من حياة المعصومين عليهم السلام المجلد 7

هوية الكتاب

من حياة المعصومين عليهم السلام

الجزء السابع

الإمام الباقر عليه السلام

المرجع الديني الراحل

السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

الشجرة الطيبة

1443 ه 2022 م

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی للناشر

1443 ه 2022 م

مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف

تهميش

مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

أما بعد، فهذا هو الجزء السابع من سلسلة (من حياة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويتضمن جوانب من حياة الإمام محمد الباقر (عليه السلام) .

أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1410ه

ص: 5

ص: 6

1

النسب الشريف

اسمه المبارك

هو الإمام: محمد بن علي بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .

وهو الخامس من أئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) الذين بشَّر بهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونص عليهم وجعلهم بأمره تعالى أئمةً وخلفاء وأوصياء من بعده(1).

كنيته (عليه السلام)

أبو جعفر، ويقال له: أبو جعفر الأول.

ألقابه (عليه السلام)

ألقابه عديدة، منها: باقر العلم، والشاكر، والهادي، وأشهرها الباقر.

ولُقِّب (عليه السلام) بذلك: لبقره العلم وهو تفجره وتوسعه.

في كشف الغمة: سمّي بالباقر؛ لتبقّره في العلم، وهو توسّعه فيه(2).

ص: 7


1- الكافي: ج1 ص286-292، كتاب الحجة، الباب ما نص اللّه عز وجل ورسوله على الأئمة (عليهم السلام) واحداً فواحداً.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص117، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما اسمه.

وقال الفيروزآبادي: بَقَرَه كمنعه: شقّه ووسّعه، والباقر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) لتبحره في العلم(1).

روى الصدوق (رحمه اللّه) في (علل الشرائع): بسنده عن عمرو بن شمر، قال: سألت جابر الجعفي فقلت له: لم سمي الباقر باقراً؟. قال: لأنه بقر العلم بقراً، أي شقه شقاً، وأظهره إظهاراً(2).

وفي رواية قال جابر: يا باقر أنت الباقر حقّاً، أنت الذي تبقر العلم بقراً(3).

وفي الصحاح: التبقر التوسع في العلم(4).

وفي لسان العرب: لقب (عليه السلام) به؛ لأنه بقر العلم وعرف أصله، واستنبط فرعه، وتوسع فيه، والتبقر التوسع(5).

وفي صواعق ابن حجر: سمي (عليه السلام) بذلك من بقر الأرض، أي شقها وأثار مخبئاتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحِكَم واللطائف، ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه(6).

وفي تذكرة الخواص: إنما سمي الباقر من كثرة سجوده بقر السجود جبهته أي فتحها ووسعها، وقيل: لغزارة علمه، ثم نقل كلام الصحاح(7).

ص: 7


1- تاج العروس من جواهر القاموس: ج6 ص105، باب الراء، فصل الباء، بقر.
2- علل الشرائع: ج1 ص233، باب 168، ح1.
3- علل الشرائع: ج1 ص234، باب 168، ح1.
4- تاج اللغة وصحاح العربية: ج3 ص594، باب الراء، فصل الباء، بقر.
5- لسان العرب: ج4 ص74، حرف الراء، فصل الباء الموحدة، بقر.
6- الصواعق المحرقة: ص201، الباب 11، ف3.
7- أعيان الشيعة: ج1 ص650، أبو جعفر محمد الباقر، سبب تلقيبه بالباقر.

والده

والده المكرم: الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) .

والدته

والدته المكرمة: السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه الصلاة والسلام)، وكانت تكنى ب- (أم عبد اللّه)، وقيل: (أم الحسن).

وكان الإمام الباقر (عليه السلام) هاشمياً بين هاشميين، وعلوياً بين علويين، وفاطمياً بين فاطميين، وكان ابناً للحسنين (عليهما السلام) . فهو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين (صلوات اللّه عليهما).

عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «كانت أمي قاعدةً عند جدار فتصدّع الجدار، وسمعنا هدّةً شديدةً. فقالت بيدها: لا وحق المصطفى ما أذن اللّه لك في السقوط، فبقي معلقاً في الجو حتى جازته. فتصدق أبي عنها بمائة دينار»(1).

وقال الصادق (عليه السلام) عن جدته أم أبيه: «كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها»(2).

ابن خير البرية

عن ليث، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: «أنت ابن خير البرية، وجدك سيد شباب أهل الجنة، وجدتك سيدة نساء العالمين»(3).

ص: 8


1- الكافي: ج1 ص469، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ح1.
2- بحار الأنوار: ج46 ص366، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح7.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص120، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما عمره.

نقش خاتمه

في رواية: أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان يتختم بخاتم الإمام الحسين (عليه السلام) ونقشه: (إن اللّه بالغ أمره)(1).

وعن الرضا (عليه السلام) ، قال: «كان نقش خاتم الحسين (عليه السلام) : إن اللّه بالغ أمره، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يتختم بخاتم أبيه الحسين (عليه السلام) ، وكان محمد بن علي (عليه السلام) يتختم بخاتم الحسين (عليه السلام) »(2).

وقيل: كان نقش خاتم الإمام الباقر (عليه السلام) : (رب لا تذرني فرداً)(3).

وفي رواية عن الرضا، عن أبيه، عن جعفر بن محمد (عليهم السلام) ، قال: «كان على خاتم محمد بن علي (عليه السلام) :

ظني باللّه حسن***وبالنبي المؤتمن

وبالوصي ذي المنن***وبالحسين والحسن»(4) وفي رواية كان نقش خاتمه (عليه السلام) : «العزة لله» أو «العزة لله جميعاً»(5).

وفي رواية: «القوة لله جميعاً»(6).

وفي مكارم الأخلاق: من كتاب اللباس عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان نقش

ص: 9


1- الكافي: ج6 ص474، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب نقش الخواتيم، ح8.
2- الأمالي للصدوق: ص458، المجلس70، ح5.
3- رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار: ج2 ص116، باب في أحوال أبي جعفر محمد بن علي، الفصل2، حال عبد اللّه بن المبارك.
4- صحيفة الإمام الرضا (عليه السلام) : ص79، متن الصحيفة، ح168.
5- مكارم الأخلاق: ص91، الباب5، الفصل5، في نقوش الخواتيم.
6- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص117، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.

خاتم أبي جعفر (عليه السلام) : العزة لله»(1).

وفي الكافي: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان نقش خاتم أبي: العزة لله»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان في خاتم أبي محمد بن علي - وكان خير محمدي رأيته بعيني -: العزة لله»(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان نقش خاتم أبي العزة لله جميعاً»(4).

والظاهر أنها كانت عدة خواتيم على كل منها نقش.

ص: 11


1- مكارم الأخلاق: ص89، الباب5، الفصل5، في نقوش الخواتيم.
2- الكافي: ج6 ص473، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب نقش الخواتيم، ح1.
3- بحار الأنوار: ج46 ص223، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب2 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح10.
4- تهذيب الأحكام: ج1 ص32، كتاب الطهارة، الباب3، ح22.

2

الولادة المباركة

اشارة

وُلد الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في يوم الجمعة، الأول من شهر رجب، سنة سبع وخمسين هجرية، في المدينة المنورة، وقيل: سنة ست وخمسين.

روى جابر الجعفي، قال: وُلد الباقر (عليه السلام) يوم الجمعة غرة رجب سنة سبع وخمسين(1).

وعاش (عليه السلام) مع جده الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه) أربع سنوات، فكان في الرابعة من عمره يوم عاشوراء، وعاش (عليه السلام) مع أبيه بعد جده خمساً وثلاثين سنة، فكان عمره عند وفاة والده تسعاً وثلاثين سنة، وكان معيناً وسنداً لوالده خلال هذه السنوات الصعاب على كثرة مشاكلها وابتلاءاتها وسلطة الطغاة فيها.

وعاش بعد أبيه ثماني عشرة سنة على قول، وفي رواية الكافي عن الصادق (عليه السلام) : تسع عشرة سنة وشهران(2)، وهي مدة إمامته.

عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أدركت الحسين (صلوات اللّه

ص: 12


1- مصباح المتهجد: ج2 ص801،فصل في ذكر سياقة عبادات السنة من أولها إلى آخرها، شهر رجب، أول يوم من رجب.
2- الكافي: ج1 ص472، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ح6.

عليه)؟. قال: «نعم»، الخبر(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قُبض محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وهو ابن سبع وخمسين سنةً في عام أربعة عشر ومائة، عاش بعد علي بن الحسين (عليه السلام) تسع عشرة سنةً وشهرين»(2).

النبي يبشر بولادته

الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشَّر بولادة الإمام الباقر (عليه السلام) ، وذكر أوصافه، وأشار إلى علمه، كما أقرأه السلام.

عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين (عليه السلام) يقال له: محمد، يبقر علم الدين بقراً، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام»(3).

وقال جابر بن عبد اللّه الأنصاري: إنه سمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «يا جابر، إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بباقر، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام». فلقيه جابر بن عبد اللّه الأنصاري في بعض سكك المدينة. فقال له: يا غلام، من أنت؟. قال: «أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب». قال له جابر: يا بني، أقبل. فأقبل، ثم قال له: أدبر. فأدبر، فقال: شمائل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورب

ص: 13


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص243، كتاب الحج، باب ابتداء الكعبة وفضلها وفضل الحرم، ح2308.
2- الكافي: ج1 ص472، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ح6.
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص137، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في تاريخ ولادة الإمام الباقر (عليه السلام) ووفاته.

الكعبة - ثم قال - يا بني، رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرئك السلام. فقال (عليه السلام) : «على رسول اللّه السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليك يا جابر بما بلغت السلام». فقال له جابر: يا باقر، يا باقر، يا باقر، أنت الباقر حقاً، أنت الذي تبقر العلم بقراً. ثم كان جابر يأتيه فيجلس بين يديه فيعلّمه، فربما غلط جابر فيما يحدِّث به عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيرد عليه ويذكِّره، فيقبل ذلك منه، ويرجع إلى قوله. وكان يقول: يا باقر، يا باقر، يا باقر، أشهد باللّه أنك قد أوتيت الحكم صبياً(1).

وفي رواية عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال ذات يوم لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: يا جابر، إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بالباقر، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام. فدخل جابر إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فوجد محمد بن علي (عليه السلام) عنده غلاماً. فقال له: يا غلام، أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال جابر: شمائل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورب الكعبة. ثم أقبل على علي بن الحسين فقال له: من هذا؟. قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي محمد الباقر. فقام جابر فوقع على قدميه يقبِّلهما ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا ابن رسول اللّه، أقبل سلام أبيك. إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرأ عليك السلام. قال: فدمعت عينا أبي جعفر (عليه السلام) ، ثم قال: يا جابر، على أبي رسول اللّه السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليك يا جابر بما بلَّغت السلام»(2).

ص: 13


1- الأمالي للصدوق: ص353، المجلس56، ح9.
2- بحار الأنوار: ج46 ص223-224، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح1.

ونقل عن ابن الزبير محمد بن مسلم المكي، أنه قال: كنا عند جابر بن عبد اللّه، فأتاه علي بن الحسين (عليه السلام) ، ومعه ابنه محمد وهو صبي. فقال علي لابنه: «قبِّل رأس عمك».

فدنا محمد بن علي من جابر فقبَّل رأسه، فقال جابر: من هذا؟!. وكان قد كف بصره. فقال له علي (عليه السلام) : «هذا ابني محمد».

فضمه جابر إليه وقال: يا محمد، محمد رسول اللّه يقرأ عليك السلام.

فقالوا لجابر: كيف ذلك يا أبا عبد اللّه!. فقال: كنت مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والحسين في حجره وهو يلاعبه. فقال: «يا جابر، يولد لابني الحسين ابن يقال له: علي. إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين. فيقوم علي بن الحسين، ويولد لعلي ابن يقال له: محمد. يا جابر، إن رأيته فاقرأه مني السلام، واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير». فلم يعش جابر بعد ذلك إلا قليلاً ومات(1).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) ، قال: «دخلت على جابر بن عبد اللّه فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام. قال لي: من أنت؟. وذلك بعد ما كف بصره. فقلت: محمد بن علي بن الحسين.

قال: يا بني، ادن مني. فدنوت منه، فقبَّل يدي ثم أهوى إلى رجلي يقبِّلها، فتنحيت عنه، ثم قال لي: رسول اللّه يقرئك السلام.

فقلت: وعلى رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته، فكيف ذاك يا جابر؟.

ص: 14


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص136-137، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.

فقال: كنت معه ذات يوم. فقال لي: يا جابر، لعلك تبقى حتى تلقى رجلاً من ولدي يقال له: محمد بن علي بن الحسين، يهب اللّه له النور والحكمة، فأقرئه مني السلام»(1).

ص: 15


1- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص506، الركن الثالث، الباب4، الفصل4.

3

النص على الإمامة

اشارة

النصوص على إمامة الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) متواترة، منها ما ورد في حديث اللوح، وما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، مضافاً إلى علومه ومعاجزه الكثيرة التي هي من علائم الإمامة.

صاحب الأمر بعدي

عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال ذات يوم لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: يا جابر، إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين...، فدخل جابر إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فوجد محمد بن علي (عليه السلام) عنده غلاماً... فقال له: من هذا؟. قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي محمد الباقر»(1).

من الإمام بعدك

روي عن أبي خالد، قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) : من الإمام بعدك؟. قال: «محمد ابني، يبقر العلم بقراً»(2).

ص: 14


1- بحار الأنوار: ج46 ص223، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح1.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص268، الباب5، ح12.

الوالي محمد بن علي

عن الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول: «إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يرسل إليه بصدقة علي وعمر وعثمان، وإن ابن حزم بعث إلى زيد بن الحسن - وكان أكبرهم - فسأله الصدقة. فقال زيد: إن الوالي كان بعد علي الحسن، وبعد الحسن الحسين، وبعد الحسين علي بن الحسين، وبعد علي بن الحسين محمد بن علي، فابعث إليه»(1).

الأمر إليه

عن عثمان بن عثمان بن خالد، عن أبيه، قال: مرض علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه، فجمع أولاده محمداً والحسن وعبد اللّه وعمر وزيداً والحسين، وأوصى إلى ابنه محمد بن علي، وكنَّاه الباقر، وجعل أمرهم إليه، وكان فيما وعظه في وصيته، أن قال: يا بني، إن العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والعقل ترجمان العلم. واعلم أن العلم أبقى، واللسان أكثر هذراً. واعلم - يا بني - أن صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعايش مل ء مكيال، ثلثاه فطنة وثلثه تغافل؛ لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد عرفه ففطن له. واعلم أن الساعات تذهب عمرك، وأنك لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى. فإياك والأمل الطويل! فكم من مؤمل أملاً لا يبلغه، وجامع مال لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه حراماً وورَّثه، احتمل إصره وباء بوزره، ذلك هو الخسران المبين»(2).

ص: 16


1- الكافي: ج1 ص305، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي جعفر (عليه السلام) ، ح3.
2- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص239-240، باب ما جاء عن علي بن الحسين (عليه السلام) ما يوافق هذه الأخبار ونصه على ابنه محمد الباقر (عليه السلام) .

جعلتك الخليفة من بعدي

عن مالك بن أعين الجهني، قال: أوصى علي بن الحسين (عليه السلام) ابنه محمد بن علي (عليه السلام) . فقال: «بني، إني جعلتك خليفتي من بعدي، لا يدعي فيما بيني وبينك أحد إلا قلَّده اللّه يوم القيامة طوقاً من نار، فاحمد اللّه على ذلك واشكره. يا بني، اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك؛ فإنه لا تزول نعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت، والشاكر بشكره أسعد منه بالنعمة التي وجب عليه بها الشكر - وتلا علي بن الحسين (عليه السلام) - {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(1)»(2).

إلى ابني هذا

عن الزهري، قال: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) في المرض الذي توفي فيه، إذ قدِّم إليه طبق فيه خبز والهندباء. فقال لي: «كله». قلت: قد أكلت يا ابن رسول اللّه. قال: «إنه الهندباء». قلت: وما فضل الهندباء؟. قال: «ما من ورقة من الهندباء إلا وعليها قطرة من ماء الجنة، فيه شفاء من كل داء».

قال: ثم رفع الطعام وأُتي بالدهن، فقال (عليه السلام) : «ادَّهن يا با عبد اللّه». قلت: قد ادَّهنت. قال: «إنه هو البنفسج». قلت: وما فضل البنفسج على سائر الأدهان؟. قال: «كفضل الإسلام على سائر الأديان».

ثم دخل عليه محمد ابنه، فحدَّثه طويلا بالسر، فسمعته يقول فيما يقول: «عليك بحسن الخلق». قلت: يا ابن رسول اللّه، إن كان من أمر اللّه ما لابد لنا منه

ص: 17


1- سورة إبراهيم: 7.
2- بحار الأنوار: ج46 ص231-232، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب4 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح8.

- ووقع في نفسي أنه قد نعى نفسه - فإلى من يختلف بعدك؟. قال: «يا با عبد اللّه إلى ابني هذا - وأشار إلى محمد ابنه - إنه وصيي ووارثي وعيبة علمي، معدن العلم وباقر العلم». قلت: يا ابن رسول اللّه، ما معنى باقر العلم؟. قال: «سوف يختلف إليه خلاص شيعتي، ويبقر العلم عليهم بقراً».

قال: ثم أرسل محمداً ابنه في حاجة له إلى السوق، فلما جاء محمد قلت: يا ابن رسول اللّه، هلا أوصيت إلى أكبر أولادك. قال: «يا أبا عبد اللّه، ليست الإمامة بالصغر والكبر، هكذا عهد إلينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهكذا وجدناه مكتوباً في اللوح والصحيفة». قلت: يا ابن رسول اللّه، فكم عهد إليكم نبيكم أن يكون الأوصياء من بعده؟. قال: «وجدنا في الصحيفة واللوح اثني عشر أسامي مكتوبةً بإمامتهم وأسامي آبائهم وأمهاتهم - ثم قال - يخرج من صلب محمد ابني سبعة من الأوصياء، فيهم المهدي (صلوات اللّه عليهم)»(1).

ص: 19


1- بحار الأنوار: ج46 ص232-233، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب4 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح9.

4

خصائص الإمامة

اشارة

في بصائر الدرجات: عن عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جده، قال: التفت علي بن الحسين (عليه السلام) إلى ولده - وهو في الموت - وهم مجتمعون عنده، ثم التفت إلى محمد بن علي (عليه السلام) ابنه. فقال: «يا محمد، هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك - ثم قال - أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علماً»(1).

سلاح الرسول وكتبه

عن الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الموت، قبل ذلك أخرج السفط أو الصندوق عنده. فقال: يا محمد، احمل هذا الصندوق. قال: فحمل بين أربعة رجال، فلما توفي جاء إخوته يدعون في الصندوق. فقالوا: أعطنا نصيبنا من الصندوق. فقال: واللّه ما لكم فيه شيء، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إليَّ، وكان في الصندوق سلاح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكتبه»(2).

كتاب علي (عليه السلام)

عن الفضيل بن يسار، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : «يا فضيل، عندنا كتاب

ص: 20


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص165، الباب1، ح13.
2- بحار الأنوار: ج46 ص229، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب4 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح3.

علي (عليه السلام) سبعون ذراعاً، ما على الأرض شيء يُحتاج إليه إلا وهو فيه حتى أرش الخدش»، ثم خطه بيده على إبهامه(1).

عظيم حق الإمام

عن الحلبي، عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «دخل الناس على أبي (عليه السلام) قالوا: ما حد الإمام؟. قال (عليه السلام) : حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه، وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً؛ لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام (عليه السلام) .

قالوا: فيعرف شيعته؟. قال: نعم، ساعة يراهم. قالوا: فنحن لك شيعة؟. قال: نعم كلكم. قالوا: أخبرنا بعلامة ذلك. قال: أخبركم بأسمائكم وأسماء آبائكم وقبائلكم. قالوا: أخبرنا. فأخبرهم، قالوا: صدقت. قال: وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه هي قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}(2). قالوا: صدقت. قال: نحن الشجرة التي قال اللّه تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}(3)، نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا - ثم قال - يقنعكم. قالوا: ما دون هذا مقنع»(4).

الجدران لا تحجب أبصارنا

روي عن أبي الصبَّاح الكناني، قال: صرت يوماً إلى باب أبي جعفر (عليه السلام) ،

ص: 21


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص147، الباب13، ح1.
2- سورة إبراهيم: 24.
3- سورة إبراهيم: 24.
4- الخرائج والجرائح: ج2 ص596-597، الباب14، فصل في أعلام الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ، ح8.

فقرعت الباب، فخرجت إليَّ وصيفة ناهد، فضربت بيدي على رأس ثديها. فقلت لها: قولي لمولاك إني بالباب. فصاح (عليه السلام) من آخر الدار: «ادخل لا أم لك». فدخلت وقلت: واللّهِ ما أردت ريبةً، ولا قصدت إلا زيادةً في يقيني. فقال: «صدقت لئن ظننتم أن هذه الجدران تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم، إذاً لا فرق بيننا وبينكم، فإياك أن تعاود لمثلها»(1).

وفي رواية: عن ميسر بيَّاع الزِّطي، قال: أقمت على باب أبي جعفر (عليه السلام) ، فطرقته فخرجت إليَّ جارية خماسية، فوضعت يدي على يدها، وقلت لها: قولي لمولاك هذا ميسر بالباب. فناداني (عليه السلام) من أقصى الدار: «ادخل لا أبا لك - ثم قال لي - أما واللّه - يا ميسر - لو كانت هذه الجدر تحجب أبصارنا كما تحجب عنكم أبصاركم، لكنا وأنتم سواءً». فقلت: جعلت فداك، واللّهِ ما أردت إلا لأزداد بذلك إيماناً»(2).

بيوت الإمامة

قال أبو حمزة الثمالي - في خبر -: لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ولقيه هشام بن عبد الملك، أقبل الناس ينثالون عليه. فقال عكرمة: من هذا! عليه سيماء زهرة العلم لأجرِّبنه، فلما مثل بين يديه، ارتعدت فرائصه، وأسقط في يد أبي جعفر (عليه السلام) ، وقال: يا ابن رسول اللّه، لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً. فقال له أبو

ص: 22


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص141-142، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص182، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .

جعفر (عليه السلام) : «ويلك يا عبيد أهل الشام، إنك بين يدي {بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}(1)»(2).

هذا ملك الموت وهذا جبرائيل

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إني صليت مع أبي (عليه السلام) الفجر ذات يوم، فجلس أبي يسبح اللّه، فبينما هو يسبح، إذ أقبل شيخ طوال أبيض الرأس واللحية فسلَّم على أبي، وإذا شاب مقبل في أثره، فجاء إلى الشيخ وسلَّم على أبي، وأخذ بيد الشيخ وقال: قم فإنك لم تؤمر بهذا، فلما ذهبا من عند أبي. قلت: يا أبي، من هذا الشيخ وهذا الشاب؟!. فقال: هذا واللّه ملك الموت، وهذا جبرئيل (عليه السلام) »(3).

الاسم الأعظم

عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) أن يعلمني الاسم الأعظم. فقال: «ادخل البيت». فوضع أبو جعفر (عليه السلام) بيده على الأرض، فأظلم البيت وارتعدت فرائصي. فقال: «ما تقول، أعلِّمك؟». قلت: لا. فرفع يده فرجع البيت كما كان(4).

الصحيفة الصفراء

علي بن أبي حمزة وأبو بصير، قالا: كان لنا موعد على أبي جعفر (عليه السلام) ، فدخلنا عليه أنا وأبو ليلى. فقال: «يا سكينة، هلمي المصباح». فأتت بالمصباح،

ص: 23


1- سورة النور: 36.
2- بحار الأنوار: ج46 ص258، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح59.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص234، الباب8، ح3.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص188، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .

ثم قال: «هلمي بالسفط الذي في موضع كذا وكذا». قال: فأتته بسفط هندي أو سندي، ففض خاتمه ثم أخرج منه صحيفةً صفراء. فقال علي: فأخذ يدرجها من أعلاها، وينشرها من أسفلها، حتى إذا بلغ ثلثها أو ربعها، نظر إليَّ فارتعدت فرائصي، حتى خفت على نفسي، فلما نظر إليَّ في تلك الحال، وضع يده على صدري. فقال: «أ برأت أنت؟». قلت: نعم جعلت فداك. قال: «ليس عليك بأس - ثم قال - ادنه». فدنوت، فقال لي: «ما ترى؟». قلت: اسمي واسم أبي وأسماء أولاد لي لا أعرفهم. فقال (عليه السلام) : «يا علي، لولا أن لك عندي ما ليس لغيرك، ما اطلعتك على هذا. أما إنهم سيزدادون على عدد ما هاهنا». قال علي بن أبي حمزة: فمكثت واللّه بعد ذلك عشرين سنةً، ثم ولد لي الأولاد بعدد ما رأيت بعيني في تلك الصحيفة، الخبر(1).

ص: 24


1- بحار الأنوار: ج46 ص266-267، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح65.

5

عبادات وأدعية

اشارة

كان الإمام الباقر (عليه السلام) كثير العبادة والدعاء، والصلاة والصيام، والتضرع والذكر، فهو (عليه السلام) أعبد أهل زمانه وأتقاهم وأورعهم وأزهدهم.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «كان أبي (عليه السلام) كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنه ليذكر اللّه، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر اللّه، ولقد كان يحدِّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر اللّه، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا إله إلا اللّه، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا، ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر»(1).

البكاء من خوف اللّه

عن أفلح - مولى أبي جعفر (عليه السلام) - قال: خرجت مع محمد بن علي (عليه السلام) حاجاً، فلما دخل المسجد، نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته. فقلت: بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك، فلو رفعت بصوتك قليلاً. فقال لي: «ويحك - يا أفلح - ولِمَ لا أبكي؛ لعل اللّه تعالى أن ينظر إليَّ منه برحمة، فأفوز بها عنده غداً». قال: ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام، فرفع رأسه من

ص: 25


1- الكافي: ج2 ص499، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه عز وجل كثيراً، ح1.

سجوده، فإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينيه»(1).

تضرع و مناجاة

قال الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «كان أبي (عليه السلام) يقول في جوف الليل في تضرعه: أَمَرْتَنِي فَلَمْ أَئْتَمِرْ، وَنَهَيْتَنِي فَلَمْ أَنْزَجِرْ، فَهَا أَنَا ذَا عَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَلاَ أَعْتَذِرُ»(2).

الحمد الجامع

قال الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) : «فقد أبي (عليه السلام) بغلةً له. فقال: لئن ردها اللّه تعالى، لأحمدنه بمحامد يرضاها. فما لبث أن أُتي بها بسرجها ولجامها، فلما استوى عليها، وضم إليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء فقال: الحمد لله. فلم يزد، ثم قال: ما تركت ولا بقيت شيئاً، جعلت كل أنواع المحامد لله عز وجل، فما من حمد إلا هو داخل فيما قلت»(3).

دعاء الركوب

عن عبد اللّه بن عطاء، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : «قم فأسرج دابتين حماراً وبغلاً». فأسرجت حماراً وبغلاً، فقدَّمت إليه البغل، ورأيت أنه أحبهما إليه. فقال: «من أمرك أن تقدِّم إليَّ هذا البغل؟». قلت: اخترته لك. قال: «وأمرتك

ص: 26


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص117، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما مناقبه الحميدة وصفاته الجميلة.
2- بحار الأنوار: ج46 ص290، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح14.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص118، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما مناقبه الحميدة وصفاته الجميلة.

أن تختار لي - ثم قال - إن أحب المطايا إليَّ الحمر». فقال: فقدَّمت إليه الحمار، وأمسكت له بالركاب، فركب (عليه السلام) . فقال: «الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومنَّ علينا بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . والحمد لله {الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}(1)، والحمد لله رب العالمين»(2).

لاستجابة الدعاء

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان أبي (عليه السلام) إذا أحزنه أمر، جمع النساء والصبيان، ثم دعا وأمَّنوا»(3).

لعن المرجئة

عن عبد اللّه بن عطاء، قال - في حديث - عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «اللّهم العن المرجئة؛ فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة». فقلت له: ما ذكَّرك جعلت فداك المرجئة؟!. فقال: «خطروا على بالي»(4).

والمرجئة: هم من أخروا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن مقامه.

كيف أصبحت؟

عن شقيق البلخي، عمن أخبره من أهل العلم، قال: قيل لمحمد بن علي الباقر (عليه السلام) : كيف أصبحت؟. قال: «أصبحنا غرقى في النعمة، موفورين

ص: 27


1- سورة الزخرف: 13-14.
2- المحاسن: ج2 ص352، كتاب السفر، الباب10، ح41.
3- بحار الأنوار: ج46 ص297، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح28.
4- المحاسن: ج2 ص353، كتاب السفر، الباب10، ح41.

بالذنوب، يتحبب إلينا إلهنا بالنعم، ونتمقت إليه بالمعاصي، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنا»(1).

سجدة آخر الليل

عن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إني كنت أمهد لأبي (عليه السلام) فراشه، فأنتظره حتى يأتي، فإذا أوى إلى فراشه ونام، قمت إلى فراشي، وإنه أبطأ عليَّ ذات ليلة. فأتيت المسجد في طلبه، وذلك بعد ما هدأ الناس، فإذا هو (عليه السلام) في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره، فسمعت حنينه، وهو يقول: سبحانك اللّهم أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك يا رب تعبداً ورقاً. اللّهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي، اللّهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم»(2).

ص: 28


1- الأمالي للطوسي: ص641، المجلس32، ح1331.
2- الكافي: ج3 ص323، كتاب الصلاة، باب السجود والتسبيح والدعاء فيه...، ح9.

6

علم الإمام

اشارة

كان الإمام الباقر (عليه السلام) أعلم أهل زمانه، عالماً بجميع العلوم، باقراً لها، وكان يؤكد على العلم ونشره. قال (عليه السلام) : «تذاكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(1).

وقد قام (عليه السلام) بنشر علوم القرآن والعترة الطاهرة، وربى آلافاً من العلماء والفقهاء والفضلاء ورواة الحديث، ودرس عليه كثير من التلامذة في مختلف العلوم.

وقد سأله بعض أصحابه عن ثلاثين ألف حديث. عن محمد بن مسلم، قال: ما شجر في رأيي شي ء قط إلا سألت عنه أبا جعفر (عليه السلام) ، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ستة عشر ألف حديث(2).

وقال الراوي: ما سألت جابر الجعفي قط مسألةً إلا أتاني فيها بحديث، وكان جابر الجعفي إذا روى عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، قال: حدَّثني وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) (3).

ص: 29


1- الاختصاص: ص245،طائفة من أخبار الأئمة (عليهم السلام) في أبواب متنوعة، في بيان جملة من الحكم والمواعظ والوصايا عنهم (عليهم السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص292، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح17.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص180، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في المقدمات.

وفي المناقب لابن شهر آشوب: (لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من العلوم، ما ظهر من الإمام الباقر (عليه السلام) من التفسير، والكلام، والفتيا، والأحكام، والحلال، والحرام)(1).

وقال المفيد (رحمه اللّه) : لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من علم الدين والآثار والسنة، وعلم القرآن، والسيرة، وفنون الآداب، ما ظهر عنه (عليه السلام) (2).

وقد روى عن الإمام (عليه السلام) بعض الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين.

فمن الصحابة: جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

ومن التابعين: جابر بن يزيد الجعفي، وكيسان السختياني.

قال جابر الجعفي: (حدثني أبو جعفر (عليه السلام) سبعين ألف حديث، لم أحدِّث بها أحداً قط، ولا أحدِّث بها أحداً أبداً)(3).

والظاهر أن الأحاديث التي كان يجوز له روايتها كانت أكثر من ذلك.

ومن الفقهاء: ابن مبارك، والزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وزياد بن المنذر.

ومن المصنفين: الطبري، والبلاذري، والسلامي، والخطيب، وغيرهم.

وعلى رغم كثرة الضغوط الأموية، تمكن الإمام الباقر (عليه السلام) من نشر علومه بين الناس، وآلاف الكتب تحتوي على رواياته (صلوات اللّه عليه) في مختلف العلوم.

ص: 30


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص195، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص157، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في تاريخ ولادة الإمام الباقر (عليه السلام) ووفاته.
3- الاختصاص: ص66، في ذكر حواري أهل البيت (عليهم السلام) وجملة من أصحابهم، زرارة بن أعين وجابر بن يزيد الجعفي.

فإن الفقه الشيعي مأخوذ من روايات الباقرين (عليهما السلام) وآبائهما وأولادهما الطاهرين، بل وقسم من الفقه السني أيضاً مبني على روايات الإمامين الباقرين (صلوات اللّه عليهما).

فقد نقل علماؤهم في كتبهم وتصنيفاتهم كثيراً عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ، وسائر العترة الطاهرة (صلوات اللّه عليهم)، كما ترى في: الموطأ، وشرف المصطفى، والإبانة، وحلية الأولياء، وسنن أبي داود، والألكاني، ومسند أبي حنيفة، ومسند المروزي، وترغيب الأصبهاني، وبسيط الواحدي، وتفسير النقاش، وتفسير الزمخشري، ومعرفة أصول الحديث، ورسالة السمعاني، وغيرها.

يقول ابن حجر في صواعقه: (أبو جعفر محمد الباقر: سمِّي بذلك من بقر الأرض، أي شقها وأثار مخبئاتها ومكامنها. فلذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف، وحقائق الأحكام، والحكم، واللطائف، ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة. ومن ثَمَّ قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه. وعمرت أوقاته بطاعة اللّه، وله من الرسوخ في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة.

وكفاه شرفاً: أن ابن المديني روى عن جابر، أنه قال له وهو صغير: رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسلِّم عليك. فقيل له: وكيف ذاك؟. قال: كنتُ جالساً عنده، والحسين في حجره وهو يداعبه. فقال: «يا جابر، يولد له مولود اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين. فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فإن أدركته - يا جابر - فأقرئه مني السلام». توفي سنة سبع عشرة ومائة عن ثمان

ص: 31

وخمسين سنة مسموماً كأبيه.

وهو علوي من جهة أبيه وأمه، ودفن أيضاً في قبة الحسن والعباس بالبقيع، وخلَّف ستة أولاد أفضلهم وأكملهم: جعفر الصادق (عليه السلام) )(1)، انتهى كلام الصواعق.

وعن أبي حمزة الثمالي - في خبر -: لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ، ولقيه هشام بن عبد الملك، أقبل الناس ينثالون عليه. فقال عكرمة: من هذا! عليه سيماء زهرة العلم، لأجرِّبنه. فلما مثل بين يديه، ارتعدت فرائصه، وأسقط في يدي أبي جعفر (عليه السلام) . وقال: يا ابن رسول اللّه، لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ويلك يا عبيد أهل الشام، إنّك بين يدي {بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}(2)»(3).

وقال عبد اللّه بن عطاء: (ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر (عليه السلام) ، ولقد رأيت الحكم عنده كأنه متعلم)(4).

وعن الحكم بن عيينة - في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}(5) - قال: (كان واللّه محمد بن علي منهم)(6).

ص: 31


1- الصواعق المحرقة: ص201، الباب 11، ف3.
2- سورة النور: 36.
3- بحار الأنوار: ج46 ص258، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح59.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص117- 118، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما مناقبه الحميدة وصفاته الجميلة.
5- سورة الحجر: 75.
6- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص419، سورة الحجر: آية 75، ح445.

وقال أبو زرعة: (لعمري إن أبا جعفر لمن أكبر العلماء)(1).

وقال الحافظ عبد العزيز الجنابذي: (أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الباقر... وكان كثير العلم)(2).

وعن أبي نعيم في الحلية، أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة، فلم يدر ما يجيبه. فقال: اذهب إلى ذلك الغلام فسله، وأعلمني بما يجيبك، وأشار إلى الباقر (عليه السلام) . فسأله فأجابه، فأخبر ابن عمر. فقال: إنهم أهل بيت مُفهمون(3).

وعن أبي نعيم في الحلية: (إنه (عليه السلام) الحاضر الذاكر، الخاشع الصابر، أبو جعفر محمد بن علي الباقر)(4).

وقالوا: السيد بن السيد بن السيد بن السيد محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) (5).

وفي إرشاد المفيد: عن عبد اللّه بن عطاء المكي، قال: (ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه، كأنه صبي بين يدي معلمه)(6).

وفي تذكرة الخواص، قال عطاء: (ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً

ص: 32


1- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج1 ص203، مجلس في ذكر إمامة أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ومناقبه.
2- بحار الأنوار: ج46 ص218، الباب1 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح20.
3- بحار الأنوار: ج46 ص289، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح12.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص180، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في المقدمات.
5- بحار الأنوار: ج46 ص289، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح12.
6- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد:ج2 ص160، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في ذكر فضائل الإمام الباقر (عليه السلام) .

منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحَكَم عنده كأنه عصفور مغلوب. قال يعني بالحكم: الحكم بن عتيبة وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه)(1).

يا باقر العلم

روي أن جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان يجلس في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينادي: يا باقر العلم، يا باقر العلم. فكان يقول بعض أهل المدينة: إن جابر يتكلم بالهذيان. ولكن جابر كان يحلف باللّه أنه لم يقل إلا الحق، حيث سمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «يا جابر، ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً»(2).

أروي عن أبي... عن اللّه

روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، أنه سُئل عن الحديث ترسله ولا تسنده؟. فقال: «إذا حدَّثت الحديث فلم أسنده فسندي فيه: أبي، عن جدي، عن أبيه، عن جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، عن جبرئيل، عن اللّه عز وجل»(3).

ورثة علوم الأنبياء

روي عن أبي بصير، قال: قلت يوماً للباقر (عليه السلام) : أنتم ذرية رسول اللّه؟. قال: «نعم». قلت: ورسول اللّه وارث الأنبياء كلهم؟. قال: «نعم، ورث جميع

ص: 33


1- أعيان الشيعة: ج1 ص651، أبو جعفر محمد الباقر، مناقبه وفضائله.
2- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج1 ص206، مجلس في ذكر إمامة أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ومناقبه.
3- بحار الأنوار: ج46 ص288، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح11.

علومهم». قلت: وأنتم ورثتم جميع علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟. قال: «نعم»(1).

العلم الشامل

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (عليه الصلاة والسلام)، أنه قال: «علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء»(2).

من أين ورثتم العلم؟

في رواية رمي الغرض، قال هشام بن عبد الملك للإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) : ألسنا بنو عبد مناف، نسبنا ونسبكم واحد؟. فقال (عليه السلام) : «نحن كذلك، ولكن اللّه جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه، بما لم يخص أحداً به غيرنا».

فقال هشام: أ ليس اللّه جل ثناؤه بعث محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافةً، أبيضها وأسودها وأحمرها، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبعوث إلى الناس كافةً، وذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(3) إلى آخر الآية، فمن أين ورثتم هذا العلم، وليس بعد محمد نبي، ولا أنتم أنبياء؟.

فقال (عليه السلام) : «من قوله تبارك وتعالى لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}(4)، الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره اللّه أن يخصنا به من دون غيرنا،

ص: 34


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص274، الباب6، ح5.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص342، الباب14، ح6.
3- سورة آل عمران: 180، سورة الحديد: 10.
4- سورة القيامة: 16.

فلذلك كان ناجى أخاه علياً (عليه السلام) من دون أصحابه، فأنزل اللّه بذلك قرآناً في قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}(1)، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: سألت اللّه أن يجعلها أذنك يا علي. فلذلك قال علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه) بالكوفة: علَّمني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم، ففتح كل باب ألف باب، خصه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مكنون سره بما يخص أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه، فكما خص اللّه نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، خص نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخاه علياً (عليه السلام) من مكنون سره بما لم يخص به أحداً من قومه حتى صار إلينا، فتوارثنا من دون أهلنا».

فقال هشام بن عبد الملك: إن علياً كان يدَّعي علم الغيب، واللّه لم يطلع على غيبه أحداً فمن أين ادَّعى ذلك؟.

فقال (عليه السلام) : «إن اللّه جل ذكره أنزل على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(2)، وفي قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(3)، وفي قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(4)، وأوحى اللّه إلى نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يبقى في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلا يناجي به علياً (عليه السلام) ، فأمره أن يؤلِّف القرآن(5) من بعده، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام

ص: 35


1- سورة الحاقة: 12.
2- سورة النحل: 89.
3- سورة يس: 12.
4- سورة الأنعام: 38.
5- أي إلى القرآن مع تفسيره وتأويله.

على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي(1) غير أخي علي، فإنه مني وأنا منه، له ما لي وعليه ما عليَّ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي، ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي (عليه السلام) ، ولذلك قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: أقضاكم علي، أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره».

فأطرق هشام طويلاً ثم رفع رأسه، فقال: سل حاجتك. فقال: «خلَّفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي». فقال: قد آنس اللّه وحشتهم برجوعك إليهم، ولا تقم سر من يومك. قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «فاعتنقه أبي ودعا له، وفعلت أنا كفعل أبي»(2).

مع كبير القساوسة

في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يروي عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) بعد خروجهما من عند هشام بن عبد الملك: «ثم نهض ونهضت معه وخرجنا إلى بابه، إذا ميدان ببابه، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير. قال أبي: من هؤلاء؟. فقال الحجاب: هؤلاء القسيسون والرهبان، وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً، يستفتونه فيفتيهم.

فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه، وفعلت أنا مثل فعل أبي، فأقبل

ص: 36


1- أي إلى جسدي حين الغسل، وهذه كناية عن أنه لا يغسل المعصوم إلا المعصوم.
2- بحار الأنوار: ج46 ص307-309، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب7 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح1.

نحوهم حتى قعد نحوهم، وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك الخبر إلى هشام. فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع، فينظر ما يصنع أبي، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى - وقد شد حاجبيه بحريرة صفراء - حتى توسطنا، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلِّمين عليه. فجاءوا به إلى صدر المجلس، فقعد فيه وأحاط به أصحابه، وأبي وأنا بينهم، فأدار نظره ثم قال لأبي: أ مِنَّا أم من هذه الأمة المرحومة؟.

فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة.

فقال: من أيهم أنت، من علمائها أم من جهالها؟.

فقال له أبي: لست من جهالها.

فاضطرب اضطراباً شديداً، ثم قال له: أسألك.

فقال له أبي: سل.

فقال: من أين ادَّعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون، ولا يحدثون ولا يبولون، وما الدليل فيما تدَّعونه من شاهد لا يجهل؟.

فقال له أبي: دليل ما ندَّعي من شاهد لا يجهل: الجنين في بطن أمه، يطعم ولا يحدث.

قال: فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً، ثم قال: هلا زعمت أنك لست من علمائها؟!.

فقال له أبي: ولا من جهالها، وأصحاب هشام يسمعون ذلك.

فقال لأبي: أسألك عن مسألة أخرى.

فقال له أبي: سل.

فقال: من أين ادَّعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية، موجودة غير معدومة،

ص: 37

عند جميع أهل الجنة، وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل؟.

فقال له أبي: دليل ما ندَّعي، أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً، موجوداً غير معدوم، عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع.

فاضطرب اضطراباً شديداً، ثم قال: هلا زعمت أنك لست من علمائها؟!.

فقال له أبي: ولا من جهالها.

فقال له: أسألك عن مسألة.

فقال: سل.

فقال: أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار؟.

فقال له أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يهدأ فيها المبتلى، ويرقد فيه الساهر، ويفيق المغمى عليه، جعلها اللّه في الدنيا رغبةً للراغبين، وفي الآخرة للعاملين لها، دليلاً واضحاً، وحجةً بالغةً على الجاحدين المتكبرين التاركين لها.

قال: فصاح النصراني صيحةً، ثم قال: بقيت مسألة واحدة، واللّهِ لأسألك عن مسألة لا تهدى إلى الجواب عنها أبداً.

قال له أبي: سل، فإنك حانث في يمينك.

فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد، وماتا في يوم واحد، عمر أحدهما خمسون سنةً، وعمر الآخر مائة وخمسون سنةً في دار الدنيا؟.

فقال له أبي: ذلك عزير وعزيرة، ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسةً وعشرين عاماً، مر عزير على حماره راكباً على قرية بأنطاكية، {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}، وقد كان اصطفاه وهداه، فلما قال ذلك القول غضب اللّه عليه، {فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ} سخطاً عليه بما قال، {ثُمَّ

ص: 38

بَعَثَهُ}(1) على حماره بعينه وطعامه وشرابه، وعاد إلى داره، وعزيرة أخوه لا يعرفه، فاستضافه فأضافه، وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا، وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنةً، فلم يزل عزير يذكَّر أخاه وولده وقد شاخوا، وهم يذكرون ما يذكِّرهم ويقولون: ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور، ويقول له عزيرة - وهو شيخ كبير ابن مائة وخمس وعشرين سنةً -: ما رأيت شاباً في سن خمس وعشرين سنةً أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟!. فقال: يا عزيرة، أنا عزير، سخط اللّه عليَّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني، فأماتني مائة سنة ثم بعثني؛ لتزدادوا بذلك يقيناً إن اللّه على كل شي ء قدير، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي، الذي خرجت به من عندكم، أعاده اللّه تعالى كما كان. فعندها أيقنوا، فأعاشه اللّه بينهم خمساً وعشرين سنةً، ثم قبضه اللّه وأخاه في يوم واحد.

فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً، وقاموا النصارى على أرجلهم، فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني، وأقعدتموه معكم، حتى هتكني وفضحني، وأعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا، وعنده ما ليس عندنا. لا واللّه لا كلمتكم من رأسي كلمةً واحدةً، ولا قعدت لكم إن عشت سنةً.

فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه، ورفع ذلك الخبر إلى هشام، فلما تفرق الناس، نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه، فوافانا رسول هشام بالجائزة، وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نجلس؛ لأن الناس ماجوا،

ص: 39


1- سورة البقرة: 259.

وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى، فركبنا دوابنا منصرفين»(1).

مع إلياس النبي

عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «بينا أبي (عليه السلام) يطوف بالكعبة، إذا رجل معتجر قد قيض له، فقطع عليه أسبوعه، حتى أدخله إلى دار جنب الصفا، فأرسل إليَّ فكنّا ثلاثةً. فقال: مرحباً يا ابن رسول اللّه. ثم وضع يده على رأسي، وقال: بارك اللّه فيك يا أمين اللّه بعد آبائه. يا أبا جعفر، إن شئت فأخبرني وإن شئت فأخبرتك، وإن شئت سلني وإن شئت سألتك، وإن شئت فاصدقني وإن شئت صدقتك. قال: كل ذلك أشاء. قال: فإياك أن ينطق لسانك عند مسألتي بأمر تضمر لي غيره. قال: إنما يفعل ذلك من في قلبه علمان يخالف أحدهما صاحبه، وإن اللّه عز وجل أبى أن يكون له علم فيه اختلاف. قال: هذه مسألتي وقد فسرت طرفاً منها، أخبرني عن هذا العلم الذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟.

قال: أما جملة العلم فعند اللّه جل ذكره، وأما ما لابد للعباد منه فعند الأوصياء.

قال: ففتح الرجل عجرته، واستوى جالساً، وتهلّل وجهه، وقال: هذه أردت ولها أتيت، زعمت أن علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه؟.

قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعلمه، إلا أنهم لا يرون ما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 40


1- بحار الأنوار: ج46 ص309-311، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب7 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح1.

يرى؛ لأنه كان نبياً وهم محدَّثون، وإنه كان يفد إلى اللّه جل جلاله، فيسمع الوحي وهم لا يسمعون.

فقال: صدقت يا ابن رسول اللّه، سآتيك بمسألة صعبة، أخبرني عن هذا العلم ما له لا يظهر كما كان يظهر مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قال: فضحك أبي (عليه السلام) ، وقال: أبى اللّه أن يطلع على علمه إلا ممتحناً للإيمان به، كما قضى على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يصبر على أذى قومه، ولا يجاهدهم إلا بأمره، فكم من اكتتام قد اكتتم به حتى قيل له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(1). وأيم اللّه أن لو صدع قبل ذلك لكان آمناً، ولكنه إنما نظر في الطاعة وخاف الخلاف، فلذلك كف. فوددت أن عينيك تكون مع مهدي هذه الأمة، والملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض تعذب أرواح الكفرة من الأموات، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء، ثم أخرج سيفاً، ثم قال: ها إن هذا منها - قال - فقال أبي (عليه السلام) : إي والذي اصطفى محمداً على البشر.

قال: فرد الرجل اعتجاره، وقال: أنا إلياس، ما سألتك عن أمرك ولي به جهالة، غير أني أحببت أن يكون هذا الحديث قوةً لأصحابك - وساق الحديث بطوله إلى أن قال - ثم قام الرجل وذهب، فلم أره»(2).

إمام أهل العراق

عن أحمد بن إسماعيل الكاتب، عن أبيه، قال: أقبل أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام، فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: من هذا؟. فقيل لهم: إمام أهل

ص: 41


1- سورة الحجر: 94.
2- الكافي: ج1 ص442-247، كتاب الحجة، باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها، ح1.

العراق. فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم فسأله. فأتاه شاب منهم فقال له: يا عم، ما أكبر الكبائر؟. فقال: «شرب الخمر».

فأتاهم فأخبرهم، فقالوا له: عد إليه، فعاد إليه. فقال له: «ألم أقل لك يا ابن أخ شرب الخمر. إن شرب الخمر يدخل صاحبه في الزنا، والسرقة، وقتل النفس التي حرم اللّه عز وجل، وفي الشرك باللّه عز وجل. وأفاعيل الخمر تعلو على كل ذنب، كما تعلو شجرها على كل شجر»(1).

هذا أعلم أهل الأرض

قال الأبرش الكلبي لهشام - مشيراً إلى الباقر (عليه السلام) -: من هذا الذي احتوشته أهل العراق يسألونه؟!. قال: هذا نبي الكوفة، وهو يزعم أنه ابن رسول اللّه، وباقر العلم، ومفسر القرآن، فاسأله مسألةً لا يعرفها. فأتاه وقال: يا ابن علي، قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان؟. قال: «نعم». قال: فإني أسألك عن مسائل. قال: «سل، فإن كنت مسترشداً فستنتفع بما تسأل عنه، وإن كنت متعنتاً فتضل بما تسأل عنه».

قال: كم الفترة التي كانت بين محمد وعيسى (عليهما السلام) ؟.

قال: «أما في قولنا فسبعمائة سنة، وأما في قولك فستمائة سنة».

قال: فأخبرني عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ}(2)، ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟.

قال: «يحشر الناس على مثل قرصة النقي، فيها أنهار متفجرة يأكلون

ص: 42


1- بحار الأنوار: ج46 ص358، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب9 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح12.
2- سورة إبراهيم: 48.

ويشربون حتى يفرغ من الحساب».

فقال هشام: قل له: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذٍ؟.

قال: «هم في النار أشغل، ولم يشتغلوا عن أن قالوا: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ}(1)».

قال: فنهض الأبرش وهو يقول: أنت ابن بنت رسول اللّه حقاً.

ثم صار إلى هشام، قال: دعونا منكم - يا بني أمية - فإن هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء والأرض، فهذا ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

مع عمرو البصري

روي أن عمرو بن عبيد البصري وفد على محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ؛ لامتحانه بالسؤال عنه. فقال له: جعلت فداك، ما معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}(3)، ما هذا الرتق والفتق؟.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «كانت السماء رتقاً لا تنزل القطر، وكانت الأرض رتقاً لا تخرج النبات، ففتق اللّه السماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات».

فانطلق عمرو ولم يجد اعتراضاً ومضى، ثم عاد إليه فقال: أخبرني - جعلت فداك - عن قوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}(4)، ما غضب اللّه؟.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «غضب اللّه تعالى عقابه. يا عمرو، من ظن أن اللّه

ص: 42


1- سورة الأعراف: 50.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص198، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .
3- سورة الأنبياء: 30.
4- سورة طه: 81.

يغيره شي ء فقد كفر»(1).

أسئلة طاووس اليماني

عن أبي بصير، قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) جالساً في الحرم، وحوله عصابة من أوليائه، إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه، ثم قال لأبي جعفر (عليه السلام) : ائذن لي بالسؤال. قال (عليه السلام) : «أذنا لك فسل».

قال: أخبرني متى هلك ثلث الناس؟. قال: «وهمت - يا شيخ - أردت أن تقول: متى هلك ربع الناس، وذلك يوم قتل قابيلُ هابيلَ كانوا أربعةً، آدم وحواء وقابيل وهابيل، فهلك ربعهم».

فقال: أصبت ووهمت أنا، فأيهما كان أبا الناس القاتل أو المقتول؟.

قال: «لا واحد منهما، بل أبوهم شيث بن آدم».

قال: فلِمَ سمِّي آدم آدم؟.

قال: «لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلى».

قال: فلِمَ سمِّيت حواء حواء؟.

قال: «لأنها خلقت من ضلع حي، يعني ضلع آدم (عليه السلام) (2)».

قال: فلِمَ سمِّي إبليس إبليس؟.

قال: «لأنه أبلس من رحمة اللّه عز وجل، فلا يرجوها».

قال: فلِمَ سمِّي الجن جناً؟.

قال: «لأنهم استجنوا، فلم يروا».

ص: 43


1- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص326-327، احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في شي ء مما يتعلق بالأصول والفروع.
2- أي من فاضل طينته.

قال: فأخبرني عن أول كذبة كذبت من صاحبها؟.

قال: «إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(1)».

قال: فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين؟.

قال: «المنافقون حين قالوا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ونشهد إنك لرسول اللّه، فأنزل اللّه عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}(2)».

قال: فأخبرني عن طير طار مرةً ولم يطر قبلها ولا بعدها، ذكره اللّه عز وجل في القرآن، ما هو؟.

فقال: «طور سيناء، أطاره اللّه عز وجل على بني إسرائيل حين أظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبل التوراة، وذلك قوله عز وجل: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}(3)، الآية».

قال: فأخبرني من رسول بعثه اللّه تعالى ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من الملائكة، ذكره اللّه عز وجل في كتابه؟.

فقال: «الغراب حين بعثه اللّه عز وجل؛ ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله. قال اللّه عز وجل: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ}(4)».

قال: فأخبرني عمن أنذر قومه، ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من

ص: 44


1- سورة الأعراف: 12، سورة ص: 76.
2- سورة المنافقون: 1.
3- سورة الأعراف: 171.
4- سورة المائدة: 31.

الملائكة، ذكره اللّه عز وجل في كتابه؟.

قال: «النملة حين قالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(1)».

قال: فأخبرني من كُذب عليه، ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من الملائكة، ذكره اللّه عز وجل في كتابه؟.

قال: «الذئب الذي كذب عليه إخوة يوسف (عليه السلام) ».

قال: فأخبرني عن شي ء قليله حلال وكثيره حرام، ذكره اللّه عز وجل في كتابه؟.

قال: «نهر طالوت، قال اللّه عز وجل: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}(2)».

قال: فأخبرني عن صلاة مفروضة تصلى بغير وضوء، وعن صوم لا يحجر عن أكل وشرب؟.

قال: «أما الصلاة بغير وضوء، فالصلاة على النبي وآله (عليه وعليهم السلام)، وأما الصوم فقوله عز وجل: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا}(3)».

قال: فأخبرني عن شي ء يزيد وينقص، وعن شي ء يزيد ولا ينقص، وعن شي ء ينقص ولا يزيد؟.

فقال الباقر (عليه السلام) : «أما الشيء الذي يزيد وينقص فهو القمر، والشيء الذي يزيد ولا ينقص فهو البحر، والشيء الذي ينقص ولا يزيد فهو العمر»(4).

ص: 45


1- سورة النمل: 18.
2- سورة البقرة: 249.
3- سورة مريم: 26.
4- بحار الأنوار: ج46 ص351-353، الباب9 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح5.

جابر الجعفي وأسرار علومهم

عن جابر بن يزيد، قال: حدثني محمد بن علي (عليه السلام) بسبعين حديثاً لم أحدث بها أحداً قط، ولا أحدث بها أحداً أبداً، فلما مضى محمد بن علي (عليه السلام) ثقلت على عنقي، وضاق بها صدري. فأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، إن أباك حدثني سبعين حديثاً لم يخرج مني شيء منها، ولا يخرج شيء منها إلى أحد، وأمرني بسترها، وقد ثقلت على عنقي، وضاق بها صدري، فما تأمرني؟.

فقال (عليه السلام) : «يا جابر، إذا ضاق بك من ذلك شيء، فاخرج إلى الجبانة واحفر حفيرةً، ثم دل رأسك فيها، وقل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا، ثم طمه، فإن الأرض تستر عليك». قال جابر: ففعلت ذلك، فخف عني ما كنت أجده(1).

أقول: الظاهر أن عدد السبعين للكثرة، وليس للتحديد.

وفي رواية: عن جابر الجعفي، قال: حدثني أبو جعفر (عليه السلام) سبعين ألف حديث، لم أحدث بها أحداً أبداً. قال جابر: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : جعلت فداك، إنك حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سركم، الذي لا أحدث به أحداً، وربما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبيه الجنون.

قال: «يا جابر، فإذا كان ذلك، فاخرج إلى الجبان، فاحفر حفيرةً، ودل رأسك فيها، ثم قل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا»(2).

ص: 46


1- الكافي: ج8 ص157، كتاب الروضة، حديث الذي أضاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالطائف، ح149.
2- بحار الأنوار: ج46 ص340، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح30.

العلم الصحيح عندنا

عن أبي مريم، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرقا وغربا، فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»(1).

وعن أبي بصير، قال: قال لي: إن الحكم بن عتيبة ممن قال اللّه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللّهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}(2)، فليشرق الحكم وليغرب. أما واللّه لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل (عليه السلام) »(3).

أحوال يوم القيامة

عن عبد الرحمن بن عبد اللّه الزهري، قال: حج هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متكئاً على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) جالس في المسجد. فقال له سالم: يا أمير، هذا محمد بن علي بن الحسين. فقال له هشام: المفتون به أهل العراق. قال: نعم. قال: اذهب إليه وقل له: يقول لك الأمير ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟.

قال له أبو جعفر (عليه السلام) : «يحشر الناس على مثل قرص النقي، فيها أنهار مفجرة، يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب».

قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به، فقال: اللّه أكبر. اذهب إليه فقل له: يقول لك ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذٍ؟. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «هم في النار أشغل، ولم يشغلوا عن أن قالوا: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ

ص: 47


1- الكافي: ج1 ص399، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) ، ح3.
2- سورة البقرة: 8.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص9، الباب6، ح2.

اللّهُ}(1)». فسكت هشام لا يرجع كلاماً(2).

ركود الشمس

عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : جعلت فداك، أخبرني بركود الشمس؟. قال: «ويحك - يا محمد - ما أصغر جثتك، وأعضل مسألتك». ثم سكت عني ثلاثة أيام، ثم قال لي في اليوم الرابع: «إنك لأهل للجواب»، والحديث معروف(3).

كيفية الخلق

قال الإمام الباقر (عليه السلام) - في حديث -: «إن اللّه عز وجل خلق خلاقين، فإذا أراد أن يخلق خلقاً أمرهم، فأخذوا من التربة التي قال في كتابه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}(4)، فعجن النطفة بتلك التربة التي يخلق منها بعد أن أسكنها الرحم أربعين ليلةً، فإذا تمت له أربعة أشهر قالوا: يا رب، تخلق ماذا؟. فيأمرهم بما يريد من ذكر أو أنثى، أبيض أو أسود، فإذا خرجت الروح من البدن، خرجت هذه النطفة بعينها منه كائناً ما كان، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، فلذلك يغسل الميت غسل الجنابة»(5).

أي غسلاً كغسل الجنابة وهو غسل الميت.

ص: 48


1- سورة الأعراف: 50.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص163-164، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في ذكر فضائل الإمام الباقر (عليه السلام) .
3- الاختصاص: ص201، ما روي في أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ، ما روي في محمد بن مسلم.
4- سورة طه: 55.
5- الكافي: ج3 ص162-163، كتاب الجنائز، باب العلة في غسل الميت غسل الجنابة، ح1.

علم ما كان وما يكون

روي أن جابر الأنصاري بلَّغ سلام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى محمد الباقر (عليه السلام) . فقال له محمد بن علي: «أثبت وصيتك، فإنك راحل إلى ربك». فبكى جابر وقال له: يا سيدي، وما علمك بذلك! فهذا عهد عهده إليَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال له: «واللّهِ - يا جابر - لقد أعطاني اللّه علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة». وأوصى جابر وصيته، وأدركته الوفاة(1).

علم النبيين

وفي رواية أخرى: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا جابر، يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له: محمد، يبقر علم النبيين بقراً، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام»(2).

جابر يتعلم منه

عن سعيد بن المسيب، وسليمان الأعمش، وأبان بن تغلب، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وأبي خالد الكابلي: أن جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان يقعد في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينادي: يا باقر، يا باقر العلم، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر. وكان يقول: واللّه ما أهجر، ولكني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إنك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول.

ص: 49


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص196-197، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص296، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح25.

قال: فلقي يوماً كتَّاباً فيه الباقر (عليه السلام) . فقال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: شمائل رسول اللّه، والذي نفس جابر بيده. يا غلام ما اسمك؟. قال: «اسمي محمد». قال: ابن من؟. قال: «ابن علي بن الحسين». فقال: يا بني، فدتك نفسي فإذاً أنت الباقر. قال: «نعم، فأبلغني ما حمَّلك رسول اللّه». فأقبل إليه يقبِّل رأسه وقال: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول اللّه يقرئك السلام. قال: «يا جابر، على رسول اللّه السلام ما قامت السماوات والأرض، وعليك السلام يا جابر بما بلَّغت السلام».

قال: فرجع الباقر إلى أبيه وهو ذعر، فأخبره بالخبر فقال له: «يا بني، قد فعلها جابر». قال: «نعم». قال: «يا بني، الزم بيتك». فكان جابر يأتيه طرفي النهار، وأهل المدينة يلومونه. فكان الباقر يأتيه على وجه الكرامة؛ لصحبته من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: فجلس يحدثهم عن أبيه عن رسول اللّه فلم يقبلوه، فحدثهم عن جابر فصدقوه، وكان جابر واللّه يأتيه ويتعلم منه(1).

فصل الخطاب

ومن ميزاتهم (عليهم السلام) أنهم رزقوا فصل الخطاب، كما قال تعالى: {وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}(2).

قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: (قد جمع محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) صلاح حال الدنيا بحذافيرها في كلمتين، فقال: صلاح جميع المعايش والتعاشر مل ء مكيال ثلثان فطنة وثلث تغافل)(3).

ص: 50


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص196، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .
2- سورة ص: 20.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص204، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .

شمولية علمهم

عن إسماعيل بن أبي حمزة، عن أبيه، قال: ركب أبو جعفر (عليه السلام) يوماً إلى حائط له من حيطان المدينة، فركبت معه إلى ذلك الحائط، ومعنا سليمان بن خالد، فقال له سليمان بن خالد: جعلت فداك، يعلم الإمام ما في يومه؟.

فقال: «يا سليمان، والذي بعث محمداً بالنبوة واصطفاه بالرسالة، إنه ليعلم ما في يومه وفي شهره وفي سنته - ثم قال - يا سليمان، أما علمت أن روحاً ينزل عليه في ليلة القدر، فيعلم ما في تلك السنة إلى ما في مثلها من قابل، وعلم ما يحدث في الليل والنهار والساعة ترى ما يطمئن إليه قلبك».

قال: فو اللّه ما سرنا إلا ميلاً ونحو ذلك حتى قال: «الساعة يستقبلك رجلان قد سرقا سرقةً قد أضمرا عليها»، فو اللّه ما سرنا إلا ميلاً حتى استقبلنا الرجلان. فقال أبو جعفر (عليه السلام) لغلمانه: «عليكم بالسارقين». فأخذا حتى أُتي بهما. فقال: «سرقتما». فحلفا له باللّه أنهما ما سرقا. فقال: «واللّهِ لئن أنتما لم تخرجا ما سرقتما، لأبعثن إلى الموضع الذي وضعتما فيه سرقتكما، ولأبعثن إلى صاحبكما الذي سرقتماه، حتى يأخذكما ويرفعكما إلى والي المدينة، فرأيكما».

فأبيا أن يردا الذي سرقاه، فأمر أبو جعفر (عليه السلام) غلمانه أن يستوثقوا منهما، قال: «فانطلق أنت يا سليمان إلى ذلك الجبل - وأشار بيده إلى ناحية من الطريق - فاصعد أنت وهؤلاء الغلمان، فإن في قلة الجبل كهفاً، فادخل أنت فيه بنفسك، تستخرج ما فيه وتدفعه إلى مولى هذا، فإن فيه سرقةً لرجل آخر، ولم يأتِ وسوف يأتي».

فانطلقت وفي قلبي أمر عظيم مما سمعت، حتى انتهيت إلى الجبل، فصعدت إلى الكهف الذي وصفه لي، فاستخرجت منه عيبتين وقر رجلين، حتى أتيت

ص: 51

بهما أبا جعفر (عليه السلام) . فقال: «يا سليمان، إن بقيت إلى غد رأيت العجب بالمدينة مما يظلم كثير من الناس».

فرجعنا إلى المدينة، فلما أصبحنا أخذ أبو جعفر (عليه السلام) بأيدينا، فأدخلنا معه على والي المدينة، وقد دخل المسروق منه برجال براء. فقال: هؤلاء سرقوها. وإذا الوالي يتفرسهم. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «إن هؤلاء براء، وليس هم سراقه، وسراقه عندي - ثم قال لرجل - ما ذهب لك؟». قال: عيبة فيها كذا وكذا، فادَّعى ما ليس له، وما لم يذهب منه. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «لِمَ تكذب». فقال: أنت أعلم بما ذهب مني.

فهم الوالي أن يبطش به حتى كفه أبو جعفر (عليه السلام) ، ثم قال للغلام: «ائتني بعيبة كذا وكذا»، فأتى بها. ثم قال للوالي: «إن ادَّعى فوق هذا، فهو كاذب مبطل في جميع ما ادَّعى، وعندي عيبة أخرى لرجل آخر، وهو يأتيك إلى أيام، وهو رجل من أهل بربر، فإذا أتاك فأرشده إليَّ، فإن عيبته عندي. وأما هذان السّارقان، فلست ببارح من هاهنا حتى تقطعهما». فأُتي بالسارقين، فكانا يريان أنه لا يقطعهما بقول أبي جعفر (عليه السلام) . فقال أحدهما: لِمَ تقطعنا ولم نقر على أنفسنا بشيء؟!. قال: ويلكما شهد عليكما من لو شهد على أهل المدينة لأجزت شهادته. فلما قطعهما قال أحدهما: واللّهِ - يا أبا جعفر - لقد قطعتني بحق، وما سرني أن اللّه جل وعلا أجرى توبتي على يد غيرك، وأن لي ما حازته المدينة، وإني لأعلم أنك لا تعلم الغيب، ولكنكم أهل بيت النبوة، وعليكم نزلت الملائكة، وأنتم معدن الرحمة.

فرق له أبو جعفر (عليه السلام) ، وقال له: «أنت على خير». ثم التفت إلى الوالي وجماعة الناس فقال: «واللّهِ لقد سبقته يده إلى الجنة بعشرين سنةً».

ص: 52

فقال سليمان بن خالد لأبي حمزة: يا أبا حمزة، رأيت دلالةً أعجب من هذا. فقال أبو حمزة: العجيبة في العيبة الأخرى. فو اللّهِ ما لبثنا إلا ثلاثاً حتى جاء البربري إلى الوالي وأخبره بقصتها، فأرشده الوالي إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، فأتاه فقال له أبو جعفر: «ألا أخبرك بما في عيبتك قبل أن تخبرني». فقال البربري: إن أنت أخبرتني بما فيها علمت أنك إمام فرض اللّه طاعتك.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ألف دينار لك، وألف دينار لغيرك، ومن الثياب كذا وكذا». قال: فما اسم الرجل الذي له الألف دينار؟. قال: «محمد بن عبد الرحمن، وهو على الباب ينتظرك، تراني أخبرك إلا بالحق».

فقال البربري: آمنت باللّه وحده لا شريك له، وبمحمد (عليه السلام) ، وأشهد أنكم أهل بيت الرحمة، الذين أذهب اللّه عنكم الرجس وطهركم تطهيراً.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «رحمك اللّه». فخر يشكر، فقال سليمان بن خالد: حججت بعد ذلك عشر سنين، وكنت أرى الأقطع من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) (1).

وفي الخرائج والجرائح - بعد قوله بعشرين سنةً -: فعاش الرجل عشرين سنةً(2).

يصلي على راحلته

عن فيض بن مطر، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، وأنا أريد أن أسأله عن صلاة الليل في المحمل. قال: فابتدأني فقال: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي على راحلته حيث توجهت به»(3).

ص: 53


1- رجال الكشي: ص357-360، ما روي في سليمان بن خالد، ح664.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص277، الباب6، ح8.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص138، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.

نحن الشجرة الطيبة

في حديث الحلبي: أنه دخل أناس على أبي جعفر (عليه السلام) وسألوا علامةً، فأخبرهم بأسمائهم، وأخبرهم عما أرادوا يسألون عنه. وقال: «أردتم أن تسألوا عن هذه الآية من كتاب اللّه: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}(1)». قالوا: صدقت هذه الآية أردنا أن نسألك. قال: «نحن الشجرة التي قال اللّه تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}، ونحن نعطي شيعتنا ما نشاء من أمر علمنا»(2).

حقائق الرجال

عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وبحقيقة النفاق». قال: جرى عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ذكر عمر بن سجنة الكندي فزكوه. فقال (عليه السلام) : «ما أرى لكم علماً بالناس، إني لأكتفي من الرجل بلحظة. إن ذا من أخبث الناس». قال: وكان عمر بعد ما يدع محرماً لله لا يركبه(3).

ألف مسألة

قالت حبابة الوالبية: رأيت رجلاً بمكة أصيلاً في الملتزم - أو بين الباب والحجر - على صعدة من الأرض، وقد حزم وسطه على المئزر بعمامة خز، والغزالة تخال على قلل الجبال، كالعمائم على قمم الرجال، وقد صاعد كفه وطرفه نحو

ص: 54


1- سورة إبراهيم: 24-25.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص193، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
3- بحار الأنوار: ج46 ص263، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح63.

السماء ويدعو. فلما انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات، ويستفتحون أبواب المشكلات، فلم يرم حتى أفتاهم في ألف مسألة. ثم نهض يريد رحله، ومنادٍ ينادي بصوت صهل: ألا إن هذا النور الأبلج المسرج، والنسيم الأرج، والحق المرج, وآخرون يقولون: من هذا؟. فقيل: محمد بن علي الباقر علم العلم، والناطق عن الفهم، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

وفي رواية أبي بصير: ألا إن هذا باقر علم الرسل، وهذا مبين السبل، هذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء، هذا بقية اللّه في أرضه، هذا ناموس الدهر، هذا ابن محمد وخديجة وعلي وفاطمة، هذا منار الدين القائمة(1).

إنما هو ربع الناس

عن محمد بن مسلم، قال: دخلت مع أبي جعفر (عليه السلام) مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإذا طاووس اليماني يقول: من كان نصف الناس؟.

فسمعه أبو جعفر (عليه السلام) ، فقال: «إنما هو ربع الناس، آدم وحواء وهابيل وقابيل». قال: صدقت يا ابن رسول اللّه. قال محمد بن مسلم: فقلت في نفسي هذه واللّه مسألة، فغدوت إلى منزل أبي جعفر (عليه السلام) ، وقد لبس ثيابه وأسرج له، فلما رآني ناداني قبل أن أسأله. فقال: «بالهند ووراء الهند بمسافة بعيدة، رجل عليه مسوح يده مغلولة إلى عنقه، موكل به عشرة رهط، يعذب إلى أن تقوم الساعة». قلت: ومن ذلك؟. قال: «قابيل»(2).

ص: 55


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص182-183، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص776، الباب15، ح99.

إنا نراكم ونسمعكم

عن محمد بن مسلم، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : «لئن ظننتم أنا لا نراكم ولا نسمع كلامكم لبئس ما ظننتم، لو كان كما تظنون أنا لا نعلم ما أنتم فيه وعليه، ما كان لنا على الناس فضل».

قلت: أرني بعض ما أستدل به؟. قال: «وقع بينك وبين زميلك بالربذة، حتى عيَّرك بنا وبحبنا ومعرفتنا». قلت: إي واللّهِ لقد كان ذلك. قال: «فتراني قلت باطلاع اللّه، ما أنا بساحر ولا كاهن ولا بمجنون، لكنها من علم النبوة، ونحدِّث بما يكون». قلت: من الذي يحدِّثكم بما نحن عليه؟. قال: «أحياناً ينكت في قلوبنا، ويوقر في آذاننا، ومع ذلك فإن لنا خدماً من الجن مؤمنين، وهم لنا شيعة، وهم لنا أطوع منكم». قلت: مع كل رجل واحد منهم؟. قال: «نعم، يخبرنا بجميع ما أنتم فيه وعليه»(1).

العلم بما في البحار

روى أبو بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إني لأعرف من لو قام بشاطئ البحر، لعرف بدواب البحر وأمهاتها وعماتها وخالاتها»(2).

خذوا حذركم

روى أبو بصير، عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «كان أبي (عليه السلام) في مجلس له ذات يوم، إذ أطرق رأسه إلى الأرض، فمكث فيها مكثاً، ثم رفع رأسه فقال: يا قوم، كيف أنتم

ص: 56


1- بحار الأنوار: ج46 ص255، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح54.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص283، الباب6، ح15.

إن جاءكم رجل يدخل عليكم مدينتكم هذه في أربعة آلاف، حتى يستعرضكم بالسيف ثلاثة أيام، فيقتل مقاتلتكم، وتلقون منه بلاءً لا تقدرون أن تدفعوها، وذلك من قابل، فخذوا حذركم، واعلموا أن الذي قلت هو كائن لابد منه.

فلم يلتفت أهل المدينة إلى كلامه، وقالوا: لا يكون هذا أبداً، ولم يأخذوا حذرهم، إلا نفر يسير وبنو هاشم، فخرجوا من المدينة خاصةً، وذلك أنهم علموا أن كلامه هو الحق. فلما كان من قابل تحمَّل أبو جعفر (عليه السلام) بعياله وبنو هاشم، وجاء نافع بن الأزرق حتى كبس المدينة، فقتل مقاتلهم، وفضح نساءهم. فقال أهل المدينة: لا نرد على أبي جعفر شيئاً نسمعه منه أبداً، بعدما سمعنا ورأينا؛ فإنهم أهل بيت النبوة، وينطقون بالحق»(1).

العلم باللغات

روي أن جماعةً استأذنوا على أبي جعفر (عليه السلام) ، قالوا: فلما صرنا في الدهليز، إذا قراءة سريانية بصوت حسن، يقرأ ويبكي حتى أبكى بعضنا، وما نفهم ما يقول، فظننا أن عنده بعض أهل الكتاب استقرأه. فلما انقطع الصوت، دخلنا عليه فلم نر عنده أحداً. قلنا: لقد سمعنا قراءةً سريانيةً بصوت حزين!. قال: «ذكرت مناجاة إليا النبي فأبكتني»(2).

أي شيء قلت للمرأة؟

روي عن أبي بصير، قال: كنت أُقرئ امرأةً القرآن بالكوفة، فمازحتها

ص: 57


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص146، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- بحار الأنوار: ج46 ص254، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح50.

بشيء. فلما دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) عاتبني وقال: «من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ اللّه به، أي شيء قلت للمرأة». فغطيت وجهي حياءً وتبت، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «لا تعد»(1).

وفي رواية أخرى، قال أبو بصير: كنت أقرئ امرأةً القرآن وأعلِّمها إياه - قال - فمازحتها بشيء، فلما قدمت على أبي جعفر (عليه السلام) . قال لي: «يا أبا بصير، أي شيء قلت للمرأة». فقلت بيدي هكذا - يعني غطيت وجهي -. فقال: «لا تعودن إليها».

وفي رواية حفص البختري: أنه (عليه السلام) قال لأبي بصير: «أبلغها السلام، فقل: أبو جعفر يقرئكِ السلام، ويقول: زوِّجي نفسكِ من أبي بصير». قال: فأتيتها فأخبرتها. فقالت: اللّه لقد قال لك أبو جعفر (عليه السلام) هذا!. فحلفت لها فزوَّجت نفسها مني(2).

ما حال راشد؟

عن أبي بصير، قال: سمعت يقول أبو جعفر (عليه السلام) لرجل من أهل الإفريقية: «ما حال راشد؟». قال: خلَّفته حياً صالحاً يقرئك السلام. قال: «رحمه اللّه». قال: مات؟!. قال: «نعم». قال: متى؟. قال: «بعد خروجك بيومين». قال: واللّهِ ما مرض ولا كان به علة. قال: «وإنما يموت من يموت من مرض وعلة». قلت: من الرجل؟. قال: «رجل لنا موالٍ، ولنا محب - ثم قال - أ ترون أن ليس لنا معكم أعين ناظرة وأسماع سامعة، بئس ما رأيتم. واللّهِ لا يخفى علينا شيء

ص: 58


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص594، الباب14، فصل في أعلام الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ، ح5.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص182، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .

من أعمالكم، فاحضرونا جميعاً وعوِّدوا أنفسكم الخير، وكونوا من أهله تعرفوا، فإني بهذا آمر ولدي وشيعتي»(1).

وادي برهوت

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: جاء أعرابي حتى قام على باب المسجد، فتوسم فرأى أبا جعفر (عليه السلام) ، فعقل ناقته ودخل، وجثى على ركبتيه، وعليه شملة. فقال أبو جعفر: «من أين جئت يا أعرابي؟». قال: جئت من أقصى البلدان. قال أبو جعفر (عليه السلام) : «البلدان أوسع من ذاك، فمن أين جئت؟». قال: جئت من أحقاف عاد. قال: «نعم، فرأيت ثمة سدرةً إذا مر التجار بها استظلوا بفيئها». قال: وما علمك جعلني اللّه فداك!. قال: «هو عندنا في كتاب، وأي شي ء رأيت أيضاً؟».

قال: رأيت وادياً مظلماً، فيه الهام والبوم، لا يبصر قعره. قال (عليه السلام) : «وتدري ما ذاك الوادي؟». قال: «لا واللّهِ ما أدري». قال: «ذاك برهوت، فيه نسمة كل كافر».

ثم قال: «أين بلغت؟». قال: فقطع بالأعرابي. فقال: «بلغت قوماً جلوساً في مجالسهم، ليس لهم طعام ولا شراب إلا ألبان أغنامهم، فهي طعامهم وشرابهم». ثم نظر إلى السماء فقال: «اللّهم العنه». فقال له جلساؤه: من هو جعلنا فداك؟. قال: «هو قابيل، يعذب بحر الشمس وزمهرير البرد».

ثم جاءه رجل آخر. فقال (عليه السلام) له: «رأيت جعفراً؟». فقال الأعرابي: ومن

ص: 58


1- بحار الأنوار: ج46 ص243-244، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح31.

جعفر هذا الذي يسأل عنه!. قالوا: ابنه. قال: سبحان اللّه! وما أعجب هذا الرجل يخبرنا عن خبر السماء، ولا يدري أين ابنه(1).

أقول: لا يخفى أن الإمام (عليه السلام) كان يعرف أين ابنه، ولكن سؤاله ربما كان من باب سؤال العارف، أو عملاً بالظاهر، أو ما أشبه.

حديث اليماني

عن ابن مسكان، عن ليث المرادي، أنه حدَّثه عن سدير بحديث، فأتيته فقلت: إن ليثاً المرادي حدَّثني عنك بحديث. فقال: «وما هو؟». قلت: جعلت فداك، حديث اليماني. قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) ، فمر بنا رجل من أهل اليمن، فسأله أبو جعفر (عليه السلام) عن اليمن، فأقبل يحدِّث.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «هل تعرف دار كذا وكذا؟». قال: نعم ورأيتها. قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «هل تعرف صخرةً عندها في موضع كذا وكذا؟». قال: نعم ورأيتها. فقال الرجل: ما رأيت رجلاً أعرف بالبلاد منك. فلما قام الرجل قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : «يا أبا الفضل، تلك الصخرة التي غضب موسى (عليه السلام) فألقى الألواح، فما ذهب من التوراة التقمته الصخرة، فلما بعث اللّه رسوله أدته إليه، وهي عندنا»(2).

جابر يتعلم منه

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن جابر بن عبد اللّه كان آخر من بقي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، فكان يقعد في

ص: 59


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص508، الباب18، ح9.
2- بحار الأنوار: ج46 ص234، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح3.

مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معتجراً بعمامة، وكان يقول: يا باقر، يا باقر. فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر. فكان يقول: لا واللّهِ لا أهجر، ولكني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنك ستدرك رجلاً مني، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذلك الذي دعاني إلى ما أقول.

قال: فبينما جابر ذات يوم يتردد في بعض طرق المدينة، إذ مر محمد بن علي (عليه السلام) ، فلما نظر إليه قال: يا غلام، أقبل. فأقبل فقال: أدبر. فأدبر، فقال: شمائل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي نفس جابر بيده، ما اسمك يا غلام؟.

قال: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقبَّل رأسه، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول اللّه يقرئك السلام. فقال: وعلى رسول اللّه السلام. فرجع محمد (عليه السلام) إلى أبيه وهو ذعر، فأخبره بالخبر. فقال: يا بني، قد فعلها جابر. قال: نعم. قال: يا بني، ألزم بيتك. فكان جابر يأتيه طرفي النهار، فكان أهل المدينة يقولون: وا عجباً لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فكان محمد بن علي (عليه السلام) يأتيه على الكرامة؛ لصحبته لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: فجلس الباقر يحدِّثهم عن اللّه. فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أجرأ من ذا. فلما رأى ما يقولون، حدَّثهم عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال أهل المدينة: ما رأينا قط أحداً أكذب من هذا، يحدِّث عمن لم يره. فلما رأى ما يقولون، حدَّثهم عن جابر بن عبد اللّه فصدَّقوه، وكان واللّه جابر يأتيه فيتعلم منه»(1).

ص: 61


1- الكافي: ج1 ص469-470، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ح2.

7

فقهيات وآداب

حكم العاج

عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن العاج؟. فقال: «لا بأس به، وإن لي منه لمشطاً»(1).

العلك وذهب الأسنان

عن محمد بن مسلم، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يمضغ علكاً. فقال: «يا محمد، نقضت الوسمة أضراسي، فمضغت هذا العلك لأشدها». قال: وكانت استرخت فشدها بالذهب(2).

الصدقة يوم الجمعة

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان أبي (عليه السلام) أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مئونةً. قال: وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف؛ لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «الصدقة يوم الجمعة تضاعف». وكان أبو

ص: 59


1- مكارم الأخلاق: ص71، الباب4، الفصل3.
2- الكافي: ج6 ص482-483، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب السواد والوسمة، ح3.
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص185، ثواب الصدقة يوم الجمعة.

جعفر (عليه السلام) يتصدق بدينار(1).

التحية والمصافحة

عن أبي عبيدة، قال: كنت زميل أبي جعفر (عليه السلام) ، وكنت أبدأ بالركوب، ثم يركب هو، فإذا استوينا سلَّم، وساءل مساءلة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح. قال: وكان إذا نزل، نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلَّم، وساءل مساءلة من لا عهد له بصاحبه. فقلت: يا ابن رسول اللّه، إنك لتفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا، وإن فعل مرةً لكثير؟!.

فقال (عليه السلام) : «أ ما علمت ما في المصافحة، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه، فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر، واللّه ينظر إليهما حتى يفترقا»(2).

ادفنه معي

عن عبد الحميد بن أبي جعفر الفراء، قال: إن أبا جعفر (عليه السلام) انقلع ضرس من أضراسه، فوضعه في كفه ثم قال: «الحمد لله - ثم قال - يا جعفر، إذا أنت دفنتني فادفنه معي». ثم مكث بعد حين، ثم انقلع أيضاً آخر، فوضعه على كفه ثم قال: «الحمد لله. يا جعفر، إذا مت فادفنه معي»(3).

من آداب اللحية

عن سدير الصيرفي، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يأخذ عارضيه، ويبطن

ص: 62


1- المحاسن: ج1 ص59، كتاب ثواب الأعمال، الباب75، ح98.
2- الكافي: ج2 ص179، كتاب الإيمان والكفر، باب المصافحة، ح1.
3- بحار الأنوار: ج46 ص215، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح11.

لحيته(1).

وعن الحسن الزيات، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) قد خفف لحيته(2).

وعن محمد بن مسلم، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) والحجام يأخذ من لحيته. فقال: «دورها»(3).

خضاب الحناء والكتم

عن معاوية بن عمار، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) مخضوباً بالحناء(4).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «خضب أبو جعفر (عليه السلام) بالكتم»(5).

وعن أبي شيبة الأسدي، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن خضاب الشعر. فقال: «خضب الحسين وأبو جعفر (صلوات اللّه عليهما) بالحناء والكتم»(6).

ما أحسن الخضاب

عن أبي بكر الحضرمي، قال: كنت مع أبي علقمة، والحارث بن المغيرة، وأبي حسان، عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وعلقمة مختضب بالحناء، والحارث مختضب بالوسمة، وأبو حسان لا يختضب. فقال كل رجل منهم: ما ترى في هذا رحمك

ص: 63


1- وسائل الشيعة: ج2 ص111، تتمة كتاب الطهارة، الباب63 من أبواب آداب الحمام والتنظيف والزينة، ح1643.
2- الكافي: ج6 ص487، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب اللحية والشارب، ح4.
3- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص130، تقليم الأظفار وأخذ الشارب والمشط، ح333.
4- مكارم الأخلاق: ص80، الباب5، الفصل3.
5- بحار الأنوار: ج46 ص298، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح31.
6- الكافي: ج6 ص481، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب الخضاب، ح9.

اللّه؟ وأشار إلى لحيته. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ما أحسنه». قالوا: كان أبو جعفر مختضباً بالوسمة؟. قال: «نعم، ذلك حين تزوج الثقفية، أخذته جواريها فخضبنه»(1).

الأظافير والحناء

عن معاوية بن ميسرة، عن الحكم بن عتيبة، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد أخذ الحناء، وجعله على أظافيره. فقال: «يا حكم، ما تقول في هذا؟». فقلت: ما عسيت أن أقول فيه وأنت تفعله، وإن عندنا يفعله الشبان. فقال: «يا حكم، إن الأظافير إذا أصابتها النورة غيرتها حتى تشبه الموتى، فغيرها بالحناء»(2).

من آداب دخول الحرم

عن أبي عبيدة، قال: زاملت أبا جعفر (عليه السلام) فيما بين مكة والمدينة، فلما انتهى إلى الحرم اغتسل، وأخذ نعليه بيديه، ثم مشى في الحرم ساعةً(3).

من آداب الأضاحي

عن الكناني، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن لحوم الأضاحي؟. فقال: «كان علي بن الحسين وأبو جعفر (عليهما السلام) يتصدقان بثلث على جيرانهما، وثلث على السؤال، وثلث يمسكانه لأهل البيت»(4).

ص: 64


1- وسائل الشيعة: ج2 ص92-93، تتمة كتاب الطهارة، الباب49 من أبواب آداب الحمام والتنظيف والزينة، ح1579.
2- بحار الأنوار: ج46 ص299، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح38.
3- الكافي: ج4 ص398، كتاب الحج، باب دخول الحرم، ح2.
4- بحار الأنوار: ج46 ص300، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح40.

تشييع الجنازة

عن زرارة، قال: حضر أبو جعفر (عليه السلام) جنازة رجل من قريش - وأنا معه - وكان فيها عطاء. فصرخت صارخة، فقال عطاء: لتسكتن أو لنرجعن. قال: فلم تسكت فرجع عطاء.

قال: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إن عطاءً قد رجع. قال: «ولِمَ؟». قلت: صرخت هذه الصارخة، فقال لها: لتسكتن أو لنرجعن، فلم تسكت فرجع. فقال (عليه السلام) : «امض بنا، فلو أنا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحق تركنا له الحق، لم نقض حق مسلم».

قال: فلما صلى على الجنازة. قال وليها لأبي جعفر (عليه السلام) : ارجع مأجوراً رحمك اللّه؛ فإنك لا تقوى على المشي. فأبى (عليه السلام) أن يرجع - قال - فقلت له: قد أذن لك في الرجوع، ولي حاجة أريد أن أسألك عنها. فقال: «امض، فليس بإذنه جئنا، ولا بإذنه نرجع، إنما هو فضل وأجر طلبناه، فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك»(1).

أكل الجبن

عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن؟. فقال: «لقد سألتني عن طعام يعجبني». ثم أعطى الغلام درهماً فقال: «يا غلام، ابتع لنا جبناً». ودعا بالغداء فتغدينا معه، وأُتي بالجبن فأكل وأكلنا(2).

ص: 65


1- وسائل الشيعة: ج3 ص147، تتمة كتاب الطهارة، الباب3 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3248.
2- المحاسن: ج2 ص495، كتاب المآكل، الباب77، ح596.

فلسفة تغسيل الميت

عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه، قال: «دخل عبد اللّه بن قيس الماصر على أبي جعفر (عليه السلام) . فقال: أخبرني عن الميت لم يغسل غسل الجنابة(1)؟.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «لا أخبرك». فخرج من عنده، فلقي بعض الشيعة. فقال له: العجب لكم - يا معشر الشيعة - توليتم هذا الرجل وأطعتموه، فلو دعاكم إلى عبادته لأجبتموه، وقد سألته عن مسألة، فما كان عنده فيها شيء.

فلما كان من قابل، دخل عليه أيضاً فسأله عنها. فقال (عليه السلام) : «لا أخبرك بها».

فقال عبد اللّه بن قيس لرجل من أصحابه: انطلق إلى الشيعة فاصحبهم، وأظهر عندهم موالاتك إياهم، ولعنتي والتبري مني، فإذا كان وقت الحج فأتني، حتى أدفع إليك ما تحج به، واسألهم أن يدخلوك على محمد بن علي، فإذا صرت إليه، فاسأله عن الميت لِمَ يغسل غسل الجنابة.

فانطلق الرجل إلى الشيعة، فكان معهم إلى وقت الموسم، فنظر إلى دين القوم، فقبله بقبوله، وكتم ابن قيس أمره؛ مخافة أن يحرم الحج. فلما كان وقت الحج، أتاه فأعطاه حجةً وخرج، فلما صار بالمدينة. قال له أصحابه: تخلَّفْ في المنزل حتى نذكرك له، ونسأله ليأذن لك. فلما صاروا إلى أبي جعفر (عليه السلام) قال لهما: «أين صاحبكم! ما أنصفتموه».

قالوا: لم نعلم ما يوافق من ذلك. فأمر بعض من يأتيه به، فلما دخل على أبي جعفر (عليه السلام) . قال له: «مرحباً، كيف رأيت ما أنت فيه اليوم مما كنت فيه

ص: 66


1- أي بغسل يكون كغسل الجنابة في الكيفية.

قبل؟». فقال: يا ابن رسول اللّه لم أكن في شيء. فقال: «صدقت أما إن عبادتك يومئذٍ كانت أخف عليك من عبادتك اليوم؛ لأن الحق ثقيل، والشيطان موكل بشيعتنا، لأن سائر الناس قد كفوه أنفسهم. إني سأخبرك بما قال لك ابن قيس الماصر قبل أن تسألني عنه، وأصير الأمر في تعريفه إياه إليك، إن شئت أخبرته، وإن شئت لم تخبره. إن اللّه تعالى خلق خلاقين، فإذا أراد أن يخلق خلقاً أمرهم، فأخذوا من التربة التي قال في كتابه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}(1)، فعجن النطفة بتلك التربة التي يخلق منها، بعد أن أسكنها الرحم أربعين ليلةً، فإذا تمت لها أربعة أشهر. قالوا: يا رب، نخلق ماذا؟. فيأمرهم بما يريد من ذكر أو أنثى، أبيض أو أسود. فإذا خرجت الروح من البدن، خرجت هذه النطفة بعينها منه، كائناً ما كان، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى؛ فلذلك يغسل الميت غسل الجنابة». فقال الرجل: يا ابن رسول اللّه، لا واللّهِ ما أخبر ابن قيس الماصر بهذا أبداً. فقال: «ذلك إليك»(2).

أقول: يغسل غسل الجنابة، أي كغسل الجنابة، وهي أغسال الميت المفروضة، فإنها كغسل الجنابة في الكيفية إجمالاً.

المسح على الخفين

عن قيس بن الربيع، قال: سألت أبا إسحاق عن المسح. فقال: أدركت الناس يمسحون، حتى لقيت رجلاً من بني هاشم لم أر مثله قط، محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) ، فسألته عن المسح على الخفين، فنهاني عنه. وقال: «لم يكن

ص: 67


1- سورة طه: 55.
2- الكافي: ج3 ص161-163، كتاب الجنائز، باب العلة في غسل الميت غسل الجنابة، ح1.

أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يمسح عليها، وكان يقول: سبق الكتاب المسح على الخفين».

قال أبو إسحاق: فما مسحت منذ نهاني عنه. قال قيس بن الربيع: وما مسحت أنا منذ سمعت أبا إسحاق(1).

من آداب الصلاة

عن عبد اللّه بن عطاء، قال - في حديث -: سار الإمام الباقر (عليه السلام) وسرت، حتى إذا بلغنا موضعاً آخر، قلت له: الصلاة جعلت فداك. فقال: «هذا وادي النمل لا يصلى فيه». حتى إذا بلغنا موضعاً آخر، قلت له مثل ذلك. فقال: «هذه الأرض مالحة لا يصلى فيها». قال: حتى نزل هو من قبل نفسه، فقال لي: «صليت أو تصلي سبحتك»(2).

قلت: هذه صلاة يسميها أهل العراق الزوال. فقال: «أما هؤلاء الذين يصلون هم شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهي صلاة الأوابين». فصلى وصليت، الحديث(3).

ص: 69


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص161، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في ذكر فضائل الإمام الباقر (عليه السلام) .
2- السبحة: النافلة.
3- المحاسن: ج2 ص352-353، كتاب السفر، الباب10، ح41.

8

عقائد

اشارة

العقائد الحقة هي التي بينها الأئمة المعصومون (عليهم السلام) ، ومنهم الإمام الباقر (صلوات اللّه عليه).

توحيد اللّه

روي أنه أتى أعرابي أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) . فقال له: هل رأيت اللّه حين عبدته؟. قال (عليه السلام) : «ما كنتُ لأعبد شيئاً لم أره».

قال: فكيف رأيتَه؟. قال (عليه السلام) : «لم تره الأبصار مشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيته، هو اللّه الذي لا إله إلا هو».

قال الأعرابي: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(1).

ص: 70


1- بحار الأنوار: ج75 ص207، تتمة كتاب الروضة، الباب23 من تتمة أبواب المواعظ والحكم، ح66.

9

القرآن والعترة

اشارة

إن الإمام الباقر (عليه السلام) ، وإن كان تحت ضغط شديد من حكومة بني أمية وبني مروان، لكنه تمكن من نشر علوم العترة الطاهرة (عليهم السلام) في: العقائد، والتفسير، والفقه، والأخلاق، والحديث، والتاريخ، وغيرها؛ وذلك لأن حكومة بني أمية كانت في سيرها إلى الزوال، فأتيحت بعض الفرصة في بعض أيام الإمام (عليه السلام) لنشر بعض العلوم.

وإذا لم تكن تلك الضغوط الظالمة على أهل البيت (عليهم السلام) ، وكانت تتاح لهم الفرصة، لملئوا الدنيا بنورهم علماً وفضيلةً وتقوىً، وأمناً وسلاماً وتقدماً ورفاهاً.

الأمر بقراءة القرآن

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «كان أبي (عليه السلام) كثير الذكر... ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا، ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر»(1).

آداب القراءة

عن أبان بن ميمون القداح، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : «اقرأ». قلت: من

ص: 71


1- الكافي: ج2 ص499، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه عز وجل كثيراً، ح1.

أي شيء أقرأ؟. قال: «من السورة التاسعة». قال: فجعلت ألتمسها. فقال: «اقرأ من سورة يونس». فقال قرأت: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}(1). قال: «حسبك».

قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن»(2).

أقول: السورة التاسعة هي سورة التوبة، وسورة يونس هي العاشرة كما في المصحف الشريف، فربما يكون قوله (عليه السلام) : «اقرأ من سورة يونس»، أي بدلاً من التاسعة، وليس تفسيراً لها.

كتاب اللّه المحور

عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : «إذا حدثتكم بشيء فسلوني عن كتاب اللّه عز وجل - ثم قال في حديثه - إن اللّه نهى عن: القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال». فقالوا: يا ابن رسول اللّه، وأين هذا من كتاب اللّه؟. فقال: «إن اللّه عز وجل يقول في كتابه: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}(3) الآية، وقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا}(4)، وقال: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(5)»(6).

ص: 71


1- سورة يونس: 26.
2- بحار الأنوار: ج46 ص302-303، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح49.
3- سورة النساء: 114.
4- سورة النساء: 5.
5- سورة المائدة: 101.
6- تهذيب الأحكام: ج7 ص231-232، كتاب التجارات، الباب21، ح30.

تفسير النعيم

عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فدعا بالغداء، فأكلت معه طعاماً، ما أكلت طعاماً قط أنظف منه ولا أطيب، فلما فرغنا من الطعام. قال: «يا أبا خالد، كيف رأيت طعامك - أو قال - طعامنا؟». قلت: جعلت فداك، ما رأيت أطيب منه قط ولا أنظف، ولكني ذكرت الآية في كتاب اللّه عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(1). فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «إنما تسألون عما أنتم عليه من الحق»(2).

إلينا دون غيرنا

عن حمزة بن الطيار، عن أبيه محمد، قال: جئت إلى باب أبي جعفر (عليه السلام) أستأذن عليه، فلم يأذن لي، فأذن لغيري. فرجعت إلى منزلي وأنا مغموم، فطرحت نفسي على سرير في الدار، وذهب عني النوم، فجعلت أفكر وأقول: أ ليس المرجئة تقول كذا، والقدرية تقول كذا، والحرورية تقول كذا، والزيدية تقول كذا، فنفند عليهم قولهم. فأنا أفكر في هذا، حتى نادى المنادي، فإذا الباب يدق. فقلت: من هذا؟. فقال: رسول لأبي جعفر (عليه السلام) ، يقول لك أبو جعفر (عليه السلام) : أجب.

فأخذت ثيابي عليَّ ومضيت معه، فدخلت عليه، فلما رآني. قال: «يا محمد، لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى الحرورية، ولا إلى الزيدية، ولكن إلينا. إنما حجبتك لكذا وكذا». فقبلت وقلت به(3).

ص: 71


1- سورة التكاثر: 8.
2- المحاسن: ج2 ص399-400، كتاب المآكل، الباب6، ح82.
3- بحار الأنوار: ج46 ص271، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح74.

نحن المخاطبون بالقرآن

في حديث قال أبو جعفر (عليه السلام) لقتادة: «ويحك - يا قتادة - إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت. وإن كنت قد أخذته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت... فنحن واللّهِ دعوة إبراهيم (صلى اللّه عليه) التي من هوانا قلبه، قبلت حجته وإلا فلا. يا قتادة، فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة... ويحك - يا قتادة - إنما يعرف القرآن من خوطب به»(1).

ص: 73


1- الكافي: ج8 ص311-312، كتاب الروضة، حديث الفقهاء والعلماء، ح485.

10

ولائيات

نحن حجج اللّه

روي عن الأسود بن سعيد، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) . فقال ابتداءً من غير أن أسأله: «نحن حجة اللّه، ونحن وجه اللّه، ونحن عين اللّه في خلقه، ونحن ولاة أمر اللّه في عباده - ثم قال - إن بيننا وبين كل أرض تراً مثل تر البناء، فإذا أمرنا في الأرض بأمر، أخذنا ذلك التر، فأقبلت إلينا الأرض بكليتها وأسواقها وكورها، حتى ننفذ فيها من أمر اللّه ما أمر. إن الريح كما كانت مسخرةً لسليمان (عليه السلام) ، فقد سخرها اللّه لمحمد وآله»(1).

لم يهتدوا بغيرنا

كان الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: «بلية الناس علينا عظيمة. إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا». وكان (عليه السلام) يقول: «ما ينقم الناس منا، نحن أهل بيت الرحمة، وشجرة النبوة، ومعدن الحكمة، وموضع الملائكة، ومهبط الوحي»(2).

ص: 71


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص287-288، الباب6، ح21.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص167-168، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، شذرات من كلمات الإمام الباقر (عليه السلام) .

شيعتنا معنا

قال أبو بصير: قال لي مولاي أبو جعفر (عليه السلام) : «إذا رجعت إلى الكوفة يولد لك ولد وتسميه عيسى، ويولد لك ولد وتسميه محمداً، وهما من شيعتنا، واسمهما في صحيفتنا وما يولدون إلى يوم القيامة». قال: فقلت: وشيعتكم معكم؟. قال: «نعم، إذا خافوا اللّه واتقوه وأطاعوه»(1).

أشفع لك يا جابر

عن هشام بن سالم، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن لأبي مناقب ليست لأحد من آبائي. إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لجابر بن عبد اللّه: إنك تدرك محمداً ابني فأقرئه مني السلام. فأتى جابر علي بن الحسين (عليه السلام) فطلبه منه. فقال: نرسل إليه فندعوه لك من الكتَّاب. فقال جابر: أذهبُ إليه. فأتاه فأقرأه السلام من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقبَّل رأسه والتزمه. فقال (عليه السلام) : وعلى جدي السلام وعليك يا جابر - قال - فسأله جابر أن يضمن له الشفاعة يوم القيامة. فقال له: أفعلُ ذلك يا جابر»(2).

الحق ثقيل

قال الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث: «الحق ثقيل والشيطان موكل بشيعتنا؛ لأن سائر الناس قد كفوه أنفسهم»(3).

منزلتنا عند اللّه

قال الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث: «ويحك - يا جابر - إنا من اللّه تعالى بمكان

ص: 74


1- مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين (عليه السلام) : ص141، فصل علم آل محمد للغيب، الفصل 7.
2- الاختصاص: ص62، حديث جابر بن عبد اللّه الأنصاري مع الإمام الباقر (عليه السلام) .
3- الكافي: ج3 ص162، كتاب الجنائز، باب العلة في غسل الميت غسل الجنابة، ح1.

ومنزلة رفيعة، فلولا نحن لم يخلق اللّه تعالى سماءً ولا أرضاً، ولا جنةً ولا ناراً، ولا شمساً ولا قمراً، ولا جناً ولا إنساً.

ويحك يا جابر، لا يقاس بنا أحد. يا جابر، بنا واللّه أنقذكم اللّه، وبنا نعشكم، وبنا هداكم. ونحن واللّهِ دللنا لكم على ربكم، فقفوا عند أمرنا ونهينا، ولا تردوا علينا ما أوردنا عليكم، فإنا بنعم اللّه أجل وأعظم من أن يرد علينا، وجميع ما يرد عليكم منا، فما فهمتموه فاحمدوا اللّه عليه، وما جهلتموه فردوه إلينا، وقولوا: أئمتنا أعلم بما قالوا»(1).

الحجيج والضجيج

قال أبو بصير للباقر (عليه السلام) : ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج!. فقال: «بل ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج. أ تحب أن تعلم صدق ما أقوله وتراه عياناً». فمسح يده على عينيه، ودعا بدعوات فعاد بصيراً، فقال: «انظر يا أبا بصير إلى الحجيج».

قال: فنظرت، فإذا أكثر الناس قردة وخنازير، والمؤمن بينهم مثل الكوكب اللامع في الظلماء. فقال أبو بصير: صدقت - يا مولاي - ما أقل الحجيج وأكثر الضجيج.

ثم دعا (عليه السلام) بدعوات فعاد ضريراً. فقال أبو بصير في ذلك، فقال (عليه السلام) : «ما بخلنا عليك يا أبا بصير، وإن كان اللّه تعالى ما ظلمك وإنما خار لك، وخشينا فتنة الناس بنا، وأن يجهلوا فضل اللّه علينا، ويجعلونا أرباباً من دون اللّه، ونحن له

ص: 75


1- بحار الأنوار: ج46 ص277-278، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح80.

عبيد لا نستكبر عن عبادته، ولا نسأم من طاعته، ونحن له مسلمون»(1).

الأمر أعظم من ذلك

عن مالك الجهني، قال: كنت قاعداً عند أبي جعفر (عليه السلام) ، فنظرت إليه وجعلت أفكر في نفسي وأقول: لقد عظَّمك اللّه وكرَّمك، وجعلك حجةً على خلقه. فالتفت إليَّ وقال: «يا مالك، الأمر أعظم مما تذهب إليه»(2).

كلام يمنع النار

عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: كنا عنده وعنده حمران، إذ دخل عليه مولًى له. فقال له: جعلت فداك، هذا عكرمة في الموت. وكان يرى رأي الخوارج، وكان منقطعاً إلى أبي جعفر (عليه السلام) .

فقال لنا أبو جعفر (عليه السلام) : «أنظروني حتى أرجع إليكم». فقلنا: نعم. فما لبث أن رجع فقال: «أما إني لو أدركت عكرمة قبل أن تقع النفس موقعها، لعلمته كلمات ينتفع بها، ولكني أدركته وقد وقعت النفس موقعها». فقلت: جعلت فداك، وما ذلك الكلام؟. فقال: «هو واللّهِ ما أنتم عليه، فلقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا اللّه والولاية»(3).

وفي رواية عن أبي بكر الحضرمي، قال: قيل لأبي جعفر (عليه السلام) : إن عكرمة مولى ابن عباس قد حضرته الوفاة، قال: فانتقل، ثم قال:

«إن أدركته علمته كلاماً لم يطعمه النار». فدخل عليه داخل، فقال: قد

ص: 76


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص184، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص140، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
3- الكافي: ج3 ص123، كتاب الجنائز، باب تلقين الميت، ح5.

هلك، الحديث(1).

مع الملائكة

عن أبي الهذيل، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : «يا أبا الهذيل، إنه لا تخفى علينا ليلة القدر. إن الملائكة يطيفون بنا فيها»(2).

وفي الأظلة

قالت حبابة الوالبية للإمام الباقر (عليه السلام) : بالذي أخذ ميثاقك على النبيين، أي شي ء كنتم في الأظلة؟. فقال: «يا حبابة، نوراً قبل أن يخلق اللّه آدم (عليه السلام) ، نسبح اللّه، فسبحت الملائكة بتسبيحنا، ولم تكن قبل ذلك، فلما خلق اللّه تعالى آدم (عليه السلام) ، أجرى ذلك النور فيه»(3).

بصيرة أبي بصير

عن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أنا مولاك ومن شيعتك، ضعيف ضرير، فاضمن لي الجنة. قال: «أ و لا أعطيك علامة الأئمة». قلت: وما عليك أن تجمعها لي. قال: «وتحب ذلك؟». قلت: وكيف لا أحب، فما زاد أن مسح على بصري، فأبصرت جميع الأئمة عنده في السقيفة التي كان فيها جالساً.

قال (عليه السلام) : «يا أبا محمد، مد بصرك فانظر ماذا ترى بعينك». قال: فو اللّه ما

ص: 77


1- بحار الأنوار: ج46 ص328، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح7.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص140، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
3- عيون المعجزات: ص77، إمامة الباقر محمد (عليه السلام) ، ومن دلائله و براهينه، كرامة للباقر مع حبابة الوالبية.

أبصرت إلا كلباً، أو خنزيراً، أو قرداً. قلت: ما هذا الخلق الممسوخ!. قال: «هذا الذي ترى هو السواد الأعظم، ولو كشف للناس ما نظر الشيعة إلى من خالفهم إلا في هذه الصورة».

ثم قال (عليه السلام) : «يا أبا محمد، إن أحببت تركتك على حالك هذا، وإن أحببت ضمنت لك على اللّه الجنة، ورددتك إلى حالك الأول». قلت: لا حاجة لي في النظر إلى هذا الخلق المنكوس، ردني ردني إلى حالتي، فما للجنة عوض. فمسح (عليه السلام) يده على عيني، فرجعت كما كنت(1).

دفاعاً عن أمير المؤمنين

عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «لما أشخص أبي، محمد بن علي (عليه السلام) إلى دمشق. سمع الناس يقولون: هذا ابن أبي تراب - قال - فأسند ظهره إلى جدار القبلة، ثم حمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم قال:

اجتنبوا أهل الشقاق وذرية النفاق، وحشو النار وحصب جهنم، عن البدر الزاهر والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، {قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}(2)، أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، {وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا}(3)».

ثم قال (عليه السلام) بعد كلام: «أ بصنو رسول اللّه تستهزءون، أم بيعسوب الدين تلمزون، وأي سبيل بعده تسلكون، وأي حزن بعده تدفعون، هيهات هيهات

ص: 78


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص821-822، الباب16، فصل في أغرب معجزات الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ، ح35.
2- سورة النساء: 47.
3- سورة النساء: 47.

برز واللّه بالسبق، وفاز بالخصل، واستوى على الغاية، وأحرز الخطار، فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذَّب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، ف- {أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}(1)، وقال:

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم***من اللوم أو سدوا مكان الذي سدّوا

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البناء***وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

فأنى يسد ثلمة أخي رسول اللّه إذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا، ونديده إذ فشلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعى لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا، والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع لأسرار ساعة الوداع»، إلى آخر كلامه (عليه السلام) (2).

إني أحبكم لله

عن الحكم بن عتيبة، قال: بينا أنا مع أبي جعفر (عليه السلام) والبيت غاص بأهله، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة له، حتى وقف على باب البيت. فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته، ثم سكت.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته». ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت، وقال: السلام عليكم. ثم سكت، حتى أجابه القوم جميعاً وردوا عليه السلام.

ص: 79


1- سورة سبأ: 52.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص203-204، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .

ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر (عليه السلام) ، ثم قال: يا ابن رسول اللّه، أدنني منك جعلني اللّه فداك. فو اللّهِ إني لأحبكم وأحب من يحبكم. وواللّهِ ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه. وواللّهِ ما أبغضه وأبرأ منه لوتر كان بيني وبينه. واللّهِ إني لأحل حلالكم، وأحرم حرامكم، وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني اللّه فداك.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «إليَّ إليَّ». حتى أقعده إلى جنبه، ثم قال: «أيها الشيخ، إن أبي، علي بن الحسين (عليه السلام) أتاه رجل، فسأله عن مثل الذي سألتني عنه. فقال له أبي (عليه السلام) : إن تمت ترد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعلى علي، والحسن، والحسين، وعلى علي بن الحسين (عليهم السلام) ، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين، لو قد بلغت نفسك هاهنا - وأهوى بيده إلى حلقه - وإن تعش ترى ما يقر اللّه به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى».

قال الشيخ: قلت: كيف يا أبا جعفر؟!. فأعاد (عليه السلام) عليه الكلام. فقال الشيخ: اللّه أكبر يا أبا جعفر! إن أنا مت أرد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعلى علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين (عليهم السلام) ، وتقر عيني، ويثلج قلبي، ويبرد فؤادي، وأستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين، لو قد بلغت نفسي هاهنا. وإن أعش أرى ما يقر اللّه به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى. ثم أقبل الشيخ ينتحب ينشج ها ها ها حتى لصق بالأرض، وأقبل أهل البيت ينتحبون وينشجون، لما يرون من حال الشيخ. وأقبل أبو جعفر (عليه السلام) يمسح بإصبعه الدموع من حماليق عينيه وينفضها. ثم رفع الشيخ رأسه، فقال لأبي جعفر (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه، ناولني يدك جعلني اللّه فداك. فناوله يده فقبلها، ووضعها على

ص: 80

عينيه وخده، ثم حسر عن بطنه وصدره، فوضع يده على بطنه وصدره، ثم قام فقال: السلام عليكم.

وأقبل أبو جعفر (عليه السلام) ينظر في قفاه وهو مدبر، ثم أقبل بوجهه على القوم فقال: «من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا». فقال الحكم بن عتيبة: لم أر مأتماً قط يشبه ذلك المجلس(1).

ص: 81


1- الكافي: ج8 ص76-77، كتاب الروضة، حديث الشيخ مع الباقر (عليه السلام) ، ح30.

11

كرامات و معاجز

اشارة

صدر عن الإمام الباقر (عليه السلام) كثيراً من الكرامات والمعجزات، وقد روى عدداً منها العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في البحار، وغيره في غيره، وفيها ما يرتبط بالتصرف في الكون، والإخبار عن المغيبات، واستجابة الدعاء، وشفاء المرضى، وغيرها، نشير إلى بعضها:

إبصار المكفوف

روي عن أبي بصير، قال: قلت يوماً للباقر (عليه السلام) : أنتم ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟. قال (عليه السلام) : «نعم». قلت: ورسول اللّه وارث الأنبياء كلهم؟. قال: «نعم، ورث جميع علومهم». قلت: وأنتم ورثتم جميع علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟. قال: «نعم».

قلت: وأنتم تقدرون أن تحيوا الموتى، وتبرءوا الأكمه والأبرص، وتخبروا الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؟. قال (عليه السلام) : «نعم، بإذن اللّه».

ثم قال (عليه السلام) : «ادن مني يا أبا بصير»(1).

فدنوت منه، فمسح (عليه السلام) يده على وجهي، فأبصرت السهل والجبل والسماء والأرض. ثم مسح يده على وجهي، فعدت كما كنت لا أبصر شيئاً - قال - ثم قال لي الباقر (عليه السلام) : «إن أحببت أن تكون

ص: 82


1- وكان أبو بصير مكفوفاً.

هكذا كما أبصرت وحسابك على اللّه، وإن أحببت أن تكون كما كنت وثوابك الجنة». فقلت: «كما كنت، والجنة أحب إليَّ»(1).

ما رأيت مثل هذا الرمي

روي أنه حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنةً من السنين، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ، وابنه جعفر بن محمد (عليه السلام) . فقال جعفر بن محمد (عليه السلام) في بعض كلامه: «الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبياً وأكرمنا به، فنحن صفوة اللّه على خلقه، وخيرته من عباده وخلفاؤه، فالسعيد من اتبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا - ثم قال - فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا، حتى انصرف إلى دمشق، وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه. فأشخصنا، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً، ثم أذن لنا في اليوم الرابع. فدخلنا، وإذا قد قعد على سرير الملك، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطان متسلحان، وقد نصب البرجاس حذاه، وأشياخ قومه يرمون. فلما دخلنا وأبي أمامي وأنا خلفه. فنادى أبي وقال: يا محمد، ارم مع أشياخ قومك الغرض.

فقال (عليه السلام) له: إني قد كبرت عن الرمي، فهل رأيت أن تعفيني.

فقال: وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا أعفيك.

ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ، ثم تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس، ثم انتزع ورمى وسط

ص: 83


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص142-143، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.

الغرض فنصبه فيه، ثم رمى فيه الثانية، فشق فواق سهمه إلى نصله. ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك إلا أن قال: أجدت - يا أبا جعفر - وأنت أرمى العرب والعجم، هلا زعمت أنك كبرت عن الرمي.

ثم أدركته ندامة على ما قال، وكان هشام لم يكن كنى أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته، فهم به وأطرق إلى الأرض إطراقةً يتروى فيها، وأنا وأبي واقف حذاه مواجهين له، فلما طال وقوفنا، غضب أبي فهم به، وكان أبي (عليه السلام) إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان، يرى الناظر الغضب في وجهه. فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي، قال له: إليَّ يا محمد. فصعد أبي إلى السرير وأنا أتبعه، فلما دنا من هشام، قام إليه واعتنقه، وأقعده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه. فقال له: يا محمد، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك. لله درك مَن عَلَّمك هذا الرمي، وفي كم تعلمته!.

فقال أبي (عليه السلام) : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه، فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته، فلما أراد الأمير مني ذلك عدت فيه.

فقال له: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي، أ يرمي جعفر مثل رميك؟. فقال: إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا}(1)، والأرض لا تخلو ممن

ص: 84


1- سورة المائدة: 3.

يكمل هذه الأمور التي يقصر غيرنا عنها»، الحديث(1).

على جبل مدين

في رواية: لما ورد الإمام الباقر ومعه الإمام الصادق (عليهما السلام) إلى أبواب مدين، وكان عامل هشام بن عبد الملك قد حذر الناس من التعامل مع الإمامين، وقال: إنهما قد خرجا عن الدين وكفرا. فسدَّ الناس أبواب المدينة عليهما، وأخذوا بسبهما وشتمهما والعياذ باللّه، ونصحهم الإمام الباقر (عليه السلام) ، فلم يؤثر ذلك.

قال الصادق (عليه السلام) : «فثنَّى أبي (عليه السلام) رجله عن سرجه ثم قال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح. ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده، ثم وضع إصبعيه في أذنيه، ثم نادى بأعلى صوته: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} إلى قوله: {بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(2)، نحن واللّه بقية اللّه في أرضه.

فأمر اللّه ريحاً سوداء مظلمة، فهبت واحتملت صوت أبي، فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح، وأبي مشرف عليهم. وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن، فنظر إلى أبي على الجبل، فنادى بأعلى صوته: اتقوا اللّه يا أهل مدين؛ فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب (عليه السلام) حين دعا على قومه، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه، جاءكم من اللّه العذاب؛ فإني أخاف عليكم، وقد أعذر من أنذر.

ص: 85


1- دلائل الإمامة: ص233-235، أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام) ، ذكر معجزاته (عليه السلام) ، ح162.
2- سورة هود: 84-86.

ففزعوا، وفتحوا الباب وأنزلونا. وكتب بجميع ذلك إلى هشام، فارتحلنا في اليوم الثاني. فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله (رحمة اللّه عليه وصلواته)، وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء»(1).

سؤالان

ولا يخفى أن من هذه القصة وشبهها ينقدح سؤالان، حول إعجاز الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام).

الأول: كيف كانت تجري المعاجز على أيديهم (صلوات اللّه عليهم)؟.

الثاني: لماذا كانت هذه المعاجز في الأمور الجزئية والشخصية وغير المهمة عادة، ولم تجرِ المعاجز في الأمور المهمة المصيرية، كهلاك الطغاة، وتسخير قلوب الناس على الهداية. فإذا كان الإمام الباقر (عليه السلام) يقتل هشاماً بالمعجزة، ويتصرف في قلوب أهل الشام ليؤمنوا به ويتولوه، كان أهم من المعجزة التي حصلت في أهل مدين والمعاجز الأخرى في الأمور الشخصية، كشفاء مريض وما أشبه؟.

وكذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذا كان يتصرف في قلوب الكفار ليؤمنوا، كان أهم من معجزة شق القمر؟.

الجواب عن الأول

إن اللّه (عز وجل وجلت آلاؤه) يقوم بالمعاجز في الكون دائماً، لكن لكثرتها أصبحت كالطبيعية ولا توجب الانتباه، فهل هذا الخلق العجيب لا يشتمل على الملايين من المعاجز، فإن خلق كل فرد من البشر هو ملايين من المعاجز، وكذلك

ص: 86


1- دلائل الإمامة: ص241، أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام) ، ذكر معجزاته (عليه السلام) ، ح162.

إحياء الأشجار والأزهار والنباتات بهذه الكيفية، أ ليست الملايين بل المليارات، بل أكثر من ذلك من المعاجز.

نعم، إعجاز الأنبياء والأئمة بما لم يكن طبيعياً عند الناس، ولم يألفوا ذلك، كانوا يحسون به، كمعجزة عصا موسى (عليه السلام) ، وإحياء الموتى علي يد النبي عيسى (عليه السلام) ، أو شق القمر بأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكانت توجب الانتباه حتى تكون سبباً لهداية الناس باختيارهم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}(1).

إذن المعاجز هي كثيرة في هذا الكون، وتتكرر باستمرار من قبل اللّه تعالى.

الجواب عن الثاني

إن الإعجاز لو كان في كل ما يرتبط بهداية الناس وتبليغ الرسالة، وكان الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) في كل صغيرة وكبيرة يتعاملون معها بالإعجاز، لخرجت الدنيا عن كونها دار امتحان، وعن كون البشر مختاراً، فبمعجزة واحدة كان يمكن التصرف في جميع القلوب لتؤمن باللّه وبأنبيائه ورسله، فأين الامتحان والاختبار؟.

واختيار البشر في اتخاذ السبيل دليل الثواب والعقاب، والحسن والقبح، والجنة والنار، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(2).

أما أنه لماذا لم يقم الأنبياء (عليهم السلام) بالإعجاز في الأمور المهمة، كالحرب مع الأعداء والقضاء على الكفار، واقتصروا على الإعجاز في بعض الأمور الأقل أهمية في إثبات دعواهم الرسالة، وأنهم مبعوثون من قبل اللّه عزوجل، فجوابه

ص: 87


1- سورة الأنفال: 42.
2- سورة الإنسان: 3.

يتضح مما سبق.

مضافاً إلى أن الإعجاز هو من اللّه عز وجل، فمعجزة الأنبياء (عليهم السلام) دليل على أنهم مبعوثون من قبله تعالى؛ ليعرف الناس من كان نبياً حقاً، ومن ادعى النبوة كذباً.

كما أن المعاجز للأنبياء توجب أن يؤمن بهم الطيبون باختيارهم، ويخالفهم المعاندون باختيارهم أيضاً، فيستحق المؤمن الثواب والكافر العقاب، كما فصل هذا البحث في كتب علم الكلام.

إني ميت يوم كذا وكذا

عن سدير، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن أبي مرض مرضاً شديداً حتى خفنا عليه، فبكى بعض أهله عند رأسه، فنظر إليه فقال: إني لست بميت من وجعي هذا. إنه أتاني اثنان فأخبراني أني لست بميت من وجعي هذا - قال - فبرأ ومكث ما شاء اللّه أن يمكث، فبينا هو صحيح ليس به بأس. قال: يا بني، إن اللذين أتياني من وجعي ذلك أتياني، فأخبراني أني ميت يوم كذا وكذا - قال - فمات في ذلك اليوم»(1).

إني لست بميت من هذا الوجع

روي عن أبي بصير، قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: «إن أبي مرض مرضاً شديداً حتى خفنا عليه، فبكى عند رأسه بعض أصحابه، فنظر إليه وقال: إني لست بميت في وجعي هذا - قال - فبرأ ومكث ما شاء اللّه من السنين، فبينما هو

ص: 88


1- بحار الأنوار: ج46 ص213، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح3.

صحيح ليس به بأس فقال: يا بني، إني ميت يوم كذا. فمات في ذلك اليوم»(1).

وكان سبب وفاته (عليه السلام) السم الذي دسه هشام بن عبد الملك.

الباقي من حياتي

عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن أبي قال ذات يوم: إنما بقي من أجلي خمس سنين. فحسبت فما زاد ولا نقص»(2).

منطق الطير

عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إنا علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء»(3).

العبرانية

في رواية عن موسى بن أكيل النميري، قال: جئنا إلى باب دار أبي جعفر (عليه السلام) نستأذن عليه، فسمعنا صوتاً حزيناً يقرأ بالعبرانية، فدخلنا عليه وسألنا عن قارئه، فقال: «ذكرت مناجاة إيليا، فبكيت من ذلك»(4).

احترقت دارك!

عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «كنت مع أبي وبيننا قوم من الأنصار، إذ أتاه آت فقال له: ألحق فقد احترقت دارك. فقال (عليه السلام) : يا بني، ما احترقت. فذهب ثم لم يلبث أن عاد فقال: واللّهِ احترقت دارك. فقال: يا بني، واللّهِ ما احترقت. فذهب

ص: 89


1- بحار الأنوار: ج46 ص256، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح56.
2- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص504، الركن الثالث، الباب4، الفصل3.
3- بحار الأنوار: ج46 ص294، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح25.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص195، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .

ثم لم يلبث أن عاد، ومعه جماعة من أهلنا وموالينا يبكون ويقولون: قد احترقت دارك. فقال: كلا واللّهِ ما احترقت، ولا كَذبت ولا كُذبت، وأنا أوثق بما في يدي منكم، ومما أبصرت أعينكم. وقام أبي وقمت معه، حتى انتهوا إلى منازلنا، والنار مشتعلة عن أيمان منازلنا وعن شمائلها، ومن كل جانب منها، ثم عدل إلى المسجد، فخر ساجداً وقال في سجوده: وعزتك وجلالك، لا رفعت رأسي من سجودي أو تطفئها.

قال: فو اللّهِ ما رفع رأسه حتى طفئت، واحترق ما حولها، وسلمت منازلنا - ثم ذكر (عليه السلام) - أن ذلك لدعاء كان قرأه (عليه السلام) »(1).

مع حبابة الوالبية

روي أن حبابة الوالبية (رحمها اللّه) بقيت إلى إمامة أبي جعفر (عليه السلام) ، فدخلت عليه، فقال: «ما الذي أبطأ بكِ يا حبابة؟». قالت: كبر سني، وابيض رأسي، وكثرت همومي. فقال (عليه السلام) : «ادني مني». فدنت منه، فوضع يده (عليه السلام) على مفرق رأسها، ودعا لها بكلام لم نفهمه، فاسود شعر رأسها وعاد حالكاً، وصارت شابةً، فسرت بذلك وسر أبو جعفر (عليه السلام) لسرورها(2).

وعن علي بن معبد - يرفعه - قال: دخلت حبابة الوالبية على أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) . قال: «يا حبابة، ما الذي أبطأكِ؟». قالت: قلت: بياض عرض في مفرق رأسي، كثرت له همومي. فقال: «يا حبابة، أدنينيه». قالت: فدنوت منه،

ص: 90


1- بحار الأنوار: ج46 ص285-286، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح89.
2- عيون المعجزات: ص77، إمامة الباقر محمد (عليه السلام) ، ومن دلائله و براهينه، كرامة للباقر مع حبابة الوالبية.

فوضع يده في مفرق رأسي، ثم قال: «ائتوا لها بالمرآة». فأتيت بالمرآة، فنظرت فإذا شعر مفرق رأسي قد اسود، فسررت بذلك، وسر أبو جعفر (عليه السلام) بسروري(1).

الجن في خدمتهم

عن سدير الصيرفي، قال: أوصاني أبو جعفر (عليه السلام) بحوائج له بالمدينة - قال - فبينا أنا في فخ الروحاء على راحلتي، إذا إنسان يلوي بثوبه - قال - فملت إليه، وظننت أنه عطشان، فناولته الإداوة - قال - فقال: لا حاجة لي بها.

ثم ناولني كتاباً طينه رطب - قال - فلما نظرت إلى ختمه، إذا هو خاتم أبي جعفر (عليه السلام) . فقلت له: متى عهدك بصاحب الكتاب؟. قال: الساعة. قال: فإذا فيه أشياء يأمرني بها - قال - ثم التفت فإذا ليس عندي أحد - قال - فقدم أبو جعفر (عليه السلام) فلقيته. فقلت له: جعلت فداك، رجل أتاني بكتابك وطينه رطب. قال: «إذا عجَّل بنا أمر أرسلت بعضهم»، يعني الجن(2).

وفي رواية: قال (عليه السلام) : «يا سدير، إن لنا خدماً من الجن، فإذا أردنا السرعة بعثناهم»(3).

مع الجان الطائف

روى أبو حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إني لفي عمرة اعتمرتها، فأنا في الحجر جالس، إذ نظرت إلى جان قد أقبل من ناحية المشرق، حتى دنا من الحجر الأسود. فأقبلت ببصري نحوه، فوقف طويلاً ثم طاف بالبيت أسبوعاً، ثم بدأ

ص: 91


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص270، الباب3، ح3.
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص853-854، الباب16، فصل في أغرب معجزات الأئمة (عليهم السلام) ، ح68.
3- الكافي: ج1 ص395، كتاب الحجة، باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم، ح4.

بالمقام، فقام على ذنبه فصلى ركعتين، وذلك عند زوال الشمس. فبصر به عطاء وأناس معه، فأتوني فقالوا: يا أبا جعفر، ما رأيت هذا الجان؟. فقلت: قد رأيته وما صنع - ثم قلت لهم - انطلقوا إليه وقولوا له: يقول لك محمد بن علي إن البيت يحضره أعبد وسودان، فهذه ساعة خلوته منهم، وقد قضيت نسكك، ونحن نتخوف عليك منهم، فلو خففت وانطلقت قبل أن يأتوا - قال - فكوَّم كومةً من بطحاء المسجد، ثم وضع ذنبه عليها، ثم مثل في الهواء»(1).

إخوانكم الجن

عن سعد الإسكاف، قال: طلبت الإذن على أبي جعفر (عليه السلام) . فقيل لي: لا تعجل؛ إن عنده قوماً من إخوانكم.

فما لبثت أن خرج عليَّ اثنا عشر رجلاً يشبهون الزط، وعليهم أقبية ضيقات، وبتوت وخفاف، فسلموا ومروا. فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، فقلت له: ما أعرف هؤلاء الذين خرجوا من عندك من هم؟. قال: «هؤلاء قوم من إخوانكم الجن». قال: قلت: ويظهرون لكم؟. فقال: «نعم، يغدون علينا في حلالهم وحرامهم كما تغدون»(2).

عذاب معاوية في البرزخ

عن مالك بن عطية، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كنت أسير مع أبي (عليه السلام) في طريق مكة، ونحن على ناقتين. فلما صرنا بوادي ضجنان، خرج علينا رجل في

ص: 92


1- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج1 ص204-205، مجلس في ذكر إمامة أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ومناقبه.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص138، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.

عنقه سلسلة يسحبها. فقال: يا ابن رسول اللّه، اسقني سقاك اللّه. فتبعه رجل آخر، فاجتذب السلسلة. وقال: يا ابن رسول اللّه، لا تسقه لا سقاه اللّه. فالتفت إليَّ أبي فقال: يا جعفر، عرفت هذا، هذا معاوية (لعنه اللّه)»(1).

زلزلة المدينة

عن جابر، قال: لما أفضت الخلافة إلى بني أمية، سفكوا في أيامهم الدم الحرام، ولعنوا أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) على منابرهم ألف شهر، واغتالوا شيعته في البلدان، وقتلوهم واستأصلوا شأفتهم، ومالأتهم على ذلك علماء السوء؛ رغبةً في حطام الدنيا، وصارت محنتهم على الشيعة لعن أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن لم يلعنه قتلوه. فلما فشا ذلك في الشيعة، وكثر وطال. اشتكت الشيعة إلى زين العابدين (عليه السلام) وقالوا: يا ابن رسول اللّه، أجلونا عن البلدان وأفنونا بالقتل الذريع، وقد أعلنوا لعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في البلدان، وفي مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى منبره، ولا ينكر عليهم منكر، ولا يغير عليهم مغير. فإن أنكر واحد منا على لعنه، قالوا: هذا ترابي، ورفع ذلك إلى سلطانهم، وكتب إليه: أن هذا ذكر أبا تراب بخير. حتى ضرب وحبس، ثم قتل.

فلما سمع (عليه السلام) ، ذلك نظر إلى السماء وقال: «سبحانك ما أعظم شأنك، إنك أمهلت عبادك حتى ظنوا أنك أهملتهم، وهذا كله بعينك، إذ لا يغلب قضاؤك، ولا يرد تدبير محتوم أمرك، فهو كيف شئت وأنى شئت لما أنت أعلم به منا».

ثم دعا بابنه محمد بن علي الباقر (عليه السلام) . فقال: «يا محمد». قال: «لبيك». قال:

ص: 93


1- الاختصاص: ص276-277، أحاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام) ، خزائن الأرض ومفاتيحها للأئمة (عليهم السلام) .

«إذا كان غداً فاغد إلى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وخذ الخيط الذي نزل به جبرئيل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فحركه تحريكاً ليناً، ولا تحركه تحريكاً شديداً؛ فيهلكوا جميعاً».

قال جابر (رضوان اللّه عليه): فبقيت متعجباً من قوله، لا أدري ما أقول. فلما كان من الغد جئته، وكان قد طال عليَّ ليلي حرصاً؛ لأنظر ما يكون من أمر الخيط. فبينما أنا بالباب، إذ خرج (عليه السلام) فسلمت عليه، فرد السلام وقال: «ما غدا بك - يا جابر - ولم تكن تأتينا في هذا الوقت؟.

فقلت له: لقول الإمام (عليه السلام) بالأمس: خذ الخيط الذي أتى به جبرئيل (عليه السلام) ، وصر إلى مسجد جدك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وحرَّكه تحريكاً ليناً، ولا تحركه تحريكاً شديداً؛ فتهلك الناس جميعاً.

قال الباقر (عليه السلام) : «لولا الوقت المعلوم، والأجل المحتوم، والقدر المقدور، لخسفت بهذا الخلق المنكوس في طرفة عين، بل في لحظة، ولكنا عباد مكرمون، لانسبقه بالقول، وبأمره نعمل يا جابر.

قال: فقلت: يا سيدي ومولاي، ولِمَ تفعل بهم هذا؟. فقال لي: «أما حضرت بالأمس، والشيعة تشكو إلى أبي ما يلقون من هؤلاء». فقلت: يا سيدي ومولاي، نعم. فقال: «إنه أمرني أن أرعبهم لعلهم ينتهون، وكنت أحب أن تهلك طائفة منهم، ويطهر اللّه البلاد والعباد منهم».

قال جابر (رضوان اللّه عليه): فقلت: سيدي ومولاي، كيف ترعبهم وهم أكثر من أن يحصوا؟!. فقال الباقر (عليه السلام) : «امض بنا إلى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأريك قدرةً من قدرة اللّه تعالى التي خصنا بها، وما منَّ به علينا من دون الناس». فقال جابر (رضوان اللّه عليه): فمضيت معه إلى المسجد، فصلى (عليه السلام)

ص: 93

ركعتين، ثم وضع خده على التراب، وتكلم بكلام، ثم رفع رأسه، وأخرج من كمه خيطاً دقيقاً، فاحت منه رائحة المسك، فكان في المنظر أدق من سم الخياط، ثم قال لي: «خذ - يا جابر - إليك طرف الخيط، وامض رويداً، وإياك أن تحركه». قال: فأخذت طرف الخيط، ومشيت رويداً. فقال (عليه السلام) : «قف يا جابر». فوقفت، ثم حرك الخيط تحريكاً خفيفاً، ما ظننت أنه حركه من لينه، ثم قال (عليه السلام) : «ناولني طرف الخيط». فناولته وقلت: ما فعلت به يا سيدي؟. قال: «ويحك، اخرج فانظر ما حال الناس». قال جابر (رضوان اللّه عليه): فخرجت من المسجد، وإذا الناس في صياح واحد، والصائحة من كل جانب، فإذا بالمدينة قد زلزلت زلزلةً شديدةً، وأخذتهم الرجفة والهدمة... وإذا الناس في صياح وبكاء وعويل، وهم يقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، خربت دار فلان وخرب أهلها، ورأيت الناس فزعين إلى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهم يقولون: كانت هدمةً عظيمةً، وبعضهم يقول: قد كانت زلزلةً، وبعضهم يقول: كيف لا نخسف، وقد تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وظهر فينا الفسق والفجور، وظلم آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . واللّه ليزلزل بنا أشد من هذا وأعظم، أو نصلح من أنفسنا ما أفسدنا.

قال جابر (رحمه اللّه) : فبقيت متحيراً أنظر إلى الناس حيارى يبكون، فأبكاني بكاؤهم، وهم لا يدرون من أين أتوا. فانصرفت إلى الباقر (عليه السلام) ، وقد حف به الناس في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهم يقولون: يا ابن رسول اللّه، أ ما ترى إلى ما نزل بنا، فادع اللّه لنا. فقال لهم: «افزعوا إلى الصلاة، والدعاء، والصدقة».

ثم أخذ (عليه السلام) بيدي، وسار بي. فقال لي: «ما حال الناس؟». فقلت: لا تسأل يا ابن رسول اللّه، خربت الدور والمساكن، وهلك الناس، ورأيتهم بحال رحمتهم. فقال (عليه السلام) : «لا رحمهم اللّه، أما إنه قد أبقيت عليك بقيةً، ولولا ذلك

ص: 94

لم ترحم أعداؤنا وأعداء أوليائنا - ثم قال - سحقاً سحقاً وبعداً للقوم الظالمين. واللّهِ لولا مخافة مخالفة والدي، لزدت في التحريك وأهلكتهم أجمعين، وجعلت أعلاها أسفلها، فكان لا يبقى فيها دار ولا جدار، فما أنزلونا وأولياءنا من أعدائنا هذه المنزلة غيرهم، ولكني أمرني مولاي أن أحرك تحريكاً ساكناً».

ثم صعد (عليه السلام) المنارة وأنا أراه، والناس لا يرونه، فمد يده وأدارها حول المنارة، فزلزلت المدينة زلزلةً خفيفةً، وتهدمت دور، ثم تلا الباقر (صلوات اللّه عليه): {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}(1)، {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ}(2)، وتلا أيضاً: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}(3)، وتلا: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}(4).

قال جابر: فخرجت العواتق من خدورهن في الزلزلة الثانية، يبكين ويتضرعن منكشفات لا يلتفت إليهن أحد.

فلما نظر الباقر (عليه السلام) إلى تحير العواتق، رق لهن فوضع الخيط في كمه، وسكنت الزلزلة، ثم نزل عن المنارة، والناس لا يرونه، وأخذ بيدي حتى خرجنا من المسجد. فمررنا بحداد اجتمع الناس بباب حانوته، والحداد يقول: أما سمعتم الهمهمة في الهدم!. فقال: بعضهم بل كانت همهمةً كثيرةً، وقال قوم آخرون: بل واللّه كثير إلا أنا لم نقف على الكلام.

قال جابر (رضوان اللّه عليه): فنظر إليَّ الباقر وتبسم. ثم قال: «يا جابر،

ص: 95


1- سورة الأنعام: 146، سورة سبأ: 17.
2- سورة سبأ: 17.
3- سورة هود: 82.
4- سورة النحل: 26.

هذا لما طغوا وبغوا». فقلت: يا ابن رسول اللّه، ما هذا الخيط الذي فيه العجب؟!. فقال: «بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، ونزل به جبرئيل (عليه السلام) »، الحديث(1).

تضحك وأنت من أهل القبور!

روي أن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) دخل المسجد يوماً، فرأى شاباً يضحك في المسجد. فقال له: «تضحك في المسجد، وأنت بعد ثلاثة من أهل القبور». فمات الرجل في أول اليوم الثالث، ودفن في آخره(2).

يولد لك عيسى ومحمد

قال أبو بصير: قال لي مولاي أبو جعفر (عليه السلام) : «إذا رجعت إلى الكوفة، يولد لك ولد وتسميه عيسى، ويولد لك ولد وتسميه محمداً، وهما من شيعتنا، واسمهما في صحيفتنا، وما يولدون إلى يوم القيامة»(3).

من اللّه وإلى اللّه

روى البعض، أنه قال: كنت بين مكة والمدينة، فإذا أنا بشبح يلوح من البرية، يظهر تارةً ويغيب أخرى، حتى قرب مني، فتأملته فإذا هو غلام سباعي أو ثماني، فسلم عليَّ. فرددت عليه وقلت: من أين؟. قال: «من اللّه». فقلت: وإلى أين؟. فقال: «إلى اللّه». قال: فقلت: فعلامَ؟. فقال: «على اللّه». فقلت:

ص: 96


1- بحار الأنوار: ج46 ص274-277، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح80.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج4 ص115، الباب19 الفصل10، ح59.
3- مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين (عليه السلام) : ص141، فصل علم آل محمد للغيب، الفصل 7.

فما زادك؟. قال: «التقوى». فقلت: ممن أنت؟. قال: «أنا رجل عربي». فقلت: أبِن لي؟. قال: «أنا رجل قرشي». فقلت: أبِن لي؟. فقال: «أنا رجل هاشمي». فقلت: أبِن لي؟. فقال: «أنا رجل علوي» ثم أنشد:

فنحن على الحوض ذواده***نذود ويسعد وراده

فما فاز من فاز إلا بنا***وما خاب من حبنا زاده

فمن سرنا نال منا السرور***ومن ساءنا ساء ميلاده

ومن كان غاصبنا حقنا***فيوم القيامة ميعاده

ثم قال: أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب». ثم التفت فلم أره، فلا أعلم هل صعد إلى السماء، أم نزل في الأرض(1).

ستهدم دار هشام

عن يزيد بن حازم، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) ، فمررنا بدار هشام بن عبد الملك وهي تبنى. فقال: «أما واللّهِ لتهدمن، أما واللّهِ لينقلن ترابها من مهدمها، أما واللّهِ لتبدون أحجار الزيت، وإنه لموضع النفس الزكية».

فتعجبت وقلت: دار هشام من يهدمها! فسمعت أذني هذا من أبي جعفر (عليه السلام) - قال - فرأيتها بعدما مات هشام، وقد كتب الوليد في أن يستهدم، وينقل ترابها، فنقل حتى بدت الأحجار، ورأيتها(2).

ص: 97


1- بحار الأنوار: ج46 ص270-271، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح73.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص137، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.

قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : أحجار الزيت موضع بالمدينة، وبها قتل محمد بن عبد اللّه بن الحسن، الملقب بالنفس الزكية(1).

المكفوف وكوة السقف

عن أبي عروة، قال: دخلت مع أبي بصير إلى منزل أبي جعفر (عليه السلام) ، أو أبي عبد اللّه (عليه السلام) - قال - فقال لي: أ ترى في البيت كوةً قريباً من السقف؟. قال: قلت: نعم، وما علمك بها؟!. قال: أرانيها أبو جعفر (عليه السلام) (2).

أقول: كان أبو بصير مكفوفاً لا يرى، وقد أرجع الإمام (عليه السلام) بصره، ثم خيره بين أن يكون بصيراً، أو أجره على اللّه، فاختار الأجر.

ملكوت السماوات والأرض

قال جابر بن يزيد الجعفي: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ}(3)؟. فدفع أبو جعفر (عليه السلام) بيده وقال: «ارفع رأسك». فرفعت، فوجدت السقف متفرقاً، ورمق ناظري في ثلمة، حتى رأيت نوراً حار عنه بصري. فقال: «هكذا رأى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات، وانظر إلى الأرض، ثم ارفع رأسك». فلما رفعته رأيت السقف كما كان.

ثم أخذ (عليه السلام) بيدي، وأخرجني من الدار وألبسني ثوباً. وقال: «غمض عينيك ساعةً - ثم قال - أنت في الظلمات التي رآها ذو القرنين». ففتحت عيني فلم أر

ص: 98


1- بحار الأنوار: ج46 ص269، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، بيان.
2- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص503، الركن الثالث، الباب4، الفصل3.
3- سورة الأنعام: 75.

شيئاً.

ثم تخطى خطًا، وقال: «أنت على رأس عين الحياة للخضر». ثم خرجنا من ذلك العالم، حتى تجاوزنا خمسةً. فقال: «هذه ملكوت الأرض - ثم قال - غمض عينيك». وأخذ بيدي، فإذا نحن في الدار التي كنا فيها، وخلع عني ما كان ألبسنيه. فقلت: جعلت فداك، كم ذهب من اليوم؟. فقال: «ثلاث ساعات»(1).

وفي رواية: عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: سألته عن قول اللّه عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(2)؟. قال: فكنت مطرقاً إلى الأرض، فرفع يده إلى فوق، ثم قال لي: «ارفع رأسك». فرفعت رأسي، فنظرت إلى السقف قد انفجر، حتى خلص بصري إلى نور ساطع، حار بصري دونه - قال - ثم قال لي: «رأى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات والأرض هكذا».

ثم قال لي: «أطرق». فأطرقت، ثم قال لي: «ارفع رأسك». فرفعت رأسي، قال: فإذا السقف على حاله - قال - ثم أخذ بيدي، وقام وأخرجني من البيت الذي كنت فيه، وأدخلني بيتاً آخر، فخلع ثيابه التي كانت عليه، ولبس ثياباً غيرها، ثم قال لي: «غض بصرك». فغضضت بصري، وقال لي: «لا تفتح عينيك». فلبثت ساعة، ثم قال لي: «أ تدري أين أنت؟». قلت: لا، جعلت فداك. فقال لي: «أنت في الظلمة التي سلكها ذو القرنين».

فقلت له: جعلت فداك، أ تأذن لي أن أفتح عيني؟. فقال لي: «افتح، فإنك لا ترى شيئاً». ففتحت عيني، فإذا أنا في ظلمة لا أبصر فيها موضع قدمي. ثم

ص: 99


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص194، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- سورة الأنعام: 75.

سار قليلا ووقف، فقال لي: «هل تدري أين أنت؟». قلت: لا. قال: «أنت واقف على عين الحياة التي شرب منها الخضر (عليه السلام) ».

وخرجنا من ذلك العالم إلى عالم آخر، فسلكنا فيه، فرأينا كهيئة عالمنا في بنائه ومساكنه وأهله، ثم خرجنا إلى عالم ثالث كهيئة الأول والثاني، حتى وردنا خمسة عوالم - قال - ثم قال: «هذه ملكوت الأرض، ولم يرها إبراهيم (عليه السلام) ، وإنما رأى ملكوت السماوات، وهي اثنا عشر عالماً، كل عالم كهيئة ما رأيت، كلما مضى منا إمام سكن أحد هذه العوالم، حتى يكون آخرهم القائم في عالمنا الذي نحن ساكنوه».

قال: ثم قال لي: «غض بصرك». فغضضت بصري، ثم أخذ بيدي، فإذا نحن في البيت الذي خرجنا منه، فنزع تلك الثياب، ولبس الثياب التي كانت عليه، وعدنا إلى مجلسنا. فقلت: جعلت فداك، كم مضى من النهار؟. قال (عليه السلام) : «ثلاث ساعات»(1).

أ تدري ما يقول هذا الوزغ

عبد اللّه بن طلحة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) - في خبر -: «أن أبي (عليه السلام) كان قاعداً في الحجر، ومعه رجل يحدثه، فإذا هو بوزغ يولول بلسانه. فقال أبي للرجل: أ تدري ما يقول هذا الوزغ؟. فقال الرجل: لا علم لي بما يقول. قال: فإنه يقول: واللّهِ لئن ذكرت الثالث، لأسبن علياً حتى تقوم من هاهنا»(2).

ص: 100


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص404-405، الباب13، ح4.
2- الاختصاص: ص301، أحاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام) ، معرفة الأئمة (عليهم السلام) حميع اللغات ومنطق الطير وسائر الحيوانات.

مقتل بني أمية وزوال ملكهم

روي عن الباقر (عليه السلام) ، أنه قال: «أشخصني هشام بن عبد الملك، فدخلت عليه وبنو أمية حوله. فقال لي: ادن يا ترابي. فقلت: من التراب خلقنا وإليه نصير. فلم يزل يدنيني، حتى أجلسني معه. ثم قال: أنت أبو جعفر الذي تقتل بني أمية!. فقلت: لا. قال: فمن ذاك؟. فقلت: ابن عمنا أبو العباس بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس. فنظر إليَّ وقال: واللّهِ ما جربت عليك كذباً - ثم قال - ومتى ذاك؟. قلت: عن سنيات واللّهِ ما هي ببعيدة»، الخبر(1).

وعن جابر الجعفي - مرفوعاً - قال: لا يزال سلطان بني أمية حتى يسقط حائط مسجدنا هذا - يعني مسجد الجعفي - فكان كما أخبر(2).

تسبيح الطير

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) - وسمع عصافير يصحن - قال: «تدري - يا أبا حمزة - ما يقلن؟». قلت: لا. قال: «يسبحن ربي عز وجل، ويسألن قوت يومهن»(3).

إبصار أبي بصير وإرجاعه مكفوفاً

في رواية أبي بصير أن الإمام الباقر (عليه السلام) مسح يده على عينيه، ودعا بدعوات، فعاد بصيراً، ثم (عليه السلام) دعا بدعوات، فعاد ضريراً. فقال أبو بصير في ذلك، فقال (عليه السلام) : «ما بخلنا عليك يا أبا بصير، وإن كان اللّه تعالى ما ظلمك، وإنما خار

ص: 101


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص187، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص187، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
3- بحار الأنوار: ج46 ص261، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح62.

لك، وخشينا فتنة الناس بنا، وأن يجهلوا فضل اللّه علينا، ويجعلونا أرباباً من دون اللّه، ونحن له عبيد، لا نستكبر عن عبادته، ولا نسأم من طاعته، ونحن له مسلمون»(1).

إحياء الدابة الميتة

عن المفضل بن عمر، قال: بينما أبو جعفر (عليه السلام) بين مكة والمدينة، إذا انتهى إلى جماعة على الطريق، وإذا رجل من الحجاج نفق حماره، وقد بدد متاعه، وهو يبكي. فلما رأى أبا جعفر (عليه السلام) أقبل إليه. فقال له: يا ابن رسول اللّه، نفق حماري وبقيت منقطعاً، فادع اللّه تعالى أن يحيي لي حماري. قال: فدعا أبو جعفر (عليه السلام) ، فأحيا اللّه له حماره(2).

لسان الطير

روى الحسن بن مسلم، عن أبيه، قال: دعاني الباقر (عليه السلام) إلى طعام فجلست، إذ أقبل ورشان منتوف الرأس، حتى سقط بين يديه، ومعه ورشان آخر. فهدل، فرد الباقر (عليه السلام) بمثل هديله، فطار. فقلنا للباقر (عليه السلام) : ما قالا وما قلت؟!. قال (عليه السلام) : «إنه اتهم زوجته بغيره، فنقر رأسها، وأراد أن يلاعنها عندي». فقال لها: بيني وبينك من يحكم بحكم داود وآل داود، ويعرف منطق الطير، ولا يحتاج إلى شهود. فأخبرته أن الذي ظن بها لم يكن كما ظن، فانصرفا على صلح»(3).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: كنت عنده يوماً، إذ وقع

ص: 101


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص184، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص260، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح61.
3- الخرائج والجرائح: ج1 ص290-291، الباب6، ح24.

عليه زوج ورشان، فهدلا هديلهما. فرد عليهما أبو جعفر (عليه السلام) كلامهما ساعةً، ثم نهضا، فلما صارا على الحائط، هدل الذكر على الأنثى ساعةً، ثم نهضا. فقلت: جعلت فداك، ما حال الطير؟!. فقال: «يا ابن مسلم، كل شيء خلقه اللّه من طير أو بهيمة أو شي ء فيه روح، هو أسمع لنا وأطوع من ابن آدم. إن هذا الورشان ظن بأنثاه ظن السوء، فحلفَتْ له ما فعلَتْ، فلم يقبل. فقالت: ترضى بمحمد بن علي، فرضيا بي، وأخبرته أنه لها ظالم فصدقها»(1).

إنه خبيث الولادة

روي عن سدير: أن كثير النواء دخل على أبي جعفر (عليه السلام) ، وقال: زعم المغيرة بن سعيد أن معك ملكاً يعرفك المؤمن من الكافر - في كلام طويل - فلما خرج. قال (عليه السلام) : «ما هو إلا خبيث الولادة». وسمع هذا الكلام جماعة من الكوفة، قالوا: ذهبنا حتى نسأل عن كثير، فله خبر سوء، فمضينا إلى الحي الذي هو فيهم، فدللنا إلى عجوزة صالحة. فقلنا لها: نسألك عن أبي إسماعيل؟. قالت: كثير. فقلنا: نعم. قالت: تريدون أن تزوجوه. قلنا: نعم. قالت: لا تفعلوا؛ فإن أُمه قد وضعته في ذلك البيت رابع أربعة من الزنا، وأشارت إلى بيت من بيوت الدار(2).

إنه لم يحفظ شيئاً من الكلام

روي أن الإمام الباقر (عليه السلام) جعل يحدث أصحابه بأحاديث شداد، وقد دخل

ص: 102


1- بحار الأنوار: ج46 ص238، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح17.
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص710-711، الباب15، ح6.

عليه رجل يقال له: النضر بن قرواش، فاغتم أصحابه لمكان الرجل مما يستمع حتى نهض. فقالوا: قد سمع ما سمع، وهو خبيث. قال: «لو سألتموه عما تكلمت به اليوم ما حفظ منه شيئاً». قال بعضهم: فلقيته بعد ذلك، فقلت: الأحاديث الذي سمعتها من أبي جعفر (عليه السلام) أحب أن أسمعها. فقال: لا واللّهِ ما فهمت منها قليلاً ولا كثيراً(1).

مع زيد الشهيد

روي عن محمد بن أبي حازم، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) ، فمر بنا زيد بن علي (عليه السلام) . فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «أما واللّهِ ليخرجن بالكوفة وليقتلن، وليطافن برأسه، ثم يؤتى به فينصب على قصبة في هذا الموضع»، وأشار إلى الموضع الذي صلب فيه. قال: سمع أذناي به، ثم رأت عيني بعد ذلك، فبلغنا خروجه وقتله، ثم مكثنا ما شاء اللّه، فرأينا يطاف برأسه، فنصب في ذلك الموضع على قصبة فتعجبنا(2).

سيملك عمر بن عبد العزيز

روى أبو بصير، قال: كنت مع الباقر (عليه السلام) في المسجد، إذ دخل عمر بن عبد العزيز، عليه ثوبان ممصران، متكئاً على مولًى له. فقال (عليه السلام) : «ليلين هذا الغلام، فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين، ثم يموت، فيبكي عليه أهل الأرض، ويلعنه أهل السماء - قال - يجلس في مجلس لا حق له فيه». ثم ملك وأظهر العدل

ص: 104


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص278، الباب6، ح10.
2- بحار الأنوار: ج46 ص251-252، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح46.

جهده(1).

أقول: كان عمر بن عبد العزيز يتظاهر بالعدل حفظاً لملكه، ولعنه من أهل السماء لغصبه الخلافة وجلوسه فيما ليس له.

ملك الدوانيقي

عن أبي بصير، قال: كنت مع الباقر (عليه السلام) في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قاعداً، حدثان ما مات علي بن الحسين (عليه السلام) ، إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان، قبل أن أفضي الملك إلى ولد العباس، وما قعد إلى الباقر (عليه السلام) إلا داود. فقال الباقر (عليه السلام) : «ما منع الدوانيقي أن يأتي!». قال: فيه جفاء. قال الباقر (عليه السلام) : «لا تذهب الأيام حتى يلي أمر هذا الخلق، ويطأ أعناق الرجال، ويملك شرقها وغربها، ويطول عمره فيها، حتى يجمع من كنوز الأموال ما لم يجتمع لأحد قبله.

فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك. فأقبل إليه الدوانيقي، وقال: ما منعني من الجلوس إليك؛ إلا إجلالك، فما الذي خبرني به داود؟!. فقال: «هو كائن». قال: وملكنا قبل ملككم؟. قال: «نعم». قال: يملك بعدي أحد من ولدي؟. قال: «نعم». قال: فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا؟. قال: «مدتكم أطول، وليتلقفن هذا الملك صبيانكم، ويلعبون به كما يلعبون بالكرة. هذا ما عهده إليَّ أبي (عليه السلام) ». فلما ملك الدوانيقي، تعجب من قول الباقر (عليه السلام) (2).

أنت تبيع النوى

روي عن جابر، قال: كنا عند الباقر (عليه السلام) نحواً من خمسين رجلاً، إذ دخل

ص: 104


1- بحار الأنوار: ج46 ص251، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح44.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص273-274، الباب6، ح4.

عليه كثير النواء، وكان من المغيرية، فسلم وجلس، ثم قال: إن المغيرة بن عمران عندنا بالكوفة يزعم أن معك ملكاً يعرِّفك الكافر من المؤمن، وشيعتك من أعدائك. قال (عليه السلام) : «ما حرفتك؟». قال: أبيع الحنطة. قال: «كذبت». قال: وربما أبيع الشعير. قال: «ليس كما قلت، بل تبيع النوى». قال: من أخبرك بهذا؟!. قال: «الملك الذي يعرِّفني شيعتي من عدوي، لست تموت إلا تائهاً».

قال جابر الجعفي: فلما انصرفنا إلى الكوفة، ذهبت في جماعة نسأل، فدللنا على عجوز. فقالت: مات تائهاً منذ ثلاثة أيام(1).

حق المؤمن على اللّه

روي عن عباد بن كثير البصري، قال: قلت للباقر (عليه السلام) : ما حق المؤمن على اللّه؟. فصرف وجهه، فسألته عنه ثلاثاً. فقال: «من حق المؤمن على اللّه أن لو قال لتلك النخلة: أقبلي, لأقبلت». قال عباد: فنظرت واللّه إلى النخلة التي كانت هناك قد تحرَّكت مقبلةً، فأشار إليها: «قرِّي فلم أعنكِ»(2).

أيتها النخلة أطعمينا

روى جابر الجعفي، قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) إلى الحج - إلى أن قال - ثم ارتحلنا، فأصبحنا دون قرية ونخل. فعمد أبو جعفر (عليه السلام) إلى نخلة يابسة فيها، فدنا منها وقال: «أيتها النخلة، أطعمينا مما خلق اللّه فيكِ». فلقد رأيت النخلة تنحني حتى جعلنا نتناول من ثمرها ونأكل، وإذا أعرابي يقول: ما رأيت ساحراً

ص: 105


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص143، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- بحار الأنوار: ج46 ص248، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح39.

كاليوم.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «يا أعرابي، لا تكذبن علينا أهل البيت؛ فإنه ليس منا ساحر ولا كاهن، ولكن عُلِّمنا أسماءً من أسماء اللّه تعالى، فنسأل بها فنعطى، وندعو فنجاب»(1).

اللّهم اسقنا وطهرنا

روى جابر الجعفي، قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) إلى الحج - إلى أن قال - ثم سرنا حتى إذا كان وجه السحر. قال لي: «انزل يا جابر». فنزلت، فأخذت بخطام الجمل، ونزل فتنحى عن الطريق، ثم عمد إلى روضة من الأرض ذات رمل، فأقبل فكشف الرمل يمنةً ويسرةً، وهو يقول: «اللّهم اسقنا وطهرنا». إذ بدا حجر أبيض بين الرمل فاقتلعه، فنبع له عين ماء أبيض صاف، فتوضأ وشربنا منه(2).

إنه معزول ومنفي إلى مصر

روي عن عبد اللّه بن معاوية الجعفري، قال: سأحدثكم بما سمعته أذناي،ورأته عيناي من أبي جعفر (عليه السلام) ، أنه كان على المدينة رجل من آل مروان، وأنه أرسل إليَّ يوماً فأتيته، وما عنده أحد من الناس. فقال: يا ابن معاوية، إنما دعوتك لثقتي بك، وإني قد علمت أنه لا يبلغ عني غيرك، فأحببت أن تلقى عميك محمد بن علي وزيد بن الحسن (عليهما السلام) ، وتقول لهما: يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما أو لتنكران.

ص: 106


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص604-605، الباب14، فصل في أعلام الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ، ح12.
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص604-605، الباب14، فصل في أعلام الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ، ح12.

فخرجت متوجهاً إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، فاستقبلته متوجهاً إلى المسجد، فلما دنوت منه، تبسم ضاحكاً. فقال: «بعث إليك هذا الطاغية ودعاك، وقال: الق عميك فقل لهما كذا». فقال: أخبرني أبو جعفر (عليه السلام) بمقالته، كأنه كان حاضراً. ثم قال: «يا ابن عم، قد كفينا أمره بعد غد؛ فإنه معزول ومنفي إلى بلاد مصر. واللّهِ ما أنا بساحر ولا كاهن، ولكني أتيت وحدِّثت». قال: فو اللّهِ ما أتى عليه اليوم الثاني حتى ورد عليه عزله، ونفيه إلى مصر، وولي المدينة غيره(1).

قد مات أبوك وأخوك!

روى أبو بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال لرجل من أهل خراسان: «كيف أبوك؟». قال: صالح. قال: «قد مات أبوك بعد ما خرجت حيث سرت إلى جرجان - ثم قال - كيف أخوك؟». قال: تركته صالحاً. قال: «قد قتله جار له يقال له: صالح، يوم كذا في ساعة كذا». فبكى الرجل وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون بما أصبت. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «اسكن فقد صاروا إلى الجنة، والجنة خير لهم مما كانوا فيه». فقال له الرجل: إني خلفت ابني وجعاً شديد الوجع، ولم تسألني عنه!. قال: «قد برأ، وقد زوجه عمه ابنته، وأنت تقدم عليه وقد ولد له غلام واسمه علي، وهو لنا شيعة. وأما ابنك فليس لنا شيعةً، بل هو لنا عدو». فقال له الرجل: فهل من حيلة؟. قال: «إنه عدو، وهو وقيد(2)».

قلت: من هذا؟. قال: «رجل من أهل خراسان، وهو لنا شيعة، وهو

ص: 107


1- بحار الأنوار: ج46 ص246، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح34.
2- الوقيد: الحطب، ربما أراد أنه حطب جهنم والعياذ باللّه.

مؤمن»(1).

يا درجان يا درجان

روى أبو عتيبة، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) ، فدخل رجل فقال: أنا من أهل الشام أتولاكم وأبرأ من عدوّكم، وأبي كان يتولى بني أمية، وكان له مال كثير، ولم يكن له ولد غيري، وكان مسكنه بالرملة، وكان له جنينة يتخلى فيها بنفسه، فلما مات طلبت المال فلم أظفر به، ولا أشك أنه دفنه وأخفاه مني.

قال أبو جعفر (عليه السلام) : «أفتحب أن تراه، وتسأله أين موضع ماله». قال: إي واللّه إني لفقير محتاج.

فكتب أبو جعفر (عليه السلام) كتاباً وختمه بخاتمه، ثم قال: «انطلق بهذا الكتاب الليلة إلى البقيع حتى تتوسطه، ثم تنادي: يا درجان، يا درجان، فإنه يأتيك رجل معتم، فادفع إليه كتابي، وقل: أنا رسول محمد بن علي بن الحسين، فإنه يأتيك فاسأله عما بدا لك».

فأخذ الرجل الكتاب وانطلق. قال أبو عتيبة: فلما كان من الغد، أتيت أبا جعفر (عليه السلام) ؛ لأنظر ما حال الرجل، فإذا هو على الباب ينتظر أن يؤذن له، فأذن له فدخلنا جميعاً. فقال الرجل: اللّه يعلم عند من يضع العلم، قد انطلقت البارحة، وفعلت ما أمرت، فأتاني الرجل فقال: لا تبرح من موضعك حتى آتيك به، فأتاني برجل أسود. فقال: هذا أبوك. قلت: ما هو أبي. قال: غيره اللّهب، ودخان الجحيم، والعذاب الأليم. قلت: أنت أبي؟. قال: نعم. قلت:

ص: 108


1- بحار الأنوار: ج46 ص247، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح36.

فما غيرك عن صورتك وهيئتك؟!. قال: يا بني، كنت أتولى بني أمية وأفضلهم على أهل بيت النبي بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فعذبني اللّه بذلك، وكنت أنت تتولاهم، وكنت أبغضتك على ذلك، وحرمتك مالي فزويته عنك، وأنا اليوم على ذلك من النادمين. فانطلق - يا بني - إلى جنتي فاحفر تحت الزيتونة، وخذ المال مائة ألف درهم، فادفع إلى محمد بن علي (عليه السلام) خمسين ألفاً، والباقي لك.

ثم قال: وأنا منطلق حتى آخذ المال، وآتيك بمالك. قال أبو عتيبة: فلما كان من قابل سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما فعل الرجل صاحب المال؟. قال: «قد أتاني بخمسين ألف درهم، فقضيت منها ديناً كان عليَّ، وابتعت منها أرضاً بناحية خيبر، ووصلت منها أهل الحاجة من أهل بيتي»(1).

وفي رواية أخرى:

أبو عيينة وأبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن موحداً أتى الباقر (عليه السلام) ، وشكا عن أبيه ونصبه وفسقه، وأنه أخفى ماله عند موته. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : أفتحب أن تراه، وتسأله عن ماله. فقال الرجل: نعم، وإني لمحتاج فقير. فكتب إليه أبو جعفر (عليه السلام) كتاباً بيده في رق أبيض، وختمه بخاتمه، ثم قال: اذهب بهذا الكتاب الليلة إلى البقيع حتى تتوسطه، ثم تنادي: يا درجان. ففعل ذلك، فجاءه شخص، فدفع إليه الكتاب، فلما قرأه. قال: أ تحب أن ترى أباك؟ فلا تبرح حتى آتيك به، فإنه بضجنان. فانطلق فلم يلبث إلا قليلاً، حتى أتاني رجل أسود في عنقه حبل أسود، مدلع لسانه يلهث، وعليه سربال أسود. فقال لي: هذا أبوك، ولكن غيره اللّهب، ودخان الجحيم، وجرع الحميم.

ص: 108


1- بحار الأنوار: ج46 ص245-246، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح33.

فسألته عن حاله؟. قال: إني كنت أتوالى بني أمية، وكنت أنت تتوالى أهل البيت (عليهم السلام) ، وكنت أبغضك على ذلك، وأحرمتك مالي، ودفنته عنك، فأنا اليوم على ذلك من النادمين، فانطلق إلى جنتي، فاحتفر تحت الزيتونة، فخذ المال، وهو مائة وخمسون ألفاً، وادفع إلى محمد بن علي خمسين ألفاً، ولك الباقي.

قال: ففعل الرجل كذلك، فقضى أبو جعفر (عليه السلام) بها ديناً، وابتاع بها أرضاً، ثم قال: أ ما إنه سينفع الميت الندم على ما فرط من حبنا، وضيع من حقنا بما أدخل علينا من الرفق والسرور»(1).

طي الأرض و رؤية البرزخ

عن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إني لأعرف رجلاً من أهل المدينة، أخذ قبل انطباق الأرض إلى الفئة التي قال اللّه في كتابه: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(2)؛ لمشاجرة كانت فيما بينهم، وأصلح بينهم ورجع، ولم يقعد، فمر بنطفكم(3) فشرب منها - يعني الفرات - ثم مر عليك - يا أبا الفضل - يقرع عليك بابك. ومر برجل عليه مسوح معقل به عشرة موكلون، يستقبل في الصيف عين الشمس، ويوقد حوله النيران، ويدورون به حذاء الشمس حيث دارت، كلما مات من العشرة واحد، أضاف إليه أهل القرية واحداً، الناس يموتون والعشرة لا ينقصون. فمر به رجل فقال: ما قصتك؟. قال له الرجل: إن كنت عالماً فما أعرفك بأمري. ويقال: إنه ابن آدم القاتل».

ص: 109


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص193-194، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- سورة الأعراف: 159.
3- النطفة بالضم الماء الصافي قل أو كثر والجمع نطاف ونطف.

وقال محمد بن مسلم: وكان الرجل محمد بن علي (عليه السلام) (1).

النور الساطع

عن أبي بصير، قال: دخلت المسجد مع أبي جعفر (عليه السلام) ، والناس يدخلون ويخرجون. فقال لي: «سل الناس هل يرونني». فكل من لقيته قلت له: أ رأيت أبا جعفر؟. يقول: لا، وهو واقف، حتى دخل أبو هارون المكفوف. قال: «سل هذا». فقلت: هل رأيت أبا جعفر؟. فقال: أ ليس هو بقائم. قال: وما علمك؟. قال: وكيف لا أعلم، وهو نور ساطع(2).

ما سترنا عنكم أكثر

عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: دخلت عليه، فشكوت إليه الحاجة. قال: فقال: «يا جابر، ما عندنا درهم».

فلم ألبث أن دخل عليه الكميت. فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي حتى أنشدك قصيدةً. قال: فقال: «أنشد». فأنشده قصيدةً، فقال: «يا غلام، أخرج من ذلك البيت بدرةً، فادفعها إلى الكميت». قال: فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أنشدك قصيدةً أخرى. قال: «أنشد». فأنشده أخرى، فقال: «يا غلام، أخرج من ذلك البيت بدرةً، فادفعها إلى الكميت». قال: فأخرج بدرةً فدفعها إليه. قال: فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أنشدك ثالثةً. قال له: «أنشد». فأنشده، فقال: «يا غلام، أخرج من ذلك

ص: 110


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص399-400، الباب12، ح11.
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص595-596، الباب14، فصل في أعلام الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ، ح7.

البيت بدرةً، فادفعها إليه». قال: فأخرج بدرةً فدفعها إليه.

فقال الكميت: جعلت فداك، واللّهِ ما أحبكم لغرض الدنيا، وما أردت بذلك إلا صلة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما أوجب اللّه عليَّ من الحق. قال: فدعا له أبو جعفر (عليه السلام) ، ثم قال: «يا غلام، ردها مكانها».

قال: فوجدت في نفسي، وقلت: قال ليس عندي درهم، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم.

قال: فقام الكميت وخرج. قلت له: جعلت فداك، قلت: ليس عندي درهم، وأمرت للكميت بثلاثين ألف درهم!.

فقال لي: «يا جابر، قم وادخل البيت». قال: فقمت ودخلت البيت، فلم أجد منه شيئاً. قال: فخرجت إليه، فقال لي: «يا جابر، ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا لكم». فقام وأخذ بيدي، وأدخلني البيت، ثم قال: وضرب برجله الأرض، فإذا شبيه بعنق البعير قد خرجت من ذهب. ثم قال لي: «يا جابر، انظر إلى هذا، ولا تخبر به أحداً إلا من تثق به من إخوانك. إن اللّه أقدرنا على ما نريد، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها»(1).

إني دعوت اللّه

عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مر أبو جعفر (عليه السلام) بالهجين، ومعه أبو أمية الأنصاري زميله في محمله - قال - فبينا هو كذلك، إذ نظر إلى ورشان في جانب المحمل معه، فرفع أبو أمية يده ليذبه عنه. فقال: يا أبا أمية،

ص: 111


1- الاختصاص: ص272، أحاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام) ، خزائن الأرض ومفاتيحها للأئمة (عليهم السلام) .

إن هذا طائر جاء يستجير بأهل البيت، وإني دعوت اللّه، فانصرفت عنه حية، كانت تأتيه كل سنة فتأكل فراخه»(1).

كلام الذئب

عن محمد بن مسلم، قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) بين مكة والمدينة، وأنا أسير على حمار لي، وهو على بغلته، إذ أقبل ذئب من رأس الجبل، حتى انتهى إلى أبي جعفر (عليه السلام) . فحبس (عليه السلام) البغلة، ودنا الذئب، حتى وضع يده على قربوس السرج، ومد عنقه إلى أذنه، وأدنى أبو جعفر (عليه السلام) أذنه منه ساعةً، ثم قال: «امض فقد فعلتُ»، فرجع مهرولاً.

قال: قلت: جعلت فداك، لقد رأيت عجباً!. قال: «وتدري ما قال؟». قال: قلت: اللّه ورسوله وابن رسوله أعلم. قال: «إنه قال لي: يا ابن رسول اللّه، إن زوجتي في ذاك الجبل، وقد تعسر عليها ولادتها، فادع اللّه أن يخلِّصها وأن لا يسلِّط شيئاً من نسلي على أحد من شيعتكم. فقلت: قد فعلت»(2).

أنتم ورثة الأنبياء

عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه وأبي جعفر (عليهما السلام) . فقلت لهما: أنتما ورثة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟. قال: «نعم». قلت: فرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وارث الأنبياء علم كل ما علموا؟. فقال لي: «نعم». فقلت: أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى، وتبرءوا الأكمه والأبرص؟. فقال لي: «نعم، بإذن اللّه».

ثم قال (عليه السلام) : «ادن مني يا أبا محمد». فمسح يده على عيني ووجهي،

ص: 112


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص344، الباب14، ح16.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص189، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .

فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت، وكل شي ء في الدار. قال (عليه السلام) : «أ تحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً؟». قلت: أعود كما كنت. قال: فمسح على عيني، فعدت كما كنت.

قال علي: فحدثت به ابن أبي عمير، فقال: أشهد أن هذا حق، كما أن النهار حق(1).

افتحي الباب لابن عطا

عن عبد اللّه بن عطاء المكي، قال: اشتقت إلى أبي جعفر (عليه السلام) وأنا بمكة، فقدمت المدينة، وما قدمتها إلا شوقاً إليه، فأصابني تلك الليلة مطر وبرد شديد، فانتهيت إلى بابه نصف الليل، فقلت: ما أطرقه هذه الساعة، وأنتظر حتى أصبح. فإني لأفكر في ذلك، إذ سمعته يقول: «يا جارية، افتحي الباب لابن عطاء؛ فقد أصابه في هذه الليلة برد وأذًى». قال: فجاءت ففتحت الباب، فدخلت عليه(2).

ما فعل الصك؟

عن أبي بصير، قال: قدم بعض أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) . فقال لي: لا ترى واللّه أبا جعفر (عليه السلام) أبداً. قال: فلقفت صكاً، فأشهدت شهوداً في الكتاب في غير إبان الحج، ثم إني خرجت إلى المدينة، فاستأذنت على أبي جعفر (عليه السلام) ، فلما نظر إليَّ. قال: «يا أبا بصير، ما فعل الصك؟». قال: قلت: جعلت فداك، إن فلاناً

ص: 113


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص269، الباب3، ح1.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص352-253، الباب12، ح7.

قال لي: واللّه لا ترى أبا جعفر أبداً(1).

الاسم الأعظم

عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إني أظن أن لي عندك منزلة. قال: «أجل». قال: قلت: فإن لي إليك حاجةً. قال: «وما هي؟». قلت: تعلِّمني الاسم الأعظم. قال: «وتطيقه!». قلت: نعم. قال: «فادخل البيت». قال: فدخل البيت، فوضع أبو جعفر (عليه السلام) يده على الأرض فأظلم البيت، فأرعدت فرائص عمر. فقال: «ما تقول.. أعلِّمك؟». فقال: لا. قال: فرفع يده، فرجع البيت كما كان(2).

ردوا إليه روحه

عن محمد بن سليمان، عن أبيه، قال: كان رجل من أهل الشام

ص: 114


1- بحار الأنوار: ج46 ص235، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح6.
2- البرهان في تفسير القرآن: ج4 ص219، سورة النمل: الآيات 17 إلى 44، باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعرفون منطق الطير، ح8022.

يختلف إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، وكان مركزه بالمدينة، يختلف إلى مجلس أبي جعفر يقول له: يا محمد، ألا ترى أني إنما أغشى مجلسك حياءً مني منك لك، ولا أقول إن أحداً في الأرض أبغض إليَّ منكم أهل البيت. وأعلم أن طاعة اللّه وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكن أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ؛ فإنما اختلافي إليك لحسن أدبك.

وكان أبو جعفر (عليه السلام) يقول له خيراً، ويقول: «لن تخفى على اللّه خافية». فلم يلبث الشامي إلا قليلاً حتى مرض، واشتد وجعه، فلما ثقل دعا وليه، وقال

ص: 113

له: إذا أنت مددت عليَّ الثوب، فأتِ محمد بن علي (عليه السلام) ، وسله أن يصلي عليَّ، وأعلمه أني أنا الذي أمرتك بذلك. قال: فلما أن كان في نصف الليل ظنوا أنه قد برد وسجوه، فلما أن أصبح الناس، خرج وليه إلى المسجد، فلما أن صلى محمد بن علي (عليه السلام) وتورك، وكان إذا صلى عقَّب في مجلسه. قال له: يا أبا جعفر، إن فلاناً الشامي قد هلك، وهو يسألك أن تصلي عليه. فقال أبو جعفر (عليه السلام) :«كلا، إن بلاد الشام بلاد صرد، والحجاز بلاد حر ولهبها شديد، فانطلق فلا تعجلن على صاحبك حتى آتيكم».

ثم قام (عليه السلام) من مجلسه، فأخذ (عليه السلام) وضوءاً، ثم عاد فصلى ركعتين، ثم مد يده تلقاء وجهه ما شاء اللّه، ثم خر ساجداً حتى طلعت الشمس، ثم نهض (عليه السلام) ، فانتهى إلى منزل الشامي. فدخل عليه فدعاه فأجابه، ثم أجلسه وأسنده، ودعا له بسويق فسقاه. وقال لأهله: «املئوا جوفه، وبردوا صدره بالطعام البارد». ثم انصرف (عليه السلام) ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى عوفي الشامي، فأتى أبا جعفر (عليه السلام) . فقال: أخلني. فأخلاه، فقال: أشهد أنك حجة اللّه على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر، وضل ضلالا بعيداً.

قال له أبو جعفر (عليه السلام) : «وما بدا لك؟».

قال: أشهد أني عهدت بروحي، وعاينت بعيني، فلم يتفاجأني إلا ومنادٍ ينادي، أسمعه بأذني ينادي، وما أنا بالنائم: ردوا عليه روحه، فقد سألنا ذلك محمد بن علي.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «أما علمت أن اللّه يحب العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله». قال: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) (1).

ص: 115


1- الأمالي للطوسي: ص410-411، المجلس14، ح923.

رؤيا المعصوم

عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «رأيت كأني على رأس جبل، والناس يصعدون إليه من كل جانب، حتى إذا كثروا عليه، تطاول بهم في السماء، وجعل الناس يتساقطون عنه من كل جانب، حتى لم يبق منهم أحد إلا عصابة يسيرة، ففعل ذلك خمس مرات، في كل ذلك يتساقط عنه الناس، وتبقى تلك العصابة، أ ما إن قيس بن عبد اللّه بن عجلان في تلك العصابة. فما مكث بعد ذلك إلا نحواً من خمس حتى هلك»(1).

أريقوه أريقوه

روي عن هشام بن سالم، قال: لما كانت الليلة التي قبض فيها أبو جعفر (عليه السلام) . قال: «يا بني، هذه الليلة التي وعدتها». وقد كان وضوؤه قريباً، قال: «أريقوه، أريقوه». فظننا أنه يقول من الحمى. فقال: «يا بني، أرقه». فأرقناه فإذا فيه فأرة(2).

هذه الليلة التي أقبض فيها

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه أتى أبا جعفر (عليه السلام) ليلة قبض وهو يناجي، فأومأ إليه بيده أن تأخر، فتأخر حتى فرغ من المناجاة، ثم أتاه فقال: «أنْ يا بني هذه الليلة التي أُقبض فيها، وهي الليلة التي قبض فيها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(3).

أقول: ربما تكون إشارة إلى أن رحيله كان يوم الاثنين.

ص: 117


1- الكافي: ج8 ص182-183، كتاب الروضة، خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ح206.
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص711، الباب15، ح7.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص482، الباب9، ح7.

12

أخلاقيات

اشارة

كان الإمام محمد الباقر (عليه السلام) كآبائه الطاهرين وأبنائه المعصومين (عليهم السلام) قمة في الأخلاق الحسنة.

أصدق الناس

قال ابن شهرآشوب في المناقب: كان (عليه السلام) أصدق الناس لهجةً، وأحسنهم بهجةً، وأبذلهم مهجةً(1).

وكان (عليه السلام) أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مئونةً، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: «الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام»(2).

وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا(3).

وكان (عليه السلام) إذا ضحك، قال: «اللّهم لا تمقتني»(4).

ص: 116


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص208، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في معالي أموره (عليه السلام) .
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص185، ثواب الصدقة يوم الجمعة.
3- بحار الأنوار: ج46 ص297، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح28.
4- الكافي: ج2 ص664، كتاب العشرة، باب الدعابة والضحك، ح13.

وكان (عليه السلام) إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة(1).

مع النصراني

قال للإمام الباقر (عليه السلام) نصراني: أنت بقر.

قال (عليه السلام) : «لا، أنا باقر».

قال: أنت ابن الطباخة.

قال (عليه السلام) : «ذاك حرفتها».

قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية.

قال (عليه السلام) : «إن كنتَ صدقتَ غفر اللّه لها، وإن كنتَ كذبتَ غفر اللّه لك».

قال: فأسلم النصراني(2).

طعام الزهاد

عن بزيع، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، وهو يأكل خلاًّ وزيتاً في قصعة سوداء، مكتوب في وسطها بصفرة: {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ}(3). فقال لي: «ادن يا بزيع». فدنوت فأكلت معه، ثم حسا من الماء ثلاث حسيات، حتى لم يبق من الخبز شيء، ثم ناولني فحسوت البقية(4).

ص: 118


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص150، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- بحار الأنوار: ج46 ص289، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ضمن ح12.
3- سورة الإخلاص: 1.
4- المحاسن: ج2 ص440، كتاب المآكل، الباب38، ح300.

صلة المعارف

قالت سلمى - مولاة أبي جعفر (عليه السلام) -: كان يدخل عليه إخوانه، فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم. فأقول له في ذلك؛ ليقل منه، فيقول: «يا سلمى، ما حسنة الدنيا إلا صلة الإخوان والمعارف».

وكان (عليه السلام) يجيز بالخمسمائة والستمائة إلى الألف، وكان لا يمل من مجالسته إخوانه.

وقال: «اعرف المودة لك في قلب أخيك بما له في قلبك»(1).

الرضا بالقضاء

عن يونس بن يعقوب، عن بعض أصحابنا، قال: كان قوم أتوا أبا جعفر (عليه السلام) ، فوافقوا صبياً له مريضاً، فرأوا منه اهتماماً وغماً، وجعل لا يقر. قال: فقالوا: واللّهِ لئن أصابه شيء إنا لنتخوف أن نرى منه ما نكره.

قال: فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها. فقالوا له: جعلنا اللّه فداك، لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع أن نرى منك ما يغمنا!. فقال (عليه السلام) لهم: «إنا لنحب أن نعافى فيمن نحب، فإذا جاء أمر اللّه سلمنا فيما أحب»(2).

التسليم والصبر الجميل

عن زرارة، قال: ثقل ابن لجعفر (عليه السلام) ، وأبو جعفر (عليه السلام) جالس في ناحية، فكان

ص: 119


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص118-119، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما مناقبه الحميدة وصفاته الجميلة.
2- الكافي: ج3 ص226، كتاب الجنائز، باب الصبر والجزع والاسترجاع، ح14.

إذا دنا منه إنسان. قال: «لا تمسه؛ فإنه إنما يزداد ضعفاً، وأضعف ما يكون في هذه الحال، ومن مسه على هذه الحال أعان عليه».

فلما قضى الغلام، أمر به فغمض عيناه، وشد لحياه، ثمّ قال: «لنا أن نجزع ما لم ينزل أمر اللّه، فإذا نزل أمر اللّه، فليس لنا إلا التسليم».

ثم دعا بدهن فادهن، واكتحل، ودعا بطعام فأكل هو ومن معه. ثم قال: «هذا هو الصبر الجميل». ثم أمر به فغُسل، ثم لبس جبة خز، ومطرف خز، وعمامة خز، وخرج فصلى عليه(1).

تفقد الأصحاب

كان الإمام الباقر (عليه السلام) يتفقد شيعته وأصحابه، ويسأل عنهم، ويسعى في قضاء حوائجهم.

قيل لأبي جعفر (عليه السلام) : محمد بن مسلم وجع. فأرسل إليه بشراب مع الغلام. فقال الغلام: أمرني أن لا أرجع حتى تشربه، فإذا شربت فأته. ففكر محمد فيما قال، وهو لا يقدر على النهوض، فلما شرب واستقر الشراب في جوفه، صار كأنما أنشط من عقال. فأتى بابه، فاستؤذن عليه، فصوَّت له: «صح الجسم فادخل». فدخل وسلم عليه وهو باكٍ، وقبَّل يده ورأسه.

فقال (عليه السلام) : «ما يبكيك يا محمد!». قال: على اغترابي، وبعد الشقة، وقلة المقدرة على المقام عندك، والنظر إليك. فقال: «أما قلة المقدرة، فكذلك جعل اللّه أولياءنا وأهل مودتنا، وجعل البلاء إليهم سريعاً. وأما ما ذكرت من الاغتراب، فلك بأبي عبد اللّه (عليه السلام) أسوة بأرض ناء عنا بالفرات (صلى اللّه عليه).

ص: 120


1- تهذيب الأحكام: ج1 ص289، كتاب الطهارة، الباب13، ح9.

وأما ما ذكرت من بعد الشقة، فإن المؤمن في هذه الدار غريب، وفي هذا الخلق منكوس، حتى يخرج من هذه الدار إلى رحمة اللّه. وأما ما ذكرت من حبك قربنا، والنظر إلينا، وأنك لا تقدر على ذلك، فلك ما في قلبك، وجزاؤك عليه»(1).

عتق العبيد

كان من سيرة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، أنهم يشترون العبيد ويربونهم على الإيمان، والفضيلة، والعلم، والعمل الصالح، ثم يعتقونهم في سبيل اللّه عز وجل، ليكون كل واحد منهم مبلغاً للتعاليم الدينية.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «أن أبا جعفر (عليه السلام) مات وترك ستين مملوكاً، فأعتق ثلثهم عند موته»(2).

اللّهم لا تمقتني

كان الإمام الباقر (عليه السلام) إذا ضحك، قال: «اللّهم لا تمقتني»(3).

ص: 122


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص181-182، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- المحاسن: ج2 ص624، كتاب المرافق، الباب10، ح81.
3- الكافي: ج2 ص664، كتاب العشرة، باب الدعابة والضحك، ح13.

13

الجود والكرم

اشارة

كان الإمام الباقر (عليه السلام) كسائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضل والإحسان، مع كثرة عياله وتوسط حاله.

وكان (عليه السلام) يجيز بمئات الدراهم ربما وصلت إلى الألف، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه، ومؤمليه وراجيه.

وكان لا يسمع من داره: «يا سائل بورك فيك»، و«لا يا سائل خذ هذا»، وكان يقول: «سموهم بأحسن أسمائهم»(1).

بئس الأخ من قطعك

عن الحسن بن كثير، قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) الحاجة، وجفاء الإخوان. فقال: «بئس الأخ، أخ يرعاك غنياً، ويقطعك فقيراً». ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، فقال: «استنفق هذه، فإذا نفدت فأعلمني»(2).

ص: 121


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص150، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص166، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في ذكر فضائل الإمام الباقر (عليه السلام) .

صلة الإخوان

عن عمرو بن دينار، وعبد اللّه بن عمير، أنهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) إلا وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة، ويقول: «هذه معدة لكم قبل أن تلقوني»(1).

شمولية العطاء

عن سليمان بن قرم، قال: كان أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) يجيزنا بالخمسمائة إلى الستمائة إلى الألف درهم، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه، ومؤمليه وراجيه(2).

ثمانية آلاف دينار

روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «دخلت على أبي (عليه السلام) يوماً، وهو يتصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً»(3).

ديون الإمام

كان الإمام الباقر (عليه السلام) كآبائه وأجداده الطاهرين (عليهم السلام) يستقرض المال ليصرفه في

ص: 123


1- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج1 ص204، مجلس في ذكر إمامة أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ومناقبه.
2- بحار الأنوار: ج46 ص288، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح9.
3- فلاح السائل ونجاح المسائل: ص169، الفصل19، ذكر دخول العبد في فريضة صلاة الظهر.

سبيل اللّه عز وجل، فكان مديوناً كما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك.

وفي رواية مفصلة جاء أحد الشيعة بخمسين ألفاً على ما أمره والده المتوفى، حيث قال له: انطلق إلى جنتي، فاحتفر تحت الزيتونة، فخذ المال وهو مائة وخمسون ألفاً، وادفع إلى محمد بن علي خمسين ألفاً، ولك الباقي.

قال: ففعل الرجل كذلك، فقضى أبو جعفر (عليه السلام) بها ديناً، وابتاع بها أرضاً، ثم قال: «أما إنه سينفع الميت الندم على ما فرط من حبنا، وضيع من حقنا، بما أدخل علينا من الرفق والسرور»(1).

ص: 125


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص193-194، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .

14

الحقوق

اشارة

كان الإمام الباقر (عليه السلام) كآبائه وأجداده الطاهرين (عليهم السلام) قمة في رعاية الحقوق، سواء أ كانت حقوق اللّه تعالى أم حقوق الناس، بل وحتى حقوق الحيوان والنبات، مضافاً إلى حق الإنسان على نفسه.

ومن الحقوق: حق العيال، والجار، والصديق، والأصحاب، وحتى الأعداء أيضاً.

ومن الحقوق: حق الإنسان بما هو إنسان سواء كان مؤمناً أم مخالفاً، مسلماً أم كافراً.

الكاد على عياله

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين (عليه السلام) يدع خلفاً؛ لفضل علي بن الحسين، حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليه السلام) ، فأردت أن أعظه فوعظني.

فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟. قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيت محمد بن علي (عليه السلام) وكان رجلاً بديناً، وهو متكئ على غلامين له أسودين، أو موليين له. فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا! أشهد لأعظنه. فدنوت منه فسلمت

ص: 124

عليه، فسلم عليَّ بنهر، وقد تصبب عرقاً. فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال!.

قال: فخلى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني واللّهِ الموت - وأنا في هذه الحال - جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه، أكف بها نفسي عنك وعن الناس. وإنما كنت أخاف الموت، لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه.

فقلت: يرحمك اللّه، أردت أن أعظك فوعظتني»(1).

إكرام المرأة

كان الإمام الباقر (عليه السلام) كآبائه الطاهرين يكرم المرأة، ويحث على لزوم احترامها وتقديرها، وحفظ حقوقها وصونها.

عن أبي جعفر (عليه السلام) : «إن اللّه عز وجل كريم يستحيي، ويحب أهل الحياء. إن أكرمكم أشدكم إكراماً لحلائلهم»(2).

بين الزهد وحق المرأة

عن عبد اللّه بن عطاء، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، فرأيته وفي منزله بسطاً ووسائد، وأنماطاً ومرافق. فقلت: ما هذا؟!. فقال: «متاع المرأة»(3).

وعن الحسن الزيات البصري، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) أنا وصاحب لي، فإذا هو في بيت منجد، وعليه ملحفة وردية، وقد حف لحيته واكتحل،

ص: 127


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص161-162، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في ذكر فضائل الإمام الباقر (عليه السلام) .
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص506، كتاب الطلاق، باب طلاق التي لم يدخل بها، ح4774.
3- الكافي: ج6 ص476، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب الفرش، ح2.

فسألنا عن مسائل. فلما قمنا قال (عليه السلام) لي: «يا حسن».

قلت: لبيك.

قال: «إذا كان غداً، فأتني أنت وصاحبك». فقلت: نعم، جعلت فداك.

فلما كان من الغد، دخلت عليه وإذا هو في بيت ليس فيه إلا حصير، وإذا عليه قميص غليظ، ثم أقبل على صاحبي، فقال: «يا أخا البصرة، إنك دخلت عليَّ أمس وأنا في بيت المرأة، وكان أمس يومها، والبيت بيتها، والمتاع متاعها، فتزينت لي على أن أتزين لها كما تزينت لي، فلا يدخل قلبك شيء».

فقال له صاحبي: جعلت فداك، قد كان واللّهِ دخل في قلبي، فأما الآن فقد واللّهِ أذهب اللّه ما كان، وعلمت أن الحق فيما قلت(1).

حب النساء والخضاب لهن

عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال: «دخل قوم على أبي جعفر (صلوات اللّه عليه)، فرأوه مختضباً فسألوه. فقال: إني رجل أحب النساء، فأنا أتصبغ لهن»(2).

حق العروس

عن الحكم بن عتيبة، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، وهو في بيت منجد(3)، وعليه قميص رطب، وملحفة مصبوغة، قد أثر الصبغ على عاتقه، فجعلت أنظر إلى البيت، وأنظر في هيئته. فقال لي: «يا حكم، وما تقول في هذا؟».

ص: 127


1- وسائل الشيعة: ج5 ص32، تتمة كتاب الصلاة، الباب17 من أبواب أحكام الملابس ولو في غير الصلاة، ح5817.
2- بحار الأنوار: ج46 ص298، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح30.
3- التجنيد: التزيين.

فقلت: ما عسيت أن أقول، وأنا أراه عليك. فأما عندنا فإنما يفعله الشاب المرهق.

فقال: «يا حكم، {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}(1). فأما هذا البيت الذي ترى، فهو بيت المرأة، وأنا قريب العهد بالعرس، وبيتي البيت الذي تعرف»(2).

رعاية لرغبة الزوجة

عن مالك بن أعين، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، وعليه ملحفة حمراء شديدة الحمرة، فتبسّمت حين دخلت. فقال: «كأني أعلم لِمَ ضحكت. ضحكت من هذا الثوب الذي هو عليَّ. إن الثقفية أكرهتني عليه وأنا أحبها، فأكرهتني على لبسها - ثم قال - إنا لا نصلي في هذا، ولا تصلوا في المشبع المضرج(3)»(4).

الأسرة الصالحة

ينبغي اختيار الزوجة الصالحة المؤمنة والموالية لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإذا تزوج شخص بمن لم تكن كذلك، يلزم أن يسعى في هدايتها.

عن أبي الجارود، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، وهو جالس على متاع، فجعلت ألمس المتاع بيدي. فقال: «هذا الذي تلمسه بيدك أرمني». فقلت له: وما أنت والأرمني!. فقال: «هذا متاع جاءت به أم علي». امرأة له، فلما كان من

ص: 128


1- سورة الأعراف: 32.
2- بحار الأنوار: ج46 ص292، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح18.
3- المشبع: الذي أشبع من اللون، والمضرج الثوب المصبوغ بالحمرة.
4- الكافي: ج6 ص447، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب لبس المعصفر، ح7.

قابل دخلت عليه فجعلت ألمس ما تحتي. فقال: «كأنك تريد أن تنظر ما تحتك». فقلت: لا، ولكن الأعمى يعبث. فقال لي: «إن ذلك المتاع كان لأم علي، وكانت ترى رأي الخوارج، فأدرتها ليلةً إلى الصبح أن ترجع عن رأيها، وتتولى أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) فامتنعت عليَّ، فلما أصبحت طلقتها»(1).

وفي رواية أخرى: أنه دخل أحد أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) ، وقد طلق إحدى زوجاته. قال: ثم دخلت عليه وقد طلقها، وقال (عليه السلام) : «سمعتها تبرأ من علي (عليه السلام) ، فلم يسعني أن أمسكها، وهي تبرأ منه»(2).

حق الجسد

عن حنان، عن أبيه، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أ تصلي النوافل وأنت قاعد؟. فقال: «ما أصليها إلا وأنا قاعد، منذ حملت هذا اللحم، وبلغت هذا السن»(3).

رفقاً بالعبيد

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «في كتاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا استعملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم، فاعملوا معهم فيه - قال - وإن كان أبي (عليه السلام) ليأمرهم فيقول: كما أنتم، فيأتي فينظر، فإن كان ثقيلاً قال: بسم اللّه، ثم عمل معهم، وإن كان خفيفاً تنحى عنهم»(4).

ص: 129


1- الكافي: ج6 ص477، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب الفرش، ح6.
2- الكافي: ج6 ص447، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب لبس المعصفر، ح7.
3- تهذيب الأحكام: ج2 ص169-170، كتاب الصلاة، الباب9، ح132.
4- بحار الأنوار: ج46 ص303، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح51.

حق السائل

روي أن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) كان لا يسمع من داره: «يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا، وكان يقول: سموهم بأحسن أسمائهم»(1).

حق الأقليات الدينية

عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، أنه قال: «صانع المنافق بلسانك، وأخلص ودك للمؤمن، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته»(2).

حق الحيوان

روى جابر الجعفي قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) إلى الحج - وأنا زميله - إذ أقبل ورشان، فوقع على عضادتي محمله فترنم، فذهبت لآخذه. فصاح بي: «مه - يا جابر - فإنه استجار بنا أهل البيت». فقلت: وما الذي شكا إليك؟!. فقال: «شكا إليَّ أنه يفرخ في هذا الجبل منذ ثلاث سنين، وأن حيةً تأتيه فتأكل فراخه، فسألني أن أدعو اللّه عليها ليقتلها، ففعلت وقد قتلها اللّه»(3).

ص: 131


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص150، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- الزهد: ص22، الباب2، ح49.
3- الخرائج والجرائح: ج2 ص604، الباب14، فصل في أعلام الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ، ح12.

15

طغاة عصر الإمام

اشارة

حكم في زمن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عدد من الطغاة، من حكام بني أمية وبني مروان، بدءاً من معاوية بن أبي سفيان(1)، ويزيد بن معاوية، إلى هشام بن عبد الملك.

وكان منهم في فترة إمامته (عليه السلام) :

الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وكان هشام هو الذي سمه، وقتله في سنة 114 هجرية.

عداء بني مروان

عن يونس النحوي اللغوي، قال: حضرت مجلس الخليل بن أحمد العروضي، قال: حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد اسحنفر في سب علي (عليه السلام) ، واثعنجر في ثلبه، إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له، وذفراها يسيلان لإغذاذ السير دماً، فلما رآه الوليد (لعنه اللّه) في منظرته. قال: ائذنوا لهذا الأعرابي؛ فإني أراه قد قصدنا.

ص: 132


1- حيث ولد الإمام الباقر (عليه السلام) سنة 57 هجرية ومات معاوية سنة 60 هجرية.

وجاء الأعرابي فعقل ناقته بطرف زمامها، ثم أذن له فدخل، فأورده قصيدةً لم يسمع السامعون مثلها جودةً قط، إلى أن انتهى إلى قوله:

ولما أن رأيت الدهر ألّى***عليَّ ولح في إضعاف حالي

وفدت إليك أبغي حسن عقبى***أسد بها خصاصات العيال

قال: فقبل مدحته، وأجزل عطيته. وقال له: يا أخا العرب، قد قبلنا مدحتك، وأجزلنا صلتك، فاهج لنا علياً أبا تراب!.

فوثب الأعرابي يتهافت قطعاً، ويزأر حنقاً، ويشمذر شفقاً، وقال: واللّهِ إن الذي عنيته بالهجاء، لهو أحق منك بالمديح، وأنت أولى منه بالهجاء.

فقال له جلساؤه: اسكت نزحك اللّه. قال: علامَ ترجوني، وبم تبشروني، ولما أبديت سقطاً، ولا قلت شططاً، ولا ذهبت غلطاً، على أنني فضَّلت عليه من هو أولى بالفضل منه، علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه) الذي تجلبب بالوقار، ونبذ الشنار، وعاف العار، وعمد الإنصاف، وأبدَّ الأوصاف، وحصن الأطراف، وتألف الأشراف، وأزال الشكوك في اللّه، بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم، الذي نزل به الناموس وحياً من ربه، ولم يفتر طرفاً، ولم يصمت إلفاً، ولم ينطق خلفاً، الذي شرفه فوق شرفه، وسلفه في الجاهلية أكرم من سلفه، لا تعرف الماديات في الجاهلية إلا بهم، ولا الفضل إلا فيهم، صفوة من اصطفاها اللّه واختارها، فلا يغتر الجاهل بأنه قعد عن الخلافة بمثابرة من ثابر عليها، وجالد بها، والسلال المارقة، والأعوان الظلمة، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقها بالسبق. تاللّه ما لكم الحجة في ذلك، هلا سبق صاحبكم إلى المواضع الصعبة، والمنازل الشعبة، والمعارك المرة، كما سبق إليها علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه)، الذي لم يكن بالقبعة، ولا الهبعة، ولا مضطغناً آل

ص: 132

اللّه، ولا منافقاً رسول الّه، كان يدرأ عن الإسلام كل أصبوحة، ويذب عنه كل أمسية، ويلج بنفسه في الليل الديجور المظلم الحلكوك، مرصداً للعدو هوذل تارةً، وتضكضك أخرى، ويا رب لزبة آتية قسية، وأوان آن أرونان، قذف بنفسه في لهوات وشيجة، وعليه زغفة ابن عمه الفضفاضة، وبيده خطية عليها سنان لهذم، فبرز عمرو بن ود، القرم الأود، والخصم الألد، والفارس الأشد، على فرس عنجوج، كأنما نجر نجره باليلنجوج، فضرب قونسه ضربةً، قنع منها عنقه، أ و نسيتم عمرو بن معديكرب الزبيدي، إذ أقبل يسحب ذلاذل درعه، مدلاّ بنفسه، قد زحزح الناس عن أماكنهم، ونهضهم عن مواضعهم، ينادي: أين المبارزون، يميناً وشمالاً، فانقض عليه كسوذنيق، أو كصيخودة منجنيق فوقصه، وقص القطام بحجره الحمام، وأتى به إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كالبعير الشارد، يقاد كرهاً، وعينه تدمع، وأنفه ترمع، وقلبه يجزع، هذا وكم له من يوم عصيب، برز فيه إلى المشركين بنية صادقة، وبرز غيره وهو أكشف أميل، أجم أعزل، ألا وإني مخبركم بخبر، على أنه مني بأوباش كالمراطة بين لغموط، وحجابه وفقامه، ومغذمر ومهزمر، حملت به شوهاء شهواء في أقصى مهيلها، فأتت به محضاً بحتاً، وكلهم أهون على علي من سعدانة بغل، أ فمثل هذا يستحق الهجاء، وعزمه الحاذق، وقوله الصادق وسيفه الفالق، وإنما يستحق الهجاء من سامه إليه، وأخذ الخلافة وأزالها عن الوارثة، وصاحبها ينظر إلى فيئه، وكأن الشبادع تلسبه، حتى إذا لعب بها فريق بعد فريق، وخريق بعد خريق، اقتصروا على ضراعة الوهز، وكثرة الأبز، ولو ردوه إلى سمت الطريق، والمرت البسيط، والتامور العزيز، ألفوه قائماً واضعاً الأشياء في مواضعها، لكنهم انتهزوا الفرصة، واقتحموا الغصة، وباءوا بالحسرة.

ص: 133

قال: فاربد وجه الوليد، وتغير لونه، وغص بريقه، وشرق بعبرته، كأنما فقئ في عينه حب المض الحاذق، فأشار عليه بعض جلسائه بالانصراف، وهو لا يشك أنه مقتول به.

فخرج، فوجد بعض الأعراب الداخلين. فقال له: هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وآخذ خلعتك السوداء، وأجعل لك بعض الجائزة حظاً. ففعل الرجل، وخرج الأعرابي فاستوى على راحلته، وغاص في صحرائه، وتوغل في بيدائه، واعتقل الرجل الآخر، فضرب عنقه، وجيء به إلى الوليد. فقال: ليس هو هذا بل صاحبنا، وأنفذ الخيل السراع في طلبه، فلحقوه بعد لأي، فلما أحس بهم، أدخل يده إلى كنانته، يخرج سهماً سهماً، يقتل به فارساً، إلى أن قتل من القوم أربعين، وانهزم الباقون، فجاءوا إلى الوليد فأخبروه بذلك، فأغمي عليه يوماً وليلةً أجمع. قالوا: ما تجد؟. قال: أجد على قلبي غمةً كالجبل من فوت هذا الأعرابي، فلله دره(1).

عبد الملك وغصب الخلافة

قال رجل لعبد الملك بن مروان: أناظرك وأنا آمن. قال: نعم. فقال له: أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أ بنص من اللّه ورسوله؟. قال: لا. قال: اجتمعت الأمة فتراضوا بك؟. فقال: لا. قال: فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها؟. قال: لا. قال: فاختارك أهل الشورى؟. قال: لا. قال: أ فليس قد قهرتهم على أمرهم، واستأثرت بفيئهم دونهم؟. قال: بلى. قال: فبأي شيء سميت أمير المؤمنين، ولم يؤمرك اللّه ولا رسوله ولا المسلمون؟. قال له: اخرج عن بلادي وإلا قتلتك. قال: ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف. ثم خرج عنه(2).

من سيرة الطغاة

عن الثمالي، قال: حدثني من حضر عبد الملك بن مروان، وهو يخطب الناس بمكة، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته، قام إليه رجل. فقال له: مهلاً مهلاً، إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون. أ فاقتداءً بسيرتكم أم طاعةً لأمركم، فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا، فكيف يقتدى بسيرة الظالمين، وما الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال اللّه دولاً، وجعلوا عباد اللّه خولاً. وإن قلتم: أطيعوا أمرنا، واقبلوا نصحنا، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه، أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة. وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات، وأعرف بوجوه اللغات منكم. فتزحزحوا عنها، وأطلقوا أقفالها، وخلوا سبيلها، ينتدب لها الذين شردتم في البلاد، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد. فو اللّهِ ما قلدناكم أزمة أمورنا، وحكمناكم في أموالنا وأبداننا وأدياننا، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين، غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة، وبلوغ الغاية، وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه، وكتاب لابد أن يتلوه، {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}(3)، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}(4). قال: فقام إليه بعض

ص: 135


1- العدد القوية لدفع المخاوف اليومية: ص253-259، اليوم21، نبذة من أحوال أمير المؤمنين (عليه السلام) وكيفية شهادته.
2- بحار الأنوار: ج46 ص335، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح23.
3- سورة الكهف: 49.
4- سورة الشعراء: 227.

أصحاب المسالح فقبض عليه، وكان آخر عهدنا به، ولا ندري ما كانت حاله(1).

عبد الملك والوزغ

عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، قال: «إن عبد الملك لما نزل به الموت مسخ وزغاً، فكان عنده ولده ولم يدروا كيف يصنعون، وذهب ثم فقدوه، فأجمعوا على أن أخذوا جذعاً، فصنعوه كهيئة رجل ففعلوا ذلك، وألبسوا الجذع، ثم كفنوه في الأكفان، لم يطلع عليه أحد من الناس إلا ولده وأنا»(2).

موت الحجاج

مما وقع في زمان الإمام الباقر (عليه السلام) ، موت الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان الحجاج قمة في الاستبداد والظلم، وقتل الناس وتعذيبهم، ومصادرة أموالهم، وهتك أعراضهم، واستراح الناس بموت الحجاج من كثير ظلمه، وإن كانت البلاد تئن من جور عماله.

قيل: وآخر من قتله الحجاج كان سعيد بن جبير (رضوان اللّه عليه).

وفي كتاب (مجالس المؤمنين) أن بعد استشهاد سعيد، لم يبق الحجاج أربعين يوماً، وكان في مرض موته يغمى عليه ويفيق وهو يقول: ماذا يريد مني سعيد بن جبير، وكان عمر سعيد حين ما قُتل 49 سنة، وقبره في واسط بالعراق.

مع عمر بن عبد العزيز

عن شريك، عن هشام بن معاذ، قال: كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة، فأمر مناديه فنادى: من كانت له مظلمة أو ظلامة، فليأتِ

ص: 136


1- الأمالي للمفيد: ص280-281، المجلس33، ح6.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص284، الباب6، ح17.

الباب. فأتى محمد بن علي يعني الباقر (عليه السلام) ، فدخل إليه مولاه مزاحم. فقال: إن محمد بن علي بالباب. فقال له: أدخله يا مزاحم.

قال: فدخل، وعمر يمسح عينيه من الدموع. فقال له محمد بن علي (عليه السلام) : «ما أبكاك يا عمر!». فقال هشام: أبكاه كذا وكذا يا ابن رسول اللّه. فقال محمد بن علي (عليه السلام) : «يا عمر، إنما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرهم، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه، حتى أتاهم الموت فاستوعبوا، فخرجوا من الدنيا ملومين؛ لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدةً، ولا مما كرهوا جُنةً، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن واللّه محقوقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها فنوافقهم فيها، وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها فنكف عنها. فاتق اللّه واجعل في قلبك اثنتين، تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك. واتق اللّه - يا عمر - وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد المظالم».

ثم قال (عليه السلام) : «ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان باللّه». فجثا عمر على ركبتيه، وقال: إيه يا أهل بيت النبوة. فقال: «نعم - يا عمر - من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له». فدعا عمر بدواة وقرطاس، وكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي (عليه السلام) فدك(1).

ص: 137


1- الخصال: ج1 ص104-105، باب الثلاث، ثلاث خصال من كن فيه فقد استكمل الإيمان، ح64.

أقول: كان ذلك من عمر بن عبد العزيز تظاهراً بحب أهل البيت (عليهم السلام) ، وإلا فأكبر الظلم في حقهم هو غصب الخلافة منهم.

التظاهر بإكرام العترة

عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) ، قال: «لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمةً - قال - فدخل عليه أخوه. فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم. فقال: أفضِّلهم؛ لأني سمعت حتى لا أبالي ألا أن أسمع أو لا أسمع، أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول: إنما فاطمة شجنة مني، يسرني ما أسرها، ويسوؤني ما أساءها، فأنا أبتغي سرور رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأتقي مساءته»(1).

غلة فدك

عن عبد اللّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: عرض في نفس عمر بن عبد العزيز شيء من فدك. فكتب إلى أبي بكر - وهو على المدينة -: انظر ستة آلاف دينار، فزد عليها غلة فدك أربعة آلاف دينار، فاقسمها في ولد فاطمة (رضي اللّه عنهم) من بني هاشم. وكانت فدك للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصةً، فكانت مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(2).

غصب الخلافة

روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان: أن أوفد إليَّ من علماء

ص: 138


1- بحار الأنوار: ج46 ص320، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح1.
2- الأمالي للطوسي: ص266، المجلس10، ح490.

بلادك مائة رجل أسألهم عن سيرتك. فجمعهم وقال لهم ذلك، فاعتذروا وقالوا: إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته، وعدله لا يقتضي إجبارنا، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده، ولساننا لديه، فقوله قولنا، ورأيه رأينا.

فأوفد به العامل إليه، فلما دخل عليه سلم وجلس. فقال - الوافد - له: أخل لي المجلس. فقال له: ولِمَ ذلك! وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك، أو تقول باطلاً فيكذبوك. فقال له: ليس من أجلي أريد خلو المجلس؛ ولكن من أجلك، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه.

فأمر عمر بن عبد العزيز بإخراج أهل المجلس، ثم قال له: قل. فقال: أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك؟.

فسكت طويلاً، فقال له: ألا تقول. فقال: لا. فقال: ولِمَ؟. فقال له: إن قلت بنص من اللّه ورسوله كان كذباً، وإن قلت بإجماع المسلمين، قلت فنحن أهل بلاد المشرق، ولم نعلم بذلك، ولم نجمع عليه، وإن قلت بالميراث من آبائي، قلت بنو أبيك كثير، فلم تفردت أنت به دونهم.

فقال له: الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك، أ فأرجع إلى بلادي. فقال: لا، فو اللّهِ إنك لواعظ قط.

فقال له: فقل ما عندك بعد ذلك. فقال له: رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار، واستأثر بفي ء المسلمين، وعلمت من نفسي أني لا أستحل ذلك، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت. فقال له: أخبرني لو لم تلِ هذا الأمر، ووليه غيرك، وفعل ما فعل من كان قبله، أ كان يلزمك من إثمه شيء؟. فقال لا. فقال له: فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك، وسلامته

ص: 139

بخطرك. فقال له: إنك لواعظ قط.

فقام ليخرج، ثم قال له: واللّهِ لقد هلك أولنا بأولكم، وأوسطنا بأوسطكم، وسيهلك آخرنا بآخركم، واللّه المستعان عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل(1).

هشام وسياسة الافتراء

لاقى الإمام الباقر (عليه السلام) من هشام بن عبد الملك أشد الظلم، وقد أشخص هشامُ الإمامَ إلى الشام لمزيد من الضغط والإيذاء. فلما جيء بالإمام (عليه السلام) إلى دمشق، ظهر من الإمام (عليه السلام) العديد من المعاجز والكرامات، ودار بين الإمام وبين هشام بعض الكلام، مما أثبت مكانة الإمام من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعظيم علمه. وكذلك التقى الإمام (عليه السلام) في نفس السفرة بكبير القساوسة، ودار بينهما الحديث، حتى اعترف القسيس بأن الإمام أعلم أهل زمانه، عند ذلك أمر هشام بإرجاع الإمام (عليه السلام) إلى المدينة فوراً. وكتب إلى عماله في المدن التي كانت في الطريق، بأن يمنعوا الإمام (عليه السلام) من الالتقاء بالناس، ويحذرهم عن ذلك، ويهددهم إن سلَّموا على الإمام أو صافحوه، كما اتهم هشام الإمام بالكفر - والعياذ باللّه - والخروج عن الدين.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) ، وكان مصاحباً لأبيه الباقر (صلوات اللّه عليه) في ذلك السفر:

«وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة: أن ابنَي أبي تراب الساحرَين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابَين - بل هو

ص: 139


1- أعلام الدين في صفات المؤمنين: ص329-330، فصل من أقوال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة ومواعظهم، وصية لقمان لولده.

الكذَّاب لعنه اللّه - فيما يظهران من الإسلام وردا عليَّ، ولما صرفتهما إلى المدينة، مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى، وأظهرا لهما دينهما، ومرقا من الإسلام إلى الكفر دين النصارى، وتقربا إليهم بالنصرانية، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس: برئت الذمة ممن يشاريهما، أو يبايعهما، أو يصافحهما، أو يسلِّم عليهما؛ فإنهما قد ارتدا عن الإسلام - قال - ورأى الأمير أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة.

قال: فورد البريد إلى مدينة مدين، فلما شارفنا مدينة مدين، قدَّم أبي غلمانه؛ ليرتادوا لنا منزلاً، ويشروا لدوابنا علفاً، ولنا طعاماً. فلما قرب غلماننا من باب المدينة، أغلقوا الباب في وجوهنا، وشتمونا، وذكروا علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه). فقالوا: لا نزول لكم عندنا، ولا شراء ولا بيع، يا كفار، يا مشركين، يا مرتدين، يا كذابين، يا شر الخلائق أجمعين!.

فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم، فكلمهم أبي (عليه السلام) ، وليَّن لهم القول، وقال لهم: اتقوا اللّه ولا تغلظوا، فلسنا كما بلغكم، ولا نحن كما تقولون، فاسمعونا. فقال لهم: فهبنا كما تقولون، افتحوا لنا الباب وشارونا وبايعونا، كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس.

فقالوا: أنتم شر من اليهود والنصارى والمجوس؛ لأن هؤلاء يؤدون الجزية، وأنتم ما تؤدون.

فقال لهم أبي (عليه السلام) : فافتحوا لنا الباب وأنزلونا، وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم.

فقالوا: لا نفتح ولا كرامة لكم، حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً، أو تموت دوابكم تحتكم!

ص: 140

فوعظهم أبي (عليه السلام) ، فازدادوا عتواً ونشوزاً»، الحديث(1).

التجاسر على الإمام

قال القتيبي في عيون الأخبار: إن هشاماً قال لزيد بن علي (عليه السلام) : ما فعل أخوك البقرة!. فقال زيد: سماه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باقر العلم، وأنت تسميه بقرةً، لقد اختلفتما إذاً.

قال زيد بن علي (عليه السلام) :

ثوى باقر الئعلم في ملحد***إمام الورى طيب المولد

فمن لي سوى جعفر بعده***إمام الورى الأوحد الأمجد

أبا جعفر الخير أنت الإمام***وأنت المرجى لبلوى غد(2)

أخبرني عن ليلة قتل أمير المؤمنين

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (صلوات اللّه عليه) قال: «بعث هشام بن عبد الملك إلى أبي (عليه السلام) فأشخصه إلى الشام. فلما دخل عليه قال له: يا أبا جعفر، إنما بعثت إليك لأسألك عن مسألة، لم يصلح أن يسألك عنها غيري، ولا ينبغي أن يعرف هذه المسألة إلا رجل واحد. فقال له أبي (عليه السلام) : يسألني الأمير عما أحب، فإن علمت أجبته، وإن لم أعلم قلت لا أدري، وكان الصدق أولى بي.

فقال هشام: أخبرني عن الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب (عليه السلام) بما استدل الغائب عن المصر الذي قتل فيه على ذلك، وما كانت العلامة فيه للناس، وأخبرني هل كانت لغيره في قتله عبرة؟.

ص: 141


1- دلائل الإمامة: ص240-241، أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام) ، ذكر معجزاته (عليه السلام) ، ح162.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص197، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .

فقال له أبي (عليه السلام) : إنه لما كانت الليلة التي قتل فيها علي (صلوات اللّه عليه)، لم يرفع عن وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط حتى طلع الفجر، وكذلك كانت الليلة التي فقد فيها هارون أخو موسى (صلوات اللّه عليهما)، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها يوشع بن نون، وكذلك كانت الليلة التي رفع فيها عيسى ابن مريم (عليه السلام) ، وكذلك الليلة التي قتل فيها الحسين (صلوات اللّه عليه).

فتربد وجه هشام، وامتقع لونه، وهم أن يبطش بأبي. فقال له أبي: يا أمير، الواجب على الناس الطاعة لإمامهم، والصدق له بالنصيحة، وإن الذي دعاني إلى ما أجبت به الأمير فيما سألني عنه، معرفتي بما يجب له من الطاعة، فليحسن ظن الأمير.

فقال له هشام: أعطني عهد اللّه وميثاقه ألا ترفع هذا الحديث إلى أحد ما حييت، فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه»(1).

توبيخ الإمام وحبسه

روى الحسين بن محمد، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، قال: لما حمل أبو جعفر (عليه السلام) إلى الشام، إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه, قال هشام لأصحابه: إذا سكت من توبيخ محمد بن علي فلتوبخوه. ثم أمر أن يؤذن له، فلما دخل عليه أبو جعفر (عليه السلام) ، قال بيده: «السلام عليك». فعمهم بالسلام جميعاً ثم جلس، فازداد هشام عليه حنقاً؛ بتركه السلام بالخلافة، وجلوسه بغير إذن. فقال: يا محمد بن علي، لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه،

ص: 142


1- قصص الأنبياء (عليهم السلام) للراوندي: ص143- 144، الباب7، الفصل2، ح155.

وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم!. وجعل يوبخه، فلما سكت أقبل القوم عليه رجل بعد رجل يوبخه.

فلما سكت القوم، نهض (عليه السلام) قائماً ثم قال: «أيها الناس، أين تذهبون، وأين يراد بكم. بنا هدى اللّه أولكم، وبنا يختم آخركم؛ فإن يكن لكم ملك معجل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك؛ لأنا أهل العاقبة، يقول اللّه عز وجل: {وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1).

فأمر به إلى الحبس، فلما صار في الحبس تكلم، فلم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحن عليه. فجاء صاحب الحبس إلى هشام وأخبره بخبره، فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه؛ ليردوا إلى المدينة، وأمر أن لا تخرج لهم الأسواق، وحال بينهم وبين الطعام والشراب.

فساروا ثلاثاً لا يجدون طعاماً ولا شراباً، حتى انتهوا إلى مدين، فأغلق باب المدينة دونهم. فشكا أصحابه العطش والجوع، قال: فصعد جبلاً وأشرف عليهم، فقال بأعلى صوته: يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية اللّه، يقول اللّه: {بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(2).

قال: وكان فيهم شيخ كبير. فأتاهم فقال: يا قوم، هذه واللّه دعوة شعيب (عليه السلام) . واللّه لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق، لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم. فصدقوني هذه المرة وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون؛ فإني ناصح لكم. قال: فبادروا وأخرجوا إلى أبي جعفر (عليه السلام) وأصحابه الأسواق(3).

ص: 143


1- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.
2- سورة هود: 86.
3- الكافي: ج1 ص471-472، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ح5.

من ظلم هشام

كان هشام بن عبد الملك من أطغى بني أمية، وكان خشناً سفاكاً، حريصاً بخيلاً، حتى جمع في خزانته ما لم يجمعه من سبقه من الحكام.

قيل: إنه في سفره حجه كان يحمل ثلاثمائة بعير ملابسه فقط!

ولما مات هشام، لم يصرف ابنه وليد من أمواله لكفنه، لاعتقاده بأنها كلها من الحرام، فاشترى له كفناً قرضاً.

وكان كثير من الناس في زمان هشام على كثرة جمعه للأموال يعيشون أشد الفقر.

وقد ورث أحد أبنائه من أبيه مليون دينار ذهب, أي أكثر من أربعة آلاف وستمائة كيلو من الذهب.

ولكن وبعد مضي فترة رؤي بعض أبناء هشام يستعطون الناس في الأسواق.

هشام عند الموت

قيل: لما احتضر هشام، نظر إلى أهله وعياله وهم باكون عليه، فقال:

جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم له ما عمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر اللّه له(1).

دولة الطغاة قصيرة

عن زرارة، قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام، فذكر بني أمية ودولتهم. وقال له بعض أصحابه: إنما نرجو أن تكون صاحبهم، وأن يظهر اللّه عز وجل هذا الأمر على يدك. فقال (عليه السلام) : «ما أنا بصاحبهم، ولا يسرني أن أكون

ص: 144


1- أنساب الأشراف: ج8 ص421، هشام بن عبد الملك.

صاحبهم. إن أصحابهم أولاد الزنا. إن اللّه تبارك وتعالى لم يخلق منذ خلق السماوات والأرض سنين ولا أياماً أقصر من سنيهم وأيامهم. إن اللّه عزوجل يأمر الملك الذي في يده الفلك فيطويه طياً»(1).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: كنا عنده وذكروا سلطان بني أميّة. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «لا يخرج على هشام أحد إلا قتله». قال: وذكر ملكه عشرين سنةً - قال - فجزعنا. فقال: «ما لكم! إذا أراد اللّه عز وجل أن يهلك سلطان قوم، أمر الملك فأسرع بالسير الفلك، فقدَّر على ما يريد». قال: فقلنا لزيد هذه المقالة. فقال: إني شهدت هشاماً ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسب عنده، فلم ينكر ذلك ولم يغيره. فو اللّهِ لو لم يكن إلا أنا وابني لخرجت عليه»(2).

ما منع جباركم الدوانيقي

عن أبي بصير، قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) جالساً في المسجد، إذ أقبل داود بن علي، وسليمان بن خالد، وأبو جعفر عبد اللّه بن محمد أبو الدوانيق. فقعدوا ناحيةً من المسجد، فقيل لهم: هذا محمد بن علي (عليه السلام) جالس. فقام إليه داود بن علي وسليمان بن خالد، وقعد أبو الدوانيق مكانه، حتى سلموا على أبي جعفر (عليه السلام) .

فقال لهم أبو جعفر (عليه السلام) : «ما منع جباركم من أن يأتيني». فعذروه عنده، فقال عند ذلك أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) : «أ ما واللّهِ لا تذهب الليالي والأيام

ص: 145


1- بحار الأنوار: ج46 ص281، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح83.
2- الكافي: ج8 ص394-395، كتاب الروضة، خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ح593.

حتى يملك ما بين قطريها، ثم ليطأن الرجال عقبه، ثم ليذلن له رقاب الرجال، ثم ليملكن ملكاً شديداً.

فقال له داود بن علي: وإن ملكنا قبل ملككم!. قال: «نعم يا داود. إن ملككم قبل ملكنا، وسلطانكم قبل سلطاننا». فقال له: أصلحك اللّه، هل له من مدة؟. فقال: «نعم يا داود. واللّهِ لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه، ولا سنةً إلا ملكتم مثليها، ولتتلقفها الصبيان منكم كما تتلقف الصبيان الكرة».

فقام داود بن علي من عند أبي جعفر (عليه السلام) فرحاً، يريد أن يخبر أبا الدوانيق بذلك، فلما نهضا جميعاً هو وسليمان بن خالد، ناداه أبو جعفر (عليه السلام) من خلفه: «يا سليمان بن خالد، لا يزال القوم في فسحة من ملكهم ما لم يصيبوا منا دماً حراماً - وأومأ بيده إلى صدره - فإذا أصابوا ذلك الدم، فبطن الأرض خير لهم من ظهرها، فيومئذٍ لا يكون لهم في الأرض ناصر، ولا في السماء عاذر».

ثم انطلق سليمان بن خالد فأخبر أبا الدوانيق، فجاء أبو الدوانيق إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، فسلم عليه ثم أخبره بما قال له داود بن علي وسليمان بن خالد. فقال له: «نعم - يا أبا جعفر - دولتكم قبل دولتنا، وسلطانكم قبل سلطاننا، سلطانكم شديد عسر لا يسر فيه، وله مدة طويلة. واللّهِ لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه، ولا سنةً إلا ملكتم مثليها، ولتتلقفها صبيان منكم فضلاً عن رجالكم كما تتلقف الصبيان الكرة، أ فهمت».

ثم قال (عليه السلام) : «لا تزالون في عنفوان الملك ترغدون فيه، ما لم تصيبوا منا دماً حراماً، فإذا أصبتم ذلك الدم غضب اللّه عز وجل عليكم، فذهب بملككم وسلطانكم، وذهب بريحكم، وسلط اللّه عليكم عبداً من عبيده أعور - وليس بأعور - من آل أبي سفيان، يكون استئصالكم على يديه وأيدي أصحابه»، ثم

ص: 146

قطع (عليه السلام) الكلام(1).

ملك بني العباس

عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : جعلت فداك، إنا نتحدث أن لآل جعفر رايةً، ولآل فلان رايةً، فهل في ذلك شيء؟. فقال: «أما لآل جعفر فلا. وأما راية بني فلان، فإن لهم ملكاً مبطئاً، يقربون فيه البعيد، ويبعدون فيه القريب، وسلطانهم عسر ليس فيه يسر، لا يعرفون في سلطانهم من أعلام الخير شيئاً، يصيبهم فيه فزعات ثم فزعات، كل ذلك يتجلى عنهم، حتى إذا أمنوا مكر اللّه وأمنوا عذابه، وظنوا أنهم قد استقروا، صيح فيهم صيحةً لم يكن لهم فيها منادٍ يسمعهم ولا يجمعهم، وذلك قول اللّه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا - إلى قوله - لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(2)، ألا إنه ليس أحد من الظلمة إلا ولهم بقيا، إلا آل فلان فإنهم لا بقيا لهم». قال: جعلت فداك، أ ليس لهم بقيا؟!. قال: «بلى، ولكنهم يصيبون منا دماً، فبظلمهم نحن وشيعتنا فلا بقيا لهم»(3).

زوال الحكومات الظالمة

من الوقائع المهمة في زمان الإمام الباقر (عليه السلام) ، فترة ضعف حكومة بني أمية وقرب زوالها؛ لينتقل الحكم إلى بني العباس، وكان هذا سبباً للضغط الكبير على الناس. فمن جانب ظلم بني أمية، ومن جانب ظلم أنصار بني العباس، حيث كانوا يقتلون الناس الأبرياء، ويحرقون البيوت، ويهتكون الأعراض،

ص: 147


1- بحار الأنوار: ج46 ص341-342، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح33.
2- سورة يونس: 24.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج3 ص22-23، سورة يونس: آية 24، ح4867.

وينهبون الأموال، وذلك في قصص عديدة ذكرها بعض المؤرخين.

وهكذا تكون الحكومات الظالمة والمستبدة، فهي في حدوثها وبقائها وزوالها ظلم على الناس.

بين حكم الطغاة وحكم المعصوم

ومن المناسب هنا أن نشير إلى آخر كلمات أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)؛ ليتبين الفرق بين الحكومات الظالمة والحكومات العادلة الإلهية.

روى المحدث النوري في مستدرك الوسائل، عن الإمام السجاد والإمام الباقر (عليهما السلام) وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، حيث قال (صلوات اللّه عليه):

«أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يَدَّعِي قِبَلِي جَوْراً فِي حُكْمٍ، أَوْ ظُلْماً فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، فَلْيَقُمْ أُنْصِفْهُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً حَسَناً، وَأَطْرَاهُ وَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ فِي كَلاَمٍ طَوِيلٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) : أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُتَكَلِّمُ، لَيْسَ هَذَا حِينَ إِطْرَاءٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَنِي أَحَدٌ فِي هَذَا الْمَحْضَرِ بِغَيْرِ النَّصِيحَةِ، وَاللّهُ الشَّاهِدُ عَلَى مَنْ رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلَمْ يُعْلِمْنِيهِ؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْتَعْتِبَ مِنْ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ تَفُوتَ نَفْسِي».

إلى أن قال (عليه السلام) : «أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْكُمْ، أَلاَّ يَقُومَ أَحَدٌ فَيَقُولَ: أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ فَخِفْتُ. فَقَدْ أَعْذَرْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يُرِيدُ ظُلْمِي، وَالدَّعْوَى قِبَلِي بِمَا لَمْ أَجُرْ. أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحِلَّ مِنْ أَحَدٍ مَالاً، وَلَمْ أَسْتَحِلَّ مِنْ أَحَدٍ دَماً بِغَيْرِ حَقٍّ».

إلى أن قالا (عليهما السلام) : «ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا عَدُوَّكَ الرَّجِيمَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، وَأَنْتَ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. فَلَكَ الْحَمْدُ عَدَدَ نَعْمَائِكَ لَدَيَّ وَإِحْسَانِكَ عِنْدِي، فَاغْفِرْ لِي

ص: 148

وَارْحَمْنِي وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.

ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عُدَّةً لِهَذَا الْمَوْقِفِ، وَلِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَوَاقِفِ. اللَّهُمَّ اجْزِ مُحَمَّداً مِنَّا أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، وَبَلِّغْهُ مِنَّا أَفْضَلَ السَّلاَمِ. اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِهِ، وَلاَ تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: حَفِظَكُمُ اللّهُ وَحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ، وَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللّهَ، وَأَقْرَأَ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ، حَتَّى قُبِضَ (عليه السلام) »(1).

الدعاء على الظلمة

عن جابر بن يزيد الجعفي، أنه لما شكت الشيعة إلى زين العابدين (عليه السلام) مما يلقونه من بني أمية، دعا الباقر (عليه السلام) ، وأمره أن يأخذ الخيط الذي نزل به جبرئيل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويحركه تحريكاً.

قال: فمضى (عليه السلام) إلى المسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم وضع خده على التراب، وتكلم بكلمات، ثم رفع رأسه، فأخرج من كمه خيطاً رقيقاً، يفوح منه رائحة المسك، وأعطاني طرفاً منه، فمشيت رويداً. فقال: «قف يا جابر». فحرك الخيط تحريكاً ليناً خفيفاً، ثم قال: «اخرج فانظر ما حال الناس». قال: فخرجت من المسجد، فإذا صياح وصراخ، وولولة من كل ناحية، وإذا زلزلة شديدة وهدة ورجفة، الحديث(2).

ص: 149


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص129-130، تتمة كتاب الطهارة، الباب29 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح1618.
2- بحار الأنوار: ج46 ص274-277، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح80.

وفي حديث: لما دعا الإمام الباقر (عليه السلام) على أهل المدينة، وذلك بأمر والده الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، حينما أكثر الناس من ظلم العترة، والجور على شيعتهم، وكثرة شتمهم لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، حدث زلزال كبير، خاف منهم الوالي وجميع الناس. فاجتمع الناس في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وجاء الوالي وقال:

معاشر الناس، احضروا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علي بن الحسين (عليه السلام) ، وتقربوا به إلى اللّه تعالى، وتضرعوا إليه، وأظهروا التوبة والإنابة؛ لعل اللّه يصرف عنكم العذاب.

قال جابر (رفع اللّه درجته): فلما بصر الأمير بالباقر محمد بن علي (عليه السلام) سارع نحوه. فقال: يا ابن رسول اللّه، أ ما ترى ما نزل بأمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد هلكوا وفنوا - ثم قال له - أين أبوك حتى نسأله أن يخرج معنا إلى المسجد، فنتقرب به إلى اللّه تعالى؛ فيرفع عن أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) البلاء. فقال الباقر (عليه السلام) : «يفعل إن شاء اللّه تعالى، ولكن أصلحوا من أنفسكم، وعليكم بالتوبة والنزوع عما أنتم عليه، فإنه لا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون.

قال جابر (رضوان اللّه عليه): فأتينا زين العابدين (عليه السلام) بأجمعنا وهو يصلي، فانتظرنا حتى انفتل، وأقبل علينا، ثم قال لابنه سراً: «يا محمد، كدت أن تهلك الناس جميعاً». قال جابر: قلت: واللّهِ - يا سيدي - ما شعرت بتحريكه حين حركه. فقال (عليه السلام) : «يا جابر، لو شعرت بتحريكه ما بقي عليها نافخ نار، فما خبر الناس؟».

فأخبرناه فقال: «ذلك مما استحلوا منا محارم اللّه، وانتهكوا من حرمتنا». فقلت: يا ابن رسول اللّه، إن سلطانهم بالباب قد سألنا أن نسألك أن تحضر المسجد، حتى تجتمع الناس إليك يدعون، ويتضرعون إليه، ويسألونه الإقالة.

ص: 150

فتبسم (عليه السلام) ثم تلا: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}(1).

قلت: يا سيدي ومولاي، العجب أنهم لا يدرون من أين أتوا. فقال (عليه السلام) : «أجل - ثم تلا - {فَاليَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(2). هي واللّهِ يا جابر آياتنا، وهذه واللّهِ إحداها، وهي مما وصف اللّه تعالى في كتابه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(3)».

ثم قال (عليه السلام) : «يا جابر، ما ظنك بقوم أماتوا سنتنا، وضيعوا عهدنا، ووالوا أعداءنا، وانتهكوا حرمتنا، وظلمونا حقنا، وغصبونا إرثنا، وأعانوا الظالمين علينا، وأحيوا سنتهم، وساروا سيرة الفاسقين الكافرين في فساد الدين، وإطفاء نور الحق؟».

قال جابر: فقلت: الحمد لله الذي منَّ عليَّ بمعرفتكم، وعرفني فضلكم، وألهمني طاعتكم، ووفقني لموالاة أوليائكم، ومعاداة أعدائكم.

فقال (صلوات اللّه عليه): «يا جابر، أ تدري ما المعرفة؟». فسكت جابر، فأورد عليه الخبر بطوله(4).

ضرب السكة

من الوقائع المهمة في زمان الإمام الباقر (عليه السلام) ضرب السكة.

ص: 151


1- سورة غافر: 50.
2- سورة الأعراف: 51.
3- سورة الأنبياء: 18.
4- بحار الأنوار: ج46 ص278-279، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح80.

يقول الدميري ما ملخصه: إن ملك الروم هدد عبد الملك في كتابه إليه: ولآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش من بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيك.

إلى أن قال: فلما قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض. وقال: أحسبني أشأم مولود ولدت في الإسلام؛ لأني جنيت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشتم هذا الكافر، ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم.

فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به.

فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه.

فقال: ويحك من؟.

فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قال: صدقت، ولكنه ارتج عليَّ الرأي فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) مكرماً، ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه، وجهاز من يخرج معه من أصحابه.

وهكذا فعل الوالي، فجاء الإمام (عليه الصلاة والسلام) إلى الشام، وأمر عبدَ الملك بضرب السكة، فإنه (عليه الصلاة والسلام) قال لعبد الملك: «إن تهديد ملك الروم ليس بشي من جهتين.

أحدهما: أن اللّه عز وجل لم يكن ليطلق ما يهدد به صاحب الروم في رسول

ص: 151

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

والآخر: وجود الحيلة».

فقال: وما هي؟. قال (عليه السلام) : «تدعو هذه الساعة بصناع؛ ليضربوا بين يديك السكك».

إلى أن قال: وكانت الدراهم من ذلك الوقت، إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم: بغلية؛ لأن رأس البغل ضربها لعمر بسكة كسروية في الإسلام، مكتوب عليها صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسي: (نوش خور) أي كل هنيئاً. ثم أمر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ، أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها، ففعل عبد الملك ما أمره الإمام (عليه الصلاة والسلام)(1).

وفي التاريخ أن أول من ضرب السكة الإسلامية هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)(2)، فإن ضرب السكة في زمان عمر كان على نحو السكك الفارسية(3).

ص: 153


1- حياة الحيوان الكبرى للدميري: ج1 ص90-92، خلافة عبد الملك بن مروان.
2- أعيان الشيعة: ج3 ص539، أول من أمر بضرب السكة الإسلامية.
3- العقد المنير للمازندراني: ص40، أول من أمر بضرب السكة في الإسلام.

16

استشهاد الإمام

اشارة

توفي الإمام محمد الباقر (عليه السلام) مسموماً شهيداً على يد هشام بن عبد الملك، في يوم السابع من ذي الحجة سنة أربع عشرة ومائة، وكان عمره الشريف سبعاً وخمسين سنةً.

هذه الليلة التي أقبض فيها

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه أتى أبا جعفر (عليه السلام) ليلة قُبض وهو يناجي، فأومأ إليه بيده أن تأخر، فتأخر حتى فرغ من المناجاة، ثم أتاه فقال: «أن يا بني هذه الليلة التي أقبض فيها، وهي الليلة التي قبض فيها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).

أي: من أيام الأسبوع.

عن أبي سلمة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه قال: «كنت عند أبي في اليوم الذي قُبض فيه أبي، محمد بن علي (عليه السلام) ، فأوصاني بأشياء في غسله، وفي كفنه، وفي دخوله قبره. قال: قلت: يا أبتاه، واللّهِ ما رأيت منذ اشتكيت أحسن هيئةً منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت. قال: يا بني، أ ما سمعت علي بن الحسين ناداني من وراء الجدر: أن يا محمد تعال عجِّل»(2).

ص: 152


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص482، الباب9، ح7.
2- بحار الأنوار: ج46 ص213، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح4.

تجهيز المعصوم

لما توفي الإمام الباقر (عليه السلام) مسموماً، أمر الإمام الصادق (عليه السلام) بأن يشعلوا الضوء في الحجرة التي توفي فيها.

عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : «كان فيما أوصى أبي (عليه السلام) إليَّ: إذا أنا مت فلا يلي غسلي أحد غيرك؛ فإن الإمام لا يغسله إلا إمام»(1).

وفي الكافي: عن الرضا (عليه السلام) ، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) حين احتضر: «إذا أنا مت فاحفروا لي، وشقوا لي شقاً؛ فإن قيل لكم: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحد له، فقد صدقوا»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن أبي (عليه السلام) قال لي ذات يوم في مرضه: يا بني، أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أُشهدهم - قال - فأدخلت عليه أناساً منهم. فقال: يا جعفر، إذا أنا مت فغسلني وكفني، وارفع قبري أربع أصابع، ورشه بالماء. فلما خرجوا قلت: يا أبتِ، لو أمرتني بهذا صنعته، ولم ترد أن أدخل عليك قوماً تشهدهم. فقال: يا بني، أردت أن لا تُنازع»(3).

قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : أي في إعمال تلك السنن، وارتكاب التغسيل والتكفين، أو في الإمامة، فإن الوصية من علاماتها(4).

ص: 154


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص137، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، باب ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- الكافي: ج3 ص166، كتاب الجنائز، باب حد حفر القبر واللحد والشق، ح2.
3- تهذيب الأحكام: ج1 ص320-321، كتاب الطهارة، الباب13، ح101.
4- بحار الأنوار: ج46 ص214، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، بيان.

الملائكة تغسله

عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن رجلاً كان على أميال من المدينة، فرأى في منامه فقيل له: انطلق فصل على أبي جعفر (عليه السلام) ؛ فإن الملائكة تغسله في البقيع. فجاء الرجل، فوجد أبا جعفر (عليه السلام) قد توفي»(1).

وصايا في التجهيز

عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كتب أبي (عليه السلام) في وصيته: أن أكفنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة، وثوب آخر وقميص. فقلت لأبي (عليه السلام) : لِمَ تكتب هذا؟!. فقال: أخاف أن يغلبك الناس، وإن قالوا: كفنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل، وعممني بعمامة وليس تعد العمامة من الكفن، إنما يعد ما يلف به الجسد»(2).

وروى الكليني بسنده عن الصادق (عليه السلام) ، قال: «إن أبي استودعني ما هنالك - يعني ما كان محفوظاً عنده من الكتب والسلاح وآثار الأنبياء ووداعهم - فلما حضرته الوفاة. قال: ادع لي شهوداً. فدعوت أربعة من قريش، فيهم: نافع مولى عبد اللّه بن عمر. فقال اكتب: هذا ما وصى به يعقوب بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(3). وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد، وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه يوم الجمعة، وأن يعممه

ص: 155


1- الكافي: ج8 ص183، كتاب الروضة، خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ح207.
2- تهذيب الأحكام: ج1 ص293، كتاب الطهارة، الباب13، ح25.
3- سورة البقرة: 132.

بعمامته، وأن يربع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحل عنه إطماره عند دفنه. ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم اللّه. فقلت له: يا أبتِ، ما كان في هذا بأن يشهد عليه!. فقال: يا بني، كرهت أن تغلب، وأن يقال: إنه لم يوصِ إليه، فأردت أن تكون لك الحجة»(1).

أقول: أراد (عليه السلام) أن يعلمهم أنه وصيه وخليفته والإمام من بعده.

مدفن الإمام

دفن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في المدينة المنورة في البقيع، مع أبيه الإمام علي بن الحسين، وعمه الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) ، في تلك البقعة المباركة التي تضم أربعة من الأئمة المعصومين (صلوات اللّه عليهم).

وكانت لهم قبة وضريح، حتى قام الوهابيون بهدمها، ويجب على المسلمين والمؤمنين الاهتمام لإعادة بناء تلك القبور الطاهرة والقبب الشامخة، بما يتناسب مع شأن الأئمة (عليهم السلام) وزوارهم.

إقامة العزاء و المآتم

روى الكليني أن الإمام محمد الباقر (عليه الصلاة والسلام) جعل مبلغاً حتى يقام له العزاء في كل سنة.

وهذا يدل على استحباب إقامة العزاء على المعصومين (عليهم السلام) .

في الكافي: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال لي أبي: «يا جعفر، أوقف لي من مالي كذا وكذا؛ لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى»(2).

ص: 156


1- الكافي: ج1 ص307، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي جعفر (عليه السلام) ، ح8.
2- الكافي: ج5 ص117، كتاب المعيشة، باب كسب النائحة، ح1.

وهذا يعني إقامة العزاء على الإمام، وبيان ظلامته في موسم الحج، وبحضور المسلمين.

وروى الكليني في الكافي بسنده: أن أبا جعفر (عليه السلام) أوصى بثمانمائة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السنة؛ لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: اتخذوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد شغلوا»(1).

ص: 157


1- الكافي: ج3 ص217، كتاب الجنائز، باب ما يجب على الجيران لأهل المصيبة واتخاذ المأتم، ح4.

17

أصحاب الإمام (عليه السلام)

اشارة

كان للإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) كثير من الأصحاب، وكان بعضهم من المخلصين والحواريين، وفي أصحابه الرواة، والعلماء، والفضلاء، والسادة، والقادة.

من أصحابه: جابر بن يزيد الجعفي، وحمران بن أعين، وزرارة، وعامر بن عبد اللّه بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وعبد اللّه بن شريك العامري، وفضيل بن يسار البصري، وسلام بن المستنير، وبريد بن معاوية العجلي، والحكم بن أبي نعيم.

وزياد بن المنذر الأعمى - وهو أبو الجارود -، وزياد بن أبي رجاء - وهو أبو عبيدة الحذاء -، وزياد بن سوقة، وزياد مولى أبي جعفر (عليه السلام) ، وزياد بن أبي زياد المنقري، وزياد الأحلام.

وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، وأبو بصير يحيى بن أبي القاسم مكفوف مولًى لبني أسد، واسم أبي القاسم: إسحاق، وأبو بصير كان يكنى بأبي محمد.

وغيرهم.

أين الحواريون؟

عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، قال: «إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: أين

ص: 156

حواري محمد بن علي، وحواري جعفر بن محمد (عليهما السلام) ؟. فيقوم: عبد اللّه بن شريك العامري، وزرارة بن أعين، وبريد بن معاوية العجلي، ومحمد بن مسلم الثقفي، وليث بن البختري المرادي، وعبد اللّه بن أبي يعفور، وعامر بن عبد اللّه بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وحمران بن أعين»، الخبر(1).

الأصحاب الفقهاء

قالوا: إن أفقه الأولين ستة، وهم أصحاب أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عليهما السلام) ، وهم: زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ المكي، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وبريد بن معاوية العجلي(2).

رحم اللّه جابر

عن زياد بن أبي الحلال، قال: اختلف الناس في جابر بن يزيد وأحاديثه وأعاجيبه. قال: فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أريد أن أسأله عنه. فابتدأني من غير أن أسأله: «رحم اللّه جابر بن يزيد الجعفي كان يصدق علينا، ولعن اللّه المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا»(3).

محمد بن مسلم

عن محمد بن مسلم، قال: ما شجر في قلبي شيء قط إلا سألت عنه أبا جعفر (عليه السلام) ، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث. وسألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ستة

ص: 156


1- الاختصاص: ص61-62، أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، حديث موسى بن جعفر (عليه السلام) مع يونس بن عبد الرحمن.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص211، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في أحواله وتاريخه (عليه السلام) .
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص238، الباب10، ح12.

عشر ألف حديث(1).

إنه مرضي وجيه

عن ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكنني القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كل ما يسألني عنه؟. قال: «فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي؛ فإنه قد سمع من أبي، وكان عنده مرضياً وجيهاً»(2).

سعد الخير

عن أبي حمزة، قال: دخل سعد بن عبد الملك - وكان أبو جعفر (عليه السلام) يسميه: سعد الخير، وهو من ولد عبد العزيز بن مروان - على أبي جعفر (عليه السلام) ، فنشج كما تنشج النساء. قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ما يبكيك يا سعد!». قال: وكيف لا أبكي، وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن.

فقال (عليه السلام) له: «لست منهم، أنت أموي منا أهل البيت، أ ما سمعت قول اللّه عز وجل يحكي عن إبراهيم (عليه السلام) : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(3)»(4).

أنت من شيعتنا

عن حمران بن أعين، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إني أعطيت اللّه عهداً أن لا أخرج من المدينة حتى تخبرني عما أسألك عنه. قال: فقال لي: «سل». قال:

ص: 161


1- بحار الأنوار: ج46 ص328، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح8.
2- الاختصاص: ص201-202، ما روي في أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ، ما روي في محمد بن مسلم.
3- سورة إبراهيم: 36.
4- البرهان في تفسير القرآن: ج3 ص313-314، سورة إبراهيم: آية 37، ح5769.

قلت: أ من شيعتكم أنا؟. قال: فقال: «نعم، في الدنيا والآخرة»(1).

اللّهم ارحم الكميت

في المناقب لابن شهرآشوب: بلغنا أن الكميت أنشد الباقر (عليه السلام) : من لقلب متيم مستهام. فتوجه الباقر (عليه السلام) إلى الكعبة، فقال: «اللّهم ارحم الكميت، واغفر له»، ثلاث مرات.

ثم قال (عليه السلام) : «يا كميت، هذه مائة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي».

فقال الكميت: لا واللّه لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون اللّه عز وجل الذي يكافيني، ولكن تكرمني بقميص من قمصك، فأعطاه(2).

لا تمدح الظالمين

قال الإمام الباقر (عليه السلام) لكُثير: «امتدحت عبد الملك!». فقال: ما قلت له: يا إمام الهدى وإنما قلت: يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس والشّمس جماد، ويا بحر والبحر موات، ويا حية والحية دويبة منتنة، ويا جبل وإنما هو حجر أصم. قال: فتبسم (عليه السلام) (3).

وأنشأ الكميت بين يديه:

من لقلب متيم مستهام***غير ما صبوة ولا أحلام

فلما بلغ إلى قوله:

أخلص اللّه لي هواي فما***أغرق نزعاً ولا تطيش سهامي

ص: 162


1- الاختصاص: ص196، ما روي في أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ، في حمران بن أعين.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص197، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في علمه (عليه السلام) .
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص207، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في معالي أموره (عليه السلام) .

فقال (عليه السلام) : «أغرق نزعاً وما تطيش سهامي».

فقال: يا مولاي، أنت أشعر مني في هذا المعنى(1).

معك روح القدس

عن الكميت بن زيد الأسدي، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) . فقال: «واللّهِ - يا كميت - لو كان عندنا مال لأعطيناك منه، ولكن لك ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت: لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنا». قال: قلت: خبرني عن الرجلين؟. قال: فأخذ الوسادة فكسرها في صدره، ثم قال: «واللّهِ - يا كميت - ما أهريق محجمة من دم، ولا أخذ مال من غير حله، ولا قلب حجر عن حجر، إلا ذاك في أعناقهما»(2).

إني أعتقتك لوجه اللّه

عن بكر بن صالح، أن عبد اللّه بن المبارك أتى أبا جعفر (عليه السلام) . فقال: إني رويت عن آبائك (عليهم السلام) : أن كل فتح بضلال فهو للإمام؟. فقال: «نعم». قلت: جعلت فداك، فإنهم أتوا بي من بعض فتوح الضلال، وقد تخلصت ممن ملكوني بسبب، وقد أتيتك مسترقاً مستعبداً. قال (عليه السلام) : «قد قبلت».

فلما كان وقت خروجه إلى مكة، قال: إني مذ حججت فتزوجت، ومكسبي مما يعطف عليَّ إخواني، لا شيء لي غيره، فمرني بأمرك. فقال (عليه السلام) : «انصرف إلى بلادك، وأنت من حجك وتزويجك وكسبك في حل».

ص: 163


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص207، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في معالي أموره (عليه السلام) .
2- الكافي: ج8 ص102-103، كتاب الروضة، حديث أبي بصير مع المرأة، ح75.

ثم أتاه بعد ست سنين، وذكر له العبودية التي ألزمها نفسه. فقال: «أنت حر لوجه اللّه تعالى». فقال اكتب لي به عهداً، فخرج كتابه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد بن علي الهاشمي العلوي لعبد اللّه بن المبارك فتاه، إني أعتقتك لوجه اللّه والدار الآخرة، لا رب لك إلا اللّه، وليس عليك سيد، وأنت مولاي ومولى عقبي من بعدي، وكتب في المحرم سنة ثلاث عشرة ومائة، ووقع فيه محمد بن علي بخط يده، وختمه بخاتمه»(1).

غربة المؤمن

روي أن محمد بن مسلم خرج إلى المدينة، وهو وجع ثقيل. فقيل للإمام الباقر (عليه السلام) : محمد بن مسلم وجع.

يقول محمد بن مسلم: فأرسل إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) بشراب مع الغلام، مغطًّى بمنديل. فناولنيه الغلام وقال لي: اشربه؛ فإنه قد أمرني أن لا أرجع حتى تشربه. فتناولت فإذا رائحة المسك منه، وإذا شراب طيب الطعم بارد، فلما شربته. قال لي الغلام: يقول لك: «إذا شربت فتعال». ففكرت فيما قال لي، ولا أقدر على النهوض قبل ذلك على رجلي، فلما استقر الشراب في جوفي، كأنما أنشطت من عقال. فأتيت بابه، فاستأذنت عليه، فصوَّت بي: «نصح الجسم (صحيح الجسم) ادخل». فدخلت وأنا باكٍ، فسلمت وقبلت يده ورأسه. فقال لي: «وما يبكيك يا محمد!». فقلت: جعلت فداك، أبكي على اغترابي، وبعد الشقة، وقلة المقدرة على المقام عندك، والنظر إليك. فقال لي: «أما قلة المقدرة فكذلك، جعل اللّه أولياءنا وأهل مودتنا وجعل البلاء إليهم سريعاً. وأما ما ذكرت من

ص: 163


1- بحار الأنوار: ج46 ص339، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح28.

الغربة، فلك بأبي عبد اللّه (عليه السلام) أسوة، بأرض ناءٍ عنا بالفرات (صلى اللّه عليه). وأما ما ذكرت من بعد الشقة، فإن المؤمن في هذه الدنيا غريب، وفي هذا الخلق منكوس، حتى يخرج من هذه الدار إلى رحمة اللّه. وأما ما ذكرت من حبك قربنا، والنظر إلينا، وأنك لا تقدر على ذلك، فاللّه يعلم ما في قلبك، وجزاؤك عليه»(1).

إنه مثل بلعم

عن سليمان اللبان، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : «أ تدري ما مثل المغيرة بن سعيد؟». قال: قلت: لا. قال: «مثله مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم، الذي قال اللّه: {آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ}(2)»(3).

اخرج إلى الجبان

عن جابر الجعفي، قال: حدثني أبو جعفر (عليه السلام) سبعين ألف حديث لم أحدث بها أحداً أبداً. قال جابر: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : جعلت فداك، إنك حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سركم الذي لا أحدث به أحداً، وربما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبيه الجنون. قال: «يا جابر، فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبان فاحفر حفيرةً، ودل رأسك فيها، ثم قل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا»(4).

ص: 164


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص181-182، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .
2- سورة الأعراف: 175.
3- تفسير العياشي: ج2 ص42، سورة الأعراف: آية 175، ح118.
4- بحار الأنوار: ج46 ص340، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح30.

جابر الجعفي والاختبار الصعب

يقول النعمان بن بشير: كنت مزاملاً لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنا بالمدينة، دخل على أبي جعفر (عليه السلام) ، فودعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتى وردنا (الأخيرجة) أول منزل تعدل من (فيد)(1)

إلى المدينة يوم الجمعة، فصلينا الزوال، فلما نهض بنا البعير، إذا أنا برجل طوال آدم معه كتاب فناوله، فقبله ووضعه على عينيه، وإذا هو: من محمد بن علي إلى جابر بن يزيد، وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك بسيدي؟.

فقال: الساعة. فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟. فقال: بعد الصلاة. قال: ففك الخاتم، وأقبل يقرؤه، ويقبض وجهه، حتى أتى على آخره، ثم أمسك الكتاب، فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتى وافى الكوفة. فلما وافينا الكوفة ليلاً بت ليلتي، فلما أصبحت أتيته إعظاماً له. فوجدته قد خرج عليَّ وفي عنقه كعاب قد علقها، وقد ركب قصبةً وهو يقول:

أجد منصور بن جمهور***أميراً غير مأمور

وأبياتاً من نحو هذا، فنظر في وجهي، ونظرت في وجهه، فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له. وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع عليَّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون: جن جابر بن يزيد.

فو اللّهِ ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه، أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه، وابعث إليَّ برأسه. فالتفت إلى جلسائه، فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟!. قالوا: أصلحك اللّه، كان

ص: 165


1- (أخيرجة) و(فيد): منزلان بين الكوفة ومكة.

رجلاً له علم وفضل وحديث، وحج فجن، وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه، فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب. فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله. قال: ولم تمض الأيام حتى دخل منصور بن جمهور الكوفة، وصنع ما كان يقول جابر(1).

وقد ولى وليد الأموي منصور بن جمهور على الكوفة في سنة 126 هجرية بعد عزل يوسف بن عمر.

ولما ارتفع الخطر عن جابر، رجع إلى صوابه، وكان يجلس بعد ذلك في مسجد الكوفة، ويروي الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

رسالة حرف الجيم

في رواية أن الإمام الباقر (عليه السلام) كتب حرف (الجيم) إلى بعض كبار أصحابه، فأحدهم عرف منه (جلاء الوطن)، فترك موطنه إلى بلد آخر، وبذلك نجى من طغاة بني أمية.

والآخر فهم منه (الجبل)، فترك المدن إلى الجبال، وخفي عن الأنظار، ونجى بذلك من الأشرار.

والثالث فهم منه (الجنون)، كما مر في قصة جابر الجعفي.

وبهذه الطريقة تمكن ثلاثة من كبار العلماء وأصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) ، أن يخلصوا أنفسهم من القتل على يد جلاوزة بني أمية، وذلك ببركة إرشاد الإمام (عليه الصلاة والسلام).

ص: 166


1- الكافي: ج1 ص396-397، كتاب الحجة، باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم، ح7.

جهود العلماء وتضحياتهم

وبهذه الجهود الكبيرة، والتي كانت تفوق طاقة الإنسان، تمكن هؤلاء العظماء من أصحاب وتلامذة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) من حفظ الإسلام، ومذهب أهل بيت (عليهم السلام) ، ونشر تعاليمه، وإيصاله إلى الأجيال القادمة، في تلك الظروف الصعبة، وفي مقابل حكام الفاسدين من بني أمية وبني العباس، الذين لم يتركوا جريمة في حق الإسلام ومذهب أهل بيت (عليهم السلام) إلا ارتكبوها.

نعم، هذه التضحيات والدقة في العمل، سببت وصول الإسلام والتشيع إلينا، وتمكن محبو أهل البيت من إيصال المذهب إلى العالم آنذاك.

تأخر الأمة الإسلامية

على عكس ما نراه اليوم من التأخر الشديد، وغير المسبوق للأمة الإسلامية بأجمعها وبمختلف طوائفها، حيث تقدم علينا جميع الأمم بما لا نظير له في التاريخ حتى في زمن الصليبيين الغربيين، حيث جاؤوا إلى بيت المقدس وأفسدوا فيها فساداً كبيراً، وحتى في زمان المغول حيث جاؤوا من الشرق إلى بلاد المسلمين وأهلكوا الحرث والنسل.

ففي زمانهم بقي النصف الآخر من البلاد سليمة، إذ في الهجوم على الشرق بقي غرب بلاد المسلمين، وفي الهجوم على الغرب بقي الشرق منها سالماً.

ولكن في زماننا هذا، فقد قضي على جميع بلاد المسلمين شرقها وغربها، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، ومن المسلمين إلا هياكل، إلا من عصمه اللّه.

طريق النجاة

ولابد أن نعرف بأن المسلمين ما داموا لم يؤثروا في الشرق والغرب تأثيراً إيجابياً

ص: 167

لتميل الأمم إليهم، فإن التأخر سوف يبقى في بلادنا، هذا التأخر العظيم الذي لا مثيل له في تاريخنا.

فالغرب نزل على القمر، وأرسلوا أقمارهم الفضائية إلى المسافات التي تبعد عن الأرض بالمليارات، ولكن المسلمين لا ينتجون أبسط حاجاتهم، فهم يستوردن حتى الحنطة واللحم والبيض والدجاج والجبن والزبد واللبن، وكل شيء حتى الإبرة.

أما كيفية جعل الغرب والشرق تميل إلى الإسلام والمسلمين:

فأولاً: بتعرية الحكام الفاسدين الذين حكموا البلاد الإسلامية من آل أمية وبني العباس وبني عثمان ومن أشبه، فلابد من فضحهم وبيان أنهم بعيدون كل البعد عن الإسلام وتعاليمه، وذلك عبر نشر مليارات الكتب؛ لأن الناس في الغرب والشرق يرون الإسلام بمنظار هؤلاء الطغاة، ولا يمكن لهم القبول بهذا الدين الظالم.

فلابد من تعرية هؤلاء الطغاة وتنزيه الإسلام عنهم، وبيان أنهم لا يمثلون الدين الإسلامي، وأن الإسلام بريء منهم.

وهذه هي الخطوة الأولى، وإلا فالناس لا يميلون إلى دين كان هؤلاء حكامه، يقول الشاعر سعدي:

كس نيايد بزير سايه بوم***ور هماى از جهان شود معدوم

يعني أن لا أحد يستظل بظل البومة - وكانت آنذاك رمزاً للنحوسة - وإن لم يوجد ظل الطائر السعيد.

فالناس يرغبون في الخير والعدل والإحسان، ويرغبون عن الشر والظلم والإساءة.

ص: 168

وثانياً: نشر محاسن الإسلام، ومحاسن كلام أهل البيت (عليهم السلام) ، عبر مليارات الكتب في الشرق والغرب، وبيان تعاليم الدين المبين على ما جاء في القرآن الكريم، وسيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، حتى يتعرف الناس على الإسلام منهجاً وحكمةً وعملاً، وكيف أن الدين الإسلامي يلبي جميع حاجات البشر ويحل مشاكلهم.

ثالثاً: لابد من تنظيم المسلمين المتواجدين في بلاد الغرب والشرق في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية واجتماعية والتربوية والفكرية والثقافية، حتى يحملوا رسالة الإسلام السلمية التي تضمن السعادة للبشرية جمعاء.

ويمكن تحقق هذه الثلاثة إذا قام بذلك جمع من المسلمين الكفوئين ضمن تنظيم صحيح، مع تشكيل مؤتمرات بالمستوى بين فترة وأخرى.

تحول الغرب

والذي يظهر من القرائن - والعلم عند اللّه - أن الغرب مقبل على التحول أيضاً، خاصة بعد التحول في الشرق الشيوعي، والتحول الحاصل عند البلاد المستعمَرة - بالفتح - من عدم الوعي إلى الوعي.

ومن الواضح أن عقلاء الغرب - وهم كثرة - لا يرضون بالمشاكل الموجودة في بلادهم، ولا في البلاد التي تحت نفوذهم وسيطرتهم، بل يسعون للخلاص منها.

وهذه بعض مشاكل الغرب:

1: الروتين الإداري على حساب حريات الناس، فكم من قوانين في بلادهم تضيق حرياتهم وخاصة في المجال الاقتصادي، وما أكثر الدوائر التي لا حاجة إليها أصلاً، وكم تستهلك هذه الدوائر من أموال الأمة، فكل فرد في دوائر

ص: 169

الدولة يستفيد من أموال الناس ويضيق عليهم، ويكبت حرياتهم.

2: شيوع الأمراض والأعراض، فالمرض العام وعدم الصحة سارية بين كثير من الناس، وربما أكثرهم، فكم من مريض يعاني من أمراض جسدية وروحية ونفسيه في تلك البلاد، وهذه الأمراض نتيجة الأخطاء في العصر الحديث والتي لم تكن سابقاً، فالعقلاء يرون ضرورة تغيير هذه القوانين التي تسبب الفساد والإفساد لترجع الصحة العامة للناس.

3: تفشي الربا، وهي من أسباب الحروب واستعمار البلاد والانقلابات والثورات، ومن الواضح أن الربا ركن أساس في بلاد الغرب، ولا يمكن إلغاؤه بوحده إلا بتغيير مجموعة من تلك القوانين والأنظمة.

4: الفساد الجنسي، الذي أحرق المرأة والرجل والأسرة بأجمعها، وعقلاء الغرب يحسون بسلبيات هذا الفساد والإفساد، ويسعون في علاجه، ولا يمكن القضاء عليه إلا بالتغيير الجذري في أنظمة الغرب.

5: استعمار بلاد الآخرين، وهو مما يؤذي عقلاءهم، فإن العقلاء لا يرضون بما يوجب استعمار بلادهم للملايين من الناس وابتلائهم بالحروب والأمراض والجهل والجوع والفقر والفوضى.

نعم، الظلمة من الغربيين هم من وراء هذه الأمور، لكن عقلاءهم لا يقبلون بذلك، ويسعون في التغيير تلبية لنداء فطرتهم، كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ}(1).

وهذه الفطرة السليمة هي من الأسس في تغيير الفرد والمجتمع من السيء إلى

ص: 169


1- سورة الروم: 30.

الحسن.

6: الفراغ الروحي، فالروح بحاجة إلى غذاء كما أن الجسم كذلك، ومن الواضح أن الكنيسة وطقوسهم لا تفي بذلك، ولا تملأ الفراغ الروحي عندهم، بينما الإسلام برنامج متكامل لكل جوانب الحياة.

7: كثرة الجرائم، فإن عالم الغرب اليوم غارق في مختلف الجرائم، كما يمكن الاطلاع على ذلك بمراجعة الصحف والمجلات ومختلف وسائل الإعلام، حيث الأرقام والإحصاءات المخوفة عن الجرائم المختلفة، حتى جعلهم في حيرة من كثرتها، والسعي لمعرفة أسبابها وطرق علاجها.

فإذا علم الغرب بمحاسن الإسلام، وكيفية معالجته لمختلف جوانب الحياة بما يضمن سعادة الدارين، لالتفوا حوله، وانضووا تحت رايته، وتنتهي هذه الأزمات والمشاكل عندهم بإذن اللّه تعالى.

ص: 171

18

مناظرات

اشارة

هناك الكثير من البحوث والاحتجاجات، التي جرت بين الإمام الباقر (عليه السلام) والبعض من أصحابه أو مخالفيه، وقد أورد العديد منها العلامة الطبرسي (رحمه اللّه) في الاحتجاج، وهي تتضمن علوماً كثيرة، يمكن مراجعتها.

مع نافع الأزرق

روي أن عبد اللّه بن نافع الأزرق كان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا، يخصمني أن علياً (عليه السلام) قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم، لرحلت إليه. فقيل له: ولا ولده. فقال: أ في ولده عالم!. فقيل له: هذا أول جهلك، وهم يخلون من عالم. قال: فمن عالمهم اليوم؟. قيل: محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليه السلام) . قال: فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة. فاستأذن على أبي جعفر (عليه السلام) . فقيل له: هذا عبد اللّه بن نافع. فقال: «وما يصنع بي، وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار».

فقال له أبو بصير الكوفي: جعلت فداك، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه، يخصمه أن علياً (عليه السلام) قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم، لرحل إليه. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «أ تراه جاءني مناظراً؟». قال: نعم. قال: «يا غلام، اخرج فحط رحله، وقل له: إذا كان الغد فأتنا».

ص: 172

قال: فلما أصبح عبد اللّه بن نافع غدا في صناديد أصحابه، وبعث أبو جعفر (عليه السلام) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين، وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر، فقال:

«الحمد لله محيث الحيث، ومكيف الكيف، ومؤين الأين. الحمد لله الذي {لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، إلى آخر الآية(1).

وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته، واختصنا بولايته. يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار، من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب، فليقم وليتحدث.

قال: فقام الناس فسردوا تلك المناقب. فقال عبد اللّه: أنا أروى لهذه المناقب من هؤلاء، وإنما أحدث علي (عليه السلام) الكفر بعد تحكيمه الحكمين، حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه». فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «ما تقول في هذا الحديث؟». فقال: هو حق لا شك فيه، ولكن أحدث الكفر بعد. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ثكلتك أمك. أخبرني عن اللّه عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ - قال - فإن قلت: لا، كفرت».

قال: فقال: قد علم. قال: «فأحبه اللّه على أن يعمل بطاعته، أو على أن يعمل بمعصيته؟». فقال: على أن يعمل بطاعته. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «فقم مخصوماً». فقام وهو يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ

ص: 173


1- سورة البقرة: 255.

الفَجْرِ}(1)، {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(2)»(3).

مع فقيه البصرة

عن زيد الشحام، قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) . فقال (عليه السلام) : «يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟». فقال: هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «بلغني أنك تفسر القرآن». قال له قتادة: نعم. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «بعلم تفسره أم بجهل؟». قال: لا بعلم. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت، وأنا أسألك». قال قتادة: سل. قال: «أخبرني عن قول اللّه عز وجل في سبأ: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ}(4)؟». فقال قتادة: ذاك من خرج من بيته بزاد حلال، وراحلة حلال، وكرًى حلال، يريد هذا البيت، كان آمناً حتى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «نشدتك اللّه - يا قتادة - هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وكرًى حلال يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته، ويضرب مع ذلك ضربةً فيها اجتياحه».

قال قتادة: اللّهم نعم. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «ويحك - يا قتادة - إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ويحك - يا قتادة ذلك - من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرًى حلال يروم هذا البيت عارفاً بحقنا يهوينا قلبه، كما قال اللّه عز

ص: 174


1- سورة البقرة: 187.
2- سورة الأنعام: 124.
3- الكافي: ج8 ص349-351، كتاب الروضة، حديث إسلام علي (عليه السلام) ، ح548.
4- سورة سبأ: 18.

وجل: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(1)، ولم يعن البيت فيقول إليه. فنحن - واللّه أ دعوة إبراهيم (صلى اللّه عليه) التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلا فلا. يا قتادة، فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة».

قال قتادة: لا جرم واللّه لا فسرتها إلا هكذا.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «ويحك - يا قتادة - إنما يعرف القرآن من خوطب به»(2).

كذب كعب الأحبار

عن زرارة، قال: كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (عليه السلام) ، وهو محتب مستقبل القبلة. فقال (عليه السلام) : «أما إن النظر إليها عبادة». فجاءه رجل من بجيلة يقال له: عاصم بن عمر. فقال لأبي جعفر (عليه السلام) : إن كعب الأحبار كان يقول: إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «فما تقول فيما قال كعب؟». فقال: صدق، القول ما قال كعب. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «كذبت، وكذب كعب الأحبار معك»، وغضب.

قال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً بقول: (كذبت) غيره.

ثم قال (عليه السلام) : «ما خلق اللّه عز وجل بقعةً في الأرض أحب إليه منها - ثم أومأ بيده نحو الكعبة - ولا أكرم على اللّه عز وجل منها. لها حرَّم اللّه الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض، ثلاثة متوالية للحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وشهر مفرد للعمرة وهو رجب»(3).

ص: 174


1- سورة إبراهيم: 37.
2- تفسير الصافي: ج1 ص21-22، المدخل، المقدمة الثانية.
3- الكافي: ج4 ص239-240، كتاب الحج، باب فضل النظر إلى الكعبة، ح1.

أصحاب النهروان

روى الكليني، عن نافع - غلام ابن عمر - بعض الأسئلة التي سألها عن الباقر (عليه السلام) . فقال له: «ما تقول في أصحاب النهروان، فإن قلتَ: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق قد ارتددتَ، وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرتَ.

قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت واللّه أعلم الناس حقاً حقاً(1).

قوله: (فقد ارتددتَ) أي عما كنتَ عليه من مذهب الخوارج.

حكم المتعة

روي أن عبد اللّه بن معمر الليثي قال لأبي جعفر (عليه السلام) : بلغني أنك تفتي في المتعة؟.

فقال (عليه السلام) : «أحلها اللّه في كتابه، وسنها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعمل بها أصحابه».

فقال عبد اللّه: فقد نهى عنها عمر.

قال (عليه السلام) : «فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».

قال عبد اللّه: فيسرك أن نساءك فعلن ذلك.

قال أبو جعفر (عليه السلام) : «وما ذكر النساء هاهنا يا أنوك(2).

إن الذي أحلها في كتابه وأباحها لعباده، أغير منك وممن نهى عنها تكلفاً، بل يسرك أن بعض حرمك تحت حائك من حاكة يثرب نكاحاً».

قال: لا.

ص: 175


1- الكافي: ج8 ص122، كتاب الروضة، حديث آدم (عليه السلام) مع الشجرة، ح93.
2- الأنوك: الأحمق.

قال (عليه السلام) : «فلم تحرم ما أحل اللّه».

قال: لا أحرم، ولكن الحائك ما هو لي بكفو.

قال: «فإن اللّه ارتضى عمله، ورغب فيه، وزوجه حوراً. أ فترغب عمن رغب اللّه فيه، وتستنكف ممن هو كفو لحور الجنان كبراً وعتواً».

قال: فضحك عبد اللّه، وقال: ما أحسب صدوركم إلا منابت أشجار العلم، فصار لكم ثمره، وللناس ورقه(1).

أربعون مسألة

عن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت جالساً في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذ أقبل رجل فسلم. فقال: من أنت يا عبد اللّه؟. فقلت: رجل من أهل الكوفة. فقلت: فما حاجتك؟. فقال لي: أ تعرف أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ؟. قلت: نعم، فما حاجتك إليه؟. قال: هيأت له أربعين مسألةً أسأله عنها، فما كان من حق أخذته، وما كان من باطل تركته.

قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بين الحق والباطل؟. فقال: نعم. فقلت: فما حاجتك إليه، إذا كنت تعرف ما بين الحق والباطل. فقال لي: يا أهل الكوفة، أنتم قوم ما تطاقون، إذا رأيت أبا جعفر (عليه السلام) فأخبرني. فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر (عليه السلام) ، وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج، فمضى حتى جلس مجلسه، وجلس الرجل قريباً منه.

قال أبو حمزة: فجلست حيث أسمع الكلام، وحوله عالم من الناس، فلما

ص: 176


1- بحار الأنوار: ج46 ص356، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب9 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح10.

قضى حوائجهم وانصرفوا، التفت إلى الرجل. فقال له: «من أنت؟». قال: أنا قتادة بن دعامة البصري.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «أنت فقيه أهل البصرة». قال: نعم. فقال له أبو جعفر (صلوات اللّه عليه): «ويحك يا قتادة. إن اللّه عز وجل خلق خلقاً فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلةً عن يمين عرشه». قال: فسكت قتادة طويلا، ثم قال: أصلحك اللّه، واللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك.

وقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «أ تدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوت {أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}(1)، فأنت ثم ونحن أولئك».

فقال له قتادة: صدقت واللّهِ جعلني اللّه فداك، واللّهِ ما هي بيوت حجارة ولا طين.

قال قتادة: فأخبرني عن الجبن؟. فتبسم أبو جعفر (عليه السلام) وقال: «رجعت مسائلك إلى هذا». قال: ضلت عني. فقال: «لا بأس به». فقال: إنه ربما جعلت فيه إنفحة الميت؟. قال: «ليس بها بأس. إن الإنفحة ليس لها عروق، ولا فيها دم، ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم - ثم قال - وإنما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة، فهل تأكل تلك البيضة؟. قال قتادة: لا، ولا آمر بأكلها.

ص: 177


1- سورة النور: 36-37.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ولِمَ؟». قال: لأنها من الميتة. قال له: «فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة، أ تأكلها؟». قال: نعم. قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة - ثم قال (عليه السلام) - فكذلك الإنفحة مثل البيضة، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين، من أيدي المصلين، ولا تسأل عنه إلا أن يأتيك من يخبرك عنه»(1).

ظلامات

عن المنهال بن عمر، قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ، إذ جاءه رجل فسلم عليه، فرد عليه السلام. قال الرجل: كيف أنتم؟. فقال له محمد (عليه السلام) : «أ و ما آن لكم أن تعلموا كيف نحن. إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل، كان يذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، أ لا وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً على العجم. فقالت العجم: وبما ذلك؟. قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً على غيرها من العرب. فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذاك؟. قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم: صدقتم. فإن كان القوم صدقوا، فلنا فضل على الناس؛ لأنا ذرية محمد وأهل بيته خاصةً وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا.

فقال له الرجل: واللّهِ إني لأحبكم أهل البيت. قال (عليه السلام) : «فاتخذ للبلاء جلباباً. فو اللّهِ إنه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدوا الرخاء ثم بكم»(2).

ص: 178


1- الكافي: ج6 ص256-257، كتاب الأطعمة، باب ما ينتفع به من الميتة وما لا ينتفع به منها، ح1.
2- الأمالي للطوسي: ص154، المجلس6، ح255-7.

فتنة ابن الزبير

عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «خرج أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) بالمدينة، فتصحر واتكأ على جدار من جدرانها مفكراً. إذا أقبل إليه رجل فقال: يا أبا جعفر، علامَ حزنك، أ على الدنيا فرزق اللّه حاضر يشترك فيه البر والفاجر، أم على الآخرة فوعد صادق يحكم فيه ملك قادر؟.

قال أبو جعفر (عليه السلام) : ما على هذا أحزن، أما حزني على فتنة ابن الزبير.

فقال له الرجل: فهل رأيت أحداً خاف اللّه فلم ينجه، أم هل رأيت أحداً توكل على اللّه فلم يكفه، وهل رأيت أحداً استخار اللّه فلم يخر له.

قال أبو جعفر (عليه السلام) : فولى الرجل وقال: هو ذاك.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : هذا هو الخضر (عليه السلام) »(1).

وفي رواية أخرى أن ذلك كان مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) (2).

مع زيد الشهيد

روي أن زيد بن علي (عليه السلام) لما عزم على البيعة. قال له أبو جعفر (عليه السلام) : «يا زيد، إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم، مثل فرخ نهض من عشه من غير أن يستوي جناحاه، فإذا فعل ذلك سقط، فأخذه الصبيان يتلاعبون به. فاتق اللّه في نفسك أن تكون المصلوب غداً بالكناسة»، فكان كما قال(3).

ص: 179


1- بحار الأنوار: ج46 ص361، كتاب تاريخ علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليه السلام) ، الباب10 من أبواب تاريخ أبي جعفر محمد بن علي...، ح2.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص148، باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، فصل في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص188، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في آياته (عليه السلام) .

أقول: والمستظهر أن ثورات بني هاشم كانت بتنسيق مع المعصومين (عليهم السلام) ، لكنهم أرادوا عدم إلصاق الثورة بأنفسهم تقية، وكان قول الإمام (عليه السلام) لزيد الشهيد (عليه السلام) بيان ما سيقع فيه عند ثورته، لا أنه لم يكن مرضياً عنده، واللّه العالم.

ص: 180

19

أولاد الإمام (عليه السلام)

قال الشيخ المفيد في الإرشاد: ولد لأبي جعفر (عليه السلام) سبعة.

وقيل: أكثر.

كان منهم: أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وعبد اللّه، أمهما أم فروة بنت القاسم.

وإبراهيم وعبيد اللّه درجا، وأمهما أم حكيم بنت أسد بن المغيرة الثقفية.

وعلي وزينب لأم ولد.

وأم سلمة لأم ولد(1).

وكان عبد اللّه يشار إليه بالفضل والصلاح، وروي أنه دخل على بعض بني أمية فأراد قتله. فقال له عبد اللّه: لا تقتلني أكن لله عليك عوناً، واتركني أكن لك على اللّه عوناً، يريد بذلك أنه ممن يشفع إلى اللّه فيشفعه، فلم يقبل ذلك منه. فقال له الأموي: لست هناك، وسقاه السم فقتله.

روى أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل، بإسناده عن عمرو بن أبي المقدام، عن

ص: 179


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص176، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، فصل في ذكر أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وإخوته،ثانياً في ذكر أسماء أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وبعض أخبارهم.

أبيه، قال: دخل عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسين على رجل من بني أمية فأراد قتله. فقال له عبد اللّه: لا تقتلني أكن لله عليك عيناً، ولك على اللّه عوناً. فقال: لست هناك. وتركه ساعةً، ثم سقاه سماً في شراب، سقاه إياه فقتله(1).

وهكذا قضى أولاد الأئمة (عليهم السلام) حتفهم بالسم أو بالسيف، من قبل بني أمية وبني العباس وجلاوزتهم.

ص: 182


1- مقاتل الطالبيين: ص109، عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

20

درر من كلمات الإمام (عليه السلام)

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) : «مَا شِيبَ شَيْءٌ بِشَيْءٍ أَحْسَنَ مِنْ حِلْمٍ بِعِلْمٍ»(1).

وقال (عليه السلام) : «الْكَمَالُ كُلُّ الْكَمَالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ، وَتَقْدِيرُ الْمَعِيشَةِ»(2).

وقال (عليه السلام) : «صُحْبَةُ عِشْرِينَ سَنَةً قَرَابَةٌ»(3).

وقال (عليه السلام) : «مَا مِنْ عِبَادَةٍ أَفْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللّهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ، وَلاَ يَدْفَعُ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ أَسْرَعَ الْخَيْرِ ثَوَاباً الْبِرُّ، وَأَسْرَعَ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِمَا لاَ يَفْعَلُهُ، وَأَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا لاَ يَسْتَطِيعُ التَّحَوُّلَ عَنْهُ، وَأَنْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(4).

ص: 181


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص167، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، شذرات من كلمات الإمام الباقر (عليه السلام) .
2- تحف العقول: ص292، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
3- بحار الأنوار: ج75 ص172، تتمة كتاب الروضة، الباب22 من تتمة أبواب المواعظ والحكم، ضمن ح5.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص118، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأما مناقبه الحميدة وصفاته الجميلة.

وقال (عليه السلام) : «نَحْنُ وُلاَةُ أَمْرِ اللّهِ، وَخُزَّانُ عِلْمِ اللّهِ، وَوَرَثَةُ وَحْيِ اللّهِ، وَحَمَلَةُ كِتَابِ اللّهِ. طَاعَتُنَا فَرِيضَةٌ، وَحُبُّنَا إِيمَانٌ، وَبُغْضُنَا كُفْرٌ. مُحِبُّنَا فِي الْجَنَّةِ، وَمُبْغِضُنَا فِي النَّارِ»(1).

وروي عنه (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كَانَ يَقُولُ: «أَشَدُّ الأَعْمَالِ ثَلاَثَةٌ: مُوَاسَاةُ الإِخْوَانِ فِي الْمَالِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَذِكْرُ اللّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(2).

وقال (عليه السلام) : «وَاللّهِ الْمُتَكَبِّرُ يُنَازِعُ اللّهَ رِدَاءَهُ»(3).

وقال (عليه السلام) : «إِنَّ اللّهَ كَرِهَ إِلْحَاحَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَحَبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ. إِنَّ اللّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيُطْلَبَ مَا عِنْدَهُ»(4).

وقال عبد اللّه بن الوليد: قَالَ لَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَوْماً: «أَ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ كُمَّ صَاحِبِهِ، فَيَأْخُذُ مَا يُرِيدُ؟». قُلْنَا: لاَ. قَالَ (عليه السلام) : «فَلَسْتُمْ إِخْوَاناً كَمَا تَزْعُمُونَ»(5).

وقال (عليه السلام) : «إِنَّ خَبَرَنَا صَعُبَ مُسْتَصْعَبٌ، لاَ يَحْتَمِلُهُ إِلاَّ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، أَوْ نَبِيٌّ

ص: 183


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص206، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في معالي أموره (عليه السلام) .
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص167، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، شذرات من كلمات الإمام الباقر (عليه السلام) .
3- تحف العقول: ص292، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
4- بحار الأنوار: جج75 ص173، تتمة كتاب الروضة، الباب22 من تتمة أبواب المواعظ والحكم، ضمن ح5.
5- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص118، ذكر الإمام الخامس.. مناقبه الحميدة وصفاته الجميلة.

مُرْسَلٌ، أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ اللّهُ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ»(1).

وقال (عليه السلام) : «إِنَّمَا كَلَّفَ اللّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ مَعْرِفَةَ الأَئِمَّةِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُمْ فِيمَا أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ، وَالرَّدَّ إِلَيْهِمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ»(2).

وقال (عليه السلام) : «بَلِيَّةُ النَّاسِ عَلَيْنَا عَظِيمَةٌ، إِنْ دَعَوْنَاهُمْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَنَا، وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِغَيْرِنَا»(3).

وقال (عليه السلام) يَوْماً لِمَنْ حَضَرَهُ: مَا الْمُرُوَّةُ؟. فَتَكَلَّمُوا، فَقَالَ (عليه السلام) : «الْمُرُوَّةُ أَنْ لاَ تَطْمَعَ فَتَذِلَّ وَتَسْأَلَ فَتُقِلَّ، وَلاَ تَبْخَلَ فَتُشْتَمَ وَلاَ تَجْهَلَ فَتُخْصَمَ». فَقِيلَ: وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ!(4).

وقال (عليه السلام) : «مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظاً؛ فَإِنَّ مَوَاعِظَ النَّاسِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُ شَيْئاً»(5).

وقال (عليه السلام) : «نَحْنُ جَنْبُ اللّهِ، وَنَحْنُ حَبْلُ اللّهِ، وَنَحْنُ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَنَحْنُ الَّذِينَ بِنَا يَفْتَحُ اللّهُ، وَبِنَا يَخْتِمُ اللّهُ. نَحْنُ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَنَحْنُ الْهُدَى، وَنَحْنُ الْعَلَمُ الْمَرْفُوعُ لأَهْلِ الدُّنْيَا، وَنَحْنُ السَّابِقُونَ، وَنَحْنُ الآخِرُونَ، مَنْ تَمَسَّكَ بِنَا لَحِقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا غَرِقَ. نَحْنُ قَادَةُ غُرٍّ

ص: 184


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص206، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في معالي أموره (عليه السلام) .
2- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص509، الركن الثالث، الباب4، الفصل4.
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص167-168، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، شذرات من كلمات الإمام الباقر (عليه السلام) .
4- تحف العقول: ص293، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
5- بحار الأنوار: ج75 ص173، تتمة كتاب الروضة، الباب22 من تتمة أبواب المواعظ والحكم، ضمن ح5.

مُحَجَّلِينَ، وَنَحْنُ حَرَمُ اللّهُ، وَنَحْنُ لَلطَّرِيقُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَحْنُ مِنْ نِعَمِ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَنَحْنُ الْمِنْهَاجُ وَنَحْنُ مَعْدِنُ النُّبُوَّةِ، وَنَحْنُ مَوْضِعُ الرِّسَالَةِ، وَنَحْنُ أُصُولُ الدِّينِ، وَإِلَيْنَا تَخْتَلِفُ الْمَلاَئِكَةُ، وَنَحْنُ السِّرَاجُ لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِنَا، وَنَحْنُ السَّبِيلُ لِمَنِ اقْتَدَى بِنَا، وَنَحْنُ الْهُدَاةُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنَحْنُ عُرَى الإِسْلاَمِ، وَنَحْنُ الْجُسُورُ، وَنَحْنُ الْقَنَاطِرُ، مَنْ مَضَى عَلَيْنَا سَبَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا مُحِقَ. وَنَحْنُ السَّنَامُ الأَعْظَمُ، وَنَحْنُ مِنَ الَّذِينَ بِنَا يَصْرِفُ اللّهُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ، مَنْ أَبْصَرَ بِنَا وَعَرَفَنَا، وَعَرَفَ حَقَّنَا، وَأَخَذَ بِأَمْرِنَا، فَهُوَ مِنَّا»(1).

وقال (عليه السلام) : «مَا يَنْقِمُ النَّاسُ مِنَّا، نَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، وَشَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الْحِكْمَةِ، وَمَوْضِعُ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ»(2).

وقال (عليه السلام) : «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمْتَنِعُ مِنْ مَعُونَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّعْيِ لَهُ فِي حَاجَتِهِ قُضِيَتْ أَوْ لَمْ تُقْضَ، إِلاَّ ابْتُلِيَ بِالسَّعْيِ فِي حَاجَةِ مَنْ يَأْثَمُ عَلَيْهِ وَلاَ يُؤْجَرُ. وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَبْخَلُ بِنَفَقَةٍ يُنْفِقُهَا فِيمَا يُرْضِي اللّهُ، إِلاَّ ابْتُلِيَ بِأَنْ يُنْفِقَ أَضْعَافَهَا فِيمَا أَسْخَطَ اللّهَ»(3).

وقال (عليه السلام) : «مَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَرْجَحَ مِنْ بَاطِنِهِ خَفَّ مِيزَانُهُ»(4).

وقال (عليه السلام) : «ثَلاَثَةٌ مِنْ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلَ

ص: 185


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص206، باب في إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فصل في معالي أموره (عليه السلام) .
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: جج2 ص168، باب تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، شذرات من كلمات الإمام الباقر (عليه السلام) .
3- تحف العقول: ص293، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
4- بحار الأنوار: ج75 ص173، تتمة كتاب الروضة، الباب22 من تتمة أبواب المواعظ والحكم، ضمن ح5.

مَنْ قَطَعَكَ، وَتَحْلُمَ إِذَا جُهِلَ عَلَيْكَ»(1).

وقال (عليه السلام) : «الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: ظُلْمٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللّهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللّهُ، وَظُلْمٌ لاَ يَدَعُهُ اللّهُ. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللّهُ: فَالشِّرْكُ بِاللّهِ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللّهُ: فَظُلْمُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَدَعُهُ اللّهُ: فَالْمُدَايَنَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ»(2).

* * *

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 187


1- تحف العقول: ص293، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
2- تحف العقول: ص293، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.

الفهرس

المقدمة... 5

1- النسب الشريف... 7

اسمه المبارك... 7

كنيته (عليه السلام) ... 7

ألقابه (عليه السلام) ... 7

والده... 9

والدته... 9

ابن خير البرية... 9

نقش خاتمه... 10

2- الولادة المباركة... 12

النبي يبشر بولادته... 13

3- النص على الإمامة... 17

صاحب الأمر بعدي... 17

من الإمام بعدك... 17

الوالي محمد بن علي... 18

ص: 183

الأمر إليه... 18

جعلتك الخليفة من بعدي... 19

إلى ابني هذا... 19

4- خصائص الإمامة... 21

سلاح الرسول وكتبه... 21

كتاب علي (عليه السلام) ... 21

عظيم حق الإمام... 22

الجدران لا تحجب أبصارنا... 22

بيوت الإمامة... 23

هذا ملك الموت وهذا جبرائيل... 24

الاسم الأعظم... 24

الصحيفة الصفراء... 24

5- عبادات وأدعية... 26

البكاء من خوف اللّه... 26

تضرع و مناجاة... 27

الحمد الجامع... 27

دعاء الركوب... 27

لاستجابة الدعاء... 28

لعن المرجئة... 28

كيف أصبحت؟... 28

ص: 183

سجدة آخر الليل... 29

6- علم الإمام... 30

يا باقر العلم... 35

أروي عن أبي... عن اللّه... 35

ورثة علوم الأنبياء... 35

العلم الشامل... 36

من أين ورثتم العلم؟... 36

مع كبير القساوسة... 38

مع إلياس النبي... 42

إمام أهل العراق... 43

هذا أعلم أهل الأرض... 44

مع عمرو البصري... 45

أسئلة طاووس اليماني... 46

جابر الجعفي وأسرار علومهم... 49

العلم الصحيح عندنا... 50

أحوال يوم القيامة... 50

ركود الشمس... 51

كيفية الخلق... 51

علم ما كان وما يكون... 52

علم النبيين... 52

ص: 183

جابر يتعلم منه... 52

فصل الخطاب... 53

شمولية علمهم... 54

يصلي على راحلته... 56

نحن الشجرة الطيبة... 57

حقائق الرجال... 57

ألف مسألة... 57

إنما هو ربع الناس... 58

إنا نراكم ونسمعكم... 59

العلم بما في البحار... 59

خذوا حذركم... 59

العلم باللغات... 60

أي شيء قلت للمرأة؟... 60

ما حال راشد؟... 61

وادي برهوت... 62

حديث اليماني... 63

جابر يتعلم منه... 63

7- فقهيات وآداب... 65

حكم العاج... 65

العلك وذهب الأسنان... 65

ص: 183

الصدقة يوم الجمعة... 65

التحية والمصافحة... 66

ادفنه معي... 66

من آداب اللحية... 66

خضاب الحناء والكتم... 67

ما أحسن الخضاب... 67

الأظافير والحناء... 68

من آداب دخول الحرم... 68

من آداب الأضاحي... 68

تشييع الجنازة... 69

أكل الجبن... 69

فلسفة تغسيل الميت... 70

المسح على الخفين... 71

من آداب الصلاة... 72

8- عقائد... 73

توحيد اللّه... 73

9- القرآن والعترة... 74

الأمر بقراءة القرآن... 74

آداب القراءة... 74

كتاب اللّه المحور... 75

ص: 183

تفسير النعيم... 76

إلينا دون غيرنا... 76

نحن المخاطبون بالقرآن... 77

10- ولائيات... 78

نحن حجج اللّه... 78

لم يهتدوا بغيرنا... 78

شيعتنا معنا... 79

أشفع لك يا جابر... 79

الحق ثقيل... 79

منزلتنا عند اللّه... 79

الحجيج والضجيج... 80

الأمر أعظم من ذلك... 81

كلام يمنع النار... 81

مع الملائكة... 82

وفي الأظلة... 82

بصيرة أبي بصير... 82

دفاعاً عن أمير المؤمنين... 83

إني أحبكم لله... 84

11- كرامات و معاجز... 87

إبصار المكفوف... 87

ص: 183

ما رأيت مثل هذا الرمي... 88

على جبل مدين... 90

سؤالان... 91

الجواب عن الأول... 91

الجواب عن الثاني... 92

إني ميت يوم كذا وكذا... 93

إني لست بميت من هذا الوجع... 93

الباقي من حياتي... 94

منطق الطير... 94

العبرانية... 94

احترقت دارك!... 94

مع حبابة الوالبية... 95

الجن في خدمتهم... 96

مع الجان الطائف... 96

إخوانكم الجن... 97

عذاب معاوية في البرزخ... 97

زلزلة المدينة... 98

تضحك وأنت من أهل القبور!... 102

يولد لك عيسى ومحمد... 102

من اللّه وإلى اللّه... 102

ص: 183

ستهدم دار هشام... 103

المكفوف وكوة السقف... 104

ملكوت السماوات والأرض... 104

أ تدري ما يقول هذا الوزغ... 106

مقتل بني أمية وزوال ملكهم... 107

تسبيح الطير... 107

إبصار أبي بصير وإرجاعه مكفوفاً... 107

إحياء الدابة الميتة... 108

لسان الطير... 108

إنه خبيث الولادة... 109

إنه لم يحفظ شيئاً من الكلام... 109

مع زيد الشهيد... 110

سيملك عمر بن عبد العزيز... 110

ملك الدوانيقي... 111

أنت تبيع النوى... 111

حق المؤمن على اللّه... 112

أيتها النخلة أطعمينا... 112

اللّهم اسقنا وطهرنا... 113

إنه معزول ومنفي إلى مصر... 113

قد مات أبوك وأخوك!... 114

ص: 183

يا درجان يا درجان... 115

طي الأرض و رؤية البرزخ... 117

النور الساطع... 118

ما سترنا عنكم أكثر... 118

إني دعوت اللّه... 119

كلام الذئب... 120

أنتم ورثة الأنبياء... 120

افتحي الباب لابن عطا... 121

ما فعل الصك؟... 121

الاسم الأعظم... 122

ردوا إليه روحه... 122

رؤيا المعصوم... 124

أريقوه أريقوه... 124

هذه الليلة التي أقبض فيها... 124

12- أخلاقيات... 125

أصدق الناس... 125

مع النصراني... 126

طعام الزهاد... 126

صلة المعارف... 127

الرضا بالقضاء... 127

ص: 183

التسليم والصبر الجميل... 127

تفقد الأصحاب... 128

عتق العبيد... 129

اللّهم لا تمقتني... 129

13- الجود والكرم... 130

بئس الأخ من قطعك... 130

صلة الإخوان... 131

شمولية العطاء... 131

ثمانية آلاف دينار... 131

ديون الإمام... 131

14- الحقوق... 133

الكاد على عياله... 133

إكرام المرأة... 134

بين الزهد وحق المرأة... 134

حب النساء والخضاب لهن... 135

حق العروس... 135

رعاية لرغبة الزوجة... 136

الأسرة الصالحة... 136

حق الجسد... 137

رفقاً بالعبيد... 137

ص: 183

حق السائل... 138

حق الأقليات الدينية... 138

حق الحيوان... 138

15- طغاة عصر الإمام... 139

عداء بني مروان... 139

عبد الملك وغصب الخلافة... 142

من سيرة الطغاة... 143

عبد الملك والوزغ... 144

موت الحجاج... 144

مع عمر بن عبد العزيز... 144

التظاهر بإكرام العترة... 146

غلة فدك... 146

غصب الخلافة... 146

هشام وسياسة الافتراء... 148

التجاسر على الإمام... 150

أخبرني عن ليلة قتل أمير المؤمنين... 150

توبيخ الإمام وحبسه... 151

من ظلم هشام... 153

هشام عند الموت... 153

دولة الطغاة قصيرة... 153

ص: 183

ما منع جباركم الدوانيقي... 154

ملك بني العباس... 156

زوال الحكومات الظالمة... 156

بين حكم الطغاة وحكم المعصوم... 157

الدعاء على الظلمة... 158

ضرب السكة... 160

16- استشهاد الإمام... 163

هذه الليلة التي أقبض فيها... 163

تجهيز المعصوم... 164

الملائكة تغسله... 165

وصايا في التجهيز... 165

مدفن الإمام... 166

إقامة العزاء و المآتم... 166

17- أصحاب الإمام (عليه السلام) ... 168

أين الحواريون؟... 168

الأصحاب الفقهاء... 169

رحم اللّه جابر... 169

محمد بن مسلم... 169

إنه مرضي وجيه... 170

سعد الخير... 170

ص: 183

أنت من شيعتنا... 170

اللّهم ارحم الكميت... 171

لا تمدح الظالمين... 171

معك روح القدس... 172

إني أعتقتك لوجه اللّه... 172

غربة المؤمن... 173

إنه مثل بلعم... 174

اخرج إلى الجبان... 174

جابر الجعفي والاختبار الصعب... 175

رسالة حرف الجيم... 176

جهود العلماء وتضحياتهم... 177

تأخر الأمة الإسلامية... 177

طريق النجاة... 177

تحول الغرب... 179

18- مناظرات... 182

مع نافع الأزرق... 182

مع فقيه البصرة... 184

كذب كعب الأحبار... 185

أصحاب النهروان... 186

حكم المتعة... 186

ص: 183

أربعون مسألة... 187

ظلامات... 189

فتنة ابن الزبير... 190

مع زيد الشهيد... 190

19- أولاد الإمام (عليه السلام) ... 192

20- درر من كلمات الإمام (عليه السلام) ... 194

الفهرس... 199

ص: 188

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.