من حياة المعصومين عليهم السلام المجلد 6

هوية الكتاب

من حياة المعصومين عليهم السلام

الجزء السادس

الإمام السجاد عليه السلام

المرجع الديني الراحل

السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

الشجرة الطيبة

1443 ه 2022 م

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی للناشر

1443 ه 2022 م

مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف

تهميش

مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

أما بعد، فهذا هو الجزء السادس من سلسلة «من حياة المعصومين» (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، ويتضمن جوانب من حياة الإمام علي السجاد (عليه السلام) .

أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1410ه

ص: 5

ص: 6

1

النسب الشريف

اسمه المبارك

هو الإمام: علي السجاد، ابن الحسين الشهيد، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .

وهو رابع الأئمة المعصومين الاثني عشر، الذين نص عليهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) خلفاء من بعده(1).

كنيته (عليه السلام)

أبو محمد، و أبو الحسن، وقيل: أبو الحسين، وقيل: أبو القاسم.

وأيضاً: ابن الخيرتين. وقيل غير ذلك(2).

ابن الخيرتين

كان يقال للإمام زين العابدين (عليه السلام) : ابن الخيرتين؛ لقول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن لله من عباده خيرتين، فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس»(3)، وكانت

ص: 7


1- الكافي: ج1 ص286-292، كتاب الحجة، باب ما نص اللّه عز وجل ورسوله على الأئمة (عليهم السلام) واحداً فواحداً.
2- أما ما قاله البعض من أنه (عليه السلام) كان يكنى بأبي بكر، فليس بصحيح.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

أمه بنت كسرى.

وكان يقول علي بن الحسين (عليهما السلام) : «أنا ابن الخيرتين»؛ لأن جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأمه بنت يزدجرد الملك.

وأنشأ أبو الأسود(1):

وإن غلاماً بين كسرى وهاشم***لأكرم من نيطت عليه التمائم

ألقابه (عليه السلام)

السجاد، زين العابدين، سيد الساجدين، ذو الثفنات، سيد العابدين، زين الصالحين، وارث علم النبيين، وصي الوصيين، خازن وصايا المرسلين، إمام المؤمنين، منار القانتين، الخاشع، المتهجد، الزاهد، العابد، العدل، البكّاء، إمام الأُمة، أبو الأئمة، الزكي، الأمين، الخالص، المتهجد، الرهباني، وغيرها.

زين العابدين

أشهر ألقاب الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) هو زين العابدين، وقد لقبه بذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بل جاء هذا اللقب من الباري عز وجل تكريماً له.

عن عمران بن سليم، قال: كان الزهري إذا حدث عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: حدثني زين العابدين علي بن الحسين. فقال له سفيان بن عيينة: ولِمَ تقول له زين العابدين؟. قال: لأني سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس، أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ: أين زين العابدين، فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطر بين

ص: 8


1- الكافي: ج1 ص467، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح1.

الصفوف»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ينادي منادٍ يوم القيامة: أين زين العابدين، فكأني أنظر إلى علي بن الحسين (عليه السلام) يخطر بين الصفوف»(2).

يخطر: أي يمشي بهيبة.

وقيل: كان سبب لقبه بزين العابدين؛ أنه كان ليلةً في محرابه قائماً في تهجده، فتمثل له الشيطان في صورة ثعبان ليشغله عن عبادته. فلم يلتفت (عليه السلام) إليه، فجاء إلى إبهام رجله فالتقمها، فلم يلتفت إليه، فآلمه فلم يقطع صلاته. فلما فرغ منها، وقد كشف اللّه له، فعلم أنه شيطان فسبه ولطمه، وقال: «اخسأ يا ملعون». فذهب وقام إلى إتمام ورده، فسمع صوتاً ولا يرى قائله، وهو يقول: (أنت زين العابدين) ثلاثاً، فظهرت هذه الكلمة واشتهرت لقباً له (عليه السلام) (3).

السجاد

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) : «إن أبي علي بن الحسين (عليه السلام) ما ذكر لله عز وجل نعمةً عليه إلا سجد، ولا قرأ آيةً من كتاب اللّه عز وجل فيها سجود إلا سجد، ولا دفع اللّه عز وجل عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ سجد، ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلاّ سجد، وكان أثر السجود في

ص: 9


1- بحار الأنوار: ج46 ص2-3، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح1.
2- بحار الأنوار: ج46 ص3، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح3.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص74، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما لقبه.

جميع مواضع سجوده فسمي السجاد لذلك»(1).

ذو الثفنات

عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كان لأبي (عليه السلام) في موضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتين، في كل مرة خمس ثفنات، فسمي ذا الثفنات لذلك»(2).

والثفنة: واحدة ثفنات البعير، وهو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين.

وفي رواية: (ولقد كان تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده لكثرة صلاته وكان يجمعها فلما مات دفنت معه)(3).

والده المكرم

هو سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليهما الصلاة والسلام) سبط رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسيد شباب أهل الجنة.

والدته المكرمة

هي السيدة الجليلة: شهربانو(4) بنت الملك يزدجرد آخر ملوك الفرس، وهو ابن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشيروان.

ص: 10


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص167، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، الفصل في سيادته (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص6، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح12.
3- بحار الأنوار: ج46 ص63، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح19.
4- وفي رواية: (شهربانويه).

وقيل في اسمها: (سلافة) أو (خولة) أو (غزالة) أو (شاه زنان) أو (جهان شاه) أو (جهان بانويه)..

وقيل (برة)(1).

وربما كان لها عدة أسماء، أو تعرف في بعض المناطق ببعضها.

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) سماها (مريم)، ويقال سماها (فاطمة)، وكانت تدعى (سيدة النساء)(2) أيضاً.

روي: (أن عمر أراد بيعها، فنهاه علي (عليه السلام) وقال له: ولكن أعرض عليها أن تختار واحداً من المسلمين، فزوجها به واحسب مهرها من عطائه من بيت المال، فاختارت الحسين بن علي (عليه السلام) ، فأمره بحفظها والإحسان إليها، فولدت له خير أهل الأرض في زمانه)(3).

وقيل: إن والدة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ماتت في نفاسها به، فكفلته بعض أمهات ولد أبيه، وكان الناس يسمونها أُمه ولم تكن أُمه إنما كانت حاضنته(4).

عن جابر، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: لما قُدم بابنة يزدجرد على عمر وأدخلت المدينة، أشرف لها عذارى المدينة وأشرق المسجد بضوء وجهها، فلما دخلت المسجد ورأت عمر غطت وجهها وقالت: آه(5) بيروج بادا هرمز، قال:

ص: 11


1- قيل: إن أمه برة بنت النوشجان.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص176، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في أحواله وتاريخه (عليه السلام) .
3- الخرائج والجرائح: ج2 ص750، الباب15، ح67.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص128، ب35، ومن أخباره (عليه السلام) ، ح6.
5- وفي رواية: (أف)، أي أسود يوم هرمز المنصور وأساء الدهر إليه وانقلب الزمان عليه حيث صارت بناته تؤسر، أو: لا كان لهرمز يوم حتى تصير أولاده كذلك.

فغضب عمر وقال: تشتمني هذه، وهمّ بها».

أي أراد إيذاءها وضربها.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : ليس لك ذلك، أعرض عنها إنها تختار رجلاً من المسلمين ثم احسبها بفيئه عليه.

فقال عمر: اختاري.

قال: فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين بن علي (عليه السلام) .

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ما اسمك؟

فقالت: جهانشاه.

فقال: بل شهربانويه، ثم نظر إلى الحسين (عليه السلام) فقال: يا أبا عبد اللّه ليلدن لك منها غلام خير أهل الأرض(1).

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) : (وكأن إشراق المسجد بضوئها كناية عن ابتهاج أهل المسجد برؤيتها وعجبهم من صورتها وصباحتها)(2).

وفي رواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال: «لما قدمت ابنة يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس وخاتمتهم على عمر وأدخلت المدينة، استشرفت لها عذارى المدينة وأشرق المجلس بضوء وجهها ورأت عمر. فقالت: آه بيروز باد هرمز. فغضب عمر وقال: شتمتني هذه العلجة وهمّ بها. فقال له علي (عليه السلام) : ليس لك إنكار على ما لا تعلمه. فأمر - عمر - أن ينادي عليها. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا يجوز بيع بنات الملوك وإن كن كافرات، ولكن أعرض عليها أن تختار رجلاً من

ص: 12


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص335، الباب11، ح8.
2- بحار الأنوار: ج46 ص9، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ذيل ح20.

المسلمين حتى تتزوج منه، وتحسب صداقها عليه من عطائه من بيت المال يقوم مقام الثمن.

فقال عمر: أفعل، وعرض عليها أن تختار، فجالت فوضعت يدها على منكب الحسين (عليه السلام) . فقال علي (عليه السلام) : جه نام داري اي كنيزك، يعني ما اسمك يا صبية؟.

قالت: جهانشاه. فقال: بل شهربانويه. قالت: تلك أختي. قال: راست كَفتي، أي صدقتِ.

ثم التفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسين (عليه السلام) ، فقال: احتفظ بها وأحسن إليها فستلد لك خير أهل الأرض في زمانه بعدك، وهي أم الأوصياء الذرية الطيبة. فولدت علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) (1).

وفي بعض الروايات: إن القصة كانت في زمن عثمان(2).

عن سهل بن القاسم النوشجاني، قال: قال لي الرضا (عليه السلام) بخراسان: «إن بيننا وبينكم نسباً». قلت: وما هو أيها الأمير؟. قال: «إن عبد اللّه بن عامر بن كريز لما افتتح خراسان، أصاب ابنتين ليزدجرد بن شهريار ملك الأعاجم. فبعث بهما إلى عثمان بن عفان، فوهب إحداهما للحسن، والأخرى للحسين (عليه السلام) ، فماتتا عندهما نفساوين. وكانت صاحبة الحسين (عليه السلام) نفست بعلي بن الحسين (عليه السلام) ، فكفل علياً بعض أمهات ولد أبيه، فنشأ وهو لا يعرف أماً غيرها، ثم علم أنها مولاته، وكان الناس يسمونها أمه»(3).

ص: 13


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص750-751، الباب15، ح67.
2- بحار الأنوار: ج46 ص8-10، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح19 و20.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص128، ب35، ومن أخباره (عليه السلام) ، ح6.

وروي أنه: لما ورد سبي الفرس إلى المدينة، أراد عمر بن الخطاب بيع النساء، وأن يجعل الرجال عبيداً. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: أكرموا كريم كل قوم». فقال عمر: قد سمعته يقول: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم». فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم، ورغبوا في الإسلام، ولابد أن يكون لي فيهم ذرية، وأنا أشهد اللّه وأشهدكم أني قد أعتقت نصيبي منهم لوجه اللّه». فقال جميع بني هاشم: قد وهبنا حقنا أيضاً لك. فقال: «اللّهم اشهد أني قد أعتقت ما وهبوا لي لوجه اللّه». فقال المهاجرون والأنصار: وقد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول اللّه. فقال: «اللّهم اشهد أنهم قد وهبوا لي حقهم وقبلته، وأشهدك أني قد أعتقتهم لوجهك».

فقال عمر: لم نقضت عليَّ عزمي في الأعاجم، وما الذي رغَّبك عن رأيي فيهم. فأعاد عليه ما قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في إكرام الكرماء.

فقال عمر: قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصني وسائر ما لم يوهب لك.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : اللّهم اشهد على ما قالوه وعلى عتقي إياهم».

فرغب جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «هن لا يكرهن على ذلك، ولكن يخيرن ما اخترنه عمل به». فأشار جماعة إلى شهربانويه بنت كسرى، فخيرت وخوطبت من وراء الحجاب، والجمع حضور. فقيل لها: من تختارين من خطابكِ، وهل أنتِ ممن تريدين بعلاً؟. فسكتت.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «قد أرادت وبقي الاختيار».

فقال عمر: وما علمك بإرادتها البعل؟. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان إذا أتته كريمة قوم لا ولي لها وقد خطبت، يأمر أن يقال لها: أنتِ

ص: 14

راضية بالبعل؟. فإن استحيت وسكتت، جعل إذنها صماتها، وأمر بتزويجها. وإن قالت: لا، لم يكرهها على ما تختاره». وإن شهربانويه أريت الخطاب، فأومأت بيدها واختارت الحسين بن علي (عليه السلام) ، فأعيد القول عليها في التخيير، فأشارت بيدها، وقالت: هذا إن كنت مخيرةً. وجعلت أمير المؤمنين (عليه السلام) وليها، وتكلم حذيفة بالخطبة. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما اسمكِ؟». فقالت: شاه زنان بنت كسرى. قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أنتِ شهربانويه، وأختكِ مرواريد بنت كسرى». قالت: آريه(1).

قال المبرد: كان اسم أم علي بن الحسين (عليه السلام) سلافة من ولد يزدجرد، معروفة النسب من خيرات النساء، وقيل: خولة(2).

إسلامها قبل أسرها

روي أن شهربانو بنت يزدجرد إنما اختارت الإمام الحسين (عليه السلام) ؛ لأنها رأت فاطمة (عليها السلام) وأسلمت قبل أن يأخذها عسكر المسلمين، ولها قصة، وهي أنها قالت: رأيت في النوم قبل ورود عسكر المسلمين، كأن محمداً رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) دخل دارنا، وقعد مع الحسين (عليه السلام) ، وخطبني له وزوّجني منه. فلما أصبحت كان ذلك يؤثر في قلبي، وما كان لي خاطر غير هذا. فلما كان في الليلة الثانية رأيت فاطمة بنت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أتتني، وعرضت عليَّ الإسلام فأسلمت، ثم قالت: إن الغلبة تكون للمسلمين، وإنك تصلين عن قريب إلى ابني الحسين سالمةً لا

ص: 15


1- دلائل الإمامة: ص194-196، أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، خبر أُمه والسبب في تزويجها، ح111/1.
2- الكامل - المبرد: ج1 ص300، ب36، طبع لايبزيك عام 1864م.

يصيبك بسوء أحد، قالت: وكان من الحال أني خرجت إلى المدينة ما مس يدي إنسان(1).

قال الشيخ الحر العاملي (قدس سره) في أرجوزته:

وأمه ذات العلى والمجد***شاه زنان بنت يزدجرد

وفي الإرشاد، أنه سأل أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) شاه زنان بنت كسرى حين أسرت: «ما حفظتِ عن أبيك بعد وقعة الفيل».

قالت: حفظت عنه أنه كان يقول: إذا غلب اللّه على أمر ذلت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة.

فقال (عليه السلام) : «ما أحسن ما قال أبوكِ، تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير»(2).

وفي الإرشاد: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولى حريث بن جابر جانباً من المشرق. فبعث إليه بنتي يزدجرد بن شهريار، فنحل ابنه الحسين (عليه السلام) شاه زنان منهما، فأولدها زين العابدين (عليه السلام) ، ونحل الأخرى محمد بن أبي بكر، فولدت له القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهما ابنا خالة(3).

لماذا أمهات بعض الأئمة من الجواري؟

يظهر بمراجعة التاريخ والروايات أن كثيراً من أمهات الأئمة (عليهم الصلاة

ص: 16


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص751، الباب15، ح67.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج1 ص302، باب تاريخ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فصل في كلامه وخطبه (عليه السلام) ، كلامه (عليه السلام) في الحكمة والموعظة.
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص137، باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، فصل في تاريخ ولادة الإمام السجاد (عليه السلام) وشهادته والنص على إمامته.

والسلام) كانوا من الجواري والإماء، فما هو سر ذلك؟.

إن من رسالة الأنبياء هو جعل الناس سواسية أمام القانون الإلهي بلا تمييز ولا طبقات، وعدم الفخر بالأحساب والأنساب، وجعل التقوى هو ملاك الفضيلة والتقدم، كما قال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ}(1).

وهكذا تعامل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام) ، ورسخوا في المجتمع حقوق الإنسان بما هو إنسان.

وكان من مصاديق ذلك تسهيل أمر الزواج، وعدم ملاحظة الشرف القومي والحسب الشخصي فيه، من هنا ولأسباب أخرى، كان عدد من أمهات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من الإماء.

حكى المبرد في الكامل: أن رجلاً من قريش، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب. فقال لي يوماً: من أخوالك؟. فقلت: أمي فتاة، وكأني نقصت من عينه - إلى أن قال - فأمهلت شيئاً حتى جاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، فسلم عليه ثم نهض. فقلت: يا عم من هذا؟. قال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) . قلت: من أمه؟. قال: فتاة. قلت: يا عم، رأيتني نقصت من عينك؛ لما علمت أني لأم ولد(2).

رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) و تسهيل الزواج

كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بسيرته وخطبه وأقواله وأفعاله يؤكد على أن الناس سواسية، لا فرق بين عربيهم وعجميهم، وحرهم وعبدهم إلا بالتقوى.

ص: 17


1- سورة الحجرات: 13.
2- الكامل - المبرد: ج1 ص299-300، ب36، طبع لايبزيك عام 1864م.

وقد تزوج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بامرأة يهودية الأصل، وهي صفية (رضوان اللّه عليها) حيث أعتقها النبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وتزوجها(1).

ص: 18


1- قال ابن الأثير في «أسد الغابة»، ما نصه: صفية بنت حيي بن أخطب بن سعنة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب ابن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ناخوم... كانت زوج سلام بن مشكم اليهودي، ثم خلَّف عليها كنانة بن أبي الحقيق - وهما شاعران - فقُتِلَ عنها كنانة يوم خيبر. روى أنس بن مالك، أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لما افتتح خيبر وجمع السبي. أتاه دحية بن خليفة، فقال: أعطني جارية من السبي. قال: «اذهب فخذ جارية». فذهب فأخذ صفية. قيل: يا رسول اللّه، إنها سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك. فقال له رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «خذ جارية من السبي غيرها». وأخذها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واصطفاها وحجبها، وأعتقها وتزوجها، وقسم لها، وكانت عاقلة من عقلاء النساء. عن ابن إسحاق، قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) القموص حصن ابن أبي الحقيق، أُتي بصفية بنت حيي ومعها ابنة عم لها، جاء بهما بلال فمر بهما على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية، صكت وجهها وصاحت، وحثت التراب على رأسها... وأمر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بصفية فحيزت خلفه، وغطى عليها ثوبه، فعرف الناس أنه قد اصطفاها لنفسه. فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لبلال - حين رأى من اليهودية ما رأى -: «يا بلال، أ نزعت منك الرحمة حتى تمر بامرأتين على قتلاهما». وقد كانت صفية قبل ذلك رأت، أن قمراً قد وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها، فضرب وجهها ضربة أثرت فيه، وقال: إنكِ لتمدين عنقكِ إلى أن تكوني عند ملك العرب. فلم يزل الأثر في وجهها حتى أُتي بها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فسألها عنه فأخبرته الخبر. وعن أنس، أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها. وعن صفية بنت حيي، قالت: دخل عليَّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام، فذكرت ذلك لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) . فقال: «ألا قلتِ: وكيف تكونان خيراً مني وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى». وكان بلغها أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) منها، نحن أزواج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبنات عمه. أسد الغابة: ج5 ص490-491، ب د ع صفية. وجاء في «قصص الأنبياء» للرواندي، عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، قال: «وأخذ علي (عليه السلام) فيمن أخذ صفية بنت حيي بن أخطب، فدعا بلالاً فدفعها إليه، وقال: لا تضعها إلا في يدي رسول اللّه. فاصطفاها رسول اللّه، وأعتقها وتزوجها». قصص الأنبياء: ص347-348، ب20، ف10، ح423.

وهكذا تزوج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من امرأة مسيحية الأصل، وهي مارية، وكانت أَمَة أهداها المقوقس للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) (1).

وقد زوّج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) زينب القرشية من زيد، وكان عبداً معتقاً.

كل ذلك ليذوب ما يفرّق بين الناس، من طبقات وأحساب وأنساب، ولجعلهم سواسية.

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، أنه قال: «كان بالمدينة رجل من العرب له أمّ ولد، فمات عنها. فتزوّجها عليّ بن الحسين (عليه السلام) ، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان. فكتب إليه: أما كان لك في قريش وإفناء العرب كفاية تحجزك عن أمّ ولد رجل!.

فكتب إليه عليّ بن الحسين (عليه السلام) : أمّا بعد، فإنّ اللّه تبارك وتعالى رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمّ به النّاقصة، ولا لؤم على امرئ مسلم، وإنّما اللّؤم لؤم الجاهليّة، وقد أعتق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أمته، وتزوّجها وعنده نساء من قريش، وفي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر»(2).

ص: 19


1- جاء في «الهداية الكبرى» للخصيبي، عن الإمام الرضا (عليه السلام) ، قال: «إن مارية أهداها المقوقس إلى جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وتحظَّى بمارية من دونهم، وكان معها خادم يقال له: جُرَيْح، وحسن إيمانها وإسلامها، ثم ملكت مارية قلب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فحسدها بعض أزواجه». الهداية الكبرى: ص297، ب11. وقال ابن الأثير في «أسد الغابة» ما نصه: مارية القبطية، مولاة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسريته، وهي أم ولده إبراهيم بن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، وأهدى معها أختها سيرين، وخصياً يقال له: مأبور، وبغلة شهباء، وحُلَّة من حرير. وقال محمد بن إسحاق: أهدى المقوقس إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) جواري أربعاً، منهن: مارية أم إبراهيم، وسيرين التي وهبها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن. أسد الغابة: ج5 ص543-544، ب د ع مارية.
2- مستدرك الوسائل: ج14 ص187، كتاب النكاح، الباب23 من أبواب مقدمات النكاح، ح16463.

زواج المقداد

عن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام)، أنه قال: «زوَّج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) المقداد بن الأسود الضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : إنما زوجتها المقداد؛ ليتواضع في النكاح، ولتتأسوا برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولتعلموا أن أكرمكم عند اللّه أتقاكم. وكان الزبير أخا عبد اللّه أب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لأبيه وأمه»(1).

وفي رواية أخرى: عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أنه زوَّج ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد من موالي كندة، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أ تعلمون لِمَ زوَّجت المقداد من ضباعة ابنة عمي؟». قالوا: لا. قال: «ليتسع النكاح فيناله كل منكم، ولتعلموا أن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

قصة الدلفاء

في الكافي: بسنده عن أبي حمزة الثّماليّ، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) إذا استأذن عليه رجل، فأذن له، فدخل عليه فسلّم، فرحّب به أبو جعفر (عليه السلام) وأدناه وساءله.

فقال الرّجل: جعلت فداك، إنّي خطبت إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردّني، ورغب عنّي، وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة هجمة غض لها قلبي، تمنّيت عندها الموت.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمّد بن

ص: 20


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص184، كتاب النكاح، الباب22 من أبواب مقدمات النكاح، ح16455.
2- مستدرك الوسائل: ج14 ص185-186، كتاب النكاح، الباب22 من أبواب مقدمات النكاح، ح16460.

عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) : زوّج منجح بن رباح مولاي ابنتك فلانة ولا تردّه».

قال أبو حمزة: فوثب الرّجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر (عليه السلام) ، فلمّا أن توارى الرّجل قال أبو جعفر (عليه السلام) : «إنّ رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر، أتى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السّودان، فضمّه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصّاع الأوّل، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه باللّيل.

فمكث بذلك ما شاء اللّه حتّى كثر الغرباء ممّن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة، وضاق بهم المسجد، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبيّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن طهّر مسجدك، وأخرج من المسجد من يرقد فيه باللّيل، ومر بسدّ أبواب كلّ من كان له في مسجدك باب إلاّ باب عليّ ومسكن فاطمة (عليهما السلام) ، ولا يمرّنّ فيه جنب، ولا يرقد فيه غريب.

قال: فأمر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بسدّ أبوابهم إلاّ باب عليّ (عليه السلام) ، وأقرّ مسكن فاطمة (صلّى اللّه عليها) على حاله.

قال: ثمّ إنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أن يتّخذ للمسلمين سقيفة فعملت لهم، وهي الصّفّة، ثمّ أمر الغرباء والمساكين أن يظلّوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يتعاهدهم بالبرّ والتّمر والشّعير والزّبيب إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقّونهم لرقّة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فإنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه. فقال:

ص: 21

يا جويبر، لو تزوّجت امرأةً فعففت بها فرجك، وأعانتك على دنياك وآخرتك.

فقال له جويبر: يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمّي، من يرغب فيّ. فو اللّه، ما من حسب ولا نسب، ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ.

فقال له رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا جويبر، إنّ اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهليّة شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهليّة وضيعاً، وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهليّة ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهليّة وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها. فالنّاس اليوم كلّهم أبيضهم وأسودهم، وقرشيّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم، وإنّ آدم (عليه السلام) خلقه اللّه من طين، وإنّ أحبّ النّاس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم. وما أعلم - يا جويبر - لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لمن كان أتقى لله منك وأطوع.

ثمّ قال (صلی الله عليه وآله وسلم) له: انطلق - يا جويبر - إلى زياد بن لبيد، فإنّه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إنّي رسول رسول اللّه إليك، وهو يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الدّلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد بن لبيد، وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فأعلم فأذن له وسلّم عليه، ثمّ قال: يا زياد بن لبيد، إنّي رسولُ رسولِ اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إليك في حاجة، فأبوح بها أم أسرّها إليك؟.

فقال له زياد: بل بح بها، فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الدّلفاء.

فقال له زياد: أ رسول اللّه أرسلك إليّ بهذا يا جويبر!.

فقال له: نعم، ما كنت لأكذب على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .

فقال له زياد: إنّا لا نزوّج فتياتنا إلاّ أكفاءنا من الأنصار. فانصرف - يا جويبر -

ص: 22

حتّى ألقى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: واللّه، ما بهذا أنزل القرآن، ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

فسمعت مقالته الدّلفاء بنت زياد، وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها: ادخل إليّ. فدخل إليها فقالت: ما هذا الكلام الّذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟. فقال لها: ذكر لي أنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أرسله وقال: يقول لك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : زوّج جويبراً ابنتك الدّلفاء. فقالت له: واللّه، ما كان جويبر ليكذب على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يردّ عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك اطمئنّ حتّى أعود إليك.

ثمّ انطلق زياد إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) . فقال له: بأبي أنت وأمّي، إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال: إنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: زوّج جويبراً ابنتك الدّلفاء، فلم ألن له في القول، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلاّ أكفاءنا من الأنصار.

فقال له رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفو للمؤمنة، والمسلم كفو للمسلمة، فزوّجه - يا زياد - ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .

فقالت له: إنّك إن عصيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كفرت، فزوّج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة اللّه وسنّة رسوله، وضمن صداقها، قال: فجهّزها زياد وهيّأها، ثمّ أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: أ لك منزل فنسوقها إليك؟.

ص: 23

فقال: واللّه، ما لي من منزل.

قال: فهيّئوها وهيّئوا لها منزلاً، وهيّئوا فيه فراشاً ومتاعاً، وكسوا جويبراً ثوبين، وأدخلت الدّلفاء في بيتها، وأدخل جويبر عليها معتمّاً، فلمّا رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيّبة، قام إلى زاوية البيت، فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى طلع الفجر. فلمّا سمع النّداء خرج، وخرجت زوجته إلى الصّلاة، فتوضّأت وصلّت الصّبح. فسئلت: هل مسّك؟. فقالت: ما زال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتّى سمع النّداء فخرج. فلمّا كانت اللّيلة الثّانية فعل مثل ذلك، وأخفوا ذلك من زياد، فلمّا كان اليوم الثّالث فعل مثل ذلك، فأخبر بذلك أبوها.

فانطلق إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه، أمرتني بتزويج جويبر. ولا واللّه ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبت عليّ تزويجه.

فقال له النّبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) : فما الّذي أنكرتم منه؟!.

قال: إنّا هيّأنا له بيتاً ومتاعاً، وأدخلت ابنتي البيت، وأدخل معها معتمّاً، فما كلّمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت، فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً، حتّى سمع النّداء فخرج، ثمّ فعل مثل ذلك في اللّيلة الثّانية، ومثل ذلك في اللّيلة الثّالثة، ولم يدن منها ولم يكلّمها إلى أن جئتك، وما نراه يريد النّساء، فانظر في أمرنا.

فانصرف زياد، وبعث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى جويبر. فقال له: أما تقرب النّساء؟.

فقال له جويبر: أ وما أنا بفحل، بلى يا رسول اللّه، إنّي لشبق نهم إلى النّساء.

ص: 24

فقال له رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : قد خبّرت بخلاف ما وصفت به نفسك، قد ذكروا لي أنّهم هيّئوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً، وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت معتمّاً، فلم تنظر إليها، ولم تكلّمها، ولم تدن منها، فما دهاك إذن!.

فقال له جويبر: يا رسول اللّه، دخلت بيتاً واسعاً، ورأيت فراشاً ومتاعاً، وفتاةً حسناء عطرةً، وذكرت حالي الّتي كنت عليها، وغربتي وحاجتي وضيعتي، وكينونتي مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني اللّه ذلك أن أشكره على ما أعطاني، وأتقرّب إليه بحقيقة الشّكر، فنهضت إلى جانب البيت، فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً، أشكر اللّه حتّى سمعت النّداء، فخرجت فلمّا أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم، ففعلت ذلك ثلاثة أيّام ولياليها، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني اللّه يسيراً، ولكنّي سأرضيها وأرضيهم اللّيلة إن شاء اللّه.

فأرسل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد، فأتاه وأعلمه ما قال جويبر، فطابت أنفسهم.

قال: وفى لهم جويبر بما قال، ثمّ إنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد (رحمه الله) ، فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها بعد جويبر»(1).

ص: 25


1- الكافي: ج5 ص339-343، كتاب النكاح، باب أن المؤمن كفو المؤمنة، ح1.

2

الولادة المباركة

اشارة

كان مولد الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) بالمدينة المنورة يوم الخميس أو الجمعة، لخمس خلون من شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة. وقيل: سبعة، أو ستة وثلاثين(1).

فبقي(2)

مع جده أمير المؤمنين (عليه السلام) سنتين، ومع عمه الإمام الحسن (عليه السلام) اثنتي عشرة سنةً. وقيل: عشر سنوات، ومع أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) بعد الحسن (عليه السلام) عشر سنين. وقيل: أكثر، وبعد أبيه أربعاً وثلاثين سنةً، أو أكثر.

عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، قال: «وُلِدَ علي بن الحسين في سنة ثمان وثلاثين من الهجرة، قبل وفاة علي بن أبي طالب بسنتين، وأقام مع أمير المؤمنين سنتين، ومع أبي محمد الحسن عشر سنين، وأقام مع أبي عبد اللّه الحسين عشر سنين، وكان عمره سبعاً وخمسين سنة»(3).

وفي رواية أخرى، أنه (عليه السلام) : «وُلِدَ سنة سبع وثلاثين، وكان بقاؤه بعد أبي عبد

ص: 26


1- وقيل: ولد (عليه السلام) في 15 جمادى الأولى. وقيل: الثانية.
2- على رواية مولده (عليه السلام) في سنة 38 هجرية.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص105، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

اللّه (عليه السلام) ثلاثاً وثلاثين سنة، ويقال: قُبض في سنة خمس وتسعين»(1).

من هو الأكبر؟

قال بعض العلماء: إن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) هو أكبر ولد الإمام الحسين (عليه السلام) ، وقال بعضهم: إن أخاه علياً الشهيد بكربلاء هو الأكبر، ولذا اشتهر بعلي الأكبر، وقد ذكر كل منهم بعض الأدلة على ما اختاروه.

والظاهر أن الأكبر هو الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وكان له من العمر في كربلاء 23 سنة أو أكثر، وكان متزوجاً وله أولاد، منهم: الإمام الباقر (عليه السلام) ، حيث كان عمره في كربلاء ثلاث سنوات أو أربع.

أما علي الأكبر الشهيد (عليه السلام) فوالدته ليلى الثقفية، وكان أصغر من الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وعمره 18 سنة على المشهور، وقد استشهد في معركة الطف، ولُقب فيما بعد بالأكبر تمييزاً بينه وبين علي الأصغر الرضيع (عليه السلام) ، واللّه العالم.

ومما يؤيد ذلك ما ورد في الغيبة للشيخ الطوسي: عن الفضيل، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : لما توجه الحسين (عليه السلام) إلى العراق، دفع إلى أم سلمة زوج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الوصية والكتب وغير ذلك، وقال لها: إذا أتاكِ أكبر ولدي، فادفعي إليه ما دفعت إليكِ. فلما قُتل الحسين (عليه السلام) ، أتى علي بن الحسين أم سلمة، فدفعت إليه كل شيء أعطاها الحسين (عليه السلام) »(2).

وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) : (أكثر الأخبار الدالة على أنه (عليه السلام) كان أكبر من

ص: 27


1- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج6 ص2، تتمة كتاب الحجة، تتمة أبواب التاريخ، باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- كتاب الغيبة: ص195، ف1، الكلام على الواقفة.

الشهيد)(1).

إلى غيرها من القرائن المذكورة في محلها.

ص: 28


1- بحار الأنوار: ج46 ص19، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب2 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ذيل ح8.

3

الإمامة والعصمة

اشارة

الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) ، هو رابع أئمة المسلمين الذي يجب طاعته بأمر اللّه على الجميع، وهو المعصوم الذي لا يصدر منه ذنب ولا خطأ، وهو حجة اللّه على جميع الخلائق.

وهذه الإمامة من أهم ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}(1).

وقد دلت على إمامته (عليه السلام) النصوص، ومعاجزه، وعصمته، وكونه أعلم أهل زمانه وأتقاهم، وغير ذلك مما هو مذكور في مبحث الإمامة(2).

فإلى من؟

عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، قال: كنت عند الحسين بن علي (عليه السلام) ، إذ دخل علي بن الحسين. فدعاه الحسين (عليه السلام) ، وضمه إليه ضماً، وقبَّل ما بين عينيه،

ص: 29


1- سورة الصَّافات: 24.
2- للتفصيل انظر: الكافي: ج1 ص466، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) . مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص129، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) . كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص72، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) . بحار الأنوار: ج46 ص2، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، وغيرها.

ثم قال: «بأبي أنت، ما أطيب ريحك، وأحسن خَلْقك». فتداخلني من ذلك، فقلت: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه، إن كان ما نعوذ باللّه أن نراه فيك، فإلى من؟!. قال: «علي ابني هذا هو الإمام أبو الأئمة»(1)،

الحديث.

خاتم الإمامة

عن محمد بن مسلم، قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن خاتم الحسين بن علي (عليه السلام) إلى من صار، وذكرت له أني سمعت أنه أُخذ من إصبعه فيما أُخذ؟. قال (عليه السلام) : «ليس كما قالوا(2). إن الحسين (عليه السلام) أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) ، وجعل خاتمه في إصبعه، وفوض إليه أمره، كما فعله رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفعله أمير المؤمنين بالحسن (عليه السلام) ، وفعله الحسن بالحسين (عليه السلام) ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي (عليه السلام) بعد أبيه، ومنه صار إليَّ، فهو عندي، وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه». قال محمد بن مسلم: فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي، فلما فرغ من الصلاة مد إليَّ يده، فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه: لا إله إلا اللّه عدة للقاء اللّه. فقال: «هذا خاتم جدي أبي عبد اللّه الحسين بن علي (عليه السلام) »(3).

ودائع الإمامة

في الغيبة للشيخ الطوسي: عن الفضيل، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : «لما توجه الحسين (عليه السلام) إلى العراق، دفع إلى أم سلمة زوج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الوصية والكتب

ص: 30


1- بحار الأنوار: ج46 ص19، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب2 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح8.
2- والجمع بين الروايات: هو أن الخاتم الذي أُخذ من إصبعه الشريف، هو غير هذا الخاتم الذي كان من مختصات الإمامة.
3- الأمالي للصدوق: ص144، المجلس29، ح13.

وغير ذلك، وقال لها: إذا أتاكِ أكبر ولدي، فادفعي إليه ما دفعت إليكِ. فلما قُتل الحسين (عليه السلام) ، أتى علي بن الحسين أم سلمة، فدفعت إليه كل شيء أعطاها الحسين (عليه السلام) »(1).

وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن الحسين (عليه السلام) لما سار إلى العراق استودع أم سلمة الكتب والوصية، فلما رجع علي بن الحسين دفعتها إليه»(2).

علم الإمامة

في إعلام الورى: عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال: «إن الحسين (عليه السلام) لما حضره الذي حضره، دعا ابنته فاطمة الكبرى، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً، ووصيةً ظاهرةً، وكان علي بن الحسين مريضاً لا يرون أنه يبقى بعده، فلما قتل الحسين (عليه السلام) ، ورجع أهل بيته إلى المدينة، دفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين، ثم صار ذلك الكتاب واللّه إلينا يا زياد»(3).

الإمامة وظروف التقية

في إكمال الدين: عن أحمد بن إبراهيم، قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا، أخت أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) . فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟. فقالت: إلى الجدة أم أبي محمد (عليه السلام) . فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة!. فقالت: اقتداءً بالحسين بن علي (عليه السلام) ، والحسين بن علي (عليه السلام) أوصى إلى

ص: 31


1- كتاب الغيبة: ص195، ف1، الكلام على الواقفة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص172، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في المفردات والنصوص عليه (عليه السلام) .
3- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص482-483، الركن الثالث، ب3، ف2.

أخته زينب بنت علي في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين (عليه السلام) من علم ينسب إلى زينب؛ ستراً على علي بن الحسين (عليه السلام) »(1).

شهادة الحجر الأسود

عن أبي بجير - عالم الأهواز - وكان يقول بإمامة ابن الحنفية، قال: حججت فلقيت إمامي، وكنت يوماً عنده. فمر به غلام شاب فسلّم عليه، فقام فتلقاه وقبّل ما بين عينيه وخاطبه بالسيادة، ومضى الغلام وعاد محمد إلى مكانه. فقلت له: عند اللّه أحتسب عناي. فقال: وكيف ذاك؟!.

قلت: لأنا نعتقد أنك الإمام المفترض الطاعة، تقوم تتلقى هذا الغلام وتقول له: يا سيدي.

فقال: نعم، هو واللّه إمامي.

فقلت: ومن هذا؟.

قال: علي ابن أخي الحسين (عليه السلام) ، اعلم أني نازعته الإمامة ونازعني. فقال لي: أ ترضى بالحجر الأسود حَكَماً بيني وبينك؟.

فقلت: وكيف نحتكم إلى حجر جماد؟.

فقال: إن إماماً لا يكلمه الجماد فليس بإمام.

فاستحييت من ذلك، وقلت: بيني وبينك الحجر الأسود. فقصدنا الحجر وصلى وصليت، وتقدم إليه وقال: «أسألك بالذي أودعك مواثيق العباد لتشهد لهم بالموافاة، إلا أخبرتنا من الإمام منا؟».

ص: 32


1- كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص507، الروايات الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في وقوع الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) ، ب45، ضمن ح36.

فنطق واللّه الحجر، وقال: يا محمد، سلّم الأمر إلى ابن أخيك، فهو أحق به منك، وهو إمامك. وتحلحل حتى ظننته يسقط، فأذعنت بإمامته، ودنت له بفرض طاعته.

قال أبو بجير: فانصرفت من عنده، وقد دنت بإمامة علي بن الحسين (عليه السلام) ، وتركت القول بالكيسانية(1).

مع محمد بن الحنفية

عن أبي خالد الكابلي قال: دعاني محمد ابن الحنفية بعد قتل الحسين (عليه السلام) ، ورجوع علي بن الحسين (عليه السلام) إلى المدينة وكنا بمكة. فقال: صر إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، وقل له: إني أكبر ولد أمير المؤمنين بعد أخوي الحسن والحسين، وأنا أحق بهذا الأمر منك، فينبغي أن تسلمه إليَّ، وإن شئت فاختر حكماً نتحاكم إليه.

فصرت إليه وأديت رسالته. فقال: «ارجع إليه وقل له: يا عم، اتقِ اللّه ولا تدع ما لم يجعله اللّه لك، فإن أبيت فبيني وبينك الحجر الأسود، فمن أجابه الحجر فهو الإمام».

فرجعت إليه بهذا الجواب، فقال له: قد أجبتك.

قال أبو خالد: فدخلا جميعاً وأنا معهما حتى وافيا الحجر الأسود. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : تقدم يا عم فإنك أسن، فسله الشهادة لك.

فتقدم محمد فصلى ركعتين ودعا بدعوات، ثم سأل الحجر بالشهادة إن كانت

ص: 33


1- بحار الأنوار: ج45 ص347-348، تتمة كتاب تاريخ فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، الباب49 من أبواب تتمة أبواب ما يختص بتاريخ الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما).

الإمامة له، فلم يجبه بشيء.

ثم قام علي بن الحسين (عليه السلام) فصلى ركعتين، ثم قال: «أيها الحجر الذي جعله اللّه شاهداً لمن يوافي بيته الحرام من وفود عباده، إن كنت تعلم أني صاحب الأمر، وأني الإمام المفترض الطاعة على جميع عباد اللّه، فاشهد لي ليعلم عمي أنه لا حق له في الإمامة».

فأنطق اللّه الحجر بلسان عربي مبين، فقال: يا محمد بن علي، سلّم الأمر إلى علي بن الحسين؛ فإنه الإمام المفترض الطاعة عليك وعلى جميع عباد اللّه دونك، ودون الخلق أجمعين.

فقبل محمد ابن الحنفية رجله وقال: الأمر لك(1).

وفي رواية أخرى: إن اللّه أنطق الحجر: يا محمد بن علي، إن علي بن الحسين حجة اللّه عليك وعلى جميع من في الأرض ومن في السماء مفترض الطاعة، فاسمع له وأطع. فقال محمد: سمعاً وطاعةً يا حجة اللّه في أرضه وسمائه(2).

والظاهر أن ابن الحنفية إنما فعل ذلك إزاحةً لشكوك الناس في إمامة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، حيث كان يزعم البعض أن الإمامة تكون بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) لأخيهما محمد الحنفية، وبذلك قضى بنفسه على الكيسانية.

مرحباً يا كنكر

عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «كان أبو خالد الكابلي

ص: 34


1- بحار الأنوار: ج46 ص29-30، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح20.
2- مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر: ج4 ص287-288، ب4، الحادي والعشرون شهادة الحجر الأسود، ضمن ح1316/64.

يخدم محمد ابن الحنفية دهراً، وما كان يشك في أنه إمام، حتى أتاه ذات يوم. فقال له: جعلت فداك، إن لي حرمةً ومودةً وانقطاعاً، فأسألك بحرمة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ، إلا أخبرتني أنت الإمام الذي فرض اللّه طاعته على خلقه؟.

قال: فقال: يا أبا خالد، حلفتني بالعظيم، الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عليَّ وعليك وعلى كل مسلم.

فأقبل أبو خالد لما أن سمع ما قاله محمد ابن الحنفية، وجاء إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فلما استأذن عليه، أُخبر أن أبا خالد بالباب، فأذن له. فلما دخل عليه ودنا منه قال: مرحباً يا كنكر، ما كنت لنا بزائر، ما بدا لك فينا.

فخر أبو خالد ساجداً شاكراً لله تعالى مما سمع من علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي.

فقال له علي (عليه السلام) : وكيف عرفت إمامك يا أبا خالد؟.

قال: إنك دعوتني باسمي الذي سمتني به أُمي التي ولدتني، وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد ابن الحنفية عمراً من عمري ولا أشك أنه إمام، حتى إذا كان قريباً سألته بحرمة اللّه تعالى وحرمة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وبحرمة أمير المؤمنين (عليه السلام) فأرشدني إليك، وقال: هو الإمام عليَّ وعليك وعلى جميع خلق اللّه كلهم، ثم أذنت لي فجئت فدنوت منك، وسميتني باسمي الذي سمتني أمي، فعلمت أنك الإمام الذي فرض اللّه طاعته عليَّ وعلى كل مسلم(1).

في الخرائج: قال: ولدتني أمي فسمتني وردان، فدخل عليها والدي فقال:

ص: 35


1- بحار الأنوار: ج46 ص45-46، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح47.

سميه كنكر. وواللّه ما سماني به أحد من الناس إلى يومي هذا غيرك، فأشهد أنك إمام من في الأرض ومن في السماء(1).

ص: 36


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص262، الباب5، ح6.

4

معاجز الإمامة

استجابة الدعاء

كان الإمام السجاد (صلوات اللّه عليه) مستجاب الدعوة، وذلك لشدة قربه من اللّه تعالى.

ورد عن ثابت البناني، قال: كنت حاجاً وجماعة عباد البصرة، مثل: أيوب السجستاني، وصالح المري، وعتبة الغلام، وحبيب الفارسي، ومالك بن دينار. فلما أن دخلنا مكة، رأينا الماء ضيقاً، وقد اشتد بالناس العطش؛ لقلة الغيث. ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألونا أن نستسقي لهم، فأتينا الكعبة وطفنا بها، ثم سألنا اللّه خاضعين متضرعين بها، فمنعنا الإجابة.

فبينما نحن كذلك، إذا نحن بفتى قد أقبل، قد أكربته أحزانه، وأقلقته أشجانه. فطاف بالكعبة أشواطاً، ثم أقبل علينا فقال: «يا مالك بن دينار، ويا ثابت البناني، ويا أيوب السجستاني، ويا صالح المري، ويا عتبة الغلام، ويا حبيب الفارسي، ويا سعد، ويا عمر، ويا صالح الأعمى، ويا رابعة، ويا سعدانة، ويا جعفر بن سليمان».

فقلنا: لبيك وسعديك يا فتى.

فقال: «أما فيكم أحد يحبه الرحمن؟».

ص: 37

فقلنا: يا فتى، علينا الدعاء وعليه الإجابة.

فقال: «أبعدوا من الكعبة، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه».

ثم أتى الكعبة، فخر ساجداً، فسمعته يقول في سجوده: «سيدي بحبك لي إلاّ سقيتَهم الغيث».

قال: فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب، فقلت: يا فتى، من أين علمت أنه يحبك؟!.

قال: «لو لم يحبني لم يستزرني، فلما استزارني علمت أنه يحبني، فسألته بحبه لي فأجابني».

ثم ولى عنا، وأنشأ يقول:

من عرف الرب فلم تغنه***معرفة الرب فذاك الشقي

ما ضر في الطاعة ما ناله***في طاعة اللّه وما ذا لقي

ما يصنع العبد بغير التُقى***والعز كل العز للمتقي

فقلت: يا أهل مكة، من هذا الفتى؟!.

قالوا: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) (1).

ما فعل حرملة؟

عن المنهال بن عمرو - في خبر - قال: حججت فلقيت علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال: «ما فعل حرملة بن كاهل؟».

قلت: تركته حياً بالكوفة.

فرفع يديه، ثم قال (عليه السلام) : «اللّهم أذقه حر الحديد، اللّهم أذقه حر النار».

ص: 38


1- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص313-314، احتجاج علي بن الحسين (عليه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين.

فتوجهت نحو المختار، فإذا بقوم يركضون ويقولون: البشارة أيها الأمير قد أخذ حرملة، وقد كان توارى عنه.

فأمر المختار بقتله.

فأذاقه اللّه حر الحديد وحر النار، واستجاب دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) (1).

أما ما ذكره البعض، من أن المختار قطع يديه وأحرقه بالنار فلم يثبت، بل ربما كان ذلك من اتهامات بني أمية ومن شاكلهم؛ لتشويه سمعة المختار.

وعن المنهال بن عمرو - أيضاً - قال: حججت فدخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) فقال لي: «يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهل الأسدي؟».

قلت: تركته حياً بالكوفة.

قال: فرفع يديه ثم قال: «اللّهم أذقه حر الحديد، اللّهم أذقه حر النار».

قال: فانصرفت إلى الكوفة، وقد خرج بها المختار بن أبي عبيد، وكان لي صديقاً، فركبت لأسلم عليه، فوجدته قد دعا بدابته، فركب وركبت معه حتى أتى الكناسة، فوقف وقوف منتظر لشيء، وقد كان وجَّه في طلب حرملة بن كاهل فأحضر. فقال: الحمد لله الذي مكنني منك. ثم دعا بالجزار وأمر بقتله.

فقلت: سبحان اللّه! سبحان اللّه! فالتفت إليَّ المختار فقال: مم سبحت؟. فقلت له: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) فسألني عن حرملة، فأخبرت أني

ص: 39


1- انظر باختلاف يسير: الأمالي للطوسي: ص238-239، المجلس9، ح423 / 15. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص133، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) . كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص112-113، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) . بحار الأنوار: ج46 ص53-54، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب4 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح2. وغيرها.

تركته بالكوفة حياً، فرفع يديه وقال: «اللّهم أذقه حر الحديد، اللّهم أذقه حر النار».

فقال المختار: اللّه، اللّه، أ سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول هذا؟.

فقلت: اللّه، اللّه، لقد سمعته يقول هذا.

فنزل المختار وصلى ركعتين، ثم أطال، ثم سجد وأطال، ثم رفع رأسه وذهب، ومضيت معه حتى انتهى إلى باب داري. فقلت له: إن رأيت أن تكرمني بأن تنزل وتتغدى عندي. فقال: يا منهال، تخبرني أن علي بن الحسين دعا اللّه بثلاث دعوات، فأجابه اللّه فيها على يدي، ثم تسألني الأكل عندك، هذا يوم صوم شكراً لله على ما وفقني له(1).

دعاء على قتلة الحسين (عليه السلام)

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يدعو في كل يوم أن يريه اللّه قاتل أبيه مقتولاً، فلما قتل المختار قتلة الحسين (صلوات اللّه وسلامه عليه)، بعث برأس عبيد اللّه بن زياد، ورأس عمر بن سعد مع رسول من قبله إلى زين العابدين (عليه السلام) ، وقال لرسوله: إنه يصلي من الليل، وإذا أصبح وصلى صلاة الغداة هجع، ثم يقوم فيستاك ويؤتى بغدائه، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه، فإذا قيل لك: إن المائدة وضعت بين يديه، فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته، وقل له: المختار

ص: 40


1- انظر باختلاف يسير: الأمالي للطوسي: ص238-239، المجلس9، ح423 / 15. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص133، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) . كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص112-113، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) . بحار الأنوار: ج46 ص53-54، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب4 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح2. وغيرها.

يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يا ابن رسول اللّه، قد بلغك اللّه ثارك.

ففعل الرسول ذلك، فلما رأى زين العابدين (عليه السلام) الرأسين على مائدته خر ساجداً، وقال: «الحمد لله الذي أجاب دعوتي، وبلغني ثاري من قتلة أبي»، ودعا للمختار وجزَّاه خيراً(1).

لن يموت حتى يلي الناس

عن عبد اللّه بن عطاء التميمي، قال: كنت مع علي بن الحسين (عليه السلام) في المسجد، فمر عمر بن عبد العزيز عليه شراكاً فضة، وكان من أحسن الناس وهو شاب. فنظر إليه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: «يا عبد اللّه بن عطاء، أ ترى هذا المترف، إنه لن يموت حتى يلي الناس».

قال: قلت: هذا الفاسق!.

قال: «نعم، فلا يلبث فيهم إلاّ يسيراً حتى يموت، فإذا هو مات لعنه أهل السماء، واستغفر له أهل الأرض»(2).

يدان متلاصقتان

روي أن يدي رجل وامرأة التصقتا على الحجر - وهما في الطواف - وجهد كل

ص: 41


1- انظر: شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) : ج3 ص270-271، ذكر فضائل الأئمة من ولد الحسين بن علي (عليه السلام) ، ذكر فضل علي بن الحسين (عليهما السلام) ، دعاؤه على قاتل أبيه. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص144، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) . بحار الأنوار: ج46 ص53، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب4 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح2. وغيرها.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص170، الباب2، نادر من الباب، ح1.

أحد على نزعهما فلم يقدر. فقال الناس: اقطعوهما. وبينما هم كذلك، إذ دخل زين العابدين (عليه السلام) وقد ازدحم الناس، ففرجوا له، فتقدم ووضع يده عليهما، فانحلتا وافترقتا(1).

وفي رواية: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنه التزقت يد رجل وامرأة على الحجر في الطواف، فجهد كل واحد منهما أن ينزع يده، فلم يقدرا عليه. وقال الناس: اقطعوهما. قال: فبينا هما كذلك إذ دخل علي بن الحسين، فأفرجوا له. فلما عرف أمرهما، تقدم فوضع يده عليهما، فانحلا وتفرقا(2).

وقفت على ما كتبت

روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى عبد الملك بن مروان: إن أردت أن يثبت ملكك، فاقتل علي بن الحسين (عليه السلام) . فكتب عبد الملك إليه: أما بعد، فجنبني دماء بني هاشم واحقنها؛ فإني رأيت آل أبي سفيان لما أولعوا فيها، لم يلبثوا إلى أن أزال اللّه الملك عنهم. وبعث بالكتاب سراً أيضاً. فكتب علي بن الحسين (عليه السلام) إلى عبد الملك في الساعة التي أنفذ فيها الكتاب إلى الحجاج: «وقفت على ما كتبت في دماء بني هاشم، وقد شكر اللّه لك ذلك، وثبَّت لك ملكك، وزاد في عمرك». وبعث به مع غلام له بتاريخ الساعة التي أنفذ فيها عبد الملك كتابه إلى الحجاج، فلما قدم الغلام، أوصل الكتاب إليه، فنظر عبد الملك في تاريخ الكتاب، فوجده موافقاً لتاريخ كتابه، فلم يشك في صدق زين العابدين، ففرح

ص: 42


1- رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار: ج2 ص23، باب فيما يختص بالإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) ، ف1، موت الفجأة وغيره.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص111، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

بذلك، وبعث إليه بوقر دنانير، وسأله أن يبسط إليه بجميع حوائجه، وحوائج أهل بيته ومواليه. وكان في كتابه (عليه السلام) : «أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أتاني في النوم، فعرفني ما كتبت به إليك، وما شكر من ذلك»(1).

وروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة، كتب إلى الحجاج بن يوسف: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أما بعد، فانظر دماء بني عبد المطلب فاحقنها واجتنبها؛ فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولعوا فيها، لم يلبثوا إلا قليلاً والسلام.

قال: وبعث بالكتاب سراً، وورد الخبر(2)

على علي بن الحسين (عليه السلام) ساعة كتب الكتاب وبعث به إلى الحجاج. فقيل له: إن عبد الملك قد كتب إلى الحجاج كذا وكذا، وإن اللّه قد شكر له ذلك، وثبَّت ملكه، وزاده برهةً.

قال: فكتب علي بن الحسين (عليه السلام) : بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلى عبد الملك بن مروان، من علي بن الحسين بن علي: أما بعد، فإنك كتبت يوم كذا وكذا، من ساعة كذا وكذا، من شهر كذا وكذا بكذا وكذا، وإن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنبأني وخبَّرني، وإن اللّه قد شكر لك ذلك، وثبَّت ملكك، وزادك فيه برهةً. وطوى الكتاب وختمه، وأرسل به مع غلام له على بعيره، وأمره أن يوصله إلى عبد الملك ساعة يقدم عليه.

فلما قدم الغلام، أوصل الكتاب إلى عبد الملك، فلما نظر في تاريخ الكتاب، وجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها إلى الحجاج، فلم يشك في صدق علي بن الحسين (عليه السلام) ، وفرح فرحاً شديداً، وبعث إلى علي بن الحسين (عليه السلام) بوقر راحلته

ص: 43


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص256، الباب5، ح2.
2- أي من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن طريق الإعجاز، كما سيأتي في تتمة الخبر.

دراهم، ثواباً لما سرَّه من الكتاب»(1).

علمنا منطق الطير

عن الثمالي، قال: كنت مع علي بن الحسين (عليه السلام) في داره، وفيها شجرة فيها عصافير، فانتشرت العصافير وصوتت. فقال: «يا أبا حمزة، أ تدري ما تقول». قلت: لا. قال: تقدس ربها، وتسأله قوت يومها - قال - ثم قال: يا أبا حمزة، علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء»(2).

امتثال الناقة

روي أنه تلكأت على الإمام زين العابدين (عليه السلام) ناقته بين جبال رضوى، فأناخها ثم أراها السوط والقضيب، ثم قال: «لتنطلقن أو لأفعلن». فانطلقت وما تلكأت بعدها(3).

والإمام (عليه السلام) لم يضرب الناقة، وإنما كلمها وأراها السوط تهديداً لها فقط، وفي الروايات: أنه (عليه السلام) كان يقول: «لولا خوف القصاص لفعلت»(4).

عند نهب المدينة

سأل ليث الخزاعي سعيد بن المسيب عن إنهاب المدينة. قال: نعم، شدوا

ص: 44


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص112، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص23، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح3.
3- الخرائج والجرائح: ج2 ص585، الباب14، فصل في أعلام الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح6.
4- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) : ج3 ص273، ذكر فضائل الأئمة من ولد الحسين بن علي (عليه السلام) ، ذكر فضل علي بن الحسين (عليهما السلام) ، عبادته (عليه السلام) ، ح1180.

الخيل إلى أساطين مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ورأيت الخيل حول القبر، وانتهب المدينة ثلاثاً، فكنت أنا وعلي بن الحسين نأتي قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فيتكلم علي بن الحسين (عليه السلام) بكلام لم أقف عليه، فيحال ما بيننا وبين القوم، ونصلي ونرى القوم وهم لا يروننا، وقام رجل عليه حلل خضر على فرس محذوف أشهب بيده حربة مع علي بن الحسين (عليه السلام) ، فكان إذا أومأ الرجل إلى حرم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، يشير ذلك الفارس بالحربة نحوه، فيموت من غير أن يصيبه، فلما أن كفوا عن النهب، دخل علي بن الحسين على النساء، فلم يترك قرطاً في أذن صبي، ولا حلياً على امرأة، ولا ثوباً، إلا أخرجه إلى الفارس. فقال له الفارس: يا ابن رسول اللّه، إني ملك من الملائكة من شيعتك وشيعة أبيك، لما أن ظهر القوم بالمدينة، استأذنت ربي في نصرتكم آل محمد فأذن لي؛ لأن أدخرها يداً عند اللّه تبارك وتعالى، وعند رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعندكم أهل البيت إلى يوم القيامة(1).

التسبيح الأعظم

في رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: كان القوم لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين سيد العابدين. فخرج (عليه السلام) فخرجت معه، فنزل في بعض المنازل، فصلى ركعتين، فسبح في سجوده، فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه، ففزعنا. فرفع رأسه وقال: «يا سعيد، أ فزعت؟». فقلت: نعم يا ابن رسول اللّه. فقال: «هذا التسبيح الأعظم. حدثني أبي، عن جدي، عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أنه قال: لا تبقى الذنوب مع هذا التسبيح». فقلت: علمنا(2).

ص: 45


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص143، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج83 ص226، تتمة كتاب الصلاة، الباب44 سجدة الشكر وفضلها وما يقرأ فيها وآدابها، ضمن ح46.

وفي رواية علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، أنه سبَّح في سجوده، فلم يبق حوله شجرة ولا مدرة إلا سبحت بتسبيحه. ففزعت من ذلك وأصحابي، ثم قال: «يا سعيد، إن اللّه جل جلاله لما خلق جبرئيل ألهمه هذا التسبيح، فسبحت السماوات ومن فيهن لتسبيحه الأعظم، وهو اسم اللّه جل وعز الأكبر. يا سعيد، أخبرني أبي الحسين، عن أبيه، عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، عن جبرئيل، عن اللّه جل جلاله، أنه قال: ما من عبد من عبادي آمن بي، وصدق بك، وصلى في مسجدك ركعتين على خلاء من الناس، إلا غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». فلم أرَ شاهداً أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام) حيث حدثني بهذا الحديث(1).

فأرة ميتة

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «لما كان في الليلة التي وعد فيها علي بن الحسين (عليه السلام) قال لمحمد: يا بني، ابغني وضوءاً. قال: فقمت فجئته بماء. قال: لا تبغ هذا؛ فإن فيه شيئاً ميتاً. قال: فخرجت وجئت بالمصباح، فإذا فيه فأرة ميتة، فجئته بوضوء غيره»(2).

ما قالت النعجة؟

عن أبي بصير، عن رجل، قال: خرجت مع علي بن الحسين (عليه السلام) إلى مكة، فلما رحلنا من الأبواء، كان على راحلته وكنت أمشي. فرأى غنماً، وإذا نعجة قد تخلفت عن الغنم، وهي تثغو ثغاءً شديداً وتلتفت، وإذا سخلة خلفها تثغو وتشتد في طلبها، وكلما قامت السخلة ثغت النعجة، فتتبعها السخلة. فقال

ص: 46


1- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال: ص117-118، سعيد بن المسيب، ح188.
2- الكافي: ج1 ص468، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح4.

علي (عليه السلام) : «يا عبد العزيز، أ تدري ما قالت النعجة؟». قال: قلت: لا واللّه ما أدري. قال: «فإنها قالت: الحقي بالغنم؛ فإن أختها عام أول تخلفت في هذا الموضع فأكلها الذئب»(1).

ما تقول هذه الظبية

عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «بينا علي بن الحسين (عليه السلام) مع أصحابه، إذ أقبل ظبية من الصحراء حتى قامت حذاءه وصوتت. فقال بعض القوم: يا ابن رسول اللّه، ما تقول هذه الظبية؟.

قال: تزعم أن فلاناً القرشي أخذ خشفها بالأمس، وأنها لم ترضعه من أمس شيئاً. فبعث إليه علي بن الحسين (عليه السلام) : أرسل إليَّ بالخشف. فلما رأت صوتت وضربت بيديها، ثم أرضعته. قال: فوهبه علي بن الحسين (عليه السلام) لها، وكلمها بكلام نحو من كلامها، وانطلقت والخشف معها. فقالوا: يا ابن رسول اللّه، ما الذي قالت؟. قال: دعت اللّه لكم، وجزاكم بخير»(2).

وفي رواية حمران بن أعين، قال: كان أبو محمد علي بن الحسين (عليه السلام) قاعداً في جماعة من أصحابه، إذ جاءته ظبية فبصبصت وضربت بيديها. فقال أبو محمد: «أ تدرون ما تقول الظبية؟». قالوا: لا. قال: «تزعم أن فلان بن فلان رجلاً من قريش اصطاد خشفاً لها في هذا اليوم، وإنما جاءت إليَّ تسألني أن أسأله أن يضع الخشف بين يديها فترضعه». فقال علي بن الحسين (عليه السلام) لأصحابه: «قوموا بنا

ص: 47


1- دلائل الإمامة: ص205-206، المستدرك، أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر معجزاته (عليه السلام) ، ح127/17.
2- بحار الأنوار: ج46 ص25، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح9.

إليه». فقاموا بأجمعهم، فأتوه فخرج إليهم. قال: فداك أبي وأمي، ما حاجتك!. فقال: «أسألك بحقي عليك إلا أخرجت إليَّ هذه الخشف التي اصطدتها اليوم». فأخرجها فوضعها بين يدي أمها فأرضعتها، ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «أسألك يا فلان لما وهبت لي هذه الخشف». قال: قد فعلت. قال: فأرسل الخشف مع الظبية، فمضت الظبية فبصبصت وحركت ذنبها. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «أ تدرون ما تقول الظبية؟». قالوا: لا. قال: «إنها تقول: رد اللّه عليكم كل غائب لكم، وغفر لعلي بن الحسين كما رد عليَّ ولدي»(1).

مع حبابة الوالبية

عن الإمام موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن محمد بن علي (عليهم السلام) : «أن حبابة الوالبية دعا لها علي بن الحسين (عليه السلام) ، فرد اللّه عليها شبابها، وأشار إليها بإصبعه فحاضت لوقتها، ولها يومئذٍ مائة سنة وثلاث عشرة سنةً»(2).

سيقدم علينا غداً رجل من الشام

روي عن أبي الصباح الكناني، قال: سمعت الباقر (عليه السلام) يقول: «خدم أبو خالد الكابلي علي بن الحسين (عليه السلام) برهةً من الزمان، ثم شكا شدة شوقه إلى والدته، وسأله الإذن في الخروج إليها. فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : يا كنكر، إنه يقدم علينا غداً رجل من أهل الشام له قدر وجاه ومال، وابنة له قد أصابها عارض من الجن، وهو يطلب معالجاً يعالجها، ويبذل في ذلك ماله. فإذا قدم

ص: 48


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (عليهم السلام) : ج1 ص352-353، الباب15، ح14.
2- كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص537، الروايات الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في وقوع الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) ، ب49، ح2.

فصر إليه أول الناس، وقل له: أنا أعالج ابنتك بعشرة آلاف درهم، فإنه يطمئن إلى قولك، ويبذل في ذلك. فلما كان من الغد، قدم الشامي ومعه ابنته، وطلب معالجاً. فقال أبو خالد: أنا أعالجها على أن تعطيني عشرة آلاف درهم، فإن أنتم وفيتم وفيت على أن لا يعود إليها أبداً. فضمن أبوها له ذلك.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : إنه سيغدر بك. قال: قد ألزمته. قال: فانطلق فخذ بأذن الجارية اليسرى، وقل: يا خبيث، يقول لك علي بن الحسين: اخرج من هذه الجارية ولا تعد إليها. ففعل كما أمره، فخرج عنها وأفاقت الجارية من جنونها، فطالبه بالمال فدافعه. فرجع إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: يا با خالد، أ لم أقل لك إنه يغدر، ولكن سيعود إليها، فإذا أتاك فقل: إنما عاد إليها؛ لأنك لم تف بما ضمنت، فإن وضعت عشرة آلاف على يد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فإني أعالجها على أن لا يعود أبداً. فوضع المال على يد علي بن الحسين (عليه السلام) ، وذهب أبو خالد إلى الجارية، فأخذ بأذنها اليسرى، ثم قال: يا خبيث، يقول لك علي بن الحسين: اخرج من هذه الجارية، ولا تتعرض لها إلا بسبيل خير، فإنك إن عدت أحرقتك بنار اللّه الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. فخرج وأفاقت الجارية، ولم يعد إليها، فأخذ أبو خالد المال، وأذن له في الخروج إلى والدته، فخرج بالمال حتى قدم على والدته»(1).

سبع حجج بعد موتي

في كتاب الكشي، قال القاسم بن عوف - في حديثه -: قال زين العابدين (عليه السلام) :

ص: 49


1- بحار الأنوار: ج46 ص31-32، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح24.

«وإياك أن تشد راحلةً ترحلها؛ فإنما ها هنا يطلب العلم حتى يُمضى لكم بعد موتي سبع حجج، ثم يبعث اللّه لكم غلاماً من ولد فاطمة (صلوات اللّه عليها)، تنبت الحكمة في صدره كما ينبت الطل الزرع».

قال: فلما مضى علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما)، حسبنا الأيام والجُمَع والشهور والسنين، فما زادت يوماً ولا نقصت، حتى تكلم محمد بن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهم) باقر العلم(1).

مع حوت يونس

في حديث أبي حمزة الثمالي، أنه دخل عبد اللّه بن عمر على زين العابدين (عليه السلام) ، وقال: يا ابن الحسين، أنت الذي تقول: إن يونس بن متى إنما لقي من الحوت ما لقي؛ لأنه عرضت عليه ولاية جدي فتوقف عندها. قال: «بلى ثكلتك أمك». قال: فأرني أنت ذلك إن كنت من الصادقين.

فأمر (عليه السلام) بشد عينيه بعصابة وعيني بعصابة، ثم أمر بعد ساعة بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه. فقال ابن عمر: يا سيدي، دمي في رقبتك. اللّه، اللّه في نفسي. فقال: هيه وأريه إن كنت من الصادقين. ثم قال: «يا أيها الحوت». قال: فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم، وهو يقول: لبيك لبيك يا ولي اللّه. فقال: «من أنت؟». قال: أنا حوت يونس يا سيدي، قال: «أنبئنا بالخبر».

قال: يا سيدي، إن اللّه تعالى لم يبعث نبياً من آدم إلى أن صار جدك محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، إلا وقد عرض عليه ولايتكم أهل البيت، فمن قبلها من الأنبياء

ص: 50


1- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال: ص125، القاسم بن عوف، ح196.

سلم وتخلص، ومن توقف عنها وتمنع في حملها، لقي ما لقي آدم من المعصية. وما لقي نوح من الغرق، وما لقي إبراهيم من النار، وما لقي يوسف من الجب، وما لقي أيوب من البلاء، وما لقي داود من الخطيئة، إلى أن بعث اللّه يونس، فأوحى اللّه إليه: أن يا يونس تول أمير المؤمنين علياً والأئمة الراشدين (عليهم السلام) من صلبه في كلام له. قال: فكيف أتولى من لم أره ولم أعرفه، وذهب مغتاظاً.

فأوحى اللّه تعالى إليّ: أن التقم يونس، ولا توهن له عظماً، فمكث في بطني أربعين صباحاً، يطوف معي البحار في ظلمات ثلاث ينادي: أنه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قد قبلت ولاية علي بن أبي طالب والأئمة الراشدين من ولده (عليهم السلام) ، فلما أن آمن بولايتكم، أمرني ربي فقذفته على ساحل البحر.

فقال زين العابدين (عليه السلام) : «ارجع أيها الحوت إلى وكرك»، واستوى الماء(1).

أقول: والمراد بالولاية هنا المراتب العالية منها، فربما كانت صعبة عليهم، أما أصل الولاية فهو شرط النبوة، إذ لم يبعث اللّه نبياً حتى أقر برسالة النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام) .

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ نُبِّئَ، وَلاَ مِنْ رَسُولِ أُرْسِلَ، إِلاَّ بِوَلاَيَتِنَا وَبِفَضْلِنَا عَلَى مَنْ سِوَانَا»(2). أي الاعتراف بفضلنا.

وعن جابر، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : «وَلاَيَتُنَا وَلاَيَةُ اللّهِ الَّتِي لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً قَطُّ إِلاَّ بِهَا»(3).

ص: 51


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص138-139، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) .
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص75، الباب9، ح5.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص75، الباب9، ح6.

وعن عبد الأعلى، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «مَا نُبِّئَ نَبِيٌّ قَطُّ، إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ حَقِّنَا، وَبِفَضْلِنَا عَمَّنْ سِوَانَا»(1).

وعن حذيفة بن أسيد، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «مَا تَكَامَلَتِ النُّبُوَّةُ لِنَبِيٍّ فِي الأَظِلَّةِ، حَتَّى عُرِضَتْ عَلَيْهِ وَلاَيَتِي، وَوَلاَيَةُ أَهْلِ بَيْتِي وَمَثُلُوا لَهُ، فَأَقَرُّوا بِطَاعَتِهِمْ وَوَلاَيَتِهِمْ»(2).

وعن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى وَلاَيَةِ عَلِيٍّ، وَأَخَذَ عَهْدَ النَّبِيِّينَ بِوَلاَيَةِ عَلِيٍّ (عليه السلام) »(3).

فأين ربك؟

خرج علي بن الحسين (عليه السلام) إلى مكة حاجاً، حتى انتهى إلى واد بين مكة والمدينة، فإذا هو برجل يقطع الطريق، قال: فقال لعلي: انزل. قال: «تريد ما ذا؟». قال: أريد أن أقتلك وآخذ ما معك. قال: «فأنا أقاسمك ما معي وأحللك». قال: فقال اللص: لا. قال: «فدع معي ما أتبلغ به»، فأبى. قال: «فأين ربك؟». قال: نائم. قال: فإذا أسدان مقبلان بين يديه، فأخذ هذا برأسه وهذا برجليه. قال: «زعمت أن ربك عنك نائم»(4).

ما أكلت وادخرت في بيتك

روي أن رجلاً أتى علي بن الحسين (عليه السلام) وعنده أصحابه. فقال له: «ممن

ص: 52


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص74، الباب9، ح1.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص73، الباب8، ح7.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص73، الباب8، ح4.
4- الأمالي للطوسي: ص673، المجلس36، ح1421 / 28.

الرجل؟». قال: أنا منجم قائف عراف. فنظر إليه ثم قال: «هل أدلك على رجل قد مر منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم». قال: من هو!. قال: «أما الرجل فلا أذكره، ولكن إن شئت أخبرتك بما أكلت وادخرت في بيتك». قال: نبئني. قال: «أكلت في هذا اليوم جبناً، فأما في بيتك فعشرون ديناراً، منها ثلاثة دنانير وازنةً». فقال له الرجل: أشهد أنك الحجة العظمى، والمثل الأعلى، وكلمة التقوى». فقال له: «وأنت صديق امتحن اللّه قلبك بالإيمان وأثبت»(1).

هاك ولدك

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان قائماً يصلي، حتى وقف ابنه محمد (عليه السلام) - وهو طفل - إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها. فنظرت إليه أمه فصرخت، وأقبلت نحو البئر تضرب بنفسها حذاء البئر، وتستغيث وتقول: يا ابن رسول اللّه، غرق ولدك محمد. وهو لا ينثني عن صلاته، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر.

فلما طال عليها ذلك، قالت - حزناً على ولدها -: ما أقسى قلوبكم.. فأقبل على صلاته، ولم يخرج عنها إلا عن كمالها وإتمامها. ثم أقبل عليها، وجلس على أرجاء البئر، ومد يده إلى قعرها، وكانت لا تنال إلا برشاء طويل، فأخرج ابنه محمداً (عليه السلام) على يديه يناغي ويضحك، لم يبتل له ثوب ولا جسد بالماء. فقال: «هاكِ يا ضعيفة اليقين باللّه». فضحكت لسلامة ولدها، وبكت لقوله (عليه السلام) : «يا ضعيفة اليقين باللّه». فقال: «لا تثريب عليكِ اليوم، لو علمتِ أني كنت بين يدي جبار لو ملت بوجهي عنه، لمال بوجهه عني، أ فمن يرى

ص: 53


1- بحار الأنوار: ج46 ص42، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح40.

راحماً بعده»(1).

وفي رواية: أ فمن ترى أرحم لعبده منه(2).

جزاء الاستهزاء بالحديث النبوي

في الخرائج: إن علي بن الحسين (عليه السلام) قال يوماً: «موت الفجاءة تخفيف على المؤمن، وأسف على الكافر، وإن المؤمن ليعرف غاسله وحامله، فإن كان له عند ربه خير ناشد حملته أن يعجلوا به، وإن كان غير ذلك ناشدهم أن يقصروا به».

فقال ضمرة بن سمرة: إن كان كما تقول فاقفز من السرير، وضحك وأضحك.

فقال (عليه السلام) : «اللّهم إن ضمرة بن سمرة ضحك، وأضحك لحديث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فخذه أخذة أسف».

فمات فجأةً، فأتى بعد ذلك مولًى لضمرة زين العابدين (عليه السلام) ، فقال: أصلحك اللّه في ضمرة مات فجاءةً، إني لأقسم لك باللّه أني سمعت صوته، وأنا أعرفه كما كنت أعرف صوته في حياته في الدنيا، وهو يقول: الويل لضمرة بن سمرة؛ خلا مني كل حميم، وحللت بدار الجحيم، وبها مبيتي والمقيل.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «اللّه أكبر! هذا جزاء من ضحك وأضحك من حديث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(3).

ص: 54


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص135، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) .
2- العدد القوية لدفع المخاوف اليومية: ص63، اليوم الخامس عشر.
3- الخرائج والجرائح: ج2 ص586-587، الباب14، فصل في أعلام الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح8.

وعن جابر، قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «ما ندري كيف نصنع بالناس! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ضحكوا، وإن سكتنا لم يسعنا».

قال: فقال ضمرة بن معبد: حدثنا.

فقال: «هل تدرون ما يقول عدو اللّه إذا حمل على سريره؟». قال: فقلنا: لا. فقال: «إنه يقول لحملته: ألا تسمعون أني أشكو إليكم عدو اللّه خدعني وأوردني ثم لم يصدرني، وأشكو إليكم إخواناً واخيتهم فخذلوني، وأشكو إليكم أولاداً حاميت عنهم فخذلوني، وأشكو إليكم داراً أنفقت فيها حريبتي فصار سكانها غيري. فارفقوا بي ولا تستعجلوا».

قال: فقال ضمرة: يا أبا الحسن، إن كان هذا يتكلم بهذا الكلام يوشك أن يثب على أعناق الذين يحملونه.

قال: فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «اللّهم إن كان ضمرة هزأ من حديث رسولك، فخذه أخذ أسف». قال: فمكث أربعين يوماً ثم مات، فحضره مولى له. قال: فلما دفن أتى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فجلس إليه. فقال له: «من أين جئت يا فلان؟». قال: من جنازة ضمرة، فوضعت وجهي عليه حين سوي عليه، فسمعت صوته واللّه أعرفه كما كنت أعرفه وهو حي، يقول: ويلك يا ضمرة بن معبد اليوم، خذلك كل خليل، وصار مصيرك إلى الجحيم، فيها مسكنك ومبيتك والمقيل. قال: فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «أسأل اللّه العافية، هذا جزاء من يهزأ من حديث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).

ص: 55


1- الكافي: ج3 ص234-235، كتاب الجنائز، باب أن الميت يمثل له ماله وولده وعمله قبل موته، ح4.

مع الذئب الأمعط

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان يخرج إلى ضياعه، فإذا هو بذئب أمعط أعبس، قد قطع على الصادر والوارد، فدنا منه ووعوع. فقال: «انصرف، فإني أفعل إن شاء اللّه». فانصرف الذئب، فقيل: ما شأن الذئب؟!. فقال: «أتاني وقال: زوجتي عسر عليها ولادتها، فأغثني وأغثها بأن تدعو بتخليصها، ولك اللّه عليَّ أن لا أتعرض أنا ولا شيء من نسلي لأحد من شيعتك. ففعلت»(1).

الذئب الأمعط: الذي تساقط شعره. والأعبس: إما مأخوذ من عبوس الوجه، كناية عن غيظه وغضبه. أو من العبس - بالتحريك -: وهو ما يعلق في أذناب الإبل من أبوالها وأبعارها فيجف عليها. يقال: أعبست الإبل، أي صار ذا عبس.

تثبيت الحجر الأسود

روي أن الحجاج بن يوسف لما خرب الكعبة؛ بسبب مقاتلة عبد اللّه بن الزبير ثم عمروها، فلما أعيد البيت، وأرادوا أن ينصبوا الحجر الأسود، فكلما نصبه عالم من علمائهم، أو قاض من قضاتهم، أو زاهد من زهادهم، يتزلزل ويضطرب، ولا يستقر الحجر في مكانه. فجاءه علي بن الحسين (عليه السلام) وأخذه من أيديهم، وسمى اللّه ثم نصبه، فاستقر في مكانه، وكبر الناس. ولقد ألهم الفرزدق في قوله:

يكاد يمسكه عرفان راحته***ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم(2)

ص: 56


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص587، الباب14، فصل في أعلام الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح9.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص268، الباب5، ح11.

تأثر الشجر والمدر بعبادته

روى سعيد بن المسيب، قال: كان القراء لا يحجون حتى يحج الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وكان يتخذ لهم السويق الحلو والحامض، ويمنع نفسه. فسبق يوماً إلى الرحل، فألفيته وهو ساجد. فو الذي نفس سعيد بيده، لقد رأيت الشجر والمدر والرحل والراحلة، يردون عليه مثل كلامه(1).

أذن اللّه في فَرَجك

عن الزهري، قال: كنت عند علي بن الحسين (عليه السلام) . فجاءه رجل من أصحابه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «ما خبرك أيها الرجل؟». فقال الرجل: خبري - يا ابن رسول اللّه - أني أصبحت وعليَّ أربعمائة دينار دين، لا قضاء عندي لها، ولي عيال ثقال، ليس لي ما أعود عليهم به. قال: فبكى علي بن الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً. فقلت له: ما يبكيك يا ابن رسول اللّهّ. فقال: «وهل يعد البكاء إلا للمصائب والمحن الكبار». قالوا: كذلك يا ابن رسول اللّه. قال: «فأية محنة ومصيبة أعظم على حر مؤمن، من أن يرى بأخيه المؤمن خلةً فلا يمكنه سدها، ويشاهده على فاقة فلا يطيق رفعها». قال: فتفرقوا عن مجلسهم ذلك.

فقال بعض المخالفين - وهو يطعن على علي بن الحسين (عليه السلام) -: عجباً لهؤلاء يدعون مرةً أن السماء والأرض وكل شيء يطيعهم، وأن اللّه لا يردهم عن شيء من طلباتهم، ثم يعترفون أخرى بالعجز عن إصلاح حال خواص إخوانهم. فاتصل ذلك بالرجل صاحب القصة، فجاء إلى علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال له: يا

ص: 57


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص136-137، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

ابن رسول اللّه، بلغني عن فلان كذا وكذا، وكان ذلك أغلظ عليَّ من محنتي. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «فقد أذن اللّه في فرجك. يا فلانة، احملي سحوري وفطوري». فحملت قرصتين، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) للرجل: «خذهما، فليس عندنا غيرهما؛ فإن اللّه يكشف عنك بهما، وينيلك خيراً واسعاً منهما».

فأخذهما الرجل، ودخل السوق لا يدري ما يصنع بهما، يتفكر في ثقل دينه، وسوء حال عياله، ويوسوس إليه الشيطان: أين موقع هاتين من حاجتك. فمر بسماك قد بارت [أي كسدت] عليه سمكة قد أراحت. فقال له: سمكتك هذه بائرة عليك، وإحدى قرصتي هاتين بائرة عليَّ، فهل لك أن تعطيني سمكتك البائرة، وتأخذ قرصتي هذه البائرة.

فقال: نعم. فأعطاه السمكة، وأخذ القرصة.

ثم مر برجل معه ملح قليل مزهود فيه، فقال: هل لك أن تعطيني ملحك هذا المزهود فيه بقرصتي هذه المزهود فيها.

قال: نعم. ففعل، فجاء الرجل بالسمكة والملح، فقال: أصلح هذه بهذا. فلما شق بطن السمكة، وجد فيه لؤلؤتين فاخرتين، فحمد اللّه عليهما، فبينما هو في سروره ذلك، إذ قرع بابه، فخرج ينظر من بالباب، فإذا صاحب السمكة وصاحب الملح قد جاءا، يقول كل واحد منهما له: يا عبد اللّه، جهدنا أن نأكل نحن أو أحد من عيالنا هذا القرص، فلم تعمل فيه أسناننا، وما نظنك إلا وقد تناهيت في سوء الحال، ومرنت على الشقاء، قد رددنا إليك هذا الخبز، وطيبنا لك ما أخذته منا.

فأخذ القرصتين منهما، فلما استقر بعد انصرافهما عنه. قرع بابه، فإذا رسول علي بن الحسين (عليه السلام) فدخل، فقال: إنه يقول لك: «إن اللّه قد أتاك بالفرج،

ص: 58

فاردد إلينا طعامنا؛ فإنه لا يأكله غيرنا».

وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم، قضى منه دينه، وحسنت بعد ذلك حاله. فقال بعض المخالفين: ما أشد هذا التفاوت، بينا علي بن الحسين لا يقدر أن يسد منه فاقةً، إذ أغناه هذا الغناء العظيم، كيف يكون هذا، وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم!.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «هكذا قالت قريش للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكة، ويرجع إليها في ليلة واحدة، من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً، وذلك حين هاجر منها».

ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «جهلوا واللّه أمر اللّه وأمر أوليائه معه. إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه، وترك الاقتراح عليه، والرضا بما يدبرهم به. إن أولياء اللّه صبروا على المحن والمكاره صبراً لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم اللّه عز وجل بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنهم مع ذلك لايريدون منه إلا ما يريده لهم»(1).

ختم الحصاة

روي أن غانم ابن أم غانم دخل المدينة ومعه أمه، وسأل: هل تحسنون رجلاً من بني هاشم اسمه علي. قالوا: نعم، هو ذاك. فدلوني على علي بن عبد اللّه بن عباس. فقلت له: معي حصاة ختم عليها علي والحسن والحسين (عليه السلام) ، وسمعت أنه يختم عليه رجل اسمه علي.

ص: 59


1- الأمالي للصدوق: ص453-455، المجلس69، ح3.

فقال علي بن عبد اللّه بن العباس: يا عدو اللّه، كذبت على علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحسين، وصار بنو هاشم يضربونني حتى أرجع عن مقالتي، ثم سلبوا مني الحصاة. فرأيت في ليلتي في منامي الحسين (عليه السلام) وهو يقول لي: هاك الحصاة يا غانم، وامض إلى علي ابني فهو صاحبك. فانتبهت والحصاة في يدي، فأتيت إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فختمها، وقال لي: إن في أمرك لعبرةً، فلا تخبر به أحداً.

فقال في ذلك غانم ابن أم غانم:

أتيت علياً أبتغي الحق عنده***وعند علي عبرة لا أحاول

فشد وثاقي ثم قال لي اصطبر***كأني مخبول عراني خابل

فقلت لحاك اللّه واللّه لم أكن***لأكذب في قولي الذي أنا قائل

وخلى سبيلي بعد ضنك فأصبحت***مخلاة نفسي وسربي سابل

فأقبلت يا خير الأنام مؤمماً***لك اليوم عند العالمين أسائل

وقلت وخير القول ما كان صادقاً***ولا يستوي في الدين حق وباطل

ولا يستوي من كان بالحق عالماً***كآخر يمسي وهو للحق جاهل

فأنت الإمام الحق يعرف فضله***وإن قصرت عنه النهى والفضائل

فأنت الإمام الحق يعرف فضله***وإن قصرت عنه النهى والفضائل

وأنت وصي الأوصياء محمد***أبوك ومن نيطت إليه الوسائل(1)

أ فزعت؟

قال سعيد بن المسيب: كان الناس لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين. فخرج وخرجت معه، فنزل في بعض المنازل، فصلى ركعتين سبح في

ص: 60


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص136، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

سجوده، فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه، ففزعت منه. فرفع رأسه فقال: «يا سعيد، أ فزعت!». قلت: نعم يا ابن رسول اللّه. قال: «هذا التسبيح الأعظم»(1).

وفي رواية سعيد بن المسيب: كان القراء لا يحجون حتى يحج زين العابدين (عليه السلام) ، وكان يتخذ لهم السويق الحلو والحامض ويمنع نفسه. فسبق يوماً إلى الرحل، فألفيته وهو ساجد، فو الذي نفس سعيد بيده، لقد رأيت الشجر والمدر والرحل والراحلة يردون عليه مثل كلامه(2).

ادخل يا كنكر

عن أبي خالد كنكر الكابلي، أنه قال: لقيني يحيى ابن أم الطويل - رفع اللّه درجته - وهو ابن داية زين العابدين (عليه السلام) ، فأخذ بيدي وصرت معه إليه (عليه السلام) ، فرأيته جالساً في بيت مفروش بالمعصفر، مكلس الحيطان، عليه ثياب مصبغة، فلم أطل عليه الجلوس. فلما أن نهضت، قال لي: «صر إلي في غد إن شاء اللّه تعالى». فخرجت من عنده، وقلت ليحيى: أدخلتني على رجل يلبس المصبغات، وعزمت على أن لا أرجع إليه، ثم إني فكرت في أن رجوعي إليه غير ضائر، فصرت إليه في غد، فوجدت الباب مفتوحاً، ولم أر أحداً، فهممت بالرجوع، فناداني من داخل الدار، فظننت أنه يريد غيري، حتى صاح بي: «يا كنكر ادخل». وهذا اسم كانت أمي سمتني به، ولا علم أحد به غيري، فدخلت إليه، فوجدته جالساً في بيت مطين على حصير من البردي، وعليه قميص

ص: 61


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص136، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص37، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح23.

كرابيس، وعنده يحيى. فقال لي: «يا أبا خالد، إني قريب العهد بعروس. وإن الذي رأيت بالأمس من رأي المرأة، ولم أرد مخالفتها». ثم قام (عليه السلام) ، وأخذ بيدي وبيد يحيى ابن أم الطويل، ومضى بنا إلى بعض الغدران، وقال: «قفا». فوقفنا ننظر إليه، فقال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، ومشى على الماء حتى رأينا كعبه تلوح فوق الماء. فقلت: اللّه أكبر، اللّه أكبر، أنت الكلمة الكبرى، والحجة العظمى، صلوات اللّه عليك. ثم التفت إلينا (عليه السلام) ، وقال: «ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المدخل فينا من ليس منا، والمخرج منا من هو منا، والقائل أن لهما في الإسلام نصيباً، أعني هذين الصنفين»(1).

بل هو ياقوت أحمر

روي أن رجلاً مؤمناً - من أكابر بلاد بلخ - كان يحج البيت، ويزور النبي في أكثر الأعوام، وكان يأتي علي بن الحسين (عليه السلام) ويزوره، ويحمل إليه الهدايا والتحف، ويأخذ مصالح دينه منه، ثم يرجع إلى بلاده. فقالت له زوجته: أراك تهدي تحفاً كثيرةً ولا أراه يجازيك عنها بشيء. فقال: إن الرجل الذي نهدي إليه هدايانا هو ملك الدنيا والآخرة، وجميع ما في أيدي الناس تحت ملكه؛ لأنه خليفة اللّه في أرضه، وحجته على عباده، وهو ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وإمامنا.

فلما سمعت ذلك منه أمسكت عن ملامته، ثم إن الرجل تهيأ للحج مرةً أخرى في السنة القابلة، وقصد دار علي بن الحسين (عليه السلام) ، فاستأذن عليه فأذن له.

ص: 62


1- بحار الأنوار: ج46 ص102- 103، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح92.

فدخل فسلم عليه وقبل يديه، ووجد بين يديه طعاماً، فقربه إليه وأمره بالأكل معه، فأكل الرجل، ثم دعا بطست وإبريق فيه ماء، فقام الرجل وأخذ الإبريق وصب الماء على يدي الإمام (عليه السلام) . فقال (عليه السلام) : «يا شيخ، أنت ضيفنا فكيف تصب على يدي الماء!». فقال: إني أحب ذلك. فقال الإمام (عليه السلام) : «لما أحببت ذلك، فو اللّه لأرينك ما تحب وترضى، وتقر به عيناك». فصب الرجل على يديه الماء حتى امتلأ ثلث الطست. فقال الإمام (عليه السلام) للرجل: «ما هذا؟». فقال: ماء. قال الإمام (عليه السلام) : «بل هو ياقوت أحمر».

فنظر الرجل، فإذا هو قد صار ياقوتاً أحمر بإذن اللّه تعالى.

ثم قال (عليه السلام) : «يا رجل، صب الماء». فصب حتى امتلأ ثلثا الطست. فقال (عليه السلام) : «ما هذا؟». قال: هذا ماء. قال (عليه السلام) : «بل هذا زمرد أخضر».

فنظر الرجل، فإذا هو زمرد أخضر.

ثم قال (عليه السلام) : «صب الماء». فصبه على يديه حتى امتلأ الطست، فقال: «ما هذا؟». فقال: هذا ماء. قال (عليه السلام) : «بل هذا در أبيض».

فنظر الرجل إليه، فإذا هو در أبيض.

فامتلأ الطست من ثلاثة ألوان: در، وياقوت، وزمرد. فتعجب الرجل، وانكب على يديه (عليه السلام) يقبلهما. فقال (عليه السلام) : «يا شيخ، لم يكن عندنا شيء نكافيك على هداياك إلينا، فخذ هذه الجواهر عوضاً عن هديتك، واعتذر لنا عند زوجتك؛ لأنها عتبت علينا».

فأطرق الرجل رأسه، وقال: يا سيدي، من أنبأك بكلام زوجتي! فلا أشك أنك من أهل بيت النبوة. ثم إن الرجل ودع الإمام (عليه السلام) ، وأخذ الجواهر وسار بها إلى زوجته، وحدثها بالقصة، فسجدت لله شكراً، وأقسمت على بعلها باللّه

ص: 63

العظيم أن يحملها معه إليه (عليه السلام) ، فلما تجهز بعلها للحج في السنة القابلة أخذها معه، فمرضت في الطريق، وماتت قريباً من المدينة، فأتى الرجل الإمام (عليه السلام) باكياً، وأخبره بموتها. فقام الإمام (عليه السلام) وصلى ركعتين، ودعا اللّه سبحانه بدعوات، ثم التفت إلى الرجل، وقال له: «ارجع إلى زوجتك؛ فإن اللّه عز وجل قد أحياها بقدرته وحكمته، وهو يحي العظام وهي رميم».

فقام الرجل مسرعاً، فلما دخل خيمته، وجد زوجته جالسةً على حال صحتها. فقال لها: كيف أحياك اللّه؟!. قالت: واللّه، لقد جاءني ملك الموت وقبض روحي، وهم أن يصعد بها، فإذا أنا برجل صفته كذا وكذا - وجعلت تعد أوصافه (عليه السلام) - وبعلها يقول: نعم صدقتِ، هذه صفة سيدي ومولاي علي بن الحسين (عليه السلام) . قالت: فلما رآه ملك الموت مقبلاً، انكب على قدميه يقبلهما ويقول: السلام عليك يا حجة اللّه في أرضه، السلام عليك يا زين العابدين. فرد (عليه السلام) وقال له: «يا ملك الموت، أعد روح هذه المرأة إلى جسدها؛ فإنها كانت قاصدةً إلينا، وإني قد سألت ربي أن يبقيها ثلاثين سنةً أخرى، ويحييها حياةً طيبةً؛ لقدومها إلينا زائرةً لنا». فقال الملك: سمعاً وطاعةً لك يا ولي اللّه. ثم أعاد روحي إلى جسدي، وأنا أنظر إلى ملك الموت قد قبل يده (عليه السلام) ، وخرج عني. فأخذ الرجل بيد زوجته وأدخلها إليه (عليه السلام) ، وهو ما بين أصحابه، فانكبت على ركبتيه تقبلهما، وهي تقول: هذا واللّه سيدي ومولاي، وهذا هو الذي أحياني اللّه ببركة دعائه - قال - فلم تزل المرأة مع بعلها مجاورين عند الإمام (عليه السلام) بقية أعمارهما إلى أن ماتا (رحمة اللّه عليهما)(1).

ص: 64


1- بحار الأنوار: ج46 ص47-49، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح49.

الخضر يناجيه

روى أبو حمزة الثمالي، قال: خرجت مع علي بن الحسين (عليه السلام) إلى ظاهر المدينة، فلما وصل إلى حائط. قال: «إني انتهيت يوماً إلى هذا الحائط فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في وجهي، ثم قال لي: ما أزال أراك حزيناً، أ على الدنيا! فهو رزق حاضر يأكل منه البر والفاجر. قلت: ما على الدنيا حزني، وإن القول لكما تقول.

قال: أ فعلى الآخرة! فهي وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر، فعلام حزنك؟. قلت: الحزن من ابن الزبير. فتبسم فقال: هل رأيت أحداً توكل على اللّه فلم يكفه؟. قلت: لا. قال: فهل رأيت أحداً سأل اللّه فلم يعطه؟. قلت: لا. قال: فهل رأيت أحداً خاف اللّه فلم ينجه؟. قلت: لا. قال (عليه السلام) : فإذاً ليس قدامي أحد»(1).

وفي رواية لما غاب عنه، فقيل له: يا علي بن الحسين، هذا الخضر (عليه السلام) ناجاك(2).

ص: 65


1- بحار الأنوار: ج46 ص145، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب9 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح1.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص87، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وثبتت له الإمامة من وجوه.

5

مع ابن الحنفية

كان محمد بن الحنفية ابن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الموالين للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، وكان يعتقد بإمامة علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ولكن بما أن بعض الناس تصوروا أن الإمام بعد الحسين سيد الشهداء (عليه السلام) هو محمد بن الحنفية؛ باعتبار كونه ابن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) . أراد ابن الحنفية رد هذه الشبهة، فجاء إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وقال: أنا أولى بالإمامة، فإني أخ الحسن والحسين (عليهما السلام) ، فترافعا إلى الحجر الأسود.

وبذلك ظهر للجميع إمامة علي بن الحسين (عليه السلام) دون محمد بن الحنفية، وقد أذعن بذلك ابن الحنفية، وأظهر توليه لابن أخيه السجاد (عليه السلام) .

روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال: «لما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) ، أرسل محمد ابن الحنفية إلى علي بن الحسين (عليه السلام) وخلا به، ثم قال: يا ابن أخي، قد علمت أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان جعل الوصية والإمامة من بعده لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم إلى الحسن، ثم إلى الحسين، وقد قتل أبوك (رضي اللّه عنه وصلى اللّه عليه) ولم يوصِ، وأنا عمك وصنو أبيك، وأنا في سني وقدمتي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني الوصية والإمامة، ولا تخالفني. فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : يا عم، اتق اللّه ولا تدع ما ليس لك بحق، إني أعظك أن تكون

ص: 66

من الجاهلين. يا عم، إن أبي (صلوات اللّه عليه) أوصى إليَّ قبل أن يتوجه إلى العراق، وعهد إليَّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عندي، فلا تعرض لهذا؛ فإني أخاف عليك نقص العمر، وتشتت الحال. وإن اللّه تبارك وتعالى آلى أن لا يجعل الوصية والإمامة إلا في عقب الحسين (عليه السلام) ، فإن أردت أن تعلم، فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحاكم إليه، ونسأله عن ذلك - قال الباقر (عليه السلام) - وكان الكلام بينهما وهما يومئذٍ بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) لمحمد: ابدأ فابتهل إلى اللّه، واسأله أن ينطق لك الحجر، ثم اسأله. فابتهل محمد في الدعاء، وسأل اللّه، ثم دعا الحجر فلم يجبه. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : أما إنك يا عم لو كنت وصياً وإماماً لأجابك. فقال له محمد: فادع أنت يا ابن أخي واسأله. فدعا اللّه علي بن الحسين (عليه السلام) بما أراد، ثم قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء، وميثاق الأوصياء، وميثاق الناس أجمعين، لما أخبرتنا بلسان عربي مبين: من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي؟. فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه اللّه بلسان عربي مبين فقال: اللّهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) . فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسين (عليه السلام) »(1).

قال المبرد في الكامل: قال أبو خالد الكابلي لمحمد ابن الحنفية: أ تخاطب ابن أخيك بما لا يخاطبك بمثله؟!. فقال: إنه حاكمني إلى الحجر الأسود، وزعم أنه ينطقه. فصرت معه إلى الحجر، فسمعت الحجر يقول: سلم الأمر إلى ابن

ص: 67


1- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص316، احتجاج علي بن الحسين (عليه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين.

أخيك؛ فإنه أحق به منك. فصار أبو خالد إمامياً(1).

وفي رواية: عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «لما قتل الحسين بن علي، جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين. فقال له: يا ابن أخي، أنا عمك وصنو أبيك، وأنا أسن منك، فأنا أحق بالإمامة والوصية، فادفع إليَّ سلاح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) . فقال علي بن الحسين: يا عم، اتقِ اللّه ولا تدع ما ليس لك؛ فإني أخاف عليك نقص العمر، وشتات الأمر. فقال له محمد بن الحنفية: أنا أحق بهذا الأمر منك. فقال له علي بن الحسين: يا عم، فهل لك إلى حاكم نحتكم إليه. فقال: من هو؟. قال: الحجر الأسود. قال: فتحاكما إليه، فلما وقفا عنده. قال له: يا عم، تكلم فأنت المطالب. قال: فتكلم محمد بن الحنفية فلم يجبه. قال: فتقدم علي بن الحسين، فوضع يده عليه وقال: اللّهم إني أسألك باسمك المكتوب في سرادق البهاء، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق العظمة، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق القوة، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق الجلال، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق السلطان، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق السرائر، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق المجد، وأسألك باسمك الفائق الخبير البصير، رب الملائكة الثمانية، ورب جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، ورب محمد خاتم النبيين؛ لما أنطقت هذا الحجر بلسان عربي فصيح، يخبر لمن الإمامة والوصية بعد الحسين بن علي - قال - ثم أقبل علي بن الحسين على الحجر، فقال: أسألك بالذي جعل فيك مواثيق العباد، والشهادة لمن وافاك، إلا أخبرت لمن الإمامة والوصية بعد الحسين بن علي. قال: فتزعزع الحجر حتى كاد أن يزول من

ص: 68


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص147، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) .

موضعه، وتكلم بلسان عربي مبين فصيح، يقول: يا محمد، سلم سلم. إن الإمامة والوصية بعد الحسين بن علي لعلي بن الحسين. قال أبو جعفر: فرجع محمد بن الحنفية وهو يقول: بأبي علي»(1).

ص: 69


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص110-111، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

6

الإمام يبني الكعبة

عن أبان بن تغلب، قال: لما هدم الحجاج الكعبة، فرق الناس ترابها. فلما صاروا إلى بنائها، فأرادوا أن يبنوها، خرجت عليهم حية، فمنعت الناس البناء حتى هربوا. فأتوا الحجاج، فخاف أن يكون قد منع بناءها، فصعد المنبر ثم نشد الناس، وقال: رحم اللّه عبداً عنده مما ابتلينا به علم لما أخبرنا به.

قال: فقام إليه شيخ، فقال: إن يكن عند أحد علم، فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة، فأخذ مقدارها ثم مضى. فقال الحجاج: من هو؟!.

فقال: علي بن الحسين (عليه السلام) .

فقال: معدن ذلك.

فبعث إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فأتاه، فأخبره بما كان من منع اللّه إياه البناء.

فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا حجاج، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته، كأنك ترى أنه تراث لك. اصعد المنبر وأنشد الناس، أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلا رده».

قال: ففعل وأنشد الناس أن لا يبقى منهم أحد عنده شيء إلا رده.

قال: فردوه، فلما رأى جمع التراب، أتى علي بن الحسين (صلوات اللّه عليه) فوضع الأساس، وأمرهم أن يحفروا. قال: فتغيبت عنهم الحية، فحفروا

ص: 70

حتى انتهوا إلى موضع القواعد. قال لهم علي بن الحسين (عليه السلام) : «تنحوا». فتنحوا، فدنا منها فغطاها بثوبه، ثم بكى، ثم غطاها بالتراب بيد نفسه، ثم دعا الفعلة. فقال: «ضعوا بناءكم».

قال: فوضعوا البناء، فلما ارتفعت حيطانها، أمر بالتراب فألقي في جوفه؛ فلذلك صار البيت مرتفعاً، يصعد إليه بالدرج(1).

ص: 71


1- الكافي: ج4 ص222، كتاب الحج، باب ورود تبع وأصحاب الفيل البيت وحفر عبد المطلب زمزم وهدم قريش الكعبة وبنائهم إياها وهدم الحجاج لها وبنائه إياها، ح8.

7

عبادات

كثرة العبادة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير العبادة والدعاء والمناجاة مع اللّه عزوجل:

يقول طاووس الفقيه اليماني: رأيته (عليه السلام) يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبد، فلما لم ير أحداً رمق السماء بطرفه، وقال: «إِلَهِي غَارَتْ نُجُومُ سَمَاوَاتِكَ، وَهَجَعَتْ عُيُونُ أَنَامِكَ، وَأَبْوَابُكَ مُفَتَّحَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، جِئْتُكَ لِتَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَتُرِيَنِي وَجْهَ جَدِّي مُحَمَّدٍ (صلی الله عليه وآله وسلم) فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ».

ثم بكى، وقال: «وَعِزَّتِكَ وَجَلاَلِكَ، مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ، وَمَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِكَ شَاكٌّ، وَلاَ بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ، وَلاَ لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَأَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سَتْرُكَ الْمُرْخَى بِهِ عَلَيَّ، فَالآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي، وَبِحَبْلِ مِنَ أَعْتَصِمُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي. فَوَا سَوْأَتَاهْ غَداً مِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْكَ إِذَا قِيلَ لِلْمُخِفِّينَ: جُوزُوا، وَلِلْمُثْقِلِينَ: حُطُّوا. أَ مَعَ الْمُخِفِّينَ أَجُوزُ، أَمْ مَعَ الْمُثْقِلِينَ أَحُطُّ، وَيْلِي كُلَّمَا طَالَ عُمُرِي كَثُرَتْ خَطَايَايَ وَلَمْ أَتُبْ، أَمَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي».

ثم بكى وأنشأ يقول:

أ تحرقني بالنار يا غاية المنى***فأين رجائي ثم أين محبتي

ص: 72

أتيت بأعمال قباح زرية***وما في الورى خلق جنى كجنايتي

ثم بكى، وقال: «سُبْحَانَكَ تُعْصَى كَأَنَّكَ لاَ تَرَى، وَتَحْلُمُ كَأَنَّكَ لَمْ تُعْصَ، تَتَوَدَّدُ إِلَى خَلْقِكَ بِحُسْنِ الصَّنِيعِ كَأَنَّ بِكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْتَ يَا سَيِّدِي الْغَنِيُّ عَنْهُمْ».

ثم خر إلى الأرض ساجداً. قال: فدنوت منه، وشلت برأسه ووضعته على ركبتي، وبكيت حتى جرت دموعي على خده، فاستوى جالساً وقال: «من الذي أشغلني عن ذكر ربي».

فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول اللّه، ما هذا الجزع والفزع! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) !.

قال: فالتفت إليَّ وقال: «هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق اللّه الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً. أ ما سمعت قوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ}(1). واللّهِ، لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدمها من عمل صالح»(2).

وروى الأصمعي، قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلةً، فإذا شاب ظريف الشمائل، وعليه ذؤابتان، وهو متعلق بأستار الكعبة، وهو يقول:

«نَامَتِ الْعُيُونُ، وَعَلَتِ النُّجُومُ، وَأَنْتَ الْمَلِكُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. غَلَّقَتِ الْمُلُوكُ

ص: 73


1- سورة المؤمنون: 101.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص151-152، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .

أَبْوَابَهَا، وَأَقَامَتْ عَلَيْهَا حُرَّاسَهَا، وَبَابُكَ مَفْتُوحٌ لِلسَّائِلِينَ؛ جِئْتُكَ لِتَنْظُرَ إِلَيَّ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ».

ثم أنشأ يقول:

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم***يا كاشف الضر والبلوى مع السقمِ

قد نام وفدك حول البيت قاطبةً***وأنت وحدك يا قيوم لم تنمِ

أدعوك رب دعاءً قد أمرت به***فارحم بكائي بحق البيت والحرمِ

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف***فمن يجود على العاصين بالنعمِ

قال: فاقتفيته فإذا هو زين العابدين (عليه السلام) (1).

كثرة السجود

قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) : «إن أبي علي بن الحسين (عليه السلام) ما ذكر لله عز وجل نعمةً عليه إلا سجد، ولا قرأ آيةً من كتاب اللّه عز وجل فيها سجود إلا سجد، ولا دفع اللّه عز وجل عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ سجد، ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلاّ سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده؛ فسمي السجاد لذلك»(2).

وعن الباقر (عليه السلام) ، قال: «كان لأبي (عليه السلام) في موضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتين، في كل مرة خمس ثفنات؛ فسمي ذا الثفنات لذلك»(3).

ص: 74


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص150-151، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص6، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح10.
3- علل الشرائع: ج1 ص233، الباب167، ح1.

والثفنة: واحدة ثفنات البعير، وهو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين.

حتى كاد أن يموت

كان زين العابدين (عليه السلام) إذا قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(1)، يكررها حتى كاد أن يموت(2).

صلاة وعبودية

عن محمد بن الحسين الخزاز، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يلبس الصوف وأغلظ ثيابه إذا قام إلى الصلاة، وكان (عليه السلام) إذا صلى يبرز إلى موضع خشن فيصلي فيه، ويسجد على الأرض. فأتى الجبان - وهو جبل بالمدينة - يوماً، ثم قام على حجارة خشنة محرقة، فأقبل يصلي، وكان كثير البكاء، فرفع رأسه من السجود، وكأنما غمس في الماء من كثرة دموعه»(3).

هكذا يتوضأ

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، وكان يستقي الماء لطهوره، ويخمره قبل أن ينام. فإذا قام من الليل بدأ بالسواك، ثم توضأ، ثم يأخذ في صلاته(4).

ص: 75


1- سورة الفاتحة:4.
2- الكافي: ج2 ص602، كتاب فضل القرآن، ح13.
3- بحار الأنوار: ج46 ص108، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح104.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص75، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.

العبادة وإضرار الجسم

عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم، وليله قائم، فأضر ذلك بجسمه. فقلت له: يا أبتِ كم هذا الدءوب؟!. فقال له: أتحبب إلى ربي لعله يزلفني»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وقد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، وقد اصفر لونه من السره، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة. فبكيت حين رأيته بتلك الحال، فالتفت إليَّ وقال: يا بني، أعطني بعض الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب. فأعطيته، فقرأ فيها يسيراً ثم تركها، وقال: من يقوى على عبادة أمير المؤمنين (عليه السلام) »(2).

وعن عبد اللّه بن علي بن الحسين، قال: كان أبي يصلي بالليل حتى يزحف إلى فراشه(3).

وذلك لشدة الإعياء من العبادة بحيث يصعب عليه القيام.

كثرة الصلاة

روي أنه كانت للإمام زين العابدين (عليه السلام) : خمسمائة نخلة، فكان يصلي عند

ص: 76


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص155، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص890-891، ب17، باب في معجزات محمد وأوصيائه (عليهم السلام) من جهة الأخلاق، فصل في معجزات الإمام السجاد (عليه السلام) أخلاقياً.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص92، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كان أعضاؤه ترتعد من خشية اللّه، وكان يصلي صلاة مودع، يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً(1).

المعرفة باللّه والخوف منه

عن عبد اللّه بن محمد القرشي، قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا توضأ اصفر لونه. فيقول له أهله: ما هذا الذي يغشاك؟!. فيقول: «أ تدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه»(2).

قضاء النوافل

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) ملتزماً بالنوافل اليومية وغيرها، فإذا فاتته لأمر أهم، كان يقضي ما فاته من صلاة نافلة النهار في الليل، ويقول: «يا بني، ليس هذا عليكم بواجب، ولكن أحب لمن عوَّد منكم نفسه عادةً من الخير أن يدوم عليها»(3).

كنت أناجي رباً عظيماً

سقط للإمام زين العابدين (عليه السلام) ابن في بئر، فتفزع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وكان (عليه السلام) قائماً يصلي، فما زال عن محرابه، فقيل له في ذلك؟. فقال:

ص: 77


1- الخصال: ج2 ص517، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص142-143 باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، فصل في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص75، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.

«ما شعرت. إني كنت أناجي رباً عظيماً»(1).

ألف ركعة

عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، كما كان يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كانت له خمسمائة نخلة، فكان يصلي عند كل نخلة ركعتين»(2).

وعن عبد العزيز بن أبي حازم، قال: سمعت أبا حازم يقول: ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام) ، وكان (عليه السلام) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، حتى خرج بجبهته وآثار سجوده مثل كركرة البعير(3).

والكركرة - بالكسر -: زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض، وهي ناتئة عن جسمه كالقرصة.

صوم وتهجد

عن ابن البطائني، عن أبيه، قال: سألت مولاةً لعلي بن الحسين (عليه السلام) بعد موته. فقلت: صفي لي أمور علي بن الحسين (عليه السلام) ؟. فقالت: أطنب أو أختصر. فقلت: بل اختصري. قالت: ما أتيته بطعام نهاراً قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط(4).

ص: 78


1- بحار الأنوار: ج46 ص100، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح88.
2- الخصال: ج2 ص517، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
3- علل الشرائع: ج1 ص232، الباب165، ح10.
4- وسائل الشيعة: ج1 ص89، أبواب مقدمة العبادات، الباب20 تأكد استحباب الجد والاجتهاد في العبادة، ح210.

الانقطاع إلى اللّه

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه، وأصابته رعدة، وحال أمره، فربما سأله عن حاله من لا يعرف أمره في ذلك فيقول: «إني أريد الوقوف بين يدي ملك عظيم»(1).

وكان إذا وقف في الصلاة لم يشتغل بغيرها، ولم يسمع شيئاً؛ لشغله بالصلاة. حتى أنه سقط بعض ولده بعض الليالي فانكسرت يده، فصاح أهل الدار، وأتاهم الجيران، وجيء بالمجبر، فجبر الصبي وهو يصيح من الألم، وكل ذلك لا يسمعه. فلما أصبح رأى الصبي يده مربوطةً إلى عنقه، فقال: «ما هذا؟». فأخبروه(2).

وروي أنه وقع حريق في بيت هو فيه ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول اللّه، النار النار! فما رفع رأسه حتى أطفئت. فقيل له بعد قعوده: ما الذي ألهاك عنها؟!. قال: «ألهتني عنها النار الكبرى»(3).

ولقد صلى ذات يوم، فسقط الرداء عن أحد منكبيه، فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته. فسأله بعض أصحابه عن ذلك؟!. فقال (عليه السلام) : «ويحك، أ تدري بين يدي من كنتُ! إن العبد لا تقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه».

ص: 79


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص150، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص150، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص150، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .

فقال الرجل: هلكنا(1).

خشوع الصلاة

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان أبي (عليه السلام) يقول: كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة، لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه»(2).

العبادة حتى خوف الهلاك

روي أن فاطمة بنت علي بن أبي طالب لما رأت ما يفعله ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام) - أي من كثرة العبادة والبكاء - قالت لجابر: هذا علي بن الحسين (عليه السلام) بقية أبيه، انخرم أنفه، وثفنت جبهتاه وركبتاه، فعليك أن تأتيه وتدعوه إلى البقيا على نفسه.

فجاء جابر بابه، وإذا ابنه محمد (عليه السلام) أقبل، قال له: أنت واللّه الباقر، وأنا أقرئك سلام رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) . فقال (عليه السلام) له: «إنك تبقى حتى تعمى، ثم يكشف عن بصرك»(3).

عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) : «أن فاطمة بنت علي بن أبي طالب لما نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد اللّه بن عمرو بن حرام الأنصاري. فقالت له: يا صاحب رسول اللّه، إن لنا عليكم حقوقاً، من حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه

ص: 80


1- الخصال: ج2 ص517، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
2- الكافي: ج3 ص300، كتاب الصلاة، باب الخشوع في الصلاة وكراهية العبث، ح4.
3- الخرائج والجرائح: ج1 ص270-271، الباب5، ح14.

اجتهاداً أن تذكروه اللّه، وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين، قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، إدءاباً منه لنفسه في العبادة.

فأتى جابر بن عبد اللّه باب علي بن الحسين (عليه السلام) ، وبالباب أبو جعفر محمد ابن علي (عليه السلام) في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك، فنظر جابر إليه مقبلاً. فقال: هذه مشية رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسجيته، فمن أنت يا غلام؟.

قال: فقال: أنا محمد بن علي بن الحسين. فبكى جابر (رضوان اللّه عليه) ثم قال: أنت واللّه الباقر عن العلم حقاً، ادن مني بأبي أنت. فدنا منه، فحل جابر أزراره، ووضع يده على صدره فقبله، وجعل عليه خده ووجهه، وقال له: أقرئك عن جدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) السلام، وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت. وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) لي: يوشك أن تعيش وتبقى، حتى تلقى من ولدي من اسمه محمد، يبقر العلم بقراً. وقال لي: إنك تبقى حتى تعمى، ثم يكشف لك عن بصرك. ثم قال لي: ائذن لي على أبيك.

فدخل أبو جعفر على أبيه فأخبره الخبر، وقال: إن شيخاً بالباب، وقد فعل بي كيت وكيت. فقال: يا بني، ذلك جابر بن عبد اللّه - ثم قال - أ من بين ولدان أهلك قال لك ما قال، وفعل بك ما فعل؟!. قال: نعم.

قال: إنا لله، إنه لم يقصدك فيه بسوء، ولقد أشاط بدمك. ثم أذن لجابر، فدخل عليه فوجده في محرابه، قد أنضته العبادة. فنهض علي (عليه السلام) ، فسأله عن حاله سؤالاً حفياً، ثم أجلسه بجنبه. فأقبل جابر عليه يقول: يا ابن رسول اللّه، أ ما علمت أن اللّه تعالى إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك!. قال له علي بن الحسين (عليه السلام) : يا

ص: 81

صاحب رسول اللّه، أ ما علمت جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد، وتعبد بأبي هو وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أ تفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. قال: أ فلا أكون عبداً شكوراً.

فلما نظر جابر إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، وليس يغني فيه قول من يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا ابن رسول اللّه، البقيا على نفسك؛ فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء ويستكشف اللأواء، وبهم تستمطر السماء.

فقال له: يا جابر، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسياً بهما (صلوات اللّه عليهما) حتى ألقاهما.

فأقبل جابر على من حضر، فقال لهم: واللّهِ ما أرى في أولاد الأنبياء بمثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب (عليه السلام) . واللّهِ لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب، إن منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً»(1).

أوجه العبادة

ثم إن أوجه العبادة عند الإنسان عديدة، منها:

1: الخوف من النار ومن عقوبة الآخرة.

2: الشوق إلى الجنة والدرجات العالية.

3: أهلية الباري عز وجل للعبادة؛ لأنه المنعم على الإطلاق، فيعبده لكسب رضاه عز وجل.

4: أداء واجب الاحترام لمن يستحقه، وهكذا في الأمور العادية حيث يُحترم

ص: 82


1- الأمالي للطوسي: ص636-637، المجلس31، ح1314 / 16.

مثل ابن سينا لعلمه، وإن لم يلتف من يُحترم ذلك، أما الباري عز وجل فهو عالم بكل شيء.

5: تكميل العابد نفسه في روحه أو جسمه وليس تكميلاً للمعبود.

6: السير على نهج الحياة، فمن يسقي الحديقة لإرواء شجرها وإن لم تكن الحديقة له، فإنه نوع من السير على السنة الكونية في الحياة، وهكذا العبادة فإن كل شيء في الكون يعبد اللّه عز وجل، فإذا عبد الإنسان ربه سار على النهج الصحيح في التكوين مضافاً إلى الطاعة في التشريع.

وعبادة اللّه عز وجل تشتمل على جميع تلك الفوائد: فهي بعد عن النار، وقرب إلى الجنان، وتوجب رضا الملك المنان، والباري هو مستحق للعبادة أولاً وبالذات، والعبادة نوع احترام للمعبود، وتوجب تكميل نفس العابد في روحه وجسمه، وهي سير على السنة التكوينية في الحياة، كمن يساير الناس للسير إلى الهدف الأسمى، من هنا فإن عقلاء العالم يعبدون اللّه عز وجل، بل حتى من لا يعتقد باللّه فإنه يعبد رباً اختاره وإن لم يصرح به.

سرعة الحركة في المعنويات

ثم إن هناك أمراً آخر ينبغي بيانه، وهو أنه كما في الماديات من سرعة الحركة، كحركة السيارات والطيارات والفضائيات وغيرها، وكما قال بعض العلماء: بأن النواة داخل الذرة تدور باستمرار وبسرعة فائقة، فالإلكترونات تدور حول كل من النواة وحول محاورها. والكواركات داخل النواة تدور إلى ما لا نهاية في نفس الاتجاه، كل يدور بسرعة معينة، ومن دون أخطاء أبداً، ولا تحدث خللاً للنظام المخصص لها. وأن الإلكترون يدور حول محوره وحول النواة في سرعة غير عادية تتراوح من (2000 إلى100,000) كيلومتر في الثانية الواحدة، على ما قالوا.

ص: 83

وهكذا حركة الدم في جسم الإنسان فلها سرعة معينة، إلى غير ذلك مما هو بإذن اللّه تعالى.

كذلك يمكن السرعة في المعنويات وما يرتبط بها.

إذن من الممكن تحقق السرعة في اللسان وغيره من الجوارح، وربما كان من مصاديق تلك السرعة سرعة السير في قصة معراج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (1).

وهكذا سرعة العمل في زمان قصير، كصلاة ألف ركعة في ليلة واحدة كما ورد بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) (2) أو صلاة ألف ركعة في يوم وليلة، كما ورد في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) (3).

وهكذا ورد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يختم القرآن في زمان لا يتجاوز ركوبه وجعل قدميه في المركب.

فلسفة كثرة الدعاء والمناجاة

ولا يخفى أن هذه الأدعية بكثرتها، وهذه الشدة من التضرع إلى اللّه، وكثرة البكاء من خوفه، حيث كانت سيرة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام) وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على ذلك، كانت لسببين:

أولاً: لتعليم الآخرين كيفية العبادة والدعاء والمناجاة والتضرع إلى اللّه عز وجل، وأنه لابد للإنسان أن يكون عبداً ذليلاً أمام ربه تعالى.

ص: 84


1- قصص الأنبياء (عليهم السلام) للراوندي: ص325 ب20 ف6 قصة المعراج.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج2 ص123، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام) ، في المسابقة بصالح الأعمال.
3- الخصال: ج2 ص517، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.

ثانياً: هذه هي قمة العبودية ومقتضاها، فإن المعصوم (عليه السلام) هو أعبد الناس، وأكثرهم عبودية لله، ومهما تعالى الإنسان فهو أمام ربه عز وجل ضعيف صغير.

ولازم العبودية النقص أمام الكامل المطلق هو اللّه عز وجل، ومقتضاه أن يستغفر الإنسان ربه ويتضرع إليه ليجبر معنوياً ما كان نقصاً تكوينياً لكل مخلوق أمام خالقه.

وللتوضيح بالمثال نقول:

إذا قدم على شخص ضيف عظيم وكان لا يملك ما يناسبه فهو وإن كان يقدم له كل ما عنده، لكن مع ذلك يحس بالتقصير والقصور أمامه فيعتذر منه ليتدارك بالعذر والتواضع ما فاته قصوراً.

التهجد وصلاة الليل

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، وكان يستقي الماء لطهوره ويغطيه قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك، ثم توضأ، ثم يأخذ في صلاته(1).

وكان (عليه السلام) لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر(2).

وكان (عليه السلام) يقضي ما فاته من صلاة نافلة النهار بالليل(3).

ص: 85


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص75، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص76، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص75، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.

نافلة الليل

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) استقبله مولًى له في ليلة باردة، وعليه جبة خز، ومطرف خز، وعمامة خز، وهو متغلف بالغالية. فقال له: جعلت فداك، في مثل هذه الساعة، على هذه الهيئة، إلى أين؟!. قال: فقال: إلى مسجد جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أخطب الحور العين إلى اللّه عز وجل»(1).

عادة الخير

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول لبنيه: «يا بني، ليس هذا عليكم بواجب، ولكن أحب لمن عوَّد منكم نفسه عادة من الخير أن يدوم عليها»(2).

سيد الساجدين

كان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) كثير الصلاة والصيام والحج والتهجد، حتى لقب بسيد الساجدين وبزين العابدين.

روي أن إبليس تصور لعلي بن الحسين (عليه السلام) - وهو قائم يصلي - في صورة أفعى، له عشرة رءوس محددة الأنياب، متقلبة الأعين بحمرة، فطلع عليه من جوف الأرض من موضع سجوده، ثم تطاول في محرابه، فلم يفزعه ذلك، ولم يكسر طرفه إليه. فانقض على رءوس أصابعه يكدمها بأنيابه، وينفخ عليها من نار جوفه، وهو لا يكسر طرفه إليه، ولا يحول قدميه عن مقامه، ولا يختلجه

ص: 86


1- الكافي: ج6 ص517، كتاب الزي والتجمل والمروءة، الباب الغالية، ح5.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص75، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.

شك، ولا وهم في صلاته ولا قراءته. فلم يلبث إبليس حتى انقض إليه شهاب محرق من السماء، فلما أحس به صرخ، وقام إلى جانب علي بن الحسين في صورته الأولى، ثم قال: يا علي، أنت سيد العابدين كما سميت، وأنا إبليس. واللّهِ لقد رأيت عبادة النبيين من عند أبيك آدم إليك، فما رأيت مثلك ولا مثل عبادتك. ثم تركه وولى، وهو في صلاته لا يشغله كلامه، حتى قضى صلاته على تمامها(1).

كثرة الصيام

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يصل ما بين شعبان ورمضان، ويقول: صوم شهرين متتابعين توبة من اللّه»(2).

زادي تقواي وراحلتي رجلاي

قال عبد اللّه بن مبارك: حججت بعض السنين إلى مكة، فبينما أنا سائر في عرض الحاج، وإذا صبي سباعي أو ثماني، وهو يسير في ناحية من الحاج بلا زاد ولا راحلة. فتقدمت إليه وسلمت عليه، وقلت له: مع من قطعت البر؟.

قال: مع البار.

فكبر في عيني، فقلت: يا ولدي، أين زادك وراحلتك؟.

فقال: زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي.

فعظم في نفسي، فقلت: يا ولدي، ممن تكون؟.

ص: 87


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص134، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) .
2- الكافي: ج4 ص92، كتاب الصيام، باب فضل صوم شعبان وصلته برمضان وصيام ثلاثة أيام في كل شهر، ح3.

فقال: مُطلّبي.

فقلت: أبن لي؟.

فقال: هاشمي.

فقلت: أبن لي؟.

فقال: علوي فاطمي.

فقلت: يا سيدي، هل قلت شيئاً من الشعر؟.

فقال: نعم.

فقلت: أنشدني شيئاً من شعرك؟.

فأنشد:

لنحن على الحوض رواده***نذود ونسقي وراده

وما فاز من فاز إلاّ بنا***وما خاب من حبنا زاده

ومن سرنا نال منا السرور***ومن ساءنا ساء ميلاده

ومن كان غاصبنا حقنا***فيوم القيامة ميعاده

ثم غاب عن عيني إلى أن أتيت مكة، فقضيت حجتي ورجعت، فأتيت الأبطح، فإذا بحلقة مستديرة، فاطلعت لأنظر من بها، فإذا هو صاحبي، فسألت عنه؟. فقيل: هذا زين العابدين (عليه السلام) (1).

إذا جن الليل

قال حماد بن حبيب الكوفي العطار: انقطعت عن القافلة عند زبالة، فلما أن أجنني الليل أويت إلى شجرة عالية، فلما اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل،

ص: 88


1- بحار الأنوار: ج46 ص91، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح78.

عليه أطمار بيض، يفوح منه رائحة المسك، فأخفيت نفسي ما استطعت، فتهيأ للصلاة، ثم وثب قائماً، وهو يقول:

«يَا مَنْ أَحَارَ كُلَّ شَيْءٍ مَلَكُوتاً، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ جَبَرُوتاً، أَوْلِجْ قَلْبِي فَرَحَ الإِقْبَالِ عَلَيْكَ، وَأَلْحِقْنِي بِمَيْدَانِ الْمُطِيعِينَ لَكَ».

ثم دخل في الصلاة، فلما رأيته وقد هدأت أعضاؤه، وسكنت حركاته، قمت إلى الموضع الذي تهيأ فيه إلى الصلاة، فإذا أنا بعين تنبع، فتهيأت للصلاة، ثم قمت خلفه، فإذا بمحراب كأنه مثل في ذلك الوقت، فرأيته كلما مر بالآية التي فيها الوعد والوعيد، يرددها بانتحاب وحنين، فلما أن تقشع الظلام وثب قائماً، وهو يقول:

«يَا مَنْ قَصَدَهُ الضَّالُّونَ فَأَصَابُوهُ مُرْشِداً، وَأَمَّهُ الْخَائِفُونَ فَوَجَدُوهُ مَعْقِلاً، وَلَجَأَ إِلَيْهِ الْعَابِدُونَ فَوَجَدُوهُ مَوْئِلاً، مَتَى رَاحَةُ مَنْ نَصَبَ لِغَيْرِكَ بَدَنَهُ، وَمَتَى فَرَحُ مَنْ قَصَدَ سِوَاكَ بِنِيَّتِهِ. إِلَهِي قَدْ تَقَشَّعَ الظَّلاَمُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ خِدْمَتِكَ وَطَراً، وَلاَ مِنْ حِيَاضِ مُنَاجَاتِكَ صَدْراً، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَافْعَلْ بِي أَوْلَى الأَمْرَيْنِ بِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ».

فخفت أن يفوتني شخصه، وأن يخفى عليَّ أمره، فتعلقت به فقلت: بالذي أسقط عنك هلاك التعب، ومنحك شدة لذيذ الرهب، إلا ما ألحقتني منك جناح رحمة، وكنف رقة؛ فإني ضال؟.

فقال: «لو صدق توكلك ما كنت ضالاً، ولكن اتبعني واقف أثري». فلما أن صار تحت الشجرة، أخذ بيدي، وتخيل لي أن الأرض يمتد من تحت قدمي، فلما انفجر عمود الصبح، قال لي: «أبشر فهذه مكة». فسمعت الضجة، ورأيت الحجة، فقلت له: بالذي ترجوه يوم الآزفة يوم الفاقة، من أنت؟.

ص: 89

فقال: «إذا أقسمت، فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب»(1).

أغير اللّه تسألون؟

روي أنه نظر الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس. فقال: «ويحكم أ غير اللّه تسألون في مثل هذا اليوم؛ إنه ليرجى في هذا اليوم لما في بطون الحبالى أن يكون سعيداً»(2).

أعوذ من غضب اللّه

قال رجل للإمام زين العابدين (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه، إني لأحبك في اللّه حباً شديداً. فقال: «اللّهم إني أعوذ بك أن أُحَبَّ لك وأنت لي مبغض»(3).

الرضا بالقضاء الإلهي

مات ابن للإمام زين العابدين (عليه السلام) ، فلم ير منه جزع. فسئل عن ذلك؟. فقال: «أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره»(4).

ص: 90


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص142، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في معجزاته (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص62، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح19.
3- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص108، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

8

الحج إلى بيت اللّه

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير الحج إلى بيت اللّه عز وجل. وكان يمشي في بعض أسفاره من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، وفي بعضها يركب.

روي أنه حج علي بن الحسين (عليه السلام) ماشياً، فسار عشرين يوماً من المدينة إلى مكة(1).

أطيب الزاد

قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا سافر إلى مكة للحج والعمرة، تزود من أطيب الزاد من اللوز، والسكر، والسويق المحمض والمحلى»(2).

تفريق الدراهم

وروي أنه أراد علي بن الحسين (عليه السلام) الحج، فأنفذت إليه أخته سكينة بنت الحسين (عليه السلام) ألف درهم، فلحقوه بها بظهر الحرة، فلما نزل فرقها على المساكين(3).

ص: 91


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص144، باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، فصل في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- الكافي: ج8 ص303، كتاب الروضة، حديث أبي ذر (رضوان اللّه عليه)، ح468.
3- بحار الأنوار: ج46 ص144، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب7 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح5.

التعبئة للحج

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يشتري السودان وما به إليهم من حاجة، يأتي بهم عرفات، فيسد بهم تلك الفرج والخلال. فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال(1).

ص: 92


1- وسائل الشيعة: ج10 ص318، كتاب الصيام، الباب18 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13502.

9

الصحيفة السجادية

اشارة

الدعاء في الإسلام مخ العبادة، وهو أفضل سلاح المؤمن.

والإنسان يتكون من روح وجسد، ولكل منهما متطلبات، وقد عالجها الدين الإسلامي بالتوازن، فلا تطغى معالجاته لمتطلبات الروح على متطلبات الجسد، ولا متطلبات الجسد على متطلبات الروح، بل أعطى كل شيء حقه مما يستحقه.

فكان دين الإسلام خير دين للإنسانية أجمع، عالج مشاكلها بتشريعاته الحكيمة، ونظم أحكامه العادلة في مختلف المجالات الفردية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، وخطط لذلك كله وظائف روحية وجسمية في تناسق وانسجام مع مسيرة الزمان.

وقد وردت آيات عديدة في القرآن الكريم، وروايات شريفة عن أهل البيت (عليهم السلام) في أهمية الدعاء وآدابه وفضله، منها:

عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر: 60. قال (عليه السلام) : «هُوَ الدُّعَاءُ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الدُّعَاءُ».

قلت: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} سورة التوبة: 114.

ص: 93

قال (عليه السلام) : «الأَوَّاهُ هُوَ الدَّعَّاءُ»(1).

أي كثير الدعاء.

وعن حنان بن سدير، عن أبيه، قال: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) : أَيُّ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ؟.

فقال (عليه السلام) : «مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْضَلَ عِنْد اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُسْئَلَ، وَيُطْلَبَ مِمَّا عِنْدَهُ، وَمَا أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَسْأَلُ مَا عِنْدَهُ»(2).

وعن مُيَسِّر بن عبد العزيز، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قَالَ لِي: «يَا مُيَسِّرُ، ادْعُ وَلاَ تَقُلْ إِنَّ الأَمْرَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. إِنَّ عِنْدَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْزِلَةً لاَ تُنَالُ إِلاَّ بِمَسْأَلَةٍ، وَلَوْ أَنَّ عَبْداً سَدَّ فَاهُ وَلَمْ يَسْأَلْ لَمْ يُعْطَ شَيْئاً، فَسَلْ تُعْطَ. يَا مُيَسِّرُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابٍ يُقْرَعُ إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِهِ»(3).

وعن سيف التمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ! فَإِنَّكُمْ لا تَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ، وَلاَ تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَدْعُوا بِهَا. إِنَّ صَاحِبَ الصِّغَارِ هُوَ صَاحِبُ الْكِبَارِ»(4).

وعن ابن القدَّاح، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ الدُّعَاءُ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْعَفَافُ - قَالَ - وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلاً دَعَّاءً»(5).

ص: 94


1- الكافي: ج2 ص466، كتاب الدعاء، فضل الدعاء والحث عليه، ح1.
2- الكافي: ج2 ص466، كتاب الدعاء، فضل الدعاء والحث عليه، ح2.
3- الكافي: ج2 ص466-467، كتاب الدعاء، فضل الدعاء والحث عليه، ح3.
4- الكافي: ج2 ص467، كتاب الدعاء، فضل الدعاء والحث عليه، ح6.
5- الكافي: ج2 ص467-468، كتاب الدعاء، فضل الدعاء والحث عليه، ح8.

أدعية أهل البيت

لقد جاد أهل البيت (عليهم السلام) على الأُمة الإسلامية بتراث رباني عظيم يتمثل في الأدعية السامية، ببلاغة فريدة، ومعان دقيقة عميقة، وبأسلوب فني رائع، يحمل في طياته الأهداف التربوية، والعقائدية، وحتى السياسية الهادفة، والتي تصوِّر صلة الإنسان بربه، ووجده بخالقه، وتعلقه بمبدئه ومعاده، وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية، وحقوق وواجبات تجاه غيره.

كما أن هذه الأدعية تعتبر ثروة ضخمة لا مثيل لها، ففيها من الكنوز الثمينة والتي لا تقدر بثمن، فهي خير منهج للمسلمين إذا تدَّبروها وأخذوا بها؛ وفيها خلاصة المعارف الدينية والإلهية، وفيها التعاليم الخُلقية والتهذيبية للنفوس، إلى غيرها من سائر المعارف.

بالإضافة إلى أن هذه الأدعية صادرة عن أناس لهم معرفة حقيقية باللّه سبحانه وتعالى، كما لهم معرفة كاملة بمكنونات النفس البشرية وما تحتاج إليه، وما يصلحها في كافة المجالات، والتي أبانوها في قالب الدعاء.

لقد كان أئمتنا (عليهم السلام) خير من دعا اللّه في السر والعلن، والشدة والرخاء، والسراء والضراء، وقد تركوا لنا تلك الأدعية التي لا تقدر بثمن.

ومن المعلوم أن أهل البيت (عليهم السلام) مارسوا دورهم في بناء الإنسان، وتبيان مكارم الأخلاق، بعد ما سعى الأعداء في تعطيل دورهم السياسي في قيادة الأُمة، وإقصائهم عن الساحة، وإجبارهم على الإقامة الجبرية في منازلهم تحت رقابة صارمة.

وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد أدى ما عليه بأحسن وجه، وتفرغ للمسؤولية الملقاة على عاتقه بأفضل صورة ممكنة، وكان كل ذلك في وقت

ص: 95

خُنقت فيه الأنفاس، وكُبتت الحريات، وغُلّت الأيدي بالقيود، وأُلقي بالأحرار في السجون، فبالرغم من كل هذا فقد بلغ من علمه (عليه السلام) ما لم يتمكن الطغاة من صده، فانتشر علمه وفقهه، وتعالى صوته وذكره، وإلى يومنا هذا، وسيبقى كذلك إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.

لقد كان الإمام السجاد (عليه السلام) قمة في التقوى والزهد والعبادة، وكان كثير الدعاء، وقد اتخذ من أسلوب الدعاء طريقة لمعالجة ما ألمَّ بالأُمة الإسلامية من انحراف في العقائد والسلوك؛ نتيجة فساد حكامها وتأثر بعض المسلمين بسلبيات الأمم الأخرى مما أدى إلى تعرض المجتمع الإسلامي لخطر الانسياق في الملذات، والإسراف في مباهج الحياة الدنيا.

فكانت معالجته (عليه السلام) لذلك الخطر عن طريق إشاعة جو روحي، يربط الإنسان بربه وخالقه، إذ تناول شتى الموضوعات والمناسبات، وصبها بصيغة الدعاء والمناجاة، والتي جمعت وعرفت فيما بعد ب- (الصحيفة السجادية).

وتضم هذه الصحيفة المباركة المروية عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) مجموعة كبيرة من الأدعية، والتي هي على جانب عظيم من الأهمية، والواردة بسند معتبر ومذكور في بداية الصحيفة بشكل كامل ينتهي إلى يحيى بن زيد بن علي زين العابدين (عليهم السلام) .

وفي الرواية أنها كتبت بيد ولده الإمام الباقر (عليه السلام) ، وبحضور حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً، وقد ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني (ت 1389ه) بعض الكتب المؤلفة في سند الصحيفة واعتبارها(1).

ص: 96


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج12 ص235، تحت رقم1540 و1541.

من هنا تعد (الصحيفة السجادية) من أهم كتب الدعاء عند المسلمين، وتعرف ب- «أخت القرآن»، و«إنجيل أهل البيت»، و«زبور آل محمد» (عليهم السلام) أيضاً.

وتحتوي الصحيفة السجادية على (54) دعاءً في شتى المجالات والموضوعات والمناسبات، وقد أُلحقت بها أدعية الأيام السبعة، والمناجاة الخمسة عشر الصادرة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) .

إن نصوص أدعية الصحيفة هذه، غاية في الفصاحة والبلاغة باعتراف مشاهير العلماء والبلغاء، كما أنها عجيبة في تنوع الموضوعات، وقد تناولها العلماء بالشرح والتفسير.

فهناك أكثر من شرح وتفسير وتعليق لهذه الصحيفة النفيسة، ومن أهمها وأشهرها «رياض السالكين في شرح صحيفة سيد السّاجدين (صلوات اللّه عليه)» للعلامة السيد علي خان الحسيني المدني الشيرازي (ت 1120ه)، ويقع في سبعة مجلدات.

وقد ذكر الشيخ الطهراني (ت 1389ه) في الذريعة شروحاً أخرى على الصحيفة السجادية(1).

أدعية أخرى للإمام السجاد

ثم إن للإمام السجاد (عليه السلام) أدعية كثيرة غير ما هو مذكور في (الصحيفة السجادية) وردت في عدد من الكتب الروائية والحديثية وغيرها، وقد قام بجمعها بعض العلماء ونشرت كمستدرك للصحيفة السجادية، من أهمها:

1: الصحيفة السجادية، للعلامة السيد محسن الأمين العاملي (ت 1371ه)،

ص: 97


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج13 ص345-359، تبدأ برقم1281وتنتهي برقم1328.

والتي اشتملت على (183) دعاءً من أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) الأخرى.

2: الصحيفة السجادية الجامعة، للعلامة السيد محمد باقر الموحد الأصفهاني، والتي اشتملت على (270) دعاءً ومناجاة.

دعاء مكارم الأخلاق

ومن أهم أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) : دعاء مكارم الأخلاق، وهي مدرسة لتربية النفس.

والدعاء في الصحيفة السجادية، ويستحسن أن يحفظه الإنسان ويقرأه في كل يوم، ويلقن نفسه بمضامينه، ليتصف بالصفات الحميدة المذكورة فيه، فإن التلقين يؤثر على نفس الإنسان ليصبغه بالصبغة التي لقنها، فتظهر آثاره على أعضائه وجوارحه.

والدعاء هو:

«اَللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبَلِّغْ بِإِيماني أَكْمَلَ الإيمانِ، وَاجْعَلْ يَقيني أَفْضَلَ الْيَقينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتي إِلَى أَحْسَنِ النِّيّاتِ، وَبِعَمَلي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمالِ. اَللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتي، وَصَحِّحْ بِما عِنْدَكَ يَقيني، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ ما فَسَدَ مِنّي.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِني ما يَشْغَلُنِي الاِْهْتِمامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْني بِما تَسْأَلُني غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيّامي فيما خَلَقْتَني لَهُ، وَأَغْنِني وَأَوْسِعْ عَلَيَّ في رِزْقِكَ، وَلاَ تَفْتِنّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّني وَلاَ تَبْتَلِيَنّي بالْكِبْرِ، وَعَبِّدْني لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبادَتي بِالْعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ، وَلاَ تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لي مَعالِيَ الأَخْلاقِ، وَاعْصِمْني مِنَ الْفَخْرِ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تَرْفَعْني فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلاَّ حَطَطْتَني عِنْدَ نَفْسي مِثْلَهَا، وَلاَ تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلاَّ أَحْدَثْتَ لي ذِلَّةً باطِنَةً عِنْدَ نَفْسي

ص: 98

بِقَدَرِهَا. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمَتِّعْني بِهُدًى صَالِحٍ لاَ أَسْتَبْدِلُ بِهِ، وَطَريقَةِ حَقٍّ لاَ أَزيغُ عَنْها، وَنِيَّةِ رُشْدٍ لاَ أَشُكُّ فِيهَا، وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمْرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمْرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ. اَللَّهُمَّ لاَ تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنّي إِلاَّ أَصْلَحْتَها، وَلاَ عَائِبَةً أُؤَنَّبُ بِهَا إِلاَّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أُكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إِلاَّ أتْمَمْتَهَا.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ، وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاَحِ الثِّقَةَ، وَمِنْ عَدَاوَةِ الأَدْنَيْنَ الْوِلاَيَةَ، وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأَرْحَامِ الْمَبَرَّةَ، وَمِنْ خِذْلاَنِ الأَقْرَبينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحيحَ الْمِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ الْمُلاَبِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرةِ، وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ حَلاَوَةَ الأَمَنَةِ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَلِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي، وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي، وَهَبْ لِي مَكْراً عَلَى مَنْ كَايَدَنِي، وَقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي، وَتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي، وَسَلاَمَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَنِي، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي، وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ

ص: 99

الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَطِيبِ الْمُخَالَقَةِ، والسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ، وَإِيثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ، وَالإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلاَلِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَأَكْمِلْ ذلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَرَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمُسْتَعْمِلِي الرَّأْيِ الْمُخْتَرَعِ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ إِذَا كَبُرْتُ، وَأَقْوَى قُوَّتِكَ فِيَّ إِذَا نَصِبْتُ، وَلاَ تَبْتَلِيَنِّي بِالْكَسَلِ عَنْ عِبَادَتِكَ، وَلاَ الْعَمَى عَنْ سَبِيلِكَ، وَلاَ بِالتَّعَرُّضِ لِخِلاَفِ مَحَبَّتِكَ، وَلاَ مُجَامَعَةِ مَنْ تَفَرَّقَ عَنْكَ، وَلاَ مُفَارَقَةِ مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ.

اَللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَصُولُ بِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَسْأَلُكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ عِنْدَ الْمَسْكَنَةِ، وَلاَ تَفْتِنِِّي بِالاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِكَ إِذَا اضْطُرِرْتُ، وَلاَ بِالْخُضُوعِ لِسُؤَالِ غَيْرِكَ إِذَا افْتَقَرْتُ، وَلاَ بِالتَّضَرُّعِ إِلَى مَنْ دُونَكَ إِذَا رَهِبْتُ، فَأَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ خِذْلاَنَكَ وَمَنْعَكَ وَإِعْرَاضَكَ، يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ.

اَللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رَوْعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وَتَدْبيراً عَلَى عَدُوِّكَ، وَمَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِي مِنْ لَفْظَةِ فُحْشٍ أَوْ هُجْرٍ، أَوْ شَتْمِ عِرْضٍ، أَوْ شَهَادَةِ بَاطِلٍ، أَوِ اغْتِيَابِ مُؤْمِنٍ غَائِبٍ، أَوْ سَبِّ حَاضِرٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، نُطْقاً بِالْحَمْدِ لَكَ، وَإِغْرَاقاً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ، وَذَهَابَاً فِي تَمْجِيدِكَ، وَشُكْراً لِنِعْمَتِكَ، وَاعْتِرَافاً بِإِحْسَانِكَ، وَإِحْصَاءً لِمِنَنِكَ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ أُظْلَمَنَّ وَأنْتَ مُطِيقٌ لِلدَّفْعِ عَنِّي، وَلاَ أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ الْقَادِرُ عَلَى الْقَبْضِ مِنِّي، وَلاَ أَضِلَّنَّ وَقَدْ أَمْكَنَتْكَ هِدَايَتِي، وَلاَ أَفْتَقِرَنَّ وَمِنْ عِنْدِكَ وُسْعِي، وَلاَ أَطْغَيَنَّ وَمِنْ عِنْدِكَ وُجْدِي.

ص: 100

اَللَّهُمَّ إِلَى مَغْفِرَتِكَ وَفَدْتُ، وَإِلَى عَفْوِكَ قَصَدْتُ، وَإِلَى تَجَاوُزِكَ اشْتَقْتُ، وَبِفَضْلِكَ وَثِقْتُ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا يُوجِبُ لِي مَغْفِرَتَكَ، وَلاَ فِي عَمَلِي مَا أَسْتَحِقُّ بِهِ عَفْوَكَ، وَمَا لِي بَعْدَ أَنْ حَكَمْتُ عَلَى نَفْسي إِلاَّ فَضْلُكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ.

اَللَّهُمَّ وَأَنْطِقْنِي بِالْهُدَى، وَأَلْهِمْنِي التَّقْوَى، وَوَفِّقْنِي لِلَّتِي هِيَ أَزْكَى، وَاسْتَعْمِلْنٍي بِمَا هُوَ أَرْضَى. اَللَّهُمَّ اسْلُكْ بِيَ الطَّريقَةَ الْمُثْلَى، وَاجَعَلْنِي عَلَى مِلَّتِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَمَتِّعْني بِالاْقْتِصَادِ، وَاجْعَلْني مِنْ أَهْلِ السَّدَادِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الرَّشَادِ، وَمِنْ صَالِحِي الْعِبَادِ، وارْزُقْنَي فَوْزَ الْمَعَادِ، وَسَلاَمَةَ الْمِرْصَادِ.

اَللَّهُمَّ خُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِي مَا يُخَلِّصُهَا، وَأَبْقِ لِنَفْسِي مِنْ نَفْسِي مَا يُصْلِحُهَا، فَإِنَّ نَفْسِيَ هَالِكَةٌ أَوْ تَعْصِمُهَا. اَللَّهُمَّ أَنْتَ عُدَّتِي إِنْ حَزِنْتُ، وَأَنْتَ مُنْتَجَعِي إِنْ حُرِمْتُ، وَبِكَ اسْتِغاثَتي إِنْ كَرِثْتُ، وَعِنْدَكَ مِمَّا فَاتَ خَلَفٌ، وَلِمَا فَسَدَ صَلاَحٌ، وَفِيمَا أَنْكَرْتَ تَغْييرٌ، فَامْنُنْ عَلَيَّ قَبْلَ الْبَلاَءِ بِالْعَافِيَةِ، وَقَبْلَ الطَّلَبِ بِالْجِدَةِ، وَقَبْلَ الضَّلاَلِ بِالرَّشَادِ، وَاكْفِني مَؤُونَةَ مَعَرَّةِ الْعِبَادِ، وَهَبْ لِي أَمْنَ يَوْمِ الْمَعَادِ، وَامْنَحْنِي حُسْنَ الإِرْشَادِ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَادْرَأْ عَنِّي بِلُطْفِكَ، وَاغْذُنِي بِنِعْمَتِكَ، وَأَصْلِحْنِي بِكَرَمِكَ، وَدَاوِنِي بِصُنْعِكَ، وَأَظِلَّني فِي ذَرَاكَ، وَجَلِّلْنِي رِضَاكَ، وَوَفِّقْنِي إِذَا اشْتَكَلَتْ عَلَيَّ اْلأُمُورُ لأَهْدَاهَا، وَإِذَا تَشَابَهَتِ الأَعْمَالُ لأَزْكَاهَا، وَإِذَا تَنَاقَضَتِ الْمِلَلُ لأَرْضَاهَا.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَوِّجْنِي بِالْكِفَايَةِ، وَسُمْنِي حُسْنَ الْوِلاَيَةِ، وَهَبْ لِي صِدْقَ الْهِدَايَةِ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِالسَّعَةِ، وَامْنَحْنِي حُسْنَ الدَّعَةِ، وَلاَ تَجْعَلْ

ص: 101

عَيْشي كَدّاً كَدّاً، وَلاَ تَرُدَّ دُعَائِي عَلَيَّ رَدّاً، فَإِنّي لاَ أَجْعَلُ لَكَ ضِدّاً، وَلاَ أَدْعُو مَعَكَ نِدَّاً.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَامْنَعْنِي مِنَ السَّرَفِ، وَحَصِّنْ رِزْقي مِنَ التَّلَفِ، وَوَفِّرْ مَلَكَتِي بِالْبَرَكَةِ فيهِ، وَأَصِبْ بِي سَبِيلَ الْهِدَايَةِ لِلْبِرِّ فِيمَا أُنْفِقُ مِنْهُ. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِني مَؤُونَةَ الاكْتِسَابِ، وَارْزُقْنِي مِنْ غَيْرِ احْتِسَاب، فَلاَ أَشْتَغِلَ عَنْ عِبَادَتِكَ بِالطَّلَبِ، وَلاَ أَحْتَمِلَ إِصْرَ تَبِعَاتِ الْمَكْسَبِ. اَللَّهُمَّ فَأَطْلِبْنِي بِقُدْرَتِكَ مَا أَطْلُبُ، وَأَجِرْنِي بِعِزَّتِكَ مِمَّا أَرْهَبُ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَصُنْ وَجْهي بِالْيَسَارِ، وَلاَ تَبْتَذِلْ جَاهِي بِالإِقْتَارِ، فَأَسْتَرْزِقَ أَهْلَ رِزْقِكَ، وَأَسْتَعْطِيَ شِرَارَ خَلْقِكَ، فَأَفْتَتِنَ بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي، وَأُبْتَلَى بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي، وَأَنْتَ مِنْ دُونِهِمْ وَلِيُّ الإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي صِحَّةً فِي عِبَادَةٍ، وَفَرَاغاً في زَهَادَةٍ، وَعِلْماً فِي اسْتِعْمَالٍ، وَوَرَعاً في إِجْمَالٍ. اَللَّهُمَّ اخْتِمْ بِعَفْوِكَ أَجَلِي، وَحَقِّقْ فِي رَجَاءِ رَحْمَتِكَ أَمَلِي، وَسَهِّلْ إِلَى بُلوُغِ رِضَاكَ سُبُلِي، وَحَسِّنْ فِي جَميعِ أَحْوَالي عَمَلِي.

اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَنَبِّهْنِي لِذِكْرِكَ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاسْتَعْمِلْني بِطَاعَتِكَ فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ، وَانْهَجْ لِي إِلَى مَحَبَّتِكَ سَبِيلاً سَهْلَةً، أَكْمِلْ لِي بِهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرْةِ.

اَللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، كَأَفْضَلِ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ قَبْلَهُ، وَأَنْتَ مُصَلٍّ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنِي بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ النَّارِ»(1).

ص: 102


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 102.

10

أخلاق الإمام

حفظ الأمانات

روي أنه بلغ عبد الملك أن سيف رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عند الإمام زين العابدين (عليه السلام) . فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة. فأبى عليه، فكتب إليه عبد الملك يهدده، وأنه يقطع رزقه من بيت المال.

فأجابه (عليه السلام) : «أما بعد، فإن اللّه ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جل ذكره: {إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}(1)، فانظر أينا أولى بهذه الآية في حلمه وتواضعه»(2).

أ لك حاجة؟

شتم بعضهم زين العابدين (صلوات اللّه عليه) فقصده غلمانه. فقال (عليه السلام) : «دعوه؛ فإن ما خفي منا أكثر مما قالوا - ثم قال له - أ لك حاجة يا رجل؟».

فخجل الرجل.

ص: 103


1- سورة الحج: 38.
2- بحار الأنوار: ج46 ص95، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح84.

فأعطاه ثوبه، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخاً يقول: أشهد أنك ابن رسول اللّه(1).

مهلاً كفوا

في رواية: كان الإمام السجاد (عليه السلام) يوماً خارجاً. فلقيه رجل فسبه، فثارت إليه العبيد والموالي. فقال لهم علي (عليه السلام) : «مهلاً كفوا». ثم أقبل على ذلك الرجل فقال: «ما ستر عنك من أمرنا أكثر، أ لك حاجة نعينك عليها؟».

فاستحيا الرجل، فألقى إليه علي (عليه السلام) خميصةً كانت عليه، وأمر له بألف درهم.

فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرُسُل(2).

العفو عن القاتل خطأ

كان عند الإمام السجاد (عليه السلام) قوم أضياف، فاستعجل خادم له بشواء كان في التنور. فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط السفود منه على رأس بني لعلي بن الحسين (عليه السلام) تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله.

فقال علي (عليه السلام) للغلام - وقد تحير الغلام واضطرب -: «أنت حر، فإنك لم تعتمده». وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(3).

ص: 104


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص157، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص81، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
3- بحار الأنوار: ج46 ص99، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح87.

أمنت عقابك

روي أن علي بن الحسين (عليه السلام) دعا مملوكه مرتين فلم يجبه، فلما أجابه في الثالثة، قال له: «يا بني، أما سمعت صوتي!». قال: بلى. قال: «فما لك لم تجبني؟». قال: أمنتك. قال: «الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنَّي»(1).

وفي رواية: ثم أعتقه.

ثم لا يتوهم أن هذا العمل يوجب تعليم المماليك مخالفة ساداتهم؛ لأنه:

أولاً: هذا تربية الناس على مداراة مماليكهم، وعدم العنف معهم، قال اللّه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ}(2).

ثانياً: كان إيذاء العبيد آنذاك متعارفاً عند الكثير من الناس، حتى أنهم كانوا ينكّلون بهم، بصلم آذانهم، وجدع آنافهم، وجعلهم في الأغلال وحبسهم، بل وقتلهم لأشياء تافهة. وقد بيَّن الإمام زين العابدين (عليه السلام) بطلان هذه الأعمال، التي هي من أكبر أنواع الظلم، وأصبح أسوة في مداراة العبيد والرفق بهم.

كما ورد أن أهل المدينة لم يكونوا يرغبون في نكاح الجواري، حتى وُلد علي بن الحسين (عليه السلام) من جارية، فرغبوا فيهن.

فكان للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) الدور الأكبر في تربية المجتمع، وتحسين تعاملهم مع العبيد، وعدم إيذائهم، وترك ظلمهم، وتشجيعهم على عتقهم.

قيل: إن مولى لعلي بن الحسين (عليه السلام) يتولى عمارة ضيعة له. فجاء ليطلعها،

ص: 105


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص147، باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- سورة آل عمران: 152.

فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً، غاضه من ذلك ما رآه وغمه. فقرع المولى بسوط كان في يده، - أي قرعاً خفيفاً أقل مما يستحقه - وندم على ذلك. فلما انصرف إلى منزِله، أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده عارياً والسوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته، فاشتد خوفه. فأخذ علي بن الحسين السوط ومد يده إليه، وقال: «يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، فدونك السوط واقتص مني». فقال المولى: يا مولاي، واللّه إن ظننت إلا أنك تريد عقوبتي، وأنا مستحق للعقوبة، فكيف أقتص منك!. قال: «ويحك اقتص». قال: معاذ اللّه أنت في حل وسعة. فكرر ذلك عليه مراراً، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص. قال له: «أما إذا أبيت، فالضيعة صدقة عليك». وأعطاه إياها(1).

وكان الإمام (عليه السلام) يريد بهذه القصة - على فرض تماميتها - أن يبين للناس كيفية التعامل مع العبيد.

الإحسان إلى المسيئين

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يحسن إلى من يسيء إليه.

كان هشام بن إسماعيل - أمير المدينة - يسيء إليه، ويؤذيه أذى شديداً. فلما عُزل، أمر به الوليد أن يوقف للناس. فمر به وسلم عليه، وأمر خاصته أن لا يعرض له أحد(2).

ص: 106


1- بحار الأنوار: ج46 ص96، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح84.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص163، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .

وكان له ابن عم يؤذيه، فكان يجيئه ويعطيه الدنانير ليلاً، وهو متستر. فيقول: لكن علي بن الحسين لا يصلني، لا جزاه اللّه خيراً. فيسمع ويصبر، فلما مات انقطع عنه، فعلم أنه هو الذي كان يصله(1).

ولما طرد أهل المدينة بني أمية في وقعة الحرة، أراد مروان بن الحكم أن يستودع أهله، فلم يقبل أحد أن يكونوا عنده إلاّ علي بن الحسين (عليه السلام) ، فوضعهم مع عياله، وأحسن إليهم مع عداوة مروان المعروفة له ولجميع بني هاشم(2).

وعال في وقعة الحرة أربعمائة امرأة من بني عبد مناف إلى أن تفرق جيش مسرف بن عقبة(3).

غفر اللّه لك

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول لمن يشتمه: «إن كنتُ كما قلتَ فأسأل اللّه أن يغفر لي، وإن لم أكن كما قلتَ فأسأل اللّه أن يغفر لك»(4).

التواضع

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا يسافر إلاّ مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجونه، ويقول: «أكره أن آخذ برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما لا أعطي مثله».

ص: 107


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- الكامل في التاريخ: ج4 ص113، ذكر وقعة الْحَرَّة.
3- التذكرة الحمدونية: ج2 ص276، حكايات عن بعض الأجواد، ح723.
4- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص145، باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يسافر إلاّ مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه. فسافر مرة مع قوم، فرآه رجل فعرفه، وقال لهم: هذا علي بن الحسين. فوثبوا إليه، فقبلوا يده ورجله. وقالوا: يا ابن رسول اللّه، أردت أن تصلينا نار جهنم لو بدرت منا إليك يد أو لسان، أ ما كنا قد هلكنا؟.

فقال: إني سافرت مرة مع قوم يعرفونني، فأعطوني برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما لا أستحق، فصار كتمان أمري أحب إليَّ»(1).

وفي المناقب: قيل للإمام زين العابدين (عليه السلام) : إذا سافرت كتمت نفسك أهل الرفقة؟.

فقال: «أكره أن آخذ برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما لا أعطي مثله»(2).

رد الأمانة

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «لو أن قاتل الحسين (عليه السلام) استودعني السيف الذي قتل به الحسين لرددته إليه»(3).

مداراة الأعداء

عن سفيان بن عيينة، قلت للزهري: لقيت علي بن الحسين (عليه السلام) ؟. قال: نعم لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه. واللّهِ ما علمت له صديقاً في السر، ولا عدواً

ص: 108


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص145 ب40 ح13.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص161، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
3- غوالي اللئالي العزيزية: ج3 ص251، ق2، باب الوديعة، ح4.

في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟!. قال: لأني لم أر أحداً - وإن كان يحبه - إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده. ولا رأيت أحداً - وإن كان يبغضه - إلاّ وهو لشدة مداراته له يداريه(1).

مع مروان العدو

لما أخرج أهل المدينة بني أمية منها، جاء مروان بن الحكم إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وأودع أهله وعياله عند الإمام (عليه السلام) ، فرحب بهم وجعلهم مع نسائه وعياله، وأنفق عليهم كما ينفق على عياله.

وكذلك في وقعة الحرة حافظ على أهل مروان، حيث آوى إليه ثقل مروان بن الحكم، وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفان.

وقد كان مروان بن الحكم لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية من المدينة، كلَّم عبد اللّه بن عمر أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل. وكلَّم مروان علي بن الحسين (عليه السلام) ، وقال: يا أبا الحسن إن لي رحماً، وحرمي تكون مع حرمك. قال: «أفعل». فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم بينبع(2).

وهذا منتهى مكارم الأخلاق، والمجازاة على الإساءة بالإحسان، قال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية***فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وحسبكم هذا التفاوت بيننا***وكل إناء بالذي فيه ينضح

ص: 109


1- علل الشرائع: ج1 ص230-231، الباب165، ح4.
2- (185) الكامل في التاريخ: ج4 ص113، ذكر وقعة الْحَرَّة.

وقد كان مروان خرج لحرب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مع أهل الجمل، وحارب الإمام (عليه السلام) بصفين مع معاوية.

وقال مروان للوليد في حق الحسين (عليه السلام) : إنه لا يبايع، ولو كنت مكانك لضربت عنقه.

وقال له: لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبس الرجل فلا يخرج حتى يبايع أو تضرب عنقه.

فقال الحسين (عليه السلام) له: ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي، كذبتَ واللّه ولؤمت(1).

وقال مروان لما جيء برأس الحسين (عليه السلام) :

يا حبذا بردك في اليدين***ولونك الأحمر في الخدين

كأنما حف بوردتين***شفيت نفسي من دم الحسين

واللّه لكأني أنظر إلى أيام عثمان(2).

فمروان مع هذا التاريخ الأسود، والعداء الكبير ضد العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، عندما يأتي للإمام زين العابدين (عليه السلام) ليلجأ إليه، يستقبله الإمام (عليه السلام) ، ويرحب به وبأهله وعياله وأطفاله.

ص: 110


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص33، باب تاريخ الإمام الحسين وفضله، ما جرى بين الإمام الحسين (عليه السلام) ومروان.
2- أعيان الشيعة: ج1 ص626، أبو عبد اللّه الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، مدفن رأس الحسين (عليه السلام) .

جرعة غيظ لا تُكافأ

قال علي بن الحسين (عليهما السلام) : «ما تجرعت من جرعة أحب إليّ من جرعة غيظ لا أكافئ بها صاحبها»(1).

حسن العفو

روي أنه وقف على علي بن الحسين رجل من أهل بيته(2) فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه (عليه السلام) . فلما انصرف قال (عليه السلام) لجلسائه: «قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه».

قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن نقول له ونقول.

قال: فأخذ نعليه ومشى، وهو يقول: {وَالكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3)، فعلمنا أنه لا يقول شيئاً.

قال: فخرج إلينا متوثباً للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافياً له على بعض ما كان منه. فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا أخي، إنك كنت قد وقفت عليَّ آنفاً وقلت وقلت، فإن كنت قد قلت ما فيَّ فأنا أستغفر اللّه منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر اللّه لك».

قال: فقبَّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به(4).

ص: 111


1- الكافي: ج2 ص111، كتاب الإيمان و الكفر، الباب كظم الغيظ، ح12.
2- ربما يكون المراد من هو محسوب عليهم وإن لم يكن منهم، أو كان من بني العباس مثلاً، أو كان ممن يعيش في بيته من الخدم وما أشبه. أما ما ذكره البعض من أنه كان الحسن بن الحسن (عليهما السلام) فليس بدقيق.
3- سورة آل عمرا ن: 134.
4- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص146، باب تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

أقول: قوله (عليه السلام) «أنا أحب أن تبلغوا...»، كان من أجل تعليمهم مكارم الأخلاق؛ فإن المشاهدة الحسية تتخذ أسوة يقتدى بها أكثر من مجرد القول، كما هو مذكور في علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأخلاق، وغيرها.

أبريق سقط على وجهه

روي أنه جعلت جارية لعلي بن الحسين (عليه السلام) تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إن اللّه يقول: {وَالكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}(1). قال: «قد كظمتُ غيظي».

قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}(2). قال لها: «عفا اللّه عنكِ».

قالت: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3).

قال: «اذهبي فأنتِ حرة لوجه اللّه عز وجل»(4).

اذهبي فأنت حرة

في مناقب ابن شهرآشوب: كسرت جارية للإمام زين العابدين (عليه السلام) قصعة فيها طعام، فأصفر وجهها. فقال (عليه السلام) لها: «اذهبي فأنتِ حرة لوجه اللّه»(5).

ص: 112


1- سورة آل عمرا ن: 134.
2- سورة آل عمرا ن: 134.
3- سورة آل عمرا ن: 134.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص87، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وثبتت له الإمامة من وجوه.
5- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص157، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .

العفو عمن يغتابه

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان إذا خرج من منزله، قال: «اللّهم إني أتصدق اليوم، وأهب عرضي لمن يغتابني»(1). أي أعفو عنه.

التوسط لمن كان يؤذيه

روي أنه كان هشام بن إسماعيل يسيء الجوار، فلقي منه علي بن الحسين (عليه السلام) أذًى شديداً، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس. قال: فمر به علي بن الحسين (عليه السلام) ، وقد أوقف عند دار مروان، قال فسلم عليه - قال - وكان علي بن الحسين (عليه السلام) قد تقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد(2).

لين الكلام

وفي الأسر عندما أُخذوا إلى الشام، قال شيخ شامي للإمام زين العابدين (عليه السلام) : الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم، وأراح البلاد من رجالكم. فلم يجابهه الإمام زين العابدين (عليه السلام) بسبّ ولا شتم، بل أجابه بلين الكلام. وقال: «هل قرأت القرآن؟»، وذكر الآيات الدالة على فضل أهل البيت، فتاب الرجل بفضل لين كلامه (عليه السلام) (3).

ص: 113


1- أعيان الشيعة: ج1 ص633، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، مناقبه وفضائله (عليه السلام) .
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص147، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
3- بحار الأنوار: ج 45 ص129، تتمة كتاب تاريخ فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) ، الباب39 من تتمة أبواب ما يختص بتاريخ الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما).

حسن التعامل مع العبيد

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا يضرب مملوكاً، بل يكتب ذنبه عنده، حتى إذا كان آخر شهر رمضان، جمعهم وقررهم بذنوبهم، وطلب منهم أن يستغفروا له اللّه، كما غفر لهم، ثم يعتقهم ويجزيهم بجوائز(1).

وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً أول السنة أو وسطها أعتقهم ليلة الفطر واستبدل سواهم كذلك كان يفعل حتى لحق باللّه، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة يأتي بهم عرفات يسد بهم الفرج فإذا أفاض أعتقهم وأجازهم(2).

ص: 114


1- الإقبال بالأعمال الحسنة: ج1 ص444 ب34.
2- الإقبال بالأعمال الحسنة: ج1 ص445 ب34.

11

شجاعة الإمام

الإمام (عليه السلام) هو أشجع أهل زمانه، لا يخاف في اللّه لومة لائم.

وكان من شجاعة الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه وقف في وجه الطاغية عبيد اللّه بن زياد ويزيد لما أمرا بقتله، فقال: «أبالقتل تهددني، أما علمتَ أن القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة»(1).

وخطب تلك الخطبة الغراء التي فضحت بني أمية(2).

وقال (عليه السلام) ليزيد وهو على سلطنته وقهره: «يا ابن معاوية وهند وصخر، لقد كان جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم بدر وأُحُد والأحزاب في يده راية رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفار»(3).

وقال (عليه السلام) : «ويلك يا يزيد! إنك لو تدري ما ذا صنعت! وما الذي ارتكبت! إذا لهربت في الجبال، وافترشت الرماد، فأبشر بالخزي والندامة»(4).

ص: 115


1- اللّهوف على قتلى الطفوف: ص162، المسلك 3 في الأمور المتأخرة عن قتله (صلوات اللّه عليه).
2- بحار الأنوار: ج 45 ص137-140، الباب39 من تتمة أبواب ما يختص بتاريخ الحسين بن علي.
3- بحار الأنوار: ج 45 ص135، الباب39 من تتمة أبواب ما يختص بتاريخ الحسين بن علي.
4- بحار الأنوار: ج 45 ص136، الباب39 من تتمة أبواب ما يختص بتاريخ الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما).

12

الإنفاق على الفقراء

اشارة

كان الإمام السجاد (عليه السلام) كثير العطاء، وفي قمة الجود والكرم، كسائر العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، وكان مضافاً إلى إنفاقه على الشعراء والخطباء والجيران، ينفق على الفقراء والمساكين بكثرة.

فكان (عليه السلام) يخرج في الليلة الظلماء، وعلى كتفه أقراص الخبز، وما تحتاجه العائلة من حطب وغيره، فيأتي على دور الفقراء باباً باباً، ويتصدق عليهم بذلك، من دون أن يعرفوه(1).

كما كان يحمل النقود إليهم ويوزعها عليهم. وكان (عليه السلام) حين التصدق يغطي وجهه حتى لا يعرفه أحد، إلى أن توفي (عليه السلام) فانقطع ذلك العطاء فعرف الناس أنه كان الإمام زين العابدين (صلوات اللّه عليه)(2).

ولما وضع (عليه السلام) على المغتسل، نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل؛ مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين(3).

ص: 116


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص153، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
2- الكافي: ج1 ص468، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح4.
3- وسائل الشيعة: ج9 ص397، كتاب الزكاة، الباب13 من أبواب الصدقة، ح12325.

وكان الإمام السجاد (عليه السلام) يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة(1).

وكان (عليه السلام) يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان (عليه السلام) يناولهم بيده، ومن كان منهم له عيال حمل له إلى عياله من طعامه(2).

وكان (عليه السلام) لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله(3).

ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلق بالمطرف فمضى وتركه، وكان يشتري الخز في الشتاء وإذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه(4).

ديونك عليَّ

عن عمرو بن دينار، قال: حضرت زيد بن أسامة بن زيد الوفاة، فجعل يبكي. فقال له علي بن الحسين: «ما يبكيك؟». قال: يبكيني أن عليَّ خمسة عشر ألف دينار، ولم أترك لها وفاءً. فقال له علي بن الحسين: «لا تبكِ فهي عليَّ، وأنت بريء منها». فقضاها عنه(5).

وفي رواية: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «لما حضر محمد بن أسامة الموت. دخلت عليه بنو هاشم، فقال لهم: قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعليَّ دين،

ص: 117


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص154، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص154، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
3- وسائل الشيعة: ج9 ص398، كتاب الزكاة، الباب13 من أبواب الصدقة، ح12325.
4- وسائل الشيعة: ج9 ص397، كتاب الزكاة، الباب13 من أبواب الصدقة، ح12325.
5- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص149، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

فأحب أن تضمنوه عني. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : أما واللّهِ ثلث دينك عليَّ. ثم سكت وسكتوا، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : عليَّ دينك كله - ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام) - أما إنه لم يمنعني أن أضمنه أولاً إلا كراهة أن تقولوا سبقنا»(1).

إمضاء الوصايا

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مرض علي بن الحسين (عليه السلام) ثلاث مرضات، في كل مرضة يوصي بوصية، فإذا أفاق أمضى وصيته»(2).

مرحباً بالسائل

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا أتاه السائل يقول: «مرحباً بمن يحمل لي زادي إلى الآخرة»(3).

بيع الثياب والتصدق بثمنها

عن الحلبي، قال: سألته عن لبس الخز؟. فقال: «لا بأس به. إن علي بن الحسين (عليه السلام) كان يلبس الكساء الخز في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه وتصدق بثمنه، وكان يقول: إني لأستحيي من ربي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت اللّه فيه»(4).

تكفل العوائل

روي أنه لما وجه يزيد بن معاوية عسكره لاستباحة أهل المدينة، ضم علي بن

ص: 118


1- الكافي: ج8 ص332، كتاب الروضة، حديث الفقهاء والعلماء، ح514.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص231، كتاب الوصية، الباب نوادر الوصايا، ح5549.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص76، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
4- تهذيب الأحكام: ج2 ص369، كتاب الصلاة، الباب17، ح1534/66.

الحسين (عليه السلام) إلى نفسه أربعمائة مَنافية (أي من بني عبد مناف) يعولهن، إلى أن تفرق جيش مسرف بن عقبة(1).

وحكي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) مثل ذلك عند إخراج ابن الزبير بني أمية من الحجاز(2).

وعن الزمخشري في «ربيع الأبرار»، أنه: لما أرسل يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة لقتال أهل المدينة واستباحتها، كفل زين العابدين (عليه السلام) أربعمائة امرأة مع أولادهن وحشمهن، وضمهن إلى عياله. وقام بنفقتهن وإطعامهن إلى أن خرج جيش ابن عقبة من المدينة، فأقسمت واحدة منهن، أنها ما رأت في دار أبيها وأمها من الراحة والعيش الهني، ما رأته في دار علي بن الحسين (عليه السلام) (3).

جاء صاحب الجراب

في البحار: كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا جنه الليل، وهدأت العيون، قام إلى منزله فجمع ما يبقى عن قوت أهله، وجعله في جراب، ورمى به على عاتقه، وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثم، ويفرق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب(4).

وعن أبي حمزة الثمالي: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يحمل جراب الخبز على

ص: 119


1- التذكرة الحمدونية: ج2 ص276، حكايات عن بعض الأجواد، ح723.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، الباب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
3- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: ج1 ص352-353، ب11.
4- بحار الأنوار: ج46 ص89، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح77.

ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل»(1).

وفي رواية: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يتصدق بالسكر واللوز، فسُئل عن ذلك، فقرأ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(2) وكان يحبه(3).

وروي أنه: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يحمل معه جراباً فيه خبز فيتصدق به ويقول: «إن الصدقة تطفئ غضب الرب»(4).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) ، أنه: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به»(5).

أثر الجراب

قال عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين (عليه السلام) فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، وقالوا: ما هذا؟!. فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره، يعطيه فقراء أهل المدينة»(6).

ص: 120


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص77، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
2- سورة آل عمران: 92.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص154، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص100، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، الباب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
5- بحار الأنوار: ج46 ص88، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح77.
6- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص154، باب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصل في زهده (عليه السلام) .

صرر الدراهم والدنانير

كان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب فيه الصرر من الدنانير والدراهم، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه. فلما مات علي بن الحسين (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أن علي بن الحسين الذي كان يفعل ذلك(1).

الإحسان إلى الآخرين

عن ابن إسحاق، قال: كان بالمدينة كذا وكذا أهل بيت يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه، لا يدرون من أين يأتيهم، فلما مات علي بن الحسين (عليه السلام) فقدوا ذلك(2).

رعاية المرضى

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مر علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) على المجذومين - وهو راكب حماره - وهم يتغدون، فدعوه إلى الغداء. فقال: أما إني لولا أني صائم لفعلت». فلما صار إلى منزله، أمر بطعام فصنع، وأمر أن يتنوقوا فيه، ثم دعاهم فتغدوا عنده، وتغدى معهم»(3).

إفطار الصائم

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا كان اليوم الذي

ص: 121


1- علل الشرائع: ج1 ص232، الباب165، ح8.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص149، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
3- الكافي: ج2 ص123، كتاب الإيمان والكفر، باب التواضع، ح8.

يصوم فيه، يأمر بشاة فتذبح، وتقطع أعضاؤها وتطبخ. وإذا كان عند المساء أكب على القدور، حتى يجد ريح المرق وهو صائم، ثم يقول: هاتوا القصاع، اغرفوا لآل فلان، واغرفوا لآل فلان، حتى يأتي على آخر القدور، ثم يؤتى بخبز وتمر، فيكون ذلك عشاءه»(1).

إعاشة الفقراء

كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل(2).

وفي رواية أحمد بن حنبل، عن معمر، عن شيبة بن نعامة: أنه كان يقوت مائة أهل بيت بالمدينة. وقيل: كان في كل بيت جماعة من الناس(3).

وكان يقول أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين (عليه السلام) (4).

وفي رواية محمد بن إسحاق: أنه كان في المدينة كذا وكذا بيتاً يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه، لا يدرون من أين يأتيهم. فلما مات زين العابدين (عليه السلام) فقدوا ذلك، فصرخوا صرخةً واحدةً(5).

ص: 122


1- المحاسن: ج2 ص396، كتاب المآكل، الباب2، ح2.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص153، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص153، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص78، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
5- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص149، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

هكذا الإيثار

روي أنه كان علي بن الحسين (عليه السلام) يعجب بالعنب. فدخل منه إلى المدينة شيء حسن، فاشترت منه أم ولده شيئاً، وأتته به عند إفطاره فأعجبه. فقبل أن يمد يده وقف بالباب سائل. فقال لها: «احمليه إليه». قالت: يا مولاي، بعضه يكفيه. قال: «لا واللّهِ»، وأرسله إليه كله. فاشترت له من غد وأتت به، فوقف السائل، ففعل مثل ذلك. فأرسلت فاشترت له، وأتته به في الليلة الثالثة، ولم يأتِ سائل، فأكل وقال: «ما فاتنا منه شيء والحمد لله»(1).

تقسيم جميع الأموال

قال أبو جعفر (عليه السلام) : «إن أباه علي بن الحسين (عليه السلام) قاسم اللّه ماله مرتين»(2).

الاستقاء بالليل

عن الزهري: لما مات زين العابدين (عليه السلام) فغسلوه، وجد على ظهره مجل، فبلغني أنه كان يستقي لضعفة جيرانه بالليل(3).

عدم الادخار

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا يدخر لنفسه شيئاً، فإذا انقضى الشتاء تصدق بكسوته، وإذا انقضى الصيف تصدق بكسوته. وكان يلبس من خز اللباس. فقيل

ص: 123


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص154، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص90، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح77.
3- راجع مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص154، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .

له: تعطيها من لا يعرف قيمتها، ولا يليق به لباسها، فلو بعتها فتصدقت بثمنها. فقال: «إني أكره أن أبيع ثوباً صليت فيه»(1).

ص: 124


1- بحار الأنوار: ج46 ص90، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح77.

13

خَلْقيات وخُلُقيات

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) أفضل أهل زمانه، وأورعهم وأتقاهم، وأعلمهم وأفقههم، وأعبدهم وأزهدهم، وأكرمهم وأحلمهم، وأصبرهم وأرضاهم، وأفصحهم وأبلغهم، وأحسنهم أخلاقاً، وأكثرهم صدقةً، وأرأفهم بالفقراء والمساكين، وأنصحهم للمسلمين.

وكان (عليه السلام) إذا مشى لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وعليه السكينة والوقار.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «كان إذا مشى كأن الطير على رأسه»(1).

وهذا كناية عن وقاره في المشي، فإن الطير لا يقع إلاّ على شيء ساكن.

وروي أن علي بن الحسين (عليه السلام) كان يصبغ بالسواد(2).

وفي رواية: كان (عليه السلام) يختضب بالحناء والكتم(3).

ولا منافاة بينهما لاحتمال تعددهما بسبب تعدد الزمان.

ص: 125


1- مكارم الأخلاق: ص111، الباب6، الفصل5، في التواضع في الثياب.
2- أعيان الشيعة: ج1 ص630، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، صفته في حليته ولباسه.
3- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص122، غسل يوم الجمعة ودخول الحمام وآدابه وما جاء في التنظيف والزينة، ح280.

وكان لعلي بن الحسين (عليه السلام) كساء خز أصفر يلبسه يوم الجمعة(1).

الهيبة الربانية

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) معظّماً مهيباً عند القريب والبعيد، والولي والعدو، حتى إن يزيد بن معاوية لما أمر أن يبايعه أهل المدينة بعد وقعة الحرة على أنهم عبيد رق له، لم يستثن من ذلك إلاّ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) (2).

* قال عبد الملك بن مروان لما دخل الإمام زين العابدين (عليه السلام) عليه: «واللّه لقد امتلأ ثوبي أو قلبي منه خيفة»(3).

* وقال مسرف بن عقبة: لقد ملئ قلبي من الإمام زين العابدين (عليه السلام) رعباً(4).

* وروى الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد، قال: حج علي بن الحسين (عليهما السلام) ، فاستجهر الناس وتشوفوا له، وجعلوا يقولون: من هذا! من هذا!، تعظيماً له وإجلالاً لمرتبته، وكان الفرزدق هناك، فأنشأ يقول:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته***والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم***هذا التقي النقي الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته***ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته***فما يكلم إلا حين يبتسم

أي القبائل ليست في رقابهم***لأولية هذا أو له نعم

ص: 126


1- أعيان الشيعة: ج1 ص630، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، صفته وأخلاقه (عليه السلام) .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج15 ص242، فضل بني هاشم على بني عبد شمس.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص132، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .
4- مروج الذهب: ج3 ص70، وقعة الْحَرَّة.

من يعرف اللّه يعرف أولية ذا***فالدين من بيت هذا ناله الأمم

إذا رأته قريش قال قائلها***إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

الأبيات(1).

خلوص النية

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة، لايعرفون من يأتيهم برزقهم حتى مات.

وكان له ابن عم، يأتيه الإمام (عليه السلام) بالليل متنكراً، فيناوله شيئاً من الدنانير، فيقول: لكن علي بن الحسين لا يواصلني، لا جزاه اللّه عني خيراً. فيسمع (عليه السلام) ذلك ويحتمل، ويصبر عليه، ولا يعرفه بنفسه. فلما مات علي (عليه السلام) فقدها، فحينئذٍ علم أنه هو كان، فجاء إلى قبره وبكى عليه(2).

الرضا بقضاء اللّه

مات ابن للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، فلم ير منه جزع، فسُئل عن ذلك؟. فقال (عليه السلام) : «أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره»(3).

الخوف من اللّه

قال طاووس: رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب، يدعو ويبكي في دعائه. فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين (عليه السلام) .

ص: 127


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص150- 151، فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
3- بحار الأنوار: ج46 ص101، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح88.

فقلت له: يا ابن رسول اللّه، رأيتك على حالة كذا، ولك ثلاثة، أرجو أن تؤمنك من الخوف: أحدها أنك ابن رسول اللّه، والثاني شفاعة جدك، والثالث رحمة اللّه. فقال: «يا طاووس، أما أني ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا يؤمنني؛ وقد سمعت اللّه تعالى يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}(1). وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني؛ لأن اللّه تعالى يقول: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(2). وأما رحمة اللّه، فإن اللّه تعالى يقول: إنها قريبة {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(3)، ولا أعلم أني محسن»(4).

سمو النفس

لقد انتهى الإمام زين العابدين (عليه السلام) ذات يوم إلى قوم يغتابونه. فوقف عليهم، فقال لهم: «إن كنتم صادقين فغفر اللّه لي، وإن كنتم كاذبين فغفر اللّه لكم»(5).

سلوكيات

قال الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) :

«وكان (عليه السلام) لا تسبق يمينه شماله، وكان يقبّل الصدقة قبل أن يعطيها السائل. قيل له: ما يحملك على هذا؟. قال: فقال: لست أقبل يد السائل، إنما أقبل يد ربي؛ إنها تقع في يد ربي قبل أن تقع في يد السائل».

ص: 128


1- سورة المؤمنون: 101.
2- سورة الأنبياء: 28.
3- سورة الأعراف: 56.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص108، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
5- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.

قال: «ولقد كان يمر على المدرة في وسط الطريق، فينزل عن دابته حتى ينحيها بيده عن الطريق».

قال: «ولقد مر بمجذومين، فسلم عليهم وهم يأكلون، فمضى ثم قال: إن اللّه لا يحب المتكبرين، فرجع إليهم فقال: إني صائم. وقال: ائتوني بهم في المنزل - قال - فأتوه فأطعمهم، ثم أعطاهم»(1).

أشبه الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام)

عن سعيد بن كلثوم، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثم قال:

«واللّهِ ما أكل علي بن أبي طالب من الدنيا حراماً قط حتى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قط هما لله رضًا، إلا أخذ بأشدهما عليه في دينه، وما نزلت برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نازلة قط إلا دعاه ثقةً به، وما أطاق عمل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من هذه الأمة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار، يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه اللّه والنجاة من النار، مما كد بيديه ورشح منه جبينه، وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمه، دعا بالجلم فقصه، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد، أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين (عليه السلام) .

ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه وقد اصفرَّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته،

ص: 129


1- الأمالي للطوسي: ص673، المجلس 36، ح1419 / 26.

وانخرم أنفه من السجود، وقد ورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمةً له، فإذا هو يفكر، فالتفت إليَّ بعد هنيئة من دخولي فقال: يا بني، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً، وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) »(1).

إيثار الغير

عن هشام بن سالم، قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يعجبه العنب، فكان ذات يوم صائماً، فلما أفطر كان أول ما جاءت العنب، أتته أم ولد له بعنقود فوضعته بين يديه، فجاء السائل فدفع إليه، فدست إليه - أعني إلى السائل - فاشترته منه، ثم أتته فوضعته بين يديه، فجاء سائل آخر فأعطاه، ففعلت أم الولد مثل ذلك، حتى فعل ثلاث مرات، فلما كان في الرابع أكله(2).

قمة الوقار

قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كان علي بن الحسين (صلوات اللّه عليه) يمشي مشيةً كأن على رأسه الطير، لا يسبق يمينه شماله»(3).

وعن سفيان بن عيينة، قال: ما رئي علي بن الحسين (عليه السلام) قط جائزاً بيديه

ص: 130


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص141-142، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- المحاسن: ج2 ص548، كتاب المآكل، الباب112، ح863.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص382، كتاب الجهاد، الباب59 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20810.

فخذيه وهو يمشي(1).

وفي رواية: كان (عليه السلام) إذا مشى لا يجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وعليه السكينة والخشوع(2).

قمة التواضع

قال نافع بن جبير لعلي بن الحسين (عليه السلام) : إنك تجالس أقواماً دوناً.

فقال له: «إني أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني»(3).

قمة العفو

قال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين (عليه السلام) في إمارته، فلما عُزِلَ أمر به الوليد أن يوقف للناس. فقال: ما أخاف إلا من علي بن الحسين. فمر به علي بن الحسين (عليه السلام) ، وقد وقف عند دار مروان، وكان علي (عليه السلام) قد تقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد منكم بكلمة. فلما مر ناداه هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته(4).

وقال ابن فياض في كتابه: إن زين العابدين أنفذ إليه، وقال: «انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به، فعندنا ما يسعك. فطب نفساً منا ومن كل من يطيعنا».

ص: 131


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص163، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص74، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص161، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
4- بحار الأنوار: ج46 ص94، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح84.

فنادى هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته(1).

عدم التعريف بالنفس

قيل للإمام زين العابدين (عليه السلام) : إذا سافرت كتمت نفسك أهل الرفقة؟. فقال: «أكره أن آخذ برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما لا أعطي مثله»(2).

وقال الإمام السجاد (عليه السلام) : «ما أكلت بقرابتي من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً قط»(3).

احترام الأُم

وقيل للإمام زين العابدين (عليه السلام) : إنك أبر الناس ولا تأكل مع أُمك في قصعة وهي تريد ذلك؟. فقال (عليه السلام) : «أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون عاقاً لها». فكان بعد ذلك يغطي الغضارة بطبق، ويدخل يده من تحت الطبق ويأكل(4).

إزالة الأذى عن طريق

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يمر على المدرة في وسط الطريق، فينزل عن دابته حتى ينحيها بيده عن الطريق(5).

ص: 132


1- بحار الأنوار: ج46 ص94، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح84.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص161، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص161، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
4- بحار الأنوار: ج46 ص93، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح82.
5- الأمالي للطوسي: ص673، المجلس 36، ح1419 / 26.

والمدرة: واحدة المَدَر، قطعة يابسة من الطين.

مع المجذومين

في الكافي: أن علي بن الحسين (عليه السلام) مر على المجذومين - وهو راكب حمار - وهم يتغدون، فدعوه إلى الغداء. فقال: «إني صائم، ولولا أني صائم لفعلت». فلما صار إلى منزله، أمر بطعام فصنع، وأمر أن يتنوقوا فيه، ثم دعاهم فتغدوا عنده، وتغدى معهم(1).

وفي رواية: أنه (عليه السلام) تنزه عن ذلك؛ لأنه كان كسراً من الصدقة، لكونه حراماً عليه(2).

أداء ديون الآخرين

روي أنه احتضر عبد اللّه، فاجتمع غرماؤه فطالبوه بدين لهم. فقال: لا مال عندي أعطيكم، ولكن ارضوا بمن شئتم من ابني عمي: علي بن الحسين، وعبد اللّه بن جعفر. فقال الغرماء: عبد اللّه بن جعفر ملي مطول، وعلي بن الحسين رجل لا مال له صدوق، فهو أحب إلينا. فأرسل إليه فأخبره الخبر. فقال (عليه السلام) : «أضمن لكم المال إلى غلة». ولم تكن له غلة. قال: فقال القوم: قد رضينا. وضمنه، فلما أتت الغلة، أتاح اللّه له المال فأوفاه(3).

مع المسيئين إليه

روي أنه نال من الإمام زين العابدين (عليه السلام) شخص فلم يكلمه، ثم أتى منزله

ص: 133


1- الكافي: ج2 ص123، كتاب الإيمان والكفر، التواضع، ح8.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص163، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص98، أبواب القضايا و الأحكام، باب الحوالة، ح3407.

وصرخ به، فخرج الشخص متوثباً للشر. فقال الإمام (عليه السلام) له: «يا أخي، إن كنت قلت ما فيَّ فأستغفر اللّه منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ يغفر اللّه لك». فقبل الشخص بين عينيه، وقال: بل قلتُ ما ليس فيك، وأنا أحق به(1).

وفي الخبر أنه شتمه آخر، فقال (عليه السلام) : «يا فتى، إن بين أيدينا عقبةً كئوداً، فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحير فيها فأنا شر مما تقول»(2).

وروي أنه سبه (عليه السلام) رجل، فسكت عنه. فقال: إياك أعني. فقال (عليه السلام) : «وعنك أغضي»(3).

وانتهى (عليه السلام) إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم. فقال لهم: «إن كنتم صادقين فغفر اللّه لي، وإن كنتم كاذبين فغفر اللّه لكم»(4).

وجاء رجل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فقال: إن فلاناً قد وقع فيك وآذاك. قال: «فانطلق بنا إليه». فانطلق معه، وهو يرى أنه سينصر لنفسه، فلما أتاه قال له: «يا هذا، إن كان ما قلت فيَّ حقاً فإنه تعالى يغفره لي، وإن كان ما قلت في باطلاً فاللّه يغفره لك»(5).

ص: 134


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص146، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص96، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح84.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص101، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
4- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
5- بحار الأنوار: ج46 ص98، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح86.

إكرام النفس

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) ليبتاع الراحلة بمائة دينار؛ يكرم بها نفسه»(1).

وقال سعيد بن مرجانة: عمد علي بن الحسين إلى عبد له، كان عبد اللّه بن جعفر أعطاه به عشرة آلاف درهم أو ألف دينار، فأعتقه. وخرج زين العابدين (عليه السلام) وعليه مطرف خز، فتعرض له سائل، فتعلق بالمطرف، فمضى وتركه(2).

وفي الكافي: عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: «ما أحب أن لي بذل نفسي حمر النعم»(3).

أي: لا أحب أن أذل نفسي وإن حصلت به على حمر النعم.

الزاهد الراغب

عن زرارة، قال: سمع سائل في جوف الليل وهو يقول: أين الزاهدون في الدنيا؟. أين الراغبون في الآخرة؟. فهتف به هاتف من ناحية البقيع، نسمع صوته ولا نرى شخصه: ذاك علي بن الحسين (عليه السلام) (4).

قبول الهدية

روي أنه أُهدِيَت لعلي بن الحسين (عليه السلام) مستقة من العراق، فكان يلبسها، فإذا

ص: 135


1- المحاسن: ج2 ص639، كتاب المرافق، الباب15، ح146.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص164، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
3- الكافي: ج2 ص109، كتاب الإيمان والكفر، باب كظم الغيظ، ح1.
4- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص144، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

أراد أن يصلي نزعها(1).

التحلي بالنعم

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) في قمة الزهد، و كان يشبه جده أمير المؤمنين (عليه السلام) في لباسه، ومع ذلك كان لا يحرم نفسه من نعم اللّه تعالى، حيث يقول عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}(2).

فأحياناً كان يشتري كساء الخز بخمسين ديناراً، فيشتو فيه ثم يبيعه ويتصدق بثمنه، ويصيف في ثوبين بدينار، ويلبس ما بين ذا وذا من مختلف الملابس، وكان بعضها من الخشونة بحيث لا يطاق لبسها.

وكان (عليه السلام) يعتم ويدهن ويتطيب. عن محمد بن هلال، قال: رأيت علي بن الحسين بن علي يعتم بعمامة، ويرخي عمامته خلف ظهره(3).

قارورة المسك

عن عبد اللّه بن الحارث، قال: كانت لعلي بن الحسين (عليه السلام) قارورة مسك في مسجده، فإذا دخل إلى الصلاة أخذ منه وتمسح به(4).

قطيفة حمراء

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «أن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليه) كان يركب

ص: 136


1- أعيان الشيعة: ج1 ص630، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، صفته في حليته ولباسه.
2- سورة الأعراف:32.
3- أعيان الشيعة: ج2 ص630، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، صفته في حليته ولباسه.
4- الكافي: ج6 ص515، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب المسك، ح6.

على قطيفة حمراء»(1).

أحسن الناس صوتاً بالقرآن

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يستمعون قراءته، وكان أبو جعفر (عليه السلام) أحسن الناس صوتاً»(2).

أشرف الناس

قال عمر بن عبد العزيز يوماً - وقد قام من عنده علي بن الحسين (عليه السلام) -: من أشرف الناس؟ فقالوا: أنتم.

فقال: كلا، فإن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً. من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد(3).

الصبر على المصيبة

روي أنه سمع علي بن الحسين (عليه السلام) واعيةً في بيته - وعنده جماعة - فنهض إلى منزله ثم رجع إلى مجلسه. فقيل له: أ من حدث كانت الواعية؟. قال: «نعم». فعزوه وتعجبوا من صبره. فقال: «إنا أهل بيت نطيع اللّه عز وجل فيما نحب، ونحمده فيما نكره»(4).

نقش الخاتم

كان للإمام زين العابدين (عليه السلام) عدة خواتم، وعلى كل منها نقش:

ص: 137


1- المحاسن: ج2 ص629، كتاب المرافق، الباب13، ح108.
2- الكافي: ج2 ص616، كتاب فضل القرآن، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، ح11.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص167، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في سيادته (عليه السلام) .
4- بحار الأنوار: ج46 ص95، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح84.

قال بعض كان نقش خاتمه: وما توفيقي إلا باللّه.

وقيل: لكل غم حسبي اللّه.

وروي: القوة لله جميعاً(1).

وروي: العزة لله.

وروي: الحمد لله العلي.

وروي: خزي وشقي قاتل الحسين بن علي.

وروي: إن اللّه بالغ أمره.

وفي الكافي: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان في خاتم علي بن الحسين: الحمد لله العلي العظيم»(2).

وفيه أيضاً: عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال: «كان خاتم علي بن الحسين: خزي وشقي قاتل الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهم)»(3).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «كان نقش خاتم الحسين (عليه السلام) : إن اللّه بالغ أمره. وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يتختم بخاتم أبيه الحسين (عليه السلام) »(4)، الخبر.

وعن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «كان نقش خاتم أبي: العزة لله»(5).

ص: 138


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص133، ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
2- الكافي: ج6 ص473، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب نقش الخواتيم، ح2.
3- الكافي: ج6 ص473-474، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب نقش الخواتيم، ح6.
4- الكافي: ج6 ص474، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب نقش الخواتيم، ح8.
5- بحار الأنوار: ج46 ص7، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب1 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح15.

العمل لا البطالة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يشجع على العمل، ويقول: إني أحبه، وكان ينهى عن البطالة.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) يقول: إني لأحب أن أداوم على العمل وإن قل»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: إني لأحب أن أقدم على ربي وعملي مستوٍ»(2).

ص: 139


1- الكافي: ج2 ص83، كتاب الإيمان والكفر، باب استواء العمل والمداومة عليه، ح5.
2- الكافي: ج2 ص82، كتاب الإيمان والكفر، باب استواء العمل والمداومة عليه، ح4.

14

شدة الورع والتقوى

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) أورع وأتقى أهل زمانه.

روي أنه قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحداً أورع من فلان. قال: هل رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) ؟. قال: لا. قال: ما رأيت أورع منه(1).

وروي عن جماعة من السلف، أنهم قالوا: ما رأينا أورع من علي بن الحسين (عليه السلام) (2).

الخوف من اللّه

عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا حضرت الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة»(3).

لا أقترح على ربي

عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: مرضت مرضا شديداً. فقال لي أبي: ما تشتهي؟. فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا أقترح على اللّه ربي سوى

ص: 140


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص80، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.
2- أعيان الشيعة: ج1 ص634، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، مناقبه وفضائله (عليه السلام) .
3- فلاح السائل ونجاح المسائل: ص101، الفصل17، ذكر التوجه.

ما يدبره لي. فقال لي: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل (عليه السلام) حيث قال له جبرئيل: هل من حاجة؟. فقال: لا أقترح على ربي، بل حسبي اللّه ونعم الوكيل»(1).

التوكل على اللّه

عن الثمالي، قال: ذكر عند علي بن الحسين (عليه السلام) غلاء السعر. فقال: «وما عليَّ من غلائه. إن غلا فهو عليه، وإن رخص فهو عليه»(2).

وفي المسجد الحرام

قال طاووس: رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب، يدعو و يبكي في دعائه، فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين (عليه السلام) . فقلت له: يا ابن رسول اللّه، رأيتك على حالة كذا، و لك ثلاثة أرجو أن تؤمنك الخوف: أحدها أنك ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والثاني شفاعة جدك، والثالث رحمة اللّه. فقال: «يا طاووس، أما أني ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا يؤمنني؛ وقد سمعت اللّه تعالى يقول: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}(3). وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني؛ لأن اللّه تعالى يقول: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(4). وأما رحمة اللّه؛ فإن اللّه تعالى يقول: إنها قريبة {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(5)، ولا أعلم أني محسن»(6).

ص: 141


1- الدعوات للراوندي: ص168، الباب3، فصل في صلاة المريض وصلاحه وأدبه ودعائه عند المرض، ح468.
2- الكافي: ج5 ص81،، كتاب المعيشة، باب الإجمال في الطلب، ح7.
3- سورة المؤمنون: 101.
4- سورة الأنبياء: 28.
5- سورة الأعراف: 56.
6- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص108، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

شدة عبادته

سقط للإمام زين العابدين (عليه السلام) ابن في بئر، فتفزع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وكان قائماً يصلي، فما زال عن محرابه. فقيل له في ذلك؟. فقال: «ما شعرت إني كنت أناجي رباً عظيماً»(1).

الإخلاص في العمل

كان للإمام زين العابدين (عليه السلام) ابن عم، يأتيه بالليل متنكراً، فيناوله شيئاً من الدنانير. فيقول: لكن علي بن الحسين لا يواصلني، لا جزاه اللّه عني خيراً. فيسمع ذلك ويتحمله ويصبر عليه، ولا يعرفه بنفسه. فلما مات علي بن الحسين (عليه السلام) فقدها، فحينئذٍ علم أنه هو كان، فجاء إلى قبره وبكى عليه(2).

أورع الناس

قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت رجلاً أورع من فلان. قال: فهل رأيت علي بن الحسين؟. قال: لا. قال: ما رأيت رجلاً أورع منه(3).

ص: 142


1- بحار الأنوار: ج46 ص100، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح88.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، باب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص80، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وأما مناقبه ومزاياه وصفاته.

15

زهد الإمام

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قمة في الزهد وترك الدنيا.

قيل للزهري: من أزهد الناس في الدنيا؟.

قال: علي بن الحسين (عليه السلام) .

ثم ذكر الزهري حديثاً جاء فيه:

قال (عليه السلام) : «ويحك أ في حرم اللّه أسأل غير اللّه عز وجل! إني آنف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي!»(1).

عن سفيان بن عيينة، قال: رأى الزهري علي بن الحسين (عليه السلام) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وحطب، وهو يمشي. فقال له: يا ابن رسول اللّه، ما هذا؟. قال: «أريد سفراً، أعد له زاداً أحمله إلى موضع حريز». فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك. فأبى، قال: أنا أحمله عنك؛ فإني أرفعك عن حمله. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه. أسألك بحق اللّه لما مضيت لحاجتك وتركتني». فانصرفت عنه، فلما كان بعد أيام. قلت له: يا ابن رسول اللّه، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً!. قال: «بلى يا زهري، ليس ما ظننته

ص: 143


1- علل الشرائع: ج1 ص230، الباب165، ح3.

ولكنه الموت، وله كنت أستعد، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام، وبذل الندى والخير»(1).

وقيل لعلي بن الحسين (عليهما السلام) : كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟. قال: «أصبحت مطلوباً بثمان: اللّه تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (عليه السلام) بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب»(2).

وقال ابن شهر آشوب: وكفاك في زهده الصحيفة الكاملة، والندب المروية عنه (عليه السلام) ، فمنها ما روى الزهري عنه (عليه السلام) : «يَا نَفْسُ حَتَّامَ إِلَى الْحَيَاةِ سُكُونُكِ، وَإِلَى الدُّنْيَا رُكُونُكِ. أَمَا اعْتَبَرْتِ بِمَنْ مَضَى فِي أَسْلاَفِكِ، وَمَنْ وَارَتْهُ الأَرْضُ مِنْ أُلاَّفِكِ، وَمَنْ فُجِّعْتِ بِهِ مِنْ إِخْوَانِكِ».

ومنها ما روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «حَتَّى مَتَى تَعِدُنِي الدُّنْيَا فَتُخْلِفُ، وَأَئْتَمِنُهَا فَتَخُونُ، وَأَسْتَنْصِحُهَا فَتَغُشُّ. لاَ تُحْدِثُ جَدِيدَةً إِلاَّ تَخْلُقُ مِثْلَهَا، وَلاَ تَجْمَعُ شَمْلاً إِلاَّ بِتَفْرِيقِ بَيْنٍ، حَتَّى كَأَنَّهَا غَيْرِي، أَوْ مُحْتَجِبَةٌ تُغَارُ عَلَى الآلاَفِ، وَتُحْسَدُ أَهْلُ النِّعَمِ».

ومنها ما روى سفيان بن عيينة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «أَيْنَ السَّلَفُ الْمَاضُونَ، وَالأَهْلُ وَالأَقْرَبُونَ، وَالأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، طَحَنَتْهُمْ وَاللّهِ الْمَنُونُ، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ السِّنُونَ، وَفَقَدَتْهُمُ الْعُيُونُ، وَإِنَّا إِلَيْهِمْ لَصَائِرُونَ، وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»(3).

ص: 144


1- علل الشرائع: ج1 ص231، الباب165، ح5.
2- الأمالي للطوسي: ص641، المجلس32، ح1330 / 16.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص152، في زهده (عليه السلام) .

بين الزهد والاستفادة من النعم

ثم إن الزهد لا ينافي الاستفادة من النعم الإلهية، فالإمام (عليه السلام) على زهده وإنفاق أمواله في سبيل اللّه، كان أحياناً يلبس الملابس الفاخرة لمصلحة أهم، ثم يتصدق بها أو بثمنها.

في الكافي: عن سليمان بن راشد، عن أبيه، قال: «رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) وعليه دراعة سوداء، وطيلسان أزر»(1).

وعن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) يلبس الجبة الخز بخمسين ديناراً، والمطرف الخز بخمسين ديناراً»(2).

وعن الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يلبس في الشتاء الجبة الخز، والمطرف الخز، والقلنسوة الخز، فيشتو فيه. ويبيع المطرف في الصيف، ويتصدق بثمنه، ثم يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(3)»(4).

وعن جعفر بن بشير، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كانت لعلي بن الحسين (عليه السلام) وسائد وأنماط فيها تماثيل، يجلس عليها»(5).

ص: 145


1- الكافي: ج6 ص449، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب لبس السواد، ح3.
2- وسائل الشيعة: ج4 ص364، كتاب الصلاة، الباب10 من أبواب لباس المصلي، ح5399.
3- سورة الأعراف:32.
4- بحار الأنوار: ج46 ص106، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح98.
5- الكافي: ج6 ص477، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب الفرش، ح4.

16

علم المعصوم

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) أعلم أهل زمانه، فهو حجة اللّه على الخلق، وقد عصمه الباري عز وجل من الخطأ، وله العلم اللدني كما لسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) .

سُئل علي بن الحسين (عليه السلام) : بأي حكم تحكمون؟. قال: «بحكم آل داود، فإن عيينا عن شيء تلقانا به روح القدس»(1).

وفي بصائر الدرجات، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إن الحسين (عليه السلام) لما حضره الذي حضره، دعا ابنته الكبرى فاطمة، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً، ووصيةً ظاهرةً، ووصيةً باطنةً، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) مبطوناً لا يرون إلا أنه لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين، ثم صار ذلك الكتاب إلينا. فقلت: فما في ذلك الكتاب؟. فقال: فيه واللّه جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا»(2).

وقال المفيد: إنه قد روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يحصى كثرة، وحفظ

ص: 146


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص113، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص148، الباب13، ح9.

عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام، ما هو مشهور بين العلماء(1).

وفي مناقب ابن شهرآشوب: قلما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه: قال علي بن الحسين، أو قال زين العابدين(2).

وروى المفيد في الإرشاد: بسنده، عن عبد اللّه بن الحسين بن الحسن، قال: كانت أمي فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين (عليه السلام) ، فما جلست إليه قط إلا قمت بخير قد أفدتُه، إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله، أو علم قد استفدته منه(3).

علم الغيب

عن عبد الصمد بن علي، قال: دخل رجل على علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال له علي بن الحسين: «من أنت؟». قال: أنا منجم. قال: «فأنت عراف». قال: فنظر (عليه السلام) إليه ثم قال: ... إن شئت أنبأتك بما أكلت وما ادخرت في بيتك»(4).

وقال (عليه السلام) - في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ}(5) -: «لولا هذه الآية

ص: 147


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص153، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص161، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص140، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
4- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص400-401، الباب12، ح13.
5- سورة الرعد: 39.

لأخبرتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة»(1).

الكتابة الرومية

عن داود بن فرقد، قال ذكر عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) قتل الحسين (عليه السلام) ، وأمر ابنه في حمله إلى الشام. فقال: «إنه لما ورد إلى السجن، قال بعض من فيه لبعض: ما أحسن بنيان هذا الجدار. وكان عليه كتابة بالرومية، فقرأها علي بن الحسين (عليه السلام) ، فتراطن الروم بينهم، وقالوا: ما في هؤلاء من هو أولى بدم المقتول من هذا، يعنون علي بن الحسين (عليه السلام) »(2).

من أين هذا العسل

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن علي بن الحسين (عليه السلام) أتي بعسل فشربه. فقال: واللّهِ إني لأعلم من أين هذا العسل، وأين أرضه، وإنه ليمتار [أي يجلب] من قرية كذا وكذا»(3).

الإخبار عن المستقبل

عن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: «إذا بنى بنو العباس مدينةً على شاطئ الفرات، كان بقاؤهم بعدها سنةً»(4).

فقه الصوم

في كشف الغمة: عن الزهري، قال: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) .

ص: 148


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص159، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص754، الباب15، ح72.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص505، الباب18، ح1.
4- كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص655، الباب57، ح26.

فقال: «يا زهري فيم كنتم؟».

قال: تذاكرنا الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب إلا صوم شهر رمضان.

فقال: «يا زهري، ليس كما قلتم. الصوم على أربعين وجهاً، منها عشرة واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشر خصال منها حرام، وأربع عشرة خصلة صاحبها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، فصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب».

قال: قلت: فسرهن لي يا ابن رسول اللّه؟.

قال (عليه السلام) : «أما الواجب: فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، قال اللّه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً}(1) الآية، وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال اللّه تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}(2) الآية، وصيام حلق الرأس، قال اللّه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}(3) الآية، وصاحبه بالخيار إن شاء صام ثلاثاً، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال اللّه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}(4) الآية، وصوم جزاء الصيد، قال اللّه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}(5) الآية، وإنما يقوّم الصيد قيمة ثم يفض ذلك الثمن على الحنطة.

ص: 149


1- سورة النساء: 92.
2- سورة المائدة: 89.
3- سورة البقرة: 196.
4- سورة البقرة: 196.
5- سورة المائدة: 95.

وأما الذي صاحبه بالخيار: فصوم الاثنين والخميس، وستة أيام عن شوال بعد رمضان، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء(1)، كل ذلك صاحبه بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر.

وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة.

وأما صوم الحرام: فصوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك نهينا أن نصومه لرمضان، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه. قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : من نزل على قوم فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم. ويؤمر الصبي بالصوم إذا لم يراهق تأديباً ليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار، ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك، وذلك تأديب اللّه ليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك.

وأما صوم الإباحة: فمن أكل أو شرب ناسياً بغير تعمد، فقد أبيح له ذلك وأجزأه عن صومه. وأما صوم المريض وصوم المسافر، فإن العامة اختلف فيه، فقال قوم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر. وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء، قال اللّه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(2)» إلى آخر كلامه(3).

ص: 150


1- سيأتي كراهة صوم عاشوراء، وأن المستحب هو الإمساك لبعض الوقت.
2- سورة البقرة: 184 و185.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص103-105، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

أقول: صوم عاشوراء مكروه كما ورد في سائر الروايات وبينه الفقهاء. نعم، يحبذ الإمساك حزناً لا بنية الصوم، بل بنية المواساة لسيد الشهداء (عليه السلام) إلى بعد العصر كما في الرواية(1).

لا للقنوط

علَّم الإمام زين العابدين (عليه السلام) الزهري كيف ينجو من الدم الذي أصابه، وخلَّصه من ورطة الوقوع في القنوط.

ورد أن الزهري رأى في منامه كأن يده مخضوبة غمسةً، فعبرها فقيل: إنك تبتلى بدم خطأً. قال: وكان عاملاً لبني أمية، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة. فخرج هارباً وتوحش، ودخل إلى غار، وطال شعره. قال: وحج علي بن الحسين (عليه السلام) ، فقيل له: هل لك في الزهري. قال: «إن لي فيه». قال أبو العباس: هكذا كلام العرب إن لي فيه، لا يقال غيره. قال: فدخل عليه. فقال له: «إني أخاف عليك من قنوطك، ما لا أخاف عليك من ذنبك. فابعث بدية مسلمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك».

قال: فقال: فرجت عني يا سيدي. واللّه عز وجل وتبارك وتعالى أعلم حيث يجعل رسالاته. وكان الزهري بعد ذلك يقول: ينادي مناد في القيامة: ليقم سيد

ص: 151


1- راجع وسائل الشيعة: ج10 ص458، الباب20، ح13844، وفيه: عن عبد اللّه بن سنان، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ (عليه السلام) يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَدُمُوعُهُ تَنْحَدِرُ عَلَى عَيْنَيْهِ كَاللُّؤْلُؤِ الْمُتَسَاقِطِ. فَقُلْتُ: مِمَّ بُكَاؤُكَ؟!. فَقَالَ: «أَ فِي غَفْلَةٍ أَنْتَ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحُسَيْنَ (عليه السلام) أُصِيبَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ». فَقُلْتُ: مَا قَوْلُكَ فِي صَوْمِهِ؟. فَقَالَ لِي: «صُمْهُ مِنْ غَيْرِ تَبْيِيتٍ، وَأَفْطِرْهُ مِنْ غَيْرِ تَشْمِيتٍ، وَلاَ تَجْعَلْهُ يَوْمَ صَوْمٍ كَمَلاً، وَلْيَكُنْ إِفْطَارُكَ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ بِسَاعَةٍ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَجَلَّتِ الْهَيْجَاءُ عَنْ آلِ رَسُولِ اللّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم) »، الحديث.

العابدين في زمانه، فيقوم علي بن الحسين (عليه السلام) (1).

ص: 152


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص105-106، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

17

الفصاحة والبلاغة

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) أفصح أهل زمانه وأبلغهم.

وهناك خطب وأدعية وروايات كثيرة للإمام زين العابدين (عليه السلام) تدل على ذلك، كخطبه بالكوفة والشام والمدينة وغيرها.

أما الصحيفة السجادية وغيرها من الأدعية ففيها: من بديع المعاني، وفصيح الألفاظ، وبليغ التراكيب، وجميل المحاورات، ولطيف العبارات، ما يعجز عن مثله الفصحاء والبلغاء.

فصاحة الصحيفة

روي أنه ذكر فصاحة الصحيفة الكاملة عند بليغ في البصرة. فقال: خذوا عني حتى أملي عليكم. وأخذ القلم وأطرق رأسه، فما رفعه حتى مات(1).

ص: 153


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص137، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

18

العقائد الحقة

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يبين للناس العقائد الحقة مما يرتبط بأصول الدين، ومعرفة الباري، وبيان صفات جماله وجلاله، والنبوة والإمامة والمعاد، عبر الأدعية وغيرها.

عن الثمالي، قال: رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) قاعداً، واضعاً إحدى رجليه على فخذه. فقلت: إن الناس يكرهون هذه الجلسة، ويقولون: إنها جلسة الرب. فقال: «إني إنما جلست هذه الجلسة للملالة، والرب لا يمل، ولا تأخذه سنة ولا نوم»(1).

معرفة اللّه

عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) إذا قام في الصلاة غشي لونه لون آخر؟!. فقال لي: «واللّهِ إن علي بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه»(2).

التوحيد و الصفات الربانية

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض أدعيته:

ص: 154


1- الكافي: ج2 ص661، كتاب العشرة، باب الجلوس، ح2.
2- علل الشرائع: ج1 ص231، الباب165، ح7.

«الْحَمْدُ للهِ الأَوَّلِ بِلا أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَالآخِرِ بِلا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ، الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوْهَامُ الْوَاصِفِينَ، ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الْخَلْقَ ابْتِدَاعاً، وَاخْتَرَعَهُمْ عَلَى مَشِيَّتِهِ اخْتِرَاعاً، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إِرَادَتِهِ، وَبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ، لاَ يَمْلِكُونَ تَأْخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إِلَيْهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَقَدُّماً إِلَى مَا أَخَّرَهُمْ عَنْهُ، وَجَعَلَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْهُمْ قُوتاً مَعْلُوماً مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِهِ، لاَ يَنْقُصُ مَنْ زَادَهُ نَاقِصٌ، وَلاَ يَزِيدُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُمْ زَائِدٌ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ أَجَلاً مَوْقُوتاً، وَنَصَبَ لَهُ أَمَداً مَحْدُوداً، يَتَخَطَّى إِلَيْهِ بِأَيَّامِ عُمُرِهِ، وَيَرْهَقُهُ بِأَعْوَامِ دَهْرِهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ، وَاسْتَوْعَبَ حِسَابَ عُمُرِهِ، قَبَضَهُ إِلَى مَا نَدَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَوْفُورِ ثَوَابِهِ، أَوْ مَحْذُورِ عِقَابِهِ، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}(1)، عَدْلاً مِنْهُ، تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَظاهَرَتْ آلاَؤُهُ، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(2)»، إلى آخر الدعاء(3).

وكان من دعائه (عليه السلام) :

وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَكَ الإِفْضَالُ، وَعَادَتَكَ الإِحْسَانُ، وَسَبِيلَكَ الْعَفْوُ، فَكُلُّ الْبَرِيَّةِ مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّكَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِمَنْ عَاقَبْتَ، وَشَاهِدَةٌ بِأَنَّكَ مُتَفَضَّلٌ عَلَى مَنْ عَافَيْتَ، وَكُلٌّ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ عَمَّا اسْتَوْجَبْتَ، إلى أن يقول (عليه السلام) : فَتَبَارَكْتَ أَنْ تُوصَفَ إِلاَّ بِالإِحْسَانِ، وَكَرُمْتَ أَنْ يُخَافَ مِنْكَ إِلاَّ الْعَدْلُ، لاَ يُخْشَى جَوْرُكَ عَلَى مَنْ عَصَاكَ، وَلاَ يُخَافُ إِغْفَالُكَ ثَوَابَ مَنْ أَرْضَاكَ»(4).

ص: 155


1- سورة النَّجم: 31.
2- سورة الأنبياء: 23.
3- الصحيفة السجادية: الدعاء 1.
4- الصحيفة السجادية: الدعاء 37.

نبويات

كان من دعائه (عليه السلام) في الصلاة على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) :

«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَليْنَا بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم) دُونَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ، بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لاَ تَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ عَظُمَ، وَلاَ يَفُوتُهَا شَيْءٌ وَإِنْ لَطُفَ. فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ ذَرَأَ، وَجَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ، وَكَثَّرَنَا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَلَّ. اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ، وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إِمَامِ الرَّحْمَةِ، وَقَائِدِ الْخَيْرِ، وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ؛ كَمَا نَصَبَ لأَمْرِكَ نَفْسَهُ، وَعَرَّضَ فِيكَ لِلْمَكْرُوهِ بَدَنَهُ، وَكَاشَفَ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْكَ حَامَّتَهُ، وَحَارَبَ فِي رِضَاكَ أُسْرَتَهُ، وَقَطَعَ فِي إِحْيَاءِ دِينِكَ رَحِمَهُ، وَأَقْصَى الأَدْنَيْنَ عَلَى جُحُودِهِمْ، وَقَرَّبَ الأَقْصَيْنَ عَلَى اسْتِجَابَتِهِمْ لَكَ، وَوَالَى فِيكَ الأَبْعَدِينَ، وَعَادَى فِيكَ الأَقْرَبِينَ، وَأَدْأَبَ نَفْسَهُ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِكَ، وَأَتْعَبَهَا بِالدُّعَاءِ إِلَى مِلَّتِكَ، وَشَغَلَهَا بِالنُّصْحِ لأَهْلِ دَعْوَتِكَ، وَهَاجَرَ إِلَى بِلاَدِ الْغُربَةِ، وَمَحَلِّ النَّأْيِ عَنْ مَوْطِنِ رَحْلِهِ، وَمَوْضِعِ رِجْلِهِ، وَمَسْقَطِ رَأْسِهِ، وَمَأْنَسِ نَفْسِهِ؛ إِرَادَةً مِنْهُ لإِعْزَازِ دِينِكَ، وَاسْتِنْصَاراً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِكَ، حَتَّى اسْتَتَبَّ لَهُ مَا حَاوَلَ فِي أَعْدَائِكَ، وَاسْتَتَمَّ لَهُ مَا دَبَّرَ فِي أَوْلِيَائِكَ، فَنَهَدَ إِلَيْهِمْ مُسْتَفْتِحاً بِعَوْنِكَ، وَمُتَقَوِّياً عَلَى ضَعْفِهِ بِنَصْرِكَ، فَغَزَاهُمْ فِي عُقْرِ دِيَارِهِمْ، وَهَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي بُحْبُوحَةِ قَرَارِهِمْ، حَتَّى ظَهَرَ أَمْرُكَ، وَعَلَتْ كَلِمَتُكَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. اللَّهُمَّ فَارْفَعْهُ بِمَا كَدَحَ فِيكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ جَنَّتِكَ، حَتَّى لاَ يُسَاوَى فِي مَنْزِلَةٍ، وَلاَ يُكَافَأَ فِي مَرْتَبَةٍ، وَلاَ يُوَازِيَهُ لَدَيْكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَعَرِّفْهُ فِي أَهْلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حُسْنِ الشَّفَاعَةِ أَجَلَّ مَا وَعَدْتَهُ. يَا نَافِذَ الْعِدَةِ، يَا وَافِيَ الْقَوْلِ، يَا مُبَدِّلَ السَّيِّئَاتِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ

ص: 156

الْعَظِيمِ»(1).

إمامة و معاد

كان من دعائه (عليه السلام) في يوم عرفة:

«اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ دِينَكَ فِي كُلِّ أَوَانٍ بِإِمَامٍ أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ، وَمَنَاراً فِي بِلاَدِكَ بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ الذَّرِيعَةَ إِلَى رِضْوَانِكَ، وَافْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَالانْتِهَاءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَلاَّ يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلاَ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ. فَهُوَ عِصْمَةُ اللاَّئِذِينَ، وَكَهْفُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُرْوَةُ الْمُتَمَسِّكِينَ، وَبَهَاءُ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ فَأَوْزِعْ لِوَلِيِّكَ شُكْرَ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَوْزِعْنَا مِثْلَهُ فِيهِ، وَآتِهِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسِيراً، وَأَعِنْهُ بِرُكْنِكَ الأَعَزِّ، وَاشْدُدْ أَزْرَهُ، وَقَوِّ عَضُدَهُ، وَرَاعِهِ بِعَيْنِكَ، وَاحْمِهِ بِحِفْظِكَ، وَانْصُرْهُ بِمَلاَئِكَتِكَ، وَامْدُدْهُ بِجُنْدِكَ الأَغْلَبِ، وَأَقِمْ بِهِ كِتَابَكَ وَحُدُودَكَ وَشَرَائِعَكَ، وَسُنَنَ رَسُولِكَ (صَلَوَاتُكَ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَأَحْيِ بِهِ مَا أَمَاتَهُ الظَّالِمُونَ مِنْ مَعَالِمِ دِينِكَ، وَاجْلُ بِهِ صَدَاءَ الْجَوْرِ عَنْ طَرِيقَتِكَ، وَأَبِنْ بِهِ الضَّرَّاءَ مِنْ سَبِيلِكَ، وَأَزِلْ بِهِ النَّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِكَ، وَامْحَقْ بِهِ بُغَاةَ قَصْدِكَ عِوَجاً، وَأَلِنْ جَانِبَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَابْسُطْ يَدَهُ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَهَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَتَعَطُّفَهُ وَتَحَنُّنَهُ، وَاجْعَلْنَا لَهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، وَفِي رِضَاهُ سَاعِينَ، وَإِلَى نُصْرَتِهِ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُ مُكْنِفِينَ، وَإِلَيْكَ وَإِلَى رَسُولِكَ (صَلَوَاتُكَ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بِذَلِكَ مُتَقَرِّبِينَ»، الدعاء(2).

ص: 157


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 36.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء 47.

وكان من دعائه (عليه السلام) :

«اللَّهُمَّ إِلَى مَغْفِرَتِكَ وَفَدْتُ، وَإِلَى عَفْوِكَ قَصَدْتُ، وَإِلَى تَجَاوُزِكَ اشْتَقْتُ، وَبِفَضْلِكَ وَثِقْتُ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا يُوجِبُ لِي مَغْفِرَتَكَ، وَلاَ فِي عَمَلِي مَا أَسْتَحِقُّ بِهِ عَفْوَكَ، وَمَا لِي بَعْدَ أَنْ حَكَمْتُ عَلَى نَفْسِي إِلاَّ فَضْلُكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ. اللَّهُمَّ وَأَنْطِقْنِي بِالْهُدَى، وَأَلْهِمْنِي التَّقْوَى، وَوَفِّقْنِي لِلَّتِي هِيَ أَزْكَى، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا هُوَ أَرْضَى. اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِيَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى، وَاجْعَلْنِي عَلَى مِلَّتِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَمَتِّعْنِي بِالاقْتِصَادِ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ السَّدَادِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الرَّشَادِ، وَمِنْ صَالِحِ الْعِبَادِ، وَارْزُقْنِي فَوْزَ الْمَعَادِ، وَسلاَمَةَ الْمِرْصَادِ. اللَّهُمَّ خُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِي مَا يُخَلِّصُهَا، وَأَبْقِ لِنَفْسِي مِنْ نَفْسِي مَا يُصْلِحُهَا، فَإِنَّ نَفْسِي هَالِكَةٌ أَوْ تَعْصِمَهَا. اللَّهُمَّ أَنْتَ عُدَّتِي إِنْ حَزِنْتُ، وَأَنْتَ مُنْتَجَعِي إِنْ حُرِمْتُ، وَبِكَ اسْتِغَاثَتِي إِنْ كَرِثْتُ، وَعِنْدَكَ مِمَّا فَاتَ خَلَفٌ، وَلِمَا فَسَدَ صَلاَحٌ، وَفِيمَا أَنْكَرْتَ تَغْيِيرٌ، فَامْنُنْ عَلَيَّ قَبْلَ الْبَلاَءِ بِالْعَافِيَةِ، وَقَبْلَ الْطَّلَبِ بِالْجِدَةِ، وَقَبْلَ الضَّلاَلِ بِالرَّشَادِ، وَاكْفِنِي مَئُونَةَ مَعَرَّةِ الْعِبَادِ، وَهَبْ لِي أَمْنَ يَوْمِ الْمَعَادِ، وَامْنَحْنِي حُسْنَ الإِرْشَادِ»، الدعاء(1).

ص: 158


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 20.

19

القرآن الكريم

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يؤكد على القرآن الكريم ودوره في الحياة، فكان يقرأ القرآن، وينشر علوم القرآن بين الناس عبر الدعاء وغيره بما تتاح له الفرصة.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته»(1).

أما اليوم فقد ترك المسلمون قراءة القرآن والعمل به، فتأخروا هذا التأخر الكبير.

قال علي (عليه السلام) : «اللّه، اللّه في القرآن! لا يسبقنكم بالعمل به غيركم»(2).

لا وحشة مع القرآن

عن الزهري، قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت؛ بعد أن يكون القرآن معي»(3).

ص: 159


1- الكافي: ج2 ص616، كتاب فضل القرآن، ترتيل القرآن بالصوت الحسن، ح11.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 47، ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).
3- تفسير العياشي: ج1 ص23، سورة الفاتحة الآيات 3 إلى 7، ح23.

20

رواية الحديث

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يروي للناس عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعن أمير المؤمنين وعن الحسن والحسين (عليهم السلام) ، أحاديثهم الشريفة، ويبين لهم سيرتهم العطرة؛ ليتخذهم الناس أسوة حسنة ويقتدوا بهم.

عن علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليهما السلام) ، أنهما ذكرا وصية علي (عليه السلام) ، وساقا الحديث إلى أن قالا:

قال (عليه السلام) : «أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يَدَّعِي قِبَلِي جَوْراً فِي حُكْمٍ، أَوْ ظُلْماً فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، فَلْيَقُمْ أُنْصِفْهُ مِنْ ذَلِكَ.

فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً حَسَناً، وَأَطْرَاهُ وَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ فِي كَلاَمٍ طَوِيلٍ.

فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) : أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُتَكَلِّمُ، لَيْسَ هَذَا حِينَ إِطْرَاءٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَنِي أَحَدٌ فِي هَذَا الْمَحْضَرِ بِغَيْرِ النَّصِيحَةِ. وَاللّهُ الشَّاهِدُ عَلَى مَنْ رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلَمْ يُعْلِمْنِيهِ؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْتَعْتِبَ مِنْ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ تَفُوتَ نَفْسِي - إلى أن قال (عليه السلام) -:

أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْكُمْ أَلاَّ يَقُومَ أَحَدٌ فَيَقُولَ: أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ فَخِفْتُ، فَقَدْ أَعْذَرْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يُرِيدُ ظُلْمِي،

ص: 160

وَالدَّعْوَى قِبَلِي بِمَا لَمْ أَجُرْ. أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحِلَّ مِنْ أَحَدٍ مَالاً، وَلَمْ أَسْتَحِلَّ مِنْ أَحَدٍ دَماً بِغَيْرِ حَقٍّ.

إلى أن قالا (عليهما السلام) : ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا عَدُوَّكَ الرَّجِيمَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، وَأَنْتَ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَدَدَ نَعْمَائِكَ لَدَيَّ، وَإِحْسَانِكَ عِنْدِي، فَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عُدَّةً لِهَذَا الْمَوْقِفِ، وَلِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَوَاقِفِ. اللَّهُمَّ اجْزِ مُحَمَّداً مِنَّا أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، وَبَلِّغْهُ مِنَّا أَفْضَلَ السَّلاَمِ. اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِهِ، وَلاَ تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: حَفِظَكُمُ اللّهُ وَحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ، وَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللّهَ، وَأَقْرَأَ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ، حَتَّى قُبِضَ (عليه السلام) »(1).

ص: 161


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص129-130، تتمة كتاب الطهارة، الباب29 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح1618.

21

ولائيات

وسائط الرزق

عن أبي حمزة، قال: كنت عند علي بن الحسين (عليه السلام) ، وعصافير على الحائط قبالته يصحن. فقال: «يا أبا حمزة، أ تدري ما يقلن؟ - قال - يتحدثن أن لهن وقتاً يسألن فيه قوتهن. يا أبا حمزة، لا تنامن قبل طلوع الشمس؛ فإني أكرهها لك. إن اللّه يقسم في ذلك الوقت أرزاق العباد، وعلى أيدينا يجريها»(1).

السير في العوالم

عن عبد الصمد بن علي، قال: دخل رجل على علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال له علي بن الحسين: «من أنت؟». قال: أنا منجم. قال: «فأنت عراف». قال: فنظر (عليه السلام) إليه ثم قال: «هل أدلك على رجل قد مر مذ دخلت علينا في أربعة عشر عالماً، كل عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرات لم يتحرك من مكانه». قال: من هو؟!. قال: «أنا، وإن شئت أنبأتك بما أكلت وما ادخرت في بيتك»(2).

نومهم كيقظتهم

روي أن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «رأيت في النوم كأني أتيت بقعب لبن

ص: 162


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص343، الباب14، ح9.
2- بحار الأنوار: ج46 ص26-27، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح12.

فشربته، فأصبحت من غد، فجاشت نفسي فتقيأت لبناً قليلاً، وما لي به عهد منذ حين ومنذ أيام»(1).

وروي أن أبا بصير، قال: حدثني الباقر (عليه السلام) أن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: «رأيت الشيطان في النوم فواثبني، فرفعت يدي فكسرت أنفه، فأصبحت وأنا على ثوبي كرش دم»(2).

شيعتنا على ملة أبراهيم

عن حبابة الوالبية، قالت: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) ، وكان بوجهي وضح. فوضع يده عليه فذهب، قالت: ثم قال: «يا حبابة، ما على ملة إبراهيم غيرنا وغير شيعتنا، وسائر الناس منها براء»(3).

نزول الملائكة في بيوتهم

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي، قال: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) ، فاحتبست في الدار ساعةً، ثم دخلت البيت وهو يلتقط شيئاً، وأدخل يده من وراء الستر فناوله من كان في البيت. فقلت: جعلت فداك، هذا الذي أراك تلتقط أي شيء هو؟. فقال: «فضلة من زغب الملائكة». فقلت: جعلت فداك، وإنهم ليأتونكم!. فقال: «يا أبا حمزة، إنهم ليزاحمونا على تكأتنا»(4).

ص: 163


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص584، الباب14، في أعلام الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح2.
2- الخرائج والجرائح: ج2 ص584، الباب14، في أعلام الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح3.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص132، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .
4- الكافي: ج1 ص393-394، كتاب الحجة، باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار (عليهم السلام) ، ح3.

وارث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)

قال أبو خالد الكابلي: أتيت علي بن الحسين (عليه السلام) على أن أسأله هل عندك سلاح رسول اللّه، فلما بصر بي قال: «يا أبا خالد، أ تريد أن أريك سلاح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟». قلت: واللّهِ يا ابن رسول اللّه ما أتيت إلا لأسألك عن ذلك، ولقد أخبرتني بما في نفسي.

قال: «نعم». فدعا بحق كبير وسفط، فأخرج لي خاتم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم أخرج لي درعه، وقال: «هذا درع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ». وأخرج إليَّ سيفه، وقال: «هذا واللّه ذو الفقار». وأخرج عمامته، وقال: «هذه السحاب». وأخرج رايته، وقال: «هذه العقاب». وأخرج قضيبه، وقال: «هذا السكب». وأخرج نعليه، وقال: «هذان نعلا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ». وأخرج رداءه، وقال: «هذا كان يرتدي به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويخطب أصحابه فيه يوم الجمعة». وأخرج لي شيئاً كثيراً، قلت: حسبي جعلني اللّه فداك(1).

هذا علي بن الحسين (عليه السلام)

إبراهيم بن أدهم، وفتح الموصلي، قال كل واحد منهما: كنت أسيح في البادية مع القافلة، فعرضت لي حاجة، فتنحيت عن القافلة، فإذا أنا بصبي يمشي. فقلت: سبحان اللّه! بادية بيداء وصبي يمشي. فدنوت منه وسلمت عليه، فرد عليَّ السلام. فقلت له: إلى أين؟. قال: «أريد بيت ربي». فقلت: حبيبي إنك صغير ليس عليك فرض ولا سنة. فقال: «يا شيخ، ما رأيت من هو أصغر سناً مني مات». فقلت: أين الزاد والراحلة؟. فقال: «زادي تقواي، وراحلتي

ص: 164


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص135، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

رجلاي، وقصدي مولاي». فقلت: ما أرى شيئاً من الطعام معك؟. فقال: «يا شيخ، هل يستحسن أن يدعوك إنسان إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام». قلت: لا. قال: «الذي دعاني إلى بيته، هو يطعمني ويسقيني». فقلت: ارفع رجلك حتى تدرك. فقال: «عليَّ الجهاد وعليه الإبلاغ، أ ما سمعت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(1). قال: فبينا نحن كذلك، إذ أقبل شاب حسن الوجه، عليه ثياب بيض حسنة، فعانق الصبي وسلَّم عليه، فأقبلت على الشاب وقلت له: أسألك بالذي حسَّن خلقك من هذا الصبي؟. فقال: أ ما تعرفه هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فتركت الشاب، وأقبلت على الصبي. وقلت: أسألك بآبائك من هذا الشاب؟. فقال: «أ ما تعرفه هذا أخي الخضر، يأتينا كل يوم فيسلم علينا». فقلت: أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟. قال: «بل أجوز بزاد، وزادي فيها أربعة أشياء». قلت: وما هي؟. قال: «أرى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة اللّه، وأرى الخلق كلهم عبيد اللّه وإماءه وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق بيد اللّه، وأرى قضاء اللّه نافذاً في كل أرض اللّه». فقلت: نعم الزاد زادك يا زين العابدين، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة، فكيف مفاوز الدنيا(2).

مع الجن

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال: «خرج أبو محمد علي بن الحسين (عليه السلام) إلى مكة، في جماعة من مواليه، وناس من سواهم. فلما بلغ عسفان، ضرب مواليه

ص: 165


1- سورة العنكبوت:69.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص137-138، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

فسطاطه في موضع منها، فلما دنا علي بن الحسين (عليه السلام) من ذلك الموضع. قال لمواليه: كيف ضربتم في هذا الموضع، وهذا موضع قوم من الجن هم لنا أولياء ولنا شيعة، وذلك يضر بهم ويضيق عليهم. فقلنا: ما علمنا ذلك. وعمدوا إلى قلع الفسطاط، وإذا هاتف نسمع صوته ولا نرى شخصه، وهو يقول: يا ابن رسول اللّه، لا تحول فسطاطك من موضعه؛ فإنا نحتمل لك ذلك، وهذا اللطف قد أهديناه إليك، ونحب أن تنال منه لنسر بذلك، فإذا جانب الفسطاط طبق عظيم، وأطباق معه فيها عنب ورمان وموز وفاكهة كثيرة، فدعا أبو محمد (عليه السلام) من كان معه فأكل، وأكلوا من تلك الفاكهة»(1).

بما ذا فُضّلنا؟

روي أن رجلاً قال لعلي بن الحسين (عليه السلام) : بما ذا فضلنا على أعدائنا، وفيهم من هو أجمل منا؟. فقال له الإمام (عليه السلام) : «أ تحب أن ترى فضلك عليهم». فقال: نعم. فمسح يده على وجهه، وقال: «انظر». فنظر فاضطرب وقال: جعلت فداك، ردني إلى ما كنت؛ فإني لم أر في المسجد إلاّ دباً وقرداً وكلباً. فمسح يده على وجهه، فعاد إلى حاله(2).

ص: 166


1- بحار الأنوار: ج46 ص45، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح45.
2- مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين (عليه السلام) : ص138، علم آل محمد للغيب، الفصل السادس في أسرار علي بن الحسين (عليهما السلام) .

22

الشعائر الحسينية

اشارة

الإمام زين العابدين (عليه السلام) وأخته العقيلة زينب (عليها السلام) هما اللذان حملا رسالة عاشوراء إلى العالم، وذلك بعد فاجعة الطف، فكان في كل مناسبة يذكر أباه الحسين (عليه السلام) وأنه قُتل مظلوماً. وكان يبكي عليه بكاءً كثيراً يستغرب الناس من ذلك، ولم يترك البكاء إلى أن توفي مسموماً شهيداً.

كثرة البكاء

عن أبي حمزة الثمالي، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «سُئل علي بن الحسين (عليه السلام) عن كثرة بكائه؟. فقال: لا تلوموني؛ فإن يعقوب فقد سبطاً من ولده، فبكى حتى ابيضت عيناه، ولم يعلم أنه مات. وقد نظرتُ إلى أربعة عشرة رجلاً من أهل بيتي قتلى في غزاة واحدة، أ فترون حزنهم يذهب من قلبي»(1).

وفي المناقب: عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «بكى علي بن الحسين (عليه السلام) على أبيه عشرين سنة. وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، إني أخاف أن تكون من الهالكين. قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه، وأعلم من اللّه ما لا تعلمون، إني لم أذكر مصرع بني

ص: 167


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص102، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

فاطمة إلا خنقتني العبرة»(1).

وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الخصال: ولقد بكى على أبيه الحسين (عليه السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال مولى له: يا ابن رسول اللّه أما آن لحزنك أن ينقضي. فقال له: ويحك أن يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً، فغيب اللّه عنه واحداً، فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا. وأنا نظرتُ إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلاً من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني(2).

ومن كثرة بكائه (عليه السلام) على أبيه الحسين (عليه السلام) أصبح من البكّائين.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين (صلوات اللّه عليهم).

فأما آدم (عليه السلام) : فبكى على الجنة، حتى صار في خديه مثل الأودية.

وأما يعقوب (عليه السلام) : فبكى على يوسف (عليه السلام) ، حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: تاللّه تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين.

وأما يوسف (عليه السلام) : فبكى على يعقوب (عليه السلام) ، حتى تأذى به أهل السجن، فقالوا: إما أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل، وإما أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار، فصالحهم على واحد منهما.

ص: 168


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص165-166، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
2- الخصال: ج2 ص518-519، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.

وأما فاطمة بنت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) : فبكت على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حتى تأذى بها أهل المدينة، وقالوا لها: قد آذيتينا بكثرة بكائك. فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء، فتبكي حتى تقضي حاجتها، ثم تنصرف.

وأما علي بن الحسين (عليه السلام) : فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه، وأعلم من اللّه ما لا تعلمون. إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة»(1).

وفي رواية: أشرف مولًى لعلي بن الحسين (عليه السلام) ، وهو (عليه السلام) في سقيفة له ساجد يبكي. فقال له: يا علي بن الحسين، أ ما آن لحزنك أن ينقضي. فرفع (عليه السلام) رأسه إليه فقال: «ويلك أو ثكلتك أمك، واللّه لقد شكا يعقوب إلى ربه في أقل مما رأيت حين قال: يا أسفى على يوسف، وإنه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي»(2).

وقيل: إنه (عليه السلام) بكى حتى خيف على عينيه(3).

وقيل له: إنك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا. فقال (عليه السلام) : «نفسي قتلتها وعليها أبكي»(4).

ص: 169


1- الخصال: ج2 ص272-273، باب الخمسة، البكاؤون خمسة، ح15.
2- كامل الزيارات: ص107، الباب35، ح2.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص166، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
4- بحار الأنوار: ج46 ص109، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب6 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح1.

وعند شرب الماء

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا أخذ إناءً يشرب ماءً، يَذكر ويُذكّر بعطش الحسين (عليه السلام) ، ويبكي حتى يملأها دمعاً. فقيل له في ذلك؟. فقال: «وكيف لا أبكي، وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش»(1).

تربة الحسين (عليه السلام)

روي أنه كان لعلي بن الحسين (عليه السلام) خريطة فيها تربة الحسين (عليه السلام) ، وكان لا يسجد إلا على التراب(2).

موقف ولد عقيل

كان علي بن الحسين (عليه السلام) يميل إلى ولد عقيل. فقيل: ما بالك تميل إلى بني عمك هؤلاء؟. فقال: «إني أذكر يومهم مع أبي عبد اللّه الحسين بن علي (عليه السلام) فأرق لهم»(3).

ص: 170


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص166، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص79، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح75.
3- كامل الزيارات: ص107، الباب35، ح2.

23

العلم والعلماء

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يؤكد على العلم والعلماء، فكان إذا جاءه طالب علم قال: «مرحباً بوصية رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ».

أي بمن أوصى به وبرعايته.

ثم يقول: «إن طالب العلم إذا خرج من منزله، لم يضع رجليه على رطب ولا يابس من الأرض، إلا سبحت له إلى الأرضين السابعة»(1).

خشية وعلم

عن عبد اللّه بن موسى، عن أبيه، عن جده، قال: كانت أمي فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين (عليه السلام) ، فما جلست إليه قط إلا قمت بخير قد أفدته، إما خشية لله تحدث لله في قلبي لما أرى من خشيته لله، أو علم استفدته منه(2).

ص: 171


1- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص140، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

كثرة العطاء للخطباء والشعراء

أعطى الإمام زين العابدين (عليه السلام) للفرزدق حسب رواية اثني عشر ألف درهم(1).

وهكذا كانت عطايا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى (عليهم الصلاة والسلام) للشعراء والخطباء كثيراً؛ لتشجيعهم على بيان الحق، ولكي يتخذوا أُسوة في ذلك من قبل سائر الناس.

وعلى ذلك سار الفقهاء العظام والعلماء ذوي العز والاحترام، فكانوا يكرمون الخطباء والشعراء ومن إليهم.

مثلاً ينقل على الميرزا المجدد الكبير الشيرازي السيد محمد حسن (قدس سره) ، أنه أعطى للسيد حيدر الحلي - وهو من كبار شعراء أهل البيت (عليهم السلام) - ستمائة ليرة ذهبية، وكانت تكفي لمصاريف عائلة متوسطة لفترة خمسين سنة، فإن الليرة الواحدة آنذاك كانت مصرف شهر واحد.

ص: 172


1- غرر الأخبار ودرر الآثار في مناقب أبي الأئمة الأطهار (عليهم السلام) : ص69، الفصل 5.

24

التربية والتعليم

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يربي الناس على الخير، ويعظهم بأفعاله وأقواله الشريفة، فيبين لهم أسس المكارم وطريقة التحلي بها، وكان يؤكد على حقوق الآخرين، ومحاسبة النفس، وحسن العمل، والخشية من اللّه، وتذكر الموت والبعث والوقوف للحساب.

محاسبة النفس

عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «يا ابن آدم، لا تزال بخير ما دام لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن دثاراً. يا ابن آدم، إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي اللّه ومسئول، فأعد جواباً»(1).

وعن أبي حمزة، قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «إن أحبكم إلى اللّه أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه حظاً أعظمكم رغبة إلى اللّه، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم لله خشية، وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

الاستعداد للموت

عن سفيان بن عيينة، قال: رأى الزهري علي بن الحسين (عليه السلام) ليلةً باردةً

ص: 173


1- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: ص70، الباب2، الفصل 3.
2- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: ص74، الباب2، الفصل3.

مطيرةً، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي. فقال: يا ابن رسول اللّه، ما هذا؟. قال: «أريد سفراً أعد له زاداً، أحمله إلى موضع حريز». فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك. فأبى قال: أنا أحمله عنك؛ فإني أرفعك عن حمله. فقال علي بن الحسين: «لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه. أسألك بحق اللّه لما مضيت لحاجتك وتركتني». فانصرف عنه، فلما كان بعد أيام قال له: يا ابن رسول اللّه، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً؟!. قال: «بلى يا زهري، ليس ما ظننت، ولكنه الموت وله أستعد، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام، وبذل الندى في الخير»(1).

يوم يخسر المبطلون

عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان بالمدينة رجل بطال يضحك الناس منه. فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه، يعني علي بن الحسين. قال: فمر علي (عليه السلام) وخلفه موليان له. قال: فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته ثم مضى، فلم يلتفت إليه علي (عليه السلام) ، فاتبعوه وأخذوا الرداء منه، فجاءوا به فطرحوه عليه. فقال لهم: من هذا؟. فقالوا: هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة. فقال: قولوا له: إن لله يوماً يخسر فيه المبطلون»(2).

كيف أصبحت

قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام) : كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟. قال: «أصبحت مطلوباً بثمان: اللّه تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالسنة، والعيال

ص: 174


1- علل الشرائع: ج1 ص231، الباب165، ح5.
2- الأمالي للصدوق: ص220-221، المجلس39، ح6.

بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب»(1).

حرمة الإيذاء والتعذيب

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: «ولا تعذب خلق اللّه عز وجل»(2).

لا قيمة للدنيا

نظر علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) إلى سائل يبكي. فقال (عليه السلام) : «لو إن الدنيا كانت في كف هذا ثم سقطت منه، ما كان ينبغي له أن يبكي»(3).

لا تشغل الناس عن الطواف

رأى علي بن الحسين (عليه السلام) الحسن البصري عند الحجر الأسود يقص. فقال: «يا هناه، أ ترضى نفسك للموت؟». قال: لا. قال: «فعملك للحساب؟». قال: لا. قال: «فثم دار العمل؟». قال: لا. قال: «فلله في الأرض معاذ غير هذا البيت؟». قال: لا. قال: «فلم تشغل الناس عن الطواف»، ثم مضى. قال الحسن: ما دخل مسامعي مثل هذه الكلمات من أحد قط، أ تعرفون هذا الرجل؟. قالوا: هذا زين العابدين. فقال الحسن: ذريةً بعضها من بعض(4).

ص: 175


1- الأمالي للطوسي: ص641، المجلس32، ح1330 / 16.
2- مكارم الأخلاق: ص421، الباب12، الفصل1.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص106، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص159، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .

لا تقنط من رحمة اللّه

كان الزهري عاملاً لبني أمية، فعاقب رجلاً، فمات الرجل في العقوبة. فخرج هائماً [أي متحيراً] وتوحش، ودخل إلى غار، فطال مقامه تسع سنين.

قال الراوي: وحج علي بن الحسين (عليه السلام) ، فأتاه الزهري. فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك، فابعث بدية مسلمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك».

فقال له: فرجت عني يا سيدي، اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته. ورجع إلى بيته ولزم علي بن الحسين (عليه السلام) ، وكان يعد من أصحابه؛ ولذلك قال له بعض بني مروان: يا زهري، ما فعل نبيك؟. يعني علي بن الحسين (عليه السلام) (1).

مرحباً بكم يا أهل الكوفة

عن حنان بن سدير، عن أبيه، قال: دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماماً بالمدينة، فإذا رجل في بيت المسلخ. فقال لنا: «ممن القوم؟». فقلنا: من أهل العراق. فقال: «وأي العراق؟». فقلنا: كوفيون.

فقال: «مرحباً بكم يا أهل الكوفة، أنتم الشعار دون الدثار - ثم قال: - ما يمنعكم من الأزر؛ فإن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام». قال: ثم بعث إلى أبي كرباسةً فشقها بأربعة، ثم أعطى كل واحد منا واحداً فدخلنا فيها، فلما كنا في البيت الحار صمد لجدي. فقال: «يا كهل، ما يمنعك من الخضاب؟». فقال له جدي: «أدركت من هو خير مني ومنك لا يختضب». قال:

ص: 176


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص105-106، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

فغضب لذلك، حتى عرفنا غضبه في الحمام. قال: «ومن ذاك الذي هو خير مني؟». فقال: أدركت علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو لا يختضب. قال: فنكس رأسه وتصاب عرقاً. فقال: «صدقت وبررت - ثم قال - يا كهل، إن تختضب فإن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد خضب وهو خير من علي، وإن تترك فلك بعلي سنة». قال: فلما خرجنا من الحمام، سألنا عن الرجل، فإذا هو علي بن الحسين، ومعه ابنه محمد بن علي (صلوات اللّه عليهم)(1).

ص: 177


1- الكافي: ج6 ص497-498، كتاب الزي والتجمل والمروءة، باب الحمام، ح8.

25

الأسرة والأولاد

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يؤكد على سلامة الأسرة والتربية الصالحة للأولاد، كما ورد ذلك في أدعية الصحيفة السجادية:

قال (عليه السلام) : «اللَّهُمَّ وَمُنَّ عَلَيَّ بِبَقَاءِ وُلْدِي، وَبِإِصْلاَحِهِمْ لِي، وبِإِمْتَاعِي بِهِمْ. إِلَهِي امْدُدْ لِي فِي أَعْمَارِهِمْ، وَزِدْ لِي فِي آجَالِهِمْ، وَرَبِّ لِي صَغِيرَهُمْ، وَقَوِّ لِي ضَعِيفَهُمْ، وَأَصِحَّ لِي أَبْدَانَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ، وَعَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي جَوَارِحِهِمْ، وَفِي كُلِّ مَا عُنِيتُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَدْرِرْ لِي وَعَلَى يَدِي أَرْزَاقَهُمْ. وَاجْعَلْهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِيَاءَ بُصَرَاءَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَكَ، وَلأَوْلِيَائِكَ مُحِبِّينَ مُنَاصِحِينَ، وَلِجَمِيعِ أَعْدَائِكَ مُعَانِدِينَ وَمُبْغِضِينَ، آمِينَ.

اللَّهُمَّ اشْدُدْ بِهِمْ عَضُدِي، وَأَقِمْ بِهِمْ أَوَدِي، وَكَثِّرْ بِهِمْ عَدَدِي، وَزَيِّنْ بِهِمْ مَحْضَرِي، وَأَحْيِ بِهِمْ ذِكْرِي، وَاكْفِنِي بِهِمْ فِي غَيْبَتِي، وَأَعِنِّي بِهِمْ عَلَى حَاجَتِي، وَاجْعَلْهُمْ لِي مُحِبِّينَ، وَعَلَيَّ حَدِبِينَ مُقْبِلِينَ، مُسْتَقِيمِينَ لِي، مُطِيعِينَ غَيْرَ عَاصِينَ، وَلاَ عَاقِّينَ، وَلاَ مُخَالِفِينَ، وَلاَ خَاطِئِينَ. وَأَعِنِّي عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَبِرِّهِمْ، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ مَعَهُمْ أَوْلاَداً ذُكُوراً، وَاجْعَلْ ذَلِكَ خَيْراً لِي، وَاجْعَلْهُمْ لِي عَوْناً عَلَى مَا سَأَلْتُكَ. وَأَعِذْنِي وَذُرِّيَّتِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(1)، الدعاء.

ص: 178


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 25 وكان من دعائه (عليه السلام) لأولاده (عليهم السلام) .

خدمة العيال

عن أبي حمزة، قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «لأن أدخل السوق ومعي دراهم، أبتاع به لعيالي لحماً وقد قرموا إليه، أحب إليَّ من أن أعتق نسمةً»(1).

طلب الرزق للعيال

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا أصبح، خرج غادياً في طلب الرزق. فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أين تذهب؟. فقال: أتصدق لعيالي. قيل له: أ تتصدق!. قال: من طلب الحلال، فهو من اللّه جل وعز صدقة عليه»(2).

والصدقة لغة: ما يدل على التصديق باللّه عز وجل.

وفي الوافي: أتصدق لعيالي: يعني آخذ الصدقة من اللّه لهم، وأتقبلها لأجلهم(3).

ص: 179


1- الكافي: ج4 ص12، تتمة كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، كفاية العيال والتوسع عليهم، ح10.
2- الكافي: ج4 ص12، تتمة كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، كفاية العيال والتوسع عليهم، ح11.
3- الوافي: ج10ص439، كتاب الزكاة والخمس والمبرات، ب55 من أبواب سائر أصناف الإنفاق والمعروف وحقوقهما، ح9838 / 12.

26

تزويج العزاب

اشارة

ركز الإمام زين العابدين (عليه السلام) على التعاليم الإسلامية وخاصة ما يرتبط بالأسرة والشباب، فكان يؤكد على الزواج ويكرّه العزوبة.

روي عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: «من زوّج عزباً توجه اللّه بتاج الملك»(1).

لتتضح المناكح

كان (عليه السلام) يأمر بالزواج والتسهيل فيه، وكان أسوة في ذلك.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «أن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) تزوج سريةً كانت للحسن بن علي (عليه السلام) . فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إليه في ذلك كتاباً: أنك صرت بعل الإماء. فكتب إليه علي بن الحسين (عليه السلام) : أن اللّه رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به الناقصة، وأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنكح عبده ونكح أمته.

فلما انتهى الكتاب إلى عبد الملك، قال لمن عنده: أخبروني عن رجل إذا أتى ما يضع الناس لم يزده إلا شرفاً؟. قالوا: ذاك الأمير. قال: لا واللّه ما هو ذاك. قالوا: ما نعرف إلا الأمير. قال: فلا واللّه ما هو بالأمير، ولكنه علي بن

ص: 180


1- غوالي اللئالي العزيزية: ج3 ص303، القسم2، الباب النكاح، ح102.

الحسين»(1).

وفي رواية: عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال: «إن علي بن الحسين (عليه السلام) تزوج أم ولد عمه الحسن (عليه السلام) ، وزوج أمه مولاه. فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان كتب إليه: يا علي بن الحسين، كأنك لا تعرف موضعك من قومك، وقدرك عند الناس، وتزوجت مولاةً، وزوجت مولاك بأمك.

فكتب إليه علي بن الحسين (عليه السلام) : فهمت كتابك، ولنا أسوة برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقد زوج زينب بنت عمه زيداً مولاه، وتزوج مولاته صفية بنت حيي بن أخطب»(2).

وفي الكافي: كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة، يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإن علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جاريةً له ثم تزوجها. فكتب العين إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام) : أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر، وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت، ولا على ولدك أبقيت، والسلام.

فكتب إليه علي بن الحسين (عليه السلام) : أما بعد، فقد بلغني كتابك، تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه قد كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر، وأستنجبه في الولد، وإنه ليس فوق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مرتقًى في مجد، ولا مستزاد في كرم، وإنما كانت ملك يميني خرجت مني، أراد اللّه عز وجل مني بأمر التمست به ثوابه، ثم

ص: 181


1- الكافي: ج5 ص345-346، كتاب النكاح، باب آخر منه، ح6.
2- الزهد: ص60، الباب10، ح159.

ارتجعتها على سنته، ومن كان زكياً في دين اللّه فليس يخل به شيء من أمره، وقد رفع اللّه بالإسلام الخسيسة، وتمم به النقيصة، وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرئ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، والسلام».

فلما قرأ الكتاب، رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه. فقال: يا أمير، لشد ما فخر عليك علي بن الحسين. فقال: يا بني، لا تقل ذلك؛ فإنها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف من بحر. إن علي بن الحسين (عليه السلام) يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس»(1).

وروي أنه قال زين العابدين (عليه السلام) : «وهذا رسول اللّه تزوج أمته وامرأة عبده». فقال عبد الملك: إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس. وذكر أنه كان عبد الملك يقول: إنه قد تزوج بأمه؛ وذلك أنه كانت ربته، فكان يسميها أمي(2).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إن علي بن الحسين (عليه السلام) رأى امرأةً في بعض مشاهد مكة فأعجبته، فخطبها إلى نفسها وتزوجها، فكانت عنده، وكان له صديق من الأنصار، فاغتم لتزويجه بتلك المرأة، فسأل عنها فأخبر أنها من آل ذي الجدين من بني شيبان، في بيت علي من قومها. فأقبل على علي بن الحسين فقال: جعلني اللّه فداك، ما زال تزويجك هذه المرأة في نفسي، وقلت: تزوج علي بن الحسين امرأةً مجهولةً، ويقول الناس أيضاً، فلم أزل أسأل عنها حتى عرفتها، ووجدتها في بيت قومها شيبانيةً. فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : قد كنت

ص: 182


1- الكافي: ج5 ص344-345، كتاب النكاح، باب آخر منه، ح4.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص162، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .

أحسبك أحسن رأياً مما أرى. إن اللّه أتى بالإسلام فرفع به الخسيسة، وأتم به الناقصة، وكرم به من اللؤم، فلا لؤم على المسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية»(1).

تزويج الإماء

روى عبد اللّه بن مسكان، عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، أنه كان يدعو خدمه كل شهر، ويقول: «إني قد كبرت ولا أقدر على النساء، فمن أراد منكن التزويج زوجتها، أو البيع بعتها، أو العتق أعتقتها، فإذا قالت إحداهن: لا. قال: اللّهم اشهد حتى يقول ثلاثاً، وإن سكتت واحدة منهن، قال لنسائه: سلوها ما تريد، وعمل على مرادها(2).

ص: 183


1- الزهد: ص59، الباب10، ح158.
2- بحار الأنوار: ج46 ص93، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح83.

27

حق الوالدين

اشارة

من حقوق الوالدين أداء ديونهم، وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير الاهتمام بديون أبيه، حيث استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وعليه دين.

روي أنه أصيب بالحسين (عليه السلام) وعليه دين بضعة وسبعون ألف دينار، فاهتم علي بن الحسين (عليه السلام) بدين أبيه، حتى امتنع من الطعام والشراب والنوم في أكثر أيامه ولياليه، فأتاه آت في المنام فقال: لا تهتم بدين أبيك، فقد قضاه اللّه عنه بمال بجنس. فقال (عليه السلام) : «ما أعرف في أموال أبي مالاً يقال له: مال بجنس».

فلما كان من الليلة الثانية رأى مثل ذلك، فسأل عنه أهله. فقالت امرأة من أهله: كان لأبيك عبد رومي يقال له: بجنس، استنبط له عيناً بذي خشب.

فسأل عن ذلك فأخبر به، فما مضت بعد ذلك إلا أيام قلائل حتى أرسل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان إلى علي بن الحسين (عليه السلام) يقول له: إنه قد ذكرت لي عين لأبيك بذي خشب تعرف ببجنس، فإذا أحببت بيعها ابتعتها منك.

قال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «خذها بدين الحسين (عليه السلام) » وذكره له.

قال: قد أخذتها. فاستثنى فيها سقي ليلة السبت لسكينة(1).

ص: 184


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص143-144، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

بر الأم

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان كثير البر بأُمه(1). فقيل له: إنا نراك من أبر الناس بأُمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة!. فقال: «أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها»(2).

وفي رواية: لقد كان (عليه السلام) يأبى أن يؤاكل أُمه. فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أنت أبر الناس وأوصلهم للرحم، فكيف لا تؤاكل أُمك؟. فقال: «إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه»(3).

ص: 185


1- أي بمن ربته، وإلا فإن والدة الإمام (عليه السلام) توفيت في نفاسها.
2- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج1 ص212، تنبيه.
3- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.

28

حق الزوجة والإماء

اشارة

عن سيد العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: «وأما حق الزوجة: فأن تعلم أن اللّه عز وجل جعلها لك سكناً وأنساً، فتعلم أن ذلك نعمة من اللّه عز وجل عليك، فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقك عليها أوجب، فإن لها عليك أن ترحمها؛ لأنها أسيرك، وتطعمها وتسقيها وتكسوها، وإذا جهلت عفوت عنها»(1).

رعاية للإماء

وقد مر أنه (عليه السلام) كان يدعو خدمه كل شهر، ويقول: «إني قد كبرت ولا أقدر على النساء، فمن أراد منكن التزويج زوجتها، أو البيع بعتها، أو العتق أعتقتها، فإذا قالت إحداهن: لا. قال: «اللّهم اشهد» حتى يقول ثلاثاً، وإن سكتت واحدة منهن، قال لنسائه: «سلوها ما تريد»، وعمل على مرادها(2).

ص: 186


1- مكارم الأخلاق: ص420-421، الباب12، الفصل1.
2- بحار الأنوار: ج46 ص93، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح83.

29

حق الحيوان والرأفة به

اشارة

مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي مدرسة الرأفة والرحمة، والرفق واللين، وهذه الصفات الحسنة لا تختص بالتعامل مع البشر فحسب، بل تشمل حتى الحيوان.

روى الشيخ المفيد في الإرشاد: أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) حج مرة، فالتأثت عليه الناقة في سيرها وأبطات، فأشار إليها بالقضيب، ثم قال: «آه لولا القصاص»، وردّ يده عنها(1).

وفي رواية: إنه (عليه السلام) رفع القضيب وأشار إليها، وقال: «لولا خوف القصاص لفعلت»(2).

وروي أنه (عليه السلام) حج على ناقة عشرين حجة، فما قرعها بسوط(3).

وفي رواية: وحج (عليه السلام) على ناقته عشرين حجة، لم يضربها بسوط(4).

ص: 187


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص144، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص155، الباب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، الفصل في زهده (عليه السلام) .
3- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
4- بحار الأنوار: ج109 ص194، الباب 8 من أبواب الحيوان وأصنافها وأحوالها وأحكامها.

وروى أبو نعيم في الحلية: كان علي بن الحسين (عليه السلام) لا يضرب بعيره من المدينة إلى مكة(1).

ومن الواضح أن ما يؤذي الحيوان، قد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً، على ما ذكرناه في (فقه حقوق الحيوان وأحكامه).

وعن أبي عبد اللّه، قال: «لما كان الليلة التي وعدها علي بن الحسين قال لمحمد... يا بني، هذه الليلة التي وعدتها، فأوصى بناقته أن يحضر لها عصام، ويقام لها علف. فجعلت فيه، فلم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت، وهملت عيناها. فأتى محمد بن علي فقيل: إن الناقة قد خرجت إلى القبر، فضربت بجرانها ورغت، وهملت عيناها. فأتاها فقال: مه، الآن قومي بارك اللّه فيك. فثارت ودخلت موضعها، فلم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت، وهملت عيناها. فأتي محمد بن علي فقيل له: إن الناقة قد خرجت. فأتاها فقال: مه، الآن قومي. فلم تفعل قال: دعوها؛ فإنها مودعة. فلم تلبث إلا ثلاثةً حتى نفقت. وإن كان ليخرج عليها إلى مكة، فيعلق السوط بالرحل، فما يقرعها قرعةً حتى يدخل المدينة»(2).

وروي أنه (عليه السلام) حج عليها أربعين حجةً(3).

هلم إلى هذا الغذاء

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال: «إن أبي خرج إلى ماله، ومعنا ناس من مواليه

ص: 188


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص102، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، الباب ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص483، الباب9، ح11.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص142، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

وغيرهم، فوضعت المائدة ليتغذى، وجاء ظبي وكان منه قريباً. فقال له: يا ظبي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمي فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، هلم إلى هذا الغذاء. فجاء الظبي حتى أكل معهم ما شاء اللّه أن يأكل»(1).

وفي هذه الرواية دلالة واضحة على مدى اهتمام الإمام بالحيوان، حيث يدعوه إلى طعامه ليأكل معه.

ظبية تبصبص

ففي الحديث: إن علي بن الحسين (عليه السلام) كان قاعداً في جماعة من أصحابه، إذا جاءته ظبية، فبصبصت عنده وضربت بيديها. فقال أبو محمد (عليه السلام) : «أ تدرون ما تقول هذه الظبية؟».

قالوا: لا.

قال: «تزعم هذه الظبية أن فلان بن فلان - رجلاً من قريش - اصطاد خشفاً لها في هذا اليوم، وإنما جاءت أن أسأله أن يضع الخشف بين يديها فترضعه».

ثم قال أبو محمد (عليه السلام) لأصحابه: «قوموا بنا».

فقاموا بأجمعهم فأتوه، فخرج إليهم. فقال لأبي محمد: فداك أبي وأمي، ما جاءك بك؟!.

فقال: «أسألك بحقي عليك إلا أخرجت إليَّ الخشف الذي اصطدتها اليوم». فأخرجها، فوضعها بين يدي أمها فأرضعتها.

ص: 189


1- بحار الأنوار: ج46 ص43، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح42.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «أسألك يا فلان لما وهبت لنا الخشف».

قال: قد فعلت.

فأرسل الخشف مع الظبية، فمضت الظبية، فبصبصت وحركت ذنبها. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «تدرون ما قالت الظبية؟».

قالوا: لا.

قال: «قالت: رد اللّه عليكم كل غائب لكم، وغفر لعلي بن الحسين كما رد عليَّ ولدي»(1).

يا ثعلب تعال

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) مع أصحابه في طريق مكة، فمر به ثعلب وهم يتغدون. فقال لهم علي بن الحسين (عليه السلام) : هل لكم أن تعطوني موثقاً من اللّه لا تهيجون هذا الثعلب، ودعوه حتى يجيئني. فحلفوا له. فقال: «يا ثعلب، تعال».

قال: فجاء الثعلب حتى أهلّ بين يديه، فطرح عليه عرقاً، فولى به يأكله.

قال (عليه السلام) : هل لكم تعطوني موثقاً، ودعوه أيضاً فيجيء. فأعطوه، فكلح رجل منهم في وجهه فخرج يعدو. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : أيكم الذي أخفر ذمتي؟. فقال الرجل: أنا يا ابن رسول اللّه، كلحت في وجهه ولم أدرِ، فأستغفر اللّه. فسكت(2).

ص: 190


1- الاختصاص: ص297، احاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام) ، معرفة الأئمة (عليهم السلام) حميع اللغات ومنطق الطير وسائر الحيوانات.
2- الاختصاص: ص297-298، احاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام) ، معرفة الأئمة (عليهم السلام) حميع اللغات ومنطق الطير وسائر الحيوانات.

ما شأن هذه الظبية؟

روي عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الباقر (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين جالساً مع جماعة، إذ أقبلت ظبية من الصحراء، حتى وقفت قدامه، فهمهمت وضربت بيدها الأرض. فقال بعضهم: يا ابن رسول اللّه، ما شأن هذه الظبية قد أتتك مستأنسةً؟.

قال: تذكر أن ابناً ليزيد طلب عن أبيه خشفاً، فأمر بعض الصيادين أن يصيد له خشفاً، فصاد بالأمس خشف هذه الظبية، ولم تكن قد أرضعته، فإنها تسأل أن يحمله إليها؛ لترضعه وترده عليه.

فأرسل علي بن الحسين (عليه السلام) إلى الصياد فأحضره. فقال: إن هذه الظبية تزعم أنك أخذت خشفاً لها، وأنك لم تسقه لبناً منذ أخذته، وقد سألتني أن أسألك أن تتصدق به عليها.

فقال: يا ابن رسول اللّه، لست أستجرؤ على هذا.

قال: إني أسألك أن تأتي به إليها؛ لترضعه وترده عليك.

ففعل الصياد، فلما رأته همهمت ودموعها تجري. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) للصياد: بحقي عليك إلا وهبته لها. فوهبه لها وانطلقت مع الخشف، وقال: أشهد أنك من أهل بيت الرحمة، وأن بني أمية من أهل بيت اللعنة»(1).

ظبي يأكل على سفرة الإمام

عن محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: «خرج أبي (عليه السلام) في نفر من أهل بيته وأصحابه إلى بعض حيطانه، وأمر بإصلاح سفرة، فلما وضعت ليأكلوا، أقبل ظبي

ص: 191


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص259- 260، الباب5، ح4.

من الصحراء يبغم، فدنا من أبي. فقالوا: يا ابن رسول اللّه، ما يقول هذا الظبي؟. قال: يشكو أنه لم يأكل منذ ثلاث شيئاً، فلا تمسوه حتى أدعوه ليأكل معنا.

قالوا: نعم. فدعاه فجاء فأكل معهم، فوضع رجل منهم يده على ظهره فنفر. فقال أبي: أ لم تضمنوا لي أنكم لا تمسوه. فحلف الرجل أنه لم يرد به سوءاً. فكلمه أبي وقال للظبي: ارجع فلا بأس عليك. فرجع يأكل حتى شبع، ثم بغم وانطلق. فقالوا: يا ابن رسول اللّه، ما قال؟. قال: دعا لكم وانصرف»(1).

مع الغزال والظبي

روي أنه كان علي بن الحسين (عليه السلام) في سفر، وكان يتغذى وعنده رجل. فأقبل غزال في ناحية يتقمم، وكانوا يأكلون على سفرة في ذلك الموضع. فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «ادن فكل، فأنت آمن». فدنى الغزال فأقبل يتقمم من السفرة، فقام الرجل الذي كان يأكل معه بحصاة، فقذف بها ظهره، فنفر الغزال ومضى. فقال له علي بن الحسين: «أخفرت ذمتي، لا كلمتك كلمة أبداً»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إن أبي (عليه السلام) خرج إلى ماله، ومعنا ناس من مواليه وغيرهم، فوضعت المائدة لنتغذى، وجاء ظبي وكان منه قريباً. فقال له: يا ظبي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمي فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، هلم إلى هذا الغذاء. فجاء الظبي حتى أكل معهم ما شاء اللّه أن يأكل، ثم تنحى الظبي، فقال له بعض غلمانه: رد علينا. فقال لهم: لا تخفروا ذمتي.

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج46 ص30-31، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح23.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص109، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

قالوا: لا»(1).

وفي رواية: فقال له: «يا ظبي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمي فاطمة بنت رسول اللّه، هلم إلى هذا الغذاء، وأنت آمن في ذمتي». فجاء الظبي في الحال حتى قام على المائدة يأكل معهم، فوضع رجل من جلسائه يده على ظهره، فنفر الظبي. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «أخفرت ذمتي، لا كلمتك كلمة أبداً»(2).

وهذه الرواية تدل على شدة احترام الإمام (عليه السلام) للحيوان بحيث لم يكلم إنساناً لظلمه على حيوان.

دفن الحيوان

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) لما ماتت الناقة التي حج عليها عشرين حجةً، والتي لم يقرعها بسوط، أمر بدفنها؛ لئلا يأكلها السباع(3).

يوصي بناقته

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما كان في الليلة التي وعد فيها علي بن الحسين. قال لمحمد... يا بني، هذه الليلة التي وعدتها. فأوصى بناقته أن يحط عليها خطاماً، وأن يقام لها علف، فجعلت فيه، فلم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت، وهملت عيناها. فأُتي محمد بن علي، فقيل له:

ص: 193


1- بحار الأنوار: ج46 ص43، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب3 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح42.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج4 ص76-77، الفصل14، ح40.
3- وسائل الشيعة: ج11 ص542، كتاب الحج، الباب51 من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره، ح15489.

إن الناقة قد خرجت. فجاءها فقال: قومي بارك اللّه فيكِ. فلم تفعل، فقال: دعوها؛ فإنها مودعة. فلم تمكث إلا ثلاثاً حتى نفقت. قال: وكان يخرج عليها إلى مكة، فيعلق السوط بالرحل، فما يقرعها حتى يدخل المدينة(1).

لا تقرع الناقة بالسوط

عن زرارة بن أعين، قال: لقد حج على ناقة عشرين حجةً، فما قرعها بسوط(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «حج علي بن الحسين (صلوات اللّه عليه) على راحلة عشر حجج ما قرعها بسوط، ولقد بركت به سنةً من سنواته فما قرعها بسوط»(3).

ناقتي هذه

عن الصادق (عليه السلام) ، قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) لابنه محمد (عليه السلام) حين حضرته الوفاة: «إنني قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجةً، فلم أقرعها بسوط قرعةً، فإذا نفقت فادفنها لا تأكل لحمها السباع؛ فإن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج، إلا جعله اللّه من نعم الجنة، وبارك في نسله. فلما نفقت حفر لها أبو جعفر (عليه السلام) ودفنها»(4).

ص: 194


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص483، الباب9، ح11.
2- الخصال: ج2 ص518، أبواب العشرين وما فوقه، ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ح4.
3- المحاسن: ج2 ص361-362، كتاب السفر، الباب24، ح93.
4- بحار الأنوار: ج46 ص70، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح46.

30

رسالة الحقوق

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يراعي الحقوق ويوصي بمراعاتها، من حقوق اللّه عز وجل، وحقوق الناس، وحقوق الإنسان على نفسه، وغيرها، ورسالة حقوقه (عليه السلام) متضمنة للكثير منها.

نص الرسالة

روى العلامة الشيخ الثقة الجليل الحسن بن علي بن شعبة الحراني في (تحف العقول) عن الإمام السجاد (عليه السلام) رسالة الحقوق:

حقوق اللّه

قال (عليه السلام) : اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللّهُ - أَنَّ للهِ عَلَيْكَ حُقُوقاً مُحِيطَةً بِكَ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ تَحَرَّكْتَهَا، أَوْ سَكَنَةٍ سَكَنْتَهَا، أَوْ مَنْزِلَةٍ نَزَلْتَهَا، أَوْ جَارِحَةٍ قَلَبْتَهَا، وَآلَةٍ تَصَرَّفْتَ بِهَا، بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ.

وَأَكْبَرُ حُقُوقِ اللّهِ عَلَيْكَ، مَا أَوْجَبَهُ لِنَفْسِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِنْ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْحُقُوقِ وَمِنْهُ تَفَرَّعَ، ثُمَّ أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ لِنَفْسِكَ، مِنْ قَرْنِكَ إِلَى قَدَمِكَ، عَلَى اخْتِلاَفِ جَوَارِحِكَ.

حق النفس والجوارح

فَجَعَلَ لِبَصَرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِسَمْعِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِلِسَانِكَ عَلَيْكَ حَقّاً،

ص: 195

وَلِيَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِرِجْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِبَطْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِفَرْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً. فَهَذِهِ الْجَوَارِحُ السَّبْعُ الَّتِي بِهَا تَكُونُ الأَفْعَالُ.

حق الأفعال

ثُمَّ جَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ لأَفْعَالِكَ عَلَيْكَ حُقُوقاً: فَجَعَلَ لِصَلاَتِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِصَوْمِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِصَدَقَتِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِهَدْيِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلأَفْعَالِكَ عَلَيْكَ حَقّاً.

حق الإمام والرعية

ثُمَّ تَخْرُجُ الْحُقُوقُ مِنْكَ إِلَى غَيْرِكَ، مِنْ ذَوِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْكَ. وَأَوْجَبُهَا عَلَيْكَ: حُقُوقُ أَئِمَّتِكَ، ثُمَّ حُقُوقُ رَعِيَّتِكَ، ثُمَّ حُقُوقُ رَحِمِكَ. فَهَذِهِ حُقُوقٌ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا حُقُوقٌ. فَحُقُوقُ أَئِمَّتِكَ ثَلاَثَةٌ، أَوْجَبُهَا عَلَيْكَ: حَقُّ سَائِسِكَ بِالسُّلْطَانِ، ثُمَّ سَائِسِكَ بِالْعِلْمِ، ثُمَّ حَقُّ سَائِسِكَ بِالْمِلْكِ، وَكُلُّ سَائِسٍ إِمَامٌ. وَحُقُوقُ رَعِيَّتِكَ ثَلاَثَةٌ، أَوْجَبُهَا عَلَيْكَ: حَقُّ رَعِيَّتِكَ بِالسُّلْطَانِ، ثُمَّ حَقُّ رَعِيَّتِكَ بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْجَاهِلَ رَعِيَّةُ الْعَالِمِ، وَحَقُّ رَعِيَّتِكَ بِالْمِلْكِ مِنَ الأَزْوَاجِ وَمَا مَلَكْتَ مِنَ الأَيْمَانِ.

حق الأرحام

وَحُقُوقُ رَحِمِكَ كَثِيرَةٌ، مُتَّصِلَةٌ بِقَدْرِ اتِّصَالِ الرَّحِمِ فِي الْقَرَابَةِ، فَأَوْجَبُهَا عَلَيْكَ: حَقُّ أُمِّكَ، ثُمَّ حَقُّ أَبِيكَ، ثُمَّ حَقُّ وُلْدِكَ، ثُمَّ حَقُّ أَخِيكَ، ثُمَّ الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ، وَالأَوَّلُ فَالأَوَّلُ.

حقوق اجتماعية

ثُمَّ حَقُّ مَوْلاَكَ الْمُنْعِمِ عَلَيْكَ، ثُمَّ حَقُّ مَوْلاَكَ الْجَارِيَةِ نِعْمَتُكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَقُّ ذِي الْمَعْرُوفِ لَدَيْكَ، ثُمَّ حَقُّ مُؤَذِّنِكَ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ حَقُّ إِمَامِكَ فِي صَلاَتِكَ، ثُمَّ

ص: 196

حَقُّ جَلِيسِكَ، ثُمَّ حَقُّ جَارِكَ، ثُمَّ حَقُّ صَاحِبِكَ، ثُمَّ حَقُّ شَرِيكِكَ، ثُمَّ حَقُّ مَالِكَ، ثُمَّ حَقُّ غَرِيمِكَ الَّذِي تُطَالِبُهُ، ثُمَّ حَقُّ غَرِيمِكَ الَّذِي يُطَالِبُكَ، ثُمَّ حَقُّ خَلِيطِكَ، ثُمَّ حَقُّ خَصْمِكَ الْمُدَّعِي عَلَيْكَ، ثُمَّ حَقُّ خَصْمِكَ الَّذِي تَدَّعِي عَلَيْهِ، ثُمَّ حَقُّ مُسْتَشِيرِكَ، ثُمَّ حَقُّ الْمُشِيرِ عَلَيْكَ، ثُمَّ حَقُّ مُسْتَنْصِحِكَ، ثُمَّ حَقُّ النَّاصِحِ لَكَ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْكَ، ثُمَّ حَقُّ سَائِلِكَ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ سَأَلْتَهُ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ جَرَى لَكَ عَلَى يَدَيْهِ مَسَاءَةٌ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْ مَسَرَّةٌ بِذَلِكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، عَنْ تَعَمُّدٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ، ثُمَّ حَقُّ أَهْلِ مِلَّتِكَ عَامَّةً، ثُمَّ حَقُّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، ثُمَّ الْحُقُوقُ الْجَارِيَةُ بِقَدْرِ عِلَلِ الأَحْوَالِ وَتَصَرُّفِ الأَسْبَابِ، فَطُوبَى لِمَنْ أَعَانَهُ اللّهُ عَلَى قَضَاءِ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِهِ، وَوَفَّقَهُ وَسَدَّدَهُ.

1: حق اللّه الأكبر

فَأَمَّا حَقُّ اللّهِ الأَكْبَرُ: فَإِنَّكَ تَعْبُدُهُ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِإِخْلاَصٍ، جَعَلَ لَكَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكْفِيَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَحْفَظَ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْهَا.

2: حق نفسك عليك

وَأَمَّا حَقُّ نَفْسِكَ عَلَيْكَ: فَأَنْ تَسْتَوْفِيَهَا فِي طَاعَةِ اللّهِ، فَتُؤَدِّيَ إِلَى لِسَانِكَ حَقَّهُ، وَإِلَى سَمْعِكَ حَقَّهُ، وَإِلَى بَصَرِكَ حَقَّهُ، وَإِلَى يَدِكَ حَقَّهَا، وَإِلَى رِجْلِكَ حَقَّهَا، وَإِلَى بَطْنِكَ حَقَّهُ وَإِلَى فَرْجِكَ حَقَّهُ وَتَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ.

3: حق اللسان

وَأَمَّا حَقُّ اللِّسَانِ: فَإِكْرَامُهُ عَنِ الْخَنَا، وَتَعْوِيدُهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الأَدَبِ وَإِجْمَامُهُ إِلاَّ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِعْفَاؤُهُ عَنِ

ص: 197

الْفُضُولِ الشَّنِعَةِ الْقَلِيلَةِ الْفَائِدَةِ، الَّتِي لاَ يُؤْمَنُ ضَرَرُهَا مَعَ قِلَّةِ عَائِدَتِهَا، وَيُعَدُّ شَاهِدَ الْعَقْلِ وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَزَيُّنُ الْعَاقِلِ بِعَقْلِهِ، حُسْنُ سِيرَتِهِ فِي لِسَانِهِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

4: حق السمع

وَأَمَّا حَقُّ السَّمْعِ: فَتَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ تَجْعَلَهُ طَرِيقاً إِلَى قَلْبِكَ، إِلاَّ لِفُوَّهَةٍ كَرِيمَةٍ تُحْدِثُ فِي قَلْبِكَ خَيْراً، أَوْ تَكْسِبُ خُلُقاً كَرِيماً؛ فَإِنَّهُ بَابُ الْكَلاَمِ إِلَى الْقَلْبِ، يُؤَدِّي إِلَيْهِ ضُرُوبُ الْمَعَانِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

5: حق البصر

وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ: فَغَضُّهُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، وَتَرْكُ ابْتِذَالِهِ إِلاَّ لِمَوْضِعِ عِبْرَةٍ تَسْتَقْبِلُ بِهَا بَصَراً، أَوْ تَسْتَفِيدُ بِهَا عِلْماً؛ فَإِنَّ الْبَصَرَ بَابُ الاِعْتِبَارِ.

6: حق الرجلين

وَأَمَّا حَقُّ رِجْلَيْكَ: فَأَنْ لاَ تَمْشِيَ بِهِمَا إِلَى مَا لاَ يَحِلُّ لَكَ، وَلاَ تَجْعَلَهُمَا مَطِيَّتَكَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَخِفَّةِ بِأَهْلِهَا فِيهَا؛ فَإِنَّهَا حَامِلَتُكَ وَسَالِكَةٌ بِكَ مَسْلَكَ الدِّينِ وَالسَّبْقِ لَكَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

7: حق اليدين

وَأَمَّا حَقُّ يَدِكَ: فَأَنْ لاَ تَبْسُطَهَا إِلَى مَا لاَ يَحِلُّ لَكَ؛ فَتَنَالَ بِمَا تَبْسُطُهَا إِلَيْهِ مِنَ اللّهِ الْعُقُوبَةَ فِي الأَجَلِ، وَمِنَ النَّاسِ بِلِسَانِ اللاَّئِمَةِ فِي الْعَاجِلِ، وَلاَ تَقْبِضَهَا مِمَّا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ تُوَقِّرَهَا بِقَبْضِهَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَحِلُّ لَهَا، وَبَسْطِهَا إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا لَيْسَ عَلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ عُقِلَتْ وَشُرِّفَتْ فِي الْعَاجِلِ، وَجَبَ لَهَا حُسْنُ الثَّوَابِ فِي الآجِلِ.

ص: 198

8: حق البطن

وَ أَمَّا حَقُّ بَطْنِكَ: فَأَنْ لاَ تَجْعَلَهُ وِعَاءً لِقَلِيلٍ مِنَ الْحَرَامِ وَلاَ لِكَثِيرٍ، وَأَنْ تَقْتَصِدَ لَهُ فِي الْحَلاَلِ، وَلاَ تُخْرِجَهُ مِنْ حَدِّ التَّقْوِيَةِ إِلَى حَدِّ التَّهْوِينِ وَذَهَابِ الْمُرُوَّةِ، وَضَبْطُهُ إِذَا هَمَّ بِالْجُوعِ وَالظَّمَإِ؛ فَإِنَّ الشِّبَعَ الْمُنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى التُّخَمِ مَكْسَلَةٌ وَمَثْبَطَةٌ، وَمَقْطَعَةٌ عَنْ كُلِّ بِرٍّ وَكَرَمٍ، وَإِنَّ الرَّيَّ الْمُنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى السُّكْرِ مَسْخَفَةٌ وَمَجْهَلَةٌ، وَمَذْهَبَةٌ لِلْمُرُوَّةِ.

9: حق الفرج

وَأَمَّا حَقُّ فَرْجِكَ: فَحِفْظُهُ مِمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، وَالاِسْتِعَانَةُ عَلَيْهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْوَنِ الأَعْوَانِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَالتَّهَدُّدِ لِنَفْسِكَ بِاللّهِ، وَالتَّخْوِيفِ لَهَا بِهِ، وَبِاللّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّأْيِيدُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِهِ.

10: حق الصلاة

ثُمَّ حُقُوقُ الأَفْعَالِ:

فَأَمَّا حَقُّ الصَّلاَةِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا وِفَادَةٌ إِلَى اللّهِ، وَأَنَّكَ قَائِمٌ بِهَا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، كُنْتَ خَلِيقاً أَنْ تَقُومَ فِيهَا مَقَامَ الذَّلِيلِ، الرَّاغِبِ، الرَّاهِبِ، الْخَائِفِ، الرَّاجِي، الْمِسْكِينِ، الْمُتَضَرِّعِ، الْمُعَظِّمِ مَنْ قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسُّكُونِ وَالإِطْرَاقِ، وَخُشُوعِ الأَطْرَافِ، وَلِينِ الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ الْمُنَاجَاةِ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَالطَّلَبِ إِلَيْهِ فِي فَكَاكِ رَقَبَتِكَ، الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُكَ، وَاسْتَهْلَكَتْهَا ذُنُوبُكَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

11: حق الصوم

وَأَمَّا حَقُّ الصَّوْمِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ حِجَابٌ ضَرَبَهُ اللّهُ عَلَى لِسَانِكَ، وَسَمْعِكَ،

ص: 199

وَبَصَرِكَ، وَفَرْجِكَ، وَبَطْنِكَ؛ لِيَسْتُرَكَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، فَإِنْ سَكَنَتْ أَطْرَافُكَ فِي حَجَبَتِهَا، رَجَوْتَ أَنْ تَكُونَ مَحْجُوباً، وَإِنْ أَنْتَ تَرَكْتَهَا تَضْطَرِبُ فِي حِجَابِهَا، وَتَرْفَعُ جَنَبَاتِ الْحِجَابِ، فَتَطَّلِعُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا، بِالنَّظْرَةِ الدَّاعِيَةِ لِلشَّهْوَةِ، وَالْقُوَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ للهِ، لَمْ تَأْمَنْ أَنْ تَخْرِقَ الْحِجَابَ وَتَخْرُجَ مِنْهُ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

12: حق الصدقة

وَأَمَّا حَقُّ الصَّدَقَةِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا ذُخْرُكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَوَدِيعَتُكَ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الإِشْهَادِ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ كُنْتَ بِمَا اسْتَوْدَعْتَهُ سِرّاً أَوْثَقَ بِمَا اسْتَوْدَعْتَهُ عَلانِيَةً، وَكُنْتَ جَدِيراً أَنْ تَكُونَ أَسْرَرْتَ إِلَيْهِ أَمْراً أَعْلَنْتَهُ، وَكَانَ الأَمْرُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فِيهَا سِرّاً عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ تَسْتَظْهِرْ عَلَيْهِ فِيمَا اسْتَوْدَعْتَهُ مِنْهَا بِإِشْهَادِ الأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ عَلَيْهِ بِهَا، كَأَنَّهَا أَوْثَقُ فِي نَفْسِكَ، لاَ كَأَنَّكَ لاَ تَثِقُ بِهِ فِي تَأْدِيَةِ وَدِيعَتِكَ إِلَيْكَ، ثُمَّ لَمْ تَمْتَنَّ بِهَا عَلَى أَحَدٍ؛ لأَنَّهَا لَكَ، فَإِذَا امْتَنَنْتَ بِهَا، لَمْ تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ بِهَا مِثْلَ تَهْجِينِ حَالِكَ مِنْهَا إِلَى مَنْ مَنَنْتَ بِهَا عَلَيْهِ؛ لأَنَّ فِي ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّكَ لَمْ تُرِدْ نَفْسَكَ بِهَا، وَلَوْ أَرَدْتَ نَفْسَكَ بِهَا لَمْ تَمْتَنَّ بِهَا عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

13: حق الهدي

وَأَمَّا حَقُّ الْهَدْيِ: فَأَنْ تُخْلِصَ بِهَا الإِرَادَةَ إِلَى رَبِّكَ، وَالتَّعَرُّضَ لِرَحْمَتِهِ وَقَبُولِهِ، وَلاَ تُرِيدَ عُيُونَ النَّاظِرِينَ دُونَهُ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ مُتَكَلِّفاً وَلاَ مُتَصَنِّعاً، وَكُنْتَ إِنَّمَا تَقْصِدُ إِلَى اللّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ يُرَادُ بِالْيَسِيرِ، وَلاَ يُرَادُ بِالْعَسِيرِ، كَمَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ التَيْسِيرَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِمُ التَّعْسِيرَ، وَكَذَلِكَ التَّذَلُّلُ أَوْلَى بِكَ مِنَ التَّدَهْقُنِ؛ لأَنَّ الْكُلْفَةَ وَالْمَئُونَةَ فِي الْمُتَدَهْقِنِينَ،

ص: 200

فَأَمَّا التَّذَلُّلُ وَالتَّمَسْكُنُ فَلاَ كُلْفَةَ فِيهِمَا، وَلاَ مَئُونَةَ عَلَيْهِمَا؛ لأَنَّهُمَا الْخِلْقَةُ، وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي الطَّبِيعَةِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

14: حق الراعي

ثُمَّ حُقُوقُ الأَئِمَّةِ:

فَأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بِالسُّلْطَانِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ جُعِلْتَ لَهُ فِتْنَةً، وَأَنَّهُ مُبْتَلًى فِيكَ بِمَا جَعَلَهُ اللّهُ لَهُ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ، وَأَنْ تُخْلِصَ لَهُ فِي النَّصِيحَةِ، وَأَنْ لاَ تُمَاحِكَهُ وَقَدْ بُسِطَتْ يَدُهُ عَلَيْكَ، فَتَكُونَ سَبَبَ هَلاَكِ نَفْسِكَ وَهَلاَكِهِ، وَتَذَلَّلْ وَتَلَطَّفْ لإِعْطَائِهِ مِنَ الرِّضَا مَا يَكُفُّهُ عَنْكَ، وَلاَ يُضِرُّ بِدِينِكَ، وَتَسْتَعِينُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِاللّهِ، وَلاَ تُعَازِّهِ وَلاَ تُعَانِدْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ عَقَقْتَهُ، وَعَقَقْتَ نَفْسَكَ، فَعَرَّضْتَهَا لِمَكْرُوهِهِ، وَعَرَّضْتَهُ لِلْهَلَكَةِ فِيكَ، وَكُنْتَ خَلِيقاً أَنْ تَكُونَ مُعِيناً لَهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَشَرِيكاً لَهُ فِيمَا أَتَى إِلَيْكَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

15: حق المعلم

وَأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بِالْعِلْمِ: فَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَالتَّوْقِيرُ لِمَجْلِسِهِ، وَحُسْنُ الاِسْتِمَاعِ إِلَيْهِ، وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالْمَعُونَةُ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ، فِيمَا لاَ غِنَى بِكَ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ، بِأَنْ تُفَرِّغَ لَهُ عَقْلَكَ، وَتُحَضِّرَهُ فَهْمَكَ، وَتُزَكِّيَ لَهُ قَلْبَكَ، وَتُجَلِّيَ لَهُ بَصَرَكَ، بِتَرْكِ اللَّذَّاتِ، وَنَقْصِ الشَّهَوَاتِ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ فِيمَا أَلْقَى إِلَيْكَ رَسُولُهُ إِلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ، فَلَزِمَكَ حُسْنُ التَّأْدِيَةِ عَنْهُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ تَخُنْهُ فِي تَأْدِيَةِ رِسَالَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِهَا عَنْهُ إِذَا تَقَلَّدْتَهَا، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

16: حق المالك

وَأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بِالْمِلْكِ: فَنَحْوٌ مِنْ سَائِسِكَ بِالسُّلْطَانِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ مَا

ص: 201

لاَ يَمْلِكُهُ ذَاكَ، تَلْزَمُكَ طَاعَتُهُ فِيمَا دَقَّ وَجَلَّ مِنْكَ، إِلاَّ أَنْ تُخْرِجَكَ مِنْ وُجُوبِ حَقِّ اللّهِ، وَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ حَقِّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ، فَإِذَا قَضَيْتَهُ رَجَعْتَ إِلَى حَقِّهِ فَتَشَاغَلْتَ بِهِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

17: حق الرعية

ثُمَّ حُقُوقُ الرَّعِيَّةِ:

فَأَمَّا حُقُوقُ رَعِيَّتِكَ بِالسُّلْطَانِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ إِنَّمَا اسْتَرْعَيْتَهُمْ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَحَلَّهُمْ مَحَلَّ الرَّعِيَّةِ لَكَ ضَعْفُهُمْ وَذُلُّهُمْ، فَمَا أَوْلَى مَنْ كَفَاكَهُ ضَعْفُهُ وَذُلُّهُ، حَتَّى صَيَّرَهُ لَكَ رَعِيَّةً، وَصَيَّرَ حُكْمَكَ عَلَيْهِ نَافِذاً، لاَ يَمْتَنِعُ مِنْكَ بِعِزَّةٍ وَلاَ قُوَّةٍ، وَلاَ يَسْتَنْصِرُ فِيمَا تَعَاظَمَهُ مِنْكَ إِلاَّ بِاللّهِ، بِالرَّحْمَةِ وَالْحِيَاطَةِ وَالأَنَاةِ، وَمَا أَوْلاَكَ إِذَا عَرَفْتَ مَا أَعْطَاكَ اللّهُ مِنْ فَضْلِ هَذِهِ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي قَهَرْتَ بِهَا، أَنْ تَكُونَ للهِ شَاكِراً، وَمَنْ شَكَرَ اللّهَ أَعْطَاهُ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

18: حق المتعلم

وَأَمَّا حَقُّ رَعِيَّتِكَ بِالْعِلْمِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللّهَ قَدْ جَعَلَكَ لَهُمْ، فِيمَا آتَاكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَوَلاَّكَ مِنْ خِزَانَةِ الْحِكْمَةِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ فِيمَا وَلاَّكَ اللّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقُمْتَ بِهِ لَهُمْ مَقَامَ الْخَازِنِ الشَّفِيقِ، النَّاصِحِ لِمَوْلاَهُ فِي عَبِيدِهِ، الصَّابِرِ الْمُحْتَسِبِ الَّذِي إِذَا رَأَى ذَا حَاجَةٍ، أَخْرَجَ لَهُ مِنَ الأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ كُنْتَ رَاشِداً، وَكُنْتَ لِذَلِكَ آمِلاً مُعْتَقِداً، وَإِلاَّ كُنْتَ لَهُ خَائِناً، وَلِخَلْقِهِ ظَالِماً، وَلِسَلَبِهِ وَعِزِّهِ مُتَعَرِّضاً.

19: حق الزوجة

وَأَمَّا حَقُّ رَعِيَّتِكَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللّهَ جَعَلَهَا سَكَناً، وَمُسْتَرَاحاً،

ص: 202

وَأُنْساً، وَوَاقِيَةً، وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا يَجِبُ أَنْ يَحْمَدَ اللّهَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَوَجَبَ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَةَ نِعْمَةِ اللّهِ، وَيُكْرِمَهَا وَيَرْفَقَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ حَقُّكَ عَلَيْهَا أَغْلَظَ، وَطَاعَتُكَ بِهَا أَلْزَمَ، فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ، مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، فَإِنَّ لَهَا حَقَّ الرَّحْمَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، وَمَوْضِعُ السُّكُونِ إِلَيْهَا قَضَاءُ اللَّذَّةِ، الَّتِي لاَبُدَّ مِنْ قَضَائِهَا، وَذَلِكَ عَظِيمٌ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

20: حق ملك اليمين

وَأَمَّا حَقُّ رَعِيَّتِكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ خَلْقُ رَبِّكَ، وَلَحْمُكَ وَدَمُكَ، وَأَنَّكَ تَمْلِكُهُ لا أَنْتَ صَنَعْتَهُ دُونَ اللّهِ، وَلاَ خَلَقْتَ لَهُ سَمْعاً وَلاَ بَصَراً، وَلاَ أَجْرَيْتَ لَهُ رِزْقاً، وَلَكِنَّ اللّهَ كَفَاكَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَخَّرَهُ لَكَ، وَائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ، وَاسْتَوْدَعَكَ إِيَّاهُ؛ لِتَحْفَظَهُ فِيهِ، وَتَسِيرَ فِيهِ بِسِيرَتِهِ، فَتُطْعِمَهُ مِمَّا تَأْكُلُ، وَتُلْبِسَهُ مِمَّا تَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفَهُ مَا لاَ يُطِيقُ، فَإِنْ كَرِهْتَهُ خَرَجْتَ إِلَى اللّهِ مِنْهُ، وَاسْتَبْدَلْتَ بِهِ، وَلَمْ تُعَذِّبْ خَلْقَ اللّهِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

21: حق الأم

وَأَمَّا حَقُّ الرَّحِمِ:

فَحَقُّ أُمِّكَ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ حَيْثُ لاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَطْعَمَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا، مَا لاَ يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَنَّهَا وَقَتْكَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا، وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا، وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا، وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا، مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِكَ، فَرِحَةً مُوَابِلَةً، مُحْتَمِلَةً لِمَا فِيهِ مَكْرُوهُهَا، وَأَلَمُهَا وَثِقْلُهَا وَغَمُّهَا، حَتَّى دَفَعَتْهَا عَنْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ، وَأَخْرَجَتْكَ إِلَى الأَرْضِ، فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجُوعَ هِيَ، وَتَكْسُوَكَ وَتَعْرَى، وَتُرْوِيَكَ وَتَظْمَأَ، وَتُظِلَّكَ وَتَضْحَى، وَتُنَعِّمَكَ بِبُؤْسِهَا، وَتُلَذِّذَكَ بِالنَّوْمِ بِأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً، وَحَجْرُهَا لَكَ حِوَاءً، وَثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، وَنَفْسُهَا لَكَ

ص: 203

وِقَاءً، تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنْيَا وَبَرْدَهَا لَكَ وَدُونَكَ، فَتَشْكُرُهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِعَوْنِ اللّهِ وَتَوْفِيقِهِ.

22: حق الأب

وَأَمَّا حَقُّ أَبِيكَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ أَصْلُكَ وَأَنَّكَ فَرْعُهُ، وَأَنَّكَ لَوْلاَهُ لَمْ تَكُنْ، فَمَهْمَا رَأَيْتَ فِي نَفْسِكَ مِمَّا يُعْجِبُكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَاكَ أَصْلُ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِيهِ، وَاحْمَدِ اللّهَ وَاشْكُرْهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

23: حق الولد

وَأَمَّا حَقُّ وَلَدِكَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْكَ، وَمُضَافٌ إِلَيْكَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّكَ مَسْئُولٌ عَمَّا وُلِّيتَهُ مِنْ حُسْنِ الأَدَبِ، وَالدَّلاَلَةِ عَلَى رَبِّهِ، وَالْمَعُونَةِ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ فِيكَ وَفِي نَفْسِهِ، فَمُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَمُعَاقَبٌ، فَاعْمَلْ فِي أَمْرِهِ عَمَلَ الْمُتَزَيِّنِ، بِحُسْنِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، الْمُعَذِّرِ إِلَى رَبِّهِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، بِحُسْنِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، وَالأَخْذِ لَهُ مِنْهُ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

24: حق الأخ

وَأَمَّا حَقُّ أَخِيكَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ يَدُكَ الَّتِي تَبْسُطُهَا، وَظَهْرُكَ الَّذِي تَلْتَجِئُ إِلَيْهِ، وَعِزُّكَ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَقُوَّتُكَ الَّتِي تَصُولُ بِهَا، فَلاَ تَتَّخِذْهُ سِلاَحاً عَلَى مَعْصِيَةِ اللّهِ، وَلاَ عُدَّةً لِلظُّلْمِ بِحَقِّ اللّهِ، وَلاَ تَدَعْ نُصْرَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَعُونَتَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْحَوْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيَاطِينِهِ، وَتَأْدِيَةَ النَّصِيحَةِ إِلَيْهِ، وَالإِقْبَالَ عَلَيْهِ فِي اللّهِ، فَإِنِ انْقَادَ لِرَبِّهِ، وَأَحْسَنَ الإِجَابَةَ لَهُ، وَإِلاَّ فَلْيَكُنِ اللّهُ آثَرَ عِنْدَكَ، وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنْهُ.

25: حق من أعتقك

وَأَمَّا حَقُّ الْمُنْعِمِ عَلَيْكَ بِالْوَلاَءِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِيكَ مَالَهُ، وَأَخْرَجَكَ مِنْ

ص: 204

ذُلِّ الرِّقِّ وَوَحْشَتِهِ إِلَى عِزِّ الْحُرِّيَّةِ وَأُنْسِهَا، وَأَطْلَقَكَ مِنْ أَسْرِ الْمَلَكَةِ، وَفَكَّ عَنْكَ حِلَقَ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَوْجَدَكَ رَائِحَةَ الْعِزِّ، وَأَخْرَجَكَ مِنْ سِجْنِ الْقَهْرِ، وَدَفَعَ عَنْكَ الْعُسْرَ، وَبَسَطَ لَكَ لِسَانَ الإِنْصَافِ، وَأَبَاحَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا، فَمَلَّكَكَ نَفْسَكَ، وَحَلَّ أَسْرَكَ، وَفَرَّغَكَ لِعِبَادَةِ رَبِّكَ، وَاحْتَمَلَ بِذَلِكَ التَّقْصِيرَ فِي مَالِهِ، فَتَعْلَمَ أَنَّهُ أَوْلَى الْخَلْقِ بِكَ بَعْدَ أُولِي رَحِمِكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَوْتِكَ، وَأَحَقُّ الْخَلْقِ بِنَصْرِكَ وَمَعُونَتِكَ، وَمُكَانَفَتِكَ فِي ذَاتِ اللّهِ، فَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْهِ نَفْسَكَ مَا احْتَاجَ إِلَيْكَ.

26: حق من أعتقته

وَأَمَّا حَقُّ مَوْلاَكَ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ نِعْمَتُكَ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللّهَ جَعَلَكَ حَامِيَةً عَلَيْهِ، وَوَاقِيَةً وَنَاصِراً وَمَعْقِلاً، وَجَعَلَهُ لَكَ وَسِيلَةً، وَسَبَباً بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَحْجُبَكَ عَنِ النَّارِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ مِنْهُ فِي الآجِلِ، وَيَحْكُمُ لَكَ بِمِيرَاثِهِ فِي الْعَاجِلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحِمٌ، مُكَافَأَةً لِمَا أَنْفَقْتَهُ مِنْ مَالِكَ عَلَيْهِ، وَقُمْتَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ إِنْفَاقِ مَالِكَ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِحَقِّهِ، خِيفَ عَلَيْكَ أَنْ لاَ يَطِيبَ لَكَ مِيرَاثُهُ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

27: حق ذي المعروف

وَأَمَّا حَقُّ ذِي الْمَعْرُوفِ عَلَيْكَ: فَأَنْ تَشْكُرَهُ، وَتَذْكُرَ مَعْرُوفَهُ، وَتَنْشُرَ لَهُ الْمَقَالَةَ الْحَسَنَةَ، وَتُخْلِصَ لَهُ الدُّعَاءَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، كُنْتَ قَدْ شَكَرْتَهُ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً، ثُمَّ إِنْ أَمْكَنَ مُكَافَأَتُهُ بِالْفِعْلِ كَافَأْتَهُ، وَإِلاَّ كُنْتَ مُرْصِداً لَهُ، مُوَطِّناً نَفْسَكَ عَلَيْهَا.

28: حق المؤذن

وَأَمَّا حَقُّ الْمُؤَذِّنِ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ مُذَكِّرُكَ بِرَبِّكَ، وَدَاعِيكَ إِلَى حَظِّكَ، وَأَفْضَلُ

ص: 205

أَعْوَانِكَ عَلَى قَضَاءِ الْفَرِيضَةِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللّهُ عَلَيْكَ، فَتَشْكُرَهُ عَلَى ذَلِكَ شُكْرَكَ لِلْمُحْسِنِ إِلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ فِي بَيْتِكَ مُهْتَمّاً لِذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ للهِ فِي أَمْرِهِ مُتَّهِماً، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللّهِ عَلَيْكَ لاَ شَكَّ فِيهَا، فَأَحْسِنْ صُحْبَةَ نِعْمَةِ اللّهِ بِحَمْدِ اللّهِ عَلَيْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

29: حق إمام الجماعة

وَأَمَّا حَقُّ إِمَامِكَ فِي صَلاَتِكَ: فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ تَقَلَّدَ السِّفَارَةَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللّهِ، وَالْوِفَادَةَ إِلَى رَبِّكَ، وَتَكَلَّمَ عَنْكَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ عَنْهُ، وَدَعَا لَكَ وَلَمْ تَدْعُ لَهُ، وَطَلَبَ فِيكَ وَلَمْ تَطْلُبْ فِيهِ، وَكَفَاكَ هَمَّ الْمَقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ، وَالْمُسَاءَلَةِ لَهُ فِيكَ، وَلَمْ تَكْفِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَقْصِيرٌ كَانَ بِهِ دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ آثِماً لَمْ تَكُنْ شَرِيكَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْكَ فَضْلٌ، فَوَقَى نَفْسَكَ بِنَفْسِهِ، وَوَقَى صَلاَتَكَ بِصَلاَتِهِ، فَتَشْكُرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

30: حق الجليس

وَأَمَّا حَقُّ الْجَلِيسِ: فَأَنْ تُلِينَ لَهُ كَنَفَكَ، وَتُطِيبَ لَهُ جَانِبَكَ، وَتُنْصِفَهُ فِي مُجَارَاةِ اللَّفْظِ، وَلاَ تُغْرِقَ فِي نَزْعِ اللَّحْظِ إِذَا لَحَظْتَ، وَتَقْصِدَ فِي اللَّفْظِ إِلَى إِفْهَامِهِ إِذَا لَفَظْتَ، وَإِنْ كُنْتَ الْجَلِيسَ إِلَيْهِ كُنْتَ فِي الْقِيَامِ عَنْهُ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْجَالِسَ إِلَيْكَ كَانَ بِالْخِيَارِ، وَلاَ تَقُومَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

31: حق الجار

وَأَمَّا حَقُّ الْجَارِ: فَحِفْظُهُ غَائِباً، وَكَرَامَتُهُ شَاهِداً، وَنُصْرَتُهُ وَمَعُونَتُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعاً، لاَ تَتَبَّعْ لَهُ عَوْرَةً، وَلاَ تَبْحَثْ لَهُ عَنْ سَوْءَةٍ لِتَعْرِفَهَا، فَإِنْ عَرَفْتَهَا مِنْهُ عَنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْكَ وَلاَ تَكَلُّفٍ، كُنْتَ لِمَا عَلِمْتَ حِصْناً حَصِيناً، وَسِتْراً

ص: 206

سَتِيراً، لَوْ بَحَثَتِ الأَسِنَّةُ عَنْهُ ضَمِيراً، لَمْ تَتَّصِلْ إِلَيْهِ لاِنْطِوَائِهِ عَلَيْهِ، لاَ تَسْتَمِعْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ، لاَ تُسْلِمْهُ عِنْدَ شَدِيدَةٍ، وَلاَ تَحْسُدْهُ عِنْدَ نِعْمَةٍ، تُقِيلُ عَثْرَتَهُ، وَتَغْفِرُ زَلَّتَهُ، وَلاَ تَدَّخِرْ حِلْمَكَ عَنْهُ إِذَا جَهِلَ عَلَيْكَ، وَلاَ تَخْرُجْ أَنْ تَكُونَ سِلْماً لَهُ، تَرُدُّ عَنْهُ لِسَانَ الشَّتِيمَةِ، وَتُبْطِلُ فِيهِ كَيْدَ حَامِلِ النَّصِيحَةِ، وَتُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً كَرِيمَةً، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

32: حق الصاحب

وَأَمَّا حَقُّ الصَّاحِبِ: فَأَنْ تَصْحَبَهُ بِالْفَضْلِ مَا وَجَدْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَإِلاَّ فَلاَ أَقَلَّ مِنَ الإِنْصَافِ، وَأَنْ تُكْرِمَهُ كَمَا يُكْرِمُكَ، وَتَحْفَظَهُ كَمَا يَحْفَظُكَ، وَلاَ يَسْبِقَكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِلَى مَكْرُمَةٍ، فَإِنْ سَبَقَكَ كَافَأْتَهُ، وَلاَ تُقَصِّرَ بِهِ عَمَّا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَوَدَّةِ، تُلْزِمُ نَفْسَكَ نَصِيحَتَهُ وَحِيَاطَتَهُ، وَمُعَاضَدَتَهُ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، وَمَعُونَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا لاَ يَهُمُّ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِ، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِ رَحْمَةً، وَلاَ تَكُونُ عَلَيْهِ عَذَاباً، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

33: حق الشريك

وَأَمَّا حَقُّ الشَّرِيكِ: فَإِنْ غَابَ كَفَيْتَهُ، وَإِنْ حَضَرَ سَاوَيْتَهُ، وَلاَ تَعْزِمْ عَلَى حُكْمِكَ دُونَ حُكْمِهِ، وَلاَ تَعْمَلْ بِرَأْيِكَ دُونَ مُنَاظَرَتِهِ، وَتَحْفَظُ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَتَنْفِي عَنْهُ خِيَانَتَهُ فِيمَا عَزَّ أَوْ هَانَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ يَدَ اللّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

34: حق المال

وَأَمَّا حَقُّ الْمَالِ: فَأَنْ لاَ تَأْخُذَهُ إِلاَّ مِنْ حِلِّهِ، وَلاَ تُنْفِقَهُ إِلاَّ فِي حِلِّهِ، وَلاَ تُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ تَصْرِفَهُ عَنْ حَقَائِقِهِ، وَلاَ تَجْعَلَهُ إِذَا كَانَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ

ص: 207

وَسَبَباً إِلَى اللّهِ، وَلاَ تُؤْثِرَ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ مَنْ لَعَلَّهُ لاَ يَحْمَدُكَ، وَبِالْحَرِيِّ أَنْ لاَ يُحْسِنَ خِلاَفَتَهُ فِي تَرِكَتِكَ، وَلاَ يَعْمَلَ فِيهِ بِطَاعَةِ رَبِّكَ، فَتَكُونَ مُعِيناً لَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ بِمَا أَحْدَثَ فِي مَالِكَ أَحْسَنَ نَظَراً لِنَفْسِهِ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، فَيَذْهَبَ بِالْغَنِيمَةِ، وَتَبُوءَ بِالإِثْمِ وَالْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ مَعَ التَّبِعَةِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

35: حق الغريم

وَأَمَّا حَقُّ الْغَرِيمِ الطَّالِبِ لَكَ: فَإِنْ كُنْتَ مُوسِراً أَوْفَيْتَهُ وَكَفَيْتَهُ وَأَغْنَيْتَهُ، وَلَمْ تَرْدُدْهُ وَتَمْطُلْهُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم) قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. وَإِنْ كُنْتَ مُعْسِراً أَرْضَيْتَهُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ، وَطَلَبْتَ إِلَيْهِ طَلَباً جَمِيلاً، وَرَدَدْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ رَدّاً لَطِيفاً، وَلَمْ تَجْمَعْ عَلَيْهِ ذَهَابَ مَالِهِ وَسُوءَ مُعَامَلَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لُؤْمٌ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

36: حق الخليط

وَأَمَّا حَقُّ الْخَلِيطِ: فَأَنْ لاَ تَغُرَّهُ، وَلاَ تَغُشَّهُ، وَلاَ تَكْذِبَهُ، وَلاَ تُغْفِلَهُ، وَلاَ تَخْدَعَهُ، وَلاَ تَعْمَلَ فِي انْتِقَاضِهِ عَمَلَ الْعَدُوِّ الَّذِي لاَ يَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْكَ اسْتَقْصَيْتَ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَعَلِمْتَ أَنَّ غَبْنَ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

37: حق من ادعى عليك

وَأَمَّا حَقُّ الْخَصْمِ الْمُدَّعِي عَلَيْكَ: فَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَيْكَ حَقّاً، لَمْ تَنْفَسِخْ فِي حُجَّتِهِ، وَلَمْ تَعْمَلْ فِي إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ، وَكُنْتَ خَصْمَ نَفْسِكَ لَهُ وَالْحَاكِمَ عَلَيْهَا، وَالشَّاهِدَ لَهُ بِحَقِّهِ دُونَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَقُّ اللّهِ عَلَيْكَ. وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ بَاطِلاً، رَفَقْتَ بِهِ وَرَوَّعْتَهُ، وَنَاشَدْتَهُ بِدِينِهِ، وَكَسَرْتَ حِدَّتَهُ عَنْكَ بِذِكْرِ اللّهِ، وَأَلْقَيْتَ حَشْوَ الْكَلاَمِ وَلَغْطَهُ، الَّذِي لاَ يَرُدُّ عَنْكَ عَادِيَةَ عَدُوِّكَ، بَلْ تَبُوءُ

ص: 208

بِإِثْمِهِ، وَبِهِ يَشْحَذُ عَلَيْكَ سَيْفَ عَدَاوَتِهِ؛ لأَنَّ لَفْظَةَ السَّوْءِ تَبْعَثُ الشَّرَّ، وَالْخَيْرُ مَقْمَعَةٌ لِلشَّرِّ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

38: حق من ادعيت عليه

وَأَمَّا حَقُّ الْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ مَا تَدَّعِيهِ حَقّاً، أَجْمَلْتَ فِي مُقَاوَلَتِهِ بِمَخْرَجِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ لِلدَّعْوَى غِلْظَةً فِي سَمْعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَصَدْتَ قَصْدَ حُجَّتِكَ بِالرِّفْقِ، وَأَمْهَلِ الْمُهْلَةِ، وَأَبْيَنِ الْبَيَانِ، وَأَلْطَفِ اللُّطْفِ، وَلَمْ تَتَشَاغَلْ عَنْ حُجَّتِكَ بِمُنَازَعَتِهِ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ، فَتَذْهَبَ عَنْكَ حُجَّتُكَ، وَلاَ يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ دَرَكٌ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

39: حق المستشير

وَأَمَّا حَقُّ الْمُسْتَشِيرِ: فَإِنْ حَضَرَكَ لَهُ وَجْهُ رَأْيٍ جَهَدْتَ لَهُ فِي النَّصِيحَةِ، وَأَشَرْتَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ مَكَانَهُ عَمِلْتَ بِهِ، وَذَلِكَ لِيَكُنْ مِنْكَ فِي رَحْمَةٍ وَلِينٍ، فَإِنَّ اللِّينَ يُؤْنِسُ الْوَحْشَةَ، وَإِنَّ الْغِلَظَ يُوحِشُ مَوْضِعَ الأُنْسِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْكَ لَهُ رَأْيٌ، وَعَرَفْتَ لَهُ مَنْ تَثِقُ بِرَأْيِهِ وَتَرْضَى بِهِ لِنَفْسِكَ دَلَلْتَهُ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدْتَهُ إِلَيْهِ، فَكُنْتَ لَمْ تَأْلُهُ خَيْراً، وَلَمْ تَدَّخِرْهُ نُصْحاً، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

40: حق المشير

وَأَمَّا حَقُّ الْمُشِيرِ عَلَيْكَ: فَلاَ تَتَّهِمْهُ فِيمَا لاَ يُوَافِقُكَ عَلَيْهِ مِنْ رَأْيِهِ إِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا هِيَ الآرَاءُ وَتَصَرُّفُ النَّاسِ فِيهَا وَاخْتِلاَفُهُمْ، فَكُنْ عَلَيْهِ فِي رَأْيِهِ بِالْخِيَارِ إِذَا اتَّهَمْتَ رَأْيَهُ، فَأَمَّا تُهَمَتُهُ فَلاَ تَجُوزُ لَكَ، إِذَا كَانَ عِنْدَكَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْمُشَاوَرَةَ، وَلاَ تَدَعْ شُكْرَهُ عَلَى مَا بَدَا لَكَ مِنْ إِشْخَاصِ رَأْيِهِ، وَحُسْنِ وَجْهِ

ص: 209

مَشُورَتِهِ، فَإِذَا وَافَقَكَ حَمِدْتَ اللّهَ، وَقَبِلْتَ ذَلِكَ مِنْ أَخِيكَ بِالشُّكْرِ، وَالإِرْصَادِ بِالْمُكَافَأَةِ فِي مِثْلِهَا إِنْ فَزِعَ إِلَيْكَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

41: حق المستنصح

وَأَمَّا حَقُّ الْمُسْتَنْصِحِ: فَإِنَّ حَقَّهُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ النَّصِيحَةَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي تَرَى لَهُ أَنَّهُ يَحْمِلُ، وَتَخْرُجَ الْمَخْرَجَ الَّذِي يَلِينُ عَلَى مَسَامِعِهِ، وَتُكَلِّمَهُ مِنَ الْكَلاَمِ بِمَا يُطِيقُهُ عَقْلُهُ، فَإِنَّ لِكُلِّ عَقْلٍ طَبَقَةً مِنَ الْكَلاَمِ يَعْرِفُهُ وَيَجْتَنِبُهُ، وَلْيَكُنْ مَذْهَبُكَ الرَّحْمَةَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

42: حق الناصح

وَأَمَّا حَقُّ النَّاصِحِ: فَأَنْ تُلِينَ لَهُ جَنَاحَكَ، ثُمَّ تَشْرَئِبَّ لَهُ قَلْبَكَ، وَتَفْتَحَ لَهُ سَمْعَكَ، حَتَّى تَفْهَمَ عَنْهُ نَصِيحَتَهُ، ثُمَّ تَنْظُرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ وُفِّقَ فِيهَا لِلصَّوَابِ، حَمِدْتَ اللّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَبِلْتَ مِنْهُ، وَعَرَفْتَ لَهُ نَصِيحَتَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُفِّقَ لَهَا فِيهَا رَحِمْتَهُ، وَلَمْ تَتَّهِمْهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَأْلُكَ نُصْحاً إِلاَّ أَنَّهُ أَخْطَأَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مُسْتَحِقّاً لِلتُّهَمَةِ، فَلاَ تَعْبَأْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

43: حق الكبير

وَأَمَّا حَقُّ الْكَبِيرِ: فَإِنَّ حَقَّهُ تَوْقِيرُ سِنِّهِ، وَإِجْلاَلُ إِسْلاَمِهِ، إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ فِي الإِسْلاَمِ بِتَقْدِيمِهِ فِيهِ، وَتَرْكُ مُقَابَلَتِهِ عِنْدَ الْخِصَامِ، وَلاَ تَسْبِقْهُ إِلَى طَرِيقٍ، وَلاَ تَؤُمَّهُ فِي طَرِيقٍ، وَلاَ تَسْتَجْهِلْهُ، وَإِنْ جَهِلَ عَلَيْكَ تَحَمَّلْتَ، وَأَكْرَمْتَهُ بِحَقِّ إِسْلاَمِهِ مَعَ سِنِّهِ، فَإِنَّمَا حَقُّ السِّنِّ بِقَدْرِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

44: حق الصغير

وَأَمَّا حَقُّ الصَّغِيرِ: فَرَحْمَتُهُ وَتَثْقِيفُهُ وَتَعْلِيمُهُ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ،

ص: 210

وَالرِّفْقُ بِهِ، وَالْمَعُونَةُ لَهُ، وَالسَّتْرُ عَلَى جَرَائِرِ حَدَاثَتِهِ؛ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّوْبَةِ، وَالْمُدَارَاةُ لَهُ، وَتَرْكُ مُمَاحَكَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى لِرُشْدِهِ.

45: حق السائل

وَأَمَّا حَقُّ السَّائِلِ: فَإِعْطَاؤُهُ إِذَا تَيَقَّنْتَ صِدْقَهُ، وَقَدَرْتَ عَلَى سَدِّ حَاجَتِهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ، وَالْمُعَاوَنَةُ لَهُ عَلَى طَلِبَتِهِ، وَإِنْ شَكَكْتَ فِي صِدْقِهِ، وَسَبَقَتْ إِلَيْهِ التُّهَمَةُ لَهُ، وَلَمْ تَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ تَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، أَرَادَ أَنْ يَصُدَّكَ عَنْ حَظِّكَ، وَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّقَرُّبِ إِلَى رَبِّكَ، فَتَرَكْتَهُ بِسَتْرِهِ، وَرَدَدْتَهُ رَدّاً جَمِيلاً، وَإِنْ غَلَبْتَ نَفْسَكَ فِي أَمْرِهِ، وَأَعْطَيْتَهُ عَلَى مَا عَرَضَ فِي نَفْسِكَ مِنْهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ.

46: حق المسئول

وَأَمَّا حَقُّ الْمَسْئُولِ: فَحَقُّهُ إِنْ أَعْطَى، قُبِلَ مِنْهُ مَا أَعْطَى بِالشُّكْرِ لَهُ، وَالْمَعْرِفَةِ لِفَضْلِهِ، وَطَلَبِ وَجْهِ الْعُذْرِ فِي مَنْعِهِ، وَأَحْسِنْ بِهِ الظَّنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ مَنَعَ فَمَالَهُ مَنَعَ، وَأَنْ لَيْسَ التَّثْرِيبُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَالِماً فَ- {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(1).

47: حق المحسن إليك

وَأَمَّا حَقُّ مَنْ سَرَّكَ اللّهُ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ: فَإِنْ كَانَ تَعَمَّدَهَا لَكَ، حَمِدْتَ اللّهَ أَوَّلاً، ثُمَّ شَكَرْتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَدْرِهِ فِي مَوْضِعِ الْجَزَاءِ، وَكَافَأْتَهُ عَلَى فَضْلِ الاِبْتِدَاءِ، وَأَرْصَدْتَ لَهُ الْمُكَافَأَةَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَهَا، حَمِدْتَ اللّهَ وَشَكَرْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْهُ تَوَحَّدَكَ بِهَا، وَأَحْبَبْتَ هَذَا؛ إِذْ كَانَ سَبَباً مِنْ أَسْبَابِ نِعَمِ اللّهِ عَلَيْكَ، وَتَرْجُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْراً، فَإِنَّ أَسْبَابَ النِّعَمِ بَرَكَةٌ حَيْثُ مَا كَانَتْ، وَإِنْ

ص: 211


1- سورة إبراهيم: 34.

كَانَ لَمْ يَتَعَمَّدْ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

48: حق المسيء إليك

وَأَمَّا حَقُّ مَنْ سَاءَكَ الْقَضَاءُ عَلَى يَدَيْهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ: فَإِنْ كَانَ تَعَمَّدَهَا، كَانَ الْعَفْوُ أَوْلَى بِكَ لِمَا فِيهِ لَهُ مِنَ الْقَمْعِ، وَحُسْنِ الأَدَبِ مَعَ كَثِيرِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ اللّهَ يَقُولُ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} إِلَى قَوْلِهِ {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(1)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(2)، هَذَا فِي الْعَمْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمْداً، لَمْ تَظْلِمْهُ بِتَعَمُّدِ الاِنْتِصَارِ مِنْهُ، فَتَكُونَ قَدْ كَافَأْتَهُ فِي تَعَمُّدٍ عَلَى خَطَإٍ، وَرَفَقْتَ بِهِ، وَرَدَدْتَهُ بِأَلْطَفِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

49: حق أهل ملتك

وَأَمَّا حَقُّ أَهْلِ مِلَّتِكَ عَامَّةً: فَإِضْمَارُ السَّلاَمَةِ، وَنَشْرُ جَنَاحِ الرَّحْمَةِ، وَالرِّفْقُ بِمُسِيئِهِمْ، وَتَأَلُّفُهُمْ وَاسْتِصْلاَحُهُمْ، وَشُكْرُ مُحْسِنِهِمْ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَيْكَ، فَإِنَّ إِحْسَانَهُ إِلَى نَفْسِهِ إِحْسَانُهُ إِلَيْكَ، إِذَا كَفَّ عَنْكَ أَذَاهُ، وَكَفَاكَ مَئُونَتَهُ، وَحَبَسَ عَنْكَ نَفْسَهُ، فَعُمَّهُمْ جَمِيعاً بِدَعْوَتِكَ، وَانْصُرْهُمْ جَمِيعاً بِنُصْرَتِكَ، وَأَنْزَلْتَهُمْ جَمِيعاً مِنْكَ مَنَازِلَهُمْ، كَبِيرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، وَصَغِيرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَأَوْسَطَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الأَخِ، فَمَنْ أَتَاكَ تَعَاهَدْتَهُ بِلُطْفٍ وَرَحْمَةٍ، وَصِلْ أَخَاكَ بِمَا يَجِبُ لِلأَخِ عَلَى أَخِيهِ.

50: حق أهل الذمة

وَأَمَّا حَقُّ أَهْلِ الذِّمَّةِ: فَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا قَبِلَ اللّهُ، وَتَفِيَ بِمَا جَعَلَ

ص: 212


1- سورة النحل: 126.
2- سورة الشُّورى: 41-43.

اللّهُ لَهُمْ مِنْ ذِمَّتِهِ وَعَهْدِهِ، وَتَكِلَهُمْ إِلَيْهِ فِيمَا طُلِبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأُجْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا حَكَمَ اللّهُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا جَرَى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مِنْ مُعَامَلَةٍ، وَلْيَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ظُلْمِهِمْ مِنْ رِعَايَةِ ذِمَّةِ اللّهِ، وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَعَهِدِ رَسُولِ اللّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم) حَائِلٌ؛ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً كُنْتُ خَصْمَهُ، فَاتَّقِ اللّهَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ.

الحقوق خمسون

فَهَذِهِ خَمْسُونَ حَقّاً مُحِيطاً بِكَ، لاَ تَخْرُجْ مِنْهَا فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، يَجِبُ عَلَيْكَ رِعَايَتُهَا، وَالْعَمَلُ فِي تَأْدِيَتِهَا، وَالاِسْتِعَانَةُ بِاللّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ(1).

حق الناس في الأزمات

كان الإمام (عليه السلام) يرعى الناس في الشدة، ويحفظهم من البلاء.

قال ابن الأعرابي: لما وجه يزيد بن معاوية عسكره لاستباحة أهل المدينة، ضم علي بن الحسين (عليه السلام) إلى نفسه أربعمائة منافية يعولهن، إلى أن انقرض جيش مسلم بن عقبة(2).

وقد حكي عنه مثل ذلك عند إخراج ابن الزبير بني أمية من الحجاز(3).

ص: 213


1- تحف العقول: ص255-272، رسالته (عليه السلام) المعروفة ب- «رسالة الحقوق».
2- التذكرة الحمدونية: ج2 ص276، حكايات عن بعض الأجواد، ح723.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

31

عتق العبيد

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يشتري العبيد، ويربيهم على تعاليم القرآن والعترة الطاهرة (عليهم السلام) ، ثم يعتقهم في سبيل اللّه. فكانوا مدرسة للعلوم الإسلامية في المجتمع، وكانوا أساتذة تعلموا من علوم آل محمد (عليهم السلام) يعلمون الناس على الخير والفضيلة، والتقوى والإيمان، والعمل الصالح.

روي أنه ما استخدم الإمام السجاد (عليه السلام) خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة، إذا كانت ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتق، كذلك كان يفعل حتى لحق باللّه تعالى.

وفي الرواية إنه (عليه السلام) كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة، يأتي بهم عرفات فيسد بهم تلك الفرج، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال(1).

وروي أنه عمد علي بن الحسين (عليه السلام) إلى عبدٍ له كان عبد اللّه بن جعفر أعطاه به عشرة آلاف درهم أو ألف دينار، فأعتقه(2).

وهكذا كان الإمام (عليه السلام) كثير العتق للعبيد والإماء، وبذلك ربى جمهرة من

ص: 214


1- الإقبال بالأعمال الحسنة: ج1 ص445، الباب34.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص164، الباب إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، الفصل في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .

الناس، ونشر كثيراً من علوم العترة الطاهرة (عليهم السلام) في الأوساط.

وما من سنة إلاّ وكان الإمام (عليه السلام) يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقل أو أكثر.

وكان يقول: «إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كل قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان، أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني اللّه وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النار»(1).

وكان يعتق في كل مناسبة، وفي كل حدث.

روي أنه كسرت جارية له قصعةً فيها طعام، فاصفر وجهها. فقال لها: «اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه»(2).

وعن عبد اللّه بن عطاء، قال: أذنب غلام لعلي بن الحسين (عليه السلام) ذنباً استحق به العقوبة. فأخذ له السوط وقال: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّهِ}(3). فقال الغلام: وما أنا كذاك، إني لأرجو رحمة اللّه، وأخاف عذابه. فألقى السوط وقال: «أنت عتيق»(4).

العتق في العيد

روى ابن طاووس، عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

ص: 215


1- الإقبال بالأعمال الحسنة: ج1 ص444-445، الباب34.
2- بحار الأنوار: ج46 ص96، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح84.
3- سورة الجاثية: 14.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص101، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

«كان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا دخل شهر رمضان، لا يضرب عبداً له ولا أمة. وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده: أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه. فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان، فعلتَ كذا وكذا، ولم أؤدبك أ تذكر ذلك؟. فيقول: بلى يا ابن رسول اللّه. حتى يأتي على آخرهم، ويقررهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول: ارفعوا أصواتكم وقولوا:

يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَحْصَى عَلَيْكَ كُلَّ مَا عَمِلْتَ، كَمَا أَحْصَيْتَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا عَمِلْنَا، وَلَدَيْهِ كِتَابٌ يَنْطِقُ عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً مِمَّا أَتَيْتَ إِلاَّ أَحْصاها، وَتَجِدُ كُلَّ مَا عَمِلْتَ لَدَيْهِ حَاضِراً، كَمَا وَجَدْنَا كُلَّ مَا عَمِلْنَا لَدَيْكَ حَاضِراً. فَاعْفُ وَاصْفَحْ كَمَا تَرْجُو مِنَ الْمَلِيكِ الْعَفْوَ، وَكَمَا تُحِبُّ أَنْ يَعْفُوَ الْمَلِيكُ عَنْكَ، فَاعْفُ عَنَّا تَجِدْهُ عَفُوّاً، وَبِكَ رَحِيماً، وَلَكَ غَفُوراً، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، كَمَا لَدَيْكَ كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ عَلَيْنَا، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً مِمَّا أَتَيْنَاهَا إِلاَّ أَحْصاها.

فَاذْكُرْ - يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ - ذُلَّ مُقَامِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، الَّذِي لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَيَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً وَشَهِيداً. فَاعْفُ وَاصْفَحْ، يَعْفُ عَنْكَ الْمَلِيكُ وَيَصْفَحْ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}(1).

وهو ينادي بذلك على نفسه، ويلقنهم وينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي، ويقول:

ص: 216


1- سورة النور: 22.

رَبِّ، إِنَّكَ أَمَرْتَنَا أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنَا، وَقَدْ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا كَمَا أَمَرْتَ، فَاعْفُ عَنَّا فَإِنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا وَمِنَ الْمَأْمُورِينَ. وَأَمَرْتَنَا أَنْ لاَ نَرُدَّ سَائِلاً عَنْ أَبْوَابِنَا، وَقَدْ أَتَيْنَاكَ سُؤَّالاً وَمَسَاكِينَ، وَقَدْ أَنَخْنَا بِفِنَائِكَ وَبِبَابِكَ، نَطْلُبُ نَائِلَكَ وَمَعْرُوفَكَ وَعَطَاءَكَ، فَامْنُنْ بِذَلِكَ عَلَيْنَا، وَلاَ تُخَيِّبْنَا فَإِنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا وَمِنَ الْمَأْمُورِينَ. إِلَهِي كَرُمْتَ فَأَكْرِمْنِي، إِذْ كُنْتُ مِنْ سُؤَّالِكَ، وَجُدْتَ بِالْمَعْرُوفِ، فَاخْلِطْنِي بِأَهْلِ نَوَالِكَ يَا كَرِيمُ.

ثم يقبل عليهم، فيقول: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ، فَهَلْ عَفَوْتُمْ عَنِّي، وَمِمَّا كَانَ مِنِّي إِلَيْكُمْ مِنْ سُوءِ مَلَكَةٍ، فَإِنِّي مَلِيكُ سُوءٍ لَئِيمٌ ظَالِمٌ، مَمْلُوكٌ لِمَلِيكٍ كَرِيمٍ جَوَادٍ، عَادِلٍ مُحْسِنٍ مُتَفَضِّل.

فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت.

فيقول لهم: قولوا: اللَّهُمَّ اعْفُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ كَمَا عَفَا عَنَّا، فَأَعْتِقْهُ مِنَ النَّارِ كَمَا أَعْتَقَ رِقَابَنَا مِنَ الرِّقِّ.

فيقولون ذلك، فيقول: اللّهم آمين رب العالمين، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم، وأعتقتُ رقابكم رجاءً للعفو عني وعتق رقبتي»(1).

ص: 217


1- الإقبال بالأعمال الحسنة: ج1 ص443-444، الباب34.

32

مناجات وأدعية

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير الدعاء والمناجاة.

قال طاووس: دخلت الحِجْر في الليل، فإذا علي بن الحسين (عليه السلام) قد دخل. فقام يصلي، فصلى ما شاء اللّه، ثم سجد. قال: فقلت: رجل صالح من أهل بيت الخير لأستمعن إلى دعائه. فسمعته يقول في سجوده: «عُبَيْدُكَ بِفِنائِكَ، مِسْكِينُكَ بِفِنائِكَ، فَقِيرُكَ بِفِنائِكَ، سَائِلُكَ بِفِنائِكَ». قال طاووس: فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني(1).

يا من قصده الطالبون

عن حماد بن حبيب العطار الكوفي، قال: خرجنا حجاجاً، فرحلنا من زبالة ليلاً، فاستقبلتنا ريح سوداء مظلمة، فتقطعت القافلة، فتهتُ في تلك الصحاري والبراري، فانتهيت إلى وادٍ قفر، فلما أن جن الليل أويت إلى شجرة عادية، فلما أن اختلط الظلام، إذا أنا بشاب قد أقبل، عليه أطمار بيض، تفوح منه رائحة المسك، فقلت في نفسي: هذا ولي من أولياء اللّه، متى ما أحس بحركتي خشيت نفاره، وأن أمنعه عن كثير مما يريد فعاله، فأخفيت نفسي ما استطعت، فدنا إلى

ص: 218


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص143-144، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

الموضع، فتهيأ للصلاة ثم وثب قائماً، وهو يقول:

«يَا مَنْ أَحَازَ كُلَّ شَيْ ءٍ مَلَكُوتاً، وَ قَهَرَ كُلَّ شَيْ ءٍ جَبَرُوتاً، أَوْلِجْ قَلْبِي فَرَحَ الإِقْبَالِ عَلَيْكَ، وَ أَلْحِقْنِي بِمَيْدَانِ الْمُطِيعِينَ لَك».

قال: ثم دخل في الصلاة، فلما أن رأيته قد هدأت أعضاؤه، وسكنت حركاته، قمت إلى الموضع الذي تهيأ للصلاة، فإذا بعين تفيض بماء أبيض، فتهيأت للصلاة ثم قمت خلفه، فإذا أنا بمحراب كأنه مُثّل في ذلك الوقت، فرأيته كلما مر بآية فيها ذكر الوعد والوعيد يرددها بأشجان الحنين، فلما أن تقشع الظلام، وثب قائماً وهو يقول:

«يَا مَنْ قَصَدَهُ الطَّالِبُونَ فَأَصَابُوهُ مُرْشِداً، وَ أَمَّهُ الْخَائِفُونَ فَوَجَدُوهُ مُتَفَضِّلًا، وَلَجَأَ إِلَيْهِ الْعَابِدُونَ فَوَجَدُوهُ نَوَّالًا، مَتَى رَاحَةُ مَنْ نَصَبَ لِغَيْرِكَ بَدَنَهُ، وَ مَتَى فَرَحُ مَنْ قَصَدَ سِوَاكَ بِنِيَّتِهِ، إِلَهِي قَدْ تَقَشَّعَ الظَّلامُ وَ لَمْ أَقْضِ مِنْ خِدْمَتِكَ وَطَراً، وَ لا مِنْ حِيَاضِ مُنَاجَاتِكَ مَدَراً، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ افْعَلْ بِي أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ».

فخفت أن يفوتني شخصه، وأن يخفى عليَّ أثره، فتعلقت به فقلت له: بالذي أسقط عنك ملال التعب، ومنحك شدة شوق لذيذ الرعب، إلا ألحقتني منك جناح رحمة، وكنف رقة، فإني ضال وبغيتي كل ما صنعت، ومناي كل ما نطقت.

فقال: «لو صدق توكلك ما كنتَ ضالاً، ولكن اتبعني واقف أثري». فلما أن صار بجنب الشجرة، أخذ بيدي فخيل إليَّ أن الأرض تمد من تحت قدمي، فلما انفجر عمود الصبح، قال لي: «أبشر فهذه مكة». قال: فسمعت الضجة، ورأيت المحجة. فقلت: بالذي ترجوه يوم الآزفة ويوم الفاقة من أنت؟. فقال لي:

ص: 219

«أما إذ أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليهم أجمعين)»(1).

من أنا يا رب

كان الإمام السجاد (عليه السلام) يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ مَنْ أَنَا حَتَّى تَغْضَبَ عَلَيَّ، فَوَ عِزَّتِكَ مَا يُزَيِّنُ مُلْكَكَ إِحْسَانِي، وَ لا يُقَبِّحُهُ إِسَاءَتِي، وَ لا يَنْقُصُ مِنْ خِزَانَتِكَ غَنَائِي، وَ لا يَزِيدُ فِيهَا فَقْرِي»(2).

وفي فناء الكعبة

عن محمد بن أبي حمزة، عن أبيه، قال: رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) في فناء الكعبة في الليل وهو يصلي، فأطال القيام حتى جعل مرةً يتوكأ على رجله اليمنى، ومرةً على رجله اليسرى، ثم سمعته يقول بصوت كأنه باكٍ: «يَا سَيِّدِي تُعَذِّبُنِي وَحُبُّكَ فِي قَلْبِي، أَمَا وَعِزَّتِكَ لَئِنْ فَعَلْتَ لَتَجْمَعَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمٍ طَالَ مَا عَادَيْتُهُمْ فِيك»(3).

وفي مسجد الكوفة

عن يوسف بن أسباط، عن أبيه، قال: دخلت مسجد الكوفة، فإذا شاب يناجي ربه، وهو يقول في سجوده: «سَجَدَ وَجْهِي مُتَعَفِّراً في التُّرابِ لِخالِقِي وَحَقٌّ لَه». فقمت إليه فإذا هو علي بن الحسين (عليه السلام) ، فلما انفجر الفجر، نهضت

ص: 220


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص142، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص102، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
3- الكافي: ج2 ص579-580، كتاب الدعاء، دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة، ح10.

إليه فقلت له: يا ابن رسول اللّه، تعذب نفسك وقد فضلك اللّه بما فضلك!. فبكى ثم قال: «حدثني عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين، عين بكت من خشية اللّه»، الحديث(1).

اللّهم أعوذ بك

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَحْسُنَ فِي لَوَامِحِ الْعُيُونِ عَلَانِيَتِي وَ تَقْبُحَ عِنْدَكَ سَرِيرَتِي، اللَّهُمَّ كَمَا أَسَأْتُ وَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَإِذَا عُدْتُ فَعُدْ عَلَي»(2).

دعاء مواجهة الظالمين

كان من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) حين بلغه توجه مسرف بن عقبة إلى المدينة: «رَبِّ كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا شُكْرِي، وَ كَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ ابْتَلَيْتَنِي بِهَا قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا صَبْرِي، وَ كَمْ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَتَيْتُهَا فَسَتَرْتَهَا وَ لَمْ تَفْضَحْنِي، فَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِعْمَتِهِ شُكْرِي فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَ يَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ بَلِيَّتِهِ صَبْرِي فَلَمْ يَخْذُلْنِي، وَ يَا مَنْ رَآنِي عَلَى الْمَعَاصِي فَلَمْ يَفْضَحْنِي، يَا ذَا الْمَعْرُوفِ الَّذِي لا يَنْقَضِي أَبَداً، وَ يَا ذَا النَّعْمَاءِ الَّتِي لا تُحْصَى أَمَداً، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَبِكَ أَدْفَعُ فِي نَحْرِهِ وَبِكَ أَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّهِ».

فقدم مسرف بن عقبة المدينة، وكان يقال لا يريد غير علي بن الحسين (عليه السلام) ،

ص: 221


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص99، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص98، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح86.

فسلم منه وأكرمه وحباه ووصله(1).

وقيل: إن مسرف بن عقبة لما قدم المدينة، أرسل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) . فأتاه، فلما صار إليه قربه وأكرمه، وقال له: أوصاني الأمير ببرك وتمييزك من غيرك. فجزاه خيراً، ثم قال: أسرجوا له بغلتي. وقال له: انصرف إلى أهلك؛ فإني أرى أن قد أفزعناهم، وأتعبناك بمشيك إلينا، ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقك لوصلناك.

فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «ما أعذرني للأمير». وركب فقال مسرف ابن عقبة لجلسائه: هذا الخير الذي لا شر فيه، مع موضعه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ومكانه منه(2).

دعاء الكرب

كتب الوليد بن عبد الملك إلى صالح بن عبد اللّه المري - عامله على المدينة -: أبرز الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وكان محبوساً في حبسه، واضربه في مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) خمسمائة سوط. فأخرجه صالح إلى المسجد، واجتمع الناس، وصعد صالح المنبر يقرأ عليهم الكتاب، ثم ينزل فيأمر بضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب إذ دخل علي بن الحسين (عليه السلام) ، فأفرج الناس عنه حتى انتهى إلى الحسن. فقال له: «يا ابن عم، ادع اللّه بدعاء الكرب يفرج عنك».

فقال: ما هو يا ابن عم؟. فقال: «قل»، وذكر الدعاء. قال: وانصرف علي

ص: 222


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص151-152، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص152، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

بن الحسين (عليه السلام) ، وأقبل الحسن يكررها، فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل، قال: أرى سجية رجل مظلوم، أخروا أمره وأنا أراجع الأمير فيه. وكتب صالح إلى الوليد في ذلك، فكتب إليه: أطلقه(1).

وفي شهر رمضان

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان، يكتب على غلمانه ذنوبهم، حتى إذا كان آخر ليلة دعاهم. ثم أظهر الكتاب، وقال: «يا فلان، فعلت كذا ولم أؤدبك»، فيقرون أجمع. فيقوم وسطهم، ويقول لهم: «ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين، ربك قد أحصى عليك ما عملت، كما أحصيت علينا. ولديه كتاب ينطق بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فاذكر ذل مقامك بين يدي ربك، الذي لا يظلم مثقال ذرة وكفى باللّه شهيداً. فاعف واصفح، يعف عنك المليك، لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}(2)». ويبكي وينوح(3).

وعن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمةً، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب، حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم

ص: 223


1- مهج الدعوات ومنهج العبادات: ص331-332، ذكر ما نختاره من الأدعية المتفرقة من الكتب، ومن ذلك ما نقل من مجموع عتيق.
2- سورة النور: 22.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص158، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .

حوله، ثم أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا ولم أؤدبك، أتذكر ذلك؟. فيقول: بلى يا ابن رسول اللّه، حتى يأتي على آخرهم، ويقررهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: «ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين، إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت، كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً مما أتيت إلاّ أحصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحب أن يعفو المليك عنك، فاعف عنا تجده عفواً، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطق بالحق علينا، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً مما أتيناها إلا أحصاها. فاذكر - يا علي بن الحسين - ذل مقامك بين يدي ربك الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى باللّه حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح؛ فإنه يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}(1).

وهو ينادي بذلك على نفسه، ويلقنهم وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول:

رَبِّ إِنَّكَ أَمَرْتَنَا أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنَا، وَقَدْ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا كَمَا أَمَرْتَ، فَاعْفُ عَنَّا فَإِنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا وَمِنَ الْمَأْمُورِينَ. وَأَمَرْتَنَا أَنْ لاَ نَرُدَّ سَائِلاً عَنْ أَبْوَابِنَا، وَقَدْ أَتَيْنَاكَ سُؤَّالاً وَمَسَاكِينَ، وَقَدْ أَنَخْنَا بِفِنَائِكَ وَبِبَابِكَ، نَطْلُبُ نَائِلَكَ وَمَعْرُوفَكَ وَعَطَاءَكَ، فَامْنُنْ بِذَلِكَ عَلَيْنَا وَلاَ تُخَيِّبْنَا؛ فَإِنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا وَمِنَ

ص: 224


1- سورة النور: 22.

الْمَأْمُورِينَ. إِلَهِي كَرُمْتَ فَأَكْرِمْنِي، إِذْ كُنْتُ مِنْ سُؤَّالِكَ، وَجُدْتَ بِالْمَعْرُوفِ، فَاخْلِطْنِي بِأَهْلِ نَوَالِكَ يَا كَرِيم.

ثم يقبل عليهم فيقول: قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عني ومما كان مني إليكم من سوء ملكة، فإني مليك سوء لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل.

فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا وما أسأت.

فيقول لهم: قولوا: اللّهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنا، فأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق. فيقولون ذلك، فيقول: اللّهم آمين رب العالمين، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم، وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عني وعتق رقبتي. فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم، وتغنيهم عما في أيدي الناس(1).

عتاب النفس

روى الزهري، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قوله: «يَا نَفْسُ حَتامَ إلى الحياةِ سُكُونُكِ، وَإلى الدُنيا وَعِمارتِها رُكُونُكِ، أما اعْتَبَرْتِ بمن مَضَى مِن أسْلافِكِ، وَمَن وارَتْهُ الأرْضُ مِن آلافِكِ، وَمَنْ فُجِعْتِ بِه مِن إخْوانِكِ»(2).

صفة الدنيا

روى الإمام الصادق (عليه السلام) ، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، أنه كان يقول: «حَتَّى مَتَى تَعِدُنِي الدُّنْيَا فَتُخْلِفُ، وَ أَئْتَمِنُهَا فَتَخُونُ، وَ أَسْتَنْصِحُهَا فَتَغُشُّ،

ص: 225


1- الإقبال بالأعمال الحسنة: ج1 ص443 -444، الباب34.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص152، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .

لاتُحْدِثُ جَدِيدَةً إِلَّا تَخْلُقُ مِثْلَهَا، وَ لا تَجْمَعُ شَمْلًا إِلاّ بِتَفْرِيقِ بَيْنٍ، حَتَّى كَأَنَّهَا غَيْرَى، أَوْ مُحْتَجِبَةٌ تُغَارُ عَلَى الْآلَافِ وَتُحْسَدُ أَهْلُ النِّعَم»(1).

أين السلف الماضون

روى سفيان بن عيينة، عن الإمام السجاد (عليه السلام) : «أَيْنَ السَّلَفُ الْمَاضُونَ وَ الأَهْلُ وَ الأَقْرَبُونَ وَ الأَنْبِيَاءُ وَ الْمُرْسَلُونَ، طَحَنَتْهُمْ وَ اللَّهِ الْمَنُونُ، وَ تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ السِّنُونَ، وَ فَقَدَتْهُمُ الْعُيُونُ، وَ إِنَّا إِلَيْهِمْ لَصَائِرُونَ، وَ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُون»(2).

ص: 226


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص152، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص152، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .

33

احتجاجات

مع عباد البصري

لقي عباد البصري الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في طريق مكة. فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، وإن اللّه عز وجل يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ - إلى قوله - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج»(2).

مع الحسن البصري

روي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) مر بالحسن البصري، وهو يعظ الناس بمنًى. فوقف عليه، ثم قال: «أمسك. أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم، أترضاها لنفسك فيما بينك وبين اللّه للموت إذا نزل بك غداً؟». قال: لا. قال: «أفتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال

ص: 227


1- سورة التوبة: 111-112.
2- الكافي: ج5 ص22، كتاب الجهاد، الباب الجهاد الواجب مع من يكون، ح1.

التي ترضاها؟». قال: فأطرق ملياً، ثم قال: إني أقول ذلك بلا حقيقة. قال: «أ فترجو نبياً بعد محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) يكون لك معه سابقة؟». قال: لا. قال: أ فترجو داراً غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها؟». قال: لا. قال: «أ فرأيت أحداً به مسكة عقل، رضي لنفسه من نفسه بهذا، إنك على حال لا ترضاها، ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة، ولا ترجو نبياً بعد محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا داراً غير الدار التي أنت فيها، فترد إليها فتعمل فيها، وأنت تعظ الناس؟».

قال: فلما ولى (عليه السلام) ، قال الحسن البصري: من هذا؟. قالوا: علي بن الحسين (عليه السلام) . قال: أهل بيت علم. فما رئي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس(1).

فضح الظالم

بلغ الإمام السجاد (عليه السلام) قول نافع بن جبير في معاوية، حيث قال: كان يسكته الحلم، وينطقه العلم!. فقال (عليه السلام) : «كذب، بل كان يسكته الحصر، وينطقه البتر»(2).

ص: 228


1- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص316-317، احتجاج علي بن الحسين (عليه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

34

قالوا في حق الإمام

اشارة

عن عبد العزيز بن أبي حازم، قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت قط هاشمياً أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام) (1).

وروي عن أبي حازم وسفيان بن عيينة والزهري، قال كل واحد منهم: ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين (عليه السلام) ولا أفقه منه(2).

وعن الزهري، قال: لم أدرك أحداً من أهل هذا البيت - يعني بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) - أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام) (3).

وروي أن فتًى من قريش جلس إلى سعيد بن المسيب، فطلع علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال القرشي لابن المسيب: من هذا يا أبا محمد؟. فقال: هذا سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (4).

ص: 229


1- بحار الأنوار: ج46 ص73، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح60.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص159، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص144، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .
4- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص145، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

كلام النبوة

كتب ملك الروم إلى عبد الملك: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة، لأغزونك بجنود مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف.

فكتب عبد الملك إلى الحجاج، أن يبعث إلى زين العابدين (عليه السلام) ويتوعده، ويكتب إليه ما يقول، ففعل.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «إن لله لوحاً محفوظاً، يلحظه في كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك منها لحظةً واحدةً».

فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك بذلك إلى ملك الروم، فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة(1).

ص: 230


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص161، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في علمه وحلمه وتواضعه (عليه السلام) .

35

الإمام وطغاة عصره

اشارة

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يعيش أشد ظروف التقية، حيث عاصر عدداً من أكبر الطغاة، الذين كانوا يريدون قتله، وقتل أهل بيته. وفي بعض تلك الفترات لم يتمكن الإمام (عليه السلام) من نشر علوم محمد وآل محمد إلا عبر الدعاء والمناجاة، وما أشبه.

علماً بأن ظروف التقية كانت مختلفة من حيث الشدة والضعف.

في رواية عن السيدة حكيمة بنت محمد بن علي الرضا، أخت أبي الحسن صاحب العسكر (عليهم السلام) ، قال لها أحمد بن إبراهيم: إلى من تفزع الشيعة؟. فقالت: إلى الجدة أم أبي محمد (عليه السلام) .

فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة.

فقالت: اقتداءً بالحسين بن علي (عليه السلام) ، والحسين بن علي (عليه السلام) أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين (عليه السلام) من علم ينسب إلى زينب؛ ستراً على علي بن الحسين (عليه السلام) (1).

ص: 231


1- كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص507، الروايات الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في وقوع الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) ، ب45، ضمن ح36.

قلة الشيعة

روى أبو عمر النهدي، قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا»(1).

النيل من أمير المؤمنين (عليه السلام)

روى جرير بن عبد الحميد، عن محمد بن شيبة، قال: شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً، فنالا منه. فبلغ ذلك علي بن الحسين (عليه السلام) ، فجاء حتى وقف عليهما. فقال: «أما أنت يا عروة، فإن أبي حاكم أباك إلى اللّه، فحكم لأبي على أبيك. وأما أنت يا زهري، فلو كنت بمكة لأريتك بيت أبيك»(2).

حكام الجور

كان ممن عاصرهم الإمام زين العابدين (عليه السلام) من الحكام والطغاة:

يزيد بن معاوية

ومعاوية بن يزيد

ومروان بن الحكم

وعبد الملك بن مروان

والوليد بن عبد الملك.

يزيد أراد قتل الإمام

عن محمد الحلبي، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لما أتي بعلي بن

ص: 232


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص104، الفصل في ذكر المنحرفين عن علي.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص482 بيان الطريق إلى الزهري.

الحسين (عليه السلام) يزيد بن معاوية (عليهما لعائن اللّه) ومن معه، جعلوه في بيت. فقال بعضهم: إنما جعلنا في هذا البيت؛ ليقع علينا فيقتلنا. فراطن الحرس فقالوا: انظروا إلى هؤلاء يخافون أن يقع عليهم البيت، وإنما يخرجون غداً فيقتلون. قال علي بن الحسين (عليه السلام) : لم يكن فينا أحد يحسن الرطانة غيري، والرطانة عند أهل المدينة الرومية»(1).

مع مسرف بن عقبة

قال ابن الأثير في الكامل: لما سير يزيد مسلم بن عقبة. قال: فإذا ظهرت عليهم، فأبحها ثلاثاً بما فيها من مال أو دابة أو سلاح فهو للجند، فإذا مضت الثلاث، فاكفف عن الناس، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوص به خيراً؛ فإنه لم يدخل مع الناس، وقد أتاني كتابه. وقد كان مروان بن الحكم كلم ابن عمر - لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية - في أن يغيب أهله عنده فلم يفعل. فكلم علي بن الحسين وقال: إن لي رحماً، وحرمي تكون مع حرمك. فقال: «افعل». فبعث بامرأته - وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وحرمه - إلى علي بن الحسين، فخرج علي بحرمه وحرم مروان إلى ينبع. وقيل: بل أرسل حرم مروان، وأرسل معهم ابنه عبد اللّه إلى الطائف. ولما ظفر مسلم بن عقبة على المدينة واستباحهم، دعا الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خول له، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، فمن امتنع من ذلك قتله، فقتل لذلك جماعة. ثم أتى مروان بعلي بن الحسين، فجاء يمشي بين مروان وابنه عبد الملك، حتى جلس بينهما عنده، فدعا مروان بشراب؛ ليتحرم بذلك، فشرب منه يسيراً

ص: 233


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص337-338، الباب12، ح1.

ثم ناوله علي بن الحسين، فلما وقع في يده. قال مسلم: لا تشرب من شرابنا. فأرعد كفه، ولم يأمنه على نفسه، وأمسك القدح.

فقال: جئت تمشي بين هؤلاء لتأمن عندي، واللّه لو كان إليهما لقتلتك، ولكن الأمير أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فإن شئت فاشرب، فشرب ثم أجلسه معه على السرير، ثم قال: لعل أهلك فزعوا. قال: «إي واللّه». فأمر بدابته فأسرجت له، ثم حمله عليها فرده، ولم يلزمه البيعة ليزيد على ما شرط على أهل المدينة(1).

وكان وصية يزيد بالإمام، خوفاً من فتنة الناس عليه؛ فإنه كان قد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل، فخاف ثورة الناس.

مع عبد الملك في الحج

روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، أنه قال: «كان عبد الملك يطوف بالبيت، وعلي بن الحسين (عليه السلام) يطوف بين يديه ولا يلتفت إليه، ولم يكن عبد الملك يعرفه بوجهه. فقال: من هذا الذي يطوف بين أيدينا ولا يلتفت إلينا؟!.

فقيل: هذا علي بن الحسين (عليه السلام) .

فجلس مكانه وقال: ردوه إليَّ. فردوه فقال له: يا علي بن الحسين، إني لست قاتل أبيك، فما يمنعك من المصير إليَّ.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : إن قاتل أبي أفسد بما فعله دنياه عليه، وأفسد أبي عليه بذلك آخرته، فإن أحببت أن تكون كهو فكن. فقال: كلا، ولكن صر إلينا لتنال من دنيانا. فجلس زين العابدين وبسط رداه، وقال: اللّهم أره حرمة

ص: 234


1- الكامل في التاريخ: ج4 ص113، ذكر وقعة الْحَرَّة.

أوليائك عندك، فإذا إزاره مملوة درراً، يكاد شعاعها يخطف الأبصار. فقال له: من يكون هذا حرمته عند ربه، يحتاج إلى دنياك - ثم قال - اللّهم خذها فلا حاجة لي فيها»(1).

وعن عبد الملك بن عبد العزيز، قال: لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة، رد إلى علي بن الحسين (عليه السلام) صدقات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وصدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكانتا مضمومتين. فخرج عمر بن علي إلى عبد الملك يتظلم إليه من ابن أخيه. فقال عبد الملك: أقول كما قال ابن أبي الحقيق:

إنا إذا مالت دواعي الهوى***وأنصت السامع للقائل

واصطرع الناس بألبابهم***نقضي بحكم عادل فاصل

لا نجعل الباطل حقاً ولا***نلط دون الحق بالباطل

نخاف أن تسفه أحلامنا***فنخمل الدهر مع الخامل(2)

جنبني دماء بني عبد المطلب

قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لما ولي عبد الملك بن مروان، واستقامت له الأشياء، كتب إلى الحجاج كتاباً، وخطه بيده: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف. أما بعد، فجنبني دماء بني عبد المطلب؛ فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولغوا فيها، لم يلبثوا بعدها إلا قليلاً، والسلام.

وكتب الكتاب سراً، لم يعلم به أحد، وبعث به مع البريد إلى الحجاج، وورد خبر ذلك من ساعته على علي بن الحسين (عليه السلام) ، وأخبر أن عبد الملك قد زيد في

ص: 235


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص255، الباب12، ح1.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص150، تاريخ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وفضله، في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام) .

ملكه برهةً من دهره؛ لكفه عن بني هاشم. وأمر أن يكتب ذلك إلى عبد الملك، ويخبره بأن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أتاه في منامه وأخبره بذلك. فكتب علي بن الحسين (عليه السلام) بذلك إلى عبد الملك بن مروان»(1).

أقول: وكان ما فعله عبد الملك حرصاً على بقاء ملك بني أمية، فإن الناس لم يتحملوا أكثر من هذا الظلم على أهل البيت (عليهم السلام) ، ومع كل ذلك فإن عبد الملك سار كسائر بني أمية على ظلم العترة الطاهرة.

عبد الملك يحمل الإمام ظلماً إلى الشام

عن ابن شهاب الزهري، قال: شهدت علي بن الحسين (عليه السلام) يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديداً، ووكل به حفاظاً في عدة وجمع. فاستأذنتهم في التسليم والتوديع له فأذنوا، فدخلت عليه والأقياد في رجليه، والغل في يديه، فبكيت وقلت: وددت أني مكانك وأنت سالم. فقال: «يا زهري، أو تظن هذا بما ترى عليَّ وفي عنقي يكربني، أما لو شئت ما كان، فإنه وإن بلغ بك ومن أمثالك، ليذكرني عذاب اللّه».

ثم أخرج يديه من الغل، ورجليه من القيد، ثم قال: «يا زهري، لاجزت معهم على ذا منزلتين من المدينة». قال: فما لبثنا إلا أربع ليال، حتى قدم الموكلون به يطلبونه بالمدينة فما وجدوه، فكنت فيمن سألهم عنه. فقال لي بعضهم: إنا نراه متبوعاً، إنه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدةً. فقدمت بعد ذاك على عبد الملك، فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته. فقال: إنه قد جاءني في يوم فقده الأعوان، فدخل عليَّ.

ص: 236


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص397، الباب11، ح4.

فقال: «ما أنا وأنت». فقلت: أقم عندي. فقال: «لا أحب». ثم خرج، فو اللّه لقد امتلأ ثوبي منه خيفةً. قال الزهري: فقلت: ليس علي بن الحسين (عليه السلام) حيث تظن، إنه مشغول بنفسه. فقال: حبذا شغل مثله، فنعم ما شغل به(1).

نماذج من ظلم بني أمية

روى هشام بن الكلبي، عن أبيه، قال: أدركت بني أود وهم يعلمون أبناءهم وحرمهم سب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وفيهم رجل من رهط عبد اللّه بن إدريس بن هانئ. فدخل على الحجاج بن يوسف يوماً فكلمه بكلام، فأغلظ له الحجاج في الجواب.

فقال له: لا تقل هذا أيها الأمير، فلا لقريش ولا لثقيف منقبة يعتدون بها إلا ونحن نعتد بمثلها.

قال له: وما مناقبكم؟.

قال: ما ينقص عثمان، ولا يذكر بسوء في نادينا قط.

قال: هذه منقبة.

قال: وما رئي منا خارجي قط.

قال: ومنقبة؟.

قال: وما شهد منا مع أبي تراب مشاهده إلا رجل واحد، فأسقطه ذلك عندنا وأخمله، فما له عندنا قدر ولا قيمة.

قال: ومنقبة؟.

قال: وما أراد منا رجل قط أن يتزوج امرأةً إلا سأل عنها، هل تحب أبا

ص: 237


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص132، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

تراب، أو تذكره بخير، فإن قيل إنها تفعل ذلك اجتنبها فلم يتزوجها.

قال: ومنقبة؟.

قال: وما وُلد فينا ذكر فسمي علياً ولا حسناً ولا حسيناً، ولا ولدت فينا جارية فسميت فاطمة.

قال: ومنقبة؟.

قال: ونذرت امرأة منا حين أقبل الحسين إلى العراق، إن قتله اللّه أن تنحر عشر جزر، فلما قتل وفت بنذرها.

قال: ومنقبة؟.

قال: ودعي رجل منا إلى البراءة من علي ولعنه،

فقال: نعم وأزيدكم حسناً وحسيناً.

قال: ومنقبة واللّه.

قال: وقال لنا الأمير عبد الملك: أنتم الشعار دون الدثار، وأنتم الأنصار بعد الأنصار.

قال: ومنقبة؟. قال: وما بالكوفة ملاحة إلا ملاحة بني أود. فضحك الحجاج. قال هشام بن الكلبي: قال لي أبي: فسلبهم اللّه ملاحتهم، آخر الحكاية(1).

كلمة حق عند سلطان جائر

بلغ عبد الملك أن سيف رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عند علي بن الحسين (عليه السلام) ، فبعث يستوهبه منه، ويسأله الحاجة. فأبى عليه، فكتب إليه عبد الملك يهدده، وأنه

ص: 238


1- بحار الأنوار: ج46 ص119-120، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح10.

يقطع رزقه من بيت المال. فأجابه (عليه السلام) : «أما بعد، فإن اللّه أمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جل ذكره: {إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}(1)، فانظر أينا أولى بهذه الآية»(2).

نصيحة الملوك

عن الزهري، قال: دخلت مع علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) على عبد الملك بن مروان - قال - فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال: يا أبا محمد، لقد بين عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من اللّه الحسنى، وأنت بضعة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، قريب النسب، وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك، وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك، إلا من مضى من سلفك، وأقبل يثني عليه ويطريه.

قال: فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «كل ما ذكرته ووصفته، من فضل اللّه سبحانه وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم يا أمير! كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقف في الصلاة حتى ترم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه. فقيل له: يا رسول اللّه، أ لم يغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. فيقول (صلی الله عليه وآله وسلم) : أ فلا أكون عبداً شكوراً. الحمد لله على ما أولى وأبلى، وله الحمد في الآخرة والأولى. واللّهِ لو تقطعت أعضائي، وسالت مقلتاي على صدري، لن أقوم لله جل جلاله

ص: 239


1- سورة الحج: 38.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص165، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .

بشكر عشر العشير من نعمة واحدة، من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولا يبلغ حد نعمة منها عليَّ جميع حمد الحامدين. لا واللّهِ أو يراني اللّه لا يشغلني شيء عن شكره وذكره، في ليل ولا نهار، ولا سر ولا علانية. ولولا أن لأهلي عليَّ حقاً، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عليَّ حقوقاً، لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة، حتى أؤديها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء، وبقلبي إلى اللّه، ثم لم أرددهما حتى يقضي اللّه على نفسي، وهو خير الحاكمين».

وبكى (عليه السلام) ، وبكى عبد الملك، وقال: شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته، ما له في الآخرة من خلاق. ثم أقبل يسأله عن حاجاته، وعما قصد له، فشفعه فيمن شفع، ووصله بمال(1).

مع هشام بن عبد الملك

حج هشام وكان ولي العهد لعبد الملك، فلم يقدر على الاستلام من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه، وأطاف به أهل الشام. فبينما هو كذلك، إذ أقبل علي بن الحسين (عليه السلام) ، وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحةً، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف، فإذا بلغ إلى موضع الحجر، تنحى الناس حتى يستلمه هيبةً له. فقال شامي: من هذا يا أمير؟. فقال: لا أعرفه. لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق - وكان حاضراً -: لكني أنا أعرفه. فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟. فأنشأ قصيدةً ذكر بعضها في الأغاني والحلية والحماسة، والقصيدة هذه:

ص: 240


1- فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب: ص170-171، الباب7.

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ***فَمَا يُكَلَّمُ إِلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ

يَنْجَابُ نُورُ الدُّجَى عَنْ نُورِ غُرَّتِهِ***كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إِشْرَاقِهَا الظُّلَمُ

بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ***مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمٌ

مَا قَالَ لا قَطُّ إِلا فِي تَشَهُّدِهِ***لَوْلا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاؤُهُ نَعَمْ

مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ نَبْعَتُهُ***طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالْخِيَمُ وَالشِّيَمُ

حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فَدَحُوا***حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نِعَمٌ

إِنْ قَالَ قَالَ بِمَا يَهْوَى جَمِيعُهُمْ***وَإِنْ تَكَلَّمَ يَوْماً زَانَهُ الْكَلِمُ

هَذَا ابْنُ فَاطِمَةَ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ***بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللّهِ قَدْ خُتِمُوا

اللّهُ فَضَّلَهُ قِدَماً وَشَرَّفَهُ***جَرَى بِذَاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ الْقَلَمُ

مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ***وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الْأُمَمُ

عَمَّ الْبَرِّيَّةَ بِالْإِحْسَانِ وَانْقَشَعَتْ***عَنْهَا الْعَمَايَةُ وَالْإِمْلَاقُ وَالظُّلَمُ

كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا***يَسْتَوْكِفَانِ وَلَا يَعْرُوهُمَا عَدَمٌ

سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ***يَزِينُهُ خَصْلَتَانِ الْحِلْمُ وَالْكَرَمُ

لا يُخْلِفُ الْوَعْدَ مَيْمُوناً نَقِيبَتُهُ***رَحْبُ الْفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يُعْتَرَمُ

مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمْ***كُفْرٌ وَقُرْبُهُمْ مَنْجَى وَمُعْتَصَمٌ

يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَالْبَلْوَى بِحُبِّهِمْ***وَيُسْتَزَادُ بِهِ الْإِحْسَانُ وَالنِّعَمُ

مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللّهِ ذِكْرُهُمْ***فِي كُلِّ فَرْضٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الْكَلِمُ

إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ***أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمْ

لا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ***وَلَا يُدَانِيهِمْ قَوْمٌ وَإِنْ كَرُمُوا

هُمُ الْغُيُوثُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ***وَالْأَسَدُ أُسْدُ الشَّرَى وَالْبَأْسُ مُحْتَدِمٌ

يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحُلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ***خِيَمٌ كَرِيمٌ وَأَيْدٍ بِالنَّدَى هُضُمٌ

لا يَقْبِضُ الْعُسْرُ بَسْطاً مِنْ أَكُفِّهِمْ***سِيَّانِ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا وَإِنْ عَدِمُوا

أَيُّ الْقَبَائِلِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمْ***لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نِعَمٌ

ص: 241

مَنْ يَعْرِفُ اللّهَ يَعْرِفُ أَوَّلِيَّةَ ذَا***فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ

بُيُوتُهُمْ فِي قُرَيْشٍ يُسْتَضَاءُ بِهَا***فِي النَّائِبَاتِ وَعِنْدَ الْحُكْمِ إِنْ حَكَمُوا

فَجَدُّهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَرُومَتِهَا***مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ بَعْدَهُ عَلَمٌ

بَدْرٌ لَهُ شَاهِدٌ وَالشِّعْبُ مِنْ أُحُدٍ***وَالْخَنْدَقَانِ وَيَوْمُ الْفَتْحِ قَدْ عَلِمُوا

وَخَيْبَرُ وَحُنَيْنٌ يَشْهَدَانِ لَهُ***وَفِي قُرَيْظَةَ يَوْمٌ صَيْلَمٌ قَتِمٌ

مَوَاطِنُ قَدْ عَلَتْ فِي كُلِّ نَائِبَةٍ***عَلَى الصَّحَابَةِ لَمْ أَكْتُمْ كَمَا كَتَمُوا

فغضب هشام ومنع جائزته. وقال: ألا قلت فينا مثلها. قال: هات جداً كجده، وأباً كأبيه، وأماً كأمه، حتى أقول فيكم مثلها. فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين (عليه السلام) ، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم. وقال: «أعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به». فردها وقال: يا ابن رسول، اللّه ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً. فردها إليه وقال: «بحقي عليك لما قبلتها، فقد رأى اللّه مكانك وعلم نيتك». فقبلها، فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس، فكان مما هجاه به قوله:

أَ يَحْبِسُنِي بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالَّتِي***إِلَيْهَا قُلُوبُ النَّاسِ يَهْوِي مُنِيبُهَا

يُقَلِّبُ رَأْساً لَمْ يَكُنْ رَأْسَ سَيِّدٍ***وَعَيْناً لَهُ حَوْلَاءَ بَادَ عُيُوبُهَا

فأخبر هشام بذلك فأطلقه، وفي رواية أبي بكر العلاف: أنه أخرجه إلى البصرة(1).

وفي رواية: لما قرأ الفرزدق الأبيات، حبسه هشام ومحا اسمه من الديوان.

ص: 242


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص169-172، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في سيادته (عليه السلام) .

فبعث إليه علي بن الحسين (عليه السلام) بدنانير، فردها وقال: ما قلت ذلك إلا ديانةً. فبعث بها إليه أيضاً وقال: «قد شكر اللّه لك ذلك». فلما طال الحبس عليه، وكان يوعده بالقتل، شكا إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فدعا له فخلصه اللّه. فجاء إليه وقال: يا ابن رسول اللّه، إنه محا اسمي من الديوان. فقال: «كم كان عطاؤك؟». قال: كذا. فأعطاه لأربعين سنةً وقال (عليه السلام) : «لو علمت أنك تحتاج إلى أكثر من هذا لأعطيتك». فمات الفرزدق بعد أن مضى أربعون سنةً(1).

وفي رواية: لما قال الفرزدق أبياته في مدح علي بن الحسين (عليه السلام) ، وكان عبد الملك يصله في كل سنة بألف دينار، فحرمه تلك السنة، فشكا ذلك إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، وسأله أن يكلمه. فقال: «أنا أصلك من مالي بمثل الذي كان يصلك به عبد الملك، وصن عن كلامه». فقال: واللّه يا ابن رسول اللّه لا رزأتك شيئاً، وثواب اللّه عز وجل في الآجل أحب إليَّ من ثواب الدنيا في العاجل. فاتصل ذلك بمعاوية بن عبد اللّه بن جعفر الطيار، وكان أحد سمحاء بني هاشم لفضل عنصره، وأحد أدبائها وظرفائها. فقال له: يا أبا فراس، كم تقدر الذي بقي من عمرك؟. قال: قدر عشرين سنةً. قال: فهذه عشرون ألف دينار، أعطيتكها من مالي واعف أبا محمد أعزه اللّه عن المسألة في أمرك. فقال: لقد لقيت أبا محمد وبذل لي ماله، فأعلمته أني أخرت ثواب ذلك لأجر الآخرة(2).

من شعر الفرزدق أيضاً

قال الزمخشري في الفائق: علي بن الحسين (عليه السلام) مدحه الفرزدق فقال:

ص: 243


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص267-268، الباب5، ح10.
2- الاختصاص: ص194-195، في بيان طائفة من أحاديث الأئمة وأصحابهم، حديث قصيدة الفرزدق لعلي بن الحسين (عليهم السلام) .

في كفه جنهي ريحه عبق***من كف أروع في عرنينه شمم

قال القتيبي: الجنهي الخيزران، ومعرفتي هذه الكلمة عجيبة، وذلك أن رجلاً من أصحاب الغريب سألني عنه فلم أعرفه، فلما أخذت من الليل مضجعي، أتاني آت في المنام: أ لا أخبرته عن الجنهي.

قلت: لم أعرفه. قال: هو الخيزران. فسألته شاهداً؟.

فقال: هدية طرقنه في طبق مجنة. فهببت وأنا أكثر التعجب، فلم ألبث إلا يسيراً حتى سمعت من ينشد: في كفه جنهي، وكنت أعرفه: في كفه خيزران(1).

من هو الفرزدق؟

ولا يخفى أن اسم الفرزدق هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي المشاجعي، وكنيته أبو فراس، والفرزدق لقبه(2).

وفي التاريخ أن الفرزدق مع أبيه تشرفا بمحضر أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في البصرة. فسأله أمير المؤمنين (عليه السلام) : هل حفظت القرآن؟. فقال الفرزدق: لا. فأمره الإمام (عليه السلام) بحفظ القرآن. فرجع الفرزدق إلى منزله، وبقي فيه سنة كاملة حتى حفظ القرآن بأكمله(3).

مع الحجاج الثقفي

روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى عبد الملك بن مروان: إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل علي بن الحسين (عليه السلام) !.

ص: 244


1- الفايق في غريب الحديث: ج1 ص208، حرف الجيم، الجيم مع النون، جنه.
2- مجمع البحرين: ج5 ص227، كتاب القاف، باب ما أوله الفاء، فرزدق.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج10 ص22، في القرآن وذكر الآثار التي وردت بفضله.

فكتب عبد الملك إليه: أما بعد، فجنّبني دماء بني هاشم واحقنها؛ فإني رأيت آل أبي سفيان لما أولعوا فيها لم يلبثوا إلى أن أزال اللّه الملك عنهم(1).

من ظلم الحجاج

عن ابن بكير، قال: أخذ الحجاج موليين لعلي. فقال لأحدهما: ابرأ من علي. فقال: ما جزاي إن لم أبرأ منه؟. فقال: قتلني اللّه إن لم أقتلك، فاختر لنفسك قطع يديك أو رجليك. قال: فقال له الرجل: هو القصاص، فاختر لنفسك. قال: تاللّه إني لأرى لك لساناً، وما أظنك تدري من خلقك أين ربك؟. قال: هو بالمرصاد لكل ظالم. فأمر بقطع يديه ورجليه وصلبه. قال: ثم قدم صاحبه الآخر فقال: ما تقول؟. فقال: أنا على رأي صاحبي. قال: فأمر أن يضرب عنقه ويصلب(2).

الحجاج والحرة بنت حليمة

روي أنه لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي، فمثلت بين يديه. قال لها: أنتِ حرة بنت حليمة السعدية. قالت له: فراسة من غير مؤمن.

فقال لها: اللّه جاء بكِ، فقد قيل عنكِ إنك تفضلين علياً (عليه السلام) على أبي بكر وعمر وعثمان.

فقالت: لقد كذب الذي قال إني أفضله على هؤلاء خاصةً.

قال: وعلى من غير هؤلاء؟.

ص: 245


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص256، الباب5، ح2.
2- الأمالي للصدوق: ص302، المجلس50، ح5.

قالت: أفضله على آدم، ونوح، ولوط، وإبراهيم، وداود، وسليمان، وعيسى ابن مريم (عليه السلام) .

فقال لها: ويلكِ إنكِ تفضلينه على الصحابة، وتزيدين عليهم سبعةً من الأنبياء من أولي العزم من الرسل، إن لم تأتيني ببيان ما قلتِ ضربت عنقكِ؟.

فقالت: ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء، ولكن اللّه عز وجل فضله عليهم في القرآن، بقوله عز وجل في حق آدم: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(1)، وقال في حق علي (عليه السلام) : {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}(2). فقال: أحسنتِ يا حرة، فبما تفضلينه على نوح ولوط؟. فقالت: اللّه عز وجل فضله عليهما بقوله: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(3)، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان ملاكه تحت سدرة المنتهى، زوجته بنت محمد فاطمة الزهراء، التي يرضى اللّه تعالى لرضاها ويسخط لسخطها. فقال الحجاج: أحسنتِ يا حرة، فبما تفضلينه على أبي الأنبياء إبراهيم خليل اللّه؟. فقالت: اللّه عز وجل فضله بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(4)، ومولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) قال قولاً لا يختلف فيه أحد من المسلمين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، وهذه كلمة ما قالها أحد قبله ولا بعده.

فقال: أحسنتِ يا حرة، فبما تفضلينه على موسى كليم اللّه؟.

ص: 246


1- سورة طه: 121.
2- سورة الإنسان: 22.
3- سورة التحريم: 10.
4- سورة البقرة: 260.

قالت: يقول اللّه عز وجل: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}(1)، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بات على فراش رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يخف، حتى أنزل اللّه تعالى في حقه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ}(2).

قال الحجاج: أحسنتِ يا حرة، فبما تفضلينه على داود وسليمان (عليه السلام) ؟.

قالت: اللّه تعالى فضله عليهما بقوله عز وجل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ}(3).

قال لها: في أي شيء كانت حكومته؟. قالت: في رجلين، رجل كان له كرم والآخر له غنم، فنفشت الغنم بالكرم فرعته، فاحتكما إلى داود (عليه السلام) . فقال: تباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم، حتى يعود إلى ما كان عليه. فقال له ولده: لا يا أبه، بل يؤخذ من لبنها وصوفها. قال اللّه تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}(4)، وإن مولانا أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قال: سلوني عما فوق العرش، سلوني عما تحت العرش، سلوني قبل أن تفقدوني، وإنه (عليه السلام) دخل على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم فتح خيبر. فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) للحاضرين: «أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم علي». فقال لها: أحسنتِ، فبما تفضلينه على سليمان؟. فقالت: اللّه تعالى فضله عليه بقوله تعالى: {رَبِّ... هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}(5)، ومولانا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: طلقتكِ يا دنيا ثلاثاً، لا حاجة لي فيكِ. فعند ذلك أنزل اللّه تعالى

ص: 247


1- سورة القصص: 21.
2- سورة البقرة: 207.
3- سورة ص: 26.
4- سورة الأنبياء: 79.
5- سورة ص: 35.

فيه: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}(1).

فقال: أحسنتِ يا حرة، فبما تفضلينه على عيسى ابن مريم (عليه السلام) ؟.

قالت: اللّه تعالى عز وجل فضله بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}(2) الآية، فأخر الحكومة إلى يوم القيامة، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) لما ادعوا النصيرية فيه ما ادعوه، قتلهم ولم يؤخر حكومتهم. فهذه كانت فضائله لم تعد بفضائل غيره.

قال: أحسنتِ يا حرة، خرجت من جوابك، ولولا ذلك لكان ذلك. ثم أجازها وأعطاها، وسرحها سراحاً حسناً (رحمة اللّه عليها)(3).

ص: 248


1- سورة القصص: 83.
2- سورة المائدة: 116-117.
3- الفضائل لابن شاذان القمي: ص136-138، وفي ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ما ينفع للمستبصرين.

36

أحداث مهمة في عصر الإمام

1: واقعة الطف

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوم كربلاء في الرابعة والعشرين من عمره الشريف أو أكثر، وكان مريضاً ملقى على الفراش، وقد نهكته العلة والمرض، بحيث لم يتمكن من القيام، وشاء اللّه ذلك؛ لتستمر ذرية رسول اللّه من نسل الحسين (عليه السلام) ، ولكي لا تبقى الأرض خالية من الحجة.

ولذلك سلم الإمام زين العابدين (عليه السلام) من القتل، واستمر نسل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من فاطمة (عليها السلام) من الحسين (عليه السلام) .

ولما قُتل الحسين (عليه السلام) أراد شمر قتل الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو مريض، فدفعه القوم عنه، وحمله عمر بن سعد مع من حمله من أهل البيت إلى الكوفة، وقد نهكته العلة.

روى أبو مخنف، عن الجلودي، أنه لما قُتل الحسين (عليه السلام) كان علي بن الحسين نائماً، فجعل رجل منهم يدافع عنه كل من أراد به سوءاً(1).

ص: 249


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص143، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في معجزاته (عليه السلام) .

أقول: (نائماً) أي من شدة مرضه.

2: خروج المختار

من الأحداث المهمة في عصر الإمام زين العابدين (عليه السلام) خروج المختار. فإن حكومة المختار هي أول حكومة شيعية بعد حكومة أمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام) . وتمكن المختار أن يخرج نصف العالم الإسلامي الشرقي منه من تحت سيطرة حكومة بني أمية.

وهذه عملية صعبة جداً، كما لو أراد شخص أن يخرج دولة من سيطرة الدول الاستعمارية الكبرى في زماننا هذا. ومما ساعد المختار على ذلك، شدة تنفر المسلمين من حكومة بني أمية وظلمهم وطغيانهم، وخاصة ما ارتكبوه ضد العترة الطاهرة أهل بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإن الناس كانوا يحبون أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) وأهل البيت الأطهار (عليهم السلام) .

وحركة المختار وثورته، سببت تعاقب الحكومات الشيعية على العراق، وإن كان بينها بعض الفاصل الزمني:

كحكومة بني طباطبا في العراق. وكان حكمهم في الكوفة عام 199ه.

وحكومة المزيديين عام 388ه، وكان مركزهم الحلة، أسسها أبو الحسن علي بن مزيد بن مرثد الناشري الأسدي.

وحكومة البويهيين، وكان عاصمتهم بغداد، وحكموا العراق وغيره.

وحكومة الصفويين، حيث حكموا العراق وإيران.

وفي أواخر حكومة العثمانيين، كان حكم العتبات المقدسة، مثل: النجف الأشرف، وكربلاء المقدسة، وحتى الحلة، وما أشبه، بيد حكومة شيعة من أهاليها.

ص: 250

وفي زمن القائد الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس سره) (1)، كانت تدار الأمور بيد الشيعة في ثورة العشرين.

اتهامات بني أمية ضد المختار

ثم إن بني أمية ومن يواليهم، اتهموا المختار لإسقاطه وإسقاط ثورته.

وكان اتهاماتهم على قسمين:

الأول: اتهام المختار في عقيدته بالنسبة إلى التوحيد والنبوة والمعاد وما أشبه.

الثاني: ما يرتبط بكيفية تعامله مع قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) ، حيث نسبوا إليه أنه قتلهم بطريقة فضيعة لا يرضى بها الإسلام.

والظاهر أن كلا الاتهامين كذب لا صحة له، وإن ورد في بعض الكتب.

فالمختار اقتص من قتلة الحسين (عليه السلام) وقتلهم، أما أكثر من ذلك فلم يثبت، بل يحتمل أنه من تلفيق بني أمية ومن أشبه.

ص: 251


1- آية اللّه العظمى الشيخ محمد تقي بن الميرزا محب علي بن أبي الحسن الميرزا محمد علي الحائري الشيرازي، زعيم الثورة العراقية المعروفة بثورة العشرين. ولد في شيراز عام 1256ه، ونشأ في كربلاء المقدسة، فقرأ فيها الأوليات ومقدمات العلوم، وحضر على أفاضلها حتى برع وكمل. هاجر إلى سامراء في أوائل المهاجرين، فحضر على المجدد الشيرازي، حتى صار من أجلاء تلاميذه وأركان بحثه، وبعد وفاة أستاذه تعين للخلافة بالاستحقاق والأولوية والانتخاب، فقام بالوظائف من الإفتاء والتدريس وتربية العلماء. لم تشغله مرجعيته العظمى وأشغاله الكثيرة عن النظر في أمور الناس خاصهم وعامهم، وحسبك من أعماله الجبارة موقفه الجليل في الثورة العراقية، وإصداره تلك الفتوى الخطيرة التي أقامت العراق وأقعدته؛ لما كان لها من الوقع العظيم في النفوس. كان قد أفتى من قبل بحرمة انتخاب غير المسلم، فكان العراقيون طوع إرادته لا يصدرون إلا عن رأيه، وكانت اجتماعاتهم تعقد في بيته في كربلاء مرات عدة. توفي (رحمه الله) في الثالث عشر من ذي الحجة عام 1338ه، ودفن في الصحن الحسيني الشريف، ومقبرته فيه مشهورة. من مؤلفاته: حاشية المكاسب المحرمة. حاشية كتاب البيع. مباحث الأصول. ديوان أهل البيت النبوي (عليهم السلام) . الرسالة العملية.

فبنو أمية القائلين بمثل هذه الأبيات(1):

لعبت هاشم بالملك فلا***خبر جاء ولا وحي نزل

والذين قالوا(2):

تهددني بجبار عنيد***فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر***فقل: يا رب مزقني الوليد

والذين قد أباحوا مدينة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأحرقوا مكة والكعبة(3)

وارتكبوا آلافاً من الجرائم، لا يتورعون عن اتهام مثل المختار، كما يظهر ذلك لمن راجع التاريخ.

3: واقعة الحرة

من الأحداث المهمة التي وقعت في عصر الإمام السجاد (عليه السلام) واقعة الحرة، وكانت الواقعة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة عام ثلاثة وستين من الهجرة النبوية.

و(الحَرّة) بالفتح أرض ذات حجارة سوداء بقرب المدينة المنورة، والحرار في الحجاز كثيرة، وكانت هذه الوقعة في موضع يقال له: (حرة واقم) نسبة إلى رجل.

حيت تلاقى جيش يزيد مع مسلمي المدينة، وغلب جيش يزيد عليهم ثم ارتكبوا من الجرائم ما ارتكبوا.

ص: 252


1- اللّهوف على قتلى الطفوف: ص181، المسلك الثالث في الأمور المتأخرة عن قتله (صلوات اللّه عليه).
2- بحار الأنوار: ج38 ص193، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، الباب63 من تتمة أبواب النصوص الدالة على الخصوص على إمامة أمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه) من طرق الخاصة والعامة.
3- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج1 ص167، في زيارة قبور أهل البيت (عليهم السلام) .

وملخص الوقعة: أن بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ، ظهر للناس فسق يزيد وبني أمية، وجورهم وظلمهم، وعصيانهم وتعديهم وطغيانهم، وخرج جمع من أهل المدينة إلى الشام، والتقوا بيزيد، ورأوا منه شرب الخمر، واللعب بالكلاب والقمار والطنبور، ونكاح المحارم، وسائر المنكرات والمحرمات. فلما رجعوا أخبروا المسلمين في المدينة بذلك، وعزموا على خلعه، فأخرج أهل المدينة عامل يزيد منها، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وحصروا بني أمية في دار مروان، ثم أخرجوهم من المدينة، وأخذوا بلعن يزيد وسبه جهاراً. وقالوا: من يقتل أولاد الأنبياء، وينكح المحارم، ويترك الصلاة، ويشرب الخمر، لا يليق بخلافة المسلمين، وقد بايع قسم منهم عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة.

فلما وصل الخبر إلى يزيد، أرسل مسلم بن عقبة الذي كان سفاكاً، واشتهر بمسرف، لإسرافه في إراقة دماء الأبرياء، مع جيش كبير من الشام إلى المدينة لإخماد الثورة فيها.

قال الطبري: فوجه يزيد إليهم اثني عشر ألفاً مع مسلم بن عقبة المري، فإن هلك فالحصين بن نمير السكوني، وقال له: إذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً، وانظر علي بن الحسين (عليه السلام) ، فاكفف عنه، واستوص به خيراً، وادن مجلسه؛ فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه(1).

ولم تكن الوصية بعلي بن الحسين (عليه السلام) حباً به، بل كان يزيد يخاف من تبعات قصة عاشوراء، وما فعله بالحسين (عليه السلام) .

فلما وصل جيش يزيد إلى منطقة قريبة من المدينة تسمى بالحرة، وكان

ص: 253


1- الكامل في التاريخ: ج4 ص113، ذكر وقعة الْحَرَّة.

الفاصل بينها وبين مسجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ميلاً واحداً، خرج إليهم أهل المدينة للدفاع، فوقع الحرب وقُتل كثير من أهل المدينة المنورة من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين.

ففرت الناس والتجؤوا بقبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولكن دخل جيش مسرف بن عقبه المدينة، ثم دخلوا مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بخيولهم وبكل وقاحة، ولم يراعوا حرمة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأخذوا يقتلون الناس وهم في المسجد، حتى امتلأ المسجد بالدم والجثث، وأخذت الخيول تروث وتبول بقرب القبر الطاهر لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقد قتل جيش يزيد من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة، ومن عامة الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً أكثر من عشرة ألاف مسلم ومسلمة، وقتلوا من أولاد أبي طالب: أبا بكر بن عبد اللّه بن جعفر، وعون أصغر بن عبد اللّه بن جعفر، كما قُتل عدد آخر من أهل البيت (عليهم السلام) .

وكان فيمن قُتل: عباس بن ربيعة، وحمزة بن نوفل بن حارث، وعباس بن عتبة بن أبي لهب، وغيرهم.

ثم أباح مسرف بن عقبة المدينة لجيش يزيد ثلاثة أيام، فأباحوا الدماء والأموال والنساء، فقتلوا من قتلوا، وأحرقوا ما أحرقوا، وسرقوا ما سرقوا، وهتكوا الأعراض ما هتكوا، وداسوا شرف المسلمات والمؤمنات بما داسوا.

من قساوة جيش يزيد

دخل رجل من جيش يزيد من أهل الشام بيتاً من بيوت الأنصار في المدينة المنورة، فرأى امرأة وبيدها طفل رضيع. فقال لها: هل في البيت ما تعطيني من الأموال. فأقسمت المرأة باللّه تعالى أنه لم يبق الجيوش لنا شيئاً.

فقال لها: لابد أن تأتيني بشيء، وإلا قتلتك وطفلك الرضيع!

ص: 254

قالت: هذا الطفل ابن رجل مسلم من أنصار رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فاتق اللّه وأبعد عنا.

ثم خاطبت المرأة وليدها الذي كان يرتضع منها: بني لو كان لنا شيء لقدمته لهذا الرجل، ولنجوت بك منه.

ولكن تقدم ذلك الرجل القاسي، وأخذ برجل الطفل، وكان يرتضع من أمه، وجره ورماه على الحائط بقوة، بحيث تكسر رأسه، وانتثر مخه أمام أمه.

بيعة العبودية

لما انتهى مسرف وجيشه من قتل من قُتل، وسرقة ما سُرق، وهتك من هُتك، أمر بأن يبايع من بقي من الناس يزيد بن معاوية على العبودية والرقية، وعلى أنهم خول عبيد ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.

وكل من خالفه ولم يبايع قتله.

فبايع جميع من بقي بهذه البيعة يزيد بن معاوية، خوفاً على أنفسهم، إلا الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وعلي بن عبد اللّه بن عباس.

وقد حفظ اللّه تعالى الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، وكان الإمام يقرأ هذا الدعاء: اللّهم رب السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره، وأدرأ بك في نحره، وأسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شره.

وفي رواية: لما أتي بعلي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) إلى مسرف بن عقبة، قال: من هذا؟.

قالوا: علي بن الحسين.

قال: مرحباً وأهلاً، ثم أجلسه على السرير والطنفسة، ثم قال: إن الأمير

ص: 255

يزيد أوصاني بك قبلاً، ثم قال لعلي: لعل أهلك فزعوا، قال: إي واللّه، فأمر مسرف بدابته فأسرجت ثم حمله فرده عليها(1).

إيواء كثير من النساء

في وقعة الحرة، آوى الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثيراً من نساء أهل المدينة حتى من نساء بني أمية، وحفظ عليهم، وذلك في بستان له خارج المدينة إلى أن انتهت وقعة الحرة.

وفي بعض الروايات إنه (عليه السلام) ضم إليه أربعمائة امرأة مَنافية يعولهن إلى أن تفرق جيش مسلم بن عقبة(2).

وفي رواية: أربعمائة امرأة مع أولادهن(3).

الهجوم على مكة

ولما فرغ مسرف بن عقبة من أمر المدينة، وارتكب فيها من الجرائم ما ارتكب، توجه إلى مكة المكرمة لإخماد ثورة عبد اللّه بن الزبير، وثورة أهالي مكة، ولكنه مات في وسط الطريق من قبل أن يصل إلى مكة، فدفنوه هناك.

ولما ذهب الجيش، كانت أم ولد ليزيد بن عبد اللّه بن ربيعة، فجاءت ونبشت قبر مسرف بن عقبة، وأخرجت جسده، وصلبته على شجرة، فكان كل من يمر عليه يرميه بحجارة(4).

ص: 256


1- الكامل في التاريخ: ج4 ص113، ذكر وقعة الْحَرَّة.
2- التذكرة الحمدونية: ج2 ص276، حكايات عن بعض الأجواد، ح723.
3- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: ج1 ص352-353، ب11.
4- أنساب الأشراف: ج5 ص331، خبر يوم الحرة، ح584.

حسن تعامل الإمام مع مروان

في هجوم جيش يزيد على المدينة، التجأ إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) مروان مع زوجته وأطفاله، وكانت زوجته عائشة بنت عثمان، فآمنهم الإمام (عليه السلام) وأرسلهم إلى بستان له خارج المدينة حيث كان مكاناً آمناً، فضيفهم وحفظ عليهم وسترهم. هذا مع كثرة عداء مروان لأهل البيت، ومواقفه المعادية معروفة.

كان مروان وأبوه طريدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (1).

وكان يبغض علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وحارب الإمام في حرب الجمل.

وفي تشييع الإمام الحسن (عليه السلام) ، كان من المحرضين لبني أمية على منع دفن الإمام (عليه السلام) عند جده (صلی الله عليه وآله وسلم) ، مما سبب أن يرموا جنازة الإمام المجتبى (عليه السلام) بالسهام، حتى أصاب سبعون سهماً جنازة سبط رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (2).

وفي قصة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، لما جاؤوا بالرأس الشريف إلى مجلس يزيد، كان مروان حاضراً فأخذ الرأس الشريف وأهانه، وقال هذه الأشعار:

يا حبذا بردك في اليدين***ولونك الأحمر في الخدين

كأنما حف بوردتين***شفيت نفسي من دم الحسين

واللّه لكأني أنظر إلى أيام عثمان(3).

ص: 257


1- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص299، احتجاجه الحسين (عليه السلام) بإمامته على معاوية وغيره.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص44، إمامة أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) ، في وفاته وزيارته (عليه السلام) .
3- أعيان الشيعة: ج1 ص626، أبو عبد اللّه الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

37

استشهاد الإمام

اشارة

توفي الإمام زين العابدين (عليه السلام) مسموماً شهيداً في المدينة المنورة، يوم السبت الثاني عشر من المحرم، أو الخامس والعشرين منه، سنة خمس وتسعين من الهجرة، وله يومئذٍ سبع وخمسون سنةً أو أكثر، بحسب اختلاف الأقوال، وكان إمامته أربعاً وثلاثين سنةً.

وقد سمّه الوليد بن عبد الملك، وقيل سمّه هشام بن عبد الملك، بأمر من الوليد(1).

ودُفن (عليه السلام) بالبقيع الغرقد، مع عمه الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نفس القبة التي تم هدمها بيد الوهابيين.

عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «مات علي بن الحسين (عليه السلام) وهو ابن ثمان وخمسين سنةً»(2).

وعن أبي فروة، قال: مات علي بن الحسين (عليه السلام) بالمدينة، ودُفن بالبقيع سنة

ص: 258


1- بحار الأنوار: ج46 ص152، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب10 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح14.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص91، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

أربع وتسعين، وكان يقال لهذه السنة: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها(1).

وعن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قال: «مات أبي علي بن الحسين (عليه السلام) سنة أربع وتسعين، وصلينا عليه بالبقيع»(2).

وفي إعلام الورى وروضة الواعظين: توفي (عليه السلام) بالمدينة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلةً بقيت من المحرم سنة خمس وتسعين من الهجرة، وله يومئذٍ سبع وخمسون سنةً(3).

وفي إعلام الورى: كانت مدة إمامته بعد أبيه أربعاً وثلاثين سنةً، وكان في أيام إمامته: بقية ملك يزيد بن معاوية، وملك معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان. وتوفي (عليه السلام) في ملك الوليد بن عبد الملك(4).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «قبض علي بن الحسين (عليه السلام) وهو ابن سبع وخمسين سنةً، في عام خمس وتسعين سنةً، وعاش بعد الحسين (عليه السلام) خمساً وثلاثين سنةً»(5).

وقال صاحب كفاية الطالب: توفي (عليه السلام) في ثامن عشر المحرم من سنة أربع

ص: 259


1- بحار الأنوار: ج46 ص151، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب10 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح10.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص91، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
3- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص481، الركن الثالث، ب3، ف1. روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج1 ص201، مجلس في ذكر إمامة أبي محمد علي بن الحسين زين العابدين ومناقبه.
4- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص481، الركن الثالث، ب3، ف1.
5- الكافي: ج1 ص468، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح6.

وتسعين، وقيل: خمس وتسعون(1).

وقال الشيخ في المصباح، في اليوم الخامس والعشرين من المحرم سنة أربع وتسعين كانت وفاة زين العابدين (عليه السلام) (2).

وفي العدد القوية: وفي تاريخ المفيد وفي اليوم الخامس والعشرين من المحرم سنة أربع وتسعين، كانت وفاة مولانا الإمام السجاد زين العابدين أبي محمد وأبي الحسن علي بن الحسين (عليه السلام) (3).

الحمد لله الذي صدقنا وعده

عن أبي الحسن (صلوات اللّه عليه)، قال: «لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة أغمي عليه ثلاث مرات. فقال في المرة الأخيرة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}، ثم مات (صلوات اللّه عليه)»(4).

أقول: الظاهر أن الإغماء عليه كان من شدة أثر السم.

وعن سهل بن زياد رفعه، قال: لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة، أغمي عليه فبقي ساعةً، ثم رفع عنه الثوب، ثم قال: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}(5)، ثم قال: احفروا

ص: 260


1- بحار الأنوار: ج46 ص152، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب10 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح14.
2- انظر المصباح للكفعمي: ص509، ف42، أما الشهور الاثنا عشر، المحرم.
3- العدد القوية لدفع المخاوف اليومية: ص315، اليوم الخامس والعشرون، تاريخ وفاة الإمام السجاد (عليه السلام) وأولاده.
4- تفسير القمي: ج2 ص254، سورة الزمر الآيات 73 إلى 75.
5- سورة الزمر: 74.

لي، وابلغوا إلى الرسخ [الرشح]،قال: ثم مد الثوب عليه، فمات (عليه السلام) »(1).

قراءة الواقعة والفتح

عن الحسن بن علي بن بنت إلياس، عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول: «إن علي بن الحسين (عليه السلام) لما حضرته الوفاة، أغمي عليه ثم فتح عينيه، وقرأ: إذا وقعت الواقعة، وإنا فتحنا لك، وقال: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}(2)، ثم قبض من ساعته، ولم يقل شيئاً»(3).

من الوصايا الأخيرة

عن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة، ضمني إلى صدره، وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، ومما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا اللّه»(4).

صلاة الجنازة

في رواية علي بن زيد والزهري، عن سعيد بن المسيب: لما أن مات علي بن الحسين (عليه السلام) ، شهد جنازته البر والفاجر، وأثنى عليه الصالح والطالح، وانهال الناس يتبعونه حتى وضعت الجنازة. فقلت: إن أدركت الركعتين يوماً من الدهر

ص: 261


1- بحار الأنوار: ج46 ص153، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب10 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح15.
2- سورة الزمر: 74.
3- الكافي: ج1 ص468، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح5.
4- الأمالي للصدوق: ص182، المجلس34، ح10.

فاليوم هو، ولم يبق إلا رجل وامرأة، ثم خرجا إلى الجنازة، ووثبت لأصلي، فجاء تكبير من السماء، فأجابه تكبير من الأرض، وأجابه تكبير من السماء، فأجابه تكبير من الأرض. ففزعت وسقطت على وجهي، فكبر من في السماء سبعاً، ومن في الأرض سبعاً، وصلى على علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما)، ودخل الناس المسجد، فلم أدرك الركعتين، ولا الصلاة على علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما). فقلت: يا سعيد، لو كنت أنا لم أختر إلا الصلاة على علي بن الحسين، إن هذا لهو الخسران المبين. فبكى سعيد ثم قال: ما أردت إلا الخير، ليتني كنت صليت عليه؛ فإنه ما رئي مثله(1).

وحتى الناقة تبكيه

عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «كانت لعلي بن الحسين ناقة، قد حج عليها اثنتين وعشرين حجةً ما قرعها بمقرعة قط - قال - فجاءت بعد موته، فما شعرت بها حتى جاءني بعض الموالي. فقال: إن الناقة قد خرجت، فأتت قبر علي بن الحسين فبركت عليه، ودلكت بجرانها وترغو. فقلت: أدركوها»(2).

وفي رواية عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «لما مات علي بن الحسين، كانت ناقة له في الرعي، جاءت حتى ضربت بجرانها على القبر، وتمرغت عليه. فأمرت بها فردت إلى مرعاها، وإن أبي كان يحج عليها ويعتمر، وما قرعها قرعةً قط»(3).

ص: 262


1- رجال الكشي: ج1 ص334، سعيد بن المسيب، ح188.
2- الكافي: ج1 ص467، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ح2.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى اللّه عليهم): ج1 ص353، الباب15، ح16.

الإمام لا يغسله إلا إمام

روى أبو بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «كان فيما أوصى به إليَّ أبي علي بن الحسين (عليه السلام) ، أنه قال: يا بني، إذا أنا مت فلا يلي غسلي غيرك؛ فإن الإمام لا يغسله إلا إمام مثله»(1).

ص: 263


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص264، الباب5، ح8.

38

من أصحاب الإمام

اشارة

كان من أصحاب الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومن تتلمذوا على يديه، حسب ما ذكره البعض:

جابر بن عبد اللّه الأنصاري، ويحيى ابن أم الطويل المطعمي، وعمرو بن عبد اللّه السبيعي، وعامر بن واثلة الكناني، وسعيد بن المسيب بن حزن، وسعيد بن جمهان الكناني مولى أم هانئ، وأبو محمد سعيد بن جبير مولى بني أسد، ومحمد بن جبير بن مطعم، وأبو خالد الكابلي، والقاسم بن عوف، وإسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر الطيار، وإبراهيم والحسن ابنا محمد بن الحنفية، وحبيب بن أبي ثابت الأسدي، وأبو حازم الأعرج سلمة بن دينار المدني، وأبو حمزة الثمالي، وفرات بن أحنف، وجابر بن محمد بن أبي بكر، وأيوب بن الحسن بن علي بن أبي رافع، وأبو محمد القرشي السدي الكوفي إسماعيل بن عبد الرحمن المفسر، والضحاك بن مزاحم الخراساني، وطاووس بن كيسان أبو عبد الرحمن، وحميد بن موسى الكوفي، وأبان بن تغلب بن رباح، وأبو الفضل سدير بن حكيم بن صهيب الصيرفي، وقيس بن رمانة، وعبد اللّه البرقي، والفرزدق الشاعر، ومن مواليه شعيب(1).

ص: 264


1- انظر مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص176-177.

وغيرهم(1).

مع السبيعي

روى محمد بن جعفر المؤدب: أن أبا إسحاق عمرو بن عبد اللّه السبيعي، صلى أربعين سنةً صلاة الغداة بوضوء العتمة، وكان يختم القرآن في كل ليلة، ولم يكن في زمانه أعبد منه، ولا أوثق في الحديث عند الخاص والعام، وكان من ثقات علي بن الحسين (عليه السلام) . ولد في الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقبض وله تسعون سنةً، وهو من همدان اسمه عمرو بن عبد اللّه بن علي بن ذي حمير بن السبيع بن يبلع الهمداني ونسب إلى السبيع؛ لأنه نزل فيهم(2).

مع سعيد بن جبير

قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين (عليه السلام) ، فكان علي يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر، وكان مستقيماً. وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف، قال: أنت شقي بن كسير؟. قال: أمي كانت أعرف بي، سمتني سعيد بن جبير. قال: ما تقول في أبي بكر وعمر هما في الجنة أو في النار؟. قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها. قال: فما قولك في الخلفاء؟. قال: لست عليهم بوكيل. قال: أيهم أحب إليك؟. قال: أرضاهم

ص: 265


1- لمعرفة المزيد من أصحاب الإمام زين العابدين (عليه السلام) يمكن مراجعة كتاب الرجال للشيخ الطوسي (رحمه الله) باب أصحاب أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- الاختصاص: ص83، في ذكر حواري أهل البيت (عليهم السلام) وجملة من أصحابهم، عمرو بن عبد اللّه السبيعي.

لخالقي. قال: فأيهم أرضى للخالق؟. قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: أبيت أن تصدقني. قال: بل لم أحب أن أكذبك»(1).

مع الزهري

الزهري رأى في منامه كأن يده مخضوبة غمسة، قال فعبرها. فقيل له: إنك تبتلى بدم خطأ. قال: وكان عاملاً لبني أمية، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة. فخرج هارباً وتوحش، ودخل إلى غار وطال شعره. قال: وحج علي بن الحسين (عليه السلام) . فقيل له: هل لك في الزهري. قال: «إن لي فيه». قال أبو العباس: هكذا كلام العرب إن لي فيه لا يقال غيره. قال: فدخل عليه. فقال له: «إني أخاف عليك من قنوطك، ما لا أخاف عليك من ذنبك، فابعث بدية مسلمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك، ومعالم دينك». قال: فقال له: فرجت عني يا سيدي، واللّه أعلم حيث يجعل رسالاته(2).

الحواريون

عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حواري علي بن الحسين؟. فيقوم: جبير بن مطعم، ويحيى ابن أم الطويل، وأبو خالد الكابلي، وسعيد بن المسيب»(3).

ص: 266


1- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج2 ص290، مجلس في ذكر مناقب أصحاب الأئمة وفضائل الشيعة والأبدال.
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص105-106، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
3- بحار الأنوار: ج46 ص144، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب8 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح28.

وعن يونس، عن جميل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «ارتد الناس بعد الحسين (عليه السلام) ، إلا ثلاثةً: أبو خالد الكابلي، ويحيى ابن أم الطويل، وجبير بن مطعم. ثم إن الناس لحقوا وكثروا، وكان يحيى ابن أم الطويل يدخل مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويقول: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ}(1)»(2).

ص: 267


1- سورة الممتحنة: 4.
2- الاختصاص: ص64، في ذكر حواري أهل البيت (عليهم السلام) وجملة من أصحابهم، خزيمة بن ثابت.

39

أولاد الإمام

اشارة

كان للإمام زين العابدين (عليه السلام) عدد من البنين والبنات، وقد استمر به (عليه السلام) نسل أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) .

قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : كان له (عليه السلام) من الأولاد خمسة عشر ذكراً، وأربع بنات.

وقيل: غير ذلك.

ومن أولاده (عليه السلام) ذكوراً وإناثاً:

1: الإمام محمد الباقر (عليه السلام) ، أُمه فاطمة بنت الحسن السبط، تكنى أم عبد اللّه.

2: الحسن.

3: الحسين الأكبر.

4: زيد الشهيد(1).

5: عمرو.

6: الحسين الأصغر.

7: عبيد اللّه.

8: سليمان.

9: علي.

ص: 268


1- سيأتي بعض التفصيل عن حياة زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) في خاتمة هذا الكتاب.

10: محمد الأصغر.

11: عبد اللّه.

12: القاسم.

13: عبد الرحمن.

14: فاطمة.

15: علية.

16: أم كلثوم.

17: خديجة.

18: كلثم.

19: مليكة

20: أم البنين.

وفي المناقب لابن شهرآشوب: أبناؤه اثنا عشر من أمهات الأولاد، إلا اثنين محمد الباقر وعبد اللّه الباهر، أمهما أم عبد اللّه بنت الحسن بن علي(1).

وفي الإرشاد: وُلد علي بن الحسين (عليه السلام) خمسة عشر ولداً، محمد المكنى أبا جعفر الباقر (عليه السلام) وأمه أم عبد اللّه بنت الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وزيد وعامر أمهما أم ولد، وعبد اللّه والحسن والحسين أمهم أم ولد، والحسين الأصغر وعبد الرحمن وسليمان لأم ولد، وعلي وكان أصغر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) ، وخديجة أمهما أم ولد، ومحمد الأصغر أمه أم ولد، وفاطمة وعلية وأم كلثوم،

ص: 269


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص176، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في أحواله وتاريخه (عليه السلام) .

وأمهن أم ولد(1).

وكان عبد اللّه بن علي بن الحسين أخو أبي جعفر (عليه السلام) ، يلي صدقات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وصدقات أمير المؤمنين (عليه السلام) . وكان فاضلاً فقيهاً، وروى عن آبائه، عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أخباراً كثيرةً، وحدث الناس عنه، وحملوا عنه الآثار(2).

وكان عامر بن علي بن الحسين فاضلاً جليلاً، وولي صدقات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وصدقات أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان ورعاً سخياً(3).

وكان الحسين بن علي بن الحسين (عليه السلام) فاضلاً ورعاً، وروى حديثاً كثيراً عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام) ، وعن عمته فاطمة بنت الحسين، وعن أخيه أبي جعفر (عليه السلام) .

روى أحمد بن عيسى، عن أبيه، قال: كنت أرى الحسين بن علي بن الحسين (عليه السلام) يدعو، فكنت أقول: لا يضع يده حتى يستجاب له في الخلق جميعاً(4).

وروي عن الحسين بن علي بن الحسين، قال: كان إبراهيم بن هشام المخزومي والياً على المدينة، وكان يجمعنا يوم الجمعة قريباً من المنبر، ثم يقع في علي (عليه السلام) ويشتمه. قال: فحضرت يوماً، وقد امتلأ ذلك المكان، فلصقت بالمنبر، فأغفيت فرأيت القبر قد انفرج، وخرج منه رجل عليه ثياب بياض. فقال لي: يا أبا عبد اللّه، أ لا يحزنك ما يقول هذا؟. قلت: بلى واللّه. قال: افتح عينيك،

ص: 270


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص15، ذكر أولاد الإمام السجاد (عليه السلام) .
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص169.
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص.
4- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص174.

فانظر ما يصنع اللّه به. فإذا هو قد ذكر علياً، فرمي من فوق المنبر، فمات لعنه اللّه(1).

تنزيه أولاد الأئمة

ثم إن أولاد الأئمة (عليهم السلام) كانوا من أفضل شيعتهم، ومن المعتقدين بولايتهم وإمامتهم، وإمامة سائر الأئمة (عليهم السلام) ممن سبقهم، ومن عاصرهم، ومن يأتي بعدهم من الأئمة الاثني عشر (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، وكانوا من العلماء الأتقياء، الزهاد على نهج آبائهم (عليهم السلام) .

وما ورد من ادعاء بعضهم الإمامة، أو مخالفة بعضهم للإمام (عليهم السلام) ، فهو إما من طرق غير معتبرة، أو كان يراد بذلك لفت أنظار الظلمة إليهم؛ حفظاً للمعصوم (عليه السلام) ، أو ما أشبه، مما أشرنا إليه في بعض كتبنا.

ومنه ما ورد من قول الإمام زين العابدين لولده الباقر (عليهما السلام) : «واعلم أن عبد اللّه أخاك سيدعو الناس إلى نفسه فامنعه، فإن أبى فإن عمره قصير»، الحديث(2).

ولو فرض أن أحدهم كان في عقيدته بعض الإشكال، على حسب ما يزعمه بعض الناس، فإنه اهتدى إلى الصراط المستقيم، ولم يمت إلاّ وهو كامل الإيمان كما في الرواية، من هنا لا يصح ما نسبه البعض إلى بعض أولاد الأئمة (عليهم السلام) من التجريح، وربما يصاب الجارح بما لا يحمد عليه.

في تفسير العياشي، عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن

ص: 271


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص131، ذكر الإمام الخامس أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) ، وأما عمره.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص264، الباب5، ح8.

قول اللّه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}(1)؟. هذه نزلت فينا خاصةً، إنه ليس رجل من ولد فاطمة (عليها السلام) يموت ولا يخرج من الدنيا، حتى يقر للإمام وبإمامته، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: {قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا}(2)»(3).

وقد ورد عن عبد الملك بن عمر، قال: سمعت أبا زُطّ يقول: لا تسبوا علياً، ولا أهل هذا البيت؛ فإن جباراً لنا من بلنجر، قدم الكوفة بعد قتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي (عليه السلام) . فقال: أ لا ترون إلى هذا الفاسق ابن الفاسق كيف قتله اللّه تعالى. قال: فرماه اللّه بقرحتين في عينيه، فطمس اللّه بها بصره، فاحذروا أن تتعرضوا لأهل هذا البيت إلا بخير(4).

ص: 272


1- سورة النساء: 159.
2- سورة يوسف: 91.
3- تفسير العياشي: ج1 ص283-284، سورة النساء: آية 159، ح300.
4- بحار الأنوار: ج46 ص178، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح34.

40

درر من رواياته الشريفة

اشارة

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه»(1).

* وقال (عليه السلام) : «إن اللّه عز وجل رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به الناقصة، وأكرم به اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية»(2).

* وقال (عليه السلام) : «هلك من ليس له حكيم يرشده، وذلّ من ليس له سفيه يعضده»(3).

* وقال (عليه السلام) لابنه: «يا بني، إياك ومعاداة الرجال، فإنه لم يعدمك مكر حليم، أو مفاجاة لئيم»(4).

* وسُئل زين العابدين (عليه السلام) : لم أوتم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من أبويه؟. فقال: «لئلا

ص: 273


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص108، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- الكافي: ج5 ص345-346، كتاب النكاح، باب آخر منه، ح6.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص113، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص106، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .

يوجب عليه حق لمخلوق»(1).

* وقيل له (عليه السلام) : من أعظم الناس خطراً؟. قال: «من لم ير الدنيا خطراً لنفسه»(2).

* وقال (عليه السلام) : «إذا صليت فصل صلاة مودع»(3).

* وقال رجل لعلي بن الحسين (عليه السلام) : ما أشد بغض قريش لأبيك؟. قال: «لأنه أورد أولهم النار، وألزم آخرهم العار»(4).

* وقال زين العابدين (عليه السلام) : «عجبت لمن يحتمي من الطعام لمضرته، ولا يحتمي من الذنب لمعرته»(5).

* وقال (عليه السلام) : «خف اللّه عز وجل لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك»(6).

* وقيل له (عليه السلام) يوماً: كيف أصبحت؟. قال (عليه السلام) : «أصبحنا خائفين برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأصبح جميع أهل الإسلام آمنين به»(7).

ص: 274


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص106، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- تحف العقول: ص278، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: ص90، لمع من كلام الإمام أبي الحسن السجاد زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) ، ح10.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
5- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص107، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
6- بحار الأنوار: ج75 ص159، تتمة كتاب الروضة، الباب21 تتمة أبواب المواعظ والحكم، ضمن ح19.
7- بحار الأنوار: ج75 ص159، تتمة كتاب الروضة، الباب21 تتمة أبواب المواعظ والحكم، ضمن ح19.

* وقيل له (عليه السلام) : ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة؟. فقال (عليه السلام) : «أكره أن آخذ برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما لا أعطي مثله»(1).

* وسمع (عليه السلام) رجلاً كان يغشاه يذكر رجلاً بسوء. فقال: «إياك والغيبة! فإنها إدام كلاب النار»(2).

* وقال (عليه السلام) : «إياك وما تعتذر منه، وخف اللّه خوفاً ليس بالتعذر»(3).

* وقال (عليه السلام) : «لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وشفاعة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وسعة رحمة اللّه عز وجل»(4).

* وقال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «كل عين باكية يوم القيامة، إلا أربعة أعين: عين بكت من خشية اللّه، وعين فُقئت في سبيل اللّه، وعين غَضَّت عن محارم اللّه، وعين باتت ساهرةً ساجدةً، يباهي بها اللّه الملائكة ويقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي، وجسده في طاعتي، قد جافى بدنه عن المضاجع، يدعوني خوفاً من عذابي، وطمعاً في رحمتي، اشهدوا أني قد غفرت له»(5).

* وقال (عليه السلام) : «ما تجرعتُ جرعة غيظ أحب إليَّ من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحب أن لي بذلك حمر النعم»(6).

ص: 275


1- دلائل الإمامة: ص196، أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، خبر أُمه والسبب في تزويجها.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص315، احتجاج علي بن الحسين (عليه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: ص90، لمع من كلام الإمام أبي الحسن السجاد زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) ، ح10.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص108، ذكر ولد علي بن الحسين (عليه السلام) .
5- بحار الأنوار: ج46 ص100، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح88.
6- مجموعة ورام: ج2 ص81.

* وقال (عليه السلام) : «الصدقة تطفئ غضب الرب»(1).

* وقال (عليه السلام) لابنه: «يا بني، اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له»(2).

* وقال (عليه السلام) : «إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كل قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه»(3).

* وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: إنه يُسخّي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قولُ اللّه: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}(4)، وهو ذهاب العلماء»(5).

* وعن سعيد بن المسيب، قال: حضرت علي بن الحسين (عليه السلام) يوماً حين صلى الغداة، فإذا سائل بالباب. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «أعطوا السائل، ولا تردوا سائلاً»(6).

من شعره (عليه السلام)

روي للإمام زين العابدين (عليه السلام) بعض الأشعار، إنشاءً أو إنشاداً، منها:

ص: 276


1- الأمالي للطوسي: ص673، المجلس36، ضمن ح1419 / 16.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص165، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
3- إقبال الأعمال: ج1 ص261، الباب34، الفصل.
4- سورة الرعد: 41.
5- الكافي: ج1 ص38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، ح6.
6- وسائل الشيعة: ج9 ص420، كتاب الزكاة، الباب22 من أبواب الصدقة، ح12379.

أعيادنا مآتمنا

نحن بنو المصطفى ذوو غصص***يجرعها في الأنام كاظمنا

عظيمة في الأنام محنتنا***أولنا مبتلًى وآخرنا

يفرح هذا الورى بعيدهم***ونحن أعيادنا مآتمنا

والناس في الأمن والسرور وما***يأمن طول الزمان خائفنا

وما خصصنا به من الشرف***الطائل بين الأنام آفتنا

يحكم فينا والحكم فيه لنا***جاحدنا حقنا وغاصبنا(1)

لباس الدنيا والآخرة

يقول الأصمعي: كنت بالبادية، وإذا أنا بشاب منعزل عنهم في أطمار رثة، وعليه سيماء الهيبة. فقلت: لو شكوت إلى هؤلاء حالك، لأصلحوا بعض شأنك.

فأنشأ يقول:

لباسي للدنيا التجلد والصبر***ولبسي للأخرى البشاشة والبشر

إذا اعترني أمر لجأت إلى العرا***لأني من القوم الذين لهم فخر

أ لم تر أن العرف قد مات أهله***وأن الندى والجود ضمهما قبر

على العرف والجود السلام فما بقي***من العرف إلا الرسم في الناس والذكر

وقائلةً لما رأتني مسهداً***كأن الحشا مني يلذعها الجمر

أباطن داءً لو حوى منك ظاهراً***فقلت الذي بي ضاق عن

وسعه الصدر تغير أحوال وفقد أحبة***وموت ذوي الإفضال قالت كذا الدهر

ص: 277


1- انظر بحار الأنوار: ج46 ص92، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب5 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح78.

فتعرفته، فإذا هو علي بن الحسين (عليه السلام) . فقلت: أبى أن يكون هذا الفرخ إلا من ذلك العش(1).

كتاب اللّه شاهدنا

عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، أنه قال:

لكم ما تدعون بغير حق***إذا ميز الصحاح من المراض

عرفتم حقنا فجحدتمونا***كما عرف السواد من البياض

كتاب اللّه شاهدنا عليكم***وقاضينا الإله فنعم قاض(2)

يا كاشف الكرب

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم***يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبةً***وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك رب دعاءً قد أمرت به***فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف***فمن يجود على العاصين بالنعم(3)

ص: 278


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص166، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في كرمه وصبره وبكائه (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج46 ص146، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب9 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ضمن ح4.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص150- 151، إمامة أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، في زهده (عليه السلام) .

خاتمة

نبذة عن حياة الشهيد زيد بن علي (عليه السلام)

اشارة

من أكابر أولاد الأئمة وأفاضلهم، هو زيد بن علي الشهيد (عليه السلام) ، وكان خروجه بالتنسيق مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، ولكن الظروف آنذاك لم تسمح لبيان هذا الارتباط؛ وذلك لحفظ الإمام (صلوات اللّه عليه) من جور الظلمة.

وما ورد من النهي عن ثورته، أو ما يزعمه البعض من الذم في حقه، فهو من باب التقية، وإبعاد القضية عن المعصوم (عليه السلام) .

عن معمر، قال: كنت جالساً عند الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فجاء زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) ، فأخذ بعضادتي الباب. فقال له الصادق (عليه السلام) : «يا عم، أعيذك باللّه أن تكون المصلوب بالكناسة». فقالت له أم زيد: واللّهِ ما يحملك على هذا القول غير الحسد لابني. فقال: «يا ليته حسداً، يا ليته حسداً، يا ليته حسداً، ثلاثاً - ثم قال - حدثني أبي، عن جدي (عليه السلام) ، أنه يخرج من ولده رجل يقال له: زيد، يقتل بالكوفة، ويصلب بالكناسة، يخرج من قبره نبشاً، تفتح لروحه أبواب السماء، يتبهج به أهل السماوات، يجعل روحه في حوصلة طير أخضر، يسرح في الجنة حيث يشاء»(1).

ص: 279


1- الأمالي للصدوق: ص40، المجلس10، ح11.

يقول العلامة المجلسي (رحمه الله) :

ثم اعلم أن الأخبار اختلفت وتعارضت في أحوال زيد وأضرابه كما عرفت، لكن الأخبار الدالة على جلالة زيد ومدحه، وعدم كونه مدعياً لغير الحق أكثر، وقد حكم أكثر الأصحاب بعلو شأنه، فالمناسب حسن الظن به، وعدم القدح فيه، بل عدم التعرض لأمثاله من أولاد المعصومين (عليه السلام) ، إلا من ثبت من قبل الأئمة (عليه السلام) الحكم بكفرهم، ولزوم التبري عنهم(1).

سيد من أهل البيت

عن أبي الجارود، قال: إني لجالس عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ، إذ أقبل زيد بن علي (عليه السلام) ، فلما نظر إليه أبو جعفر (عليه السلام) وهو مقبل. قال: «هذا سيد من أهل بيته، والطالب بأوتارهم، لقد أنجبت أم ولدتك يا زيد»(2).

هذه صفتك يا أبا حسين

عن جابر الجعفي، قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، وعنده زيد أخوه (عليه السلام) ، فدخل عليه معروف بن خربوذ المكي. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «يا معروف، أنشدني من طرائف ما عندك».

فأنشده:

لعمرك ما إن أبو مالك***بوان ولا بضعيف قواه

ولا بألد لدى قوله***يعادي الحكيم إذا ما نهاه

ص: 280


1- بحار الأنوار: ج46 ص205، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، تذنيب ح82.
2- الأمالي للصدوق: ص335، المجلس54، ح11.

ولكنه سيد بارع***كريم الطبائع حلو نثاه

إذا سدته سدت مطواعةً***ومهما وكلت إليه كفاه

قال: فوضع محمد بن علي (عليه السلام) يده على كتفي زيد (عليه السلام) ، فقال: «هذه صفتك يا أبا الحسين»(1).

البشارة بولادة زيد

عن أبي حمزة الثمالي، قال: حججت، فأتيت علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال لي: «يا أبا حمزة، أ لا أحدثك عن رؤيا رأيتها. رأيت كأني أدخلت الجنة، فأتيت بحوراء لم أر أحسن منها، فبينا أنا متكئ على أريكتي، إذ سمعت قائلاً يقول: يا علي بن الحسين، ليهنئك زيد. يا علي بن الحسين، ليهنئك زيد، فيهنئك زيد». قال أبو حمزة: ثم حججت بعده، فأتيت علي بن الحسين (عليه السلام) ، فقرعت الباب، ففتح لي ودخلت، فإذا هو حامل زيداً على يده، أو قال: حامل غلاماً على يده. فقال لي: «يا أبا حمزة، هذه {تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}(2)»(3).

جزاء من لم ينصره

عن عون بن عبد اللّه، قال: كنت مع محمد بن علي ابن الحنفية في فناء داره، فمر به زيد بن الحسن، فرفع طرفه إليه، ثم قال: ليقتلن من ولد الحسين (عليه السلام) رجل يقال له: زيد بن علي، وليصلبن بالعراق، من نظر إلى عورته فلم ينصره،

ص: 281


1- بحار الأنوار: ج46 ص168-169، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح14.
2- سورة يوسف: 100.
3- الأمالي للصدوق: ص335-336، المجلس54، ح12.

أكبه اللّه على وجهه في النار»(1).

قوله: (إلى عورته) أي إلى جسده مصلوباً عارياً، ولا يستلزم ذلك الكشف الكامل.

تفقد عيال الشهداء

عن ابن سيابة، قال: دفع إلي أبو عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ألف دينار، وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي (عليه السلام) ، فقسمتها فأصاب عبد اللّه بن الزبير - أخا فضيل الرسان - أربعة دنانير(2).

يدخلون الجنة بلا حساب

عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن آبائه (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسين: «يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين، يدخلون الجنة بلا حساب»(3).

شهداء كأمير المؤمنين (عليه السلام)

عن الفضيل، قال: انتهيت إلى زيد بن علي (عليه السلام) صبيحة خرج بالكوفة، فسمعته يقول: من يعينني منكم على قتال أنباط أهل الشام، فو الذي بعث محمداً بالحق بشيراً لا يعينني منكم على قتالهم أحد، إلا أخذت بيده يوم القيامة

ص: 282


1- بحار الأنوار: ج46 ص170، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح16.
2- الأمالي للصدوق: ص336، المجلس54، ح13.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص249-250، الباب25، ح2.

فأدخلته الجنة بإذن اللّه. قال: فلما قتل اكتريت راحلةً، وتوجهت نحو المدينة، فدخلت على الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، فقلت في نفسي: لا أخبرته بقتل زيد بن علي فيجزع عليه. فلما دخلت قال لي: «يا فضيل، ما فعل عمي زيد؟». قال: فخنقتني العبرة. فقال لي: «قتلوه». قلت: إي واللّه قتلوه. قال: «فصلبوه». قلت: إي واللّه صلبوه. فأقبل يبكي، ودموعه تنحدر على ديباجتي خده، كأنها الجمان، ثم قال: «يا فضيل، شهدت مع عمي قتال أهل الشام؟». قلت: نعم. قال: «فكم قتلت منهم؟». قلت: ستةً. قال: «فلعلك شاك في دمائهم؟». قال: فقلت: لو كنت شاكاً ما قتلتهم. قال: فسمعته وهو يقول: «أشركني اللّه في تلك الدماء، مضى واللّه زيد عمي وأصحابه شهداء، مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه»(1).

الثائر من آل محمد

أبو عبد اللّه السياري، عن رجل من أصحابه، قال: ذكر بين يدي أبي عبد اللّه (عليه السلام) من خرج من آل محمد. فقال (عليه السلام) : «لا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعليَّ نفقة عياله»(2).

ذكرت عمي زيداً

عن حمزة بن حمران، قال: دخلت إلى الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) . فقال لي: «يا حمزة، من أين أقبلت؟». قلت: من الكوفة. قال: فبكى (عليه السلام) ، حتى

ص: 283


1- الأمالي للصدوق: ص349، المجلس56، ح1.
2- بحار الأنوار: ج46 ص172، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح21.

بلت دموعه لحيته. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، ما لك أكثرت البكاء!. فقال: «ذكرتُ عمي زيداً (عليه السلام) ، وما صنع به فبكيت». فقلت له: وما الذي ذكرتَ منه؟. فقال: «ذكرتُ مقتله، وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكب عليه، وقال له: أبشر يا أبتاه فإنك ترد على رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات اللّه عليهم). قال: أجل يا بني. ثم دعا بحداد، فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة، فحفر له فيها ودفن، وأجري عليه الماء، وكان معهم غلام سندي لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد، فأخبره بدفنهم إياه، فأخرجه يوسف بن عمر، فصلبه في الكناسة أربع سنين، ثم أمر به فأحرق بالنار، وذري في الرياح، فلعن اللّه قاتله وخاذله، وإلى اللّه جل اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيه بعد موته، وبه نستعين على عدونا، وهو خير مستعان»(1).

الإقرار بإمامة الصادق (عليه السلام)

قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه، ولا يهتدي من خالفه»(2).

كلام الرضا (عليه السلام)

قال الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمون العباسي - في حديث حول زيد الشهيد -: «إنه

ص: 284


1- الأمالي للصدوق: ص392-393، المجلس62، ح3.
2- بحار الأنوار: ج46 ص173، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح24.

كان من علماء آل محمد، غضب لله عز وجل، فجاهد أعداءه حتى قُتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر (عليه السلام) ، أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: رحم اللّه عمي زيداً، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه. فقلت له: يا عم، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك، فلما ولى قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه».

فقال المأمون: يا أبا الحسن، أ ليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟.

فقال الرضا (عليه السلام) : «إن زيد بن علي (عليه السلام) لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذاك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، وإنما جاء ما جاء فيمن يدعي أن اللّه نص عليه، ثم يدعو إلى غير دين اللّه، ويضل عن سبيله بغير علم، وكان زيد واللّه ممن خوطب بهذه الآية: {وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}(1)»(2).

إنه كان نعم العم

عن عبد اللّه بن سيابة، قال: خرجنا ونحن سبعة نفر، فأتينا المدينة، فدخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) . فقال: «أ عندكم خبر عمي زيد؟». فقلنا: قد خرج أو هو خارج. قال: «فإن أتاكم خبر فأخبروني». فمكثنا أياماً، فأتى رسول بسام الصيرفي بكتاب فيه: أما بعد، فإن زيداً خرج يوم الأربعاء غرة صفر، فمكث الأربعاء والخميس، وقتل يوم الجمعة، وقتل معه فلان وفلان. فدخلنا على

ص: 285


1- سورة الحج: 78.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص249، الباب25، ح1.

الصادق (عليه السلام) ، ودفعنا إليه الكتاب، فقرأ وبكى، ثم قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، عند اللّه أحتسب عمي، إنه كان نعم العم. إن عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا، مضى واللّه عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه وعلي والحسن والحسين (صلوات اللّه عليهم)»(1).

إدراك السعادة

عن أبي سعيد المكاري، قال: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فذكر زيد ومن خرج معه، فهمَّ بعض أصحاب المجلس يتناوله، فانتهره أبو عبد اللّه (عليه السلام) . قال: «مهلاً، ليس لكم أن تدخلوا فيما بيننا إلا بسبيل خير، إنه لم تمت نفس منا إلا وتدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق ناقة». قال: قلت: وما فواق ناقة؟. قال: «حلابها»(2).

أيكم يعلم بعمي زيد؟

عن عمار اليقظان، قال: كان عند أبي عبد اللّه (صلوات اللّه عليه) جماعة، وفيهم رجل يقال له: أبان بن نعمان. فقال: «أيكم له علم بعمي زيد بن علي؟». فقال: أنا أصلحك اللّه. قال: «وما علمك به؟». قال: كنا عنده ليلةً. فقال: هل لكم في مسجد سهلة؟. فخرجنا معه إليه اجتهاداً أو كما قال. فقال أبو عبد اللّه (صلوات اللّه عليه): «كان بيت إبراهيم (صلوات اللّه عليه) الذي خرج منه إلى العمالقة، وكان بيت إدريس (عليه السلام) الذي كان يخيط فيه، وفيه صخرة

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج46 ص175، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح28.
2- معاني الأخبار: ص392، الباب نوادر المعاني، ح39.

خضراء فيها صورة وجوه النبيين، وفيه مناخ الراكب يعني الخضر (عليه السلام) - ثم قال - لو أن عمي أتاه حين خرج، فصلى فيه واستجار باللّه، لأجاره عشرين سنةً، وما أتاه مكروب قط، فصلى فيه ما بين العشاءين، ودعا اللّه إلا فرج اللّه عنه»(1).

وفي الكافي: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «بالكوفة مسجد يقال له: مسجد السهلة، لو أن عمي زيداً أتاه فصلى فيه واستجار اللّه، لأجاره عشرين سنةً»(2).

نزع اللّه ملكهم

عن محمد الحلبي، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إن آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن علي (صلوات اللّه عليه) فنزع اللّه ملكهم، وقتل هشام زيد بن علي فنزع اللّه ملكه، وقتل الوليد يحيى بن زيد (رحمه الله) فنزع اللّه ملكه»(3).

ليهنئك زيد

عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الثمالي، قال: كنت أزور علي بن الحسين في كل سنة مرةً في وقت الحج، فأتيته سنةً من ذاك، وإذا على فخذيه صبي، فقعدت إليه، وجاء الصبي فوقع على عتبة الباب فانشج، فوثب إليه علي بن الحسين (عليه السلام) مهرولاً، فجعل ينشف دمه بثوبه، ويقول له: «يا بني، أعيذك باللّه أن تكون المصلوب في الكناسة». قلت: بأبي أنت وأمي أي كناسة؟!. قال: «كناسة الكوفة». قلت: جعلت فداك، ويكون ذلك؟!. قال: «إي والذي بعث

ص: 287


1- قصص الأنبياء (عليهم السلام) للراوندي: ص79-80، الباب2، الفصل2، ح62.
2- الكافي: ج3 ص495، كتاب الصلاة، باب مسجد السهلة، ح3.
3- بحار الأنوار: ج46 ص182، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح46.

محمداً بالحق، إن عشت بعدي لترين هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة، مقتولاً، مدفوناًً، منبوشاًً، مسلوباًً، مسحوباًً، مصلوباً في الكناسة، ثم ينزل فيحرق ويدق، ويذرى في البر». قلت: جعلت فداك، وما اسم هذا الغلام؟. قال: «هذا ابني زيد». ثم دمعت عيناه، ثم قال: «أ لا أحدثك بحديث ابني هذا، بينا أنا ليلةً ساجد وراكع، إذ ذهب بي النوم من بعض حالاتي، فرأيت كأني في الجنة، وكأن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلياً وفاطمة والحسن والحسين، قد زوجوني جاريةً من حور العين فواقعتها، فاغتسلت عند سدرة المنتهى، ووليت وهاتف بي يهتف: ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، فاستيقظت فأصبت جنابةً، فقمت فتطهرت للصلاة، وصليت صلاة الفجر، فدق الباب وقيل لي: على الباب رجل يطلبك. فخرجت فإذا أنا برجل معه جارية، ملفوف كمها على يده، مخمرة بخمار. فقلت: «ما حاجتك؟». فقال: أردت علي بن الحسين (عليه السلام) . قلت: «أنا علي بن الحسين». فقال: أنا رسول المختار بن أبي عبيد الثقفي يقرئك السلام، ويقول: وقعت هذه الجارية في ناحيتنا، فاشتريتها بستمائة دينار، وهذه ستمائة دينار فاستعن بها على دهرك، ودفع إليَّ كتاباً. فأدخلت الرجل والجارية، وكتبت له جواب كتابه، وتثبت الرجل، ثم قلت للجارية: ما اسمك؟. قالت: حوراء. فهيئوها لي، وبت بها عروساً، فعلقت بهذا الغلام، فسميته زيداً، وهو هذا سترى ما قلت لك».

قال أبو حمزة: فو اللّهِ، ما لبثت إلا برهةً حتى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق، فأتيته فسلمت عليه. ثم قلت: جعلت فداك، ما أقدمك هذا البلد؟!. قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلف إليه، فجئت إليه ليلة النصف من شعبان فسلمت عليه، وكان ينتقل في دور بارق وبني هلال، فلما جلست عنده.

ص: 288

قال: يا أبا حمزة، تقوم حتى نزور قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) . قلت: نعم جعلت فداك - ثم ساق أبو حمزة الحديث حتى قال - أتينا الذكوات البيض. فقال: هذا قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) . ثم رجعنا، فكان من أمره ما كان. فو اللّهِ، لقد رأيته مقتولاً، مدفوناًً، منبوشاًً، مسلوباًً، مسحوباًً، مصلوباًً، قد أحرق ودق في الهواوين، وذري في العريض من أسفل العاقول»(1).

رحم اللّه عمي

روي عن الحسن بن راشد، قال: ذكرت زيد بن علي، فتنقصته عند أبي عبد اللّه. فقال: «لا تفعل، رحم اللّه عمي، أتى أبي فقال: إني أريد الخروج على هذا الطاغية؟. فقال: لا تفعل؛ فإني أخاف أن تكون المقتول المصلوب على ظهر الكوفة. أما علمت - يا زيد - أنه لا يخرج أحد من ولد فاطمة على أحد من السلاطين قبل خروج السفياني إلا قُتل.

ثم قال: أ لا - يا حسن - إن فاطمة (عليها السلام) أحصنت فرجها، فحرم اللّه ذريتها على النار، وفيهم نزلت: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}(2)، فإن الظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام، والمقتصد العارف بحق الإمام، والسابق بالخيرات هو الإمام.

ثم قال: يا حسن، إنا أهل بيت لا يخرج أحدنا من الدنيا حتى يقر لكل ذي فضل بفضله»(3).

ص: 289


1- فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف: ص117، الباب12.
2- سورة فاطر: 32.
3- الخرائج والجرائح: ج1 ص281، الباب6، ح13.

حليف القرآن

عن أبي الجارود زياد بن المنذر، قال: «قدمت المدينة، فجعلت كلما سألت عن زيد بن علي قيل لي: ذاك حليف القرآن(1).

الطالب بثارات الحسين

في الإرشاد: كان زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) عين إخوته بعد أبي جعفر (عليه السلام) وأفضلهم. وكان عابداً، ورعاً، فقيهاً، سخياً، شجاعاً، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويطالب بثارات الحسين (عليه السلام) (2).

أي رجل كان؟

روى هشيم، قال: سألت خالد بن صفوان عن زيد بن علي - وكان يحدثنا عنه - فقلت: أين لقيته؟. قال: بالرصافة. فقلت: أي رجل كان؟. قال: ما علمت، يبكي من خشية اللّه حتى يختلط دموعه بمخاطه(3).

سبب خروج زيد

قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : (واعتقد كثير من الشيعة فيه الإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف، يدعو إلى الرضا من آل بيت محمد، فظنوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها به؛ لمعرفته باستحقاق أخيه الإمامة من قبله،

ص: 290


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص172، تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، في ذكر أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وإخوته.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص171، تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، في ذكر أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وإخوته.
3- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص172، تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، في ذكر أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وإخوته.

ووصيته عند وفاته إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) .

وكان سبب خروج أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين (رضوان اللّه عليه) بعد الذي ذكرناه من غرضه في الطلب بدم الحسين (عليه السلام) ، أنه دخل على هشام بن عبد الملك، وقد جمع له هشام أهل الشام، وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول إلى قربه.

فقال له زيد: إنه ليس من عباد اللّه أحد فوق أن يوصي بتقوى اللّه، ولا من عباده أحد دون أن يوصي بتقوى اللّه، وأنا أوصيك بتقوى اللّه يا أمير فاتقه.

فقال له هشام: أنت المؤهل نفسك للخلافة الراجي لها، وما أنت وذاك لا أم لك، وإنما أنت من أمة.

فقال له زيد: إني لا أعلم أحداً أعظم منزلةً عند اللّه من نبي بعثه وهو ابن أمة، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث، وهو إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) ، فالنبوة أعظم منزلةً عند اللّه أم الخلافة يا هشام. وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وهو ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فوثب هشام من مجلسه، ودعا قهرمانه وقال: لا يبيتن هذا في عسكري. فخرج زيد وهو يقول: إنه لم يكره قوم قط حر السيف إلا ذلوا. فلما وصل إلى الكوفة، اجتمع إليه أهلها، فلم يزالوا به حتى بايعوه على الحرب، ثم نقضوا بيعته وأسلموه، فقتل (عليه السلام) ، وصلب بينهم أربع سنين، لا ينكر أحد منهم، ولا يغير ذلك بيد ولا بلسان.

ولما قتل، بلغ ذلك من أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) كل مبلغ، وحزن له حزناً عظيماً، حتى بان عليه، وفرق من ماله في عيال من أصيب معه من أصحابه ألف دينار. وروى ذلك أبو خالد الواسطي، قال: سلَّم إلي أبو عبد اللّه ألف دينار،

ص: 291

وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد، فأصاب عيال عبد اللّه بن الزبير - أخي فضيل الرسان - منها أربعة دنانير)(1).

تاريخ شهادة زيد

كان مقتل زيد الشهيد (عليه السلام) يوم الاثنين، لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة، وكان سنه يوم قتل اثنتين وأربعين سنةً(2).

وقيل: في أول يوم من صفر سنة إحدى وعشرين ومائة، كان مقتل زيد بن علي (عليه السلام) .

وفي المصباح للكفعمي: في أول يوم من صفر كان مقتل زيد (عليه السلام) (3).

هو واللّه زيد

روى بعض أصحابنا، قال: كنت عند علي بن الحسين (عليه السلام) ، فكان إذا صلى الفجر، لم يتكلم حتى تطلع الشمس، فجاءوه يوم ولد فيه زيد، فبشروه به بعد صلاة الفجر. قال: فالتفت إلى أصحابه وقال: «أي شيء ترون أن أسمي هذا المولود؟». قال: فقال: كل رجل منهم سمه كذا، سمه كذا. قال: فقال: «يا غلام، عليَّ بالمصحف». قال: فجاءوا بالمصحف، فوضعه على حجره - قال - ثم فتحه، فنظر إلى أول حرف في الورقة، وإذا فيه: {وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى

ص: 292


1- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص172-173، تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، ذكر أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وإخوته.
2- الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد: ج2 ص174، تاريخ الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وفضله، ذكر أولاد الإمام الباقر (عليه السلام) وإخوته.
3- المصباح للكفعمي: ص510، ف42، أما الشهور الاثنا عشر، صفر.

الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(1). قال: ثم طبقه، ثم فتحه فنظر، فإذا في أول الورقة: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ}(2). ثم قال: «هو واللّه زيد، هو واللّه زيد». فسمي زيداً(3).

رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يخبر بمقتل زيد

عن حذيفة بن اليمان، قال: نظر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زيد بن حارثة. فقال: «المقتول في اللّه، والمصلوب في أمتي، والمظلوم من أهل بيتي، سمي هذا»، وأشار بيده إلى زيد بن حارثة. فقال: «ادن مني يا زيد، زادك اسمك عندي حباً، فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي»(4).

جزاء الشامت بهم

روي أنه بلغ الإمام الصادق (عليه السلام) قول الحكيم بن العباس الكلبي:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة***ولم أر مهدياً على الجذع يصلب

وقستم بعثمان علياً سفاهةً***وعثمان خير من علي وأطيب

فرفع الصادق (عليه السلام) يديه إلى السماء، وهما يرعشان. فقال: «اللّهم إن كان عبدك كاذباً، فسلط عليه كلبك». فبعثه بنو أمية إلى الكوفة، فبينما هو يدور في سككها، إذا افترسه الأسد، واتصل خبره بجعفر، فخر لله ساجداً، ثم قال:

ص: 293


1- سورة النساء: 95.
2- سورة التوبة:111.
3- كتاب السرائر: ج3 ص637-638، ومن ذلك ما استطرفناه من رواية أبي القاسم بن قولويه.
4- كتاب السرائر: ج3 ص638، ومن ذلك ما استطرفناه من رواية أبي القاسم بن قولويه.

«الحمد لله الذي أنجزنا وعدنا»(1).

من أسباب الخروج

عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «لا يخرج على هشام أحد إلا قتله». فقلنا لزيد هذه المقالة، فقال: إني شهدت هشاماً ورسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يسب عنده، فلم ينكر ذلك، ولم يغيره. فو اللّهِ، لو لم يكن إلا أنا وآخر لخرجت عليه»(2).

الباكي على زيد في الجنة

في كشف الغمة: قال الصادق (عليه السلام) لأبي ولاد الكاهلي: «رأيتَ عمي زيداً؟». قال: نعم، رأيته مصلوباً، ورأيت الناس بين شامت حنق، وبين محزون محترق. فقال: «أما الباكي فمعه في الجنة، وأما الشامت فشريك في دمه»(3).

زيد سيد أهل بيتي

في الرواية، أنه أقبل زيد بن علي، فلما نظر إليه أبو جعفر (عليه السلام) ، قال: «هذا سيد أهل بيتي، والطالب بأوتارهم»(4).

ص: 294


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : ج4 ص234، إمامة أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، استجابة دعواته (عليه السلام) .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص140، ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وعددهم وأسمائهم.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص204، ذكر الإمام السادس جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ذكر من روى من أولاده (عليه السلام) .
4- بحار الأنوار: ج46 ص194، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح64.

هذه عقيدة زيد

عن يحيى بن زيد، قال: سألت أبي (عليه السلام) عن الأئمة؟. فقال: «الأئمة اثنا عشر، أربعة من الماضين، وثمانية من الباقين». قلت: فسمهم يا أبتِ؟. قال: «أما الماضين: فعلي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين. ومن الباقين: أخي الباقر، وبعده جعفر الصادق ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهدي ابنه».

فقلت له: يا أبتِ، أ لست منهم؟. قال: «لا، ولكني من العترة». قلت: فمن أين عرفت أساميهم؟!. قال: «عهد معهود، عهده إلينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).

دفع شبهة

وفي البحار:

فإن قال قائل: فزيد بن علي (عليه السلام) إذا سمع هذه الأحاديث من الثقات المعصومين وآمن بها واعتقدها، فلِمَ خرج بالسيف وادعى الإمامة لنفسه، وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد، وهو بالمحل الشريف الجليل، معروف بالستر والصلاح، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد، وهذا ما لا يفعله إلا معاند جاحد، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل؟.

فأقول في ذلك وباللّه التوفيق: إن زيد بن علي (عليه السلام) خرج على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد (عليه السلام) ، وإنما وقع الخلاف من جهة الناس؛ وذلك أن زيد بن علي (عليه السلام) لما خرج، ولم يخرج جعفر بن محمد (عليه السلام) ، توهم قوم من الشيعة أن امتناع جعفر كان

ص: 295


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج2 ص184، الباب9، الفصل27، ح591.

للمخالفة، وإنما كان لضرب من التدبير.

فلما رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً ذلك، قالوا: ليس الإمام من جلس في بيته، وأغلق بابه، وأرخى ستره، وإنما الإمام من خرج بسيفه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. فهذا سبب وقوع الخلاف بين الشيعة، وأما جعفر وزيد (عليه السلام) فما كان بينهما خلاف، والدليل على صحة قولنا قول زيد بن علي (عليه السلام) : «من أراد الجهاد فإليَّ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر».

ولو ادعى الإمامة لنفسه، لم ينف كمال العلم عن نفسه، إذ الإمام أعلم من الرعية، ومن مشهور قول جعفر بن محمد (عليه السلام) : «رحم اللّه عمي زيداً، لو ظفر لوفى. إنما دعا إلى الرضا من آل محمد وأنا الرضا».

وتصديق ذلك، ما حدثنا به علي بن الحسن، عن عامر بن عيسى بن عامر السيرافي بمكة، في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد اللّه بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، عن محمد بن مطهر، عن أبيه، عن عمير بن المتوكل بن هارون البجلي، عن أبيه المتوكل بن هارون، قال: لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه، وهو متوجه إلى خراسان، فما رأيت مثله رجلاً في عقله وفضله، فسألته عن أبيه؟. فقال: إنه قتل وصلب بالكناسة. ثم بكى وبكيت، حتى غشي عليه، فلما سكن. قلت له: يا ابن رسول اللّه، وما الذي أخرجه إلى قتال هذا الطاغي، وقد علم من أهل الكوفة ما علم؟. فقال: نعم، لقد سألته عن ذلك، فقال: سمعت أبي (عليه السلام) يحدث عن أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) ، قال: «وضع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يده على صلبي. فقال: يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يقتل شهيداً، فإذا كان يوم القيامة يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس،

ص: 296

ويدخل الجنة». فأحببت أن أكون كما وصفني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم قال: رحم اللّه أبي زيداً، كان واللّه أحد المتعبدين، قائم ليله، صائم نهاره، يجاهد في سبيل اللّه عز وجل حق جهاده. فقلت: يا ابن رسول اللّه، هكذا يكون الإمام بهذه الصفة؟. فقال: يا عبد اللّه، إن أبي لم يكن بإمام، ولكن من سادات الكرام وزهادهم، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه.

قلت: يا ابن رسول اللّه، أما إن أباك قد ادعى الإمامة، وخرج مجاهداً في سبيل اللّه، وقد جاء عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيمن ادعى الإمامة كاذباً. فقال: مه يا عبد اللّه. إن أبي (عليه السلام) كان أعقل من أن يدعي ما ليس له بحق، وإنما قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، عنى بذلك عمي جعفراً. قلت: فهو اليوم صاحب الأمر؟. قال: نعم، هو أفقه بني هاشم - ثم قال - يا عبد اللّه، إني أخبرك عن أبي (عليه السلام) وزهده وعبادته، أنه كان (عليه السلام) يصلي في نهاره ما شاء اللّه، فإذا جن الليل عليه نام نومةً خفيفةً، ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرع له، ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر سجد سجدةً، ثم يقوم يصلي الغداة إذا وضح الفجر، فإذا فرغ من صلاته، قعد في التعقيب إلى أن يتعالى النهار، ثم يقوم في حاجته ساعةً، فإذا قرب الزوال قعد في مصلاه، فسبح اللّه ومجده إلى وقت الصلاة، فإذا حان وقت الصلاة، قام فصلى الأولى، وجلس هنيئةً، وصلى العصر، وقعد في تعقيبه ساعةً، ثم سجد سجدةً، فإذا غابت الشمس صلى العشاء والعتمة.

قلت: كان يصوم دهره؟.

قال: لا، ولكنه كان يصوم في السنة ثلاثة أشهر، ويصوم في الشهر ثلاثة أيام. قلت: وكان يفتي الناس في معالم دينهم؟. قال: ما أذكر ذلك عنه. ثم أخرج إليَّ

ص: 297

صحيفةً كاملةً أدعية علي بن الحسين (عليه السلام) (1).

لستَ صاحب هذا الأمر

عن محمد بن مسلم، قال: دخلت على زيد بن علي (عليه السلام) . فقلت: إن قوماً يزعمون أنك صاحب هذا الأمر؟. قال: «لا، ولكني من العترة». قلت: فمن يلي هذا الأمر بعدكم؟. قال: «سبعة من الخلفاء، والمهدي منهم». قال ابن مسلم: ثم دخلت على الباقر محمد بن علي (عليه السلام) فأخبرته بذلك. فقال: «صدق أخي زيد، صدق أخي زيد. سيلي هذا الأمر بعدي سبعة من الأوصياء، والمهدي منهم - ثم بكى (عليه السلام) وقال - كأني به وقد صلب في الكناسة. يا ابن مسلم، حدثني أبي عن أبيه الحسين، قال: وضع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يده على كتفي، وقال: يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يقتل مظلوماً، إذا كان يوم القيامة حشر وأصحابه إلى الجنة»(2).

عليك بجعفر الصادق

عن عبد اللّه بن العلاء، قال: قلت لزيد بن علي (عليه السلام) : ما تقول في الشيخين؟. قال: «ألعنهما». قلت: فأنت صاحب الأمر؟. قال: «لا، ولكني من العترة». قلت: فإلى من تأمرنا؟. قال: «عليك بصاحب الشعر»، وأشار إلى الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) (3).

ص: 298


1- بحار الأنوار: ج46 ص198-200، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح72.
2- كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر: ص310، باب ما جاء عن أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) ما يوافق هذه الأخبار.
3- كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر: ص311، باب ما جاء عن أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) ما يوافق هذه الأخبار.

بكاء الإمام والنساء على زيد

عن مهزم بن أبي بردة الأسدي، قال: دخلت المدينة حدثان صلب زيد (رضي اللّه عنه) - قال - فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فساعة رآني. قال: «يا مهزم، ما فعل زيد؟». قال: قلت: صلب. قال: «أين؟». قال: قلت: في كناسة بني أسد. قال: «أنت رأيته مصلوباً في كناسة بني أسد؟». قال: قلت: نعم. قال: فبكى، حتى بكت النساء خلف الستور، ثم قال: «أما واللّهِ، لقد بقي لهم عنده طلبة ما أخذوها منه بعد». قال: فجعلت أفكر وأقول: أي شيء طلبتهم بعد القتل والصلب. قال: فودعته وانصرفت، حتى انتهيت إلى الكناسة، فإذا أنا بجماعة، فأشرفت عليهم، فإذا زيد قد أنزلوه من خشبته، يريدون أن يحرقوه. قال: قلت: هذه الطلبة التي قال لي(1).

رواية زيد عن آبائه عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)

عن محمد بن بكير، قال: دخلت على زيد بن علي (عليه السلام) - وعنده صالح بن بشر - فسلمت عليه، وهو يريد الخروج إلى العراق. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، حدثني بشيء سمعته عن أبيك (عليه السلام) ؟. فقال: «نعم. حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : من أنعم اللّه عليه بنعمة فليحمد اللّه، ومن استبطأ الرزق فليستغفر اللّه، ومن أحزنه أمر فليقل: لا حول ولا قوة إلا باللّه». فقلت: زدني يا ابن رسول اللّه؟. قال: «نعم. حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أربعة أنا لهم الشفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم

ص: 299


1- الأمالي للطوسي: ص672، المجلس36، ضمن ح1418 / 25.

حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عند اضطرارهم إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه». قال: فقلت: زدني يا ابن رسول اللّه من فضل ما أنعم اللّه عز وجل عليكم؟. قال: «نعم. حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : من أحبنا أهل البيت في اللّه حشر معنا، وأدخلناه معنا الجنة. يا ابن بكير، من تمسك بنا فهو معنا في الدرجات العلى. يا ابن بكير، إن اللّه تبارك وتعالى اصطفى محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) واختارنا له ذريةً، فلولانا لم يخلق اللّه تعالى الدنيا والآخرة. يا ابن بكير، بنا عرف اللّه، وبنا عبد اللّه، ونحن السبيل إلى اللّه، ومنا المصطفى والمرتضى، ومنا يكون المهدي قائم هذه الأمة». قلت: يا ابن رسول اللّه، هل عهد إليكم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) متى يقوم قائمكم؟. قال: «يا ابن بكير، إنك لن تلحقه، وإن هذا الأمر تليه ستة من الأوصياء بعد هذا، ثم يجعل اللّه خروج قائمنا، فيملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً». فقلت: يا ابن رسول اللّه، أ لست صاحب هذا الأمر؟. فقال: «أنا من العترة». فعدت فعاد إليَّ. فقلت: هذا الذي تقول عنك، أو عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟. فقال: «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير. لا، ولكن عهد عهده إلينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) - ثم أنشأ يقول -

نحن سادات قريش وقوام الحق فينا***نحن الأنوار التي من قبل كون الخلق كنا

نحن منا المصطفى المختار والمهدي منا***فبنا قد عرف اللّه وبالحق أقمنا

سوف يصلاه سعير من تولى اليوم عنا(1)

ص: 300


1- بحار الأنوار: ج46 ص201-202، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح77.

زيد والإمام الباقر (عليه السلام)

روي أن زيد بن علي بن الحسين دخل على أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، ومعه كتب من أهل الكوفة، يدعونه فيها إلى أنفسهم، ويخبرونه باجتماعهم، ويأمرونه بالخروج. فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : هذه الكتب ابتداء منهم، أو جواب ما كتبت به إليهم ودعوتهم إليه؟. فقال: بل ابتداء من القوم؛ لمعرفتهم بحقنا، وبقرابتنا من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولما يجدون في كتاب اللّه عز وجل من وجوب مودتنا، وفرض طاعتنا، ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : إن الطاعة مفروضة من اللّه عز وجل، وسنة أمضاها في الأولين، وكذلك يجريها في الآخرين، والطاعة لواحد منا، والمودة للجميع، وأمر اللّه يجري لأوليائه بحكم موصول، وقضاء مفصول، وحتم مقضي، وقدر مقدور، وأجل مسمى لوقت معلوم، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، إنهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئاً. فلا تعجل؛ فإن اللّه لا يعجل لعجلة العباد، ولا تسبقن اللّه فتعجزك البلية فتصرعك.

قال: فغضب زيد عند ذلك، ثم قال: ليس الإمام منا من جلس في بيته، وأرخى ستره، وثبط عن الجهاد، ولكن الإمام منا من منع حوزته، وجاهد في سبيل اللّه حق جهاده، ودفع عن رعيته، وذب عن حريمه.

قال أبو جعفر (عليه السلام) : هل تعرف - يا أخي - من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه، فتجيء عليه بشاهد من كتاب اللّه، أو حجة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو تضرب به مثلاً؛ فإن اللّه عز وجل أحل حلالاً، وحرم حراماً، وفرض فرائض، وضرب أمثالاً، وسن سنناً، ولم يجعل الإمام القائم بأمره في شبهة فيما فرض له من الطاعة أن يسبقه بأمر قبل محله، أو يجاهد فيه قبل حلوله، وقد قال اللّه عز وجل

ص: 301

في الصيد: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}(1)، أفقتل الصيد أعظم أم قتل النفس التي حرم اللّه! وجعل لكل شيء محلاً.

وقال عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}(2)، وقال عز وجل: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}(3)، فجعل الشهور عدةً معلومةً، فجعل فيها أربعةً حرماً، وقال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ}(4)، ثم قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}(5)، فجعل لذلك محلاً، وقال: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ}(6)، فجعل لكل شيء محلاً، ولكل أجل كتاباً، فإن كنت على بينة من ربك، ويقين من أمرك، وتبيان من شأنك، فشأنك وإلا فلا ترومن أمراً أنت منه في شك وشبهة، ولا تتعاط زوال ملك لم ينقض أكله، ولم ينقطع مداه، ولم يبلغ الكتاب أجله. فلو قد بلغ مداه، وانقطع أكله، وبلغ الكتاب أجله، لانقطع الفصل، وتتابع النظام، ولأعقب اللّه في التابع والمتبوع الذل والصغار، أعوذ باللّه من إمام ضل عن وقته، فكان التابع فيه أعلم من المتبوع. أ تريد - يا أخي - أن تحيي ملة قوم قد كفروا بآيات اللّه، وعصوا رسوله، واتبعوا أهواءهم بغير هدًى من اللّه، وادعوا الخلافة بلا برهان من اللّه، ولا عهد من رسوله. أعيذك باللّه - يا

ص: 302


1- سورة المائدة: 95.
2- سورة المائدة: 2.
3- سورة المائدة: 2.
4- سورة التوبة: 2.
5- سورة التوبة: 5.
6- سورة البقرة: 235.

أخي - أن تكون غداً المصلوب بالكناسة. ثم ارفضت عيناه، وسالت دموعه، ثم قال: اللّه بيننا وبين من هتك سترنا، وجحدنا حقنا، وأفشى سرنا، ونسبنا إلى غير جدنا، وقال فينا ما لم نقله في أنفسنا»(1).

أقول: الظاهر أن مثل هذه الروايات كانت تقية، وكان جواب زيد حتى لا تنسب ثورته للإمام (عليه السلام) ، فتشكل خطراً على حياة المعصوم (صلوات اللّه عليه) وحواريه.

صلى اللّه على زيد

في الكافي: عن سليمان بن خالد، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كيف صنعتم بعمي زيد؟». قلت: إنهم كانوا يحرسونه، فلما شف الناس، أخذنا خشبته فدفناه في جرف على شاطئ الفرات. فلما أصبحوا، جالت الخيل يطلبونه، فوجدوه فأحرقوه. فقال: «أ فلا أوقرتموه حديداً وألقيتموه في الفرات، صلى اللّه عليه ولعن اللّه قاتله»(2).

وعن أبي هاشم الجعفري، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن المصلوب؟. فقال: «أ ما علمت أن جدي (عليه السلام) صلى على عمه»(3).

هلاك بني أمية

عن داود الرقي، قال: سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) رجل - وأنا حاضر - عن قول اللّه: {فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ

ص: 303


1- الكافي: ج1 ص356-358، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة، ح16.
2- الكافي: ج8 ص161، كتاب الروضة، حديث الناس يوم القيامة، ح164.
3- الكافي: ج3 ص215، كتاب الجنائز، باب الصلاة على المصلوب والمرجوم والمقتص منه، ح2.

نَادِمِينَ}(1)؟. فقال: «أذن في هلاك بني أمية بعد إحراق زيد سبعة أيام»(2).

وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن اللّه عز ذكره أذن في هلاك بني أمية بعد إحراقهم زيداً بسبعة أيام»(3).

خطبة زيد

عن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قال: «يا أيها الناس، إن اللّه بعث في كل زمان خيرةً، ومن كل خيرة منتجباً، حبوةً منه، قال: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(4)، فلم يزل اللّه يتناسخ خيرته، حتى أخرج محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) من أفضل تربة، وأطهر عترة أخرجت للناس، فلما قيض محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) افتخرت قريش على سائر الأنبياء، بأن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) كان قرشياً، ودانت العجم للعرب بأن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) كان عربياً، حتى ظهرت الكلمة، وتمت النعمة. فاتقوا اللّه - عباد اللّه - وأجيبوا إلى الحق، وكونوا أعواناً لمن دعاكم إليهم، ولا تأخذوا سنة بني إسرائيل، كذبوا أنبياءهم، وقتلوا أهل بيت نبيهم. ثم أنا أذكركم - أيها السامعون - لدعوته، المتفهمون مقالتنا، باللّه العظيم الذي لم يذكر المذكرون بمثله، إذا ذكرتموه وجلت قلوبكم، واقشعرت لذلك جلودكم. ألستم تعلمون أنا ولد نبيكم المظلومون المقهورون، فلا سهم وفينا، ولا تراث أعطينا، وما زالت بيوتنا تهدم، وحرمنا تنتهك، وقائلنا يعرف، يولد مولودنا في الخوف، وينشأ ناشئنا بالقهر، ويموت ميتنا بالذل.

ص: 304


1- سورة المائدة: 52.
2- تفسير العياشي: ج1 ص325-326، سورة المائدة: آية52، ح133.
3- الكافي: ج8 ص161، كتاب الروضة، حديث الناس يوم القيامة، ح165.
4- سورة الأنعام: 124.

وَيْحَكُم إن اللّه قد فرض عليكم جهاد أهل البغي والعدوان من أمتكم على بغيهم، وفرض نصرة أوليائه الداعين إلى اللّه وإلى كتابه، قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(1).

وَيْحَكُم إنا قوم غضبنا لله ربنا، ونقمنا الجور المعمول به في أهل ملتنا، ووضعنا من توارث الإمامة والخلافة، وحكم بالهواء ونقض العهد، وصلى الصلاة لغير وقتها، وأخذ الزكاة من غير وجهها، ودفعها إلى غير أهلها، ونسك المناسك بغير هديها، وأزال الأفياء والأخماس والغنائم، ومنعها الفقراء والمساكين وابن السبيل، وعطل الحدود، وأخذ بها الجزيل، وحكم بالرشا والشفاعات والمنازل، وقرب الفاسقين، ومثل بالصالحين، واستعمل الخيانة، وخون أهل الأمانة، وسلط المجوس، وجهز الجيوش، وخلد في المحابس، وجلد المبين، وقتل الوالد، وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، بغير مأخوذ عن كتاب اللّه ولا سنة نبيه، ثم يزعم زاعمكم أن اللّه استخلفه، يحكم بخلافه، ويصد عن سبيله، وينتهك محارمه، ويقتل من دعا إلى أمره.

فمن أشر عند اللّه منزلةً ممن افترى على اللّه كذباً، أو صد عن سبيله، أو بغاه عوجاً. ومن أعظم عند اللّه أجراً ممن أطاعه، وآذن بأمره، وجاهد في سبيله، وسارع في الجهاد. ومن أحقر عند اللّه منزلةً ممن يزعم أن بغير ذلك يمن عليه، ثم يترك ذلك استخفافاً بحقه، وتهاوناً في أمر اللّه، وإيثاراً للدنيا. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(2)»(3).

ص: 305


1- سورة الحج: 40.
2- سورة فصلت:33.
3- تفسير فرات الكوفي: ص135-137، سورة الأنعام: آية124، ح162.

أبشر يا زيد

عن سعيد بن جبير، قال: قلت لمحمد بن خالد: كيف زيد بن علي في قلوب أهل العراق؟. فقال: لا أحدثك عن أهل العراق، ولكن أحدثك عن رجل يقال له: النازلي بالمدينة، قال: صحبت زيداً ما بين مكة والمدينة، وكان يصلي الفريضة، ثم يصلي ما بين الصلاة إلى الصلاة، ويصلي الليل كله، ويكثر التسبيح، ويردد: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(1).

فصلى بنا ليلةً، ثم ردد هذه الآية إلى قريب من نصف الليل، فانتبهت وهو رافع يده إلى السماء، ويقول: «إلهي عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة». ثم انتحب.

فقمت إليه وقلت: يا ابن رسول اللّه، لقد جزعت في ليلتك هذه جزعاً ما كنت أعرفه.

قال: «ويحك - يا نازلي - إني رأيت الليلة - وأنا في سجودي - إذ رفع لي زمرة من الناس، عليهم ثياب ما رأته الأبصار، حتى أحاطوا بي وأنا ساجد. فقال كبيرهم الذي يسمعون منه: أ هو ذلك؟.

قالوا: نعم.

قال: أبشر - يا زيد - فإنك مقتول في اللّه، ومصلوب ومحروق بالنار، ولا تمسك النار بعدها أبداً. فانتبهت وأنا فزع. واللّهِ - يا نازلي - لوددت أني أحرقت بالنار، ثم أحرقت بالنار، وأن اللّه أصلح لهذه الأمة أمرها»(2).

ص: 306


1- سورة ق:19.
2- بحار الأنوار: ج46 ص208، كتاب تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام) ، الباب11 من أبواب تاريخ سيد الساجدين...، ح86.

والدة زيد

في مقاتل الطالبيين، عن زياد بن المنذر، قال: اشترى المختار بن أبي عبيدة جاريةً بثلاثين ألفاً. فقال لها: أدبري. فأدبرت، ثم قال لها: أقبلي. فأقبلت، ثم قال: ما أدري أحداً أحق بها من علي بن الحسين (عليه السلام) . فبعث بها إليه، وهي أم زيد بن علي (عليه السلام) (1).

زيد وسيماء الصالحين

عن خصيب الوابشي، قال: كنت إذا رأيت زيد بن علي، رأيت أسارير النور في وجهه(2).

* * *

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 307


1- مقاتل الطالبيين: ص86، زيد بن علي (رضوان اللّه عليه).
2- مقاتل الطالبيين: ص86، زيد بن علي (رضوان اللّه عليه).

ص: 308

الفهرس

المقدمة... 5

1- النسب الشريف... 7

اسمه المبارك... 7

كنيته (عليه السلام) ... 7

ابن الخيرتين... 7

ألقابه (عليه السلام) ... 8

زين العابدين... 8

السجاد... 9

ذو الثفنات... 10

والده المكرم... 10

والدته المكرمة... 10

إسلامها قبل أسرها... 15

لماذا أمهات بعض الأئمة من الجواري؟... 16

رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) و تسهيل الزواج... 17

زواج المقداد... 20

قصة الدلفاء... 20

2- الولادة المباركة... 26

من هو الأكبر؟... 27

3- الإمامة والعصمة... 29

ص: 309

فإلى من؟... 29

خاتم الإمامة... 30

ودائع الإمامة... 30

علم الإمامة... 31

الإمامة وظروف التقية... 31

شهادة الحجر الأسود... 32

مع محمد بن الحنفية... 33

مرحباً يا كنكر... 34

4- معاجز الإمامة... 37

استجابة الدعاء... 37

ما فعل حرملة؟... 38

دعاء على قتلة الحسين (عليه السلام) ... 40

لن يموت حتى يلي الناس... 41

يدان متلاصقتان... 41

وقفت على ما كتبت... 42

علمنا منطق الطير... 44

امتثال الناقة... 44

عند نهب المدينة... 44

التسبيح الأعظم... 45

ص: 310

فأرة ميتة... 46

ما قالت النعجة؟... 46

ما تقول هذه الظبية... 47

مع حبابة الوالبية... 48

سيقدم علينا غداً رجل من الشام... 48

سبع حجج بعد موتي... 49

مع حوت يونس... 50

فأين ربك؟... 52

ما أكلت وادخرت في بيتك... 52

هاك ولدك... 53

جزاء الاستهزاء بالحديث النبوي... 54

مع الذئب الأمعط... 56

تثبيت الحجر الأسود... 56

تأثر الشجر والمدر بعبادته... 57

أذن اللّه في فَرَجك... 57

ختم الحصاة... 59

أ فزعت؟... 60

ادخل يا كنكر... 61

بل هو ياقوت أحمر... 62

الخضر يناجيه... 65

5- مع ابن الحنفية... 66

ص: 311

6- الإمام يبني الكعبة... 70

7- عبادات... 72

كثرة العبادة... 72

كثرة السجود... 74

حتى كاد أن يموت... 75

صلاة وعبودية... 75

هكذا يتوضأ... 75

العبادة وإضرار الجسم... 76

كثرة الصلاة... 76

المعرفة باللّه والخوف منه... 77

قضاء النوافل... 77

كنت أناجي رباً عظيماً... 77

ألف ركعة... 78

صوم وتهجد... 78

الانقطاع إلى اللّه... 79

خشوع الصلاة... 80

العبادة حتى خوف الهلاك... 80

أوجه العبادة... 82

سرعة الحركة في المعنويات... 83

فلسفة كثرة الدعاء والمناجاة... 84

التهجد وصلاة الليل... 85

ص: 312

نافلة الليل... 86

عادة الخير... 86

سيد الساجدين... 86

كثرة الصيام... 87

زادي تقواي وراحلتي رجلاي... 87

إذا جن الليل... 88

أغير اللّه تسألون؟... 90

أعوذ من غضب اللّه... 90

الرضا بالقضاء الإلهي... 90

8- الحج إلى بيت اللّه... 91

أطيب الزاد... 91

تفريق الدراهم... 91

التعبئة للحج... 92

9- الصحيفة السجادية... 93

أدعية أهل البيت... 95

أدعية أخرى للإمام السجاد... 97

دعاء مكارم الأخلاق... 98

10- أخلاق الإمام... 103

حفظ الأمانات... 103

أ لك حاجة؟... 103

مهلاً كفوا... 104

ص: 313

العفو عن القاتل خطأ... 104

أمنت عقابك... 105

الإحسان إلى المسيئين... 106

غفر اللّه لك... 107

التواضع... 107

رد الأمانة... 108

مداراة الأعداء... 108

مع مروان العدو... 109

جرعة غيظ لا تُكافأ... 111

حسن العفو... 111

أبريق سقط على وجهه... 112

اذهبي فأنت حرة... 112

العفو عمن يغتابه... 113

التوسط لمن كان يؤذيه... 113

لين الكلام... 113

حسن التعامل مع العبيد... 114

11- شجاعة الإمام... 115

12- الإنفاق على الفقراء... 116

ديونك عليَّ... 117

إمضاء الوصايا... 118

مرحباً بالسائل... 118

ص: 314

بيع الثياب والتصدق بثمنها... 118

تكفل العوائل... 118

جاء صاحب الجراب... 119

أثر الجراب... 120

صرر الدراهم والدنانير... 121

الإحسان إلى الآخرين... 121

رعاية المرضى... 121

إفطار الصائم... 121

إعاشة الفقراء... 122

هكذا الإيثار... 123

تقسيم جميع الأموال... 123

الاستقاء بالليل... 123

عدم الادخار... 123

13- خَلْقيات وخُلُقيات... 125

الهيبة الربانية... 126

خلوص النية... 127

الرضا بقضاء اللّه... 127

الخوف من اللّه... 127

سمو النفس... 128

سلوكيات... 128

أشبه الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) ... 129

ص: 315

إيثار الغير... 130

قمة الوقار... 130

قمة التواضع... 131

قمة العفو... 131

عدم التعريف بالنفس... 132

احترام الأُم... 132

إزالة الأذى عن طريق... 132

مع المجذومين... 133

أداء ديون الآخرين... 133

مع المسيئين إليه... 133

إكرام النفس... 135

الزاهد الراغب... 135

قبول الهدية... 135

التحلي بالنعم... 136

قارورة المسك... 136

قطيفة حمراء... 136

أحسن الناس صوتاً بالقرآن... 137

أشرف الناس... 137

الصبر على المصيبة... 137

نقش الخاتم... 137

العمل لا البطالة... 139

ص: 316

14- شدة الورع والتقوى... 140

الخوف من اللّه... 140

لا أقترح على ربي... 140

التوكل على اللّه... 141

وفي المسجد الحرام... 141

شدة عبادته... 142

الإخلاص في العمل... 142

أورع الناس... 142

15- زهد الإمام... 143

بين الزهد والاستفادة من النعم... 145

16- علم المعصوم... 146

علم الغيب... 147

الكتابة الرومية... 148

من أين هذا العسل... 148

الإخبار عن المستقبل... 148

فقه الصوم... 148

لا للقنوط... 151

17- الفصاحة والبلاغة... 153

فصاحة الصحيفة... 153

18- العقائد الحقة... 154

معرفة اللّه... 154

ص: 317

التوحيد و الصفات الربانية... 154

نبويات... 156

إمامة و معاد... 157

19- القرآن الكريم... 159

لا وحشة مع القرآن... 159

20- رواية الحديث... 160

21- ولائيات... 162

وسائط الرزق... 162

السير في العوالم... 162

نومهم كيقظتهم... 162

شيعتنا على ملة أبراهيم... 163

نزول الملائكة في بيوتهم... 163

وارث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 164

هذا علي بن الحسين (عليه السلام) ... 164

مع الجن... 165

بما ذا فُضّلنا؟... 166

22- الشعائر الحسينية... 167

كثرة البكاء... 167

وعند شرب الماء... 170

تربة الحسين (عليه السلام) ... 170

موقف ولد عقيل... 170

ص: 318

23- العلم والعلماء... 171

خشية وعلم... 171

كثرة العطاء للخطباء والشعراء... 172

24- التربية والتعليم... 173

محاسبة النفس... 173

الاستعداد للموت... 173

يوم يخسر المبطلون... 174

كيف أصبحت... 174

حرمة الإيذاء والتعذيب... 175

لا قيمة للدنيا... 175

لا تشغل الناس عن الطواف... 175

لا تقنط من رحمة اللّه... 176

مرحباً بكم يا أهل الكوفة... 176

25- الأسرة والأولاد... 178

خدمة العيال... 179

طلب الرزق للعيال... 179

26- تزويج العزاب... 180

لتتضح المناكح... 180

تزويج الإماء... 183

27- حق الوالدين... 184

بر الأم... 185

ص: 319

28- حق الزوجة والإماء... 186

رعاية للإماء... 186

29- حق الحيوان والرأفة به... 187

هلم إلى هذا الغذاء... 188

ظبية تبصبص... 189

يا ثعلب تعال... 190

ما شأن هذه الظبية؟... 191

ظبي يأكل على سفرة الإمام... 191

مع الغزال والظبي... 192

دفن الحيوان... 193

يوصي بناقته... 193

لا تقرع الناقة بالسوط... 194

ناقتي هذه... 194

30- رسالة الحقوق... 195

نص الرسالة... 195

حقوق اللّه... 195

حق النفس والجوارح... 195

حق الأفعال... 196

حق الإمام والرعية... 196

حق الأرحام... 196

حقوق اجتماعية... 196

ص: 320

1: حق اللّه الأكبر... 197

2: حق نفسك عليك... 197

3: حق اللسان... 197

4: حق السمع... 198

5: حق البصر... 198

6: حق الرجلين... 198

7: حق اليدين... 198

8: حق البطن... 199

9: حق الفرج... 199

10: حق الصلاة... 199

11: حق الصوم... 199

12: حق الصدقة... 200

13: حق الهدي... 200

14: حق الراعي... 201

15: حق المعلم... 201

16: حق المالك... 201

17: حق الرعية... 202

18: حق المتعلم... 202

19: حق الزوجة... 202

20: حق ملك اليمين... 203

21: حق الأم... 203

ص: 321

22: حق الأب... 204

23: حق الولد... 204

24: حق الأخ... 204

25: حق من أعتقك... 204

26: حق من أعتقته... 205

27: حق ذي المعروف... 205

28: حق المؤذن... 205

29: حق إمام الجماعة... 206

30: حق الجليس... 206

31: حق الجار... 206

32: حق الصاحب... 207

33: حق الشريك... 207

34: حق المال... 207

35: حق الغريم... 208

36: حق الخليط... 208

37: حق من ادعى عليك... 208

38: حق من ادعيت عليه... 209

39: حق المستشير... 209

40: حق المشير... 209

41: حق المستنصح... 210

42: حق الناصح... 210

ص: 322

43: حق الكبير... 210

44: حق الصغير... 210

45: حق السائل... 211

46: حق المسئول... 211

47: حق المحسن إليك... 211

48: حق المسيء إليك... 212

49: حق أهل ملتك... 212

50: حق أهل الذمة... 212

الحقوق خمسون... 213

حق الناس في الأزمات... 213

31- عتق العبيد... 214

العتق في العيد... 215

32- مناجات وأدعية... 218

يا من قصده الطالبون... 218

من أنا يا رب... 220

وفي فناء الكعبة... 220

وفي مسجد الكوفة... 220

اللّهم أعوذ بك... 221

دعاء مواجهة الظالمين... 221

دعاء الكرب... 222

وفي شهر رمضان... 223

ص: 323

عتاب النفس... 225

صفة الدنيا... 225

أين السلف الماضون... 226

33- احتجاجات... 227

مع عباد البصري... 227

مع الحسن البصري... 227

فضح الظالم... 228

34- قالوا في حق الإمام... 229

كلام النبوة... 230

35- الإمام وطغاة عصره... 231

قلة الشيعة... 232

النيل من أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 232

حكام الجور... 232

يزيد أراد قتل الإمام... 232

مع مسرف بن عقبة... 233

مع عبد الملك في الحج... 234

جنبني دماء بني عبد المطلب... 235

عبد الملك يحمل الإمام ظلماً إلى الشام... 236

نماذج من ظلم بني أمية... 237

كلمة حق عند سلطان جائر... 238

نصيحة الملوك... 239

ص: 324

مع هشام بن عبد الملك... 240

من شعر الفرزدق أيضاً... 243

من هو الفرزدق؟... 244

مع الحجاج الثقفي... 244

من ظلم الحجاج... 245

الحجاج والحرة بنت حليمة... 245

36- أحداث مهمة في عصر الإمام... 249

1: واقعة الطف... 249

2: خروج المختار... 250

اتهامات بني أمية ضد المختار... 251

3: واقعة الحرة... 252

من قساوة جيش يزيد... 254

بيعة العبودية... 255

إيواء كثير من النساء... 256

الهجوم على مكة... 256

حسن تعامل الإمام مع مروان... 257

37- استشهاد الإمام... 258

الحمد لله الذي صدقنا وعده... 260

قراءة الواقعة والفتح... 261

من الوصايا الأخيرة... 261

صلاة الجنازة... 261

ص: 325

وحتى الناقة تبكيه... 262

الإمام لا يغسله إلا إمام... 263

38- من أصحاب الإمام... 264

مع السبيعي... 265

مع سعيد بن جبير... 265

مع الزهري... 266

الحواريون... 266

39- أولاد الإمام... 268

تنزيه أولاد الأئمة... 271

40- درر من رواياته الشريفة... 273

من شعره (عليه السلام) ... 276

أعيادنا مآتمنا... 277

لباس الدنيا والآخرة... 277

كتاب اللّه شاهدنا... 278

يا كاشف الكرب... 278

خاتمة... 279

نبذة عن حياة الشهيد زيد بن علي (عليه السلام) ... 279

سيد من أهل البيت... 280

هذه صفتك يا أبا حسين... 280

البشارة بولادة زيد... 281

جزاء من لم ينصره... 281

ص: 326

تفقد عيال الشهداء... 282

يدخلون الجنة بلا حساب... 282

شهداء كأمير المؤمنين (عليه السلام) ... 282

الثائر من آل محمد... 283

ذكرت عمي زيداً... 283

الإقرار بإمامة الصادق (عليه السلام) ... 284

كلام الرضا (عليه السلام) ... 284

إنه كان نعم العم... 285

إدراك السعادة... 286

أيكم يعلم بعمي زيد؟... 286

نزع اللّه ملكهم... 287

ليهنئك زيد... 287

رحم اللّه عمي... 289

حليف القرآن... 290

الطالب بثارات الحسين... 290

أي رجل كان؟... 290

سبب خروج زيد... 290

تاريخ شهادة زيد... 292

هو واللّه زيد... 292

رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يخبر بمقتل زيد... 293

جزاء الشامت بهم... 293

ص: 327

من أسباب الخروج... 294

الباكي على زيد في الجنة... 294

زيد سيد أهل بيتي... 294

هذه عقيدة زيد... 295

دفع شبهة... 295

لستَ صاحب هذا الأمر... 298

عليك بجعفر الصادق... 298

بكاء الإمام والنساء على زيد... 299

رواية زيد عن آبائه عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 299

زيد والإمام الباقر (عليه السلام) ... 301

صلى اللّه على زيد... 303

هلاك بني أمية... 303

خطبة زيد... 304

أبشر يا زيد... 306

والدة زيد... 307

زيد وسيماء الصالحين... 307

الفهرس... 309

ص: 328

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.