي، كيف خلفت مولاي؟. فقلت: بخير. فقال: اللّه، اللّه. قلت: اللّه، حتى أعادها. ثم ناولته الرقعة، فقرأها وقبلها، ووضعها على عينيه، ثم قال: يا أخي، مر بأمرك. فقلت: في جريدتك عليَّ كذا وكذا ألف درهم، وفيه عطبي وهلاكي. فدعا بالجريدة، فمحا عني كل ما كان فيها، وأعطاني براءةً منها، ثم دعا بصناديق ماله، فناصفني عليها، ثم دعا بدوابه، فجعل يأخذ دابةً ويعطيني دابةً، ثم دعا بغلمانه، فجعل يعطيني غلاماً ويأخذ غلاماً، ثم دعا بكسوته، فجعل يأخذ ثوباً ويعطيني ثوباً، حتى شاطرني جميع ملكه، ويقول: هل سررتك؟. وأقول: إي واللّهِ وزدت على السرور. فلما كان في الموسم، قلت: واللّهِ لا كان جزاء هذا الفرح بشيء أحب إلى اللّه وإلى رسوله من الخروج إلى الحج والدعاء له، والمصير إلى مولاي وسيدي الصادق (عليه السلام) وشكره عنده، وأسأله الدعاء له. فخرجت إلى مكة، وجعلت طريقي إلى مولاي (عليه السلام) ، فلما دخلت عليه، رأيته والسرور في وجهه، وقال: «يا فلان، ما كان من خبرك من الرجل؟».
ص: 169
فجعلت أورد عليه خبري، وجعل يتهلل وجهه، ويسر السرور. فقلت: يا سيدي، هل سررت بما كان منه إليَّ؟. فقال: «إي واللّه سرني، إي واللّه لقد سر آبائي، إي واللّه لقد سر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إي واللّه لقد سر اللّه في عرشه»(1).
وفي بعض الروايات هذه القصة عن الإمام الكاظم (عليه السلام) .
عن صفوان الجمال، قال: وقع بين أبي عبد اللّه (عليه السلام) وبين عبد اللّه بن الحسن كلام، حتى وقعت الضوضاء بينهم، واجتمع الناس، فافترقا عشيتهما بذلك، وغدوت في حاجة، فإذا أنا بأبي عبد اللّه (عليه السلام) على باب عبد اللّه بن الحسن، وهو يقول: «يا جارية، قولي لأبي محمد يخرج». قال: فخرج. فقال: يا أبا عبد اللّه، ما بكر بك؟!. قال: «إني تلوت آيةً في كتاب اللّه عز وجل البارحة فأقلقتني». فقال: وما هي؟. قال: «قول اللّه عز وجل ذكره: {الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(2)». فقال: صدقت، لكأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب اللّه جل وعز قط، فاعتنقا وبكيا(3).
والظاهر أن هذا الكلام بينهما كان لأجل أن لا يُتهم الإمام (عليه السلام) بأنه من وراء هذه الثورات ضد الحكام.
عن عطية بن نجيح بن المطهر الرازي، وإسحاق بن عمار الصيرفي، قالا: إن
ص: 170
أبا عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) كتب إلى عبد اللّه بن الحسن، حين حمل هو وأهل بيته، يعزيه عما صار إليه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلى الخلف الصالح، والذرية الطيبة من ولد أخيه، وابن عمه. أما بعد، فلئن كنت قد تفردت أنت وأهل بيتك ممن حمل معك بما أصابكم، ما انفردت بالحزن والغيظ والكآبة وأليم وجع القلب دوني، ولقد نالني من ذلك من الجزع والقلق وحر المصيبة مثل ما نالك، ولكن رجعت إلى ما أمر اللّه جل وعز به المتقين من الصبر وحسن العزاء، حين يقول لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(1)، وحين يقول: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}(2)، وحين يقول لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين مثل بحمزة: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(3)، فصبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يعاقب.
وحين يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}(4).
وحين يقول: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(5).
وحين يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(6).
ص: 171
وحين يقول لقمان لابنه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(1)، وحين يقول عن موسى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، وحين يقول: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(3)، وحين يقول: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(4)، وحين يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(5)، وحين يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(6)، وحين يقول: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ}(7)، وحين يقول: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}(8)، وأمثال ذلك من القرآن كثير.
واعلم - أي عم وابن عم - أن اللّه جل وعز لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعةً قط، ولا شيء أحب إليه من الضر والجهد والبلاء مع الصبر، وأنه تبارك وتعالى لم يبال بنعيم الدنيا لعدوه ساعةً قط، ولولا ذلك ما كان أعداؤه يقتلون أولياءه ويخوفونهم ويمنعونهم، وأعداؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون، ولولا ذلك لما قتل زكريا ويحيى بن زكريا ظلماً وعدواناً في بغي من البغايا، ولولا ذلك ما قتل
ص: 172
جدك علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما قام بأمر اللّه جل وعز ظلماً، وعمك الحسين بن فاطمة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اضطهاداً وعدواناً، ولولا ذلك ما قال اللّه جل وعز في كتابه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}(1)، ولولا ذلك لما قال في كتابه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ}(2).
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: لولا أن يحزن المؤمن؛ لجعلت للكافر عصابةً من حديد، فلا يصدع رأسه أبداً. ولولا ذلك لما جاء في الحديث: أن الدنيا لا تساوي عند اللّه جل وعز جناح بعوضة، ولولا ذلك ما سقى كافراً منها شربةً من ماء.
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: لو أن مؤمناً على قلة جبل، لابتعث اللّه له كافراً أو منافقاً يؤذيه. ولولا ذلك لما جاء في الحديث: أنه إذا أحب اللّه قوماً أو أحب عبداً صب عليه البلاء صباً، فلا يخرج من غم إلا وقع في غم.
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: ما من جرعتين أحب إلى اللّه عز وجل أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا: من جرعة غيظ كظم عليها، وجرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء واحتساب. ولولا ذلك لما كان أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعون على من ظلمهم بطول العمر، وصحة البدن، وكثرة المال والولد. ولولا ذلك ما بلغنا أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا خص رجلاً بالترحم عليه والاستغفار استشهد.
فعليكم - يا عم وابن عم وبني عمومتي وإخوتي - بالصبر والرضا والتسليم،
ص: 173
والتفويض إلى اللّه جل وعز، والرضا بالصبر على قضائه، والتمسك بطاعته، والنزول عند أمره. أفرغ اللّه علينا وعليكم الصبر، وختم لنا ولكم بالأجر والسعادة، وأنقذنا وإياكم من كل هلكة، بحوله وقوته إنه سميع قريب، وصلى اللّه على صفوته من خلقه محمد النبي وأهل بيته»(1).
وفي البحار للعلامة المجلسي (رضوان اللّه عليه): (وقد اشتملت هذه التعزية على وصف عبد اللّه بن الحسن بالعبد الصالح، والدعاء له وبني عمه بالسعادة. وهذا يدل على أن الجماعة المحمولين، كانوا عند مولانا الصادق (عليه السلام) معذورين، وممدوحين، ومظلومين، وبحبه عارفين. وقد يوجد في الكتب أنهم كانوا للصادقين (عليهما السلام) مفارقين، وذلك محتمل للتقية؛ لئلا ينسب إظهارهم لإنكار المنكر إلى الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) . ومما يدل عليه ما رويناه بإسنادنا عن خلاد بن عمير الكندي - مولى آل حجر بن عدي - قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . قال: «هل لكم علم بآل الحسن الذين خرج بهم مما قبلنا، وكان قد اتصل بنا عنهم خبر، فلم نحب أن نبدأه به». فقلنا: نرجو أن يعافيهم اللّه. فقال: «وأين هم من العافية». ثم بكى (عليه السلام) حتى علا صوته، وبكينا. ثم قال: «حدثني أبي، عن فاطمة بنت الحسين، قالت: سمعت أبي (صلوات اللّه عليه) يقول: يقتل منكِ أو يصاب منكِ نفر بشط الفرات ما سبقهم الأولون، ولا يدركهم الآخرون، وإنه لم يبق من ولدهم غيرهم».
وهذه شهادة صريحة من طرق صحيحة، بمدح المأخوذين من بني الحسن (عليه
ص: 174
وعليهم السلام)، وأنهم مضوا إلى اللّه جل جلاله بشرف المقام، والظفر بالسعادة والإكرام.
ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الأصفهاني: عن يحيى بن عبد اللّه - الذي سلم من الذين تخلفوا في الحبس من بني الحسن - فقال: حدثنا عبد اللّه بن فاطمة الصغرى، عن أبيها، عن جدتها فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قالت: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يدفن من ولدي سبعة بشط الفرات، لم يسبقهم الأولون، ولم يدركهم الآخرون». فقلت: نحن ثمانية. فقال: هكذا سمعت. فلما فتحوا الباب وجدوهم موتى، وأصابوني وبي رمق، وسقوني ماءً وأخرجوني، فعشت(1).
عن محمد بن إبراهيم، قال: بعث المنصور العباسي إلى أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وأمر بفرش فطرحت له إلى جانبه، فأجلسه عليها. ثم قال: عليَّ بمحمد، عليَّ بالمهدي. يقول ذلك مراراً، فقيل له: الساعة، الساعة يأتي يا أمير، ما يحبسه إلا أنه يتبخر. فما لبث أن وافى، وقد سبقته رائحته. فأقبل المنصور على جعفر (عليه السلام) ، فقال: يا أبا عبد اللّه، حديث حدثتنيه في صلة الرحم، أذكره يسمعه المهدي. قال: «نعم. حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها اللّه عز وجل ثلاثين سنةً، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنةً فيصيرها
ص: 175
اللّه ثلاث سنين - ثم تلا (عليه السلام) -: {يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ}(1)». قال: هذا حسن يا أبا عبد اللّه، وليس إياه أردت. قال أبو عبد اللّه: «نعم. حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : صلة الرحم تعمر الديار، وتزيد في الأعمار، وإن كان أهلها غير أخيار». قال: هذا حسن يا أبا عبد اللّه، وليس هذا أردت. فقال أبو عبد اللّه: «نعم. حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : صلة الرحم تهون الحساب، وتقي ميتة السوء». قال المنصور: نعم، هذا أردت(2).
عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر، قال: وقع بين جعفر (عليه السلام) وعبد اللّه ابن الحسن كلام في صدر يوم، فأغلظ له في القول عبد اللّه بن حسن، ثم افترقا وراحا إلى المسجد، فالتقيا على باب المسجد. فقال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) لعبد اللّه بن الحسن: «كيف أمسيت يا أبا محمد؟». فقال: بخير. كما يقول المغضب. فقال: «يا أبا محمد، أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب». فقال: لاتزال تجيء بالشيء لا نعرفه. قال: «فإني أتلو عليك به قرآناً». قال: وذلك أيضاً!. قال: «نعم». قال: فهاته. قال: «قول اللّه عز وجل: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(3)». قال: فلا
ص: 176
تراني بعدها قاطعاً رحمنا(1).
أقول: ربما كان ما وقع بين الإمام وعبد اللّه بن الحسن من غلظة القول، هو تظاهر حتى لا تنسب ثورته على الإمام (صلوات اللّه عليه)، وهكذا ما ورد من ذم الإمام (عليه السلام) له ولثورته.
ومما يؤيد ذلك ما روي عن عنبسة بن بجاد العابد، قال: كان جعفر بن محمد (عليه السلام) إذا رأى محمد بن عبد اللّه بن الحسن تغرغرت عيناه، ثم يقول: «بنفسي هو. إن الناس ليقولون فيه وإنه لمقتول، ليس هو في كتاب علي من خلفاء هذه الأمة»(2).
ص: 177
10
كان الإمام الصادق (عليه السلام) قمة في الجود والكرم، والإنفاق في سبيل اللّه عزوجل، ومساعدة الفقراء والمعوزين. وكان أحياناً يرسل بعض الأموال حتى يصالح بها بين المؤمنين في النزاعات المالية.
عن أبي حنيفة - سائق الحاج - قال: مر بنا المفضل، وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعةً، ثم قال لنا: تعالوا إلى المنزل. فأتيناه، فأصلح بيننا بأربعة مائة درهم، فدفعها إلينا من عنده، حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه. قال: أما إنها ليست من مالي، ولكن أبو عبد اللّه أمرني، إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما، وأفتديهما من ماله، فهذا من مال أبي عبداللّه (عليه السلام) (1).
عن معلى بن خنيس، قال: خرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) في ليلة قد رشت السماء، وهو يريد ظلة بني ساعدة، فاتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء. فقال: «بسم اللّه،
ص: 178
اللّهم رده علينا». قال: فأتيته فسلمت عليه. فقال: «معلى أنت؟». قلت: نعم جُعلت فداك. فقال لي: «التمس بيدك، فما وجدت من شيء فادفعه إليَّ».. قال: فإذا أنا بخبز منتشر، فجعلت أدفع إليه ما وجدت، فإذا أنا بجراب من خبز. فقلت: جعلت فداك، أحمله عنك. فقال: «لا، أنا أولى به منك، ولكن امض معي». قال: فأتينا ظلة بني ساعدة، فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم، حتى أتى على آخره ثم انصرفنا. فقلت: جعلت فداك، يعرف هؤلاء الحق؟. فقال: «لو عرفوا لواسيناهم بالدقة». والدقة هي الملح(1).
عن أبي جعفر الخثعمي، قال: أعطاني الصادق (عليه السلام) صرةً. فقال لي: «ادفعها إلى رجل من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً». قال: فأتيته. قال: جزاه اللّه خيراً، ما يزال كل حين يبعث بها، فنعيش به إلى قابل، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله(2).
وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الخثعمي - قريب إسماعيل بن جابر - قال: أعطاني أبو عبد اللّه (عليه السلام) خمسين ديناراً في صرة، الحديث(3).
ولا يخفى أن الإمام (عليه السلام) كان يعيش فترة التقية، وربما إخفاء اسمه كان للتقية، حيث لم يرد الإمام أن يشتهر بذلك في الأوساط؛ حتى لا تكون ذريعة بيد
ص: 179
الحاكم لإيذائه.
فلا يقال: إن رفع الغيبة عن النفس لازمة، فكيف لم يرفع الإمام ذلك.
الفضل بن أبي قرة، قال كان أبو عبد اللّه (عليه السلام) يبسط رداءه وفيه صرر الدنانير، فيقول للرسول: «اذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته، وقل لهم: هذه بعث بها إليكم من العراق». قال: فيذهب بها الرسول إليهم، فيقول ما قال. فيقولون: أما أنت فجزاك اللّه خيراً بصلتك قرابة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأما جعفر فحكم اللّه بيننا وبينه. قال: فيخر أبو عبد اللّه (عليه السلام) ساجداً، ويقول: «اللّهم أذل رقبتي لولد أبي»(1).
روي: أن فقيراً سأل الصادق (عليه السلام) . فقال لعبده: «ما عندك؟»؟ قال: أربعمائة درهم. قال: «أعطه إياها». فأعطاه، فأخذها وولى شاكراً. فقال لعبده: «أرجعه». فقال: يا سيدي، سألت فأعطيت، فماذا بعد العطاء!. فقال له: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خير الصدقة ما أبقت غنى، وإنا لم نغنك، فخذ هذا الخاتم، فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة»(2).
قال الراوي: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : جعلت فداك، بلغني أنك كنت تفعل
ص: 180
في غلة عين زياد شيئاً، وأنا أحب أن أسمعه منك. قال: فقال لي: «نعم، كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم؛ ليدخل الناس ويأكلوا. وكنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر بنيات، يقعد على كل بنية عشرة، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى، يلقى لكل نفس منهم مد من رطب. وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم، الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة، ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها، لكل إنسان منهم مد، فإذا كان الجذاذ وفيت القوام والوكلاء والرجال أجرتهم، وأحمل الباقي إلى المدينة، ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار، وكان غلتها أربعة آلاف دينار»(1).
والبنيات: الأقداح الصغار.
دخل الأشجع السلمي على الإمام الصادق (عليه السلام) فوجده عليلاً، فجلس وسأل عن علة مزاجه. فقال له الصادق (عليه السلام) : «تعد عن العلة واذكر ما جئت له».
فقال:
ألبسك اللّه منه عافيةً***في نومك المعتري وفي أرقك
تخرج من جسمك السقام كما***أخرج ذل الفعال من عنقك
فقال (عليه السلام) : «يا غلام، أيش معك؟». قال: أربعمائة. قال: «أعطها للأشجع»(2).
ص: 181
وفي رواية عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال: «كنت عند سيدنا الصادق (عليه السلام) ، إذ دخل عليه أشجع السلمي يمدحه، فوجده عليلاً، فجلس وأمسك. فقال له سيدنا الصادق (عليه السلام) : «عد عن العلة، واذكر ما جئت له». فقال له:
ألبسك اللّه منه عافيةً***في نومك المعتري وفي أرقك
يخرج من جسمك السقام كما***أخرج ذل السؤال من عنقك
فقال: «يا غلام، أيش معك؟».
قال: أربعمائة درهم.
قال: «أعطها للأشجع».
قال: فأخذها وشكر وولى، فقال: «ردوه». فقال: يا سيدي، سألتُ فأعطيتَ وأغنيت، فلم رددتني!.
قال: «حدثني أبي، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنه قال: خير العطاء ما أبقى نعمةً باقيةً، وإن الذي أعطيتك لا يبقي لك نعمةً باقيةً، وهذا خاتمي فإن أعطيت به عشرة آلاف درهم، وإلا فعد إليَّ وقت كذا وكذا أوفك إياها».
قال: يا سيدي، قد أغنيتني وأنا كثير الأسفار، وأحصل في المواضع المفزعة، فتعلمني ما آمن به على نفسي؟. قال: «فإذا خفت أمراً، فاترك يمينك على أم رأسك، واقرأ برفيع صوتك: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(1)». قال أشجع: فحصلت في واد تعبث فيه الجن، فسمعت قائلاً يقول: خذوه. فقرأتها، فقال قائل: كيف نأخذه وقد احتجز بآية طيبة(2).
ص: 182
عن مفضل بن قيس بن رمانة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فشكوت إليه بعض حالي، وسألته الدعاء. فقال: «يا جارية، هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر». فجاءت بكيس، فقال: «هذا كيس فيه أربعمائة دينار، فاستعن به». قال: قلت: واللّهِ جعلت فداك، ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء لي. فقال لي: «ولا أَدَعُ الدعاء، ولكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه؛ فتهون عليهم»(1).
عن يونس بن يعقوب، قال: أرسل إلينا أبو عبد اللّه (عليه السلام) بقباع من رطب ضخم مكوم، وبقي شيء فحمض. فقلت: رحمك اللّه، ما كنا نصنع بهذا!. قال: «كل وأطعم»(2).
والقُباع بالضم: مكيال ضخم.
عن سليمان بن خالد، عن عامل كان لمحمد بن راشد، قال: حضرت عشاء جعفر بن محمد (عليه السلام) في الصيف، فأُتي بخوان عليه خبز، وأُتي بقصعة فيها ثريد ولحم يفور. فوضع يده فيها فوجدها حارةً، ثم رفعها وهو يقول: «نستجير باللّه من النار، نعوذ باللّه من النار، نحن لا نقوى على هذا، فكيف النار!». وجعل يكرر هذا الكلام حتى أمكنت القصعة، فوضع يده فيها ووضعنا أيدينا حتى
ص: 183
أمكنتنا، فأكل وأكلنا معه، ثم إن الخوان رفع. فقال: «يا غلام، ائتنا بشيء». فأتى بتمر في طبق، فمددت يدي فإذا هو تمر. فقلت: أصلحك اللّه، هذا زمان الأعناب والفاكهة. قال: «إنه تمر - ثم قال - ارفع هذا وائتنا بشيء». فأتى بتمر في طبق، فمددت يدي فقلت: هذا تمر. فقال: «إنه طيب»(1).
في كتاب الفنون: نام رجل من الحاج في المدينة، فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى جعفر الصادق (عليه السلام) مصلياً - ولم يعرفه - فتعلق به، وقال له: أنت أخذت همياني!.
قال (عليه السلام) : «ما كان فيه؟». قال: ألف دينار. قال: فحمله إلى داره، ووزن له ألف دينار، وعاد إلى منزله ووجد هميانه، فعاد إلى جعفر (عليه السلام) معتذراً بالمال، فأبى قبوله(2).
روي: أن سائلاً سأله حاجةً فأسعفها، فجعل السائل يشكره. فقال (عليه السلام) :
إذا ما طلبت خصال الندى***وقد عضك الدهر من جهده
فلا تطلبن إلى كالح***أصاب اليسارة من كده
ولكن عليك بأهل العلى***ومن ورث المجد عن جده
فذاك إذا جئته طالباً***تحب اليسارة من جده(3)
ص: 184
عن ابن بكير، عن بعض أصحابه، قال: كان أبو عبد اللّه (عليه السلام) ربما أطعمنا الفراني والأخبصة، ثم يطعم الخبز والزيت. فقيل له: لو دبرت أمرك حتى يعتدل. فقال: «إنما تدبيرنا من اللّه، إذا أوسع علينا أوسعنا، وإذا قتر قترنا»(1).
والخبيص: طعام معمول من التمر والسمن.
عن الهياج بن بسطام: كان جعفر بن محمد (عليهما السلام) يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء(2).
أقول: وكان ذلك برضا من عياله.
عن محمد بن زيد الشحام، قال: رآني أبو عبد اللّه (عليه السلام) وأنا أصلي. فأرسل إليَّ ودعاني، فقال لي: «من أين أنت؟». قلت: من مواليك. قال: «فأي موالي؟». قلت: من الكوفة. فقال: «من تعرف من الكوفة؟». قلت: بشير النبال وشجرة. قال: «وكيف صنيعتهما إليك؟». قلت: وما أحسن صنيعتهما إليَّ. قال: «خير المسلمين من وصل وأعان ونفع، ما بت ليلةً قط واللّه وفي مالي حق يسألنيه - ثم قال - أي شيء معكم من النفقة؟». قلت: عندي مائتا درهم. قال:
ص: 185
«أرنيها». فأتيته بها، فزادني فيها ثلاثين درهماً ودينارين، ثم قال: «تعش عندي». فجئت فتعشيت عنده.
قال: فلما كان من القابلة لم أذهب إليه، فأرسل إليَّ فدعاني من غده. فقال: «ما لك لم تأتني البارحة، قد شفقت عليَّ». قلت: لم يجئني رسولك. فقال: «أنا رسول نفسي إليك، ما دمت مقيماً في هذه البلدة، أي شيء تشتهي من الطعام؟». قلت: اللبن. فاشترى من أجلي شاتاً لبوناً(1).
عن هشام بن سالم، قال: كان أبو عبد اللّه (عليه السلام) إذا أعتم وذهب من الليل شطره، أخذ جراباً فيه خبز ولحم والدراهم، فحمله على عنقه، ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة، فقسمه فيهم ولا يعرفونه. فلما مضى أبو عبد اللّه (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان أبا عبد اللّه (صلوات اللّه عليه)(2).
عن هارون بن عيسى، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لمحمد ابنه: «كم فضل معك من تلك النفقة؟». قال: أربعون ديناراً. قال: «اخرج وتصدق بها». قال: إنه لم يبق معي غيرها. قال: «تصدق بها؛ فإن اللّه عز وجل يخلفها. أ ما علمت أن لكل شيء مفتاحاً، ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدق بها». ففعل، فما لبث أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلا عشرةً حتى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار. فقال: «يا بني،
ص: 186
أعطينا لله أربعين ديناراً، فأعطانا اللّه أربعة آلاف دينار»(1).
عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: أكلنا مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأتينا بقصعة من أرز، فجعلنا نعذر. فقال: «ما صنعتم شيئاً. إن أشدكم حباً لنا أحسنكم أكلاً عندنا». قال عبد الرحمن: فرفعت كشحة المائدة، فأكلت. فقال: «نعم الآن - ثم أنشأ يحدثنا - أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُهدي له قصعة أرز من ناحية الأنصار، فدعا سلمان والمقداد وأبا ذر (رحمهم اللّه)، فجعلوا يعذرون في الأكل. فقال: ما صنعتم شيئاً، أشدكم حباً لنا أحسنكم أكلاً عندنا، فجعلوا يأكلون أكلاً جيداً - ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) - رحمهم اللّه ورضي اللّه عنهم وصلى عليهم»(2).
وعن عبد اللّه بن سليمان الصيرفي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقدم إلينا طعاماً فيه شواء وأشياء بعده، ثم جاء بقصعة من أرز فأكلت معه. فقال: «كل». قلت: قد أكلت. قال: «كل؛ فإنه يعتبر حب الرجل لأخيه بانبساطه في طعامه». ثم حاز لي حوزاً بإصبعه من القصعة. فقال لي: «لتأكلن ذا بعدما قد أكلت». فأكلته(3).
وعن أبي الربيع، قال: دعا أبو عبد اللّه (عليه السلام) بطعام، فأتي بهريسة. فقال لنا: «ادنوا وكلوا». قال: فأقبل القوم يقصرون. فقال (عليه السلام) : «كلوا؛ فإنما تستبين مودة
ص: 187
الرجل لأخيه في أكله». قال: فأقبلنا نغص أنفسنا كما تغص الإبل(1).
كان الإمام الصادق (عليه السلام) كسائر الأئمة (عليهم السلام) ، يشترون العبيد ويربونهم، بحيث يصبحوا علماء فضلاء، ثم يعتقونهم في سبيل اللّه؛ ليكونوا من الدعاة إلى الحق.
عن ابن سنان، عن غلام أعتقه أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «هذا ما أعتق جعفر بن محمد. أعتق غلامه السندي فلاناً، على أنه: يشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لاشريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وعلى أنه يوالي أولياء اللّه، ويتبرأ من أعداء اللّه، ويحل حلال اللّه، ويحرم حرام اللّه، ويؤمن برسل اللّه، ويقر بما جاء من عند اللّه. أعتقه لوجه اللّه، لا يريد به منه جزاءً ولا شكوراً، وليس لأحد عليه سبيل إلا بخير، شهد فلان»(2).
وعن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: قرأت عتق أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فإذا هو شرحه: «هذا ما أعتق جعفر بن محمد. أعتق فلاناً غلامه لوجه اللّه، لا يريد منه جزاءً ولا شكوراً، على أن: يقيم الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويحج البيت، ويصوم شهر رمضان، ويتوالى أولياء اللّه، ويتبرأ من أعداء اللّه». شهد فلان بن فلان، وفلان، وفلان، ثلاثة(3).
ص: 188
11
كان الإمام الصادق (عليه السلام) كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) في قمة الزهد والورع، وترك مباهج الدنيا. نعم، أحياناً كان يلبس (عليه السلام) ملابس فاخرة لعناوين ثانوية، كإرضاء الزوجة، وإبداء النعمة، وما أشبه.
عن سفيان الثوري، قال: دخلت على جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وعليه جبة خز دكناء، وكساء خز، فجعلت أنظر إليه تعجباً. فقال لي: «يا ثوري، ما لك تنظر إلينا، لعلك تعجب مما ترى». فقلت: يا ابن رسول اللّه، ليس هذا من لباسك، ولا لباس آبائك. قال: «يا ثوري، كان ذلك زمان إقتار وافتقار، وكانوا يعملون على قدر إقتاره وافتقاره، وهذا زمان قد أسبل كل شيء عزاليه». ثم حسر ردن جبته، فإذا تحتها جبة صوف بيضاء، يقصر الذيل عن الذيل، والردن عن الردن، وقال: «يا ثوري، لبسنا هذا لله تعالى وهذا لكم، وما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه»(1).
ص: 189
كان الإمام الصادق (عليه السلام) قمة في النظافة، وشاكراً لله تعالى في نعمه، وهذا لا ينافي الزهد كما هو واضح؛ فإنه (عليه السلام) كان يحث الناس على الجمال والتجمل، والتنعم بما أنعم اللّه على الإنسان، وفي نفس الوقت يؤكد على الزهد، ولا منافاة بينهما، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الحاكم لابد أن يراعي مشاعر أضعف الناس من رعيته.
وكثيراً ما كان يلبس الإمام (عليه السلام) الثوب الخشن تحت ثيابه، ويتجمل بثياب حسنة فوقه.
روى الكليني، عن الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «إن اللّه عز وجل يحب الجمال والتجمل، ويبغض البؤس والتباؤس»(1).
وفي رواية أخرى قال (عليه السلام) : «إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة، أحب أن يراها عليه؛ لأنه جميل يحب الجمال»(2).
وعنه (عليه السلام) ، قال: «إني لأكره للرجل أن يكون عليه من اللّه نعمة فلا يظهرها»(3).
وفي حديث قال (عليه السلام) : «البس وتجمل؛ فإن اللّه جميل يحب الجمال، وليكن من حلال»(4).
ص: 190
وروى الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده، عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «إن اللّه تعالى يحب الجمال والتجميل، ويكره البؤس والتباؤس. فإن اللّه عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة، أحب أن يرى عليه أثرها». قيل: وكيف ذلك؟. قال: «ينظف ثوبه، ويطيب ريحه، ويجصص داره، ويكنس أفنيته»(1).
وروى الكليني بسنده، عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «بينا أنا في الطواف، وإذا برجل يجذب ثوبي، وإذا هو عباد بن كثير البصري. فقال: يا جعفر بن محمد، تلبس مثل هذه الثياب، وأنت في هذا الموضع، مع المكان الذي أنت فيه من علي!. فقلت: ثوب فرقبي(2) اشتريته بدينار، وقد كان علي (عليه السلام) في زمان يستقيم له ما لبس فيه، ولو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا؛ لقال الناس: هذا مراء مثل عباد»(3).
وروي: أن رجلاً قال للإمام الصادق (عليه السلام) : أصلحك اللّه، ذكرت أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيد؟!.
فقال (عليه السلام) له: «إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله»(4).
عن عبد الأعلى، قال: أكلت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فدعا وأتي بدجاجة
ص: 191
محشوة وبخبيص. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «هذه أهديت لفاطمة - ثم قال - يا جارية، ائتينا بطعامنا المعروف». فجاءت بثريد خل وزيت(1).
عن عجلان، قال: تعشيت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) بعد عتمة، وكان يتعشى بعد عتمة. فأتي بخل وزيت ولحم بارد، فجعل ينتف اللحم فيطعمنيه، ويأكل هو الخل والزيت ويدع اللحم. فقال: «إن هذا طعامنا وطعام الأنبياء (عليهم السلام) »(2).
عن الحسين بن كثير الخزاز، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقه جبة صوف، وفوقها قميص غليظ، فمسستها. فقلت: جعلت فداك، إن الناس يكرهون لباس الصوف!.
فقال (عليه السلام) : «كلا، كان أبي محمد بن علي (عليه السلام) يلبسها، وكان علي بن الحسين (صلوات اللّه عليه) يلبسها، وكانوا (عليهم السلام) يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصلاة، ونحن نفعل ذلك»(3).
عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: دخل عليه بعض أصحابه، فرأى
ص: 192
عليه قميصاً فيه قب قد رقعه، فجعل ينظر إليه.
فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ما لك تنظر؟».
فقال له: جعلت فداك، قب يلقى في قميصك!.
فقال له: «اضرب يدك إلى هذا الكتاب فاقرأ ما فيه».
وكان بين يديه كتاب أو قريب منه، فنظر الرجل فيه، فإذا فيه: «لا إيمان لمن لاحياء له، ولا مال لمن لا تقدير له، ولا جديد لمن لا خلق له»(1).
ص: 193
12
كان الإمام الصادق (عليه السلام) قمةً في العبادة لله عز وجل كماً وكيفاً.
روي: أن الإمام (عليه السلام) كان إما صائماً، أو قائماً، أو ذاكراً، لا يخلو عنها. وكان كثير الحج والعمرة، وكان الناس يجتمعون عليه في مكة والمشاعر، ويستفيدون من علمه.
قال مالك بن أنس: (كان الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) رجلاً لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً. وكان من عظماء العباد، وأكابر الزهاد الذين يخشون اللّه عز وجل. وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، اخضر مرةً واصفر أخرى، حتى لينكره من لا يعرفه)(1).
قال مالك بن أنس في فضائل الإمام الصادق (عليه السلام) : (لقد حججت معه سنةً، فلما استوت به راحلته عند الإحرام، كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في
ص: 194
حلقه، وكاد أن يخر من راحلته. فقلت: قل يا ابن رسول اللّه، ولا بد لك من أن تقول. فقال: «يا ابن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول: لبيك اللّهم لبيك، وأخشى أن يقول عز وجل: لا لبيك ولا سعديك»)(1).
عن أبان بن تغلب، قال: دخلت على الصادق (عليه السلام) وهو يصلي، فعددت له في الركوع والسجود ستين تسبيحة(2).
وروى الكليني في الكافي: أنه أُحصي على الصادق (عليه السلام) في سجوده خمسمائة تسبيحة(3).
وروى الراوندي في الخرائج: عن منصور الصيقل، أنه رأى أبا عبد اللّه (عليه السلام) ساجداً في مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: فجلست حتى أطلت، ثم قلت: لأسبحن ما دام ساجداً، فقلت: سبحان ربي وبحمده، أستغفر ربي وأتوب إليه ثلاثمائة ونيفاً وستين مرة. فرفع رأسه(4).
روي عن معاوية بن وهب، قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) بالمدينة، وهو راكب على حمار له، فنزلنا وقد كنا صرنا إلى السوق، فسجد سجدةً طويلةً،
ص: 195
وأنا أنظر إليه، ثم رفع رأسه، فسألته عن ذلك؟. فقال: «إني ذكرت نعمة اللّه عليَّ». فقلت: ففي السوق والناس يجيئون ويذهبون!. فقال: «إنه لم يرني أحد منهم غيرك»(1).
عن حفص بن غياث، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يتخلل بساتين الكوفة، فانتهى إلى نخلة، فتوضأ عندها، ثم ركع وسجد، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة، ثم استند إلى النخلة، فدعا بدعوات، ثم قال: «يا حفص، إنها واللّه النخلة التي قال اللّه جل وعزّ لمريم (عليها السلام) : {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}(2)»(3).
عن سليمان بن خالد، عن عامل كان لمحمد بن راشد، قال: حضرت عشاء جعفر بن محمد (عليه السلام) في الصيف، فأُتي بخوان عليه خبز، وأُتي بقصعة فيها ثريد ولحم يفور. فوضع يده فيها، فوجدها حارةً، ثم رفعها وهو يقول: «نستجير باللّه من النار، نعوذ باللّه من النار، نحن لا نقوى على هذا، فكيف النار!».
وجعل يكرر هذا الكلام، حتى أمكنت القصعة(4).
ص: 196
عن هشام بن سالم، قال: كان أبو عبد اللّه (عليه السلام) إذا أعتم وذهب من الليل شطره، أخذ جراباً فيه خبز ولحم ودراهم، فحمله على عنقه، ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة، فقسمه فيهم ولا يعرفونه.
فلما مضى أبو عبد اللّه (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان أبا عبد اللّه (عليه السلام) (1).
ص: 197
13
عن محمد بن زيد الشحام - في رواية - قال: قلت للإمام الصادق (عليه السلام) : علمني دعاءً؟. قال: «اكتب: يَا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُل خَيْرٍ، وَآمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُل عَثْرَةٍ، يَا مَنْ يُعْطِي الْكَثِيرَ بِالْقَلِيلِ، وَيَا مَنْ أَعْطَى مَنْ سَأَلَهُ، تَحَنناً مِنْهُ وَرَحْمَةً، يَا مَنْ أَعْطَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، صَل عَلَى مُحَمدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَعْطِنِي بِمَسْأَلَتِكَ خَيْرَ الدنْيَا وَجَمِيعَ خَيْرِ الآخِرَةِ، فَإِنهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ مَا أَعْطَيْتَ، وَزِدْنِي مِنْ سَعَةِ فَضْلِكَ يَا كَرِيمُ - ثُم رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ - يَا ذَا المَنّ وَالطَوْلِ، يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، يَا ذَا النعْمَاءِ وَالجُودِ، ارْحَمْ شَيْبَتِي مِنَ النارِ».
ثم وضع يديه على لحيته ولم يرفعهما، إلا وقد امتلأ ظهر كفيه دموعاً(1).
عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول - وهو رافع يده إلى السماء -: «رَبِّ لا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً، لا أقَل مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ»،
ص: 198
قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته. ثم أقبل عليَّ فقال: «يا ابن أبي يعفور، إن يونس بن متى وكله اللّه عز وجل إلى نفسه أقل من طرفة عين، فأحدث ذلك الذنب». قلت: فبلغ به كفراً أصلحك اللّه؟. قال: «لا، ولكن الموت على تلك الحال هلاك»(1).
والذنب هنا أي ما يخالف الأمر الإرشادي، وإلا فالنبي معصوم بلا شك، والهلاك نسبي أي ما يوجب الضرر، أو فوت المصلحة في مخالفة الأمر الإرشادي.
عن أبي الطيار، قال: قلت لأبي عبد اللّه: إنه كان في يدي شيء فتفرق، وضقت به ضيقاً شديداً. فقال لي: «أ لك حانوت في السوق؟». فقلت: نعم، وقد تركته. فقال: «إذا رجعت إلى الكوفة، فاقعد في حانوتك واكنسه، وإذا أردت أن تخرج إلى سوقك، فصل ركعتين أو أربع ركعات، ثم قل في دبر صلاتك: «تَوَجَّهْتُ بِلاَ حَوْلٍ مِني وَلاَ قُوةٍ، وَلَكِنْ بِحَوْلِكَ وَقُوتِكَ، أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الحَوْلِ وَالْقُوةِ إِلا بِكَ، فَأَنْتَ حَوْلِي وَمِنْكَ قُوتِي. اللّهُم فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ الْوَاسِعِ، رِزْقاً كَثِيراً طَيباً وَأَنَا خَافِضٌ فِي عَافِيَتِكَ؛ فَإِنهُ لاَ يَمْلِكُهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ».
قال: ففعلت ذلك، وكنت أخرج إلى دكاني، حتى خفت أن يأخذني الجابي بأجرة دكاني وما عندي شيء - قال - فجاء جالب بمتاع، فقال لي: تكريني نصف بيتك. فأكريته نصف بيتي بكرى البيت كله - قال - وعرض عليَّ متاعه، فأعطي
ص: 199
به شيئاً لم يبعه. فقلت له: هل لك إلى خير، تبيعني عدلاً من متاعك هذا، أبيعه وآخذ فضله، وأدفع إليك ثمنه. قال: فكيف لي بذلك. قال: قلت له: لك اللّه عليَّ بذلك. قال: فخذ عدلاً منها. قال: فأخذته ورقمته، وجاء برد شديد، فبعت المتاع من يومي، ودفعت إليه الثمن فأخذت الفضل. فما زلت آخذ عدلاً وأبيعه، وآخذ فضله وأرد عليه رأس المال، حتى ركبت الدواب، واشتريت الرقيق، وبنيت الدور(1).
في دعوات الراوندي: كان الصادق (عليه السلام) تحت الميزاب ومعه جماعة، إذ جاءه شيخ فسلم، ثم قال: يا ابن رسول اللّه، إني لأحبكم أهل البيت وأبرأ من عدوكم، وإني بليت ببلاء شديد، وقد أتيت البيت متعوذاً به، وَتعلقت بأستاره، ثم أقبلت إليك، وأنا أرجو أن يكون سبب عافيتي مما أجد، ثم بكى وأكب على أبي عبد اللّه (عليه السلام) يقبل رأسه ورجليه، وجعل أبو عبد اللّه (عليه السلام) يتنحى عنه، فرحمه وبكى ثم قال: «هذا أخوكم، وقد أتاكم متعوذاً بكم، فارفعوا أيديكم». فرفع أبو عبد اللّه (عليه السلام) يديه ورفعنا أيدينا، ثم قال: «اللّهُم إِنكَ خَلَقْتَ هَذِهِ النفْسَ مِنْ طِينَةٍ أَخْلَصْتَهَا، وَجَعَلْتَ مِنْهَا أَوْلِيَاءَكَ وَأَوْلِيَاءَ أَوْلِيَائِكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُنَحيَ عَنْهَا الآفَاتِ فَعَلْتَ. اللّهُم وَقَدْ تَعَوذْنَا بِبَيَتْكِ الحَرَامِ، الذِي يَأْمَنُ بِهِ كُل شَيْءٍ. اللّهُم وَقَدْ تَعَوذَ بِنَا، وَأَنَا أَسْأَلُكَ يَا مَنِ احْتَجَبَ بِنُورِهِ عَنْ خَلْقِهِ، أَسْأَلُكَ بِحَق مُحَمدٍ وَعَلِي وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، يَا غَايَةَ كُل مَحْزُونٍ وَمَلْهُوفٍ، وَمَكْرُوبٍ
ص: 200
وَمُضْطَر مُبْتَلًى، أَنْ تُؤْمِنَهُ بِأَمَانِنَا مِما يَجِدُ، وَأَنْ تَمْحُوَ مِنْ طِينَتِهِ مَا قُدرَ عَلَيْهَا مِنَ الْبَلاَءِ، وَأَنْ تُفَرجَ كُرْبَتَهُ يَا أَرْحَمَ الراحِمِينَ».
فلما فرغ من الدعاء انطلق الرجل، فلما بلغ باب المسجد رجع وبكى، ثم قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته، واللّه ما بلغت باب المسجد وبي مما أجد قليل ولا كثير، ثم ولى(1).
عن إسحاق وإسماعيل ويونس بني عمار، أنه استحال وجه يونس إلى البياض، فنظر الصادق (عليه السلام) إلى جبهته، فصلى ركعتين، ثم حمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم قال: «يَا اللّهُ يَا اللّهُ يَا اللّهُ، يَا رَحْمَانُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحْمَانُ، يَا رَحِيمُ يَا رَحِيمُ يَا رَحِيمُ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يَا سَمِيعَ الدَّعَوَاتِ، يَا مُعْطِيَ الخَيْرَاتِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ الطَّيِّبِينَ، وَاصْرِفْ عَنِّي شَرَّ الدُّنْيَا وَشَرَّ الآخِرَةِ، وَأَذْهِبْ عَنِّي مَا بِي، فَقَدْ غَاظَنِي ذَلِكَ وَأَحْزَنَنِي». قال: فو اللّه ما خرجنا من المدينة حتى تناثر عن وجهه مثل النخالة وذهب، قال الحكم بن مسكين: ورأيت البياض بوجهه ثم انصرف وليس في وجهه شيء(2).
عن يونس بن عمار، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن لي جاراً من قريش
ص: 201
من آل محرز، قد نوه باسمي، وشهرني في كل ما مررت به، قال: هذا الرافضي يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد. قال: فقال لي: «فادع اللّه عليه، إذا كنت في صلاة الليل وأنت ساجد في السجدة الأخيرة من الركعتين الأولتين، فاحمد اللّه عز وجل ومجده، وقل: «اللّهُم إِن فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ قَدْ شَهَرَنِي وَنَوهَ بِي، وَغَاظَنِي وَعَرَضَنِي لِلْمَكَارِهِ. اللّهُم اضْرِبْهُ بِسَهْمٍ عَاجِلٍ تَشْغَلْهُ بِهِ عَني. اللّهُم وَقَربْ أَجَلَهُ، وَاقْطَعْ أَثَرَهُ، وَعَجلْ ذَلِكَ يَا رَب الساعَةَ، الساعَةَ».
قال: فلما قدمنا إلى الكوفة قدمنا ليلاً. فسألت أهلنا عنه، قلت: ما فعل فلان؟. فقالوا: هو مريض. فما انقضى آخر كلامي، حتى سمعت الصياح من منزله، وقالوا: قد مات(1).
وكان من دعائه (عليه السلام) : أن يقول قبل أن يطلب حاجته: «يَا رَبِّ يَا رَبِّ» حتى ينقطع نفسه، ثم يقول: «رَبِّ رَبِّ» حتى ينقطع نفسه، ثم يقول: «يا اللّهُ يا اللّهُ» ينقطع نفسه، ثم يقول: «يا حَيُّ يا حَيُّ» حتى بنقطع نفسه، ثم يقول: «يا رَحِيمُ يا رَحِيمُ» حتى ينقطع نفسه، ثم يقول: «يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ» حتى انقطع نفسه سبع مرات(2).
ص: 202
14
كان الإمام الصادق (عليه السلام) بأفعاله وأقواله مربياً للأُمة نحو الفضيلة والخير.
عن سماعة، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلوا قليل الذنوب؛ فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً. وخافوا اللّه في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة اللّه، وأصدقوا الحديث، وأدوا الأمانة؛ فإن ذلك لكم، ولا تظلموا، ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم؛ فإن ذلك عليكم»(1).
وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «اتقوا هذه المحقرات من الذنوب؛ فإن لها طالباً لا يغفل. ولا يقول أحدكم: أذنبت واستغفر اللّه؛ إن اللّه يقول: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(2)»(3).
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يشجع على الزواج، ويبين حقوق الزوجين، وما يلزم في الحياة الزوجية السعيدة.
ص: 203
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «أربعة ينظر اللّه عز وجل إليهم يوم القيامة: من أقال نادماً، أو أغاث لهفان، أو أعتق نسمةً، أو زوج عزباً»(1).
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره»(2).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) لضريس الكناني: «لِمَ سماك أبوك ضريساً؟». قال: كما سماك أبوك جعفراً. قال: «إنما سماك أبوك ضريساً بجهل؛ لأن لإبليس ابناً يقال له: ضريس، وإن أبي سماني جعفراً بعلم على أنه اسم نهر في الجنة، أ ما سمعت قول ذي الرمة:
أبكي الوليد أبا الوليد***أخا الوليد فتى العشيرة
قد كان غيثاً في السنين***وجعفراً غدقاً وميرة(3)
عن جرير بن مرازم، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني أريد العمرة، فأوصني؟. فقال: «اتق اللّه ولا تعجل». فقلت: أوصني. فلم يزدني على هذا،
ص: 204
فخرجت من عنده من المدينة، فلقيني رجل شامي يريد مكة فصحبني، وكان معي سفرة فأخرجتها وأخرج سفرته، وجعلنا نأكل. فذكر أهل البصرة فشتمهم، ثم ذكر أهل الكوفة فشتمهم، ثم ذكر الصادق (عليه السلام) فوقع فيه. فأردت أن أرفع يدي فأهشم أنفه، وأحدث نفسي بقتله أحياناً، فجعلت أتذكر قوله: اتق اللّه ولا تعجل، وأنا أسمع شتمه، فلم أَعْدُ ما أمرني(1).
عن مسمع بن عبد الملك، قال: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) بمنى، وبين أيدينا عنب نأكله. فجاء سائل فسأله، فأمر بعنقود فأعطاه. فقال السائل: لا حاجة لي في هذا، إن كان درهم. قال: «يسع اللّه عليك». فذهب ثم رجع فقال: ردوا العنقود. فقال: «يسع اللّه لك». ولم يعطه شيئاً، ثم جاء سائل آخر، فأخذ أبو عبد اللّه (عليه السلام) ثلاث حبات عنب فناولها إياه، فأخذها السائل من يده، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «مكانك». فحشا ملء كفيه عنباً فناولها إياه، فأخذها السائل من يده، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «مكانك. يا غلام، أي شيء معك من الدراهم». فإذا معه نحو من عشرين درهماً فيما حزرناه أو نحوها، فناولها إياه فأخذها، ثم قال: الحمد لله، هذا منك وحدك لا شريك لك. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «مكانك». فخلع قميصاً كان عليه، فقال: «البس هذا». فلبسه، فقال: الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبد اللّه - أو قال - جزاك اللّه خيراً. لم يدع
ص: 205
لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إلا بذا، ثم انصرف فذهب. قال: فظننا أنه لو لم يدع له لم يزل يعطيه؛ لأنه كلما كان يعطيه حمد اللّه أعطاه(1).
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يأمر أصحابه بالعلم والتعلم والتعليم والكتابة.
عن محمد بن زيد الشحام - في رواية - قال: قلت للإمام الصادق (عليه السلام) : علمني دعاءً؟. قال: «اكتب: يَا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُل خَيْرٍ»، الدعاء(2).
عن زكريا بن إبراهيم، قال: كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقلت: إني كنت على النصرانية، وإني أسلمت. فقال: «وأي شيء رأيت في الإسلام؟». قلت: قول اللّه عز وجل: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ}(3). فقال: «لقد هداك اللّه - ثم قال - اللّهم اهده - ثلاثاً - سل عما شئت يا بني». فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم. فقال: «يأكلون لحم الخنزير؟». فقلت: لا، ولا يمسونه». فقال: «لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرن أحداً أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء اللّه». قال: فأتيته بمنى، والناس حوله كأنه معلم
ص: 206
صبيان، هذا يسأله، وهذا يسأله. فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمي، وكنت أطعمها، وأفلي ثوبها ورأسها، وأخدمها. فقالت لي: يا بني، ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت، فدخلت في الحنيفية؟!. فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا. فقالت: هذا الرجل هو نبي؟. فقلت: لا، ولكنه ابن نبي. فقالت: يا بني إن هذا نبي. إن هذه وصايا الأنبياء. فقلت: يا أمه، إنه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه ابنه. فقالت: يا بني، دينك خير دين، اعرضه عليَّ. فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام وعلمتها، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض بها عارض في الليل. فقالت: يا بني، أعد عليَّ ما علمتني؟. فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها، وكنت أنا الذي صليت عليها، ونزلت في قبرها(1).
عن أبي عمارة الطيار، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني قد ذهب مالي، وتفرق ما في يدي، وعيالي كثير. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إذا قدمت الكوفة، فافتح باب حانوتك، وابسط بساطك، وضع ميزانك، وتعرض لرزق ربك». فلما أن قدم الكوفة، فتح باب حانوته، وبسط بساطه، ووضع ميزانه. قال: فتعجب من حوله، بأن ليس في بيته قليل ولا كثير من المتاع، ولا عنده شيء. قال: فجاءه رجل فقال: اشتر لي ثوباً. قال: فاشترى له، وأخذ ثمنه، وصار الثمن إليه، ثم جاءه آخر فقال: اشتر لي ثوباً. قال: فجلب له في السوق، ثم اشترى له ثوباً، فأخذ ثمنه فصار في يده، وكذلك يصنع التجار، يأخذ بعضهم
ص: 207
من بعض. ثم جاءه رجل آخر فقال له: يا أبا عمارة، إن عندي عدلاً من كتان، فهل تشتريه وأؤخرك بثمنه سنةً؟. فقال: نعم، احمله وجئ به. قال: فحمله إليه، فاشتراه منه بتأخير سنة. قال: فقام الرجل فذهب، ثم أتاه آت من أهل السوق. فقال: يا أبا عمارة، ما هذا العدل؟. قال: هذا عدل اشتريته. فقال: فتبيعني نصفه، وأعجل لك ثمنه؟. قال: نعم. فاشتراه منه، وأعطاه نصف المتاع، فأخذ نصف الثمن. قال: فصار في يده الباقي إلى سنة. قال: فجعل يشتري بثمنه الثوب والثوبين، ويعرض ويشتري ويبيع، حتى أثرى وعرض وجهه، وأصاب معروفاً(1).
عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: كان رجل من أصحابنا بالمدينة، فضاق ضيقاً شديداً، واشتدت حاله. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «اذهب فخذ حانوتاً في السوق، وابسط بساطاً، وليكن عندك جرة من ماء، والزم باب حانوتك». قال: ففعل الرجل، فمكث ما شاء اللّه - قال - ثم قدمت رفقة من مصر، فألقوا متاعهم كل رجل منهم عند معرفته وعند صديقه، حتى ملئوا الحوانيت، وبقي رجل لم يصب حانوتاً يلقي فيه متاعه. فقال له أهل السوق: ها هنا رجل ليس به بأس، وليس في حانوته متاع، فلو ألقيت متاعك في حانوته. فذهب إليه فقال له: ألقي متاعي في حانوتك؟. فقال له: نعم. فألقى متاعه في حانوته، وجعل يبيع متاعه الأول فالأول، حتى إذا حضر خروج الرفقة، بقي عند الرجل شيء يسير من
ص: 208
متاعه، فكره المقام عليه. فقال لصاحبنا: أخلف هذا المتاع عندك تبيعه، وتبعث إليَّ بثمنه. قال: فقال: نعم. فخرجت الرفقة وخرج الرجل معهم، وخلف المتاع عنده، فباعه صاحبنا وبعث بثمنه إليه. قال: فلما أن تهيأ خروج رفقة مصر من مصر، بعث إليه ببضاعة، فباعها ورد إليه ثمنها، فلما رأى ذلك منه الرجل، أقام بمصر وجعل يبعث إليه بالمتاع ويجهز عليه. قال: فأصاب وكثر ماله وأثرى(1).
عن سدير الصيرفي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) وعنده جماعة من أهل الكوفة، فأقبل عليهم وقال لهم: «حجوا قبل أن لا تحجوا، قبل أن يمنع البر جانبه، حجوا قبل هدم مسجد بالعراق بين نخل وأنهار، حجوا قبل أن تقطع سدرة بالزوراء على عروق النخلة التي اجتنت منها مريم (عليه السلام) رطباً جنياً، فعند ذلك تمنعون الحج، وتنقص الثمار، وتجدب البلاد، وتبتلون بغلاء الأسعار، وجور السلطان، ويظهر فيكم الظلم والعدوان مع البلاء والوباء والجوع، وتظلكم الفتن من جميع الآفاق. فويل لكم يا أهل العراق إذا جاءتكم الرايات من خراسان، وويل لأهل الري من الترك، وويل لأهل العراق من أهل الري، وويل لهم ثم ويل لهم من الثط». قال سدير: فقلت: يا مولاي من الثط؟. قال: «قوم آذانهم كآذان الفأر صغراً، لباسهم الحديد، كلامهم ككلام الشياطين، صغار الحدق، مرد جرد، استعيذوا باللّه من شرهم، أولئك يفتح اللّه على أيديهم الدين، ويكونون سبباً لأمرنا»(2).
ص: 209
عن الشقراني - مولى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) -: خرج العطاء أيام أبي جعفر وما لي شفيع، فبقيت على الباب متحيراً، وإذا أنا بجعفر الصادق (عليه السلام) فقمت إليه. فقلت له: جعلني اللّه فداك، أنا مولاك الشقراني. فرحب بي، وذكرت له حاجتي، فنزل ودخل وخرج، وأعطاني من كمه، فصبه في كمي. ثم قال: «يا شقراني، إن الحسن من كل أحد حسن، وإنه منك أحسن لمكانك منا. وإن القبيح من كل أحد قبيح، وإنه منك أقبح». وعظه على جهة التعريض؛ لأنه كان يشرب(1).
ص: 210
15
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يحث على رعاية الحقوق، حق اللّه، وحق الناس، وحق الإنسان على نفسه، وسائر الحقوق، الواجبة والمستحبة.
عن إسحاق بن عمار، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فنظر إلي بوجه قاطب. فقلت: ما الذي غيرك لي؟. قال (عليه السلام) : «الذي غيرك لإخوانك. بلغني - يا إسحاق - أنك أقعدت ببابك بواباً يرد عنك فقراء الشيعة». فقلت: جعلت فداك، إني خفت الشهرة. فقال (عليه السلام) : «أفلا خفت البلية. أ وما علمت أن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا، أنزل اللّه عز وجل الرحمة عليهما، فكانت تسعة وتسعين لأشدهما حباً لصاحبه، فإذا توافقا غمرتهما الرحمة، فإذا قعدا يتحدثان، قالت الحفظة بعضها لبعض: اعتزلوا بنا فلعل لهما سراً، وقد ستر اللّه عليهما». فقلت: أ ليس اللّه عز وجل يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(1)؟». فقال (عليه السلام) : «يا إسحاق، إن كانت الحفظة لا تسمع، فإن عالم السر يسمع ويرى»(2).
ص: 211
عن علاء بن صالح، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أنصف الناس من نفسك، وواسهم من مالك، وارض لهم ما ترضى لنفسك، واذكر اللّه كثيراً»(1).
وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، قال: «كان أبي (عليه السلام) يبعث أُمي وأُم فروة تقضيان حقوق أهل المدينة»(2).
عن يونس بن عمار، قال: زوجني أبو عبد اللّه (عليه السلام) جارية كانت لإسماعيل ابنه. فقال: «أحسن إليها». قلت: وما الإحسان إليها؟. قال: «أشبع بطنها، واكس جثتها، واغفر ذنبها»(3).
روى الكليني في الكافي بسنده: أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) على أثره لما أبطأ عليه، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه يروحه حتى انتبه. فلما انتبه قال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا فلان، واللّه ما ذاك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار»(4).
عن مالك الجهني - في حديث - عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «وكذلك لا
ص: 212
يقدر أحد أن يصف حق المؤمن، ويقوم به كما أوجب اللّه له على أخيه المؤمن. يا مالك، إن المؤمنين ليلتقيان فيصافح كل واحد منهما صاحبه، فلا يزال اللّه ناظراً إليهما بالمحبة والمغفرة، وإن الذنوب لتتحات عن وجوههما حتى يفترقا، فمن يقدر على صفة من هو هكذا عند اللّه تعالى»(1).
التمس محمد بن سعيد من الصادق (عليه السلام) رقعةً إلى محمد بن أبي حمزة الثمالي في تأخير خراجه. فقال (عليه السلام) قل له: «سمعت جعفر بن محمد يقول: من أكرم لنا موالياً فبكرامة اللّه تعالى بدأ، ومن أهانه فلسخط اللّه تعرض، ومن أحسن إلى شيعتنا فقد أحسن إلى أمير المؤمنين، ومن أحسن إلى أمير المؤمنين فقد أحسن إلى رسول اللّه، ومن أحسن إلى رسول اللّه فقد أحسن إلى اللّه، ومن أحسن إلى اللّه كان واللّه معنا في الرفيع الأعلى». قال: فأتيته وذكرته، فقال: باللّه سمعت هذا الحديث من الصادق (عليه السلام) ؟. فقلت: نعم. فقال: اجلس - ثم قال - يا غلام، ما على محمد بن سعيد من الخراج؟. قال: ستون ألف درهم. قال: امح اسمه من الديوان. وأعطاني بدرةً، وجاريةً، وبغلةً بسرجها ولجامها. قال: فأتيت أبا عبد اللّه، فلما نظر إليَّ تبسم. فقال: «يا أبا محمد، تحدثني أو أحدثك». فقلت: يا ابن رسول اللّه منك أحسن. فحدثني واللّه الحديث كأنه حاضر معي(2).
ص: 213
عن محمد بن جمهور، قال: كان النجاشي - وهو رجل من الدهاقين - عاملاً على الأهواز وفارس. فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن في ديوان النجاشي عليَّ خراجاً، وهو مؤمن يدين بطاعتك، فإن رأيت أن تكتب إليه كتاباً. قال: فكتب إليه أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، سر أخاك يسرك اللّه». قال: فلما ورد الكتاب عليه، دخل عليه وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب، وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقبله ووضعه على عينيه. وقال له: ما حاجتك؟. قال: خراج عليَّ في ديوانك. فقال له: وكم هو؟. قال: عشرة آلاف درهم. فدعا كاتبه وأمره بأدائها عنه، ثم أخرجه منها، وأمر أن يثبتها له لقابل، ثم قال له: سررتك؟. فقال: نعم جعلت فداك. ثم أمر بمركب، وجارية، وغلام، وأمر له بتخت ثياب، في كل ذلك يقول: هل سررتك؟. فيقول: نعم جعلت فداك. فكلما قال: نعم، زاده حتى فرغ. ثم قال له: احمل فرش هذا البيت، الذي كنت جالساً فيه، حين دفعت إليَّ كتاب مولاي الذي ناولتني فيه، وارفع إلي حوائجك. قال: ففعل. وخرج الرجل، فصار إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) بعد ذلك، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يسر بما فعل. فقال الرجل: يا ابن رسول اللّه، كأنه قد سرك ما فعل بي!. فقال: «إي واللّه، لقد سر اللّه ورسوله»(1).
ص: 214
16
كان الإمام الصادق (عليه السلام) عِدلاً للقرآن الكريم كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) ، حيث قال عنهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كتاب اللّه وعترتي»(1).
فكان (عليه السلام) ناشراً لعلوم القرآن وأحكامه، وكان يبين تفسيره وتأويله، ومعانيه وبطونه.
روي أن لأبي عبد اللّه (عليه السلام) كان مولًى يقال له: مسلم، وكان لا يحسن القرآن، فعلمه في ليلة، فأصبح وقد أحكم القرآن(2).
عن حسين بن خالد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قلت له: في كم أقرأ القرآن؟. فقال: «اقرأه أخماساً، اقرأه أسباعاً. أما إن عندي مصحف مجزى أربعة
ص: 215
عشر جزءاً»(1).
روي أن مولانا الصادق (عليه السلام) كان يتلو القرآن في صلاته، فغشي عليه، فلما أفاق سئل ما الذي أوجب ما انتهت حالك إليه؟!. فقال - ما معناه -: «ما زلت أكرر آيات القرآن، حتى بلغت إلى حال كأنني سمعت مشافهةً ممن أنزلها على المكاشفة والعيان»(2).
عن موسى بن أشيم، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فسأله رجل عن آية من كتاب اللّه عز وجل، فأخبره بها. ثم دخل عليه داخل، فسأله عن تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبر الأول. فدخلني من ذلك ما شاء اللّه، حتى كان قلبي يشرح بالسكاكين. فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه، وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله. فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليه آخر، فسأله عن تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي، فسكنت نفسي، فعلمت أن ذلك منه تقية - قال - ثم التفت إليَّ فقال لي: «يا ابن أشيم، إن اللّه عز وجل فوض إلى سليمان بن داود (عليه السلام) فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(3)، وفوض إلى نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
ص: 216
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1)، فما فوض إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد فوضه إلينا»(2).
وهذه الرواية تدل على علمه (عليه السلام) بمعاني الآيات وبطونها.
عن داود بن أعين، قال: تفكرت في قول اللّه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(3)، قلت: خلقوا للعبادة، ويعصون ويعبدون غيره، واللّه لأسألن جعفراً عن هذه الآية. فأتيت الباب، فجلست أريد الدخول عليه، إذ رفع صوته فقرأ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ثم قرأ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}(4)، فعرفت أنها منسوخة.
أقول: ليس المراد النسخ بالمعنى المصطلح، بل ربما يكون قول الإمام (عليه السلام) إشارة إلى أن الهدف من الخلقة العبادة، ولكن مع حفظ حرية الإنسان واختياره، فلا يكون جبراً وكرهاً، فالمقتضي للعبادة موجود في كل من الإنس والجن، ولكن قد يطيع الشيطان ويخالف الرحمان.
دخل عمرو بن عبيد على الصادق (عليه السلام) ، وقرأ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}(5) وقال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه؟. فقال (عليه السلام) : «نعم يا
ص: 217
عمرو، ثم فصله بأن الكبائر: الشرك باللّه {إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}(1)، واليأس {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ}(2)، وعقوق الوالدين؛ لأن العاق جبار شقي {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}(3)، وقتل النفس {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا}(4)، وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا}(5)، والفرار من الزحف {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}(6)، وأكل الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}(7)، والسحر {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ}(8)، والزناء {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}(9)، واليمين الغموس {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا}(10)، والغلول {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ}(11)، ومنع الزكاة {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(12)، وشهادة الزور وكتمان الشهادة {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ}(13)، وشرب الخمر؛ لقوله (عليه السلام) : (شارب الخمر كعابد وثن)، وترك الصلاة؛ لقوله (من ترك
ص: 218
الصلاة متعمداً فقد برئ من ذمة اللّه وذمة رسوله)، ونقض العهد وقطيعة الرحم {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ}(1)، وقول الزور {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(2)، والجرأة على اللّه {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ}(3)، وكفران النعمة {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(4)، وبخس الكيل والوزن {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}(5)، واللواط {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ}(6)، والبدعة؛ قوله (عليه السلام) : (من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه)».
قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه، وهو يقول: هلك من سلب تراثكم، ونازعكم في الفضل والعلم(7).
عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن، قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، فقال له: أ ليس اللّه حكيماً؟. قال: بلى، وهو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}(8) أ ليس هذا فرض؟. قال: بلى. قال: فأخبرني عن قوله عز وجل: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ
ص: 219
الْمَيْلِ}(1) أي حكيم يتكلم بهذا؟. فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا هشام، في غير وقت حج ولا عمرة!». قال: نعم جعلت فداك، لأمر أهمني. إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء. قال: «وما هي؟». قال: فأخبره بالقصة. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أما قوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} يعني في النفقة، وأما قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني في المودة». قال: فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره. قال: واللّهِ ما هذا من عندك(2).
روي: أن ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدهرية، اتفقوا على أن يعارض كل واحد منهم ربع القرآن، وكانوا بمكة عاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل. فلما حال الحول، واجتمعوا في مقام إبراهيم أيضاً، قال أحدهم: إني لما رأيت قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ}(3) كففت عن المعارضة.
وقال الآخر: وكذا أنا لما وجدت قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}(4) أيست من المعارضة.
وكانوا يسرون بذلك، إذ مر عليهم الصادق (عليه السلام) ، فالتفت إليهم وقرأ عليهم:
ص: 220
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(1). فبهتوا(2).
عن ذريح المحاربي، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن اللّه أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعلمه؟. قال: «وما ذاك». قلت: قول اللّه عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}(3)؟. قال: «{لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}: لقاء الإمام، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}: تلك المناسك». قال عبد اللّه بن سنان: فأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقلت: جعلني اللّه فداك، قول اللّه عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}؟. قال: «أخذ الشارب، وقص الأظفار، وما أشبه ذلك». قال: قلت: جعلت فداك، فإن ذريحاً المحاربي حدثني عنك أنك قلت له: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}: لقاء الإمام، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}: تلك المناسك!. فقال: «صدق ذريح وصدقت أنت. إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح»(4).
وسأله (عليه السلام) أبو حنيفة عن قوله: {وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(5). فقال (عليه السلام) : «ما تقول فيها يا أبا حنيفة؟». فقال: أقول: إنهم لم يكونوا مشركين. فقال أبو عبد
ص: 221
اللّه (عليه السلام) : «قال اللّه تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}(1)». فقال: ما تقول فيها يا ابن رسول اللّه؟. فقال: «هؤلاء قوم من أهل القبلة أشركوا من حيث لا يعلمون»(2).
عن زيد الشحام، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) - ونحن في الطريق في ليلة الجمعة -: «اقرأ؛ فإنها ليلة الجمعة قرآناً». فقرأت: {إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ} كان {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللّهُ}(3). فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «نحن واللّه الذي رحم اللّه، ونحن واللّه الذي استثنى اللّه، ولكنا نغني عنهم»(4).
عن أبي حمزة، قال: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) جماعةً، فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذةً وطيباً، وأوتينا بتمر ننظر فيه إلى وجوهنا من صفائه وحسنه. فقال رجل: لتسألن عن هذا النعيم الذي نعمتم به عند ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن اللّه عز وجل أكرم وأجل من أن يطعمكم طعاماً فيسوغكموه ثم يسألكم عنه، ولكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(5).
ص: 222
في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنه تلا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(1) ثم قال: «نحن واللّه المحسودون»(2).
دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) الحسن بن صالح بن حي. فقال له: يا ابن رسول اللّه، ما تقول في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(3)، من أولي الأمر الذين أمر اللّه بطاعتهم؟. قال: «العلماء». فلما خرجوا قال الحسن: ما صنعنا شيئاً إلا سألناه من هؤلاء العلماء. فرجعوا إليه فسألوه، فقال: «الأئمة منا أهل البيت»(4).
عن داود بن كثير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) بالمدينة. فقال لي: «ما الذي أبطأ بك يا داود عنا!». فقلت: حاجة عرضت بالكوفة. فقال: «من خلفت بها؟». فقلت: جعلت فداك، خلفت بها عمك زيداً، تركته راكباً على فرس متقلداً سيفاً، ينادي بأعلى صوته: سلوني سلوني، قبل أن تفقدوني، في جوانحي علم جم، قد عرفت الناسخ من المنسوخ، والمثاني والقرآن العظيم، وإني العلم بين اللّه وبينكم. فقال لي: «يا داود، لقد ذهبت بك المذاهب - ثم نادى - يا سماعة
ص: 223
بن مهران، ائتني بسلة الرطب». فتناول منها رطبةً فأكلها، واستخرج النواة من فيه، فغرسها في أرض، ففلقت وأنبتت وأطلعت وأعذقت، فضرب بيده إلى بسرة من عذق، فشقها واستخرج منها رقاً أبيض، ففضه ودفعه إليَّ، وقال: «اقرأه». فقرأته وإذا فيه سطران: السطر الأول: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. والثاني: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ}(1)، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين، محمد بن علي، جعفر بن محمد، موسى بن جعفر، علي بن موسى، محمد بن علي، علي بن محمد، الحسن بن علي، الخلف الحجة - ثم قال - يا داود أ تدري متى كتب هذا في هذا؟». قلت: اللّه أعلم ورسوله وأنتم. قال: «قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام»(2).
عن عبد العظيم الحسني، عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام) ، قال: «دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فلما سلم وجلس عنده، تلا هذه الآية قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ}(3)، ثم سأل عن الكبائر، فأجابه (عليه السلام) . فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه، وهو يقول: هلك واللّه من قال برأيه، ونازعكم في الفضل والعلم»(4).
ص: 224
عن سفيان، قال: قال لي أبو عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) : «يا سفيان، لا تذهبن بك المذاهب، عليك بالقصد، وعليك أن تتبع الهدى». قلت: يا ابن رسول اللّه، وما اتباع الهدى؟. قال: «كتاب اللّه، ولزوم هذا الرجل». قال: فقال لي: «يا سفيان، أنت لا تدري من هو؟. قلت: لا واللّه يا ابن رسول اللّه، لا واللّه ما أدري من هو. قال: فقال لي: «واللّهِ لكنك آثرت الدنيا على الآخرة، ومن آثر الدنيا على الآخرة حشره اللّه يوم القيامة أعمى». قال: قلت: يا ابن رسول اللّه، أخبرني مَن هذا الرجل؛ لعل اللّه ينفعني به؟». قال: «يا سفيان، هو واللّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، من اتبعه فقد أعطي ما لم يعط أحداً، ومن لم يتبعه فقد خسر خسراناً مبيناً. هو واللّهِ جدنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) . يا سفيان، إن أردت العروة الوثقى فعليك بعلي؛ فإنه واللّه ينجيك من العذاب. يا سفيان، لا تتبع هواك فتضل عن سواء السبيل»(1).
قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن اللّه خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه. بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء، وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد اللّه، ولولا نحن ما عبد اللّه»(2).
ص: 225
عن داود بن كثير الرقي، قال: كنا في منزل أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ونحن نتذاكر فضائل الأنبياء. فقال (عليه السلام) مجيباً لنا: «واللّهِ ما خلق اللّه نبياً إلاّ ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل منه»(1).
عن عمرو بن أبي المقدام، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يوم عرفة بالموقف، وهو ينادي بأعلى صوته: «أيها الناس، إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان الإمام، ثم كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين،ثم محمد بن علي، ثم هه». فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه، وعن يساره، ومن خلفه اثني عشر صوتاً. وقال عمرو: فلما أتيت منى سألت أصحاب العربية عن تفسير هه؟. فقالوا: هه لغة بني فلان، أنا فاسألوني - قال - ثم سألت غيرهم أيضاً من أهل العربية فقالوا مثل ذلك(2).
روي عن الحسن بن سعيد، عن عبد العزيز القزاز، قال: كنت أقول بالربوبية فيهم، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «يا عبد العزيز، ضع ماءً أتوضأ». ففعلت، فلما دخل يتوضأ، قلت في نفسي: هذا الذي قلت فيه ما قلت يتوضأ!. فلما خرج قال: «يا عبد العزيز، لا تحمل على البناء فوق ما يطيق فيهدم، إنا
ص: 226
عبيد مخلوقون لعبادة اللّه عز وجل»(1).
وقال صالح بن سهل: كنت أقول في الصادق (عليه السلام) ما تقول الغلاة. فنظر إليَّ فقال: «ويحك يا صالح، إنا واللّه عبيد مخلوقون، لنا رب نعبده، وإن لم نعبده عذبنا»(2).
روي عن سليمان بن خالد، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وهو يكتب كتباً إلى بغداد، وأنا أريد أن أودعه. فقال: «تجيء إلى بغداد». قلت: بلى. قال: «تعين مولاي هذا بدفع كتبه».
ففكرت وأنا في صحن الدار أمشي، فقلت: هذا حجة اللّه على خلقه، يكتب إلى أبي أيوب الجزري وفلان وفلان يسألهم حوائجه. فلما صرنا إلى باب الدار صاح بي: «يا سليمان، ارجع أنت وحدك». فرجعت فقال: «كتبت إليهم لأخبرهم أني عبد، وبي إليهم حاجة»(3).
عن مالك الجهني، قال: كنا بالمدينة حين أجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحيةً، ثم خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم، وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشيء إذا نحن بأبي عبد اللّه (عليه السلام) واقف على
ص: 227
حمار، فلم ندر من أين جاء. فقال: «يا مالك ويا خالد، متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟». فقلنا: ما خطر ببالنا إلا الساعة. فقال: «اعلما أن لنا رباً يكلؤنا بالليل والنهار نعبده. يا مالك ويا خالد، قولوا فينا ما شئتم واجعلونا مخلوقين». فكررها علينا مراراً، وهو واقف على حماره(1).
عن المفضل بن عمر، قال: كنت أنا وخالد الجوان ونجم الحطيم وسليمان بن خالد على باب الصادق (عليه السلام) . فتكلمنا فيما يتكلم فيه أهل الغلو، فخرج علينا الصادق (عليه السلام) بلا حذاء ولا رداء، وهو ينتفض ويقول: «يا خالد، يا مفضل، يا سليمان، يا نجم، لا {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(2)»(3).
عن خالد بن نجيح الجواز، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وعنده خلق، فقنعت رأسي وجلست في ناحية، وقلت في نفسي: ويحكم! ما أغفلكم عند من تتكلمون، عند رب العالمين. قال: فناداني: «ويحك يا خالد! أنا واللّه عبد مخلوق، ولي رب أعبده، وإن لم أعبده، عذبني واللّه بالنار». فقلت: لا واللّه لا أقول فيك أبداً إلا قولك في نفسك»(4).
ص: 228
قال أبو العباس البقباق: تزارا ابن أبي يعفور والمعلى بن خنيس. فقال ابن أبي يعفور: الأوصياء علماء أتقياء أبرار. وقال ابن خنيس: الأوصياء أنبياء. قال: فدخلا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال - فلما استقر مجلسهما. قال (عليه السلام) : «أبرأ ممن قال إنا أنبياء»(1).
عن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فركض برجله الأرض، فإذا بحر فيه سفن من فضة. فركب وركبت معه، حتى انتهى إلى موضع فيه خيام من فضة، فدخلها ثم خرج، فقال: «رأيت الخيمة التي دخلتها أولاً؟». فقلت: نعم. قال: «تلك خيمة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والأخرى خيمة أمير المؤمنين والثالثة خيمة فاطمة، والرابعة خيمة خديجة، والخامسة خيمة الحسن، والسادسة خيمة الحسين، والسابعة خيمة علي بن الحسين، والثامنة خيمة أبي، والتاسعة خيمتي، وليس أحد منا يموت إلا وله خيمة يسكن فيها»(2).
عن داود بن كثير الرقي، قال: كنا في منزل أبي عبد اللّه، ونحن نتذاكر فضائل الأنبياء. فقال (عليه السلام) مجيباً لنا: «واللّهِ ما خلق اللّه نبياً إلاّ ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل منه». ثم خلع خاتمه ووضعه على الأرض، وتكلم بشيء فانصدعت الأرض وانفرجت
ص: 229
بقدرة اللّه عز وجل، فإذا نحن ببحر عجاج، في وسطه سفينة خضراء، من زبرجدة خضراء، في وسطها قبة من درة بيضاء، حولها دار خضراء، مكتوب عليه: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، بشر القائم؛ فإنه يقاتل الأعداء، ويغيث المؤمنين، وينصره عز وجل بالملائكة في عدد نجوم السماء. ثم تكلم (صلوات اللّه عليه) بكلام، فثار ماء البحر، وارتفع مع السفينة. فقال: «ادخلوها». فدخلنا القبة التي في السفينة، فإذا فيها أربعة كراسي من ألوان الجواهر، فجلس هو على أحدها، وأجلسني على واحد، وأجلس موسى (عليه السلام) وإسماعيل كل واحد منهما على كرسي، ثم قال (عليه السلام) للسفينة: «سيري بقدرة اللّه تعالى». فسارت في بحر عجاج بين جبال الدر واليواقيت، ثم أدخل يده في البحر، وأخرج درراً وياقوتاً. فقال: «يا داود، إن كنت تريد الدنيا فخذ حاجتك». فقلت: يا مولاي، لا حاجة لي في الدنيا. فرمى به في البحر، وغمس يده في البحر، وأخرج مسكاً وعنبراً فشمه، وشممني وشمم موسى وإسماعيل (عليه السلام) ، ثم رمى به في البحر، وسارت السفينة حتى انتهينا إلى جزيرة عظيمة، فيما بين ذلك البحر، وإذا فيها قباب من الدر الأبيض، مفروشة بالسندس والإستبرق،عليها ستور الأرجوان، محفوفة بالملائكة، فلما نظروا إلينا، أقبلوا مذعنين له بالطاعة، مقرين له بالولاية. فقلت: مولاي، لمن هذه القباب؟. فقال: «للأئمة من ذرية محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كلما قبض إمام صار إلى هذا الموضع، إلى الوقت المعلوم الذي ذكره اللّه تعالى - ثم قال (عليه السلام) - قوموا بنا حتى نسلم على أمير المؤمنين (عليه السلام) ». فقمنا وقام، ووقفنا بباب إحدى القباب المزينة، وهي أجلها وأعظمها، وسلمنا على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو قاعد فيها، ثم عدل إلى قبة أخرى وعدلنا معه، فسلم وسلمنا على الحسن بن علي (عليه السلام) ، وعدلنا منها
ص: 230
إلى قبة بإزائها، فسلمنا على الحسين بن علي (عليه السلام) ، ثم على علي بن الحسين، ثم على محمد بن علي (عليه السلام) ، كل واحد منهم في قبة مزينة مزخرفة. ثم عدل إلى بنية بالجزيرة وعدلنا معه، وإذا فيها قبة عظيمة من درة بيضاء، مزينة بفنون الفرش والستور، وإذا فيها سرير من ذهب مرصع بأنواع الجوهر.
فقلت: يا مولاي، لمن هذه القبة؟. فقال: «للقائم منا أهل البيت صاحب الزمان (عليه السلام) ». ثم أومأ بيده وتكلم بشيء، وإذا نحن فوق الأرض بالمدينة في منزل أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، وأخرج خاتمه، وختم الأرض بين يديه، فلم أر فيها صدعاً ولا فرجةً(1).
روي: أن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فلما رفع (عليه السلام) يده من أكله. قال: «الحمد لله رب العالمين، اللّهم إن هذا منك ومن رسولك». فقال أبو حنيفة: يا أبا عبد اللّه، أ جعلت مع اللّه شريكاً!. فقال له: «ويلك إن اللّه تعالى يقول في كتابه: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}(2)، ويقول في موضع آخر: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}(3)». فقال أبو حنيفة: واللّهِ لكأني ما قرأتهما قط من كتاب اللّه، ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «بلى قد قرأتهما وسمعتهما، ولكن اللّه تعالى أنزل فيك وفي أشباهك: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
ص: 231
أَقْفَالُهَا}(1)، وقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(2)»(3).
عن صفوان الجمال، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له - ثم قلت له - أشهد أن محمداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كان حجة اللّه على خلقه، ثم كان أمير المؤمنين (صلى اللّه عليه) وكان حجة اللّه على خلقه. فقال: «رحمك اللّه». ثم كان الحسن بن علي (صلى اللّه عليه) وكان حجة اللّه على خلقه. قال: «رحمك اللّه». ثم كان الحسين بن علي (عليه السلام) وكان حجة اللّه على خلقه. فقال: «رحمك اللّه». ثم كان علي بن الحسين (عليه السلام) وكان حجة اللّه على خلقه، وكان محمد بن علي وكان حجة اللّه على خلقه، وأنت حجة اللّه على خلقه. فقال: «رحمك اللّه»(4).
عن محمد بن الحسن بن زياد العطار، عن أبيه، قال: لما قدم زيد الكوفة، دخل قلبي من ذلك بعض ما يدخل - قال - فخرجت إلى مكة، ومررت بالمدينة، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وهو مريض، فوجدته على سرير مستلقياً عليه، وما بين جلده وعظمه شيء. فقلت: إني أحب أن أعرض عليك ديني. فانقلب
ص: 232
على جنبه، ثم نظر إليَّ. فقال: «يا حسن، ما كنت أحسبك إلا وقد استغنيت عن هذا - ثم قال - هات». فقلت: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أن محمداً رسول اللّه. فقال (عليه السلام) معي مثلها. فقلت: وأنا مقر بجميع ما جاء به محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - قال - فسكت. قلت: وأشهد أن علياً إمام بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرض طاعته، من شك فيه كان ضالاً، ومن جحده كان كافراً - قال - فسكت. قلت: وأشهد أن الحسن والحسين (عليه السلام) بمنزلته. حتى انتهيت إليه (عليه السلام) ، فقلت: وأشهد أنك بمنزلة الحسن والحسين ومن تقدم من الأئمة. قال: «كف، قد عرفت الذي تريد، ما تريد إلا أن أتولاك على هذا». قال: قلت: فإذا توليتني على هذا فقد بلغت الذي أردت. قال: «قد توليتك عليه»(1).
عن ابن أبي يعفور، قال: كان خطاب الجهني خليطاً لنا، وكان شديد النصب لآل محمد (عليهم السلام) ، وكان يصحب نجدة الحرورية - قال - فدخلت عليه أعوده للخلطة والتقية، فإذا هو مغمًى عليه في حد الموت، فسمعته يقول: ما لي ولك يا علي. فأخبرت بذلك أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «رآه ورب الكعبة، رآه ورب الكعبة»(2).
ثم إن مذهب الإمام الصادق (عليه السلام) هو مذهب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فإنه أخذ الفقه
ص: 233
عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين، عن رسول اللّه (صلوات اللّه عليهم أجمعين).
أما سائر المذاهب فلا تتصل برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنما كانوا يفتون بحسب آرائهم الشخصية ولا حجية فيها، أو بحسب أهواء السلاطين، أو ما أشبه.
عن محمد بن حكيم وصاحب له، قال أبو محمد: قد كان درس اسمه في كتاب أبي، قالا: رأينا شريكاً واقفاً في حائط من حيطان فلان، قد كان درس اسمه أيضاً في الكتاب. قال أحدنا لصاحبه: هل لك في خلوة من شريك. فأتيناه فسلمنا عليه، فرد علينا السلام. فقلنا: يا أبا عبد اللّه، مسألة. فقال: في أي شيء؟. فقلنا: في الصلاة. فقال: سلوا عما بدا لكم.
فقلنا: لا نريد أن تقول: قال فلان، وقال فلان، إنما نريد أن تسنده إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال: أ ليس في الصلاة!. فقلنا: بلى. فقال: سلوا عما بدا لكم. فقلنا: في كم يجب التقصير؟.
قال: كان ابن مسعود يقول: لا يغرنكم سوادنا هذا، وكان يقول فلان. قال: قلت: إنا استثنينا عليك ألا تحدثنا إلا عن نبي اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: واللّهِ إنه لقبيح بشيخ يسأل عن مسألة في الصلاة عن النبي لا يكون عنده فيها شيء، وأقبح من ذلك أن أكذب على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قلت: فمسألة أخرى. فقال: أليس في الصلاة. قلنا: بلى. قال: سلوا عما بدا لكم. قلنا: على من تجب صلاة الجمعة؟. قال: عادت المسألة جذعةً، ما عندي في هذا عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيء. قال: فأردنا الانصراف. قال: إنكم لم تسألوا عن هذا إلا وعندكم منه علم. قال: قلت: نعم، أخبرنا محمد بن مسلم الثقفي، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال: الثقفي الطويل اللحية؟. فقلنا: نعم.
ص: 234
قال: أ ما إنه لقد كان مأموناً على الحديث، ولكن كانوا يقولون: إنه خشبي - ثم قال - ما ذا روى؟. قلنا: عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أن التقصير يجب في بريدين. وإذ اجتمع خمسة أحدهم الإمام، فلهم أن يجمعوا»(1).
قوله: إنه خشبي، إي رافضي شيعي؛ لأن السلطات كانت تقتل الشيعة، وتصلبهم على الخشب.
قال الكميت: يا سيدي، أسألك عن مسألة. وكان متكئاً فاستوى جالساً، وكسر في صدره وسادةً، ثم قال: «سل». فقال: أسألك عن الرجلين؟. فقال: «يا كميت بن زيد، ما أهريق في الإسلام محجمة من دم، ولا اكتسب مال من غير حله، ولا نكح فرج حرام، إلا وذلك في أعناقهما إلى يوم القيامة حتى يقوم قائمنا. ونحن معاشر بني هاشم، نأمر كبارنا وصغارنا بسبهما، والبراءة منهما»(2).
روي أنه لما ظهر أبو الخطاب بالكوفة، وادعى في أبي عبد اللّه (عليه السلام) ما ادعاه، دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) مع عبيدة بن زرارة. فقلت له: جعلت فداك، لقد ادعى أبو الخطاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً، إنه لبى بلبيك جعفر لبيك معراج، وزعم أصحابه أن أبا الخطاب أسري به إليك، فلما هبط إلى الأرض دعا إليك،
ص: 235
ولذا لبى بك. قال: فرأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) قد أرسل دمعته من حماليق عينيه، وهو يقول: «يا رب، برئت إليك مما ادعى فيَّ الأجدع عبد بني أسد، خشع لك شعري وبشري، عبد لك ابن عبد لك، خاضع ذليل». ثم أطرق ساعةً في الأرض، كأنه يناجي شيئاً، ثم رفع رأسه وهو يقول: «أجل أجل، عبد خاضع خاشع، ذليل لربه، صاغر راغم، من ربه خائف وجل، لي واللّه رب أعبده، لا أشرك به شيئاً. ما له أخزاه اللّه وأرعبه ولا آمن روعته يوم القيامة، ما كانت تلبية الأنبياء هكذا، ولا تلبيتي ولا تلبية الرسل، إنما لبيت بلبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك». ثم قمنا من عنده، فقال: «يا زيد، إنما قلت لك هذا؛ لأستقر في قبري. يا زيد، استر ذلك عن الأعداء»(1).
روي عن داود بن كثير الرقي - في حديث - عن الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «واللّه لقد جلسا مجلس أمير المؤمنين (عليه السلام) غصباً، فلا غفر اللّه لهما، ولا عفا عنهما»(2).
عن محمد بن أبي كثير الكوفي، قال: كنت لا أختم صلاتي ولا أستفتحها إلا بلعنهما، فرأيت في منامي طائراً معه نور من الجوهر فيه شيء أحمر شبه الخلوق، فنزل إلى البيت المحيط برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم أخرج شخصين من الضريح، فخلقهما بذلك الخلوق في عوارضهما، ثم ردهما إلى الضريح وعاد مرتفعاً.
ص: 236
فسألت من حولي من هذا الطائر، وما هذا الخلوق؟. فقال: هذا ملك يجيء في كل ليلة جمعة يخلقهما. فأزعجني ما رأيت، فأصبحت لا تطيب نفسي بلعنهما، فدخلت على الصادق (عليه السلام) ، فلما رآني ضحك، وقال: «رأيت الطائر؟». فقلت: نعم يا سيدي. فقال: «اقرأ: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللّهِ}(1)، فإذا رأيت شيئاً تكره فاقرأها. واللّهِ، ما هو ملك موكل بهما لإكرامهما، بل هو ملك موكل بمشارق الأرض ومغاربها، إذا قتل قتيل ظلماً أخذ من دمه فطوقهما به في رقابهما؛ لأنهما سبب كل ظلم مذ كانا»(2).
ص: 237
17
الإمام الصادق (عليه السلام) في رواياته كان يبشر بالإمام المهدي (عليه السلام) ، وأنه سيظهر ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
قال الصادق (عليه السلام) : «إن قائمنا أهل البيت (عليه السلام) إذا قام، لبس ثياب علي (عليه السلام) ، وسار بسيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) »(1).
عن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) وعنده رجل من أهل خراسان، وهو يكلمه بلسان لا أفهمه، ثم رجع إلى شيء فهمته، فسمعت أبا عبد اللّه يقول: «اركض برجلك الأرض». فإذا بحر تلك الأرض، على حافتيها فرسان، قد وضعوا رقابهم على قرابيس سروجهم. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «هؤلاء من أصحاب القائم (عليه السلام) »(2).
ص: 238
قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «خالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم بأعمالكم؛ فإن لكل امرئ ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب. لا تحملوا الناس عليكم وعلينا، وادخلوا في دهماء الناس؛ فإن لنا أياماً ودولةً يأتي بها اللّه إذا شاء»(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: لما خرج طالب الحق. قيل لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : نرجو أن يكون هذا اليماني. فقال: «لا، اليماني يتوالى علياً (عليه السلام) ، وهذا يبرأ منه»(2).
عن حيان السراج، قال: سمعت السيد ابن محمد الحميري يقول: كنت أقول بالغلو، وأعتقد غيبة محمد بن علي ابن الحنفية، قد ضللت في ذلك زماناً، فمنَّ اللّه عليَّ بالصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وأنقذني به من النار، وهداني إلى سواء الصراط.
فسألته بعدما صح عندي بالدلائل التي شاهدتها منه، أنه حجة اللّه عليَّ وعلى جميع أهل زمانه، وأنه الإمام الذي فرض اللّه طاعته، وأوجب الاقتداء به. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، قد روي لنا أخبار عن آبائك (عليه السلام) في الغيبة وصحة كونها، فأخبرني بمن تقع؟.
ص: 239
فقال (عليه السلام) : «إن الغيبة ستقع بالسادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم بالحق، بقية اللّه في الأرض، وصاحب الزمان. واللّهِ، لو بقي في غيبته ما بقي نوح في قومه، لم يخرج من الدنيا حتى يظهر، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً».
قال السيد: فلما سمعت ذلك من مولاي الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) ، تبت إلى اللّه تعالى ذكره على يديه، وقلت قصيدتي أولها:
فلما رأيت الناس في الدين قد غووا***تجعفرت باسم اللّه فيمن تجعفروا
وناديت باسم اللّه واللّه أكبر***وأيقنت أن اللّه يعفو ويغفر
ودنت بدين غير ما كنت ديناً***به ونهاني واحد الناس جعفر
فقلت فهبني قد تهودت برهةً***وإلا فديني دين من يتنصر
وإني إلى الرحمن من ذاك تائب***وإني قد أسلمت واللّه أكبر
فلست بغال ما حييت وراجع***إلى ما عليه كنت أخفي وأظهر
ولا قائلٍ حي برضوى محمد***وإن عاب جهال مقالي فأكثروا
ولكنه ممن مضى لسبيله***على أفضل الحالات يقفى ويخبر
مع الطيبين الطاهرين الأولى لهم***من المصطفى فرع زكي وعنصر
إلى آخر القصيدة وهي طويلة.
وقلت بعد ذلك قصيدة أخرى:
أيا راكباً نحو المدينة جسرة***عذافرة يطوى بها كل سبسب
إذا ما هداك اللّه عاينت جعفراً***فقل لولي اللّه وابن المهذب
ألا يا أمين اللّه وابن أمينه***أتوب إلى الرحمن ثم تأوبي
إليك من الأمر الذي كنت مطنباً***أحارب فيه جاهداً كل معرب
ص: 240
وما كان قولي في ابن خولة مطنباً***معاندةً مني لنسل المطيب
ولكن روينا عن وصي محمد***وما كان فيما قال بالمتكذب
بأن ولي الأمر يفقد لا يرى***ستيراً كفعل الخائف المترقب
فتقسم أموال الفقيد كأنما***تغيبه بين الصفيح المنصب
فيمكث حيناً ثم ينبع نبعةً***كنبعة جدي من الأفق كوكب
يسير بنصر اللّه من بيت ربه***على سؤدد منه وأمر مسبب
يسير إلى أعدائه بلوائه***فيقتلهم قتلًا كحران مغضب
فلما روي أن ابن خولة غائب***صرفنا إليه قولنا لم نكذب
وقلنا هو المهدي والقائم الذي***يعيش به من عدله كل مجدب
فإن قلت لا فالحق قولك والذي***أمرت فحتم غير ما متعصب
وأشهد ربي أن قولك حجة***على الناس طراً من مطيع ومذنب
بأن ولي الأمر والقائم الذي***تطلع نفسي نحوه بتطرب
له غيبة لا بد من أن يغيبها***فصلى عليه اللّه من متغيب
فيمكث حيناً ثم يظهر حينه***فيملك من في شرقها والمغرب
بذاك أدين اللّه سراً وجهرةً***ولست وإن عوتبت فيه بمعتب(1)
ص: 241
18
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكد على إقامة الشعائر الحسينية بمختلف مصاديقها، من: البكاء، واللطم، وإقامة العزاء، وإنشاد الشعر، وما أشبه.
كما كان يبكي على ظلامة جدته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وكان يبكي على الشهداء من أهل البيت (عليهم السلام) ، كزيد الشهيد.
عن بشار المكاري، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) بالكوفة، وقد قدم له طبق رطب طبرزد، وهو يأكل، فقال: «يا بشار، ادن فكل». فقلت: هنأك اللّه وجعلني فداك، قد أخذتني الغيرة من شيء رأيته في طريقي، أوجع قلبي وبلغ مني. فقال لي: «بحقي لما دنوت فأكلت». قال: فدنوت فأكلت. فقال لي: «حديثك». قلت: رأيت جلوازاً يضرب رأس امرأة، ويسوقها إلى الحبس، وهي تنادي بأعلى صوتها: المستغاث باللّه ورسوله. ولا يغيثها أحد، قال (عليه السلام) : «ولِمَ فعل بها ذلك!». قال: سمعت الناس يقولون: إنها عثرت فقالت: لعن اللّه ظالميك يا فاطمة. فارتكب منها ما ارتكب. قال: فقطع الأكل، ولم يزل يبكي حتى ابتل منديله ولحيته وصدره بالدموع. ثم قال: «يا بشار، قم بنا إلى مسجد السهلة، فندعو اللّه عز وجل، ونسأله خلاص هذه المرأة». قال: ووجه بعض
ص: 242
الشيعة إلى باب السلطان، وتقدم إليه بأن لا يبرح إلى أن يأتيه رسوله، فإن حدث بالمرأة صار إلينا حيث كنا. قال: فصرنا إلى مسجد السهلة، وصلى كل واحد منا ركعتين، ثم رفع الصادق (عليه السلام) يده إلى السماء، وقال: «أنت اللّه» إلى آخر الدعاء. قال: فخر ساجداً لا أسمع منه إلا النفس، ثم رفع رأسه فقال: «قم، فقد أطلقت المرأة». قال: فخرجنا جميعاً، فبينما نحن في بعض الطريق، إذ لحق بنا الرجل الذي وجهناه إلى باب السلطان. فقال له (عليه السلام) : «ما الخبر؟». قال: قد أطلق عنها. قال: «كيف كان إخراجها؟». قال: لا أدري، ولكنني كنت واقفاً على باب السلطان، إذ خرج حاجب فدعاها، وقال لها: ما الذي تكلمتِ؟. قالت: عثرت، فقلت: لعن اللّه ظالميك يا فاطمة. ففعل بي ما فعل. قال: فأخرج مائتي درهم، وقال: خذي هذه، واجعلي الأمير في حل. فأبت أن تأخذها، فلما رأى ذلك منها، دخل وأعلم صاحبه بذلك، ثم خرج فقال: انصرفي إلى بيتك. فذهبت إلى منزلها. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أبت أن تأخذ المائتي درهم». قال: نعم، وهي واللّه محتاجة إليها. قال: فأخرج من جيبه صرةً فيها سبعة دنانير، وقال: «اذهب أنت بهذه إلى منزلها، فأقرئها مني السلام، وادفع إليها هذه الدنانير». قال: فذهبنا جميعاً، فأقرأناها منه السلام. فقالت: باللّه أقرأني جعفر بن محمد السلام!. فقلت لها: رحمكِ اللّه. واللّهِ إن جعفر بن محمد أقرأك السلام. فشقت جيبها، ووقعت مغشيةً عليها. قال: فصبرنا حتى أفاقت، وقالت: أعدها عليَّ. فأعدناها عليها حتى فعلت ذلك ثلاثاً، ثم قلنا لها: خذي هذا ما أرسل به إليكِ، وأبشري بذلك. فأخذته منا وقالت: سلوه أن يستوهب أمته من اللّه، فما أعرف أحداً توسل به إلى اللّه أكثر منه ومن آبائه وأجداده (عليهم السلام) . قال: فرجعنا إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فجعلنا نحدثه بما كان منها، فجعل يبكي ويدعو لها، ثم قلت:
ص: 243
ليت شعري متى أرى فرج آل محمد (عليه السلام) ؟!. قال: «يا بشار، إذا توفي ولي اللّه، وهو الرابع من ولدي في أشد البقاع، بين شرار العباد، فعند ذلك يصل إلى ولد بني فلان مصيبة سواء، فإذا رأيت ذلك، التقت حلق البطان، ولا مرد لأمر اللّه»(1).
عن أبي بردة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . قال: «ما فعل زيد؟». قلت: صُلب في كناسة بني أسد. فبكى (عليه السلام) حتى بكت النساء من خلف الستور، ثم قال: «أما واللّهِ لقد بقي لهم عنده طلبة ما أخذوها منه». فكنت أتفكر من قوله، حتى رأيت جماعةً قد أنزلوه يريدون أن يحرقوه، فقلت: هذه الطلبة التي قال لي(2).
عن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (عليه السلام) ». قال: فأنشدته، فبكى. فقال: «أنشدني كما تنشدون»، يعني بالرقة. قال فأنشدته:
امرر على جدث الحسين***فقل لأعظمه الزكية
قال: فبكى (عليه السلام) ، ثم قال: «زدني». قال: فأنشدته القصيدة الأخرى - قال -
ص: 244
فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر - قال - فلما فرغت. قال لي: «يا با هارون، من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً، فبكى وأبكى عشراً، كتبت له الجنة. ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً، فبكى وأبكى خمسة، كتبت له الجنة. ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً، فبكى وأبكى واحداً، كتبت لهما الجنة. ومن ذُكر الحسين (عليه السلام) عنده، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على اللّه، ولم يرض له بدون الجنة»(1).
وعن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال لي: «يا با عمارة، أنشدني في الحسين (عليه السلام) ». قال: فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى - قال - فو اللّه، ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار. فقال لي: «يا أبا عمارة، من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة»(2).
وعن عبد اللّه بن غالب، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأنشدته مرثية الحسين (عليه السلام) ، فلما انتهيت إلى هذا الموضع:
لبلية تسقوا حسيناً***بمسقاة الثرى غير التراب
ص: 245
فصاحت باكية من وراء الستر: وا أبتاه(1).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «لكل شيء ثواب إلا الدمعة فينا»(2).
عن داود الرقي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذا استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر، واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال لي: «يا داود، لعن اللّه قاتل الحسين (عليه السلام) ، وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، ولعن قاتله، إلا كتب اللّه عز وجل له مائة ألف حسنة، وحط عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره اللّه تعالى يوم القيامة ثلج الفؤاد»(3).
عن ابن خنيس، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذ أقبل محمد بن عبد اللّه بن الحسن، فسلم عليه ثم ذهب، ورق له أبو عبد اللّه (عليه السلام) ودمعت عينه. فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع. قال: «رققت له؛ لأنه ينسب في أمر ليس له، لم أجده في كتاب علي من خلفاء هذه الأمة ولا ملوكها»(4).
عن فضيل الرسان، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) بعدما قُتل زيد بن
ص: 246
علي، فأدخلت بيتاً جوف بيت. فقال لي: «يا فضيل، قُتل عمي زيد؟». قلت: جعلت فداك. قال: «رحمه اللّه، أ ما إنه كان مؤمناً، وكان عارفاً، وكان عالماً، وكان صدوقاً. أ ما إنه لو ظفر لوفى. أ ما إنه لو ملك لعرف كيف يضعها». قلت: يا سيدي، أ لا أنشدك شعراً. قال: «أمهل». ثم أمر بستور فسدلت، وبأبواب ففتحت، ثم قال: «أنشد». فأنشدته:
لأم عمرو باللوى مربع***طامسة أعلامه بلقع
لما وقفت العيس في رسمه***والعين من عرفانه تدمع
ذكرت من قد كنت أهوى به***فبت والقلب شجًا موجع
عجبت من قوم أتوا أحمداً***بخطة ليس لها مدفع
عجبت من قوم أتوا أحمداً***بخطة ليس لها مدفع
قالوا له لو شئت أخبرتنا***إلى من الغاية والمفزع
إذا توليت وفارقتنا***ومنهم في الملك من يطمع
فقال لو أخبرتكم مفزعاً***ما ذا عسيتم فيه أن تصنعوا
صنيع أهل العجل إذ فارقوا***هارون فالترك له أودع
فالناس يوم البعث راياتهم***خمس فمنها هالك أربع
قائدها العجل وفرعونها***وسامري الأمة المفظع
ومجدع من دينه مارق***أجدع عبد لكع أوكع
و راية قائدها وجهه***كأنه الشمس إذا تطلع
قال: سمعت نحيباً من وراء الستر(1)، الحديث.
عن الحسين بن زيد، قال: إني لواقف بين القبر والمنبر، إذا رأيت بني حسن
ص: 247
يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فأرسل إليَّ جعفر بن محمد. فقال: «ما وراك؟».
قلت: رأيت بني الحسن يخرج بهم في محامل.
فقال: «اجلس». فجلست،
قال: فدعا غلاماً له، ثم دعا ربه كثيراً، ثم قال لغلامه: «اذهب، فإذا حملوا فأتِ فأخبرني».
قال: فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم.
فقال جعفر (عليه السلام) فوقف وراء ستر شعر أبيض من ورائه، فطلع بعبد اللّه بن الحسن وإبراهيم بن الحسن وجميع أهلهم، كل واحد منهم معاد له مسود. فلما نظر إليهم جعفر بن محمد (عليه السلام) ، هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل عليَّ فقال: «يا أبا عبد اللّه، واللّهِ لا تحفظ لله حرمة بعد هذا. واللّهِ ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما أعطوه من البيعة على العقبة».
ثم قال جعفر (عليه السلام) : «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: خذ عليهم البيعة بالعقبة. فقال: كيف آخذ عليهم؟. قال: خذ عليهم يبايعون اللّه ورسوله - قال ابن الجعد في حديثه - على أن يطاع اللّه فلا يعصى. وقال الآخرون: على أن يمنعوا رسول اللّه وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم - قال - فو اللّهِ ما وفوا له حتى خرج من بين أظهرهم، ثم لا أحد يمنع يد لامس. اللّهم فاشدد وطأتك على الأنصار»(1).
ص: 248
19
عن عمر بن أبي المقدام، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) قد أُتي بقدح من ماء فيه ضبة من فضة، فرأيته ينزعها(1). والضبة: القطعة.
عن هارون بن الجهم، قال: كنا مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) بالحيرة، حين قدم على أبي جعفر المنصور. فختن بعض القواد ابناً له، وصنع طعاماً ودعا الناس، وكان أبو عبد اللّه (عليه السلام) فيمن دُعي. فبينما هو على المائدة يأكل ومعه عدة في المائدة، فاستسقى رجل منهم ماءً، فأتي بقدح فيه شراب لهم. فلما أن صار القدح في يد الرجل، قام أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن المائدة. فسُئل عن قيامه!. فقال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر»(2).
وفي رواية أخرى: «ملعون ملعون، من جلس طائعاً على مائدة يشرب عليها الخمر»(3).
ص: 249
عن إسماعيل بن جابر، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) حين مات ابنه إسماعيل الأكبر، فجعل يقبله وهو ميت. فقلت: جعلت فداك، أ ليس لا ينبغي أن يمس الميت بعدما يموت، ومن مسه فعليه الغسل؟. فقال: «أما بحرارته فلا بأس، إنما ذلك إذا برد»(1).
عن أبي ولاد الحناط، قال: اكتريت بغلاً إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة، أخبرت أن صاحبي توجه إلى النيل، فتوجهت نحو النيل، فلما أتيت النيل، أخبرت أن صاحبي توجه إلى بغداد، فاتبعته وظفرت به، وفرغت مما بيني وبينه، ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري، وأردت أن أتحلل منه مما صنعت وأرضيه، فبذلت خمسة عشر درهماً، فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصة، وأخبره الرجل. فقال لي: ما صنعت بالبغل؟. فقلت: قد دفعته إليه سليماً. قال: نعم، بعد خمسة عشر يوماً. قال: فما تريد من الرجل؟. قال: أريد كرى بغلي، فقد حبسه عليَّ خمسة عشر يوماً. فقال: ما أرى لك حقاً؛ لأنه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة، فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد، فضمن قيمة البغل وسقط الكرى، فلما رد البغل سليماً وقبضته، لم يلزمه الكرى. قال: فخرجنا من عنده، وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته مما أفتى به أبوحنيفة، فأعطيته شيئاً وتحللت منه.
ص: 250
فحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبد اللّه (عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة.
فقال لي: «في مثل هذا القضاء وشبهه، تحبس السماء ماءها، وتمنع الأرض بركتها».
قال: فقلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : فما ترى أنت؟.
قال: «أرى له عليك مثل كرى بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كرى بغل راكباً من النيل إلى بغداد، ومثل كرى بغل من بغداد إلى الكوفة، توفيه إياه». قال: فقلت: جعلت فداك، قد علفته بدراهم، فلي عليه علفه؟. فقال: «لا؛ لأنك غاصب». فقلت: أرأيت لو عطب البغل ونفق، أ ليس كان يلزمني؟. قال: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته». قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟. فقال: «عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه». قلت: فمن يعرف ذلك؟. قال: «أنت وهو، إما أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن رد اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين أكرى كذا وكذا فيلزمك».
قلت: إن كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحللني؟. فقال: «إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم، ولكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حل بعد معرفته، فلا شيء عليك بعد ذلك». قال أبو ولاد: فلما انصرفت من وجهي ذلك، لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، وقلت له: قل ما شئت حتى أعطيكه؟ فقال: قد حببت إليَّ جعفر بن محمد (عليه السلام) ، ووقع في قلبي له التفضيل، وأنت في حل، وإن أحببت أن أرد عليك الذي أخذته منك فعلت»(1).
ص: 251
عن أحمد بن سليمان، عن داود الرقي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقلت له: جعلت فداك، كم عدة الطهارة؟. فقال: «ما أوجبه اللّه فواحدة، وأضاف إليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحدةً لضعف الناس، ومن وضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له». أنا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي، وأخذ زاويةً من البيت، فسأله عما سألته في عدة الطهارة. فقال له: «ثلاثاً ثلاثاً، من نقص عنه فلا صلاة له». قال: فارتعدت فرائصي، وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبد اللّه (عليه السلام) إليَّ وقد تغير لوني. فقال: «اسكن يا داود، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق». قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي، وأنه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد. فقال أبو جعفر: إني مطلع على طهارته، فإن هو توضأ وضوء جعفر بن محمد فإني لأعرف طهارته، حققت عليه القول وقتلته. فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، كما أمره أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه. قال: فقال داود: فلما أن دخلت عليه رحب. فقال: يا داود، قيل فيك شيء باطل، وما أنت كذلك - قال - اطلعت على طهارتك، وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حل، وأمر له بمائة ألف درهم.
قال: فقال داود الرقي: لقيت أنا داود بن زربي عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال له داود بن زربي: جعلني اللّه فداك، حقنت دماءنا في دار الدنيا، ونرجو أن ندخل
ص: 252
بيمنك وبركتك الجنة. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «فعل اللّه ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين». فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لداود بن زربي: «حدث داود الرقي بما مر عليك حتى تسكن روعته». فقال: فحدثه بالأمر كله. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لهذا أفتيته؛ لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو - ثم قال - يا داود بن زربي، توضأ مثنى مثنى، ولا تزدن عليه؛ فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك»(1).
روي عن هارون بن خارجة، قال: كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثاً، فسأل أصحابنا فقالوا: ليس بشيء. فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد اللّه، وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس. قال: فذهبت إلى الحيرة، ولم أقدر على كلامه، إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سوادي عليه جبة صوف يبيع خياراً. فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟. قال: بدرهم. فأعطيته درهماً، وقلت له: أعطني جبتك هذه، فأخذتها ولبستها، وناديت: من يشتري خياراً. ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار. فقال (عليه السلام) لي لما دنوت منه: «ما أجود ما احتلت!. أي شيء حاجتك؟». قلت: إني ابتليت فطلقت أهلي في دفعة ثلاثاً، فسألت أصحابنا فقالوا ليس بشيء، وإن المرأة قالت لا أرضى حتى تسأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) ؟. فقال: «ارجع إلى أهلك، فليس عليك شيء»(2).
ص: 253
عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إني لذات يوم عند زياد بن عبيد اللّه الحارثي، إذ جاء رجل يستعدي على أبيه. فقال: أصلح اللّه الأمير، إن أبي زوج ابنتي بغير إذني. فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول هذا الرجل؟. قالوا: نكاحه باطل. قال: ثم أقبل عليَّ فقال: ما تقول يا أبا عبد اللّه؟. فلما سألني أقبلت على الذين أجابوه، فقلت لهم: أ ليس فيما تروون أنتم عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن رجلاً جاء يستعديه على أبيه في مثل هذا. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنت ومالك لأبيك. فقالوا: بلى. فقلت لهم: فكيف يكون هذا، وهو وماله لأبيه ولا يجوز نكاحه عليه. قال: فأخذ بقولهم، وترك قولي»(1).
عن معاوية بن عمار، قال: ماتت أخت مفضل بن غياث، فأوصت بشيء من مالها: الثلث في سبيل اللّه، والثلث في المساكين، والثلث في الحج. فإذا هو لا يبقى ما يبلغ ما قالت، فذهبت أنا وهو إلى ابن أبي ليلى، فقص عليه القصة. فقال: اجعلوا ثلثاً في ذا، وثلثاً في ذا، وثلثاً في ذا. فأتينا ابن شبرمة فقال أيضاً كما قال ابن أبي ليلى، فأتينا أبا حنيفة فقال كما قالا، فخرجنا إلى مكة. فقال لي: سل أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، ولم تكن حجت المرأة، فسألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: «ابدأ بالحج؛ فإنه فريضة من اللّه عليها، وما بقي اجعله بعضاً في ذا، وبعضاً في ذا». قال: فقدمت فدخلت المسجد، واستقبلت أبا حنيفة، وقلت له: سألت جعفر بن محمد
ص: 254
عن الذي سألتك عنه، فقال لي: ابدأ بحق اللّه أولاً؛ فإنه فريضة عليها، وما بقي فاجعله بعضاً في ذا وبعضاً في ذا. قال: فو اللّهِ ما قال لي خيراً ولا شراً. وجئت إلى حلقته وقد طرحوها، وقالوا: قال أبو حنيفة: ابدأ بالحج؛ فإنه فريضة اللّه عليها. قال: فقلت: هو باللّه كان كذا وكذا!. فقالوا: هو خبرنا هذا(1).
عن عيسى بن عبد اللّه القرشي، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال له: «يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس». قال: نعم أنا أقيس. فقال: «ويلك لا تقس؛ فإن أول من قاس إبليس حين قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(2)، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار، عرف فضل ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر»(3).
عن يونس، عن أبي جعفر الأحول، قال: سألني رجل من الزنادقة. فقال: كيف صارت الزكاة من كل ألف خمسةً وعشرين درهماً؟. فقلت له: إنما ذلك مثل الصلاة: ثلاث، وثنتان، وأربع. قال: فقبل مني، ثم لقيت بعد ذلك أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، فسألته عن ذلك؟. فقال: «إن اللّه عز وجل حسب الأموال والمساكين، فوجد ما يكفيهم من كل ألف خمسةً وعشرين، ولو لم يكفهم لزادهم». قال: فرجعت إليه فأخبرته. فقال: جاءت هذه المسألة على الإبل من
ص: 255
الحجاز - ثم قال - لو أني أعطيت أحداً طاعةً، لأعطيت صاحب هذا الكلام(1).
عن الكلبي النسابة، قال: دخلت المدينة ولست أعرف شيئاً من هذا الأمر، فأتيت المسجد، فإذا جماعة من قريش. فقلت: أخبروني عن عالم أهل هذا البيت؟. فقالوا: عبد اللّه بن الحسن. فأتيت منزله، فاستأذنت فخرج إليَّ رجل، ظننت أنه غلام له. فقلت له: استأذن لي على مولاك. فدخل ثم خرج، فقال لي: ادخل. فدخلت فإذا أنا بشيخ معتكف شديد الاجتهاد، فسلمت عليه. فقال لي: من أنت؟. فقلت: أنا الكلبي النسابة. فقال: ما حاجتك؟. فقلت: جئت أسألك. فقال: أمررت بابني محمد؟. قلت: بدأت بك. فقال: سل. قلت: أخبرني عن رجل قال لامرأته: أنتِ طالق عدد نجوم السماء؟. فقال: تبين برأس الجوزاء، والباقي وزر عليه وعقوبة. فقلت في نفسي: واحدة. فقلت: ما يقول الشيخ في المسح على الخفين؟. فقال: قد مسح قوم صالحون، ونحن أهل بيت لا نمسح. فقلت في نفسي: ثنتان. فقلت: ما تقول في أكل الجري، أ حلال هو أم حرام؟. فقال: حلال، إلا أنا أهل البيت نعافه. فقلت في نفسي: ثلاث. فقلت: وما تقول في شرب النبيذ؟. فقال: حلال، إلا أنا أهل البيت لا نشربه. فقمت فخرجت من عنده، وأنا أقول: هذه العصابة تكذب على أهل هذا البيت.
فدخلت المسجد فنظرت إلى جماعة من قريش وغيرهم من الناس، فسلمت عليهم ثم قلت لهم: من أعلم أهل هذا البيت؟.
ص: 256
فقالوا: عبد اللّه بن الحسن. فقلت: قد أتيته، فلم أجد عنده شيئاً.
فرفع رجل من القوم رأسه فقال: ائت جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فهو عالم أهل هذا البيت. فلامه بعض من كان بالحضرة، فقلت: إن القوم إنما منعهم من إرشادي إليه أول مرة الحسد.
فقلت له: ويحك إياه أردت. فمضيت حتى صرت إلى منزله، فقرعت الباب، فخرج غلام له، فقال: ادخل يا أخا كلب. فو اللّهِ لقد أدهشني، فدخلت وأنا مضطرب، ونظرت فإذا بشيخ على مصلى بلا مرفقة ولا بردعة، فابتدأني بعد أن سلمت عليه. فقال لي: «من أنت؟».
فقلت في نفسي: يا سبحان اللّه! غلامه يقول لي بالباب ادخل يا أخا كلب، ويسألني المولى من أنت. فقلت له: أنا الكلبي النسابة. فضرب بيده على جبهته، وقال: «كذب العادلون باللّه وضلوا ضلالاً بعيداً قد خسروا خسراناً مبيناً. يا أخا كلب، إن اللّه عز وجل يقول: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}(1) أفتنسبها أنت». فقلت: لا جعلت فداك. فقال لي: «أ فتنسب نفسك؟». قلت: نعم، أنا فلان بن فلان بن فلان حتى ارتفعت. فقال لي: «قف ليس حيث تذهب. ويحك أ تدري من فلان بن فلان؟». قلت: نعم، فلان بن فلان. قال: «إن فلان بن فلان ابن فلان الراعي الكردي، إنما كان فلان الكردي الراعي على جبل آل فلان، فنزل إلى فلانة امرأة فلان من جبله الذي كان يرعى غنمه عليه، فأطعمها شيئاً وغشيها فولدت فلاناً، وفلان بن فلان من فلانة وفلان بن فلان - ثم قال - أ تعرف هذه الأسامي؟». قلت: لا واللّه جعلت فداك، فإن رأيت أن
ص: 257
تكف عن هذا فعلت. فقال: «إنما قلت فقلت». فقلت: إني لا أعود. قال: «لا نعود إذاً، واسأل عما جئت له». فقلت له: أخبرني عن رجل قال لامرأته: أنتِ طالق عدد النجوم؟. فقال: «ويحك أ ما تقرأ سورة الطلاق». قلت: بلى. قال: «فاقرأ». فقرأت: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ}(1). قال: «أ ترى هاهنا نجوم السماء؟». قلت: لا. قلت: فرجل قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثاً؟. قال: «ترد إلى كتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ثم قال - لا طلاق إلا على طهر من غير جماع، بشاهدين مقبولين». فقلت في نفسي: واحدة. ثم قال: «سل». فقلت: ما تقول في المسح على الخفين؟. فتبسم ثم قال: «إذا كان يوم القيامة، ورد اللّه كل شيء إلى شيئه، ورد الجلد إلى الغنم، فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم؟». فقلت في نفسي: ثنتان. ثم التفت إليَّ فقال: «سل». فقلت: أخبرني عن أكل الجري؟. فقال: «إن اللّه عز وجل مسخ طائفةً من بني إسرائيل، فما أخذ منهم بحراً فهو الجري والزمار والمارماهي وما سوى ذلك، وما أخذ منهم براً فالقردة والخنازير والوبر والورل وما سوى ذلك». فقلت في نفسي ثلاث: ثم التفت إليَّ وقال: «سل وقم». فقلت: ما تقول في النبيذ؟. فقال (عليه السلام) : «حلال». فقلت: إنا ننبذ، فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك، ونشربه. فقال: «شه شه، تلك الخمرة المنتنة». فقلت: جعلت فداك، فأي نبيذ تعني؟. فقال: «إن أهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تغير الماء وفساد طبائعهم، فأمرهم أن ينبذوا، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد إلى كف من التمر فيقذف به في الشن، فمنه شربه ومنه طهوره». فقلت: وكم كان عدد التمر الذي في الكف؟. فقال: «ما حمل
ص: 258
الكف». فقلت: واحدة وثنتان؟. فقال: «ربما كانت واحدةً، وربما كانت ثنتين». فقلت: وكم كان يسع الشن؟. فقال: «ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك». فقلت: بالأرطال؟. فقال: نعم، أرطال بمكيال العراق». قال سماعة: قال الكلبي: ثم نهض (عليه السلام) ، فقمت فخرجت وأنا أضرب بيدي على الأخرى، وأنا أقول: إن كان شيء فهذا. فلم يزل الكلبي يدين اللّه بحب أهل هذا البيت حتى مات(1).
عن معتب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال: «اذهب فأعط عن عيالنا الفطرة، وأعط عن الرقيق واجمعهم، ولا تدع منهم أحداً؛ فإنك إن تركت منهم إنساناً تخوفت عليه الفوت». قلت: وما الفوت؟. قال: «الموت»(2).
عن ابن شبرمة، قال: ما ذكرت حديثاً سمعته عن جعفر بن محمد (عليه السلام) إلا كاد أن يتصدع قلبي، قال: «حدثني أبي، عن جدي، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ». وقال ابن شبرمة: وأقسم باللّه ما كذب أبوه على جده، ولا جده على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه، فقد هلك وأهلك»(3).
ص: 259
في الكافي: عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مر بي أبي وأنا بالطواف وأنا حدث، وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصاب عرقاً. فقال لي: يا جعفر، يا بني، إن اللّه إذا أحب عبداً أدخله الجنة، ورضي عنه باليسير»(1).
وعن حفص بن البختري وغيره، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «اجتهدت في العبادة وأنا شاب. فقال لي أبي (عليه السلام) : يا بني، دون ما أراك تصنع؛ فإن اللّه عز وجل إذا أحب عبداً رضي عنه باليسير»(2).
عن محمد بن عذافر، عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد اللّه (عليه السلام) أبي ألفاً وسبعمائة دينار. فقال له: «اتجر لي بها - ثم قال - أما إنه ليس لي رغبة في ربحها، وإن كان الربح مرغوباً فيه، ولكني أحببت أن يراني اللّه عز وجل متعرضاً لفوائده». قال: فربحت له فيه مائة دينار، ثم لقيته، فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة دينار. قال: ففرح أبو عبد اللّه (عليه السلام) بذلك فرحاً شديداً، ثم قال لي: «أثبتها في رأس مالي». قال: فمات أبي والمال عنده، فأرسل إليَّ أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، وكتب: «عافانا اللّه وإياك. إن لي عند أبي محمد ألفاً وثمانمائة دينار أعطيته يتجر بها، فادفعها إلى عمر بن يزيد». قال: فنظرت في كتاب أبي، فإذا فيه: لأبي موسى عندي ألف وسبعمائة دينار، واتجر له فيها مائة دينار عبد اللّه بن سنان
ص: 260
وعمر بن يزيد يعرفانه»(1).
عن عبد الحميد بن سعيد، قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن عظام الفيل، يحل بيعه أو شراؤه الذي يجعل منه الأمشاط؟. فقال: «لا بأس، قد كان لأبي منه مشط أو أمشاط»(2).
عن أبي جعفر الفزاري، قال: دعا أبو عبد اللّه (عليه السلام) مولًى له، يقال له: مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: «تجهز حتى تخرج إلى مصر؛ فإن عيالي قد كثروا». قال: فجهزه بمتاع، وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة، فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينار ديناراً، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ومعه كيسان، في كل واحد ألف دينار. فقال: جعلت فداك، هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح. فقال: «إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع؟». فحدثه كيف صنعوا، وكيف تحالفوا. فقال: «سبحان اللّه! تحلفون على قوم مسلمين، ألا تبيعوهم إلا بربح الدينار ديناراً». ثم أخذ أحد الكيسين، فقال: «هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في
ص: 261
هذا الربح - ثم قال - يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال»(1).
عن معتب، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) - وقد تزيد السعر بالمدينة -: «كم عندنا من طعام؟». قال: قلت: عندنا ما يكفيك أشهر كثيرة. قال: «أخرجه وبعه». قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام!. قال: «بعه». فلما بعته، قال: «اشتر مع الناس يوماً بيوم - وقال - يا معتب، اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطةً؛ فإن اللّه يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحب أن يراني اللّه قد أحسنت تقدير المعيشة»(2).
عن شهاب بن عبد ربه، قال: أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) أسأله. فابتدأني فقال: «إن شئت فسل يا شهاب، وإن شئت أخبرناك بما جئت له». قلت: أخبرني جعلت فداك. قال: «جئت لتسأل عن الجنب يغرف الماء من الحب بالكوز، فيصيب يده الماء». قلت: نعم. قال: «ليس به بأس». قال: «وإن شئت سل، وإن شئت أخبرتك». قال: قلت له: أخبرني. قال: «جئت تسأل عن الجنب يسهو، ويغمر يده في الماء قبل أن يغسلها». قلت: وذاك جعلت فداك. قال: «إذا لم يكن أصاب يده شيء فلا بأس بذاك. سل وإن شئت أخبرتك». قلت: أخبرني. قال: «جئت لتسألني عن الجنب يغتسل، فيقطر الماء من جسمه في الإناء، أو ينضح الماء من الأرض فيقع في الإناء». قلت: نعم جعلت فداك. قال:
ص: 262
«ليس بهذا بأس كله. فسل وإن شئت أخبرتك». قلت: أخبرني. قال: «جئت لتسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة، أتوضأ منه أو لا». قلت: نعم. قال: «فتوضأ من الجانب الآخر، إلا أن يغلب على الماء الريح. وجئت لتسأل عن الماء الراكد من البئر». قال: «فما لم يكن فيه تغيير أو ريح غالبة». قلت: فما التغيير؟. قال: «الصفرة، فتوضأ منه، وكلما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر»(1).
روي عن إسماعيل بن مهران، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) أودعه، وكنت حاجاً في تلك السنة، فخرجت ثم ذكرت شيئاً أردت أن أسأله عنه، فرجعت إليه ومجلسه غاص بالناس، وكان ما أسأله عنه بيض طيور الماء. فقال لي - من غير سؤالي -: «الأصلح أن لا تأكل»(2).
عن حماد بن عثمان، قال: كان بمكة رجل مولى لبني أمية، يقال له: ابن أبي عوانة، له عنادة، وكان إذا دخل إلى مكة أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، أو أحد من أشياخ آل محمد يعبث به، وإنه أتى أبا عبد اللّه (عليه السلام) وهو في الطواف. فقال: يا أبا عبد اللّه، ما تقول في استلام الحجر؟. فقال: «استلمه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ». فقال: ما أراك استلمته!. قال: «أكره أن أوذي ضعيفاً، أو أتأذى». قال: فقال: فقد زعمت أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استلمه. قال: «نعم، ولكن كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا رأوه عرفوا
ص: 263
له حقه، وأنا فلا يعرفون لي حقي»(1).
وعن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كنت أطوف وسفيان الثوري قريب مني. فقال: يا أبا عبد اللّه، كيف كان يصنع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحجر إذا انتهى إليه؟. فقلت: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستلمه في كل طواف فريضة ونافلة. قال: فتخلف عني قليلاً، فلما انتهيت إلى الحجر جزت ومشيت، فلم أستلمه. فلحقني فقال: يا أبا عبد اللّه، أ لم تخبرني أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يستلم الحجر في كل طواف فريضة ونافلة. قلت: بلى. قال: فقد مررت به فلم تستلم!. فقلت: إن الناس كانوا يرون لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يرون لي، وكان إذا انتهى إلى الحجر، أفرجوا له حتى يستلمه، وإني أكره الزحام»(2).
وسأله (عليه السلام) عباد المكي عن رجل زنى وهو مريض، فإن أقيم عليه الحد خافوا أن يموت، ما تقول فيه؟. فقال: «هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان؟». فقال: إن سفيان الثوري أمرني بها. فقال (عليه السلام) : «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُتي برجل أحبن قد استسقى بطنه، وبدت عروق فخذيه، وقد زنى بامرأة مريضة. فأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ، فضربه به ضربةً، وخلى سبيلهما، وذلك قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ}(3)»(4).
ص: 264
20
روي أنه كان للصادق (عليه السلام) ابن، فبينا هو يمشي بين يديه إذ غص فمات. فبكى وقال: «لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت». ثم حمل إلى النساء، فلما رأينه صرخن، فأقسم عليهن أن لا يصرخن. فلما أخرجه للدفن قال: «سبحان من يقتل أولادنا، ولا نزداد له إلا حباً». فلما دفنه قال: «يا بني، وسع اللّه في ضريحك، وجمع بينك وبين نبيك - وقال (عليه السلام) - إنا قوم نسأل اللّه ما نحب فيمن نحب فيعطينا، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا»(1).
عن النوفلي، قال: سمعت مالك بن أنس الفقيه يقول: واللّه ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد (عليه السلام) زهداً وفضلاً وعبادةً وورعاً. وكنت أقصده فيكرمني ويقبل عليَّ. فقلت له يوماً: يا ابن رسول اللّه، ما ثواب من صام يوماً من رجب إيماناً واحتساباً؟. فقال - وكان واللّه إذا قال صدق -: «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من صام من رجب يوماً إيماناً
ص: 265
واحتساباً غفر له». فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فما ثواب من صام يوماً من شعبان؟. فقال: «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من صام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً غفر له»(1).
عن مسلم - مولًى لأبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال: ترك أبو عبد اللّه (عليه السلام) السواك قبل أن يقبض بسنتين؛ وذلك أن أسنانه ضعفت(2).
عن معاوية بن وهب، قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) بالمدينة، وهو راكب حماره. فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق، أو قريباً من السوق - قال - فنزل وسجد، وأطال السجود وأنا أنتظره، ثم رفع رأسه. قال: قلت: جعلت فداك، رأيتك نزلت فسجدت!. قال: «إني ذكرت نعمة اللّه عليَّ». قال: قلت: قرب السوق والناس يجيئون ويذهبون!. قال: «إنه لم يرني أحد»(3).
في الحديث: أن أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئاً على يد الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) . فقال رجل - يقال له: رزام مولى خالد بن عبد اللّه -: من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد الأمير على يده؟!. فقيل له: هذا أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (صلى اللّه عليه). فقال: إني واللّهِ ما علمت، لوددت أن خد
ص: 266
أبي جعفر نعل لجعفر. ثم قام فوقف بين يدي المنصور، فقال له: أسأل يا أمير؟. فقال له المنصور: سل هذا. فقال: إني أريدك بالسؤال. فقال له المنصور: سل هذا. فالتفت رزام إلى الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) . فقال له: أخبرني عن الصلاة وحدودها؟. فقال له الصادق (عليه السلام) : «للصلاة أربعة آلاف حد، لست تؤاخذ بها». فقال: أخبرني بما لا يحل تركه، ولا تتم الصلاة إلا به؟. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لا تتم الصلاة إلا لذي طهر سابغ، وتمام بالغ، غير نازغ ولا زائغ، عرف فوقف، وأخبت فثبت، فهو واقف بين اليأس والطمع، والصبر والجزع، كأن الوعد له صنع، والوعيد به وقع، بذل عرضه، وتمثل غرضه، وبذل في اللّه المهجة، وتنكب إليه غير المحجة، غير مرتغم بارتغام، يقطع علائق الاهتمام، بعين من له قصد، وإليه وفد، ومنه استرفد، فإذا أتى بذلك، كانت هي الصلاة التي بها أمر، وعنها أخبر، وإنها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر». فالتفت المنصور إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال له: يا أبا عبد اللّه، لا نزال من بحرك نغترف، وإليك نزدلف، تبصر من العمى، وتجلو بنورك الطخياء، فنحن نعوم في سبحات قدسك، وطامي بحرك(1).
عن ابن أبي يعفور، قال: رأيت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ضيفاً. فقام يوماً في بعض الحوائج، فنهاه عن ذلك، وقام بنفسه إلى تلك الحاجة. وقال: «نهى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أن يستخدم الضيف»(2).
ص: 267
في رواية، قالوا: رأيناه - أي الإمام الصادق (عليه السلام) حين الدعاء - قد رفع يديه فوضعهما على منكبيه، ثم بسطهما، ثم دعا بسبابته، فسمعناه يقول: «الساعة الساعة...». فقلت له: فرفع اليدين ما هو؟. قال (عليه السلام) : «الابتهال». فقلت: فوضع يديك وجمعها؟. فقال: «التضرع». قلت: ورفع الإصبع؟. قال: «البصبصة»(1).
عن الحسين بن المختار، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «اعمل لي قلانس بيضاء ولا تكسرها؛ فإن السيد مثلي لا يلبس المكسر»(2).
عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يختضب بالحناء خضاباً قانياً(3).
عن عبد اللّه بن مسكان، قال: كنا جماعةً من أصحابنا دخلنا الحمام، فلما خرجنا لقينا أبو عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لنا: «من أين أقبلتم؟». فقلنا له: من الحمام. فقال: «أنقى اللّه غسلكم». فقلنا له: جُعلنا فداك. وإنا جئنا معه حتى دخل الحمام، فجلسنا له حتى خرج. فقلنا له: أنقى اللّه غسلك. فقال: «طهركم
ص: 268
اللّه»(1).
عن عبد اللّه بن عثمان، أنه رأى أبا عبد اللّه (عليه السلام) أحفى شاربه حتى ألصقه بالعسيب(2). بيان: العسيب منبت الشعر.
وهذا كناية عن تخفيف الشارب وعدم تطويله.
عن مرازم بن حكيم، قال: أمر أبو عبد اللّه (عليه السلام) بكتاب في حاجة. فكتب ثم عرض عليه، ولم يكن فيه استثناء. فقال: «كيف رجوتم أن يتم هذا وليس فيه استثناء، انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء، فاستثنوا فيه»(3).
والمراد به قوله: (إلا أن يشاء اللّه)، أو (إن شاء اللّه) أو ما أشبه.
عن عبد الرحمن بن كثير، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فدخل عليه مهزم. فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ادع لنا الجارية تجيئنا بدهن وكحل». فدعوت بها، فجاءت بقارورة بنفسج، وكان يوماً شديد البرد. فصب مهزم في راحته منها، ثم قال: جُعلت فداك، هذا بنفسج وهذا البرد الشديد!. فقال: «وما باله يا مهزم». فقال: إن متطببينا بالكوفة يزعمون أن البنفسج بارد. فقال: «هو بارد في الصيف، لين حار في الشتاء»(4).
ص: 269
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «المعروف ابتداء، وأما من أعطيته بعد المسألة فإنما كافيته بما بذل لك من وجهه، يبيت ليلته أرقاً متململاً، يمثل بين الرجاء واليأس، لا يدري أين يتوجه لحاجته، ثم يعزم بالقصد لها، فيأتيك وقلبه يرجف، وفرائصه ترعد، قد ترى دمه في وجهه، لا يدري أ يرجع بكآبة أم بفرح»(1).
عن حماد بن عثمان، قال: جلس أبو عبد اللّه (عليه السلام) متوركاً، رجله اليمنى على فخذه اليسرى. فقال له رجل: جُعلت فداك، هذه جلسة مكروهة؟. فقال: «لا، إنما هو شيء قالته اليهود لما أن فرغ اللّه عز وجل من خلق السماوات والأرض، واستوى على العرش، جلس هذه الجلسة ليستريح، فأنزل اللّه عز وجل: {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ القَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}(2)». وبقي أبو عبد اللّه (عليه السلام) متوركاً كما هو(3).
عن يونس عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه كان يتصدق بالسكر. فقيل له: أ تتصدق بالسكر؟!. فقال: «نعم، إنه ليس شيء أحب إليَّ منه، فأنا أحب
ص: 270
أن أتصدق بأحب الأشياء إليَّ»(1).
عن الحسن بن راشد، قال: كان أبو عبد اللّه (عليه السلام) إذا صام تطيب بالطيب، ويقول: «الطيب تحفة الصائم»(2).
عن ابن تغلب، قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) مزامله فيما بين مكة والمدينة، فلما انتهى إلى الحرم، نزل واغتسل وأخذ نعليه بيديه، ثم دخل الحرم حافياً(3).
عن حماد بن عثمان، قال: حضرت أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، وقال له رجل: أصلحك اللّه، ذكرت أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد؟!. فقال له: «إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت (عليه السلام) إذا قام لبس ثياب علي (عليه السلام) ، وسار بسيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) »(4).
عن شعيب، قال: تكارينا لأبي عبد اللّه (عليه السلام) قوماً يعملون في بستان له، وكان
ص: 271
أجلهم إلى العصر، فلما فرغوا قال لمعتب: «أعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم»(1).
وقال سماعة بن مهران: دخلت على الصادق (عليه السلام) . فقال لي مبتدئاً: «يا سماعة، ما هذا الذي بينك وبين جمالك في الطريق. إياك أن تكون فاحشاً أو صياحاً». قال: واللّهِ لقد كان ذلك لأنه ظلمني، فنهاني عن مثل ذلك(2).
عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : قال لي إبراهيم بن ميمون: كنت جالساً عند أبي حنيفة، فجاءه رجل فسأله. فقال: ما ترى في رجل قد حج حجة الإسلام، الحج أفضل أم يعتق رقبةً؟. قال: لا، بل عتق رقبة. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كذب واللّه وأثم، الحجة أفضل من عتق رقبة ورقبة ورقبة - حتى عد عشراً ثم قال - ويحه! في أي رقبة طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، وحلق الرأس، ورمي الجمار. لو كان كما قال لعطل الناس الحج، ولو فعلوا كان ينبغي للإمام أن يجبرهم على الحج إن شاءوا وإن أبوا؛ فإن هذا البيت إنما وضع للحج»(3).
عن فضالة بن أيوب، عن أحمد بن سليمان جميعاً، عن قرة مولى خالد،
ص: 272
قال: صاح أهل المدينة إلى محمد بن خالد في الاستسقاء, فقال لي: انطلق إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) فسله ما رأيك؛ فإن هؤلاء قد صاحوا إليَّ.
فأتيته فقلت له ما قال لي. فقال لي: «قل له: فليخرج». قلت له: متى يخرج جعلت فداك؟. قال: «يوم الاثنين».
قلت له: كيف يصنع؟. قال: «يخرج المنبر، ثم يخرج يمشي كما يخرج يوم العيدين، وبين يديه المؤذنون في أيديهم عنزهم، حتى إذا انتهى إلى المصلى، صلى بالناس ركعتين بغير أذان ولا إقامة، ثم يصعد المنبر، فيقلب رداءه، فيجعل الذي على يمينه على يساره، والذي على يساره على يمينه، ثم يستقبل القبلة، فيكبر اللّه مائة تكبيرة رافعاً بها صوته، ثم يلتفت إلى الناس عن يمينه، فيسبح اللّه مائة تسبيحة رافعاً بها صوته، ثم يلتفت إلى الناس عن يساره، فيهلل اللّه مائة تهليلة رافعاً بها صوته، ثم يستقبل الناس، فيحمد اللّه مائة تحميدة، ثم يرفع يديه، فيدعو ثم يدعون، فإني لأرجو أن لا يخيبوا». قال: ففعل، فلما رجعنا قالوا هذا من تعليم جعفر - وفي رواية يونس - فما رجعنا حتى أهمتنا أنفسنا(1).
قال أبو كهمس: حضرت موت إسماعيل، وأبو عبد اللّه (عليه السلام) جالس عنده، ثم قال - بعد كلام كتب على حاشية الكفن -: «إسماعيل يشهد أن لا إله إلا اللّه»(2).
ص: 273
عن حفص بن عمر البجلي، قال: شكوت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) حالي، وانتشار أمري عليَّ.
قال: فقال لي: «إذا قدمت الكوفة فبع وسادةً من بيتك بعشرة دراهم، وادع إخوانك، وأعد لهم طعاماً، وسلهم يدعون اللّه لك».
قال: ففعلت، وما أمكنني ذلك حتى بعت وسادةً، واتخذت طعاماً كما أمرني، وسألتهم أن يدعوا اللّه لي - قال - فو اللّهِ ما مكثت إلا قليلاً حتى أتاني غريم لي، فدق الباب عليَّ وصالحني من مال لي كثير، كنت أحسبه نحواً من عشرة آلاف درهم - قال - ثم أقبلت الأشياء عليَّ(1).
عن حمزة بن حمران والحسن بن زياد، قالا: دخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وعنده قوم، فصلى بهم العصر، وقد كنا صلينا، فعددنا له في ركوعه «سُبْحانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» أربعاً أو ثلاثاً وثلاثين مرةً.
وقال أحدهما - في حديثه -: «وَبِحَمْدِهِ» في الركوع والسجود سواء(2).
ص: 274
21
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يسعى في هداية الناس إلى الحق والصراط المستقيم، وإبعادهم عن الشيطان والمعاصي، وعن كل ضلالة وباطل.
قال أبو بصير: كان لي جار يتبع السلطان، فأصاب مالاً، فاتخذ قياناً. وكان يجمع الجموع، ويشرب المسكر ويؤذيني، فشكوته إلى نفسه غير مرة فلم ينته، فلما ألححت عليه. قال: يا هذا، أنا رجل مبتلًى وأنت رجل معافًى، فلو عرفتني لصاحبك رجوت أن يستنقذني اللّه بك. فوقع ذلك في قلبي، فلما صرت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ذكرت له حاله، فقال (عليه السلام) لي: «إذا رجعت إلى الكوفة فإنه سيأتيك، فقل له: «يقول لك جعفر بن محمد: دع ما أنت عليه، وأضمن لك على اللّه الجنة».
قال: فلما رجعت إلى الكوفة، أتاني فيمن أتى، فاحتبسته حتى خلا منزلي. فقلت: يا هذا، إني ذكرتك لأبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: اقرئه السلام، وقل له: يترك ما هو عليه، وأضمن له على اللّه الجنة. فبكى ثم قال: اللّه قال لك جعفر (عليه السلام) هذا. قال: فحلفت له أنه قال لي ما قلت لك. فقال لي: حسبك ومضى، فلما كان بعد أيام بعث إليِّ ودعاني، فإذا هو خلف باب داره عريان.
ص: 275
فقال: يا أبا بصير، ما بقي في منزلي شيء إلا وخرجت عنه، وأنا كما ترى. فمشيت إلى إخواننا، فجمعت له ما كسوته به، ثم لم يأتِ عليه إلا أيام يسيرة حتى بعث إليَّ أني عليل فأتني. فجعلت أختلف إليه وأعالجه، حتى نزل به الموت. فكنت عنده جالساً، وهو يجود بنفسه، ثم غشي عليه غشيةً ثم أفاق. فقال: يا أبا بصير، قد وفى صاحبك لنا. ثم مات.
فحججت، فأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فاستأذنت عليه. فلما دخلت قال (عليه السلام) لي - ابتداءً من داخل البيت وإحدى رجلي في الصحن والأخرى في دهليز داره -: «يا أبا بصير، قد وفينا لصاحبك»(1).
عن علي بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كتّاب بني أمية. فقال لي: استأذن لي على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فاستأذنت له، فلما دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم؛ لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم، ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم».
فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي من مخرج منه؟. قال: «إن قلت لك تفعل». قال: أفعل. قال: «اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على اللّه عز
ص: 276
وجل الجنة». قال: فأطرق الفتى طويلاً. ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك.
قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه، حتى ثيابه التي كانت على بدنه - قال - فقسمت له قسمةً، واشترينا له ثياباً، وبعثنا إليه بنفقة - قال - فما أتى عليه أشهر قلائل حتى مرض، فكنا نعوده - قال - فدخلت عليه يوماً - وهو في السوق - ففتح عينيه ثم قال: يا علي، وفى لي واللّه صاحبك. قال: ثم مات، فولينا أمره. فخرجت حتى دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فلما نظر إليَّ. قال: «يا علي، وفينا واللّه لصاحبك». قال: فقلت: صدقت جعلت فداك، هكذا قال لي واللّه عند موته(1).
عن هارون بن رئاب، قال: كان لي أخ جارودي، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال لي: «ما فعل أخوك الجارودي؟». قلت: صالح، هو مرضي عند القاضي والجيران في الحالات، غير أنه لا يقر بولايتكم. فقال: «ما يمنعه من ذلك؟». قلت: يزعم أنه يتورع. قال: «فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ». فقدمت على أخي فقلت له: ثكلتك أمك، دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وسألني عنك، وأخبرته أنه مرضي عند الجيران في الحالات كلها، غير أنه لا يقر بولايتكم. فقال: ما يمنعه ذلك؟. قلت: يزعم أنه يتورع. قال: فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ. فقال: أخبرك أبو عبد اللّه بهذا!. قلت: نعم. قال: أشهد أنه حجة رب العالمين. قلت: أخبرني عن قصتك؟. قال: أقبلت من وراء نهر بلخ، فصحبني
ص: 277
رجل معه وصيفة فارهة. فقال: إما أن تقتبس لنا ناراً فأحفظ عليك، وإما أن أقتبس ناراً فتحفظ عليَّ. قلت: اذهب واقتبس وأحفظ عليك، فلما ذهب قمت إلى الوصيفة، وكان مني إليها ما كان. واللّهِ ما أفشت ولا أفشيتُ لأحد، ولم يعلم إلا اللّه. فخرجت من السنة الثانية وهو معي، فأدخلته على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فما خرج من عنده حتى قال بإمامته(1).
عن حماد بن عثمان، قال: أردت الخروج إلى مكة، فأتيت ابن أبي يعفور مودعاً له. فقلت: أ لك حاجة؟. قال: نعم، تقرأ أبا عبد اللّه (عليه السلام) السلام. قال: فقدمت المدينة، فدخلت عليه. فسألني ثم قال: «ما فعل ابن أبي يعفور؟». قلت: صالح جعلت فداك، آخر عهدي به وقد أتيته مودعاً له، فسألني أن أقرئك السلام. قال: «وعليه السلام، أقرئه السلام صلى اللّه عليه، وقل: كن على ما عهدتك عليه»(2).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قيل له: إن أبا الخطاب يذكر عنك، أنك قلت له: إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت. فقال: «لعن اللّه أبا الخطاب. واللّهِ ما قلت له هكذا»(3).
ص: 278
عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: خرج إلينا أبو عبد اللّه (عليه السلام) وهو مغضب. فقال: «إني خرجت آنفاً في حاجة، فتعرض لي بعض سودان المدينة، فهتف بي: لبيك يا جعفر بن محمد لبيك. فرجعت عودي على بدئي إلى منزلي خائفاً ذعراً مما قال، حتى سجدت في مسجدي لربي، وعفرت له وجهي، وذللت له نفسي، وبرئت إليه مما هتف بي. ولو أن عيسى ابن مريم عدا ما قال اللّه فيه؛ إذاً لصم صماً لا يسمع بعده أبداً، وعمي عمًى لا يبصر بعده أبداً، وخرس خرساً لا يتكلم بعده أبداً - ثم قال - لعن اللّه أبا الخطاب وقتله بالحديد»(1).
قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : لعله كان من أصحاب أبي الخطاب، ويعتقد الربوبية فيه (عليه السلام) ، فناداه بما ينادي اللّه تعالى به في الحج، فاضطرب (عليه السلام) ؛ لعظيم ما نسب إليه، وسجد مبرئاً نفسه عند اللّه من ذلك، ولعن أبا الخطاب لأنه كان مخترع هذا المذهب الفاسد(2).
روي أنه: كتب المنصور إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) : لِمَ لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟!. فأجابه (عليه السلام) : «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك، ولا تراها نقمةً فنعزيك بها، فما نصنع عندك؟».
ص: 279
قال: فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا. فأجابه: «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك». فقال المنصور: واللّهِ لقد ميز عندي منازل الناس من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة، وإنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا(1).
عن الربيع صاحب المنصور، قال: قال المنصور يوماً لأبي عبد اللّه (عليه السلام) - وقد وقع على المنصور ذباب فذبه عنه، ثم وقع عليه فذبه عنه، ثم وقع عليه فذبه عنه - فقال: يا أبا عبد اللّه، لأي شيء خلق اللّه عز وجل الذباب؟. قال: «ليذل به الجبارين»(2).
ص: 280
22
عن بعض أصحابنا، قال: لما قدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) الحيرة، ركب دابته ومضى إلى الخورنق، ونزل فاستظل بظل دابته، ومعه غلام له أسود، وثم رجل من أهل الكوفة قد اشترى نخلاً. فقال للغلام: «من هذا؟». قال له: «هذا جعفر بن محمد (عليه السلام) ». فجاء بطبق ضخم، فوضعه بين يديه (عليه السلام) . فقال للرجل: «ما هذا؟». قال: هذا البرني. فقال: «فيه شفاء». ونظر إلى السابري، فقال: «ما هذا؟». فقال: «السابري». فقال: «هذا عندنا البيض». وقال للمشان: «ما هذا؟». فقال الرجل: المشان. فقال: «هذا عندنا أم جرذان». ونظر إلى الصرفان، فقال: «ما هذا؟». فقال الرجل: الصرفان. فقال: «هو عندنا العجوة، وفيه شفاء»(1).
عن رجل من العامة، قال: كنت أجالس أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، فلا واللّهِ ما رأيت مجلساً أنبل من مجالسه. قال: فقال لي ذات يوم: «من أين تخرج العطسة؟». فقلت: من الأنف. فقال لي: «أصبت الخطأ». فقلت: جُعلت فداك، من أين
ص: 281
تخرج؟!. فقال: «من جميع البدن، كما أن النطفة تخرج من جميع البدن، ومخرجها من الإحليل - ثم قال - أما رأيت الإنسان إذا عطس نفض أعضاؤه، وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام»(1).
عن ابن أذينة، قال: شكا رجل إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) شقاقاً في يديه ورجليه. فقال له: «خذ قطنةً فاجعل فيها باناً، وضعها على سرتك». فقال إسحاق بن عمار: جُعلت فداك، أن يجعل البان في قطنة، ويجعلها في سرته؟. فقال: «أما أنت يا إسحاق فصب البان في سرتك؛ فإنها كبيرة». قال ابن أذينة: لقيت الرجل بعد ذلك، فأخبرني أنه فعله مرةً واحدةً فذهب عنه(2).
عن زرارة - في حديث - عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «نعم الطعام الأرز، يوسع الأمعاء، ويقطع البواسير. وإنا لنغبط أهل العراق بأكلهم الأرز والبسر؛ فإنهما يوسعان الأمعاء، ويقطعان البواسير»(3).
حدث أبو هفان - وابن ماسويه حاضر -: أن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «الطبائع أربع: الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده، والريح وهو عدو إذا
ص: 282
سددت له باباً أتاك من آخر، والبلغم وهو ملك يدارى، والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها». فقال: أعد عليَّ، فو اللّهِ ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف(1).
عن علي بن أسباط، عمن رواه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان بيني وبين رجل قسمة أرض، وكان الرجل صاحب نجوم، وكان يتوخى ساعة السعود فيخرج فيها، وأخرج أنا في ساعة النحوس. فاقتسمنا فخرج لي خير القسمين، فضرب الرجل بيده اليمنى على اليسرى، ثم قال: ما رأيت كاليوم قط!. قلت: ويل الآخر وما ذاك. قال: إني صاحب نجوم، أخرجتك في ساعة النحوس، فخرجت أنا في ساعة السعود، ثم قسمنا فخرج لك خير القسمين. فقلت: ألا أحدثك بحديث حدثني به أبي (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من سره أن يدفع اللّه عنه نحس يومه، فليفتتح يومه بصدقة يذهب اللّه بها عنه نحس يومه. ومن أحب أن يذهب اللّه عنه نحس ليلته، فليفتتح ليلته بصدقة يدفع اللّه عنه نحس ليلته. فقلت: وإني افتتحت خروجي بصدقة، فهذا خير لك من علم النجوم»(2).
روي عن عبد اللّه بن النجاشي، قال: أصاب جبةً لي فرواً ماء ميزاب، فغمستها في الماء في وقت بارد، فلما دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ابتدأني وقال:
ص: 283
«إن الفراء إذا غسلت بالماء فسدت»(1).
عن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إن رجلاً استشارني في الحج، وكان ضعيف الحال، فأشرت عليه أن لا يحج؟. فقال: «ما أخلقك أن تمرض سنةً». فقال: فمرضت سنةً(2).
عن داود بن زربي، قال: أخبرني مولًى لعلي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: كنت بالكوفة، فقدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) الحيرة فأتيته. فقلت: جعلت فداك، لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء، فأدخل في بعض هذه الولايات. فقال: «ما كنت لأفعل». قال: فانصرفت إلى منزلي فتفكرت، فقلت: ما أحسبه منعني؛ إلا مخافة أن أظلم أو أجور. واللّهِ لآتينه ولأعطينه الطلاق والعتاق والأيمان المغلظة، أن لا أظلم أحداً، ولا أجور، ولأعدلن - قال - فأتيته. فقلت: جعلت فداك، إني فكرت في إبائك عليَّ، فظننت أنك إنما كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، وإن كل امرأة لي طالق، وكل مملوك لي حر، وعليَّ وعليَّ إن ظلمت أحداً، أو جرت عليه، وإن لم أعدل. قال: «كيف!». قلت: قال: فأعدت عليه الأيمان. فرفع رأسه إلى السماء، فقال: «تناول السماء أيسر عليك من ذلك»(3).
ص: 284
عن سعيد بن عمرو الجعفي، قال: خرجت إلى مكة، وأنا من أشد الناس حالاً، فشكوت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فلما خرجت من عنده، وجدت على بابه كيساً فيه سبعمائة دينار، فرجعت إليه من فوري ذلك فأخبرته. فقال: «يا سعيد، اتق اللّه وعرفه في المشاهد». وكنت رجوت أن يرخص لي فيه، فخرجت وأنا مغتم، فأتيت منًى فتنحيت عن الناس، وتقصيت حتى أتيت الموقوفة، فنزلت في بيت متنحياً من الناس، ثم قلت: من يعرف الكيس؟. قال: فأول صوت صوته، إذا رجل على رأسي يقول: أنا صاحب الكيس. قال: فقلت في نفسي: أنت فلا كنت. قلت: ما علامة الكيس؟. فأخبرني بعلامته، فدفعته إليه - قال - فتنحى ناحيةً فعدها، فإذا الدنانير على حالها، ثم عد منها سبعين ديناراً. فقال: خذها حلالاً خير من سبعمائة حراماً. فأخذتها ثم دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأخبرته كيف تنحيت، وكيف صنعت. فقال: «أما إنك حين شكوت إليَّ أمرنا لك بثلاثين ديناراً. يا جارية، هاتيها». فأخذتها وأنا من أحسن قومي حالاً(1).
عن الوليد بن صبيح، قال: قال لي شهاب بن عبد ربه: أقرئ أبا عبد اللّه (عليه السلام) عني السلام، وأعلمه أنه يصيبني فزع في منامي. قال: فقلت له: إن شهاباً يقرئك السلام، ويقول لك: إنه يصيبني فزع في منامي. قال: «قل له: فليزك ماله». قال: فأبلغت شهاباً ذلك. فقال لي: فتبلغه عني. فقلت: نعم. فقال: قل له: إن الصبيان فضلاً عن الرجال ليعلمون أني أزكي مالي. قال: فأبلغته. فقال
ص: 285
أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «قل له: إنك تخرجها ولا تضعها في مواضعها»(1).
محمد بن الفيض، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال أبو جعفر الدوانيق للصادق (عليه السلام) : تدري ما هذا؟. قال: «وما هو». قال: جبل هناك يقطر منه في السنة قطرات فيجمد، فهو جيد للبياض يكون في العين يكحل به فيذهب بإذن اللّه». قال: «نعم، أعرفه وإن شئت أخبرتك باسمه وحاله. هذا جبل كان عليه نبي من أنبياء بني إسرائيل هارباً من قومه، فعبد اللّه عليه، فعلم قومه فقتلوه، فهو يبكي على ذلك النبي، وهذه القطرات من بكائه له، ومن الجانب الآخر عين تنبع من ذلك الماء بالليل والنهار، ولا يوصل إلى تلك العين»(2).
عن عبد اللّه بن سنان، قال: لما قدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) على أبي العباس وهو بالحيرة، خرج يوماً يريد عيسى بن موسى، فاستقبله بين الحيرة والكوفة، ومعه ابن شبرمة القاضي. فقال له: إلى أين يا أبا عبد اللّه؟. فقال: «أردتك». فقال: قد قصر اللّه خطوك. قال: فمضى معه. فقال له ابن شبرمة: ما تقول يا أبا عبد اللّه في شيء سألني عنه الأمير- فلم يكن عندي فيه شيء. فقال: «وما هو؟». قال: سألني عن أول كتاب كتب في الأرض. قال: «نعم، إن اللّه عز وجل عرض على آدم ذريته عرض العين في صور الذر، نبياً فنبياً، وملكاً فملكاً، ومؤمناً فمؤمناً،
ص: 286
وكافراً فكافراً، فلما انتهى إلى داود (عليه السلام) . قال: من هذا الذي نبأته وكرمته وقصرت عمره؟. قال: فأوحى اللّه عز وجل إليه: هذا ابنك داود عمره أربعون سنةً، وإني قد كتبت الآجال، وقسمت الأرزاق، وأنا أمحو ما أشاء وأثبت وعندي أم الكتاب، فإن جعلت له شيئاً من عمرك، ألحقته له. قال: يا رب، قد جعلت له من عمري ستين سنةً، تمام المائة. قال: فقال اللّه عز وجل لجبرئيل وميكائيل وملك الموت: اكتبوا عليه كتاباً؛ فإنه سينسى. قال: فكتبوا عليه كتاباً، وختموه بأجنحتهم من طينة عليين. قال: فلما حضرت آدم الوفاة، أتاه ملك الموت. فقال آدم: يا ملك الموت، ما جاء بك؟!. قال: جئت لأقبض روحك. قال: قد بقي من عمري ستون سنةً. فقال: إنك جعلتها لابنك داود. قال: ونزل عليه جبرئيل، وأخرج له الكتاب. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : فمن أجل ذلك إذا خرج الصك على المديون ذل المديون، فقبض روحه»(1).
عن محمد بن مسلم، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وعنده أبو حنيفة. فقلت له: جعلت فداك، رأيت رؤيا عجيبةً. فقال: «يا ابن مسلم، هاتها؛ فإن العالم بها جالس»، وأومأ بيده إلى أبي حنيفة. قال: فقلت: رأيت كأني دخلت داري، وإذا أهلي قد خرجت عليَّ، فكسرت جوزاً كثيراً ونثرته عليَّ، فتعجبت من هذه الرؤيا. فقال أبو حنيفة: أنت رجل تخاصم وتجادل لئاماً في مواريث أهلك، فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء اللّه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) :
ص: 287
«أصبت واللّه يا أبا حنيفة». قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده. فقلت: جعلت فداك، إني كرهت تعبير هذا الناصب. فقال: «يا ابن مسلم، لا يسؤك اللّه فما يواطئ تعبيره تعبيرنا، ولا تعبيرنا تعبيرهم، وليس التعبير كما عبره». قال: فقلت له: جعلت فداك، فقولك: أصبت، وتحلف عليه وهو مخطئ!. قال: «نعم، حلفت عليه أنه أصاب الخطاء». قال: فقلت له: فما تأويلها؟. قال: «يا ابن مسلم، إنك تتمتع بامرأة فتعلم بها أهلك، فتخرق عليك ثياباً جدداً؛ فإن القشر كسوة اللب». قال ابن مسلم: فو اللّهِ ما كان بين تعبيره وتصحيح الرؤيا إلا صبيحة الجمعة، فلما كان غداة الجمعة، أنا جالس بالباب، إذ مرت بي جارية فأعجبتني، فأمرت غلامي فردها، ثم أدخلها داري، فتمتعت بها، فأحست بي وبها أهلي، فدخلت علينا البيت، فبادرت الجارية نحو الباب، فبقيت أنا، فمزقت عليَّ ثياباً جدداً كنت ألبسها في الأعياد(1).
عن علي بن أسباط، قال: قال سفيان بن عيينة لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنه يروى أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن من الثياب، وأنت تلبس القوهي المروي!. قال: «ويحك إن علياً (عليه السلام) كان في زمان ضيق، فإذا اتسع الزمان فأبرار الزمان أولى به»(2).
وعن أحمد بن عمر، قال: سمعت بعض أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) يحدث:
ص: 288
أن سفيان الثوري دخل على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وعليه ثياب جياد. فقال: يا أبا عبد اللّه، إن آباءك لم يكونوا يلبسون مثل هذه الثياب!. فقال له: «إن آبائي (عليهم السلام) كانوا يلبسون ذاك في زمان مقفر مقصر مقتر، وهذا زمان قد أرخت الدنيا عزاليها، فأحق أهلها بها أبرارهم»(1).
وعن محمد بن علي رفعه، قال: مر سفيان الثوري في المسجد الحرام، فرأى أبا عبد اللّه (عليه السلام) وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان. فقال: واللّهِ لآتينه ولأوبخنه. فدنا منه فقال: يا ابن رسول اللّه، واللّهِ ما لبس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل هذا اللباس، ولا علي (عليه السلام) ، ولا أحد من آبائك!.
فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في زمن قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها، فأحق أهلها بها أبرارها - ثم تلا - {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(2)، فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه اللّه. غير أني - يا ثوري - ما ترى عليَّ من ثوب إنما لبسته للناس».
ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه، ثم رفع الثوب الأعلى، وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً. فقال: «هذا لبسته لنفسي غليظاً، وما رأيته للناس». ثم جذب ثوباً على سفيان أعلاه غليظ خشن، وداخل ذلك ثوب لين، فقال: «لبست هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسرها»(3).
ص: 289
عن حريز، قال: كانت لإسماعيل بن أبي عبد اللّه دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن. فقال إسماعيل: يا أبه، إن فلاناً يريد الخروج إلى اليمن، وعندي كذا وكذا ديناراً، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعةً من اليمن؟.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا بني، أ ما بلغك أنه يشرب الخمر».
فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس.
فقال (عليه السلام) : «يا بني، لا تفعل».
فعصى إسماعيل أباه، ودفع إليه دنانير، فاستهلكها ولم يأته بشيء منها.
فخرج إسماعيل، وقضي أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) حج، وحج إسماعيل تلك السنة، فجعل يطوف بالبيت ويقول: اللّهم آجرني واخلف عليَّ.
فلحقه أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، فهمزه بيده من خلفه، وقال له: «مه يا بني، فلا واللّهِ ما لك على اللّه هذا، ولا لك أن يؤجرك، ولا يخلف عليك، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته». فقال إسماعيل: يا أبه، إني لم أره يشرب الخمر، إنما سمعت الناس يقولون. فقال: «يا بني، إن اللّه عز وجل يقول في كتابه: {يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(1)، يقول: يصدق لله ويصدق للمؤمنين. فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، ولا تأتمن شارب الخمر؛ فإن اللّه عز وجل يقول في كتابه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}(2)، فأي سفيه أسفه من شارب الخمر. إن شارب الخمر
ص: 290
لا يزوج إذا خطب، ولا يشفع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها، لم يكن للذي ائتمنه على اللّه أن يؤجره، ولا يخلف عليه»(1).
عن زرعة، قال: كان رجل بالمدينة، وكان له جارية نفيسة. فوقعت في قلب رجل، وأعجب بها، فشكا ذلك إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . قال: «تعرض لرؤيتها، وكلما رأيتها فقل: أسأل اللّه من فضله». ففعل.
فما لبث إلا يسيراً حتى عرض لوليها سفر، فجاء إلى الرجل. فقال: يا فلان، أنت جاري وأوثق الناس عندي، وقد عرض لي سفر، وأنا أحب أن أودعك فلانة جاريتي، تكون عندك.
فقال الرجل: ليس لي امرأة، ولا معي في منزلي امرأة، فكيف تكون جاريتك عندي!.
فقال: أقومها عليك بالثمن، وتضمنه لي، تكون عندك، فإذا أنا قدمت، فبعنيها أشتريها منك، وإن نلت منها ما يحل لك، ففعل وغلظ عليه في الثمن. وخرج الرجل، فمكثت عنده ما شاء اللّه، حتى قضى وطره منها، ثم قدم رسول لبعض خلفاء بني أمية، يشتري له جواري، فكانت هي فيمن سمي أن يشترى. فبعث الوالي إليه، فقال له: جارية فلان. قال: فلان غائب. فقهره على بيعها، فأعطاه من الثمن ما كان فيه ربح، فلما أخذت الجارية، وأخرج بها من المدينة، قدم مولاها، فأول شيء سأله، سأله عن الجارية كيف هي. فأخبره بخبرها،
ص: 291
وأخرج إليه المال كله، الذي قومه عليه والذي ربح. فقال: هذا ثمنها فخذه.
فأبى الرجل فقال: لا آخذ إلا ما قومت عليك، وما كان من فضل فخذه لك هنيئاً. فصنع اللّه له بحسن نيته(1).
ص: 292
23
كان قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لا يعرفه إلا خاص الخاص من الشيعة إلى أن ورد الإمام الصادق (عليه السلام) الحيرة في زمن السفاح فأظهره لشيعته، فأصبح مزاراً للمؤمنين إلى يومنا هذا(1).
وقد كان أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) بإخفاء قبره الشريف، حفظاً عن الأعداء من الخوارج، وبني أمية وغيرهم.
روي أنه قال المنصور للصادق (عليه السلام) : قد استدعاك أبو مسلم لإظهار تربة علي (عليه السلام) فتوقفت، تعلم أم لا؟. فقال: «إن في كتاب علي (عليه السلام) أنه يظهر في أيام عبد اللّه بن جعفر الهاشمي». ففرح المنصور بذلك(2).
عن صفوان الجمال، قال: لما وافيت مع جعفر الصادق (عليه السلام) الكوفة، يريد أبا
ص: 293
جعفر المنصور. قال لي: «يا صفوان، أنخ الراحلة؛ فهذا قبر جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) ». فأنختها، ثم نزل فاغتسل، وغير ثوبه، وتحفى، وقال لي: «افعل مثل ما أفعله». ثم أخذ نحو الذكوة وقال لي: «قصر خطاك، وألق ذقنك الأرض؛ فإنه يكتب لك بكل خطوة مائة ألف حسنة، ويمحى عنك مائة ألف سيئة، وترفع لك مائة ألف درجة، وتقضى لك مائة ألف حاجة، ويكتب لك ثواب كل صديق وشهيد مات أو قُتل. ثم مشى ومشيت معه، وعلينا السكينة والوقار، نسبح ونقدس ونهلل، إلى أن بلغنا الذكوات. فوقف (عليه السلام) ونظر يمنةً ويسرةً، وخط بعكازته، فقال لي: «اطلب». فطلبت فإذا أثر القبر، ثم أرسل دموعه على خده، وقال: «السلاَمُ عَلَيْكَ أَيهَا الْوَصِي الْبَر التقِي، السلاَمُ عَلَيْكَ أَيهَا النبَأُ الْعَظِيمُ، السلاَمُ عَلَيْكَ أَيهَا الصديقُ الرشِيدُ، السلاَمُ عَلَيْكَ أَيهَا الْبَر الزكِي، السلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَصِي رَسُولِ رَب الْعَالَمِينَ، السلاَمُ عَلَيْكَ يَا خِيَرَةَ اللّهِ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، أَشْهَدُ أَنكَ حَبِيبُ اللّهِ وَخَاصتُهُ وَخَالِصَتُهُ، السلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَلِي اللّهِ وَمَوْضِعَ سِره،ِ وَعَيْبَةَ عِلْمِهِ، وَخَازِنَ وَحْيِهِ - ثم انكب على قبره وقال - بِأَبِي أَنْتَ وأُمي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمي يَا حُجةَ الْخِصَامِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمي يَا بَابَ الْمَقَامِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمي يَا نُورَ اللّهِ التام، أَشْهَدُ أَنكَ قَدْ بَلغْتَ عَنِ اللّهِ وَعَنْ رَسُولِ اللّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مَا حُملْتَ، وَرَعَيْتَ مَا اسْتُحْفِظْتَ، وَحَفِظْتَ مَا اسْتُودِعْتَ، وَحَللْتَ حَلالَ اللّهِ، وَحَرمْتَ حَرَامَ اللّهِ، وَأَقَمْتَ أَحْكَامَ اللّهِ، وَلَمْ تَتَعَد حُدُودَ اللّهِ، وَعَبَدْتَ اللّهَ مُخْلِصاً حَتى أَتَاكَ الْيَقِينُ، صَلى اللّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى الأَئِمةِ مِنْ بَعْدِكَ».
ثم قام فصلى عند الرأس ركعات، وقال: «يا صفوان، من زار أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه الزيارة، وصلى بهذه الصلاة، رجع إلى أهله مغفوراً ذنبه، مشكوراً سعيه، ويكتب له ثواب كل من زاره من الملائكة».
ص: 294
قلت: ثواب كل من يزوره من الملائكة؟. قال: «يزوره في كل ليلة سبعون قبيلةً». قلت: كم القبيلة؟. قال: «مائة ألف». ثم خرج من عنده القهقرى، وهو يقول: «يَا جَداهْ، يَا سَيدَاهْ، يَا طَيبَاهْ، يَا طَاهِرَاهْ، لاَ جَعَلَهُ اللّهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْكَ، وَرَزَقَنِي الْعَوْدَ إِلَيْكَ، وَالْمُقَامَ فِي حَرَمِكَ، وَالْكَوْنَ مَعَكَ وَمَعَ الأَبْرَارِ مِنْ وُلْدِكَ، صَلى اللّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى الْمَلاَئِكَةِ الْمُحْدِقِينَ بِكَ».
قلت: يا سيدي، تأذن لي أن أخبر أصحابنا من أهل الكوفة به؟. فقال: «نعم». وأعطاني دراهم وأصلحت القبر(1).
في زمن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) تعددت الفرق الإسلامية ومذاهبها أكثر من ذي قبل، وقد ورد عن رسول اللّه (صلى لله عليه وآله): أنه قال لعلي (عليه السلام) : «سَتَفْتَرِقُ أُمتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَالْبَاقُونَ هَالِكُونَ، وَالناجُونَ الذِينَ يَتَمَسكُونَ بِوَلاَيَتِكُمْ، وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ عِلْمِكُمْ، وَلاَ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»(2).
وفي رواية أخرى: عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «سَتَفْتَرِقُ أُمتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحَرمُونَ الْحَلاَلَ وَيُحَللُونَ الْحَرَامَ»(3).
ص: 295
والظاهر أن العدد هنا ليس للتحديد الحقيقي، بل للمبالغة والكثرة، كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}(1)؛ لأن السبعين فما فوق كان في اصطلاحهم كصيغة المبالغة، وإلا فمن الممكن أن تصبح الفِرَق أكثر من ثلاثة وسبعين.
وعلى أي حال، فإن التحزب والتفرق في الأمة الإسلامية بدأ بعد استشهاد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبسبب مخالفتهم لنصه على خليفته الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
وقد ازدادت الفرق في وقعة الجمل وصفين وغيرهما، وهكذا إلى عصر الإمام الصادق (عليه السلام) فازدادت بشكل واضح، وكان من أهم الفرق آنذاك: المرجئة، والمعتزلة، والخوارج، والشيعة.
المرجئة: كانوا من فرق أبناء العامة، وكان اعتقادهم أن علياً (عليه الصلاة والسلام) له من الخلافة الدرجة الرابعة، فتأخر من المرتبة الأولى للرابعة، وتمسكوا بآية مباركة: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ}(2).
والمعتزلة: نشئوا في عهد الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام)، وسموا بذلك لأن رؤساءهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، اتخذوا العزلة من حوزة الحسن البصري، وقيل: إن الحسن البصري أطلق عبارة (اعْتزَلنا واصِلٌ) في حينها.
والخوارج: نشئوا بعد قصة تحكيم الحكمين في حرب صفين، وكانوا من وراء حرب النهروان، وهم الذين قتلوا أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر معاوية، فإن ابن ملجم كان منهم وقد قتل الإمام بدسيسة من معاوية.
ص: 296
أما الشيعة: فهم أتباع الإمام علي والعترة الطاهرة (عليه وعليهم السلام)، وقد سماهم بذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وظهرت فيهم بعد الإمام الحسين (عليه السلام) بعض الفرق، وكان من أسبابه الضغط الكبير من الحكومات الجائرة على العترة الطاهرة، بحيث لم يتمكن بعض الناس من معرفة إمامهم، مضافاً إلى بعض العوامل الأخرى المذكورة في محلها.
وكان من تلك الفرق: الكيسانية، والزيدية، والإسماعيلية، والفطحية، وغيرها. وقد انقرض بعضها، ولكن بقيت الإمامية الاثني عشرية إلى يومنا هذا كما أخبر به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعلى مر التاريخ رجع الكثير من تلك الفرق الشيعية إلى الاثني عشرية بعد التعرف على حقانيتها.
نعم، كانت الفِرَق في أبناء العامة أكثر بكثير مما هو في الشيعة. ولكن انقرضت أغلب الفرق المخترعة والمبتدعة، سواء في أبناء العامة أو عند الشيعة بمرور الزمن.
كتب بعض المؤرخين أن السيدة سكينة بنت الحسين (عليه السلام) توفيت في يوم الخميس 5 ربيع المولود من عام 117 هجرية. وكتب البعض بأنها توفيت في نفس السنة. ولا يخفى أن السيدة السكينة (عليها الصلاة والسلام) كانت من النساء المؤمنات العابدات الزاهدات وكانت صديقة.
أما ما ورد في بعض التواريخ أنها كانت تقرأ الأشعار، وتحضر مجلس الشعراء، بما لا يليق بكرامة المؤمنة فهو كذب وافتراء، ومن موضوعات بني أمية وبني العباس على ما ذكرناه سابقاً، وأنها تدور ضمن السياسة الإعلامية المضادة لأهل البيت (عليهم السلام) .
وتفصيل الكلام في الكتب المؤلفة حول سكينة بنت الحسين (عليهما السلام) .
ص: 297
مما وقع في زمان الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) مقتل محمد بن عبد اللّه المحض (عليه السلام) ، وكان من كبار أهل بيت (عليهم السلام) ، وكان يلقب بالنفس الزكية؛ لكثرة صلاته وصيامه، وعظيم صدقاته، وكثرة قراءته للقرآن، وكان رجلاً عابداً زاهداً.
وقد خرج (رضوان اللّه عليه) في المدينة المنورة ضد الحكام العباسيين وظلمهم، وتمكن من السيطرة على الحجاز، واجتمع الناس حوله في مكة والمدينة وحواليهما واتبعوه، فلما وصل الخبر إلى المنصور العباسي، أرسل عيسى بن موسى - وكان ولي عهده - لمقاتلة الثائرين.
فقُتل العديد من أصحاب محمد بن عبد اللّه المحض، وفر البعض منهم، وكان محمد يحارب الأعداء محاربة الأبطال، حتى أن شخصاً يدعى محمد بن قحطبة ضربه بالسيف في صدره، وأوقعه على التراب، وقطع رأسه الشريف، وأرسل الرأس إلى المنصور، وكان في حبس المنصور عبد اللّه المحض - وهو والد محمد - فأرسل المنصور رأس الولد إلى والده، فترحم الوالد على ولده وقال: رحمك اللّه، قتلوك وكنت كثير الصلاة، وكثير الصيام.
وقال للرسول: أخبر صاحبك بأنه لم يبق من عمرك إلا وأنت تعيش في السوء.
وفي التاريخ: أن محمد بن عبد اللّه المحض لما رأى قرب استشهاده، كان عنده ديوان فيه أسماء أصحابه ومن بايعه، فأحرقه حتى لا يقع بيد جلاوزة بني العباس؛ فيوجب الضرر عليهم.
وحين استشهد محمد بن عبد اللّه المحض كان له أخ يسمى بإبراهيم في البصرة، فوصل خبر مقتل أخيه قبل نهاية شهر رمضان من تلك السنة بثلاثة أيام، فخرج
ص: 298
مع جمع إلى الكوفة. فكتب المنصور إلى عيسى بن موسى وحميد بن قحطبة - وكانا في مكة - أن أخرجا إلى الكوفة لمقاتلة إبراهيم.
وكان في ديوان إبراهيم اسم مائة ألف ممن بايعوه ضد بني العباس؛ للخلاص من جورهم. وفي ليلة من الليالي وحيث كان إبراهيم في طريقه من البصرة إلى الكوفة خرج متخفياً، فسمع صوت طنبور عند بعض جيشه. فقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا.
ثم التقى الجيشان في منطقة تسمى «باخمرا» وهي بين الكوفه وواسط، وقيل: إنها تقع في 16 فرسخاً عن الكوفة. وكان تعداد جيش بني العباس يبلغ ثمانية عشر ألفاً بقيادة عيسى بن موسى وحميد بن قحطبة. فبدأت الحرب، وفي أثنائها أصاب سهم صدر إبراهيم بن عبد اللّه المحض، فوقع من فرسه على الأرض، فاجتمع عليه بعض أصحابه، فقال لهم: استمروا في محاربة الظالمين واهزموهم. لكنهم اشتغلوا ببعض المقتولين، وانهزم بعضهم، فسيطر جيش بني العباس على المعركة، وقطعوا رأس إبراهيم بن عبد اللّه المحض، وأرسلوه إلى المنصور.
وقد أشار دعبل الخزاعي في قصيدته المعروفة إلى شهداء باخمرا بقوله:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً***وقد مات عطشاناً بشط فرات
إلى أن قال:
وأخرى بأرض الجوزجان محلها***وقبر بباخمرى لدى الغربات
ولما جاؤوا برأس إبراهيم بن عبد اللّه المحض إلى المنصور، أمر بقتل أبيه عبد اللّه المحض، الذي كان في سجنه، فقتلوه.
وأراد المنصور أن ينسب ثورة محمد بن عبد اللّه المحض إلى الإمام الصادق (عليه السلام) ، فتكون ذريعة لقتل الإمام، فأحضر الإمام وأخذ يهدده، ويهدد أصحابه وشيعته.
ص: 299
روي عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: لما دُفعت إلى أبي جعفر المنصور انتهرني، وكلمني بكلام غليظ، ثم قال لي: يا جعفر، قد علمت بفعل محمد بن عبد اللّه، الذي تسمونه النفس الزكية وما نزل به، وإنما أنتظر الآن أن يتحرك منكم أحد فألحق الكبير بالصغير.
قال: فقلت: «يا أمير، حدثني محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيمدها اللّه إلى ثلاث وثلاثين سنةً. وإن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنةً، فيبترها اللّه تعالى إلى ثلاث سنين».
قال: فقال لي: واللّه، لقد سمعت هذا من أبيك؟!. قلت: «نعم، حتى رددها عليَّ ثلاثاً، ثم قال: انصرف»(1).
ولا يخفى أن قيام وثورة هؤلاء الأطهار الأفاضل من أولاد أهل البيت (عليهم السلام) وذراريهم ضد بني العباس ومن قبلهم من الطغاة، كان بتنسيق مع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وإذن منهم، ولكن من دون بيان الانتساب إليهم، وتأييدهم الظاهري.
بل ربما كان يقتضي الأمر نفي الانتساب، وبيان ما تقتضيه التقية، حفظاً
ص: 300
للمعصوم (عليه السلام) ، وإبقاءً على العترة الطاهرة وشيعتهم. وكان في خروج ذراري أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) على حكومة بني أمية وبني العباس فوائد عديدة، نشير إلى بعضها:
أولاً: كان ذلك سلباً لشريعة أولئك الطغاة، وسبباً لإضعاف دولتهم، وإبعاد الناس عنهم وفضحهم، وأنهم ليسوا خلفاء لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل لا يعدوا كونهم حكاماً مستبدين لا يمثلون الدين.
ثانياً: كان ذلك سبباً لأن يقلل الحاكم الظالم شيئاً من ظلمه وجوره ضد الناس، ويسعى في تقليل تظاهره بسحق التعاليم الدينية.
ثالثاً: تحرر بعض المناطق على إثر هذه الثورات من ظلم بني العباس، إلى أن سقطت حكومة الجائرين بالكامل.
ففي زمان الإمام الصادق (عليه السلام) خرج غرب البلاد من سيطرة العباسيين، وكان يحكمه العلويون بزعامة إدريس، وهو ابن عم الإمام، وقد حكم الأدارسة بالعدل بين الناس، وإن بقي الشرق بيد العباسيين.
ومما يلزم ذكره، أنه يستفاد من بعض الروايات والتواريخ، أن خروج أبناء الأئمة وذويهم (عليهم السلام) ضد الحكومات الجائرة، كان بأمر من الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وكانوا في واقع الأمر يشجعونهم، ويساعدونهم على جهادهم، وإن كان في الظاهر يراعون التقية، وربما تبرؤوا من الثائرين، كما تبرؤوا أحياناً من بعض أفاضل أصحابهم؛ للتقية وحفاظاً عليهم.
وفي بعض رواياتهم، أن هذا التبري من أصحابهم بحسب الظاهر، هو بمنزلة تخريب الخضر لسفينة المساكين؛ حتى لا يصادرها الملك المتجبر، وتبقى لأصحابها.
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ
ص: 301
وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}(1).
وجاء في وصية الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول، قال: «اعلم أن الحسن بن علي (عليه السلام) لما طعن، واختلف الناس عليه سلم الأمر لمعاوية، فسلمت عليه الشيعة: عليك السلام يا مذل المؤمنين. فقال (عليه السلام) : ما أنا بمذل المؤمنين؛ ولكني معز المؤمنين. إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة، سلمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها، وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم»(2).
وقد ذكرنا بعض تفصيل ذلك في بعض كتبنا فلا حاجة إلى التكرار.
ومما يؤيد هذا الأمر، أن هؤلاء المجاهدين لم يخالفوا أمر الإمام (عليه السلام) ، أنه شهد الحسين بن زيد حرب محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ثم توارى، وكان مقيماً في منزل جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وكان جعفر رباه، ونشأ في حجره مذ قُتل أبوه، وأخذ عنه علماً كثيراً.
وكان الحسين بن زيد يلقب ذا الدمعة؛ لكثرة بكائه، وفي بعض النسخ: الحسن بن زيد.
من الوقائع التاريخية الفجيعة التي حدثت في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) ، مقتل الشهيد زيد بن علي بن الحسين (رضوان اللّه عليه).
حيث كانت شهادته في يوم الاثنين الثاني من شهر صفر، وكان عمره الشريف
ص: 302
42 سنة.
وكان زيد (رضوان اللّه عليه) أفضل أخوته بعد الإمام محمد الباقر، وأعبدهم، وأورعهم، وأفقههم، وأسخاهم، وأشجعهم. وقد خرج على الطغاة بالسيف، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وطلب بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أن استشهد في الكوفة، وكان خروجه بإذن من المعصوم (عليه السلام) .
وكان زيد سليم العقيدة، معتقداً بالإمامة والولاية، مطيعاً للأئمة (صلوات
اللّه عليهم). فعن عمرو بن خالد، قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه، ولا يهتدي من خالفه»(1).
وقد ذكرنا بعض التفصيل عن زيد الشهيد (رضوان اللّه عليه) في كتاب «من حياة الإمام السجاد (عليه السلام) ».
أما ما كان يظهر من بعض الروايات بخلاف ذلك؛ فإنه كان تقية.
روي عن معتب، قال: قرع باب مولاي الصادق (عليه السلام) فخرجت، فإذا بزيد بن علي (عليه السلام) . فقال الصادق (عليه السلام) لجلسائه: «ادخلوا هذا البيت، وردوا الباب، ولا يتكلم منكم أحد». فلما دخل، قام إليه فاعتنقا، وجلسا طويلاً يتشاوران، ثم علا الكلام بينهما. فقال زيد: دع ذا عنك يا جعفر. فو اللّهِ لئن لم تمد يدك حتى أبايعك، أو هذه يدي فبايعني، لأتعبنك ولأكلفنك ما لا تطيق، فقد تركت الجهاد، وأخلدت إلى الخفض، وأرخيت الستر، واحتويت على مال الشرق والغرب. فقال الصادق (عليه السلام) : «يرحمك اللّه يا عم، يغفر اللّه لك يا عم». وزيد
ص: 303
يسمعه ويقول: موعدنا الصبح، أ ليس الصبح بقريب. ومضى، فتكلم الناس في ذلك. فقال: «مه، لا تقولوا لعمي زيد إلا خيراً، رحم اللّه عمي، فلو ظفر لوفى». فلما كان في السحر، قرع الباب، ففتحت له الباب، فدخل يشهق ويبكي، ويقول: ارحمني - يا جعفر - يرحمك اللّه. ارض عني - يا جعفر - رضي اللّه عنك. اغفر لي - يا جعفر - غفر اللّه لك.
فقال الصادق (عليه السلام) : «غفر اللّه لك ورحمك ورضي عنك، فما الخبر يا عم!». قال: نمت فرأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) داخلاً عليَّ، وعن يمينه الحسن، وعن يساره الحسين، وفاطمة خلفه، وعلي أمامه، وبيده حربة تلتهب التهاباً كأنه نار، وهو يقول: «إيهاً يا زيد آذيت رسول اللّه في جعفر. واللّهِ لئن لم يرحمك ويغفر لك ويرضى عنك، لأرمينك بهذه الحربة، فلأضعها بين كتفيك، ثم لأخرجها من صدرك». فانتبهت فزعاً مرعوباً، فصرت إليك، فارحمني يرحمك اللّه. فقال: «رضي اللّه عنك وغفر لك. أوصني فإنك مقتول مصلوب محرق بالنار». فوصى زيد بعياله وأولاده، وقضاء الدين عنه(1).
أقول: ربما كان بعض ذلك لإثبات أن الإمام الصادق (عليه السلام) بعيد كل البعد عن القيام ضد الحكومة آنذاك، فإن الطغاة كان يريدون القضاء على الإمام بحجة تورطه في الثورة.
عن أبي بكر الحضرمي، قال: ذكرنا أمر زيد وخروجه عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) .
ص: 304
فقال: «عمي مقتول، إن خرج قُتل، فقروا في بيوتكم. فو اللّهِ ما عليكم بأس». فقال رجل من القوم: إن شاء اللّه(1).
وفي زمن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أمر أبو مسلم الخراساني باعتقال عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر الطيار، مع أخويه الحسن وزيد (رضوان اللّه عليهم) في مدينة هرات. ولما مضى فترة، كتب أبو مسلم رسالة إلى والي هرات مالك بن هيثم بأن يقتل عبد اللّه، ويطلق سراح أخويه.
واستولى أبو مسلم على خراسان وخرجوا بسبعين ألف فارس نحو العراق، وأخذوا بمحاربة بني أمية حتى أظلمت الدنيا عليهم، وتم إسقاطهم، ومن بعد ذلك تشكلت حكومة العباسيين الجائرة.
وكم من دماء أهريقت حتى زالت حكومة بني أمية، وتأسست حكومة بني العباس. قال البعض: بأنه قُتل نصف مليون في تلك الحروب.
ومن الفجائع التي ارتكبها العباسيون، قتل الأبرار الأتقياء في منطقة فخ، وهي تبعد عن مكة فرسخ تقريباً، حيث استشهد الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) ، وأمه زينب بنت عبد اللّه بن الحسن.
وكان مع الحسين عدد من ذراري أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابه وأنصاره المؤمنون.
ص: 305
وكانت الفاجعة في سنة 169 هجرية، أي في عهد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) .
وقد أمر بقتلهم الحاكم العباسي الرابع موسى الهادي، وكان يلقب بموسى الأطبق.
وفي التاريخ، أنه سمي بالأطبق؛ لأن شفته العليا كانت لا تنطبق على شفته السفلى، وكان يقبح منظره، وقد أمر والده خادماً أن ينبهه، ويقول له: يا موسى اطبق.
وكان موسى الهادي العباسي قسي القلب سفاحاً، ولما جاؤوا ببعض الأسرى من ذراري أهل البيت (عليهم السلام) من المدينة المنورة - وذلك بعد قصة شهيد فخ - إلى مجلسه، وفيهم الرجال والنساء والأطفال، فلما رآهم أمر بقتلهم جميعاً.
يقول هرثمة: طلبني موسى الهادي العباسي في الخلوة، وقال: أ تعلم ماذا أعاني من الكلب الكافر - يعني يحيى بن خالد - إنه يرغب الناس عني، ويدعوهم إلى أخي هارون. اذهب الآن إليه في السجن واقتله وجئني برأسه، ثم اذهب إلى بيت هارون واقتله، وانظر في السجون من كان من آل أبي طالب فاقتلهم جميعاً.
وتوجه مع العسكر إلى الكوفة، وأخرج من كان من ولد العباس منها، ثم أحرقها بمن فيها.
وفي بعض التواريخ: أن أمه الخيزران لما علمت بذلك، سقته السم قبل أن يتمكن من فعل هذه الجرائم.
ص: 306
24
عاصر الإمام الصادق (عليه السلام) عدداً من طغاة بني أمية وبني العباس في عهد إمامته، كان منهم: هشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن الوليد بن عبد الملك الملقب بالناقص، وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد الحمار، وأبو العباس السفاح، والمنصور الدوانيقي.
ففي سنة اثنتين وثلاثين ومائة، سارت المسودة من أرض خراسان مع أبي مسلم، وانتزعوا الملك من بني أمية، وقتلوا مروان الحمار. ثم ملك أبو العباس عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس الملقب بالسفاح أربع سنين وثمانية أشهر وقيل: ستة أشهر. ثم ملك أخوه أبو جعفر عبد اللّه الملقب بالمنصور إحدى وعشرين سنةً وأحد عشر شهراً. وتوفي الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً شهيداً بعد عشر سنين(1) من ملك المنصور.
أراد العباسيون أن يسيئوا إلى سمعة أهل البيت (عليهم السلام) بإشراكهم الصوري في
ص: 307
الحكم، حتى ينسبوا إليهم كل ظلم وجور قاموا به، وكل قبيح يريدون أن يفعلوه في مستقبل حكمهم.
من هنا رفض الإمام الصادق (عليه السلام) التصدي للأمر رفضاً قاطعاً.
روى المؤرخون: أنه لما قدم أبو العباس السفاح وأهله سراً على أبي سلمة الخلال الكوفة، ستر أمرهم، وعزم أن يجعلها شورى بين ولد علي والعباس، حتى يختاروا هم من أرادوا. ثم قال: أخاف أن لا يتفقوا. ثم عزم أن يعزل الأمر إلى ولد علي والحسن والحسين، فكتب إلى ثلاثة نفر منهم: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم الصلاة والسلام)، وعمر بن علي بن الحسين، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن.
فبدأ الرسول بجعفر بن محمد (عليهما السلام) فلقيه ليلاً، وأعلمه أن معه كتاباً إليه من أبي سلمة. فقال (عليه السلام) : «وما أنا وأبو سلمة هو شيعة لغيري». فقال: تقرؤ الكتاب وتجيب عليه بما رأيت. فقال جعفر (عليه الصلاة والسلام) لخادمه: «قدم مني السراج». فقدمه، فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه. فقال: أ لا تجيبه؟. فقال: «قد رأيت الجواب».
فخرج من عنده، وأتى عبد اللّه بن الحسن المثنى، فقبل كتابه وركب إلى جعفر بن محمد (عليهما الصلاة والسلام). فقال: «أي أمر جاء بك يا أبا محمد! لو أعلمتني لجئتك». فقال: أمر يجل عن الوصف. قال: «وما هو يا أبا محمد». قال: هذا الكتاب أبي سلمة يدعوني للأمر، ويرى أني أحق الناس به، وقد جائته شيعتنا من خراسان.
فقال له جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام): «وما شيعتك! أنت وجهت أبا مسلم إلى خراسان، وأمرته بلبس السواد. هل تعرف أحداً منهم باسمه
ص: 308
ونسبه؟ كيف يكونون من شيعتك وأنت لا تعرفهم ولا يعرفونك؟. فقال له عبد اللّه: إن كان هذا الكلام منك بشيء. وقال جعفر (عليه الصلاة والسلام): «قد علم اللّه أني أوجب على نفسي النصح لكل مسلم، فكيف أدخره عنك. فلا تمنين نفسك الأباطيل؛ فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم، وقد جاءني مثل ما جاءك». فانصرف غير راض بما قاله(1).
وقال أبو هريرة الأبار صاحب الصادق (عليه السلام) (2):
ولما دعا الداعون مولاي لم يكن***ليثني إليه عزمه بصواب
ولما دعوه بالكتاب أجابهم***بحرق الكتاب دون رد جواب
وما كان مولاي كمشري ضلالة***ولا ملبساً منها الردى بثواب
ولكنه لله في الأرض حجة***دليل إلى خير وحسن مآب
عن ابن داحة: إن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال لعبد اللّه بن الحسن: «إن هذا الأمر واللّه ليس إليك ولا إلى ابنيك، وإنما هو لهذا - يعني السفاح - ثم لهذا - يعني المنصور - ثم لولده بعده، لا يزال فيهم حتى يؤمروا الصبيان ويشاوروا النساء».
فقال عبد اللّه: واللّهِ يا جعفر ما أطلعك اللّه على غيبه، وما قلت هذا إلا حسداً لابني.
فقال: «لا واللّهِ ما حسدت ابنيك، وإن هذا - يعني أبا جعفر - يقتله على
ص: 309
أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف وقوائم فرسه في ماء». ثم قام مغضباً يجر رداءه، فتبعه أبو جعفر، وقال: أتدري ما قلت يا أبا عبد اللّه؟. قال: «إي واللّهِ أدريه، وإنه لكائن». قال: فحدثني من سمع أبا جعفر يقول: فانصرفت لوقتي فرتبت عمالي، وميزت أموري تمييز مالك لها - قال - فلما ولي أبو جعفر الخلافة سمى جعفراً الصادق، وكان إذا ذكره قال: قال لي الصادق جعفر بن محمد: كذا وكذا، فبقيت عليه(1).
أقول: لقب (الصادق) من اللّه عز وجل ومن رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولكن زعم بعض الناس أنه جاء من المنصور.
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يتجنب التصدي السياسي، ولا يقبل بأي منصب حكومي؛ لعلمه بأن هذا الزمان ليس زمانهم (عليهم السلام) .
عن عبد الحميد بن أبي الديلم، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، وكتاب الفيض بن المختار وسليمان بن خالد، يخبرونه أن الكوفة شاغرة برجلها، وأنه إن أمرهم أن يأخذوها أخذوها. فلما قرأ كتابهم رمى به، ثم قال: «ما أنا لهؤلاء بإمام, أ ما علموا أن صاحبهم السفياني»(2).
عن الفضل الكاتب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأتاه كتاب أبي
ص: 310
مسلم. فقال: «ليس لكتابك جواب، اخرج عنا». فجعلنا يسار بعضنا بعضاً. فقال: «أي شيء تسارون!. يا فضل، إن اللّه عز ذكره لا يعجل لعجلة العباد، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله - ثم قال - إن فلان بن فلان حتى بلغ السابع من ولد فلان». قلت: فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟. قال: «لا تبرح الأرض - يا فضل - حتى يخرج السفياني، فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا - يقولها ثلاثاً - وهو من المحتوم»(1).
روي: أنه لما أراد عبد اللّه بن محمد الخروج مع زيد، فنهاه أبو عبد اللّه (عليه السلام) وعظم عليه، فأبى إلا الخروج مع زيد. فقال له: «لكأني واللّه بك بعد زيد وقد خمرت كما يخمر النساء، وحملت في هودج، وصنع بك ما يصنع بالنساء». فلما كان من أمر زيد ما كان، جمع أصحابنا لعبد اللّه بن محمد دنانير، وتكاروا له وأخذوه، حتى إذا صاروا به إلى الصحراء وشيعوه فتبسم. فقالوا له: ما الذي أضحكك؟!. فقال: واللّهِ تعجبت من صاحبكم، إني ذكرت وقد نهاني عن الخروج، فلم أطعه وأخبرني بهذا الأمر الذي أنا فيه، وقال: لكأني بك وقد خمرت كما يخمر النساء، وجعلت في هودج، فعجبت(2).
أقول: ونهي الإمام (عليه السلام) عن خروج عبد اللّه بن محمد لا ينافي إذنه لزيد الشهيد بالخروج، فليس من المقرر أن يخرج الجميع بوجه الطغاة، هذا وربما كان نهيه (عليه السلام) تقيةً والإذن واقعاً، وإنما أخبره بما سيجري عليه.
ص: 311
عن عبد اللّه بن سليمان التميمي، قال: لما قتل محمد وإبراهيم ابنا عبد اللّه بن الحسن بن الحسن (عليه السلام) ، صار إلى المدينة رجل يقال له: شيبة بن غفال، ولاه المنصور على أهلها. فلما قدمها وحضرت الجمعة، صار إلى مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فرقى المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد، فإن علي بن أبي طالب شق عصا المسلمين، وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه أهله، فحرمه اللّه عليه، وأماته بغصته، وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد، وطلب الأمر بغير استحقاق له، فهم في نواحي الأرض مقتولون، وبالدماء مضرجون.
قال: فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم ينطق بحرف. فقام إليه رجل عليه إزار قومسي سحق، فقال: ونحن نحمد اللّه، ونصلي على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى رسل اللّه وأنبيائه أجمعين. أما ما قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى. فاختبر يا من ركب غير راحلته، وأكل غير زاده، ارجع مأزوراً. ثم أقبل على الناس، فقال: أ لا أنبئكم بأخلى الناس ميزاناً يوم القيامة، وأبينهم خسراناً. من باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق. فأسكت الناس، وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف. فسألت عن الرجل؟. فقيل لي: هذا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليهم)(1).
ص: 312
كان المنصور شديد البخل حتى على نفسه، حتى لقب بالدوانيقي، وهو من يستقصي في الحساب والمعاملة لشدة بخله، ولهذا السبب كان لا يلبس أحسن الثياب، ولا يأكل أحسن الطعام.
قيل للإمام الصادق (عليه السلام) : إن أبا جعفر المنصور لا يلبس منذ صارت الخلافة إليه إلا الخشن، ولا يأكل إلا الجشب. فقال: «يا ويحه! مع ما قد مكن اللّه له من السلطان، وجُبي إليه من الأموال». فقيل: إنما يفعل ذلك بخلاً، وجمعاً للأموال. فقال: «الحمد لله الذي حرمه من دنياه، ما له ترك دينه!»(1).
قيل للمنصور: في حبسك محمد بن مروان، فلو أمرت بإحضاره وسألته عما جرى بينه وبين ملك النوبة؟. فقال: صرت إلى جزيرة النوبة في آخر أمرنا، فأمرت بالمضارب فضربت، فخرج النوب يتعجبون، وأقبل ملكهم رجل طويل أصلع، حافٍ عليه كساء، فسلّم وجلس على الأرض. فقلت: ما لك لا تقعد على البساط!. قال: أنا ملك، وحق لمن رفعه اللّه أن يتواضع له إذا رفعه - ثم قال - ما بالكم تطئون الزرع بدوابكم، والفساد محرم عليكم في كتابكم!. فقلت: عبيدنا فعلوه بجهلهم. قال: فما بالكم تشربون الخمر، وهي محرمة عليكم في دينكم!. قلت: أشياعنا فعلوه بجهلهم. قال: فما بالكم تلبسون الديباج، وتتحلون بالذهب، وهي محرمة عليكم على لسان نبيكم!. قلت: فعل ذلك أعاجم من خدمنا، كرهنا الخلاف عليهم. فجعل ينظر في وجهي، ويكرر معاذيري على وجه
ص: 313
الاستهزاء، ثم قال: ليس كما تقول يا ابن مروان، ولكنكم قوم ملكتم فظلمتم، وتركتم ما أمرتم، فأذاقكم اللّه وبال أمركم، ولله فيكم نقم لم تبلغ، وإني أخشى أن ينزل بك وأنت في أرضي، فيصيبني معك، فارتحل عني(1).
كان المنصور الدوانيقي شديد الحسد والحقد والعداء للإمام الصادق (عليه السلام) ، كثير الإيذاء له ولعياله، فكم من مرة أمر بالهجوم على بيت الإمام، وكم من مرة أمر بإحضاره (عليه السلام) بشكل لا يليق بشأنه، وكم من مرة أمر بقتله (عليه السلام) . وقد ضيق عليه كثيراً، وأحرق داره. كما قام بفرض الإقامة الجبرية عليه (عليه السلام) في بيته، بحيث لا يزوره أحد ولا يزور أحداً. وقام في فترة بحبسه (صلوات اللّه عليه) في سجونه، وأمر بقتله كراراً، وكان اللّه يحفظ وليه عن عدوه، إلى أن قَتل المنصور الإمامَ بالسم. وقد اتخذ المنصور مختلف الطرق لإخضاع الإمام وسائر العلويين، كان منها سياسة الإغراء بالمال.
في رواية عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر: إن المنصور قد منع الناس عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ومنعه (عليه السلام) من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء(2).
عن جعفر بن محمد بن الأشعث، قال: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر
ص: 314
- أي التشيع - ومعرفتنا به، وما كان عندنا فيه ذكر ولا معرفة بشيء مما عند الناس؟. قال: قلت: ما ذاك؟. قال: إن أبا جعفر - يعني أبا الدوانيق - قال لأبي محمد بن الأشعث: يا محمد، ابغ لي رجلاً له عقل يؤدي عني. فقال له أبي: قد أصبته لك، هذا فلان بن مهاجر خالي. قال: ائتني به. قال: فأتاه بخاله. فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر، خذ هذا المال، فأعطاه ألوف دنانير أو ما شاء اللّه من ذلك، وائتِ المدينة والق عبد اللّه بن الحسن، وعدةً من أهل بيته، فيهم جعفر بن محمد. فقل لهم: إني رجل غريب من أهل خراسان، وبها شيعة من شيعتكم، وجهوا إليك بهذا المال. فادفع إلى كل واحد منهم على هذا الشرط كذا وكذا، فإذا قبضوا المال فقل: إني رسول، وأحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم مني.
قال: فأخذ المال، وأتى المدينة، ثم رجع إلى أبي جعفر المنصور، وكان محمد بن الأشعث عنده. فقال أبو جعفر: ما وراك؟. قال: أتيت القوم، وفعلت ما أمرتني به، وهذه خطوطهم بقبضهم المال، خلا جعفر بن محمد؛ فإني أتيته وهو يصلي في مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فجلست خلفه وقلت: ينصرف فأذكر له ما ذكرت لأصحابه. فعجل وانصرف، ثم التفت إليَّ فقال: «يا هذا اتق اللّه! ولا تغرن أهل بيت محمد. وقل لصاحبك: اتق اللّه! ولا تغرن أهل بيت محمد؛ فإنهم قريبو العهد بدولة بني مروان، وكلهم محتاج».
قال: فقلت: وماذا أصلحك اللّه؟. فقال: «ادن مني». فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك، حتى كأنه كان ثالثنا. قال: فقال أبو جعفر: يا ابن مهاجر، اعلم أنه ليس من أهل بيت النبوة إلا وفيهم محدث، وإن جعفر بن محمد محدث اليوم، فكانت هذه دلالةً أنا قلنا بهذه المقالة(1).
ص: 315
في غوالي اللئالي: قال الصادق (عليه السلام) : «طلب المنصور علماء المدينة، فلما وصلنا إليه، خرج إلينا الربيع الحاجب. فقال: ليدخل على الأمير منكم اثنان. فدخلت أنا وعبد اللّه بن الحسن، فلما جلسنا عنده. قال: أنت الذي تعلم الغيب؟. فقلت: لا يعلم الغيب إلا اللّه. فقال: أنت الذي يجبى إليك الخراج؟. فقلت: بل الخراج يجبى إليك. فقال: أ تدري لِمَ دعوتكم؟. فقلت: لا. فقال: إنما دعوتكم لأخرب رباعكم، وأوغر قلوبكم، وأنزلكم بالسراة، فلا أدع أحداً من أهل الشام والحجاز يأتون إليكم، فإنهم لكم مفسدة. فقلت: إن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وإن سليمان أعطي فشكر، وأنت من نسل أولئك القوم، فسري عنه - ثم قال - حدثني الحديث الذي حدثتني به منذ أوقات عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قلت: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول اللّه، أنه قال: الرحم حبل ممدود من الأرض إلى السماء، يقول: من قطعني قطعه اللّه، ومن وصلني وصله اللّه. فقال: لست أعني هذا. فقلت: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول اللّه، قال اللّه تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من أسمائي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته. قال: لست أعني ذلك. فقلت: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنه قال: إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل كان قد بقي من عمره ثلاث سنين، ووصل رحمه فجعلها اللّه ثلاثين سنةً. وإن ملكاً من ملوك بني إسرائيل كان قد بقي من عمره ثلاثون سنةً، فقطع رحمه فجعله اللّه ثلاث سنين. فقال: هذا الذي قصدت، واللّه لأصلن اليوم رحمي. ثم سرحنا إلى أهلنا سراحاً جميلاً»(1).
ص: 316
كان المنصور من أكبر السفاحين الذين يقتلون الأبرياء، وكان له يوم يسمى بيوم الذبح، يجلس فيه ويذبح من يشاء. وقد أحضر المنصور الإمام الصادق (عليه السلام) في يوم الذبح ليذبحه بيده، والإمام له من العمر أكثر من ستين سنة، وهذه الرواية تبين جانباً من ظلامات الإمام الصادق (عليه السلام) ، وكيف كان بين يدي هؤلاء الطغاة يدفع عن نفسه التهم والافتراءات.
عن محمد بن الربيع الحاجب، قال: قعد المنصور يوماً في قصره في القبة الخضراء، وكانت قبل قتل محمد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان له يوم يقعد فيه يسمى ذلك اليوم: يوم الذبح. وكان أشخص جعفر بن محمد (عليه السلام) من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كله، حتى جاء الليل ومضى أكثره - قال - ثم دعا أبي الربيع. فقال له: يا ربيع، إنك تعرف موضعك مني، وإني يكون لي الخبر، ولا تظهر عليه أمهات الأولاد، وتكون أنت المعالج له. فقال: قلت: يا أمير، ذلك من فضل اللّه عليَّ وفضل الأمير، وما فوقي في النصح غاية. قال: كذلك أنت. سر الساعة إلى جعفر بن محمد بن فاطمة، فأتني على الحال الذي تجده عليه، لا تغير شيئاً مما هو عليه. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا واللّه هو العطب، إن أتيت به على ما أراه من غضبه، قتله وذهبت الآخرة، وإن لم آتِ به، وأدهنت في أمره، قتلني وقتل نسلي، وأخذ أموالي. فخيرت بين الدنيا والآخرة، فمالت نفسي إلى الدنيا. قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي، وكنت أفظ ولده وأغلظهم قلباً. فقال لي: امض إلى جعفر بن محمد بن علي، فتسلق على حائطه، ولا تستفتح عليه باباً، فيغير بعض ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولاً، فأتِ به على الحال التي هو فيها. قال: فأتيته وقد ذهب الليل إلى أقله، فأمرت بنصب
ص: 317
السلاليم، وتسلقت عليه الحائط، فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلي، وعليه قميص، ومنديل قد ائتزر به. فلما سلم من صلاته، قلت له: أجب الأمير. فقال: «دعني أدعو وألبس ثيابي». فقلت له: ليس إلى تركك وذلك سبيل. قال: «وأدخل المغتسل فأتطهر». قال: قلت: وليس إلى ذلك سبيل، فلا تشغل نفسك؛ فإني لا أدعك شيئاً. قال: فأخرجته حافياً حاسراً، في قميصه ومنديله، وكان قد جاوز (عليه السلام) السبعين. فلما مضى بعض الطريق، ضعف الشيخ فرحمته. فقلت له: اركب. فركب بغل شاكري كان معنا، ثم صرنا إلى الربيع، فسمعته وهو يقول له: ويلك يا ربيع، قد أبطأ الرجل، وجعل يستحثه استحثاثاً شديداً. فلما أن وقعت عين الربيع على جعفر بن محمد، وهو بتلك الحال بكى، وكان الربيع يتشيع. فقال له جعفر (عليه السلام) : «يا ربيع، أنا أعلم ميلك إلينا، فدعني أصلي ركعتين وأدعو». قال: شأنك وما تشاء. فصلى ركعتين خففهما، ثم دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه، إلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كله يستحث الربيع. فلما فرغ من دعائه على طوله، أخذ الربيع بذراعيه، فأدخله على المنصور، فلما صار في صحن الإيوان، وقف ثم حرك شفتيه بشيء لم أدر ما هو، ثم أدخلته، فوقف بين يديه، فلما نظر إليه. قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على أهل هذا البيت من بني العباس، وما يزيدك اللّه بذلك إلا شدة حسد ونكد ما تبلغ به ما تقدره!.
فقال له: «واللّهِ يا أمير ما فعلت شيئاً من هذا، ولقد كنت في ولاية بني أمية، وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر. فو اللّهِ ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عني سوء، مع جفاهم الذي كان بي. وكيف - يا أمير - أصنع الآن هذا وأنت ابن عمي، وأمس الخلق بي رحماً، وأكثرهم عطاءً
ص: 318
وبراً، فكيف أفعل هذا». فأطرق المنصور ساعةً، وكان على لبد، وعن يساره مرفقة جرمقانية، وتحت لبده سيف ذو فقار، كان لا يفارقه إذا قعد في القبة. قال: أبطلت وأثمت. ثم رفع ثني الوسادة، فأخرج منها إضبارة كتب، فرمى بها إليه، وقال: هذه كتبك إلى أهل خراسان، تدعوهم إلى نقض بيعتي، وأن يبايعوك دوني.
فقال: «واللّهِ يا أمير ما فعلت، ولا أستحل ذلك، ولا هو من مذهبي، وإني لمن يعتقد طاعتك على كل حال، وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيرني في بعض جيوشك حتى يأتيني الموت، فهو مني قريب».
فقال: لا، ولا كرامة. ثم أطرق، وضرب يده إلى السيف، فسل منه مقدار شبر، وأخذ بمقبضه. فقلت: إنا لله، ذهب واللّه الرجل. ثم رد السيف وقال: يا جعفر، أ ما تستحي مع هذه الشيبة، ومع هذا النسب، أن تنطق بالباطل، وتشق عصا المسلمين، تريد أن تريق الدماء، وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء.
فقال: «لا واللّهِ يا أمير ما فعلت، ولا هذه كتبي، ولا خطي، ولا خاتمي». فانتضى من السيف ذراعاً. فقلت: إنا لله مضى الرجل، وجعلت في نفسي إن أمرني فيه بأمر أن أعصيه؛ لأنني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً. فقلت: إن أمرني ضربت المنصور، وإن أتى ذلك عليَّ وعلى ولدي، وتبت إلى اللّه عز وجل مما كنت نويت فيه أولاً. فأقبل يعاتبه وجعفر يعتذر، ثم انتضى السيف إلا شيئاً يسيراً منه. فقلت: إنا لله مضى واللّه الرجل، ثم أغمد السيف، وأطرق ساعةً، ثم رفع رأسه، وقال: أظنك صادقاً. يا ربيع، هات العيبة من موضع كانت فيه في القبة. فأتيته بها، فقال: أدخل يدك فيها - فكانت مملوءةً غاليةً - وضعها في لحيته، وكانت بيضاء فاسودت. وقال لي: احمله على
ص: 319
فاره من دوابي التي أركبها، وأعطه عشرة آلاف درهم، وشيعه إلى منزله مكرماً، وخيره إذا أتيت به إلى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، والانصراف إلى مدينة جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فخرجنا من عنده، وأنا مسرور فرح بسلامة جعفر (عليه السلام) ، ومتعجب مما أراد المنصور، وما صار إليه من أمره. فلما صرنا في الصحن، قلت له: يا ابن رسول اللّه، إني لأعجب مما عمد إليه هذا في بابك، وما أصارك اللّه إليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عز وجل، وقد سمعتك تدعو في عقيب الركعتين بدعاء، لم أدرِ ما هو إلا أنه طويل، ورأيتك قد حركت شفتيك هاهنا - أعني الصحن - بشيء لم أدرِ ما هو. فقال لي: «أما الأول فدعاء الكرب والشدائد، لم أدع به على أحد قبل يومئذٍ، جعلته عوضاً من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي؛ لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به. وأما الذي حركت به شفتي، فهو دعاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم الأحزاب - ثم ذكر الدعاء - ثم قال: «لولا الخوف من الأمير؛ لدفعت إليك هذا المال، ولكن قد كنت طلبت مني أرضي بالمدينة، وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك، وقد وهبتها لك». قلت: يا ابن رسول اللّه، إنما رغبتي في الدعاء الأول والثاني، فإذا فعلت هذا فهو البر، ولا حاجة لي الآن في الأرض. فقال: «إنا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء، ونسلم إليك الأرض. صر معي إلى المنزل». فصرت معه كما تقدم المنصور، وكتب لي بعهدة الأرض، وأملى عليَّ دعاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأملى عليَّ الذي دعا هو بعد الركعتين. قال: فقلت: يا ابن رسول اللّه، لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إياي، وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهلاً كأنك لم تخشه!. قال: فقال لي: «نعم، قد كنت أدعو به بعد صلاة الفجر بدعاء لابد منه، فأما
ص: 320
الركعتان فهما صلاة الغداة، خففتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما». فقلت له: أ ما خفت أبا جعفر، وقد أعد لك ما أعد؟!. قال: «خيفة اللّه دون خيفته، وكان اللّه عز وجل في صدري أعظم منه».
قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه، وخيفته على جعفر، ومن الجلالة له في ساعة، ما لم أظنه يكون في بشر، فلما وجدت منه خلوةً، وطيب نفسي. قلت: يا أمير، رأيت منك عجباً؟!. قال: ما هو؟. قلت: يا أمير، رأيت غضبك على جعفر غضباً، لم أرك غضبته على أحد قط، ولا على عبد اللّه بن الحسن، ولا على غيره من كل الناس، حتى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف، وحتى إنك أخرجت من سيفك شبراً ثم أغمدته، ثم عاتبته ثم أخرجت منه ذراعاً، ثم عاتبته ثم أخرجته كله إلا شيئاً يسيراً، فلم أشك في قتلك له، ثم انجلى ذلك كله فعاد رضًى، حتى أمرتني فسودت لحيته بالغالية، التي لا يتغلف منها إلا أنت، ولا يغلف منها ولدك المهدي، ولا من وليته عهدك، ولا عمومتك، وأجزته وحملته، وأمرتني بتشييعه مكرماً؟!. فقال: ويحك يا ربيع، ليس هو كما ينبغي أن تحدث به، وستره أولى، ولا أحب أن يبلغ ولد فاطمة، فيفتخرون ويتيهون بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه، ولكن لا أكتمك شيئاً، انظر من في الدار فنحهم. قال: فنحيت كل من في الدار. ثم قال لي: ارجع ولا تبق أحداً. ففعلت، ثم قال لي: ليس إلا أنا وأنت، واللّه لئن سمعت ما ألقيته إليك من أحد، لأقتلنك وولدك وأهلك أجمعين، ولآخذن مالك. قال: قلت: يا أمير، أعيذك باللّه. قال: يا ربيع، قد كنت مصراً على قتل جعفر، وأن لا أسمع له قولاً، ولا أقبل له عذراً، وكان أمره - وإن كان ممن لا يخرج بسيف - أغلظ عندي وأهم عليَّ من أمر عبد اللّه بن الحسن، فقد كنت أعلم هذا منه ومن آبائه
ص: 321
على عهد بني أمية، فلما هممت به في المرة الأولى، تمثل لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإذا هو حائل بيني وبينه، باسط كفيه حاسر عن ذراعيه، قد عبس وقطب في وجهي عنه، ثم هممت به في المرة الثانية، وانتضيت من السيف أكثر مما انتضيت منه في المرة الأولى، فإذا أنا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قرب مني، ودنا شديداً، وهم لي أن لو فعلت لفعل، فأمسكت ثم تجاسرت، وقلت: هذا بعض أفعال الرئي، ثم انتضيت السيف في الثالثة، فتمثل لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باسط ذراعيه، قد تشمر واحمر، وعبس وقطب، حتى كاد أن يضع يده عليَّ، فخفت واللّه لو فعلت لفعل، وكان مني ما رأيت، وهؤلاء من بني فاطمة (صلوات اللّه عليهم)، لا يجهل حقهم إلا جاهل، لا حظ له في الشريعة. فإياك أن يسمع هذا منك أحد. قال محمد بن الربيع فما حدثني به أبي حتى مات المنصور، وما حدثت أنا به حتى مات المهدي وموسى وهارون وقتل محمد(1).
عن قيس بن الربيع، عن أبيه، قال: دعاني المنصور يوماً. قال: أما ترى ما هو هذا يبلغني عن هذا الحبشي. قلت: ومن هو يا سيدي!. قال: جعفر بن محمد، واللّهِ لاستأصلن شأفته. ثم دعا بقائد من قواده. فقال: انطلق إلى المدينة في ألف رجل، فاهجم على جعفر بن محمد، وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر في مسيرك. فخرج القائد من ساعته، حتى قدم المدينة، وأخبر جعفر بن محمد. فأمر فأتي بناقتين، فأوثقهما على باب البيت، ودعا بأولاده موسى
ص: 322
وإسماعيل ومحمد وعبد اللّه، فجمعهم وقعد في المحراب، وجعل يهمهم.
قال أبو بصير: فحدثني سيدي موسى بن جعفر: «أن القائد هجم عليه، فرأيت أبي وقد همهم بالدعاء، فأقبل القائد وكل من كان معه. قال: خذوا رأسي هذين القائمين، فاجتزوا رأسهما». ففعلوا وانطلقوا إلى المنصور، فلما دخلوا عليه، اطلع المنصور في المخلاة التي كان فيها الرأسان، فإذا هما رأسا ناقتين. فقال المنصور: أي شيء هذا؟!.
قال: يا سيدي، ما كان بأسرع من أني دخلت البيت الذي فيه جعفر بن محمد، فدار رأسي ولم أنظر ما بين يدي، فرأيت شخصين قائمين، خيل إليَّ أنهما جعفر بن محمد وموسى ابنه، فأخذت رأسيهما.
فقال المنصور: اكتم عليَّ. فما حدثت به أحداً حتى مات. قال الربيع: فسألت موسى بن جعفر (عليه السلام) عن الدعاء. فقال: «سألت أبي عن الدعاء. فقال: هو دعاء الحجاب»، وذكر الدعاء(1).
قال المفضل بن عمر: وجه المنصور إلى حسن بن زيد - وهو واليه على الحرمين - أن أحرق على جعفر بن محمد داره. فألقى النار في دار أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فأخذت النار في الباب والدهليز. فخرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) يتخطى النار ويمشي فيها، ويقول: «أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل اللّه»(2).
ص: 323
عن الربيع، قال: لما حج المنصور وصار بالمدينة، سهر ليلةً فدعاني. فقال: يا ربيع، انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير، فإن استطعت أن تكون وحدك فافعل، حتى تأتي أبا عبد اللّه جعفر بن محمد، فقل له: هذا ابن عمك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الدار وإن نأت، والحال وإن اختلفت، فإنا نرجع إلى رحم أمس من يمين بشمال، ونعل بقبال، وهو يسألك المصير إليه في وقتك هذا. فإن سمح بالمسير معك، فأوطه خدك، وإن امتنع بعذر أو غيره، فأردد الأمر إليه في ذلك، فإن أمرك بالمصير إليه في تأن، فيسر ولا تعسر، واقبل العفو، ولا تعنف في قول ولا فعل.
قال الربيع: فصرت إلى بابه، فوجدته في دار خلوته، فدخلت عليه من غير استئذان، فوجدته معفراً خديه، مبتهلاً بظهر يديه، قد أثر التراب في وجهه وخديه، فأكبرت أن أقول شيئاً حتى فرغ من صلاته ودعائه، ثم انصرف بوجهه. فقلت: السلام عليك يا أبا عبد اللّه. فقال: وعليك السلام يا أخي، ما جاء بك؟!. فقلت: ابن عمك يقرأ عليك السلام، ويقول حتى بلغت إلى آخر الكلام. فقال: ويحك يا ربيع! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}(1). ويحك يا ربيع! {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلَّا القَوْمُ الْخَاسِرُونَ}(2). قرأت على الأمير السلام ورحمة اللّه وبركاته». ثم أقبل على
ص: 324
صلاته، وانصرف إلى توجهه. فقلت: هل بعد السلام من مستعتب عليه أو إجابة؟. فقال: «نعم. قل له: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}(1). إنا واللّه يا أمير قد خفناك، وخافت لخوفنا النسوة اللاتي أنت أعلم بهن، ولابد لنا من الإيضاح به، فإن كففت وإلا أجرينا اسمك على اللّه عز وجل في كل يوم خمس مرات. وأنت حدثتنا عن أبيك، عن جدك، أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أربع دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى: دعاء الوالد لولده، والأخ بظهر الغيب لأخيه، والمظلوم، والمخلص».
قال الربيع: فما استتم الكلام، حتى أتت رسل المنصور تقفو أثري، وتعلم خبري. فرجعت وأخبرته بما كان، فبكى ثم قال: ارجع إليه، وقل له: الأمر في لقائك إليك، والجلوس عنا، وأما النسوة اللاتي ذكرتهن فعليهن السلام، فقد آمن اللّه روعهن، وجلا همهن. قال: فرجعت إليه فأخبرته بما قال المنصور. فقال: «قل له: وصلت رحماً، وجزيت خيراً». ثم اغرورقت عيناه، حتى قطر من الدمع في حجره قطرات، ثم قال: «يا ربيع، إن هذه الدنيا وإن أمتعت ببهجتها، وغرت بزبرجها، فإن آخرها لا يعدو أن يكون كآخر الربيع، الذي يروق بخضرته، ثم يهيج عند انتهاء مدته، وعلى من نصح لنفسه، وعرف حق ما عليه، وله أن ينظر إليها، نظر من عقل عن ربه جل وعلا، وحذر سوء منقلبه؛ فإن هذه الدنيا قد خدعت قوماً فارقوها أسرع ما كانوا إليها، وأكثر ما
ص: 325
كانوا اغتباطاً بها، طرقتهم آجالهم بياتاً وهم نائمون، أو ضحًى وهم يلعبون، فكيف أخرجوا عنها، وإلى ما صاروا بعدها، أعقبتهم الألم، وأورثتهم الندم، وجرعتهم مر المذاق، وغصصتهم بكأس الفراق, فيا ويح من رضي عنها، وأقر عيناً بها، أ ما رأى مصرع آبائه، ومن سلف من أعدائه وأوليائه. يا ربيع، أطول بها حيرةً، وأقبح بها كثرةً، وأخسر بها صفقةً، وأكبر بها ترحةً، إذا عاين المغرور بها أجله، وقطع بالأماني أمله، وليعمل على أنه أعطي أطول الأعمار وأمدها، وبلغ فيها جميع الآمال، هل قصاراه إلا الهرم، أو غايته إلا الوخم. نسأل اللّه لنا ولك عملاً صالحاً بطاعته، ومآباً إلى رحمته، ونزوعاً عن معصيته، وبصيرةً في حقه، فإنما ذلك له وبه». فقلت: يا أبا عبد اللّه، أسألك بكل حق بينك وبين اللّه جل وعلا، إلا عرفتني ما ابتهلت به إلى ربك تعالى، وجعلته حاجزاً بينك وبين حذرك وخوفك؛ لعل اللّه يجبر بدوائك كسيراً، ويغني به فقيراً. واللّهِ ما أعني غير نفسي؟. قال الربيع: فرفع يده، وأقبل على مسجده، كارهاً أن يتلو الدعاء صحفاً، ولا يحضر ذلك بنية. فقال: «اللّهم إني أسألك يا مدرك الهاربين»، إلى آخر الدعاء(1).
ويظهر من هذه الروايات المختلفة، أن المنصور بعث الربيع أكثر من مرة؛ ليأتي بالإمام (عليه السلام) .
في الخرائج والجرائح: روي أن أبا خديجة، روى عن رجل من كندة - وكان
ص: 326
سياف بني العباس - قال: لما جاء أبو الدوانيق بأبي عبد اللّه (عليه السلام) وإسماعيل، أمر بقتلهما وهما محبوسان في بيت. فأتى (عليه اللعنة) أبا عبد اللّه (عليه السلام) ليلاً، فأخرجه وضربه بسيفه حتى قتله، ثم أخذ إسماعيل ليقتله، فقاتله ساعةً ثم قتله، ثم جاء إليه. فقال: ما صنعت؟. قال: لقد قتلتهما، وأرحتك منهما.
فلما أصبح إذا أبو عبد اللّه (عليه السلام) وإسماعيل جالسان، فاستأذنا. فقال أبو الدوانيق للرجل: أ لست زعمت أنك قتلتهما!. قال: بلى، لقد أعرفهما كما أعرفك. قال: فاذهب إلى الموضع الذي قتلتهما فيه. فجاء، فإذا بجزورين منحورين. قال: فبهت ورجع فنكس رأسه. وقال: لا يسمعن منك هذا أحد. فكان كقوله تعالى في عيسى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}(1)(2).
عن الحسن بن الفضل، عن الرضا، عن أبيه (صلوات اللّه عليهما)، قال: «أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) ليقتله، وطرح له سيفاً ونطعاً. وقال: يا ربيع، إذا أنا كلمته، ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى، فاضرب عنقه. فلما دخل جعفر بن محمد (عليه السلام) ، ونظر إليه من بعيد، تحرك أبو جعفر على فراشه. قال: مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد اللّه، ما أرسلنا إليك إلا رجاء أن نقضي دينك، ونقضي ذمامك!. ثم ساءله مساءلةً لطيفةً عن أهل بيته، وقال: قد قضى اللّه حاجتك ودَينك، وأخرج جائزتك. يا ربيع، لا تمضين ثلاثةً حتى يرجع جعفر
ص: 327
إلى أهله.
فلما خرج (عليه السلام) . قال له الربيع: يا أبا عبد اللّه، رأيت السيف إنما كان وضع لك والنطع، فأي شيء رأيتك تحرك به شفتيك؟!.
قال جعفر بن محمد (عليه السلام) : نعم يا ربيع، لما رأيت الشر في وجهه، قلت: «حسبي الرب من المربوبين، وحسبي الخالق من المخلوقين، وحسبي الرازق من المرزوقين، وحسبي اللّه رب العالمين، حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي اللّه لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم»(1).
وعن الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: بعث المنصور إبراهيم بن جبلة؛ ليشخص جعفر بن محمد (عليه السلام) . فحدثني إبراهيم أنه لما أخبره برسالة المنصور، سمعه يقول: «اللّهم أنت ثقتي»، الدعاء. قال الربيع: فلما وافى إلى حضرة المنصور، دخلت فأخبرته بقدوم جعفر بن محمد وإبراهيم. فدعا المسيب بن زهير الضبي، فدفع إليه سيفاً وقال له: إذا دخل جعفر بن محمد فخاطبته وأومأت إليك، فاضرب عنقه ولا تستأمر. فخرجت إليه وكان صديقاً لي، ألاقيه وأعاشره إذا حججت. فقلت: يا ابن رسول اللّه، إن هذا الجبار قد أمر فيك بأمر، كرهت أن ألقاك به، وإن كان في نفسك شيء تقوله، أو توصيني به. فقال: «لا يروعك ذلك، فلو قد رآني لزال ذلك كله». ثم أخذ بمجامع الستر فقال: «يا إله جبرئيل»، الدعاء. ثم دخل، فحرك شفتيه بشيء لم أفهمه، فنظرت إلى المنصور، فما شبهته إلا بنار صب عليها ماء فخمدت، ثم جعل يسكن غضبه، حتى دنا منه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وصار مع سريره، فوثب
ص: 328
المنصور فأخذ بيده، ورفعه على سريره. ثم قال له: يا أبا عبد اللّه، يعز عليَّ تعبك، وإنما أحضرتك؛ لأشكو إليك أهلك، قطعوا رحمي، وطعنوا في ديني، وألبوا الناس عليَّ، ولو ولي هذا الأمر غيري، ممن هو أبعد رحماً مني، لسمعوا له وأطاعوا. فقال له جعفر (عليه السلام) : «يا أمير، فأين يعدل بك عن سلفك الصالح. إن أيوب (عليه السلام) ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وإن سليمان أعطي فشكر». فقال المنصور: قد صبرت وغفرت وشكرت - ثم قال - يا أبا عبد اللّه، حدثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام؟. قال: «نعم. حدثني أبي، عن جدي، أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: البر وصلة الأرحام، عمارة الدنيا، وزيادة الأعمار». قال: ليس هذا هو. قال: «نعم. حدثني أبي، عن جدي، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من أحب أن ينسى في أجله، ويعافى في بدنه، فليصل رحمه». قال: ليس هذا هو؟. قال: «نعم. حدثني أبي، عن جدي، أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: رأيت رحماً متعلقاً بالعرش يشكو إلى اللّه عز وجل قاطعها. فقلت: يا جبرئيل، كم بينهم؟. فقال: سبعة آباء». فقال: ليس هذا هو. قال: «نعم. حدثني أبي، عن جدي، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : احتضر رجل بار في جواره رجل عاق. قال اللّه عز وجل لملك الموت: يا ملك الموت، كم بقي من أجل العاق؟. قال: ثلاثون سنةً. قال: حولها إلى هذا البار». فقال المنصور: يا غلام، ائتني بالغالية. فأتاه بها، فجعل يغلفه بيده، ثم دفع إليه أربعة آلاف. ودعا بدابته، فأتاه بها، فجعل يقول: قدم قدم، إلى أن أتى بها إلى عند سريره، فركب جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وعدوت بين يديه، فسمعته يقول: «الحمد لله»، الدعاء.
فقلت له: يا ابن رسول اللّه، إن هذا الجبار يعرضني على السيف كل قليل، وقد دعا المسيب بن زهير، فدفع إليه سيفاً، وأمره أن يضرب عنقك، وإني
ص: 329
رأيتك تحرك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك. فقال: «ليس هذا موضعه». فرحت إليه عشياً، فعلمني الدعاء(1).
عن محمد بن الحسن بن شمون البصري، قال: حدثني الحسن الفضل بن الربيع - حاجب المنصور - لقيته بمكة، قال: حدثني أبي، عن جدي الربيع. قال: دعاني المنصور يوماً. فقال: يا ربيع، أحضر جعفر بن محمد، واللّه لأقتلنه. فوجهت إليه، فلما وافى. قلت: يا ابن رسول اللّه، إن كان لك وصية، أو عهد تعهده فافعل. فقال: «استأذن لي عليه». فدخلت إلى المنصور، فأعلمته موضعه. فقال: أدخله.
فلما وقعت عين جعفر (عليه السلام) على المنصور، رأيته يحرك شفتيه بشيء لم أفهمه ومضى، فلما سلم على المنصور، نهض إليه فاعتنقه، وأجلسه إلى جانبه. وقال له: ارفع حوائجك. فأخرج رقاعاً لأقوام، وسأل في آخرين، فقضيت حوائجه. فقال المنصور: ارفع حوائجك في نفسك. فقال له جعفر (عليه السلام) : «لا تدعني حتى آتيك». فقال له المنصور: ما لي إلى ذلك سبيل، وأنت تزعم للناس - يا أبا عبد اللّه - أنك تعلم الغيب.
فقال جعفر (عليه السلام) : «من أخبرك بهذا؟». فأومأ المنصور إلى شيخ قاعد بين يديه. فقال جعفر (عليه السلام) للشيخ: «أنت سمعتني أقول هذا». قال الشيخ: نعم. قال جعفر (عليه السلام) للمنصور: «أ يحلف يا أمير». فقال له المنصور: احلف. فلما بدأ الشيخ
ص: 330
في اليمين، قال جعفر (عليه السلام) للمنصور: «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) : أن العبد إذا حلف باليمين التي ينزه اللّه عز وجل فيها وهو كاذب، امتنع اللّه عز وجل من عقوبته عليها في عاجلته لما نزه اللّه عز وجل، ولكني أنا أستحلفه».
فقال المنصور: ذلك لك. فقال جعفر (عليه السلام) للشيخ: «قل: أبرأ إلى اللّه من حوله وقوته، وألجأ إلى حولي وقوتي، إن لم أكن سمعتك تقول هذا القول».
فتلكأ الشيخ، فرفع المنصور عموداً كان في يده. فقال: واللّه لئن لم تحلف، لأعلونك بهذا العمود.
فحلف الشيخ، فما أتم اليمين حتى دلع لسانه كما يدلع الكلب، ومات لوقته، ونهض جعفر (عليه السلام) .
قال الربيع: فقال لي المنصور: ويلك اكتمها الناس؛ لا يفتتنون. قال الربيع: فشيعت جعفراً (عليه السلام) ، وقلت له: يا ابن رسول اللّه، إن المنصور كان قد هم بأمر عظيم، فلما وقعت عينك عليه وعينه عليك، زال ذلك.
فقال: «يا ربيع، إني رأيت البارحة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النوم. فقال لي: يا جعفر، خفته؟. فقلت: نعم يا رسول اللّه. فقال لي: إذا وقعت عينك عليه فقل: «ببسم اللّه أستفتح، وببسم اللّه أستنجح، وبمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتوجه. اللّهم ذلل لي صعوبة أمري وكل صعوبة، وسهل لي حزونة أمري وكل حزونة، واكفني مئونة أمري وكل مئونة»(1).
هذا وربما كان المنصور قد أحضر الشيخ ليشهد ضد الإمام (عليه السلام) ، فتكون ذريعة
ص: 331
لقتل الإمام (صلوات اللّه عليه).
عن الربيع - صاحب المنصور - قال: حججت مع أبي جعفر المنصور، فلما كان في بعض الطريق. قال لي المنصور: يا ربيع، إذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، فو اللّه العظيم لا يقتله أحد غيري، احذر تدع أن تذكرني به. قال: فلما صرنا إلى المدينة، أنساني اللّه عز وجل ذكره - قال - فلما صرنا إلى مكة. قال لي: يا ربيع، ألم آمرك أن تذكرني بجعفر بن محمد إذا دخلنا المدينة. قال: فقلت: نسيت ذلك يا مولاي يا أمير. قال: فقال لي: إذا رجعت إلى المدينة فاذكرني به، فلابد من قتله؛ فإن لم تفعل لأضربن عنقك. فقلت: نعم يا أمير. ثم قلت لغلماني وأصحابي: اذكروني بجعفر بن محمد إذا دخلنا المدينة إن شاء اللّه تعالى. فلم يزل غلماني وأصحابي يذكروني به، في كل وقت ومنزل ندخله وننزل فيه حتى قدمنا المدينة. فلما نزلنا بها، دخلت إلى المنصور فوقفت بين يديه، وقلت له: يا أمير، جعفر بن محمد - قال - فضحك وقال لي: نعم. اذهب يا ربيع فأتني به، ولا تأتني به إلا مسحوباً. قال: فقلت له: يا مولاي يا أمير حباً وكرامةً، وأنا أفعل ذلك طاعةً لأمرك. قال: ثم نهضت، وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك. قال: فأتيت الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وهو جالس في وسط داره. فقلت له: جعلت فداك، إن الأمير يدعوك إليه. فقال لي: «السمع والطاعة». ثم نهض وهو معي يمشي. قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه، إنه أمرني أن لا آتيه بك إلا مسحوباً. قال: فقال الصادق: «امتثل يا ربيع ما أمرك به». قال: فأخذت بطرف كمه أسوقه إليه، فلما أدخلته إليه، رأيته وهو جالس على سريره، وفي يده عمود حديد، يريد أن
ص: 332
يقتله به، ونظرت إلى جعفر (عليه السلام) وهو يحرك شفتيه، فلم أشك أنه قاتله، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر يحرك شفتيه به. فوقفت أنظر إليهما. قال الربيع: فلما قرب منه جعفر بن محمد، قال له المنصور: ادن مني يا ابن عمي. وتهلل وجهه، وقربه منه، حتى أجلسه معه على السرير - ثم قال - يا غلام، ائتني بالحقة. فأتاه بالحقة، فإذا فيها قدح الغالية، فغلفه منها بيده، ثم حمله على بغلة، وأمر له ببدرة وخلعة، ثم أمره بالانصراف. قال: فلما نهض من عنده، خرجت بين يديه حتى وصل إلى منزله. فقلت له: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه، إني لم أشك فيه ساعة تدخل عليه يقتلك، ورأيتك تحرك شفتيك في وقت دخولك، فما قلت؟. قال لي: «نعم يا ربيع، اعلم أني قلت: حسبي الرب من المربوبين»، الدعاء(1).
كان المنصور يريد قتل الإمام (عليه السلام) ، ولكي يبرر موقفه كان يستند إلى بعض الوشاة، وكان يتهم الإمام (عليه السلام) بأنه يريد الخروج بالسيف على الحكومة، ويشق عصا المسلمين!.
روي عن الرضا، عن أبيه (عليهما السلام) ، قال: «جاء رجل إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) . فقال له: انج بنفسك، فهذا فلان بن فلان قد وشى بك إلى المنصور، وذكر أنك تأخذ البيعة لنفسك على الناس؛ لتخرج عليهم. فتبسم (عليه السلام) وقال: يا عبد اللّه، لا ترع؛ فإن اللّه إذا أراد فضيلةً كتمت أو جحدت، أثار عليها حاسداً باغياً
ص: 333
يحركها حتى يبينها. اقعد معي حتى يأتيني الطلب، فتمضي معي إلى هناك، حتى تشاهد ما يجري من قدرة اللّه التي لا معدل لها عن لمؤمن.
فجاءوا وقالوا: أجب الأمير. فخرج الصادق (عليه السلام) ودخل، وقد امتلأ المنصور غيظاً وغضباً. فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين، تريد أن تفرق جماعتهم، وتسعى في هلكتهم، وتفسد ذات بينهم.
فقال الصادق (عليه السلام) : ما فعلت شيئاً من هذا.
قال المنصور: فهذا فلان يذكر أنك فعلت كذا، وأنه أحد من دعوته إليك. فقال: إنه لكاذب. قال المنصور: إني أحلفه. إن حلف كفيت نفسي مئونتك. فقال الصادق (عليه السلام) : إنه إذا حلف كاذباً باء بإثم.
قال المنصور لحاجبه: حلف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا - يعني الصادق (عليه السلام) -.
فقال الحاجب: قل: واللّه الذي لا إله إلا هو، وجعل يغلظ عليه اليمين. فقال الصادق (عليه السلام) : لا تحلفه هكذا؛ فإني سمعت أبي يذكر عن جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنه قال: إن من الناس من يحلف كاذباً، فيعظم اللّه في يمينه، ويصفه بصفاته الحسنى، فيأتي تعظيمه لله على إثم كذبه ويمينه، فيؤخر عنه البلاء، ولكني أحلفه باليمين التي حدثني أبي عن جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنه لايحلف بها حالف إلا باء بإثمه.
فقال المنصور: فحلّفه إذاً يا جعفر. فقال الصادق (عليه السلام) للرجل: قل: إن كنت كاذباً عليك فقد برئتُ من حول اللّه وقوته ولجأتُ إلى حولي وقوتي. فقالها الرجل. فقال الصادق (عليه السلام) : اللّهم إن كان كاذباً فأمته. فما استتم حتى سقط الرجل ميتاً، واحتمل ومضى، وأقبل المنصور على الصادق (عليه السلام) وسأله عن
ص: 334
حوائجه. فقال (عليه السلام) : ليس لي حاجة إلا إلى اللّه والإسراع إلى أهلي؛ فإن قلوبهم بي متعلقة. فقال: ذلك إليك، فافعل ما بدا لك. فخرج من عنده مكرماً، قد تحير فيه المنصور ومن يليه.
فقال قوم: ماذا، رجل فاجأه الموت، ما أكثر ما يكون هذا! وجعل الناس يصيرون إلى ذلك الميت وينظرون إليه. فلما استوى على سريره، جعل الناس يخوضون، فمن ذامٍ له وحامد، إذ قعد على سريره، وكشف عن وجهه، وقال: يا أيها الناس، إني لقيت ربي بعدكم فلقاني السخط واللعنة، واشتد غضب زبانيته عليَّ للذي كان مني إلى جعفر بن محمد الصادق، فاتقوا اللّه ولا تهلكوا فيه كما هلكت. ثم أعاد كفنه على وجهه، وعاد في موته، فرأوه لا حراك به وهو ميت، فدفنوه وبقوا حائرين في ذلك»(1).
عن علي بن ميسر، قال: لما قدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) على أبي جعفر المنصور. أقام أبو جعفر مولًى له على رأسه، وقال له: إذا دخل عليَّ فاضرب عنقه. فلما أدخل أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، نظر إلى أبي جعفر وأسر شيئاً بينه وبين نفسه، لا يدرى ما هو، ثم أظهر: «يا مَنْ يَكْفِي خَلْقَهُ كُلهُم، ولا يَكْفِيهِ أَحَدٌ، اكفِني شَرَ عَبدَ اللّه بنَ علي».
فصار أبو جعفر لا يبصر مولاه، وصار مولاه لا يبصره. قال: فقال أبو جعفر: يا جعفر بن محمد، لقد أتعبتك في هذا الحر فانصرف. فخرج أبو عبد
ص: 335
اللّه (عليه السلام) من عنده. فقال أبو جعفر لمولاه: ما منعك أن تفعل ما أمرتك به!. فقال: لا واللّه ما أبصرته، ولقد جاء شيء حال بيني وبينه. فقال أبو جعفر: واللّهِ لئن حدثت بهذا الحديث لأقتلنك(1).
وفي رواية: إن المنصور قال لحاجبه: إذا دخل عليَّ جعفر بن محمد فاقتله قبل أن يصل إليَّ. فدخل أبو عبد اللّه (عليه السلام) فجلس. فأرسل إلى الحاجب فدعاه، فنظر إليه وجعفر (عليه السلام) قاعد. قال: ثم قال: عد إلى مكانك. قال: وأقبل يضرب يده على يده.
فلما قام أبو عبد اللّه (عليه السلام) وخرج دعا حاجبه. فقال: بأي شيء أمرتك.
قال: لا واللّهِ ما رأيته حين دخل، ولا حين خرج، ولا رأيته إلا وهو قاعد عندك(2).
روي أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «دعاني أبو جعفر الخليفة ومعي عبد اللّه بن الحسن، وهو يومئذ نازل بالحيرة، قبل أن تبنى بغداد، يريد قتلنا لا يشك الناس فيه. فلما دخلت عليه، دعوت اللّه بكلام. فقال لابن نهيك - وهو القائم على رأسه -: إذا ضربت بإحدى يدي على الأخرى، فلا تناظره حتى تضرب عنقه. فلما تكلمت بما أردت، نزع اللّه من قلب أبي جعفر الخليفة الغيظ، فلما دخلت أجلسني مجلسه، وأمر لي بجائزة، وخرجنا من عنده».
ص: 336
فقال له أبو بصير - وكان حضر ذلك المجلس -: ما كان الكلام؟.
قال: «دعوت اللّه بدعاء يوسف، فاستجاب اللّه لي ولأهل بيتي»(1).
ولا يخفى أنه ربما كانت هذه الروايات متعددة القضايا، حيث قد أمر المنصور عدة مرات بقتل الإمام (عليه السلام) ، وفي قصص متشابهة.
روي: أن المنصور لما أمر الربيع بإحضار أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأحضره، فلما بصر به المنصور. قال له: قتلني اللّه إن لم أقتلك، أ تلحد في سلطاني، وتبغيني الغوائل. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «واللّهِ ما فعلت ولا أردت، فإن كان بلغك فمن كاذب، ولو كنت فعلت فقد ظلم يوسف فغفر، وابتلي أيوب فصبر، وأعطي سليمان فشكر، فهؤلاء أنبياء اللّه وإليهم يرجع نسبك». فقال له المنصور: أجل ارتفع هنا. فارتفع فقال له: إن فلان بن فلان أخبرني عنك بما ذكرت. فقال: «أحضره يا أمير؛ ليواقفني على ذلك».
فأحضر الرجل المذكور، فقال له المنصور: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر؟. قال: نعم. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : أنت سمعت. قال: نعم. فاستحلفه على ذلك. فقال له المنصور: أتحلف؟. قال: نعم. وابتدأ باليمين، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) للساعي: «قل: برئتُ من حول اللّه وقوته، والتجأتُ إلى حولي وقوتي، لقد فعل كذا وكذا جعفر، وقال كذا وكذا جعفر». فامتنع منها هنيئةً، ثم حلف بها، فما برح حتى ضرب برجله.
ص: 337
فقال أبو جعفر: جروا برجله. فأخرجوه لعنه اللّه. قال الربيع: وكنت رأيت جعفر بن محمد (عليه السلام) حين دخل على المنصور يحرك شفتيه، وكلما حركهما سكن غضب المنصور، حتى أدناه منه وقد رضي عنه. فلما خرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) من عند أبي جعفر المنصور اتبعته، فقلت له: إن هذا الرجل كان من أشد الناس غضباً عليك، فلما دخلت عليه وأنت تحرك شفتيك، كلما حركتهما سكن غضبه، فبأي شيء كنت تحركهما؟. قال: «بدعاء جدي الحسين بن علي (عليه السلام) ». قلت: جعلت فداك، فما هذا الدعاء؟. قال: «يا عدتي عند شدتي، ويا غوثي في كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام». قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء، فما نزلت فيَّ شدة قط، إلا دعوت به ففرج عني - قال - وقلت لجعفر بن محمد (عليه السلام) : لِمَ منعت الساعي أن يحلف باللّه؟!. قال: «كرهت أن يراه اللّه يوحده ويمجده، فيحلم عنه ويؤخر عقوبته، فاستحلفته بما سمعت، فأخذه اللّه أخذةً رابيةً»(1).
وقد سبق أنه ربما كانت هذه في عدة قضايا تكررت من المنصور.
عن محمد بن مرازم، عن أبيه، قال: خرجنا مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، حيث خرج من عند أبي جعفر المنصور من الحيرة، فخرج ساعة أذن له وانتهى إلى السالحين في أول الليل، فعرض له عاشر كان يكون في السالحين في أول الليل. فقال له: لا أدعك تجوز. فألح عليه وطلب إليه، فأبى إباءً ومصادف معه. فقال له مصادف:
ص: 338
جعلت فداك، إنما هذا كلب قد آذاك، وأخاف أن يردك، وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر، وأنا ومرازم أ تأذن لنا أن نضرب عنقه، ثم نطرحه في النهر. فقال: «كف يا مصادف». فلم يزل يطلب إليه حتى ذهب من الليل أكثره، فأذن له فمضى. فقال: «يا مرازم، هذا خير أم الذي قلتماه». قلت: هذا جعلت فداك. فقال: «يا مرازم، إن الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير»(1).
روي أن عيسى بن موسى لما قدم، قال جعفر بن محمد (عليه السلام) : «أ هو هو». قيل: من تعني يا أبا عبد اللّه؟. قال: «المتلعب بدمائنا. واللّهِ لا يحلأ منها بشيء»(2).
عن أبي القاسم الأصفهاني، والعقد عن ابن عبد ربه الأندلسي، أن المنصور قال - لما رأى الإمام الصادق (عليه السلام) -: قتلني اللّه إن لم أقتلك.
فقال الصادق (عليه السلام) له: «إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت على إرث منهم، وأحق بمن تأسى بهم». فقال: إليَّ يا أبا عبد اللّه، فأنت القريب القرابة، وذو الرحم الواشجة، السليم الناحية، القليل الغائلة. ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأمر له بكسوة، وجائزة - وفي خبر آخر عن الربيع - أنه أجلسه إلى جانبه. فقال له: ارفع حوائجك. فأخرج رقاعاً لأقوام، فقال المنصور: ارفع حوائجك في نفسك. فقال: «لا تدعوني حتى
ص: 339
أجيئك». فقال: ما إلى ذلك سبيل(1).
عن أيوب بن عمر، قال: لقي جعفر (عليه السلام) أبا جعفر المنصور. فقال: «أردد عليَّ عين أبي زياد آكل من سعفها». قال: إياي تُكلم بهذا الكلام، واللّه لأزهقن نفسك. قال: «لا تعجل قد بلغت ثلاثاً وستين، وفيها مات أبي وجدي علي بن أبي طالب، فعليَّ كذا وكذا إن آذيتك بنفسي أبداً، وإن بقيت بعدك إن آذيت الذي يقوم مقامك». فرق له وأعفاه(2).
روي عن مخرمة الكندي، قال: إن أبا الدوانيق نزل بالربذة، وجعفر الصادق (عليه السلام) بها. قال: من يعذرني من جعفر، واللّه لأقتلنه. فدعاه، فلما دخل عليه جعفر (عليه السلام) . قال: «يا أمير، ارفق بي فو اللّه لقلما أصحبك». قال أبو الدوانيق: انصرف. ثم قال لعيسى بن علي: الحقه فسله أ بي أم به؟. فخرج يشتد حتى لحقه. فقال: يا أبا عبد اللّه، إن الأمير يقول: أ بك أم به. قال: «لا، بل بي»(3).
عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال: «لما طلب أبو الدوانيق أبا عبد اللّه (عليه السلام) و هَمَّ بقتله. فأخذه صاحب المدينة، ووجه به إليه، وكان أبو الدوانيق استعجله،
ص: 340
واستبطأ قدومه حرصاً منه على قتله. فلما مُثل بين يديه ضحك في وجهه، ثم رحب به، وأجلسه عنده، وقال: يا ابن رسول اللّه، واللّه لقد وجهت إليك وأنا عازم على قتلك، ولقد نظرت فألقي إليَّ محبة لك. فو اللّه ما أجد أحداً من أهل بيتي أعز منك ولا آثر عندي. ولكن - يا أبا عبد اللّه - ما كلام يبلغني عنك، تهجننا فيه وتذكرنا بسوء؟!.
فقال (عليه السلام) : يا أمير، ما ذكرتك قط بسوء.
فتبسم أيضاً، وقال: واللّهِ أنت أصدق عندي من جميع من سعى بك إليَّ، هذا مجلسي بين يديك وخاتمي، فانبسط ولا تخشني في جليل أمرك وصغيره، فلست أردك عن شيء. ثم أمره بالانصراف، وحباه وأعطاه.
فأبى (عليه السلام) أن يقبل شيئاً، وقال: يا أمير، أنا في غناء وكفاية وخير كثير، فإذا هممت ببري، فعليك بالمتخلفين من أهل بيتي، فارفع عنهم القتل. قال: قد قبلت يا أبا عبد اللّه، وقد أمرت بمائة ألف درهم ففرق بينهم. فقال: وصلت الرحم يا أمير. فلما خرج من عنده، مشى بين يديه مشايخ قريش وشبانهم من كل قبيلة، ومعه عين أبي الدوانيق. فقال له: يا ابن رسول اللّه، لقد نظرت نظراً شافياً حين دخلت على الأمير فما أنكرت منك شيئاً، غير شفتيك وقد حركتهما بشيء، فما كان ذلك؟. قال: إني لما نظرت إليه قلت: يا من لا يُضام ولا يُرام، وبه تواصل الأرحام، صَل عَلى محمد وآله واكفني شَرَهُ، بِحَوْلِكَ وَقُوتِكَ. واللّهِ ما زدت على ما سمعت. قال: فرجع العين إلى أبي الدوانيق فأخبره بقوله. فقال: واللّهِ ما استتم ما قال حتى ذهب ما كان في صدري من غائلة وشر»(1).
ص: 341
كان داود من عمال بني العباس، وكان يضيق على الإمام الصادق (عليه السلام) بأمر المنصور، حتى أنه هدد بقتل الإمام (عليه السلام) ، بل أمر بأن يُأتى برأسه الشريف إن لم يستجب له.
عن ابن سنان، قال: كنا بالمدينة حين بعث داود بن علي إلى المعلى بن خنيس فقتله. فجلس أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، فلم يأته شهراً. قال: فبعث إليه أن ائتني. فأبى (عليه السلام) أن يأتيه، فبعث إليه خمس نفر من الحرس. فقال: ائتوني به، فإن أبى فأتوني به أو برأسه. فدخلوا عليه وهو (عليه السلام) يصلي، ونحن نصلي معه الزوال. فقالوا: أجب داود بن علي. قال: «فإن لم أجب». قال: أمرنا أن نأتيه برأسك. فقال: «وما أظنكم تقتلون ابن رسول اللّه». قالوا: ما ندري ما تقول، وما نعرف إلا الطاعة.
قال: «انصرفوا؛ فإنه خير لكم في دنياكم وآخرتكم». قالوا: واللّهِ لا ننصرف حتى نذهب بك معنا، أو نذهب برأسك. قال: فلما علم أن القوم لا يذهبون إلا بذهاب رأسه، وخاف على نفسه، قالوا: رأيناه قد رفع يديه فوضعهما على منكبيه، ثم بسطهما، ثم دعا بسبابته، فسمعناه يقول: «الساعة الساعة». فسمعنا صراخاً عالياً، فقالوا له: قم. فقال لهم: «أما إن صاحبكم قد مات، وهذا الصراخ عليه، فابعثوا رجلاً منكم؛ فإن لم يكن هذا الصراخ عليه، قمت معكم».
قال: فبعثوا رجلاً منهم، فما لبث أن أقبل. فقال: يا هؤلاء، قد مات صاحبكم، وهذا الصراخ عليه. فانصرفوا.
فقلت له: جعلنا اللّه فداك، ما كان حاله؟. قال: «قتل مولاي المعلى بن
ص: 342
خنيس، فلم آته منذ شهر، فبعث إليَّ أن آتيه، فلما أن كان الساعة لم آته، فبعث إليَّ ليضرب عنقي، فدعوت اللّه باسمه الأعظم، فبعث اللّه إليه ملكاً بحربة، فطعنه في مذاكيره فقتله».
فقلت له: فرفع اليدين ما هو؟. قال: «الابتهال».
فقلت: فوضع يديك وجمعها؟. فقال: «التضرع».
قلت: ورفع الإصبع؟. قال: «البصبصة»(1).
عن أبي القاسم الأصفهاني، أنه دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) سفيان الثوري، فقال (عليه السلام) : «أنت رجل مطلوب، وللسلطان علينا عيون، فاخرج عنا غير مطرود»، القصة(2).
روي عن مهاجر بن عمار الخزاعي، قال: بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة، وبعث معي بمال كثير، وأمرني أن أتضرع لأهل هذا البيت، وأتحفظ مقالتهم - قال - فلزمت الزاوية التي مما يلي القبر، فلم أكن أتنحى منها في وقت الصلاة، لا في ليل ولا في نهار - قال - وأقبلت أطرح إلى السؤال الذين حول القبر الدراهم ومن هو فوقهم، الشيء بعد الشيء، حتى ناولت شباباً من بني الحسن ومشيخةً منهم، حتى ألفوني وألفتهم في السر - قال - وكنت كلما دنوت من أبي عبد اللّه
ص: 343
يلاطفني ويكرمني، حتى إذا كان يوماً من الأيام بعدما نلت حاجتي ممن كنت أريد من بني الحسن وغيرهم، دنوت من أبي عبد اللّه (عليه السلام) وهو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إليَّ. وقال: «تعال يا مهاجر». ولم أكن أتسمى، ولا أكنى بكنيتي. فقال: «قل لصاحبك: يقول لك جعفر: كان أهل بيتك إلى غير هذا منك أحوج منهم إلى هذا، تجيء إلى قوم شباب محتاجين فتدس إليهم، فلعل أحدهم يتكلم بكلمة تستحل بها سفك دمه، فلو بررتهم ووصلتهم وأنلتهم وأغنيتهم، كانوا إلى هذا أحوج ما تريد منهم».
قال: فلما أتيت أبا الدوانيق. قلت له: جئتك من عند ساحر، كان من أمره كذا وكذا. فقال: صدق واللّهِ، لقد كانوا إلى غير هذا أحوج، وإياك أن يسمع هذا الكلام منك إنسان(1).
قال الآبي: قال للصادق (عليه السلام) أبو جعفر المنصور: إني قد عزمت على أن أخرب المدينة، ولا أدع بها نافخ ضرمة!، فقال: «يا أمير، لا أجد بداً من النصاحة لك، فاقبلها إن شئت أو لا». قال: قل. قال: «إنه قد مضى لك ثلاثة أسلاف: أيوب ابتُلي فصبر، وسليمان أُعطي فشكر، ويوسف قُدر فغفر، فاقتد بأيهم شئت». قال: قد عفوت(2).
ص: 344
عن يونس بن أبي يعقوب، قال: حدثنا جعفر بن محمد (صلوات اللّه عليه) من فيه إلى أذني. قال: «لما قتل إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بباخمرا، حسرنا من المدينة، ولم يترك فيها منا محتلم حتى قدمنا الكوفة، فمكثنا فيها شهراً نتوقع فيها القتل، ثم خرج إلينا الربيع الحاجب. فقال: أين هؤلاء العلوية؟ أدخلوا على الأمير رجلين منكم من ذوي الحجى. قال: فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد، فلما صرت بين يديه. قال لي: أنت الذي تعلم الغيب. قلت: لا يعلم الغيب إلا اللّه. قال: أنت الذي يجبى إليك هذا الخراج. قلت: إليك يجبى يا أمير الخراج. قال: أ تدرون لِمَ دعوتكم؟. قلت: لا. قال: أردت أن أهدم رباعكم، وأروع قلوبكم، وأعقر نخلكم، وأترككم بالسراة، لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق؛ فإنهم لكم مفسدة.
فقلت له: يا أمير، إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك النسل.
قال: فتبسم وقال: أعد عليَّ. فأعدت، فقال: مثلك فليكن زعيم القوم، وقد عفوت عنكم، ووهبت لكم جرم أهل البصرة. حدثني الحديث الذي حدثتني عن أبيك، عن آبائه، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قلت: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: صلة الرحم تعمر الديار، وتطيل الأعمار، وإن كانوا كفاراً. فقال: ليس هذا. فقلت: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: الأرحام معلقة بالعرش، تنادي: اللّهم صل من وصلني، واقطع من قطعني. قال: ليس هذا. قلت: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: إن اللّه عز وجل يقول: أنا
ص: 345
الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته. قال: ليس هذا الحديث. قلت: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أن ملكاً من ملوك الأرض، كان بقي من عمره ثلاث سنين، فوصل رحمه فجعلها اللّه ثلاثين سنةً. فقال: هذا الحديث أردت. أي البلاد أحب إليك؟. فو اللّهِ لأصلن رحمي إليكم. قلنا: المدينة. فسرحنا إلى المدينة، وكفى اللّه مئونته»(1).
وكان من شدة حقد المنصور على أهل البيت (عليهم السلام) ، أنه يريد قتلهم بأجمعهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد، ثم يهدم المدينة المنورة حتى لا يترك فيها جداراً، أي يقوم بالإبادة الجماعية في حق ذراري أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.
قال الربيع الحاجب: أخبرت الصادق بقول المنصور: لأقتلنك ولأقتلن أهلك؛ حتى لا أبقي على الأرض منكم قامة سوط، ولأخربن المدينة حتى لا أترك فيها جداراً قائماً. فقال: «لا ترع من كلامه، ودعه في طغيانه». فلما صار بين السترين سمعت المنصور يقول: أدخلوه إليَّ سريعاً. فأدخلته عليه، فقال: مرحباً يا ابن العم النسيب، وبالسيد القريب. ثم أخذ بيده وأجلسه على سريره، وأقبل عليه ثم قال: أ تدري لِمَ بعثت إليك؟. فقال: «وأنى لي علم بالغيب». فقال: أرسلت إليك لتفرق هذه الدنانير في أهلك، وهي عشرة آلاف دينار. فقال: «ولها غيري». فقال: أقسمت عليك يا أبا عبد اللّه لتفرقها على فقراء أهلك. ثم عانقه بيده، وأجازه، وخلع عليه. وقال لي: يا ربيع، أصحبه قوماً
ص: 346
يردونه إلى المدينة.
قال: فلما خرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) . قلت له: يا أمير، لقد كنت من أشد الناس عليه غيظاً، فما الذي أرضاك عنه؟!. قال: يا ربيع، لما حضرت الباب، رأيت تنيناً عظيماً يقرض بأنيابه، وهو يقول بألسنة الآدميين: إن أنت أشكت ابن رسول اللّه؛ لأفصلن لحمك من عظمك، فأفزعني ذلك، وفعلت به ما رأيت(1).
عن معاوية بن عمار، والعلاء بن سيابة، وظريف بن ناصح، قال: لما بعث أبو الدوانيق إلى أبي عبد اللّه، رفع يده إلى السماء، ثم قال: «اللّهم إنك حفظت الغلامين لصلاح أبويهما، فاحفظني لصلاح آبائي محمد وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي (عليهم السلام) . اللّهم إني أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره - ثم قال للجمال - سر». فلما استقبله الربيع بباب أبي الدوانيق. قال له: يا أبا عبد اللّه، ما أشد باطنه عليك، لقد سمعته يقول: واللّهِ لا تركت لهم نخلاً إلا عقرته، ولا مالاً إلا نهبته، ولا ذريةً إلا سبيتها!. قال: فهمس بشيء خفي، وحرك شفتيه، فلما دخل سلم وقعد، فرد عليه السلام، ثم قال: أما واللّهِ لقد هممت أن لا أترك لك نخلاً إلا عقرته، ولا مالاً إلا أخذته. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا أمير، إن اللّه عز وجل ابتلى أيوب فصبر، وأعطى داود فشكر، وقدر يوسف فغفر، وأنت من ذلك النسل، ولا يأتي ذلك النسل إلا بما يشبهه». فقال: صدقت، قد عفوت عنكم. فقال له: «يا أمير، إنه لم ينل منا أهل البيت
ص: 347
أحد دماً إلا سلبه اللّه ملكه». فغضب لذلك واستشاط، فقال (عليه السلام) : «على رسلك يا أمير.
إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان، فلما قتل يزيد (لعنه اللّه) حسيناً، سلبه اللّه ملكه فورثه آل مروان. فلما قتل هشام زيداً، سلبه اللّه ملكه فورثه مروان بن محمد. فلما قتل مروان إبراهيم، سلبه اللّه ملكه فأعطاكموه». فقال: صدقت، هات ارفع حوائجك. فقال: «الإذن». فقال: هو في يدك متى شئت. فخرج فقال له الربيع: قد أمر لك بعشرة آلاف درهم. قال: «لا حاجة لي فيها». قال: إذن تغضبه، فخذها ثم تصدق بها(1).
كان المنصور من أسوأ الحكام المستبدين، وكان يؤخذ العلويين الأبرياء ويدفنهم أحياء، ويجعلهم في أعمدة البناء والاسطوانات، ثم ينبي عليهم.
أنه لما بنى المنصور الأبنية ببغداد، جعل يطلب العلوية طلباً شديداً، ويجعل من ظفر به منهم في الأسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر. فظفر ذات يوم بغلام منهم، حسن الوجه، عليه شعر أسود، من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) . فسلمه إلى البناء الذي كان يبني له، وأمره أن يجعله في جوف أسطوانة ويبني عليه، ووكل به من ثقاته من يراعي ذلك، حتى يجعله في جوف أسطوانة بمشهده. فجعله البناء في جوف أسطوانة، فدخلته رقة عليه ورحمة له، فترك في الأسطوانة فرجةً يدخل منها الروح، وقال للغلام: لا بأس عليك
ص: 348
فاصبر؛ فإني سأخرجك من جوف هذه الأسطوانة إذا جن الليل. ولما جن الليل، جاء البناء في ظلمته، وأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الأسطوانة، وقال له: اتق اللّه في دمي، ودم الفعلة الذين معي، وغيب شخصك؛ فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الأسطوانة، لأني خفت إن تركتك في جوفها أن يكون جدك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم القيامة خصمي بين يدي اللّه عز وجل. ثم أخذ شعره بآلات الجصاصين كما أمكن، وقال له: غيب شخصك، وانج بنفسك، ولا ترجع إلى أمك. قال الغلام: فإن كان هذا هكذا، فعرف أمي أني قد نجوت وهربت؛ لتطيب نفسها، ويقل جزعها وبكاؤها، إن لم يكن لعودي إليها وجه. فهرب الغلام، ولا يدرى أين قصد من أرض اللّه، ولا إلى أي بلد وقع. قال ذلك البناء: وقد كان الغلام عرفني مكان أمه، وأعطاني العلامة شعره. فانتهيت إليها في الموضع الذي كان دلني عليه، فسمعت دوياً كدوي النحل من البكاء، فعلمت أنها أمه، فدنوت منها وعرفتها خبر ابنها، وأعطيتها شعره وانصرفت(1).
روي: أن المنصور لما حبس عبد اللّه بن الحسن، وجماعةً من آل أبي طالب، وقتل ولديه محمداً وإبراهيم. أخذ داود بن الحسن بن الحسن، وهو ابن داية أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ؛ لأن أم داود أرضعت الصادق (عليه السلام) منها بلبن ولدها داود، وحمله مكبلاً بالحديد. قالت أم داود: فغاب عني حيناً بالعراق، ولم أسمع له خبراً، ولم أزل أدعو وأتضرع إلى اللّه جل اسمه، وأسأل
ص: 349
إخواني من أهل الديانة والجد والاجتهاد أن يدعوا اللّه تعالى، وأنا في ذلك كله لاأرى في دعائي الإجابة. فدخلت على أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (صلوات عليهما) يوماً أعوده في علة وجدها، فسألته عن حاله، ودعوت له.
فقال لي: «يا أم داود، وما فعل داود؟». وكنت قد أرضعته بلبنه. فقلت: يا سيدي، وأين داود وقد فارقني منذ مدة طويلة، وهو محبوس بالعراق. فقال: «وأين أنتِ عن دعاء الاستفتاح، وهو الدعاء الذي تفتح له أبواب السماء، ويلقى صاحبه الإجابة من ساعته، وليس لصاحبه عند اللّه تعالى جزاء إلا الجنة». فقلت له: كيف ذلك يا ابن الصادقين؟. فقال لي: «يا أم داود، قد دنا الشهر الحرام العظيم شهر رجب، وهو شهر مسموع فيه الدعاء، شهر اللّه الأصم، وصومي الثلاثة الأيام البيض، وهي: يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، واغتسلي في يوم الخامس عشر وقت الزوال».
ثم علمها (عليه السلام) دعاءً وعملاً مخصوصاً مذكور في كتب الأدعية.
تقول أم داود: فكتبت هذا الدعاء وانصرفت، ودخل شهر رجب وفعلت مثل ما أمرني به - يعني الصادق (عليه السلام) - ثم رقدت تلك الليلة، فلما كان في آخر الليل، رأيت محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكل من صليت عليهم من الملائكة، والنبيين، ومحمد (صلى اللّه عليه وعليهم) يقول: «يا أم داود، أبشري وكل من ترين من إخوانك - وفي رواية - أعوانك وإخوانك، وكلهم يشفعون لك، ويبشرونك بنجح حاجتك، وأبشري فإن اللّه تعالى يحفظك، ويحفظ ولدك ويرده عليك». قالت: فانتبهت، فما لبثت إلا قدر مسافة الطريق من العراق إلى المدينة للراكب المجد المسرع المعجل، حتى قدم عليَّ داود. فسألته عن حاله؟. فقال: إني كنت محبوساً في أضيق حبس، وأثقل حديد - وفي رواية - وأثقل قيد إلى يوم النصف من
ص: 350
رجب، فلما كان الليل رأيت في منامي، كأن الأرض قد قبضت لي، فرأيتك على حصير صلاتك، وحولك رجال رءوسهم في السماء، وأرجلهم في الأرض، يسبحون اللّه تعالى حولك. فقال لي قائل منهم - حسن الوجه، نظيف الثوب، طيب الرائحة، خلته جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) -: أبشر يا ابن العجوزة الصالحة، فقد استجاب اللّه لأمك فيك دعاءها، فانتبهت ورسل المنصور على الباب، فأدخلت عليه في جوف الليل، فأمر بفك الحديد عني، والإحسان إليَّ، وأمر لي بعشرة آلاف درهمَّ، وحملت على نجيبَّ، وسوقت بأشد السير وأسرعهَّ، حتى دخلت المدينة. قالت أم داود: فمضيت به إلى أبي عبد اللّه. فقال (عليه السلام) : «إن المنصور رأى أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في المنام، يقول له: أطلق ولدي، وإلا ألقيك في النار. ورأى كأن تحت قدميه النار، فاستيقظ وقد سقط في يديه، فأطلقك يا داود»(1).
روي: أن المنصور حيث طلبه، فتطهر وتكفن وتحنط. قال له: حدثني بحديث سمعته أنا وأنت من جعفر بن محمد في بني حمان. قال: قلت له: أي الأحاديث؟. قال: حديث أركان جهنم. قال: قلت: أ وتعفيني. قال: ليس إلى ذلك سبيل. قال: قلت: حدثنا جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) ، أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «لجهنم سبعة أبواب، وهي الأركان لسبعة فراعنة - ثم ذكر الأعمش - نمرود بن كنعان فرعون الخليل، ومصعب بن الوليد فرعون موسى،
ص: 351
وأبا جهل بن هشام والأول والثاني، والسادس يزيد قاتل ولدي». ثم سكت فقال لي: الفرعون السابع؟. قلت: رجل من ولد العباس يلي الخلافة، يلقب بالدوانيقي اسمه المنصور. قال: فقال لي: صدقت هكذا حدثنا جعفر بن محمد (عليه السلام) . قال: فرفع رأسه، وإذا على رأسه غلام أمرد، ما رأيت أحسن وجهاً منه. فقال: إن كنت أحد أبواب جهنم، فلِمَ أستبق هذا. وكان الغلام علوياً حسينياً، فقال له الغلام: سألتك يا أمير بحق آبائي إلا عفوت عني. فأبى ذلك، وأمر المرزبان به، فلما مد يده، حرك شفتيه بكلام لم أعلمه، فإذا هو كأنه طير قد طار منه. قال الأعمش: فمر عليَّ بعد أيام. فقلت: أقسمت عليك بحق أمير لما علمتني الكلام؟. فقال: ذاك دعاء المحنة لنا أهل البيت، وهو الذي دعا به أمير المؤمنين (عليه السلام) لما نام على فراش رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم ذكر الدعاء(1).
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يعيش فترة طويلة من حياته في تقية شديدة، وقد حصل بعض التوسعة في برهة من زمانه، فاستطاع من تأسيس أكبر جامعة علمية آنذاك. ولكن لم تمض فترة إلا قصيرة، وبدأت مرة أخرى أشد الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها على الإمام (صلوات اللّه عليه) من قبل طغاة بني العباس، وخاصة من المنصور أبي جعفر الدوانيقي العباسي.
قال (عليه السلام) : «لا تذيعوا سرنا، ولا تحدثوا به عند غير أهله؛ فإن المذيع سرنا أشد علينا من عدونا»(2).
ص: 352
وفي رواية عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر: أن المنصور قد منع الناس عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ومنعه (عليه السلام) من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون إليه، فيعتزل الرجل وأهله، فشق ذلك على شيعته، وصعب عليهم(1).
وكان من شدة التقية والظروف الصعبة التي عاشها الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنه لم يمكنه الوصية علناً بالخليفة والإمام من بعده. فقد عزم المنصور العباسي على قتل الإمام الصادق (عليه السلام) وقَتلِ الإمامِ من بعده فوراً، فاضطر الإمام الصادق (عليه السلام) أن يوصي بعض الثقاة الخواص بإمامة موسى بن جعفر (عليه السلام) ولا يعلن عنه، بل كتب وصية أوصى فيها إلى عدة أشخاص، وجعل منهم المنصور الدوانيقي. فلما توفي الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً شهيداً، سأل المنصور من هو الإمام الذي عينه من بعده، اقتلوه فوراً. فقيل له: لم يعين شخصاً واحداً، وإنما أوصى إلى مجموعة وجعلك منهم، وهكذا حفظ اللّه عز وجل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من كيد المنصور.
في المناقب لابن شهرآشوب: كان الصادق (عليه السلام) قد نص على ابنه موسى (عليه السلام) ، وأشهد على ذلك ابنيه إسحاق وعلياً، والمفضل بن عمر، ومعاذ بن كثير، وعبد الرحمن بن الحجاج، والفيض بن المختار، ويعقوب السراج، وحمران بن أعين، وأبا بصير، وداود الرقي، ويونس بن ظبيان، ويزيد بن سليط، وسليمان بن
ص: 353
خالد، وصفوان الجمال. والكتب بذلك شاهدة. وكان الصادق (عليه السلام) أخبر بهذه الفتنة بعده. وأظهر موت إسماعيل وغسله، وتجهيزه، ودفنه، وتشيع في جنازته بلا حذاء، وأمر بالحج عنه بعد وفاته(1).
وعن أبي أيوب الخوزي، قال: بعث إليَّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل، فدخلت عليه وهو جالس على كرسي، وبين يديه شمعة، وفي يده كتاب. فلما سلمت، رمى الكتاب إليَّ وهو يبكي، وقال: هذا كتاب محمد بن سليمان، يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات، فإنا لله وإنا إليه راجعون - ثلاثاً - وأين مثل جعفر، ثم قال لي: اكتب. فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: اكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه، فقدمه واضرب عنقه. فرجع الجواب إليه: أنه أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان، وعبد اللّه وموسى ابني جعفر، وحميدة، فقال المنصور: ليس إلى قتل هؤلاء سبيل(2).
عن داود بن كثير الرقي، قال: أتى أعرابي إلى أبي حمزة الثمالي فسأله خبراً. فقال: توفي جعفر الصادق (عليه السلام) . فشهق شهقة وأغمي عليه، فلما أفاق قال: هل أوصى إلى أحد؟. قال: نعم، أوصى إلى ابنه عبد اللّه، وموسى، وأبي جعفر المنصور.
فضحك أبو حمزة، وقال: الحمد لله الذي هدانا إلى المهدي، وبين لنا عن الكبير، ودلنا على الصغير، وأخفى عن أمر عظيم. فسُئل عن قوله؟. فقال: بين
ص: 354
عيوب الكبير، ودل على الصغير لإضافته إياه، وكتم الوصية للمنصور؛ لأنه لو سأل المنصور عن الوصي لقيل أنت(1).
وذلك أن عبد اللّه وإن كان أكبر ولد الصادق (عليه السلام) ، إلا أنه كان به عيب، فكان أفطح الرجل، والإمام لا يكون ناقصاً، ومع ذلك لم يكن عبد اللّه عالماً بعلم الإمامة، ومطلعاً على جميع الأحكام الشرعية.
قال محمد بن سعيد: لما خرج محمد بن عبد اللّه بن الحسن (رضوان اللّه عليه)، هرب الإمام جعفر (عليه السلام) إلى ماله بالفرع، فلم يزل هناك مقيماً حتى قُتل محمد، فلما قتل محمد، واطمأن الناس وأمنوا، رجع إلى المدينة(2).
روي: أن سفيان بن عيينة لقي أبا عبد اللّه (عليه السلام) . فقال له: يا أبا عبد اللّه إلى متى هذه التقية، وقد بلغت هذا السن؟. فقال (عليه السلام) : «والذي بعث محمداً بالحق لو أن رجلاً صلى ما بين الركن والمقام عمره، ثم لقي اللّه بغير ولايتنا أهل البيت، للقي اللّه بميتة جاهلية»(3).
ص: 355
وكان من شدة التقية، أنه أنه إذا أرسل الإمام (عليه السلام) شخصاً لشراء بعض الحوائج، أمره بأن يمزق الرقعة، ولا يبقيها عنده.
عن هشام بن أحمر، قال: كتب أبو عبد اللّه (عليه السلام) رقعةً في حوائج لأشتريها، وكتب: «إذا قرأت الرقعة خرقها». فاشتريت الحوائج، وأخذت الرقعة فأدخلتها في زنفيلجتي، وقلت: أتبرك بها - قال - وقدمت عليه. فقال: «يا هشام، اشتريت الحوائج؟». قلت: نعم. قال: «وخرقت الرقعة؟». قلت: أدخلتها زنفيلجتي، وأقفلت عليها الباب أطلب البركة، وهو ذا المفتاح في تكتي. قال: فرفع جانب مصلاه وطرحها إليَّ، فقال: «خرقها». فخرقتها، ورجعت ففتشت الزنفيلجة، فلم أجد فيها شيئاً(1).
عن داود بن الحصين، عن رجل من أصحابه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال - وهو بالحيرة في زمان أبي العباس -: «إني دخلت عليه، وقد شك الناس في الصوم، وهو واللّه من شهر رمضان. فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد اللّه، أ صمت اليوم؟. فقلت: لا. والمائدة بين يديه، قال: فادن فكل. قال: فدنوت فأكلت - قال - وقلت: الصوم معك والفطر معك». فقال الرجل لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : تفطر يوماً من شهر رمضان؟!. فقال: «إي واللّهِ أن أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليَّ من أن يُضرب عنقي»(2).
ص: 356
وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة. فقال: يا أبا عبد اللّه، ما تقول في الصيام اليوم؟. فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا. فقال: يا غلام، عليَّ بالمائدة، فأكلت معه وأنا أعلم واللّهِ أنه يوم من يوم شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي، ولا يعبد اللّه»(1).
عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «اتقوا اللّه وعليكم بالطاعة لأئمتكم، قولوا ما يقولون، واصمتوا عما صمتوا؛ فإنكم في سلطان من قال اللّه تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}(2) - يعني بذلك ولد العباس - فاتقوا اللّه، فإنكم في هدنة. صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وأدوا الأمانة إليهم»(3).
عن عنبسة، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «أشكو إلى اللّه وحدتي، وتقلقلي من أهل المدينة، حتى تقدموا وأراكم وأسر بكم، فليت هذه الطاغية أذن لي، فاتخذت قصراً فسكنته وأسكنتكم معي، وأضمن له أن لا يجيء من ناحيتنا مكروه أبداً»(4).
ص: 357
وكان من شدة التقية، أن الإمام (عليه السلام) يأمر أصحابه بستر الأمر، وصيانته من غير أهله.
عن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إنه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله. فأقرئهم السلام وقل لهم: رحم اللّه عبداً اجتر مودة الناس إلى نفسه. حدثوهم بما يعرفون، واستروا عنهم ما ينكرون - ثم قال - واللّهِ ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مئونةً من الناطق علينا بما نكره، فإذا عرفتم من عبد إذاعةً، فامشوا إليه وردوه عنها؛ فإن قبل منكم، وإلا فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه. فإن الرجل منكم يطلب الحاجة، فيلطف فيها حتى تقضى له. فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم، فإن هو قبل منكم وإلا فادفنوا كلامه تحت أقدامكم، ولا تقولوا: إنه يقول ويقول، فإن ذلك يحمل عليَّ وعليكم. أما واللّه لو كنتم تقولون ما أقول لأقررت أنكم أصحابي، هذا أبو حنيفة له أصحاب، وهذا الحسن البصري له أصحاب»(1).
عن مأمون الرقي، قال: كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام) إذ دخل سهل بن الحسن الخراساني، فسلم عليه ثم جلس. فقال له: يا ابن رسول اللّه، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟.
ص: 358
فقال له (عليه السلام) : «اجلس يا خراساني رعى اللّه حقك - ثم قال - يا حنيفة، اسجري التنور». فسجرته حتى صار كالجمرة وابيض علوه، ثم قال: «يا خراساني، قم فاجلس في التنور». فقال الخراساني: يا سيدي، يا ابن رسول اللّه، لا تعذبني بالنار، أقلني أقالك اللّه.
قال: «قد أقلتك». فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكي، ونعله في سبابته. فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه. فقال له الصادق (عليه السلام) : «ألق النعل من يدك، واجلس في التنور». قال: فألقى النعل من سبابته، ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام (عليه السلام) يحدث الخراساني حديث خراسان، حتى كأنه شاهد لها. ثم قال: «قم يا خراساني، وانظر ما في التنور». قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً، فخرج إلينا وسلم علينا. فقال له الإمام (عليه السلام) : «كم تجد بخراسان مثل هذا؟». فقال: واللّهِ ولا واحداً. فقال (عليه السلام) : «لا واللّهِ ولا واحداً - فقال - أما إنا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسةً معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(1).
عن سدير الصيرفي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقلت له: واللّهِ ما يسعك القعود. قال: «ولِمَ يا سدير؟». قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك. واللّهِ لو كان لأمير المؤمنين ما لك من الشيعة والأنصار والموالي، ما طمع فيه تيم ولا عدي. فقال: «يا سدير، وكم عسى أن تكونوا؟». قلت: مائة ألف. قال: «مائة ألف!». قلت: نعم ومائتي ألف. فقال: «ومائتي ألف!». قلت: نعم
ص: 359
ونصف الدنيا.
قال: فسكت عني. ثم قال: «يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع». قلت: نعم. فأمر بحمار وبغل أن يسرجا، فبادرت فركبت الحمار. فقال: «يا سدير، ترى أن تؤثرني بالحمار». قلت: البغل أزين وأنبل. قال: «الحمار أرفق بي». فنزلت فركب الحمار وركبت البغل، فمضينا فحانت الصلاة. فقال: «يا سدير، انزل بنا نصلي - ثم قال - هذه أرض سبخة لا يجوز الصلاة فيها». فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء، ونظر إلى غلام يرعى جداءً. فقال: «واللّهِ - يا سدير - لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء، ما وسعني القعود». ونزلنا وصلينا، فلما فرغنا من الصلاة عطفت إلى الجداء فعددتها، فإذا هي سبعة عشر(1).
كان المنصور يحبس شيعة الإمام الصادق (عليه السلام) ، فربما يستعملهم لبعض الأعمال، وعندما يعرف بأنهم من الشيعة كان يحبسهم، وربما يقتلهم.
عن يحيى بن إبراهيم بن مهاجر، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : فلان يقرئك السلام، وفلان، وفلان. فقال: «وعليهم السلام». قلت: يسألونك الدعاء. فقال: «وما لهم؟». قلت: حبسهم أبو جعفر المنصور. فقال: «وما لهم وما له!». قلت: استعملهم فحبسهم. فقال: «وما لهم وما له، أ لم أنههم، أ لم أنههم، ألم أنههم، هم النار، هم النار، هم النار - ثم قال - اللّهم اجدع عنهم سلطانهم». قال: فانصرفنا من مكة، فسألنا عنهم، فإذا هم قد أخرجوا بعد الكلام بثلاثة أيام(2).
ص: 360
وعن بكر بن أبي بكر الحضرمي، قال: حبس أبو جعفر - المنصور - أبي. فخرجت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأعلمته ذلك. فقال: «إني مشغول بابني إسماعيل، ولكن سأدعو له». قال: فمكثت أياماً بالمدينة، فأرسل إليَّ: «أن ارحل؛ فإن اللّه قد كفاك أمر أبيك. فأما إسماعيل فقد أبى اللّه إلا قبضه». قال: فرحلت فأتيت مدينة ابن هبيرة، فصادفت أبا جعفر راكباً، فصحت إليه: أبي أبو بكر الحضرمي شيخ كبير. فقال: إن ابنه لا يحفظ لسانه خلوا سبيله(1).
عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن المعلى بن خنيس ينال درجتنا، وإن المدينة من قابل يليها داود بن عروة، ويستدعيه ويأمره أن يكتب له أسماء شيعتنا فيأبى، فيقتله ويصلبه فينا، وبذلك ينال درجتنا».
فلما وُلي داود المدينةَ من قابل، أحضر المعلى وسأله عن الشيعة. فقال: ما أعرفهم. فقال: اكتبهم لي، وإلا ضربت عنقك. فقال: بالقتل تهددني! واللّهِ لو كانت تحت أقدامي ما رفعتها عنهم. فأمر بضرب عنقه وصلبه.
فلما دخل عليه الصادق (عليه السلام) . قال: «يا داود، قتلتَ مولاي ووكيلي، وما كفاك القتل حتى صلبته. واللّهِ لأدعون اللّه عليك ليقتلك كما قتلته».
فقال له داود: أ تهددني بدعائك، ادع اللّه لك فإذا استجاب لك، فادعه عليَّ.
فخرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) مغضباً. فلما جن الليل، اغتسل واستقبل القبلة، ثم
ص: 361
قال: «يا ذا، يا ذي، يا ذو، اِرْمِ داودَ بِسَهْمٍ مِنْ سِهامِكَ، تُبَلْبِلُ بِهِ قَلْبَهُ». ثم قال لغلامه: «اخرج واسمع الصائح». فجاء الخبر أن داود قد هلك، فخر الإمام ساجداً وقال: «إنه لقد دعوتُ اللّه عليه بثلاث كلمات، لو قسمت على أهل الأرض لزلزلت بمن عليها»(1).
المنصور الدوانيقي أشخص الإمام الصادق (عليه السلام) عدة مرات إلى مجلسه تضييقاً عليه، وقد قصد قتل الإمام في جلبه.
عن صفوان بن مهران الجمال، رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلى أبي جعفر المنصور - وذلك بعد قتله لمحمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن -: أن جعفر بن محمد (عليه السلام) بعث مولاه المعلى بن خنيس بجباية الأموال من شيعته، وأنه كان يمد بها محمد بن عبد اللّه. فكاد المنصور أن يأكل كفه على جعفر غيظاً، وكتب إلى عمه داود - وداود إذ ذاك أمير المدينة -: أن يسير إليه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، ولا يرخص له في التلوم والمقام. فبعث إليه داود بكتاب المنصور، وقال: اعمل في المسير إلى الأمير في غد، ولا تتأخر.
قال صفوان: وكنت بالمدينة يومئذ، فأنفذ إليَّ جعفر (عليه السلام) ، فصرت إليه. فقال لي: «تعهد راحلتنا؛ فإنا غادون في غد إن شاء اللّه إلى العراق». ونهض من وقته - وأنا معه - إلى مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان ذلك بين الأولى والعصر، فركع فيه ركعات، ثم رفع يديه، فحفظت يومئذٍ من دعائه: «يا مَنْ لَيْسَ لَهُ ابْتِداءٌ»
ص: 362
الدعاء. قال صفوان: سألت أبا عبد اللّه الصادق (عليه السلام) بأن يعيد الدعاء عليَّ، فأعاده وكتبته. فلما أصبح أبو عبد اللّه (عليه السلام) رحلت له الناقة، وسار متوجهاً إلى العراق، حتى قدم مدينة أبي جعفر، وأقبل حتى استأذن، فأذن له.
قال صفوان: فأخبرني بعض من شهد عن أبي جعفر، قال: فلما رآه أبو جعفر المنصور قربه وأدناه، ثم أسند قصة الرافع على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، يقول في قصته: إن معلى بن خنيس مولى جعفر بن محمد يجبي له الأموال.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «معاذ اللّه من ذلك يا أمير». قال له: تحلف على براءتك من ذلك. قال: «نعم، أحلف باللّه أنه ما كان من ذلك شيء». قال أبو جعفر المنصور: لا، بل تحلف بالطلاق والعتاق. فقال أبو عبد اللّه: «أ ما ترضى يميني باللّه الذي لا إله إلا هو». قال أبو جعفر: فلا تفقه عليَّ. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «فأين يذهب بالفقه مني يا أمير!». قال له: دع عنك هذا؛ فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عنك حتى يواجهك. فأتوا بالرجل، وسألوه بحضرة جعفر (عليه السلام) . فقال: نعم هذا صحيح، وهذا جعفر بن محمد والذي قلت فيه كما قلت.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «تحلف أيها الرجل أن هذا الذي رفعته صحيح». قال: نعم. ثم ابتدأ الرجل باليمين، فقال: واللّهِ الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب الحي القيوم. فقال له جعفر (عليه السلام) : «لا تعجل في يمينك؛ فإني أنا أستحلف». قال المنصور: وما أنكرت من هذه اليمين؟!. قال: «إن اللّه تعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له، ولكن قل يا أيها الرجل: أبرأ إلى اللّه من حوله وقوته، وألجأ إلى حولي وقوتي، إني لصادق بر فيما أقول».
ص: 363
فقال المنصور للقرشي: احلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه. فحلف الرجل بهذه اليمين، فلم يستتم الكلام حتى أجذم وخر ميتاً. فراع أبا جعفر المنصور ذلك، وارتعدت فرائصه، فقال: يا أبا عبد اللّه، سر من غد إلى حرم جدك إن اخترت ذلك، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرك. فو اللّهِ لا قبلت عليك قول أحد بعدها أبداً(1).
عن صفوان الجمال، قال: حملت أبا عبد اللّه (عليه السلام) الحملة الثانية إلى الكوفة، وأبو جعفر المنصور بها. فلما أشرف على الهاشمية - مدينة أبي جعفر - أخرج رجله من غرز الرحل، ثم نزل ودعا ببغلة شهباء، ولبس ثياباً بيضاً وكمةً بيضاء. فلما دخل عليه، قال له أبو جعفر: لقد تشبهت بالأنبياء. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «وأنى تبعدني من أبناء الأنبياء».
قال: لقد هممت أن أبعث إلى المدينة من يعقر نخلها، ويسبي ذريتها. فقال: «ولِمَ ذلك يا أمير!». فقال: رفع إليَّ أن مولاك المعلى بن خنيس يدعو إليك، ويجمع لك الأموال. فقال: «واللّهِ ما كان». فقال: لست أرضى منك إلا بالطلاق والعتاق والهدي والمشي. فقال: «أبالأنداد من دون اللّه تأمرني أن أحلف. إنه من لم يرض باللّه، فليس من اللّه في شيء». فقال: أتتفقه عليَّ. فقال: «وأنى تبعدني من التفقه، وأنا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ». قال: فإني أجمع بينك وبين من سعى بك. قال: «فافعل». قال: فجاء الرجل الذي سعى به. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا
ص: 364
هذا». قال: فقال: نعم، واللّهِ الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم لقد فعلتَ. فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا ويلك! تجلل اللّه فيستحيي من تعذيبك. ولكن قل: برئتُ من حول اللّه وقوته، وألجأتُ إلى حولي وقوتي». فحلف بها الرجل، فلم يستتمها حتى وقع ميتاً. فقال له أبو جعفر المنصور: لا أصدق بعدها عليك أبداً. وأحسن جائزته ورده(1).
روى محمد بن عبيد اللّه الإسكندري، أنه قال: كنت من جملة ندماء المنصور أبي جعفر وخواصه، وكنت صاحب سره من بين الجميع، فدخلت عليه يوماً فرأيته مغتماً، وهو يتنفس نفساً بارداً. فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير؟.
فقال لي: يا محمد، لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة، وقد بقي سيدهم وإمامهم. فقلت له: من ذلك؟!. قال: جعفر بن محمد الصادق.
فقلت له: يا أمير، إنه رجل أنحلته العبادة، واشتغل باللّه عن طلب الملك والخلافة. فقال: يا محمد، وقد علمتُ أنك تقول به وبإمامته، ولكن الملك عقيم، وقد آليتُ على نفسي أن لا أمسي عشيتي هذه أو أفرغ منه.
قال محمد: واللّهِ لقد ضاقت عليَّ الأرض برحبها. ثم دعا سيافاً، وقال له: إذا أنا أحضرت أبا عبد اللّه الصادق، وشغلته بالحديث، ووضعت قلنسوتي عن رأسي، فهي العلامة بيني وبينك، فاضرب عنقه.
ثم أحضر أبا عبد اللّه (عليه السلام) في تلك الساعة، ولحقتُه في الدار، وهو يحرك شفتيه، فلم أدرِ ما الذي قرأ، فرأيت القصر يموج، كأنه سفينة في لجج البحار،
ص: 365
فرأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين، مكشوف الرأس، قد اصطكت أسنانه، وارتعدت فرائصه، يحمر ساعةً ويصفر أخرى، وأخذ بعضد أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، وأجلسه على سرير ملكه، وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه. ثم قال له: يا ابن رسول اللّه، ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟!. قال: «جئتك - يا أمير - طاعةً لله عز وجل ولرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وللأمير».
قال: ما دعوتك والغلط من الرسول - ثم قال - سل حاجتك. فقال: «أسألك أن لا تدعوني لغير شغل». قال: لك ذلك وغير ذلك. ثم انصرف أبو عبد اللّه (عليه السلام) سريعاً، وحمدت اللّه عز وجل كثيراً، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج ونام، ولم ينتبه إلا في نصف الليل، فلما انتبه كنت عند رأسه جالساً فسره ذلك، وقال لي: لا تخرج حتى أقضي ما فاتني من صلاتي، فأحدثك بحديث. فلما قضى صلاته أقبل عليَّ، وقال لي: لما أحضرت أبا عبد اللّه الصادق، وهممت به ما هممت من السوء، رأيت تنيناً قد حوى بذنبه جميع داري وقصري،وقد وضع شفتيه العليا في أعلاها، والسفلى في أسفلها، وهو يكلمني بلسان طلق ذلق عربي مبين: يا منصور، إن اللّه تعالى جده قد بعثني إليك، وأمرني إن أنت أحدثت في أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) حدثاً، فأنا أبتلعك ومن في دارك جميعاً. فطاش عقلي، وارتعدت فرائصي، واصطكت أسناني.
قال محمد بن عبد اللّه الإسكندري: قلت له: ليس هذا بعجيب يا أمير، وعنده من الأسماء، وسائر الدعوات، التي لو قرأها على الليل لأنار، ولو قرأها على النهار لأظلم، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت.
قال محمد: فقلت له بعد أيام: أ تأذن لي يا أمير أن أخرج إلى زيارة أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، فأجاب ولم يأب. فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وسلمت،
ص: 366
وقلت له: أسألك يا مولاي بحق جدك محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن تعلمني الدعاء، الذي تقرؤه عند دخولك إلى أبي جعفر المنصور؟. قال: «لك ذلك». ثم علمه (عليه السلام) الدعاء(1).
روي: أن المنصور لما أراد قتل أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، استدعى قوماً من الأعاجم لا يفهمون ولا يعقلون، فخلع عليهم الديباج والوشي، وحمل إليهم الأموال، ثم استدعاهم - وكانوا مائة رجل - وقال للترجمان: قل لهم: إن لي عدواً يدخل عليَّ الليلة، فاقتلوه إذا دخل.
قال: فأخذوا أسلحتهم، ووقفوا ممتثلين لأمره. فاستدعى جعفراً (عليه السلام) ، وأمره أن يدخل وحده، ثم قال للترجمان: قل لهم: هذا عدوي فقطعوه!.
فلما دخل (عليه السلام) ، تعاووا عوى الكلب، ورموا أسلحتهم، وكتفوا أيديهم إلى ظهورهم، وخروا له سجداً، ومرغوا وجوههم على التراب.
فلما رأى المنصور ذلك خاف على نفسه، وقال: ما جاء بك؟!. قال: «أنت، وما جئتك إلا مغتسلاً محنطاً». فقال المنصور: معاذ اللّه أن يكون ما تزعم، ارجع راشداً. فرجع جعفر (عليه السلام) ، والقوم على وجوههم سجداً. فقال للترجمان: قل لهم: لِمَ لا قتلتم عدو الملك؟. فقالوا: نقتل ولينا الذي يلقانا كل يوم، ويدبر أمرنا كما يدبر الرجل ولده، ولا نعرف ولياً سواه. فخاف المنصور من قولهم، وسرحهم تحت الليل، ثم قتله (عليه السلام) بالسم(2).
ص: 367
عن عبد اللّه بن الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: حج المنصور سنة سبع وأربعين ومائة. فقدم المدينة وقال للربيع: ابعث إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) من يأتينا به متعباً، قتلني اللّه إن لم أقتله.
فتغافل الربيع عنه لينساه، ثم أعاد ذكره للربيع، وقال: ابعث من يأتي به متعباً. فتغافل عنه، ثم أرسل إلى الربيع رسالةً قبيحةً، أغلظ عليه فيها، وأمره أن يبعث من يحضر جعفراً، ففعل.
فلما أتاه، قال له الربيع: يا أبا عبد اللّه، اذكر اللّه؛ فإنه قد أرسل إليك بما لا دافع له غير اللّه. فقال جعفر (عليه السلام) : «لا حول ولا قوة إلا باللّه».
ثم إن الربيع أعلم المنصور بحضوره، فلما دخل جعفر (عليه السلام) عليه أوعده وأغلظ، وقال: أي عدو اللّه! اتخذك أهل العراق إماماً يبعثون إليك زكاة أموالهم، وتلحد في سلطاني، وتبغيه الغوائل، قتلني اللّه إن لم أقتلك!.
فقال له: «يا أمير، إن سليمان (عليه السلام) أُعطي فشكر، وإن أيوب اُبتلي فصبر، وإن يوسف ظُلم فغفر، وأنت من ذلك السنخ». فلما سمع المنصور ذلك منه قال له: إليَّ وعندي أبا عبد اللّه، أنت البريء الساحة، السليم الناحية، القليلة الغائلة، جزاك اللّه من ذي رحم أفضل ما جزى ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه على فرشه، ثم قال: عليَّ بالطيب. فأتي بالغالية، فجعل يغلف لحية جعفر (عليه السلام) بيده، حتى تركها تقطر. ثم قال: قم في حفظ اللّه وكلاءته - ثم قال - يا ربيع، ألحق أبا عبد اللّه جائزته وكسوته. انصرف أبا عبد اللّه في حفظه
ص: 368
وكنفه. فانصرف.
قال الربيع: ولحقته، فقلت: إني قد رأيت قبلك ما لم تره، ورأيت بعدك ما لا رأيته، فما قلت يا أبا عبد اللّه حين دخلت؟!. قال: «قلت: اللّهُم احْرُسْني بِعَيْنِكَ التي لاَ تَنامُ، وَاكْنُفْني بِرُكْنِكَ الذِي لاَ يُرامُ، وَاغْفِر لي بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ، ولا أُهْلَكُ وَأنْتَ رَجائي. اللّهُم أنْتَ أكْبرُ وَأجَل مما أَخافُ وَأحْذَرُ، اللّهُم بِكَ أدْفَعُ في نَحْرِهِ، وَأسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِهِ. ففعل اللّه بي ما رأيت»(1).
عن عبد اللّه بن أبي ليلى، قال: كنت بالربذة مع المنصور، وكان قد وجه إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فأُتي به، وبعث إليَّ المنصور فدعاني، فلما انتهيت إلى الباب، سمعته يقول: عجلوا عليَّ به، قتلني اللّه إن لم أقتله، سقى اللّه الأرض من دمي إن لم أسق الأرض من دمه.
فسألت الحاجب: من يعني؟. قال: جعفر بن محمد (عليه السلام) . فإذا هو قد أُتي به مع عدة جلاوزة، فلما انتهى إلى الباب- قبل أن يرفع الستر، رأيته قد تململت شفتاه عند رفع الستر فدخل، فلما نظر إليه المنصور. قال: مرحباً يا ابن عم، مرحباً يا ابن رسول اللّه. فما زال يرفعه حتى أجلسه على وسادته، ثم دعا بالطعام. فرفعت رأسي، وأقبلتُ أنظر إليه، ويلقمه جدياً بارداً، وقضى حوائجه، وأمره بالانصراف.
فلما خرج- قلت له (عليه السلام) : قد عرفتَ موالاتي لك، وما قد ابتليتُ به في دخولي
ص: 369
عليهم، وقد سمعتُ كلام الرجل، وما كان يقول. فلما صرت إلى الباب، رأيتك قد تململت شفتاك، وما أشك أنه شيء قلته، ورأيت ما صنع بك، فإن رأيت أن تعلمني ذلك، فأقوله إذا دخلت عليه.
قال: «نعم، قلت: ما شاء اللّه ما شاء اللّه، لا يأتي بالخير إلا اللّه، ما شاء اللّه ما شاء اللّه، لا يصرف السوء إلا اللّه، ما شاء اللّه ما شاء اللّه كل نعمة فمن اللّه، ما شاء اللّه لا حول ولا قوة إلا باللّه»(1).
وعن إبراهيم بن جبلة، عن مخرمة الكندي، قال: لما نزل أبو جعفر المنصور الربذة، وجعفر بن محمد يومئذ بها. قال: من يعذرني من جعفر هذا، قدم رجلاً وأخر أخرى يقول: أتنحى عن محمد - أقول: يعني محمد بن عبد اللّه بن الحسن - فإن يظفر فإنما الأمر لي، وإن تكن الأخرى فكنت قد أحرزت نفسي، أما واللّه لأقتلنه. ثم التفت إلى إبراهيم بن جبلة، قال: يا ابن جبلة، قم إليه فضع في عنقه ثيابه، ثم ائتني به سحباً. قال إبراهيم: فخرجت حتى أتيت منزله فلم أصبه، فطلبته في مسجد أبي ذر، فوجدته في باب المسجد - قال - فاستحييت أن أفعل ما أمرت به، فأخذت بكمه. فقلت له: أجب الأمير. فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، دعني حتى أصلي ركعتين». ثم بكى بكاءً شديداً وأنا خلفه، ثم قال: «اللّهم أنت ثقتي»، الدعاء، ثم قال: «اصنع ما أُمرتَ به». فقلت: واللّهِ لا أفعل، ولو ظننت أني أُقتَل.
فأخذتُ بيده فذهبتُ به، لا واللّهِ ما أشك إلا أنه يقتله، قال: فلما انتهيت إلى باب الستر، قال (عليه السلام) : «يا إله جبرئيل»، الدعاء.
ص: 370
قال إبراهيم: فلما أدخلته عليه - قال - فاستوى جالساً، ثم أعاد عليه الكلام. فقال: قدمت رجلاً وأخرت أخرى، أما واللّه لأقتلنك. فقال: «يا أمير، ما فعلتُ فارفق بي. فو اللّهِ لقل ما أصحبك». فقال له أبو جعفر: انصرف. ثم التفت إلى عيسى بن علي، فقال له: يا أبا العباس، الحقه فسله أ بي أم به؟. قال: فخرج يشتد حتى لحقه، فقال: يا أبا عبد اللّه، إن الأمير يقول لك: أ بك أم به؟. فقال: «لا، بل بي». فقال أبو جعفر: صدق. قال إبراهيم: ثم خرجت، فوجدته قاعداً ينتظرني يتشكر لي صنعي به، وإذا به يحمد اللّه، وذكر الدعاء(1).
ص: 371
25
توفي الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً شهيداً يوم الاثنين في 25 شوال سنة 148، وعمره 68، وقيل: 65 سنة، وقيل: 71 سنة(1).
قتله المنصور الدوانيقي بالسم، حيث أعد المنصور عنباً مسموماً، وأجبر الإمام على أكله.
وفي إقبال الأعمال في أدعية شهر رمضان: (وضاعف العذاب على من شرك في دمه، وهو المنصور)(2).
قال المسعودي في مروج الذهب: ولعشر سنين خلت من خلافة المنصور، توفي أبو عبد اللّه جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 148، ودفن بالبقيع مع أبيه وجده، وله 65 سنة، وقيل: إنه سم(3).
عن أبي بصير، قال: قبض أبو عبد اللّه جعفر بن محمد وهو ابن خمس وستين
ص: 372
سنةً في عام ثمان وأربعين ومائة، وعاش بعد أبي جعفر (عليه السلام) أربعاً وثلاثين سنةً(1).
في الكافي: ومضى (عليه السلام) في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة، وله خمس وستون سنةً، ودفن بالبقيع(2).
وقال الشهيد في الدروس: وقبض بها - أي في المدينة - في شوال(3).
وفي المصباح للكفعمي: وتوفي (عليه السلام) يوم الاثنين في النصف من رجب سنة ثمان وأربعين ومائة مسموماً في عنب(4).
وقال أبو جعفر القمي: سمه المنصور، ودفن في البقيع، وقد كمل عمره خمساً وخمسين سنةً(5). وفي رواية خمساً وستين.
عن أبي بصير، قال: دخلت على أم حميدة أعزيها بأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فبكت وبكيت لبكائها. ثم قالت: يا أبا محمد، لو رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عند الموت؛ لرأيت عجباً فتح عينيه، ثم قال: «اجمعوا إليَّ كل من كان بيني وبينه قرابة». قالت: فلم نترك أحداً إلا جمعناه - قالت - فنظر إليهم ثم قال: «إن شفاعتنا لا
ص: 373
تنال مستخفاً بالصلاة»(1).
وعن سالمة مولاة أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قالت: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) حين حضرته الوفاة وأغمي عليه، فلما أفاق. قال: «أعطوا الحسن بن علي بن علي بن الحسين - وهو الأفطس - سبعين ديناراً، وأعط فلاناً كذا، وفلاناً كذا».
فقلت: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك!. قال: «تريدين أن لا أكون من الذين قال اللّه عز وجل: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(2). نعم يا سالمة، إن اللّه خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاق، ولا قاطع رحم»(3).
عن يونس بن يعقوب، عن أبي الحسن الأول - الإمام الكاظم (عليه السلام) - قال: سمعته يقول: «أنا كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعلي بن الحسين (عليه السلام) ، وفي برد اشتريته بأربعين ديناراً، ولو كان اليوم لساوى أربعمائة دينار»(4).
قوله: (شطويين): منسوب إلى شطا، اسم قرية بناحية مصر، تنسب إليها الثياب الشطوية.
ص: 374
عن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال: «فيما أوصاني به أبي (عليه السلام) أن قال: يا بني، إذا أنا مت فلا يغسلني أحد غيرك؛ فإن الإمام لا يغسله إلا إمام»(1).
وفي رواية: أن الإمام الكاظم (عليه السلام) كان يشعل ضوءاً في كل ليلة في الغرفة التي توفي فيها الإمام الصادق (عليه السلام) .
روي: أنه لما قبض أبو جعفر (عليه السلام) ، أمر أبو عبد اللّه (عليه السلام) بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، ثم أمر أبو الحسن (عليه السلام) بمثل ذلك في بيت أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، حتى خرج به إلى العراق، ثم لا أدري ما كان(2).
ص: 375
26
دُفن الإمام الصادق (عليه السلام) بعد تجهيزه، في البقيع عند قبر والده الإمام الباقر، وجده الإمام زين العابدين، وعمه الإمام الحسن المجتبى (عليهم السلام) .
وقد قام الوهابيون بهدم تلك القبور الطاهرة، ولازالت هي مهدمة، فإنهم هدموا القبور الشريفة والأضرحة المقدسة هناك مرتين، مرة قبل مائة وتسعين سنة تقريباً يعني في سنة 1221ه، وقد نقل صاحب مفتاح الكرامة السيد جواد العاملي (رحمه اللّه) ذلك في كتابه.
ومرة قبل أكثر من ستين سنة، أي في سنة 1344ه.
ولكن في المرة الأولى تمكن المسلمون من إنقاذ المدينة المنورة من يد الوهابيين، وقاموا ببناء تلك الأضرحة المقدسة من جديد.
أما المرة الثانية، فلا زالت الوهابية مسيطرة على المدينة المنورة يمنعون إعادة بنائها، وسيأتي بإذن اللّه يوم تُبنى تلك المراقد الشريفة بأحسن ما يمكن إن شاء اللّه.
وكان السبب الأصلي في هدم البقيع وسائر قبور الصحابة والأولياء، وهدم الكثير من آثار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة (عليهم السلام) هم الغربيون، كما ورد في كتاب (مذكرات مستر همفر).
ص: 376
وفي بعض الكتب التاريخية: إنه كان في البقيع على قبورهم الشريفة رخامة مكتوب عليها:
(بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد لله مبيد الأمم، ومحيي الرمم. هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (عليهم السلام) )(1). أقول: قبر الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مجهول حسب وصيتها، وفي البقيع قبر فاطمة بنت أسد (عليها السلام) .
ومن جملة ما تم هدمه من قبل الوهابيين - وبأمر أسيادهم الغربيين - هو باب خيبر، حيث نقل لنا أستاذنا المرحوم الحاج الشيخ علي أكبر النائيني (رحمه اللّه) ، وقد قرأت عنده القرآن والمقدمات قبل خمسين سنة، قال: قبل هدم البقيع ثانية، عندما تشرفت أنا وسائر الحجاج إلى بيت اللّه الحرام، كنا نزور في طريقنا خيبر، وكان باب خيبر الذي قلعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ورمى به موجوداً، وهو قطعة من الحجر الكبير، وقد كسروا الباب قطعة قطعة، وأزالوا هذا الأثر المهم.
وإذا رجعت الحريات لبلاد الحجاز بإذن اللّه سبحانه وتعالى، يجب على المؤمنين أن يعيدوا جميع تلك الآثار المباركة {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ}(2).
ص: 377
27
قيل: إنه كان للإمام الصادق (عليه السلام) عشرة أولاد، سبعة ذكور وثلاث بنات، وقيل أكثر من ذلك.
منهم: إسماعيل، ويقال له: إسماعيل الأمين.
وعبد اللّه.
وأم فروة وهي أسماء، والتي زوجها من ابن عمه الخارج مع زيد بن علي الشهيد (عليه السلام) .
وأمهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
وموسى الكاظم الإمام (عليه السلام) ، ومحمد الديباج، وإسحاق، وفاطمة الكبرى، لأم ولد اسمها حميدة البربرية.
والعباس، وعلي العريضي، وأسماء، ويحيى، والعباس، وفاطمة الصغرى، لأمهات أولاد شتى.
وغيرهم ممن ذكرهم بعض المؤرخين.
ولا يخفى أن عدد أولاد الأئمة (عليهم السلام) عادة يكون أكثر مما أحصاه المؤرخون والرواة؛ لأن كل واحد منهم أثبت ما علمه، وربما خفي عليه البعض، أو أثبت ذلك قبل ولادة بعضهم، أو لأسباب أخرى، ولا مفهوم للعدد، وإثبات الشيء
ص: 378
لا ينفي ما عداه.
من هنا، فمجرد عدم ذكر شخص في الكتب التاريخية لا يعني عدم وجوده، فإذا كانت هناك مزارات لبعض أولاد الأئمة (عليهم السلام) فهي محمولة على صحة الانتساب، لوجود الشهرة والشياع الحجة في النسب، وحجية الشياع أقوى مما ذكره أحد المؤرخين في كتابه كما لا يخفى.
ثم إنه ذكرنا في بعض الكتب: إن تعدد المزارات لشخص واحد في أماكن وبلاد مختلفة، قد يكون من باب تشابه الأسماء وتعدد المسميات، فقد يكون للإمام (عليه السلام) عدة أولاد بنفس الاسم، كما كان للإمام الحسين (صلوات اللّه عليه)، حيث سمى عدداً من أولاده باسم علي، وقد يكون ذلك اسماً لأحفاد الإمام (صلوات اللّه عليه)، فكثيراً ما يسمى الحفيد باسم جده، فمثلاً: علي بن جعفر (عليه السلام) المدفون في المدينة، قد يكون هو الابن المباشر للإمام (صلوات اللّه عليه)، وعلي بن جعفر (عليه السلام) المدفون في العراق أو في إيران من أحفاده الكرام، المسمى هو وأبوه بنفس الاسم.
أما ما يقوم به البعض من التشكيك في بعض المراقد الشريفة المنسوبة لذراري الأئمة (عليهم السلام) فغير مناسب، لما ذكرناه من حجية الشياع في النسب، وعدم دليل لهم على العدم، بل منتهى ما يقال: إنهم لم يعثروا على ذلك في الكتب التي وصلت بأيديهم.
كان إسماعيل (عليه السلام) أكبر إخوته، وكان أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) شديد المحبة له، والبر به، والإشفاق عليه. وكان قوم من الشيعة يظنون أنه القائم بعد أبيه، والخليفة له من بعده، إذ كان أكبر إخوته سناً، ولميل أبيه إليه، وإكرامه له، ولكنه
ص: 379
مات في حياة أبيه (عليه السلام) بالعريض، وحُمل على رقاب رجال إلى أبيه بالمدينة، حتى دفن بالبقيع.
وكان إسماعيل سليم العقيدة. عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمار، قال: وصف إسماعيل بن عمار أخي لأبي عبد اللّه (عليه السلام) دينه واعتقاده. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وأنكم - ووصفهم يعني الأئمة واحداً واحداً، حتى انتهى إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال: وإسماعيل من بعدك. قال: «أما إسماعيل فلا»(1).
ولما مات إسماعيل، جزع عليه أبو عبد اللّه (عليه السلام) جزعاً شديداً، وحزن عليه حزناً عظيماً، وتقدم سريره بغير حذاء ولا رداء، وأمر بوضع سريره على الأرض مراراً كثيرةً، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنه في حياته.
ولما مات إسماعيل (عليه السلام) ، انصرف عن القول بإمامته بعد أبيه، من كان يظن ذلك ويعتقده من أصحاب أبيه (عليه السلام) ، ولكن أقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه، ولا من الرواة عنه، وكانوا من الأباعد والأطراف. فلما مات الصادق (عليه السلام) انتقل معظم الشيعة إلى القول بإمامة موسى بن جعفر (عليه السلام) بعد أبيه، للنص عليه، ولما رأوه من المعاجز وخصائص الإمامة فيه.
ولكن افترق البعض فرقتين:
فريق منهم رجعوا على حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل؛ لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه، وأن الابن أحق بمقام الإمامة من
ص: 380
الأخ.
وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل، وقالوا هو الإمام، وأنه لم يمت.
وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية، والمعروف عنهم الآن من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان.
عن عنبسة بن بجاد العابد، قال: لما مات إسماعيل بن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وفرغنا من جنازته. جلس الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وجلسنا حوله، وهو مطرق، ثم رفع رأسه. فقال: «أيها الناس، إن هذه الدنيا دار فراق، ودار التواء لا دار استواء، على أن لفراق المألوف، حرقةً لا تدفع، ولوعةً لا ترد، وإنما يتفاضل الناس بحسن العزاء، وصحة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يقدم ولداً كان هو المقدم دون الولد - ثم تمثل (عليه السلام) بقول أبي خراش الهذلي يرثي أخاه -:
ولا تحسبي أني تناسيت عهده***ولكن صبري يا أميم جميل(1)
عن سعيد بن عبيد اللّه بن الأعرج، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لما مات إسماعيل، أمرت به وهو مسجى بأن يُكشف عن وجهه، فقبلتُ جبهته وذقنه ونحره، ثم أمرت به فغطي، ثم قلت: اكشفوا عنه. فقبلتُ أيضاً جبهته وذقنه ونحره، ثم أمرتهم فغطوه، ثم أمرتُ به فغُسل، ثم دخلتُ عليه وقد كفن. فقلت: اكشفوا عن وجهه. فقبلتُ جبهته وذقنه ونحره وعوذته، ثم قلت:
ص: 381
أدرجوه». فقلت: بأي شيء عوذته؟. قال: «بالقرآن»(1).
وعن زرارة بن أعين، قال: دعا الصادق (عليه السلام) داود بن كثير الرقي، وحمران بن أعين، وأبا بصير، ودخل عليه المفضل بن عمر، وأتى بجماعة حتى صاروا ثلاثين رجلاً. فقال: «يا داود، اكشف عن وجه إسماعيل». فكشف عن وجهه؟ فقال: «تأمله - يا داود - فانظره أ حي هو أم ميت؟». فقال: بل هو ميت.
فجعل (عليه السلام) يعرضه على رجل رجل حتى أتى على آخرهم. فقال (عليه السلام) : «اللّهم اشهد».
ثم أمر بغسله وتجهيزه، ثم قال: «يا مفضل، احسر عن وجهه». فحسر عن وجهه، فقال: «أ حي هو أم ميت؟ انظروه أجمعكم».
فقال: بل هو يا سيدنا ميت. فقال: «شهدتم بذلك وتحققتموه». قالوا: نعم. وقد تعجبوا من فعله، فقال: «اللّهم اشهد عليهم».
ثم حمل إلى قبره، فلما وضع في لحده. قال: «يا مفضل، اكشف عن وجهه». فكشف، فقال (عليه السلام) للجماعة: «انظروا أ حي هو أم ميت؟». فقالوا: بلى ميت يا ولي اللّه. فقال: «اللّهم اشهد؛ فإنه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء ليطفئوا نور اللّه - ثم أومأ إلى موسى (عليه السلام) وقال - {وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ}(2)».
ثم حثوا عليه التراب، ثم أعاد علينا القول. فقال: «الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد، من هو؟». قلنا: إسماعيل ولدك. فقال: «اللّهم اشهد».
ص: 382
ثم أخذ بيد موسى، فقال: «هو حق والحق معه، ومنه إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها»(1).
عن أبي كهمس، قال: حضرت موت إسماعيل، وأبو عبد اللّه (عليه السلام) جالس عنده. فلما حضره الموت شد لحييه، وغطاه بالملحفة، ثم أمر بتهيئته. فلما فرغ من أمره، دعا بكفنه، وكتب في حاشية الكفن: «إسماعيل يشهد أن لا إله إلا اللّه»(2).
وروي: أنه لما مات إسماعيل، خرج إلينا أبو عبد اللّه (عليه السلام) يقدم السرير بلا حذاء ولا رداء(3).
وعن مرة - مولى محمد بن خالد - قال: لما مات إسماعيل، فانتهى أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى القبر، أرسل نفسه فقعد على حاشية القبر لم ينزل في القبر، ثم قال: «هكذا صنع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإبراهيم»(4).
وعن عبد اللّه بن راشد، قال: كنت مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) حين مات إسماعيل ابنه، فأُنزل في قبره، ثم رمى بنفسه على الأرض مما يلي القبلة، ثم قال: «هكذا
ص: 383
صنع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإبراهيم»(1).
عن الحسن بن زيد، قال: ماتت ابنة لأبي عبد اللّه (عليه السلام) فناح عليها سنةً، ثم مات ولد آخر فناح عليه سنةً، ثم مات إسماعيل فجزع عليه جزعاً شديداً، فقطع النوح - قال - فقيل لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أصلحك اللّه أ يناح في دارك؟!. فقال: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لمات حمزة: لكن حمزة لا بواكي له»(2).
في رواية: لما حضرت إسماعيل بن أبي عبد اللّه الوفاة، جزع أبو عبد اللّه (عليه السلام) جزعاً شديداً. قال: فلما أن أغمضه، دعا بقميص قصير أو جديد، فلبسه ثم تسرح، وخرج يأمر وينهى. قال: فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، لقد ظننا أنا لا ننتفع بك زماناً لما رأينا من جزعك؟!. قال: «إنا أهل بيت نجزع ما لم تنزل المصيبة، فإذا نزلت صبرنا»(3).
روي عن الصادق (عليه السلام) ، أنه استدعى بعض شيعته وأعطاه دراهم، وأمره أن يحج بها عن ابنه إسماعيل. وقال له: «إنك إذا حججت عنه، لك تسعة
ص: 384
أسهم من الثواب ولإسماعيل سهم واحد»(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إني ناجيت اللّه ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون من بعدي، فأبى ربي إلا أن يكون موسى ابني»(2).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن شيطاناً قد ولع بابني إسماعيل، يتصور في صورته؛ ليفتن به الناس، وإنه لا يتصور في صورة نبي، ولا وصي نبي. فمن قال لك من الناس: إن إسماعيل ابني حي لم يمت، فإنما ذلك الشيطان يتصور له في صورة إسماعيل، ما زلت أبتهل إلى اللّه عز وجل في إسماعيل ابني، أن يحييه لي ويكون القيم من بعدي، فأبى ربي ذلك. وإن هذا شيء ليس إلى الرجل منا يضعه حيث يشاء، وإنما ذلك عهد من اللّه عز وجل يعهده إلى من يشاء، فشاء اللّه أن يكون ابني موسى، وأبى أن يكون إسماعيل، ولو جهد الشيطان أن يتمثل بابني موسى ما قدر على ذلك أبداً، فالحمد لله»(3).
وعن الفيض بن المختار - في حديث - عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنه قال: «يا فيض، إن إسماعيل ليس مني كأنا من أبي». قلت: جعلت فداك، فقد كنت لا أشك في أن الرحال تحط إليه من بعدك، فإن كان ما نخاف - وإنا نسأل اللّه من ذلك العافية - فإلى من؟. وأمسك عني فقبلت ركبته، وقلت: ارحم شيبتي؛ فإنما هي النار. إني واللّهِ لو طمعت أن أموت قبلك ما باليت، ولكني أخاف أن أبقى
ص: 385
بعدك. فقال لي: «مكانك». ثم قام إلى ستر في البيت فرفعه ودخل، فمكث قليلاَ ثم صاح بي: «يا فيض، ادخل». فدخلت، فإذا هو بمسجده قد صلى، وانحرف عن القبلة. فجلست بين يديه، فدخل عليه أبو الحسن موسى (عليه السلام) ، وهو يومئذٍ غلام في يده درة، فأقعده على فخذه، وقال له: «بأبي أنت وأمي، ما هذه المخفقة التي بيدك؟». فقال: «مررت بعلي أخي وهو في يده، وهو يضرب بها بهيمةً، فانتزعتها من يده». فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا فيض، إن رسول اللّه أفضيت إليه صحف إبراهيم وموسى، فائتمن عليها علياً، ثم ائتمن عليها علي الحسن، ثم ائتمن عليها الحسن الحسين أخاه، وائتمن الحسين عليها علي بن الحسين، ثم ائتمن عليها علي بن الحسين محمد بن علي، وائتمنني عليها أبي فكانت عندي؛ ولهذا ائتمنت ابني هذا عليها على حداثته، وهي عنده». فعرفت ما أراد. فقلت: جعلت فداك، زدني؟. فقال: «يا فيض، إن أبي كان إذا أراد أن لا ترد له دعوة، أجلسني عن يمينه، ودعا فأمنت، فلا ترد له دعوة، وكذلك أصنع بابني هذا، وقد ذكرت أمس بالموقف، فذكرتك بخير». قال فيض: فبكيت سروراً، ثم قلت له: يا سيدي، زدني؟. فقال: «إن أبي كان إذا أراد سفراً وأنا معه، فنعس وكان على راحلته، أدنيت راحلتي من راحلته، فوسدته ذراعي الميل والميلين، حتى يقضي وطره من النوم، وكذلك يصنع بي ولدي هذا». فقلت: زدني جعلت فداك؟. فقال: «يا فيض، إني لأجد بابني هذا ما كان يعقوب يجده من يوسف». فقلت: سيدي زدني؟. فقال: «هو صاحبك الذي سألت عنه، قم فأقر له بحقه». فقمت حتى قبلت يده ورأسه، ودعوت اللّه له. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أ ما إنه لم يؤذن لي في المرة الأولى منك». فقلت: جعلت فداك، أخبر به عنك؟. قال: «نعم، أهلك وولدك ورفقاءك». وكان معي أهلي
ص: 386
وولدي، وكان معي يونس بن ظبيان من رفقائي، فلما أخبرتهم حمدوا اللّه على ذلك. وقال يونس: لا واللّهِ حتى أسمع ذلك منه. وكانت فيه عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب، سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول له - وقد سبقني يونس -: «الأمر كما قال لك فيض، اسكت واقبل». فقال: سمعت وأطعت. ثم دخلت، فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) حين دخلت: «يا فيض، زرقه». قلت له: قد فعلت(1).
أما ما ورد في ذم إسماعيل، وكذا غيره من أولاد الأئمة (عليهم السلام) ، فلا حجية فيها، وهي على الأغلب من مفتريات بني العباس؛ لتشويه سمعتهم والقضاء عليهم. وعلى فرض صدورها، فهي تقية للحفاظ على دمائهم، وإبعادهم عن أنظار السلطة الجائرة.
كما روي عن الحسن بن راشد، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن إسماعيل؟. فقال: «عاص، لا يشبهني، ولا يشبه أحداً من آبائي»(2).
كان عبد اللّه بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل، وكان يتهمه البعض بالخلاف على أبيه في الاعتقاد. فزعموا أنه كان يخالط الحشوية، ويميل إلى مذاهب المرجئة، وأنه ادعى بعد أبيه الإمامة.
ص: 387
ولكن قد ذكرنا في بعض كتبنا، أن هذه الأمور لم تثبت، بل هي أقرب إلى الافتراء من قبل الحكام العباسيين ومن أشبه؛ لتشويه سمعة ذراري أهل البيت (عليهم السلام) .
نعم، ربما كان يتظاهر البعض من ذراري أهل البيت بأنه محتمل الإمامة؛ ليبعد أنظار الأعداء عن الإمام من بعد أبيه (عليه السلام) ، وبما أنه لم يمتلك العلم الرباني، ولا الكرامات والمعاجز الإلهية، لم يخف الأمر على ذوي البصيرة، بل في كثير من الأحيان كان هو يرشد الناس إلى أخيه الإمام (صلوات اللّه عليه).
وقد احتج البعض ممن قال بإمامة عبد اللّه، بأنه أكبر إخوته الباقين بعد إسماعيل. وزعم إمامته جماعة من أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، لكنه رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) ؛ لما تبينوا ضعف دعواه، وقوة أمر أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) ، ودلالة حقيقته وبراهين إمامته. وأقام نفر يسير منهم على أمرهم، ودانوا بإمامة عبد اللّه، وهم الطائفة الملقبة بالفطحية، وإنما لزمهم هذا اللقب؛ لقولهم بإمامة عبد اللّه، وكان أفطح الرجلين. ويقال: إنهم لقبوا بذلك؛ لأن داعيهم إلى إمامة عبد اللّه كان يقال له: عبد اللّه بن أفطح.
وروي عن المفضل بن عمر، قال: لما قضى الصادق (عليه السلام) ، كانت وصيته في الإمامة إلى موسى الكاظم. فادعى أخوه عبد اللّه الإمامة، وكان أكبر ولد جعفر (عليه السلام) في وقته ذلك، وهو المعروف بالأفطح. فأمر موسى (عليه السلام) بجمع حطب كثير في وسط داره، فأرسل إلى أخيه عبد اللّه يسأله أن يصير إليه، فلما صار عنده، ومع موسى جماعة من وجوه الإمامية. فلما جلس إليه أخوه عبد اللّه، أمر موسى أن يجعل النار في ذلك الحطب كله، فاحترق كله، ولا يعلم الناس
ص: 388
السبب فيه حتى صار الحطب كله جمراً. ثم قام موسى وجلس بثيابه في وسط النار، وأقبل يحدث الناس ساعةً، ثم قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس. فقال لأخيه عبد اللّه: «إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك، فاجلس في ذلك المجلس». فقالوا: فرأينا عبد اللّه قد تغير لونه، فقام يجر رداءه حتى خرج من دار موسى (عليه السلام) (1).
وعن داود بن كثير الرقي، قال: وفد من خراسان وافد يكنى: أبا جعفر، واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً، ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة. فورد الكوفة، ونزل وزار أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ورأى في ناحية رجلاً حوله جماعة. فلما فرغ من زيارته قصدهم، فوجدهم شيعةً فقهاء يسمعون من الشيخ. فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي. قال: فبينما نحن جلوس، إذ أقبل أعرابي. فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمد (عليه السلام) . فشهق أبو حمزة، ثم ضرب بيده الأرض، ثم سأل الأعرابي هل سمعت له بوصية؟. قال: أوصى إلى ابنه عبد اللّه، وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور. فقال: الحمد لله الذي لم يضلنا، دل على الصغير، وبين على الكبير، وسر الأمر العظيم. ووثب إلى قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فصلى وصلينا. ثم أقبلت عليه وقلت له: فسر لي ما قلته؟. قال: بين أن الكبير ذو عاهة، ودل على الصغير أن أدخل يده مع الكبير، وسر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور من وصيه؟. قيل: أنت.
قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله، ووردت المدينة ومعي المال والثياب
ص: 389
والمسائل، وكان فيما معي درهم دفعته إليَّ امرأة تسمى: شطيطة، ومنديل. فقلت لها: أنا أحمل عنك مائة درهم. فقالت: إن اللّه لا يستحيي من الحق. فعوجتُ الدرهم، وطرحته في بعض الأكياس، فلما حصلت بالمدينة سألت عن الوصي؟. فقيل: عبد اللّه ابنه. فقصدته، فوجدت باباً مرشوشاً مكنوساً عليه بواب، فأنكرت ذلك في نفسي، واستأذنت ودخلت بعد الإذن، فإذا هو جالس في منصبه، فأنكرت ذلك أيضاً. فقلت: أنت وصي الصادق الإمام المفترض الطاعة؟. قال: نعم، قلت: كم في المائتين من الدراهم الزكاة؟. قال: خمسة دراهم. فقلت: وكم في المائة؟. قال: درهمان ونصف. قلت: ورجل قال لامرأته: أنتِ طالق بعدد نجوم السماء، تطلق بغير شهود؟. قال: نعم، ويكفي من النجوم رأس الجوزاء ثلاثاً. فتعجبت من جواباته ومجلسه. فقال: احمل إليَّ ما معك. قلت: ما معي شيء. وجئت إلى قبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فلما رجعت إلى بيتي، إذا أنا بغلام أسود واقف. فقال: سلام عليك. فرددت عليه السلام. قال: أجب من تريد. فنهضت معه، فجاء بي إلى باب دار مهجورة ودخل، فأدخلني فرأيت موسى بن جعفر (عليه السلام) على حصير الصلاة. فقال: «إليَّ يا أبا جعفر». وأجلسني قريباً، فرأيت دلائله أدباً وعلماً ومنطقاً. وقال لي: «احمل ما معك». فحملته إلى حضرته، فأومأ بيده إلى الكيس فقال لي: «افتحه». ففتحته وقال لي: «اقلبه». فقلبته، فظهر درهم شطيطة المعوج فأخذه، وقال: «افتح تلك الرزمة». ففتحتها وأخذ المنديل منها بيده. وقال - وهو مقبل عليَّ -: «إن اللّه لا يستحيي من الحق. يا أبا جعفر، اقرأ على شطيطة السلام مني، وادفع إليها هذه الصرة - وقال لي - أردد ما معك إلى من حمله، وادفعه إلى أهله، وقل: قد قبله ووصلكم به». وأقمت عنده وحادثني وعلمني، وقال: «أ
ص: 390
لم يقل لك أبو حمزة الثمالي بظهر الكوفة، وأنتم زوار أمير المؤمنين (عليه السلام) كذا وكذا». قلت: نعم. قال: «كذلك يكون المؤمن إذا نور اللّه قلبه، كان علمه بالوجه - ثم قال - قم إلى ثقات أصحاب الماضي فسلهم عن نصه». قال أبو جعفر الخراساني: فلقيت جماعةً كثيرةً منهم، شهدوا بالنص على موسى (عليه السلام) ، ثم مضى أبو جعفر إلى خراسان. قال داود الرقي: فكاتبني من خراسان، أنه وجد جماعةً ممن حملوا المال قد صاروا فطحيةً، وأنه وجد شطيطة على أمرها تتوقعه يعود. قال: فلما رأيتها عرفتها سلام مولانا عليها، وقبوله منها دون غيرها، وسلمت إليها الصرة. ففرحت وقالت لي: أمسك الدراهم معك؛ فإنها لكفني. فأقامت ثلاثة أيام وتوفيت(1).
قال الكشي: الفطحية، هم القائلون بإمامة عبد اللّه بن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وسموا بذلك(2)؛ لأنه قيل: إنه كان أفطح الرأس، أي عريض الرأس. وقال بعضهم: كان أفطح الرجلين. وقال بعضهم: إنهم نسبوا إلى رئيس من أهل الكوفة يقال له: عبد اللّه بن فطيح. والذين قالوا بإمامته عامة مشايخ العصابة وفقهاؤها مالوا إلى هذه المقالة، فدخلت عليهم الشبهة؛ لما روي عنهم (عليه السلام) أنهم قالوا: الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى إمام. ثم منهم من رجع عن القول بإمامته، لما امتحنه بمسائل من الحلال والحرام، لم يكن عنده فيها جواب، ولما ظهر منه من الأشياء التي لا ينبغي أن تظهر من الإمام. ثم إن عبد اللّه مات
ص: 391
بعد أبيه بسبعين يوماً، فرجع الباقون - إلا شذاذاً منهم - عن القول بإمامته إلى القول بإمامة أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، ورجعوا إلى الخبر الذي روي: أن الإمامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن والحسين. وبقي شذاذ منهم على القول بإمامته، وبعد أن مات قال بإمامة أبي الحسن موسى (عليه السلام) .
عن هشام بن سالم، قال: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنا ومؤمن الطاق وأبو جعفر، والناس مجتمعون على أن عبد اللّه صاحب الأمر بعد أبيه. فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبد اللّه؛ وذلك أنهم رووا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة. فدخلنا نسأله عما كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟. قال: في مائتين خمسة. قلنا: ففي مائة؟. قال: درهمان ونصف. قلنا له: واللّهِ ما تقول المرجئة هذا. فرفع يده إلى السماء فقال: لا واللّهِ ما أدري ما تقول المرجئة.
قال: فخرجنا من عنده ضلالاً، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول. فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى، لا ندري إلى من نقصد، وإلى من نتوجه، نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج. قال: فنحن كذلك، إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور؛ وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس، ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (عليه الصلاة والسلام) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم.
فقلت لأبي جعفر: تنح؛ فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني ليس يريدك، فتنح عني لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحى غير بعيد وتبعت الشيخ؛
ص: 392
وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه.
فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، ثم خلاني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: ادخل رحمك اللّه. قال: فدخلت فإذا أبو الحسن (عليه السلام) . فقال لي ابتداءً: «لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ».
قال: فقلت له: جُعلت فداك، مضى أبوك؟. قال: «نعم». قلت: جعلت فداك، من لنا بعده؟. فقال: «إن شاء اللّه أن يهديك هداك». قلت: جُعلت فداك، إن عبد اللّه يزعم أنه من بعد أبيه؟. قال: «يريد عبد اللّه أن لا يعبد اللّه». قال: قلت له: جُعلت فداك، فمن لنا بعده؟. فقال: «إن شاء اللّه أن يهديك هداك أيضاً». قلت: جُعلت فداك، أنت هو؟. قال لي: «ما أقول ذلك». قلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة. قال: قلت: جُعلت فداك، عليك إمام؟. قال: «لا». فدخلني شيء لا يعلمه إلا اللّه إعظاماً له وهيبةً أكثر ما كان يحل بي من أبيه إذا دخلت عليه. قلت: جُعلت فداك، أسألك عما كان يُسأل أبوك؟. فقال: «سل تخبر ولا تذع؛ فإن أذعت فهو الذبح». فسألته فإذا هو بحر.
قال: قلت: جُعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضلال، فألقي إليهم وأدعوهم إليك، فقد أخذت عليَّ بالكتمان.
قال: «من آنست منهم رشداً فألق عليهم، وخذ عليهم بالكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح». وأشار بيده إلى حلقه.
قال: فخرجت من عنده، فلقيت أبا جعفر. فقال لي: ما وراك؟. قال: قلت: الهدى. قال: فحدثته بالقصة، ثم لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير. قال: فدخلوا عليه، وسلموا وسمعوا كلامه، وسألوه ثم قطعوا عليه. ثم قال: ثم
ص: 393
لقيت الناس أفواجاً - قال - فكان كل من دخل عليه قطع عليه، إلا طائفةً مثل: عمار وأصحابه. فبقي عبد اللّه لا يدخل عليه أحد إلا قليلاً من الناس. قال: فلما رأى ذلك، وسأل عن حال الناس؟. قال: فأخبر أن هشام بن سالم صد عنه الناس. فقال هشام: فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني(1).
وهذه الرواية تدل على شدة التقية، وأنه كيف لو علم المنصور بأن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو خليفة أبيه الصادق (عليه السلام) ، لأقدم على ذبح الإمام (صلوات اللّه عليه).
كان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد، وروى عنه الناس الحديث والآثار. وكان ابن كاسب إذا حدث عنه يقول: حدثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر (عليه السلام) ، وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وروى عن أبيه النص بالإمامة على أخيه موسى الكاظم (عليه السلام) .
كان محمد بن جعفر سخياً شجاعاً، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويرى رأي الزيدية بالخروج بالسيف، وقد سبق أن من قام بالسيف من أولاد الأئمة (عليهم السلام) ضد الطغاة، كان بتنسيق مع المعصوم (صلوات اللّه عليه) ولكن من دون انتساب إليه.
روي عن زوجته خديجة بنت عبد اللّه بن الحسن، أنها قالت: ما خرج من عندنا محمد يوماً قط في ثوب فرجع حتى يكسوه، وكان يذبح في كل يوم كبشاً
ص: 394
لأضيافه، وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة، واتبعته الزيدية الجارودية. فخرج لقتاله عيسى الجلودي، ففرق جمعه وأخذه وأنفذه إلى المأمون. فلما وصل إليه تظاهر المأموم بإكرامه، فكان يدني مجلسه منه ويصله ويحسن جائزته، فكان مقيماً معه بخراسان يركب إليه في مركب من بني عمه، وكان المأمون مضطراً على أن يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيته(1) على ما قيل، وكان المأمون يتربص الفرص للقضاء على هؤلاء الأطهار بالسيف أو بالسم.
روي أن المأمون أنكر ركوبه إليه في جماعة من الطالبيين الذين خرجوا على المأمون في سنة المائتين فآمنهم، وخرج التوقيع إليهم: لا تركبوا مع محمد بن جعفر، واركبوا مع عبيد اللّه بن الحسين. فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلهم، فخرج التوقيع: اركبوا مع من أحببتم. وكانوا يركبون مع محمد بن جعفر إذا ركب إلى المأمون، وينصرفون بانصرافه(2).
وتوفي محمد بن جعفر في خراسان مع المأمون، والظاهر أنه توفي مسموماً بسم المأمون.
وركب المأمون ليشهده فلقيهم وقد خرجوا به، فلما نظر إلى السرير، نزل فترجل ومشى حتى دخل بين العمودين، فلم يزل بينهما حتى وضع به، فتقدم فصلى عليه، ثم حمله حتى بلغ به القبر، ثم دخل قبره، ولم يزل فيه حتى بنى عليه، ثم خرج فقام على قبره حتى دفن.
ص: 395
فقال له عبيد اللّه بن الحسين ودعا له: يا أمير، إنك قد تعبت فلو ركبت. فقال له المأمون: إن هذه رحم قطعت من مائتي سنة(1). وكان كل ذلك تظاهراً من المأمون؛ ليغطي على جرائمه، وقتله لبني فاطمة (عليهم السلام) .
وتوفي محمد بن جعفر (عليه السلام) وهو مديون، قال ولده إسماعيل لما سأله المأمون وقال: كم ترك أبو جعفر من الدين؟. قلت له: خمسة وعشرون ألف دينار. فقال: قد قضى اللّه عنه دينه، إلى من وصى؟. قلت: إلى ابن له يقال له: يحيى بالمدينة. فقال: ليس هو بالمدينة وهو بمصر، وقد علمنا كونه فيها، ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة؛ لئلا يسوؤه ذلك لعلمه بكراهتنا لخروجهم عنها(2).
أما مثل الرواية التالية، فالظاهر كونها من التقية، وحفظاً لدماء بني فاطمة (عليها السلام) :
عن عمير بن يزيد، قال: كنت عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فذكر محمد بن جعفر. فقال: «إني جعلت على نفسي أن لا يظلني وإياه سقف بيت». فقلت في نفسي: هذا يأمرنا بالبر والصلة، ويقول هذا لعمه. فنظر إلي فقال: «هذا من البر والصلة، إنه متى يأتيني ويدخل عليَّ فيقول فيَّ يصدقه الناس، وإذا لم يدخل عليَّ، ولم أدخل عليه، لم يقبل قوله إذا قال»(3).
وعن إسحاق بن موسى، قال: لما خرج عمي محمد بن جعفر بمكة، ودعا إلى نفسه، ودعي بالأمير، وبويع له بالخلافة. دخل عليه الرضا (عليه السلام) وأنا معه. فقال
ص: 396
له: «يا عم، لا تكذب أباك ولا أخاك؛ فإن هذا أمر لا يتم». ثم خرج وخرجت معه إلى المدينة، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قدم الجلودي فلقيه فهزمه، ثم استأمن إليه، فلبس السواد، وصعد المنبر، فخلع نفسه، وقال: إن هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق. ثم أُخرج إلى خراسان فمات بجرجان(1).
وقد سبق ما يرتبط بمثل هذه الروايات، وأنها ليست قدحاً في أولاد الأئمة (عليهم السلام) ، وإنما هي صدرت تقيةً، ولحفظ دمائهم أو ما أشبه.
كما ذكر أن المأمون كان من وراء موت هؤلاء الأطهار، حيث كان يدس السم إليهم ويقتلهم، ثم يتظاهر بالبكاء وإقامة العزاء عليهم.
كان علي بن جعفر (رضوان اللّه عليه) من العلماء الأجلاء، وكان راويةً للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، وقد لزم موسى أخاه (عليه السلام) وروى عنه شيئاً كثيراً.
وكان (رضوان اللّه عليه) صحيح العقيدة، موالياً للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، معترفاً بإمامة أخيه موسى بن جعفر، ومن بعده علي بن موسى الرضا، ومن بعده محمد بن علي الجواد (عليهم السلام) ، وكان يتواضع أمامهم بحيث يستغرب من تواضعه الناس، فيتعلم من علومهم ويرويها.
وقد أشكل البعض شدة تواضعه للإمام الجواد (عليه السلام) ، حيث كان يجلس بين يديه كالمتعلم، ويسوي نعليه حتى يلبسه الإمام، وكان الإمام (عليه السلام) في سن الطفولة وعلي بن جعفر شيخاً كبيراً، وهو عم أبيه.
ص: 397
عن علي بن جعفر بن محمد، قال: قال لي رجل - أحسبه من الواقفة -: ما فعل أخوك أبو الحسن؟. قلت: قد مات. قال: وما يدريك بذلك؟. قال: قلت: اقتسمت أمواله، وأُنكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده., قلت: ابنه علي. قال: فما فعل؟. قلت له: مات. قال: وما يدريك أنه مات؟. قلت: قُسمت أمواله، ونُكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده؟. قلت: أبو جعفر ابنه. قال: فقال له: أنت في سنّك وقدرك، وابنُ جعفر بن محمد، تقول هذا القول في هذا الغلام!. قال: قلت: ما أراك إلا شيطاناً. قال: ثم أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء، ثم قال: فما حيلتي إن كان اللّه رآه أهلاً لهذا، ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلاً(1).
وعن الحسين بن موسى بن جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) بالمدينة، وعنده علي بن جعفر وأعرابي من أهل المدينة جالس. فقال لي الأعرابي: من هذا الفتى؟. وأشار إلى أبي جعفر (عليه السلام) . قلت: هذا وصي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: يا سبحان اللّه! رسول اللّه قد مات منذ مائتي سنة وكذا وكذا سنةً، وهذا حدث كيف يكون هذا وصي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟!. قلت: هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى وصي جعفر بن محمد، وجعفر وصي محمد بن علي، ومحمد وصي علي بن الحسين، وعلي وصي الحسين، والحسين وصي الحسن، والحسن وصي علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب وصي رسول اللّه (صلوات اللّه عليهم).
قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق. فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي، تبدأ
ص: 398
بي لتكون حدة الحديد في قبلك. قال: قلت: يهنئك هذا عم أبيه. قال: وقطع له العرق. ثم أراد أبو جعفر (عليه السلام) النهوض، فقام علي بن جعفر (عليه السلام) فسوى له نعليه حتى يلبسهما(1).
وفي الكافي: عن محمد بن الحسن بن عمار، قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد (عليه السلام) جالساً، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) المسجد - مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «يا عم، اجلس رحمك اللّه». فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم. فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل!. فقال: اسكتوا، إذا كان اللّه عز وجل - وقبض على لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة، وأهل هذا الفتى، ووضعه حيث، وضعه أنكر فضله، نعوذ باللّه مما تقولون، بل أنا له عبد(2).
كان العباس بن جعفر (رحمه اللّه) فاضلاً، مؤمناً، تقياً، وهكذا كان سائر أولاد الإمام الصادق (عليه السلام) من الفضلاء الأتقياء، والعلماء الأبرار.
كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أجل ولد أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قدراً
ص: 399
وعلماً، وأعظمهم محلاً، وأبعدهم في الناس صيتاً، ولم ير في زمانه أسخى منه، ولا أكرم نفساً وعشرةً. وكان أعبد أهل زمانه وأورعهم، وأفضلهم وأفقههم، واجتمع جمهور شيعة أبيه (عليه السلام) على القول بإمامته، والتعظيم لحقه، والتسليم لأمره، ورووا عن أبيه (عليه السلام) نصوصاً عليه بالإمامة، وإشارات إليه بالخلافة، وأخذوا عنه معالم دينهم، وروي عنه من الآيات والمعجزات ما يقطع بها على حجته، وصواب القول بإمامته.
ص: 400
28
أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) كثيرون منهم:
محمد بن مسلم الثقفي، وجميل بن دراج، وأبان بن تغلب، وعبد اللّه بن مسكان، وعبد اللّه بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان، وإسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي الكوفي، وبكير بن أعين، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) ، ومعاوية بن عمار، وزيد الشحام، وعبد اللّه بن أبي يعفور، وأبو جعفر محمد بن علي بن النعمان الأحول، وأبو الفضل سدير بن حكيم، وعبد السلام بن عبد الرحمن، وجابر بن يزيد الجعفي، وأبو حمزة الثمالي وهو ثابت بن دينار، والمفضل بن قيس بن رمانة، والمفضل بن عمر الجعفي، وميسر بن عبد العزيز، وعبد اللّه بن عجلان، وجابر المكفوف، وأبو داود المسترق، وإبراهيم بن مهزم الأسدي، وبسام الصيرفي، وسليمان بن مهران أبو محمد الأسدي مولاهم الأعمش، وأبو خالد القماط واسمه يزيد، وثعلبة بن ميمون، وأبو بكر الحضرمي، والحسن بن زياد العطار، وعبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، وعبد العزيز بن أبي حازم، ومعروف بن خربوذ، وبريد بن معاوية، وحمران بن أعين، وزرارة، والفضيل بن يسار، وأبو بصير الأسدي، وأبو بصير المرادي،
ص: 401
وعبد اللّه بن سنان، وغيرهم(1).
عن ميسر بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «رأيت كأني على جبل،فيجيء الناس فيركبونه، فإذا كثروا عليه تصاعد بهم الجبل، فينتثرون عنه فيسقطون، فلم يبق معي إلا عصابة يسيرة، أنت منهم وصاحبك الأحمر يعني عبد اللّه بن عجلان»(2).
عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول: «نعم الشفيع أنا وأبي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده ولا نزايله حتى ندخل الجنة جميعاً»(3).
وعن زياد القندي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه قال في حمران: «إنه رجل من أهل الجنة»(4).
عن يحيى بن إبراهيم بن مهاجر، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : فلان يقرأ عليك السلام، وفلان، وفلان. فقال: «وعليهم السلام». قلت: يسألونك الدعاء. فقال: «ما لهم؟». قلت: حبسهم أبو جعفر المنصور(5).
ص: 402
قال أبو بصير: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول - وقد جرى ذكر المعلى بن خنيس فقال -: «يا أبا محمد، اكتم عليَّ ما أقول لك في المعلى». قلت: أفعل. فقال: «أ ما إنه ما كان ينال درجتنا إلا بما كان ينال منه داود بن علي». قلت: وما الذي يصيبه من داود؟. قال: «يدعو به، فيأمر به فيضرب عنقه ويصلبه، وذلك قابل». فلما كان قابل وُلي داود المدينة، فدعا المعلى وسأله عن شيعة أبي عبد اللّه (عليه السلام) فكتمه. فقال: أ تكتمني، أ ما إنك إن كتمتني قتلتك.
فقال المعلى: بالقتل تهددني. واللّهِ لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإن أنت قتلتني لتسعدني ولتشقين.
فلما أراد قتله. قال المعلى: أخرجني إلى الناس، فإن لي أشياء كثيرةً حتى أشهد بذلك. فأخرجه إلى السوق، فلما اجتمع الناس. قال: «أيها الناس، اشهدوا أن ما تركت من مال عين، أو دين، أو أمة، أو عبد، أو دار، أو قليل أو كثير، فهو لجعفر بن محمد (عليه السلام) . قال: فشد عليه صاحب شرطة داود فقتله (رضوان اللّه عليه)(1).
وفي رواية: فلما بلغ ذلك أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، خرج يجر ذيله حتى دخل على داود بن علي وإسماعيل ابنه خلفه. فقال: «يا داود، قتلت مولاي وأخذت مالي». فقال: ما أنا قتلته ولا أخذت مالك. فقال: «واللّهِ لأدعون على من قتل مولاي وأخذ مالي». قال: ما قتلته، ولكن قتله صاحب شرطتي. فقال: «بإذنك أو بغير إذنك». فقال: بغير إذني. فقال: «يا إسماعيل، شأنك به». فخرج
ص: 403
إسماعيل والسيف معه حتى قتله في مجلسه(1).
وفي رواية: قال داود بن علي لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : ما أنا قتلته - يعني معلى بن خنيس -. قال: «فمن قتله؟». قال: السيرافي - وكان صاحب شرطته -. قال: «أقدنا منه». قال: قد أقدتك. قال: فلما أخذ السيرافي، وقدم ليقتل جعل يقول: يا معشر المسلمين، يأمرون بقتل الناس، فأقتلهم لهم ثم يقتلوني. فقتل السيرافي(2).
وهكذا دأب الطغاة، فهم يأمرون بقتل الأبرياء، ثم يدعون عدم علمهم بذلك، ويقولون: إن الشرطة ومن أشبه فعلت ذلك، ثم يعاقبون الشرطة على ما أمروهم به.
وقتل المعلى كان بأمر داود وإن أنكره، من هنا دعا الإمام الصادق (عليه السلام) عليه، فقتله اللّه في نفس تلك الليلة.
قال حماد: فأخبرني المسمعي عن معتب، قال: فلم يزل أبو عبد اللّه (عليه السلام) ليلته ساجداً وقائماً، فسمعته في آخر الليل - وهو ساجد - يقول: «اللّهم إني أسألك بقوتك القوية، ومحالك الشديدة، وبعزتك التي خلقك لها ذليل، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تأخذه الساعة الساعة». قال: فو اللّهِ ما رفع رأسه من سجوده حتى سمعنا الصائحة، فقالوا: مات داود بن علي. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إني دعوت اللّه عليه بدعوة، بعث اللّه إليه ملكاً فضرب رأسه بمرزبة انشقت مثانته»(3).
ص: 404
وكان المعلى بن خنيس (رحمه اللّه) إذا كان يوم العيد، خرج إلى الصحراء شعثاً مغبراً في زي ملهوف، فإذا صعد الخطيب المنبر مد يده نحو السماء، ثم قال: (اللَّهُمَّ هَذَا مَقامُ خُلَفائِكَ وَأَصْفِيائِكَ، وَمَواضِعُ أُمَنائِكَ الَّذِينَ خَصَصْتَهُمْ بِهَا، ابْتَزُّوهَا وَأنْتَ المُقَدِّرُ لِلأشْياءِ، لا يُغْلَبُ قَضاؤُكَ، وَلا يُجَاوَزُ المَحْتُومُ مِنْ تَدْبِيرِكَ، كَيْفَ شِئْتَ وَأنَّى شِئْتَ، عِلْمُكَ في إِرادَتِكَ كَعِلْمِكَ في خَلْقِكَ، حَتَّى عَادَ صَفْوُتُكَ وَخُلَفاؤُكَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ مُسْتَتِرِينَ، يَرَوْنَ حُكْمَكَ مُبَدَّلاً، وَكِتابَكَ مَنْبُوذاً، وَفَرائِضَكَ مُحَرَّفَةً عَنْ جِهاتِ شَرائِعِكَ، وَسُنَنَ نَبِيِّكَ (صلواتك عليه وآله) مَتْرُوكةً. اللَّهُمَّ الْعَنْ أَعْداءَهُمْ مِنَ الأَوَّلين وَالآخِرِينَ، وَالْغادِينَ وَالرَّائِحِينَ، وَالماضِينَ وَالْغابِرِينَ. اللَّهُمَّ وَالْعَنْ جَبَابِرَةَ زَمانِنا، وَأَشْياعَهُمْ وَأَتْباعَهُمْ، وَأَحْزابَهُمْ وَأَعْوانَهُمْ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1).
عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلا: زرارة، وأبو بصير المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هدًى، هؤلاء حفاظ الدين، وأمناء أبي (عليه السلام) على حلال اللّه وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا وفي الآخرة»(2).
ص: 405
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «رحم اللّه زرارة بن أعين. لولا زرارة لاندرست آثار النبوة أحاديث أبي (عليه السلام) »(1).
عن هشام بن سالم، قال: أقام محمد بن مسلم أربع سنين بالمدينة يدخل على أبي جعفر (عليه السلام) يسأله، ثم كان يدخل بعده على أبي عبد اللّه (عليه السلام) يسأله. قال ابن أبي عمير: سمعت عبد الرحمن بن الحجاج وحماد بن عثمان، يقولان: ما كان أحد من الشيعة أفقه من محمد بن مسلم(2).
كان أبو جعفر الأحول محمد بن النعمان مؤمن الطاق، مولًى لبجيلة، وكان صيرفياً، ولقبه الناس من أتباع السلطة بشيطان الطاق. كان من متكلمي الشيعة، وقد مدحه الإمام الصادق (عليه السلام) على ذلك(3).
عن أبي النصر محمد بن مسعود: أن ابن مسكان كان لا يدخل على أبي عبد اللّه (عليه السلام) شفقة أن لا يوفيه حق إجلاله، فكان يسمع من أصحابه، ويأبى أن يدخل عليه إجلالاً له وإعظاماً له (عليه السلام) .
ص: 406
وذكر يونس بن عبد الرحمن: أن ابن مسكان كان رجلاً مؤمناً، وكان يتلقى أصحابه إذا قدموا، فيأخذ ما عندهم(1).
عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) إذ دخل المفضل بن عمر، فلما بصر به ضحك إليه، ثم قال: «إليَّ يا مفضل، فو ربي إني لأحبك وأحب من يحبك. يا مفضل، لو عرف جميع أصحابي ما تعرف ما اختلف اثنان».
فقال له المفضل: يا ابن رسول اللّه، لقد حسبت أن أكون قد أنزلت فوق منزلتي.
فقال (عليه السلام) : «بل أنزلت المنزلة التي أنزلك اللّه بها».
فقال: يا ابن رسول اللّه، فما منزلة جابر بن يزيد منكم؟. قال: «منزلة سلمان من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».
قال: فما منزلة داود بن كثير الرقي منكم؟. قال: «منزلة المقداد من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».
قال: ثم أقبل عليَّ. فقال: «يا عبد اللّه بن الفضل، إن اللّه تبارك وتعالى خلقنا من نور عظمته، وصنعنا برحمته، وخلق أرواحكم منا، فنحن نحن إليكم، وأنتم تحنون إلينا. واللّه لو جهد أهل المشرق والمغرب أن يزيدوا في شيعتنا رجلاً وينقصوا منهم رجلاً ما قدروا على ذلك، وإنهم لمكتوبون عندنا بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم وأنسابهم. يا عبد اللّه بن الفضل، ولو شئت لأريتك
ص: 407
اسمك في صحيفتنا». قال: ثم دعا بصحيفة، فنشرها فوجدتها بيضاء ليس فيها أثر الكتابة. فقلت: يا ابن رسول اللّه، ما أرى فيها أثر الكتابة؟!. قال: فمسح يده عليها، فوجدتها مكتوبةً، ووجدت في أسفلها اسمي، فسجدت لله شكراً(1).
كان السيد الحميري قد دعا له الإمام الصادق (عليه السلام) لما هرب من أبويه، وقد حرشا السلطان عليه لنصبهما، فدله سبع على طريق ونجا منهما.
وفي أخبار السيد الحميري، أنه ناظر معه مؤمن الطاق في ابن الحنفية فغلبه عليه، فقال:
تركت ابن خولة لا عن قلًى***وإني لكالكلف الوامق
وإني له حافظ في المغيب***أدين بما دان في الصادق
هو الحبر حبر بني هاشم***ونور من الملك الرازق
به ينعش اللّه جمع العباد***ويجري البلاغة في الناطق
أتاني برهانه معلناً***فدنت ولم أك كالمائق
كمن صد بعد بيان الهدى***إلى حبتر وأبي حامق
فقال الطاقي: أحسنت الآن أتيتَ رشدك، وبلغتَ أشدك، وتبوأتً من الخير موضعاً، ومن الجنة مقعداً(2).
ص: 408
29
وننقل هنا درر من كلمات الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام)؛ لتكون درساً لنا، وبرنامج عمل في حياتنا، للوصول إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
عن بعض أصحاب جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، قال: دخلت على جعفر (عليه السلام) ، وموسى (عليه السلام) ولده بين يديه، وهو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منه أن قال: «يا بني، اقبل وصيتي، واحفظ مقالتي؛ فإنك إن حفظتها تعش سعيداً، وتمت حميداً.
يا بني، إنه من رضي بما قسم له استغنى، ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرض بما قسم اللّه له عز وجل أتهم اللّه في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه.
يا بني، من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قُتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها، ومن دخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم.
يا بني، إياك أن تزري بالرجال فيزري بك، وإياك الدخول فيما لا يعنيك فتذل، لذلك يا بني قل الحق لك أو عليك تستشان من بين أقرانك.
يا بني، كن لكتاب اللّه تالياً، وللسلام فاشياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر
ص: 409
ناهياً، ولمن قطعك واصلاً، ولمن سكت عنك مبتدئاً، ولمن سألك معطياً. وإياك والنميمة! فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال، وإياك والتعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف.
يا بني، إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادن، وللمعادن أصولاً، وللأصول فروعاً، وللفروع ثمراً، ولا يطيب ثمر إلا بفرع، ولا فرع إلا بأصل، ولا أصل ثابت إلا بمعدن طيب.
يا بني، إذا زرت فزر الأخيار، ولا تزر الفجار؛ فإنهم صخرة لا ينفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها.
قال علي بن موسى (عليهما السلام) : «فما ترك أبي هذه الوصية إلى أن مات»(1).
دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) سفيان الثوري يوماً، فسمع منه كلاماً أعجبه. فقال: هذا واللّهِ يا ابن رسول اللّه الجوهر. فقال (عليه السلام) له: «بل هذا خير من الجوهر، وهل الجوهر إلا حجر»(2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنه قال: «خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، ثم أسكنها الهواء، فما تعارف منها ثم ائتلف هاهنا، وما تناكر ثم اختلف هاهنا، ومن كذب علينا أهل البيت حشره اللّه يوم القيامة أعمى يهودياً، وإن أدرك الدجال آمن به، وإن لم يدركه آمن به في
ص: 410
قبره»(1).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لعباد بن كثير البصري الصوفي: «ويحك يا عباد، غرك أن عف بطنك وفرجك. إن اللّه عز وجل يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}(2). اعلم أنه لا يتقبل اللّه منك شيئاً حتى تقول قولاً عدلاً»(3).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق»(4).
وقال (عليه السلام) : «حفظ الرجل أخاه بعد وفاته في تركته كرم»(5).
وقال (عليه السلام) : «ما من شيء أسر إليَّ من يد أتبعتها الأخرى؛ لأن منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل»(6).
وقال (عليه السلام) : «إني لأملق أحياناً فأتاجر اللّه بالصدقة»(7).
وقال (عليه السلام) : «لا يزال العز قلقاً حتى يأتي داراً قد استشعر أهلها اليأس مما في
ص: 411
أيدي الناس فيوطنها»(1).
وقال (عليه السلام) : «إذا دخلت على أخيك منزله فأقبل الكرامة كلها، ما خلا الجلوس في الصدر»(2).
وقال (عليه السلام) : «كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان»(3).
وقال (عليه السلام) : «إياك وسقطة الاسترسال؛ فإنها لا تستقال»(4).
وقال (عليه السلام) : «من لم يستحي من العيب، ويرعوِ عند الشيب، ويخشَ اللّه بظهر الغيب، فلا خير فيه»(5).
وقال (عليه السلام) : «إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا ظُلم غفر»(6).
وقال (عليه السلام) : «إني لأسارع إلى حاجة عدوي؛ خوفاً أن أرده فيستغني عني»(7).
ص: 412
وقال (عليه السلام) : «من أكرمك فأكرمه، ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه»(1).
وقال (عليه السلام) : «يهلك اللّه ستاً بست: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهل، والفقهاء بالحسد»(2).
وقال (عليه السلام) : «منع الجود سوء الظن بالمعبود»(3).
وقال (عليه السلام) : «صلة الأرحام منسأة في الأعمار، وحسن الجوار عمارة للديار، وصدقة السر مثرات للمال»(4).
وقال (عليه السلام) : «أحدث سفراً يحدث اللّه لك رزقاً، وألزم ما عودت منه الخير»(5).
وقال (عليه السلام) : «دعا اللّه الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا، وفي الآخرة بأعمالهم ليجازوا»(6).
وقال (عليه السلام) : «أربعة أشياء القليل منها كثير: النار، والعداوة، والفقر، والمرض»(7).
ص: 413
وقال (عليه السلام) : «الاستقصاء فرقة، والانتقاد عداوة، وقلة الصبر فضيحة، وإفشاء السر سقوط، والسخاء فطنة، واللؤم تغافل»(1).
وقال (عليه السلام) : «ثلاثة من تمسك بهن نال من الدنيا والآخرة بغيته: من اعتصم باللّه، ورضي بقضاء اللّه، وأحسن الظن باللّه»(2).
وقال (عليه السلام) : «ثلاثة من فرط فيهن كان محروماً: استماحة جواد، ومصاحبة عالم، واستمالة سلطان»(3).
وقال (عليه السلام) : «ثلاثة تورث المحبة: الدين، والتواضع، والبذل»(4).
وقال (عليه السلام) : «ثلاثة مكسبة للبغضاء: النفاق، والظلم، والعُجب»(5).
وقال (عليه السلام) : «من برئ من ثلاثة نال ثلاثة: من برئ من الشر نال العز، ومن برئ من الكبر نال الكرامة، ومن برئ من البخل نال الشرف»(6).
وقال (عليه السلام) : «من لم تكن فيه خصلة من ثلاثة لم يعد نبيلاً: من لم يكن له
ص: 414
عقل يزينه، أو جدة تغنيه، أو عشيرة تحفظه»(1).
وقال (عليه السلام) : «تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والائتلاء على اللّه عز وجل هلكة، والإصرار أمن {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلَّا القَوْمُ الْخَاسِرُونَ}(2)»(3).
وقال (عليه السلام) : «ما كل من أراد شيئاً قدر عليه، ولا كل من قدر على شيء وفق له، ولا كل من وفق له أصاب له موضعاً، فاذا اجتمع النية والقدرة والتوفيق والإصابة، فهناك تجب السعادة»(4).
وقال (عليه السلام) : «صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(5)»(6).
وقال (عليه السلام) : «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث الفقه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا»(7).
وقال (عليه السلام) : «كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خلال يجتلب بها المكسب وهو:
ص: 415
أن يكون حاذقاً بعمله، مؤدياً للأمانة فيه، مستميلاً لمن استعمله»(1).
وقال (عليه السلام) : «يمتحن الصديق بثلاث خصال، فإن كان موافياً فيها فهو الصديق المصافي، وإلا كان صديق رخاء لا صديق شدة: تبتغي منه مالاً، أو تأمنه على مال، أو تشاركه في مكروه»(2).
وقال (عليه السلام) : «من أنصف الناس من نفسه رضي به حكماً لغيره. وإذا كان الزمان زمان جور وأهله أهل غدر، فالطمأنينة إلى كل أحد عجز»(3).
وقال (عليه السلام) : «إن اللّه خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاق، ولا قاطع رحم»(4).
وقال (عليه السلام) : «حدثني أبي عن جدي: أن محبي آل محمد لا يموتون إلا تائبين»(5).
وقال (عليه السلام) : «إن اللّه عز وجل يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها»(6).
وقال (عليه السلام) : «قال اللّه تبارك وتعالى: إن من عبادي من يتصدق بشق تمرة،
ص: 416
فأربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى أجعلها له مثل جبل أحد»(1).
وقال (عليه السلام) : «لا تستصغروا مودتنا؛ فإنها من الباقيات الصالحات»(2).
ص: 417
30
وهناك أشعار نسبت إلى الإمام الصادق (عليه السلام) منها:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه***هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته***إن المحب لمن يحب مطيع(1)
علم المحجة واضح لمريده***وأرى القلوب عن المحجة في عمًى
ولقد عجبت لهالك ونجاته***موجودة ولقد عجبت لمن نجا(2)
أثامن بالنفس النفيسة ربها***فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها يشترى الجنات إن أنا بعتها***بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها***فقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن(3)
ص: 418
إذا ما طلبت خصال الندى***وقد عضك الدهر من جهده
فلا تطلبن إلى كالح***أصاب اليسارة من كده
ولكن عليك بأهل العلى***ومن ورث المجد عن جده
فذاك إذا جئته طالباً***تحب اليسارة من جده(1)
لا اليسر يطرؤنا يوماً فيبطرنا***ولا لأزمة دهر نظهر الجزعا
إن سرنا الدهر لم نبهج لصحبته***أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا
مثل النجوم على مضمار أولنا***إذا تغيب نجم آخر طلعا(2)
اعمل على مهل فإنك ميت***واختر لنفسك أيها الإنسانا
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى***وكأن ما هو كائن قد كانا(3)
كنا نجوماً يستضاء بنا***وللبرية نحن اليوم برهان
نحن البحور التي فيها لغائصكم***در ثمين وياقوت ومرجان
مساكن القدس والفردوس نملكها***ونحن للقدس والفردوس خزان
ص: 419
من شذ عنا فبرهوت مساكنه***ومن أتانا فجنات وولدان(1)
وفينا يقيناً يعد الوفاء***وفينا تفرخ أفراخه
رأيت الوفاء يزين الرجال***كما زين العذق شمراخه(2)
ص: 420
المقدمة... 5
1- النسب الشريف... 7
اسمه المبارك... 7
كنيته الشريفة... 7
ألقابه... 7
والده المكرم... 8
والدته المكرمة... 8
لماذا لُقِّبَ بالصادق... 9
تشويه السمعة سياسة الطغاة... 14
نقش خاتمه... 15
2- الولادة المباركة... 18
3- الإمامة والعصمة... 20
النص على إمامته... 20
ونجعلهم أئمة... 21
مع أصحاب أبيه... 21
ص: 421
من القائم بعدك؟... 22
هذا خير البرية... 22
لك الحجة... 22
القائم بأمر الإمامة... 23
هذا إمامك بعدي... 23
هو الإمام والخليفة بعدي... 24
ألواح موسى وعصاه... 24
عصا رسول اللّه... 24
درع رسول اللّه... 25
من خصائص الإمامة... 26
الصحيفة الجامعة... 26
نزول الملائكة... 27
زغب الملائكة... 27
مصافحة الملائكة... 28
الملائكة في طاعتهم... 28
عرض الأعمال عليهم... 29
أنت إمام هذا الزمان؟... 29
معرفة جميع اللغات... 30
زيد الشهيد واعتقاده بالإمامة... 31
4- علم الإمام... 32
ص: 422
العلم بكل شيء... 33
نحن نعلمه... 33
أنت أعلم الناس... 34
إنه أعلم الناس... 34
من أفقه الناس؟... 35
مرحباً بك يا سعد... 36
دوران الأفلاك... 36
العالم بكتاب اللّه... 37
الجفر الأحمر و الأبيض... 38
علم الجامعة... 39
مصحف فاطمة... 40
كتاب علي (عليه السلام) ... 42
النقل عن اللّه مباشرة... 43
علم الأنبياء عندنا... 43
تعبير الرؤيا... 44
المجالس العلمية... 45
مؤلفات الإمام... 46
قالوا في علمه... 50
ملاحظة مهمة... 56
معلومات طبية... 57
ص: 423
سبعون وجهاً في الحرف الواحد... 57
صاحب الرداء الأصفر... 58
ثلاثمائة درهم في منزلك... 58
5- الإمام الصادق والجامعة العلمية... 59
لماذا الهزيمة أمام اليهود... 60
حكومات تدعي الإسلام كذباً... 61
ابتعاد الناس عن الدين... 62
تلامذة الإمام... 64
قالوا في حقه... 65
6- مناظرات... 67
مع أهل البصرة... 67
ما فضلكم على الناس... 68
نحن ورثة النبي... 68
بين المشرق والمغرب... 69
مع أناس من المعتزلة... 69
مع رجل من الخوارج... 72
الحكمة في غسل الجنابة... 73
مع سارق الرمانة... 73
معنى لا شي ء... 75
مع ابن أبي ليلى... 76
ص: 424
خطبة مسجد الخيف... 77
مع المنصور الدوانيقي... 78
7- معاجز الإمامة... 82
تولد لك جارية... 82
لو زادك رسول اللّه... 82
استجابة الدعاء فوراً... 83
أين كيس الرازي... 84
الإمام بعدي... 84
ونسيت المسألة... 85
يا إسماعيل... 85
عداء أبي حنيفة... 85
صاحب الزنابير... 86
نعم الرجل ابن المفضل... 86
رحم اللّه جابراً... 87
ليس الأمر كما تظن... 87
لا شيء عليك... 87
أبشراً منا نتبعه... 88
هذا آخر بني مروان... 88
إنما هي لهذا السفّاح... 89
الجواب كما شافهتك... 89
ص: 425
إنه يُقتل وأخوه... 90
هؤلاء لا يملكون... 90
نحن عباد اللّه... 91
لا تغسل الفرو... 91
تب مما صعنت البارحة... 91
ما لك والوالدة... 92
أين كان ورعك؟... 92
تذكر يوم كذا وكذا... 93
هات خمستنا... 94
قد وفي لصاحبك الجنة... 94
أيتها النخلة أطعمينا... 94
جدد العبادة والتوبة... 95
إنه قد استراح... 95
إنه يموت يوم كذا... 96
صلة الرحم وزيادة العمر... 96
انظر إلى السماء... 96
إبصار أبي بصير... 97
لعله لم يمت... 97
إني بقيت وحيداً... 97
معرفة اللغات... 98
ص: 426
مات قرد القرية... 98
الخبر ما أخبرك فلان... 99
الأمر كما قاله فيض... 100
تهددنا بدعائك... 100
التكلم بالنبطية... 102
التكلم بالفارسية... 102
إني أفهم جميع اللغات... 103
معرفة كافة اللغات... 103
لسان الحيوان... 104
دعاء العصافير... 104
كلام الظبي... 104
كلام الجدي... 105
لنا خزائن الأرض... 106
أنت مقتول فاستعد... 106
على رسلك... 107
ما لي أراك كئيباً... 107
صلة الأرحام... 108
أيها الجب أسقنا... 108
إذا لقيت السبع... 109
لك ثلاثة أيام فقط... 110
ص: 427
ائتنا بماء زمزم... 110
إنها لم تمت... 111
عنقود من العنب... 111
دنانير الطشت... 112
سير الجبل... 112
الورع شرط ولايتنا... 113
غرس النوى فكانت نخلة... 113
يا جذع أطعمنا... 113
دعاء رد روحها إلى جسدها... 114
ما حال هذه الدنانير... 117
ماتوا كلهم... 117
يا صاحب الراحلة... 118
إلى شهر ربيع... 118
استجابة الدعاء... 118
قُتل عمي زيد الشهيد... 119
أميطي عنا... 119
لقد ضاعت بردتي... 120
صاحب الرايات السود... 121
ليس فينا ساحر... 121
مثل ما فعله إبراهيم... 122
ص: 428
جارية فلان البلخي... 123
ماء الجب... 123
النخلة اليابسة... 124
تكلم أيها الفرو... 124
إحياء البقرة الميتة... 127
اللّهم ارزق حماداً... 127
فإذا المفتاح أسد... 128
طب نفساً... 128
إنه خبيث الولادة... 129
مع الغلام الأعجمي... 129
صدقت كان كل ذلك... 130
مع حبابة الوالبية... 130
لسان الطير... 131
أحسن إلى نفسك... 131
بيوت الأنبياء لا يدخلها جنب... 132
أوَ أمنتم الجراد... 133
هذا صاحب الرايات السود... 133
الشفاء على يديه... 134
اللّهم سلط عليه كلبك... 134
مع النواصب... 135
ص: 429
قم بإذن اللّه... 135
ما قصتك؟... 135
عين الماء... 136
هكذا نح الأسد عن الطريق... 137
بقي من أجلي خمس... 137
على أبي قبيس... 137
خلي سبيل صاحبك... 138
إنه سيصير في يد آل العباس... 139
مات هشام الساعة... 139
لا حاجة لنا في الزكاة... 140
مع والي البصرة... 140
مات هشام واليوم الثالث... 140
قبورهم على شاطئ الفرات... 141
إن خرجا قتلا... 141
كثر اللّه مالك وأولادك... 142
مع أبي بجير السجستاني... 142
إن رجعت لم ترجع... 143
أسماء أصحاب الصرر و مقادريها... 143
فيه رائحة الغني... 144
مع الرجل الشامي... 144
ص: 430
أين ورعه ليلة نهر بلخ... 145
رطب وعنب... 146
شفاء المريض... 146
إحياء محمد بن الحنفية... 147
أبشر يا زيد... 147
8- ولائيات... 149
إحيوا أمرنا... 149
خير الناس بعدنا... 149
أسماء الشيعة... 150
الخضر يكلمه... 150
لا يقبل إلا منكم... 151
أنتم في الجنة تحبرون... 151
هذا أقل ما أعده اللّه لشيعتنا... 152
أما ترضى أن تكون معنا... 153
دار في الفردوس... 154
الحج و الولاية... 154
أنتم شيعتنا حقاً... 155
من هذا الفتى؟... 155
حلاوة الإيمان... 156
قوم من الجن... 156
ص: 431
تصافحنا الملائكة... 156
رجل من أهل قم... 157
إنك منا أهل البيت... 157
اللّه سماكم... 158
9- أخلاقيات... 162
اللّهم اغفر له... 162
لا بأس عليك... 163
أخلاق طيبة... 163
الرضا بالقضاء والقدر... 163
شدة الإخلاص... 165
طلب الرحمة... 165
المؤمن خفيف المؤونة... 165
الكاد على العيال... 165
قضاء حوائج الناس... 166
لا تصنع به شيئاً... 167
إني آجرت عليك مولاك... 167
التوسط لحاجة الناس... 168
عفو وصفح... 170
أمر بالصبر... 170
صلة الرحم... 175
ص: 432
مع عبد اللّه بن الحسن... 176
بنفسي هو... 177
10- الجود والكرم... 178
الصلح خير... 178
مساعدة الفقراء... 178
صدقة السر... 179
الصدقة لله... 180
خير الصدقة... 180
ثلم الحيطان... 180
أعطها للأشجع... 181
أربعمائة دينار ذهب... 183
كل وأطعم... 183
ضيافات... 183
أنت أخذت الهميان!... 184
عليك بأهل العلى... 184
مع أصحابه... 185
الإيثار حتى على العيال... 185
تعش عندي... 185
صاحب الجراب... 186
تصدق بها... 186
ص: 433
حسن الضيافة... 187
عتق العبيد... 188
11- الزهد... 189
جبة فاخرة وزهد حقيقي... 189
النظافة والجمال... 190
خل وزيت... 191
طعام الأنبياء... 192
ثوب خشن... 192
الثوب المرقع... 192
12- عباديات... 194
شدة الخوف من اللّه... 194
طول السجود... 195
سجدة الشكر... 195
كثرة التسبيح... 196
شدة الخوف من النار... 196
شدة الإخلاص... 197
13- أدعية ومناجاة... 198
دعاء ودموع... 198
رب لا تكلني إلى نفسي... 198
دعاء لسعة الرزق... 199
ص: 434
تحت الميزاب الشريف... 200
دعاء مستجاب... 201
دعاء على الظلمة... 201
يا رب يا رب... 202
14- تربويات... 203
الحث على الزواج... 203
تمام المعروف... 204
تسمية الأولاد... 204
لا تعجل... 204
صدقة و تربية... 205
الأمر بالكتابة... 206
بر الوالدين... 206
الحث على الكسب والعمل... 207
خذ حانوتاً... 208
حجوا قبل أن لا تحجوا... 209
يا شقراني... 210
15- رعاية الحقوق... 211
حقوق الإخوان... 211
حقوق الناس... 212
حق الزوجة... 212
ص: 435
حق السيد والعبد... 212
حق المؤمن... 212
من أكرم لنا موالياً... 213
من حقوق المؤمنين... 214
16- القرآن و العترة... 215
تعليم القرآن... 215
قراءة الأجزاء... 215
تكرار الآيات... 216
بطون القرآن... 216
معنى الآية... 217
تفسير الكبائر... 217
الجمع بين الآيتين... 219
القرآن المعجزة... 220
باطن القرآن وظاهره... 221
أشركوا من حيث لا يعلمون... 221
مَن رَحِمَهُ اللّه... 222
السؤال عن النعيم... 222
نحن المحسودون... 223
الأئمة منا أهل البيت... 223
عدة الشهور عند اللّه... 223
ص: 436
هلك من نازعهم... 224
اتباع الهدى... 225
مقام العترة... 225
أفضل الأنبياء... 226
خلفاء الرسول... 226
إنا عبيد مخلوقون... 226
إنني عبد... 227
نحن عبيد لله... 227
عباد مكرمون... 228
لا ربوبية لنا... 228
لسنا أنبياء... 229
خيم العترة الطاهرة... 229
القباب المزينة... 229
هذا من منك و من رسولك... 231
الاعتقاد بالأئمة... 232
هذا ديني... 232
رآه و رب الكعبة... 233
المذهب الجعفري والاتصال بالنبي... 233
البراءة من أعداء العترة... 235
التبري من الباطل... 235
ص: 437
غصب الخلافة... 236
البراءة من أعداء آل محمد... 236
17- البشارة بالمهدي المنتظر... 238
ثياب أمير المؤمنين... 238
من أصحاب القائم... 238
دولة الإمام المهدي... 239
ليس هو اليماني... 239
السادس من ولدي... 239
18- الشعائر الحسينية... 242
لعن اللّه ظالميك يا فاطمة... 242
البكاء على زيد... 244
أنشدني في الحسين... 244
لعن قتلة الحسين... 246
رقة الإمام على الشهداء... 246
في رثاء زيد الشهيد... 246
البكاء على آل الحسن... 247
19- فقهيات... 249
الآنية الفضية... 249
لا لمائدة الخمر... 249
غسل مس الميت... 250
ص: 438
من مصاديق الضمان... 250
الوضوء تقية... 252
الطلاق ثلاثاً... 253
ولاية الجد... 254
من مسائل الإرث... 254
لا للقياس... 255
مقدار الزكاة... 255
فروع فقهية... 256
زكاة الفطرة... 259
الفتوى بالقياس... 259
استحباب التسهيل على العباد... 260
استحباب الكسب والتجارة... 260
عظام الفيل... 261
لا للإجحاف... 261
لا للاحتكار... 262
من أحكام الجنب... 262
لا تأكل بيض طير الماء... 263
استلام الحجر وإيذاء الحاج... 263
كيف يحد المريض... 264
20- سنن وآداب... 265
ص: 439
من آداب المصاب... 265
صوم رجب وشعبان... 265
متى يترك السواك... 266
عند تذكر النعمة... 266
من آداب الصلاة... 266
لا تستخدم الضيف... 267
من آداب الدعاء... 268
لا تكسر القلنسوة... 268
خضاب الحناء... 268
تحية الحمام... 268
تخفيف الشارب... 269
كتابة المشيئة... 269
دهن البنفسج... 269
الابتداء بالمعروف... 270
جلسة المتورك... 270
التصدق بأحب الأشياء... 270
الطيب تحفة الصائم... 271
هكذا أدخل الحرم... 271
خير الملابس... 271
قبل جفاف عرق الأجير... 271
ص: 440
لا تكن صياحاً... 272
بين الحج والعتق... 272
صلاة الاستسقاء... 272
الكتابة على الكفن... 273
الإطعام وسعة الرزق... 274
كثرة التسبيح... 274
21- هداية الناس... 275
وفينا لصاحبك... 275
توبة كاتب السلطان... 276
جارودي المذهب... 277
كن على العهد... 278
التبري من أبي الخطاب... 278
التصدي للانحراف... 279
نصح الطغاة... 279
ليذل به الجبارين... 280
22- متفرقات... 281
أقسام التمر وخواصها... 281
من أين العطسة؟... 281
علاج الشقاق... 282
أرز العراق... 282
ص: 441
الطبائع أربع... 282
الصدقة تدفع النحوس... 283
لا تغسل الفراء... 283
لا تمنع عن الحج... 284
لا تصاحب الطغاة... 284
اتق اللّه يا سعيد... 285
زك مالك... 285
جبل يبكي على النبي... 286
أول كتاب في الأرض... 286
تعبير الرؤيا... 287
اختلاف الزمان... 288
لا تأمن شارب الخمر... 290
أسألوا اللّه من فضله... 291
23- أحداث مهمة في عصر الإمام... 293
إظهار قبر أمير المؤمنين... 293
ثواب زيارة أمير المؤمنين... 293
تعدد المذاهب و الفِرَق... 295
وفاة سكينة بنت الحسين... 297
مقتل محمد وعبد اللّه المحض... 298
المنصور والكلام الغليظ... 300
ص: 442
لماذا ثورات العلويين... 300
مقتل زيد الشهيد... 302
قروا في بيوتكم... 304
قتل ذراري جعفر الطيار... 305
أبو مسلم الخراساني... 305
شهيد فخ... 305
24- طغاة عصر الإمام... 307
من كيد العباسيين... 307
ليس هذا الأمر لنا... 309
صاحبهم السفياني... 310
كتاب أبي مسلم... 310
لا تخرج مع زيد... 311
شيبة، والي المنصور... 312
بخل المنصور... 313
ملكتم فظلمتم... 313
المنصور وشدة عدائه للإمام... 314
الإقامة الجبرية... 314
يا هذا اتق اللّه... 314
أنت الذي تعلم الغيب؟... 316
يوم الذبح... 317
ص: 443
الهجوم على دار الإمام... 322
حرق دار الإمام... 323
ترويع النساء... 324
ولكن شُبه لهم... 326
اضرب عنقه... 327
واللّه لأقتلنه... 330
لابد من قتله... 332
الوشاية الكاذبة... 333
اللّهم اكفني شره... 335
دعوت بدعاء يوسف... 336
دعاء جدي الحسين... 337
مع جلاوزة المنصور... 338
مع عيسى بن موسى... 339
قتلني اللّه إن لم أقتلك... 339
واللّه لأزهقن نفسك... 340
وفي الربذة أيضاً... 340
كنت عازماً على قتلك... 340
أئتوني به أو برأسه... 342
عيون السلطان... 343
المنصور و إرسال الجواسيس... 343
ص: 444
المنصور و حقده على المدينة... 344
جلب ذرية الرسول و توقع القتل... 345
لأقتلنك و أقتلن أهلك... 346
حقد المنصور على عترة النبي... 347
قتل العلويين و أسطوانات البناء... 348
دعاء أم داود... 349
أركان جهنم... 351
ظروف التقية... 352
هل أوصى إلى أحد... 354
ظروف قاسية... 355
إلى متى هذه التقية... 355
لا تحتفظ بالرقعة... 356
التقية حتى في الصوم و الإفطار... 356
هدنة و تقية... 357
لا إذن من الطاغية... 357
كتمان السر... 358
نحن أعلم بالوقت... 358
لا أنصار لنا... 359
المنصور يحبس شيعة الإمام... 360
قتل و صلب... 361
ص: 445
إشخاص الإمام إلى بغداد... 362
نحن أبناء الأنبياء... 364
المنصور يقتل ذرية الرسول... 365
اقتلوا عدوي... 367
حج المنصور والعزم على قتل الإمام... 368
المنصور يأمر بقتل الإمام في الربذة... 369
25- استشهاد الإمام... 372
من وصاياه... 373
تجهيز الإمام... 374
تغسيل الإمام... 375
آداب الموت... 375
26- بقيع الغرقد... 376
الرخامة الأثرية... 377
باب خيبر... 377
27- أولاد الإمام... 378
1: إسماعيل الأمين... 379
وبعد دفن إسماعيل... 381
تأكيد على موت إسماعيل... 381
تجهيز إسماعيل... 383
النوح على الميت المؤمن... 384
ص: 446
الصبر على المصيبة... 384
الحج عن إسماعيل... 384
إسماعيل ليس بإمام... 385
لا حجية في روايات ذم إسماعيل... 387
2: عبد اللّه الأفطح... 387
الفطحية... 391
مع عبد اللّه الأفطح... 392
3: إسحاق بن جعفر... 394
4: محمد بن جعفر... 394
5: علي بن جعفر... 397
6: العباس بن جعفر... 399
7: الإمام موسى الكاظم... 399
28- أصحاب الإمام... 401
أنت منهم... 402
إنه من أهل الجنة... 402
المنصور يسجن أصحاب الإمام... 402
الشهيد المعلى بن خنيس... 403
هؤلاء حفاظ الدين... 405
أفقه الشيعة... 406
مؤمن الطاق... 406
ص: 447
ابن مسكان... 406
إليّ يا مفضل... 407
مع السيد الحميري... 408
29- كلمات من نور... 409
دُرر من الروايات... 410
30- أبيات شعرية... 418
الحب الصادق... 418
علم المحجة... 418
ذلكم غبن... 418
وراث المجد... 419
مثل النجوم... 419
إنك ميت... 419
كنا نجوماً... 419
الوفاء زينة... 420
الفهرس... 421
ص: 448