من حياة المعصومين عليهم السلام المجلد 5

هوية الكتاب

من حياة المعصومين عليهم السلام

الجزء الخامس

الإمام الحسين عليه السلام

المرجع الديني الراحل

السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

الشجرة الطيبة

1443 ه 2022 م

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی للناشر

1443 ه 2022 م

مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف

تهميش

مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

أما بعد، فهذا هو الجزء الخامس من سلسلة (من حياة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويتضمن إشارات مختصرة لجوانب من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) .

أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1410ه

ص: 5

ص: 6

1

النسب الشريف

الاسم المبارك

هو الإمام الحسين، بن علي بن أبي طالب، بن عبد المطلب بن هاشم (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ثاني السبطين، وثالث الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وخامس أصحاب الكساء الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وقد سمّاه (عليه السلام) رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باسم الحسين، وذلك بأمر من اللّه عزوجل، كما سمّى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخاه (عليه السلام) حسناً كذلك.

عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: حدثتني أسماء بنت عُميس الخثعمية قالت: قبلتُ(1) جدّتك فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحسن والحسين (عليهما السلام) قالت: فلما ولدت الحسن (عليه السلام) جاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا أسماء هاتي ابني، قالت: فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها وقال: ألم أعهد إليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء، ودعا بخرقة بيضاء فلفّه بها، ثم أذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وقال لعلي (عليه السلام) : بمَ سميت ابني(2)

هذا؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول اللّه، قال: وأنا ما

ص: 7


1- أي كنت قابلة لها.
2- في بعض النسخ: (ابنك).

كنت لأسبق ربي عزوجل.

قال: فهبط جبرئيل وقال: إن اللّه عزوجل يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد، عليٌ منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدك، فسمّ ابنك باسم ابن هارون.

قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا جبرئيل وما اسم ابن هارون؟

قال جبرئيل: شبر.

قال: وما شبر؟

قال: الحسن.

قالت أسماء: فسماه الحسن.

قالت أسماء: فلما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسين (عليه السلام) نفستها به، فجاءني النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: هلّمي ابني يا أسماء، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) .. قالت: وبكى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: إنه سيكون لك حديث، اللّهم العن قاتله، لا تعلمي فاطمة بذلك.

قالت أسماء: فلما كان في يوم سابعه جاءني النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: هلّمي ابني، فأتيته به ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) وعقّ عنه كما عق عن الحسن (عليه السلام) كبشاً أملح، وأعطى القابلة رِجلاً، وحلق رأسه وتصدق بوزن الشعر ورقاً(1) وخلق رأسه بالخلوق(2)،

وقال: إن الدم من فعل الجاهلية.

قالت: ثم وضعه (عليه السلام) في حجره ثم قال: يا أبا عبد اللّه عزيز عليّ، ثم بكى.

ص: 8


1- الورق: الفضة.
2- الخلوق: نوع من الطيب.

فقلت: بأبي أنت وأمي فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الأول فما هو؟

قال: أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني أمية، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر باللّه العظيم، ثم قال: اللّهم إني أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريته، اللّهم أحبهما وأحب من يحبهما والعن من يبغضهما مل ء السماء والأرض»(1).

الكنية الشريفة

كنيته (عليه السلام) : أبو عبد اللّه(2).

ومن كناه أيضاً: أبو الأئمة، وأبو السادة، وأبو الحجج(3)، وأبو علي(4).

الألقاب الطاهرة

لقبه (عليه السلام) : سيد الشهداء، وسيد شباب أهل الجنة(5)، وريحانة المصطفى(6)،

ص: 9


1- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص367-368 ح781.
2- قيل: إن أبا عبد اللّه كنيته الوحيدة لا غير، انظر: كشف الغمة: ج2ص213 عن كمال الدين الشافعي.
3- انظر كتاب الأربعين، لمحمد طاهر الشيرازي: ص213: عن سلمان المحمدي قال: (دخلت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإذا الحسين (عليه السلام) على فخذه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه ويقول: «أنت سيد ابن سيد أبو السادة، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمة، أنت حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم»..).
4- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص232 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
5- في الحديث القدسي: «أما إنه سيد الشهداء من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وسيد شباب أهل الجنة من الخلق أجمعين»، كامل الزيارات: ص148ب22 ح174/6.
6- قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وإن ريحانتي من الدنيا الحسن والحسين»، الكافي: ج6 ص2 باب فضل الولد ح1.

والرشيد، والوفيّ، والطيب، والسيد الزكي، والمبارك، والتابع لمرضاة اللّه، والدليل على ذات اللّه، والسبط، والشهيد، وغيرها(1).

والدته

والدته الطاهرة: هي الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 10


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص232 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) ، وقد ذكر الكثير من الالقاب.

2

الولادة المباركة

اشارة

وُلد الإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة المنورة يوم الثالث من شعبان، سنة ثلاث أو أربع من الهجرة المباركة عام الخندق، وكانت مدة حمله ستة أشهر(1).

وفي توقيع لأبي محمد العسكري (عليه السلام) : «إن مولانا الحسين (عليه السلام) وُلد يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان، فصمه وادع فيه بهذا الدعاء»(2)، وذكر الدعاء(3).

ص: 11


1- مثير الأحزان: ص7، وفيه: (ولم يولد لستة سواه وعيسى، وقيل: يحيى بن زكريا (عليهم السلام) ).
2- مصباح المتهجد: ص826.
3- ولفظ الدعاء هو: «اللّهم إني أسألك بحق المولود في هذا اليوم، الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته، بكته السماء ومن فيها، والأرض ومن عليها، ولما يطأ لابتيها، قتيل العبرة، وسيد الأسرة، الممدود بالنصرة يوم الكرة، المعوض من قتله أن الأئمة من نسله، والشفاء في تربته، والفوز معه في أوبته، والأوصياء من عترته، بعد قائمهم وغيبته، حتى يدركوا الأوتار، ويثأروا الثار، ويرضوا الجبار، ويكونوا خير أنصار، صلى اللّه عليهم مع اختلاف الليل والنهار، اللّهم فبحقهم إليك أتوسل وأسأل سؤال مقترف معترف مسي ء إلى نفسه، مما فرط في يومه وأمسه، يسألك العصمة إلى محل رمسه، اللّهم فصل على محمد وعترته، واحشرنا في زمرته، وبوئنا معه دار الكرامة، ومحل الإقامة، اللّهم وكما أكرمتنا بمعرفته فأكرمنا بزلفته، وارزقنا مرافقته وسابقته، واجعلنا ممن يسلم لأمره، ويكثر الصلاة عليه عند ذكره، وعلى جميع أوصيائه وأهل أصفيائه، الممدودين منك بالعدد الاثني عشر، النجوم الزهر، والحجج على جميع البشر، اللّهم وهب لنا في هذا اليوم خير موهبة، وأنجح لنا فيه كل طلبة، كما وهبت الحسين لمحمد جده، وعاذ فطرس بمهده، فنحن عائذون بقبره من بعده، نشهد تربته وننتظر أوبته، آمين رب العالمين». مصباح المتهجد: ص826-827.

وعن صفية بنت عبد المطلب قالت: لما سقط الحسين (عليه السلام) من بطن أمّه وكنتُ وليتها، قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا عمة هلمي إليّ ابني» فقلت: يا رسول اللّه إنّا لم ننظفه بعدُ! فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا عمة أنت تنظفينه! إن اللّه تبارك وتعالى قد نظّفه وطهّره»(1).

ولما وُلد الحسين (عليه السلام) جيء به إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستبشر به وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وسمّاه حسيناً، وعقّ عنه بكبش(2)،

وأمر فاطمة (عليها السلام) أن تحلق رأسه وتتصدق بوزن شعره فضة، فامتثلت (عليها السلام) ما أمرها به(3).

قصة فطرس

روي أنه لما وُلد الإمام الحسين (عليه السلام) أمر اللّه تعالى جبرئيل (عليه السلام) أن يهبط في ملأ من الملائكة(4) فيهنئ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهبط (جبرئيل) فمر بجزيرة فيها ملك يقال له: فطرس، بعثه اللّه في شيء فأبطأ، فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة، فعبد اللّه سبعمائة عام، فقال فطرس لجبرئيل: إلى أين؟ فقال: إلى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ..

قال: احملني معك إلى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلّه يدعو لي، فلما دخل جبرئيل وأخبر محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحال فطرس، قال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قل: يمسح بهذا المولود، فمسح فطرس بمهد الحسين (عليه السلام) فأعاد اللّه عليه في الحال جناحه(5)، ثم ارتفع مع جبرئيل

ص: 12


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص198-199 المجلس28 ح211,
2- انظر الإرشاد: ج2 ص27.
3- انظر مستدرك الوسائل: ج15 ص143ب32 من أبواب أحكام الأولاد ح17804/6، وفيه: (فكان يوم السابع أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحلق رأسه وتصدق بوزن شعره فضة وعقّ عنه..).
4- في رواية المناقب: (في ألف من الملائكة)، مناقب آل أبي طالب: ج3 ص229.
5- في رواية البصائر: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فنظرت إلى ريشه وأنه ليطلع ويجرى منه الدم ويطول حتى لحق بجناحه الآخر..» بصائر الدرجات ج2 ص88 ب6 ح7.

إلى السماء فسمي عتيق الحسين (عليه السلام) (1).

وقد روي مثل هذه القصة عن غير فطرس(2).. ولا يبعد أن تكون قضايا عديدة متشابهة، وربما كانت عدة أسماء لفطرس.

ص: 13


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص252-253.
2- كما ورد ذلك في (دردائيل) و(صلصائيل) انظر كمال الدين: ص282-284 ح36 للأول، والأنوار البهية: ص99-100 للثاني.

3

النشأة الطاهرة

عاش الإمام الحسين (عليه السلام) مع جدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ست أو سبع سنين وشهوراً، وعاش مع أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) 37 سنة، ومع أمه فاطمة (عليها السلام) ست أو سبع سنين وشهوراً، ومع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) 47 سنة.

وكانت مدة إمامته (عليه السلام) وخلافته عشر سنين وأشهراً.

والإمام الحسين (عليه السلام) هو أشرف الناس أباً وأماً، وجداً وجدةً، وعماً وعمةً، وخالاً وخالةً:

فجدّه: محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيد النبيين.

وأبوه: علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيد الوصيين.

وأمه: فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين.

وأخوه: الحسن المجتبى (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنة.

وعمّه: جعفر الطيار (عليه السلام) .

وعمّ أبيه: حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) .

وجدّته: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (عليها السلام) أول نساء هذه الأمة إسلاماً.

وعمّته: أم هانئ (عليها السلام) .

وخاله: إبراهيم ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 14

وخالته(1):

زينب بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ..

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لم يرضع الحسين (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام) ولا من أنثى، كان يؤتى به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيضع إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين (عليه السلام) من لحم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودمه، ولم يولد لستة أشهر إلاّ عيسى ابن مريم (عليه السلام) والحسين بن علي (عليه السلام) »(2).

وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : «أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يؤتى به الحسين (عليه السلام) فيلقمه لسانه فيمصه فيجتزئ به، ولم يرضع من أنثى»(3).

وعن أم الفضل بنت الحارث(4): أنها دخلت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه رأيت الليلة حلماً منكراً، قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وما رأيت»؟ قالت: إنه شديد، قال: «وما هو»؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قد قطعت ووضعت في حجري!

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خيراً رأيت، تلد فاطمة (عليها السلام) غلاماً فيكون في حجرك». فولدت فاطمة (عليها السلام) الحسين (عليه السلام) .. قالت: وكان (عليه السلام) في حجري كما قال رسول اللّه (صلوات اللّه عليه وآله). قالت: فدخلت به (عليه السلام) يوماً على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوضعته في حجره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تهرقان بالدموع،

ص: 15


1- هذا، بناءً على القول بأنها من بنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتكون خالته حقيقة، وعلى القول بأنها من ربائبه فإن إطلاق ذلك يكون من الباب المجاز والتوسع.
2- الكافي: ج1 ص465 باب مولد الحسين بن علي (عليهما السلام) ح4.
3- انظر الخصائص الفاطمية، للشيخ محمد باقر الكجوري: ص610 الخصيصة الخمسون.
4- أم الفضل: لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم الهلالية، زوجة العباس بن عبد المطلب (عليه السلام) وأخت زوجة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ميمونة.

فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ما لك؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربته حمراء»(1).

ص: 16


1- إعلام الورى: ج1 ص426-427.

الفضائل الجمة

اشارة

إن فضائل الإمام الحسين (عليه السلام) كثيرة جداً، لا يمكن لأحدنا الإحاطة بها.. فإن المحدود لا يمكنه أن يستوعب ما هو أكبر منه(1).

روي أن قوماً أتوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وقالوا: حدثنا بفضائلكم.

قال (عليه السلام) : «لا تطيقون وانحازوا عني لأشير إلى بعضكم فإن أطاق سأحدثكم».

فتباعدوا عنه، فكان (عليه السلام) يتكلم مع أحدهم حتى دهش ووله وجعل يهيم ولايجيب أحداً.. وانصرفوا عنه(2).

جبريل يناغيه (عليه السلام)

نزل جبرئيل (عليه السلام) يوماً فوجد الزهراء (عليها السلام) نائمة، والحسين (عليه السلام) في مهده يبكي، فجعل يناغيه ويسلّيه حتى استيقظت (عليها السلام) فسمعت صوت من يناغيه، فالتفتت فلم تر أحداً، فأخبرها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه كان جبرئيل (عليه السلام) (3).

نور وجهه (عليه السلام)

عن طاووس اليماني قال: إن الحسين بن علي (عليه السلام) كان إذا جلس في المكان

ص: 17


1- للتفصيل انظر مقدمة كتاب (من فقه الزهراء (عليها السلام) ) ج1.
2- مدينة المعاجز: ج3 ص500 فصل54 ح1014/67.
3- بحار الأنوار: ج44 ص187-188 ب25 ذيل ح16.

المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره، فإن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان كثيراً ما يقبّل الحسين (عليه السلام) بنحره وجبهته(1).

قرة عين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «بينما رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منزل فاطمة (عليها السلام) والحسين (عليه السلام) في حجره، إذ بكى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخر ساجداً، ثم قال: يا فاطمة يا بنت محمد إن رسول العلي الأعلى تراءى لي في بيتك هذا في ساعتي هذه في أحسن صورة وأهيأ هيئة، فقال لي: يا محمد أتحب الحسين؟ قلت: نعم، قرة عيني وريحانتي، وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عيني، فقال لي: يا محمد - ووضع يده على رأس الحسين (عليه السلام) - بورك من مولود، عليه بركات اللّه وصلواته ورحمته ورضوانه، ولعنته وسخطه وعذابه وخزيه ونكاله على من قتله وناصبه وناواه ونازعه، أما إنه سيد الشهداء من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وسيد شباب أهل الجنة من الخلق أجمعين، وأبوه أفضل منه وخير، فأقرئه السلام وبشّره بأنه راية الهدى ومنار أوليائي، وحفيظي وشهيدي على خلقي، وخازن علمي، وحجتي على أهل السماوات وأهل الأرضين والثقلين الجن والإنس...»(2).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسين مني وأنا من حسين، أحب اللّه من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط»(3).

ص: 18


1- مدينة المعاجز: ج4 ص46 فصل 112ح1076/129.
2- انظر كامل الزيارات: ص147-148 ب22 ح174/6.
3- شرح الأخبار: ج3 ص112 ح1050.

وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للحسين (عليه السلام) : «مرحباً بك يا أبا عبد اللّه يا زين السماوات والأرضين» ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض وإنه لمكتوب عن يمين عرش اللّه عز وجل: الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة»(1).

ص: 19


1- انظر عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص62 ب6 ح29.

5

نصوص الإمامة

هناك الكثير من النصوص صرّحت بإمامة الإمام الحسين (عليه السلام) فنصوص من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن الإمام الحسن (عليه السلام) ...

عن سلمان الفارسي (رحمه اللّه) قال: دخلت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإذا الحسين (عليه السلام) على فخذيه وهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبّل عينيه ويلثم فاه، وهو يقول: «أنت سيد ابن سيد، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمة، أنت حجة ابن حجة، أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم»(1).

وقال الإمام الحسن (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية (عليه السلام) : «يا محمد بن علي ألا أخبرك بما سمعت من أبيك (عليه السلام) فيك؟ قال: بلى، قال: سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحب أن يبرني في الدنيا والآخرة فليبر محمداً ولدي، يا محمد بن علي لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك، يا محمد بن علي أما علمت أن الحسين بن علي (عليه السلام) بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي، وعند اللّه جل إسمه في الكتاب وراثة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أضافها اللّه عزوجل له في وراثة أبيه وأمه، فعلم اللّه أنكم خير خلقه فاصطفى منكم محمداً، واختار

ص: 20


1- الخصال: ص475 ح38.

محمدٌ علياً، واختارني عليٌ بالإمامة، واخترتُ أنا الحسين»، فقال له محمد بن علي: أنت إمام وأنت وسيلتي إلى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واللّه لوددت أن نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام(1).

وحديث جابر عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تعيين الأئمة بأسمائهم مشهور(2).

وعن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ، قال: «إن اللّه عزوجل أنزل على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاباً قبل أن يأتيه الموت. فقال: يا محمد، هذا الكتاب وصيتك إلى النجيب من أهل بيتك. فقال: ومن النجيب من أهلي يا جبرئيل؟. فقال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى علي (عليه السلام) وأمره أن يفك خاتماً منها ويعمل بما فيه. ففك (عليه السلام) خاتماً وعمل بما فيه.

ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام) ففك خاتماً وعمل بما فيه.

ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام) ففك خاتماً فوجد فيه: أن اخرج بقوم إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلاّ معك، واشرِ نفسك لله عزوجل، ففعل.

ثم دفعه إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ففك خاتماً فوجد فيه: اصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، ففعل.

ثم دفعه إلى محمد بن علي (عليه السلام) ففك خاتماً فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلاّ اللّه؛ فإنه لا سبيل لأحد عليك.

ثم دفعه إليَّ ففككت خاتماً فوجدت فيه: حدّث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك، وصدق آباءك الصالحين، ولا تخافن أحداً إلاّ اللّه، وأنت في حرز

ص: 21


1- الكافي: ج1 ص301 باب الإشارة والنص على الحسين بن علي (عليهما السلام) ح2.
2- انظر الإمامة والتبصرة: ص103-106 ح92.

وأمان، ففعلت.

ثم أدفعه إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) ..

وكذلك يدفعه موسى إلى الذي من بعده..

ثم كذلك أبداً إلى قيام المهدي (عليه السلام) »(1).

ص: 22


1- بحار الأنوار: ج36 ص192-193 ب40 ح1.

6

علم الإمام (عليه السلام)

اشارة

كان الإمام الحسين (عليه السلام) كسائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أعلم أهل زمانه، في مختلف العلوم، في الفقه وتفسير القرآن والحديث وما يرتبط بالدين والدنيا والآخرة، وقد منحه اللّه العلم اللدني، وكان (عليه السلام) يعلم الغيب بإذن اللّه تعالى، فكان عالماً بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ومن مصاديقه؛ علمه بشهادته يوم عاشوراء وشهادة أصحابه وأهل بيته بكل تفاصيلها.

عن حذيفة(1) قال: سمعت الحسين بن علي (عليه السلام) يقول: «واللّه ليجتمعن على قتلي طغاة بني أمية، ويقدمهم عمر بن سعد» وذلك في حياة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقلت له: أنبأك بهذا رسول اللّه؟ فقال (عليه السلام) : «لا» فقال: فأتيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبرته! فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «علمي علمه وعلمه علمي، وإنا لنعلم بالكائن قبل كينونته»(2).

إلى غير ذلك مما يدل بوضوح على علم الإمام (عليه السلام) بشهادته، وقد صرّح بذلك

ص: 23


1- حذيفة بن أسيد الغفاري أبو سرعة من أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمامين الحسن والحسين صلوات اللّه عليهما، وكان من حواري الإمام المجتبى (عليه السلام) ، أو هو حذيفة بن اليمان العبسي أبوعبداللّه من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، وكان من الأركان الأربعة وكان من الموالين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا نهجهم القويم.
2- دلائل الإمامة: ص183-184 باب ذكر معجزاته (عليه السلام) ح101/6.

كراراً في طريقه إلى كربلاء، وفي موارد أخر(1).

روايته عن النبي والوصي (عليهم السلام)

ومن علومه (عليه السلام) ما اكتسبه من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث انتقل علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الوصي (عليه السلام) وعلم الوصي (عليه السلام) إلى الوصي من بعده، وهكذا.

وقد روى الإمام الحسين (عليه السلام) الكثير من الأحاديث النبوية والعلوية الشريفة وبذلك حفظ على الأمة الإسلامية علوم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والوصي (عليه السلام) .

قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «صحّ عندي قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه»(2).

وعن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: «إن يهودياً سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: أخبرني عما ليس لله وعما ليس عند اللّه وعما لا يعلمه اللّه!!

فقال علي (عليه السلام) : «أما ما لا يعلمه اللّه عز وجل فذلك قولكم يا معشر اليهود: أن عزيراً ابن اللّه، واللّه لا يعلم له ولداً، وأما قولك ما ليس عند اللّه، فليس عند اللّه ظلم للعباد، وأما قولك ما ليس لله، فليس لله شريك».

فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه»(3).

وعن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: «خطبنا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: سلوني عن القرآن أخبركم عن آياته فيمن نزلت وأين نزلت»(4).

إلى غيرها من الروايات التي رواها الإمام الحسين (عليه السلام) فوصلت إلينا.

ص: 24


1- سيأتي تفصيل ذلك في هذا الكتاب.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص298 ب24 ح16.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص129 ب11 ح40.
4- بحار الأنوار: ج89 ص79 ب8 ح4.

سل هذا الغلام

عن أبي سلمة قال: حججت مع عمر بن الخطاب فلما صرنا بالأبطح(1)

فإذا بأعرابي قد أقبل علينا فقال: يا أمير إني خرجت وأنا حاج محرم فأصبت بيض النعام فاجتنيت وشويت وأكلت فما يجب عليّ؟

قال: ما يحضرني في ذلك شي ء، فاجلس لعلّ اللّه يفرّج عنك ببعض أصحاب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإذا أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أقبل والحسين (عليه السلام) يتلوه، فقال عمر: يا أعرابي هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدونك ومسألتك.

فقام الأعرابي وسأله، فقال علي (عليه السلام) : «يا أعرابي سل هذا الغلام عندك» يعني الحسين (عليه السلام) ..

فقال الأعرابي: إنما يحيلني كل واحد منكم على الآخر، فأشار الناس إليه: ويحك هذا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاسأله.

فقال الأعرابي: يا ابن رسول اللّه إني خرجت من بيتي حاجاً محرماً وقص عليه القصة.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «ألك إبل»؟

قال: نعم(2).

ص: 25


1- الأبطح: مسيل مكة، مسيل واسع فيه دقائق الحصى، أوله عند منقطع الشعب بين وادي منى، وآخره متصل بالمقبرة التي تسمى ب- (المعلى)، ويطلق عليه المحصب أيضاً..
2- السؤال عن الإبل لأنه إن لم يكن له إبل أو لم يجد أبلاً، فعليه لكل بيضة شاة، فإن لم يجد فالصدقة على عشرة مساكين لكل مسكين مدّ، فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام. كما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) وعلّق العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في المرآة بقوله: (لاخلاف فيه بين الأصحاب).

قال (عليه السلام) : «خذ بعدد البيض الذي أصبت نوقاً فاضربها بالفحولة فما فصلت فاهدها إلى بيت اللّه الحرام».

فقال عمر: يا حسين النوق يزلقن؟

فقال الحسين (عليه السلام) : «يا عمر إن البيض يمرقن».

فقال: صدقت وبررت.

فقام علي (عليه السلام) وضمه إلى صدره وقال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1)»(2).

ص: 26


1- سورة آل عمران: 34.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص60 ب1 من أبواب مكارم أخلاقه ومحاسن أوصافه وسيرته ح2,

7

أخلاق الإمام (عليه السلام)

اشارة

كان الإمام الحسين (عليه السلام) قمةً في الأخلاق المحمدية ومثالاً للآداب العلوية، من حسن الخلق والتواضع، والجود والكرم، وحسن الضيافة، وكظم الغيض، والعفو عن المسيئين، ومجالسة الفقراء والمساكين، وقضاء حوائج المحتاجين، والدفاع عن الحق، وعدم الخضوع للباطل، وغيرها من الصفات الحميدة..

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «ما تكلّم الحسين (عليه السلام) بين يدي الحسن (عليه السلام) إعظاماً له، ولا تكلّم محمد بن الحنفية (رحمه اللّه) بين يدي الحسين (عليه السلام) إعظاماً له»(1).

مع الفقراء والمساكين

روي أنه: مرّ الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بمساكين قد بسطوا كساءً لهم فألقوا عليه كسراً فقالوا: هلّم يا ابن رسول اللّه، فثنى (عليه السلام) رجله ونزل ثم تلا: {إِنَّهُ لايُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(2)، ثم قال: «قد أجبتكم فأجيبوني».

قالوا: نعم يا ابن رسول اللّه، وقاموا معه حتى أتوا منزله. فقال للرباب (عليها السلام) : «أخرجي ما كنت تدخرين»(3). أي ما عندنا في البيت.

ص: 27


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص168 باب إمامة السبطين (عليهما السلام) .
2- سورة النحل: 23.
3- وسائل الشيعة: ج24 ص300-301 ب 28 من أبواب آداب المائدة ح4.

وفي حديث: مرّ الإمام الحسين (عليه السلام) بمساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء، فسلّم عليهم فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم وقال: «لولا أنه صدقة لأكلت معكم» ثم قال (عليه السلام) : «قوموا إلى منزلي» فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم(1).

وروي: أنهم وجدوا على ظهر الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الطف أثراً، فسألوا الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك؟

فقال (عليه السلام) : «هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين»(2).

أكرم الناس

وفد أعرابي المدينة فسأل عن أكرم الناس بها، فدُلّ على الحسين (عليه السلام) ، فدخل المسجد فوجده مصلياً، فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يخب الآن من رجاك ومن***حرّك من دون بابك الحلقة

أنت جواد وأنت معتمد***أبوك قد كان قاتل الفسقة

لولا الذي كان من أوائلكم***كانت علينا الجحيم منطبقة

قال: فسلّم الحسين (عليه السلام) وقال: «يا قنبر، هل بقي من مال الحجاز شيء؟».

قال: نعم، أربعة آلاف دينار.

فقال (عليه السلام) : «هاتها قد جاء من هو أحق بها منا»..

ثم نزع (عليه السلام) بردته ولفّ الدنانير فيها وأخرج يده من شق الباب حياءً من

ص: 28


1- بحار الأنوار: ج44 ص191 ب 26 ح3.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص222 باب إمامة أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) .

الأعرابي، وأنشأ:

خذها فإني إليك معتذر***واعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصاً***أمست سمانا عليك مندفقة

لكن ريب الزمان ذو غير***والكف مني قليلة النفقة

قال: فأخذها الأعرابي وبكى.

فقال (عليه السلام) : «لعلّك استقللت ما أعطيناك؟».

قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك(1).

قضاء الديون

في المناقب لابن شهر آشوب(2): أنه دخل الإمام الحسين (عليه السلام) على أسامة بن زيد وهو مريض وهو يقول: واغماه، فقال له الحسين (عليه السلام) : «وما غمك يا أخي»؟ قال: دَيني وهو ستون ألف درهم، فقال (عليه السلام) : «هو عليّ»، قال: أخشى أن أموت (قبل أن يُقضى)، قال (عليه السلام) : «لن تموت حتى أقضيها عنك».. فقضاها قبل موته(3).

مع فرزدق الشاعر

ورد أنه لما أخرج مروان الفرزدق من المدينة، أتى الفرزدق الحسين (عليه السلام) فأعطاه

ص: 29


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص62-63 ب 4 ح1.
2- الشيخ الجليل الحافظ مشير الدين أبو عبداللّه محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المازندراني، توفي سنة 588ه- من أعلام الشيعة وشيوخها، والكتاب يدور حول فضائل ومناقب أهل البيت (عليهم السلام) مع بيان نبذة مختصرة للمعصومين (سلام اللّه عليهم أجمعين) وبيان كراماتهم ومعجزاتهم والأحداث التي جرت عليهم.
3- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص221 باب إمامة أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) .

الحسين (عليه السلام) أربعمائة دينار(1). والدينار مثقال من الذهب.

صن وجهك

جاء رجل من الأنصار إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يريد أن يسأله حاجة، فقال (عليه السلام) : «يا أخا الأنصار صُن وجهك عن بذلة(2) المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإني آت فيها ما هو سارّك إن شاء اللّه».

فكتب: يا أبا عبد اللّه إن لفلان عليّ خمسمائة دينار وقد ألّح بي فكلّمه ينظرني إلى ميسرة.

فلما قرأ الحسين (عليه السلام) الرقعة دخل إلى منزله فأخرج صرة فيها ألف دينار وقال (عليه السلام) له: «أما خمسمائة فاقض بها دَينك، وأما خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلاّ إلى أحد ثلاثة، إلى ذي دين أو مروءة أو حسب، فأما ذو الدين فيصون دينه، وأما ذو المروءة فإنه يستحيي لمروءته، وأما ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك فهو يصون وجهك أن يردك بغير قضاء حاجتك»(3).

عفوت عنك

روي أنه جنى غلام للإمام الحسين (عليه السلام) جناية توجب العقاب عليه، فقال الغلام: يا مولاي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}.

قال (عليه السلام) : «خلوا عنه».

ص: 30


1- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص62 باب سخاوته من أبواب مكارم أخلاقه..
2- البذلة: ترك الصون.
3- تحف العقول: ص248 باب في قصارى كلماته (عليه السلام) .

فقال: يا مولاي {وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ}.

قال (عليه السلام) : «قد عفوتُ عنك».

قال: يا مولاي {وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}(1).

قال (عليه السلام) : «أنت حرّ لوجه اللّه ولك ضعف ما كنت أعطيك»(2).

إسلام اليهودي

قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «إني رأيت غلاماً يؤاكل كلباً، فقلت له في ذلك»، فقال: يا ابن رسول اللّه إني مغموم أطلب سروراً بسروره، لأن صاحبي يهودي أريد أفارقه، فأتى الحسين (عليه السلام) إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له.

فقال اليهودي: الغلام فداء لخطاك، وهذا البستان له، ورددتُ عليك المال.

فقال (عليه السلام) : «وأنا قد وهبتُ لك المال».

قال: قبلتُ المال ووهبتُه للغلام.

فقال الحسين (عليه السلام) : «أعتقتُ الغلام ووهبتُه له جميعاً».

فقالت امرأته: قد أسلمتُ ووهبتُ زوجي مهري.

فقال اليهودي: وأنا أيضاً أسلمتُ وأعطيتُها هذه الدار(3).

مع معلم القرآن

قيل: إن أبا عبد الرحمن السلمي(4) علّم ولد الحسين (عليه السلام) الحمد، فلما قرأها على أبيه، أعطاه ألف دينار وألف حلة وحشا فاه دراً، فقيل له في ذلك؟

ص: 31


1- سورة آل عمران: 134.
2- بحار الأنوار: ج44 ص195 ب26 ح9.
3- بحار الأنوار: ج44 ص194 ب26 ح7.
4- عبد اللّه بن حبيب السلمي المكنى بأبي عبدالرحمن السلمي: من خُلص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) .

فقال (عليه السلام) : «وأين يقع هذا من عطائه» يعني تعليمه. وأنشد الحسين (عليه السلام) :

إذا جادت الدنيا عليك فجُد بها***على الناس طُراً قبل أن تتفلت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت***ولا البخل يُبقيها إذا ما تولت(1)

طاقة ريحان

قال أنس: كنت عند الحسين (عليه السلام) فدخلت عليه جارية، فحيّته بطاقة ريحان، فقال (عليه السلام) لها: «أنتِ حرةٌ لوجه اللّه».

فقلت: تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟

قال (عليه السلام) : «كذا أدّبنا اللّه، قال اللّه تعالى {وإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها}(2) وكان أحسن منها عتقها»(3).

كرم وتعليم

روي أن أعرابياً جاء إلى الحسين بن علي (عليه السلام) فقال: يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد ضمنت دية كاملة وعجزتُ عن أدائه، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيتُ أكرم من أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فقال الحسين (عليه السلام) : «يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبتَ عن واحدة أعطيتك ثُلث المال، وإن أجبتَ عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل».

فقال الأعرابي: يا ابن رسول اللّه أمثلك يسأل عن مثلي وأنت من أهل العلم

ص: 32


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص222 باب إمامة أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) .
2- سورة النساء: 86.
3- كشف الغمة: ج2 ص240-241 باب في ذكر شيء من كلامه (عليه السلام) .

والشرف؟

فقال الحسين (عليه السلام) : «بلى سمعت جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: المعروف بقدر المعرفة».

فقال الأعرابي: سل عما بدا لك، فإن أجبت وإلاّ تعلمت منك ولا قوة إلاّ باللّه.

فقال الحسين (عليه السلام) : «أي الأعمال أفضل»؟

فقال الأعرابي: الإيمان باللّه.

فقال الحسين (عليه السلام) : «فما النجاة من المهلكة»؟

فقال الأعرابي: الثقة باللّه.

فقال الحسين (عليه السلام) : «فما يزين الرجل»؟

فقال الأعرابي: علم معه حلم.

فقال (عليه السلام) : «فإن أخطأه ذلك»؟

فقال: مال معه مروءة.

فقال (عليه السلام) : «فإن أخطأه ذلك»؟ فقال: فقر معه صبر.

فقال الحسين (عليه السلام) : «فإن أخطأه ذلك»؟

فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك.

فضحك الحسين (عليه السلام) ورمى بصُرّة إليه فيه ألف دينار وأعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مائتا درهم وقال: «يا أعرابي أعط الذهب إلى غرمائك واصرف الخاتم في نفقتك» فأخذ الأعرابي وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}(1) الآية»(2).

ص: 33


1- سورة الأنعام: 124.
2- بحار الأنوار: ج44 ص196 ب26 ح11.

8

زهد الإمام (عليه السلام)

كان الإمام الحسين (عليه السلام) أزهد أهل زمانه، تاركاً مباهج الدنيا وزخارفها، مشتغلاً بالعبادة والدار الآخرة، وكان (عليه السلام) ينفق ما عنده في سبيل اللّه عزوجل وربما استدان لقضاء حوائج الناس، كما كان كذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

عن أبي جعفر (عليه السلام) : «إن الحسين (عليه السلام) قُتل وعليه دَين، وإن علي بن الحسين (عليه السلام) باع ضيعةً له بثلاثمائة ألف درهم ليقضي دَين الحسين (عليه السلام) وعدات كانت عليه»(1).

وفي الحديث: «قد مات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعليه دَين، ومات علي (عليه السلام) وعليه دَين، ومات الحسن (عليه السلام) وعليه دَين، وقُتل الحسين (عليه السلام) وعليه دَين»(2).

ومن زهد الإمام الحسين (عليه السلام) أنه رفض بيعة يزيد، على رغم الإغراءات الدنيوية الكثيرة والكبيرة، حيث وعدوا الإمام (عليه السلام) بأنه لو بايع لنال من الدنيا الحظ الأوفر والنصيب الأوفى ويكون معظماً محترماً عند يزيد، مرعي الجانب، محفوظ المقام، لايرد له طلب ولا تخالف له إرادة، فإن يزيد كان يعلم بمكانة

ص: 34


1- وسائل الشيعة: ج18 ص322 ب2 من أبواب الدين والقرض ح12.
2- بحار الأنوار: ج100 ص143 ب2 من أبواب الدين والقرض ح12.

الإمام (عليه السلام) بين المسلمين وكان يتخوف شديداً من مخالفته له، وهذا ما جعل معاوية يتظاهر بتحذير ابنه يزيد من محاربة الحسين (عليه السلام) ويوصيه بإكرامه.. فكان يزيد مستعداً لأن يبذل في إرضاء الإمام (عليه السلام) وإسكاته كل رخيص وغال، ولكن الإمام الحسين (عليه السلام) رفض الدنيا وأبى الانقياد للطغاة قائلاً: «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح اللّه وبنا ختم اللّه ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرمّة ومثلي لا يبايع مثله»(1)،

فخرج (عليه السلام) من المدينة بأهل بيته وعياله وأولاده نحو مكة والعراق تاركاً الدنيا ومباهجها، ومتخذاً طريق الشهادة لنفسه وأهل بيته وأصحابه، والأسر لعياله وأطفاله. وقد ورد في الشعر المنسوب إليه (عليه السلام) يوم عاشوراء:

تركت الخلق طرّا في هواكا***وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني بالحب إرباً***لما مال الفؤاد إلى سواكا

ص: 35


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص17.

9

عبادة الإمام (عليه السلام)

اشارة

كان الإمام الحسين (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، فكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة. وكان (عليه السلام) يصوم النهار ويقوم الليل، وكان (عليه السلام) أشدّ الناس خوفاً من اللّه، وكان (عليه السلام) يخرج إلى الحج ماشياً حتى تتورم قدماه..

قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام) : ما أقل ولد أبيك؟ فقال (عليه السلام) : «العجب كيف وُلدت، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة فمتى كان يتفرغ للنساء»(1).

ولما قيل للإمام الحسين (عليه السلام) : ما أعظم خوفك من ربك؟ قال (عليه السلام) : «لا يأمن يوم القيامة إلاّ من خاف اللّه في الدنيا»(2).

وروي أن الإمام الحسين (عليه السلام) أتى قبر جدته خديجة (عليها السلام) (3) فبكى، يقول الراوي: فاستخفيت عنه، فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً:

يا رب يا رب أنت مولاه***فارحم عُبيداً إليك ملجاه

ص: 36


1- فلاح السائل: ص269.
2- بحار الأنوار: ج44 ص192 ب26 ح5.
3- قبر أم المؤمنين خديجة (رضوان اللّه عليها) في مقبرة المعلى بمنطقة الحجون في مكة وعلى سفح الجبل، وكان لقبرها قبة أثرية وصفها المحقق النراقي المتوفى سنة 1244ه- في كتابه مستند الشيعة بأن أصل القبة بيضاء وحيطانها صفراء، وقد هدمها الوهابيون عند استيلائهم على مكة المكرمة سنة 1343ه.

يا ذا المعالي عليك معتمدي***طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خادما أرقا***يشكو إلى ذي الجلال بلواه

طوبى لمن كان خادما أرقا***يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علة ولا سقم***أكثر من حبه لمولاه

إذا اشتكى بثه وغصته***أجابه اللّه ثم لباه

إذا ابتلا بالظلام مبتهلا***أكرمه اللّه ثم أدناه

فنودي:

لبيك عبدي وأنت في كنفي***وكلما قُلتَ قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي***فحسبك الصوت قد سمعناه

دعاك عندي يجول في حجب***فحسبك الستر قد سفرناه

لو هبت الريح من جوانبه***خر صريعا لما تغشاه

سلني بلا رغبة ولا رهب***ولا حساب إني أنا اللّه»(1)

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «خرج الحسين بن علي (عليه السلام) إلى مكة سنة ماشياً فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبتَ ليسكن عنك هذا الورم.

فقال (عليه السلام) : «كلا، إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسود ومعه دهن فاشتره منه ولا تماسكه».

فقال له مولاه: بأبي أنت وأمي ما قدامنا منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء.

فقال (عليه السلام) : «بلى أمامك دون المنزل».

فسار ميلاً فإذا هو بالأسود، فقال الحسين (عليه السلام) لمولاه: «دونك الرجل فخذ منه الدهن»، فأخذ منه الدهن وأعطاه الثمن.

فقال له الغلام: لمن أردت هذا الدهن؟

ص: 37


1- بحار الأنوار: ج44 ص193 ب26 ح5.

فقال: للحسين بن علي (عليه السلام) .

فقال: انطلق به إليه، فصار الأسود نحوه فقال: يا ابن رسول اللّه إني مولاك لاآخذ له ثمناً ولكن ادع اللّه أن يرزقني ولداً ذكراً سوياً يحبكم أهل البيت (عليهم السلام) فإني خلّفت امرأتي تمخض.

فقال (عليه السلام) : «انطلق إلى منزلك فإن اللّه قد وهب لك ولداً ذكراً سوياً» فولدت غلاماً سوياً، ثم رجع الأسود إلى الحسين (عليه السلام) ودعا له بالخير بولادة الغلام له وإن الحسين (عليه السلام) قد مسح رجليه فما قام من موضعه حتى زال ذلك الورم(1).

ورويت هذه الرواية في الإمام الحسن (عليه السلام) أيضاً.

وعن عبد اللّه بن عبيد: «لقد حج الحسين بن علي (عليه السلام) خمساً وعشرين حجة ماشياً وإن النجائب لتقاد معه»(2).

آداب إسلامية

قال الإمام الصادق (عليه السلام) :

«قُتل الحسين (صلوات اللّه عليه) وهو مختضب بالوسمة(3)»(4).

ص: 38


1- بحار الأنوار: ج44 ص186 ب25 ح13.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص68 باب زهده (عليه السلام) ح1.
3- الوسمة: بكسر السين نبت يختضب به.
4- الكافي: ج6 ص482 باب السواد والوسمة ح5.

10

أدعية الإمام (عليه السلام)

اشارة

تمتاز مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فيما تمتاز بأدعيتها أيضاً، فالأدعية فيها مدرسة كاملة في العقائد الحقة والأخلاق الطيبة والمعارف الجمة، وما ينبغي للعبد المؤمن أن يخاطب به ربّه، وكيفية الدعاء والمناجاة، كما تتضمن علوماً عديدة. وهكذا كانت أدعية الإمام الحسين (عليه السلام) ..

ومنها: دعاؤه (عليه السلام) في يوم عرفة(1).. ومنها: أدعيته (عليه السلام) يوم عاشوراء، كقوله (عليه السلام) لما أصبحت الخيل تقبل عليه، وقد رفع يديه وقال: «اللّهمّ أنتَ ثِقَتي في كُلّ كَرْبٍ، وَأنتَ رَجائي في كُلّ شِدّة، وأنتَ لي في كُلّ أمر نَزَلَ بي ثِقَةٌ وَعُدَّة، كَم مِنْ هَمّ يَضعُفُ فيه الفُؤاد، وَتَقِلُّ فيه الحيلَةُ، وَيخذُلُ فيه الصّديق، وَيَشْمُتُ فيه العَدُوّ، أنْزَلْتُهُ بك وشَكَوْتُهُ إليك، رَغْبَةً مِني إليك عمّن سِوَاك، فَفَرَّجْتَهُ عَنّي وَكَشَفْتَهُ، فأنتَ وَلِيُّ كُلّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلّ حَسَنَة، ومُنْتَهَى كُلّ رَغْبَة»(2).

ص: 39


1- انظر إقبال الأعمال: ج2 ص74-87، وقد شُرح الدعاء بأكثر من شرح ومن تلك الشروح: شرح السيد خلف بن عبدالمطلب المشعشعي الحويزي المعاصر للشيخ البهائي والمسمى ب- (مظهر الغرائب)، وشرح الشيخ محمد علي بن الشيخ أبي طالب الزاهدي الجيلاني الأصفهاني المتوفى سنة 1181ه.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص112 ب46 من أبواب كتاب الجهاد ح20.

قنوت الإمام الحسين (عليه السلام)

وكان من قنوته (عليه السلام) :

«اللّهمّ مِنْكَ البَدْءُ ولَكَ المشيّة، ولك الحولُ ولَكَ القُوَّةُ، وأنتَ اللّهُ الذي لا إله إلاّ أنتَ، جَعَلْتَ قلُوبَ أوليائِكَ مَسكَناً لمشيّتِكَ، وَمَكْمَناً لإرادَتِكَ، وجعلتَ عقولَهُم مناصبَ أوامرِك ونواهيك، فأنتَ إذا شئتَ ما تشاءُ حرّكتَ من أسرارِهم كَوامِنَ مَا أبطَنْتَ فيهم، وأبدَأتَ مِن إرادَتِكَ عَلَى ألسنَتِهِم ما أفْهَمْتَهُم به عنك في عُقُودِهِم بعقولٍ تَدعُوكَ وَتَدعو إليك بحقايق مَا مَنَحتَهُم به، وإني لأعلمُ مما علمتَني مما أنتَ المشكورُ على ما منه أريتَني، وإليه آوَيتَني.

اللّهم وإني مع ذلك كلِّه عائذٌ بك، لائذٌ بحولِكَ وَقُوَّتِكَ، راضٍ بحكمِكَ الذي سُقتَهُ إليّ في علمِكَ، جارٍ بحيث أجريتَني، قاصدٌ ما أممتَني، غيُر ضنينٍ بنفسي فيما يُرضيكَ عني إذ به قد رضيتَني، ولا قاصرٌ بجهدي عمّا إليه ندبتَني، مسارعٌ لما عرّفتَني، شارعٌ فيما أشرَعتَني، مستبصرٌ ما بصّرتَني، مُراعٍ ما أرْعيتَني، فلا تُخِلْني من رِعايتِكَ، ولا تخُرجني من عنايتك، ولا تُقعدني عن حولِكَ، ولا تخُرجني عن مقصدٍ أنال به إرادتُك، واجعل على البصيرة مَدرَجتي، وعلى الهداية محَجَتي، وعلى الرَّشاد مَسلَكي، حتى تُنيلني وتُنيل بي اُمنيتي، وتحُلّ بي على ما به أردتَني، وله خلقتَني، وإليه آويتَني، وأعِذْ أولياءَك من الافتتان بي، وفَتّنهُم برحمتك لرحمتك في نِعمَتِك تفتينَ الاجتباء، والاستخلاص بسلوك طريقتي، واتباعِ منهجي، وَألحقْني بالصالحين من آبائي وذوي رحمي».

قنوت آخر للإمام (عليه السلام)

«اللّهمّ مَن أوَى إلى مأوَى فأنتَ مأواي، ومَن لجا إلى ملجأ فأنت ملجأي، اللّهم صلّ على محمدٍ وآل محمد، واسمَعْ ندائي، وأجِبْ دُعائي، واجعَل عندَك

ص: 40

مآبي ومَثواي، واحرُسني في بَلواي من افتنان الامتحان، ولمّة الشيطان، بعظمتك التي لايَشوبُها وَلَعُ نَفْسٍ بتفتين، ولا واردُ طَيْفٍ بِتَظنين، ولا يَلمُّ بها فَرَجٌ حتى تُقلِبُني إليك بإرادتك غيَر ظَنين ولا مظنون، ولا مُراب ولا مُرتاب، إنّك أنتَ أرحمُ الراحمين»(1).

حرز الإمام الحسين (عليه السلام)

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا دائمُ يا دَيمومُ، يا حَيُّ يا قَيّومُ، يا كاشفَ الغَمّ، يا فارجَ الهَمّ، يا باعثَ الرُّسُلِ، يا صادقَ الوَعد، اللّهمّ إن كان لي عندك رِضوان وَوُدٌّ فاغفِر لي ومَن اتّبَعَني مِن إخواني وشيعتي، وطيّب مَا في صُلبي برحمتك يا أرحم الراحمين، وَصَلّى اللّهُ عَلَى محُمد وَآله أجْمعين»(2).

حجاب الإمام الحسين (عليه السلام)

«يا مَنْ شَأنُهُ الكِفايَةُ، وسُرادِقُهُ الرّعَايَةُ، يا مَن هو الغايَةُ وَالنّهايَةُ، يا صَارفَ السُوءِ وَالسِواية والضُرّ، اصرِفْ عَنّي أذيّةَ العَالمينَ مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ أجْمعين، بالأشباحِ النُوريّة وَبالأسمَاء السّريانية، وَبِالأقْلامِ الْيونَانِية وَبالْكَلِمَاتِ العِبرانية، وَبما نَزَلَ في الألْوَاحِ مِنْ يَقِينِ الإيضَاحِ. اجْعَلْني اللّهُمَّ في حِرْزِكَ وَفي حِزْبِكَ، وَفي عِياذِكَ وَفي ستْرِكَ وَفي كَنَفِكَ، مِنْ كُلّ شَيطانٍ مَارِدٍ، وَعَدُوّ راصِدٍ، وَلَئِمٍ مُعَانِدٍ، وَضِدّ كَنودٍ، وَمِن كُلّ حَاسِد، بِبِسْم اللّه اسْتَشْفَيتُ، وببسم اللّه استَكْفَيْتُ وَعَلَى اللّه تَوَكلتُ، وَبِهِ اسْتَعَنْتُ عَلَى كُلّ ظالِمٍ ظَلَم، وغاشِمٍ غَشَم، وَطارِقٍ طَرَق، وزاجِرٍ زَجَر، فاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أرْحَمُ الرّاحِمِين»(3).

ص: 41


1- بحار الأنوار: ج82 ص214 باب33 قنوت الإمام الحسين (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج91 ص265 ب41 ح3.
3- بحار الأنوار: ج91 ص374 باب52 حجاب الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) .

دعاء الاستسقاء

عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) قال: «جاء أهل الكوفة إلى علي (عليه السلام) فشكوا إليه إمساك المطر، وقالوا له: استسق لنا، فقال (عليه السلام) للحسين (عليه السلام) : قم واستسق.

فقام (عليه السلام) وحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: (اللّهمّ مُعطي الخيرات، ومُنزل البركات، أرسل (السماءَ) الماء علينا مدراراً، واسقنا غيثاً مغزاراً، واسعاً غدقاً مجللاً، سحاً سفوحاً ثجاجاً(1)،

تنفس به الضعف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك، آمين رب العالمين).. فما فرغ (عليه السلام) من دعائه حتى غاث اللّه تعالى غيثاً بغتة ببركته..

وأقبل أعرابي من بعض نواحي الكوفة فقال: تركت الأودية والآكام يموج بعضها في بعض»(2).

نقش خاتمه (عليه السلام)

قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «كان نقش خاتم الحسين (عليه السلام) : إن اللّه بالغ أمره»(3).

وفي رواية غير ذلك.

أقول: وفي مثل هذه الموارد تجمع الروايات بأنه كان للإمام (عليه السلام) عدة خواتيم أو ما أشبه. ويدل عليه قول الصادق (عليه السلام) : «كان للحسين بن علي (عليه السلام) خاتمان نقش أحدهما: (لا إله إلا اللّه عدة للقاء اللّه)، ونقش الآخر: (إن اللّه بالغ

ص: 42


1- الغدق: الماء الكثير، الساحية: المطرة الشديدة الوقع التي تقشر وجه الأرض، السفوح: الماء المهراق، الثجاج: مطر اذا انصب بكثرة.
2- مدينة المعاجز: ج3 ص471-472 ب30 ح38.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص61 ب31 ح206.

أمره)..»(1).

كيف أصبحت؟

سُئل الحسين بن علي (عليه السلام) فقيل له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟

قال (عليه السلام) : «أصبحت ولي رب فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني»(2).

ص: 43


1- بحار الأنوار: ج43 ص248 ب11 ح22.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص707 المجلس89 ح3.

11

درر من كلمات الإمام (عليه السلام)

قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «شرّ خصال الملوك: الجبن من الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء»(1).

وقال (عليه السلام) : «موت في عزّ خير من حياة في ذلّ»(2).

وقال (عليه السلام) : «خير المال ما وقى العرض»(3).

وقال (عليه السلام) : «صاحب الحاجة لم يُكرم وجهه عن سؤالك، فأكرم وجهك عن ردّه»(4).

وقال (عليه السلام) : «من أتانا لم يعدم خصلة من أربع، آية محكمة، وقضية عادلة، وأخا مستفاداً، ومجالسة العلماء»(5).

وقال (عليه السلام) لهرثمة(6): «فامض حيث لا ترى لنا مقتلاً ولا تسمع لنا صوتاً، فوالذي نفس حسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحدٌ فلا يعيننا إلاّ كبّه اللّه لوجهه

ص: 44


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص221 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- بحار الأنوار: ج44 ص192 ب26 ح4.
3- وسائل الشيعة: ج21 ص557 باب استحباب صيانة العرض بالمال 28 ح2.
4- كشف الغمة: ج2 ص242 باب في ذكر شيء من كلامه (عليه السلام) .
5- كشف الغمة: ج2 ص242 باب في ذكر شيء من كلامه (عليه السلام) .
6- هرثمة بن أبي مسلم: من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وممن حارب معه في صفين.

في نار جهنم»(1).

وقال (عليه السلام) : «اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم، فلا تملّوا النِعم فتتحول إلى غيركم»(2).

وقال (عليه السلام) : «إن الحلم زينة، والوفاء مروة، والصلة نعمة، والاستكبار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والغلو ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شر، ومجالسة أهل الفسق ريبة»(3).

وقال (عليه السلام) : «إن أعفى الناس من عفا عن قدرة، وإن أوصل الناس من وصل من قطعه»(4).

وقال (عليه السلام) : «إياك وما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر»(5).

وقال (عليه السلام) : «للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للرادّ»(6).

وقال (عليه السلام) : «البخيل من بخل بالسلام»(7).

وقال (عليه السلام) : «إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ اللّه»(8).

ص: 45


1- بحار الأنوار: ج44 ص256 ب31 ح4.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص369 ب15من أبواب فعل المعروف ح1.
3- كشف الغمة: ج2 ص240 باب في ذكر شيء من كلامه (عليه السلام) .
4- بحار الأنوار: ج75 ص121 ب21 ح4.
5- تحف العقول: ص248 باب في قصارى كلماته (عليه السلام) .
6- تحف العقول: ص248 باب في قصارى كلماته (عليه السلام) .
7- بحار الأنوار: ج75 ص120ب20 ح18.
8- الكافي: ج2 ص331 باب الظلم ح5.

وقال (عليه السلام) : «ما أخذ اللّه طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعته، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنه كلفته»(1).

وقال (عليه السلام) : «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محُصوا بالبلاء قلّ الديانون»(2).

ص: 46


1- تحف العقول: ص246 باب في قصار كلماته (عليه السلام) .
2- الأنوار البهية: ص102 فصل في مواعظ مولانا الإمام الحسين (عليه السلام) .

12

معاجز الإمام (عليه السلام) وكراماته

اشارة

المعاجز هي التي تميز الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) عن غيرهم، وتكون شاهد صدق على ما يدعون من النبوة والإمامة، وتكون متنوعة وفي مجالات عديدة، ولم تنحصر على شيء واحد فقط وبأسلوب معين فحسب، ومن هنا يتبين زيف أهل الباطل حيث لا يقدرون على المعاجز، وإذا تصنّع بعضهم بشيء فإنه لا يقدر على غيره.

مع حبابة الوالبية

في (بصائر الدرجات)(1) عن صالح بن ميثم الأسدي(2) قال: دخلت أنا وعباية

ص: 47


1- كتاب بصائر الدرجات للشيخ الجليل الثقة الفقيه وجه الشيعة في وقته ومقدمهم: محمد بن الحسن الصفار، من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) ت290ه- وله عدة من الكتب من أشهرها الكتاب المذكور وهو يتألف من عشرة أجزاء وكل جزء ينقسم إلى عدة أبواب تحتوي بدورها على جملة من الأحاديث الشريفة المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) ، ومقدارها (1881) حديثاً، وللكتاب مزايا عديدة قلّ أن توجد في غيره من الكتب المشابهة ويعتبر من الأصول التي يعتمد عليها في باب الفضائل لأهل البيت (عليهم السلام) .
2- صالح بن ميثم التمار مولى بني أسد: إمامي ممدوح صالح من أصحاب الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ومن رجال كتابي تفسير القمي وكامل الزيارات، وقد قال له الامام الباقر (عليه السلام) : «إني أحبك وأحب أباك حباً شديداً».

بن ربعي(1) على امرأة في بني والبة قد احترق وجهها من السجود، فقال لها عباية: يا حبابة هذا ابن أخيك، قالت: وأي أخ؟، قال: صالح بن ميثم، قالت: ابن أخي واللّه حقاً، يا ابن أخي ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسين بن علي (عليه السلام) ، قال: قلت: بلى يا عمة.

قالت: كنت زوارة الحسين بن علي (عليه السلام) .. قالت: فحدث بين عيني وضح، فشق ذلك عليّ واحتبست عليه أياماً، فسأل عني: «ما فعلت حبابة الوالبية»(2)؟

فقالوا: إنها حدث بها حدث بين عينيها، فقال (عليه السلام) لأصحابه: «قوموا إليها» فجاء مع أصحابه حتى دخل عليّ وأنا في مسجدي هذا، فقال: «يا حبابة ما أبطأ بك عليّ»؟ قلت: يا ابن رسول اللّه حدث هذا بي، فتفل عليه الحسين بن علي (عليه السلام) فقال: «يا حبابة أحدثي لله شكراً، فإن اللّه قد درأه عنك»، قالت: فخررت ساجدة، فقال (عليه السلام) : «يا حبابة ارفعي رأسك وانظري في مرآتك»، قالت: فرفعت رأسي فلم أحس منه شيئاً، قالت: فحمدت اللّه(3).

لا أحب ذلك

روي أن رجلاً صار إلى الإمام الحسين (عليه السلام) فقال: جئتك أستشيرك في تزويجي فلانة؟ فقال (عليه السلام) : «لا أحب ذلك لك» وكانت كثيرة المال، وكان الرجل أيضاً مكثراً، فخالف الحسين (عليه السلام) فتزوج بها، فلم يلبث الرجل حتى افتقر!، فقال له

ص: 48


1- عباية أو عبادة الأسدي من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن خواصه ومن أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) روى جملة من الروايات في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) منها قوله (عليه السلام) : «أنا قسيم الجنة والنار».
2- حبابة الوالبية: روت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وعُدت من أصحاب الإمام الحسن والباقر (عليهما السلام) ، وعاشت إلى عهد الإمام الرضا (عليه السلام) ، ممدوحة.
3- انظر بصائر الدرجات: ج6 ص291 ب3 ح6.

الحسين (عليه السلام) : «قد أشرت إليك، فخل سبيلها فإن اللّه يعوضك خيراً منها» ثم قال (عليه السلام) : «وعليك بفلانة فتزوجها» فما مضت سنة حتى كثر ماله، وولدت له ذكراً ورأى منها ما أحب(1).

إحياء الموتى بإذن اللّه

عن يحيى ابن أم الطويل(2) قال: كنا عند الحسين (عليه السلام) إذ دخل عليه شاب يبكي، فقال له الحسين (عليه السلام) : «ما يبكيك»؟ قال: إن والدتي توفيت في هذه الساعة ولم توصِ، ولها مال وكانت قد أمرتني أن لا أحدث في أمرها شيئاًً حتى أعلمك خبرها.

فقال الحسين (عليه السلام) : «قوموا بنا حتى نصير إلى هذه الحرة».

فقمنا معه حتى انتهينا إلى باب البيت الذي توفيت فيه المرأة وهي مسجاةً، فأشرف (عليه السلام) على البيت ودعا اللّه ليحييها حتى توصي بما تحب من وصيتها، فأحياها اللّه، فإذا المرأة قد جلست وهي تتشهد ثم نظرت إلى الحسين (عليه السلام) ، فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومرني بأمرك.

فدخل (عليه السلام) وجلس على مخدة ثم قال لها: «أوصي يرحمكِ اللّه».

فقالت: يا ابن رسول اللّه إن لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا، وقد جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من مواليك وأوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمت أنه من مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفاً فخذه إليك فلا حق

ص: 49


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص248 باب 4 في معجزات الحسين بن علي (عليهما السلام) ح4.
2- إمامي من أصحاب الإمام السجاد (عليه السلام) ومن خواصه الخصيصين ومن الفقهاء المجاهرين في نشر الحق، قتله الحجاج بعد قطع يديه ورجليه لولايته لأهل البيت (عليهم السلام) .

للمخالفين في أموال المؤمنين، ثم سألته أن يصلي عليها وأن يتولى أمرها، ثم صارت المرأة ميتة كما كانت(1).

اقطع يده!

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن امرأة كانت تطوف وخلفها رجل فأخرجت ذراعها فقال بيده حتى وضعها على ذراعها، فأثبت اللّه يده في ذراعها حتى قُطع الطواف، وأرسل إلى الأمير، واجتمع الناس وأرسل إلى الفقهاء، فجعلوا يقولون: اقطع يده فهو الذي جنا الجناية. فقال الأمير: أهاهنا أحد من ولد محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ فقالوا: نعم، الحسين بن علي (عليه السلام) قدم الليلة.

فأرسل إليه فدعاه، فقال: انظر ما لقيا ذان، فاستقبل (عليه السلام) القبلة ورفع يديه فمكث طويلاً يدعو، ثم جاء إليهما حتى خلص يده من يدها.

فقال الأمير: ألا نعاقبه بما صنع؟ قال (عليه السلام) : لا»(2).

هذا منهم

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «إذا أراد الحسين (عليه السلام) أن يُنفذ غلمانه في بعض أموره قال لهم: «لا تخرجوا يوم كذا، واخرجوا يوم كذا، فإنكم إن خالفتموني قُطع عليكم». فخالفوه مرة وخرجوا فقتلهم اللصوص وأخذوا ما معهم، واتصل الخبر بالحسين (عليه السلام) فقال: «لقد حذّرتهم فلم يقبلوا مني» ثم قام (عليه السلام) من ساعته ودخل على الوالي، فقال الوالي: يا أبا عبد اللّه بلغني قُتل غلمانك فآجرك اللّه فيهم، فقال الحسين (عليه السلام) : «فإني أدلّك على من قتلهم فاشدد يدك

ص: 50


1- مدينة المعاجز: ج3 ص507-508 فصل64 ح77.
2- تهذيب الأحكام: ج5 ص470 باب من الزيادات في فقه الحج ح293.

بهم»، قال: أو تعرفهم يا ابن رسول اللّه؟ قال (عليه السلام) : «نعم كما أعرفك، وهذا منهم»، وأشار (عليه السلام) بيده إلى رجل واقف بين يدي الوالي، فقال الرجل: ومن أين قصدتني بهذا، ومن أين تعرف أني منهم؟ فقال له الحسين (عليه السلام) : «إن أنا صدقتك تصدقني»، فقال الرجل: نعم، واللّه لأصدقنك، فقال (عليه السلام) : «خرجت ومعك فلان وفلان» وذكرهم كلهم «فمنهم أربعة من موالي المدينة والباقون من حبشان المدينة...» فقال الرجل: واللّه ما كذب الحسين (عليه السلام) وقد صدق وكأنه كان معنا، فجمعهم الوالي جميعاً، فأقروا جميعاً، فضرب أعناقهم»(1).

استجابة دعائه (عليه السلام)

في صبيحة عاشوراء أقبل رجل من تيم يقال له عبد اللّه بن جويرة فقال وقال: يا حسين، فقال (صلوات اللّه عليه): «ما تشاء»؟ فقال: أبشر بالنار!! فقال (عليه السلام) : «كلاّ إني أقدم على ربّ غفور، وشفيع مطاع، وأنا من خير وإلى خير، من أنت»؟

قال: أنا ابن جويرة.

فرفع يده الحسين (عليه السلام) حتى رأينا بياض إبطيه وقال: «اللّهم جرّه إلى النار».

فغضب ابن جويرة فحمل عليه فاضطرب به فرسه في جدول وتعلّق رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذ يعدو به ويضرب رأسه بكل حجر وشجر وانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقاً في الركاب، فصار (لعنه اللّه) إلى نار الجحيم(2).

وفي رواية أن رجلاً من كلب رمى الإمامَ الحسين (عليه السلام) بسهم فشك شدقه(3)،

ص: 51


1- انظر الخرائج والجرائح: ج1 ص247 باب معجزات الحسين بن علي (عليهما السلام) ح3.
2- عيون المعجزات: ص57.
3- الشدق: جانب الفم.

فقال الحسين (عليه السلام) : «لا أرواك اللّه» فعطش الرجل حتى ألقى نفسه في الفرات وشرب حتى مات(1).

وعن ابن بابويه(2): نادى رجل: يا حسين إنك لن تذوق من الفرات قطرة حتى تموت أو تنزل على حكم الأمير! فقال الحسين (عليه السلام) : «اللّهم اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً» فغلب عليه العطش، فكان يعب المياه ويقول: واعطشاه حتى تقطع(3).

وروي أن الإمام الحسين (عليه السلام) دعا وقال: «اللّهمّ إنا أهلُ بيت نبيك وذُريتُهُ وقرابَتُه، فاقصِمْ مَنْ ظَلَمَنا وَغَصَبَنا حَقَّنا، إنك سميعٌ قريب»..

فقال محمد بن الأشعث(4): وأي قرابة بينك وبين محمد؟!

فقرأ الحسين (عليه السلام) : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ}(5) ثم قال: «اللّهم أرني فيه في هذا اليوم ذُلاً عاجلاً»

ص: 52


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص214 باب إمامة أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) .
2- هو الشيخ الجليل محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق، شيخ الشيعة وفقيهها ووجهها، صاحب التآليف المشهورة، المتوفى سنة 381ه- وفضائله كثيرة، وقد نقل عنه ابن شهرآشوب في المناقب هذا المقطع من كتابه مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وهو من الكتب المفقودة للأسف.
3- بحار الأنوار: ج45 ص301 ب46 ح2.
4- محمد بن الأشعث بن قيس الكندي: من أسرة معادية للإسلام وأهل البيت (عليهم السلام) ، وهو ابن أخت أبي بكر، وهو الذي حاصر مسلم بن عقيل (عليه السلام) واعتقله وخانه ولم يف بما أعطاه من أمان، وخرج في حرب الحسين (عليه السلام) ، وكان من أمراء جيش ابن سعد، وأما والده فهو الأشعث بن قيس الذي كان من المنافقين وقد ارتد بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصحب أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم صار خارجياً ملعوناً ودعا عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) ومسجده في الكوفة من المساجد الملعونة، وابنته وهي أخت محمد المذكور (جعدة) وهي التي سمت الإمام الحسن (عليه السلام) بدسيسة من معاوية بن أبي سفيان.
5- سورة آل عمران: 33-34.

فبرز ابن الأشعث للحاجة فلسعته عقرب على ذكره فسقط وهو يستغيث ويتقلب على حدثه(1).

وروي أن الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه) قال لعمر بن سعد: «إن مما يقرّ لعيني أنك لا تأكل من بُر العراق بعدي إلاّ قليلاً» فقال (لعنه اللّه) مستهزئاً: يا أبا عبد اللّه في الشعير خلف، فكان كما قال (عليه السلام) لم يصل إلى الري وقتله المختار»(2).

وجاء رجل فقال: أين الحسين؟ فقال (عليه السلام) : «ها أنا ذا»، قال: أبشر بالنار تردها الساعة!!، قال (عليه السلام) : «بل أبشر برب رحيم وشفيع مطاع، من أنت»؟ قال: أنا محمد بن الأشعث، قال: «اللّهم إن كان عبدك كاذباً فخذه إلى النار واجعله اليوم آية لأصحابه» فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرسه فرمى به وثبتت رجله في الركاب فضربه حتى قطعه ووقعت مذاكيره في الأرض، فو اللّه لقد عجبنا من سرعة إجابة دعائه (عليه السلام) .

ثم جاء آخر فقال: أين الحسين؟ فقال (عليه السلام) : «ها أنا ذا»، قال: أبشر بالنار!

قال (عليه السلام) : «أبشر برب رحيم وشفيع مطاع، من أنت؟» قال: أنا شمر بن ذي الجوشن، قال الحسين (عليه السلام) :«اللّه أكبر، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : رأيت كأن كلباً أبقع يلغ في دماء أهل بيتي، وقال الحسين (عليه السلام) : رأيت كأن كلاباً تنهشني وكان فيها كلباً أبقع كان أشدهم عليّ وهو أنت».. وكان الشمر (لعنه اللّه) أبرص(3).

ص: 53


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص615 ب10 من أبواب أحوال قاتليه ح5.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص213 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
3- مثير الأحزان: ص47-48.

13

الكتاب العزيز

اشارة

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم المفسرون للقرآن الكريم، وهم الذين قاموا بحفظه وبينوا علومه للناس، وأكدوا على ضرورة الاهتداء بهديه، وهم (عليهم السلام) عِدل الكتاب العزيز، حيث قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(1)، وقد وردت آيات عديدة في حقهم (عليهم السلام) ..

آيات في الإمام (عليه السلام)

الآيات النازلة في الإمام الحسين (عليه السلام) أو المؤولة أو المفسرة به (عليه السلام) كثيرة، منها:

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ}(2) قال: «نزلت في الحسين بن علي (عليه السلام) كتب اللّه عليه وعلى أهل الأرض أن يقاتلوا معه»(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الكبائر سبعة، فينا أنزلت ومنا استحلت... وأما قتل النفس التي حرّم اللّه(4) فقد قتلوا الحسين (صلوات اللّه عليه)

ص: 54


1- كمال الدين: ص234 ب22 ح44.
2- سورة النساء: 77.
3- تفسير العياشي: ج1 ص258 ح198.
4- قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} سورة الإسراء: 33. وقال عزوجل: {الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} سورة الفرقان: 68.

وأصحابه»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وادْخُلِي جَنَّتِي}(2)، «يعني الحسين بن علي (عليه السلام) »(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما حملت فاطمة (عليها السلام) بالحسين (عليه السلام) جاء جبرئيل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: إن فاطمة (عليها السلام) ستلد ولداً تقتله أمتك من بعدك، فلما حملت فاطمة الحسين (عليهما السلام) كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه(4)، ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : هل رأيتم في الدنيا أماً تلد غلاماً فتكرهه؟ ولكنها كرهته لأنها علمت أنه سيُقتل، قال (عليه السلام) وفيه نزلت هذه الآية: {ووَصَّيْنَا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحْسَانَاً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ووَضَعَتْهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}(5)(6).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «نزلت هذه الآية في الحسين (عليه السلام) : {ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} قاتل الحسين(7) {إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} قال: الحسين (عليه السلام) »(8).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلايُسْرِفْ

ص: 55


1- علل الشرائع: ج2 ص474-475 ب223 ح1.
2- سورة الفجر: 27-30.
3- تفسير القمي: ج2 ص422.
4- أي كرهت حين حمله وحين وضعه ما يرد عليه. منه+.
5- سورة الأحقاف: 15.
6- كامل الزيارات: ص122 ب16 ح4.
7- أي فلا يسرف في قتل قاتل الحسين (عليه السلام) ومن يرضى بقتله.
8- تفسير نور الثقلين: ج3 ص163 ح200.

فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً}(1) قال: «هو الحسين بن علي (عليه السلام) قُتل مظلوماً ونحن أولياؤه، والقائم (عليه السلام) منّا إذا قام طلب بثأر الحسين (عليه السلام) ، فيقتل حتى يُقال: قد أسرف في القتل، وقال: (المقتول) الحسين (عليه السلام) و(وليه) القائم (عليه السلام) و(الإسراف في القتل) أن يقتل غير قاتله (إنه كان منصوراً) فإنه لا يذهب من الدنيا حتى ينتصر برجل من آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه: {الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}(3) قال: «نزل في علي وجعفر وحمزة وجرت في الحسين بن علي عليهم السلام والتحية والإكرام»(4).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ}(5) قال: «حسب(6)

فرأى ما يحل بالحسين (عليه السلام) فقال: إني سقيم لما يحل بالحسين (عليه السلام) »(7).

وعن محمد بن مسلم(8) قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد (عليهما السلام) يقولان:

ص: 56


1- سورة الإسراء: 33.
2- تفسير العياشي: ج2 ص291 ح67.
3- سورة الحج: 40.
4- بحار الأنوار: ج22 ص282 باب5 من أبواب مايتعلق به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ح40.
5- سورة الصافات: 88-89.
6- أي إبراهيم (عليه السلام) .
7- الكافي: ج1 ص465 باب مولد الحسين بن علي (عليهما السلام) ح5.
8- محمد بن مسلم بن رياح أبو جعفر، وجه الشيعة، فقيه ورع ثقة، عين من أصحاب الإمام الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) مات سنة 150ه- ومناقبه كثيرة.

«إن اللّه تعالى عوّض الحسين (عليه السلام) من قتله: أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره». قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) هذه الخلال تنال بالحسين (عليه السلام) فما له هو في نفسه؟

قال: «إن اللّه تعالى ألحقه (عليه السلام) بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكان معه في درجته ومنزلته».

ثم تلا أبو عبد اللّه (عليه السلام) : {والّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}(1)»(2).

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي (عليه السلام) ، وارغبوا فيها رحمكم اللّه» فقال له أبو أسامة(3) - وكان حاضرا المجلس -: كيف صارت هذه السورة للحسين (عليه السلام) خاصة؟ فقال: ألا تسمع إلى قوله تعالى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وادْخُلِي جَنَّتِي}(4)، إنما يعني الحسين بن علي صلوات اللّه عليهما، فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية، وأصحابه من آل محمد (صلوات اللّه عليهم) الراضون عن اللّه يوم القيامة وهو راض عنهم، وهذه السورة نزلت في الحسين بن علي (عليه السلام) وشيعته وشيعة آل محمد (عليهم السلام) ، خاصة من

ص: 57


1- سورة الطور: 21.
2- بشارة المصطفى:ج7 ص327 ح14.
3- يحتمل قوياً أنه زيد بن يونس الشحام إمامي من أصحاب الإمام الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) ثقة، ومن خواص الإمام الصادق (عليه السلام) ، ومن الرجال الذين مدحهم ووثقهم المفيد (رحمه اللّه) في رسالته العددية.
4- سورة الفجر: 27-30.

أدمن قراءة {والفجر} كان مع الحسين بن علي (عليه السلام) في درجته في الجنة إن اللّه عزيز حكيم»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: {وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}(2) قال: «نزلت في الحسين بن علي (عليه السلام) »(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ}(4) قال: «الحسين بن علي (عليه السلام) منهم ولم ينصر بعدُ» ثم قال: «واللّه لقد قُتل قتلة الحسين ولم يطلب بدمه بعدُ»(5).

ص: 58


1- تأويل الآيات: ج2 ص797 ح8.
2- سورة التكوير: 8-9.
3- كامل الزيارات: ص134 ب18 ح3.
4- سورة غافر: 51.
5- كامل الزيارات: ص134 ب18 ح2.

14

العترة الطاهرة (عليهم السلام)

اشارة

كان الإمام الحسين (عليه السلام) كجدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكد على ضرورة الاقتداء بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) والاهتداء بهديهم.

عن موسى بن عقبة(1)

قال: لقد قيل لمعاوية: إن الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين (عليه السلام) ، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب، فإن فيه حصراً أو في لسانه كلالة(2)، فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن (عليه السلام) ، فلم يزل حتى عظم في أعين الناس وفضحنا.

فلم يزالوا به حتى قال للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد اللّه لو صعدت المنبر فخطبت.

فصعد الحسين (عليه السلام) المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم صلّى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. فسمع رجلاً يقول: من هذا الذي يخطب؟

فقال الحسين (عليه السلام) : «نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأقربون، وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثاني كتاب اللّه تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شي ء، {لا يَأتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ

ص: 59


1- موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني: تابعي من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) .
2- هكذا كانت الدعايات تحاك ضد أهل البيت (عليهم السلام) والحال أنهم أفصح الناس وأبلغهم..

ولا مِنْ خَلْفِهِ}(1) والمعوّل علينا في تفسيره، ولا يبطينا تأويله، بل نتبع حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرنة، قال اللّه عزوجل: {أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ}(2) وقال: {ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً}(3) وأحذّركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم ف- {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(4) فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: {لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ}(5) فتلقون للسيوف ضرباً وللرماح ورداً وللعمد حطماً وللسهام غرضاً ثم لا يقبل من نفس إيمانها {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً}(6).

قال معاوية: حسبك يا أبا عبد اللّه قد بلغت(7).

علي وعلي وعلي

لما استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة، وأمره أن يفرض لشباب قريش(8)، ففرض لهم، قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «فأتيته»، فقال: ما اسمك؟

ص: 60


1- سورة فصلت: 42.
2- سورة النساء: 59.
3- سورة النساء: 83.
4- سورة البقرة: 168.
5- سورة الأنفال: 48.
6- سورة الأنعام: 158.
7- الاحتجاج: ج2 ص22-23 باب احتجاجه (عليه السلام) بإمامته على معاوية..
8- أي يجعل لهم عطية.

فقلت: «علي بن الحسين» فقال: ما اسم أخيك؟ فقلت: «علي» فقال: علي وعلي، ما يريد أبوك أن يدع أحداً من ولده إلاّ سمّاه علياً!، ثم فرض لي فرجعت إلى أبي (عليه السلام) فأخبرته، فقال (عليه السلام) : «ويلي على ابن الزرقاء(1) دباغة الأدم، لو وُلد لي مائة لأحببت أن لا أسمي أحداً منهم إلاّ علياً»(2).

وقال يزيد لعلي بن الحسين (عليه السلام) : وا عجباً لأبيك سمى علياً وعلياً!

فقال (عليه السلام) : «إن أبي أحبّ أباه فسمّى باسمه مراراً»(3).

ص: 61


1- الزرقاء بنت موهب، جدة مروان بن الحكم كانت تدعو الرجال لنفسها بسوق ذي المجاز، وكانت من ذوات الرايات في سوق عكاظ.
2- الكافي: ج6 ص19 باب الأسماء والكنى ح7.
3- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص309 باب إمامة علي بن الحسين (عليه السلام) .

15

الملائكة والإخبار بالشهادة

إن اللّه عزوجل هو أول من أخبر بشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وذلك قبل أن يولد الإمام (عليه السلام) بآلاف السنين بل أكثر، وفي الروايات: إن اللّه أخبر جبرائيل (عليه السلام) بقصة عاشوراء، وجبرائيل أخبر النبي آدم (عليه السلام) (1)..

وهكذا علمت الملائكة بفاجعة كربلاء قبل وقوعها وأخبرت الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) بذلك.

روي أن عظيماً من عظماء الملائكة استأذن ربّه عز وجل في زيارة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأذن له، فبينما هو عنده إذ دخل عليه الحسين (عليه السلام) فقبّله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأجلسه في حجره، فقال له الملك: أتحبه؟

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أجل أشدّ الحب إنه ابني».

قال له: إن أمتك ستقتله!

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أمتي تقتل ولدي ابني هذا»؟

قال: نعم، وإن شئت أريتك من التربة التي يُقتل عليها.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «نعم» فأراه تربة حمراء طيبة الريح، فقال: إذا صارت هذه التربة

ص: 62


1- الخصائص الحسينية: ص189-190 المجلس الأول فيما انعقد له من المجالس بعد خلق آدم (عليه السلام) وقبل ولادة الحسين (عليه السلام) .

دماً عبيطاً فهو علامة قتل ابنك هذا.

قال سالم بن أبي الجعد(1): أُخبرت أن الملك كان ميكائيل (عليه السلام) (2).

وعن سليمان قال: وهل بقي في السماوات ملك لم ينزل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعزّيه بولده الحسين (عليه السلام) ويخبره بثواب اللّه إياه، ويحمل إليه تربته مصروعاً عليها، مذبوحاً مقتولاً، جريحاً طريحاً مخذولاً، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اخذل من خذله، واقتل من قتله، واذبح من ذبحه، ولا تمتعه بما طلب»(3).

وفي حديث: «لم يبق ملك إلاّ نزل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعزّونه، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: اللّهم اخذل خاذليه، واقتل قاتليه، ولا تمتعه بما طلبه»(4).

وروي عن أم سلمة قالت: دخل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم ودخل في أثره الحسن والحسين (عليهما السلام) وجلسا إلى جانبيه، فأخذ الحسن (عليه السلام) على ركبته اليمنى، والحسين (عليه السلام) على ركبته اليسرى، وجعل يقبّل هذا تارة، وهذا أخرى، وإذا بجبرئيل قد نزل وقال: يارسول اللّه إنك لتحب الحسن والحسين؟ فقال: وكيف لا أحبهما وهما ريحانتاي من الدنيا، وقرتا عيني، فقال جبرئيل: يا نبي اللّه إن اللّه قد حكم عليهما بأمر فاصبر له، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وما هو يا أخي؟ فقال: قد حكم على هذا.. الحسن أن يموت مسموماً، وعلى هذا.. الحسين أن يموت مذبوحاً، وإن لكل نبي دعوة مستجابة فإن شئت كانت دعوتك لولديك الحسن والحسين فادع اللّه أن يسلمهما من السم والقتل، وإن شئت كانت مصيبتهما ذخيرة في

ص: 63


1- سالم بن أبي الجعد الأشجعي: إمامي ثقة من أصحاب أمير المؤمنين ومن خواصه والسجاد (عليهما السلام) .
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص314 ح639.
3- كامل الزيارات: ص132 ب17 ح8.
4- مثير الأحزان: ص8.

شفاعتك للعصاة من أمتك يوم القيامة.

فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا جبرئيل أنا راض بحكم ربي لا أريد إلاّ ما يريده، وقد أحببت أن تكون دعوتي ذخيرة لشفاعتي في العصاة من أمتي ويقضي اللّه في ولدي ما يشاء»(1).

ص: 64


1- بحار الأنوار: ج44 ص242-243 ب30 ح35.

الأنبياء (عليهم السلام) وقصة عاشوراء

كلمات اللّه

روي في تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ}(1) أن آدم (عليه السلام) رأى ساق العرش وأسماء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، فلقّنه جبرئيل قل: (يا حميد بحق محمد، يا عالي بحق علي، يا فاطر بحق فاطمة، يا محسن بحق الحسن والحسين، ومنك الإحسان)، فلما ذكر الحسين (عليه السلام) سالت دموعه وانخشع قلبه وقال: يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟! قال جبرئيل: ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، فقال: يا أخي وما هي؟ قال: يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه.. وا قلة ناصراه.. حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحد إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحلَه أعداؤه، وتشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنان، فبكى آدم (عليه السلام) وجبرئيل بكاء الثكلى(2).

ص: 65


1- سورة البقرة: 37.
2- بحار الأنوار: ج44 ص245 ب30 ح44.

سفينة نوح (عليه السلام)

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لما أراد اللّه أن يهلك قوم نوح (عليه السلام) أوحى إليه: أن شق ألواح الساج، فلما شقّها لم يدر ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة، ومعه تابوت بها مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمر بالمسامير كلها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يضي ء الكوكب الدرّي في أفق السماء، فتحير نوح (عليه السلام) فأنطق اللّه المسمار بلسان طلق ذلق فقال: أنا على اسم خير الأنبياء محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهبط جبرئيل فقال (عليه السلام) له: يا جبرئيل ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟ فقال: هذا باسم سيد الأنبياء محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسمره على أولها على جانب السفينة الأيمن.

ثم ضرب بيده إلى مسمار ثان فأشرق وأنار، فقال نوح (عليه السلام) وما هذا المسمار؟ فقال: هذا مسمار أخيه وابن عمه سيد الأوصياء علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأسمره على جانب السفينة الأيسر في أولها.

ثم ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار، فقال جبرئيل: هذا مسمار فاطمة (عليها السلام) فأسمره إلى جانب مسمار أبيها.

ثم ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار، فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسن (عليه السلام) فأسمره إلى جانب مسمار أبيه.

ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة، فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين (عليه السلام) فأسمره إلى جانب مسمار أبيه.

فقال نوح: يا جبرئيل ما هذه النداوة؟ فقال: هذا الدم، فذكر قصة

ص: 66

الحسين (عليه السلام) وما تعمل الأمة به، لعن اللّه قاتله وظالمه وخاذله»(1).

نوح (عليه السلام) في كربلاء

روي أن نوحاً (عليه السلام) لما ركب في السفينة طافت به جميع الدنيا، فلما مرت بكربلاء أخذته الأرض وخاف نوح (عليه السلام) الغرق، فدعا ربّه وقال: إلهي طفت جميع الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض؟.

فنزل جبرئيل وقال: يا نوح في هذا الموضع يُقتل الحسين (عليه السلام) سبط محمد خاتم الأنبياء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن خاتم الأوصياء (عليه السلام) .

فقال: ومن القاتل له يا جبرئيل؟

قال: قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين، فلعنه نوح أربع مرات، فسارت السفينة حتى بلغت الجودي(2)

واستقرت عليه»(3).

كهيعص

عن سعد بن عبد اللّه(4) قال: سألت القائم (عليه السلام) (5): أخبرني يا ابن رسول اللّه عن تأويل{كهيعص}(6)، قال (عليه السلام) : «هذه الحروف من أنباء الغيب اطلع اللّه عليها

ص: 67


1- نوادر المعجزات: ص64-65 ب1 ح29.
2- جاء في مجمع البحرين: (الجودي اسم للجبل الذي وضعت عليه سفينة نوح (عليه السلام) ، قيل: هو بناحية الشام أو آمد، وقيل: بالموصل، وقيل: بالجزيرة ما بين دجلة والفرات، وفي الحديث: هو فرات الكوفة وهو الأصح). والحديث المشار إليه مروي في الكافي: ج8 ص279-281 ح421.
3- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص102 ب1 من إخبار اللّه تعالى أنبياءه.. ح2.
4- سعد بن عبداللّه الأشعري: شيخ الطائفة وفقيهها ووجهها، جليل القدر، واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) وممن تشرف برؤية الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
5- للتفصيل عن لقاء سعد بالقائم(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) راجع كمال الدين: ص454-459 ح21.
6- سورة مريم: 1.

عبده زكريا (عليه السلام) ، ثم قصها على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وذلك أن زكريا (عليه السلام) سأل اللّه ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة (عليهم السلام) ، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلّمه إياها، فكان زكريا (عليه السلام) إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن (عليهم السلام) سري عنه همّه وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين (عليه السلام) خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة(1)، فقال (عليه السلام) ذات يوم:يا إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليتُ بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين (عليه السلام) تدمع عيني وتثور زفرتي؟

فأنبأه اللّه تبارك وتعالى عن قصته، فقال: {كهيعص}، فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة الطاهرة، والياء يزيد وهو ظالم الحسين، والعين عطشه، والصاد صبره، فلما سمع ذلك زكريا (عليه السلام) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير خلقك بولده، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس علياً وفاطمة (عليهما السلام) ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحل كربة هذه المصيبة بساحتهما؟

ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، وأجعله وارثاً وصياً، واجعل محله مني محل الحسين (عليه السلام) ، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه ثم أفجعني به كما تفجع محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حبيبك بولده.

فرزقه اللّه يحيى (عليه السلام) وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك(2).

ص: 68


1- وهي تتابع النفس.
2- كمال الدين: ص461 ب43 ح21.

إبراهيم الخليل (عليه السلام)

عن الفضل(1)

قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول:«لما أمر اللّه عزوجل إبراهيم (عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل (عليه السلام) الكبش الذي أنزله عليه، تمنى إبراهيم (عليه السلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، وأنه لم يُؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعز ولده عليه بيده فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب.

فأوحى اللّه عزوجل إليه: يا إبراهيم من أحب خلقي إليك؟

فقال: يا رب ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ من حبيبك محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فأوحى اللّه تعالى إليه: أفهو أحب إليك أم نفسك؟

قال: بل هو أحبّ إلي من نفسي.

قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا رب بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد ستقتل الحسين (عليه السلام) ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي، فجزع إبراهيم (عليه السلام) لذلك وتوجع قلبه وأقبل يبكي..

فأوحى اللّه عزوجل إليه: يا إبراهيم قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو

ص: 69


1- من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) ، إمامي ثقة جليل القدر فقيه متكلم.

ذبحته بيدك بجزعك على الحسين (عليه السلام) وقتله، وأوجبتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، وذلك قول اللّه عز وجل: {وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}(1)(2).

عند شط الفرات

روي أن إسماعيل (عليه السلام) كانت أغنامه ترعى بشط الفرات، فأخبره الراعي أنها لاتشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً.

فسأل (عليه السلام) ربّه عن سبب ذلك؟

فنزل جبرئيل وقال: يا إسماعيل سل غنمك فإنها تجيبك عن سبب ذلك!.

فقال لها: لم لا تشربين من هذا الماء؟

فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أن ولدك الحسين (عليه السلام) سبط محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُقتل هنا عطشاناً فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزناً عليه.

فسألها عن قاتله؟.

فقالت: يقتله لعين أهل السماوات والأرضين والخلائق أجمعين.

فقال إسماعيل: اللّهم العن قاتل الحسين (عليه السلام) (3).

صادق الوعد

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن إسماعيل الذي قال اللّه عز وجل في كتابه: {واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وكانَ رَسُولاً نَبِيًّا}(4) لم يكن إسماعيل

ص: 70


1- سورة الصافات: 107.
2- الخصال: ص58-59 ح79.
3- بحار الأنوار: ج44 ص243-244 ب30 ح40.
4- سورة مريم: 54.

بن إبراهيم (عليهما السلام) ، بل كان نبياً من الأنبياء بعثه اللّه عزوجل إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك فقال: إن اللّه عزوجل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي أسوة بما يُصنع بالحسين (عليه السلام) »(1).

عيسى (عليه السلام) في كربلاء

روي أن عيسى (عليه السلام) كان سائحاً في البراري ومعه الحواريون، فمروا بكربلاء فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق، فتقدم عيسى (عليه السلام) إلى الأسد فقال له: لم جلست في هذا الطريق.. ولا تدعنا نمر فيه؟ فقال الأسد بلسان فصيح: إني لم أدع لكم الطريق حتى تلعنوا يزيد قاتل الحسين (عليه السلام) ، فقال عيسى (عليه السلام) : ومن يكون الحسين (عليه السلام) ؟ قال: هو سبط محمد النبي الأمي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن علي الولي (عليه السلام) قال: ومن قاتله؟ قال: قاتله لعين الوحوش والذباب والسباع أجمع، خصوصاً أيام عاشوراء، فرفع عيسى (عليه السلام) يديه ولعن يزيد ودعا عليه، وأمّن الحواريون على دعائه، فتنحى الأسد عن طريقهم ومضوا لشأنهم(2).

أقول: ربما كان الأسد ملكاً من ملائكة اللّه تمثل بهذه الصورة.

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: «يا ابن عباس... إن عيسى بن مريم (عليه السلام) مر بكربلاء ومعه الحواريون فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسى (عليه السلام) وجلس الحواريون معه فبكى وبكى الحواريون وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى؟ فقالوا: يا روح اللّه وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أي أرض هذه؟ قالوا: لا، قال: هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 71


1- علل الشرائع: ج1 ص78 ب67 ح2.
2- بحار الأنوار: ج44 ص244-245 ب30 ح43.

وفرخ الحرة الطاهرة البتول (عليها السلام) شبيهة أمي ويُلحد، فيها طينة أطيب من المسك، لأنها طينة الفرخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم السلام) »(1).

بساط سليمان (عليه السلام)

روي أن سليمان (عليه السلام) كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمر ذات يوم وهو سائر في أرض كربلاء فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خاف السقوط، فسكنت الريح ونزل البساط في أرض كربلاء، فقال سليمان (عليه السلام) : للريح لم سكنتي؟

فقالت: إن هنا يُقتل الحسين (عليه السلام) .

فقال: ومن يكون الحسين؟

فقالت: هو سبط محمد المختار (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن علي الكرار (عليه السلام) .

فقال: ومن قاتله؟

قالت: لعين أهل السماوات والأرض يزيد.

فرفع سليمان (عليه السلام) يديه ولعنه ودعا عليه، وأمّن على دعائه الإنس والجن فهبت الريح وسار البساط(2).

ص: 72


1- راجع الأمالي، للشيخ الصدوق: ص695 المجلس87 ح5.
2- بحار الأنوار: ج44 ص244 ب30 ح42.

17

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويوم الحسين (عليه السلام)

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يذكّر المسلمين بمقتل الحسين (عليه السلام) ويبكي على مصاب ولده، وذلك منذ ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) وحتى رحيل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ..

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسين (عليه السلام) جاء جبرئيل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: إن أمتك تقتل الحسين من بعدك، ثم قال: ألا أريك من تربته، فضرب بجناحه فأخرج من تربة كربلاء وأراها إياه، ثم قال: هذه التربة التي يُقتل عليها»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يَقتل الحسينَ شرُّ الأمة، ويتبرء من ولده من يكفر بي»(2).

وعن أنس(3) قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إن ابني هذا يُقتل بأرض العراق، فمن أدركه منكم فلينصره، فحضر أنس مع الحسين (عليه السلام) كربلاءَ وقُتل

ص: 73


1- كامل الزيارات: ص130 ب17 ح6.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص69 ب31 ح277.
3- أنس بن الحارث الكوفي الكاهلي: من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) روى عنه أشعث بن أبي الشعثاء سليم المحاربي عن أبيه سليم المحاربي، والبعض ذكره بلفظ سحيم وهو غير صحيح، والرواية مروية في كتب العامة أيضاً، انظر: أسد الغابة: ج1 ص123 وغيره من المصادر.

معه»(1).

وعن أبي عبد اللّه جعفر (عليه السلام) قال: «كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بيت أم سلمة، فقال لها: لا يدخل عليّ أحد، فجاء الحسين (عليه السلام) وهو طفل، فما ملكتُ معه شيئاً حتى دخل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدخلت أم سلمة على أثره، فإذا الحسين (عليه السلام) على صدره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإذا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي، وإذا في يده شي ء يقلبه، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أم سلمة، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول! وهذه التربة التي يُقتل عليها، فضعيها عندك فإذا صارت دماً فقد قُتل حبيبي.

فقالت أم سلمة: يا رسول اللّه، سل اللّه أن يدفع ذلك عنه.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قد فعلت فأوحى اللّه عزوجل إليّ أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن له شيعة يشفعون فيشفعون، وأن المهدي (عليه السلام) من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين (عليه السلام) وشيعته، هم واللّه الفائزون يوم القيامة»(2).

وعن ابن عباس قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل جنة عدن منزلي، ويمسك قضيباً غرسه ربي عزوجل، ثم قال له: كن فكان، فليتول علي بن أبي طالب (عليه السلام) وليأتم بالأوصياء من ولده، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، إلى اللّه أشكو أعداءهم من أمتي، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، وأيم اللّه ليُقتلن ابني بعدي الحسين، لا أنالهم اللّه شفاعتي»(3).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة.

ص: 74


1- مثير الأحزان: ص8.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص204 المجلس29 ح3.
3- بحار الأنوار: ج44 ص257 ب31 ح6.

18

فاطمة الزهراء ومقتل ولدها (عليهما السلام)

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسين (عليه السلام) أخبرها أبوها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن أمته ستقتله من بعده، قالت: ولا حاجة لي فيه، فقال: إن اللّه عز وجل قد أخبرني أن يجعل الأئمة (عليهم السلام) من ولده، قالت: قد رضيت يا رسول اللّه»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان الحسين (عليه السلام) مع أمه (عليها السلام) تحمله، فأخذه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: لعن اللّه قاتلك ولعن اللّه سالبك، وأهلك اللّه المتوازرين عليك، وحكم اللّه بيني وبين من أعان عليك، قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام) : يا أبت أي شي ء تقول؟ قال: يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم، قالت: يا أبة وأين هذا الموضع الذي تصف؟ قال: موضع يقال له كربلاء وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة، يخرج عليهم شرار أمتي،ولو أن أحدهم شفع له من في السماوات والأرضين ما شفعوا فيه وهم المخلدون في النار، قالت: يا أبة فيُقتل؟ قال: نعم يا بنتاه، وما قُتل قتلته أحد كان قبله، ويبكيه السماوات والأرضون والملائكة

ص: 75


1- كمال الدين: ص415 ب40 ح6.

والوحش والنباتات والبحار والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفس، ويأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم باللّه ولا أقوم بحقنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً أعرفهم إذا وردوا عليّ بسيماهم، وكل أهل دين يطلبون أئمتهم وهم يطلبوننا لايطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض وبهم ينزل الغيث.

فقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام) : يا أبة إنا لله، وبكت.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها: يا بنتاه إن أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا بذلوا {أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا}(1)، فما عند اللّه خير من الدنيا وما فيها، قتلة أهون من ميتة، ومن كتب عليه القتل خرج إلى مضجعه ومن لم يُقتل فسوف يموت، يا فاطمة بنت محمد أما تحبين أن تأمرين غداً بأمر فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟ أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار، يأمر النار فتطيعه، يخرج منها من يشاء، ويترك من يشاء؟ أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعلك وقد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند اللّه، فما ترين اللّه صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجته على الخلائق، وأمرت النار أن تطيعه؟ أما ترضين

ص: 76


1- سورة التوبة: 111.

أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كل شي ء؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان اللّه، ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت اللّه واعتمر، ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي، ولم يزل في حفظ اللّه وأمنه حتى يفارق الدنيا؟

قالت: يا أبة سلمت ورضيت وتوكلت على اللّه، فمسح (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على قلبها ومسح عينيها وقال: إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقر عيناك ويفرح قلبك»(1).

ص: 77


1- تفسير فرات الكوفي: ص171سورة التوبة: (111) ح219/18.

19

أئمة أهل البيت والإمام الحسين (عليهم السلام)

اشارة

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بدءً بأمير المؤمنين (عليه السلام) وانتهاءً بالإمام المهدي (عليه السلام) كانوا يبكون دائماً على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) ويؤكدون وفي مختلف المناسبات على فاجعة كربلاء وضرورة الاهتمام بها، ولزوم إحيائها بالبكاء والعزاء وإقامة المجالس وما أشبه.

الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «مرّ علي (عليه السلام) بكربلاء في اثنين من أصحابه، قال: فلما مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء، ثم قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم، وهاهنا تهراق دماؤهم، طوبى لكِ من تربة عليكِ تُهراق دماء الأحبة»(1).

وعن علي (عليه السلام) قال: «ليُقتل الحسين قتلاً، وإني لأعرف تربة الأرض التي يُقتل عليها قريباً من النهرين»(2).

وعن أبي عبد اللّه الجدلي(3) قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسين (عليه السلام)

ص: 78


1- قرب الاسناد: ص26 ح87 عن الإمام الصادق (عليه السلام) .
2- كامل الزيارات: ص15 ب23 ح5.
3- عبيد بن عبد: من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن خواصه، وقيل: إنه كان تحت راية المختار، وقد وثقه أبناء العامة أيضاً وقد روى جملة من الروايات في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنها مارواه عن أم سلمة أم المؤمنين (رضوان اللّه عليها) عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «من سبّ علياً فقد سبني».

إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين (عليه السلام) ثم قال: «إن هذا يُقتل ولا ينصره أحد» قال: قلت: يا أمير المؤمنين واللّه إن تلك لحياة سوء، قال (عليه السلام) : «إن ذلك لكائن»(1).

وعن عبد اللّه بن يحيى(2) قال: دخلنا مع علي (عليه السلام) إلى صفين فلما حاذى نينوى نادى: «صبراً يا أبا عبد اللّه» فقال: «دخلت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيناه تفيضان، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ما لعينيك تفيضان أغضبك أحد؟ قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أن الحسين (عليه السلام) يُقتل بشاطئ الفرات، وقال: هل لك أن أشمك من تربته؟ قلت: نعم، فمد يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا واسم الأرض كربلاء، فلما أتت عليه سنتان خرج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى سفر فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه فسُئل عن ذلك، فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشط الفرات يقال لها كربلاء يُقتل فيها ولدي الحسين وكأني أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأني أنظر على السبايا على أقتاب المطايا، وقد أهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد (لعنه اللّه) فو اللّه ما ينظر أحد إلى رأس الحسين (عليه السلام) ويفرح إلاّ خالف اللّه بين قلبه ولسانه وعذبه اللّه عذابا أليماً.

ثم رجع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين (عليهما السلام) وخطب ووعظ الناس، فلما فرغ من خطبته وضع يده

ص: 79


1- بحار الأنوار: ج44 ص261 ب31 ح15.
2- عبداللّه بن يحيى أبو الرضا الحضرمي: من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن السابقين المقربين منه (عليه السلام) ومن الأولياء والأركان في زمانه، وكان من شرطة الخميس هو وأبوه.

اليمنى على رأس الحسن (عليه السلام) ويده اليسرى على رأس الحسين (عليه السلام) وقال: اللّهم إن محمداً عبدك ورسولك وهذان أطايب عترتي وخيار أرومتي وأفضل ذريتي ومن أخلفهما في أمتي وقد أخبرني جبرئيل أن ولدي هذا مقتول بالسم والآخر شهيد مضرج بالدم، اللّهم فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء، اللّهم ولا تبارك في قاتله وخاذله وأصله حر نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال: فضج الناس بالبكاء والعويل، فقال لهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أيها الناس أتبكونه ولا تنصرونه؟ اللّهم فكن أنت له ولياً وناصراً، ثم قال: يا قوم إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي وأرومتي ومزاج مائي وثمرة فؤادي ومهجتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ألا وإني لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربي أن أسألكم عنه، أسألكم عن المودة في القربى، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتم أهل بيتي وظلمتموهم، ألا أنه سيرد عليّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة، الأولى راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة فتقف عليّ فأقول لهم: من أنتم؟ فينسون ذكري ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبي العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمتك، فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربي؟ فيقولون: أما الكتاب فضيعناه وأما العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض، فلما أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي، فيصدرون عطاشا مسودة وجوههم، ثم ترد عليّ راية أخرى أشد سواداً من الأولى فأقول لهم: كيف خلّفتموني من بعدي في الثقلين كتاب اللّه وعترتي؟ فيقولون: أما الأكبر فخالفناه وأما الأصغر فمزقناهم كل ممزق، فأقول: إليكم عني، فيصدرون عطاشا مسودة وجوههم، ثم ترد عليّ راية تلمع وجوههم نوراً فأقول لهم: من أنتم؟

ص: 80

فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمة محمد المصطفى ونحن بقية أهل الحق حملنا كتاب ربنا وحلّلنا حلاله وحرّمنا حرامه وأحببنا ذرية نبينا محمد ونصرناهم من كل ما نصرنا به أنفسنا وقاتلنا معهم من ناواهم، فأقول لهم: أبشروا فأنا نبيكم محمد، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم، ثم أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويين مستبشرين ثم يدخلون الجنة خالدين فيها أبد الآبدين»(1).

وعن ابن عباس قال: كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في خرجته إلى صفين، فلما نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته: يا ابن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السلام) : «لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي» قال: فبكى (عليه السلام) طويلاً حتى أخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معه وهو يقول: «أوه أوه ما لي ولآل أبي سفيان، ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر، صبراً يا أبا عبد اللّه، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم».

ثم دعا (عليه السلام) بماء فتوضأ وضوء الصلاة فصلّى ما شاء اللّه أن يصلي، ثم ذكر نحو كلامه الأول، إلاّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ثم انتبه فقال: «يا ابن عباس» فقلت: ها أنا ذا، فقال: «ألا أحدثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي»؟ فقلت: نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين.

قال (عليه السلام) : «رأيت كأني برجال بيض قد نزلوا من السماء معهم أعلام بيض قد تقلدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطة، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض، فرأيتها تضطرب بدم عبيط وكأني

ص: 81


1- بحار الأنوار: ج44 ص247-249 ب30 ح46.

بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه، يستغيث فلا يُغاث، وكان الرجال البيض قد نزلوا نزولاً من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آل الرسول فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنة يا أبا عبد اللّه إليك مشتاقة، ثم يعزونني ويقولون: يا أبا الحسن أبشر فقد أقر اللّه به عينك يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، ثم انتبهت هكذا والذي نفس علي بيده، لقد حدثني الصادق المصدق أبوالقاسم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أني سأمرّ بها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء يُدفن فيها الحسين (عليه السلام) وسبعة عشر رجلاً من ولدي وولد فاطمة (عليها السلام) وإنها لفي السماوات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس». ثم قال (عليه السلام) لي: «يا ابن عباس اطلب في حولها بعر الظباء، فو اللّه ما كَذبت ولاكُذّبت وهي مصفرة لونها لون الزعفران».

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة فناديته يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي، فقال علي (عليه السلام) : «صدق اللّه ورسوله، ثم قام علي (عليه السلام) يهرول إليها فحملها وشمها وقال: «هي هي بعينها(1)... الحديث.

وعن هرثمة بن أبي مسلم قال: غزونا مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) صفين فلما انصرفنا نزل بكربلاء فصلى بها الغداة ثم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال: «واهاً لك أيتها التربة ليحشرن منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب»(2).

وعن عبداللّه بن قيس قال: كنت مع من غزا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين وقد أخذ أبو أيوب الأعور السلمي الماء وحرزه عن الناس، فشكا المسلمون

ص: 82


1- مدينة المعاجز:ج2 ص165-168 فصل323 ح472.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص199 المجلس28 ح7.

العطش، فأرسل فوارس على كشفه فانحرفوا خائبين فضاق صدره فقال له ولده الحسين (عليه السلام) : أمضي إليه يا أبتاه؟ فقال: امض يا ولدي، فمضى مع فوارس فهزم أبا أيوب عن الماء وبنى خيمته وحط فوارسه وأتى إلى أبيه وأخبره، فبكى علي (عليه السلام) فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا أول فتح ببركة الحسين (عليه السلام) ؟

فقال: «ذكرت أنه سيُقتل عطشاناً بطف كربلاء حتى ينفر فرسه ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأمة قتلت ابن بنت نبيها»(1).

وعن أصبغ بن نباتة(2)

قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب الناس وهو يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو اللّه لا تسألوني عن شي ء مضى، ولا عن شي ء يكون أنبأتكم به»، فقام إليه سعد بن أبي وقاص فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة!! فقال (عليه السلام) له: «أما واللّه لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنك ستسألني عنها، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلاّ وفي أصلها شيطان جالس، وإن في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني» وعمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه(3).

سائر الأئمة (عليهم السلام)

بكى الإمام الحسن (عليه السلام) على مصيبة أخيه الحسين (عليه السلام) وقال: «لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه».

فعن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) : «أن الحسين بن

ص: 83


1- بحار الأنوار: ج44 ص266 ب31 ح23.
2- الأصبغ بن نباتة المجاشعي من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الرواة، ومن خاصته وثقاته ومن شرطة الخميس.
3- مدينة المعاجز: ج2 ص172-173 فصل470 ح476.

علي بن أبي طالب (عليه السلام) دخل يوماً إلى الحسن (عليه السلام) فلما نظر إليه بكى، فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد اللّه؟ قال: أبكي لما يُصنع بك، فقال له الحسن (عليه السلام) : إن الذي يؤتى إلي سمّ يدسّ إليّ فاُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدنا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار...»(1)، الحديث.

وبكى الإمام زين العابدين (عليه السلام) على أبيه (عليه السلام) أربعين سنة(2)، وكان يقرأ على الناس مصيبة عاشوراء ويذكرهم بفاجعة كربلاء(3).

وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يتذكر مصيبة جده الحسين (عليه السلام) ويبكي(4).

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يستنشد الشعر في رثاء الحسين (عليه السلام) ويبكي(5).

وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم

ص: 84


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص154 ب3 من أبواب ما أخبر به الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. ح1.
2- انظر كامل الزيارات: ص213 ب35 ح1.
3- انظر كمثال على ذلك، مارواه الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) في الأمالي: ص215-227 المجلس30 ح1.
4- ففي الرواية المعتبرة في دعاء علقمة: قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ثم ليندب الحسين (عليه السلام) ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين (عليه السلام) ، فأنا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك على اللّه جميع هذا الثواب.. انظر مستدرك الوسائل: ج10 ص315 ب49 من أبواب المزار ح12079/8.
5- انظر ثواب الأعمال: ص83-84 باب ثواب من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً أو بكى أو تباكى.

مصيبته وحزنه..(1).

وهكذا الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال: «إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلا، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء»(2).

وهكذا كان الإمام الجواد (عليه السلام) والإمام الهادي (عليه السلام) ..

قال الإمام علي الهادي (عليه السلام) : «من خرج من بيته يريد زيارة الحسين (عليه السلام) فصار إلى الفرات فاغتسل منه كُتب من المفلحين، فإذا سلّم على أبي عبداللّه (عليه السلام) كُتب من الفازين، فإذا فرغ من صلاته أتاه ملك فقال: إن رسول اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: أما ذنوبك فقد غفر لك، استأنف العمل»(3).

وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يأمر ويوجه من يزور عنه الإمام الحسين (عليه السلام) كما ورد في القصة المعروفة التي رواها أبو هاشم الجعفري(4).

وهكذا كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يبكي على جده ويقيم العزاء له.

أما الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام وعجل اللّه فرجه) فإنه يندب جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) صباحاً ومساءً، ويبكيه بدل الدموع دماً(5).

وهكذا كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يحثون شيعتهم وأتباعهم على تذكر مصيبة عاشوراء، وإقامة الذكرى لهذه الفاجعة الأليمة والاهتمام بالشعائر الحسينية.

ص: 85


1- وسائل الشيعة: ج14 ص505 ب66 من أبواب المزار ومايناسبه ح19697/8.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص239 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
3- وسائل الشيعة: ج14 ص486-487 ب59 من أبواب المزار ح19662/10.
4- انظر كامل الزيارات: ص458- 460 ب90 ح1و2.
5- انظر مكيال المكارم: ج1 ص153.

20

خبر القارورة

روي بأسانيد عديدة عن أم سلمة (رضوان اللّه عليها) أنها قالت: خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلاً، وعاد وهو أشعث أغبر ويده مضمومة، فقلت: يا رسول اللّه ما لي أراك شعثاً مغبراً؟

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء فأريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم فها هي في يدي، وبسطها إليّ فقال: خذيها فاحتفظي بها، فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها، فلما خرج الحسين (عليه السلام) من مكة متوجهاً نحو العراق كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم فأشمها وأنظر إليها وأبكي لمصابه، فلما كان اليوم العاشر من المحرم وهو اليوم الذي قُتل (عليه السلام) فيه أخرجتها في أول النهار وهي بحالها ثم عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن تسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت(1).

وعن أم سلمة قالت: جاء جبرئيل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: إن أمتك تقتله، يعني

ص: 86


1- كشف الغمة: ج2 ص217 باب ما ورد في حقه (عليه السلام) .

الحسين (عليه السلام) بعدك، ثم قال: ألا أريك من تربته، قالت: فجاء بحصيات فجعلهن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قارورة، فلما كان ليلة قتل الحسين (عليه السلام) قالت أم سلمة: سمعت قائلاً يقول:

أيها القاتلون جهلاً حسيناً***أبشروا بالعذاب والتنكيل

قد لُعنتم على لسان داود***وموسى وصاحب الإنجيل

قالت: فبكيت ففتحت القارورة فإذا قد حدث فيها دم(1).

ولما أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج إلى العراق قالت له أم سلمة: لا تخرج إلى العراق فقد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «يُقتل ابني الحسين بأرض العراق» وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة.

فقال الحسين (عليه السلام) : «واللّه إني مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإن أحببت أن أريك مضجعي ومصرع أصحابي» ثم مسح بيده على وجهها، ففسح اللّه في بصرها حتى أراها ذلك كله، وأخذ (عليه السلام) تربة فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورة أخرى، وقال (عليه السلام) : «فاذا فاضتا دماً فاعلمي أني قُتلت».

فقالت أم سلمة: فلما كان يوم عاشوراء نظرت إلى القارورتين بعد الظهر فإذا هما قد فاضتا دماً فصاحت، ولم يقلّب في ذلك اليوم حجر ولا مدر إلاّ وجد تحته دم عبيط(2).

ص: 87


1- بحار الأنوار: ج44 ص241 ب30 ح34.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص254 ب4 في معجزات الإمام الحسين (عليه السلام) ح7.

21

علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم باستشهاده وأنه سيُقتل بأرض كربلاء - كما سبق - وقد أخبر بذلك مراراً في طريقه إلى العراق وفي موارد أخرى(1)، كما أعلمه به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) ..(2)، مضافاً إلى أن المعصوم (عليه السلام) يعلم بالعلم اللدني وبإذن اللّه تعالى كل ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة(3).

هذا وكان كثير من الصحابة والتابعين وغيرهم يعلمون بأن الإمام الحسين (عليه السلام) سيُقتل، فكيف بالإمام نفسه (عليه السلام) (4).

عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرضه الذي مات فيه وقد ضمّ

ص: 88


1- راجع كتاب العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : الباب الرابع إخباره بشهادته (عليه السلام) من ص154-159 وغيره.
2- راجع كتاب بحار الأنوار: ج44 الباب الحادي والثلاثون، ص250-269.
3- راجع كتاب بصائر الدرجات: ج3 الباب السادس في علم الأئمة (عليهم السلام) بما في السماوات والارض والجنة والنار وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، والباب السابع في الأئمة (عليهم السلام) أنهم اُعطوا علم ما مضى وما بقي إلى يوم القيامة، ص127-129.
4- روى عبد اللّه بن شريك العامري قال: (كنت أسمع أصحاب علي (عليه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد، يقولون: هذا قاتل الحسين (عليه السلام) ، وذلك قبل أن يُقتل بزمان طويل). انظر بحار الأنوار: ج44 ص263 ب31 ح19.

الحسين (عليه السلام) إلى صدره يسيل من عرقه عليه وهو يجود بنفسه ويقول: «ما لي وليزيد، لا بارك اللّه فيه، اللّهم العن يزيد»، ثم غُشي عليه طويلاً وأفاق وجعل يقبّل الحسين (عليه السلام) وعيناه تذرفان ويقول: «أما إن لي ولقاتلك مقاماً بين يدي اللّه عز وجل»(1).

وعن جابر(2) عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال علي للحسين (عليهما السلام) : «يا أبا عبد اللّه أسوة أنت قدماً».

فقال (عليه السلام) : «جعلت فداك ما حالي»؟

قال: «علمتَ ما جهلوا وسينتفع عالم بما علم، يا بني اسمع وأبصر من قبل أن يأتيك فو الذي نفسي بيده ليسفكن بنو أمية دمك ثم لا يزيلونك عن دينك، ولاينسونك ذكر ربك».

فقال الحسين (عليه السلام) : «والذي نفسي بيده حسبي، أقررت بما أنزل اللّه وأصدق قول نبي اللّه ولا أكذب قول أبي»(3).

وقال عمر بن سعد(4) للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد اللّه إن قبلنا ناساً سفهاء يزعمون أني أقتلك!

ص: 89


1- مثير الأحزان: ص12.
2- جابر بن يزيد الجعفي أبو عبداللّه أو أبو محمد، من أصحاب الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ، إمامي تابعي، عظيم الشأن والمنزلة، وكان من أصحاب سرهما وخاصتهما، توفي سنة 128 أو132ه.
3- كامل الزيارات: ص150 ب23 ح4.
4- عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الحسين (عليه السلام) وسابي حريم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والعجيب من بعض النواصب أن عدّله وعدّه من الثقات عندهم، بغضاً لأهل البيت (عليهم السلام) كالعجلي والذهبي وابن حجر وغيرهم، وقد أحسن يحيى بن معين إذ سُئل عنه، فقال: (كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟)، قتله المختار الثقفي (رحمه اللّه) سنة 66 أو 67 للهجرة.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «إنهم ليسوا سفهاء ولكنهم حلماء، أما إنه يقرّ عيني أن لا تأكل برّ العراق بعدي إلاّ قليلاً»(1).

وروي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: «لما كانت الليلة التي قُتل الحسين (عليه السلام) في صبيحتها قام في أصحابه فقال (عليه السلام) : إن هؤلاء يريدوني دونكم، ولو قتلوني لم يقبلوا إليكم، فالنجاء النجاء(2) وأنتم في حلّ فإنكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلكم، فقالوا: لا نخذلك، ولا نختار العيش بعدك، فقال (عليه السلام) : «إنكم تقتلون كلكم حتى لايفلت منكم أحد، فكان كما قال (عليه السلام) »(3).

وعن علي بن زيد(4)، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «خرجنا مع الحسين بن علي (عليه السلام) فما نزل منزلاً ولا رحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله»، وقال (عليه السلام) : ومن هوان الدنيا على اللّه عزوجل أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل»(5).

وعن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كتب الحسين بن علي (عليه السلام) من مكة إلى محمد بن علي: بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد فإن من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم

ص: 90


1- الإرشاد: ج2 ص132.
2- النجاء: مصدر منصوب بفعل مضمر: أي انجوا النجاء، كُرر للتأكيد وأُتي بالمصدر للدلالة على أن النجاء يكون على نحو السرعة لأنه يقال نجا ينجو نجاء إذا أسرع.
3- الخرائج والجرائح: ج1 ص254 ب4 في معجزات الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) ح8.
4- في بعض المصادر (علي بن يزيد) وهو تصحيف، والصحيح هو علي بن زيد بن عبداللّه بن أبي مليكة، من أصحاب الإمام السجاد (عليه السلام) ، ضعفه جمهور العامة لتشيعه، ومع هذا وثقه وعدّله بعضهم، توفي سنة 127أو 129أو131ه.
5- تفسير نور الثقلين: ج3 ص324 سورة مريم ح28.

يدرك الفتح والسلام»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: لما صعد الحسين بن علي (عليه السلام) عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلاّ مقتولاً.

قالوا: وما ذاك يا أبا عبد اللّه؟

قال (عليه السلام) : رؤيا رأيتها في المنام.

قالوا: وما هي؟ قال (عليه السلام) : رأيت كلاباً تنهشني أشدّها عليّ كلب أبقع»(2).

ولما خرج الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العراق لازم الطريق الأعظم لا يحيد عنه، فقال له أهل بيته: لو تنكبته كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، فقال: «لا واللّه لاأفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض»(3).

ولما قال له الحر: أذكرك اللّه في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلن، أجابه الحسين (عليه السلام) : أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال أخو الأوس وهو يريد نصرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخوفه ابن عمه وقال: أين تذهب فإنك مقتول: فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى***إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

وواس الرجال الصالحين بنفسه***وفارق مثبوراً وودع مجرما

أقدم نفسي لا أريد بقاءها***لتلقي خميساً في الوغى وعرمرما

فإن مت لم أندم إن عشت لم ألم***كفى بك ذُلاً أن تعيش وترغما(4)

ص: 91


1- كامل الزيارات: ص157 ب23 ح20.
2- بحار الأنوار: ج45 ص87 ب37 ح24.
3- انظر الإرشاد: ج2 ص35.
4- روضة الواعظين: ص179-180.

22

طغاة عصر الإمام (عليه السلام)

اشارة

عاصر الإمام الحسين (عليه السلام) عدداً من الطغاة، كان منهم معاوية وابنه يزيد، كما عاصر الذين اغتصبوا خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) .. ولاقى منهم ما لاقى.

مع المنافقين

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إن رجلاً من المنافقين مات، فخرج الحسين بن علي (عليه السلام) يمشي معه، فلقيه مولى له فقال له الحسين (عليه السلام) : «أين تذهب يا فلان»؟ قال: فقال له مولاه: أفر من جنازة هذا المنافق أن أصلي عليها، فقال له الحسين (عليه السلام) : «انظر أن تقوم على يميني فما تسمعني أن أقول فقل مثله» فلما أن كبّر عليه وليه قال الحسين (عليه السلام) : «اللّه أكبر اللّهم العن فلاناً عبدك ألف لعنة مؤتلفة غير مختلفة، اللّهم اخز عبدك في عبادك وبلادك وأصله حرّ نارك وأذقه أشدّ عذابك، فإنه كان يتولى أعداءك ويعادي أولياءك ويبغض أهل بيت نبيك»(1).

مع مروان بن الحكم

قال مروان بن الحكم(2) يوماً متعرضاً بالإمام الحسين (عليه السلام) وبأبيه أمير المؤمنين

ص: 92


1- تهذيب الأحكام: ج3 ص197 باب الصلاة على الأموات ح25.
2- مروان بن الحكم بن أبي العاص: لعنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو في صلب أبيه الحَكَم، وطرده وأباه عن المدينة، كان من أعدى الخلق لله وللرسول ولأهل البيت (عليهم السلام) ، حارب أمير المؤمنين (عليه السلام) بتهمة دم عثمان مع أنه وباعتراف كبار محدثي العامة هو السبب الأول في قتله، ولعن وسب أمير المؤمنين (عليه السلام) على منبر المدينة المنورة، وتجرأ على التنقيص من شأن الزهراء (عليها السلام) ، وآذى الإمام الحسن (عليه السلام) في حياته وبعد استشهاده، وضاد الإمام الحسين (عليه السلام) وكان يصرح بكرههما، وبعد كل هذا العداء لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) تسلم الملك بعد وفاة معاوية الثاني وكان ملكه متقطعاً ولم يطل به الأمر أكثر من تسعة أشهر أو عشرة فمات سنة 65ه.

(صلوات اللّه عليه): لولا فخركم بفاطمة بمَ كنتم تفتخرون علينا!

فوثب الحسين (عليه السلام) وكان (عليه السلام) شجاعاً شديد القبضة، فقبض على حلقه فعصره ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه وتركه، وأقبل الحسين (عليه السلام) على جماعة من قريش فقال: «أنشدكم باللّه إلاّ صدقتموني إن صدقت، أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مني ومن أخي، أوَ على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي»؟ قالوا: اللّهم لا، قال (عليه السلام) : «وإني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه طريدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واللّه ما بين جابرس وجابلق(1) أحدهما بباب المشرق والآخر بباب المغرب، رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولأهل بيته (عليهم السلام) منك ومن أبيك إذ كان، وعلامة قولي فيك أنك: إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك» قال: فو اللّه ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه(2).

وكان مروان حاكماً على المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان.

ص: 93


1- مدينتان إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب يُضرب بهما المثل في البعد والإنتهاء.
2- الاحتجاج: ج2 ص22-23 باب احتجاجه (عليه السلام) بإمامته على معاوية وغيره..

مع معاوية بن أبي سفيان

وفي رسالة كتبها الإمام الحسين (عليه السلام) إلى معاوية: «... ألستَ القاتل حجراً أخا كندة(1) والمصلين العابدين(2) الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في اللّه لومة لائم، ثم قتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنتَ أعطيتَهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في نفسك، أو لستَ قاتل عمرو بن الحمق(3) صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه وصفرت لونه، بعد ما أمّنته وأعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته، جرأةً على ربك واستخفافاً بذلك العهد، أو لستَ المدعي زياد ابن سمية(4)

المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمتَ أنه ابن أبيك، وقد قال رسول

ص: 94


1- حجر بن عدي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) وكان من الأبدال ومن رؤساء التابعين وكبارهم وزهادهم، كان شجاعاً أمّاراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، موالياً لأهل بيت النبوة (عليهم السلام) معادياً لأعدائهم، لم تأخذه في اللّه لومة لائم، غدر به معاوية بعد أن أعطاه الأمان وقتله في بلدة (مرج عذراء) والتي فتحها هو بنفسه، قتل مع ثلة من أصحابه المؤمنين رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين سنة 51 أو 53 للهجرة.
2- وهم:شريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكدام بن حيان العنزي، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبدالرحمان بن حسان العنزي وقد دُفن حياً وهو أول من قُتل هكذا في الإسلام، رضوان اللّه تعالى عليهم.
3- من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) وكان من أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن شرطة الخميس وكان من العابدين والزاهدين، قتله والي معاوية على الموصل وأهدى رأسه إلى معاوية، وهو أول رأس أُهدي في الإسلام، وذلك سنة50 أو 51 للهجرة.
4- زياد بن عبيد مولى ثقيف وأمه سمية وكانت من العاهرات، ولد عام الهجرة وأسلم في عهد الأول واستلحقه معاوية سنة 44ه- وولاه البصرة، وبعد موت المغيرة ولاه الكوفة أيضاً، واستمر عليهما إلى إن مات سنة 53ه، وكان فاسقاً فاجراً سافكاً للدماء، وقد قتل من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبأمر من معاوية الكثير.

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(1)، فتركت سنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعمداً وتبعت هواك بغير هدى من اللّه، ثم سلطته على العراقين: يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك، أو لستَ صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي (صلوات اللّه عليه) فكتبتَ إليه: أن اقتل كل من كان على دين علي (عليه السلام) فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي (عليه السلام) واللّه الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، به جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين.

وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإتق شق عصا هذه الأمة وأن تردهم إلى فتنة، وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علينا أفضل من أن أجاهدك فإن فعلت فإنه قربة إلى اللّه، وإن تركته فإني أستغفر اللّه لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإني أرجو أن لا يضرني يدك فيّ، وأن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك، لأنك قد ركبتَ جهلك، وتحرصتَ على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح

ص: 95


1- الكافي: ج5 ص492 باب الرجل يكون له الجارية يطؤها فيبيعها..ح3، صحيح البخاري: ج3 ص5، وغيرهما من المصادر الكثيرة.

والأيمان والعهود والمواثيق فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا، فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب واعلم أن لله تعالى كتاباً {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا}(1) وليس اللّه بناس لأخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث: يشرب الخمر ويلعب بالكلاب، لا أعلمك إلاّ وقد خسرتَ نفسك وبترتَ دينك وغششتَ رعيتك وأخزيتَ أمانتك وسمعتَ مقالة السفيه الجاهل وأخفتَ الورع التقي لأجلهم والسلام».

قال معاوية: ... وما عسيت أن أعيب حسيناً وواللّه ما أرى للعيب فيه موضعاً..(2).

ص: 96


1- سورة الكهف: 49.
2- بحار الأنوار: ج44 ص212-213 ب27 ح9.

23

في عهد يزيد

ومثلي لا يبايع مثله

لما مات معاوية في منتصف رجب سنة ستين من الهجرة وخلّف بعده ولده يزيد، وكان يزيد فاسقاً فاجراً يشرب الخمور، وكان صاحب الطنابير والقيان، ويلعب بالقرود والكلاب، ويجاهر بالكفر والإلحاد، ويستهين بالدين... وقد لعنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أحاديث عديدة(1)، وكان يزيد يعلم بمكانة الإمام الحسين (عليه السلام) في قلوب المؤمنين، وأنه لا يمكنه التلاعب بأمور الدين والأمة مع وجود الإمام (عليه السلام) ، فأمر بأخذ البيعة من الإمام قهراً وإلاّ يُضرب عنقه فوراً..

ثم إن نصب يزيد من قبل معاوية كان على خلاف العهد الذي كتبه معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السلام) حيث تعهد ضمن ما تعهد بأنه لا يحق له تعيين الخليفة من بعده، ولكن معاوية خالف جميع بنود الصلح.

وكتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة(2) والي المدينة بأخذ البيعة على أهلها

ص: 97


1- فقد ورد في زيارة عاشوراء المعتبرة والمروية عن الإمام الباقر (عليه السلام) :«إن هذا يوم تبركت به بنو أمية وابن آكلة الأكباد اللعين ابن اللعين على لسانك ولسان نبيك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل موطن وموقف وقف فيه نبيك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » كما مرّ أحاديث لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيها قاتل الحسين (عليه السلام) ..
2- الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: والي المدينة من قبل معاوية ويزيد وكان شريب الخمر، وفي زمن ولايته للمدينة من قبل معاوية وقعت قضية ابن ارطأة الشاعر وشربه للخمر معه، مات بعد موت معاوية بن يزيد.

وخاصة على الحسين (عليه السلام) ولا يرخّص له في التأخر عن ذلك وقال: إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

فاستدعى الوليد الإمام الحسين (عليه السلام) في ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين، فعرف الإمام (عليه السلام) الذي أراد، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلاً وأمرهم بحمل السلاح وقال لهم: إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولست آمن أن يكلفني فيه أمراً لا أجيبه إليه وهو غير مأمون، فكونوا معي فإذا دخلت فأجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني.

فصار الحسين (عليه السلام) إلى الوليد ووجد عنده مروان بن الحكم، وقرأ الوليد كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة، فأراد الحسين (عليه السلام) أن يتخلص منه بوجه سلمي، فقال: «إني أراك لا تقنع ببيعتي سراً حتى أبايع جهراً فيعرف ذلك الناس»، فقال الوليد: أجل، فقال الحسين (عليه السلام) نصبح ونرى رأينا في ذلك، فقال الوليد: انصرف حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: واللّه لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه!

فلما سمع الحسين (عليه السلام) ذلك وثب وقال لمروان: ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي، كذبت واللّه ولؤمت، ثم أقبل على الوليد فقال: إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح اللّه وبنا ختم، ويزيد

ص: 98

فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة، ثم خرج يتهادى بين مواليه وهو يتمثل بقول يزيد بن المفرع:

لا ذعرت السوام في غسق الصبح***مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما***والمنايا يرصدنني أن أحيدا

حتى أتى منزله. فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار فلقيه مروان فقال له: يا أبا عبد اللّه إني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين (عليه السلام) : «وما ذاك قل حتى أسمع»، فقال مروان: إني آمر ببيعة يزيد بن معاوية فإنه خير لك في دينك ودنياك!!.

فقال الحسين (عليه السلام) : «إنا لله وإنا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمة براع مثل يزيد»(1).

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية (رحمه اللّه) : «يا أخي واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية»(2).

وروي أن يزيد بعث عمه عتبة بن أبي سفيان على مدينة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمره بأخذ البيعة له طوعاً أو كرهاً، فبعث عتبة إلى الحسين بن علي (عليه السلام) فقال: إن الأمير أمرك أن تبايع له، فقال الحسين (عليه السلام) : يا عتبة قد علمت إنّا أهل بيت الكرامة ومعدن الرسالة وأعلام الحق، الذين أودعه اللّه عزوجل قلوبنا وأنطق به ألسنتنا فنطقت بإذن اللّه عزوجل، ولقد سمعت جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إن الخلافة محرمة على ولد أبي سفيان، وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم

ص: 99


1- لواعج الأشجان: ص26.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص178 باب ماجرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته ح2.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا».

فلما سمع عتبة ذلك كتب إلى يزيد: إن الحسين بن علي ليس يرى لك خلافة ولابيعة فرأيك في أمره، فكتب في جوابه: إذا أتاك كتابي هذا فعجّل عليّ بجوابه وبين لي في كتابك كل من في طاعتي أو خرج عنها وليكن مع الجواب رأس الحسين بن علي!

فبلغ ذلك الحسين (عليه السلام) فهمّ بالخروج من مدينة جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مكة المكرمة(1).

الحسين (عليه السلام) يودع قبر جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لما أمر يزيد بن معاوية بقتل الحسين (عليه السلام) في المدينة، وكتب إلى الوالي أن ابعث اليّ برأس الحسين بن علي، أقبل الإمام (عليه السلام) إلى قبر جدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلاً وصلّى ركعات، فلما فرغ من صلاته جعل يقول: «اللّهم هذا قبر نبيك محمد وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضى، ولرسولك رضى».

ثم جعل (عليه السلام) يبكي عند القبر الشريف حتى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفي، فإذا هو برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتى ضم الحسين (عليه السلام) إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال:

«حبيبي يا حسين، كأني أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء، من عصابة من أمتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة،

ص: 100


1- انظر الأمالي، للشيخ الصدوق: ص216 المجلس30 ح1.

حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».

فجعل الحسين (عليه السلام) في منامه ينظر إلى جدّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقول: «يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك»، فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى تُرزق الشهادة، وما قد كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة، حتى تدخلوا الجنة».

فانتبه الحسين (عليه السلام) من نومه فزعاً مرعوباً، فقص رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشد غماً من أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا أكثر باك ولا باكية منهم(1).

وفي رواية: قام الإمام الحسين (عليه السلام) يصلي - عند قبر جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فأطال، فنعس وهو ساجد، فجاءه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو في منامه، فأخذ الحسين (عليه السلام) وضمه إلى صدره، وجعل يقبّل بين عينيه، ويقول: «بأبي أنت، كأنّي أراك مرملاً بدمك بين عصابة من هذه الأمة، يرجون شفاعتي، ما لهم عند اللّه من خلاق، يا بُنيّ إنك قادم على أبيك وأمك وأخيك، وهم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلاّ بالشهادة». فانتبه الحسين (عليه السلام) من نومه باكياً، فأتى أهل بيته فأخبرهم بالرؤيا وودّعهم، وحمل أخواته على المحامل وابنته وابن أخيه القاسم بن الحسن بن علي (عليه السلام) ثم سار في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته(2).

ص: 101


1- انظر: بحار الأنوار: ج44 ص328 ب37 ح2.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص217 المجلس 30 ح1.

الوداع مع إمه المظلومة

ولما تهيأ الإمام الحسين (عليه السلام) للخروج عن المدينة، مضى في جوف الليل إلى قبر أمه (عليها السلام) المظلومة فودعها باكياً، ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن (عليه السلام) فودعه كذلك(1)، وهكذا ودّع جدّته فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ..

مع أخيه ابن الحنفية

لما علم محمد ابن الحنفية (رحمه اللّه) عزم الإمام الحسين (عليه السلام) على الخروج من المدينة، قال له: يا أخي أنت أحبّ الخلق إليّ وأعزّهم عليّ، ولستُ واللّه ادخر النصيحة لأحد من الخلق، وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي، ومن وجبت طاعته في عنقي، لأن اللّه قد شرّفك عليّ، وجعلك من سادات أهل الجنة(2)، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت اللّه على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك ولا عقلك ولاتذهب به مروءتك ولا فضلك، وإني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون أنت لأول الأسنة غرضاً فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضعيها دماً وأذلها أهلاً.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «فأين أذهب يا أخي»(3)؟

ص: 102


1- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص178 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- بحار الأنوار: ج44 ص329 باب فيما رواه الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في وقعة الطف.
3- الإرشاد: ج2 ص35 باب خروج الإمام الحسين (عليه السلام) نحو مكة.

قال: تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعوب الجبال وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يئول إليه أمر الناس، ويحكم اللّه بيننا وبين القوم الفاسقين.

فقال الحسين (عليه السلام) : «يا أخي واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية».

فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى، فبكى الحسين (عليه السلام) معه ساعة، ثم قال: يا أخي جزاك اللّه خيراً... أنا عازم على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم لا تخفي عني شيئاً من أمورهم»(1).

وروي أنه لما أراد محمد بن الحنفية (رحمه اللّه) منع أخيه الحسين (عليه السلام) عن الخروج إلى الكوفة، قال له الإمام الحسين (عليه السلام) : «واللّه يا أخي لو كنتُ في جُحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني»(2).

ثم دعا الحسين (عليه السلام) بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية: أن الحسين يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار

ص: 103


1- بحار الأنوار: ج44 ص329 باب فيما رواه الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في وقعة الطف.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص323 باب في أخبار متفرقة موجزة وردت من حين خروجه.

حق، {وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}(1)، وأني لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين وهذه وصيتي يا أخي إليك {وما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).

قال: ثم طوى الحسين (عليه السلام) الكتاب وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمد، ثم ودّعه وخرج في جوف الليل(3).

علماً بأن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الذي أمر أخاه محمد بن الحنفية (عليه السلام) بالبقاء في المدينة وعدم الخروج معه لأسباب معينة، منها: أن يكون عيناً له على الأعداء، ومنها: أنه يحافظ على بعض الأمانات وما أشبه التي أودعها عنده، وهناك من الأمانات ما أودعها عند أم المؤمنين أم سلمة (رضوان اللّه عليها).

ص: 104


1- سورة الحج: 7.
2- سورة هود: 88.
3- بحار الأنوار: ج44 ص329-330 باب فيما رواه الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في وقعة الطف.

24

الخروج من المدينة

لما أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج من المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة على الإمام الحسين (عليه السلام) لأنهن كان يعلمن بأنه لا رجعة في هذا السفر، وأن الإمام (عليه السلام) ذاهب إلى الشهادة.

وكانت نساء بني عبد المطلب تقول: هذا كيوم مات فيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن (عليهم السلام) ، جعلنا اللّه فداك من الموت، يا حبيب الأبرار.

وخرج الإمام الحسين (عليه السلام) ليلاً من المدينة المنورة، وهو يقرأ: {فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1). وكان خروجه (عليه السلام) ليلة 28 من شهر رجب ليلة الأحد.

وخرج معه بنو أخيه وإخوته وجُلَّ أهل بيته(2) إلاّ محمد بن الحنفية وعبد اللّه بن جعفر، حيث بقيا في المدينة بأمر خاص من الإمام الحسين (عليه السلام) (3).

ولزم الإمام (عليه السلام) في خروجه الطريق الأعظم فقال له أهل بيته: لو تنكبت

ص: 105


1- سورة القصص: 21.
2- قد مر سابقاً قول الإمام الحسين (عليه السلام) لأخيه محمد ابن الحنفية: «وأنا عازم على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي».
3- مرّ أن الإمام (عليه السلام) سمح لمحمد ابن الحنفية البقاء ليكون عيناً له في تزويده بالأخبار، ولغير ذلك.

الطريق الأعظم كما صنع ابن الزبير لئلا يلحقك الطلب؟ فقال (عليه السلام) : لا واللّه لاأفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض(1).

ولقيه عبد اللّه ابن مطيع(2) فقال له: جعلت فداك أين تريد؟

قال (عليه السلام) : «أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فإني استخير اللّه».

قال: خار اللّه لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة، بها قُتل أبوك وخُذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، ألزم الحرم فأنت سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فو اللّه لئن هلكت لنسترقن بعدك(3).

ص: 106


1- الإرشاد: ج2 ص35 باب خروج الإمام الحسين (عليه السلام) نحو مكة.
2- عبداللّه بن مطيع بن الأسود القرشي، من وجهاء قريش وكان قائداً عليها يوم الحرة، مات سنة 73ه.
3- مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص14-15.

25

دخول مكة

دخل الإمام الحسين (عليه السلام) مكة المكرمة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان، وقد استغرق طريقه نحواً من خمسة أيام، لأنه خرج من المدينة لليلتين بقيتا من رجب على بعض الروايات(1).

وكان الإمام الحسين (عليه السلام) حينما دخل مكة، يقرأ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ}(2)(3) فأقام (عليه السلام) بمكة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالاً وذا القعدة وثماني ليال من ذي الحجة(4).

وأقبل أهل مكة ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إلى الإمام الحسين (عليه السلام) .. ومن هنا أمر يزيد بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) أين ما وجدوه، فأرسل مجموعة جعلوا سيوفهم تحت إحرامهم حتى يقتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) وإن كان معلقاً بأستار الكعبة.

روي أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص(5)، في عسكر عظيم وولاه أمر

ص: 107


1- إعلام الورى: ج1 ص435 الفصل الرابع: خروجه (عليه السلام) على يزيد بن معاوية.
2- سورة القصص: 22.
3- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص181 باب ما جرى (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته ح2.
4- مقتل الحسين (عليه السلام) ، لإبي مخنف الأزدي: ص61.
5- عمرو بن سعيد بن العاص الأموي أبو أمية المعروف بالأشدق، ولي المدينة من قبل معاوية وابنه يزيد ثم طالب بالخلافة بعد مروان (خاله) فقتله عبدالملك بيده بعد أن أعطاه الأمان سنة 69 أو 70ه.

الموسم وأمّره على الحاج كلهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين (عليه السلام) سراً، وإن لم يتمكن منه بقتله غيلة(1)، ثم إنه دسّ مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أمية، وأمرهم بقتل الحسين (عليه السلام) على أي حال اتفق.

فلما علم الحسين (عليه السلام) بذلك، حلّ من إحرام الحج، وجعلها عمرة مفردة(2)، وخرج من مكة يوم التروية أو قبله بيوم!.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن الحسين بن علي (عليه السلام) خرج قبل التروية بيوم إلى العراق»(3).

وعن أبي سعيد(4) قال: سمعت الحسين بن علي (عليه السلام) وخلا به عبد اللّه بن الزبير وناجاه طويلاً، قال: ثم أقبل الحسين (عليه السلام) بوجهه إليهم وقال:

«إن هذا يقول لي كن حماماً من حمام الحرم، ولأن اُقتل وبيني وبين الحرم باع أحب إليّ من أن اُقتل وبيني وبينه شبر، ولأن اُقتل بالطف أحب إليّ من أن اُقتل بالحرم»(5).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال عبد اللّه بن الزبير للحسين بن علي (عليه السلام) : ولو جئت إلى مكة فكنتَ بالحرم، فقال الحسين (عليه السلام) : «لا نستحلها ولا تستحل بنا،

ص: 108


1- أي إن لم يتمكن فقد أوصاه يزيد بقتله غيلة.
2- بحار الأنوار: ج45 ص99 ب37 تذنيب.
3- مختلف الشيعة: ج4 ص364.
4- أبو سعيد عقيصا: واسمه دينار، من بني تيم اللّه بن ثعلبه، لقب بعقيصا لشعر قاله، من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) ومن رجال كتاب كامل الزيارات.
5- كامل الزيارات: ص151 ب23 ح7,

ولأن اُقتل على تل أعفر(1) أحب إليّ من أن اُقتل بها»(2).

وقد سبق أنه (عليه السلام) قال لأخيه محمد بن الحنفية (رحمه اللّه) : «واللّه يا أخي لو كنت في جُحر هامة من هوام الأرض، لاستخرجوني منه حتى يقتلوني»(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سار محمد بن الحنفية (رحمه اللّه) إلى الحسين (عليه السلام) في الليلة التي أراد الحسين (عليه السلام) الخروج في صبيحتها عن مكة، فقال: يا أخي إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم وأمنعه.

فقال (عليه السلام) : «يا أخي قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت».

فقال له ابن الحنفية (رحمه اللّه) : فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر، فإنك أمنع الناس به ولا يقدر عليك أحد. فقال (عليه السلام) : «أنظر فيما قلت».

فلما كان السحر ارتحل الحسين (عليه السلام) فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

قال (عليه السلام) : «بلى».

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟

قال (عليه السلام) : «أتاني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإن اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً».

ص: 109


1- تل أعفر: وهي مدينة معروفة تقع بين سنجار والموصل، ويقطنها الكثير من موالي أهل البيت (عليهم السلام) ، وقد أشار إليها الإمام (عليه السلام) لبعدها الجغرافي نسبياً في ذلك الوقت.
2- كامل الزيارات ص151 ب23 ح8.
3- بحار الأنوار: ج45 ص99 ب37 تذنيب.

فقال ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟

قال: فقال لي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن اللّه قد شاء أن يراهن سبايا» وسلّم عليه ومضى(1).

أقول: ربما كان مجيء محمد بن الحنفية (رحمه اللّه) إلى مكة لينقل إلى الحسين (عليه السلام) ما جرى في المدينة بعد خروجه منها، حيث سبق أنه بقي هناك بأمر من الإمام (عليه السلام) .

وجاء عبد اللّه بن العباس وعبد اللّه بن الزبير إلى الإمام (عليه السلام) فأشارا عليه بالإمساك، فقال (عليه السلام) لهما: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه».

قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: وا حسيناه.

ثم جاءه عبد اللّه بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال وحذّره من القتل والقتال، فقال الإمام (عليه السلام) : «يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن من هوان الدنيا على اللّه أن رأس يحيى بن زكريا اُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل(2)، أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل اللّه عليهم، بل أمهلهم وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام، اتق اللّه يا أبا عبد الرحمن ولا تدع نصرتي»(3).

ص: 110


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص39-40.
2- جاء في إنجيل متي الإصحاح 14 الفقرة من 3-11: فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا (يحيى (عليه السلام) ) وأوثقه وطرحه في سجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لأن يوحنا كان يقول له: لا يحل أن تكون لك... ثم لما صار مولد هيرودس رقصت ابنة هيروديا في الوسط فسرت هيرودس. من ثم وعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها. فهي إذ كانت قد تلقنت من أمها قالت: أعطني ههنا على طبق رأس يوحنا المعمدان. فأغتم الملك ولكن من أجل الأقسام والمتكئين معه أمر أن يعطى. فأرسل وقطع رأس يوحنا في السجن. فأحضر رأسه على طبق ودفع إلى الصبية فجاءت به إلى أمها.
3- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص21-22.

26

كتب أهل الكوفة

لما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الإمام الحسين (عليه السلام) من البيعة، وخروجه إلى مكة، ارجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي(1)، فلما تكاملوا قام سليمان فيهم خطيباً وقال في آخر خطبته:

يا معشر الشيعة، إنكم قد علمتم بأن معاوية قد هلك وصار إلى ربه وقدم على عمله وقد قعد في موضعه ابنه يزيد! وهذا الحسين بن علي (عليه السلام) قد خالفه وصار إلى مكة هارباً من طواغيت آل سفيان، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه.

قالوا: بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه.

فأرسلوا وفداً من قبلهم، وكتبوا إليه معهم:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، للحسين بن علي (عليهما السلام) من سليمان بن صرد،

ص: 111


1- من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والإمام الحسن (صلوات اللّه عليهم)، من كبار الشيعة ورؤسائهم وزهادهم، وهو أول من طلب ثار الإمام الحسين (عليه السلام) بعد شهادته، واستشهد على ذلك سنة 64 أو 65ه.

والمسيب بن نجبة(1)، ورفاعة بن شداد البجلي(2)، وحبيب بن مظاهر، وعبد اللّه بن وال(3) وشيعته من المؤمنين والمسلمين، سلام عليك، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك وعدو أبيك من قبل، الجبار العنيد الغشوم الظلوم الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال اللّه دولة بين جبابرتها وعتاتها، فبُعداً له كما بعدت ثمود، وأنه ليس علينا إمام غيرك، فاقبل لعلّ اللّه يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير(4) في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك أقبلت أخرجناه حتى يلحق بالشام إن شاء اللّه تعالى، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته يا ابن رسول اللّه، وعلى أبيك من قبلك، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم).

ص: 112


1- المسيب بن نجبة الفزاري من أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام) ومن التابعين الكبار ومن رؤساء الشيعة وزهادها، استشهد في عين الوردة سنة 64ه- ضد جيش عبدالملك بن مروان.
2- رفاعة بن شداد البجلي أبو عاصم، من أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام) ومن الجماعة التي جهزت (أباذر) بعد وفاته بالربذة مع الصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) وكان والياً من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) لإحدى البلدان، وهرب مع عمرو بن الحمق الخزاعي عندما طلبهما معاوية إلى الموصل، وشهد (عين الوردة) وكان من قادتها وبقي بعدها.
3- الظاهر أنه عبداللّه بن وائل بن داود التيمي الكوفي أخو بكر بن وائل، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان قد دعا له أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فواللّه إن لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين»، ومن رؤساء الشيعة وكبارهم ومن قادة جيش التوابين الذي استشهد في معركة عين الوردة ضد جيش الأمويين بقيادة ابن زياد.
4- النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي الأموي الهوى، توفي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وله أقل من تسع سنوات، وكان من أمراء جيش معاوية في صفين وله مع قيس بن سعد كلام مذكور في محله، بعثه معاوية للمغير على عين التمر سنة 39ه- وولي الكوفة لمعاوية وابنه ثم حمص وقُتل بها سنة 65ه.

قيل: إنهم سرّحوا الكتاب مع عبد اللّه بن مسمع الهمذاني وعبد اللّه بن وال وأمروهما بالنجاء(1)، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين (عليه السلام) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان، ثم لبثوا يومين وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد الأرحبي(2) وعمارة بن عبد اللّه السلولي(3) إلى الحسين (عليه السلام) ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة، وهو (عليه السلام) مع ذلك يتأنى ولا يجيبهم، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب، ثم لبثوا يومين آخرين وسرحوا إليه هاني بن هاني السبيعي(4)وسعيد

بن عبد اللّه الحنفي(5)، وكانا آخر الرسل وكتبوا إليه:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، للحسين بن علي (عليهما السلام) من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحيهلا(6) فإن الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك،

ص: 113


1- مرّ بيان معنى هذه الكلمة.
2- عبدالرحمن ابن (وليس أخ) عبد اللّه بن شداد الأرحبي (بطن من همدان) من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وممن بعثهم الإمام (عليه السلام) مع مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة، ومن المستشهدين معه في الحملة الأولى.
3- عمارة بن عبداللّه (أو عبد أو عبيد أو عمرو) السلولي (بطن من العرب من ولد مرة بن صعصعة وأمهم سلول بنت ذهل بن شيبان نزلوا الكوفة وسكنوها)من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) واسمه ماهان، كوفي تابعي.
4- هاني بن هاني السبيعي(بطن من همدان) الهمداني من أولياء أمير المؤمنين (عليه السلام) وممن روى عنه جملة من الأحاديث الشريٍفة ومنها حديث الغدير، ومن رجال كامل الزيارات.
5- من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ومن أنصاره المستشهدين معه وسيأتي الحديث عنه في أكثر من موضع.
6- حيهل اسم فعل، قال الشيخ الطريحي (رحمه اللّه) : (كلمة مركبة من حي وهلا، وحي بمعنى هلم، وهلا بمعنى عجل انتهى, وقيل: غير ذلك).

فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام).

ثم كتب شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث و(1) يزيد بن رويم(2) وعروة بن قيس(3) وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن عمير التميمي(4): (أما بعد، فقد أخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته، وعلى أبيك من قبلك)(5).

ولما تلاقت الرسل كلها عند الإمام الحسين (عليه السلام) فقرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس، كتب (عليه السلام) مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد اللّه، وكانا آخر الرسل:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد فإن هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الحق والهدى، وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ بأنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم

ص: 114


1- الصحيح (بن) كما سيأتي في الترجمة التالية.
2- يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني: أسلم على يد أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان من أصحابه ومن قادة جيشه في صفين وعلى شرطته، وكان جده يزيد من فرسان بني شيبان في الجاهلية.
3- عروة أو عزرة بن قيس الأحمسي(بطن من بجيلة) البجلي كاتب الإمام الحسين (عليه السلام) ثم غدر به فصار أميراً للخيالة في جيش ابن سعد وكان من قبلُ من أصحاب خالد بن الوليد وبقي إلى أيام معاوية الثاني.
4- محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب الدارمي(بطن من تميم) التميمي: من أمراء جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم تولى بني أمية فكان قائداً لجيوشهم ونديماً لعبدالملك بن مروان.
5- لواعج الأشجان: ص33-36، وانظر روضة الواعظين: ص172-173.

وقرأت في كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللّه، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذلك لله، والسلام»(1).

ص: 115


1- بحار الأنوار: ج44 ص334-335 ب37.

27

إرسال مسلم بن عقيل (عليه السلام)

اشارة

عن ابن عباس قال: قال علي (عليه السلام) لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا رسول اللّه، إنك لتحب عقيلا»؟ قال: «إي واللّه إني لأحبه حبين: حباً له، وحباً لحب أبي طالب (عليه السلام) له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون» ثم بكى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى جرت دموعه على صدره، ثم قال: «إلى اللّه أشكو ما تلقى عترتي من بعدي»(1).

إنه لما كثرت الرسل والكتب على الإمام الحسين (عليه السلام) يطلبونه بالمجيء إلى الكوفة، دعا الإمام (عليه السلام) ابن عمه مسلم بن عقيل (رحمه اللّه) وكتب معه جواب كتب أهل الكوفة، فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ورجلين آخرين(2)، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك(3).

والظاهر أن الإمام (عليه السلام) أخبر مسلم بن عقيل (رحمه اللّه) باستشهاده وما سيجري عليه في الكوفة، كما أخبره بمقتله ومقتل أصحابه في كربلاء.

ص: 116


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص191 المجلس27 ح3.
2- وهما: عمارة بن عبيد السلولي وعبد الرحمن بن عبداللّه بن الكدن الأرحبي (وهو نفسه ابن شداد المتقدم ويحتمل أن يكون الكدن لقب لشداد)، انظر مقتل الحسين (عليه السلام) ، لأبي مخنف: ص19.
3- الإرشاد: ج2 ص39.

فأخذ مسلم يودّع الإمام (عليه السلام) ويودّع أهله وعياله.. وخرج من مكة في الخامس عشر من شهر رمضان، وأقبل (رحمه اللّه) حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وودّع من أحبّ من أهله، واستأجر دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق، فضلاّ عن الطريق، وأصابهما عطش شديد فعجزا عن السير، فأومأ له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهم ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن، ومات الدليلان عطشاً، فكتب مسلم بن عقيل (رحمه اللّه) إلى الحسين (عليه السلام) من الموضع المعروف بالمضيق، (وهو ماء لبني كلب) مع قيس بن مسهر: (أما بعد، فإني أقبلت من المدينة مع دليليين فحازا عن الطريق فضلاّ، واشتد علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلاّ بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت...).

فكتب إليه الإمام الحسين (عليه السلام) : (... امض لوجهك الذي وجهتك فيه والسلام)... فأقبل مسلم (رحمه اللّه) حتى مر بماء لطي ء فنزل به ثم ارتحل عنه، فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه، فقال مسلم بن عقيل: نقتل عدونا إن شاء اللّه، ثم أقبل حتى دخل الكوفة في الخامس من شوال، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة، قرأ عليهم كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) وهم يبكون، وبايعه الناس، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(1).

فكتب مسلم (رحمه اللّه) إلى الحسين (عليه السلام) في العاشر من ذي القعدة: (أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل

ص: 117


1- بحار الأنوار: ج44 ص335-336 ب37 في أن الحسين (عليه السلام) بعث ابن عمه مسلم بن عقيل..

الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى والسلام)(1).

وهكذا جعل الناس يختلفون إلى مسلم بن عقيل (عليه السلام) ويبايعونه, وفي بعض الروايات أنه بايع الحسين (عليه السلام) أربعون ألفاً من أهل الكوفة على أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم(2).

وكان النعمان بن بشير والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقره يزيد عليها، فصعد المنبر وخطب الناس وحذرهم الفتنة.

وكتب عيون بني أمية(3) إلى يزيد يخبرونه بقدوم مسلم بن عقيل (عليه السلام) الكوفة ومبايعة الناس له وضعف النعمان بن بشير، وقالوا: إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف.

فدعا يزيد سرجون الرومي(4) مولى معاوية، و كان سرجون مستولياً على معاوية في حياته، واستشاره فيمن يولي على الكوفة، وكان يزيد عاتباً على عبيد اللّه بن زياد وهو يومئذ وال على البصرة، وكان معاوية قد كتب لابن زياد عهداً بولاية الكوفة ومات قبل إنفاذه، فقال سرجون ليزيد: لو نشر لك معاوية ما كنت آخذاً برأيه، قال: بلى، قال: هذا عهده لعبيد اللّه على الكوفة، فضمّ يزيد

ص: 118


1- مقتل الحسين (عليه السلام) : ص51.
2- انظر مثير الأحزان: ص16.
3- وهم عبداللّه بن مسلم وعمارة بن عقبة وعمر بن سعد.
4- سرجون بن منصور الرومي النصراني كان يعود إليه أمر ديوان حكم معاوية بن أبي سفيان، وكان كاتباً له، وقد بنى له معاوية كنيسة خارج باب الفراديس، ومن بعده كان كاتباً ليزيد، ثم كذلك لعبدالملك بن مروان، وصار صاحب الخراج والجند أيضاً، ومات في زمنه نصرانياً.

البصرة والكوفة إلى عبيد اللّه وكتب إليه بعهده: (أما بعد، فإنه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين! فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام).

فلما وصل إلى عبيد اللّه كتاب يزيد في البصرة، أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد، ثم خرج من البصرة واستخلف أخاه عثمان(1).

كتاب الإمام (عليه السلام) لأهل البصرة

كتب الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى العراق، كتاباً إلى جماعة من أشراف البصرة ووجوهها مع مولى له اسمه سليمان ويكنى أبا رزين، وقيل مع زراع السدوسي، وربما بعث (عليه السلام) بكتابين:

جاء فيه: «إني أدعوكم إلى اللّه وإلى نبيه، فإن السنة قد اُميتت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد»(2).

فجمع يزيد بن مسعود(3) بني تميم(4) وبني حنظلة(5) وبني سعد(6)،

فلما

ص: 119


1- انظر روضة الواعظين: ص173-174.
2- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص189 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد.
3- يزيد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل، شريف قومه ورئيس بني تميم عامة، والنهشلي: بطن من تميم، وهو نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
4- من القبائل المشهورة والتي تنسب إلى تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر وهم بطون كثيرة.
5- بنو حنظلة: نسبة إلى حنظلة بطن من غطفان، وينسب الى حنظلة بن كعب وهم بطن من جعفي، وأيضاً هناك حنظلة تميم وهنا هم المقصودون ويرجعون إلى حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة.
6- بنو سعد قبائل متعددة منها: سعد بن بكر بن هوازن وسعد الأنصار وسعد جذام وسعد خولان وسعد تجيب وسعد تميم وغيرهم والمقصودون هنا هم الأخيرون وينسبون إلى سعد بن زيد مناة بن تميم بن مرة.

حضروا قال: يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم؟ فقالوا: بخ بخ أنت واللّه فقرة الظهر ورأس الفخر، حللت في الشرف وسطاً، وتقدمت فيه فرطاً، قال: فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه، فقالوا: إنا واللّه نمنحك النصيحة ونحمد لك الرأي فقل نسمع.

فقال: إن معاوية مات فأهون به واللّه هالكاً ومفقوداً، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً ظن أنه قد أحكمه وهيهات والذي أراد، اجتهد واللّه ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين ويتأمر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم وقلة علم لا يعرف من الحق موطأ قدميه.

فاُقسم باللّه قسماً مبروراً لجَهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن علي (عليه السلام) ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعية، وإمام قوم، وجبت لله به الحجة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس(1) انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول اللّه ونصرته، واللّه لا يقصر أحد عن نصرته إلا أورثه اللّه الذل في ولده والقلة في عشيرته، وها أنا ذا قد لبست للحرب

ص: 120


1- صخر (الملقب بالأحنف) بن قيس بن معاوية بن حصين السعدي التميمي أبو بحر مات سنة 67 ه- كان شريفاً في قومه شجاعاً ولكنه اعتزل حرب الجمل فلم ينصر أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم شهد صفين معه.

لأمتها، وادرعت لها بدرعها، من لم يقتل يمت، ومن يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم اللّه رد الجواب.

فتكلمت بنو حنظلة، فقالوا: أبا خالد نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك إن رميت بنا أصبت، وإن غزوت بنا فتحت، لاتخوض واللّه غمرة إلاّ خضناها، ولا تلقى واللّه شدة إلاّ لقيناها، ننصرك واللّه بأسيافنا ونقيك بأبداننا إذا شئت فافعل، وتكلمت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد إن أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزنا فينا فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا، وتكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا: ياأبا خالد نحن بنو أبيك وحلفاؤك لا نرضى إن غضبت ولا نوطن إن ظعنت والأمر إليك فادعنا نجبك ومرنا نطعك والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللّه يابني سعد لئن فعلتموها لا رفع اللّه السيف عنكم أبداً ولا زال سيفكم فيكم.

ثم كتب إلى الحسين (صلوات اللّه عليه):

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد فقد وصل كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإن اللّه لا يخل الأرض قطّ من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حجة اللّه على خلقه ووديعته في أرضه، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر، فقد ذللت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها، وقد ذللت لك رقاب بني سعد وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استحل برقها فلمع).

فلما قرأ الحسين (عليه السلام) الكتاب قال: «ما لك آمنك اللّه يوم الخوف وأعزك

ص: 121

وأرواك يوم العطش». فلما تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين (عليه السلام) بلغه قتل الإمام (عليه السلام) بكربلاء قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأما المنذر بن الجارود(1)

فإنه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيد اللّه بن زياد لأن المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد اللّه وكانت بحرية بنت المنذر بن جارود زوجة لعبيد اللّه بن زياد، فأخذ عبيد اللّه بن زياد الرسول فصلبه ثم صعد المنبر فخطب وتوعد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف، ثم بات تلك الليلة فلما أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد وأسرع هو إلى قصر الكوفة(2).

سيطرة ابن مرجانة على الكوفة

لما علم يزيد بخطر خروج الكوفة عن سيطرته، بعث ابن مرجانة عبيد اللّه بن زياد والي البصرة الذي كان معروفاً بغلظته وشدته وسفكه للدماء إلى الكوفة، وأمره بأن يخرج فوراً من البصرة لكي يصل الكوفة قبل أن يدخلها الإمام الحسين (عليه السلام) .. كما أمره أن يقتل مسلم بن عقيل وكل من يريد نصرة الحسين (عليه السلام) أو يظن في حقه ذلك، ويجعل على الكوفة حصاراً أمنياً مشدداً لا يدخلها ولا يخرج منها أحد.

فأسرع عبيد اللّه مع جمع من جلاوزته نحو الكوفة والناس ينتظرون قدوم

ص: 122


1- المنذر بن الجارود واسمه بشر بن عمرو بن حبيش بن المعلى بن يزيد بن حارثة بن معاوية العبدي، كان أبوه من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأجلاء، وأما ابنه فكان زائغاً محباً للدنيا مزهوا بها، شهد المنذر الجمل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وولاه إحدى البلدان فخانه فعزله، وخان الإمام الحسين (عليه السلام) ، وولاه ابن زياد الهند ليزيد أجرة لخيانته فمات بها آخر سنة 61ه- فلم يهنأ بما اجتنته يداه.
2- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص26-29.

الإمام الحسين (عليه السلام) ، فأخفى وجهه لكي يوهم الناس، فازدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابته وظنهم أنه الحسين (عليه السلام) فحسر اللثام وقال: أنا عبيد اللّه!! فتساقط القوم ووطئ بعضهم بعضاً ودخل دار الإمارة وعليه عمامة سوداء. فلما أصبح قام خاطباً وعليهم عاتباً ولرؤسائهم مؤنباً ووعدهم بالإحسان على لزوم طاعته وبالإساءة على معصيته والخروج عن حوزته، ثم قال: يا أهل الكوفة إن أمير المؤمنين يزيد!! ولاّني بلدكم واستعملني على مصركم وأمرني بقسمة فيئكم بينكم وإنصاف مظلومكم من ظالمكم وأخذ الحق لضعيفكم من قويكم والإحسان للسامع المطيع والتشديد على المريب فأبلغوا هذا الرجل الهاشمي - أي مسلم بن عقيل (عليه السلام) - مقالتي ليتقي غضبي، ونزل(1).

ثم قام عبيد اللّه بن زياد باعتقالات واسعة، وبقتل الأبرياء، وبحصار الكوفة من جميع أطرافها، وأمر باعتقال وقتل كل من يدخلها أو يريد الخروج منها.

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) :

وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي(2) وشريك بن الأعور الحارثي(3) وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم،

ص: 123


1- بحار الأنوار: ج44 ص341 ب37.
2- مسلم بن عمرو بن حصين الباهلي، والد قتيبة بن مسلم القائد في جيش الأمويين، كان له حظوة عند يزيد بن معاوية وقد وجهه إلى ابن زياد بخبر توليته الكوفة وقتله مسلم، ثم سار مع ابن زياد إلى الكوفة ثم انضم إلى مصعب في حربه مع عبدالملك فاُصيب معه ومات سنة72ه.
3- شريك بن الأعور الحارثي كان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) واشترك معه في حرب الجمل وصفين وكان معتمداً عنده شديد الولاء له (عليه السلام) ، وله الموقف المعروف مع معاوية وأشعاره في حقه مشهورة، وكان مع هذا عظيم الجنبة عند الأمراء خصوصاً عند ابن زياد، وقد حاول بشتى الطرق أن يدافع عن الحسين (عليه السلام) فلم يفلح وكان قد مرض ومات قبل أن يُقتل مسلم رضوان اللّه عليه.

والناس قد بلغهم إقبال الحسين (عليه السلام) إليهم فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين رأوا عبيد اللّه أنه الحسين (عليه السلام) فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلاّ سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللّه، قدمت خير مقدم. فرأى من تباشرهم بالحسين (عليه السلام) ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو لما كثروا: تأخروا هذا الأمير عبيد اللّه بن زياد!(1).

وسار حتى وافى القصر في الليل، ومعه جماعة قد التفوا به لا يشكون أنه الحسين (عليه السلام) فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى حامته، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب، فاطلع عليه النعمان وهو يظنه الحسين (عليه السلام) فقال: أنشدك اللّه إلاّ تنحيت واللّه ما أنا مسلّم إليك أمانتي وما لي في قتالك من إرب، فجعل لا يكلمه، ثم إنه دنا وتدلى النعمان من شرف القصر فجعل يكلمه فقال: افتح لا فتحت فقد طال ليلك، وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين (عليه السلام) فقال: أي قوم ابن مرجانة والذي لا إله غيره.

ففتح له النعمان ودخل وضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا.

وأصبح عبيد اللّه فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أمير المؤمنين يزيد! ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، ثم نزل.

ص: 124


1- روضة الواعظين: ص175.

فأخذ العرفاء بالناس أخذا شديداً فقال: اكتبوا إلى العرفاء ومن فيكم من طلبة الأمير ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب، الذين شأنهم الخلاف والشقاق، فمن يجي ء بهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب أحداً فليضمن لنا من ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغ علينا باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية الأمير أحد لم يرفعه إلينا، صُلب على باب داره، وألغيت تلك العرافة من العطاء(1).

كما وعد ابن زياد الناس بزيادة العطاء إن خرجوا لحرب الإمام الحسين (عليه السلام) :

روي أنه جمع عبيد اللّه بن زياد الناس في مسجد الكوفة، ثم خرج فصعد المنبر وقال:

(كتب إليّ يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ومائتي ألف درهم أفرّقها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوه الحسين بن علي، فاسمعوا له وأطيعوا).

لا للغدر

لما دخل ابن زياد الكوفة، خرج مسلم بن عقيل (عليه السلام) من دار سالم بن المسيب، وانتقل إلى دار هانئ في جوف الليل، ودخل في أمانه، وكان يبايعه الناس سراً.

وكان شريك بن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيد اللّه بن زياد فمرض شريك فنزل دار هانئ أياماً، ثم قال لمسلم بن عقيل: إن عبيد اللّه بن زياد يعودني وإني مطاوله الحديث فاخرج إليه بسيفك فاقتله، وعلامتك أن أقول اسقوني ماءً، فلما دخل عبيد اللّه على شريك وسأله عن وجعه وطال سؤاله، ورأى شريك أن أحداً لا يخرج فخشي أن يفوته، فأخذ يقول:

ص: 125


1- الإرشاد: ج2 ص43-45.

ما الانتظار بسلمى أن تحييها***كأس المنية بالتعجيل اسقوها

فأحس ابن زياد بالخطر وخرج... فلما خرج مسلم (عليه السلام) قال له شريك: ما منعك من قتله؟

قال مسلم: حديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن»(1) أي لا يغدر(2).

قتل عبد اللّه بن يقطر

لما خرج عبيد اللّه بن زياد من بيت هاني متوجهاً إلى القصر، جاؤوا بعبد اللّه بن يقطر وكان يحمل رسالة من الإمام الحسين (عليه السلام) فأمر ابن زياد بقتله أمام الناس لإيجاد الرعب بينهم، وتفصيل القصة كالتالي:

كان عبد اللّه بن يقطر(3) من الشيعة المؤمنين وقد خرج مع الإمام الحسين (عليه السلام) يوم التروية من مكة نحو العراق، وقيل إنه كان أخاً رضاعياً للحسين بن علي (عليه السلام) .. وقد بعثه الإمام (عليه السلام) برسالة إلى مسلم بن عقيل (عليه السلام) وأهل الكوفة، جاء فيها: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا

ص: 126


1- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص192-193 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد..
2- في لسان العرب، مادة (فتك): الفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله..
3- عبداللّه بن يقطر بن أبي عقب الليثي من بني ليث بن بكر بن عبدمناف بن كنانة، كان رسول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة وقد قُبض عليه ثم رُمي به من فوق القصر فتكسر فقام إليه عمرو الأزدي فذبحه.

والطلب بحقنا، فسألت اللّه أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(1) في أمركم وجدّوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته».

وكان مسلم (عليه السلام) كتب إليه قبل أن يُقتل بسبع وعشرين ليلة وكتب إليه أهل الكوفة أن لك هاهنا مائة ألف سيف فلا تتأخر(2).

فخرج عبد اللّه بن يقطر نحو الكوفة واعتقل في الطريق من قبل جيش ابن زياد، فأخرج الرسالة وأتلفها.

فجيء به إلى ابن زياد، وأراد ابن زياد أن يخدعه فأخذ يكرمه ثم اقترح عليه أن يخطب في الناس ويتكلم ضد الإمام الحسين (عليه السلام) ويقول لهم: إن الحسين خارج على الدين وعلى خليفة المسلمين يزيد فيجب قتله!!.

فجاء ابن زياد بابن يقطر إلى جامع الكوفة وقدّمه للصلاة ونادى المنادي بأن عبد اللّه بن يقطر أخ الحسين (عليه السلام) من الرضاعة يصلي بكم ويخطب فيكم بخطبة هامة.

فصلى ابن يقطر بالناس واقتدى به ابن زياد ثم صعد المنبر وقال: إني عبد اللّه بن يقطر أخ الإمام الحسين (عليه السلام) من الرضاعة وقد خرجت معه من مكة يوم التروية فلما وصلة (لينة) أعطاني كتاباً إلى مسلم بن عقيل وإليكم، ولكنني اعتقلت وسط الطريق فأتلفت الكتاب وإني عالم بمضمونه وسأبينه لكم:

أيها الناس، الحسين بن علي (عليه السلام) قد دعاكم للخروج ضد الطاغية يزيد بن

ص: 127


1- وفي نسخة: (فأكمشوا) والمعنى واحد أي: أسرعوا.
2- الإرشاد: ج2 ص70-71.

معاوية وهو في طريقه إليكم وسيصل بإذن اللّه تعالى قريباً إلى الكوفة فاستعدوا لنصرته.

فلما سمع ابن زياد بمقالة ابن يقطر أمر جلاوزته بالهجوم عليه وضربه بالعصى على رأسه ووجهه وأخرجوه من المسجد إلى السجن.

ثم ناد المنادي بأن بعد ساعات وبالضبط حين العصر من ذلك اليوم، وأمام دار الحكومة، سيقتل الخائن! عبد اللّه بن يقطر ليكون عبرة للآخرين.

فاجتمع بعض الناس، ثم جيء بعبد اللّه مكتوفاً على سطح دار الأمارة وقام شخص بأمر ابن زياد وخطب في الناس قائلاً: إن هذا الرجل والحسين بن علي خرجا على الأمير يزيد فهما مرتدان يجب قتلهما، وقد عثرنا على هذا الرجل وسيُقتل اليوم، وسنأخذ الحسين (عليه السلام) قريباً ونقتله.

عند ذلك نادى عبد اللّه بن يقطر بأعلى صوته: أيها الناس المرتد على دين اللّه هو يزيد وابن زياد، أما الحسين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ...

فلم يمهلوه ليكمل كلامه، وضربوه بعمود على رأسه، ورموه من سطح القصر على الأرض، فاستشهد رضوان اللّه عليه.

ثم أرسل ابن زياد إلى الحصين بن نمير في القادسية وكانت تبعد عن الكوفة ستة فراسخ، وأخبره بقتل عبد اللّه وقيس ثم أكد عليه بحراسة الطريق بشكل جيد حتى لايصل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة ولا يفر إلى إيران، بل يعتقله ويأتي به ليُقتل(1).

ص: 128


1- حيث نظم الخيل بين القادسية إلى خفان، ومابين القادسية إلى القطقطانة، انظر الإرشاد: ج2 ص69.

شهادة مسلم بن عقيل (عليه السلام)

لما استولى عبيد اللّه بن زياد على الكوفة، بعث إلى الأشراف وجمعهم، ثم وعد الناس من أهل الطاعة بالزيادة والكرامة، وخوّف أهل المعصية بالحرمان والعقوبة، كما أخاف الناس بقرب وصول الجند من الشام إليهم.

وتكلم كثير بن شهاب(1)، حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد! قد أقبلت، وقد أعطى اللّه الأمير عهداً لئن تممتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيتكم، أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتليكم في مفازي الشام، وأن يأخذ البري ء منكم بالسقيم، والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها.

وتكلم الأشراف بنحو من ذلك. فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف الناس يكفونك، ويجي ء الرجل إلى ابنه أو أخيه ويقول: غداً تأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر انصرف، فيذهب به فينصرف، فما زالوا يتفرقون حتى أمسى مسلم ابن عقيل (عليه السلام) وحيداً فريداً.

فإن ابن عقيل (رحمه اللّه) صلى المغرب تلك العشية وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد. فخرج متوجهاً إلى أبواب كندة فلم يبلغ الأبواب إلاّ ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان يدله، فالتفت فإذا هو لا يحس أحداً يدله

ص: 129


1- كثير بن شهاب بن الحصين المازني المذحجي: كان شديد البخل، ساد مذحج، وقد ولي خراسان لمعاوية بن أبي سفيان، وقد خذّل أهل الكوفة عن مسلم بعد قتل هانيء (رضوان اللّه عليهما) وسكت عن قتل هانيء مع أن هانيء كان من سادة مذحج.

على الطريق ولا يدله على منزله، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو، فمضى على وجهه متلدداً(1) في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب؟ حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمضى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة، أم ولد كانت للأشعث بن قيس، وأعتقها وتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً، وكان بلال قد خرج مع الناس، وأمه قائمة تنتظره.

فسلّم عليها ابن عقيل (عليه السلام) فردت عليه السلام، فقال لها: يا أمة اللّه اسقيني ماءً، فسقته وجلس ودخلت ثم خرجت فقالت: يا عبداللّه ألم تشرب؟ قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، ثم أعادت مثل ذلك، فسكت، ثم قالت في الثالثة: سبحان اللّه يا عبداللّه قم عافاك اللّه إلى أهلك فإنه لايصلح لك الجلوس على بابي ولا اُحله لك، فقام (عليه السلام) وقال: يا أمة اللّه ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم، قالت: يا عبد اللّه وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم، وغروني وأخرجوني، قالت: أنت مسلم؟! قال: نعم، قالت: ادخل. فدخل إلى بيت دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال لها: واللّه إنه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة، إن لك لشأناً؟ قالت له: يا بني اله عن هذا، قال: واللّه لتخبريني، قالت له: أقبل على شأنك، ولا تسألني عن شيء، فألح عليها، فقالت: يا بني لا تخبرن أحداً من الناس بشيء مما أخبرك به، قال: نعم، فأخذت عليه الأيمان

ص: 130


1- أي يلتفت يميناً وشمالاً.

فحلف لها، فأخبرته فاضطجع وسكت.

ولما تفرق الناس عن مسلم بن عقيل (عليه السلام) طال على ابن زياد وجعل لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك، فقال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً؟ فأشرفوا فلم يجدوا أحدا، قال: فانظروهم لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم فنزعوا تخاتج المسجد، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون، وكانت أحيانا تضيئ لهم وتارة لا تضيئ لهم كما يريدون فدلوا القناديل وأطنان القصب تشد بالحبال ثم يجعل فيها النيران ثم تدلى حتى ينتهي إلى الأرض ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد بتفرق القوم. ففتح باب السدة التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه وأمرهم فجلسوا قبيل العتمة وأمر عمر بن نافع فنادى: ألا برئت الذمة من رجل من الشرط أو العرفاء والمناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلاّ في المسجد فلم يكن إلاّ ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته ومن أن يدخل إليه من يغتاله، وصلى بالناس. ثم صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:

أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل! قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة اللّه من رجل وجدناه في داره ومن جاء به فله ديته، اتقوا اللّه عباد اللّه، وألزموا الطاعة وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً.. يا حصين بن نمير ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، وخرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة. فابعث مراصد على أهل الكوفة ودورهم، وأصبح غداً واستبرء الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل.

ص: 131

وكان الحصين بن نمير على شرطه، وهو من بني تميم، ثم دخل ابن زياد القصر وقد عقد لعمرو بن حريث(1) راية وأمّره على الناس. فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس، فدخلوا عليه وأقبل محمد بن الأشعث فقال: مرحباً بمن لا يستغش ولا يتهم، ثم أقعده إلى جنبه، وأصبح ابن تلك العجوز فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث(2) فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمه، فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فساره فعرف ابن زياد سراره، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه: قم فأتني به الساعة، فقام وبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل. فبعث معه عبيد اللّه بن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل (عليه السلام) فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتي، فخرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار، فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين فضرب بكر فم مسلم، فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه، وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق، كادت تطلع إلى جوفه. فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت،

ص: 132


1- عمرو بن حريث بن عمرو المخزومي، توفي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وله 12 سنة، كان منافقاً فاجراً عثماني الهوى، يشتم أمير المؤمنين (عليه السلام) ويلعنه، وكان من أتباع بني أمية وممن حارب مسلم رضوان اللّه عليه، ولي الكوفة بأمر من ابن زياد وهو ممن يحشر يوم القيامة وإمامه ضب كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبائحه كثيرة، توفي 85 ه.
2- عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي: من تلك الشجرة الخبيثة، ولاه الحجاج سجستان فلما استقر بها خلع الحجاج وحاربه وجرت بينهما ثمانون وقعة وفي آخرها غلبه الحجاج فقتله سنة 84 ه.

وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب ثم يرمونها عليه من فوق البيت، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكة، فقال محمد بن الأشعث: لك الأمان لا تقتل نفسك، وهو يقاتلهم ويقول:

أقسمت لا أقتل إلا حرا***وإن رأيت الموت شيئا نكرا

ويخلط البارد سخناً مرا***رد شعاع الشمس فاستقرا

كل امرئ يوماً ملاق شرا***أخاف أن اُكذب أو اُغرا

فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تُكذب ولا تُغر ولا تخُدع إن القوم بنو عمك، وليسوا بقاتليك، ولا ضائريك، وكان قد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال، فانتهز واستند ظهره إلى جنب تلك الدار، فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان.

فقال: آمن أنا؟

قال: نعم.

فقال (عليه السلام) للقوم الذين معه: ألي الأمان؟

قال القوم له: نعم، إلا عبيد اللّه بن العباس السلمي فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل ثم تنحى.

فقال مسلم: أما لو تأمنوني ما وضعت يدي في أيديكم(1)، فأتى ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه، وكأنه عند ذلك يئس من نفسه، فدمعت عيناه ثم قال: هذا أول الغدر.

فقال له محمد بن الأشعث: أرجو أن لا يكون عليك بأس.

ص: 133


1- كان مسلم (عليه السلام) يعلم بغدرهم ولكن أراد من ذلك أن يبين للتاريخ غدرهم وأنهم أعطوه الأمان ثم قتلوه.

قال مسلم (عليه السلام) : وما هو إلاّ الرجاء؟ أين أمانكم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، وبكى.

فقال له عبيد اللّه بن العباس: إن من يطلب مثل الذي طلبت إذا ينزل به مثل ما نزل بك لم يبك.

قال: واللّه إني ما لنفسي بكيت، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين، إني أبكي للحسين وآل الحسين (عليهم السلام) . ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد اللّه إني أراك واللّه ستعجز عن أماني فهل عندك خير: تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسيناً (عليه السلام) فإني لا أراه إلاّ وقد خرج اليوم أو خارج غداً وأهل بيته، ويقول له: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في يد القوم لا يرى أنه يمسي حتى يُقتل، وهو يقول لك: ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغررك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي.

فقال ابن الأشعث: واللّه لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك.

قال: وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، واستأذن، فأذن له، فدخل على عبيد اللّه بن زياد، فأخبره خبر ابن عقيل، وضرب بكر إياه، وما كان من أمانه له، فقال له عبيد اللّه: وما أنت والأمان؟ كأنا أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به، فسكت ابن الأشعث وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر، وقد اشتد به العطش، وعلى باب القصر ناس جلوس، ينتظرون الإذن، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط(1)، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن

ص: 134


1- عمارة بن عقبة بن أبي معيط الأموي أخو الوليد، أسلم يوم الفتح خوفاً من السيف وكان من الوشاة حيث كان يكتب إلى معاوية في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) بالأخبار، ووشى بعمرو ابن الحمق أمام زياد عامل معاوية وسبب قتله، ووشى بالمختار أمام ابن زياد فسبب شتر عينه وسجنه، ووشى بمسروق أمام الضحاك ابن قيس فروى مسروق عن ابن مسعود: أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أراد قتل أبيك قال له: من للصبية؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : النار.

شهاب، وإذا قلة باردة موضوعة على الباب. فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء.

فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها لا واللّه لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنمّ!،

فقال له ابن عقيل (عليه السلام) : ويحك من أنت؟

فقال: أنا الذي عرف الحق إذا أنكرته ونصح لإمامه إذ غششته وأطاعه إذ خالفته!، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال له ابن عقيل (عليه السلام) : لامك الثكل ما أجفاك وأقطعك وأقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني.

ثم جلس مسلم (عليه السلام) فتساند إلى حائط وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء فقال له: اشرب، فأخذ كلما شرب امتلا القدح دماً من فمه، ولا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرتين، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح، فقال: الحمد اللّه لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.

وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه. فلما دخل لم يسلم عليه بالامرة، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه، فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن، قال: كذلك؟ قال: نعم، قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: افعل!

ص: 135

فنظر مسلم إلى جلساء عبيد اللّه بن زياد، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فقال: يا عمر إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهي سر، فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيداللّه بن زياد: لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك؟(1) فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له: إن عليّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني، وإذا قُتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين (عليه السلام) من يرده فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلاّ مقبلا.

فقال عمر لابن زياد: أتدري أيها الأمير ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا، فقال ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن أما ماله فهو له، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحب، وأما جثته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده(2).

ثم قال ابن زياد: إيه ابن عقيل، أتيت الناس وهم جمع فشتت بينهم، وفرقت كلمتهم، وحملت بعضهم على بعض!.

قال مسلم (عليه السلام) : كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى الكتاب.

فقال له ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لِمَ لم تعمل فيهم بذلك إذ أنت

ص: 136


1- أراد ابن زياد من ذلك أن يعلم حاجة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ..
2- كان هذا القول من ابن زياد كذب فإن بني أمية أرسلوا من يقتل الحسين (عليه السلام) حتى وإن كان معلقاً بأستار الكعبة.

بالمدينة تشرب الخمر؟(1).

قال مسلم: أنا أشرب الخمر؟!! أما واللّه إن اللّه ليعلم أنك غير صادق، وأنك قد قلت بغير علم وأني لست كما ذكرت، وأنك أحق بشرب الخمر مني، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس التي حرّم اللّه قتلها، ويسفك الدم الذي حرم اللّه على الغصب والعداوة، وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب، كأن لم يصنع شيئاً.

فقال له ابن زياد: يا فاسق إن نفسك منتك ما حال اللّه دونه، ولم يرك اللّه له أهلاً، فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد!، فقال مسلم: الحمد لله على كل حال، رضينا باللّه حكماً بيننا وبينكم، فقال له ابن زياد: قتلني اللّه إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس، فقال له مسلم: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن، وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، لا أحد أولى بها منك.

فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاً (عليهم السلام) ، وأخذ مسلم لايكلمه. ثم قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه ثم أتبعوه جسده، فقال مسلم (عليه السلام) : واللّه لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني، فقال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف، فدعا بكر بن حمران الأحمري(2) فقال له: اصعد فليكن أنت الذي تضرب عنقه، فصعد به، وهو (عليه السلام) يكبّر ويستغفر اللّه ويصلي على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقول: «اللّهم احكم بيننا وبين

ص: 137


1- أراد ابن زياد بهذه التهم والأكاذيب أن يخدع الناس.
2- بكر أو بكير بن حمران الأحمري: كان من تبيع العمال كما قيل، وهو الذي قاتل حجراً بأمر زياد، ومسلماً رضوان اللّه عليهما وباشر قتله بأمر من ابن زياد.

قوم غرونا وكذبونا وخذلونا». وأشرفوا به على موضع الحذائين اليوم، فضرب عنقه وأتبع رأسه جثته(1).

قتل هاني بن عروة

ثم اعتقلوا هانئ بن عروة.. قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : فقام محمد بن الأشعث إلى عبيد اللّه بن زياد فكلمه في هانئ بن عروة، فقال: إنك قد عرفت موضع هانئ من المصر، وبيته في العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، وأنشدك اللّه لما وهبته لي، فإني أكره عداوة المصر وأهله.

فوعده أن يفعل، ثم بدا له، وأمر بهانئ في الحال فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه، فاُخرج هانئ حتى اُتي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم، وهو مكتوف فجعل يقول: (وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم، يا مذحجاه يا مذحجاه أين مذحج)؟ فلما رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال: (أما من عصا أو سكين أو حجارة أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه)؟ ووثبوا إليه فشدوه وثاقاً ثم قيل له: امدد عنقك فقال: (ما أنا بها بسخي، وما أنا بمعينكم على نفسي) فضربه مولى لعبيد اللّه بن زياد تركي، يقال له رشيد بالسيف، فلم يصنع شيئاً فقال له هانئ: (إلى اللّه المعاد، اللّهم إلى رحمتك ورضوانك)، ثم ضربه اُخرى فقتله(2).

كتاب ابن زياد إلى يزيد

ولما قتل ابن زياد مسلم بن عقيل (عليه السلام) وهانئ بن عروة (رحمه اللّه) بعث برأسيهما مع

ص: 138


1- راجع بحار الأنوار: ج44 ص349-357 ب37.
2- الإرشاد: ج2 ص63-64.

هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية وأمر كاتبه أن يكتب إلى يزيد...:

(أما بعد فالحمد اللّه الذي أخذ لأمير المؤمنين! بحقه، وكفاه مئونة عدوه، اُخبر أمير المؤمنين أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي وإني جعلت عليهما المراصد والعيون ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى أخرجتهما وأمكن اللّه منهما، فقدمتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة فليسألهما الأمير عما أحب من أمرهما، فإن عندهما علماً وورعاً وصدقاً والسلام)(1).

اقتل على التهمة

فكتب يزيد إلى ابن زياد: (أما بعد فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك وسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيراً، وإنه قد بلغني أن حسيناً قد توجه إلى العراق فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنة واقتل على التهمة، واكتب إلي في كل يوم ما يحدث من خبر إن شاء اللّه)(2).

خطاب ابن زياد وإرسال الجيوش

وبعد ذلك جمع ابن زياد الناس في جامع الكوفة ثم خرج فصعد المنبر ثم

ص: 139


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص208-209 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- الإرشاد: ج2 ص65-66.

قال: (أيها الناس، إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبون! وهذا أمير المؤمنين يزيد! قد عرفتموه حسن السيرة! محمود الطريقة! محسناً إلى الرعية! يعطي العطاء في حقه، قد أمنت السبل على عهده، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره، وهذا ابنه يزيد من بعده يُكرم العباد، ويغنيهم بالأموال ويكرمهم، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة، وأمرني أن أوفرها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا).

ثم نزل عن المنبر ووفر الناس العطاء وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين (عليه السلام) وأمر عمر بن سعد بالخروج إلى العراق في أربعة آلاف، ثم نادى في الناس بأن من لم يخرج إلى حرب الحسين (عليه السلام) فإنه يُقتل... كما منع الطرق المؤدية إلى كربلاء وأمر جلاوزته بأن يقتلوا من وجدوه يريد نصرة الحسين (عليه السلام) أو يُظن به ذلك.

فاجتمع الناس خوفاً وطمعاً فأوّل من خرج شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف(1)، فصار ابن سعد في تسعة آلاف(2)، ثم أتبعه بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين، والحصين بن نمير السكوني(3) في أربعة آلاف، وفلاناً المازني(4) في ثلاثة

ص: 140


1- في مناقب آل أبي طالب: ج3 ص248: (وشمر بن ذي الجوشن السلولي في أربعة آلاف من أهل الشام).
2- حيث إن ابن زياد وجه الحر بألف، ووجه مع ابن سعد أربعة آلاف.
3- الحصين بن نمير السكوني الحمصي منافق فاسق، كان على الرماة في جيش ابن سعد ومن قبل على شرطة ابن زياد، وهو الذي أمّره يزيد على الجيش الذي هجم على مكة المكرمة وأحرقها واشترك في قتال التوابين وكان من قادة جيوش ابن زياد، قتل سنة 67ه- مع ابن زياد في معركته مع إبراهيم الأشتر.
4- مضاير بن رهينة المازني: كما في (مناقب آل أبي طالب)، أو المصاب الماري: كما في كتاب الفتوح.

آلاف، ونصر بن فلان(1) في ألفين، فذلك عشرون ألفاً(2).

ثم أرسل إلى شبث بن ربعي أن أقبل إلينا وإنا نريد أن نوجه بك إلى حرب الحسين (عليه السلام) ، فتمارض شبث وأراد أن يعفيه ابن زياد، فأرسل إليه: أما بعد فإن رسولي أخبرني بتمارضك وأخاف أن تكون من الذين {إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ}(3) إن كنت في طاعتنا فأقبل إلينا مسرعاً.

فأقبل إليه شبث بعد العشاء لئلا ينظر إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلة، فلما دخل رحب به وقرب مجلسه وقال: أحب أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه، فقال: أفعل أيها الأمير، فما زال يرسل إليه بالعساكر(4) حتى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل(5). بل أكثر من ثلاثين ألفاً.

قتل المتخلفين

وبعث ابن زياد سويد بن عبد الرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة وأمره أن يطوف بها فمن وجده قد تخلف أتاه به، ونادى أيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن العسكر برئت الذمة منه.

فوجد رجلاً من همدان قد قدم يطلب ميراثاً له بالكوفة، فأتى به ابن زياد

ص: 141


1- نصر بن حرشة: كما في (مناقب آل أبي طالب)، أو نصر بن حربة: كما في كتاب الفتوح.
2- قد اجتمعت هذه الجيوش لابن سعد وذلك يوم السادس من محرم الحرام.
3- سورة البقرة: 14.
4- حيث أرسل مع شبث ألفاً، ومع حجار بن أبجر ألفاً، ومع كعب بن طلحة ثلاثة آلاف، وغيرهم.
5- بحار الأنوار: ج44 ص385-386 ب37.

فقتله.

وخصص ابن زياد خمسمائة فارس بقيادة زجر بن قيس الجعفي لكي يقيموا على جسر الصراة لمنع من يخرج من أهل الكوفة لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام) ..

وخرج البعض فاُخذ وقُتل، وتمكن القليل منهم الوصول إلى كربلاء لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام) كان منهم:

عامر بن أبي سلامة خرج من الكوفة والتحق بالإمام الحسين (عليه السلام) ..

وقاسط بن زهير بن الحرث التغلبي وأخوه كردوس وأخ ثالث له كانوا من أصحاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) خرجوا من الكوفة والتحقوا بجيش الإمام (عليه السلام) .

وحجاج بن بدر البصري خرج من البصرة والتحق بجيش الإمام (عليه السلام) ..

وبعد ذلك ضيقوا الحصار على الطرق المؤدية إلى كربلاء أكثر فأكثر..

وكان نعمان الأزدي وأخوه من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) والذين شاركاه في حرب صفين، خرجا مع جيش ابن زياد من الكوفة ليتمكنا من الوصول إلى كربلاء، فلما وصلا كربلاء التحقا بالإمام الحسين (عليه السلام) ..

ص: 142

28

المنازل بين مكة والعراق

اشارة

خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة نحو العراق، بأمر من اللّه عزوجل ومن رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنه سبحانه أراد أن يراه قتيلاً، وكان الإمام (عليه السلام) يعلم بمقتله في كربلاء ومقتل أصحابه، ولكنه ضحّى بنفسه الشريفة لإحياء دين اللّه.

وهذا لسان حاله (عليه السلام) :

إن كان دين محمد لم يستقم***إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني

وكان خروجه (عليه السلام) من مكة يوم التروية، الثامن من ذي الحجة.

وكان الإمام (عليه السلام) في طريقه يخطب في الناس ويُعلمهم بقصته، فبعض يلتحق به وبعض يتركه، وكان ركبه عند خروجه إلى العراق نحو ألف فارس ومائة راجل، وفي ليلة عاشوراء أمسوا وهم مائة تقريباً، فلم يبق إلاّ الخلص من الأصحاب الذين لم يريدوا من نصرتهم للحسين (عليه السلام) إلاّ وجه اللّه تعالى.

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال: «الحمد لله وما شاء اللّه، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه، وصلّى اللّه على رسوله وآله وسلّم، خُطّ الموت على وُلد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على

ص: 143

بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن يشذ عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وتنجز لهم وعده، من كان فينا باذلاً مهجته، وموطناً على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مُصبحاً إن شاء اللّه»(1).

وهكذا خرج الإمام الحسين (عليه السلام) نحو العراق من مكة المكرمة، بعد ما أنهى إحرامه بعمرة مفردة، وترك الحج، ونزل في طريقه عدة منازل، ذكرها المؤرخون، كان منها:

منزل التنعيم

سار الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة حتى مرّ بأول منزل وهو (التنعيم)(2)، فلقي هناك عيراً تحمل هدية إلى يزيد، بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامله على اليمن، وعليها الورس والحُلل..

فتكلم الإمام (عليه السلام) مع أصحاب الإبل وبين لهم سبب خروجه، فالتحق عدد منهم بركب الحسين (عليه السلام) وامتنع آخرون، فتركهم الإمام (عليه السلام) (3).

منزل الصِفاح و ذات عرق

وسار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصل إلى (الصفاح)(4) و(ذات عرق)(5)، وبقي

ص: 144


1- كشف الغمة: ج2 ص239 باب في ذكر شيء من كلامه (عليه السلام) .
2- التنعيم: موضع في الشمال الغربي من مكة، وهو أقرب أطراف الحل إليها، كان بينه وبينها أربعة أميال. واليوم هو داخل ضمن مدينة مكة المكرمة.
3- انظر: لواعط الأشجان: ص76.
4- الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرب على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش، معجم البلدان: ج3 ص412.
5- ذات عرق: آخر مكان في العقيق، وهو ميقات أهل العراق للإحرام..

في ذات عرق يوماً أو يومين، ولم يدخل القرية بل خيّم في الوادي. فلقي هناك بشر بن غالب(1) وارداً من العراق فسأله عن أهلها؟ فقال: خلّفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية، فقال (عليه السلام) : «صدق أخو بني أسد، إن اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد»(2).

كما وصل هناك الفرزدق، الشاعر المعروف قاصداً الحج. فرأى الخيام في ذات عرق فسأل لمن هذه الخيام؟ فقالوا: للحسين بن علي (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه.

فتصور الفرزدق أن الإمام (عليه السلام) كان في السفر وقد وصل إلى ذات عرق وهو في طريقه للحج، قال: فتقدمتُ وسألتُ عن خيمة الإمام الحسين (عليه السلام) فدخلت عليه وكان الإمام (عليه السلام) غارقاً في الفكر وهو يقرأ القرآن. يقول الفرزدق: فسلّمت على الإمام (عليه السلام) فأجابني بحرارة وحب وسأل عن حاجتي، فقلت: إنني الفرزدق وجئت من البصرة قاصداً الحج. فرحب الإمام (عليه السلام) بي وأجلسني، فقال الفرزدق: لما رأيت خيامكم قلت سأتشرف للحج بحضوركم.

فقال له الإمام (عليه السلام) : إننا راجعون من مكة وقد قصدنا العراق!

فتعجب الفرزدق كثيراً وقال: هذا موسم الحج فكيف تخرجون من مكة؟

قال الإمام (عليه السلام) : لأن بني أمية بعثوا جماعة لقتلي وإن كنت معلقاً بأستار الكعبة.

يقول الفرزدق: كنت أعلم أن الإمام الحسين (عليه السلام) شجاع لا يخاف الموت ولايخاف من الذي يريد قتله، فلماذا خرج من مكة؟ ولكنني لم أجرأ على أن أسأل الإمام (عليه السلام) ذلك. فتوجه الإمام (عليه السلام) إليّ وقال: تريد أن تسألني عن

ص: 145


1- بشر بن غالب الأسدي: من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين والسجاد (عليهم السلام) .
2- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص43.

خروجي مع أنني لا أخاف الموت، إنني خرجت بأمر اللّه عزوجل إلى حيث ما أراده الباري تعالى.

قلت: نعم إنه كذلك. ثم سألني الإمام (عليه السلام) عن العراق وحال الناس فيه وقال: هل سيفون بوعدهم؟ قلت: إنهم من المحبين والشيعة لكم ولكنني لا أعلم حالهم في الامتحان والشدة.

قال الإمام (عليه السلام) : إنني أريد نصرهم لا لأجل نفسي بل لأجل أنفسهم، وإلاّ فإن اللّه عزوجل هو ناصري. ثم قال الفرزدق: أحذرك من تقلبهم.

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أنا ماض على ما أراده ربي.

يقول الفرزدق: ثم أعطاني الإمام الحسين (عليه السلام) بعض الدنانير هدية وخرجت من عنده.

كتاب إلى ابن زياد

ولما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى بعض هذه المنازل وهو في طريقه إلى العراق، اتصل الخبر بالوليد بن عتبة أمير المدينة، فكتب الوليد إلى ابن زياد: (أما بعد فإن الحسين قد توجه إلى العراق وهو ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاحذر يا ابن زياد أن تأتي إليه بسوء، فتهيج على نفسك وقومك أمراً في هذه الدنيا لا يصده شيء، ولا تنساه الخاصة والعامة أبداً ما دامت الدنيا).

فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد(1).

لمن هذه الخيام؟

وفي بعض هذه المنازل وبعد أداء مناسك الحج، التقى بالإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 146


1- بحار الأنوار: ج44 ص368 ب37.

بعض الحجاج الذين حجّوا ورجعوا، يقول أحدهم: فبينما أنا أسير إذ رفعتُ طرفي إلى أخبية وفساطيط، فانطلقت نحوها حتى أتيت أدناها، فقلت لمن هذه الأبنية؟

فقالوا: للحسين (عليه السلام) . قلت: ابن علي وابن فاطمة (عليهما السلام) ؟

قالوا: نعم. قلت: في أيها هو؟

قالوا: في ذلك الفسطاط. فانطلقت نحوه فإذا الحسين (عليه السلام) متك على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه، فسلّمت، فرد عليّ، فقلت: يا ابن رسول اللّه بأبي أنت وأمي ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة؟

قال (عليه السلام) : «إن هؤلاء أخافوني وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرماً إلاّ انتهكوه بعث اللّه إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذل من قوم الأمة»(1).

لي عملي ولكم عملكم

ولما خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة اعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد ليردّوه، فأبى عليهم ومضى الحسين (عليه السلام) على وجهه فبادروه وقالوا: يا حسين ألا تتقي اللّه!! تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة!!

فقال (عليه السلام) : «{لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}(2)»(3).

ص: 147


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص218 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- سورة يونس: 41.
3- مثير الأحزان: ص27-28.

منزل أجأ

ولما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) منزل (أجأ)، جاءه الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي وطلب من الإمام (عليه السلام) أن يبقى هناك في ضيعته وبستانه، فإنه مكان آمن نسبياً، وإذا هجم الأعداء على الإمام (عليه السلام) فإن عشيرة طي، وهم أكثر من عشرين ألف مسلح، سيدافعون عنه.

روي أن الطرماح(1)

قال: لقيت حسيناً (عليه السلام) وقد امترت لأهلي ميرة(2)،

فقلت له: أذكّرك في نفسك لا يغرنك أهل الكوفة، فواللّه لئن دخلتها لتُقتلن وإني لأخاف أن لا تصل إليها، فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل أجأ(3)، فإنه جبل منيع واللّه ما نالنا فيه ذل قط، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم.

فقال الحسين (عليه السلام) : إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم، فإن يدفع اللّه عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لابد منه ففوز وشهادة إن شاء اللّه.

يقول الطرماح: ثم حملت الميرة إلى أهلي وأوصيتهم بأمورهم وخرجت أريد الحسين (عليه السلام) لأنصره، فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله (عليه السلام) فرجعت(4).

ص: 148


1- هو الطرماح بن عدي الطائي وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أرسله إلى معاوية وقضيته معه معروفة، وكان من أصحاب الحسين (عليه السلام) ، وكان رجلاً مفوّهاً طوالاً.
2- الميرة: الطعام يشتريه الإنسان.
3- أجأ: أحد جبلي طيئ وهو غربي فيد وبينهما مسير ليليتين وفيه قرى كثيرة.معجم البلدان: ج1 ص94.
4- بحار الأنوار: ج44 ص369 ب37.

منزل منية

وسار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصل منزل (منية), وكان كلما نزل في مكان يأتيه الناس فيخطب فيهم ويبين لهم الهدف من سفره إلى العراق، وأنه سيُقتل في كربلاء ثم يخاطب القوم ويقول: «هل من ناصر ينصرنا»؟ فيخرج بعضهم مع الإمام الحسين (عليه السلام) لنصرته ويلتحق بركبه.

وقد أمر الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه بأخذ الماء من منزل (منية)، فإن الطريق بعيد لا ماء فيه إلاّ بعد ثلاثة أيام من السير.

منزل لينة والحاجز

وسار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصل منزل (لينة) فكتب فيها جواب كتاب مسلم بن عقيل (عليه السلام) وأعطاه لقيس بن مسهر الصيداوي (رحمه اللّه) ليوصله إلى الكوفة.

روي أنه لما بلغ عبيد اللّه بن زياد إقبال الحسين (عليه السلام) من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه مع ألف فارس حتى نزل القادسية ليمنع الحسين (عليه السلام) من دخول الكوفة، وليعتقله ويأخذه أسيراً إلى ابن زياد، فنظم الحصين بن نمير الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وقال للناس: هذا الحسين يريد العراق، وجعل جائزة على من يأتي بالحسين (عليه السلام) ..

ولما بلغ الحسين (عليه السلام) (الحاجز) من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي برسالة إلى أهل الكوفة.

وكانت هذه الرسائل قبل وصول خبر قتل مسلم بن عقيل (رحمه اللّه) إلى الإمام (عليه السلام) ، فكتب الإمام (عليه السلام) إلى أهل الكوفة: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وعبد اللّه بن وال وجماعة المؤمنين، أما بعد: فقد علمتم أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قال في حياته: من

ص: 149

رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، ثم لم يغير بقول ولا فعل كان حقيقاً على اللّه أن يدخله مدخله، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه وحرموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر، لقرابتي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولاتخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم بي أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم فلعمري ما هي منكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ}(1) وسيغني اللّه عنكم، والسلام»(2).

ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي، فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الإمام الحسين (عليه السلام) حتى إذا وصل القادسية فأخذه الحصين بن نمير وجيشه، فبعثوا به إلى عبيد اللّه بن زياد إلى الكوفة، فقال له عبيد اللّه بن زياد: اصعد فسبّ الكذاب الحسين بن علي(3)!!.

وروي أنه: لما قارب قيس بن مسهر دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ليفتشه فأخرج قيس الكتاب ومزّقه وعجنه بالماء بحيث لا يمكن قراءته، فحمله الحصين إلى ابن زياد، فلما مثل بين يديه قال له من أنت؟

ص: 150


1- سورة الفتح: 10.
2- انظر بحار الأنوار: ج44 ص381-382 ب37 في نزوله (عليه السلام) كربلاء.
3- انظر روضة الواعظين: ص178.

قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه (عليهما السلام) ..

قال: فلماذا خرقت الكتاب؟

قال: لئلا تعلم ما فيه.

قال: وممن الكتاب وإلى من؟

قال: من الحسين بن علي (عليه السلام) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

فغضب ابن زياد فقال: واللّه لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه، وإلاّ قطعتك إرباً إرباً..

فقبل قيس أن يصعد المنبر ويتكلم بما أراده ابن زياد.

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأكثر من الترحم على علي (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهم السلام) ثم لعن عبيد اللّه بن زياد وأباه، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم. ثم قال: أيها الناس أنا رسول الحسين (عليه السلام) إليكم وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه(1).

فاشتد غضب عبيد اللّه بن زياد وأمر به أن يُرمى من فوق القصر، فرمي به فتقطع ومات شهيداً، رضوان اللّه تعالى عليه(2).

وروي أنه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي(3) فذبحه(4).

ص: 151


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص46-47.
2- انظر مقتل الحسين (عليه السلام) : ص72.
3- أبو عمر عبدالملك بن عمير اللخمي، شامي حليف بني عدي من قريش، ولد في أخريات حكم عثمان وعمّر، توفي سنة 130ه- وكان كذاباً ناصبياً يضع فضائل لأعداء أهل البيت (عليهم السلام) .
4- الإرشاد: ج2 ص71.

ولما بلغ الحسين (عليه السلام) قتل قيس استعبر باكياً ثم قال: «اللّهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، إنك على كل شيء قدير»(1).

مع عبد اللّه بن مطيع

ثم أقبل الحسين (عليه السلام) من (الحاجز) يسير نحو العراق فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي، وهو نازل به، فلما رآه الحسين (عليه السلام) قام إليه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه ما أقدمك؟ واحتمله وأنزله.

فقال له الحسين (عليه السلام) : كان من موت معاوية ما قد بلغك، وكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال له عبد اللّه بن مطيع: أذكرك اللّه يا ابن رسول اللّه وحرمة الإسلام أن تنهتك، أنشدك اللّه في حرمة قريش، أنشدك اللّه في حرمة العرب، فو اللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً، واللّه إنها لحرمة الإسلام تنهتك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية. فأبى الحسين (عليه السلام) إلاّ أن يمضي(2).

أقول: الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم بأن بني أمية يريدون القضاء على الإسلام، فإذا لم ينهض ولم يضحِّ بنفسه وأهله ولم يُقتل فإنه لا يبقى من الإسلام شيء، فلذلك قّدم دين اللّه على حياته وحياة أصحابه وأهل بيته. وخرج إلى الشهادة عالماً بها حيث أخبره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «بنيّ يا حسين أخرج إلى

ص: 152


1- بحار الأنوار: ج44 ص382 ب37 نزوله (عليه السلام) في كربلاء.
2- بحار الأنوار: ج44 ص372 ب37.

العراق فإن اللّه قد شاء أن يراك قتيلا»(1).

منع التجول

كان عبيد اللّه بن زياد أمر بمنع التجول بين مختلف البلدان، فأخذوا ما بين واقصة(2) إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة، لا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج.

وأمر باعتقال أي شخص رؤي في الطريق، وقتل كل من أراد نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) .

ولما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى بعض الأعراب سألهم فقالوا: لاواللّه ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج.. فسار (عليه السلام) تلقاء وجهه(3).

مع زهير بن القين

كان زهير بن القين - على ما قال البعض(4) - عثماني الهوى، ولكنّه تغير عند ما تشرف بلقاء الإمام الحسين (عليه السلام) في طريق كربلاء فالتحق بالإمام واستشهد بين يديه يوم عاشوراء، رضوان اللّه تعالى عليه.

وقد حدث جماعة من فزارة(5) ومن بجيلة(6) قالوا: كنا مع زهير بن القين

ص: 153


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص214 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- واقصة: منزل بطريق مكة بعد القرعاء نحو مكة وقبل العقبة لبني شهاب من طيء، دون زبالة بمرحلتين وتسمى بواقصة الحزون.
3- انظر الإرشاد: ج2 ص72.
4- انظر مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص105، تاريخ الطبري: ج4 ص316.
5- وهي قبيلة منسوبة إلى فزارة بن ذبيان بن بغيض بن حريث بن غطفان من قيس عيلان.
6- والنسبة (البجلي): وهي قبائل أشهرها: هي ما انتسب إلى بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث وقيل: إن بجيلة اسم أم هذه القبيلة وهي من سعد العشيرة، وأيضاً تنسب القبيلة إلى حي من سليم.

البجلي حين أقبلنا من مكة، وكنا نساير الحسين (عليه السلام) فلم يكن شيء أبغض علينا من أن ننازله في منزل، وإذا سار الحسين (عليه السلام) فنزل في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فنزل الحسين (عليه السلام) في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (عليه السلام) حتى سلّم، ثم دخل فقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد اللّه الحسين (عليه السلام) بعثني إليك لتأتيه.

فطرح كل إنسان منا ما في يده، حتى كأنما على رؤوسنا الطير، فقالت له امرأته وهي ديلم بنت عمرو: سبحان اللّه أيبعث إليك ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت.

فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً، قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه، فقُوض وحُمل إلى الحسين (عليه السلام) ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلاّ خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بروحي، وأقيه بنفسي، ثم أعطاها مالها وسلّمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: خار اللّه لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين (عليه السلام) .

أقول: وهذا كله يدل على أن الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته (عليهم السلام) كانوا يعلمون بأنهم ذاهبون إلى الشهادة.

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) (1): ثم قال زهير لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني،

ص: 154


1- الشيخ محمد بن محمد بن النعمان شيخ جليل شيخ الطائفة ورئيسها وناظم علومها وناشرها، من أبناء الصحابي الجليل سعيد بن جبير، فقيه متكلم محدث عالم، مضطلع بشتى العلوم النقلية والعقلية، شيخ من أتى بعده، والراوي لتراث من قبله من علماء الشيعة وحذاقها، له من المؤلفات ماتجاوزت حدود الواصفين كثرة ومتانة، وفضائله كثيرة، توفي ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة 314ه- ودفن جنب الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) .

وإلاّ فهو آخر العهد، إني سأحدثكم حديثاً، إنا غزونا البحر(1) ففتح اللّه علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان (رحمه اللّه) :أفرحتم بما فتح اللّه عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيد شباب آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم، فأما أنا فأستودعكم اللّه.

قالوا: ثم واللّه ما زال في القوم مع الحسين (عليه السلام) حتى قُتل (رحمه اللّه) (2).

منزل الخُزَيمية

ثم سار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصل إلى (الخزيمية)(3)، فأقام بها يوماً وليلة.

فلما أصبح أقبلت إليه أخته العقيلة زينب (عليها السلام) فقالت: يا أخي ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة؟

فقال الحسين (عليه السلام) : وما ذاك؟

فقالت: خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف وهو يقول:

ألا يا عين فاحتفلي بجهد***ومن يبكي على الشهداء بعدي

على قوم تسوقهم المنايا***بمقدار إلى إنجاز وعد

ص: 155


1- في بعض المصادر: بلنجر وهي مدينة في بلاد الروم، والظاهر أنها الأصح.
2- بحار الأنوار: ج44 ص371-372 ب37.
3- منزل من منازل الحاج بعد الثعلبية من الكوفة وقبل الأجفر وهي منسوبة إلى خزيمة بن خازم. معجم البلدان: ج2 ص370.

فقال لها الحسين (عليه السلام) : «يا أختاه كل الذي قضي فهو كائن»(1).

منزل زرود

ثم سار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصل منزل (زرود)(2)، وفيه اُخبر بقتل مسلم بن عقيل (عليه السلام) وهاني بن عروة (رحمه اللّه) .

روى عبد اللّه بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان قالا: لما قضينا حجتنا لم تكن لنا همة إلاّ اللحاق بالحسين (عليه السلام) في الطريق لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترقل(3) بنا ناقتانا مسرعين، حتى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حتى رأى الحسين (عليه السلام) فوقف الحسين (عليه السلام) كأنه يريده، ثم تركه ومضى، ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا لنسأله، فإن عنده خبر الكوفة، فمضينا حتى انتهينا إليه فقلنا: السلام عليك.

فقال: وعليكما السلام.

قلنا: ممن الرجل؟

قال: أسدي.

قلنا له: ونحن أسديان، فمن أنت؟

قال: أنا بكر بن فلان، فانتسبنا له، ثم قلنا له: أخبرنا عن الناس وراءك؟

قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجُران بأرجلهما في السوق!.

ص: 156


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص222-223 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد.
2- زرود: هي رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة، والزرود: جمع زرد وهو البلع سميت بذلك لإبتلاعها المياه التي تمطرها السحائب. معجم البلدان: ج3 ص139.
3- الإرقال: ضرب من الخبب وهو ضرب من العدو.

فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين (عليه السلام) فسايرناه حتى نزل (الثعلبية) ممسياً، فجئناه حين نزل فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، فقلنا له: يرحمك اللّه إن عندنا خبراً إن شئت حدثناك به علانيةً وإن شئت سراً، فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال: «ما دون هؤلاء سرّ»، فقلنا له: رأيتَ الراكب الذي استقبلته عشي أمس؟

فقال: «نعم، قد أردت مسألته».

فقلنا: قد واللّه استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم وهانئ! ورآهما يجران في السوق بأرجلهما!.

فبكى الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة اللّه عليهما» يردد ذلك مراراً.

وفي الحديث: أنه لما وصل خبر مسلم (عليه السلام) بكى الإمام الحسين (عليه السلام) .. وبكت النسوة وصرخوا صراخاً عالياً.

ونادى الإمام الحسين (عليه السلام) بأطفال مسلم وأخذ يترحم ويتعطف عليهم ويمسح يده على رؤوسهم.

قال الأسديان: فقلنا له: ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا وإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك.

فنظر (عليه السلام) إلى بني عقيل فقال: «ما ترون فقد قُتل مسلم»؟

فقالوا: واللّه ما نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق.

فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) فقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء»، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خار اللّه لك، فقال: «يرحمكم اللّه»، فقال له

ص: 157

أصحابه: إنك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان أسرع الناس إليك، فسكت(1).

أقول: الإمام الحسين (عليه السلام) عند ما بعث مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة كان قد أخبره بأنه سوف يُقتل، وخرج مسلم إلى الكوفة وهو يعلم بمقتله.. وكذلك قيس بن مسهر وعبد اللّه بن يقطر وسائر الأصحاب الذين أرسلهم أو كانوا في ركبه كانوا يعلمون بأنهم يسيرون وتسير المنايا إليهم، وأنهم ذاهبون إلى مصرع شاء اللّه أن يراهم قتلى فيها.

منزل الثَعلبية

وسار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى نزل (الثعلبية)(2) وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد ثم استيقظ فقال: «قد رأيت هاتفاً يقول: أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنة»!.

فقال له ابنه علي (عليه السلام) : يا أبة أفلسنا على الحق؟

فقال (عليه السلام) : «بلى يا بنيّ والذي إليه مرجع العباد».

فقال: يا أبة إذن لا نبالي بالموت.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «جزاك اللّه يا بنيّ خير ما جزى ولداً عن والده».

ثم بات (عليه السلام) في الموضع، فلما أصبح (عليه السلام) إذا رجل من أهل الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي قد أتاه فسلّم عليه ثم قال: يا ابن رسول اللّه ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

ص: 158


1- انظر بحار الأنوار: ج44 ص373 ب37.
2- الثعلبية: من منازل طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية، سميت بذلك نسبة إلى ثعلبة بن دودان بن أسد. معجم البلدان: ج2 ص79.

فقال الحسين (عليه السلام) : «ويحك أبا هرة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرتُ، وشتموا عرضي فصبرتُ، وطلبوا دمي فهربتُ، وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم اللّه ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليسلطن اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(1).

وفي حديث: لقي رجل الحسين بن علي (عليه السلام) بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه فقال له الحسين (عليه السلام) : «من أي البلاد أنت»؟

قال: من أهل الكوفة.

قال: «أما واللّه يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل (عليه السلام) من دارنا ونزوله بالوحي على جدي، يا أخا أهل الكوفة أفمستقى الناس العلم من عندنا فعلموا وجهلنا؟! هذا ما لا يكون»(2).

منزل شقوق وزبالة

ثم سار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصل منزل (شقوق) و(زبالة)(3).

قال السيد (رحمه اللّه) (4): أتاه خبر مسلم (عليه السلام) في زبالة(5)، ثم إنه سار (عليه السلام) فلقيه

ص: 159


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص43-44.
2- الكافي: ج1 ص399 باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد (عليهم السلام) ح2.
3- شقوق: منزل بطريق مكة بعد واقصة من الكوفة، معجم البلدان: ج3 ص356، زُبالة: منزل معروف بطريق مكة من الكوفة وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية.معجم البلدان:ج3 ص129.
4- هو السيد الجليل علي بن موسى بن جعفر المنتهي نسبه الى السيد محمد الطاووس العلوي الحسني من أجلاء الطائفة وثقاتها وعبادها وزهادها وله مؤلفات كثيرة حسنة توفي سنة664ه
5- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص45، وقد تقدم أن ذلك في (زرود) ويحتمل أن يكون خبر زبالة تأكيداً لما ورد عليهم من النبأ في زرود.

الفرزدق(1) فسلّم عليه ثم قال: يا ابن رسول اللّه كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته؟ قال: فاستعبر الحسين (عليه السلام) باكياً ثم قال: «رحم اللّه مسلماً فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وتحيته ورضوانه، أما إنه قد قضى ما عليه، وبقي ما علينا» ثم أنشأ (عليه السلام) يقول:

فإن تكن الدنيا تعد نفيسة***فدار ثواب اللّه أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشُئت***فقتل امرئ بالسيف في اللّه أفضل

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً***فقلة حرص المرء في الرزق أجمل

وإن تكن الأموال للترك جمعها***فما بال متروك به الحر يبخل

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : ثم انتظر (عليه السلام) حتى إذا كان السحر فقال لفتيانه وغلمانه: «أكثروا من الماء»، فاستقوا وأكثروا، ثم ارتحلوا، فسار (عليه السلام) حتى انتهى إلى زُبالة فأتاه خبر عبد اللّه بن يقطر (رحمه اللّه) ، فاستعبر باكياً ثم قال: «اللّهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، إنك على كل شيء قدير»(2).

وجاءه كتاب فأخرجه للناس وقرأه عليهم وقال: «أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد اللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه ذمام».

فتفرق بعض الناس عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضموا إليه، وإنما فعل ذلك لأنه (عليه السلام) كان يعلم بمقتله في كربلاء ومقتل كل من يصحبه، وكان بعض الأعراب

ص: 160


1- تقدم أن لقاء الفرزدق كان في منزل الصفاح وذات عرق.
2- بحار الأنوار: ج44 ص375 ب37.

اتبعوه وهم يظنون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(1).

بطن العقبة

ثم سار الإمام الحسين (عليه السلام) حتى مر ب- (بطن العقبة) فنزل عليها، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوذان فقال للإمام (عليه السلام) : أين تريد؟

فقال له الحسين (عليه السلام) : «الكوفة». فقال له الشيخ: أنشدك اللّه لمّا انصرفت، فواللّه ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ السيوف، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأما على هذه الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل.

فقال (عليه السلام) له: «يا عبد اللّه ليس يخفى عليّ الرأي، ولكن اللّه تعالى لا يُغلب على أمره». ثم قال (عليه السلام) : «واللّه لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم»(2).

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : «رأيت كأنّ كلاباً تنهشني، أشدها عليّ كلب أبقع»(3)..

منزل شراف وجيش الحر

ثم سار الإمام الحسين (عليه السلام) من بطن العقبة حتى نزل (شراف)(4)، فلما كان

ص: 161


1- انظر: العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص225 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- الإرشاد: ج2 ص76.
3- كامل الزيارات: ص157 ب23 ح195/20.
4- شراف: بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الأحساء التي لبني وهب، ومن شراف إلى واقصة ميلان. معجم البلدان: ج3 ص331.

السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا، ثم سار حتى انتصف النهار، فبينما هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه، فقال له الحسين (عليه السلام) : «اللّه أكبر، لم كبرت»؟

فقال: رأيت النخل.

قال جماعة ممن صحبه: واللّه إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط.

فقال الحسين (عليه السلام) : «فما ترونه»؟

قالوا: واللّه نراه أسنة الرماح وآذان الخيل.

فقال: «وأنا واللّه أرى ذلك». ثم قال (عليه السلام) : «ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد».

فقلنا له: بلى هذا ذو جشم(1) إلى جنبك فمل إليه عن يسارك، فإن سبقت إليه فهو كما تريد، فأخذ (عليه السلام) إليه ذات اليسار وملنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدلنا، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب، وكأن راياتهم أجنحة الطير، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه، وأمر الحسين (عليه السلام) بأبنيته فضُربت.. وجاء القوم زهاء ألف فارس، مع الحر بن يزيد الرياحي التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السلام) في حر الظهيرة، والحسين (عليه السلام) وأصحابه معتمون متقلدون أسيافهم(2).

ذو جشم

نزل الإمام الحسين (عليه السلام) بذي جشم - أو ذو حسم - ونزل في مقابله الحر بين يزيد الرياحي مع جيشه، وكان فيها عين صغير للماء لا يكفي إلاّ لعدد قليل.

ص: 162


1- في بعض المصادر (ذو جشم) وفي بعضها (ذو حسم).
2- بحار الأنوار: ج44 ص375 ب37.

فجاء جيش الحر وهم عطاشى وأرادوا الماء، فقال لهم الإمام (عليه السلام) : «هذه العين صغيرة لا تكفي لهذا الجيش»، ثم سأل (عليه السلام) أخاه العباس (عليه السلام) : «كم لنا من الماء»؟ قال: «القرب كلها مليئة». فقال الحسين (عليه السلام) : «اسقوا القوم وخيولهم»!.

ولولا أن سقاهم الإمام (عليه السلام) لمات جيش الحر من شدة الحر والعطش.

فقال الإمام الحسين (عليه السلام) لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً»، ففعلوا. وأقبلوا يملئون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقى آخر حتى سقوها عن آخرها.

قال علي بن الطعان المحاربي وهو من جيش أهل الشام: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين (عليه السلام) ما بي وبفرسي من العطش قال: «أنخ الراوية»، والراوية عندي السقاء، ثم قال (عليه السلام) : «يا ابن الأخ أنخ الجمل»، فأنخته، فقال: «اشرب»، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين (عليه السلام) : «اخنث السقاء» أي اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام (عليه السلام) فخنثه فشربت وسقيت فرسي(1).

وهذه الرواية تدل على وجود بعض أهل الشام في جيش الحر. وكانوا أيضاً في جيوش ابن زياد وعمر بن سعد يوم عاشوراء(2).

وهكذا وصل جيش الحر لمواجهة الإمام (عليه السلام) واعتقاله، ولكن الإمام (عليه السلام)

ص: 163


1- لواعج الأشجان: ص89-90.
2- وقد تقدم أن ابن زياد أرسل شمر بن ذي الجوشن بأربعة آلاف من أهل الشام، فضلاً عن أن الحصين بن نمير وهو من قادة ابن سعد كان من حمص وهي مدينة معروفة من بلاد الشام إلى غيرها من الشواهد.

تعامل معهم تعاملاً إنسانياً وأنقذهم من العطش، وكان مجيء الحر من القادسية، وكان عبيد اللّه بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره أن ينزل القادسية ليسيطر على الطرق..

خطبة الإمام (عليه السلام) لجيش الحر

وحضرت صلاة الظهر فأمر الإمام الحسين (عليه السلام) الحجاج بن مسروق أن يؤذن.

فلما حضرت الإقامة خرج الحسين (عليه السلام) في إزار ورداء ونعلين فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:

«أيها الناس إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم: أن أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعلّ اللّه أن يجمعنا وإياكم على الهدى والحق، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم».

فسكتوا عنه ولم يتكلموا كلمة، فقال للمؤذن: «أقم الصلاة»، فأقام الصلاة، فقال (عليه السلام) للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ فقال الحر: لا بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك، فصلى بهم الحسين (عليه السلام) (1)، ثم دخل فاجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه، فدخل خيمة قد ضربت له فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها.

فلما كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السلام) أن يتهيئوا للرحيل ففعلوا، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقام الحسين (عليه السلام) فصلى بالقوم ثم سلّم وانصرف

ص: 164


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص30 ب9 من أبواب الأذان والإقامة ح6.

إليهم بوجهه، فحمد اللّه وأثنى عليه وقال:

«أما بعد: أيها الناس فإنكم إن تتقوا اللّه وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلاّ كراهية لنا والجهل بحقنا، فكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم».

فقال له الحر: أنا واللّه ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر؟

فقال الحسين (عليه السلام) لبعض أصحابه: «يا عقبة بن سمعان(1)، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ» فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه.

فقال له الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد اُمرنا إذا نحن لقيناك، أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد اللّه بن زياد!.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «الموت أدنى إليك من ذلك».

ثم قال (عليه السلام) لأصحابه: «فقوموا فاركبوا»، فركبوا وانتظر حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: «انصرفوا»، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين (عليه السلام) للحر: «ثكلتك أمك، ما تريد»؟

فقال له الحر: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها، ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان، ولكن واللّه ما لي من ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما يُقدر عليه.

ص: 165


1- عقبة بن سمعان: من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وكان مولى للكلبية امرأته (عليه السلام) وقد استشهد معه (عليه السلام) وورد السلام عليه في الزيارة الشعبانية، ولكن يظهر من أبي مخنف والطبري وغيرهما أنه نجا من المعركة.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «فما تريد»؟

قال: أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد اللّه بن زياد.

فقال: «إذاً واللّه لا أتبعك».

فقال: إذاً واللّه لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات.

فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر: إني لم أؤمر بقتالك، إنما اُمرت أن لاأفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذ أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفاً، حتى أكتب إلى الأمير عبيد اللّه بن زياد، فلعل اللّه أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك، فخذ هاهنا.

فتياسر عن طريق العذيب والقادسية(1)، وسار الحسين (عليه السلام) ، وسار الحر في أصحابه يسايره وهو يقول له: يا حسين إني أذكرك اللّه في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه، وهو يريد نصرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخوفه ابن عمه وقال: أين تذهب؟ فإنك مقتول، فقال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى***إذ ما نوى حقا وجاهد مسلما(2)

الأبيات.

ص: 166


1- العذيب: ماء بين القادسية والمغيثة، يبعد عن القادسية بأربعة أميال وعن المغيثة باثنين وثلاثين ميلاً.معجم البلدان:ج4 ص92، والقادسية: قرية معروفة بينها وبين الكوفة 15 فرسخاً: معجم البلدان:ج4ص291.
2- الإرشاد: ج2 ص79-81. مرت الأبيات في هذا الكتاب فراجع.

منزل بِيضة

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يسير بركبه، والحر يسير بموازاته حتى وصلوا منزل بيضة(1)، فقام الإمام الحسين (عليه السلام) فيهم خطيباً وبين لهم السبب من نهوضه وعدم بيعته ليزيد.. فقال (عليه السلام) بعد حمد اللّه والثناء عليه:

«أيها الناس، إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من رآى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله» الخطبة(2).

عذيب الهجانات

لما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى (عذيب الهجانات)(3) لقي بعض الخيالة، كان فيهم الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي، ونافع بن هلال البجلي،

ص: 167


1- البيضة، بكسر الباء: ماء بين واقصة إلى العذيب متصلة بالحزن لبني يربوع.
2- مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص85-85. وهذا تمام الخطبة: «ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام اللّه، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري، وقد أتتنى كتبكم وقدمت على رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني اللّه عنكم، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته»..
3- عذيب الهجانات: مرّ سابقاً ذكر العذيب وهذا الموضع منه سمي بذلك لأن النعمان بن المنذر كان يرعي هجانه فيه والهجان هو الأبل الأبيض. انظر مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص87.

وعمرو بن خالد الصيداوي، ومجمع بن عبد اللّه المذحجي.

وكان دليلهم الطرماح، فسألهم الإمام (عليه السلام) عن أحوال الناس...

ثم أقبل الحسين (عليه السلام) على أصحابه وقال: «هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة»؟

فقال الطرماح: نعم يا ابن رسول اللّه أنا أخبر الطريق.

فقال الحسين (عليه السلام) : سر بين أيدينا، فسار الطرماح واتبعه الحسين (عليه السلام) وأصحابه وجعل الطرماح يرتجز ويقول:

يا ناقتي لا تذعري من زجري***وامضي بنا قبل طلوع الفجر

بخير فتيان وخير سفر***آل رسول اللّه آل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر***الطاعنين بالرماح السمر

الضاربين بالسيوف البتر***حتى تحلي بكريم الفخر

الماجد الجد رحيب الصدر***أصابه اللّه بخير أمر

عمره اللّه بقاء الدهر***يا مالك النفع معا والنصر

أيد حسينا سيدي بالنصر***على الطغاة من بقايا الكفر

على اللعينين سليلي صخر***يزيد لا زال حليف الخمر

وابن زياد العهر بن العهر(1)

قصر بني مقاتل

ثم مضى الإمام الحسين (عليه السلام) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل(2) فنزل به، فإذا

ص: 168


1- انظر: لواع الأشجان: ص96-97.
2- قصر بني مقاتل: كان بين عين التمر والشام، وهو قريب من القطقطانة وهو منسوب إلى مقاتل بن حسان. معجم البلدان: ج4 ص364، وفي الرواية: أن الحسين (عليه السلام) لما نزل القطقطانة...

هو بفسطاط مضروب، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعبيد اللّه بن الحر الجعفي(1).

فقال (عليه السلام) : ادعوه إليّ، فلما أتاه الرسول قال له: هذا الحسين بن علي (عليه السلام) يدعوك، فقال عبيد اللّه: إنا لله وإنا إليه راجعون، واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين (عليه السلام) وأنا بها، واللّه ما أريد أن أراه ولا يراني.

فأتاه الرسول فأخبره، فقام إليه الحسين (عليه السلام) فجاء حتى دخل عليه فسلّم وجلس، ثم دعاه إلى الخروج معه، فأعاد عليه عبيد اللّه بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه، فقال له الحسين (عليه السلام) : «فإن لم تنصرنا فاتق اللّه أن تكون ممن يقاتلنا، واللّه لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك».

فقال: أما هذا فلا يكون أبداً إن شاء اللّه. ثم قام الحسين (عليه السلام) من عنده حتى دخل رحله.

ولما كان في آخر الليلة أمر الإمام الحسين (عليه السلام) فتيانه بالاستقاء من الماء، ثم أمر بالرحيل، فارتحل من قصر بني مقاتل(2).

عن أبي الجارود(3)

عن عمرو بن قيس المشرقي(4) قال: دخلت على الحسين (صلوات اللّه عليه) أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل، فسلمنا عليه، فقال

ص: 169


1- عبيد اللّه بن الحر الجعفي: جاء في الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم ص74: (وبالجملة، فالرجل عندي صحيح الاعتقاد، سيء العمل، فقد خذل الحسين (عليه السلام) كما سمعت فقال له ما قال، ثم فعل يوم المختار ما فعل، ثم أخذ يتأسف ويتلهف نعوذ باللّه من الخذلان. والعجب من النجاشي كيف يعد هذا الرجل من سلفنا الصالح ويعتني به ويصدر كتابه بذكره مع هذا).
2- الإرشاد: ج2 ص81-82.
3- زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني إمامي، قيل إنه صار زيدياً، تابعي من أصحاب السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) وثقه جماعة واُعتمد عليه.
4- من أصحاب الإمامين أبي محمد الحسن وأبي عبداللّه الحسين (عليهما السلام) .

له ابن عمي: يا أبا عبد اللّه هذا الذي أرى خضاب أو شعرك؟

فقال (عليه السلام) : «خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل» ثم أقبل (عليه السلام) علينا فقال: «جئتما لنصرتي»؟ فقلت: إني رجل كبير السن، كثير الدَين، كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيع أمانتي، وقال له ابن عمي مثل ذلك، قال (عليه السلام) لنا: «فانطلقا فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يعنا كان حقاً على اللّه عز وجل أن يُكبَّه على منخريه في النار»(1).

القوم والمنايا

قال عقبة بن سمعان: سرنا مع الإمام الحسين (عليه السلام) ساعة، فخفق (عليه السلام) وهو على ظهر فرسه خفقة، ثم انتبه وهو يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ}(2)، و{الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}(3) ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً..

فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) على فرس فقال: يا أبه فيم حمدت اللّه واسترجعت؟

قال (عليه السلام) : «يا بني، إني خفقت خفقةً فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت إلينا.

فقال له: يا أبه لا أراك اللّه سوءً، ألسنا على الحق؟

قال: «بلى، والذي إليه مرجع العباد».

فقال: فإننا إذاً ما نبالي أن نموت محقين.

ص: 170


1- عقاب الأعمال: ص259، عقاب من سمع واعية أهل البيت (عليهم السلام) ورأى سوادهم فلم يجبهم.
2- سورة البقرة: 156.
3- سورة الفاتحة: 1.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «جزاك اللّه من ولد خير ما جزى ولداً عن والده»(1).

منزل نينوى

ولما أصبح الإمام الحسين (عليه السلام) نزل فصلى الغداة بأصحابه وأصحاب الحر، ثم عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يزيد فيردهم، فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة رداً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى (نينوى)(2) المكان الذي نزل به الحسين (عليه السلام) ..

فإذا راكب على نجيب له وعليه سلاح متنكب قوساً مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلما انتهى إليهم سلّم على الحر وأصحابه ولم يسلّم على الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فدفع إلى الحر كتاباً من عبيد اللّه بن زياد (لعنه اللّه)، فإذا فيه: (أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام).

فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير عبيد اللّه بن زياد يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه وهذا رسوله، وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره(3).

فنظر يزيد بن المهاجر الكندي وكان مع الحسين (عليه السلام) إلى رسول ابن زياد

ص: 171


1- إعلام الورى: ج1 ص450 الفصل الرابع من الباب الثاني من الركن الثالث.
2- نينوى، بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح النون والواو: ناحية بسواد الكوفة ومنها كربلاء. معجم البلدان: ج5 ص339، وكانت على نهر العلقمي وهي قرية عامرة قديماً تقع شمال شرق كربلاء وهي الآن تلول أثرية معروفة بتلول نينوى. انظر دائرة المعارف الشيعية: ج9 ص356.
3- مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص92-93.

فعرفه(1)

فقال له يزيد: ثكلتك أمك، ما ذا جئت فيه؟

قال: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي!

فقال له ابن المهاجر: بل عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال اللّه عز من قائل:{وجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ويَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ}(2) فإمامك منهم، وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية..

فقال له الحسين (عليه السلام) : دعنا ويحك ننزل هذه القرية أو هذه، يعني نينوى والغاضرية، أو هذه يعني شفنة(3).

قال: لا واللّه ما أستطيع ذلك، هذا رجل قد بُعث إليّ عيناً عليّ(4).

لا للبدء بالقتال

فقال زهير بن القين للإمام الحسين (عليه السلام) : إني واللّه لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون، يا ابن رسول اللّه إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، ولعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قِبل لنا به.

فقال الحسين (عليه السلام) : «ما كنت لأبدأهم بالقتال»(5).

كربلاء

ثم إن الإمام الحسين (عليه السلام) ركب وسار، وكلما أراد المسير منعوه تارةً وسايروه

ص: 172


1- وكان مالك بن النسير البدي، كما جاء ذلك في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف.
2- سورة القصص: 41.
3- قيل إنها شفاثا وهي موضع بقرب عين التمر وكانت معروفة بالقصب والتمر.
4- الإرشاد: ج2 ص85.
5- مستدرك الوسائل: ج11 ص80 ب31 من أبواب جهاد العدو ومايناسبه ح1.

أخرى، حتى بلغ كربلاء، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين(1).

وهكذا نزل الإمام الحسين (عليه السلام) بعياله وأطفاله وأهل بيته وأصحابه أرض كرب وبلاء.

روي أن زهير قال للإمام الحسين (عليه السلام) : فسر بنا حتى ننزل بكربلاء، فإنها على شاطئ الفرات، فنكون هنالك، فإن قاتلونا قاتلناهم واستعنا اللّه عليهم. قال: فدمعت عينا الحسين (عليه السلام) ثم قال: «اللّهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء»(2).

وروي أنه لما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) أرض كربلاء، سأل عن اسمها فقال: أهذه كربلاء؟

قالوا: نعم يا ابن رسول اللّه.

فقال (عليه السلام) : هذا موضع كرب وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا.

فنزل القوم، وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين (عليه السلام) في ألف فارس، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين (عليه السلام) بكربلاء. وكتب ابن زياد (لعنه اللّه) إلى الحسين (صلوات اللّه عليه):

(أما بعد، يا حسين فقد بلغني نزولك بكربلاء وقد كتب إليّ أمير المؤمنين! يزيد أن لا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير(3) أو ألحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية والسلام).

ص: 173


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص247.
2- بحار الأنوار: ج44 ص381 ب37.
3- الوثير: الفراش الوطيء، الخمير: هو الذي يجعل في العجين، والظاهر أنه أراد الخبز.

فلما ورد كتابه على الحسين (عليه السلام) وقرأه رماه من يده ثم قال: «لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق».

فقال له الرسول: جواب الكتاب أبا عبد اللّه؟

فقال (عليه السلام) : «ما له عندي جواب، لأنه قد حقت عليه كلمة العذاب».

فرجع الرسول إليه فخبره بذلك، فغضب عدو اللّه من ذلك أشد الغضب، والتفت إلى عمر بن سعد وأمره بقتال الحسين (عليه السلام) وقد كان ولاه الري قبل ذلك، فاستعفى عمر من ذلك فقال ابن زياد: فاردد إلينا عهدنا، فاستمهله، ثم قبِل بعد يوم خوفاً عن أن يُعزل عن ولاية الري(1).

عمر بن سعد في كربلاء

ولما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس فنزل بكربلاء، وكتب عمر بن سعد إلى عبيد اللّه بن زياد:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني حيث نزلت بالحسين (عليه السلام) بعثت إليه رسولي فسألته عما أقدمه وما ذا يطلب فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم إليهم ففعلت، فأما إذا كرهتموني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم).

قال حسان بن قائد العبسي: وكنت عند عبيد اللّه بن زياد حين أتاه هذا الكتاب فلما قرأه قال:

الآن إذ علقت مخالبنا به***يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد: (أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت

ص: 174


1- بحار الأنوار: ج44 ص383-384 ب37.

فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام).

فلما ورد الجواب قال عمر بن سعد: قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية(1).

ولما نزل الحسين (عليه السلام) في كربلاء دعا بدواة وبيضاء وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظن أنه على رأيه رسالة يدعوهم إلى نصره(2).

حبيب يدعو بني أسد

وفي كربلاء بعد ما استقر الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، واستقرت جيوش بني أمية، أقبل حبيب بن مظاهر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) فقال: يا ابن رسول اللّه هاهنا حي من بني أسد بالقرب منا، أتأذن لي في المصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك، فعسى اللّه أن يدفع بهم عنك؟ قال (عليه السلام) : «قد أذنت لك».

فخرج حبيب إليهم في جوف الليل متنكراً حتى أتى إليهم فعرفوه أنه من بني أسد، فقالوا: ما حاجتك؟

فقال: إني قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنه في عصابة من المؤمنين، الرجل منهم خير من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به، وأنتم قومي وعشيرتي وقد أتيتكم بهذه النصيحة فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة، فإني أقسم باللّه لا يُقتل أحد منكم في سبيل اللّه مع ابن

ص: 175


1- روضة الواعظين: ص181-182.
2- بحار الأنوار: ج44 ص381 ب37.

بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صابراً محتسباً إلاّ كان رفيقاً لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عليين.

قال: فوثب إليه رجل من بني أسد، يقال له عبد اللّه بن بشر، فقال: أنا أول من يجيب إلى هذه الدعوة، ثم جعل يرتجز ويقول:

قد علم القوم إذا تواكلوا***وأحجم الفرسان إذ تثاقلوا

أني شجاع بطل مقاتل***كأنني ليث عرين باسل

ثم تبادر رجال الحي حتى التأم منهم تسعون رجلاً فأقبلوا يريدون الحسين (عليه السلام) ، وخرج رجل في ذلك الوقت من الحي حتى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال، فدعا ابن سعد برجل من أصحابه يقال له: الأزرق، فضم إليه أربعمائة فارس(1)، ووجهه نحو حي بني أسد، فبينما أولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين (عليه السلام) في جوف الليل، إذا استقبلهم خيل ابن سعد على شاطئ الفرات، وبينهم وبين عسكر الحسين (عليه السلام) اليسير، فناوش القوم بعضهم بعضاً واقتتلوا قتالاً شديداً، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق: ويلك ما لك وما لنا انصرف عنا، ودعنا يشقى بنا غيرك، فأبى الأزرق أن يرجع، وعلمت بنو أسد أنه لا طاقة لهم بالقوم، فانهزموا راجعين إلى حيهم، ثم إنهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيتهم، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين (عليه السلام) فخبره بذلك، فقال (عليه السلام) : «لا حول ولا قوة إلا باللّه»(2).

غاية التضييق

عسكرت جيوش عمر بن سعد على شاطئ الفرات فحالوا بين الحسين (عليه السلام)

ص: 176


1- في كتاب الفتوح:ج5 ص91: إنه الأزرق بن حرب الصيداوي وقد ضم إليه أربعة آلاف فارس.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص237-238 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

وأصحابه وبين الماء، وأضر العطش بالحسين (عليه السلام) وأصحابه وأطفاله، فأخذ الحسين (عليه السلام) فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء فخطا في الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة ثم حفر هناك، فنبعت له عين من الماء العذب، فشرب الحسين (عليه السلام) وشرب الناس بأجمعهم، وملئوا أسقيتهم، ثم غارت العين، فلم ير لها أثر، وكان ذلك قبل عاشوراء بأيام.

وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى عمر بن سعد: بلغني أن الحسين يحفر الآبار، ويصيب الماء، فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم، ولا تدعهم يذوقوا الماء، وافعل بهم كما فعلوا بعثمان(1)، فعندها ضيق عمر بن سعد عليهم غاية التضييق.

فلما اشتد العطش بالحسين (عليه السلام) وأصحابه وأطفاله، دعا بأخيه العباس (عليه السلام) فضم إليه ثلاثين فارساً وعشرين راكباً، وبعث معه عشرين قربة، فأقبلوا في جوف الليل حتى دنوا من الفرات، فقال عمرو بن الحجاج: من أنتم؟ فقال رجل من أصحاب الحسين (عليه السلام) يقال له هلال بن نافع البجلي(2): ابن عم لك جئت أشرب من هذا الماء.

فقال عمرو: اشرب هنيئاً.

فقال هلال: ويحك تأمرني أن أشرب والحسين بن علي (عليه السلام) ومن معه يموتون

ص: 177


1- هذه من الأكاذيب التي اختلقها معاوية وبنو أمية وأتباعهم وإلا فقد روى العامة مايدل على أن بني هاشم وعلى رأسهم الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) وبأمرمن أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا يأتون إلى عثمان بالماء. انظر تاريخ دمشق: ج39 ص418، الثقات: ج2 ص261، تاريخ المدينة: ج4 ص1304، تاريخ الإسلام: ج3 ص459، السيرة الحلبية: ج2 ص268، وغيرها.
2- ربما يكون تصحيفاً لنافع بن هلال البجلي أو الجملي.

عطشاً؟

فقال عمرو: صدقت، ولكن اُمرنا بأمر لابدّ أن ننتهي إليه، فصاح هلال بأصحابه فدخلوا الفرات، وصاح عمرو بالناس واقتتلوا قتالاً شديداً، فكان قوم يقاتلون وقوم يملئون حتى ملئوها، ولم يُقتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) أحد، ثم رجع القوم إلى معسكرهم، فشرب الحسين (عليه السلام) ومن كان معه، ولذلك سمي العباس (عليه السلام) السقاء(1).

وكانت هذه القصة قبل عاشوراء بأيام.

نصيحة لعمر بن سعد

وفي كربلاء - وربما ليلة تاسوعاء - أرسل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى عمر بن سعد (لعنه اللّه)(2): «إني أريد أن أكلمك فألقني الليلة بين عسكري وعسكرك».

فخرج إليه ابن سعد في عشرين، وخرج إليه الحسين (عليه السلام) في مثل ذلك، فلما التقيا أمر الحسين (عليه السلام) أصحابه فتنحوا عنه وبقي معه أخوه العباس (عليه السلام) وابنه علي الأكبر (عليه السلام) ، وأمر عمر بن سعد وأصحابه فتنحوا عنه وبقي معه ابنه حفص وغلام له. فقال له الحسين (عليه السلام) : «ويلك يا ابن سعد أما تتقي اللّه الذي إليه معادك، أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك إلى اللّه تعالى».

فقال عمر بن سعد: أخاف أن تهدم داري.

فقال الحسين (عليه السلام) : أنا أبنيها لك.

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

ص: 178


1- انظر بحار الأنوار: ج44 ص387-288 ب37.
2- وكان رسول الحسين (عليه السلام) إليه: عمرو أو عمر بن قرظة بن كعب الأنصاري رضوان اللّه عليه.

فقال الحسين (عليه السلام) : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

فقال: لي عيال وأخاف عليهم.

ثم سكت ولم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين (عليه السلام) وهو يقول: «ما لك ذبحك اللّه على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فو اللّه إني لأرجو أن لاتأكل من بر العراق إلاّ يسيراً».

فقال ابن سعد: في الشعير كفاية عن البر، مستهزئاً بذلك القول(1).

كتاب عمر بن سعد إلى ابن زياد

بعد ما التقى الإمام الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد ونصحه وخوّفه من اللّه عزوجل، فلم ينفعه، لكنه من جانب آخر كان يعلم بأن مصيره النار لو قام بقتال الإمام (عليه السلام) ، فكتب إلى عبيد اللّه بن زياد:

(أما بعد، فإن اللّه قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي أمير المؤمنين! يزيد فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضى وللأمة صلاح).

أقول: كان عمر بن سعد يرجح أن لا تتلطخ يده بدم الحسين (عليه السلام) وإن كان حب الدنيا وملك ري هو الغالب على ابن سعد، وقد زاد في هذا الكتاب من عند نفسه بأن يأتي الحسين (عليه السلام) إلى يزيد فيضع يده في يده فيرى رأيه(2)، ولكن يزيد

ص: 179


1- انظر لواعج الأشجان: ص113.
2- روي عن أحد أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) الذي نجا من المعركة أنه قال: (لم أفارقه حتى قُتل وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها ألا واللّه ماأعطاهم ما يتذاكر الناس ومايزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس). انظر تاريخ الطبري: ج4 ص313.

كان مصراً على قتل الحسين (عليه السلام) وبذلك أمر ابن زياد وشمر ومن أشبه.

قيل: لما قرأ عبيد اللّه كتاب عمر بن سعد قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه، فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وأتى جنبك؟ واللّه لئن رحل بلادك ولم يضع يده في يدك، ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن عفوت كان ذلك لك.

فقال ابن زياد: نعم ما رأيت، الرأي رأيك، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلماً، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى أن يقاتلهم، فأنت أمير الجيش فاضرب عنق عمر بن سعد وابعث إلي برأسه.

فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد اللّه بن زياد إلى عمر بن سعد، فلما قدم عليه وقرأه قال له عمر: ما لك ويلك؟! لا قرب اللّه دارك، وقبح اللّه ما قدمت به عليّ، واللّه إني لأظنك نهيته عما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أمرنا، قد كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم واللّه حسين، إن نفس أبيه لبين جنبيه.

فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوه؟ وإلا فخلّ بيني وبين الجند والعسكر. قال: لا واللّه ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولى

ص: 180

ذلك فدونك فكن أنت على الرجالة(1).

سلاح العطش

وفي كربلاء ورد كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد: أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان!

فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين (عليه السلام) وأصحابه أن يستقوا منه، وذلك قبل قتل الحسين (عليه السلام) بثلاثة أيام.

ونادى عبد اللّه بن حصين الأزدي (لعنه اللّه) وقال بأعلى صوته:

يا حسين، ألا ترون إلى الماء كأنه كبد السماء، واللّه لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشاً.

فقال الحسين (عليه السلام) : «اللّهم اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً».

قال حميد بن مسلم: واللّه لعدته بعد ذلك في مرضه، فو اللّه الذي لا إله غيره، لقد رأيته يشرب الماء حتى يبغر(2)

ثم يقيء ويصيح: العطش العطش، ثم يعود يشرب حتى يبغر، ثم يقيئه ويتلظى عطشاً، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه(3).

لا أرى الموت إلا سعادة

خطب الإمام الحسين (عليه السلام) في الناس مرات عديدة، منذ خروجه من المدينة حتى وصوله كربلاء، وكذلك ليلة التاسع والعاشر، بل ويوم عاشوراء وحتى

ص: 181


1- الإرشاد: ج2 ص87-89.
2- البغر: داء يصاحبه عطش لا يروى صاحبه.
3- إعلام الورى: ج1 ص453.

حين القتال ليتم الحجة على الجميع، قال تعالى: {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ}(1).

كما كان يخطب الإمام (عليه السلام) في أصحابه ويؤكد لهم بأن مصيرهم القتل في سبيل اللّه عزوجل.

روي أنه لما نزل القوم بالحسين (عليه السلام) وأيقن أنهم قاتلوه، قام خطيباً في أصحابه فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «قد نزل ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تنكرت وتغيرت وأدبر معروفها، واستمرت حتى لم يبق منها إلاّ كصبابة الإناء، وإلاّ خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه، وإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(2)..

فقام زهير بن القين فقال: (قد سمعنا، هداك اللّه يا ابن رسول اللّه، مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها).

وقام هلال بن نافع البجلي(3)

فقال: (واللّه ما كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك).

وقام برير بن خضير (رحمه اللّه) فقال: (واللّه يا ابن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، فيُقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة)(4).

ص: 182


1- سورة الأنفال: 42.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص224 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
3- الظاهر إنه نافع بن هلال البجلي أو الجملي.
4- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص48.

29

أهل بيت كرام

اشارة

كان من خصائص الإمام الحسين (عليه السلام) أهل بيته الكرام من أبنائه وأخواته وبني أخيه وبني عمه، فكانوا خيرة أهل الأرض وفاءً وإباءً وشجاعةً وإقداماً وفي علو همم وشرف نفوس وكرم طباعهم.

فإنهم أبوا أن يفارقوه وقد أذن لهم، وفدوه بانفسهم، وبذلوا دونه مهجهم، وقالوا له لما أذن لهم بالانصراف: ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا اللّه ذلك أبداً..

ولما قال الإمام الحسين (عليه السلام) لبني عقيل: «حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم»، قالوا:سبحان اللّه! فما يقول الناس لنا، وماذا نقول لهم إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا بهم، لا واللّه لا نفعل، ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا معك ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح اللّه العيش بعدك(1)..

فقُتلوا جميعاً بين يديه مقبلين غير مدبرين.

وهو الذي كان يقول لهم، وقد حمي الوطيس واحمر البأس مبتهجا

ص: 183


1- روضة الواعظين: ص183.

بأعمالهم: صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، فو اللّه لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبدا(1).

وكان الحسين بن علي (عليه السلام) يضع قتلاه بعضهم على بعض ثم يقول: «قتلانا قتلى النبيين وآل النبيين»(2).

روي أنه نظر علي بن الحسين سيد العابدين (عليه السلام) إلى عبيد اللّه بن العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاستعبر ثم قال: «ما من يوم أشد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من يوم اُحُد قُتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب»، ثم قال (عليه السلام) : ولا يوم كيوم الحسين (عليه السلام) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة، كل يتقرب إلى اللّه عزوجل بدمه، وهو باللّه يذكّرهم فلا يتعظون حتى قتلوه ظلماً وبغياً وعدواناً» ثم قال (عليه السلام) : «رحم اللّه عمي العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه فأبدله اللّه عزوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب (عليه السلام) .. وإن للعباس (عليه السلام) عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(3).

وروي أنه قُتل مع الحسين بن علي (عليه السلام) ستة عشر من أهل بيته(4) - أو سبعة عشر - ما كان لهم على وجه الأرض شبيه.

ص: 184


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص68.
2- بحار الأنوار: ج52 ص117 باب21 ح39.
3- الأنوار العلوية: ص442.
4- روي عن الحسن البصري: أنه قتل مع الحسين (عليه السلام) ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته، ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه. البداية والنهاية: ج8 ص205.

قالت الرواة: كنا إذا ذكرنا عند محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قتل الحسين (عليه السلام) قال: قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض في بطن فاطمة(1)، يعني بنت أسد أم علي (عليه السلام) (2).

وقال بعض العلماء: إنهم أكثر من خمسة وعشرين:

سبعة من بني عقيل: مسلم المقتول بالكوفة، وجعفر وعبد الرحمن ابنا عقيل، ومحمد بن مسلم، وعبد اللّه بن مسلم، وجعفر بن محمد بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، وزاد ابن شهرآشوب: (عوناً ومحمداً ابني عقيل)، وثلاثة من ولد جعفر بن أبي طالب: محمد بن عبد اللّه بن جعفر، وعون الأكبر ابن عبد اللّه، وعبيد اللّه بن عبد اللّه.

ومن ولد علي (عليهم السلام) تسعة: الحسين (عليه السلام) والعباس (عليه السلام) ويقال: وابنه محمد بن العباس، وعمار بن علي، وعثمان بن علي، وجعفر بن علي، وإبراهيم بن علي، وعبد اللّه بن علي الأصغر، ومحمد بن علي الأصغر، وعبيد اللّه بن علي وهو الذي كان يكنيه بعض الناس بأبي بكر.

وأربعة من بني الحسن: القاسم، وعبد اللّه، وعبيد اللّه (وهو الذي كان يكنيه بعض الناس بأبي بكر) وقيل: بشر، وقيل عمار وكان صغيراً.

وستة من بني الحسين (عليه السلام) وهم: علي الأكبر وإبراهيم وعبد اللّه ومحمد وحمزة وعلي الأصغر(3).

ص: 185


1- إلى هنا روي عن ابن الحنفية، انظر تاريخ خليفة بن خياط: ص179.
2- مثير الأحزان: ص89.
3- انظر بحار الأنوار: ج45 ص62-63 ب37. وقد نقل ذلك عن ابن شهرآشوب وصاحب المناقب والسيد محمد بن أبي طالب.

وفي زيارة الناحية المقدسة: «السلام على عبد اللّه بن الحسين الطفل الرضيع، المرمي الصريع، المتشحط دماً المصعد دمه في السماء، المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن اللّه راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه.

السلام على عبد اللّه بن أمير المؤمنين، مبلي البلاء والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء، المضروب مقبلاً ومدبراً، لعن اللّه قاتله هانئ بن ثبيت الحضرمي.

السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن اللّه قاتليه يزيد بن الرقاد الحيتي وحكيم بن الطفيل الطائي.

السلام على جعفر بن أمير المؤمنين، الصابر بنفسه محتسباً، والنائي عن الأوطان مغترباً، المستسلم للقتال، المستقدم للنزال، المكثور بالرجال، لعن اللّه قاتله هانئ بن ثبيت الحضرمي.

السلام على عثمان بن أمير المؤمنين سمي عثمان بن مظعون، لعن اللّه راميه بالسهم خولي بن يزيد الأصبحي الإيادي الدارمي.

السلام على محمد بن أمير المؤمنين قتيل الأيادي الدارمي لعنه اللّه وضاعف عليه العذاب الأليم، وصلى اللّه عليك يا محمد وعلى أهل بيتك الصابرين...»(1).

في تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : قال الحسين (عليه السلام) لأهل بيته: «قد جعلتكم في حل من مفارقتي، فإنكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري فدعوني والقوم، فإن اللّه عز وجل يعينني ولا يخليني من حسن نظره كعاداته في أسلافنا الطيبين».

ص: 186


1- إقبال الأعمال: ج3 ص74-75 فصل14 ب1.

فقالوا: لا نفارقك ويحل بنا ما يحل بك، ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنا أقرب ما نكون إلى اللّه إذا كنا معك.

فقال (عليه السلام) لهم: «فإن كنتم قد وطنتم أنفسكم على ما وطنت نفسي عليه، فاعلموا أن اللّه إنما يهب المنازل الشريفة لعباده لصبرهم باحتمال المكاره، وأن اللّه وإن كان خصني - مع من مضى من أهلي الذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا - من الكرامات بما يسهل معها عليّ احتمال الكريهات، فإن لكم شطر ذلك من كرامات اللّه تعالى، واعلموا أن الدنيا حلوها ومرها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقي من شقي فيها»(1).

العترة المظلومة

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) جمع ولده وإخوته وأهل بيته يوم عاشوراء، ونظر إليهم فبكى ساعة، ثم قال: «اللّهم إنا عترة نبيك محمد، وقد اُخرجنا وطُردنا وأزعجنا عن حرم جدنا، وتعدت بنو أمية علينا، اللّهم فخذ لنا بحقنا، وانصرنا على القوم الظالمين»(2).

ص: 187


1- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : ص218-219.
2- بحار الأنوار: ج44 ص383 ب37.

30

أصحاب أوفياء

اشارة

وكان من خصائص الإمام الحسين (عليه السلام) أيضاً أولئك الأصحاب الأوفياء الأبرار الأخيار، حيث قال (عليه السلام) : «إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي»(1).

وفي زيارة الناحية المقدسة: «السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، وبوّأكم اللّه مبوّأ الأبرار، أشهد لقد كشف اللّه لكم الغطاء، ومهّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحق غير بطاء، وأنتم لنا فرطاء، ونحن لكم خلطاء في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الحسين (عليه السلام) لأصحابه قبل أن يُقتل: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لي: يا بُنيّ إنك ستُساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين، وهي أرض تدعى عمورا، وإنك تُستشهد بها ويَستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد»(3). أي: لا يهتمون بألمه.

وقد أذن (عليهم السلام) لهم بالرحيل بعد ما أخبرهم بأن من يبقى معه سيُقتل، فلم

ص: 188


1- الإرشاد: ج2 ص91 ليلة عاشوراء وأصحاب الحسين (عليه السلام) ومواقفهم الشريفة.
2- المزار، للشيخ محمد ابن المشهدي: ص495 زيارة الشهداء رضوان اللّه عليهم في يوم عاشوراء.
3- الخرائج والجرائح: ج2ص848 ب16 في نوادر المعجزات ح63.

يرضوا إلاّ بأن يموتوا دونه.

وقد نصروا الإمام الحسين (عليه السلام) ولقوا جبال الحديد واستقبلوا الرماح بصدورهم، والسيوف بوجوههم، وهم يُعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون ويقولون: لا عذر لنا عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن قُتل الحسين (عليه السلام) ومنا عين تُطرف، حتى قُتلوا حوله(1).

قال الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه: «صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّ إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وهؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب أليم، إن أبي حدثني عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كُذبت»(2).

نعم إن أصحابه (عليه السلام) كانوا خير أصحاب، فارقوا أهاليهم وأحبتهم، وتقدموا مسرعين إلى ميدان القتال، قائلين له: أنفسنا لك الفداء، نقيك بأيدينا ووجوهنا(3)، يضاحك بعضهم بعضاً، قلةَ مبالاة بالموت، وسروراً بما يصيرون إليه من النعيم، ولما أذن لهم في الانصراف أبوا وأقسموا باللّه لا يخلونه أبداً ولا ينصرفون عنه، قائلين: أنحن نخلي عنك وقد أحاط بك هذا العدو، وبم نعتذر إلى اللّه في أداء حقك؟.

وبعضهم يقول: (لا واللّه لا يراني اللّه أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في

ص: 189


1- اختيار معرفة الرجال: ج1 ص293 ترجمة حبيب بن مظاهر رضوان اللّه عليه.
2- الإعتقادات في دين الإمامية: ص52 باب الاعتقاد في الموت.
3- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص57.

صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي، ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك)(1).

وبعضهم يقول: (واللّه لو علمتُ أني اُقتل فيك ثم اُحيى ثم اُحرق حياً ثم اُذر، يُفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك)(2).

وبعضهم يقول: (واللّه لوددتُ أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى اُقتل هكذا ألف مرة وأن اللّه يدفع بذلك القتل عنك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك لفعلت)(3).

وبعضهم يقول: (أكلتني السباع حياً إن فارقتك)(4).

ولم يدعوا أن يصل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) أذىً وهم في الأحياء، ومنهم من جعل نفسه كالترس له فما زال يُرمى بالسهام حتى سقط(5) وأبدوا يوم عاشوراء من الشجاعة والبسالة ما لم ير مثله(6)، وقد سبق ذكر بعض النماذج، وهذه بعضها أيضاً:

روي أنه: وثب إلى الحسين (عليه السلام) رجل من شيعته يقال له: نافع بن هلال

ص: 190


1- والقائل هو الصحابي الجليل مسلم بن عوسجة، انظر: إقبال الأعمال: ج1 ص76 فصل14 ب1.
2- والقائل هو الصحابي الجليل سعيد بن عبداللّه الحنفي، انظر: مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص110.
3- والقائل هو الصحابي الجليل: زهير بن القين، انظر: روضة الواعظين: ص184.
4- والقائل هو الصحابي الجليل: محمد بن بشير الحضرمي، انظر: مثير الأحزان: ص39.
5- وهو الصحابي الجليل سعيد أو سعد بن عبداللّه الحنفي وقد مرّ ذكره في (فدائي الحسين (عليه السلام) ) فراجع.
6- انظر أعيان الشيعة: ج1 ص582 باب أصحابه (عليه السلام) .

البجلي، فقال: يا ابن رسول اللّه أنت تعلم أن جدّك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر، ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل، حتى قبضه اللّه إليه، وأن وإن أباك علياً (رحمة اللّه عليه) قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتى أتاه أجله، فمضى إلى رحمة اللّه ورضوانه، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضر إلاّ نفسه، واللّه مغن عنه، فسر بنا راشداً معافاً، مشرّقاً إن شئت، وإن شئت مغرّباً، فو اللّه ما أشفقنا من قدر اللّه، ولا كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك.

ثم وثب إليه (عليه السلام) برير بن خضير الهمداني فقال: واللّه يا ابن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، تُقطع فيه أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا، لا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيهم، أف لهم غداً ماذا يلاقون؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم(1).

وروي أن برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط.. فجعل برير يضاحك عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: يا برير أتضحك ما هذه ساعة ضحك ولا باطل، فقال برير: لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، وإنما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فو اللّه ما هو إلاّ أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور

ص: 191


1- بحار الأنوار: ج44 ص382-383 ب37.

العين(1).

وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي: قد اُسر ابنك بثغر الري، قال: عند اللّه أحتسبه ونفسي، ما كنت أحب أن يُؤسر ولا أن أبقى بعده، فسمع الحسين (عليه السلام) قوله فقال له: رحمك اللّه أنت في حل من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك، قال:أكلتني السباع حياً إن فارقتك. وبقي مع الحسين (عليه السلام) حتى قُتل دونه (رضوان اللّه عليه).

أسماء الأصحاب

وهذه أسماء الشهداء الذين استشهدوا بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حسب ما ورد على ضريح الشهداء في الروضة الحسينية المقدسة، فيا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.

علي بن الحسين، عبداللّه بن الحسين، عبداللّه بن علي، عثمان بن علي، جعفر بن علي، محمد بن أمير المؤمنين، القاسم بن الحسن، عبداللّه بن الحسن بن علي، أبوبكر(2) بن الحسن، عون بن عبداللّه بن جعفر، محمد بن عبداللّه بن جعفر، عبداللّه بن مسلم بن عقيل، محمد بن مسلم بن عقيل، محمد بن أبي سعيد بن عقيل، عبدالرحمن بن عقيل، جعفر بن عقيل..

أبو الحتوف العجلاني(3)، أبو ثمامة الصيداوي، ابراهيم بن الحصين الأزدي،

ص: 192


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص57-58.
2- واسمه عبيد اللّه.
3- أبو الحتوف بن الحارث بن سلمة الأنصاري العجلاني الخزرجي، كان وأخوه سعد (سعيد) بن الحارث مع ابن سعد وكانا من الخوارج وعند استنصار الحسين (عليه السلام) مالا على جيش ابن سعد وقاتلا حتى قُتلا رضوان اللّه عليهما. انظر الكنى والالقاب: ج1 ص45.

أنس بن الحارث الكاهلي، أسلم مولى الحسين، أنيس بن معقل الأصبحي، أم وهب بنت عبد، أدهم بن أمية العبدي، أمية بن سهل الطائي، برير بن حضير الهمداني، بشر بن عمرو الحضرمي، بكر بن حي التيمي، جابر بن الحجاج، جبلة بن علي الشيباني، جنادة بن كعب الأنصاري، جنادة بن الحارث السلماني، جندب بن جحير الكندي، جون بن حوي، جوين بن مالك التيمي، الحر بن يزيد الرياحي، الحجاج بن مسروق الجعفي، الحلاس بن عمرو الراسبي، الحرث بن نبهان، حبشي بن قيس النهمي، حنظلة بن أسعد الشبامي، الحارث بن امرؤ القيس، خالد بن عمرو بن خالد، الخباب بن عمرو التيمي..

رافع بن عبداللّه الأزدي، زاهر بن عمر، زهير بن سليم الأزي، زهير بن القين البجلي، زياد بن كريب الصائدي، سالم بن عمرو الكلبي، سالم مولى عامر، سعد بن الحارث، سعد بن عبداللّه، سعيد بن عبداللّه الحنفي، سوار بن منعم النهمي، سويد بن عمرو الخثعمي، سيف بن الحارث الجابري، سيف بن مالك العبدي، سلمان بن مضارب البجلي، شبيب بن عبداللّه النهشلي، شبيب مولى الحارث الهمداني، شعبة بن حنظلة التميمي، شوذب مولى شاكر الهمداني، الضرغامة بن مالك الثعلبي..

عابس بن شاكر الشاكري، عبدالرحمن الأرحبي، عبدالرحمن الأنصاري، عامر بن مسلم العبدي، عبدالرحمن بن عروة الغفاري، عبدالرحمن اليزني، عبدالرحمن بن مسعود التيمي، عبداللّه بن بشير الخثعمي، عبداللّه بن عروة الغفاري، عائد بن مجمع العائذي، عبداللّه بن عمير الكلبي، عبداللّه بن يزيد العبدي، عبيداللّه بن يزيد العبدي، عقبة بن الصلت الجهني، عمار بن حسان الطائي، عمار الدالائي، عمرو بن جندب الحضرمي، عمر بن ضبيعة الضبعي،

ص: 193

عمرو بن جنادة الأنصاري، عمرو بن خالد الصيداوي، عمرو بن قرظة الأنصاري، عمران بن كعب الأشجعي، عمرو بن عبداللّه المذحجي..

قارب بن عبداللّه الدئلي، قاسط بن زهير التغلبي، القاسم بن حبيب الأزدي، قرة بن أبي قرة الغفاري، قعنب بن عمرو المري، قيس بن مسهر الصيداوي، كردوس بن زهير التغلبي، كنانة بن عتيق التغلبي، مالك بن عبداللّه العائذي، مجمع بن عبداللّه العائذي، مجمع بن زياد الجهني، مسعود بن الحجاج التيمي، مسلم بن عوسجة الأسدي، مسلم بن كثير الأزدي، منجع بن سهم، الموقع بن ثمامة الأسدي، مقسط بن زهير التغلبي، نافع بن هلال الجملي، نعمان بن عمرو الراسبي، نصر بن أبي نيرز، نعيم بن عجلان الأنصاري، وهب بن حباب الكلبي، واضح مولى الحارث السلماني، يحيى بن سليم المازني، يزيد بن الحصين الهمداني، يزيد بن زياد بن مهطر الكمندي، يزيد بن ثبيط العبدي، يزيد بن مغفل الجعفي، يحيى بن هانيء بن عروة، الهفهاف بن المهند الراسبي(1)، عمرو بن خالد الأزدي.

رضوان اللّه عليهم أجمعين.

أقول: وهناك البعض الآخر من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) الذين قُتلوا يوم عاشوراء ولم تذكر أسماؤهم في هذه القائمة، فإن العشرات من جيش الكوفة التحقوا بجيش الإمام (عليه السلام) وخاصة في ليلة العاشر ويوم عاشوراء.

روي أنه عبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون

ص: 194


1- الهفهاف بن المهند الراسبي البصري كان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أمّره على أزد البصرة في صفين وعندما بلغه خروج الإمام الحسين (عليه السلام) خرج من البصرة فوصل بعد الوقعة فقاتل حتى قُتل وكان آخر من قُتل من أصحابه (عليه السلام) .

رجلاً(1).

وروي أن ابن سعد أرسل رجلاً يسمى خزيمة ليخبر الإمام الحسين (عليه السلام) بأمر، فجاء خزيمة وألقى سلاحه، وقبّل قدمي الإمام (عليه السلام) ولم يرجع إلى عمر بن سعد، وقال: من ذا الذي يترك الجنة ويمضي إلى النار.

إلى غير ذلك مما هو مذكور في التواريخ والسير والمقاتل.

ص: 195


1- اللّهوف: ص91. بحار الأنوار: ج44 ص393 ب37.

31

تاسوعاء

اشارة

تاسوعاء هو اليوم التاسع من شهر محرم الحرام، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «تاسوعا يوم حوصر فيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضوان اللّه عليهم) بكربلاء، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الحسين (صلوات اللّه عليه) وأصحابه (رضوان اللّه عليهم)، وأيقنوا أنه لا يأتي الحسين (عليه السلام) ناصر ولا يمدّه أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب»(1).

شمر بن ذي الجوش

في عصر يوم تاسوعاء وصل شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف فارس من قبل عبيد اللّه بن زياد، وكان يحمل من عبيد اللّه رسالة إلى عمر بن سعد:

(إذا أتاك كتابي هذا فلا تمهلن الحسين بن علي وخذ بكظمه وحل بين الماء وبينه، كما حيل بين عثمان وبين الماء يوم الدار).

فلما وصل الكتاب إلى عمر بن سعد أمر مناديه، فنادى: إنا قد أجلنا حسينا وأصحابه يومهم وليلتهم، فشق ذلك على الحسين (عليه السلام) وعلى أصحابه(2)..

ص: 196


1- الكافي: ج4 ص147 باب صوم عرفة وعاشوراء ح7.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص220 المجلس 30 ح1.

وكان فيما كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد:

(إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا لتعتذر له، ولا تكون له عندي شافعاً، انظر: فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي واستلموا فأبعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، وإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عات ظلوم!، وليس أرى أن هذا يضر بعد الموت شيئاً، ولكن عليّ قول قد قلته: لو قتلته لفعلت هذا به، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام(1).

محاولات لتفكيك معسكر الحسين (عليه السلام)

وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين (عليه السلام) وقال: أين بنو أختنا، أين العباس وإخوته(2)؟

فلم يجيبوه.

فقال لهم الحسين (عليه السلام) : «أجيبوه وإن كان فاسقاً».

فخرج إليه العباس (عليه السلام) وجعفر وعبد اللّه وعثمان بنو علي (عليه السلام) ، فقالوا: ما تريد؟

فقال: أنتم يا بني أختي آمنون؟

فقال له الفئة: لعنك اللّه ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له!(3).

ص: 197


1- الإرشاد: ج2 ص88-89.
2- فإن أم البنين (عليها السلام) والدة العباس (عليه السلام) وأخوته من عشيرة الكلابية، وكذلك كان شمر من نفس العشيرة.
3- انظر الإرشاد: ج2 ص89، واللّهوف في قتلى الطفوف: ص54.

الهجوم يوم التاسع

ثم أمر عمر بن سعد بالهجوم على الإمام الحسين (عليه السلام) ونادى: يا خيل اللّه اركبي وبالجنة أبشري! فركب الناس وزحفوا نحو الحسين (عليه السلام) وأصحابه، وكان ذلك بعد العصر، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) جالساً أمام خيمته محتبئاً بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته زينب (عليها السلام) الصيحة فدنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟

فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه فقال: «إني رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الساعة في المنام وهو يقول لي: إنك تروح إلينا»، فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل، فقال لها الحسين (عليه السلام) : «ليس لك الويل يا أخته اسكتي رحمك اللّه».

وفي رواية: قال (عليه السلام) : «يا أختاه إني رأيت الساعة جدي محمداً وأبي علياً وأمي فاطمة وأخي الحسن (عليهم السلام) وهم يقولون: يا حسين إنك رائح إلينا عن قريب» وفي بعض الروايات: «غداً». قال: فلطمت زينب (عليها السلام) على وجهها وصاحت، فقال لها الحسين (عليه السلام) : «مهلاً لا تشمتي القوم بنا»(1).

عند ذلك جاء العباس بن علي (عليه السلام) وقال: سيدي أتاك القوم، فنهض الإمام (عليه السلام) ثم قال: «يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم؟».

فأتاهم العباس (عليه السلام) في نحو من عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس (عليه السلام) : ما بدا لكم وما تريدون؟

قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم

ص: 198


1- بحار الأنوار: ج44 ص392 ب37.

الآن. قال العباس (عليه السلام) : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأعرض عليه ما ذكرتم، فوقفوا فقالوا: القه وأعلمه ثم القنا بما يقول لك.

فانصرف العباس (عليه السلام) راجعاً يركض إلى الحسين (عليه السلام) يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين (عليه السلام) .

فجاء العباس (عليه السلام) إلى الحسين (عليه السلام) وأخبره بما قال القوم، فقال (عليه السلام) : «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار». فمضى العباس (عليه السلام) إلى القوم وقال: إن الحسين ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستمهلكم الليلة ليصلي لربه ركعات... فقال بعضهم: أمهلوهم، وقال بعض: لا تمهلوهم، فخاف عمر بن سعد الفتنة فأمر مناديه فنادى: إنا قد أجّلنا حسيناً وأصحابه يومهم وليلتهم(1).

وفي رواية: رجع العباس (عليه السلام) من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيداللّه بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف(2).

خطبة تاسوعاء

خطب الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة عاشوراء في أصحابه وأهل بيته... قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فدنوت منهم لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي (عليه السلام) يقول لأصحابه(3): «اُثني على اللّه أحسن الثناء،

ص: 199


1- انظر مثير الأحزان: ص38.
2- الإرشاد: ج2 ص89-91.
3- روضة الواعظين: ص183.

وأحمده على السراء والضراء، اللّهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، علمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين، أما بعد:

اللّهم إني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حلّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وتفرقوا في سواده، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري».

فقام إليه عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: (يا ابن رسول اللّه، ما ذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيد الأعمام، وابن نبينا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف ولم نقاتل معه برمح!، لا واللّه أو نرد موردك، ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا مما لزمنا).

وقام إليه زهير بن القين البجلي فقال: (يا ابن رسول اللّه، وددتُ أني قُتلت ثم نُشرت، ثم قُتلت ثم نُشرت، ثم قُتلت ثم نُشرت فيك وفي الذين معك مائة قتلة، وإن اللّه دفع بي عنكم أهل البيت).

وهكذا قام واحد تلو الآخر معلناً عن استعداده للتضحية والفداء، فقال الحسين (عليه السلام) لهم: جزيتم خيراً(1).

أنتم في حل من بيعتي

قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «كنت مع أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها، فقال

ص: 200


1- انظر الأمالي، للشيخ الصدوق: ص220 المجلس30 ح1.

لأصحابه: «هذا الليل فاتخذوه جملاً،فإن القوم إنما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حل وسعة، فقالوا: لا واللّه، لا يكون هذا أبداً، فقال: إنكم تُقتلون غداً كلكم، ولا يفلت منكم رجل، قالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك، ثم دعا (عليه السلام) فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا، فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان، وهذا قصرك يا فلان،وهذه درجتك يا فلان، فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزله من الجنة»(1).

الحسين (عليه السلام) ينعى نفسه

قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «بينا إني جالس في تلك العشية التي قُتل في صبيحتها أبي وعندي عمتي زينب (عليها السلام) تمرضني إذا اعتزل أبي في خباء له وعنده فلان مولى أبي ذر الغفاري (رحمه اللّه) وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:

يا دهر أف لك من خليل***كم لك في الإشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل***والدهر لا يقنع بالبديل

و إنما الأمر إلى الجليل***وكل حي سالك سبيل

فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتُها وعلمتُ ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل(2)، وأما عمتي (عليها السلام) فلما سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وهي حاسرة حتى انتهت إليه، وقالت: وا ثكلاه ليت الموت أعدمني

ص: 201


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص847-848.
2- روضة الواعظين: ص184.

الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضين، وثمال الباقين.

فنظر إليها الحسين (عليه السلام) وقال لها: يا أخته لا يذهبن حلمك، وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا ليلاً لنام.

فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت (عليها السلام) وجهها، وهوت إلى جيبها وشقته وخرت مغشية عليها.

فقام إليها الحسين (عليه السلام) فصب على وجهها الماء وقال لها: يا أختاه اعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شي ء هالك إلاّ وجه اللّه تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده، وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة، فعزاها بهذا ونحوه»(1).

أنت شهيد آل محمد

روي أنه لما كان وقت السحر - ليلة عاشوراء - خفق الحسين (عليه السلام) برأسه خفقة ثم استيقظ فقال: «أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة»؟

فقالوا: وما الذي رأيت يا ابن رسول اللّه؟

فقال: «رأيت كأنّ كلاباً قد شدت عليّ لتنهشني وفيها كلب أبقع رأيته أشدها علي، وأظن أن الذي يتولى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء القوم، ثم إني رأيت بعد ذلك جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي: يا بني أنت شهيد آل محمد، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح

ص: 202


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص2-3 ب37.

الأعلى فليكن إفطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخر، فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء، فهذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا لا شك في ذلك»(1).

استعدادات دفاعية

جمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه عند قرب المساء من يوم تاسوعاء، وأمرهم أن يقرن بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يحفروا حول الخيام خندقاً، ليقبلوا القوم في وجه واحد والبيوت من ورائهم، فنفعهم ذلك، ثم رجع الإمام (عليه السلام) إلى مكانه فقام ليلته كلها يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وقام أصحابه كذلك يصلون ويدعون ويستغفرون(2).

وأمر الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء بحفيرته التي حول عسكره فأضرمت بالنار ليقاتل القوم من وجه واحد(3) ونفعهم ذلك.

ص: 203


1- عنه بحار الأنوار: ج45 ص3 ب37.
2- انظر الإرشاد: ج2 ص94.
3- انظر الثاقب في المناقب: ص340 فصل8.

عاشوراء الدامية

اشارة

قُتل الإمام الحسين (عليه السلام) مظلوماً شهيداً ظمآناً صابراً محتسباً في معركة عاشوراء المفجعة على أرض كربلاء في العاشر من المحرم سنة 61 من الهجرة بعد الظهر.

وكان عمره الشريف يوم قُتل 56 سنة وخمسة أشهر(1).

قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام) : «ولقد قتلوه قتلة نهى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يُقتل بها الكلاب! لقد قُتل بالسيف والسنان وبالحجارة وبالخشب وبالعصا، ولقد أوطئوه الخيل بعد ذلك»(2).

روي أنه أصبح الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء، فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وخطب فيهم خطبة، وجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس (عليه السلام) أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان قد

ص: 204


1- كانت ولادته (صلوات اللّه عليه) على ما هو المشهور في يوم الثالث من شعبان للسنة الرابعة من الهجرة، فيكون عمره المبارك كما قال الإمام المؤلف (رحمه اللّه) 56 سنة وخمسة أشهر وسبعة أيام، عاش مع جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمه الزهراء (عليها السلام) قرابة سبع سنين، ومع أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثون سنة ومع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) عشر سنين، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة. انظر:الإرشاد: ج2 ص133.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص317 باب في أخبار متفرقة وردت من حين خروجه.

حفر هناك، وأن يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً(1)..

وفي رواية: اثنان وثمانون راجلاً(2)..

وفي رواية: كانوا خمسة وأربعين فارساً ومائة راجل(3)،

وقيل غير ذلك(4)..

ولا يبعد صحة الجميع، فإن عدد الأصحاب كان يتغير، فكلما خطب الإمام الحسين (عليه السلام) في القوم، وكلما سمعوا واعيته، التحق بالإمام (عليه السلام) جمع من معسكر ابن زياد ليلة ويوم عاشوراء، وربما كان هذا السبب في اختلاف النقل(5).

وأصبح عمر بن سعد (لعنه اللّه) في يوم عاشوراء وعبأ أصحابه وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين (عليه السلام) وكان على ميمنته عمرو بن الحجاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجالة شبث بن ربعي، وأعطى الراية دريداً مولاه(6)، وكانوا على أقل الروايات ثلاثين

ص: 205


1- انظر: الإرشاد: ج2 ص95، إعلام الورى: ج1 ص457-458، بحار الأنوار: ج45 ص4 ب37.
2- قال محمد بن أبي طالب: وفي رواية أخرى اثنان وثمانون راجلاً. انظر بحار الأنوار: ج45 ص4 ب37.
3- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص60، مثير الأحزان: ص39، سير أعلام النبلاء: ج3 ص308.
4- قيل: إنهم كانوا سبعين فارساً ومائة راجل، وقيل: كانوا اثنين وثلاثين فارساً وثماني وأربعين راجلاً، وقيل: كانوا اثنين وثلاثين فارساً وثمانين راجلاً.
5- ويشهد لذلك رجوع الحر وبعض أصحابه إلى الإمام صلوات اللّه عليه، وغيرهم. راجع اللّهوف وسير أعلام النبلاء والبداية: (أنه تحول من جند عمر ثلاثون أو أكثر من أهل الكوفة فقاتلوا معه).
6- انظر الإرشاد: ج2 ص95.

ألفاً(1).

ثم نادى عمر بن سعد: يا دريد أدن رايتك، فأدناها، ثم وضع عمر سهماً في كبد قوسه ثم رمى نحو الحسين (عليه السلام) وقال: اشهدوا أني أول من رمى الناس!.

فرمى أصحابه كلهم نحو الطاهرين(2)، وهجموا على الحسين (عليه السلام) وأصحابه هجمة واحدة، فما بقي من أصحاب الحسين (عليه السلام) إلاّ أصابه من سهامهم وسيوفهم، فقلّ أصحاب الحسين (عليه السلام) وقُتل في هذه الحملة خمسون رجلاً(3).

وبعد ما بدأ القوم بقتال الحسين (عليه السلام) إذن الإمام (عليه السلام) لأصحابه بالدفاع.

فعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن الحسين بن علي (عليه السلام) قال لأصحابه يوم

ص: 206


1- ففي الأمالي، للشيخ الصدوق: ص547 عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «ولا يوم كيوم الحسين ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل» هذا هو المشهور، وإلاّ فقد ورد: مايدل على أكثر من هذا الرقم كما جاء في كتاب في نور العين في مشهد الحسين (عليه السلام) ص34: أن جيش عمر بن سعد كان أربعين ألفاً، وكما جاء في بحار الأنوار: ج4 ص305 ب36 (أقول: وجدت في بعض مؤلفات المعاصرين أنه لما جمع ابن زياد لعنه اللّه قومه لحرب الحسين كانوا سبعين ألف فارس).
2- انظر بحار الأنوار: ج45 ص11 ب37.
3- قال ابن شهرآشوب: المقتولون من أصحاب الحسين (عليه السلام) في الحملة الأولى: نعيم بن عجلان، وعمران بن كعب بن حارث الأشجعي، وحنظلة بن عمرو الشيباني، وقاسط بن زهير، وكنانة بن عتيق وعمرو بن مشيعة، وضرغامة بن مالك، وعامر بن مسلم، وسيف بن مالك النميري، وعبد الرحمن الأرحبي، ومجمع العائذي، وحباب بن الحارث، وعمرو الجندي الجندعي، والجلاس بن عمرو الراسبي، وسوار بن أبي حمير الفهمي، وعمار بن أبي سلامة الدالاني، والنعمان بن عمرو الراسبي، وزاهر مولى عمرو ابن الحمق، وجبلة بن علي، ومسعود بن الحجاج، وعبد اللّه بن عروة الغفاري، وزهير بن بشير الخثعمي، وعمار بن حسان، وعبد اللّه بن عمير، ومسلم بن كثير، وزهير بن سليم، وعبد اللّه وعبيد اللّه ابنا زيد البصري، وعشرة من موالي الحسين (عليه السلام) ، واثنان من موالي أمير المؤمنين (عليه السلام) .. مناقب آل أبي طالب: ج3 ص260.

أصيبوا: أشهد أنه قد اُذن في قتلكم فاتقوا اللّه واصبروا»(1).

وعن الحلبي(2) قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن الحسين (عليه السلام) صلى بأصحابه الغداة ثم التفت إليهم فقال: إن اللّه قد أذن في قتلكم فعليكم بالصبر»(3).

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه - بعد أن رمى ابن سعد وجيشه نحو عسكر الحسين (عليه السلام) بالسهام كأنها القطر -: «قوموا رحمكم اللّه إلى الموت الذي لابد منه فإن هذه السهام رسل القوم إليكم»، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة حتى قُتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) جماعة، فعندها ضرب الحسين (عليه السلام) بيده إلى لحيته وجعل يقول: «اشتد غضب اللّه على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتد غضب اللّه تعالى على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، أما واللّه لا أجيبهم إلى شي ء مما يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضب بدمي»(4).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: «لما التقى الحسين (عليه السلام) وعمر بن سعد (لعنه اللّه) وقامت الحرب أنزل اللّه النصر(5) حتى

ص: 207


1- كامل الزيارات: ص152 ب23 ح10، وذكر العلامة المجلسي (رحمه اللّه) إن معنى «أذن في قتلكم»: قدر قتلكم في علمه تعالى.
2- يحيى بن عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم (عليهما السلام) إمامي ثقة ثقة.
3- كامل الزيارات: ص152 ب23 ح10.
4- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص61-62.
5- ربما كان النصر بإعجاز إلهي، أو بنزول ملائكة تنصره، فخيره اللّه بين النصر والشهادة، فاختار (عليه السلام) القتل في سبيل اللّه.

رفرف على رأس الحسين (عليه السلام) ثم خُير بين النصر على أعدائه وبين لقاء اللّه تعالى، فاختار لقاء اللّه عزوجل».

قال الراوي: ثم صاح الإمام (عليه السلام) : «أما من مغيث يغيثنا لوجه اللّه، أما من ذاب يذب عن حرم رسول اللّه»(1).

الانقطاع إلى اللّه

روي عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: «لما أصبحت الخيل تقبل على الحسين (عليه السلام) رفع يديه وقال: (اللّهمّ أنت ثقتي في كُل كَرْب، وأنت رجائي في كُلِّ شِدّة، وأنت لي في كل أمر نَزَلَ بي ثقة وعُدّة، كم من هَمّ يَضعف فيه الفؤاد، وتَقِلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمُتُ فيه العدو، أنزلتُه بك وشكوتُه إليك، رغبةً مني إليك عمّن سواك ففرجتَه عني وكشفتَه، فأنت ولي كلِّ نعمة، وصاحب كلِّ حسنة، ومنتهى كلِّ رغبة)»(2).

أكره أن أبدأهم بقتال

وفي صبح عاشوراء أقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين (عليه السلام) وخيامه فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان أُلقي فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن (عليه اللعنة) بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت بالنار قبل يوم القيامة!

فقال الحسين (عليه السلام) : «من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن»، فقالوا له: نعم، فقال له: «يا ابن راعية المعزى أنت أوْلى بِها صِلِيّاً»، ورَام مسلم بن عوسجة أن

ص: 208


1- المجالس الفاخرة: ص234 المجلس11.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص112 ب46 من كتاب الجهاد ح20.

يرميه بسهم فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فإن الفاسق من أعداء اللّه وعظماء الجبارين، وقد أمكن اللّه منه، فقال له الحسين (عليه السلام) : «لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم بقتال»(1).

خطبة برير

ولما ركب أصحاب عمر بن سعد - وتقدموا نحو الخيام الطاهرة - قُرب إلى الحسين (عليه السلام) فرسه فاستوى عليه، وتقدم نحو القوم في نفر من أصحابه، وبين يديه برير بن خضير، وكان من علماء الكوفة، فقال له الحسين (عليه السلام) : كلّم القوم، فتقدم برير فقال:

يا قوم اتقوا اللّه، فإن ثقل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟

فقالوا: نريد أن نمكن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم.

فقال لهم برير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه، ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم اللّه عليها، يا ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد، وحلأتموهم عن ماء الفرات، بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته، ما لكم لا سقاكم اللّه يوم القيامة فبئس القوم أنتم.

فقال له نفر منهم: يا هذا ما ندري ما تقول؟

فقال برير:

الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللّهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء

ص: 209


1- راجع الإرشاد: ج2 ص96.

القوم، اللّهم ألق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع برير إلى ورائه(1).

من خطب الإمام (عليه السلام)

وتقدم الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وقف بإزاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة، فقال: «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم اجتمعتم على أمر قد أسخطتم اللّه فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الربّ ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين».

فقال عمر: ويلكم كلّموه فإنه ابن أبيه، واللّه لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر فكلموه.

فتقدم شمر (لعنه اللّه) فقال: يا حسين ما هذا الذي تقول؟ أفهمنا حتى نفهم.

فقال (عليه السلام) : «أقول اتقوا اللّه ربكم ولا تقتلوني، فإنه لا يحلّ لكم قتلي، ولاانتهاك حرمتي، فإني ابن بنت نبيكم، وجدّتي خديجة زوجة نبيكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة...» الخطبة(2).

ص: 210


1- بحار الأنوار: ج45 ص6 ب37.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص249-250 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

خطبة أخرى

ودعا الإمام الحسين (عليه السلام) براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته: «يا أهل العراق - وجلّهم يسمعون، فقال (عليه السلام) : - أيها الناس اسمعوا قولي ولاتعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم عليّ، وحتى أعذر عليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم، {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ولا تُنْظِرُونِ}(1)، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}(2)»..

ثم حمد اللّه وأثنى عليه وذكر اللّه بما هو أهله وصلّى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى ملائكة اللّه وعلى أنبيائه (عليهم السلام) ، فلم يسمع متكلم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه، ثم قال (عليه السلام) : «أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوهم، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين المصدق لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمي؟ أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة، فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق، واللّه ما تعمدت كذباً منذ علمت أن اللّه يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن لو سألتموه عن

ص: 211


1- سورة يونس: 71.
2- سورة الأعراف: 196.

ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي»؟.

فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد اللّه على حرف، إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: واللّه إني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع اللّه على قلبك.

ثم قال لهم الحسين (عليه السلام) : «فإن كنتم في شك من هذا، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فو اللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة»؟

فأخذوا لا يكلمونه.

فنادى (عليه السلام) : «يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار

واخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجند»؟

فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول؟ ولكن انزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد». ثم نادى (عليه السلام) : «يا عباد اللّه {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ}(1)وأعوذ

ص: 212


1- سورة الدخان: 20.

{بِرَبِّي ورَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ}(1). ثم إنه أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه(2).

ما لكم لا تنصتون؟

روي أنه لما عبأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين بن علي (عليه السلام) ورتبهم مراتبهم، وأقام الرايات في مواضعها، وعبأ أصحاب الميمنة والميسرة، فقال لأصحاب القلب: اثبتوا. وأحاطوا بالحسين (عليه السلام) من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج الإمام (عليه السلام) حتى أتى الناس فاستنصتهم(3)، فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم:

«ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاص لأمري غير مستمع قولي، فقد مُلئت بطونكم من الحرام، وطُبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟».

فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا: أنصتوا له.

فقام الحسين (عليه السلام) ثم قال: «تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً(4)، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين فأصرختكم مؤدين مستعدين، سللتم علينا سيفاً في رقابنا، وحششتم علينا نار الفتن خبأها عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم

ص: 213


1- سورة غافر: 27.
2- الإرشاد: ج2 ص97-99.
3- أي طلب (عليه السلام) من جيش عمر بن سعد أن ينصتوا ويستمعوا لكلامه.
4- الترح: ضد الفرح وهو الحزن.

فيهم، إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا، لا رأي تفيل(1) لنا، فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهزتموها والسيف لم يشهر، والجأش طامن، والرأي لم يستحصف، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفراش، فقبحاً لكم، فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفئ السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمة المستهزءين، {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}(2)، وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون، وإيانا تخاذلون، أجل واللّه الخذل فيكم معروف، وشجت عليه عروقكم، وتوارثته أصولكم وفروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شي ء سنخاً للناصب وأكلة للغاصب، ألا لعنة اللّه على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا، فأنتم واللّه هم.. ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين القلة والذلة، وهيهات ما آخذ الدنية (قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة)، أبى اللّه ذلك ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية، لاتؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا قد أعذرت وأنذرت، ألا إني زاحف بهذه الأسرة، على قلة العتاد، وخذلة الأصحاب»..

ثم أنشأ يقول:

فإن نهزم فهزامون قدما***وإن نهزم فغير مهزمينا

ص: 214


1- يقال: رجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي.
2- سورة الحجر: 91. و{عضين}: أي عضة عضة تفرقوا فيه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.

وما إن طبنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا(1) ألا ثم لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يركب الفرس، حتى تدور بكم الرحى، عهد عهده إليّ أبي عن جدي، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشُرَكاءَكُمْ}(2) ثم كيدوني جميعاً فلا تنظرون {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}(3) اللّهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف(4) يسقيهم كأساً مصبرة، ولا يدع فيهم أحداً إلاّ قتله قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا، وأنت {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وإِلَيْكَ أَنَبْنا وإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(5)»(6).

أين عمر بن سعد؟

ثم قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «أين عمر بن سعد، ادعوا لي عمر» فدُعي له وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه، فقال (عليه السلام) : «يا عمر أنت تقتلني؟ تزعم أن يولّيك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان، واللّه لا تتهنأ بذلك أبداً، عهداً معهوداً،

ص: 215


1- هذه أبيات لفروة بن مسيك المرادي، والطب: العلة والداء، ويُستشهد بهذا البيت في كتب النحو على أن (ما الحجازية) تعمل عمل (ليس) بشرط أن لا يأتي بعدها إن الزائدة.
2- سورة يونس: 71.
3- سورة هود: 56.
4- المقصود به المختار الثقفي رضوان اللّه عليه، وليس الحجاج الثقفي كما ذهب إليه البعض لأن الامام الحسين (عليه السلام) قال في حق هذا الغلام الثقفي:(ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم) والحجاج كان ينتقم لآل أمية من جميع المسلمين وبالخصوص من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) .
5- سورة الممتحنة: 4.
6- بحار الأنوار: ج45 ص8-10 ب37.

فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة، يتراماه الصبيان، ويتخذونه غرضاً بينهم».

فاغتاظ عمر من كلامه، ثم صرف بوجهه عنه، ونادى بأصحابه: ما تنتظرون به، احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة.

ثم إن الحسين (عليه السلام) دعا بفرس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المرتجز فركبه وعبأ أصحابه(1)..

وفي يوم الطف

وأنشأ الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه) يوم الطف:

فاطم الزهراء أمي، وأبي***وارث الرسل ومولى الثقلين

طحن الأبطال لما برزوا***يوم بدر وباُحد وحنين

وأخو خيبر إذ بارزهم***بحسام صارم ذي شفرتين

والذي أردى جيوشا أقبلوا***يطلبون الوتر في يوم حنين

من له عم كعمي جعفر***وهب اللّه له أجنحتين

جدي المرسل مصباح الهدى***وأبي الموفي له بالبيعتين

بطل قرم هزبر ضيغم***ماجد سمح قوي الساعدين

عروة الدين علي ذاكم***صاحب الحوض مصلي القبلتين

مع رسول اللّه سبعا كاملا***ما على الأرض مصل غير ذين

ترك الأوثان لم يسجد لها***مع قريش مذ نشأ طرفة عين

عبد اللّه غلاماً يافعاً***وقريش يعبدون الوثنيين

يعبدون اللات والعُزى معا***وعلي قائم بالحُسنيين

وأبي كان هزبرا ضيغما***يأخذ الرمح فيطعن طعنتين

ص: 216


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص254 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

كتمشي الأسد بغيا فسقوا***كأس حتف من نجيع الحنظلين(1)

جراحات اللسان

وكان من أسلوب القوم في محاربتهم للإمام الحسين (عليه السلام) أنهم لم يكتفوا بالسهام والسيوف والحجارة، بل حاربوه حتى بألسنتهم، وربما كان وقع ذلك أكثر في بعض الأحيان، كما قيل:

جراحات السنان لها التيام***ولا يلتام ما جرح اللسان(2) ورد أنه أقبل رجل من عسكر عمر بن سعد على فرس له، يقال له ابن أبي جويرية المزني، فلما نظر إلى النار تتقد، صفق بيده، ونادى: يا حسين وأصحاب حسين أبشروا بالنار، فقد تعجلتموها في الدنيا!، فقال الحسين (عليه السلام) : «من الرجل»؟ فقيل: ابن أبي جويرية المزني، فقال الحسين (عليه السلام) : «اللّهم أذقه عذاب النار في الدنيا»، فنفر به فرسه وألقاه في تلك النار فاحترق(3).

وبرز من عسكر عمر بن سعد رجل آخر يقال له: تميم بن حصين الفزاري، فنادى: يا حسين ويا أصحاب حسين، أما ترون إلى ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيات؟ واللّه لا ذقتم منه قطرة حتى تذوقوا الموت جزعاً!

فقال الحسين (عليه السلام) : «من الرجل»؟ فقيل: تميم بن حصين، فقال الحسين (عليه السلام) : «هذا وأبوه من أهل النار، اللّهم اقتل هذا عطشاً في هذا اليوم»، قال: فخنقه العطش حتى سقط عن فرسه فوطئته الخيل بسنابكها فمات(4).

ص: 217


1- انظر: مناقب آل أبي طالب: ج3 ص234 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- انظر تاج العروس: ج9 ص49.
3- روضة الواعظين: ص185.
4- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص221 المجلس30 ح1.

وأقبل آخر من عسكر عمر بن سعد يقال له: محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فقال: يا حسين بن فاطمة! أية حرمة لك من رسول اللّه ليست لغيرك؟!

فتلا الحسين (عليه السلام) هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بعضها من بعض}(1) الآية، ثم قال: «واللّه إن محمداً لمن آل إبراهيم، وإن العترة الهادية لمن آل محمد، من الرجل»؟ فقيل: محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه إلى السماء وقال: «اللّهم أر محمد بن الأشعث ذُلاً في هذا اليوم لا تعزه بعد هذا اليوم أبداً»، فعرض له عارض فخرج من العسكر يتبرز، فسلّط اللّه عليه عقرباً، فلدغته فمات بادي العورة(2).

وقبل ذلك في عصر تاسوعاء لما أمر عمر بن سعد بالهجوم على الإمام الحسين (عليه السلام) قال: يا خيل اللّه اركبي وبالجنة أبشري!(3).

وقال ابن سعد يوم عاشوراء: يا أهل الكوفة لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين(4)!.

ليعطش الحسين (عليه السلام)

ومن جرائم بني أمية أنهم منعوا الماء عن الحسين (عليه السلام) وأطفاله ونسائه وأهل بيته وأصحابه.

وفي يوم عاشوراء لما بلغ العطش من الحسين (عليه السلام) وأصحابه مبلغاً عظيماً،

ص: 218


1- سورة آل عمران: 33-34.
2- مدينة المعاجز: ج3 ص475-476 فصل34 ح42.
3- بحار الأنوار: ج44 ص391 ب37.
4- بحار الأنوار: ج45 ص19 بقية الباب 37.

دخل عليه رجل من شيعته يقال له يزيد بن الحصين الهمداني(1) فقال: يا ابن رسول اللّه أتأذن لي فأخرج إليهم فأكلمهم، فأذن (عليه السلام) له، فخرج إليهم فقال: يا معشر الناس، إن اللّه عزوجل بعث محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حيل بينه وبين ابنه(2)!

فقالوا: يا يزيد قد أكثرت الكلام فاكفف، فو اللّه ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله!. فقال الحسين (عليه السلام) : «اقعد يا يزيد»(3).

أنشدكم باللّه

ثم وثب الإمام الحسين (عليه السلام) متوكئاً على سيفه فنادى بأعلى صوته فقال: أنشدكم اللّه هل تعرفوني؟، قالوا: نعم أنت ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟، قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟

قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن أمي فاطمة الزهراء بنت محمد (عليها السلام) ؟

قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد (عليها السلام) أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟، قالوا: اللّهم نعم.

ص: 219


1- هذا ماجاء في روضة الواعظين والبحار والعوالم عن أمالي الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) ، وفي الأمالي المطبوع: بريد بن خضير الهمداني.
2- أي إنكم قد حلتم بين ماء الفرات وبين إبن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
3- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص222 المجلس30 ح1، روضة الواعظين: ص185.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عم أبي؟

قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟

قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن هذا سيف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنا متقلده؟

قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن هذه عمامة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنا لابسها؟

قالوا: اللّهم نعم.

قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أن علياً (عليه السلام) كان أولهم القوم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟، قالوا: اللّهم نعم.

قال (عليه السلام) : «فبم تستحلون دمي وأبي الذائد عن الحوض غداً يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يدي أبي يوم القيامة؟

قالوا: قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً(1)!

ثم أخذ الحسين (عليه السلام) بطرف لحيته وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة ثم قال: «اشتد غضب اللّه على اليهود حين قالوا عُزَير ابن اللّه، واشتد غضب اللّه على النصارى حين قالوا المسيح ابن اللّه، واشتد غضب اللّه على المجوس حين عبدوا النار من دون اللّه، واشتد غضب اللّه على قوم قتلوا نبيهم واشتد غضب اللّه على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم»(2).

ص: 220


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص52-53.
2- روضة الواعظين: ص186.

الحر الرياحي

لما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين (عليه السلام) قال لعمر بن سعد: أي عمر أمقاتل أنت هذا الرجل؟! قال: إي واللّه قتالاً شديداً أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي! قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟ قال عمر: أما لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى.

فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يقال له: قرة بن قيس(1)، فقال له: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرة: فظننت واللّه أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه فو اللّه لو أنه اطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين بن علي (عليه السلام) (2).

فأخذ الحر يدنو من الحسين (عليه السلام) قليلاً قليلاً، فقال له مهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه، فأخذه مثل الأفكل - وهي الرعدة -، فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب! واللّه ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحر: إني واللّه أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فو اللّه لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت.

ثم ضرب الحر فرسه فلحق بالحسين (عليه السلام) فقال له: جُعلت فداك يا ابن رسول

ص: 221


1- قرة بن قيس الحنظلي التميمي (والحنظل) بطن من تميم يرجع إلى حنظلة بن مالك بن زيد مناة، و(الرياح) بطن من تميم ينسب إلى رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم بن مرة.
2- وهذا عذر غير مقبول كما هو واضح.

اللّه، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، واللّه لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب إلى اللّه تعالى مما صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟

فقال له الحسين (عليه السلام) : نعم، يتوب اللّه عليك فانزل، فقال: أنا لك فارساً خير مني راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري، فقال له الحسين (عليه السلام) : فاصنع يرحمك اللّه ما بدا لك(1).

فاستقدم الحر أمام الحسين (عليه السلام) فقال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه إلى بلاد اللّه العريضة، فصار كالأسير في أيديكم، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري تشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذريته، لا سقاكم اللّه يوم الظمأ.

فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين (عليه السلام) (2).

وفي رواية: إن الحر أتى الحسين (عليه السلام) فقال: يا ابن رسول اللّه كنتُ أول خارج عليك فائذن لي لأكون أول قتيل بين يديك، وأول من يصافح جدك غداً.

ص: 222


1- الإرشاد: ج2 ص99-100.
2- بحار الأنوار: ج45 ص11-12 ب37.

والمعنى(1):

أول قتيل من المبارزين وإلاّ فإن جماعة من أصحاب الحسين (عليه السلام) قُتلوا في الحملة الأولى كما مر.

وجعل الحر ينشد ويقول:

إني أنا الحر ومأوى الضيف***أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حل بأرض الخيف***أضربكم ولا أرى من حيف(2)

وقال:

آليت لا أقتل حتى أقتلا***أضربهم بالسيف ضربا معضلا

لا ناقل عنهم ولا معللا***لا عاجز عنهم ولا مبدلا

أحمي الحسين الماجد المؤملا(3)

فقتل منهم جماعة ثم قُتل، فأتاه الحسين (عليه السلام) ودمه يشخب فقال له: «بخ بخ يا حرّ، أنت حرّ كما سُميت في الدنيا والآخرة».

ثم أنشأ الحسين (عليه السلام) يقول:

لنعم الحر حر بني رياح***ونعم الحر مختلف الرماح(4)

و نعم الحر إذ نادى حسينا***فجاد بنفسه عند الصباح(5)

وروي أن الحر قتل أربعين فارساً وراجلاً من الأعداء، فلم يزل يقاتل حتى

ص: 223


1- قال السيد ابن طاووس (رحمه اللّه) في اللّهوف: إنما أراد أول قتيل من الآن لأن جماعة قتلوا قبله كما ورد، وقال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) : والمعنى يكون أول قتيل من المبارزين وإلاّ فإن جماعة كانوا قد قتلوا في الحملة الأولى كما ذكر. انتهى. وربما يراد أول قتيل من التوابين الذين رجعوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) .
2- انظر بحار الأنوار: ج45 ص13-14 ب37.
3- انظر بحار الأنوار: ج45 ص14 ب37.
4- أي: نعم الحر عند مختلف الرماح ونشوب المعركة.
5- انظر الأمالي، للشيخ الصدوق: ص223-224 المجلس30 ح1.

عُرقب فرسه(1)

وبقي راجلاً وهو يقول:

إني أنا الحر ونجل الحر***أشجع من ذي لبد هزبر

ولست بالجبان عند الكر***لكنني الوقاف عند الفر

ثم لم يزل يقاتل حتى سقط على الأرض، فاحتمله أصحاب الحسين (عليه السلام) حتى وضعوه بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) وبه رمق، فجعل الحسين (عليه السلام) يمسح وجهه ويقول: «أنت الحر كما سمّتك أمك، وأنت الحر في الدنيا وأنت الحر في الآخرة».

ورثاه رجل من أصحاب الحسين (عليه السلام) ، وقيل: بل رثاه علي بن الحسين (عليه السلام) بقوله:

لنعم الحر حر بني رياح***صبور عند مختلف الرماح

ونعم الحر إذ نادى حسينا***فجاد بنفسه عند الصياح

فيا ربي أضفه في جنان***وزوجه مع الحور الملاح(2)

برير

ثم برز بُرير بن خضير الهمداني(3)،

وكان بُرير من عبّاد اللّه الصالحين، ومعلّم القرآن في الكوفة، فبرز وهو يقول:

أنا برير وأبي خضير***ليث يروع الأسد عند الزير

ص: 224


1- أي قُطع عرقوب فرسه، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص257-258 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
3- سيد القراء في الكوفة ومن أقرأ أهل زمانه ومن مشاهير الكوفيين، كان شيخاً تابعياً ناسكاً جاء السلام عليه في الزيارة الرجبية، ومن ولده المولى أحمد بن الحسين الذي له كتاب في تجويد القرآن.

يعرف فينا الخير أهل الخير***أضربكم ولا أرى من ضير

كذاك فعل الخير في برير

وجعل يحمل على القوم وهو يقول: اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين، اقتربوا مني يا قتلة أولاد البدريين، اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول رب العالمين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذريته الباقين.

وكان برير أقرأ أهل زمانه، فلم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثين رجلاً أو أكثر، ثم قُتل رضوان اللّه عليه(1).

وهب

وبرز من بعده وهب بن وهب، وكان نصرانياً أسلم على يدي الإمام الحسين (عليه السلام) هو وأمه، فاتّبعوه إلى كربلاء، فركب فرساً وتناول بيده عود الفسطاط، فقاتل وقَتل من القوم سبعة أو ثمانية، ثم استؤسر فأتي به عمر بن سعد (لعنه اللّه) فأمر بضرب عنقه، فضُربت عنقه، ورُمي برأسه إلى عسكر الحسين (عليه السلام) .. وأخذت أمه سيفه وبرزت، فقال لها الحسين (عليه السلام) : «يا أم وهب، اجلسي فقد وضع اللّه الجهاد عن النساء، إنك وابنك مع جدي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجنة»(2).

وفي رواية: قال له عمر بن سعد: ما أشد صولتك، ثم أمر فضربت عنقه ورمي برأسه إلى عسكر الحسين (عليه السلام) فأخذت أمه الرأس فقبّلته ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد...(3)

وقالت: لا نسترجع ما أنفقناه في سبيل اللّه.

ص: 225


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص15 ب37، وقاتله: كعب بن جابر أو بحير بن أوس الضبي وربما اشتركا معاً في قتله لعنهما اللّه.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص225 المجلس30 ح1.
3- انظر بحار الأنوار: ج45 ص17 ب37، وفي هذه الرواية: أن وهب رضوان اللّه عليه قَتل منهم في المبارزة: أربعة وعشرين راجلاً وإثني عشر فارساً.

وفي رواية: ثم برز وهب بن عبد اللّه بن حباب الكلبي وقد كانت معه أمه يومئذ فقالت: قم يا بني فانصر ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: أفعل يا أماه ولا أقصّر، فبرز وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابن الكلب***سوف تروني وترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب***أدرك ثأري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكرب أمام الكرب***ليس جهادي في الوغى باللعب

ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة، فرجع إلى أمه وامرأته فوقف عليهما فقال: يا أماه أرضيت؟ فقالت: ما رضيت أو تُقتَل بين يدي الحسين (عليه السلام) فقالت امرأته: باللّه لا تفجعني في نفسك!، فقالت أمه: يا بني لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي اللّه، فرجع قائلاً:

إني زعيم لك أم وهب***بالطعن فيهم تارة والضرب

ضرب غلام مؤمن بالرب***حتى يذيق القوم مر الحرب

إني امرؤ ذو مرة وعصب***ولست بالخوار عند النكب

حسبي إلهي من عليم حسب

فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً، ثم قُطعت يده فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأقبل كي يردها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك!. فقال الحسين (عليه السلام) : «جزيتم من أهل بيتي خيراً، ارجعي إلى النساء رحمك اللّه» فانصرفَت، وجعل يقاتل حتى قُتل

ص: 226

(رضوان اللّه عليه).

وروي أنه خرجت أمرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئا لك الجنة، فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فخدشه. فماتت في مكانها. وهي أول امرأة قُتلت في عسكر الحسين (عليه السلام) (1).

الغفاري

وبرز عبد اللّه بن أبي عروة الغفاري(2) وهو يقول:

قد علمت حقا بنو غفار***أني أذب في طلاب الثار

بالمشرفي والقنا الخطار

فقتل منهم عشرين رجلاً، ثم قُتل رحمه اللّه(3).

الهمداني

ثم برز من بعده بدير بن حفير الهمداني(4) وكان أقرأ أهل زمانه وهو يقول:

أنا بدير وأبي حفير***لا خير فيمن ليس فيه خير

فقتل منهم ثلاثين رجلاً، ثم قُتل رضوان اللّه عليه(5).

ص: 227


1- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص260 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- في بعض المصادر أنه برز عبداللّه وعبدالرحمن الغفاريان وأحدهما يقول: قد علمت حقاً بنو غفار.. وفي بعضها: ثم خرج عبدالرحمن بن عروة فقال: قد علمت.. وفي بعضها عبداللّه وعبدالرحمن ابنا عزرة الغفاريان، وفي بعضها قرة بن أبي قرة الغفاري وغيرها، وربما كانوا أكثر من شخص.
3- روضة الواعظين: ص187.
4- ذكر البعض بأن هذا هو برير بن خضير الهمداني.
5- بحار الأنوار: ج44 ص320 ب37.

الكاهلي

ثم برز من بعده مالك بن أنس الكاهلي وهو يقول:

قد علمت كاهلها ودودان***والخندفيون وقيس عيلان(1)

بأن قومي قصم الأقران***يا قوم كونوا كأسود الجان

آل علي شيعة الرحمن***وآل حرب شيعة الشيطان

فقتل منهم ثمانية عشر رجلاً، ثم قُتل رضوان اللّه عليه(2).

الكندي

وبرز من بعده زياد بن مهاصر الكندي فحمل عليهم وأنشأ يقول:

أنا زياد وأبي مهاصر***أشجع من ليث العرين الخادر(3)

يا رب إني للحسين ناصر***ولابن سعد تارك مهاجر

فقتل منهم تسعة، ثم قُتل رضوان اللّه عليه(4).

هلال بن حجاج

ثم برز من بعده هلال بن حجاج(5) وهو يقول:

ص: 228


1- كاهل: أبو قبيلة من أسد وهو كاهل بن أسد بن خزيمة، و(دودان): أبو قبيلة من أسد وهو دودان بن أسد بن خزيمة، و(خندف): لقب إمرأة إلياس بن مضر وتَسمى أولادها بهذا الإسم، و(قيس عيلان) أبو قبيلة من مضر واسمه الناس بن مضر بن نزار وهو أخو إلياس بن مضر، و(عيلان) اسم فرسه سُمي بذلك تفرقة بينه وبين قيس كُبّة وكان أحد العرب.
2- روضة الواعظين: ص187.
3- ليث العرين: الأسد الذي يكون داخر الخدر، أي الأجمة الخاصة به بحيث يكون مدافعاً مستميتاً عن عرينه.
4- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص225 المجلس30 ح1.
5- يرى البعض بأن هناك خلطاً في بعض الأسماء، فهلال بن نافع مصحف لنافع بن هلال، والبجلي مصحف للجملي، وهلال بن حجاج مصحف وهو نافع بن هلال، لتطابق الأشعار، بالإضافة على عدم ذكر هلال بن حجاج في كتب الرجال والتراجم والتواريخ وأول من ذكره الصدوق (رحمه اللّه) في الأمالي، ومع كل ذلك فإن احتمال تعدد الأشخاص وتشابه الأسماء ليس ببعيد.

أرمي بها معلمة أفواقها***والنفس لا ينفعها إشفاقها(1)

فقتل منهم ثلاثة عشر رجلاً، ثم قُتل رضوان اللّه عليه(2).

الأزدي وابنه

ثم برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي وهو يقول:

إليك يا نفس إلى الرحمن***فأبشري بالروح والريحان

اليوم تجزين على الإحسان***قد كان منك غابر الزمان

ما خط في اللوح لدى الديان***لا تجرعي فكل حي فان

والصبر أحظى لك بالأماني***يا معشر الأزد بني قحطان

ثم قاتل حتى قُتل رحمه اللّه.

فتقدم ابنه خالد بن عمرو وهو يرتجز ويقول:

صبراً على الموت بني قحطان***كي ما تكونوا في رضي الرحمن

ذي المجد والعزة والبرهان***وذي العلى والطول والإحسان

يا أبتا قد صرتَ في الجنان***في قصر در حسن البنيان

ثم تقدّم فلم يزل يقاتل حتى قُتل (رحمة اللّه عليه)(3).

ص: 229


1- أي جعلت علائم على أفواق السهام، و(الأفواق): جمع فوق وهو طرف السهم حيث يكون على الوتر.
2- روضة الواعظين: ص187.
3- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص261 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

التميمي

ثم برز من بعده سعد بن حنظلة التميمي وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنة***صبراً عليها لدخول الجنة

وحور عين ناعمات هنه***لمن يريد الفوز لا بالظنة

يا نفس للراحة فاجهدنه***وفي طلاب الخير فارغبنه(1) ثم حمل وقاتل قتالاً شديداً، حتى قُتل رضوان اللّه عليه(2).

المذحجي

وخرج من بعده عمير بن عبد اللّه المذحجي وهو يرتجز ويقول:

قد علمت سعد وحي مذحج***أني لدى الهيجاء ليث محرج

أعلو بسيفي هامة المدجج***وأترك القرن لدى التعرج

فريسة الضبع الأزل الأعرج

ولم يزل يقاتل حتى قُتل (رحمه اللّه) (3).

مسلم بن عوسجة

وبرز مسلم بن عوسجة الأسدي (رحمه اللّه) وكان شيخاً كبيراً وهو يرتجز:

إن تسألوا عني فإني ذو لبد***من فرع قوم في ذري بني أسد

فمن بغانا حايد عن الرشد***وكافر بدين جبار صمد

فقاتل قتالاً شديداً(4).

ص: 230


1- الهاء للسكت في كل من قوله رضوان اللّه عليه: هنه، فاجهدنه، فارغبنه.
2- بحار الأنوار: ج45 ص18 ب37.
3- قتله: مسلم الضبابي وعبد اللّه البجلي، انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص262 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
4- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص251 باب امامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .

نافع البجلي

وكان نافع بن هلال البجلي يقاتل قتالاً شديداً ويرتجز ويقول:

أنا ابن هلال البجلي***أنا على دين علي

ودينه دين النبي

فبرز إليه رجل من بني قطيعة وهو مزاحم بن حريث فقال: أنا على دين عثمان، فقال له نافع: أنت على دين الشيطان، فحمل عليه نافع فقتله(1). ثم قاتل قتال الأبطال حتى قُتل رضوان اللّه عليه.

هلال البجلي

وبرز هلال بن نافع البجلي(2) وهو يقول:

أرمي بها معلمة أفواقها***والنفس لا ينفعها إشفاقها

مسمومة تجري بها أخفاقها***ليملأن أرضها رشاقها

فلم يزل يرميهم حتى فنيت سهامه، ثم ضرب يده إلى سيفه فاستله وجعل يقول:

أنا الغلام اليمني البجلي***ديني على دين حسين وعلي

إن أقتل اليوم فهذا أملي***فذاك رأيي وألاقي عملي

فقتل ثلاثة عشر رجلاً، فكسروا عضديه وأخذوه أسيراً، فقام إليه شمر

ص: 231


1- بحار الأنوار: ج45 ص19 ب37.
2- ربما يكون هذا تصحيفاً لنافع بن هلال الجملي الذي كان شجاعاً شريفاً قارئاً من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وممن حضر معه في حروبه ولقي الحسين (عليه السلام) قبل مقتل مسلم، وله مواقف جليلة في ليلة عاشوراء ويومها وقبلها، أما هلال بن نافع فكان من أصحاب ابن سعد ومن اشترك في حربه حتى النهاية ضد الإمام الحسين (عليه السلام) .. وربما كانا شخصين يحمل كل منهما نفس الاسم.

فضرب عنقه(1).

هجمة أخرى

ولما رأى أصحاب عمر بن سعد شجاعة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ، صاح عمرو بن الحجاج بالناس: يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين، لا يبرز منكم إليهم أحد إلاّ قتلوه على قلّتهم، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم..

فقال له عمر بن سعد: الرأي ما رأيت، فأرسل في الناس من يعزم عليهم أن لايبارزهم رجل منهم، وقال: لو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة(2).

ودنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين (عليه السلام) ثم توجه إلى جيش ابن سعد وقال: يا أهل الكوفة ألزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام يزيد!.

فقال الحسين (عليه السلام) : «يا عمرو بن الحجاج أعليّ تحرض الناس، أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتم عليه!، أما واللّه لتعلمن لو قد قُبضت أرواحكم ومُتّم على أعمالكم أيّنا المارق، أينا مرق من الدين، ومن هو أولى بصلي النار؟».

ثم حمل عمرو بن الحجاج (لعنه اللّه) في ميمنته من نحو الفرات على أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ، فاضطربوا ساعة، فلما انصرفوا وانقطعت الغبرة، فإذا مسلم بن عوسجة صريع(3).

ص: 232


1- بحار الأنوار: ج45 ص27 ب37.
2- بحار الأنوار: ج45 ص19 ب37.
3- انظر مقتل الحسين (عليه السلام) : ص136.

على مصرع مسلم

ولما سقط مسلم بن عوسجة إلى الأرض وبه رمق، مشى إليه الإمام الحسين (عليه السلام) ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين (عليه السلام) : رحمك اللّه يا مسلم {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(1) ثم دنا منه حبيب فقال: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال له قولاً ضعيفاً: بشّرك اللّه بخير، ثم قال له حبيب: لولا إنني أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي بكل ما أهمك، فقال مسلم: فإني أوصيك بهذا، وأشار إلى الحسين (عليه السلام) فقاتل دونه حتى تموت، فقال حبيب: لأنعمنّك عيناً، ثم مات رضوان اللّه عليه(2). وصاحت جارية له: يا سيداه، يا ابن عوسجتاه(3)..

شجاعة أصحاب الحسين (عليه السلام)

ثم حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة، فثبت له أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وقاتلوهم قتالاً شديداً، وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً(4)، فلا يحملون

ص: 233


1- سورة الأحزاب: 23.
2- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص65.
3- فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين: قتلنا مسلم بن عوسجة، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله: ثكلتكم أمهاتكم أما إنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون عزكم، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة أما والذي أسلمت له لرُبّ موقف له في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم آذريبجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين. العوالم: ص264 باب ما جرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
4- أي إن أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) كان عددهم اثنين وثلاثين فارساً وصدّوا ميسرة جيش قدر بأقل التقادير ثلاثون ألفاً، وهذه من صور الشجاعة النادرة التي تجلّت من أصحابه (عليه السلام) والتي لامثيل لها.

على جانب من أهل الكوفة إلاّ كشفوهم، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة، فاقتبلوا حتى دنوا من الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فرشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وقاتلوهم حتى انتصف النهار، واشتد القتال، ولم يقدروا أن يأتوهم إلاّ من جانب واحد لاجتماع أبنيتهم، وتقارب بعضها من بعض.

اليزني

وخرج عبد الرحمن بن عبد اللّه اليزني وهو يقول:

أنا ابن عبد اللّه من آل يزن***ديني على دين حسين وحسن

أضربكم ضرب فتى من اليمن***أرجو بذاك الفوز عند المؤتمن

ثم حمل فقاتل، حتى قُتل رضوان اللّه عليه(1).

الأنصاري

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري(2) فاستأذن الحسين (عليه السلام) فأذن له، فقاتل قتال المشتاقين إلى الجنة والجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه السلام) سهم إلاّ اتقاه بيده، ولا سيف إلاّ تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه السلام) سوء حتى أُثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال: يا ابن رسول اللّه أَوفيت؟ قال (عليه السلام) : «نعم أنت أمامي في الجنة فأقرء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مني السلام وأعلمه أني

ص: 234


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص251.
2- هو عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري وكان والده والياً لأمير المؤمنين (عليه السلام) على الكوفة قبل أن يقدمها، وجعل له راية الأنصار في حربه (عليه السلام) مع معاوية، و كان من أصحابه المخلصين وكذا أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) .

في الأثر».

فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه تعالى عليه(1). وفي المناقب أنه كان يقول:

قد علمت كتيبة الأنصار***أن سوف أحمي حوزة الذمار

ضرب غلام غير نكس شاري***دون حسين مهجتي وداري(2)

جون مولى أبي ذر

وتقدم جون مولى أبي ذر الغفاري (رحمه اللّه) وكان عبداً أسود، فقال له الحسين (عليه السلام) : «أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتل بطريقنا».

فقال: يا ابن رسول اللّه أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم، واللّه إن ريحي لمنتن، وإن حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس عليّ بالجنة فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي، لا واللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم».

ثم برز للقتال وهو ينشد ويقول:

كيف يرى الكفار ضرب الأسود***بالسيف ضربا عن بني محمد

أذب عنهم باللسان واليد***أرجو به الجنة يوم المورد

وقيل: كان رجزه هكذا:

كيف يرى الفجار ضرب الأسود***بالمشرفي القاطع المهند

بالسيف صلتاً عن بني محمد***أذب عنهم باللسان واليد

أرجو بذلك الفوز عند المورد***من الإله الأحد الموحد

إذ لا شفيع عنده كأحمد

ص: 235


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص64.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص253.

ثم قاتل حتى قُتل فوقف عليه الحسين (عليه السلام) وقال: «اللّهم بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد».

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن علي بن الحسين (عليهما السلام) : «أن الناس كانوا يحضرون المعركة، ويدفنون القتلى، فوجدوا جوناً يفوح منه رائحة المسك رضوان اللّه عليه»(1).

الصيداوي

وبرز عمرو بن خالد الصيداوي(2) فقال للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد اللّه جُعلت فداك قد هممتُ أن ألحق بأصحابي وكرهتُ أن أتخلف وأراك وحيداً من أهلك قتيلاً.

فقال له الحسين (عليه السلام) : «تقدم فإنا لاحقون بك عن ساعة».

فتقدم فقاتل، حتى قُتل (رحمه اللّه) (3).

حنظلة الشبامي

وجاء حنظلة بن سعد الشِبامي(4) فوقف بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي: {يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * ويا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ

ص: 236


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص22-23 ب37.
2- صيداء: وأهلها يقصرونه وهي مدينة لبنانية على ساحل بحر الشام شرقي صور بينهما ستة فراسخ، أو إنه من بني الصيداء وهم بطن من أسد والأخير هو الأظهر.
3- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص266 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
4- حنظلة بن سعد الشبامي: من أصحاب الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) ، وشبام بطن من همدان.

عاصِمٍ}(1) يا قوم لا تقتلوا حسيناً {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى}(2).

فقال له الحسين (عليه السلام) : «يا ابن سعد إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين» قال: صدقتَ جُعلتُ فداك أفلا نروح إلى ربنا فنلحق بإخواننا، فقال (عليه السلام) له: «رُح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، وإلى ملك لايُبلى» فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه، صلى اللّه عليك وعلى أهل بيتك وجمع بيننا وبينك في جنته، قال (عليه السلام) : «آمين آمين» ثم استقدم فقاتل قتالاً شديداً فحملوا عليه فقتلوه رضوان اللّه عليه(3).

سويد يُقتل مرتين

وتقدم سويد بن عمرو بن أبي المطاع وكان شريفاً كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، حتى سقط بين القتلى وقد اُثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك فظنوا بأنه قُتل، حتى سمعهم يقولون: قُتل الحسين، فتحامل وأخرج سكيناً من خفه وجعل يقاتلهم بها حتى قُتل رضوان اللّه عليه(4).

يحيى المازني

وخرج يحيى بن سليم المازني وهو يرتجز ويقول:

لأضربن القوم ضربا فيصلا***ضربا شديدا في العداة معجلا

لا عاجزا فيها ولا مولولا***ولا أخاف اليوم موتا مقبلا

ص: 237


1- سورة غافر: 30-33.
2- سورة طه: 61.
3- بحار الأنوار: ج45 ص23-24 ب37.
4- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص66.

لكنني كالليث أحمي أشبلا

ثم حمل فقاتل حتى قُتل رحمه اللّه(1).

قرة الغفاري

وخرج قرة بن أبي قرة الغفاري وهو يرتجز ويقول:

قد علمت حقا بنو غفار***وخندف بعد بني نزار

بأني الليث لدى الغيار***لأضربن معشر الفجار

بكل عضب ذكر بتار***ضرباً وجيعاً عن بني الأخيار

رهط النبي السادة الأبرار

ثم حمل فقاتل(2) حتى قُتل رحمه اللّه(3).

مالك المالكي

وخرج مالك بن أنس المالكي(4) وهو يرتجز ويقول:

قد علمت مالكها والدودان***والخندفيون وقيس عيلان

بأن قومي آفة الأقران***لدى الوغى وسادة الفرسان

مباشرو الموت بطعن آن***لسنا نرى العجز عن الطعان

آل علي شيعة الرحمن***آل زياد شيعة الشيطان(5)

ص: 238


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص267-268 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- وفي كتاب (مناقب آل أبي طالب): أنه قتل ثمانية وستين رجلاً، رضوان اللّه عليه.
3- بحار الأنوار: ج45 ص24 باب37.
4- ورد في الأمالي وروضة الواعظين والمناقب لأبن شهرآشوب: مالك بن أنس الكاهلي وقد تقدم، وقال إبن نما رحمه اللّه: أنس بن حارث الكاهلي. وهو المذكور في كتب الرجال بأن له صحبة مع الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد مرّ ذكره في هذا الكتاب فراجع.
5- جاء في كتاب (سُليم بن قيس): ص287: أن زياداً لعنه اللّه قال بعد أن قرأ كتاباً لمعاوية: (ويلي مما خرجت وفيما دخلت، كنت واللّه من شيعة آل محمد وحزبه، فخرجت منها ودخلت في شيعة الشيطان وحزبه..).

ثم حمل فقاتل حتى قُتل رحمه اللّه.

أنس بن حارث

وخرج أنس بن الحارث الكاهلي الكوفي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان شيخاً كبير السن، فقاتل حتى قُتل مع الحسين (عليه السلام) ..

عمرو الجعفي

وخرج عمرو بن مطاع الجعفي وهو يقول:

أنا ابن جعف وأبي مطاع***وفي يميني مرهف قطاع

وأسمر في رأسه لماع***يرى له من ضوئه شعاع

اليوم قد طاب لنا القراع***دون حسين الضرب والنطاع

يرجى بذاك الفوز والرفاع***عن حرّ نار حين لا امتناع

ثم حمل فقاتل حتى قُتل رحمه اللّه(1).

مؤذن الحسين (عليه السلام)

وخرج الحجاج بن مسروق وهو مؤذن الإمام الحسين (عليه السلام) ويقول:

أقدم حسينا هاديا مهديا***اليوم تلقى جدك النبيا

ثم أباك ذا الندا عليا***ذاك الذي نعرفه وصيا

والحسن الخير الرضي الوليا***وذا الجناحين الفتى الكميا

وأسد اللّه الشهيد الحيا

ص: 239


1- الفتوح: ج5 ص107.

ثم حمل فقاتل، حتى قُتل رحمه اللّه(1).

صلاة الظهر

فلم يزل يُقتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلّتهم، ويُقتل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم.

فلما رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد اللّه نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، ولا واللّه لا تُقتل حتى اُقتل دونك، وأحب أن ألقى اللّه ربي وقد صليت هذه الصلاة.

فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه إلى السماء وقال: «ذكرتَ الصلاة جعلك اللّه من المصلين، نعم هذا أول وقتها» ثم قال (عليه السلام) : «سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي».

فقال الحصين بن نمير: إنها لا تُقبل!.

فقال حبيب بن مظاهر: لا تُقبل الصلاة زعمت من ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتُقبل منك ياختّار - أي يا غدّار -؟ فحمل عليه حصين بن نمير وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشب به الفرس - أي رفع الفرس يديه وقمص - ووقع عنه الحصين فاحتوشته أصحابه فاستنقذوه.

فقال الحسين (عليه السلام) لزهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه: «تقدما أمامي حتى أصلي الظهر» فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلى بهم صلاة الخوف(2).

ص: 240


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص269 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- بحار الأنوار: ج45 ص21 ب37، وصلاة الخوف: تسمى في حالة الحرب بصلاة ذات الرقاع، وقد صلاها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل، وكيفيتها: أن يصلي الإمام بفرقة من أصحابه ركعة وينفرد بعد ذلك المأمومون حتى ينهوا صلاتهم، ثم تأتي الفرقة الأخرى وتلتحق بالإمام في ركعته الثانية حتى يصل إلى التشهد فيطيل الإمام في ذلك حتى يقوموا ليؤدوا الثانية ويتشهدوا معه.

ثم صلى الإمام (عليه السلام) بهم صلاة العصر كذلك.

زهير بن القين

ثم برز زهير بن القين البجلي وهو يقول مخاطبا للحسين (عليه السلام) :

اليوم نلقى جدك النبيا***وحسنا والمرتضى عليا

وروي أنه كان يرتجز ويقول:

أنا زهير وأنا ابن القين***أذودكم بالسيف عن حسين

إن حسينا أحد السبطين***من عترة البر التقي الزين

ذاك رسول اللّه غير المين***أضربكم ولا أرى من شين

يا ليت نفسي قسمت قسمين

فقاتل حتى قتل مائة وعشرين رجلاً(1)، فشدوا عليه(2) وقتلوه (رضوان اللّه عليه)..

فقال الحسين (عليه السلام) حين صرع زهير: «لا يبعدك اللّه يا زهير، ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير»(3).

سعيد الحنفي

وخرج سعيد بن عبد اللّه الحنفي وهو يرتجز:

أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا***وشيخك الحبر عليا ذا الندا

وحسنا كالبدر وافى الأسعدا***وعمك القوم الهمام الأرشدا

حمزة ليث اللّه يدعى أسدا***وذا الجناحين تبوأ مقعدا

ص: 241


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص252.
2- شد عليه كثير بن عبداللّه الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي لعنهما اللّه فقتلاه.
3- بحار الأنوار: ج45 ص25 ب37.

في جنة الفردوس يعلو صعدا

فلم يزل يقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه.

وهذه الأبيات نسبت لسويد بن عمرو بن أبي المطاع أيضاً(1).

حبيب بن مظاهر

وبرز الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي(2)، وهو من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) وله علم المنايا والبلايا، وهو قرين ميثم ورُشيد، وكان من شرطة الخميس، وكان في غاية الجلالة والنبالة، فلما خرج إلى القوم ارتجز قائلاً:

أنا حبيب وأبي مظاهر***فارس هيجاء وحرب تسعر

وأنتم عند العديد أكثر***ونحن أعلى حجة وأظهر

وأنتم عند الوفاء أغدر***ونحن أوفى منكم وأصبر

حقا وأنمى منكم وأعذر***ننصر خير الناس حين يذكر

وقال أيضاً:

ومن أقسم لو كنا لكم أعدادا***أو شطركم وليتم الأكتادا

ص: 242


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص26 ب37، والظاهر كونها لسويد أقرب لما سيأتي من إن سعيداً استشهد بصورة استثنائية.
2- حبيب بن مظاهر(مظهر أو مطهر) بن رئاب بن الأشتر بن حجوان الأسدي الكندي الفقعسي، من كبار التابعين، وقال جمع إنه أدرك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد نزل حبيب الكوفة وكان من المشهورين فيها، وكان ذا جمال وكمال، وفي وقعة كربلاء كان عمره 75 سنة وكان يحفظ القرآن كله ويختمه في ليلة واحدة من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر صحب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان من خواصه وحملة علومه واشترك مع في حروبه جميعاً وكان قائد ميسرة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وكان قتله مما هدّ الإمام الحسين (عليه السلام) .

يا شر قوم حسبا وآدا***وشرهم قد علموا أندادا

وقاتل قتالاً شديداً وقتل جماعة كثيرة على كبر سنه(1)، حتى حمل عليه رجل من الأعداء فطعنه فذهب ليقوم فضربه لعين آخر على رأسه بالسيف فوقع فاجتزوا رأسه، فهدّ مقتله الحسين (عليه السلام) فقال: «عند اللّه أحتسب نفسي وحماة أصحابي»(2).

وقال: «لله درّك يا حبيب لقد كنت فاضلاً تختم القرآن في ليلة واحدة»(3).

ثم إن أحد الأعداء علق رأس حبيب (رحمه اللّه) في عنق فرسه(4).

كان حبيب (رحمه اللّه) من أوفى أصحاب الحسين (عليه السلام) حيث كان يُعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون، ويقولون: لاعذر لنا عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن قُتل الحسين (عليه السلام) ومنا عين تطرف(5).

وقد ورد في أحواله أنه لما كان في الكوفة، مرّ عليه ميثم التمار (رحمه اللّه) على فرس له فاستقبل حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد، فتحدثا حتى اختلفت أعناق فرسيهما، ثم قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صُلب في حب أهل بيت نبيه (عليهم السلام) ويبقر بطنه على الخشبة! فقال ميثم: وإني لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لينصر ابن بنت نبيه (عليه السلام) فيُقتل ويجال برأسه بالكوفة، ثم افترقا.

ص: 243


1- ذكر السيد محمد بن أبي طالب وإبن شهرآشوب: أنه قتل إثنان وستون رجلاً، وكان عمره 75 عاماً.
2- بحار الأنوار: ج45 ص27-28 ب37.
3- شجرة طوبى: ج2 ص442.
4- وهو الحصين بن نمير الحمصي لعنه اللّه أحد من إشترك في قتل حبيب رضوان اللّه عليه.
5- انظر جامع الرواة: ج1 ص178.

فتعجب أهل المجلس: وزعموا بكذبهم، قال: فلم يفترق أهل المجلس حتى أقبل رُشيد الهجري، فطلبهما وسأل أهل المجلس عنهما، فقالوا: افترقوا وسمعناهما يقولان كذا وكذا. فقال رُشيد:رحم اللّه ميثماً نسي: ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم، ثم أدبر فاتهمه القوم بالكذب أيضا... قالوا: واللّه ما ذهبت الأيام والليالي حتى رأيناه مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث، وجيء برأس حبيب بن مظاهر قد قُتل مع الحسين (عليه السلام) ورأينا كل ما قالوا.

ولقد مزح حبيب بن مظاهر الأسدي في كربلاء، فقال له يزيد بن خضير الهمداني وكان يقال له سيد القراء: يا أخي ليس هذه بساعة ضحك! قال: فأي موضع أحق من هذا بالسرور، واللّه ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين(1).

وقد روي عن حبيب أنه قال للإمام الحسين (عليه السلام) : أي شيء كنتم قبل أن يخلق اللّه عزوجل آدم (عليه السلام) ؟ قال (عليه السلام) : «كنا أشباح نور ندور حول عرش الرحمن فنعلّم الملائكة التسبيح والتهليل والتحميد»(2).

شاب قتل أبوه

وخرج شاب قُتل أبوه في المعركة(3) وكانت أمه معه، فقالت له أمه: اخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) !، فخرج فقال الحسين (عليه السلام) : «هذا شاب قُتل أبوه في المعركة ولعلّ أمه تكره خروجه»، فقال الشاب: أمي أمرتني بذلك! فبرز وهو يقول:

ص: 244


1- انظر إختيار معرفة الرجال: ج1 ص292-293.
2- علل الشرايع: ج1 ص23 ب18.
3- احتمل بعض العلماء (رحمه اللّه) : أنه عمرو أو عمر بن جنادة بن الحارث الأنصاري الآتي الذكر (رحمه اللّه) .

أميري حسين ونعم الأمير***سرور فؤاد البشير النذير

علي وفاطمة والداه***فهل تعلمون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى***له غرة مثل بدر منير

وقاتل حتى قُتل وجُزّ رأسه ورُمي به إلى عسكر الحسين (عليه السلام) فحملت أمه رأسه وقالت: أحسنت يا بني يا سرور قلبي ويا قرة عيني، ثم رمت برأس ابنها نحو القوم، كأنها لا تسترجع ما أنفقته في سبيل اللّه، ثم أخذت عمود خيمته وحملت عليهم وهي تقول:

أنا عجوز سيدي ضعيفة***خاوية بالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة***دون بني فاطمة الشريفة

وضربت رجلين فقتلتهما، فأمر الحسين (عليه السلام) بصرفها ودعا لها(1).

جنادة الأنصاري وابنه

وخرج جنادة بن الحارث الأنصاري وهو يقول:

أنا جناد وأنا ابن الحارث***لست بخوار ولا بناكث

عن بيعتي حتى يرثني وارث***اليوم شلوي في الصعيد ماكث

ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى قُتل رحمه اللّه(2).

ثم خرج من بعده عمرو بن جنادة وهو يقول:

أضق الخناق من ابن هند وارمه***من عامه بفوارس الأنصار

ومهاجرين مخضبين رماحهم***تحت العجاجة من دم الكفار

خضبت على عهد النبي محمد***فاليوم تخضب من دم الفجار

ص: 245


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص271 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
2- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص253، وفيه: فقتل ستة عشر رجلاً.

واليوم تخضب من دماء أراذل***رفضوا القرآن لنصرة الأشرار

طلبوا بثأرهم ببدر إذ أتوا***بالمرهفات وبالقنا الخطار

واللّه ربي لا أزال مضاربا***في الفاسقين بمرهف بتار

هذا على الأزدي حق واجب***في كل يوم تعانق وكرار(1)

عابس الشاكري

وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري معه شوذب مولى شاكر(2) وقال: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟

قال: ما أصنع؟ أقاتل حتى اُقتل. قال: ذاك الظن بك، فتقدم بين يدي أبي عبد اللّه (عليه السلام) حتى يحتسبك كما احتسب غيرك، فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه، فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب.

فتقدم فسلّم على الحسين (عليه السلام) وقال: يا أبا عبد اللّه، أما واللّه ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعز عليّ ولا أحب إليّ منك، ولو قدرتُ على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشي ء أعز عليّ من نفسي ودمي لفعلت، السلام عليك يا أبا عبد اللّه أشهد أني على هداك وهدى أبيك، ثم مضى بالسيف نحوهم.

قال ربيع بن تميم: فلما رأيته مقبلاً عرفته وقد كنت شاهدته في المغازي، وكان أشجع الناس، فقلت: أيها الناس هذا أسد الأسود هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم، فأخذ ينادي: ألا رجل؟ ألا رجل؟ فقال عمر بن سعد:

ص: 246


1- بحار الأنوار: ج45 ص28 ب37.
2- هو عابس بن أبي شبيب بن شاكر الشاكري الهمداني، و(شوذب): مولى عابس كما في بعض المصادر، فما ذكر أنه مولى شاكر أي مولى الشاكري وهو عابس، أو هو مولى جد عابس شاكر بن ربيعة.

ارضخوه بالحجارة من كل جانب.

فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شدّ على الناس، فو اللّه لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس، ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقُتل، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة، هذا يقول: أنا قتلته، والآخر يقول كذلك، فقال عمر بن سعد: لا تختصموا هذا لم يقتله إنسان واحد، حتى فرق بينهم بهذا القول(1).

الغفاريان

وجاءه عبد اللّه وعبد الرحمن الغفاريان فقالا: يا أبا عبد اللّه السلام عليك، إنه جئنا لنُقتل بين يديك وندفع عنك.

فقال (عليه السلام) : «مرحباً بكما ادنوا مني» فدنوا منه وهما يبكيان، فقال (عليه السلام) : «يا ابنَي أخي ما يبكيكما؟ فو اللّه إني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين».

فقالا: جعلنا اللّه فداك واللّه ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد اُحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك.

فقال (عليه السلام) : «جزاكما اللّه يا ابني أخي بوجدكما(2) من ذلك ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين». ثم استقدما وقالا: السلام عليك يا ابن رسول اللّه.

فقال (عليه السلام) : «وعليكما السلام ورحمة اللّه وبركاته»، فقاتلا حتى قُتلا رضوان اللّه عليهما(3).

ص: 247


1- بحار الأنوار: ج45 ص28-29 ب3.
2- أي بحزنكما على ما يحصل عليّ.
3- بحار الأنوار: ج45 ص29 ب37.

غلام تركي

وخرج غلام تركي كان للحسين (عليه السلام) وكان قارئاً للقرآن، فجعل يقاتل ويرتجز ويقول:

البحر من طعني وضربي يصطلي***والجو من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي***ينشق قلب الحاسد المبجل

فقتل جماعة(1) ثم سقط صريعاً، فجاءه الحسين (عليه السلام) فبكى ووضع خده على خدّه، ففتح عينه فرأى الإمام الحسين (عليه السلام) فتبسم ثم صار إلى ربه رضوان اللّه عليه(2).

ابن مهاجر

وتقدم يزيد بن مهاجر(3) فقتل خمسة من الأعداء بالنشاب، ما أخطأ منها، وكان كلما رمى قال الحسين (عليه السلام) : «اللّهم سدّد رميته واجعل ثوابه الجنة».

وكان يرتجز ويقول:

أنا يزيد وأبي المهاجر***كأنني ليث بغيل خادر(4)

يا رب إني للحسين ناصر***ولابن سعد تارك وهاجر

ص: 248


1- في مناقب آل أبي طالب: أنه كان غلاما للحر، وقد قتل سبعين رجلاً.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص273 باب ما جرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.
3- هو يزيد بن زياد بن المهاصر، والمهاصر هو الأسد وقد عرف أيضاً بالمهاجر، المكنى بأبي الشعثاء البهدلي الكندي، وفي بعض المصادر أنه كان من جيش إبن سعد فعندما رأى أنهم ردوا ماعرض عليهم الإمام الحسين (عليه السلام) من الشروط مال إلى الإمام (عليه السلام) وقاتل حتى قُتل رحمه اللّه، ويدل عليه شعره، وقيل: إنه أول من قُتل.
4- الغيل: أجمة الأسد وعرينه، والخادر أي الكامن.

فحملوا عليه وقتلوه، رضوان اللّه عليه(1).

النهشلي

قال مهران مولى بني كاهل: شهدت كربلاء مع الحسين (عليه السلام) فرأيت رجلاً يقاتل قتالاً شديداً شديداً لا يحمل على قوم إلاّ كشفهم، ثم يرجع إلى الحسين (عليه السلام) .. وكان يرتجز ويقول:

أبشر هديت الرشد تلقى أحمدا***في جنة الفردوس تعلو صعدا

فقلت: من هذا؟ فقالوا: أبو عمرو النهشلي وقيل الخثعمي، فاعترضه أحد الأعداء فقتله واجتز رأسه، وكان أبو عمرو هذا متهجداً كثير الصلاة، رضوان اللّه عليه(2).

الجابريان

وتقدم سيف بن أبي الحارث بن سريع، ومالك بن عبد اللّه بن سريع الجابريان بطن من همدان(3) يقال لهم بنو جابر(4) أمام الحسين (عليه السلام) ثم التقيا فقالا: عليك

ص: 249


1- انظر مثير الأحزان: ص45-46، وفي المناقب: أنا يزيد وأبي مهاصر***ليث هصور في العرين خادر والمعنى واحد وهو تشبيه نفسه ودفاعه عن الحسين (عليه السلام) بدفاع الأسد الكامن في عرينه.
2- مثير الأحزان: ص42-43. وقاتله عامر ابن نهشل أحد بني تيم اللات من ثعلبة.
3- همدان قبيلة من اليمن عرفوا بموالاتهم الخالصة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) وظهر منهم الكثير من نجباء الشيعة ومفاخرها، وقد مدحهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواضع منها ما رواه ابن الأعثم أن عمرو بن حصين أتى علياً (عليه السلام) من عقبه ليغتاله بسنان رمحه فقتله سعيد بن قيس وقال: ألا أبلغ معاوية بن صخر***ورجم الغيب يكشفه الظنون بأنا لا نزال لكم عدوا***طوال الدهر ما سمع الحنين ألم تر أن والدنا علي***أبو حسن ونحن له بنون وإنا لا نريد به سواه***وذاك الرشد والحظ السمين فلما سمعه معاوية بعث ذا الكلاع مع كثير من القبائل وقال: اخرج واقصد بحربك همدان خاصة فلما رآهم علي (عليه السلام) قال: «يا لهمدان عليكم بهذه الخيل فإن معاوية قد قصدكم بها خاصة دون غيركم» فأقبل عليهم ابن قيس مع همدان فهزمهم فقال (عليه السلام) لهم: «أنتم درعي ورمحي وسناني وجُنتي واللّه لو كانت الجنة في يدي لأدخلنكم إياها خاصة يا معشر همدان» ثم أنشأ سعيد هذه الأبيات.
4- وهم أبناء قهم بن جابر بن عبداللّه بن قادم بن زيد بن عريب، بطن من همدان من القحطانية.

السلام يا ابن رسول اللّه.

فقال (عليه السلام) : «وعليكما السلام».

ثم قاتلا حتى قُتلا، رضوان اللّه عليهما(1).

فدائي الحسين (عليه السلام)

روي أن سعيد بن عبد اللّه الحنفي(2) تقدم أمام الحسين (عليه السلام) يقيه من السهام والسيوف، فاستهدف لهم(3) يرمونه بالنبل، كلما أخذ الحسين (عليه السلام) يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: (اللّهم العنهم لعن عاد وثمود، اللّهم أبلغ نبيك السلام عني وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك نصرة ذرية نبيك) ثم مات رضوان اللّه عليه، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح(4).

ص: 250


1- مثير الأحزان: ص49.
2- وذكر البعض أنه سعد بن عبد اللّه الحنفي.
3- أي جعل نفسه رضوان اللّه عليه هدفاً للأعداء حتى لايصل للإمام الحسين (عليه السلام) أي مكروه.
4- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص265 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

الرجل بعد الرجل

قال السيد محمد بن أبي طالب (رحمه اللّه) (1) وغيره: وكان يأتي الحسين (عليه السلام) الرجل بعد الرجل من أصحابه، فيقول: السلام عليك يا ابن رسول اللّه، فيجيبه الحسين (عليه السلام) ويقول: «وعليك السلام ونحن خلفك» ثم يقرأ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}(2) حتى قُتلوا عن آخرهم (رضوان اللّه عليهم) ولم يبق مع الحسين (عليه السلام) إلاّ أهل بيته (عليهم السلام) (3).

علي الأكبر (عليه السلام)

لما قُتل أصحاب الحسين (عليه السلام) جميعاً ولم يبق إلاّ أهل بيته، وهم ولد علي، وولد جعفر، وولد عقيل، وولد الحسن، وولده (عليهم السلام) اجتمعوا يودّع بعضهم بعضاً وعزموا على الحرب، وكان أول(4) من برز علي بن الحسين (عليه السلام) الملقب بالأكبر.

عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) : «أن أول قتيل قُتل من ولد أبي طالب مع الحسين ابنه علي»(5).

فلما برز علي (عليه السلام) إلى القوم أرخى الحسين (عليه السلام) عينيه وبكى ثم قال: «اللّهم كن

ص: 251


1- قال العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار: ج44 ص311 باب ماجرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته..(أقول: بدأت أولاً في إيراد تللك القصص الهائلة بإيراد.. ورواية السيد العالم محمد بن أبي طالب بن أحمد الحسيني الحائري من كتاب كبير جمعه في مقتله (عليه السلام) ).
2- سورة الأحزاب: 23.
3- بحار الأنوار: ج45 ص32 ب37.
4- يستفاد ذلك من زيارة الناحية المقدسة، وقيل: إن أول من برز من أهل بيت الإمام الحسين (عليه السلام) هو عبد اللّه بن مسلم بن عقيل.
5- مقاتل الطالبيين: ص76.

أنت الشهيد عليهم فقد برز إليهم ابن رسولك وأشبه الناس وجهاً وسمتاً به»(1).

وفي رواية قال (عليه السلام) : «وقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولك»(2).

وكان علي الأكبر (عليه السلام) يرتجز ويقول:

أنا علي بن الحسين بن علي***نحن وبيت اللّه أولى بالنبي

أما ترون كيف أحمي عن أبي

فقتل منهم عشرة، ثم رجع إلى أبيه فقال: يا أبة العطش! فقال له الحسين (عليه السلام) : «صبراً يا بُني، يسقيك جدك بالكأس الأوفى» فرجع فقاتل حتى قَتل منهم أربعة وأربعين رجلاً، ثم قُتل صلوات اللّه عليه(3).

وروي أنه لما رجع علي الأكبر (عليه السلام) إلى أبيه وهو يقول: يا أبة العطش، قال له الحسين (عليه السلام) : «اصبر حبيبي فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكأسه» وجعل يكرّ كرة بعد كرة حتى رُمي بسهم فوقع في حلقه فخرقه وأقبل يتقلب في دمه ثم نادى: يا أبتاه عليك السلام، هذا جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرئك السلام ويقول: «عجّل القدوم إلينا»، وشهق شهقة فارق الدنيا(4).

وعلي بن الحسين (عليه السلام) هذا هو أصغر من أخيه السجاد (عليه السلام) (5)، وأمه ليلى بنت

ص: 252


1- انظر الأمالي، للشيخ الصدوق: ص226 المجلس30 ح1.
2- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص67.
3- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص226 المجلس30 ح1.
4- مقاتل الطالبيين: ص77.
5- انظر القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار، ج3 ص152 قال: (وجعل أصحاب عمر بن سعد ينادونهم في الجواز إليهم حتى أنهم نادوا علي بن الحسين (عليه السلام) الأصغر - أي كان أصحاب إبن سعد يحاولون أن يستدرجوا أصحاب الحسين (عليه السلام) بالميل إليهم وترك القتال مع أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) - وكان أخوه علي الأكبر (عليه السلام) يومئذ عليلاً لايملك من نفسه شيئاً)، وكذا الصدوق في الأمالي ص225 المجلس30 ح1: (وبرز من بعده علي بن الحسين الأصغر (عليهما السلام) )، وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد، ج2 ص114:(ودفنوا إبنه علي بن الحسين الأصغر عند رجليه) وفي ص135 في تعداده لأولاد الحسين (عليه السلام) ، قال: (وكان للحسين ستة أولاد: علي بن الحسين الأكبر كنيته أبو محمد وأمه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد، وعلي بن الحسين الأصغر قُتل مع أبيه بالطف)، والشيخ الطوسي في رجاله، في أصحاب الحسين (عليه السلام) ص102: (علي بن الحسين الأصغر ولده قُتل معه)،وهكذا ذكر صاحب المناقب:(أن عقب الحسين من إبنه الأكبر وأنه هو الباقي بعد أبيه وأن المقتول هو الأصغر منهما وعليه نعول..)، وكذلك الطبرسي في إعلام الورى: (كان له ستة أولاد: علي بن الحسين الأكبر زين العابدين (عليه السلام) .. وعلي الأصغر قُتل مع أبيه.. والناس يغلطون ويقولون إنه علي الأكبر)، أقول: الأكبر أي بالنسبة إلى الطفل الرضيع الذي قُتل يوم عاشوراء.

أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي وكانت موجودة في كربلاء، وكان علي الأكبر (عليه السلام) يوم عاشوراء ابن ثماني عشرة سنة، وقيل ابن خمس وعشرين(1).

وروي: أنه لما خرج علي الأكبر (عليه السلام) رفع الإمام الحسين (عليه السلام) سبابته نحو السماء وقال: «اللّهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك، كنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه، اللّهم أمنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا».

ثم صاح الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد: «ما لك! قطع اللّه رحمك ولا بارك اللّه لك في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »..

ص: 253


1- قال السيد محمد بن أبي طالب وأبو الفرج: إن سنه كان ثماني عشرة سنة، وقال إبن شهرآشوب: إنه كان إبن خمس وعشرين سنة.

أقول: وكان من حكمة دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) على القوم هو تنبيه ضمائرهم لعلهم يهتدون(1)،

وقد اهتدى منهم من كان لائقاً للهداية، والتحق بعكسر الإمام الحسين (عليه السلام) من جيش عمرو بن سعد الواحد والاثنان وهكذا..

ثم رفع الحسين (عليه السلام) صوته وتلا: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2).

ثم حمل علي بن الحسين (عليه السلام) على القوم وهو يقول:

أنا علي بن الحسين بن علي***من عصبة جد أبيهم النبي

واللّه لا يحكم فينا ابن الدعي***أطعنكم بالرمح حتى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي***ضرب غلام هاشمي علوي

فلم يزل يقاتل حتى ضج الناس من كثرة من قتل منهم، وروي أنه قتل على عطشه مائة وعشرين رجلاً، ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة فقال: يا أبة العطش قد قتلني وثقل الحديد أجهدني فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوى بها على الأعداء؟

فبكى الحسين (عليه السلام) وقال: «يا بني يعزّ على محمد وعلى علي بن أبي طالب وعليّ أن تدعوهم فلا يجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك، يا بني هات لسانك فأخذ بلسانه فمصه ودفع إليه خاتمه وقال امسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوك، فإني أرجو أنك لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً فرجع إلى القتال وهو يقول:

ص: 254


1- تصديقاً لقوله تعالى: {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. سورة الأعراف:164.
2- سورة آل عمران: 33-34.

الحرب قد بانت لها الحقائق***وظهرت من بعدها مصادق

واللّه رب العرش لا نفارق***جموعكم أو تغمد البوارق

فلم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين، ثم ضربه منقذ بن مرة العبدي (لعنه اللّه) على مفرق رأسه ضربة صرعته(1)، وضربه الناس بأسيافهم، ثم اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً. فلما بلغت الروح التراقي قال رافعاً صوته: (يا أبتاه هذا جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لاأظمأ بعدها أبداً وهو يقول: العجل العجل فإن لك كأسا مذخورة حتى تشربها الساعة) فصاح الحسين (عليه السلام) وقال: «قتل اللّه قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الرحمن وعلى رسوله وعلى انتهاك حرمة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الدنيا بعدك العفا».

قال الراوي: فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور وتقول: يا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه، فسألت عنها فقيل هي زينب بنت علي (عليه السلام) وجاءت وانكبت عليه، فجاء الحسين (عليه السلام) فأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط وأقبل (عليه السلام) بفتيانه وقال:

«احملوا أخاكم» فحملوه من مصرعه فجاءوا به حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه(2).

وجاءت أمه ليلى وعماته على نعشه وهم يبكون ويلطمون وجوههم.

وفي زيارة الناحية المقدسة المروية عن مولانا الإمام المهدي (عليه السلام) : «السلام عليك يا أول قتيل من نسل خير سليل، من سلالة إبراهيم الخليل، صلى اللّه

ص: 255


1- بعد أن كمن له وغدر به غدرة، كما أشارت إلى ذلك بعض المصادر.
2- بحار الأنوار: ج45 ص42-44 ب37.

عليك وعلى أبيك إذ قال فيك: «قتل اللّه قوماً قتلوك يا بني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا»، كأني بك بين يديه ماثلاً وللكافرين قاتلاً قائلاً:

أنا علي بن الحسين بن علي***نحن وبيت اللّه أولى بالنبي

أطعنكم بالرمح حتى ينثني***أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشمي عربي***واللّه لا يحكم فينا ابن الدعي

حتى قضيتَ نحبك ولقيتَ ربك، أشهد أنك أولى باللّه وبرسوله، وأنك ابن حجته وأمينه، حكم اللّه لك على قاتلك مرة بن منقذ بن النعمان العبدي لعنه اللّه وأخزاه، ومن شركه في قتلك، وكانوا عليك ظهيراً، أصلاهم اللّه جهنم وساءت مصيراً، وجعلنا اللّه من ملاقيك ومرافقي جدّك وأبيك وعمك وأخيك وأمك المظلومة، وأبرأ إلى اللّه من قاتليك واسأل اللّه مرافقتك في دار الخلود، وابرأ إلى اللّه من أعدائك أولي الجحود، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته»(1).

أولاد مسلم بن عقيل (عليه السلام)

وخرج عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليهم السلام) (2) وهو يرتجز ويقول:

اليوم ألقى مسلماً وهو أبي***وفتية بادوا على دين النبي

ليسوا بقوم عرفوا بالكذب***لكن خيار وكرام النسب

من هاشم السادات أهل الحسب

فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلاً في ثلاث حملات(3)، ثم رماه الأعداء

ص: 256


1- المزار، لابن المشهدي: ص487-488.
2- قال ابن شهرآشوب والسيد محمد بن أبي طالب: إنه أول من خرج من بني هاشم.
3- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص254.

بسهم فوضع عبد اللّه يده على جبهته يتقيه، فأصاب السهم كفه ونفذ إلى جبهة فسمرها به فلم يستطع تحريكها، ثم انحنى عليه لعين آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله رضوان اللّه عليه(1).

وخرج محمد بن مسلم بن عقيل، وأمه أم ولد، فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(2).

أولاد عقيل (عليه السلام)

وخرج من أولاد عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) :

جعفر بن عقيل، وهو يرتجز ويقول:

أنا الغلام الأبطحي الطالبي***من معشر في هاشم و من غالب

ونحن حقاً سادة الذوائب***هذا حسين أطيب الأطايب

من عترة البر التقي العاقب

فقتل خمسة عشر فارساً، ثم قُتل رضوان اللّه عليه(3).

وخرج عبد الرحمن بن عقيل، وهو يقول:

أبي عقيل فاعرفوا مكاني***من هاشم وهاشم إخواني

كهول صدق سادة الأقران***هذا حسين شامخ البنيان

وسيد الشيب مع الشبان

فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(4).

ص: 257


1- انظر الإرشاد: ج2 107.
2- انظر لواعج الأشجان: ص172، وقتله: أبو جرهم الأزدي ولقيط ابن ياسر الجهني.
3- بحار الأنوار: ج45 ص32-33 ب37.
4- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص254 وفيه: فقتل سبعة عشر فارساً، قتله عثمان بن خالد الجهني.

وخرج عبد اللّه الأكبر بن عقيل، وقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(1).

وخرج محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب الأحول، وقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(2).

وخرج جعفر بن محمد بن عقيل، وقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(3).

وخرج علي بن عقيل، وقاتل قُتل رضوان اللّه عليه(4).

أولاد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)

وخرج محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب (عليهم السلام) وهو يقول:

أشكو إلى اللّه من العدوان***فعال قوم في الردى عميان

قد تركوا بدلوا معالم القرآن***ومحكم التنزيل والتبيان

وأظهروا الكفر مع الطغيان

فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(5).

ثم خرج عون بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابن جعفر***شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجناح أخضر***كفى بهذا شرفاً في المحشر

ثم قاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(6).

ص: 258


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص33 ب 37 وفيه: قتله خالد بن أشيم الجهني وبشر بن حوط القابضي.
2- انظر بحار الأنوار: ج45 ص33 ب37 وفيه: قتله لقيط ابن ياسر الجهني لعنه اللّه رماه بسهم.
3- انظر مقاتل الطالبيين: ص62.
4- انظر مقاتل الطالبيين: ص62.
5- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص255 وفيه: فقتل عشرة أنفس قتله عامر بن نهشل التميمي.
6- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص255 وفيه: فقتل ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلا قتله عبداللّه بن قطنة الطائي لعنه اللّه.

وخرج عبيد اللّه بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب (عليهم السلام) ، وقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(1).

أولاد الإمام الحسن (عليه السلام)

القاسم (عليه السلام)

وبرز القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) للدفاع عن عمه الحسين (عليه السلام) وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم، فلما نظر الحسين (عليه السلام) إليه قد برز، اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غُشي عليهما، ثم استأذن الحسين (عليه السلام) في المبارزة، فأبى الحسين (عليه السلام) أن يأذن له، فلم يزل الغلام يقبّل يدي عمه ورجليه حتى أذن له، فخرج ودموعه تسيل على خديه وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابن الحسن(2)***سبط النبي المصطفى والمؤتمن

هذا حسين كالأسير المرتهن***بين أناس لا سقوا صوب المزن

وكان وجهه كفلقة القمر، فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل على صغره خمسة وثلاثين رجلاً، يقول أحدهم: كنت في عسكر ابن سعد فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى أنه كان اليسرى، فقال عمرو بن سعد الأزدي: واللّه لأشدن عليه! فقلت: سبحان اللّه وما تريد بذلك؟ واللّه لو ضربني ما بسطت إليه يدي، يكفيه هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه، قال: واللّه لأفعلن، فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف ووقع الغلام لوجهه، ونادى: يا عماه. قال: فجاء الحسين (عليه السلام) كالصقر المنقض،

ص: 259


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص254 وفيه: قتله بشر بن حويطر القانصي لعنه اللّه.
2- في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، للخوارزمي: (إن تنكروني فأنا فرع الحسن)...

فتخلل الصفوف وشد شدة الليث الحرب، فضرب عمراً قاتله بالسيف فاتقاه بيده فأطنها من المرفق فصاح ثم تنحى عنه، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من الحسين (عليه السلام) ، فاستقبلته بصدورها وجرحته بحوافرها ووطئته حتى مات.

ولما انجلت الغبرة فإذا بالحسين (عليه السلام) قائم على رأس الغلام، وهو يفحص برجله، فقال الحسين (عليه السلام) : «يعزّ واللّه على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك، أو يعينك فلا يُغني عنك، بُعداً لقوم قتلوك». ثم احتمله، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي: ما يصنع؟ فجاء به حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته. ثم قال (عليه السلام) : «اللّهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً(1).

وأما عرس القاسم (عليه السلام) فهو ثابت وقد نقله كبار العلماء والخطباء والمؤلفين، والظاهر أن الإمام الحسين (عليه السلام) عقد له على ابنته يوم عاشوراء، فكان القاسم (عليه السلام) عريساً شهيداً(2).

ص: 260


1- بحار الأنوار: ج45 ص34-36 ب37.
2- سيأتي الحديث أكثر عن هذا الموضوع في آخر الكتاب، وقد ذكر عرس القاسم (عليه السلام) العديد من العلماء وأرباب المقاتل والتاريخ، منهم: الشيخ الطريحي المتوفى سنة 1085ه- في كتابه المنتخب:ص365-366، مدينة المعاجز: ج3 ص366-371 فصل84 ح931/92، معالي السبطين: ج1 ص457، أسرار الشهادة: ص306، وغيرهم. وقد ألف جملة من العلماء في إثبات العرس والرد على من أنكر القضية ومن تلك الكتب: (البيان المبرهن في عرس القاسم بن الحسن (عليه السلام) ) للسيد الحاج ميرزا علي بن السيد الحجة ميرزا محمد حسين المرعشي الحائري الشهير بالشهرستاني ت 1344ه، وكتاب (الحجج القاطعة في إثبات وقوع عرس القاسم بن الحسن (عليه السلام) ) والرد على التقرير الحاسم للسيد أبي الحسن علي بن نقي شاه الشميري اللكهنوي، و(دفع المغالطة في مسألة عرس القاسم (عليه السلام) بكربلاء) للحكيم محمد كاظم اللكهنوي، وكتاب (دق الخيشوم في جواز قراءة عرس القاسم المظلوم) لبعض علماء الهند، و(القاسمية في تحقيق عرس القاسم بن الحسن) لتاج العلماء وغيرهم.

عبد اللّه بن الحسن

وخرج عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان يرتجز ويقول:

إن تنكروني فأنا ابن حيدرة***ضرغام آجام وليث قسورة

على الأعادي مثل ريح صرصرة

فقتل أربعة عشر رجلاً، ثم قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي فاسود وجهه.

وفي رواية: أن حرملة هو الذي قتله(1).

أبو بكر بن الحسن

وخرج أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، واسمه عبيد اللّه، وكان الناس يكنونه بأبي بكر، وقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(2).

إخوة الحسين (عليه السلام)

اشارة

وتقدمت إخوة الحسين (عليه السلام) عازمين على أن يموتوا دونه، فأول من خرج منهم أبو بكر بن علي بن أبي طالب، واسمه عبيد اللّه أو محمد، وكان الناس يكنوه بأبي بكر(3)،

وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي التميمية، فتقدم وهو

ص: 261


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص37 ب37. وفيه: (قال أبو الفرج: كان أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يذكر أن حرملة بن كاهل الأسدي قتله).
2- انظر إعلام الورى: ج1 ص466 يوم العاشر من المحرم، وقاتله عبد اللّه بن عقبة الغنوي حيث رماه فقتله.
3- ذكر أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) ص56: وأبو بكر بن علي بن أبي طالب: لم يُعرف إسمه وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد..، وذكر الشيخ المفيد في (الإرشاد) عند تعداده لأولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) : ج1 ص354:(ومحمد الأصغر المكنى أبا بكر وعبيداللّه الشهيدان مع أخيهما الحسين (عليه السلام) بالطف أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية)، وكذا نقل ذلك عن المفيد الأربلي في (كشف الغمة)، ونقل العلامة المجلسي في (بحار الأنوار): عن الخوارزمي في مقتله أن إسمه عبيد اللّه.

يرتجز:

شيخي علي ذو الفخار الأطول***من هاشم الصدق الكريم المفضل

هذا حسين بن النبي المرسل***عنه نحامي بالحسام المصقل

تفديه نفسي من أخ مبجل

فلم يزل يقاتل، حتى قُتل رضوان اللّه عليه(1).

ثم برز من بعده - على رواية - أخوه عمار(2) بن علي (عليه السلام) وقَتل قاتل أخيه وجماعة من الأعداء حتى قُتل رضوان اللّه عليه(3)..

ثم قال العباس (عليه السلام) لأخوته من أبيه وأمه وهم عثمان وجعفر وعبد اللّه: تقدموا بين يدي حتى أراكم وأحتسبكم.

فبرز عثمان بن علي سمي عثمان بن مظعون، وأمه أم البنين (عليها السلام) بنت حزام بن خالد من بني كلاب، وهو يرتجز ويقول:

إني أنا عثمان ذو المفاخر***شيخي علي ذو الفعال الظاهر

وابن عم للنبي الطاهر***أخي حسين خيرة الأخاير

وسيد الكبار والأصاغر***بعد الرسول والوصي الناصر

ص: 262


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص280 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته، وقاتله: زحر بن بدر النخعي، وقيل: عبداللّه بن عقبة الغنوي.
2- أما ما قاله البعض من أنه عمر بن علي (عليه السلام) ، فالظاهر عدم صحته بل هو عمار، وربما كان يكتب البعض عمار بشكل عمر مثل اسمعيل وإسحق و إبرهيم...
3- ذكره ابن شهر آشوب، وقال الآخرون ببقاءه الى زمن الإمام الباقر (عليه السلام) ..

فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(1).

روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: «إنما سميته باسم أخي عثمان بن مظعون»(2).

ثم برز من بعده أخوه جعفر بن علي وأمه أم البنين (عليها السلام) أيضاً وهو يرتجز ويقول:

إني أنا جعفر ذو المعالي***ابن علي الخير ذو النوال

ذاك الوصي ذو السنا والوالي***حسبي بعمي جعفر وخالي

أحمي حسينا ذي الندى المفضال

ثم قاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(3).

ثم برز أخوه عبد اللّه بن علي وهو يقول:

أنا ابن ذي النجدة والإفضال***ذلك علي الخير ذو الفعال

سيف رسول اللّه ذو النكال***في كل قوم ظاهر الأهوال

فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه(4).

وتقدم محمد الأصغر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأمه أم ولد، فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه، وخرج إبراهيم بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأمه أم ولد، فقاتل

ص: 263


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص37 ب37 وفيه: فرماه خولي بن يزيد الأصبحي على جبينه فسقط عن فرسه فجز رأسه رجل من بني أبان بن حازم، وفي بعض المصادر كان عمره 21 سنة.
2- مقاتل الطالبيين: ص55، وعثمان بن مظعون: من كبار أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الزاهدين الصالحين، وقد مات في حياة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان من السلف الصالح وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحبه حباً كثيراً.
3- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص255 وفيه: رماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينه، وفي بعض المصادر أن قاتله هاني بن ثبيت الحضرمي، وكان عمره 19 سنة.
4- انظر لواعج الأشجان: ص178 وفيه: أن عمره عليه السلام 25 سنة وقاتله هاني بن ثبيت الحضرمي.

حتى قُتل رضوان اللّه عليه(1).

العباس (عليه السلام)

وخرج العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان رجلاً وسيماً جميلاً يركب الفرس المطهّم ورجلاه يخطان في الأرض، وكان يقال له قمر بني هاشم، وكان لواء الإمام الحسين (عليه السلام) بيده. وكان يكنى أبا الفضل، وأمه أم البنين (عليها السلام) وهو أكبر ولدها، وهو آخر من قُتل من إخوته لأبيه وأمه. وكانت أم البنين (عليها السلام) أم هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها ويبكون معها(2).

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «عبأ الحسين بن علي (عليه السلام) أصحابه فأعطى رايته أخاه العباس بن علي»(3)..

إن العباس (عليه السلام) لما رأى وحدة الإمام الحسين (عليه السلام) وغربته أتى أخاه وقال: يا سيدي هل من رخصة؟

فبكى الإمام الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً ثم قال: «يا أخي أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري»، فقال العباس (عليه السلام) : قد ضاق صدري وسئمت من الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.

فقال الحسين (عليه السلام) : «فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء».

ص: 264


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص39 باب37 وفيه: أن قاتل محمد الأصغر رجل من تميم من بني أبان بن دارم.
2- انظر الأنوار العلوية: ص443. قال الأصمعي: فرس مطهم ورجل مطهم: هو التام، كل شيء منه على حدته، فهو بارع الجمال.
3- مقاتل الطالبيين: ص56.

فذهب العباس (عليه السلام) ووعظ القوم وحذّرهم فلم ينفعهم، فرجع إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال ينادون: العطش العطش، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد نحو الفرات، فأحاط به أربعة آلاف ممن كانوا موكلين بالفرات، ورموه بالنبال فكشفهم، وجعل يقول:

لا أرهب الموت إذا الموت رقا***حتى أواري في المصاليت لقى

نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا***إني أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى

وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلاً حتى دخل الماء، فلما أراد أن يشرب غرفةً من الماء ذكر عطش الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) ،

وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني***وبعده لا كنت أو تكون

هذا حسين وارد المنون***وتشربين بارد المعين

فرمى الماء على الماء ولم يشربه، وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيام الخيمة. فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب فحاربهم، حتى كمن له لعين وراء نخلة وضربه على يده اليمنى فقطعها، فحمل القربة على كتفه الأيسر وأخذ السيف بشماله وهو يرتجز ويقول:

واللّه إن قطعتم يميني***إني أحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين***نجل النبي الطاهر الأمين

وكمن له لعين وراء نخلة وضربه على يده اليسرى فقطعها من الزند، فأنشأ يقول:

يا نفس لا تخشي من الكفار***وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار***قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا رب حر النار

ص: 265

وجاءه سهم فأصاب القربة وأريق ماؤها، ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره، وسهم أصاب عينه، وإذا بلعين ضربه بعمود على رأسه فانقلب عن فرسه وصاح: أخي حسين أدرك أخاك. فأسرع إليه الإمام الحسين (عليه السلام) ولما رآه (عليه السلام) صريعاً على شاطئ الفرات بكى وأنشأ يقول:

تعديتم يا شر قوم ببغيكم***وخالفتم دين النبي محمد

أما كان خير الرسل أوصاكم بنا***أما نحن من نجل النبي المسدد

أما كانت الزهراء أمي دونكم***أما كان من خير البرية أحمد

لعنتم وأخزيتم بما قد جنيتم***فسوف تلاقوا حر نار توقد

وحمل الحسين (عليه السلام) رأسه في حجره وقال: «الآن انكسر ظهري

وقلّت حيلتي»(1).

من أولاد الحسين (عليه السلام)

وخرج غلام من الخيام وفي أذنيه درّتان وهو مذعور، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان، فحمل عليه هانئ بن ثبيت (لعنه اللّه) فقتله، فصارت شهربانو تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة(2).

زين العابدين (عليه السلام) يهمّ بالقتال

ثم التفت الإمام الحسين (عليه السلام) عن يمينه فلم ير أحداً من الرجال، والتفت عن يساره فلم ير أحداً، فأخذ ينادي: هل من ناصر ينصرني؟

ص: 266


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص256 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) ، بحار الأنوار:ج45 ص40-42 ب37، المنتخب للشيخ الطريحي: ص305-307.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص288 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

فخرج علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وكان مريضاً لا يقدر أن يقل سيفه، وزينب (عليها السلام) تنادي خلفه: يا بني ارجع، فقال: يا عمتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول اللّه، فقال الحسين (عليه السلام) : «يا زينب خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).

الطفل الرضيع

ولما فجع الإمام الحسين (عليه السلام) بأهل بيته وولده وبقي وحيداً فريداً ولم يبق معه غير النساء والأطفال، نادى: «هل من ذاب يذب عن حُرَم رسول اللّه؟ هل من موحّد يخاف اللّه فينا؟ هل من مغيث يرجو اللّه في إغاثتنا»؟

وارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدم الإمام (عليه السلام) إلى باب الخيمة فقال: «ناولوني علياً ابني الطفل حتى أودعه»، فناولوه الصبي. وكان قد أشرف على الموت من شدة العطش، فجعل الحسين (عليه السلام) يقبّله وهو يقول: «ويل لهؤلاء القوم إذا كان جدك محمد المصطفى خصمهم»، والصبي في حجره إذ رماه حرملة بن كاهل الأسدي (لعنه اللّه) بسهم فذبحه في حجر الحسين (عليه السلام) .

فتلقى الحسين (عليه السلام) دمه حتى امتلأت كفه ثم رمى به إلى السماء. ثم قال: «هون عليّ ما نزل بي إنه بعين اللّه».

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض».

ثم قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «لا يكون أهون عليك من فصيل، اللّهم إن كنت حبست عنا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا»(2).

ص: 267


1- بحار الأنوار: ج45 ص46 ب37.
2- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص289 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

وفي الرواية أن الإمام الحسين (عليه السلام) أخذ رضيعه إلى القوم وقال: خذوه واسقوه شربة من الماء، أما ترونه كيف يتلظى عطشاً؟ إن كان للكبار ذنب فما ذنب هذا الصغير؟. فقال بعض: اسقوه، وقال بعض: لا تسقوه. وخاف ابن عمر بن سعد الفتنة فقال: يا حرملة اقطع نزاع القوم، أما ترى بياض نحره؟ فرماه حرملة بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد.

والظاهر أنه كان للإمام الحسين (عليه السلام) أكثر من رضيع قُتل يوم عاشوراء، فأحدهم علي الأصغر (عليه السلام) الذي أخرجه إلى القوم فقتله حرملة، وكان هناك طفل آخر ولد يوم عاشوراء فأخذه الحسين (عليه السلام) وقبّله فذبحوه أيضاً من الوريد إلى الوريد(1).

صبي يقتل في حجر أبيه

وفي رواية: دعا الإمام الحسين (عليه السلام) بصبي - من أولاده وذلك حينما جاء لوداع عياله - فأقعده في حجره، فرماه عقبة بن بشر فذبحه(2).

وفي الاحتجاج: لما قُتل أصحاب الحسين (عليه السلام) وأقاربه، وبقي الإمام (عليه السلام) فريداً ليس معه إلاّ ابنه علي بن الحسين السجاد زين العابدين (عليه السلام) - وكان مريضاً لا يقدر على المشي - وابن آخر في الرضاع اسمه عبد اللّه، فتقدم الحسين (عليه السلام) إلى باب الخيمة فقال: ناولوني ذلك الطفل حتى أودعه، فناولوه الصبي، فجعل يقبّله

ص: 268


1- قال البعض إن هذا الرضيع المولود في يوم عاشوراء هو علي الأصغر، وأما عبداللّه الرضيع فكان عمره قرابة الستة أشهر، روى اليعقوبي وغيره:(فإنه (عليه السلام) لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود ولد له في تلك الساعة، فأذن في أذنه وجعل يحنكه إذ أتاه سهم فوقع في حلق الصبي فذبحه..). تاريخ اليعقوبي: ج2 ص245، عبرات المصطفين في مقتل الحسين (عليه السلام) : ج2 ص87.
2- مقاتل الطالبيين: ص59.

وهو يقول: يا بني ويل لهؤلاء القوم إذ كان خصمهم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبة الصبي فقتله، فنزل الحسين (عليه السلام) عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه ورملّه بدمه ودفنه(1).

الوداع الوداع

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) - لما أصبح فريداً وحيداً لا ناصر له ولا معين، والأعداء قد أحاطوا به من كل جانب يريدون قتله... - التفت إلى الخيمة ونادى:

«يا سكينة، يا فاطمة، يا زينب، يا أم كلثوم، عليكن مني السلام»!!

فنادته سكينة (عليها السلام) : يا أبة(2) استسلمت للموت؟

فقال (عليه السلام) : «كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين»؟.

فقالت: يا أبة ردّنا إلى حرم جدنا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فقال (عليه السلام) : «هيهات لو ترك القطا لنام».

فتصارخن النساء، فسكتهنّ الحسين (عليه السلام) وحمل على القوم(3).

وروي أن الإمام الحسين (عليه السلام) قال لعياله: ابعثوا إليّ ثوباً لا يُرغب فيه، أجعله تحت ثيابي لئلا اُجرد، فاُتي بتُبّان فقال: لا ذاك لباس من ضُربت عليه بالذلة، فأخذ ثوبا خلقاً فخرقه وجعله تحت ثيابه، فلما قتل جردوه منه، ثم استدعى الحسين (عليه السلام) بسراويل من حبرة ففزرها ولبسها، وإنما فزرها لئلا يسلبها، فلما قُتل

ص: 269


1- انظر الاحتجاج: ج2 ص25.
2- يا أبة: العرب تأتي بعلامة التأنيث عوضاً عن ياء الإضافة، وكذا في الأم تقول: يا أمة، وتقف عليها بالهاء.
3- بحار الأنوار: ج45 ص49 ب37.

سلبها أبجر بن كعب، فكانت يد أبجر بعد ذلك ييبسان في الصيف كأنهما عودان ويترطبان في الشتاء فينضحان دماً وقيحاً إلى أن أهلكه اللّه تعالى(1).

ص: 270


1- بحار الأنوار: ج45 ص54 ب37.

مصرع الإمام (عليه السلام)

اشارة

إن الإمام الحسين (عليه السلام) هو رمز البطولة والفداء، والعزة والإباء، والتضحية في سبيل اللّه، وعدم الرضوخ للظلم والطغيان. وهو القائل: «موت في عز خير من حياة ذل»(1).

ولما أحيط به بكربلاء وقيل له: أنزل على حكم بني أمية، قال:

«لا واللّه! لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد»(2)،

فاختار (عليه السلام) المنية على الدنية، وميتة العز على عيش الذل.

وقال (عليه السلام) :

«ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»(3).

وهكذا اختار (عليه السلام) القتل في سبيل اللّه عزوجل.

ولما ركب الإمام الحسين (عليه السلام) فرسه وتقدم إلى القتال أخذ يخطب فيهم كراراً ومراراً، ويعظهم ويبين لهم نسبه وحسبه إن كانوا يجهلون ذلك، وربما أنشد

ص: 271


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص224.
2- انظر جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ج2 ص286.
3- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص59.

أشعاراً، كان منها:

كفر القوم وقدما رغبوا***عن ثواب اللّه رب الثقلين

قتلوا قدما علياً وابنه***حسن الخير كريم الأبوين

حنقا منهم وقالوا أجمعوا***نفتك الآن جميعا بالحسين

يا لقوم من أناس رذّل***جمعوا الجمع لأهل الحرمين

ثم صاروا وتواصوا كلهم***باجتياح لرضاء الملحدين

لم يخافوا اللّه في سفك دمي***لعُبيد اللّه نسل الكافرين

وابن سعد قد رماني عنوة***بجنود كوكوف الهاطلين

لا لشيء كان مني قبل ذا***غير فخري بضياء الفرقدين

بعلي الخير من بعد النبي***والنبي القرشي الوالدين

خيرة اللّه من الخلق أبي***ثم أمي فأنا ابن الخيرتين

فضة قد خُلقت من ذهب***فأنا الفضة وابن الذهبين

من له جد كجدي في الورى***أو كشيخي فأنا ابن القمرين

فاطم الزهراء أمي وأبي***قاصم الكفر ببدر وحنين

وله في يوم أحد وقعة***شفت الغلّ بقبض العسكرين

ثم بالأحزاب والفتح معاً***كان فيها حتف أهل القبلتين

في سبيل اللّه ما ذا صنعت***أمة السوء معا بالعترتين

عترة البر النبي المصطفى***وعلي القرم يوم الجحفلين

عبَد اللّه غلاماً يافعا***وقريش يعبدون الوثنين

وقلى الأوثان لم يسجد لها***مع قريش لا ولاطرفة عين

طعن الأبطال بما برزوا***يوم بدر وتبوك وحنين

يعبدون اللات والعزى معا***وعلي كان صلى القبلتين

فأبي شمس وأمي قمر***فأنا الكوكب وابن القمرين

ص: 272

ثم تقدم الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده، آيساً من نفسه، عازماً على الموت، وهو يقول:

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم***كفاني بهذا مفخرا حين أفخر

وجدي رسول اللّه أكرم من مشى***ونحن سراج اللّه في الخلق نزهر

وفاطم أمي من سلالة أحمد***وعمي يُدعى ذا الجناحين جعفر

وفينا كتاب اللّه أنزل صادقا***وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحن أمان اللّه للناس كلهم***نطول بهذا في الأنام ونجهر

ونحن حماة الحوض نسقي ولاتنا***بكأس رسول اللّه ما ليس ينكر

وشيعتنا في الحشر أكرم شيعة***ومبغضنا يوم القيامة يخسر(1)

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء:

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة***فدار ثواب اللّه أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشأت***فقتل امرئ واللّه بالسيف أفضل

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً***فقلة حرص المرء في الكسب أجمل

وإن تكن الأموال للترك جمعها***فما بال متروك به المرء يبخل(2)

ثم إنه (عليه السلام) دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يُقتل كل من دنا منه من عيون الرجال، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، ثم حمل (عليه السلام) على الميمنة وقال:

الموت خير من ركوب العار***والعار أولى من دخول النار

واللّه ما هذا وهذا جاري

ثم حمل (عليه السلام) على الميسرة وهو يقول:

أنا الحسين بن علي***آليت أن لا أنثني

ص: 273


1- الإحتجاج: ج2 ص25-26.
2- كشف الغمة: ج2 ص238.

أحمي عيالات أبي***أمضي على دين النبي

واشتد العطش بالحسين (عليه السلام) فركب المسناة يريد الفرات، فاعترضه خيل ابن سعد، ورمى رجل من بني دارم الحسين (عليه السلام) بسهم فأثبته في حنكه الشريف، فانتزع (عليه السلام) السهم وبسط يده تحت حنكه، حتى امتلأت راحتاه من الدم ثم رمى به، وقال: «اللّهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك»(1)..

وقد أثخن الإمام الحسين (عليه السلام) بالجراح في رأسه وبدنه، فجعل يضاربهم بسيفه، وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله، فحمل (عليه السلام) على الذين عن يمينه فتفرقوا، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا.

قال بعضهم: فو اللّه ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه (عليه السلام) ، واللّه ما رأيت قبله ولا بعده مثله، وإن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع (عليه السلام) إلى مركزه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلا باللّه»(2).

ولم يزل (عليه السلام) يقاتل حتى قتل ألف رجل وتسعمائة رجل وخمسين رجلاً سوى من جُرح من القوم(3)،

فقال عمرو بن سعد لقومه: الويل لكم، أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه من كل

ص: 274


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص50-51 ب37.
2- لواعج الأشجان: ص184-185.
3- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص258، بحار الأنوار: ج45 ص50 ب37 عن السيد محمد بن أبي طالب، مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص197.

جانب، وكانت الرماة أربعة آلاف، فرموه بالسهام فحالوا بينه وبين رحله.

فصاح الإمام الحسين (عليه السلام) بهم: «ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً»، فناداه شمر فقال: ما تقول يا ابن فاطمة؟

قال (عليه السلام) : «أقول أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حياً».

فقال شمر: لك هذا، ثم صاح شمر: إليكم عن حرم الرجل فاقصدوه في نفسه، فلعمري لهو كفو كريم.

فقصده القوم وهو في ذلك يطلب شربة من ماء ويذكرهم بعطشه، فكلما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى أجلوه عنه(1).

لا أشرب حتى تشرب

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحم الفرس على الفرات، فقال (عليه السلام) لفرسه: «أنت عطشان وأنا عطشان، واللّه لا ذقتُ الماء حتى تشرب» فلما سمع الفرس كلام الحسين (عليه السلام) شال رأسه ولم يشرب، كأنه فهم الكلام، فقال الحسين (عليه السلام) : اشرب فأنا أشرب.. ثم مدّ الحسين (عليه السلام) يده فغرف من الماء، فقال فارس - من الأعداء كذباً -: يا أبا عبد اللّه تتلذذ بشرب الماء وقد هُتكت حرمك! فنفض (عليه السلام) الماء من يده وحمل على القوم، فكشفهم، فإذا

ص: 275


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص293-294 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

الخيمة سالمة(1).

يا قوم اسقوني شربة من الماء

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) أخذ يطلب الماء ويقول: يا قوم اسقوني شربة من الماء، وشمر (لعنه اللّه) يقول له: واللّه لا ترده أو ترد النار، وقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطون الحياة واللّه لا تذوقه أو تموت عطشاً! فقال الحسين (عليه السلام) : «اللّهم أمته عطشاً».. قال الراوي: واللّه لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماء فيؤتى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول: اسقوني قتلني العطش، فلم يزل كذلك حتى مات لعنه اللّه(2).

بئس ما خلفتم محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ثم أخذ القوم يرمون الإمام الحسين (عليه السلام) بسهامهم وسيوفهم وبعضهم بالحجارة، إلى أن رماه رجل من القوم(3) بسهم فوقع السهم في جبهته (عليه السلام) فنزعه من جبهته، وسالت الدماء على وجهه ولحيته، فقال (عليه السلام) : «اللّهم إنك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللّهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً».

ثم حمل الإمام (عليه السلام) على القوم كالليث المغضب فجعل لا يلحق منهم أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كل ناحية، وهو يتقيها بنحره وصدره ويقول: «يا أمة السوء بئسما خلفتم محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عترته، أما إنكم لن تقلوا

ص: 276


1- مدينة المعاجز: ج3 ص505 فصل61 ح74.
2- مقاتل الطالبيين: ص78.
3- كان يُكنى بأبي الحتوف الجُعفي.

بعدي عبداً من عباد اللّه فتهابوا قتله، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي، وأيم اللّه إني لأرجو أن يكرمني ربي بالشهادة بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون».

وصاح به (عليه السلام) الحصين بن مالك السكوني فقال: يا ابن فاطمة وبما ذا ينتقم لك منا؟ قال: «يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم، ثم يصب عليكم العذاب الأليم».

ثم لم يزل يقاتل الإمام (عليه السلام) حتى أصابته جراحات عظيمة، وفي بعض الروايات(1): «حتى أصابته اثنتان وسبعون جراحة»(2).

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «وُجد بالحسين (عليه السلام) ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة»(3).

وروي أنه وجد في جبة خز دكناء كانت عليه مائة خرق وبضعة عشر خرقاً، ما بين طعنة وضربة ورمية، وروي: مائة وعشرون(4).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «وُجد بالحسين بن علي (عليه السلام) نيف وسبعون طعنة، ونيف وسبعون ضربة بالسيف صلوات اللّه عليه»(5).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : «أصيب الحسين (عليه السلام) ووجد به ثلاثمائة وبضع وعشرون طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم»، وروي أنها كانت كلها في

ص: 277


1- قاله صاحب المناقب والسيد إبن طاووس رضوان اللّه عليهما.
2- بحار الأنوار: ج45 ص52 ب37.
3- بحار الأنوار: ج45 ص74 ب37.
4- انظر دلائل الإمامة: ص178.
5- بحار الأنوار: ج45 ص82 ب37 ح8 عن الأمالي للشيخ الطوسي رضوان اللّه عليه.

مقدمه لأنه (عليه السلام) كان لا يولي(1).

وروي: ثلاثمائة وستون جراحة، وروي: ثلاث وثلاثون ضربة سوى السهام، وقال البعض: ألف وتسعمائة جراحة، وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ(2).

بسم اللّه وباللّه

وروي أنه وقف الإمام الحسين (عليه السلام) يستريح ساعة وقد ضعُف عن القتال، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فوقع في جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره، وفي بعض الروايات(3) على قلبه، فقال الحسين (عليه السلام) : «بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه» ورفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره» ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت رمى به إلى السماء، فما رجع من ذلك الدم قطرة، وما عُرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين (عليه السلام) بدمه إلى السماء، ثم وضع يده ثانياً فلما امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال: «هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا مخضوب بدمي وأقول: يا رسول اللّه قتلني فلان وفلان».

ثم ضعف الإمام الحسين (عليه السلام) عن القتال فوقف، فكلما أتاه رجل وانتهى إليه انصرف عنه، حتى جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن اليسر فشتم الحسين (عليه السلام)

ص: 278


1- روضة الواعظين: ص189.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص258.
3- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص71.

وضربه بالسيف على رأسه وعليه برنس فامتلأ دماً، فقال له الحسين (عليه السلام) : لا أكلت بها ولا شربت وحشرك اللّه مع الظالمين، ثم ألقى البرنس ولبس قلنسوة واعتم عليها وقد أعيا، وجاء الكندي وأخذ البرنس وكان من خز، فلما قدم الرجل بعد الوقعة على امرأته فجعل يغسل الدم عنه فقالت له امرأته: أتدخل بيتي بسلب ابن رسول اللّه، اخرج عني حشى اللّه قبرك ناراً، فلم يزل بعد ذلك فقيراً بأسوأ حال، ويبست يداه وكانتا في الشتاء ينضحان دماً وفي الصيف تصيران يابستين كأنهما عودان(1).

عبد اللّه بن الحسن

ولبث القوم هنيئة ثم عادوا وهجموا على الإمام الحسين (عليه السلام) وأحاطوا به، فخرج عبد اللّه بن الحسن بن علي (عليه السلام) وهو غلام لم يراهق، من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين (عليه السلام) فلحقته زينب بنت علي (عليها السلام) لتحبسه، فقال الحسين (عليه السلام) : «احبسيه يا أختي» فأبى وامتنع امتناعاً شديداً وقال: لا واللّه لا أفارق عمي، وأهوى أبجر بن كعب وقيل حرملة بن كاهل إلى الحسين (عليه السلام) بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمي، فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلّقة، فنادى الغلام: يا أماه، فأخذه الحسين (عليه السلام) فضمه إليه وقال: «يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن اللّه يلحقك بآبائك الصالحين» فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه الحسين (عليه السلام) (2).

ص: 279


1- بحار الأنوار: ج45 ص53 ب 37 عن صاحب المناقب والسيد إبن طاووس وإبن شهرآشوب.
2- بحار الأنوار: ج45 ص53-54 ب37 عن الشيخ المفيد والسيد إبن طاووس، وأيضا عن أبي مخنف والطبرسي وغيرهم.

لا تهجموا على خيامي

وروي أن شمر بن ذي الجوشن حمل على فسطاط الحسين (عليه السلام) فطعنه بالرمح، ثم قال: عليّ بالنار أحرقه على من فيه!! فقال الحسين (عليه السلام) : «يا ابن ذي الجوشن أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي، أحرقك اللّه بالنار»، وجاء شبث فوبخه، فانصرف(1).

أعلى قتلي تجتمعون؟

وروي أنه لما اُثخن الإمام الحسين (عليه السلام) بالجراح وبقي كالقنفذ طعنه لعين(2) على خاصرته طعنة فسقط (عليه السلام) عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن وهو يقول: «بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه»، ثم قام صلوات اللّه عليه(3). وقاتل (عليه السلام) راجلاً على ضعفه قتال الفارس الشجاع وهو يقول: «أعلى قتلي تجتمعون أما واللّه لا تقتلون بعدي عبداً من عباد اللّه.. اللّه أسخط عليكم لقتله مني، وأيم اللّه أني لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما واللّه أن لو قد قتلتموني لقد ألقى اللّه بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم»(4).

ويلكم ما تنتظرون؟

ولما ضعف الإمام (عليه السلام) عن القتال ووقع على الأرض وهو مثخن بالجراح، تحاماه الناس فنادى شمر: ويلكم ما تنتظرون به اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.

ص: 280


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص72-73.
2- وهو صالح بن وهب المزني لعنه اللّه.
3- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص73.
4- انظر مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: ص197-200.

فضربه زرعة بن شريك فأبان كفه اليسرى ثم ضربه على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو يكبو مرة ويقوم أخرى. فحمل عليه سنان في تلك الحال فطعنه بالرمح فصرعه، وقال لخولّى بن يزيد: اجتز رأسه فضعف وارتعدت يده، فقال له سنان: فت اللّه عضدك وأبان يدك، فنزل إليه شمر (لعنه اللّه) وكان اللعين أبرص فضربه برجله فألقاه على قفاه ثم أخذ بلحيته الشريفة فقال الحسين (عليه السلام) : «أنت الأبقع الذي رأيتك في منامي»، فقال: أتشبهني بالكلاب، ثم جعل يضرب بسيفه مذبح الحسين (عليه السلام) وهو يقول:

أقتلك اليوم ونفسي تعلم***علما يقينا ليس فيه مزعم

ولا مجال لا ولا تكتم***إن أباك خير من تكلم(1)

المذبوح عطشاناً

وروي أنه لما جاء إلى الحسين (عليه السلام) شمر وسنان بن أنس وكان الحسين (عليه السلام) بآخر رمق يلوك لسانه من العطش ويطلب الماء، فرفسه شمر (لعنه اللّه) برجله وقال: يا ابن أبي تراب ألست تزعم أن أباك على حوض النبي يسقي من أحبه، فاصبر حتى تأخذ الماء من يده! ثم قال لسنان: اجتز رأسه قفاءً، فقال سنان: واللّه لا أفعل فيكون جده محمد خصمي. فغضب شمر (لعنه اللّه) وجلس على صدر الحسين (عليه السلام) وقبض على لحيته وهمّ بقتله، فتبسم الحسين (عليه السلام) فقال له: أتقتلني ولا تعلم من أنا، فقال: أعرفك حق المعرفة أمك فاطمة الزهراء وأبوك علي المرتضى وجدك محمد المصطفى وخصمك العلي الأعلى أقتلك ولا أبالي، فضربه بسيفه اثنتا عشرة ضربة ثم جز رأسه (صلوات اللّه وسلامه عليه) من

ص: 281


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص299 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته.

القفا(1).

وروى أحدهم قال:

إني لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ: أبشر أيها الأمير فهذا شمر قد قتل الحسين! قال: فخرجت بين الصفين فوقفت عليه وإنه (عليه السلام) ليجود بنفسه، فو اللّه ما رأيت قط قتيلاً مضمخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيبته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحالة ماءً، فسمعت رجلاً يقول: لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها! فسمعته يقول: أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها؟!! بل أرد على جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسكن معه في داره {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}(2) وأشرب من ماء غير آسن، وأشكو إليه ما ركبتم مني وفعلتم بي، قال: فغضبوا بأجمعهم حتى كأن اللّه لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئاً، فاجتزوا رأسه وإنه ليكلمهم، فتعجبت من قلة رحمتهم وقلت: واللّه لا أجامعكم على أمر أبداً(3).

هكذا ألقى ربي

وفي رواية: لما صاح الشمر بأصحابه ما تنتظرون بالرجل، حملوا عليه من كل جانب، فضربه لعين - وهو زرعة بن شريك - على كتفه اليسرى وضرب الحسين زرعة فصرعه، وضربه آخر على عاتقه المقدس بالسيف ضربة كبا (عليه السلام) بها لوجهه وكان قد أعيا وجعل (عليه السلام) ينوء ويكبو فطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ثم انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره ثم رماه بسهم فوقع السهم في نحره، فسقط

ص: 282


1- بحار الأنوار: ج45 ص56 ب37.
2- سورة القمر: 55.
3- بحار الأنوار: ج45 ص57 ب37.

الإمام (عليه السلام) وجلس قاعداً فنزع السهم من نحره وقرن كفيه جميعاً وكلما امتلأتا من دمائه خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول: هكذا حتى ألقى اللّه مخضباً بدمي مغصوباً على حقي.

فقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه: انزل ويحك إلى الحسين فأرحه، فبدر إليه خولّى بن يزيد الأصبحي ليجتز رأسه فأرعد، فنزل إليه سنان بن أنس النخعي - وقيل شمر بن ذي الجوشن، وربما نزلا معاً - فضربه بالسيف في حلقه الشريف وهو يقول: واللّه إني لأجتز رأسك وأعلم أنك ابن رسول اللّه وخير الناس أباً وأماً، ثم اجتز رأسه المقدس المعظم(1)، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللحظات الأخيرة

وفي رواية: لما ضعف الحسين (عليه السلام) نادى شمر: ما وقوفكم؟ وما تنتظرون بالرجل؟ قد أثخنته الجراح والسهام احملوا عليه ثكلتكم أمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب فرماه لعين(2) في فيه، وآخر(3) بسهم في حلقه، وضربه ثالث(4) على كتفه، وكان قد طعنه سنان بن أنس النخعي في صدره، وطعنه لعين(5) على خاصرته فوقع (عليه السلام) إلى الأرض على خده الأيمن، ثم استوى جالساً ونزع السهم من حلقه(6).

ص: 283


1- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص74.
2- وهو الحصين بن تميم.
3- وهو أبو أيوب الغنوي.
4- وهو زرعة بن شريك التميمي.
5- وهو صالح بن وهب المزني.
6- بحار الأنوار: ج45 ص55 ب37 وقد رواه عن صاحب المناقب والسيد محمد بن أبي طالب.

ثم دنا عمر بن سعد من الحسين (عليه السلام) .. وخرجت اخته زينب بنت علي (عليها السلام) إلى باب الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه، وتقول: ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل، وقالت: يا عمر أيُقتل أبو عبد اللّه وأنت تنظر إليه؟ فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته، وصرف وجهه عنها، ولم يجبها بشي ء، فنادت زينب (عليها السلام) : ويلكم أما فيكم مسلم، فلم يجبها أحد بشي ء(1).

الظليمة الظليمة

وفي بعض الروايات: لما سقط الحسين (عليه السلام) جعل فرسه(2) يحامي عنه ويثب على الفارس فيخبطه عن سرجه ويدوسه، حتى قتل الفرس عدداً منهم، ثم وضع ناصيته في دم الحسين (عليه السلام) وتمرغ فيه ثم أقبل يركض نحو خيم النساء وهو يصهل صهيلاً عالياً ويضرب بيديه الأرض(3)، ويقول: الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها(4).

فسمعت بنات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صهيله فخرجن فإذا الفرس بلا راكب، فعرفن أن

ص: 284


1- لواعج الأشجان: ص186.
2- كان الفرس من جياد خيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان لقبه الميمون وإسمه اليحموم ويعرف أيضاً بذي الجناح.
3- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص215، وفيه: إن الفرس قتل أربعين رجلاً، وفي نور العين في مشهد الحسين (عليه السلام) : أنه قتل ستة وعشرون فارساً وتسعة من الخيل.
4- روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في بحار الأنوار: ج4 ص266 ب31ح23، قوله: (أنه سيقتل عطشاناً بطف كربلا، حتى ينفر فرسه ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأمة قتلت إبن بنت نبيها). وفي بحار الأنوار أيضاً: ج4 ب36ص308: (قال موسى (عليه السلام) : يارب ومن يقتله؟ قال: يقتله أمة جده الباغية الطاغية في أرض كربلا وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل وتقول في صهيلها: الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها).

حسيناً (عليه السلام) قد قُتل(1)،

وخرجت زينب (عليها السلام) واضعاً يدها على رأسها تندب وتقول: (وا محمداه، وا جداه، وا نبياه، وا أبا القاسماه، وا علياه، وا جعفراه، واحمزتاه، وا حسناه، هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء) ثم غُشي عليها(2).

وفي رواية: أن الفرس هذا أخذ يضرب برأسه الأرض عند الخيمة حتى مات(3).

ريح حمراء

ولما قُتل الحسين (عليه السلام) ارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة، فيها ريح حمراء، لا ترى فيها عين ولا أثر، حتى ظن القوم أن العذاب قد جاءهم، فلبثوا كذلك ساعة، ثم انجلت عنهم(4).

سلب الحسين (عليه السلام)

وأقبل القوم بعد مقتل الحسين (عليه السلام) على سلبه.. فأخذ قميصه أحدهم(5) ووجد

ص: 285


1- انظر الأمالي، للصدوق: ص226 المجلس الثلاثون.
2- بحار الأنوار: ج45 ص60 ب37. وقد رواها عن صاحب المناقب والسيد محمد بن أبي طالب.
3- انظر المصدر السابق.
4- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص300 باب ماجرى عليه (عليه السلام) بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته، وقد ظهرت بعض الظواهر الكونية بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) فضلا عما سبق، ومنها: 1. اظلمت الدنيا ثلاثة أيام بعد مقتله (عليه السلام) ، 2. ظهرت الحمرة في السماء ولم تُر قبل مقتله، 3. مطرت السماء دماً يوم قتله، 4. بقاء أثر الدم الهاطل من السماء في الثياب ولم تزل حتى تقطعت، 5. مارفع حجر في الدنيا حتى يوجد تحته دم عبيط، 6. تلطخ الحيطان بالدماء لمدة شهرين أو ثلاثة من طلوع الشمس حتى إرتفاعها أو حتى غروبها، وغيرها وسيأتي الإشارة لبعضها من قبل الإمام المؤلف رضوان اللّه عليه.
5- وهو إسحاق بن حوبة الحضرمي.

في قميصه (عليه السلام) مائة وبضع عشرة: ما بين رمية وطعنة وضربة، وأخذ لعين سراويله(1)، وآخر ثوبه، وآخر(2) قطيفة له كانت من خز، وآخر(3) عمامته، وآخر برنسه، وآخر(4) نعليه.

وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد.

وهكذا أخذوا سيفه(5)، كما أخذوا خاتمه وقطعوا إصبعه مع الخاتم(6).

أقول: السيف الذي أخذوه لم يكن ذا الفقار، فإنه وغيره من ذخائر النبوة والإمامة كان قد أودعها الإمام الحسين (عليه السلام) وهي موجودة عند مولانا المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

وروي أن الذي أخذ قميص الحسين (عليه السلام) صار أبرص وامتعط شعره، والذي أخذ سراويله صار زمناً مقعداً من رجليه، والذي أخذ عمامته صار معتوهاً ومجذوما ً(7).

ص: 286


1- وهو بحر بن كعب التيمي.
2- وهو قيس بن الأشعث.
3- وهو أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي، وقيل: جابر بن يزيد الأودي فاعتم بها فصار معتوها.
4- وهو الأسود بن خالد.
5- والذي أخذه جميع بن الخلق الأودي، وقيل: أسود بن حنظلة التميمي، وقيل: الفلافس أو القلافس النهشلي.
6- والذي قطع أصبعه اللعين بجدل بن سليم الكلبي، وهذا أخذه الناس زمن المختار فقطعوا يديه ورجليه وتركوه يتشح في دمه حتى هلك.
7- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص76-77، مدينة المعاجز: ج4 ص77-79 فصل128 ح146.

حوافر الخيول

ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره؟

فانتدب عشرة منهم(1)..

فداسوا الإمام الحسين (عليه السلام) بحوافر خيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره(2).

قال الراوي: وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد، فقال أسيد بن مالك أحد العشرة شعراً:

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر***بكل يعبوب شديد الأسر

فقال ابن زياد: من أنتم؟ فقالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا حناجر صدره، قال: فأمر لهم بجائزة يسيرة.

قال أبو عمرو الزاهد(3): فنظرنا إلى هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا(4).

نهب الخيام وحرقها

ولما قُتل الإمام الحسين (عليه السلام) أقبل أعداء اللّه حتى أحدقوا بالخيام الطاهرة وفيها بنات الرسالة وذراري رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فنادى شمر وقال: ادخلوا فاسلبوا

ص: 287


1- وهم كما في رواية السيد ابن طاووس(مع وجود بعض الاختلاف في الاسماء بين المصادر): إسحاق بن حوبة، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسي، وعمر بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خيثمة الجعفي، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفي، وهانيء بن شبث الحضرمي، وأسيد بن مالك، لعنهم اللّه جميعاً.
2- مقتل الحسين (عليه السلام) ، لأبي مخنف: ص202.
3- هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، من علماء الكوفة ومن بيت مشهور، كان عابداً مات سنة 75ه.
4- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص80.

بزتهن، فدخل القوم فأخذوا ما كان في الخيمة حتى أفضوا إلى قرط كان في أذن أطفال الحسين (عليه السلام) فأخذوه وخرموا أذانهن..

حتى كانت المرأة لتنازع ملحفتها على ظهرها حتى تُغلب عليه.. ثم مال الناس على الورس والحلي والحلل والإبل فانتهبوها(1).

قال الراوي: رأيت امرأة من بني بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد، فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين (عليه السلام) وفسطاطهن وهم يسلبونهن، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط، وقالت: يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه؟ لا حكم إلاّ لله، يا لثارات رسول اللّه، فأخذها زوجها وردّها إلى رحله(2).

وهكذا تسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها، وخرجن بنات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحرمه باكيات لاطمات.

ثم أشعل القوم النار في الخيام.

عن فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) قالت: دخلت الغاغة(3) علينا الفسطاط وأنا جارية صغيرة وفي رجلي خلخالان من ذهب فجعل رجل يفض الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا عدو اللّه؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول اللّه! فقلت: لا تسلبني، قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه!! قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا(4).

ص: 288


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص60 ب37.
2- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص78.
3- الغاغة من الناس وهم الكثير المختلطون، ومصدره (غوى).
4- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص228-229 المجلس31 ح2.

ثم انتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض - وكان من شدة مرضه لا يقدر أن يتحرك وقد أشرف على الموت - ومع شمر جماعة من الرجالة، فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟ فأراد شمر قتله، فاعترض بعض الناس عليه، وصاحت النساء في وجه القوم، فخاف عمر بن سعد الفتنة فقال: لا تتعرضوا لهذا المريض، فإنه سيموت بمرضه(1).

وهكذا أراد اللّه تعالى أن يبقى علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) حتى لا تخلو الأرض من الحجة.

وروي أن فاطمة الصغرى (عليها السلام) قالت: كنت واقفة بباب الخيمة وأنا أنظر إلى أبي (عليه السلام) وأصحابه (عليهم السلام) مجززين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي من بني أمية أيقتلوننا أو يأسروننا، فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه وهن يلذن بعضهن ببعض وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة وهن يصحن: وا جداه، وا أبتاه، وا علياه، وا قلة ناصراه، وا حسناه، وا حسيناه، أما من مجير يجيرنا؟ أما من ذائد يذود عنا؟، قالت: فطار فؤادي وارتعدت فرائصي فجعلت أجيل بطرفي يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشية منه أن يأتيني. فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ففررت منهزمة وأنا أظن أني أسلم منه وإذا به قد تبعني فذهلت خشية منه وإذا بكعب الرمح بين كتفي فسقطت على وجهي فخرم أذني وأخذ قرطي ومقنعتي وترك الدماء تسيل على خدي ورأسي تصهره الشمس وولى راجعاً إلى الخيم وأنا مغشي علي وإذا أنا بعمتي عندي تبكي وهي تقول: قومي نمضي ما أعلم ما

ص: 289


1- انظر الإرشاد: ج2 ص113.

جرى على البنات وأخيك العليل، فقمت وقلت: يا عمتاه هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظار، فقالت: يا بنتاه وعمتك مثلك، فرأيت رأسها مكشوفة ومتنها قد أسود من الضرب(1)..

أقول: كانت نساء العرب سابقاً ولحد الآن في بعض المناطق تلبس عباءتين، مضافاً إلى ما يسمى بالمقنعة وما أشبه، وقد سلب القوم العباءة الأولى، وهذا هو المراد بقولها: فرأيت رأسها مكشوفة أي من العباءة الأولى.

تقول فاطمة الصغرى (عليها السلام) : فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها، وأخي علي بن الحسين (عليه السلام) مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا.

فإنا لله وإنا إليه راجعون..

ص: 290


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص60-61 ب37.

34

سبايا الوحي

اشارة

سبايا الوحي(1)

ثم إن عمر بن سعد أقام بقية يوم عاشوراء واليوم الثاني إلى زوال الشمس، فجمع قتلاه وصلى عليهم ودفنهم، وترك الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه بلا دفن على رمضاء كربلاء، ثم أمر بسبي بنات الرسالة والسير بهنّ نحو الكوفة ثم الشام.

فرحل بعيال الإمام الحسين (عليه السلام) ونسائه وأطفاله والإمام زين العابدين (عليه السلام) وكان في أشد المرض، على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء، وساقوهم كما يُساق العبيد والإماء من سبي الترك والروم في أشد المصاب والهموم.

فأخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلة، فقلن: بحق اللّه إلاّ ما مررت بنا على مصرع الحسين (عليه السلام) ليودعن القتلى، فلما نظرت النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن. قال الراوي: فو اللّه لا أنسى زينب (عليها السلام) بنت علي (عليه السلام) وهي تندب الحسين (عليه السلام) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: «وا محمداه، صلى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء،

ص: 291


1- يذكر أن أول من سنّ سبي المسلمات هو معاوية بن أبي سفيان حيث أرسل بسر بن أرطأة لقتل شيعة علي (عليه السلام) والتنكيل بهم فأغار على همدان وسبى نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، انظر: الاستيعاب: ج1 ص161، أسد الغابة: ج1 ص180، الوافي بالوفيات: ج10 ص82.

مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى اللّه المشتكى، وإلى محمد المصطفى، وإلى علي المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيد الشهداء..

وا محمداه، هذا حسين بالعراء، تسفى عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، وا حزناه، وا كرباه، اليوم مات جدي رسول اللّه، يا أصحاب محمداه، هؤلاء ذرية المصطفى، يُساقون سوق السبايا».

وفي بعض الروايات قالت (عليها السلام) : «يا محمداه، بناتك سبايا، وذريتك مقتّلة، تسفى عليهم ريح الصبا، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، بأبي من أضحى عسكره في يوم الاثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيُرتجى، ولا جريح فيُداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جده محمد المصطفى، بأبي من جده رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي محمد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي علي المرتضى، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء، بأبي من رُدّت عليه الشمس وصلّى».

قال: فأبكت واللّه كل عدو وصديق، ثم إن سكينة (عليها السلام) اعتنقت جسد أبيها الحسين (عليه السلام) فاجتمع عدة من الأعراب حتى جروها(1) عن أبيها بضرب السياط.

عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: قال لي أبي محمد بن علي (عليه السلام) : سألت أبي علي بن الحسين (عليه السلام) عن حمل يزيد له؟ فقال (عليه السلام) : «حملني على بعير يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين (عليه السلام) على عَلَم، ونسوتنا خلفي على بغال،

ص: 292


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص78-79.

فأكف(1) والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح، حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح يا أهل الشام: هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون»(2)!.

مسير الأسرى إلى الكوفة والشام

وصل القوم يوم الثاني عشر من المحرم صباحاً بأسرى آل محمد (عليهم السلام) إلى الكوفة.. وبعد أيام وصل كتاب يزيد إلى ابن زياد يأمره بحمل الرؤوس والعيال إليه، فدعى ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وخولى بن يزيد وضم إليهما ألفاً وخمسمائة فارس وأمرهم أن يأخذوا السبايا والرؤوس إلى دمشق الشام وأن يشهروهم في جميع البلدان.

فساروا بأهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام، وقد غُل الإمام السجاد (عليه السلام) بغُلّ إلى عنقه، وربطت النساء بالحبال على نياق ليس فيها وطاء ولا غطاء، والقارعة حولهم وخلفهم، إن دمعت منهم عين قرعوا بضرب الرمح.

وأما بقية النسوة المسبيات من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) فقد تشفع فيهن قبائلهن، ولم تسب إلى الشام إمرأة غير الهاشميات.

وفي طريقهم من الكوفة إلى الشام وصلوا إلى القادسية، ثم إلى تكريت، ثم ساروا على طريق (البر)، ثم على الأعمى - وهما مسلكان بريان تسلكهما القوافل - ثم إلى دير عروة، ثم صليتا، ثم وادي نخلة، ثم لينا، ثم كحيل، ثم جهينة، ثم الموصل، ثم تلعفر، ثم سنجار، ثم نصيبين، ثم عين الورد، ثم

ص: 293


1- الإكاف للحمير والبغال مثل القتب للجمال والإبل.
2- إقبال الأعمال: ج1 ص89 فصل17 ب1.

دعوات، ثم قُنّسرين، ثم شيزر، ثم كفر طاب، ثم سيبور، ثم حلب، ثم معرة النعمان، ثم حماة، ثم حمص، ثم بعلبك، ثم دمشق الشام.

وكانوا قد أمروا بتزيين البلاد فرحاً وسروراً بقتل الحسين (عليه السلام) ..

وفي العديد من هذه المنازل قام أهلها باستنكار هذه الجريمة ولم يستقبلوا جيش الشام بعد ما عرفوا بأنهم قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) ، وفي بعضها نشب قتال بين الأهالي وبين حملة السبايا والرأس الشريف.

وفي كثير منها ظهرت معاجز وكرامات للرأس الشريف، وأسلم على أثرها بعض الأحبار والرهبان وكثير من الناس، على تفصيل سيأتي بعضه.

ص: 294

35

الرؤوس الطاهرة

اشارة

أما الرؤوس الشريفة، فإن عمر بن سعد أمر بقطع الرؤوس عن الأجساد الطاهرة، وأخذها مع النساء والأطفال نحو الكوفة والشام(1).

قيل: إنه سرح برأس الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء مع خولّى بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى ابن زياد، ثم أمر برؤوس الباقين من أهل بيته وأصحابه فقُطعت وكانت إثنين وسبعين رأساً بل أكثر، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج إلى الكوفة(2).

مصائب الرأس الشريف

هناك مصائب عديدة وردت على رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ، منها:

أنه أصيب بالحجر يوم عاشوراء(3).

ص: 295


1- انظر مدينة المعاجز: ج4 ص121 فصل164 ح183 وفيه: (وشالوا الرؤوس على الرماح، ومعهم ثمانية عشر رأساً علوياً على أطراف الرماح وقد رفعوها وأشهروها على الأعلام، ورأس مولانا الحسين (عليه السلام) قد أخذ عمود نور من الأرض إلى السماء كأنه البدر وكان القوم يسيرون على نوره وكان قد رفعوه على ذابل طويل، وسيروه على رأس عمر بن سعد).
2- انظر إعلام الورى: ج1 ص470.
3- انظر المجالس الفاخرة: ص248، وفيه: (فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته...).

وأنه ضُرب بالسيف حتى امتلأ البرنس دماً.

وأنه قُطع من الجسد الشريف.

وأنه ذُبح من القفا(1).

وأنه لم يُدفن إلاّ بعد أربعين يوماً.

وأنه حُمل على الرمح.

وأنه عُلّق على عنق الفرس.

وأنه أدير به في أزقة الكوفة والشام.

وأنه حُمل من بلد إلى بلد.

وأنه جُعل في تنور(2) أو إجانة الخولّى(3).

وأنه صُلب في شوارع الكوفة.

وأنه جُعل في الطست أمام ابن زياد.

وأن ابن زياد أخذ ينكت ثناياه بقضيب بيده.

وأن ابن زياد أخذ يسب الحسين وعلياً (عليهما السلام) ويستهزئ بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرأس بين يديه.

وأن أبن زياد أخذ يتجسر على الرأس الشريف بقدمه(4).

ص: 296


1- انظر مناقب آل أبي طالب: 3 ص260 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- التنور: الذي يخبز فيه. يقال هو في جميع اللغات كذلك، وقيل هو على وزن تفعول من النار.
3- انظر مقتل الحسين (عليه السلام) : ص203 وفيه: (وأقبل خولي برأس الحسين (عليه السلام) فوضعه تحت إجانة في الدار، والإجانة: إناء يُغسل فيه الثياب).
4- انظر تذكرة الخواص (عليه السلام) : ص257 وفيه: (لما وضع الرأس بين يدي ابن زياد قال له كاهنه: قم فضع قدمك على فم عدوّك، فقام فوضع قدمه على فيه).

وأنه عُلّق على شجرة(1).

وأنه جُعل في تابوت وشُرب الخمر حول التابوت(2).

وأنه كان يُعطى لبعض اليهود والنصارى في الطريق في مقابل الدراهم والدنانير.

وأنه عُلّق على باب مدينة دمشق(3).

وأنه صُلب على باب دار يزيد وقصره(4).

وأنه نُصب على باب مسجد الشام(5).

وأنه صُلب على أبواب البلد.

وأنه جُعل في الطست أمام يزيد.

وأن يزيد أخذ ينكت ثغر الإمام (عليه السلام) وثناياه بخيزرانة(6).

ص: 297


1- انظر الخصائص الحسينية: ص37.
2- يذكر أحد حملة الرأس الشريف من الكوفة إلى الشام: (اعلم أنّا كنا خمسين نفراً ممن سار مع رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام، وكنا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت، وشربنا الخمر حول التابوت...) انظر مدينة المعاجز: ج4 ص135 فصل169 ح188.
3- كما يستفاد ذلك من قول الإمام زين العابدين (عليه السلام) حينما خاطب يزيد قائلا: «ويلك يا يزيد إنك لو تدري ما ذا صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور، أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي (عليهما السلام) منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم القيامة». المصدر: بحار الأنوار: ج45 ص136 ب39.
4- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص443 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة..
5- انظر الأمالي، للشيخ الصدوق: ص231 المجلس31 ح3، وفيه: ثم أمر برأس الحسين (عليه السلام) فنصب على باب مسجد دمشق.
6- انظر الطبري في (تاريخه:ج6 ص267)، وابن الأثير في (الكامل في التاريخج4 ص35)، وسبط ابن الجوزي في (تذكرة خواصّ الأمّة: ص 148)، وابن حجر في (الصواعق المحرقة: ص 116)، وابن مفلح الحنبلي في (الفروع في فقه الحنابلة: ج3 ص549)، والهيثميّ في (مجمع الزوائد: ج5 ص195)، وابن الصبّاغ المالكي في (الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة: ص250)، والمقريزي في (خططه: ج3 ص289)، وابن كثير في (البداية والنهاية: ج8 ص192).. وغيرهم كثير

وأن يزيد جعل الرأس ونصب عليه المائدة فأقبل هو وجلاوزته يأكلون.

وأن يزيد جعله في الطست ولعب الشطرنج عليه.

وأن يزيد جعله أمامه في طست وشرب الخمر والفقاع وكان يصب فضله على الأرض مما يلي الطست من دون أن يصيب الرأس الشريف.

وأن يزيد كان يسبّ الحسين (عليه السلام) وعلياً (عليه السلام) ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويستهزئ بهم والرأس بين يديه...

وأنه جُعل في طبق وجيء به إلى رقية (عليها السلام) في خربة الشام.

إلى غير ذلك من المصائب الكثيرة..

روي أن أنس بن مالك قال: شهدت عبيد اللّه بن زياد وهو ينكت بقضيب على أسنان الحسين (عليه السلام) ويقول: إنه كان حسن الثغر، فقلت: أما واللّه لأسوأنك لقد رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبّل موضع قضيبك من فيه(1).

وفي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «لما حُمل رأس الحسين بن علي (عليه السلام) إلى الشام أمر يزيد (لعنه اللّه) فوضع ونصبت عليه مائدة فأقبل هو وأصحابه يأكلون ويشربون الفقاع، فلما فرغوا أمر بالرأس فوضع في طست تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يزيد (عليه اللعنة) يلعب بالشطرنج، ويذكر الحسين وأباه وجده (صلوات اللّه عليهم) ويستهزئ بذكرهم، فمتى قمر صاحبه

ص: 298


1- انظر مثير الأحزان: ص72.

تناول الفقاع فشربه ثلاث مرات ثم صب فضلته مما يلي الطست من الأرض، فمن كان من شيعتنا فليتورع شرب الفقاع واللعب بالشطرنج، ومن نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين (عليه السلام) وليلعن يزيد وآل زياد، يمحو اللّه عزوجل بذلك ذنوبه ولو كانت بعدد النجوم»(1).

معاجز الرأس الشريف

معاجز الرأس الشريف كثيرة، منها:

عن المنهال بن عمرو قال: أنا واللّه رأيت رأس الحسين (عليه السلام) حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ الكهف(2)، حتى بلغ قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ والرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً}(3) فأنطق اللّه الرأس بلسان ذرب ذلق(4)، فقال: «أعجبُ من أصحاب الكهف قتلي وحملي»(5).

وروى أبو مخنف عن الشعبي أنه صُلب رأس الحسين (عليه السلام) بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهُمْ هُدىً}(6)، فلم يزدهم ذلك إلاّ ضلالاً(7).

ص: 299


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص25 ب30 ح50.
2- ربما أراد بنو أمية من جعل هذا الرجل يقرأ القرآن، أن يغطوا ويخفوا معجزة رأس الإمام (عليه السلام) عن الناس بإيهامهم أن الرجل هو الذي يتكلم وليس الرأس الشريف.
3- سورة الكهف: 9.
4- ذرب ذلق: أي بلسان حاد مرتفع.
5- الخرائج والجرائح: ج2 ص577 فصل في أعلام الإمام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) ح1.
6- سورة الكهف: 13.
7- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص218، وقوله: (فلم يزدهم إلا ضلالاً) أي لم يزد قراءة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) للظالمين إلا ضلالاً.

وروي إنهم لما صلبوا رأس الحسين (عليه السلام) على الشجرة، سمع منه: {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}(1) وسمع أيضاً صوته بدمشق يقول: {لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ}(2)(3).

وسمع أيضاً يقرأ: {أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ والرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً}(4) فقال زيد بن أرقم: أمرك أعجب يا ابن رسول اللّه(5).

وروى أبو مخنف أنه: لما دخل بالرأس على يزيد (لعنه اللّه) كان للرأس طيب، قد فاح على كل طيب، ولما نحر الجمل الذي حُمل عليه رأس الحسين (عليه السلام) كان لحمه اَمرُ من الصبر(6).

ولما أقبل سنان حتى أدخلَ رأس الحسين بن علي (عليه السلام) على عبيد اللّه بن زياد كان يقول:

املأ ركابي فضة وذهباً***إني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أماً وأباً***وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فقال له عبيد اللّه بن زياد: ويحك! فإن علمت أنه خير الناس أباً وأماً، لِمَ قتلته إذاً؟ فأمر به، فضُربت عنقه، وعجّل اللّه بروحه إلى النار(7).

ومن معاجز الرأس الشريف تكلمه مع بعض اليهود والنصارى وإسلامهم

ص: 300


1- سورة الشعراء: 227.
2- سورة الكهف: 39.
3- مدينة المعاجز: ج4 ص115فصل158 ح177-178.
4- سورة الكهف: 9.
5- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص218.
6- مدينة المعاجز: ج4 ص116 فصل 160 ح179.
7- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص227 المجلس30 ح1.

وذلك في الطريق إلى الشام(1).

مدفن الرأس الشريف

إن رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بعد ما أخذوه إلى الكوفة والشام واُدير في العديد من البلدان، أرجعه الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى كربلاء ودفنه بجنب الجسد الطاهر.

حيث طلب الإمام السجاد (عليه السلام) من يزيد أن يعطيه رؤوس الشهداء ليدفنها، ويأخذ رأس أبيه الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء ليلحقه بالجسد الطاهر، فاضطر يزيد لإجابة الإمام (عليه السلام) خوفاً من ثورة الناس عليه. فألحق الإمام (عليه السلام) رأس أبيه (عليه السلام) إلى جسده الطاهر، وذلك في يوم الأربعين عند ما رجع ركب العترة الطاهرة (عليهم السلام) إلى كربلاء(2).

وقد روى ذلك الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) والسيد المرتضى (رحمه اللّه) (3) وغيرهما من علمائنا الأعلام(4).

ص: 301


1- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص417-418 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام.. ح18.
2- جاء في هذا المعنى: (أنه المشهور بين علمائنا الإمامية): قاله العلامة المجلسي. (عمل الطائفة على هذا المعنى): ابن طاووس في اللّهوف والإقبال. (عليه المعول من الأقوال): ابن نما. (أشهر الأقوال): سبط ابن الجوزي، وهو المشار إليه من زيارة الإربعين التي رواها الشيخ الطوسي، وستأتي عبارة السيد المرتضى.
3- هو السيد الجليل علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام الكاظم (عليه السلام) وجه الطائفة ورئيسها، متكلم أديب، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، صنف كتب كثيرة، تزعّم الطائفة بعد موت اُستاذه الشيخ المفيد (رحمه اللّه) ومات سنة 436 ه.
4- قال السيد (رحمه اللّه) : (.. قد رواه جميع الرواة والمصنفين في يوم الطف وأطبقوا عليه، وقد رووا أيضا أن الرأس اُعيد بعد حمله إلى هناك ودفن مع الجسد بالطف). انظر رسائل المرتضى: ج3 ص131(صحة حمل رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام).

أما ما قيل: من أن الرأس دُفن في دمشق أو في جامع الرقة أو في الكوفة أو في القاهرة أو في حلب أو غيرها من البلدان، فالظاهر أنها مقامات وضع الرأس الشريف فيها فترة من الزمن ووقعت قطرات من دم الإمام الحسين (عليه السلام) هناك، فسمي بمقام رأس الحسين (عليه السلام) (1).

ففي التاريخ:

إن الأمويين - لأجل إرعاب الناس والتشفّي وما أشبه - أمروا بأن يُطاف برؤوس شهداء كربلاء وخاصة رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في مختلف البلدان، وكان المؤمنون يتخذون المكان الذي يوُضع فيه الرأس الشريف أو يسقط منه قطرات من دمه الزاكي مقاماً لرأس الحسين (عليه السلام) يرمز إلى التضحية والفداء والجهاد في سبيل اللّه عزوجل، والحب والمودة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليهم السلام) .

روي عن فاطمة بنت علي (عليه السلام) في حديث قالت: «... إلى أن خرج علي بن الحسين (عليه السلام) بالنسوة وردّ رأس الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء»(2).

ص: 302


1- روى الشيخ الطوسي باسناده عن المفضل بن عمر قال: (جاز مولانا جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بالقائم المائل في طريق الغري، فصلى عنده ركعتين، فقيل: ماهذه الصلاة؟ قال (عليه السلام) : «هذا موضع رأس جدي الحسين بن علي وضعوه هاهنا»،). الأمالي: ص682 المجلس38 ح3. وأما مقام رأس الحسين (عليه السلام) في القاهرة فقد ورد في بعض التواريخ أن الرأس الشريف أدير في مختلف البلدان ومنها مصر.، فالمقام هو موضع وضعوا الرأس هناك وسقط منه دم عبيط، لا أنه مدفون فيه.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص232 المجلس31 ح4.

36

دفن الأجساد الطاهرة

لما جمع عمر بن سعد قتلاه وصلى عليهم ودفنهم، ترك الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهله (عليهم السلام) منبوذين بالعراء، فلما ارتحلوا إلى الكوفة، عمد أهل الغاضرية من بني أسد لدفن الأجساد الطاهرة وجاءهم الإمام زين العابدين (عليه السلام) إعجازاً فصلّى عليها ودفنها(1)، وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً ويرون طيوراً بيضاً(2).

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) :

دفنوا الحسين (صلوات اللّه عليه) حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر (عليه السلام) عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين (عليه السلام) وجمعوهم ودفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العباس بن علي (عليه السلام) في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن(3).

كما دفنوا حبيب بن مظاهر الأسدي (رحمه اللّه) في قبر خاص، حيث مزاره الآن في الروضة الحسينية المقدسة.

ص: 303


1- مدينة المعاجز: ج4 ص120-121 فصل164 ح183. انظر إثبات الوصية للمسعودي: ص173.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص259.
3- الإرشاد: ج2 ص114.

37

الأسرى في الكوفة والشام

اشارة

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث: «وكأني أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا، وقد أهدي رأس ولدي الحسين (عليه السلام) إلى يزيد لعنه اللّه»(1).

في بيت الخولى

إن عمر بن سعد لما دفع رأس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى خولى الأصبحي عصر يوم عاشوراء، ليحمله إلى ابن زياد، أقبل به خولى إلى الكوفة ليلاً فوجد باب القصر مغلقاً، فأتى به منزله وجعله في التنور أو الإجانة، ثم أوى إلى فراش زوجته، فقالت له: ما الخبر؟ فقال: جئتك بالذهب، هذا رأس الحسين معك في الدار!

فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واللّه لا يجمع رأسي ورأسك وسادة أبداً. قالت: فقمتُ من فراشي فخرجت إلى الدار فما زلت واللّه أنظر إلى نور مثل العمود يسطع من الإجانة التي فيها رأس الحسين (عليه السلام) إلى السماء ورأيت طيوراً بيضاً ترفرف حولها وحول الرأس الشريف(2).

ص: 304


1- بحار الأنوار: ج44 ص248 ب30.
2- انظر مناقب أهل البيت (عليهم السلام) للمولى الشيرواني: ص247 ب2 فصل18.

في مجلس ابن زياد

عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة(1)، فبينما أنا أجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: ما لي أرى الكوفة تضج؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فقلت من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي (عليه السلام) !(2) قال: فتركت الخادم حتى خرج ولطمت وجهي حتى خشيت على عينيّ أن تذهبا، وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناسة، فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس، إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملاً فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة (عليها السلام) وإذا بعلي بن الحسين (عليه السلام) على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أمة السوء لا سقيا لربعكم***يا أمة لم تراع جدنا فينا

لو أننا ورسول اللّه يجمعنا***يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيرونا على الأقتاب عارية***كأننا لم نشيد فيكم دينا

بني أمية ما هذا الوقوف على***تلك المصائب لا تلبون داعينا

تصفقون علينا كفكم فرحا***وأنتم في فجاج الأرض تسبونا

ص: 305


1- يظهر أن تجديد دار الإمارة كان لإظهار الفرح والسرور بمقتل الحسين (عليه السلام) ، كما سيأتي مايؤيده في (مساجد جددت فرحاً).
2- وهذا لا ينافي وصول رأس الحسين (عليه السلام) أولاً، فإنه وصل الرأس الشريف ليلة الحادي عشر من المحرم إلى الكوفة في بيت الخولى، وجاء الخولى بالرأس إلى ابن زياد يوم الحادي عشر، ثم لما وصلت بقية الرؤوس مع الأسرى يوم الثاني عشر أخرجوا رأس الحسين (عليه السلام) وجعلوه مع سائر الرؤوس حتى يشاهدها الناس.

أليس جدي رسول اللّه ويلكم***أهدى البرية من سبل المضلينا

يا وقعة الطف قد أورثتني حزنا***واللّه يهتك أستار المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أم كلثوم، وقالت: يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا حرام، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض، قال كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم..

فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت، وإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) ، وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولحيته كسواد السبج قد اتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والريح تلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب (عليها السلام) فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:

يا هلالا لما استتم كمالا***غاله خسفه فأبدا غروبا

ما توهمت يا شقيق فؤادي***كان هذا مقدرا مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلمها***فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي قلبك الشفيق علينا***ما له قد قسى وصار صليبا

يا أخي لو ترى عليا لدى الأسر***مع اليتم لا يطيق وجوبا

كلما أوجعوه بالضرب نادا***ك بذل يفيض دمعاً سكوبا

يا أخي ضمه إليك وقربه***وسكّن فؤاده المرعوبا

ما أذل اليتيم حين ينادي***بأبيه، ولا يراه مجيبا(1)

ص: 306


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص372-374 باب فيما وقع من دخول أهل البيت (عليهم السلام) الكوفة..

ابن زياد ينكت الرأس الشريف

ثم جاؤوا بالرأس الشريف فوضعوه بين يدي عبيد اللّه بن زياد، فأخذ ينظر إليه ويتبسم وبيده قضيب يضرب به ثناياه، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم(1) صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو شيخ كبير، فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال:

ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فو اللّه الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهما ما لا أحصيه كثرةً يقبّلهما، ثم انتحب باكياً.

فقال له ابن زياد: أبكى اللّه عينيك، أتبكي لفتح اللّه! واللّه لولا أنك شيخ كبير قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.

فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله(2).

ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: من هذا؟

فقيل: علي بن الحسين.

فقال: أليس قد قتل اللّه علي بن الحسين؟!

فقال علي (عليه السلام) : «قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتله الناس».

فقال: بل اللّه قتله!

فقال علي (عليه السلام) : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها}(3).

فقال ابن زياد: ألك جرأة على جوابي اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فسمعت عمته زينب (عليها السلام) فقالت:

ص: 307


1- زيد بن أرقم: من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والحسن والحسين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) وهو من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) .
2- انظر الإرشاد: ج2 ص114-115.
3- سورة الزمر: 42.

يا ابن زياد إنك لم تبق منا أحداً فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه(1)..

وصارت ضجة في المجلس خاف ابن زياد من الفتنة فانصرف عن قتله.

وروي أن ابن زياد أمر بضرب عنق علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) فقال له علي (عليه السلام) : «أبالقتل تهددني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا من اللّه الشهادة؟».. وقال (عليه السلام) : «إن كان بينك وبين هؤلاء النساء رحم فأرسل معهن من يؤديهن»..

فقال ابن زياد: تؤديهن أنت، وكأنه استحيا بل خاف من الفتنة، وصرف اللّه عزوجل عن علي بن الحسين (عليه السلام) القتل.

قال الراوي: مارأيت منظراً قط أفزع من إلقاء رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه وهو ينكته(2).

حقد ابن زياد

في أمالي(3)

الصدوق (رحمه اللّه) عن حاجب عبيد اللّه بن زياد، أنه لما جيء برأس الحسين (عليه السلام) أمر ابن زياد فوضع بين يديه في طست من ذهب، وجعل يضرب بقضيب في يده على ثناياه ويقول - مستهزءاً -: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد اللّه!

ص: 308


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص94-95.
2- انظر الأمالي، للشيخ الطوسي: ص252 المجلس9 ح41.
3- كتاب الأمالي أو المجالس للشيخ الجليل (الصدوق) المتوفى سنة 381ه- عبارة عن مجالس كان يلقيها الشيخ على تلامذته ويذكر فيها مجموعة من الأحاديث والآثار عن أهل بيت النبوة (عليهم السلام) ويحتوي على (97) مجلساً معنوناً كل مجلس بتاريخ ذلك المجلس ويبتدأ تاريخ تدوين هذه المجالس من يوم الجمعة لإثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة 367ه- وتنتهي بيوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة 368 في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) ويحتوي على (1049) حديثاً.

فقال رجل من القوم: مه، فإني رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلثم حيث تضع قضيبك.

فقال ابن زياد: يوم بيوم بدر(1).

خطبة السجاد (عليه السلام) في الكوفة

ثم إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أومأ إلى الناس أن اسكتوا فسكتوا، فقام قائماً فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصلّى عليه، ثم قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليهم)، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، من غير ذحل ولا ترات(2)، أنا ابن من انتُهك حريمه، وسُلب نعيمه، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن من قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً.

أيها الناس ناشدتكم باللّه، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة، وقاتلتموه وخذلتموه، فتباً لما قدمتم لأنفسكم، وسوأةً لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي».

قال: فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية بالبكاء، وقال بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون، فقال (عليه السلام) : «رحم اللّه امرئ قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في اللّه وفي رسوله وأهل بيته، فإن لنا في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة حسنة».

فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا يا ابن رسول اللّه سامعون مطيعون حافظون .

ص: 309


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص229 المجلس31 ح3.
2- الذحل هو الثأر، الترات جمع تره، ويقال للموتور الذي قتل له قتيل، وذو ترات: ذو دماء.

لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك فمرنا بأمرك يرحمك اللّه، فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا.

فقال (عليه السلام) : «هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل، كلا ورب الراقصات، فإن الجرح لما يندمل، قُتل أبي صلوات اللّه عليه بالأمس وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه يجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا».

ثم قال (عليه السلام) :

لا غرو إن قتل الحسين وشيخه***قد كان خيراً من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي***أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشط النهر روحي فداؤه***جزاء الذي أرداه نار جهنما(1)

استشهاد عبد اللّه ابن عفيف

ثم إن ابن زياد صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين! يزيد وحزبه، وقتل الكذّاب بن الكذّاب وشيعته!..

فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتى قام إليه عبد اللّه بن عفيف الأزدي وكان من خيار الشيعة وزهادها وكانت عينه اليسرى ذهبت في يوم الجمل، والأخرى في يوم صفين، وكان يلازم المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل، فقال: يا ابن مرجانة إن الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه، يا عدو اللّه

ص: 310


1- بحار الأنوار: ج45 ص112-113 ب39.

أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين.

فغضب ابن زياد ثم قال: من هذا المتكلم؟

فقال: أنا المتكلم يا عدو اللّه، أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب اللّه عنهم الرجس وتزعم أنك على دين الإسلام، وا غوثاه، أين أولاد المهاجرين والأنصار لاينتقمون منك ومن طاغيتك اللعين بن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قال: فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه وقال: عليّ به.

فتبادرت إليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور، وفي الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل فاجتمعوا وانتزعوه من الجلاوزة.

وقيل: وثب إليه فتيان منهم.. وقيل: قامت الأشراف من الأزد من بني عمه فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله.

فقال ابن زياد: اذهبوا إلى هذا الأعمى، أعمى الأزد، أعمى اللّه قلبه كما أعمى عينه! فآتوني به.

فلما بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم، وبلغ ذلك إلى ابن زياد فجمع قبائل مضر(1) وضمهم إلى محمد بن الأشعث وأمره بقتال القوم، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى قُتل بينهم جماعة من العرب، ووصل

ص: 311


1- قبائل اليمن ومضر: قد اشتهرت العصبية والعداوة والبغضاء بين هذه القبائل من قديم الزمن وبتحريك من الطغاة وقد وقعت بينهم فتن كثيرة وفي شتى المدن التي كانوا فيها، ومن أشهر وقعاتهم ماحصل من فتنة في خراسان زمن مروان بن محمد، وما وقعت من وقائع في الشام في زمن هارون العباسي، وما وقع من فتن بينهما في الأندلس وبتحريك سافر من حكام بني أمية هناك، حيث روى ابن عساكر في تاريخه ج35 ص447: (والصحيح إن البلاد لم تكن مفتونة وقت دخول عبدالرحمن بن معاوية في ذلك الوقت ولاكانت مضرية ولايمانية حينئذ وانما كانت المضرية واليمانية بعد ذلك).

أصحاب ابن زياد إلى دار عبد اللّه بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت ابنته أتاك القوم من حيث تحذر، فقال: لا عليك ناوليني سيفي فناولته إياه، فجعل يذب عن نفسه، ويقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر***عفيف شيخي وابن أم عامر

كم دارع من قومكم وحاسر***وبطل جدلته مغاور

وجعلت ابنته تقول: يا أبت ليتني كنت رجلاً أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة، قال: وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة وهو يذب عن نفسه فليس يقدم عليه أحد، وكلما جاؤوه من جهة قالت ابنته: يا أبة قد جاؤوك من جهة كذا، حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به، فقالت بنته: وا ذلاه يحُاط بأبي وليس له ناصر يستعين به، فجعل يدير سيفه ويقول:

أقسم لو يفسح لي عن بصري***ضاق عليكم موردي ومصدري

قال: فما زالوا به حتى أخذوه، ثم حُمل فاُدخل على ابن زياد، فلما رآه قال: الحمد لله الذي أخزاك! فقال له عبد اللّه بن عفيف: يا عدو اللّه، وبماذا أخزاني اللّه.

واللّه لو فرج لي عن بصري***ضاق عليكم موردي ومصدري

فقال له ابن زياد: يا عدو اللّه ما تقول في عثمان بن عفان؟

فقال: يا عبد بني علاج يا ابن مرجانة وشتمه، ما أنت وعثمان، أساء أم أحسن، وأصلح أم أفسد، واللّه تبارك وتعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق، ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه.

فقال ابن زياد: واللّه لا سألتك عن شي ء أو تذوق الموت غصة بعد غصة.

فقال عبد اللّه بن عفيف: الحمد لله رب العالمين، أما إني قد كنت أسأل اللّه ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك، وسألت اللّه أن يجعل ذلك على

ص: 312

يدي ألعن خلقه وأبغضهم إليه، فلما كف بصري يئست من الشهادة إلى الآن، فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الإجابة منه في قديم دعائي.

فقال ابن زياد: اضربوا عنقه، فضُربت عنقه وصُلب في السبخة رضوان اللّه عليه(1).

في أزقة الكوفة

ثم إن ابن زياد أراد أن يخوّف الناس أكثر من ذي قبل، ويبين أنه يقتل كل من يعارض حكم بني أمية حتى وإن كان ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... كما أظهر بذلك حقده الدفين.

فلما أصبح بعث برأس الإمام الحسين (عليه السلام) فدير به في سكك الكوفة وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مر بالرأس عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة لي، فلما حاذاني سمعت رأس الحسين (عليه السلام) يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ والرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً}(2) فوقف واللّه شعري عليّ وناديت: رأسك واللّه يا ابن رسول اللّه وأمرك أعجب وأعجب(3).

في سجن الكوفة

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين (عليه السلام) فغلّ وحمل مع السبايا والنسوة إلى السجن، يقول الراوي: وكنت معهم فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه ملآن رجالاً ونساءً يضربون وجوههم ويبكون، فحُبسوا في سجن وضُيق عليهم(4).

ص: 313


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص119-121 ب39.
2- سورة الكهف: 9.
3- انظر كشف الغمة: ج2 ص279 باب ما وقع بعد قتله (عليه السلام) .
4- روضة الواعظين: ص190.

ابن زياد يهمّ بقتل زينب (عليها السلام)

ثم إن ابن زياد (لعنه اللّه) دعا بعلي بن الحسين (عليه السلام) والنسوة، وأحضر رأس الحسين (عليه السلام) ، وكانت زينب (عليها السلام) ابنة علي (عليه السلام) فيهم، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أحاديثكم!

فقالت زينب (عليها السلام) : «الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطهّرنا تطهيراً، إنما يفضح اللّه الفاسق ويكذب الفاجر».

قال: كيف رأيت صنع اللّه بكم أهل البيت؟

قالت: كُتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتتحاكمون عنده.

فغضب ابن زياد (لعنه اللّه) عليها، وهمّ بقتلها، فسكّن منه عمرو بن حريث.

فقالت زينب (عليها السلام) : يا ابن زياد، حسبك ما ارتكبت منا، فلقد قتلت رجالنا، وقطعت أصلنا، وأبحت حريمنا، وسبيت نساءنا وذرارينا، فإن كان ذلك للاشتفاء فقد اشتفيت.

فأمر ابن زياد بردهم إلى السجن وبعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين (عليه السلام) ثم أمر بالسبايا ورأس الحسين (عليه السلام) فحملوا إلى الشام(1).

خطبة زينب (عليها السلام) في الكوفة

وأومأت زينب (عليها السلام) بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الناس بالسكوت، قال حذيم الأسدي(2): لم أرَ واللّه خفرة قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ عن لسان

ص: 314


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص230-231 المجلس31 ح3.
2- حذيم بن شريك الأسدي من أصحاب الإمام السجاد (عليه السلام) .

علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد أشارت إلى الناس بأن أنصتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت بعد حمد اللّه تعالى والصلاة على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

«أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل(1)، ألا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي {نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ}(2) هل فيكم إلاّ الصلف(3) والعجب والشنف(4) والكذب وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة(5)، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون على أخي؟ أجل واللّه فابكوا فإنكم واللّه أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد أبليتم بعارها، ومُنيتم بشنارها، ولن ترحضوها أبداً(6)، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقر سلمكم، وآسى كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقالتكم، ومدرة حججكم(7)، ومنار محجتكم، ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعساً تعساً ونكساً نكساً، لقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه وضُربت عليكم الذلة والمسكنة، أتدرون ويلكم أي كبد

ص: 315


1- الختل: الخداع وفي نسخة الختر وهو الغدر.
2- سورة النحل: 92.
3- الصلف: الذي يدعي لنفسه ما ليس فيه تكبراً.
4- الشنف بالتحريك: البغض والتنكر.
5- الدمنة: المزبلة، الفضة: الجص، الملحودة: القبر.
6- الشنار: العار، الرحض: الغسل.
7- المدرة: القرية، اي قرية قصدكم.

لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرثتم؟ وأي عهد نكثتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم له سفكتم؟ {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا}(1) لقد جئتم بها شوهاء صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء كطلاع الأرض(2) أو ملأُ السماء، أفعجبتم أن تمطر السماء دماً {ولَعَذابُ الآخِرَةِ أَخْزى وهُمْ لايُنْصَرُونَ}(3) فلا يستخفنكم المهل، فإنه عزوجل لايحفزه البدار، ولا يُخشى عليه فوت الثأر، كلاّ إن ربك لنا ولهم بالمرصاد، ثم أنشأت تقول (عليها السلام) :

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم***ما ذا صنعتم وأنتم آخر الأمم

بأهل بيتي وأولادي ومكرمتي***منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم***أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

إني لأخشى عليكم أن يحل بكم***مثل العذاب الذي أودى على إرم

ثم ولت عنهم.

قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم، فالتفت إلى شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول: بأبي وأمي كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد شعراً:

كهولهم خير الكهول ونسلهم***إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار،

ص: 316


1- سورة مريم: 89-90.
2- الشوهاء: القبيحة. (الفقم): بالتحريك: أن تتقدم الثنايا السفلى فلا تقع على العليا. (الخرقاء): الحمقاء. (طلاع الأرض): ملأ الأرض.
3- سورة فصلت: 16.

وأنت بحمد اللّه عالمة غير مُعلّمة، فهِمة غير مُفهّمة، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر» فسكتت.

ثم نزل (عليه السلام) وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط(1).

مساجد جددت فرحاً

ثم إن بني أمية أرادوا أن يخدعوا الناس في قتل الحسين (عليه السلام) ويعطوها صبغة شرعية، فجددوا المساجد فرحاً بقتله، كما أنهم من قبل أخذوا الفتاوى من بعض علماء السوء بجواز قتل الحسين (عليه السلام) بل وجوبه!.

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «جددت أربعة مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين (عليه السلام) : مسجد الأشعث، ومسجد جرير، ومسجد سماك، ومسجد شبث بن ربعي»(2).

في طريق الشام

وأما يزيد بن معاوية فإنه لما وصله كتاب عبيد اللّه بن زياد يخبره بقتل الحسين (عليه السلام) وسبي النساء والأطفال، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس من قتل معه وحمل أثقاله ونسائه وعياله إلى الشام، فاستدعى ابن زياد بمخفر بن ثعلبة العائذي(3) فسلم إليه الرءوس والنساء، فسار

ص: 317


1- الإحتجاج: ج2 ص29-31 خطبة السيدة زينب (عليها السلام) بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم تقريعا لهم وتأنيباً.
2- الكافي: ج3 ص490 باب مساجد الكوفة ح2، وهذه من المساجد الملعونة التي نهى أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الصلاة فيها.
3- اختلفوا في اسمه فالبعض قال إنه محفز، وآخر محفر، وثالث محقن، ورابع محقر، وخامس مجفر، وسادس مخفر، وعلى كل فهو ابن ثعلبة العائذي من عائذة قريش لا عائذة اليمن، أرسله ابن زياد برأس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى يزيد، قال عنه الإمام زين العابدين (عليه السلام) ردّاً على قوله ليزيد: أتيت باللئام الفجرة فقال (عليه السلام) : «ماولدت أم مجفر أشر وألام».

بهم إلى الشام كما يُسار سبايا الكفار(1).

وفي بعض الروايات: أرسل معهم شمر بن ذي الجوشن والخولى بن يزيد الأصبحي.

عن ابن أبي قبيل قال: لما قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) بُعث برأسه إلى يزيد، فنزلوا في أول مرحلة فجعلوا يشربون ويتبجحون بالرأس فيما بينهم، فخرجت عليهم كف من الحائط معها قلم من حديد، فكتبت أسطراً بدم:

أترجو أمة قتلت حسيناً***شفاعة جده يوم الحساب(2)

والظاهر أن هذا الشعر كُتب بيد الغيب أكثر من مرة، ولكن القوم لم يعتبروا ولم يرجعوا عن غيّهم(3).

روى ابن لهيعة وغيره(4) في حديث: كنت أطوف بالبيت، فإذا أنا برجل يقول: اللّهم اغفر لي وما أراك فاعلاً! فقلت له: يا عبد اللّه اتق اللّه ولا تقل مثل هذا، فإن ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرت اللّه غفرها لك فإنه هو الغفور الرحيم.

قال: فقال لي: تعال حتى أخبرك بقضيتي، فأتيته، فقال لي: اعلم أنّا كنا

ص: 318


1- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص99-100.
2- بحار الأنوار: ج45 ص125 ب39، وقد روى هذا المضمون جمع من علماء العامة منهم الطبراني وابن عبدالبر وابن عساكر وابن النجار البغدادي والمزي والذهبي والبيهقي وغيرهم.
3- حيث ورد إن أهل بيت المقدس سمعوا منادياً ينادي في جوف الليل عشية قتل الحسين (عليه السلام) ، ووجد البيت الشعري مكتوباً في كنيسة من كنائس بلاد الروم قبل بعثة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بثلاثمائة عام، وفي رواية ستمائة عام إلى غيرها من المواقف الخاصة به.
4- حيث روى قضية شبيهة بهذه القضية سليمان الأعمش، انظر الخرائج والجرائح: ج2ص579 فصل5 ح2.

خمسين نفراً ممن سار مع رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام، وكنا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت، وشربنا الخمر حول التابوت، فشرب أصحابي ليلة حتى سكروا ولم أشرب معهم، فلما جنّ الليل سمعت رعداً ورأيت برقاً فإذا أبواب السماء قد فُتحت ونزل آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) ونبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعهم جبرئيل (عليه السلام) وخلق كثير من الملائكة. فدنا جبرئيل من التابوت فأخرج الرأس وضمّه إلى نفسه ثم قبّله، ثم كذلك فعل الأنبياء (عليهم السلام) كلهم، وبكى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رأس الحسين (عليه السلام) وعزاه الأنبياء (عليهم السلام) وقال له جبرئيل: يا محمد إن اللّه تبارك وتعالى أمرني أن أطيعك في أمتك، فإن أمرتني زلزلت بهم الأرض وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا، يا جبرئيل فإن لهم معي موقفاً بين يدي اللّه تعالى يوم القيامة، قال: ثم صلّوا عليه ثم أتى قوم من الملائكة، وقالوا: إن اللّه تبارك وتعالى أمرنا بقتل الخمسين، فقال لهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شأنكم بهم فجعلوا يضربون بالحربات، ثم قصدني واحد منهم بحربته ليضربني فقلت: الأمان الأمان يا رسول اللّه، فقال: اذهب فلا غفر اللّه لك، فلما أصبحت رأيت أصحابي كلهم جاثمين رماداً(1).

بقرب بعلبك

وسار القوم برأس الحسين (عليه السلام) ونسائه والأسرى، ولما قربوا من بعلبك كتبوا إلى صاحبها، فأمر بالرايات فنشرت، وخرج الصبيان يتلقونهم على نحو من ستة أميال، فقالت أم كلثوم (عليها السلام) : أباد اللّه كثرتكم وسلّط عليكم من يقتلكم.

ثم بكى علي بن الحسين (عليه السلام) وقال:

ص: 319


1- مدينة المعاجز: ج4 ص135 فصل169 ح188.

وهو الزمان فلا تفنى عجائبه***من الكرام وما تهدى مصائبه

فليت شعري إلى كم ذا تجاذبنا***فنونه وترانا لم نجاذبه

يسرى بنا فوق أقتاب بلا وطأ***وسابق العيس يحمي عنه غاربه

كأننا من أسارى الروم بينهم***كأن ما قاله المختار كاذبه

كفرتم برسول اللّه ويحكم***فكنتم مثل من ضلت مذاهبه(1)

يهودي أسلم

روي أنه لما حملوا رأس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الشام جنّ عليهم الليل، فنزلوا عند رجل من اليهود، فلما شربوا وسكروا قالوا: عندنا رأس الحسين (عليه السلام) ،.. فقال: أروه لي، فأروه، وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء، فتعجب منه اليهودي فاستودعه منهم وقال للرأس: اشفع لي عند جدك.

فأنطق اللّه الرأس فقال: إنما شفاعتي للمحمديين، ولست بمحمدي، فجمع اليهودي أقرباءه ثم أخذ الرأس ووضعه في طست وصب عليه ماء الورد وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثم قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. ثم قال: يا لهفاه حيث لم أجد جدك محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأسلم على يديه، ثم قال: يا لهفاه حيث لم أجدك حياً فأسلم على يديك، وأقاتل بين يديك، فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟

فأنطق اللّه الرأس، فقال بلسان فصيح: إن أسلمت فأنا لك شفيع، قاله ثلاث مرات وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه(2).

ص: 320


1- بحار الأنوار: ج45 ص126-127 ب39.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص417-418 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام.. ح18.

نصراني أسلم

ولما حملوا الرأس الطاهر على طريق الشام، نزلوا على دير للنصارى وكان الرأس معهم مركوزاً على رمح ومعه الأحراس، يقول أحدهم: فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، فإذا بكف في حائط الدير، تكتب:

أترجو أمةً قتلت حسيناً***شفاعة جده يوم الحساب

قال: فجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها، فغابت، ثم عاد أصحابي إلى الطعام، فإذا الكف قد عادت تكتب مثل الأول:

فلا واللّه ليس لهم شفيع***وهم يوم القيامة في العذاب

فقام أصحابنا إليها فغابت، ثم عادوا إلى الطعام فعادت تكتب:

وقد قتلوا الحسين بحكم جور***وخالف حكمهم حكم الكتاب

فامتنعتُ عن الطعام وما هنأني أكله، ثم أشرف علينا راهب من الدير، فرأى نوراً ساطعاً من فوق الرأس، فأشرف فرأى عسكراً، فقال الراهب للحراس: من أين جئتم؟

قالوا: من العراق حاربنا الحسين.

فقال الراهب: ابن فاطمة، وابن بنت نبيكم، وابن ابن عم نبيكم؟

قالوا: نعم، قال: تباً لكم، واللّه لو كان لعيسى ابن مريم (عليه السلام) ابن لحملناه على أحداقنا، ولكن لي إليكم حاجة، قالوا: وما هي؟ قال: قولوا لرئيسكم عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من آبائي، ليأخذها مني ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددته إليه، فأخبروا عمر بن سعد بذلك فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه إلى وقت الرحيل، فجاءوا إلى الراهب فقالوا: هات المال حتى نعطيك الرأس، فأدلى إليهم جرابين في كل جراب خمسة آلاف

ص: 321

دينار، فدعا عمر بالناقد والوزان(1) فانتقدها ووزنها ودفعها إلى خازن له، وأمر أن يُعطى الرأس.

فأخذ الراهب الرأس فغسّله ونظّفه وحشاه بمسك وكافور كان عنده، ثم جعله في حريرة ووضعه في حجره ولم يزل ينوح ويبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس، فقال: يا رأس واللّه ما أملك إلاّ نفسي فإذا كان غداً فاشهد لي عند جدك محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، أسلمت على يديك وأنا مولاك، وقال لهم: إني أحتاج أن أكلم رئيسكم بكلمة وأعطيه الرأس.

فدنا عمر بن سعد، فقال: سألتك باللّه، وبحق محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا تعود إلى ما كنت تفعله بهذا الرأس، ولا تخرج هذا الرأس من هذا الصندوق، فقال له: أفعل، فأعطاه الرأس ونزل من الدير فلحق ببعض الجبال يعبد اللّه.

ومضى عمر بن سعد ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأول، فلما دنا من دمشق قال لأصحابه: انزلوا وطلب من الجارية الجرابين فأحضرا بين يديه، فنظر إلى خاتمه ثم أمر أن يفتحا فإذا الدنانير قد تحولت خزفية، فنظروا في سكتها فإذا على جانب مكتوب: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}(2) وعلى الوجه مكتوب: {وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}(3) فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، خسرتُ الدنيا والآخرة، ثم قال لغلمانه: اطرحوها في النهر فطرحت، فدخل دمشق من الغد وأدخل الرأس إلى يزيد(4).

ص: 322


1- الناقد: الذي يميز المال الصحيح من المغشوش، والوزان: هو الذي يوزن المال ويتأكد من وزنه.
2- سورة إبراهيم: 42.
3- سورة الشعراء: 227.
4- الخرائج والجرائح: ج2 ص578-580 فصل5 ح2.

على أبواب دمشق

وسار القوم برأس الحسين (عليه السلام) ونسائه والأسرى من رجاله، فلما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم (عليها السلام) من شمر وكان من جملتهم فقالت: لي إليك حاجة! فقال: ما حاجتك؟ فقالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال، فأمر اللعين في جواب سؤالها أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي(1).

كفر يزيد

ولما جيء برأس الإمام الحسين (عليه السلام) ورؤوس الشهداء، ومعهم السبايا من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنشد يزيد لعنه اللّه:

لما بدت تلك الرؤوس وأشرقت***تلك الشموس على ربى جيرون(2)

صاح الغراب فقلت صح أو لا تصح***فلقد قضيت من النبي ديوني(3)

وقالت سكينة بنت الحسين (عليه السلام) : واللّه ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه(4) ولا أجفى منه، وأقبل يقول وينظر إلى الرأس:

ص: 323


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص101-102.
2- ربى جيرون: باب من أبواب دمشق.
3- انظر بحار الأنوار: ج45 ص200 ب39 ح40.
4- فمن شعره الذي صرّح فيه عن كفره وإلحاده: فإن مت يا أم الأحيمر فانكحي***ولا تأملي بعد الممات التلاقيا فإن الذي حُدثت عن يوم بعثنا***أحاديث زور تترك القلب ساهيا انظر معالم الزلفى: ج3 ص317 ب96 ح1.

ليت أشياخي ببدر شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل(1) وكان يزيد يسب الإمام الحسين (عليه السلام) وأباه علياً (عليه السلام) وجدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويستهزئ بهم والرأس الشريف أمامه في الطست، كما روي ذلك عن الإمام الرضا (عليه السلام) (2).

في مجلس يزيد

لما أدخل الرأس الشريف إلى يزيد ابتدر أحد قتلة الحسين (عليه السلام) إلى يزيد فقال:

املأ ركابي فضة أو ذهباً***إني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا***ضربته بالسيف حتى انقلبا

فأمر يزيد بقتله، وقال: حين علمت أن حسيناً خير الناس أماً وأباً، فلم قتلته؟، فجعل الرأس في طشت وهو ينظر إلى أسنانه ويقول:

ليت أشياخي ببدر شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل

ص: 324


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص230-231 المجلس31 ح3.
2- قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «لما حُمل رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام أمر يزيد (لعنه اللّه) فوضع ونصب عليه مائدة، فأقبل هو وأصحابه يأكلون ويشربون الفقاع، فلما فرغوا أمر بالرأس فوضع في طست تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يزيد (لعنه اللّه) يلعب بالشطرنج، ويذكر الحسين بن علي وأباه وجده (صلوات اللّه عليهم) ويستهزئ بذكرهم، فمتى قامر صاحبه تناول الفقاع فشربه ثلاث مرات ثم صب فضلته مما يلي الطست من الأرض، فمن كان من شيعتنا فليتورع عن شرب الفقاع واللعب بالشطرنج، ومن نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين (عليه السلام) وليلعن يزيد وآل زياد، يمحو اللّه عز وجل بذلك ذنوبه ولو كانت كعدد بعدد النجوم». من لايحضره الفقيه: ج4 ص419 باب حرمة شرب الفقاع واللعب بالشطرنج.. من أبواب النوادر ح5915.

فأهلوا واستهلوا فرحا***ثم قالوا يا يزيد لا تشل

فجزيناهم ببدر مثلها***وبأحد يوم أحد فاعتدل

لست من خندف إن لم أنتقم***من بني أحمد ما كان فعل

فدخل عليه زيد بن أرقم(1)

ورأى الرأس في الطشت وهو يُضرب بالقضيب على أسنانه، فقال: كف عن ثناياه، فطالما رأيت النبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبّلها، فقال يزيد: لولا أنك شيخ خرفت لقتلتك.

ودخل عليه رأس اليهود وكبيرهم على يزيد فقال: ما هذا الرأس؟

فقال يزيد: رأس خارجي.

قال: ومن هو؟ قال: الحسين.

قال: ابن من؟ قال: ابن علي، قال: ومن أمه؟ قال: فاطمة، قال: ومن فاطمة؟ قال: بنت محمد، قال: نبيكم؟ قال: نعم، قال: لا جزاكم اللّه خيراً بالأمس كان نبيكم واليوم قتلتم ابن بنته، ويحك إن بيني وبين داود النبي (عليه السلام) نيفاً وسبعين أباً، فإذا رأتني اليهود كفّرت(2) إليّ، ثم مال إلى الطشت وقبّل الرأس وقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن جدك محمد رسول اللّه، وخرج، فأمر يزيد بقتله(3).

في حبس الشام

ثم إن يزيد أمر بحبس بنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خربة من خرابات الشام لا

ص: 325


1- وفي بعض المصادر: أنه كان أبا برزة الأسلمي، انظر ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب: ج3 ص261. ولا يبعد أن تكون قضيتين.
2- بتشديد الفاء وهو انحناء ووضع اليد على الصدر احتراماً للمقابل.
3- الخرائج والجرائح: ج2 ص580-581 فصل5 ح2.

تقيهم من حر الشمس..

عن فاطمة بنت علي (عليه السلام) قالت: «إن يزيد (لعنه اللّه) أمر بنساء الحسين (عليه السلام) فحبسن مع علي بن الحسين (عليه السلام) في محبس، لا يكنهم من حر ولا قر، حتى تقشرت وجوههم..»(1).

مع الصحابي سهل الساعدي

قال الصحابي سهل بن سعد: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لا نرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن، فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا قوم لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ نراك أعرابياً، فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها! قلت: ولم ذاك؟ قالوا: هذا رأس الحسين (عليه السلام) عترة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُهدى من أرض العراق! فقلت: وا عجباه يُهدى رأس الحسين (عليه السلام) والناس يفرحون؟ قلت: من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، قال: فبينا أنا كذلك، حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإذا أنا من ورائه رأيت نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهم فقلت: يا جارية من أنت؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين (عليه السلام) فقلت لها: ألك حاجة إليّ؟ فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسمعت حديثه؟

ص: 326


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص231 المجلس31 ح4.

قالت: يا سعد قُل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظروا إلى حرم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار! قال: ما هي؟ قلت: تقدم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك، فدفعت إليه ما وعدته، ووضع الرأس في حقة ودخلوا على يزيد فدخلت معهم، وكان يزيد جالساً على السرير وعلى رأسه تاج مكلّل بالدر والياقوت، وحوله كثير من مشايخ قريش، فلما دخل صاحب الرأس وهو يقول:

أوقر ركابي فضة وذهباً***أنا قتلت السيد المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا***وخيرهم إذ ينسبون النسبا

قال يزيد: لو علمت أنه خير الناس لم قتلته؟ قال: رجوت الجائزة منك، فأمر بضرب عنقه فجز رأسه، ووضع رأس الحسين (عليه السلام) على طبق من ذهب وهو يقول: كيف رأيت يا حسين(1)؟.

قتلوا بك التكبير والتهليلا

روي أن بعض فضلاء التابعين(2) لما شاهد رأس الإمام الحسين (عليه السلام) بالشام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد إذ فقدوه، سألوه عن سبب ذلك؟ فقال: ألا ترون ما نزل بنا، ثم أنشأ يقول:

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد***مترملا بدمائه ترميلا

وكأنما بك يابن بنت محمد***قتلوا جهاراً عامدين رسولا

ص: 327


1- بحار الأنوار: ج45 ص127-128 ب39.
2- وهو خالد بن معدان - كما قاله ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب - الكلاعي أبو عبد اللّه الحمصي، أدرك سبعين رجلاً من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ت103ه، وقيل غير ذلك.

قتلوك عطشاناً ولما يرقبوا***في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبرون بأن قُتلت وإنما***قتلوا بك التكبير والتهليلا(1)

هل قرأت القرآن؟

وجاء شيخ فدنا من نساء الحسين (عليه السلام) وعياله وهم أقيموا على درج باب المسجد فقال: الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم!.

فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا شيخ هل قرأت القرآن»؟ قال: نعم.

قال (عليه السلام) : «فهل عرفت هذه الآية {قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}(2)»؟. قال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال له علي (عليه السلام) : «فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت في بني إسرائيل {وَآتِ ذَا الْقُربَى حَقَّهُ}(3)» فقال: قد قرأت ذلك.

فقال علي (عليه السلام) : «فنحن القربى ياشيخ، فهل قرأت هذه الآية: {واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي الْقُرْبى}(4)؟ قال: نعم.

قال علي (عليه السلام) : «فنحن القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الآية: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(5)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. فقال علي (عليه السلام) : «فنحن أهل البيت الذين اختصنا اللّه بآية الطهارة يا شيخ».

ص: 328


1- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص102.
2- سورة الشورى: 23.
3- سورة الإسراء: 26.
4- سورة الأنفال: 41.
5- سورة الأحزاب: 33.

قال: فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به، وقال: باللّه إنكم هم؟

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «تاللّه إنا لنحن هم من غير شك وحق جدنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنا لنحن هم» فبكى الشيخ ورمى عمامته ورفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد من جن وإنس، ثم قال: هل لي من توبة؟

فقال (عليه السلام) له: «نعم إن تبت تاب اللّه عليك وأنت معنا»، فقال: أنا تائب، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقُتل رضوان اللّه عليه(1).

يزيد يتظاهر بلعن ابن مرجانة

شيئاً فشيئاً علم الناس بعظيم جرم يزيد وأنه قتل ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... فأراد يزيد أن يبرّأ نفسه من تلك الجناية العظمى فقال: لعن اللّه ابن مرجانة إذ أقدم على قتل الحسين بن فاطمة، لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلاّ أعطيته إياها، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى اللّه أمراً فلم يكن له مرد(2).

ثم أطرق يزيد هنيئة ورفع رأسه وقال: قد كنت أقنع وأرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو أني كنت صاحبه لعفوت عنه(3)!!

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : ثم دعا يزيد بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح اللّه ابن مرجانة لو كانت بينكم وبينه قرابة رحم ما فعل

ص: 329


1- لواعج الأشجان: ص219-220.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص431 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام..
3- إعلام الورى: ج1 ص473 باب إنفاذ السبايا إلى الشام.

هذا بكم، ولا بعث بكم على هذه الصورة(1).

أقول: قال ذلك لما رأى أن الناس قد عرفوا بقبيح عمله وخاف الفتنة.

ما ظنك برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ولما أدخلوا ثقل الحسين (عليه السلام) ونساؤه ومن تخلف من أهله على يزيد وهم مقرنون في الحبال، وزين العابدين (عليه السلام) مغلول فلما وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال، قال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «أنشدك اللّه يا يزيد ما ظنك برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لو رآنا على هذه الصفة»؟ فلم يبق في القوم أحد إلاّ بكى - فخاف يزيد من الفتنة - فأمر يزيد بالحبال فقطعت وأمر بفك الغل عن زين العابدين (عليه السلام) (2).

وروي أنه قال علي بن الحسين (عليه السلام) : أدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر رجلاً مغللون، فلما وقفنا بين يديه قلت: أنشدك اللّه يا يزيد ما ظنك برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لو رآنا على هذه الحال؟ وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد بنات رسول اللّه سبايا، فبكى الناس وبكى أهل داره حتى علت الأصوات، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : فقلت وأنا مغلول: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: قل ولا تقل هجراً، فقال: لقد وقفت موقفاً لاينبغي لمثلي أن يقول الهجر، ما ظنك برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لو رآني في الغل؟ فقال لمن حوله: حلّوه(3).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «لما أدخل رأس الحسين بن علي (عليه السلام) على يزيد (لعنه اللّه) وأدخل عليه علي بن الحسين (عليه السلام) وبنات أمير المؤمنين (عليه وعليهن

ص: 330


1- الإرشاد: ج2 ص120.
2- راجع أعيان الشيعة: ج1 ص615.
3- بحار الأنوار: ج45 ص132 ب39.

السلام) وكان علي بن الحسين (عليه السلام) مقيداً مغلولاً، فقال يزيد (لعنه اللّه): يا علي بن الحسين الحمد لله الذي قتل أباك!

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : لعن اللّه على من قتل أبي.

قال: فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : فإذا قتلتني فبنات رسول اللّه، من يردهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟ فقال: أنت تردهم إلى منازلهم، ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده، ثم قال له: يا علي بن الحسين أتدري ما الذي أريد بذلك؟ قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد عليّ منة غيرك، فقال يزيد: هذا واللّه ما أردت فعله، ثم قال يزيد: يا علي بن الحسين {ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}(1)..

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «كلا، ما هذه فينا نزلت، إنما نزلت فينا {مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ}(2) فنحن الذين لانأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا منها»(3).

زينب في مجلس يزيد

ثم إن زينب (عليها السلام) لما رأت رأس أخيها الحسين (عليه السلام) أمام يزيد في الطشت، أهوت إلى جيبها فشقته ثم نادت بصوت حزين يفزع القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول اللّه، يا ابن مكة ومنى، يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، يا ابن بنت المصطفى، فأبكت واللّه كل من كان في المجلس، ويزيد ساكت..

ص: 331


1- سورة الشورى: 30.
2- سورة الحديد: 22-23.
3- تفسير القمي: ج2 ص352 سورة الحديد: مكالمة بين يزيد (لعنه اللّه) وعلي بن الحسين (عليه السلام) .

ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب على الحسين (عليه السلام) وتنادي: يا حبيباه، يا سيد أهل بيتاه، يا ابن محمداه، يا ربيع الأرامل واليتامى، يا قتيل أولاد الأدعياء، فأبكت كل من سمعها(1).

يزيد ينكت ثنايا الحسين (عليه السلام)

ثم دعا يزيد (لعنه اللّه) بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السلام) ، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي، وقال: ويحك يا يزيد أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة؟ أشهد لقد رأيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة، فقتل اللّه قاتلكما ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيرا، قال: فغضب يزيد وأمر بإخراجه، فأخرج سحباً(2).

خطبة زينب (عليها السلام)

ثم قامت زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالت: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين، صدق اللّه سبحانه إذ يقول: {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّوأى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وكانُوا بِها يَسْتَهْزِئونَ}(3) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أن بنا على اللّه هواناً وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً،

ص: 332


1- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص104.
2- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص433 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام..
3- سورة الروم: 10.

حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً مهلاً أنسيت قول اللّه تعالى: {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}(1)، أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء، وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:

وأهلوا واستهلوا فرحاً***ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبد اللّه (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم يكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، اللّهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فو اللّه ما فريت إلاّ جلدك، ولا جززت إلا لحمك، ولتردن على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم

ص: 333


1- سورة آل عمران: 178.

{ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1) حسبك باللّه حاكماً، وبمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوى لك ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا، وأيكم شر مكانا وأضعف جنداً، ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل(2) وتعفوها أمهات الفراعل(3)، ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدمت وما ربك بظلاّم للعبيد، فإلى اللّه المشتكى وعليه المعول، فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك فو اللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم يناد المناد ألا لعنة اللّه على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل».

فقال يزيد:

يا صيحة تحمد من صوائح***ما أهون الموت على النوائح(4)

ص: 334


1- سورة آل عمران: 169.
2- العواسل: جمع عاسل، وهو الذئب.
3- الفراعل: جمع الفرعل، وهو ولد الضبع.
4- بحار الأنوار: ج45 ص132-135 ب39.

ويلك يا يزيد

وقال يزيد لعلي بن الحسين (عليه السلام) : يا ابن حسين أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني! فصنع اللّه به ما قد رأيت.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : {ما اَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ ولا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(1).

فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه، فلم يدر خالد ما يرد عليه، فقال له يزيد: قل {ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(2)(3).

فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا ابن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم بدر وأحُد والأحزاب في يده راية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفار، ثم جعل علي بن الحسين (عليه السلام) يقول:

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم***ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي***منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «ويلك يا يزيد، إنك لو تدري ما ذا صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال، وافترشت الرماد، ودعوت بالويل والثبور، أيكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي (عليهما السلام) منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيكم، فأبشر

ص: 335


1- سورة الحديد: 22.
2- سورة الشورى: 30.
3- الإرشاد: ج2 ص120.

بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم القيامة»(1).

هب لي هذه الجارية

قالت فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) (2): «ولما جلسنا بين يدي يزيد، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير هب لي هذه الجارية، يعينني، فأرعدت وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب (عليها السلام) وكانت تعلم أن ذلك لا يكون». وفي رواية(3) قلت: اُوتمت واُستخدم؟ فقالت عمتي (عليها السلام) للشامي: كذبتَ واللّه ولؤمتَ واللّه ما ذلك لك ولا له، فغضب يزيد وقال: كذبتِ، إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت، قالت (عليها السلام) : كلاّ واللّه ما جعل اللّه ذلك لك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها، فاستطار يزيد غضباً وقال: إياي تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك!

قالت زينب (عليها السلام) : «بدين اللّه ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً». قال: كذبتِ يا عدوة اللّه.

قالت له: أنت أمير تشتم ظالماً - أي حال كونك ظالماً - وتقهر بسلطانك.

فكأنه استحيا وسكت. وعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية، فقال له يزيد: أعزب، وهب اللّه لك حتفا قاضيا(4).

وفي رواية: قالت أم كلثوم للشامي: اسكت يا لكع الرجال، قطع اللّه

ص: 336


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص436 باب فيما وقع من خروج أهل البيت من الكوفة إلى الشام..
2- وفي بعض المصادر فاطمة بنت علي (عليها السلام) .
3- انظر مثير الأحزان: ص80.
4- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1 ص474-475 باب السبايا في مجلس يزيد (لعنه اللّه).

لسانك، وأعمى عينيك، وأيبس يديك، وجعل النار مثواك، إن أولاد الأنبياء لا يكونون خدمة لأولاد الأدعياء. قال: فو اللّه ما استتم كلامها حتى أجاب اللّه دعاءها في ذلك الرجل، فقالت: الحمد لله الذي عجّل لك العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فهذا جزاء من يتعرض لحرم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).

وهناك شامي آخر جاء وطلب من يزيد أن يهب له بعض بنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال الشامي من هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب! فقال الشامي: الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب؟ قال: نعم، فقال الشامي: لعنك اللّه يا يزيد أتقتل عترة نبيك وتسبي ذريته؟ واللّه ما توهمت إلاّ أنهم سبي الروم، فقال يزيد: واللّه لألحقنك بهم، ثم أمر به فضرب عنقه(2).

ويلك أيها الخاطب

ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه (صلوات اللّه عليهما) فصعد وبالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد (صلوات اللّه عليهما) والمدح لمعاوية ويزيد!

فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام) : «ويلك أيها الخاطب، اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار»(3).

ص: 337


1- بحار الأنوار: ج45 ص137 ب39.
2- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص108-109.
3- مثير الأحزان: ص81، وقال السيد ابن طاووس أيضاً في اللّهوف ص109: ولقد أجاد ابن سنان الخفاجي بقوله: أعلى المنابر تعلنون بسبه***وبسيفه نصبت لكم أعوادها

وروي أنه لما أتي بعلي بن الحسين (عليه السلام) ورأس أبيه إلى يزيد بالشام، قال يزيد لخطيب بليغ: خذ بيد هذا الغلام فأت به إلى المنبر وأخبر الناس بسوء رأي أبيه وجده وفراقهم الحق وبغيهم علينا، قال: فلم يدع شيئاً من المساوي إلاّ ذكره فيهم، فلما نزل قام علي بن الحسين (عليه السلام) فحمد اللّه بمحامد شريفة وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلاة بليغة موجزة ثم قال: «يا معشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى، أنا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى، أيها الناس إن اللّه تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن، حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا، فضّلنا أهل البيت بست خصال: فضّلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبة والمحلة في قلوب المؤمنين، وآتانا ما لم يؤت أحداً من العالمين من قبلنا، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب.

فلما خاف يزيد الفتنة أمر المؤذن أن يؤذن(1)، فلما قال المؤذن: اللّه أكبر، قال

ص: 338


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص139 ب39، الفتوح: ج5 ص133.

علي (عليه السلام) : اللّه أكبر كبيراً، فقال المؤذن: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، فقال علي (عليه السلام) : أشهد بما تشهد به، فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول اللّه، قال علي (عليه السلام) : يا يزيد هذا جدي أو جدك؟ فإن قلت: جدك فقد كذبت، وإن قلت: جدي فلمَ قتلت أبي وسبيت حرمه وسبيتني؟ ثم قال: معاشر الناس هل فيكم من أبوه وجده رسول اللّه؟ فعلت الأصوات بالبكاء.

فقام إليه رجل من شيعته يقال له المنهال بن عمرو(1)، وفي رواية(2) مكحول(3)، فقال له: كيف أمسيت يا ابن رسول اللّه؟ فقال: ويحك كيف أمسيت؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منها، وأمست قريش تفتخر على العرب بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منها، وأمسى آل محمد (عليهم السلام) مقهورين مخذولين، فإلى اللّه نشكو كثرة عدونا، وتفرق ذات بيننا وتظاهر الأعداء علينا(4).

خطبة الإمام زين العابدين (عليه السلام)

روي أن يزيد (لعنه اللّه) أمر بمنبر وخطيب ليخبر الناس بمساوي الحسين وعلي (عليهما السلام) وما فعلا!، فصعد الخطيب المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين (عليهما السلام) ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد فذكرهما بكل جميل..

ص: 339


1- هو المنهال بن عمرو الأسدي من أسد خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، مولاهم الكوفي كان حسن الصوت، وثقه جمع من علماء العامة وضعفه البعض لكونه شيعياً.
2- وهي رواية الطبرسي ت 548ه، انظر الاحتجاج: ج2 ص39 احتجاج السجاد (عليه السلام) على يزيد.
3- مكحول الشامي فقيه أهل الشام وهو من التابعين، روى عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرسلاً، كما روى عن جماعة من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اختلف في سنة موته من سنة 112-118ه.
4- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص305 باب إمامة علي بن الحسين (عليهما السلام) .

فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام) : «ويلك أيها الخاطب، اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار».

ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا يزيد، ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب».

فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا أمير، ائذن له فليصعد المنبر، فلعلنا نسمع منه شيئاً. فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان، فقيل له: يا أمير وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إنه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زقّاً، فلم يزالوا به حتى أذن له.

فصعد (عليه السلام) المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب، ثم قال: «أيها الناس اُعطينا ستاً وفُضّلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأن منّا النبي المختار محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد اللّه وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأمة، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيها الناس أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلا اللّه، أنا ابن من ضرب بين يدي

ص: 340

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحُنين، ولم يكفر باللّه طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حُرم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي اللّه على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين اللّه، وولي أمر اللّه، وبستان حكمة اللّه، وعيبة علمه، سمح سخيّ بهيّ، بهلول زكي، أبطحي رضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكي مدني، خيفي عقبي، بدري أحُدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين: الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) »..

ثم قال: «أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء»، فلم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد (لعنه اللّه) أن يكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام، فلما قال المؤذن: اللّه أكبر، اللّه أكبر، قال علي (عليه السلام) : «لا شي ء أكبر من اللّه»، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه، قال علي

ص: 341

بن الحسين (عليه السلام) : «شهد بها شعري بشري ولحمي ودمي»، فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول اللّه، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: «محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا جدي أم جدك يا يزيد، فإن زعمتَ أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته»؟ قال: وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلى صلاة الظهر(1).

يا سبحان اللّه

وروي أنه كان في مجلس يزيد هذا حبر من أحبار اليهود فقال: من هذا الغلام يا أمير؟ قال يزيد: هو علي بن الحسين. قال: فمن الحسين؟ قال: ابن علي بن أبي طالب، قال: فمن أمه؟ قال: أمه فاطمة بنت محمد، فقال الحبر: يا سبحان اللّه فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة، بئسما خلفتموه في ذريته، واللّه لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون ربنا، وإنكم إنما فارقكم نبيكم بالأمس، فوثبتم على ابنه فقتلتموه، سوءةً لكم من أمة!.

فأمر به يزيد (لعنه اللّه) فوجئ في حلقه ثلاثاً، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم فاقتلوني أو فذروني، فإني أجد في التوراة: أن من قتل ذرية نبي لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه اللّه نار جهنم(2).

وروي أن رأس الجالوت قال: واللّه إن بيني وبين داود لسبعين أباً وإن اليهود تلقاني فتعظمني، وأنتم ليس بين ابن نبيكم وبينه إلاّ أب واحد قتلتم ولده!(3).

ص: 342


1- بحار الأنوار: ج45 ص137-139 ب39.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص440 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام..
3- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص110.

رسول ملك الروم

روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : أنه لما أتي برأس الحسين (عليه السلام) إلى يزيد كان يتخذ مجالس الشراب ويأتي برأس الحسين (عليه السلام) ويضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الروم، وكان من أشراف الروم وعظمائهم، فقال: يا ملك العرب هذا رأس من؟ فقال له يزيد: ما لك ولهذا الرأس؟ فقال: إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شي ء رأيته فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه حتى يشاركك في الفرح والسرور، فقال له يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، فقال الرومي: ومن أمه؟ فقال: فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال النصراني: أف لك ولدينك، لي دين أحسن من دينك، إن أبي من حوافد داود (عليه السلام) وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظموني ويأخذون من تراب قدمي تبركاً بأبي من حوافد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما بينه وبين نبيكم إلا أم واحدة، فأي دين دينكم.

ثم قال ليزيد: هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟ فقال له: قل حتى أسمع.

فقال: بين عمان والصين بحر مسيرة سنة ليس فيها عمران إلاّ بلدة واحدة في وسط الماء طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت أشجارهم العود والعنبر وهي في أيدي النصارى، لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر في محرابها حقة ذهب معلقة، فيها حافر يقولون إن هذا حافر حمار كان يركبه عيسى (عليه السلام) وقد زينوا حول الحقة بالذهب والديباج يقصدها في كل عام عالم من النصارى ويطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم إلى اللّه تعالى، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى (عليه السلام)

ص: 343

نبيهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم! فلا بارك اللّه تعالى فيكم ولا في دينكم.

فقال يزيد: اقتلوا هذا النصراني لئلا يفضحني في بلاده، فلما أحس النصراني بذلك قال له: تريد أن تقتلني؟ قال: نعم، قال: اعلم أني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول لي: يا نصراني أنت من أهل الجنة، فتعجبت من كلامه، وأنا أشهد أن لاإله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. ثم وثب إلى رأس الحسين (عليه السلام) فضمه إلى صدره وجعل يقبّله ويبكي حتى قُتل(1).

نساء يزيد يندبن الحسين (عليه السلام)

لما خاف يزيد فتنة الناس، أخرج أهل بيت الحسين (عليه السلام) من الخربة وأمرهم بأن يدخلوا داره، فلما دخلت النسوة دار يزيد لم يبق من آل معاوية ولا أبي سفيان أحد إلاّ استقبلهن بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين (عليه السلام) وألقين ما عليهن من الثياب والحلي وأقمن المأتم عليه ثلاثة أيام، وخرجت هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز امرأة يزيد - وكانت قبل ذلك تحت الحسين (عليه السلام) - حتى شقت الستر وهي حاسرة فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عام، فقالت: يا يزيد أرأس ابن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مصلوب على فناء بابي، فوثب إليها يزيد فغطاها وقال: نعم فاعولي عليه يا هند وأبكي على ابن بنت رسول اللّه وصريخة قريش، عجل عليه ابن زياد (لعنه اللّه) فقتله قتله اللّه، ثم إن يزيد (لعنه اللّه) أنزلهم في داره الخاصة(2).

ص: 344


1- بحار الأنوار: ج45 ص141-142 ب39.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص443-444 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام..

كيف أمسيت؟

وخرج الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوماً يمشي في أسواق دمشق، فلقيه المنهال بن عمرو فقال: كيف أمسيت يا ابن رسول اللّه؟

قال (عليه السلام) : «أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون، يُذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عربي، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منها، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرّدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون مما أمسينا فيه يا منهال»(1).

يعظمون له أعواد منبره***وتحت أرجلهم أولاده وضعوا

بأي حكم بنوه يتبعونكم***وفخركم أنكم صحب له تبع(2)

يزيد يأمر بقتل زين العابدين (عليه السلام)

ثم إن يزيد أراد أكثر من مرة أن يقتل الإمام زين العابدين (عليه السلام) ولكنه لم يقدر على ذلك وخاف الفتنة، بل يستفاد من بعض النصوص أن يزيد همّ بقتل جميع الأسرى حتى النساء، لينهي بذلك العترة الطاهرة، حيث قتل معظمهم في كربلاء وأراد أن يقتل الباقين منهم في الشام، ولكن الرأي العام منعه من ذلك فخاف على كرسيه، فتظاهر بإكرام الأسرى، ولَعَن ابن زياد الذي قتل الحسين (عليه السلام) ..

وفي السر كان يأمر بقتل الإمام زين العابدين (عليه السلام) ولكن اللّه لم يشأ إلاّ أن تبقى العترة الطاهرة (عليهم السلام) ولا تخلو الأرض من الحجة.

ص: 345


1- انظر مثير الأحزان: ص84.
2- قاله مهيار الديلمي (رحمه اللّه) ، انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص112.

قال المدائني: لما انتسب السجاد إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال يزيد لجلوازه: أدخله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه، فدخل به إلى البستان وجعل يحفر والسجاد (عليه السلام) يصلّي، فلما همّ بقتله ضربته يد من الهواء فخر لوجهه وشهق ودهش، فرآه خالد بن يزيد وليس لوجهه بقية فانقلب إلى أبيه وقص عليه، فأمر يزيد بدفن الجلواز في الحفرة وإطلاقه، قالوا: وموضع حبس زين العابدين (عليه السلام) هو اليوم مسجد(1).

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : لما أتي بعلي بن الحسين (عليه السلام) يزيدَ بن معاوية ومن معه جعلوه في بيت، فقال بعضهم: إنما جُعلنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا، فراطن الحرس فقالوا: انظروا إلى هؤلاء يخافون أن تقع عليهم البيت وإنما يخُرجون غداً فيُقتلون..

قال علي بن الحسين (عليه السلام) : لم يكن فينا أحد يحسن الرطانة غيري، والرطانة عند أهل المدينة الرومية(2).

وروي أنه لما حمل علي بن الحسين (عليه السلام) إلى يزيد (لعنه اللّه) همّ بضرب عنقه، فوقفه بين يديه وهو يكلمه ليستنطقه بكلمة يوجب بها قتله، وعلي (عليه السلام) يجيبه حسب ما يكلمه وفي يده سبحة صغيرة يديرها بأصابعه، وهو يتكلم.

فقال له يزيد: أنا أكلمك وأنت تجيبني وتدير أصابعك بسبحة في يدك فكيف يجوز ذلك؟

فقال (عليه السلام) : «حدثني أبي (عليه السلام) عن جدي (عليه السلام) أنه كان إذا صلى الغداة وانفتل

ص: 346


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص309 باب إمامة علي بن الحسين (عليه السلام) .
2- بصائر الدرجات: ج6 ص358 باب12 ح1.

لايتكلم حتى يأخذ سبحة بين يديه فيقول: (اللّهمَّ إنّي أصْبَحْتُ أُسَبّحُكَ وَأحْمَدُكَ وَأُهَلّلُكَ وَأُمجّدُكَ بِعَدَدِ مَا أديرُ بِهِ سِبْحَتِي) ويأخذ السبحة ويديرها وهو يتكلم بما يريد من غير أن يتكلم بالتسبيح، وذكر أن ذلك محتسب له، وهو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا آوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ووضع سبحته تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت، ففعلت هذا اقتداءً بجدي».

فقال له يزيد: لست أكلم أحداً منكم إلاّ ويجيبني بما يفوز به، وعفا عنه، ووصله، وأمر بإطلاقه(1)،

وذلك بعد ما رأى أنه لا يمكنه أن يقتل الإمام (عليه السلام) حيث خاف الفتنة.

عند الخروج من الشام

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) ليزيد عندما أرادوا الخروج من الشام: «ردّ علينا ما اُخذ منا»..

فقال يزيد: أما ما أخذ منكم فأنا أعوّضكم عنه أضعاف قيمته.

فقال (عليه السلام) : «أما مالك فما نريده فهو موفر عليك، وإنما طلبت ما اُخذ منا لأن فيه مغزل فاطمة (عليها السلام) بنت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومقنعتها وقلادتها وقميصها».

فأمر يزيد بردّ ذلك، وزاد فيه من عنده مائتي دينار، فأخذها زين العابدين (عليه السلام) وفرّقها في الفقراء، ثم أمر برد الأسارى وسبايا البتول إلى أوطانهن بمدينة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

وقال يزيد: يا أم كلثوم خذوا هذا المال عوض ما أصابكم!

ص: 347


1- الدعوات، لقطب الدين الراوندي: ص61-62.
2- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص113-114.

فقالت أم كلثوم (عليها السلام) : «يا يزيد ما أقلّ حياؤك وأصلب وجهك؟ تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم»(1).

ص: 348


1- بحار الأنوار: ج45 ص197 ب39.

38

الرجوع إلى كربلاء

إن يزيد لما لم يتمكن من قتل الإمام زين العابدين (عليه السلام) وسائر الأسرى حيث خاف الفتنة، فإن الناس قد عرفوا منزلة أهل البيت (عليهم السلام) وأخذوا يبكون عليهم ويندبونهم، وحتى نساء آل يزيد في قصره أخذوا بالبكاء والنحيب على الإمام الحسين (عليه السلام) .. أخذ يزيد يتظاهر بإكرامهم، وعرض عليهم المقام بدمشق، فأبوا ذلك وقالوا: بل ردّنا إلى المدينة فإنه مهاجر جدنا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال للنعمان بن بشير صاحب(1) رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : جهّز هؤلاء بما يصلحهم وابعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معهم خيلاً وأعواناً، ثم كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق والأنزال، ثم دعا بعلي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: لعن اللّه ابن مرجانة، أما واللّه لو كنت صاحبه ما سألني خلة إلاّ أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما قدرت عليه ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى اللّه ما رأيت، فكاتبني وأنه إليّ كل حاجة تكون لك، ثم أوصى بهم الرسول.

فخرج بهم الرسول يسايرهم فيكون أمامهم فإذا نزلوا تنحى عنهم وتفرق هو وأصحابه كهيئة الحرس ثم ينزل بهم حيث أراد أحدهم الوضوء ويعرض عليهم

ص: 349


1- مات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وللنعمان تسع سنوات، وجاء هذا الوصف بلفظ صاحب المناقب.

حوائجهم ويلطفهم حتى دخلوا كربلاء يوم الأربعين من نفس السنة، ثم المدينة(1).

وهذا كله دليل على انتصار الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة ضد الطغاة والظالمين، حيث اضطر يزيد أن يتظاهر بإكرامهم، خوف الفتنة.

ولما بلغ الإمام زين العابدين (عليه السلام) ونساء الحسين (عليه السلام) وعياله إلى العراق قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبداللّه الأنصاري (رحمه اللّه) وجماعة من بني هاشم ورجلاً من آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المأتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد وأقاموا على ذلك أياماً(2).

روي عن عطية قال: فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام فقلت يا جابر: هذا سواد قد طلع من ناحية الشام.

فقال جابر: لعبده انطلق إلى هذا السواد وائتنا بخبره فإن كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلّنا نلجأ إلى ملجأ، وإن كان زين العابدين (عليه السلام) فأنت حرّ لوجه اللّه تعالى.

قال: فمضي العبد فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول: ياجابر قم واستقبل حرم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا زين العابدين (عليه السلام) قد جاء بعماته وأخواته!.

فقام جابر (رحمه اللّه) يمشي حافي الأقدام مكشوف الرأس إلى أن دنا من الإمام زين

ص: 350


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص146-147 ب39.
2- انظر اللّهوف في قتلى الطفوف: ص114.

العابدين (عليه السلام) .. فقال الإمام: «أنت جابر»؟

فقال: نعم يا ابن رسول اللّه.

فقال: «يا جابر ههنا واللّه قُتلت رجالنا وذُبحت أطفالنا وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا»(1).

ص: 351


1- لواعج الأشجان: ص241-242.

39

الرجوع إلى المدينة

اشارة

ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة، قال بشير بن حذلم: فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين (عليه السلام) ، فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: «يا بشير رحم اللّه أباك، لقد كان شاعراً فهل تقدر على شي ء منه»؟ قلت: بلى يا ابن رسول اللّه إني لشاعر، قال (عليه السلام) : «فادخل المدينة وانعَ أبا عبد اللّه» قال بشير: فركبت فرسي وركزت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مُقام لكم بها***قُتل الحسين فادمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّج***والرأس منه على القناة يُدار

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين (عليه السلام) مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه، فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلاّ برزن من خدورهن مكشوفة شعورهن(1)، مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه، وسمعت جارية تنوح على

ص: 352


1- كشف الشعر في أوساط النساء كما هو متعارف في مجالس العزاء عند العرب وليس أمام الأجانب كما هو واضح. منه+.

الحسين (عليه السلام) فتقول:

نعى سيدي ناع نعاه فأوجعا***وأمرضني ناع نعاه فأفجعا

فعينيّ جودا بالدموع وأسكبا***وجودا بدمع بعد دمعكما معا

على من دهى عرش الجليل فزعزعا***فأصبح هذا المجد والدين أجدعا

علي ابن نبي اللّه وابن وصيه***وإن كان عنا شاحط الدار أشسعا(1) ثم قالت: أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد اللّه، وخدشت منا قروحاً لما تندمل، فمن أنت رحمك اللّه؟ فقلت: أنا بشير بن حذلم وجّهني مولاي علي بن الحسين (عليهما الصلاة والسلام) وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد اللّه (عليه السلام) ونسائه.

قال: فتركوني مكاني وبادروا، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) داخلاً ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له وجلس (عليه السلام) عليه وهو لا يتمالك من العبرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وحنين الجواري والنساء، والناس من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة(2).

خطبة زين العابدين (عليه السلام) في المدينة

فأومأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) بيده: أن اسكتوا، فسكنت فورتهم.

فقال (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن

ص: 353


1- أجدع:الجدع قطع الأنف ويراد منه ذهاب كرامة الدين بقتله (عليه السلام) ، شاحط الدار أشسعا: أي بعيد الدار.
2- بحار الأنوار: ج45 ص147-148 ب39.

الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعُد فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاضعة، الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها الناس، إن اللّه - وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد اللّه (عليه السلام) وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟

أم أية عين منكم تحبس دمعها، وتضن عن انهمالها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار، والملائكة المقربون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحنّ إليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم.

أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأنا أولاد ترك وكابل(1)، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، {مَاْ سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ}(2) واللّه لو أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها

ص: 354


1- سورة ص: 7.
2- كان الترك وأهل كابل آنذاك كفاراً.

وأكظها وأفظها وأمرّها وأفدحها، فعند اللّه نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا إنه عزيز ذو انتقام».

قال: فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان(1) وكان زمناً، فاعتذر إليه صلوات اللّه عليه بما عنده من زمانة رجليه، فأجابه (عليه السلام) بقبول معذرته وحسن الظن فيه، وشكر له وترحم على أبيه(2).

أم كلثوم (عليها السلام) في المدينة

وأما أم كلثوم (عليها السلام) فحين توجهت إلى المدينة جعلت تبكي، وتقول:

مدينة جدنا لا تقبلينا***فبالحسرات والأحزان جئنا

ألا فأخبر رسول اللّه عنا***بأنا قد فجعنا في أبينا

وأن رجالنا بالطف صرعى***بلا رؤوس وقد ذبحوا البنينا

وأخبر جدنا أنا أسرنا***وبعد الأسر يا جدا سبينا

ورهطك يا رسول اللّه أضحوا***عرايا بالطفوف مسلبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا***جنابك يا رسول اللّه فينا

فلو نظرت عيونك للأسارى***على أقتاب الجمال محملينا

رسول اللّه بعد الصون صارت***عيون الناس ناظرة إلينا

ص: 355


1- صوحان بن صعصعة بن صوحان: والده صعصعة بن صوحان بن حجر بن الحارث العبدي من سادات عبد قيس كوفي من أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام) ، ومن المخلصين لعلي (عليه السلام) وممن شهد معه في حرب صفين وكانت له مواقف مشهورة، كان خطيباً بليغاً، حتى أن الشعبي قال: إنني كنت أتعلم الخطب منه، نفاه معاوية لعدم رضوخه للعن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى جزيرة في البحرين فمات بها سنة 56ه.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص447-449 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام ومنه إلى المدينة.

وكنت تحوطنا حتى تولت***عيونك ثارت الأعدا علينا

أفاطم لو نظرت إلى السبايا***بناتك في البلاد مشتتينا

أفاطم لو نظرت إلى الحيارى***ولو أبصرت زين العابدينا

أفاطم لو رأيتينا سهارى***ومن سهر الليالي قد عمينا

أفاطم ما لقيتي من عداكي***ولا قيراط مما قد لقينا

فلو دامت حياتك لم تزالي***إلى يوم القيامة تندبينا

وعرّج بالبقيع وقف وناد***أيا ابن حبيب رب العالمينا

وقُل يا عم يا حسن المزكى***عيال أخيك أضحوا ضائعينا

أيا عماه إن أخاك أضحى***بعيداً عنك بالرمضا رهينا

بلا رأس تنوح عليه جهرا***طيور والوحوش الموحشينا

ولو عاينت يا مولاي ساقوا***حريماً لا يجدن لهم معينا

على متن النياق بلا وطاء***وشاهدت العيال مكشفينا

مدينة جدنا لا تقبلينا***فبالحسرات والأحزان جئنا

خرجنا منك بالأهلين جمعا***رجعنا لا رجال ولا بنينا

وكنا في الخروج بجمع شمل***رجعنا حاسرين مسلّبينا

وكنا في أمان اللّه جهرا***رجعنا بالقطيعة خائفينا

ومولانا الحسين لنا أنيس***رجعنا والحسين به رهينا

فنحن الضائعات بلا كفيل***ونحن النائحات على أخينا

ونحن السائرات على المطايا***نُشال على جمال المبغضينا

ونحن بنات يس وطه***ونحن الباكيات على أبينا

ونحن الطاهرات بلا خفاء***ونحن المخلصون المصطفونا

ونحن الصابرات على البلايا***ونحن الصادقون الناصحونا

ألا يا جدنا قتلوا حسيناً***ولم يرعوا جناب اللّه فينا

ص: 356

ألا يا جدنا بلغت عدانا***مناها واشتفى الأعداء فينا

لقد هتكوا النساء وحملوها***على الأقتاب قهراً أجمعينا

وزينب أخرجوها من خباها***وفاطم واله تبدي الأنينا

سكينة تشتكي من حر وجد***تنادي الغوث رب العالمينا

وزين العابدين بقيد ذل***وراموا قتله أهل الخؤونا

فبعدهم على الدنيا تراب***فكأس الموت فيها قد سقينا

وهذي قصتي مع شرح حالي***ألا يا سامعون ابكوا علينا(1)

زينب (عليها السلام) في المدينة

قال الراوي: وأما زينب (عليها السلام) فأخذت بعضادتي باب مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ونادت: «يا جداه إني ناعية إليك أخي الحسين (عليه السلام) »، وهي مع ذلك لا تجف لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلما نظرت (عليها السلام) إلى علي بن الحسين (عليه السلام) تجدد حزنها وزاد وجدها(2).

ص: 357


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص197-198 ب39.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص424 باب فيما وقع من خروج أهل البيت (عليهم السلام) من الكوفة إلى الشام ومنه إلى المدينة.

40

أحداث كونية

اشارة

هناك أحداث كونية كثيرة حدثت لمصرع الإمام الحسين (عليه السلام) .. فاظلمت الدنيا وهبت الرياح السوداء واحمرت السماوات والأرضون، وما من شيء في الكون إلاّ بكى على الإمام الحسين (عليه السلام) وانقلب دماً عبيطاً.

قال ميثم التمار (رحمه اللّه) (1): «واللّه لتقتل هذه الأمة ابن نبيها في المحرم لعشر يمضين منه، وليتخذن أعداء اللّه ذلك اليوم يوم بركة، وإن ذلك لكائن قد سبق في علم اللّه تعالى ذكره، أعلم ذلك بعد عهده إليّ مولاي أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) ولقد أخبرني أنه يبكي عليه كل شي ء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحر والطير في السماء، ويبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض ومؤمنو الإنس والجن، وجميع ملائكة السماوات والأرضين ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً»، ثم قال: «وجبت لعنة اللّه على قتلة الحسين كما وجبت على المشركين الذين يجعلون مع اللّه إلهاً آخر، وكما

ص: 358


1- ميثم بن يحيى التمار من أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن والحسين صلوات اللّه عليهم، من أجلة أصحاب علي (عليه السلام) ومن أصفيائه ومن شرطة الخميس ومن الأركان الاربعة، قتله ابن زياد قبل عشرة أيام من مقدم الإمام الحسين (عليه السلام) العراق، بعد أن صلبه وقطع لسانه وكان ممن أفضى إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) علم المنايا والبلايا ومناقبه كثيرة.

وجبت على اليهود والنصارى والمجوس».

قالت جبلة: فقلت له: يا ميثم فيكف يتخذ الناس ذلك اليوم الذي قُتل فيه الحسين (عليه السلام) يوم بركة؟

فبكى ميثم (رحمه اللّه) ثم قال: «يزعمون لحديث يضعونه أنه اليوم الذي تاب اللّه فيه على آدم (عليه السلام) ، وإنما تاب اللّه على آدم (عليه السلام) في ذي الحجة، ويزعمون أنه اليوم الذي قبل اللّه فيه توبة داود (عليه السلام) ، وإنما قبل اللّه عزوجل توبته في ذي الحجة، ويزعمون أنه اليوم الذي أخرج اللّه فيه يونس (عليه السلام) من بطن الحوت، وإنما أخرج اللّه عزوجل يونس (عليه السلام) من بطن الحوت في ذي الحجة، ويزعمون أنه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح (عليه السلام) على الجودي، وإنما استوت على الجودي في يوم الثامن عشر من ذي الحجة، ويزعمون أنه اليوم الذي فلق اللّه عزوجل فيه البحر لبني إسرائيل، وإنما كان ذلك في ربيع الأول»..

ثم قال ميثم (رحمه اللّه) : «يا جبلة، اعلمي أن الحسين بن علي (عليه السلام) سيد الشهداء يوم القيامة ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلة إذا نظرت إلى السماء حمراء كأنها دم عبيط فاعلمي أن سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) قد قُتل».

قالت جبلة: فخرجت ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة فصحت حينئذ وبكيت، وقلت: قد واللّه قُتل سيدنا الحسين بن علي (عليه السلام) (1)..

وعن هارون(2) قال: سأل رجل أبا عبد اللّه الصادق (عليه السلام) وأنا عنده فقال: ما

ص: 359


1- علل الشرائع: ج1 ص228 ب162 ح3.
2- هارون بن خارجة الصيرفي أبو الحسن الكوفي، إمامي ثقة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) .

لمن زار قبر الحسين (عليه السلام) ؟

فقال: «إن الحسين (عليه السلام) لما أصيب بكته حتى البلاد، فوكّل اللّه به أربعة آلاف ملك شعثاً غبراً يبكونه إلى يوم القيامة...»(1).

بكاء السماء والأرض

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما مر عليه رجل عدوٌ لله ولرسوله، فقال (عليه السلام) : {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ وما كانُوا مُنْظَرِينَ}(2)، ثم مرّ عليه الحسين بن علي (عليه السلام) فقال (عليه السلام) : «لكن هذا لتبكين عليه السماء والأرض» وقال (عليه السلام) : «وما بكت السماء والأرض إلاّ على يحيى بن زكريا والحسين بن علي صلوات اللّه عليهما»(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «زوروه - أي الإمام الحسين (عليه السلام) - ولا تجفوه، فإنه سيد شباب الشهداء وسيد شباب أهل الجنة، وشبيه يحيى بن زكريا (عليه السلام) ، وعليهما بكت السماء والأرض»(4).

وفي خبر ابن شبيب عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «لقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله (عليه السلام) »(5).

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن أبا عبد اللّه الحسين بن علي (عليه السلام) لما قضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، ومن

ص: 360


1- كامل الزيارات: ص175 ب27 ح14.
2- سورة الدخان: 29.
3- غاية المرام: ج4 ص374 ب248 ح1.
4- قرب الإسناد، عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ص99-100 باب أحاديث متفرقة ح336.
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص268 ب28 ح58.

ينقلب في الجنة والنار مِن خلق ربنا، وما يُرى وما لا يُرى»(1).

وفي كامل الزيارات(2) عن زرارة قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا زرارة إن السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم، وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإن الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت، وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين (عليه السلام) ، وما اختضبت منا امرأة ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجلت، حتى أتانا رأس عبيد اللّه بن زياد (لعنه اللّه)، وما زلنا في عبرة بعده، وكان جدي (عليه السلام) إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه رحمةً له من رآه، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة، ولقد خرجت نفسه (عليه السلام) فزفرت جهنم زفرة كادت الأرض تنشق لزفرتها»(3).

وفي رواية: خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) فجلس في المسجد واجتمع أصحابه حوله، فجاء الحسين (عليه السلام) حتى قام بين يديه، فوضع يده على رأسه، فقال (عليه السلام) : «يا بني إن اللّه عير أقواماً في القرآن، فقال: {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والْأَرْضُ وما كانُوا

ص: 361


1- الكافي: ج4 ص575-576 باب زيارة قبر أبي عبداللّه الحسين بن علي (عليه السلام) من أبواب الزيارات ح2.
2- كتاب كامل الزيارات للشيخ الجليل أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه من تلامذة الشيخ الكليني ومن مشايخ الشيخ المفيد، والكتاب يحتوي على (108) أبواب في مختلف المواضيع المرتبطة بالزيارات وتحتوي الأبواب على (843) حديثاً، ويُعدّ الكتاب من الأصول المعتمدة في هذا الموضوع ويعتبر من أصح الكتب الحديثية من ناحية الأسانيد.
3- كامل الزيارات: ص167-168 ب26 ح8.

مُنْظَرِينَ}(1) وأيم اللّه لتُقتلنّ من بعدي ثم تبكيك السماء والأرض»(2).

وقال الراوي(3): سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: {لَمْ نَجْعَلْ له مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}(4): الحسين بن علي (عليه السلام) لم يكن له من قبل سمياً، ويحيى بن زكريا (عليه السلام) لم يكن له من قبل سمياً، ولم تبك السماء إلاّ عليهما أربعين صباحاً، قال: قلت: وما بكاؤها؟ قال (عليه السلام) : كانت تطلع حمراء وتغرب حمراء»(5).

وروي: «لما قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) أمطرت السماء تراباً أحمر»(6).

دم عبيط

عن فاطمة بنت علي (عليه السلام) قالت: «ولم يُرفع ببيت المقدس حجر عن وجه الأرض إلاّ وجد تحته دم عبيط، وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج علي بن الحسين (عليه السلام) بالنسوة، وردّ رأس الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء»(7).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث(8): «يا ابن عباس إذا رأيتها(9) تنفجر دماً عبيطاً، فاعلم أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) قد قُتل بها ودفن» قال ابن عباس: فو اللّه لقد

ص: 362


1- سورة الدخان: 29.
2- مدينة المعاجز: ج4 ص142 فصل 175 ح1142/195.
3- هو عبدالخالق بن عبد ربه الصيرفي الأسدي بالولاء إمامي ثقة من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) .
4- سورة مريم: 7.
5- مدينة المعاجز: ج3 ص444-445 فصل9 ح962/15.
6- بحار الأنوار: ج45 ص211 ب40 ح25.
7- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص231-232 المجلس31 ح4.
8- قد مرت الإشارة إليه تحت عنوان (عيسى (عليه السلام) في كربلاء).
9- أي البعر الذي أراه إياها علي (عليه السلام) في أرض كربلاء. منه+.

كنت أحفظها أكثر من حفظي لبعض ما افترض اللّه عزّوجل عليّ وأنا لا أحلها من طرف كمي، فبينا أنا في البيت نائم إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً، وكان كمي قد امتلأت دماً عبيطاً، فجلست وأنا أبكي وقلت: قُتل واللّه الحسين (عليه السلام) واللّه ما كذبني علي (عليه السلام) قط في حديث حدثني، ولا أخبرني بشي ء قط أنه يكون إلاّ كان كذلك، لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره، ففزعت وخرجت، وذلك كان عند الفجر فرأيت واللّه المدينة كأنها ضباب لا يستبين فيها أثر عين، ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط، فجلست وأنا باك وقلت: قُتل واللّه الحسين (عليه السلام) فسمعت صوتاً من ناحية البيت، وهو يقول:

اصبروا آل الرسول***قُتل الفرخ النحول

نزل الروح الأمين***ببكاء وعويل

ثم بكى بأعلى صوته وبكيت، وأثبت عندي تلك الساعة وكان شهر المحرم ويوم عاشوراء لعشر مضين منه، فوجدته يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك(1).

وروي عن رجل من أهل بيت المقدس أنه قال:

واللّه لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشيةً، قتلَ الحسين بن علي (عليه السلام) .. قلت: وكيف ذاك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً وصخراً إلاّ ورأينا تحتها دماً عبيطاً يغلي، واحمرت الحيطان كالعلق، ومُطرنا ثلاثة أيام دماً عبيطاً، وسمعنا منادياً ينادي في جوف الليل، يقول:

أترجو أمة قتلت حسينا***شفاعة جده يوم الحساب

ص: 363


1- كمال الدين: ص534-535 ب48 ح1.

معاذ اللّه لا نلتم يقينا***شفاعة أحمد وأبي تراب

قتلتم خير من ركب المطايا***وخير الشيب طرّا والشباب

وانكسفت الشمس ثلاثاً ثم تجلت عنها، وانشبكت النجوم، فلما كان من غد أرجفنا بقتله، فلم يأت علينا كثير شي ء حتى نُعي إلينا الحسين (عليه السلام) (1).

وعن الزهري قال: لما قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) لم تُقلب ببيت المقدس حصاة إلاّ وجد تحتها دم عبيط(2).

وقالت نضرة الأزدية(3):

لما قُتل الحسين (عليه السلام) أمطرت السماء دماً، وحبابنا وجرارنا صارت مملوة دماً(4).

وروي: «لما قتل الحسين (عليه السلام) مطرت السماء دماً، فأصبحت وكل شي ء لنا مُلئ دماً»(5).

وفي صحيح مسلم في تفسير قوله تعالى: {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ} قال: لما قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) بكت السماء وبكاؤها حمرتها(6).

وقال قرظة بن عبيد اللّه: مطرت السماء يوماً نصف النهار على شملة بيضاء، فنظرت فإذا هو دم، وذهبت الإبل إلى الوادي لتشرب فإذا هو دم، وإذا هو اليوم

ص: 364


1- كامل الزيارات: ص160-161 ب24 ح2.
2- الملاحم والفتن، للسيد ابن طاووس: ص336-337 ب34 ح494.
3- نضرة الأزدية: أم موسى من أهل البصرة وممن روت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن رواياتها عنه قوله (عليه السلام) : «مارمدت مذ تفل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عيني».
4- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص212 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
5- إعلام الورى: ج1 ص431 الفصل الثالث: بعض خصائصه ومناقبه (عليه السلام) .
6- نقله عن صحيح مسلم ابن البطريق في العمدة: ص405 فصل في مناقب الحسن والحسين (عليهما السلام) ح835، وابن طاووس في الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ص203 ح293 وغيرهما.

الذي قُتل فيه الحسين (عليه السلام) (1).

وقال الصادق (عليه السلام) : «بكت السماء على الحسين (عليه السلام) أربعين يوماً بالدم»(2).

وروي: لما قُتل الحسين (عليه السلام) صار الورس دماً، وانكسفت الشمس إلى ثلاثة أسبات(3)، وما في الأرض حجر إلاّ وتحته دم، وناحت عليه الجن كل يوم فوق قبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى سنة كاملة(4).

نوح الملك

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين (عليه السلام) »(5).

وقال الصادق (عليه السلام) : «إن أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي (عليه السلام) فلم يُؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان وهبطوا وقد قُتل الحسين (عليه السلام) فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملك يقال له منصور»(6).

وعن محمد بن قيس(7)، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «عند قبر أبي عبد اللّه (عليه السلام) أربعة آلاف ملك شعث غبر، يبكونه إلى يوم القيامة»(8).

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لما كان من أمر الحسين بن علي (عليه السلام) ما كان، ضجّت

ص: 365


1- بحار الأنوار: ج45 ص215 ب40 ح38.
2- التفسير الصافي: ج4 ص407.
3- أي ثلاثة أسابيع.
4- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص218 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
5- مستدرك الوسائل: ج10 ص313 ب49 من أبواب المزار ح12077/6.
6- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص737 المجلس92 ح7.
7- الظاهر أنه محمد بن قيس البجلي أبو عبداللّه إمامي ثقة عين من أصحاب الإمام الصادقين (عليهما السلام) .
8- انظر كامل الزيارات: ص173 ب27 ح6.

الملائكة إلى اللّه تعالى بالبكاء وقالت: يا رب يُفعل هذا بالحسين (عليه السلام) صفيك وابن نبيك؟ قال: فأقام اللّه لهم ظل القائم (عليه السلام) ، وقال: بهذا أنتقم له من ظالميه»(1).

وعن الثمالي(2) قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه، ألستم كلكم قائمين بالحق؟ قال (عليه السلام) : «بلى»، قلت: فلم سمي القائم قائماً؟ قال (عليه السلام) : «لما قُتل جدي الحسين (عليه السلام) ضجّت الملائكة إلى اللّه عزوجل بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا، وسيدنا أتغفل عمن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فأوحى اللّه عزوجل إليهم: قرّوا ملائكتي، فو عزتي وجلالي، لأنتقمن منهم ولو بعد حين، ثم كشف اللّه عزوجل عن الأئمة من ولد الحسين (عليه السلام) للملائكة، فسُرَّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يصلي، فقال اللّه عزوجل: بذلك القائم أنتقم منهم»(3).

وروي أنه سمع نوح الملائكة في أول منزل نزلوا قاصدين إلى الشام، وهم يقولون:

أيها القاتلون جهلاً حسينا***أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم***من نبي وملك وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داو***د وموسى وحامل الإنجيل(4)

ص: 366


1- الكافي: ج1 ص465 باب مولد الحسين بن علي (عليهما السلام) ح6.
2- أبو حمزة الثمالي: ثابت بن دينار إمامي ثقة عدل عظيم الشأن والمنزلة من أصحاب الإمام زين العابدين والباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) توفي سنة 150ه- قال عنه الإمام الرضا (عليه السلام) : «أبو حمزة في زمانه كلقمان أو سلمان في زمانه».
3- دلائل الإمامة: ص452 باب معرفة وجوب القائم (عليه السلام) وأنه لابدّ أن يكون ح427/31.
4- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص219 باب إمامة أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) . وانظر تاريخ الطبري: ج4 ص358، وفيه: سُمع منادياً ينادي وهو يقول...

نوح الجن

قال الجصاصون: كنا نخرج إلى الجبانة في الليل عند مقتل الحسين (عليه السلام) فنسمع الجنّ ينوحون عليه فيقولون:

مسح الرسول جبينه***فله بريق في الخدود

أبواه من أعلى قريش***وجده خير الجدود(1)

وعن جماعة كانوا خرجوا في صحبة من حمل الرؤوس والأسارى إلى الشام: أنهم كانوا يسمعون بالليالي نوح الجن على الحسين (عليه السلام) إلى الصباح(2).

وفي مثير الأحزان(3):

ناحت عليه الجن، وكان نفر من أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منهم المسور بن مخرمة ورجال يستمعون النوح ويبكون، وعن عكرمة أنه سمع ليلة قتله (عليه السلام) بالمدينة مناد يسمعونه ولا يرون شخصه:

أيها القاتلون جهلاً حسيناً***أبشروا بالعذاب والتنكيل

الأبيات.

وروي أن هاتفاً سُمع بالبصرة ينشد ليلاً:

إن الرماح الواردات صدورها***نحو الحسين تقاتل التنزيلا

ويهللون بأن قُتلت وإنما***قتلوا بك التكبير والتهليلا

فكأنما قتلوا أباك محمدا***صلى عليه اللّه أو جبريلا(4)

ص: 367


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص114.
2- انظر روضة الواعظين: ص190.
3- كتاب (مثير الأحزان ومنير سبل الأشجان) للشيخ الجليل نجم الدين جعفر ابن نجيب الدين محمد بن جعفر بن أبي البقاء هبة اللّه بن نما الحلي، توفي سنة 645ه، يشتمل الكتاب على ثلاثة مقاصد ويحتوي على مجموعة من الروايات في واقعة عاشوراء وما يدور حولها.
4- مثير الأحزان: ص86.

وسمعوا من نوح الجن أيضاً:

أيا عين جودي ولا تجمدي***وجودي على الهالك السيدِ

فبالطف أمسى صريعاً فقد***رُزئنا الغداة بأمر بدي

ومن نوح الجن أيضاً:

نساء الجن يبكين من الحزن شجيات***ويسعدن بنوح للنساء الهاشميات

ويندبن حسينا عظمت تلك الرزيات***ويلطمن خدودا كالدنانير نقيات

و يلبسن ثياب السود بعد القصبيات

ومن نوح الجن أيضاً:

احمرت الأرض من قتل الحسين كما***اخضر عند سقوط الجونة العلق

يا ويل قاتله يا ويل قاتله***فإنه في سعير النار يحترق(1)

وقالوا: بكت الجن على الحسين بن علي (عليه السلام) فقالت:

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم***ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بأهل بيتي وإخواني ومكرمتي***من بين أسرى وقتلى

ضرجوا بدم(2)

إلى غير ذلك مما هو كثير.

عزاء الطير والوحش

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «بكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين

ص: 368


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص219 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- كامل الزيارات: ص193 ب29 ح6.

بن علي (عليه السلام) حتى ذرفت دموعها»(1).

وقال الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) في حديث:

«فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة وتمطر السماء دماً ورماداً، ويبكي عليك كل شي ء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال في البومة: هل أحد منكم رآها بالنهار؟ قيل له: لاتكاد تظهر بالنهار ولا تظهر إلاّ ليلاً، قال (عليه السلام) : «أما إنها لم تزل تأوي العمران أبداً فلما أن قُتل الحسين (عليه السلام) آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبداً ولا تأوي إلاّ الخراب، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتى يجنّها الليل، فإذا جنّها الليل فلا تزال ترن على الحسين صلوات اللّه عليه حتى تصبح»(3).

وقد ذكر العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في البحار(4): قصة الطير الذي لطخ نفسه بدم الإمام الحسين (عليه السلام) وجاء إلى المدينة وهو يبكي على الإمام (عليه السلام) فوقع من دم الحسين (عليه السلام) على ابنة يهودي مشلولة عمياء، فعوفيت، وكان ذلك سبب إسلامها وإسلام أبيها وخمسمائة من قومها(5).

ص: 369


1- مدينة المعاجز: ج4ص164ب177ح238.
2- مناقب آل أبي طالب: ج3ص238باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
3- كامل الزيارات: ص199ب31ح1.
4- هو فخر الشيعة وجامع أحاديث الشريعة العلامة الشيخ المولى محمد باقر ابن الشيخ الجليل علم الشيعة محمد تقي المجلسي الأصفهاني، ولد سنة 1037ه- وتوفي سنة 1110ه- كان شيخ الإسلام بحق والمرجع إليه من أقطار العالم الإسلامي بعلمه وفضله وتقواه، ألّف جملة كبيرة من التأليفات القيمة وكان أهمها كتابه الشهير (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار).
5- بحار الأنوار: ج45 ص191-193ب39.

وكان الطير يقول: أيها الطيور تأكلون وتتنعمون والحسين (عليه السلام) في أرض كربلاء في هذا الحر على الرمضاء طريحاً ظامئاً والنحر دامٍ، ورأسه مقطوع، وعلى الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا حفاة عرايا(1)..

وحكي عن رجل أسدي قال:

كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أمية، فرأيت عجائب لا أقدر أن أحكي إلاّ بعضها، منها: أنه إذا هبت الرياح، تمر عليّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وإذا سكنت أرى نجوماً تنزل من السماء إلى الأرض وترقى من الأرض إلى السماء مثلها، وأنا منفرد مع عيالي ولا أرى أحداً أسأله عن ذلك، وعند غروب الشمس يقدم أسد من القبلة فأولي عنه إلى منزلي، فإذا أصبح الصباح وطلعت الشمس وذهبت من منزلي، أراه مستقبل القبلة ذاهباً، فقلت في نفسي: إن هؤلاء خوارج، قد خرجوا على عبيد اللّه بن زياد فأمر بقتلهم وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى، فو اللّه هذه الليلة لابد من المساهرة لأنظر هذا الأسد أيأكل من هذه الجثث أم لا؟ فلما صار عند غروب الشمس وإذا به قد أقبل فحققته، فاذا هو هائل المنظر فارتعدت منه وخطر ببالي إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني وأنا أحاكي نفسي بهذا فمثلته وهو يتخطى القتلى، حتى وقف على جسد كأنه الشمس إذا طلعت، فبرك عليه. فقلت: يأكل منه فاذا به يمرغ وجهه عليه، وهو يهمهم ويدمدم، فقلت: اللّه أكبر، ما هذه إلاّ أعجوبة، فجعلت أحرسه حتى اعتكر الظلام وإذا بشموع معلقة ملأت الأرض، وإذا ببكاء ونحيب ولطم مفجع، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض ففهمت من

ص: 370


1- مدينة المعاجز: ج4 ص75 فصل128 ح1092/145.

ناع منهم يقول: وا حسيناه، واإماماه، فاقشعر جلدي فقربت من الباكي وأقسمت عليه باللّه وبرسوله من تكون؟

فقال: إنا نساء من الجن.

فقلت: وما شأنكن؟

فقلن: في كل يوم وليلة، هذا عزاؤنا على الحسين (عليه السلام) الذبيح العطشان.

فقلت: هذا الحسين الذي يجلس عنده الأسد؟

قلن: نعم(1).

وهكذا جعل اللّه الكون بأجمعه - من سماء وأرض وطير ووحش وجن وملك - في عزاء يوم عاشوراء على سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته، أما جعل عاشوراء عيداً فهو من أشد المحرمات وهي بدعة النواصب وأعداء اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعداء العترة الطاهرة (عليهم السلام) (2)..

وأول من أراد أن يجعل يوم عاشوراء عيداً في الديار المصرية، صلاح الدين الأيوبي الناصبي، كما حكاه المقريزي في خططه(3).

ص: 371


1- مدينة المعاجز: ج4ص70-71 فصل127ح144.
2- فقد روي عن الصادق (عليه السلام) : «إن آل أمية عليهم لعنة اللّه ومن أعانهم على قتل الحسين من أهل الشام، نذروا نذراً إن قُتل الحسين وسلم من خرج إلى الحسين وصارت الخلافة في آل أبي سفيان أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم وأن يصوموا فيه شكراً ويفرحوا أولادهم، فصارت في آل أبي سفيان سنة إلى اليوم في الناس واقتدى بهم الناس جميعاً فلذلك يصومونه ويدخلون على عيالاتهم وأهاليهم الفرحَ ذلك اليوم» انظر الأمالي، للشيخ الطوسي: ص667 المجلس36 ح4.
3- انظر أعيان الشيعة: ج1 ص587.

41

المشهد الشريف

اشارة

بنو أسد(1) هم أول من بنى القبر الحسيني الشريف، وذلك بعد دفن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه الكرام (عليهم السلام) .

قالت عقيلة الطالبيين زينب الحوراء لإبن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام) :

«ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء (عليه السلام) لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام»(2).

قال ابن طاووس في الإقبال: إن بني أسد أقاموا رسماً لقبر سيد الشهداء (عليه السلام) بتلك البطحاء يكون عَلَماً لأهل الحق.

ويدل خبر مجي ء التوابين إلى القبر الشريف(3)، أنه في ذلك الوقت وهو سنة

ص: 372


1- أسد: اسم لعدة من القبائل منهم أسد بن عبدالعزى بن قصي وأسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وأسد بن ربيعة بن نزار وأسد بن دودان وكذا يطلق على بعض البطون كما في بطن من الأزد يقال لهم: بنو أسد بن شريك بن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم، وكذا بطن من مذحج وغيرهم.
2- بحار الأنوار: ج28 ص57 ب23 ح23.
3- حيث جاء في واقعتهم: (وأشرفوا على قبر الحسين (عليه السلام) .. حتى وقف على القبر باكياً.. فأقاموا عند القبر) انظر: الفتوح: ج6 ص215.

هلاك يزيد (سنة 65ه) كان ظاهراً معروفاً(1).

ثم بُني على القبر الشريف قبة، وتم تعميرها وتجديدها مراراً(2).

ص: 373


1- وكذلك يدل عليه ماعن عطية العوفي، قال:(خرجت مع جابر بن عبداللّه الأنصاري (رحمه اللّه) زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .. حتى إذا دنا من القبر، قال: ألمسنيه فألمسته فخر على القبر مغشياً عليه) انظر: بشارة المصطفى: ص125 ح75، ومن المعلوم أن زيارته كانت في نفس السنة التي قتل بها الحسين (عليه السلام) حيث التقى بها مع أهل البيت (عليهم السلام) الذي رجعوا من الشام في قضية الأربعين المشهورة.
2- يذكر أن أول عمارة جرت على القبر الشريف كانت من قبل بني أسد بعد شهادة الإمام (عليه السلام) كما جاء في المتن، ثم على يد المختار الثقفي حيث بنى بناءً واتخذ بجنبه قرية، ويظهر من بعض الروايات أنه في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي استشهد سنة 148ه- كان للقبر الشريف عمارة عامرة، وبقيت إلى زمن هارون العباسي حيث سيأتي مايدل على جريمته في حق القبر الشريف، ثم جاء والي الكوفة موسى بن عيسى وكرب القبر وحفره، ثم كانت أول عمارة في زمن العباسيين في عهد المأمون إلى سنة 233ه، حيث بدأ فيها عصر التهديم والتنكيل في زمن الطاغية المتوكل ثم أعاد هدمه سنة 236ه- ثم سنة 237ه- ثم سنة 247ه، وبعد مقتله أقام ابنه المنتصر عمارة على القبر الشريف سنة 247ه، ثم سقطت العمارة سنة 273ه، ثم بنى الداعي الصغير ملك طبرستان عمارة واسعة ولطيفة تحتوي على قبة على القبر، لها بابان وبناء وأحاطها بسور في سنة 280ه، ثم بنى عمران بن شاهين رواقا ارتبط بالحائر من جهة الغرب والذي يُعرف برواق السيد ابراهيم المجاب وكان يُعرف برواق ابن شاهين سنة 367ه، وقد تعرض الحائر الشريف للنهب سنة 369ه- من قبل الطواغيت وجلاوزتهم، ثم زاد في العمارة عضد الدولة البويهي حيث شيد قبة ذات أروقة وضريحاً من العاج وعمّر حولها بيوتاً وأحاط المدينة بسور سنة 371ه، ثم انهارت العمارة سنة 407ه- على أثر حريق مفتعل، ثم جاءت عمارة الوزير الحسن بن الفضل الرامهرمزي بعد ذلك حيث بنى سوراً خارجياً للحائر وأقام عمارة جديدة على القبر الطاهر، ثم عمّر سور الحائر السلطان ملك شاه السلجوقي سنة 479ه، ثم نهب المسترشد باللّه العباسي سنة 526ه- أموالاً كانت موجودة في الحائر، وفي سنة 620ه- أمر الناصر لدين اللّه الوزير العلقمي بتشييد القبر وكسا جدران الروضة بأخشاب الساج وزينه بالحرير والديباج، ثم عمارة أويس الجلائري ثم عمارة ولديه السطان حسين والسلطان أحمد سنة 726ه- حيث شُيد البهو المعروف بإيوان الذهب والرواق الشرقي المعروف برواق الوحيد البهبهاني ورواق حبيب بن مظاهر أمام القبر الشريف والرواق الشمالي المعروف برواق الشاه، وفي سنة 767ه- بنى والي بغداد (مرجان) الذي كان عبد السلطان أويس الجلائري منارة العبد، ثم تعرض الحائر إلى النهب على يد المشعشعين سنة 858ه- وكانوا من الغلاة، ثم جاء عصر الدولة الصفوية فبدأوا بتزيين القبر الشريف وتجديده وتذهيب حواشي الضريح المقدس سنة 932ه، ووضع صندوق فضي للحائر سنة 932ه، وفي سنة 982ه- قام الشاه طهماسب باصلاحات على منارة العبد، وفي سنة 984ه- تم تعمير المسجد والرواق والقبة، وفي سنة 1153ه- تم تعمير المسجد المحرم من قبل زوجة نادر شاه كريمة السلطان حسين الصفوي، وفي العهد القاجاري تم تذهيب القبة أول مرة سنة 1207ه- في زمن محمد خان مؤسس الدولة القاجارية، وفي سنة 1214ه- أعاد التذهيب السلطان فتح علي شاه القاجاري وتبرعت زوجته بتذهيب المأذنتين وأهدى شباكا فضيا للقبر الشريف، وفي سنة 1216ه- هجم الوهابيون على كربلاء المقدسة في يوم الغدير استغلالاً لخروج رجالها لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) فخربوا الروضة ونهبوا مافيها وقتلوا الآلاف من النساء والأطفال وكبار السن، وفي سنة 1276ه- ذهّب القبة السلطان ناصر الدين القاجاري بعد تعمير الروضة المقدسة من آثار الهجمات الوهابية عليها، وفي سنة 1354ه- تم هدم منارة العبد بحجة ميلانها مع ماعُرف عنها من متانة، ثم تعرضت الروضة المطهرة إلى تخريب واسع من قبل أزلام النظام السابق في الإنتفاضة الشعبانية سنة 1412ه، وبعد تعميرها استمرت العمارة إلى زوال الطاغية فبدأت العمارة الجديدة في الروضة على الصورة المعروفة حالياً وها نحن في سنة 1430ه- والروضة المقدسة في توسعها العمراني.

حكام الجور والقبر الشريف

روي أن المتوكل العباسي(1) كان كثير العداء.. شديد البغض لأهل بيت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أمر الحارثين بحرث قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وأن يخربوا بنيانه ويحفوا آثاره وأن يجروا عليه الماء من النهر بحيث لا يبقى له أثر، ولا أحد يقف له على خبر..

كما أمرهم بأن يخرجوا الجسد الطاهر ويحرقوه!!

ص: 374


1- هو جعفر بن محمد بن هارون بن المهدي بن المنصور العباسي، وُلد سنة 205ه- وبويع له بالخلافة سنة 232ه- هدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر من مرة وقتل وهدد من يزوره وكان ناصبياً منافقاً منحرفاً عن أهل البيت (عليهم السلام) وكان يظهر شتم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قُتل سنة 247ه.

وتوعّد الناس بالقتل لمن زار قبره، وجعل رصداً من أجناده وأوصاهم كل من وجدتموه يريد زيارة الحسين (عليه السلام) فاقتلوه، وكل من رأيتموه سكن بجوار الحسين (عليه السلام) فاقتلوه، وكذلك كل من تظنون به ذلك، بل كل من تشكون به.

أراد المتوكل بذلك إطفاء نور اللّه تعالى وإخفاء آثار ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن اللّه أبى إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

عن إبراهيم الديزج(1)

قال: بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين (عليه السلام) وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي(2): أُعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لينبش قبر الحسين! فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أو لم يفعل، قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار ثم أتيته فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به، فلم أر شيئاً ولم أجد شيئاً، فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت فما رأيت، فكتب إلى السلطان: أن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً وأمرته فمخره بالماء وكربه بالبقر.

قال أبو علي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر، فقال لي: أتيت في خاصة غلماني فقط وإني نبشت فوجدت بارية جديدة وعليها بدن الحسين بن علي (عليه السلام) ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالها وبدن الحسين (عليه السلام) على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع

ص: 375


1- الديزج: معرب ديزه وهو لون بين لونين غير خالص.
2- جعفر بن محمد أو أحمد بن عمار البرجمي القاضي: ولي القضاء في الكوفة ثم أصبح قاضي القضاة بسر من رأى واستمر فيه سبع عشر سنة ثم عُزل، توفي سنة 250ه- في سامراء.

رجعت عنه، فحلفت لغلماني باللّه وبالأيمان المغلظة لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه(1).

وروي أنه لما بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، أنفذ قائداً من قواده، وضمّ إليه كنفاً من الجند كثيراً ليشعب قبر الحسين (عليه السلام) ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته (عليه السلام) ، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر، فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) وأنه قد كثر جمعهم لذلك وصار لهم سوق كبير فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره، ونبش القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبع آل أبي طالب (عليهم السلام) والشيعة (رضوان اللّه عليهم) فقتلهم، ولم يتم له ما قدر(2).

ثم إن المتوكل أمر بحرث القبر وخراب آثاره أكثر من مرة، وفي إحدى المرات قام الحراث بحرثه سبع عشرة مرة والقبر يرجع إلى حاله، فلما نظر الحراث إلى ذلك آمن باللّه وحلّ البقر فأخبر المتوكل، فأمر بقتله.

وكذلك كان من قبله من الطغاة كهارون العباسي وغيره، يمنعون الزوار

ص: 376


1- بحار الأنوار: ج45 ص394-395 ب50 ح2.
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص328-329 المجلس11 ح656/103.

ويسعون في خراب القبر الشريف وهدم آثاره. وهكذا من جاء بعدهم من الظلمة والطواغيت(1)، كما رأينا في زماننا من البعثيين وغيرهم حيث منعوا الزوار وقتلوهم، ولكن إرادة اللّه فوق كل شيء، وستبقى راية الحسين (عليه السلام) ترفرف دائماً على رؤوس الأحرار.

عن يحيى بن المغيرة الرازي قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (عليه السلام) وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقُطعت، قال: فرفع جرير يديه، وقال: اللّه أكبر، جاءنا فيه حديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لعن اللّه قاطع السدرة»(2) ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتى الآن، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين (عليه السلام) ، حتى لايقف الناس على قبره(3).

ونقل أن المسترشد أخذ من مال الحائر وكربلاء والنجف وقال: إن القبر لا يحتاج إلى الخزانة فأنفقه على العسكر، فلما خرج قُتل هو وابنه الراشد(4).

ونقل أنه أحدث رجل بقرب قبر الحسين (عليه السلام) استهانة بالقبر الطاهر، فأصابه وأهل بيته جنون وجذام وبرص وهم يتوارثون الجذام والبرص إلى الساعة(5).

ص: 377


1- وقد روي أن موسى بن عيسى الوالي العباسي الطاغية وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها.
2- ورد في كتب العامة بأسانيدهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أخرج فأذن في الناس من اللّه لامن رسوله: لعن اللّه قاطع السدرة»، انظر: السنن الكبرى للبيهقي: ج6 ص140.
3- مستدرك الوسائل: ج13 ص464 ب 5 من أبواب كتاب المزارعة والمساقاة ح1.
4- انظر مناقب آل أبي طالب: ج2 ص171 فصل فيما ظهر بعد وفاته (عليه السلام) .
5- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص220-221 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .

42

التربة الحسينية

اشارة

إن اللّه عوّض الإمام الحسين (عليه السلام) عن قتله بجعل الشفاء في تربته، وجعلها أماناً من كل خوف، وحفظاً من كل سوء، وبركةً للرزق، وفي ذلك روايات عديدة وقصص كثيرة.

روي أنه لما ورد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى العراق اجتمع الناس إليه فقالوا: يامولانا تربة قبر الحسين (عليه السلام) شفاء من كل داء، فهل هي أمان من كل خوف؟

فقال (عليه السلام) : «نعم، إذا أراد أحدكم أن يكون آمناً من كل خوف، فليأخذ السبحة من تربته (عليه السلام) ويدعو بدعاء ليلة المبيت على الفراش ثلاث مرات(1)، ثم يُقبّلها ويضعها على عينه ويقول: (اللّهمّ إني أسألُكَ بحقّ هذه التُربةِ وبحقِ صاحبها وبحق جده وبحق أبيه وبحق أمه وبحق أخيه وبحق وُلده الطاهرين اجعَلْها

ص: 378


1- روى الدعاء السيد ابن طاووس (رحمه اللّه) في فلاح السائل: ص224، وهو: (أمسيت اللّهم معتصماً بذمامك المنيع، الذي لايطاول ولايحاول، من شر كل غاشم وطارق، من سائر من خلقت وما خلقت من خلقك الصامت والناطق، من كل مخوف بلباس سابغة حصينة، وبأهل بيت نبيك (عليهم السلام) ، محتجباً من كل قاصد لي إلى أذية بجدار حصين الإخلاص في الإعتراف بحقهم والتمسك بحبلهم، موقناً أن الحق لهم ومعهم وفيهم وبهم، أوالي من والوا، وأجانب من جانبوا، فصل على محمد وآل محمد، وأعذني اللّهم بهم من شر كل ما أتقيه يا عظيم حجزت الأعادي عني ببديع السماوات والأرض، إنا جعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون).

شفاءً من كل داء وأماناً من كل خوف وحفظاً من كل سوءٍ)، ثم يضعها في جيبه فإن فعل ذلك في الغداة فلا يزال في أمان اللّه حتى العشاء، و إن فعل ذلك في العشاء فلا يزال في أمان اللّه حتى الغداة»(1).

وكذلك يكون ماء الفرات في كربلاء شفاء كما في الروايات الشريفة، حيث ورد: «الشفاء في تربتي ومائي»(2).

أرض كربلاء

ثم إن أرض كربلاء هي أشرف بقعة على وجه الأرض، وستكون في يوم القيامة في أعلى الجنة يسكنها الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ..

فعن ابن ابي يعفور، قال: سمعت ابا عبد اللّه (عليه السلام) يقول لرجل من مواليه: «يا فلان أتزور قبر أبي عبد اللّه الحسين بن علي (عليه السلام) ؟» قال: نعم إني أزوره بين ثلاث سنين مرة، فقال له - وهو مصفر الوجه -: «أما واللّه الذي لا إله إلاّ هو لو زرته لكان أفضل لك مما أنت فيه»، فقال له: جُعلتُ فداك أكل هذا الفضل، فقال: «نعم واللّه لو أني حدثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحج رأساً وما حج منكم أحد، ويحك أما تعلم أن اللّه اتخذ كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتخذ مكة حرماً؟».

قال ابن ابي يعفور: فقلت له: قد فرض اللّه على الناس حج البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ؟ فقال: «وإن كان كذلك فإن هذا شيء جعله اللّه هكذا، أما سمعت قول أبي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: إن باطن القدم أحق

ص: 379


1- الأمان من أخطار الأسفار: ص47 الفصل الثاني من الباب الثاني.
2- انظر كامل الزيارات: ص455 باب فضل كربلاء وزيارة الحسين (عليه السلام) ح17.

بالمسح من ظاهر القدم، ولكن اللّه فرض هذا على العباد، أو ما علمت أن الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكن اللّه صنع ذلك في غير الحرم»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بني بيت اللّه على ظهري، ويأتيني الناس من كل فج عميق، وجعلت حرم اللّه وأمنه، فأوحى اللّه إليها أن كفي وقري، فوعزتي وجلالي ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت به أرض كربلاء إلاّ بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقري واستقري وكوني دنياً متواضعاً ذليلاً مهيناً، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلاّ سخت بك وهويت بك في نار جهنم»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «خلق اللّه تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق اللّه الخلق مقدسة مباركة ولا تزال كذلك حتى يجعلها اللّه أفضل أرض في الجنة وأفضل منزل ومسكن يسكن اللّه فيه أوليائه في الجنة»(3).

وقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «اتخذ اللّه أرض كربلاء حرماً آمنا مباركاً قبل أن يخلق اللّه أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وإنه إذا زلزل اللّه تبارك وتعالى الأرض وسيّرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية، فجعلت

ص: 380


1- كامل الزيارات: ص449 ب 88 ح1.
2- كامل الزيارات: ص450 ب 88 ح2.
3- كامل الزيارات: ص450-451 ب 88 ح4.

في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنها إلاّ النبيون والمرسلون - أو قال: أولو العزم من الرسل - وأنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدري بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعاً، وهي تنادي: أنا أرض اللّه المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنت سيد الشهداء وسيد شباب اهل الجنة»(1).

وقال أبو جعفر (عليه السلام) : «الغاضرية هي البقعة التي كلّم اللّه فيها موسى بن عمران (عليه السلام) وناجي نوحاً (عليه السلام) فيها، وهي أكرم أرض اللّه عليه، ولولا ذلك ما استودع اللّه فيها أولياءه وابناء نبيه، فزوروا قبورنا بالغاضرية»(2).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يقبر ابني بأرض يقال لها: كربلاء، هي البقعة التي كانت فيها قبة الاسلام التي نجا اللّه عليها المؤمنين الذين آمنوا مع نوح (عليه السلام) في الطوفان»(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «زوروا كربلاء ولا تقطعوه، فإن خير أولاد الأنبياء ضمنته، ألا وإن الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدي الحسين (عليه السلام) وما من ليلة تمضي إلاّ وجبرائيل وميكائيل يزورانه، فاجتهد يا يحيى أن لا تفقد من ذلك الموطن»(4).

الشفاء في تربتي ومائي

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى فضّل الأرضين والمياه بعضها

ص: 381


1- كامل الزيارات: ص451 ب 88 ح5.
2- كامل الزيارات: ص452 ب 88 ح7.
3- كامل الزيارات: ص452 ب 88 ح9.
4- كامل الزيارات: ص453 ب 88 ح11.

على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت، فما من ماء ولا أرض إلاّ عوقبت لتركها التواضع لله، حتى سلط اللّه المشركين على الكعبة وأرسل إلى زمزم ماء مالحاً حتى أفسد طعمه، وإن أرض كربلا وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدس اللّه تبارك وتعالى وبارك اللّه عليهما، فقال لها: تكلمي بما فضلك اللّه تعالى فقد تفاخرت الارضون والمياه بعضها على بعض، قالت: أنا أرض اللّه المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك، ولا فخر على من دوني بل شكراً لله، فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين (عليه السلام) وأصحابه». ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «من تواضع لله رفعه اللّه، ومن تكبر وضعه اللّه تعالى»(1).

طوبى لك من تربة

عن أبي بصير(2) عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «بينا الحسين بن

ص: 382


1- كامل الزيارات: ص455 باب فضل كربلاء وزيارة الحسين (عليه السلام) ح17.
2- أبو بصير: كنية مشتركة بين جماعة وهم: يحيى بن القاسم وليث بن البختري وعبداللّه بن محمد الأسدي ويوسف بن الحارث وحماد بن عبداللّه بن أسيد الهروي، ولكن عند الإطلاق وكون المحدث له أبي عبداللّه (عليه السلام) يتعين الثاني، فإن الأول يقيد بأبي بصير الأسدي، وأما الثالث فهو من أصحاب الباقر (عليه السلام) ولم يثبت روايته عن الصادق (عليه السلام) وأما الرابع فوقع الخلاف في أنه من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) أو أبي جعفر الثاني (عليه السلام) وعلى كل فهو خارج لعدم ثبوت روايته عن الصادق (عليه السلام) أيضاً، وأما الأخير فقد روى عن أبي هاشم الجعفري رضوان اللّه عليه وهو يروي عن جمع من الأئمة ابتداءً بالرضا (عليه السلام) إلى صاحب الأمر (عليه السلام) ، وعلى كل فليث بن البختري إمامي من أصحاب الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) ، عدّه البعض من أصحاب الإجماع وصفه الصادق (عليه السلام) كما ورد في الصحيح في الجماعة المعروفة: «بأنهم نجباء أمناء اللّه على حلاله وحرامه ولولاهم لأنقطعت آثار النبوة واندرست» وكفى بهذا شرفاً وماورد في حقه من قدح من قبل الإمام (عليه السلام) فهو من قبيل ماورد في زرارة (رحمه اللّه) ، حيث كان ذلك للحفاظ عليهم من الأعداء.

علي (عليه السلام) عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ أتاه جبرئيل فقال: يا محمد أتحبه؟ قال فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نعم، قال فقال: أما إن أمتك ستقتله!، قال: فحزن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حزناً شديداً، فقال له جبرئيل: يا رسول اللّه أيسرك أن أُريك التربة التي يُقتل فيها؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نعم، فخسف جبرئيل ما بين مجلس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كربلاء حتى التقت القطعتان هكذا - ثم جمع بين السبابتين - ثم تناول بجناحه من التربة وناولها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم رجعت أسرع من طرفة عين، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : طوبى لك من تربة، وطوبى لمن يُقتل فيك»(1).

جزاء من أهان التربة المقدسة

عن موسى بن عبد العزيز(2) قال: لقيني يوحنا بن سراقيون النصراني المتطبب في شارع أبي أحمد، فاستوقفني وقال لي: بحق نبيك ودينك، من هذا الذي يزور قبره قوم منكم بناحية قصر ابن هبيرة(3)؟ من هو؟ من أصحاب نبيكم؟ قلت: ليس هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة لي عنه؟ فقال: له عندي حديث طريف، فقلت: حدثني به، فقال:

وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيدي في الليل، فصرت إليه، فقال: تعال معي فمضى وأنا معه حتى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي(4)، فوجدناه

ص: 383


1- كامل الزيارات: ص131 ب17 ح5.
2- موسى بن عبدالعزيز مولى بني قيس بن ثعلبة كوفي من أصحاب الصادق (عليه السلام) .
3- قصر معروف قرب جسر سورا - وسورا موضع بالعراق من أرض بابل قريبة من الوقف والحلة وهي مدينة السريانيين - بناه يزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق من قبل مروان بن محمد بن مروان ثم أتم بناءه السفاح وسماه الهاشمية ثم تركه.
4- موسى بن عيسى بن موسى بن محمد العباسي كان فاسقاً فاجراً ناصبياً ولي الحرمين للمنصور والمهدي، وولي اليمن للمهدي، ومصر لهارون ثم ولي الكوفة سنة 172ه- ثم دمشق ثم مصر ثم صرف سنة 180ه- ومات سنة 183ه.

زائل العقل متكئاً على وسادة، وبين يديه طشت فيها حشو جوفه، وكان الرشيد استحضره من الكوفة، فأقبل سابور على خادم كان من خاصة موسى، فقال له: ويحك ما خبره؟

فقال له: أخبرك أنه كان من ساعة جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصح الناس جسماً وأطيبهم نفساً، إذ جرى ذكر الحسين بن علي (عليه السلام) قال: يوحنا هذا الذي سألتك عنه، فقال موسى: إن الرافضة ليغلون فيه حتى أنهم فيما عرفت يجعلون تربته دواء يتداوون به، فقال له رجل من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علة عليلة فتعالجت لها بكل علاج فما نفعني، حتى وصف لي كاتبي أن آخذ من هذه التربة فأخذتها فنفعني اللّه بها، وزال عني ما كنت أجده.

قال: فبقي عندك منها شي ء؟

قال: نعم، فوجه فجاءه منها بقطعة، فناولها موسى بن عيسى فأخذها موسى فاستدخلها دبره استهزاءً بمن تداوى بها واحتقاراً وتصغيراً لهذا الرجل الذي هي تربته - يعني الحسين (عليه السلام) - فما هو إلاّ أن استدخلها دبره حتى صاح: النار النار النار الطست الطست، فجئناه بالطست فأخرج فيها ما ترى، فانصرف الندماء وصار المجلس مأتماً، فأقبل عليّ سابور فقال: انظر هل لك فيه حيلة، فدعوت بشمعة فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطست، فنظرت إلى أمر عظيم فقلت: ما لأحد في هذا صنع، إلاّ أن يكون لعيسى (عليه السلام) الذي كان يحيي الموتى.

ص: 384

فقال لي سابور: صدقت ولكن كن هاهنا في الدار إلى أن يتبين ما يكون من أمره، فبتّ عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه فمات في وقت السحر.

قال محمد بن موسى: قال لي موسى بن سريع: كان يوحنا يزور قبر الحسين (عليه السلام) وهو على دينه ثم أسلم بعد هذا وحسن إسلامه(1).

ص: 385


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص407-408 باب نوادر ما يتعلق بأبواب المزار ح8.

43

في يوم المحشر

إن اللّه عزوجل قد أخبر ملائكته بقصة عاشوراء قبل خلق آدم (عليه السلام) .. ثم أخبر أنبياءه وأولياءه (عليهم السلام) كلاً في عهده، وأراد الباري عزوجل أن لا تموت هذه الفاجعة المؤلمة أبداً، بل تبقى إلى يوم القيامة، وحتى في يوم المحشر، سيُقام مجلس العزاء على مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) وستُذكر فاجعة كربلاء بتفاصيلها وتجُسّم أمام الملأ، ويبكي الخلق على مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) ..

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تحُشر ابنتي فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بالدم، فتعلّق بقائمة من قوائم العرش فتقول: يا عدل احكم بيني وبين قاتل ولدي، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فيحكم اللّه تعالى لابنتي ورب الكعبة، وإن اللّه عزوجل يغضب بغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(1).

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أمر منادياً، فنادى: غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة ابنة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصراط. قال: فتغض الخلائق أبصارهم، فتأتي فاطمة (عليها السلام) على نجيب من نجب الجنة يشيعها سبعون

ص: 386


1- عيون أخبار الرضا: ج2 ص29 ب31 ح6.

ألف ملك، فتقف موقفاً شريفاً من مواقف القيامة، ثم تنزل عن نجيبها فتأخذ قميص الحسين بن علي (عليه السلام) بيدها مضمخاً بدمه، فتقول: يارب هذا قيص ولدي وقد علمتَ ماصُنع به. فيأتيها النداء من قبل اللّه عزوجل: يافاطمة لك عندي الرضا، فتقول: يارب انتصر لي من قاتله، فيأمر اللّه تعالى عنقاً من النار فتخرج من جهنم فتلتقط قتلة الحسين بن علي (عليه السلام) كما يلتقط الطير الحب، ثم يعود العنق بهم إلى النار فيعذبون فيها بأنواع العذاب..(1).

ص: 387


1- الأمالي، للشيخ المفيد: ص130 المجلس15 ح6.

44

زيارة الإمام (عليه السلام)

إن من أعظم القربات إلى اللّه عزوجل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بكربلاء، فإنها من علائم الإيمان، وقد تشرف بهذه الزيارة جميع الأنبياء والأوصياء والأولياء(1)، وملائكة السماء.

عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه سُئل عن زيارة قبر الحسين بن علي (عليه السلام) قال: أخبرني أبي (عليه السلام) : «أن من زار قبر الحسين بن علي (عليه السلام) عارفاً بحقه كتبه اللّه في عليين» ثم قال: «إن حول قبر الحسين (عليه السلام) سبعين ألف ملك شعثاء غبراء يبكون عليه إلى يوم القيامة»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما لكم لا تأتونه يعني قبر الحسين (عليه السلام) فإن أربعة آلاف ملك يبكون عند قبره إلى يوم القيامة»(3).

ص: 388


1- ورد في زيارة النصف من شعبان: «من أحب أن يصافحه مائة ألف وعشرون ألف نبي، فليزر قبر الحسين بن علي (عليه السلام) في النصف من شعبان، فإن أرواح النبيين (عليه السلام) تستأذن اللّه تعالى في زيارته فيؤذن لهم». تهذيب الأحكام: ج6 ص49-49 باب فضل زيارته (عليه السلام) ح109/24.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص48 ب31 ح159.
3- كامل الزيارات: ص171 ب27 ح3.

وعن بشير الدهان(1) قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) وهو نازل بالحيرة(2) وعنده جماعة من الشيعة، فأقبل إليّ بوجهه فقال: «يا بشير أحججت العام»؟ قلت: جُعلت فداك لا ولكني قد عرّفت بالقبر(3) قبر الحسين (عليه السلام) .. فقال: «يا بشير واللّه ما فاتك شي ء مما كان لأصحاب مكة بمكة» قلت: جعلت فداك فيه عرفات فسره لي فقال: «يا بشير إن الرجل منكم ليغتسل على شاطئ الفرات ثم يأتي قبر الحسين (عليه السلام) عارفاً بحقه فيعطيه اللّه بكل قدم يرفعها أو يضعها مائة حجة مقبولة ومائة عمرة مبرورة ومائة غزوة مع نبي مرسل إلى أعداء اللّه وأعداء رسوله، يا بشير اسمع وأبلغ من احتمل قلبه: من زار الحسين (عليه السلام) يوم عرفة كان كمن زار اللّه تبارك و تعالى في عرشه»(4). أي في شدة تقربه إلى رحمة اللّه عزوجل.

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان الحسين بن علي (عليه السلام) ذات يوم في حجر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلاعبه ويضاحكه، فقالت عائشة: يا رسول اللّه ما أشد إعجابك بهذا الصبي!، فقال لها: ويلك(5) وكيف لا أحبه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني، أما إن أمتي ستقتله، فمن زاره بعد وفاته كتب اللّه له حجة من حججي، قالت: يا رسول اللّه حجة من حججك؟، قال: نعم وحجتين من حججي،

ص: 389


1- بشير الدهان: إمامي من أصحاب الصادق والكاظم (عليهما السلام) ومن رجال كتاب كامل الزيارات.
2- الحيرة: مدينة تقع خلف النجف الأشرف وعلى بعد ثلاثة أميال من الكوفة تقريباً كانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية.
3- أي زرته يوم عرفة.
4- كامل الزيارات: ص320 ب70 ح9.
5- كلمة تدل على الدعاء بالعذاب، والويل: واد في جهنم، قيل لو اُرسلت فيه الجبال لذابت من حره، وويل عكس ويح وهي كلمة تدل على الدعاء بالرحمة ومنه جاء الحديث: «ويح ابن اسمية تقتله الفئة الباغية».

قالت: يا رسول اللّه حجتين من حججك؟ قال: نعم وأربعة، قال: فلم تزل تزاده ويزيد ويضعف حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأعمارها»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا دخل الحسين (عليه السلام) اجتذبه إليه ثم يقول لأمير المؤمنين (عليه السلام) : امسكه، ثم يقع عليه فيقبّله ويبكي، فيقول: يا أبة لم تبكي؟ فيقول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا بني أقبّل موضع السيوف منك وأبكي، قال: يا أبة واُقتل؟ قال: إي واللّه وأبوك وأخوك وأنت، قال: يا أبة فمصارعنا شتى؟ قال: نعم يا بني، قال: فمن يزورنا من أمتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلاّ الصديقون من أمتي»(2).

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : «أنا قتيل العبرة، قُتلت مكروباً وحقيق على اللّه أن لايأتيني مكروب إلاّ أردّه اللّه وأقلبه إلى أهله مسروراً»(3).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الحسين بن علي (عليه السلام) عند ربه عزوجل ينظر إلى موضع معسكره ومن حلّه من الشهداء معه، وينظر إلى زواره وهو أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنزلتهم عند اللّه عزوجل من أحدكم بولده، وإنه ليرى من يبكيه، فيستغفر له، ويسأل آباءه (عليهم السلام) أن يستغفروا له ويقول: لو يعلم زائري ما أعد اللّه له لكان فرحه أكثر من جزعه، وإن زائره لينقلب وما عليه من ذنب»(4).

ص: 390


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص268-269 باب33 ح12.
2- بحار الأنوار:ج44 ص261 ب31 ح14.
3- ثواب الأعمال: ص98 باب ثواب من زار قبر الحسين (عليه السلام) .
4- بشارة المصطفى: ص130 ح79.

45

وثاقة حوادث كربلاء

ثم إن ما وصلنا من حوادث ومصائب كربلاء فهو أقل بكثير مما جرى على أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يومذاك، فكم من مصيبة جرت على الإمام الحسين (عليه السلام) وذويه (عليهم السلام) ولم تُنقل، أو نقلت ولم تصلنا.

علماً بأن ما وصلنا من وقائع عاشوراء بتفاصيلها، من المتواترات على الأغلب، مما لا يدع مجالاً للشك أبداً، حيث تناقلتها الصدور جيلاً بعد جيل.

كما أن معظمها نُقلت بالأخبار المعتبرة والمصححة، وبعضها نقلها الثقاة من العلماء والخطباء. ومن هنا نرى صحة ما رواه العلماء المحققون والخطباء الأتقياء من جزئيات وقائع كربلاء وما لحقها من قضايا الأسر وما أشبه، فلا مجال للتشكيك بمثل عرس القاسم (عليه السلام) وحضور ليلى والدة علي الأكبر (عليه السلام) في كربلاء، وضرب السيدة زينب (عليها السلام) رأسها بمقدم المحمل وخروج الدم من تحت قناعها بعد ما رأت رأس أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ، وما أشبه مما نُقل في المقاتل وذكرها العلماء الفقهاء والخطباء الفضلاء والقرّاء الأتقياء، فإن كل هذه الأمور صحيحة ومعتبرة.

وبعدئذ(1) فالمنكر لبعض هذه الجزيئات بحاجة إلى بيان الدليل، فإن عدم

ص: 391


1- أي بعد ما نقل هذه الوقائع العديد من العلماء والخطباء والقراء وهم جامعو شرائط النقل.

وجدانه في بعض الكتب لا يكون دليلاً على العدم، لأن كثيراً من الكتب العلمية والتاريخية وكثيراً من المصادر أحرقت وأتلفت من قبل أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وأعداء المسلمين، وكم من قضية صحيحة تناقلتها صدور الثقاة، ثقة عن ثقة، وهكذا..

وقد ذكرنا في مظانه أن صحة السند طريق لمعرفة الصدور، وإذا حصل الوثوق بالصدور لقوة المضمون أو للقرائن وما أشبه، فهو كاف(1)، مضافاً إلى أن القضايا التاريخية في شروط حجيتها وطرق أسنادها واعتبارها تختلف عن القضايا الفقهية، وحتى الفقهية تختلف في الإلزاميات عن غيرها، وفي الاقتضائيات عن اللا إقتضائيات كما فصله العلماء في (باب التسامح في أدلة السنن) وغيره(2).

علماً بأن الحكومات الجائرة وحكام المخالفين لم يسمحوا بنقل ما جرى على أهل البيت (عليه السلام) من الظلم، كما لم يسمحوا بنقل فضائلهم (عليهم السلام) ، بل كانوا يسعون دائماً لتشويه سمعتهم وإماتة ذكرهم والقضاء عليهم. ومن هنا أيضاً تكون

ص: 392


1- هذا ما تعارف بين الفقهاء بما يصطلح عليه بوثاقة الصدور: وهو مبنى المشهور بين العلماء، وبين هذا المبنى ومبنى وثاقة السند عموم وخصوص من وجه، وحاصله: إن وثاقة الصدور كما تحصل من قوة السند كذلك تحصل من القرائن المحيطة به كالشهرة وعمل الفقهاء به وقوة المتن ووجوده في أكثر من أصل ومصدر وهكذا، انظر: القواعد الفقهية: للبجنوردي: ج3 ص327، نهاية الأفكار: ج3 ص135، وسيلة الوصول: ص523، فقه الصادق (عليه السلام) : ج1 ص129، وغيرها كثير.
2- لمزيد الاطلاع على هذه القاعدة انظر (رسالة التسامح في أدلة السنن) للشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه اللّه) ولماكتبه الإمام المؤلف+ حول قاعدة التسامح المطبوعة ضمن شرحه الموسوم بالوصائل في شرح الرسائل للشيخ الأعظم+ ج 8 ص67-78، وكذلك (التسامح في أدلة السنن) للفقيه الورع المقدس آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي رضوان اللّه عليهم أجمعين.

الروايات الواردة في فضائلهم (عليهم السلام) معتبرة وإن لم يكن لها الأسناد القوية، وكذلك ما ورد في مصائبهم، لأن الظروف آنذاك لم تكن تسمح بنقل الرواة لها.

ومن هنا أيضاً يعرف العكس، فلا يصح عندنا ما ورد قدحاً في بعض ذراريهم (عليهم السلام) لضعف أسنادها، ولميل الحكام بنشر مثل تلك الأكاذيب، ولغير ذلك، على ما ذكرناه في بعض كتبنا.

ص: 393

46

بين الأفضلية والخصائص

إن اللّه عزوجل قد خصّ الإمام الحسين (عليه السلام) بخصائص لم يُعطها أحداً من العالمين من الأولين والآخرين، وهذه الخصائص لا تعني أن الإمام الحسين (عليه السلام) أفضل من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو من أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإن الاختصاص بالخصائص شيء والأفضلية المطلقة شيء آخر.

وهذا ما صرّح به الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء حيث قال:

«جدي خير مني..

أبي خير مني..

أمي خير مني..

أخي خير مني»(1).

والمستفاد من الروايات الشريفة أن الأفضل على الإطلاق هو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنه خير البشر وأشرف الخلق، ومن بعده الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهما في الفضل سواء، ومن بعدهما الإمام الحسن (عليه السلام) ، ومن بعده الإمام الحسين (عليه السلام) ، ومن بعد الحسين (عليه السلام) في الفضل

ص: 394


1- انظر أعيان الشيعة: ج1 ص601.

الإمام المهدي (عليه السلام) ، ومن بعده الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى الإمام الحسن العسكري (عليهم السلام) في حد سواء(1)،

وإن اختص كل من هؤلاء الأطهار (عليهم السلام) بخصائص قد لا يشاركه فيها أحد.

ص: 395


1- انظر رسائل المرتضى: ج1 ص281، جواهر الفقه: ص258 وفيهما: وروي أن لكل إمام أفل ممن يليه سوى القائم (عليه السلام) ، فإنه أفضل من المتقدمين عليه.

47

الشعائر الحسينية

اشارة

يستفاد من الأدلة الشرعية رجحان واستحباب مختلف الشعائر الحسينية من البكاء والجزع وإقامة المجالس وإنشاد الشعر واللطم والزنجيل والتطبير وما أشبه مما تعارف عليه المؤمنون في مختلف العصور.

البكاء

قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «أنا قتيل العبرة»(1).

وروي: «أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجلس حسيناً (عليه السلام) على فخذه فجعل يقبّله، فقال جبرئيل: أتحب ابنك هذا؟ قال: «نعم»، قال: فإن أمتك ستقتله بعدك، فدمعت عينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: إن شئت أريتك من تربته التي يُقتل عليها، قال: «نعم»، فأراه جبرئيل تراباً من تراب الأرض التي يُقتل عليها، وقال: تدعى الطف»(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما أن هبط جبرئيل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقتل الحسين (عليه السلام) أخذ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيد علي (عليه السلام) فخلا به ملياً من النهار، فغلبتهما عبرة فلم

ص: 396


1- وسائل الشيعة: ج14 ص422 باب تأكد استحباب زيارة الحسين بن علي (عليه السلام) ح31.
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص317 المجلس11 ح89.

يتفرقا حتى هبط عليهما جبرئيل - أو قال رسول رب العالمين(1) - فقال لهما: ربكما يقرئكما السلام ويقول: قد عزمت عليكما لما صبرتما، قال: فصبرا»(2).

وعن أم سلمة قالت: بينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالساً والحسين (عليه السلام) في حجره إذ هملت عيناه بالدموع، فقلت: يا رسول اللّه أراك تبكي جُعلت فداك؟ قال: «جاءني جبرئيل فعزاني بابني الحسين (عليه السلام) ، وأخبرني أن طائفة من أمتي ستقتله، لاأنالهم اللّه شفاعتي»(3).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة، غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»(4).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نَفَس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرنا جهاد في سبيل اللّه»(5).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) : كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده، بوّأه اللّه بها في الجنة غرفاً، يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه دمعاً حتى يسيل على خده، لأذى مسّنا من عدونا في الدنيا، بوّأه اللّه مبوأ صدق في الجنة، وأيما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى يسيل دمعه على خديه من مضاضة ما أُوذي فينا، صرف اللّه عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار»(6).

ص: 397


1- أي قال الإمام (عليه السلام) : هبط جبرئيل على رسول رب العالمين.
2- كامل الزيارات: ص121 ب16 ح1.
3- إعلام الورى: ج1 ص428 فصل: بعض خصائصه ومناقبه (عليه السلام) .
4- تفسير القمي: ج2 ص292.
5- الأمالي، للمفيد: ص338 المجلس40 ح3.
6- مدينة المعاجز: ج4 ص153-154 فصل 175 ح217.

وقال الراوي: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فذكرنا الحسين بن علي (عليه السلام وعلى قاتله لعنة اللّه)، فبكى أبو عبد اللّه (عليه السلام) وبكينا، قال: ثم رفع (عليه السلام) رأسه فقال: قال الحسين بن علي (عليه السلام) : «أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى»(1).

وقال جعفر بن محمد (عليه السلام) : «من دمعت عينه فينا دمعةً لدم سُفك لنا أو حق لنا نقصناه أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا بوّأه اللّه تعالى بها في الجنة حقباً»(2).

وعن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: «ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة إلاّ بوأه اللّه بها في الجنة حُقباً»(3).

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) في حديث طويل: «من ذُكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينيه - من الدموع - مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه عز وجل ولم يرض له بدون الجنة»(4).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسين (عليه السلام) فقال: يا عبرة كل مؤمن»(5).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من ذُكرنا عنده، ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(6).

ص: 398


1- انظر مستدرك الوسائل: ج10 ص311 ب49 استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) .. ح1.
2- بشارة المصطفى: ص168 ح134.
3- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص117 المجلس4 ح35.
4- ثواب الأعمال: ص84 باب ثواب من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً أو بكى أو تباكى.
5- كامل الزيارات: ص214 ب 36 ح1.
6- وسائل الشيعة: ج14 ص509 ب66 استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) ح19.

وقال ابن طاووس (رحمه اللّه) : روي عن آل الرسول (عليهم السلام) أنهم قالوا: «من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة»(1).

وفي الحديث: «إن اللّه ليأمر ملائكته المقربين أن يتلقوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسين (عليه السلام) إلى الخزان في الجنان، فيمزجونها بماء الحيوان، فيزيد في عذوبتها وطيبها ألف ضعفها»(2).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن زين العابدين (عليه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول: كُل يا مولاي، فيقول: قُتل ابن رسول اللّه جائعاً، قُتل ابن رسول اللّه عطشاناً، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبلّ طعامه من دموعه، ويمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه عز وجل»(3).

وحدّث مولى للإمام زين العابدين (عليه السلام) : أنه (عليه السلام) برز يوماً إلى الصحراء، قال: فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت عليه ألف مرة يقول: «لا إله إلاّ اللّه حقاً حقاً، لا إله إلاّ اللّه تعبداً ورقاً، لاإله إلاّ اللّه إيماناً وتصديقاً وصدقاً» ثم رفع رأسه من السجود وإن لحيته

ص: 399


1- عنه في بحار الأنوار: ج44 ص288 باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الائمة (عليهم السلام) .. ضمن ح27.
2- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : ص369 ثواب الحزن والبكاء على الحسين (عليه السلام) .
3- وسائل الشيعة: ج3 ص282 ب87 جواز البكاء على الميت والميتة واستحبابه عند زيادة الحزن ح10.

ووجهه قد غُمرا بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل؟ فقال (عليه السلام) لي: «ويحك إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) كان نبياً ابن نبي، له اثنا عشر ابناً فغيّب اللّه سبحانه واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حي في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي؟»(1).

وروى الشيخ الطوسي(2) (رحمه اللّه) عن عبد اللّه بن سنان(3) قال: دخلت على سيدي أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) في يوم عاشوراء، فألفيته كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول اللّه مم بكاؤك لا أبكى اللّه عينيك؟

فقال (عليه السلام) لي: «أو في غفلة أنت؟ أما علمت أن الحسين بن علي (عليه السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم»؟ فقلت: يا سيدي فما قولك في صومه؟ فقال لي: صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كاملا، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنه في مثل ذلك الوقت من اليوم تجلت

ص: 400


1- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص121-122.
2- الشيخ الجليل محمد بن الحسن بن علي أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة وزعيمها له باع طويل في كثير من العلوم النقلية والعقلية واشتهرت مؤلفاته وسارت بها الركبان ومن أشهرها تهذيب الأحكام والاستبصار والمبسوط والفهرست وغيرها، توفي سنة 460 ه- ودفن في داره بالنجف الأشرف ويقع الآن بجنب الصحن العلوي الشريف.
3- عبداللّه بن سنان بن طريف مولى بني هاشم، إمامي ثقة فقيه جليل، لا يُطعن عليه في شيء، هو من أصحاب الإمام الصادق والكاظم (عليهما السلام) ، ومع هذا كان خازناً للمنصور والمهدي والهادي وهارون العباسي.

الهيجاء عن آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون رجلاً صريعاً في مواليهم، يعُزُّ على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مصرعهم ولو كان في الدنيا يومئذ حياً لكان (صلوات اللّه عليه) هو المعزّى بهم» قال: وبكى أبو عبد اللّه (عليه السلام) حتى اخضلت لحيته بدموعه»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام) : «إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يُحرّمون فيه القتال، فاستُحلت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتهُب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا.. إن يوم الحسين (عليه السلام) أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين (عليه السلام) فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحُطّ الذنوب العظام»(2).

ودخل دعبل بن علي الخزاعي (رحمه اللّه) علي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقال له: يا ابن رسول اللّه إني قد قلت فيكم قصيدة وآليت على نفسي أن لاأُنشدها أحداً قبلك فقال (عليه السلام) : «هاتها»، فأنشده:

مدارس آيات خلت من تلاوة***ومنزل وحي مقفر العرصات

فلما بلغ إلى قوله:

أرى فيئهم في غيرهم متقسما***وأيديهم من فيئهم صفرات

بكى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) وقال له: «صدقت يا خزاعي»..(3).

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «.. يا مسمع إن الأرض والسماء لتبكي منذ قُتل أمير

ص: 401


1- مصباح المتهجد: ص782 زيارة أخرى في يوم عاشوراء.
2- إقبال الأعمال: ج3 ص29 فصل1 ب1.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص294 باب66 ح34.

المؤمنين (عليه السلام) رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قُتلنا، وما بكى أحد رحمةً لنا ولما لقينا إلاّ رحمه اللّه قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خدّه فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حرّ، وإن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحةً لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض، وإن الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه، يا مسمع من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ولم يستقِ بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل وألين من الزبد وأصفى من الدمع وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم ويمر بأنهار الجنان، يجري على رضراض الدر والياقوت، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضة وألوان الجوهر، يفوح في وجه الشارب منه كل فائحة، حتى يقول الشارب منه: ليتني تُركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً، أما إنك يا كردين(1) ممن تروي منه، وما من عين بكت لنا إلاّ نعمت بالنظر إلى الكوثر، وسقيت منه من أحبنا، وإن الشارب منه ليُعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه ممن هو دونه في حبنا، وإنّ على الكوثر أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي يده عصا من عوسج يحطم بها أعداءنا، فيقول الرجل منهم: إني أشهد الشهادتين!، فيقول: انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك، فيقول: يتبرأ مني إمامي الذي تذكره،

ص: 402


1- كردين: لقب للراوي وهو مسمع بن عبد الملك أبو سيار شيخ بكر بن وائل بالبصرة ووجهها وسيد المسامعة، من أصحاب الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) واختص بالصادق (عليه السلام) ، إمامي ثقة وله أحاديث كثيرة عنهم صلوات اللّه عليهم.

فيقول: ارجع إلى وراءك فقل للذي كنت تتولاه وتُقدمه على الخلق فاسأله إذ كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإن خير الخلق حقيق أن لا يُرد إذا شفع، فيقول: إني أهلك عطشاً، فيقول: زادك اللّه ظمأ وزادك اللّه عطشاً.

قلت: جعلت فداك وكيف يقدر على الدنو من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟

قال (عليه السلام) : «ورع عن أشياء قبيحة، وكف عن شتمنا إذا ذكرنا، وترك أشياء اجترأ عليها غيره، وليس ذلك لحبنا ولا لهوى منه، ولكن ذلك لشدة اجتهاده في عبادته وتدينه، ولمِا قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأما قلبه فمنافق ودينه النصب باتباع أهل النصب وولاية الماضين وتقديمه لهما على كل أحد»(1).

شدة البكاء والإغماء

روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما مر بأرض كربلاء قال: «هذه أرض كرب وبلاء» ثم قال بأعلى صوته: «يا رب عيسى ابن مريم، لا تبارك في قتلة الحسين والحامل عليه والمعين عليه والخاذل له» ثم بكى (عليه السلام) بكاءً طويلاً وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغُشي عليه طويلاً، ثم أفاق(2).

هذا وقد بكى الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء على أصحابه وأهل بيته بكاءً عالياً شديداً وربما وقع على الأرض مغشياً عليه.

وروي أن أبا الفضل العباس (عليه السلام) لما رأى وحدته (عليه السلام) أتى أخاه وقال: يا أخي هل من رخصة؟ فبكى الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً(3).. قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : (ثم اقتطعوا العباس (عليه السلام) عنه وأحاطوا به من كل جانب حتى قتلوه، وكان المتولي

ص: 403


1- كامل الزيارات: ص204-206 ب32 ح7.
2- انظر كمال الدين: ص534 باب حديث الظباء بأرض نينوى ح1.
3- بحار الأنوار: ج45 ص41 ب37.

لقتله زيد بن ورقاء الحنفي وحكيم بن الطفيل السنبسي فبكى الحسين (عليه السلام) لقتله بكاء شديداً)(1).

وهكذا لما أراد الإمام (عليه السلام) أن يودّع ولده علي الأكبر (عليه السلام) والقاسم (عليه السلام) حيث وقعا على الأرض من شدة البكاء وأغمي عليهما(2)، وكذا في توديع العديد من أصحابه وأهل بيته كان الإمام (عليه السلام) يبكي بكاءً عالياً.

وروي أن علياً الأكبر (عليه السلام) عندما طلب من أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) الأذن بالقتال أرخى الإمام (عليه السلام) عينيه بالدموع وبكى بكاء عالياً(3)، وروي أيضاً إن علياً الأكبر (عليه السلام) عند ما رجع من جولته الأولى مع الأعداء قال لأبيه الحسين (عليه السلام) : يا أبه العطش قد قتلني وثقل الحديد أجهدني فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوى بها على الأعداء؟ فبكى الحسين (عليه السلام) بكاءً عالياً(4)، وعندما طعنه مرة بن منقذ فصرعه ثم قطعه القوم بالسيوف بكى الحسين (عليه السلام) بكاءً عالياً(5).

البكاء وخوف الهلكة

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «بكى علي بن الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتى قال له مولى له: جُعلت فداك يا ابن رسول اللّه إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين!، قال (عليه السلام) : {إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي

ص: 404


1- بحار الأنوار: ج45 ص50 ب37، نقله عن المفيد والسيد وابن نما رحمهم اللّه، انظر اللّهوف: ص70، مثير الأحزان: 54.
2- انظر بحار الأنوار: ج45 ص34 ب37 وفيه: اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غُشي عليهما.
3- انظر المجالس الفاخرة: ص242.
4- انظر بحار الأنوار: ج45 ث43 ب37، وانظر الفتوح: ج5 ص115.
5- انظر جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب: ج2 ص287.

وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1)، إني ما أذكر مصرع بني فاطمة (عليهم السلام) إلاّ خنقتني لذاك العبرة»(2).

وفي رواية قال المولى: يا بن رسول اللّه أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال (عليه السلام) له: «ويحك، إن يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً، فغيب اللّه واحداً منهم، فابيضت عيناه من كثرة بكائه، وأحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي (عليهم السلام) وسبعة عشر رجلاً من أهل بيتي (عليهم السلام) مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني»(3).

وروي: «إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) بكى حتى خيف على عينيه»(4).

النياحة

عن محمد بن علي (عليه السلام) قال: «لما همّ الحسين (عليه السلام) بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة»(5).

وروي: أنه أقبلت بعض عماته (عليه السلام) تبكي وتقول: أشهد يا حسين لقد سمعت الجن ناحت بنوحك، وهم يقولون:

وإن قتيل الطف من آل هاشم***أذل رقاباّ من قريش فذلت

حبيب رسول اللّه لم يك فاحشا***أبانت مصيبتك الأنوف وجلت

ص: 405


1- سورة يوسف: 86.
2- الخصال: ص273 باب الخمسة، البكاؤون خمسة ح15، مكارم الأخلاق: ص316 في البكاء.
3- تفسير نور الثقلين: ج2 ص452 سورة يوسف.
4- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص303.
5- كامل الزيارات: ص195 ب29 ح8.

وقلن أيضاً:

ابكوا حسيناً سيداً***ولقتله شاب الشعر

ولقتله زلزلتم***ولقتله انكسف القمر

واحمرت آفاق السماء***من العشية والسحر

وتغيرت شمس البلاد***بهم وأظلمت الكور

ذاك ابن فاطمة المصاب***به الخلائق والبشر

أورثتنا ذلاً به***جدع الأنوف مع الغرر(1)

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث: «وما من عين أحبّ إلى اللّه ولا عبرة، من عين بكت ودمعت على الحسين (عليه السلام) ، وما من باك يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة (عليها السلام) وأسعدها عليه، ووصل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأدّى حقنا، وما من عبد يحشر إلاّ وعيناه باكية إلاّ الباكين على جدي، فإنه يحشر وعينه قريرة، والبشارة تلقاه، والسرور على وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يعرضون وهم حداث الحسين (عليه السلام) تحت العرش وفي ظل العرش، لا يخافون سوء الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وإن الحور لترسل إليهم أنا قد اشتقناكم مع الولدان المخلدين، فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة، وإن أعداءهم من بين مسحوب بناصيته إلى النار، ومن قائل:فما لنا من شافعين ولا صديق حميم، وإنهم ليرون منزلهم وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإن الملائكة لتأتيهم بالرسالة من أزواجهم ومن خزانهم على ما أعطوا من الكرامة، فيقولون نأتيكم إن شاء اللّه فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبروهم بما هم فيه

ص: 406


1- انظر مدينة المعاجز: ج4 ص178 فصل178 ح1200/253.

من الكرامة وقربهم من الحسين (عليه السلام) ، فيقولون: الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة ونجانا مما كنا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرحال على النجائب فيستوون عليها وهم في الثناء على اللّه والحمد لله والصلاة على محمد وعلى آله حتى ينتهوا إلى منازلهم»(1).

وعن الثمالي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه وكّل بقبر الحسين (عليه السلام) أربعة آلاف ملك، شعثاً غبراً يبكونه من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، وإذا زالت الشمس هبط أربعة آلاف ملك، وصعد أربعة آلاف ملك، فلم يزل يبكونه حتى يطلع الفجر..»(2).

الجزع

الجزع(3)

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن جبرئيل أتى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والحسين (عليه السلام) يلعب بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره أن أمته ستقتله، قال: فجزع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ألا أريك التربة التي يُقتل فيها، قال: فخسف ما بين مجلس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المكان الذي قُتل فيه حتى التقت القطعتان فأخذ منها، ودحيت في أسرع من طرفة العين، فخرج (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقول: طوبى لك من تربة، وطوبى لمن يقتل حولك»(4).

ص: 407


1- جامع أحاديث الشيعة: ج12 ص552-553 ب83 من أبواب زيارة المعصومين (عليهم السلام) ح4905/14.
2- مستدرك الوسائل: ج10 ص243 ب26 من أبواب المزار ح11935/25.
3- الجزع في اللغة: نقيض الصبر، وهو إظهار ما يلحق المصاب من المضض والغم، وهو أشد أنواع الحزن.
4- بحار الأنوار: ج44 ص235 ب30 ح22.

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «دخلت فاطمة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيناه تدمع، فسألته ما لك؟ فقال: إن جبرئيل أخبرني أن أمتي تقتل حسيناً، فجزعَت وشقّ عليها، فأخبرها بمن يملك من ولدها، فطابت نفسها وسكنت»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام) »(2).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ماخلا البكاء على الحسين بن علي (عليه السلام) فإنه فيه مأجور»(3).

وعن مسمع كردين قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا مسمع أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين (عليه السلام) ؟ قلت: لا، أنا رجل مشهور من أهل البصرة، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة، وأعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من النصاب وغيرهم ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلوا بي، قال لي: «أفما تذكر ما صنع به»؟ قلت: بلى، قال: فتجزع، قلت: أي واللّه، واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك علي فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي، قال: «رحم اللّه دمعتك، أما إنك من الذين يعدون في أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا» إلى أن قال: ثم استعبر واستعبرت معه فقال (عليه السلام) : «الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة، وخصنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع إن الأرض والسماء لتبكي منذ قُتل أمير المؤمنين (عليه السلام) رحمة لنا، ومابكى لنا من الملائكة أكثر، ومارقأت دموع

ص: 408


1- كامل الزيارات: ص125 ب16 ح139/8.
2- وسائل الشيعة: ج3 ص282 ب87 من أبواب الدفن ومايناسبه ح3657/9.
3- الفصول المهمة في أصول الأئمة: ج3 ص414 ب137 من أبواب نوادر الكليات ح3190/2.

الملائكة منذ قُتّلنا، وما بكى أحد رحمةً لنا وما لقينا إلا رحمه اللّه..»(1).

وعن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته في طريق المدينة ونحن نريد مكة فقلت: يا ابن رسول اللّه ما لي أراك كئيباً حزيناً منكسراً؟ فقال: «لو تسمع ما أسمع لشغلك عن مساءلتي» فقلت: وما الذي تسمع؟ قال: «ابتهال الملائكة إلى اللّه عزوجل على قتلة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتلة الحسين (عليه السلام) ، ونوح الجن وبكاء الملائكة الذين حوله وشدة جزعهم، فمن يتهنأ مع هذا بطعام أو شراب أو نوم»(2).

الصراخ

قال ابن عباس: (بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. فلما انتهيت إليها، قلت: يا أم المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكين معي فقد واللّه قُتل سيدكنّ وسيد شباب أهل الجنة، قد واللّه قُتل سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته الحسين (عليه السلام) ، فقيل: يا أم المؤمنين، ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام الساعة شعثاً مذعوراً فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قُتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم، قالت: فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين (عليه السلام) التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال: إذا صارت دماً فقد قُتل ابنك وأعطانيها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال اجعلي هذه التربة في زجاجة

ص: 409


1- جامع أحاديث الشيعة: ج12 ص553-554 ب83 من أبواب زيارة المعصومين (عليهم السلام) ح4907 /101.
2- مدينة المعاجز: ج4 ص150 فصل175 ح1158/211.

أو قال: في قارورة ولتكن عندك فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين (عليه السلام) ، فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور)(1).

وعن ابن عباس قال: الملك الذي جاء إلى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخبره بقتل الحسين (عليه السلام) كان جبرئيل الروح الأمين منشور الأجنحة(2) باكياً صارخاً، قد حمل من تربته وهو يفوح كالمسك، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وتفلح أمة تقتل فرخي»، أو قال: «فرخ ابنتي»؟ قال جبرئيل: «يضربها اللّه بالاختلاف فيختلف قلوبهم»(3).

ولما قُتل الإمام الحسين (عليه السلام) جاءت جارية من ناحية خيم الإمام الحسين (عليه السلام) .. فقال لها رجل: يا أمة اللّه إن سيدك قُتل، قالت الجارية: فأسرعت إلى سيدتي وأنا أصيح، فقمن في وجهي وصحن(4).

السواد والحداد

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت، ولا رُئي في دار هاشمي دخان خمس حجج حتى قُتل عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه»(5).

وعن فاطمة (عليها السلام) بنت علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنها قالت:

«ما تحنأت امرأة منا، ولا أجالت في عينها مروداً، ولا امتشطت حتى بعث المختار برأس عبيد اللّه بن زياد»(6).

ص: 410


1- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص315 المجلس 11 ح640/87.
2- ورد في بعض المصادر إن جبرئيل (عليه السلام) إذا نزل ناشراً أجنحته يكون حاملاً لعقاب على الكافرين.
3- بحار الأنوار: ج44 ص237 ب30 ح28.
4- اللّهوف في قتلى الطفوف: ص77.
5- ذوب النضار في شرح الثار: ص144.
6- ذوب النضار في شرح الثار: ص144-145.

وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : «ما اختضبت منا امرأة ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجلت، حتى أتانا رأس عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه، وما زلنا في عبرة بعده، وكان جدي - يعني علي بن الحسين (عليه السلام) - إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه»(1).

وفي حديث: «لما قتل الحسين بن علي صلوات اللّه عليه لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكن لا يشتكين من حر ولا برد، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهن الطعام للمأتم»(2).

وروي: أنه أخليت لهن الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلاّ ولبست السواد على الحسين (عليه السلام) ، وندبوه على ما نقل سبعة أيام(3).

شق الجيوب

روي: أنه لما اُتي بعلي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وبالنسوة من كربلاء إلى الكوفة.. وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون(4).

وروي في قصة السيدة زينب (عليها السلام) مع الإمام الحسين (عليه السلام) قبل يوم عاشوراء: قالت: «يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً فذاك أقرح لقلبي وأشد على نفسي»، ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقته وخرّت مغشياً عليها(5)..

ص: 411


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص313-314 ب49 من أبواب المزار ومايناسبه ح12077/6.
2- المحاسن: ج2 ص420 ب25 من أبواب كتاب المآكل ح195.
3- بحار الأنوار: ج45 ص196 ب39.
4- الإحتجاج: ج2 ص29 خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب (عليها السلام) بحضرة أهل الكوفة..
5- الإرشاد: ج2 ص94.

وفي مجلس يزيد لما رأت زينب (عليها السلام) رأس الحسين (عليه السلام) أهوت إلى جيبها فشقته..(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليهم السلام) ، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب»(2).

أيام الحزن

عن عبد اللّه بن الفضل(3) قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قُبض فيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة (عليها السلام) واليوم الذي قُتل فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) واليوم الذي قُتل فيه الحسن (عليه السلام) بالسم؟

فقال (عليه السلام) : «إن يوم الحسين (عليه السلام) أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام، وذلك أن أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على اللّه تعالى كانوا خمسة، فلما مضى عنهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فكان فيهم للناس عزاءٌ وسلوةٌ، فلما مضت فاطمة (عليها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) للناس عزاء وسلوة، فلما مضى منهم أمير المؤمنين (عليه السلام) كان للناس في الحسن والحسين (عليهما السلام) عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن (عليه السلام) كان للناس في الحسين (عليه السلام) عزاء وسلوة، فلما قُتل الحسين (صلى اللّه عليه) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة، فكان ذهابه (عليه السلام) كذهاب جميعهم (عليهم السلام)

ص: 412


1- انظر مثير الأحزان: ص79.
2- وسائل الشيعة: ج22 ص402 ب31 من أبواب الكفارات ح28894/1.
3- عبداللّه بن الفضل بن عبداللّه (ببّة) بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب الهاشمي النوفلي إمامي ثقة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) .

كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة»(1).

عن أبي عمارة المنشد(2) قال: ما ذُكر الحسين بن علي (عليه السلام) عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) في يوم قط فرئي أبو عبد اللّه (عليه السلام) متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، قال: وكان أبو عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «الحسين (عليه السلام) عبرة كل مؤمن»(3).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام) : «إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين (عليه السلام) أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين (عليه السلام) فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام» ثم قال (عليه السلام) : «كان أبي صلوات اللّه عليه إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلى اللّه عليه»(4).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى اللّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل اللّه عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه،

ص: 413


1- علل الشرائع: ج1 ص226 ب162 ح1.
2- أبو عمارة المنشد: من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) ومن رجال كتاب كامل الزيارات.
3- المجالس الفاخرة: ص74.
4- إقبال الأعمال: ج1 ص28 فصل2 ب1.

ومن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادخر، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد (لعنهم اللّه) إلى أسفل درك من النار»(1).

وعن عبد اللّه بن سنان قال: دخلت على سيدي أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول اللّه مم بكاؤك؟ لا أبكى اللّه عينيك؟ فقال لي: «أو في غفلة أنت؟ أما علمت أن الحسين بن علي (عليه السلام) أصيب في مثل هذا اليوم».. قال: وبكى أبو عبد اللّه (عليه السلام) حتى أخضلت لحيته بدموعه..(2).

إقامة المأتم ومجالس العزاء

عن مصقلة الطحان(3) قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لما قُتل الحسين (عليه السلام) أقامت امرأته الكلبية عليه مأتماً، وبكت وبكين النساء والخدم حتى جفت دموعهن وذهبت، فبينا هي كذلك إذا رأت جارية من جواريها تبكي ودموعها تسيل فدعتها فقالت لها: ما لك أنت من بيننا تسيل دموعك؟ قالت: إني لما أصابني الجهد شربت شربة سويق، قال: فأمرت بالطعام والأسوقة فأكلت وشربت وأطعمت وسقت وقالت: إنما نريد بذلك أن نتقوى على البكاء على الحسين (عليهم السلام) »(4).

ص: 414


1- جامع أحاديث الشيعة: ج12 ص563 ب83 من أبواب زيارة المعصومين (عليهم السلام) ح4920/2.
2- مصباح المتهجد: ص782 فصل: زيارة أخرى في يوم عاشوراء.
3- مصقلة الطحان: من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وممن روى عنه يونس بن عبدالرحمن القمي (من أصحاب الإجماع).
4- الكافي: ج1 ص466 باب مولد الحسين بن علي (عليهما السلام) ح9.

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال لفضيل(1): «تجلسون وتحدثون»؟ قال: نعم، جُعلت فداك، قال (عليه السلام) : «إن تلك المجالس اُحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم اللّه من أحيا أمرنا، يا فضيل من ذَكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(2).

وروي أنه لما أخبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة (عليها السلام) بقتل ولدها الحسين (عليه السلام) وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة (عليها السلام) بكاءً شديداً، وقالت: «يا أبة متى يكون ذلك»؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «في زمان خال مني ومنك ومن عليّ» فاشتد بكاؤها (عليها السلام) وقالت: «يا أبة، فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له»؟ فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة، فإذا كان القيامة تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين (عليه السلام) أخذنا بيده وأدخلناه الجنة، يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة إلاّ عين بكت على مصاب الحسين (عليه السلام) فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة»(3).

إنشاد الشعر

عن أبي عمارة المنشد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال لي: «يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي (عليه السلام) ».. قال: فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال:

ص: 415


1- الظاهر أنه الفضيل بن يسار: أبو القاسم إمامي فقيه ثقة من أصحاب الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) توفي في حياة الصادق (عليه السلام) ومن خُلص أصحابهما، ومن أقوال الصادق (عليه السلام) ، فيه: «رحم اللّه الفضيل بن يسار وهو منا أهل البيت».
2- قُرب الإسناد: عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أحاديث متفرقة ص36 ح117.
3- بحار الأنوار:ج44 ص293 ب34 ح37.

فو اللّه ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال (عليه السلام) لي: «يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي (عليه السلام) شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فتباكى فله الجنة»(1).

وعن زيد الشحام قال: كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ونحن جماعة من الكوفيين فدخل جعفر بن عفان(2) على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقربه وأدناه ثم قال: «يا جعفر»، قال: لبيك جعلني اللّه فداك، قال: «بلغني أنك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد»، فقال له: نعم، جعلني اللّه فداك، فقال: «قل» فأنشده (صلى اللّه عليه) فبكى ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته، ثم قال: «يا جعفر واللّه لقد شهدك ملائكة اللّه المقربون هاهنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام) ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب اللّه تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنة بأسرها، وغفر اللّه لك».. فقال: «يا جعفر ألا أزيدك»؟ قال: نعم يا سيدي، قال (عليه السلام) : «ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعرا فبكى وأبكى به إلاّ أوجب اللّه له الجنة وغفر له»(3).

ص: 416


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص205 المجلس29 ح222/6.
2- جعفر بن عفان الطائي: أبوعبداللّه من شعراء الشيعة من الكوفة وكان مكفوفا شعره قرابة مائتا ورقة.
3- اختيار معرفة الرجال: ج2 ص574-575 ماجاء في جعفر بن عفان الطائي.

وعن صالح بن عقبة(1) عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من أنشد في الحسين (عليه السلام) بيتاً من شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنة، فلم يزل حتى قال: ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) بيتاً فبكى - وأظنه قال: أو تباكى - فله الجنة»(2).

وعن عبد اللّه بن غالب(3) قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأنشدته مرثية الحسين بن علي (عليه السلام) فلما انتهيت إلى هذا الموضع:

لبلية تسقوا حسينا***بمسقاة الثرى غير التراب

صاحت باكية من وراء الستر: يا أبتاه(4).

وعن أبي هارون المكفوف(5) قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال لي: «أنشدني»، فأنشدته، فقال: «لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره»، فأنشدته:

امرر على جدث الحسين***فقل لأعظمه الزكية(6)

قال: فلما بكى أمسكت أنا، فقال (عليه السلام) : «مر»، فمررت، قال: ثم قال: «زدني زدني» قال: فأنشدته:

ص: 417


1- صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة إمامي من أصحاب الصادق والكاظم (عليهما السلام) ومن رجال تفسير القمي وكامل الزيارات، كثير الحديث روى عنه يونس بن عبدالرحمن ومحمد بن أحمد بن يحيى ولم تستثن رواياته وغيرهما.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص596 ب104 من أبواب المزار ومايناسبه ح19889/5.
3- عبداللّه بن غالب الأسدي: إمامي شاعر فقيه ثقة من أصحاب الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) قال الصادق (عليه السلام) ، عنه: «إن ملكاً يلقنك أويلقى عليك الشعر وإني لأعرف ذلك الملك».
4- مستدرك الوسائل: ج10 ص385 ب83 من أبواب المزار ومايناسبه ح12235/1.
5- أبو هارون المكفوف إمامي من أصحاب الباقر والصادق (عليه السلام) ومن رجال كتاب كامل الزيارات.
6- هذا البيت لمطلع قصيدة السيد الحميري (رحمه اللّه) في رثاء الحسين (عليه السلام) .

يا مريم قومي واندبي مولاك***وعلى الحسين فأسعدي ببكاك

قال: فبكى (عليه السلام) وتهايج النساء، قال: فلما أن سكتن قال لي: «يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنة»، ثم جعل ينتقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد فقال (عليه السلام) : «من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى واحداً فله الجنة» ثم قال: «من ذكره (عليه السلام) فبكى فله الجنة»(1).

إطعام الطعام

في حديث: «لما قُتل الحسين بن علي صلوات اللّه عليه لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح... وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهن الطعام للمأتم»(2).

اللطم

روي: أن الهاشميات وبنات الرسالة عندما رأين جواد الحسين (عليه السلام) راجعاً لوحده: خرجن من الخدور.. لاطمات الوجوه(3).

وعند إمرار النسوة على جسد الإمام الحسين (عليه السلام) صحن ولطمن خدودهن(4).

وعند رجوع أهل البيت (عليهم السلام) إلى كربلاء يوم الأربعين وملاقاتهم بالصحابي جابر الأنصاري، أنهم: تلاقوا بالبكاء والحزن واللطم(5).

إلى غير ذلك من النصوص الواردة في اللطم واستحبابه على الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام.

ص: 418


1- جامع أحاديث الشيعة: ج12 ص565 ب85 من أبواب زيارة المعصومين ح4923/3.
2- وسائل الشيعة: ج3 ص238 ب68 من أبواب الدفن ومايناسبه ح3508/10.
3- المزار، لإبن المشهدي: ص504.
4- مثير الأحزان: ص64.
5- المجالس الفاخرة: ص274.

المواساة بالدم

النبي آدم (عليه السلام)

روي: أن آدم (عليه السلام) لما هبط إلى الأرض لم ير حواء (عليها السلام) فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء فاغتم، وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين (عليه السلام) ، حتى سال الدم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي هل حدث مني ذنب آخر فعاقبتني به؟ فإني طفت جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض».

فأوحى اللّه إليه: «يا آدم ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين (عليه السلام) ظلماً فسال دمك موافقةً لدمه».

فقال آدم (عليه السلام) : «يا رب أيكون الحسين نبياً»؟

قال: «لا، ولكنه سبط النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».

فقال: «ومن القاتل له»؟

قال: «قاتله يزيد لعين أهل السماوات والأرض».

فقال آدم (عليه السلام) : «فأي شي ء أصنع يا جبرئيل»؟

فقال: «العنه يا آدم»، فلعنه أربع مرات ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حواء هناك(1).

إبراهيم الخليل (عليه السلام)

روي أن إبراهيم الخليل (عليه السلام) مر في أرض كربلاء وهو راكب فرساً، فعثرت به وسقط إبراهيم (عليه السلام) وشج رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار وقال: «إلهي

ص: 419


1- بحار الأنوار: ج44 ص242-243 ب30ح37.

أي شي ء حدث مني»؟ فنزل إليه جبرئيل وقال: «يا إبراهيم ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يُقتل سبط خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء (عليه السلام) ، فسال دمك موافقةً لدمه»، فقال: «يا جبرئيل ومن يكون قاتله»؟ قال: «لعين أهل السماوات والأرضين، والقلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربه، فأوحى اللّه تعالى إلى القلم أنك استحققت الثناء بهذا اللعن»، فرفع إبراهيم (عليه السلام) يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرسه بلسان فصيح، فقال إبراهيم (عليه السلام) لفرسه: «أي شي ء عرفت حتى تؤمّن على دعائي»؟ فقال: يا إبراهيم أنا أفتخر بركوبك عليّ فلما عثرت وسقطت عن ظهري عظمت خجلتي وكان سبب ذلك من يزيد لعنه اللّه تعالى(1).

النبي موسى (عليه السلام)

روي: أن موسى الكليم (عليه السلام) كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون، فلما جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، ودخل الخسك في رجليه، وسال دمه، فقال: «إلهي أي شي ء حدث مني»؟ فأوحى إليه: «أن هنا يُقتل الحسين (عليه السلام) وهنا يُسفك دمه، فسال دمك موافقةً لدمه»، فقال: «رب ومن يكون الحسين»؟

فقيل له: «هو سبط محمد المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وابن علي المرتضى (عليه السلام) ».

فقال: «ومن يكون قاتله»؟

فقيل: «هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء».

فرفع موسى (عليه السلام) يديه ولعن يزيد ودعا عليه وأمّن يوشع بن نون (عليه السلام) على

ص: 420


1- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص102باب جوامع ماأخبر به الأنبياء (عليهم السلام) من شهادته..

دعائه ومضى لشأنه(1).

السيدة زينب (عليها السلام)

وفي الحديث المعتبر أن مولاتنا السيدة زينب (عليها السلام) وهي عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهمة، ضربت برأسها المحمل حتى جرى الدم من تحت قناعها وذلك لما رأت رأس أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) على الرمح(2).

وقد ذكرنا في بعض كتبنا(3)

حجية قول السيدة زينب (عليها السلام) وفعلها كالمعصوم (عليه السلام) ، مضافاً إلى أن ذلك كان بمرأى ومسمع من الإمام زين العابدين (عليه السلام) ..

الإمام الرضا (عليه السلام)

عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «إن يوم الحسين (عليه السلام) أقرح جفوننا»(4).

الإمام المهدي (عليه السلام)

قال مولانا الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في زيارة الناحية المقدسة وهي زيارة معتبرة شرعاً: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً»(5).

ص: 421


1- بحار الأنوار: ج44 ص300 ب30 ح41.
2- انظر بحار الأنوار: ج45 ص301 ب39، العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص373 باب فيما وقع من دخول أهل البيت الكوفة..، المجالس الفاخرة، للسيد عبدالحسين شرف الدين: ص315، المنتخب للطريحي: ص465، وغيرها من المصادر.
3- انظر ماكتبه الإمام المؤلف رضوان اللّه عليه في موسوعة الفقه، حول السنة الطهرة: ص59 باب الكلام في أقوال أولاد الأئمة (عليهم السلام) .
4- إقبال الأعمال: ج1 ص28 فصل2 ب1.
5- المزار، لإبن المشهدي: ص501.

مطلق المواساة

والظاهر استحباب مطلق المواساة مع سيد الشهداء (عليه السلام) وأهل بيته المظلومين (عليهم السلام) ، ومنها مختلف أنواع العزاء من اللطم والتطبير والزنجيل وغيرها، وحتى عزاء النار، فإن فيه مواساة لبنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأطفاله عند حرق الخيام يوم عاشوراء.

ومنها: تحمل العطش والجوع مواساةً لشهداء كربلاء.

ومنها: ما روي عن الإمام السجاد (عليه السلام) أنه لما رأى رأس الحسين (عليه السلام) في الطشت أمام يزيد لم يأكل الرؤوس أبداً(1).

في الحديث أنه لما علم زكريا (عليه السلام) بشهادة الحسين (عليه السلام) كان يقول: «إلهي ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، واجعله وارثاً رضياً، يوازي محله مني محل الحسين (عليه السلام) ، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم أفجعني به، كما تفجع محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حبيبك بولده» فرزقه اللّه يحيى (عليه السلام) وفجعه به(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن زين العابدين (عليه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول: كُل يا مولاي، فيقول: قُتل ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جائعاً، قُتل ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عطشاناً، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه، ويمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه عز وجل»(3).

ص: 422


1- لواعج الأشجان: ص222.
2- دلائل الإمامة: ص514.
3- وسائل الشيعة: ج3 ص282 ب87 من أبواب الدفن وما يناسبه ح 3658/10.

زيارة المشاهد المشرفة

من الشعائر الحسينية المؤكدة: زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «زارنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدمناه فأكل منه، ثم قام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى زاوية البيت فصلى ركعات، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلم يسأله أحد منا إجلالاً له، فقام الحسين (عليه السلام) فقعد في حجره وقال له: يا أبت، لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشي ء كسرورنا بدخولك، ثم بكيت بكاء غمنا، فلم بكيت؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا بني أتاني جبرئيل (عليه السلام) آنفاً، فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى! فقال: يا أبت، فما لمن يزور قبورنا على تشتتها؟ فقال: يا بني، أولئك طوائف من أمتي، يزورونكم يلتمسون بذلك البركة، وحقيق علي أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم، ويسكنهم اللّه الجنة»(1).

وهذه الرواية تدل أيضاً على استحباب البكاء الشديد على مصاب الحسين (عليه السلام) حيث بكى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سجوده بكاءً شديداً.

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «زوروا الحسين (عليه السلام) ولا تجفوه فإنه سيد شباب أهل الجنة من الخلق وسيد الشهداء»(2).

وعن قدامة بن زائدة عن أبيه قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «بلغني يا زائدة إنك تزور قبر أبي عبد اللّه (عليه السلام) أحياناً»؟ فقلت: إن ذلك لكما بلغك، فقال لي: «فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك، الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا

ص: 423


1- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص669 المجلس36 ح12.
2- كامل الزيارات: ص216-217 ب37 ح1.

وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا»؟ فقلت: واللّه ما أريد بذلك إلاّ اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال (عليه السلام) : «واللّه إن ذلك لكذلك»، فقلت: واللّه إن ذلك لكذلك، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثا، فقال (عليه السلام) : «أبشر ثم أبشر ثم أبشر فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون، إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا، وقُتل أبي (عليه السلام) وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله (عليهم السلام) ، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى، ولم يواروا فيعظم ذلك في صدري، ويشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى (عليها السلام) فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرجين بدمائهم، مرملين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولايعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر، فقالت: لا يجزعنك ما ترى فو اللّه إن ذلك لعهد من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء (عليه السلام) لا يُدرس أثره، ولايعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأمره إلاّ علواً، فقلت: وما هذا العهد وما هذا الخبر؟ فقالت: حدثتني أم أيمن أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيام فعملت له حريرة (صلى اللّه عليها) وأتاه علي (عليه السلام)

ص: 424

بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد فأكل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) من تلك الحريرة، وشرب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأكلوا من ذلك التمر بالزبد، ثم غسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده وعلي (عليه السلام) يصب عليه الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ثم نظر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) نظراً عرفنا فيه السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً، ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه يدعو، ثم خر ساجداً وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر..

فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وحزنتُ معهم لما رأينا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهبناه أن نسأله، حتى إذا طال ذلك قال له علي (عليه السلام) وقالت له فاطمة (عليهما السلام) : ما يبكيك يا رسول اللّه؟ لا أبكى اللّه عينيك، وقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك، فقال: يا أخي سررت بكم (يا حبيبي إني سررت بكم)(1) سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد اللّه على نعمته عليّ فيكم، إذ هبط عليّ جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إن اللّه تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنأك العطية بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة، لا يفرق بينك وبينهم، يحيون كما تحيا ويعطون كما تعطى حتى ترضى وفوق الرضا، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك، ويزعمون أنهم من

ص: 425


1- مابين الهلالين رواه مزاحم بن عبدالوارث بسنده عن قدامة بن زائدة عن أبيه عن الإمام السجاد (عليه السلام) .

أمتك، براء من اللّه ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً شتى مصارعهم نائيةً قبورهم، خيرة من اللّه لهم ولك فيهم، فاحمد اللّه عزوجل على خيرته، وارض بقضائه، فحمدت اللّه ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.

ثم قال جبرئيل: يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة، وأشقى البرية، نظير عاقر الناقة، ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإن سبطك هذا وأومأ بيده إلى الحسين (عليه السلام) مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك بضفة الفرات، بأرض تدعى كربلاء من أجلها يكثر الكرب والبلاء، على أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لاينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمةً وإنها لمن بطحاء الجنة.

فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتل فيه سبطك وأهله وأحاطت بهم كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال وكثر اضطرابها، واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها، غضباً لك يا محمد ولذريتك، واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما يتكافى به في ذريتك وعترتك، ولا يبقى شي ء من ذلك إلاّ استأذن اللّه عز وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجة اللّه على خلقه بعدك، فيوحي اللّه إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهن: أني أنا اللّه الملك القادر، والذي لا يفوته هارب، ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي وصفيي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهله عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فعند ذلك يضج كل

ص: 426

شي ء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولى اللّه جل وعز قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة، معهم آنية من الياقوت والزمرد مملوءة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنة، وطيب من طيب الجنة، فغسلوا جثثهم بذلك الماء، وألبسوها الحلل وحنطوها بذلك الطيب، وصلى الملائكة صفاً صفا عليهم. ثم يبعث اللّه قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء (عليه السلام) بتلك البطحاء، يكون عَلَماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفه ملائكة من كل سماء مائة ألف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويسبحون اللّه عنده ويستغفرون اللّه لزواره، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك، متقرباً إلى اللّه وإليك بذلك، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش اللّه: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار يدل عليهم ويعرفون به، وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل، وعلي (عليه السلام) أمامنا، ومعنا من ملائكة اللّه ما لا يحصى عدده، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم اللّه من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم اللّه وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك، لا يريد به غير اللّه جل وعز، وسيجد أناس ممن حقت عليهم من اللّه اللعنة والسخط، أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره فلا يجعل اللّه تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً.

ثم قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب (عليها السلام) : فلما ضرب ابن ملجم (لعنه اللّه) أبي (عليه السلام) ورأيت أثر الموت

ص: 427

منه، قلت له: يا أبة حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: «يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بكِ وببنات أهلك سبايا بهذا البلد أذلاء خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين أخبرنا بهذا الخبر: إن إبليس في ذلك اليوم يطير فرحاً فيجول الأرض كلها في شياطينه وعفاريته فيقول: يا معشر الشياطين قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية وأورثناهم النار إلاّ من اعتصم بهذه العصابة فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب، أنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح، ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا زرتم أبا عبد اللّه (عليه السلام) فألزموا الصمت إلاّ من خير، وإن ملائكة الليل والنهار من الحفظة تحضر الملائكة الذين بالحائر، فتصافحهم فلا يجيبونها من شدة البكاء، فينتظرونهم حتى تزول الشمس وحتى ينور الفجر، ثم يكلّمونهم ويسألونهم عن أشياء من أمر السماء، فأما ما بين هذين الوقتين فإنهم لا ينطقون ولا يفترون عن البكاء والدعاء ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم، فإنهم شغلهم بكم إذا نطقتم».

قال الراوي: جُعلت فداك وما الذي يسألونهم عنه؟ وأيهم يسأل صاحبه:

ص: 428


1- بحار الأنوار: ج45 ص179-183 ب39 ح30.

الحفظة أو أهل الحائر؟

قال (عليه السلام) : «أهل الحائر يسألون الحفظة، لأن أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون، والحفظة تنزل وتصعد» قلت: فما ترى يسألونهم عنه؟ قال: «إنهم يمرون إذا عرجوا بإسماعيل صاحب الهواء، فربما وافقوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعنده فاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) من مضى منهم، فيسألونهم عن أشياء ومن حضر منكم الحائر ويقولون بشروهم بدعائكم، فتقول الحفظة: كيف نبشرهم وهم لا يسمعون كلامنا؟ فيقولون لهم: باركوا عليهم وادعوا لهم عنا فهي البشارة منا، وإذا انصرفوا فحفوهم بأجنحتكم حتى يحثوا مكانكم، وإنا لنستودعهم الذي لا تضيع ودائعه، ولو تعلمون ما في زيارته من الخير، ويعلم الناس ذلك، لاقتتلوا على زيارته بالسيوف، ولباعوا أموالهم في إتيانه، وإن فاطمة (عليها السلام) إذا نظرت إليهم، ومعها ألف نبي وألف صديق وألف شهيد، ومن الكروبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء، وإنها لتشهق شهقة فلا يبقى في السماوات ملك إلاّ بكى رحمة لصوتها، فما تسكن حتى يأتيها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقول: يا بنية قد أبكيت أهل السماوات وشغلتهم عن التسبيح والتقديس، فكفي حتى يقدسوا فإن اللّه بالغ أمره، وإنها لتنظر إلى من حضر منكم، فتسأل اللّه لهم من كل خير، فلا تزهدوا في إتيانه، فإن الخير في إتيانه أكثر من أن يحصى»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث لابنته فاطمة (عليها السلام) بعد ما أخبرها بشهادة الحسين (عليه السلام) : «أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان اللّه، ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت اللّه واعتمر، ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات

ص: 429


1- مدينة المعاجز: ج4 ص160-162 فصل176 ح1183/236.

مات شهيداً، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي، ولم يزل في حفظ اللّه وأمنه حتى يفارق الدنيا؟»(1).

لعن قتلة الحسين (عليه السلام)

من الشعائر الحسينية المستحبة لعن قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) ويستفاد ذلك مما سبق من روايات الأنبياء (عليهم السلام) والملائكة الذين لعنوا قاتله (عليه السلام) .. ومن النصوص المتظافرة في ذلك..

وقد ورد اللعن في زيارة عاشوراء أكثر من السلام(2).

وروي عن الريان بن شبيب(3) عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «يا ابن شبيب إن سرّك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام) فالعن قتلة الحسين (عليه السلام) »(4).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «من نظر إلى الفقاع وإلى الشطرنج فليذكر الحسين (عليه السلام) وليلعن يزيد وآل زياد يمحو اللّه عزوجل بذلك ذنوبه ولو كانت بعدد النجوم»(5).

وروي: أن أول من لعن قاتل الحسين بن علي (عليه السلام) إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) وأمر وُلده بذلك، وأخذ عليهم العهد والميثاق، ثم لعنه موسى بن عمران (عليه السلام) وأمر أمته بذلك، ثم لعنه داود (عليه السلام) وأمر بني إسرائيل بذلك، ثم لعنه عيسى (عليه السلام)

ص: 430


1- تفسير فرات الكوفي: ص173 ح219/18.
2- فإن مادة (اللعن) في زيارة عاشوراء كررت 22 مرة، ومادة (السلام) 16 مرة.
3- الريان بن شبيب إمامي ثقة خال المعتصم أو المأمون، من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام) .
4- إقبال الأعمال: ج3 ص30 فصل2 ب1.
5- وسائل الشيعة: ج25 ص363 ب27 من أبواب الأشربة المحرمة ح32133/13.

وأكثر أن قال: يا بني إسرائيل العنوا قاتله، وإن أدركتم أيامه فلا تجلسوا عنه، فإن الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء، مقبل غير مدبر، وكأني أنظر إلى بقعته وما من نبي إلاّ وقد زار كربلاء ووقف عليها، وقال إنك لبقعة كثيرة الخير، فيك يُدفن القمر الأزهر»(1).

وقال الراوي: رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والحسن والحسين (عليهما السلام) في حجره، يقبّل هذا مرة ويقبل هذا مرة، ويقول للحسين (عليه السلام) : «الويل لمن يقتلك»(2).

وعن داود الرقي(3) قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذا استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه ثم قال لي: «يا داود لعن اللّه قاتل الحسين (عليه السلام) وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (عليه السلام) ولعن قاتله إلاّ كتب اللّه عزوجل له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره اللّه عزوجل يوم القيامة ثلج الفؤاد»(4).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) في حديث قال: «لما ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه - أي علي أمير المؤمنين (عليه السلام) - صارت تلك الضربة في صورته التي في السماء، فالملائكة ينظرون إليه غدوة وعشية، ويلعنون قاتله ابن ملجم، فلما

ص: 431


1- كامل الزيارات: ص142-143 ب21 ح167/2.
2- بحار الأنوار: ج44 ص302 ب36 ح11.
3- داود بن كثير الرقي الأسدي بالولاء، إمامي ثقة فقيه عالم من أصحاب الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) وقال عنه الصادق (عليه السلام) «أنزلوا داوداً مني بمنزلة المقداد من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » وكان من خواصهم (عليهم السلام) وأصحاب أسرارهم وقد ضعفه البعض لرواية الغلاة عنه، توفي بعد شهادة الإمام الرضا (عليه السلام) بقليل.
4- الكافي: ج6 ص391 باب النوادر من كتاب الأشربة ح6.

قُتل الحسين بن علي (صلوات اللّه عليه) هبطت الملائكة وحملته حتى أوقفته مع صورة علي (عليه السلام) في السماء الخامسة، فكلما هبطت الملائكة من السماوات العليا وصعدت ملائكة السماء الدنيا فما فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة صورة علي (عليه السلام) والنظر إليه وإلى الحسين بن علي (عليه السلام) بصورته التي تشحطت بدمائه لعنوا ابن ملجم ويزيد وابن زياد ومن قاتل الحسين بن علي (صلوات اللّه عليه) إلى يوم القيامة»(1).

كراهة صوم عاشوراء

إن الشعائر الحسينية على ما سبق ممدوحة ومستحبة، وعلى عكس ذلك ما اتخذه الأمويون بالنسبة إلى عاشوراء فإنها مرجوحة وربما كانت محرّمة، فإنهم اتخذوا يوم عاشوراء يوم فرح وسرور، وجعلوه عيداً، وقالوا باستحباب الصوم فيه. ومن هنا وردت الروايات الشريفة بكراهة صوم عاشوراء.

قال الراوي: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن صوم تاسوعاء وعاشوراء من شهر المحرم؟ فقال (عليه السلام) : «تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضوان اللّه عليهم) بكربلاء، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضوان اللّه عليهم) وأيقنوا أنه لا يأتي الحسين (عليه السلام) ناصر ولا يمدّه أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب» ثم قال (عليه السلام) : «وأما يوم عاشوراء فيوم أصيب فيه الحسين (عليه السلام) صريعاً بين أصحابه، وأصحابه صرعى حوله، أفصوم يكون في ذلك اليوم؟ كلاّ ورب البيت الحرام، ما هو يوم صوم وما هو إلاّ يوم حزن ومصيبة

ص: 432


1- المحتضر، للشيخ حسن بن سليمان الحلي: ص256 ح342.

دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين، ويوم فرح وسرور لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام غضب اللّه عليهم وعلى ذرياتهم، وذلك يوم بكت جميع بقاع الأرض، فمن صامه أو تبرّك به حشره اللّه مع آل زياد، ممسوخَ القلب، مسخوطاً عليه، ومن ادخر إلى منزله ذخيرة أعقبه اللّه تعالى نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقاه، وانتزع البركة عنه وعن أهل بيته وولده، وشاركه الشيطان في جميع ذلك»(1).

ص: 433


1- الحدائق الناضرة: ج13 ص371-372 باب صوم يوم عاشوراء من كتاب الصوم.

48

جزاء قتلة الإمام (عليه السلام) في الدنيا

إن قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) لاقوا جزاءهم الدنيوي قبل الأخروي، ولم يتهنؤوا بالعيش بعده أبداً.

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) قال لعمر بن سعد: «إن مما يقرّ لعيني أنك لا تأكل من بُرّ العراق بعدي إلاّ قليلاً» فقال مستهزئاً: يا أبا عبد اللّه في الشعير خلف، فكان كما قال (عليه السلام) لم يصل إلى الري وقتله المختار(1).

وعن ابن عيينة(2) قال: أدركت من قتلة الحسين (عليه السلام) رجلين، كان أحدهما يستقبل الراوية فيشربها إلى آخرها ولا يروي، وذلك أنه نظر إلى الحسين (عليه السلام) وقد أهوى إلى فيه بماء وهو يشرب فرماه بسهم، فقال الحسين (عليه السلام) : «لا أرواك اللّه من الماء في دنياك ولا في آخرتك». أما الآخر فقد روى ما أصابه العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في البحار(3).

وفي خبر أنه لما رماه الدارمي بسهم فأصاب حنكه (عليه السلام) وجعل يلقي الدم ثم

ص: 434


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص213 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي من فقهاء العامة ومحدثيهم وكان من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وكان ممن يتصنع الزهد مات سنة 198ه
3- انظر بحار الأنوار: ج45 ص300 ب46 ح1.

يقول: «هكذا إلى السماء»، فكان هذا الدارمي يصيح من الحر في بطنه والبرد في ظهره بين يديه المراوح والثلج وخلفه الكانون والنار وهو يقول: اسقوني، فيشرب العس، ثم يقول: اسقوني أهلكني العطش، قال: فانقد بطنه(1).

أما أبجر بن كعب وهو الذي سلب الإمام الحسين (عليه السلام) فيداه كانتا في الشتاء تنضحان الماء وفي الصيف تيبسان كأنهما عودان، وفي رواية: كانت يداه تقطران في الشتاء دماً.

وأما جابر بن زيد الأزدي وهو الذي أخد عمامة الإمام (عليه السلام) وتعمم بها، فصار في الحال معتوهاً.

وأما جعوبة بن حوية الحضرمي وهو الذي أخذ ثوب الإمام (عليه السلام) ولبسه، فتغير وجهه وحص شعره وبرص بدنه.

وأما بحير بن عمرو الجرمي وهو الذي أخذ سراويله الفوقاني وتسرول به، فإنه صار مقعداً(2).

وفي التاريخ إن رجلاً أتى الإمام الحسين (عليه السلام) بعد ما ضعف من كثرة الجراحات، فضربه على رأسه بالسيف وعليه برنس من خز، فقال الحسين (عليه السلام) : «لا أكلت بها ولا شربت وحشرك اللّه مع الظالمين» فكان كما دعا الإمام (عليه السلام) عليه.

ورجل أخذ البرنس فأتى به أهله، فقالت امرأته: أسَلب الحسين (عليه السلام) تدخله في بيتي؟ لا يجتمع رأسي ورأسك أبداً، فلم يزل فقيراً حتى هلك(3).

ص: 435


1- مدينة المعاجز: ج3 ص477 فصل 35 ح992/45.
2- انظر بحار الأنوار: ج45 ص301-302 ب46 ذيل ح2، وحُصَّ شعره أي قل.
3- انظر العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام) : ص615 باب ما عجل اللّه به قتلة الحسين (عليه السلام) من العذاب في الدنيا.. ح4.

وكان رجل خرج على الحسين (عليه السلام) ثم جاء بجمل وزعفران - من رحله -، فكلما دقوا الزعفران صار ناراً، فلطخت امرأته على يديها فصارت برصاء، ونحر البعير فكلما جزوا بالسكين صار ناراً، فقطعوه فخرج منه النار، فطبخوه ففارت القدر ناراً(1).

وعن جميل بن مرة قال: أصابوا إبلاً في عسكر الحسين (عليه السلام) يوم قُتل، فنحروها وطبخوها، فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئاً(2).

وروي أن رجلاً ممن شهد قتل الحسين (عليه السلام) كان يحمل ورساً فصار ورسه دماً، ورأيت النجم كأن فيه النيران يوم قُتل الحسين (عليه السلام) .. ويعني بالنجم النبات(3).

وانتهب الناس ورساً من عسكر الحسين (عليه السلام) ، فما استعملته امرأة إلاّ برصت(4).

وعن أبي رجاء العطاردي قال: لا تذكروا أهل البيت (عليهم السلام) إلاّ بخير، فدخل عليه رجل من حاضري كربلاء وكان يسب الإمام الحسين (عليه السلام) ! فأهوى اللّه عليه نجمين فعميت عيناه.

وسُئل رجل حضر كربلاء في جيش عمر بن سعد وقد أعمي بعد ذلك عن سبب عمائه؟ فقال: كنت حضرت كربلاء وما قاتلت فنمت فرأيت شخصاً هائلاً، قال لي أجب رسول اللّه! فقلت: لا أطيق، فجرني إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجدته حزيناً وفي يده حربة وبسط قدامه نطع وملك قبله قائم في يده سيف من

ص: 436


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص215 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- إعلام الورى: ج1 ص430.
3- مدينة المعاجز: ج4 ص81 فصل 132 ح1098/151.
4- شرح الأخبار: ج3 ص166 ح1098.

النار يضرب أعناق القوم وتقع النار فيهم فتحرقهم ثم يحيون ويقتلهم أيضاً هكذا، فقلت: السلام عليك يا رسول اللّه، واللّه ما ضربتُ بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت سهماً، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألستَ كثّرت السواد» فسلمني وأخذ من طست فيه دم فكحلني من ذلك الدم فاحترقت عيناي، فلما انتبهت كنت أعمى(1).

وعن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال: رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه وكنت أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك؟ قال: إني قتلت شاباً أمرد مع الحسين (عليه السلام) بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى أحد في الحي إلاّ سمع صياحي، قالوا: والمقتول العباس بن علي (عليه السلام) (2).

وعن سليمان قال: وهل بقي في السماوات ملك لم ينزل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعزيه بولده الحسين (عليه السلام) ويخبره بثواب اللّه إياه، ويحمل إليه تربته مصروعاً عليها مذبوحاً مقتولاً طريحاً مخذولاً؟ فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اخذل من خذله، واقتل من قتله، واذبح من ذبحه ولا تمتعه بما طلب» فو اللّه لقد عوجل الملعون يزيد ولم يتمتع بعد قتله بما طلب، ولقد أخذ مغافصة، بات سكراناً وأصبح ميتاً متغيراً كأنه مطلي بقار أخذ على أسف، وما بقي أحد ممن تابعه على قتله أو كان في محاربته إلا أصابه جنون أو جذام أو برص وصار ذلك وراثة في نسلهم(3).

ص: 437


1- انظر مناقب آل أبي طالب: ج3 ص216 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
2- مقاتل الطالبيين: ص79.
3- كامل الزيارات: ص131-132 ب17 ح149/8.

49

قتلة الحسين (عليه السلام) في الآخرة

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن قاتل الحسين بن علي (عليه السلام) في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شُدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكس في النار حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتنه، وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم مع جميع من شايع على قتله، كلما نضجت جلودهم بدّل اللّه عزوجل عليهم الجلود حتى يذوقوا العذاب الأليم، لا يُفتّر عنهم ساعة ويسقون من حميم جهنم، فالويل لهم من عذاب اللّه تعالى في النار»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن في النار منزلة لم يكن يستحقها أحد من الناس إلاّ بقتل الحسين بن علي ويحيى بن زكريا (عليهما السلام) »(2).

ص: 438


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص51 ب32 ح178.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص216 عقاب من قتل الحسين (عليه السلام) .

50

أولاد الإمام (عليه السلام)

قالوا: أولاد الإمام الحسين (عليه السلام) ستة ذكور، وثلاث بنات:

1: علي زين العابدين (عليه السلام) ، وأمه شاه زنان(1)

بنت كسرى يزدجرد(2) ملك الفرس(3)، ومعنى (شاه زنان) بالعربية ملكة النساء.

2: علي الأكبر (عليه السلام) شهيد كربلاء، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية(4) وكانت ليلى حاضرة في كربلاء.

ص: 439


1- انظر المقنعة: ص472 باب نسب أبي محمد علي بن الحسين (عليه السلام) ، السرائر: ج1 ص655،تحرير الأحكام: ج2 ص123، الدروس: ج2 ص12 وغيرها من المصادر، وقد أبدل أمير المؤمنين (عليه السلام) أسمها إلى شهربانويه أي ملكة المدينة، انظر الكافي: ج1 ص467 باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ح1، وقيل: إن ذلك احتراما لمقام مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي سيدة نساء العالمين.
2- يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز بن أنو شروان بن قباذ بن فيروز بن بهرام بن يزدجر بن سابور بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابان بن ساسان وهو آخر ملوك الساسانية قتل بمرو سنة 31ه- وكان ملكه عشرين عاماً.
3- كسرى: اسم ملك الفرس كقيصر بالنسبة إلى ملك الروم، وهو معرب وأصله بالفارسية خسرو أي واسع الملك.
4- انظر الإرشاد: ج2 ص106، السرائر:ج1 ص654، رجال الطوسي: ص102. وقد مرّ البحث في أنه يعرف بالأكبر بالنسبة إلى علي الرضيع الأصغر، وإلا فإن الإمام السجاد (عليه السلام) أكبر منه.

3: علي الأصغر (عليه السلام) ، ذبح يوم عاشوراء(1)،

وأمه الرباب وكانت في كربلاء.

4: جعفر، مات في حياة أبيه ولم يعقب، أمه قضاعية(2).

5: عبد اللّه الرضيع (عليه السلام) جاءه سهم وهو في حجر أبيه فذبحه(3).

6: محسن السقط، وقد سقط من بطن أمه في الأسر على جبال حلب، ودُفن هناك، وله اليوم مزار وقبة وضريح(4).

7: سكينة، أمها وأم عبد اللّه الرضيع الرباب بنت إمرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم، كلبية معدية(5).

8: فاطمة، أمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبد اللّه، تيمية(6).

9: زينب(7).

ص: 440


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص46 ب37 وقد مر مقتله (عليه السلام) .
2- انظر تاج المواليد للطبرسي: ص35، و(قضاعة): شعب عظيم يشتمل على قبائل كثيرة منها كلب وبلي وجهينة وغيرها، قيل: كانت قضاعة من معد وقيل من اليمن، انظر: اللباب في تهذيب الأنساب: ج3 ص44 باب القاف والضاد المعجمة.
3- انظر الإحتجاج: ج2 ص25 وقد مر مقتله (عليه السلام) .
4- المشهد معروف ومشهور يزار وذلك في جبل جوشن غربي مدينة حلب، ونقل جماعة: إن الجبل كان يُحمل منه النحاس الأحمر وأنه بطل منذ عبر عليه سبي الإمام الحسين (عليه السلام) ونساؤه حيث كانت إحدى زوجات الإمام حاملاً فأُسقط حملها نتيجة المعاناة التي عانتها بعد يوم عاشوراء وفي طريق الأسر فطلبت من الصناع في ذلك الجبل خبزاً وماءً فشتموها ومنعوها فدعت عليهم فمن ذلك الوقت من عمل في الجبل لم يربح. راجع: الغدير:ج5 ص412، معجم البلدان: ج2 ص186.
5- انظر الإرشاد: ج2 ص137.
6- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص231 باب إمامة أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) .
7- وقد روت جملة من الآثار منها خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في المسجد، وقد روى عنها ذلك ابن أخيها زيد بن علي (عليه السلام) ، انظر بلاغات النساء: ص14 باب كلام فاطمة وخطبها، بحار الأنوار: ج29 ص239 ب11.

وذكر البعض أن من أولاده (عليه السلام) : محمداً(1).

وذكروا غيرهم أيضاً.

ص: 441


1- انظر الهداية الكبرى: ص202 ب5.

خاتمة: الأمة الإسلامية إلى أين؟

الأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى نهضة ثقافية تلتهم الدروس من نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) .. فإن الإمام الحسين (عليه السلام) نهض بوجه يزيد وحاربه لماذا؟

لأجل الحفاظ على الإسلام، ولأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولطلب الإصلاح في أمة جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ..

وبذلك تمكن الإمام الحسين (عليه السلام) من فضح يزيد وبني أمية وأنهم لا يمثلون الإسلام، كما فضح الطغاة على مرّ التاريخ.

ثم إن الإسلام لا يكون حصراً في الصلاة والصيام والحج وما أشبه، وإلاّ فإن هذه الأمور كانت موجودة بنحو أو بآخر في عهد يزيد..

والمسلمون اليوم وإن رأينا فيهم صلاة الجمعة والجماعة والحج والمساجد العامرة والصيام في شهر رمضان وغيرها؟ لكنهم بعيدون عن الإسلام، وإلاّ فإن هذه الأمور كانت في عهد يزيد، ومع ذلك حاربه الإمام الحسين (عليه السلام) .

إن يزيد أراد للأمة الإسلامية أن تبتعد عن القرآن الكريم وعن نهج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن العترة الطاهرة (عليهم السلام) ..

والمسلمون في يومنا هذا قد تركوا الإسلام والقرآن والعترة الطاهرة (عليهم السلام) ، فهم بحاجة إلى نهضة ثقافية شاملة يستلهمون ذلك من سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) .

كان المسلمون في عهد يزيد ملتزمين ببعض القوانين الإسلامية ولم يتمكن يزيد ولا معاوية ولا من جاء بعدهما من القضاء الكامل عليها، وذلك بفضل الدور

ص: 442

الذي قام به أهل البيت (عليهم السلام) وتحملهم الصعاب في نشر علوم القرآن وعلوم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ..

ولكن اليوم قد أصبح المسلمون في وضع أسوأ - من حيث ترك القوانين الإسلامية - من المسلمين في عهد طغاة بني أمية ومن شاكلهم، وهذه نماذج منها..

1. في زمان يزيد ومن أشبه تبدلت الخلافة إلى ملك واحد عضوض، واليوم تبدل الحكم في البلاد الإسلام إلى عشرات من الملك العضوض، فهناك العشرات من الحكام المستبدين الطغاة الذين سيطروا على رقاب المسلمين إما بملك وراثي، وإما بملك انقلابي عسكري، وإما بخداع الشعب، وإما بفرض من المستعمرين...

2: لم تكن الأخوة الإسلامية سقطت عند المسلمين في عهد يزيد ومن أشبه، وإن سعى يزيد ومن قبله وبعده إلى إسقاطها، ولكن اليوم سقطت الأخوة الإسلامية، فالعراقي في سوريا أجنبي، والسوري في مصر أجنبي، والإيراني في باكستان أجنبي، وهكذا..

3: لم تكن في عهد الطغاة الأمويين ومن أشبه حدود بين البلاد الإسلامية، واليوم في عهد طغاتنا حدود بين البلاد الإسلامية تمنع المسلم عن سائر بلاد الإسلام إلاّ بجواز أو تأشيرة أو ما أشبه.

4: كانت الأمة الإسلامية - وببركات القرآن والعترة - تتمتع بنوع من بعض الحريات الإسلامية حتى في عهد طغاة الأمويين ومن أشبه، واليوم كبت وخنق عام، فلا حرية للتجارة، ولا حرية للزراعة، ولا حرية للصناعة، ولا حرية للسفر، ولاحرية للإقامة، ولا حرية للعمران، ولا حرية.. ولا حرية...

5: لم تكن آنذاك بنوك ربوية في عرض البلاد الإسلامية وطولها، واليوم لا يخلو أي بلد إسلامي من عشرات البنوك الربوية.

ص: 443

6: لم يكن آنذاك القانون المستورد آخذاً مكان الشريعة الإسلامية، واليوم ترى البلاد الإسلامية تعمل بالقوانين الوضعية بدل العمل بالكتاب والسنة والإجماع والعقل.

7: لم يؤخذ آنذاك من الناس هذه الكثرة من الضرائب الباهضة وبمختلف الأسامي عدا الخمس والزكات والجزية والخراج، واليوم تؤخذ من الناس الضرائب والجمارك المحرمة تحت مختلف العناوين.

8: لم تكن آنذاك المبادئ الوافدة كالقومية والشيوعية والبعثية، ولم تكن الأديان المصطنعة كالبهائية والوهابية والقاديانية، وكل هذه الأمور توجد اليوم في البلاد الإسلامية.

9: لم تُنهب آنذاك بلاد الإسلام بيد الكفار، أما اليوم فقد نهبت فلسطين بيد اليهود، ونهبت بلاد أكثر من مائتي مليون مسلم بيد الشيوعيين في روسيا والصين، ونهبت بلاد (مورو) و(اريتريا) بيد الصليبيين، وهكذا.

10: لم تكن في البلاد الإسلامية وبشكل علني هذه الكثرة من حوانيت الخمور ودور البغاء ومحلات الرقص والقمار والملاهي المنتشرة في عرض بلاد الإسلام وطولها، وإن كان بنو أمية وبنو العباس ومن أشبه مشغولين باللّهو اللعب والقمار والخمر والفواحش والمحرمات، واليوم ترى كل ذلك في أكثر بلاد الإسلام.

11: لم تكن آنذاك لبلاد الإسلام حكومات عميلة للكفار والمستعمرين، واليوم أكثر حكومات بلاد الإسلام عملاء للغربيين أو الشرقيين.

وهكذا.. لم تكن آنذاك.. وكانت اليوم..

نعم لا شك أن يزيد كان شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلناً بالفسق

ص: 444

والفجور... كما قال عنه الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكذلك من قبله وبعده من الحكام الطغاة، لكن اليوم أصبحت بلاد الإسلام أسوأ من بعض الحيثيات من زمان يزيد.

سابقاً وفي عهد الأمويين والعباسيين ومن أشبه لم يكن الاستعمار البريطاني والأمريكي والفرنسي والروسي جاثماً بكلكله على بلاد الإسلام، واليوم كل ذلك موجود بأبشع صوره.

من هنا يلزم على العلماء والمثقفين أن يسعوا في تثقيف الأمة الإسلامية لكي ترجع إلى الإسلام من جديد وترفض هذه المخالفات الصريحة من قبل الحكومات ضد الإسلام.

وهل اليوم هناك حركات إسلامية في خط الإمام الحسين (عليه السلام) للنهوض بواقع الأمة وإنقاذ المسلمين عن الفقر والفسق والاستعباد؟

إننا إذا أردنا أن نسير في خط الإمام الحسين (عليه السلام) فالواجب علينا بادئ ذي بدء أمور منها:

1: إسقاط كل الحدود المصطنعة الجغرافية بين بلاد الإسلام، لتكون كلها دولة واحدة ذات ألف وخمسمائة مليون مسلم.

2: إسقاط كل الحواجز النفسية بين نفوس المسلمين، ليكون كلهم إخوة كما أمر اللّه، لا فضل لعربيهم على عجميهم، ولا لإيرانيهم على أفغانيهم، ولا.. إلاّ بالتقوى.

3: كون الحكم بالاستشارة والانتخابات الحرة، لا بالوراثة والانقلابات العسكرية وما أشبه، ويكون على رأس الدولة الإسلامية (شورى الفقهاء المراجع) والنابع منهم (الأحزاب الإسلامية الحرة) ثم السلطة التشريعية

ص: 445

(التطبيقية) والقضائية والتنفيذية.

4: إعادة الحريات الإسلامية إلى كل المسلمين، بل وغير المسلمين القاطنين في بلاد الإسلام.

5: كون كل الأحكام والقوانين إسلامية، لا مستوردة.

وبذلك نكون قد سرنا في طريق الإمام الحسين (عليه السلام) .. أما الاقتناع بمراسيم العزاء فقط، فإنه مع غاية حسنها وضرورتها، لا يغني عن العمل بأهداف الإمام الحسين (عليه السلام) ..

واللّه الموفق المستعان.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1410ه

ص: 446

الفهرس

المقدمة... 5

1- النسب الشريف... 7

الاسم المبارك... 7

الكنية الشريفة... 9

الألقاب الطاهرة... 9

والدته... 10

2- الولادة المباركة... 11

قصة فطرس... 12

3- النشأة الطاهرة... 14

4- الفضائل الجمة... 17

جبريل يناغيه (عليه السلام) ... 17

نور وجهه (عليه السلام) ... 17

قرة عين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 18

5- نصوص الإمامة... 20

6- علم الإمام (عليه السلام) ... 23

ص: 447

روايته عن النبي والوصي (عليهم السلام) ... 24

سل هذا الغلام... 25

7- أخلاق الإمام (عليه السلام) ... 27

مع الفقراء والمساكين... 27

أكرم الناس... 28

قضاء الديون... 29

مع فرزدق الشاعر... 29

صن وجهك... 30

عفوت عنك... 30

إسلام اليهودي... 31

مع معلم القرآن... 31

طاقة ريحان... 32

كرم وتعليم... 32

8- زهد الإمام (عليه السلام) ... 34

9- عبادة الإمام (عليه السلام) ... 36

آداب إسلامية... 38

10- أدعية الإمام (عليه السلام) ... 39

قنوت الإمام الحسين (عليه السلام) ... 40

قنوت آخر للإمام (عليه السلام) ... 40

حرز الإمام الحسين (عليه السلام) ... 41

ص: 448

حجاب الإمام الحسين (عليه السلام) ... 41

دعاء الاستسقاء... 42

نقش خاتمه (عليه السلام) ... 42

كيف أصبحت؟... 43

11- درر من كلمات الإمام (عليه السلام) ... 44

12- معاجز الإمام (عليه السلام) وكراماته... 47

مع حبابة الوالبية... 47

لا أحب ذلك... 48

إحياء الموتى بإذن اللّه... 49

اقطع يده! ... 50

هذا منهم... 50

استجابة دعائه (عليه السلام) ... 51

13- الكتاب العزيز... 54

آيات في الإمام (عليه السلام) ... 54

14-العترة الطاهرة (عليهم السلام) ... 59

علي وعلي وعلي... 60

15- الملائكة والإخبار بالشهادة... 62

16- الأنبياء (عليهم السلام) وقصة عاشوراء... 65

كلمات اللّه... 65

سفينة نوح (عليه السلام) ... 66

ص: 449

نوح (عليه السلام) في كربلاء... 67

كهيعص... 67

إبراهيم الخليل (عليه السلام) ... 69

عند شط الفرات... 70

صادق الوعد... 70

عيسى (عليه السلام) في كربلاء... 71

بساط سليمان (عليه السلام) ... 72

17- رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويوم الحسين (عليه السلام) ... 73

18- فاطمة الزهراء ومقتل ولدها (عليهما السلام) ... 75

19- أئمة أهل البيت والإمام الحسين (عليهم السلام) ... 78

الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 78

سائر الأئمة (عليهم السلام) ... 83

20- خبر القارورة... 86

21- علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة... 88

22- طغاة عصر الإمام (عليه السلام) ... 92

مع المنافقين... 92

مع مروان بن الحكم... 92

مع معاوية بن أبي سفيان... 94

23- في عهد يزيد... 97

ومثلي لا يبايع مثله... 97

ص: 450

الحسين (عليه السلام) يودع قبر جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 100

الوداع مع إمه المظلومة... 102

مع أخيه ابن الحنفية... 102

24- الخروج من المدينة... 105

25- دخول مكة... 107

26- كتب أهل الكوفة... 111

27- إرسال مسلم بن عقيل (عليه السلام) ... 116

كتاب الإمام (عليه السلام) لأهل البصرة... 119

سيطرة ابن مرجانة على الكوفة... 122

لا للغدر... 125

قتل عبد اللّه بن يقطر... 126

شهادة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ... 129

قتل هاني بن عروة... 138

كتاب ابن زياد إلى يزيد... 138

اقتل على التهمة... 139

خطاب ابن زياد وإرسال الجيوش... 139

قتل المتخلفين... 141

28- المنازل بين مكة والعراق... 143

منزل التنعيم... 144

منزل الصِفاح و ذات عرق... 144

ص: 451

كتاب إلى ابن زياد... 146

لمن هذه الخيام؟... 146

لي عملي ولكم عملكم... 147

منزل أجأ 148

منزل منية... 149

منزل لينة والحاجز... 149

مع عبد اللّه بن مطيع... 152

منع التجول... 153

مع زهير بن القين... 153

منزل الخُزَيمية... 155

منزل زرود... 156

منزل الثَعلبية... 158

منزل شقوق وزبالة... 159

بطن العقبة... 161

منزل شراف وجيش الحر... 161

ذو جشم... 162

خطبة الإمام (عليه السلام) لجيش الحر... 164

منزل بِيضة... 167

عذيب الهجانات... 167

قصر بني مقاتل... 168

القوم والمنايا 170

ص: 452

منزل نينوى... 171

لا للبدء بالقتال... 172

كربلاء... 172

عمر بن سعد في كربلاء... 174

حبيب يدعو بني أسد... 175

غاية التضييق... 176

نصيحة لعمر بن سعد... 178

كتاب عمر بن سعد إلى ابن زياد... 179

سلاح العطش... 181

لا أرى الموت إلا سعادة... 181

29- أهل بيت كرام... 183

العترة المظلومة... 187

30- أصحاب أوفياء... 188

أسماء الأصحاب... 192

31- تاسوعاء... 196

شمر بن ذي الجوش... 196

محاولات لتفكيك معسكر الحسين (عليه السلام) ... 197

الهجوم يوم التاسع... 198

خطبة تاسوعاء... 199

أنتم في حل من بيعتي... 200

الحسين (عليه السلام) ينعى نفسه... 201

ص: 453

أنت شهيد آل محمد... 202

استعدادات دفاعية... 203

32- عاشوراء الدامية... 204

الانقطاع إلى اللّه... 208

أكره أن أبدأهم بقتال... 208

خطبة برير... 209

من خطب الإمام (عليه السلام) ... 210

خطبة أخرى... 211

ما لكم لا تنصتون؟... 213

أين عمر بن سعد؟... 215

وفي يوم الطف... 216

جراحات اللسان... 217

ليعطش الحسين (عليه السلام) ... 218

أنشدكم باللّه... 219

الحر الرياحي... 221

برير... 224

وهب... 225

الغفاري... 227

الهمداني... 227

الكاهلي... 228

الكندي... 228

ص: 454

هلال بن حجاج... 228

الأزدي وابنه... 229

التميمي... 230

المذحجي... 230

مسلم بن عوسجة... 230

نافع البجلي... 231

هلال البجلي... 231

هجمة أخرى... 232

على مصرع مسلم... 233

شجاعة أصحاب الحسين (عليه السلام) ... 233

اليزني... 234

الأنصاري... 234

جون مولى أبي ذر... 235

الصيداوي... 236

حنظلة الشبامي... 236

سويد يُقتل مرتين... 237

يحيى المازني... 237

قرة الغفاري... 238

مالك المالكي... 238

أنس بن حارث... 239

عمرو الجعفي... 239

ص: 455

مؤذن الحسين (عليه السلام) ... 239

صلاة الظهر... 240

زهير بن القين... 241

سعيد الحنفي... 241

حبيب بن مظاهر... 242

شاب قتل أبوه... 244

جنادة الأنصاري وابنه... 245

عابس الشاكري... 246

الغفاريان... 247

غلام تركي... 248

ابن مهاجر... 248

النهشلي... 249

الجابريان... 249

فدائي الحسين (عليه السلام) ... 250

الرجل بعد الرجل... 251

علي الأكبر (عليه السلام) ... 251

أولاد مسلم بن عقيل (عليه السلام) ... 256

أولاد عقيل (عليه السلام) ... 257

أولاد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ... 258

أولاد الإمام الحسن (عليه السلام) ... 259

ص: 456

القاسم (عليه السلام) ... 259

عبد اللّه بن الحسن... 261

أبو بكر بن الحسن... 261

إخوة الحسين (عليه السلام) ... 261

العباس (عليه السلام) ... 264

من أولاد الحسين (عليه السلام) ... 266

زين العابدين (عليه السلام) يهمّ بالقتال... 266

الطفل الرضيع... 267

صبي يقتل في حجر أبيه... 268

الوداع الوداع... 269

33- مصرع الإمام (عليه السلام) ... 271

لا أشرب حتى تشرب... 275

يا قوم اسقوني شربة من الماء... 276

بئس ما خلفتم محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 276

بسم اللّه وباللّه... 278

عبد اللّه بن الحسن... 279

لا تهجموا على خيامي... 280

أعلى قتلي تجتمعون؟... 280

ويلكم ما تنتظرون؟... 280

المذبوح عطشاناً 281

ص: 457

هكذا ألقى ربي... 282

اللحظات الأخيرة... 283

الظليمة الظليمة... 284

ريح حمراء... 285

سلب الحسين (عليه السلام) ... 285

حوافر الخيول... 287

نهب الخيام وحرقها 287

34- سبايا الوحي... 291

مسير الأسرى إلى الكوفة والشام... 293

35- الرؤوس الطاهرة... 295

مصائب الرأس الشريف... 295

معاجز الرأس الشريف... 299

مدفن الرأس الشريف... 301

36- دفن الأجساد الطاهرة... 303

37- الأسرى في الكوفة والشام... 304

في بيت الخولى... 304

في مجلس ابن زياد... 305

ابن زياد ينكت الرأس الشريف... 307

حقد ابن زياد... 308

خطبة السجاد (عليه السلام) في الكوفة... 309

ص: 458

استشهاد عبد اللّه ابن عفيف... 310

في أزقة الكوفة... 313

في سجن الكوفة... 313

ابن زياد يهمّ بقتل زينب (عليها السلام) ... 314

خطبة زينب (عليها السلام) في الكوفة... 314

مساجد جددت فرحاً 317

في طريق الشام... 317

بقرب بعلبك... 319

يهودي أسلم... 320

نصراني أسلم... 321

على أبواب دمشق... 323

كفر يزيد... 323

في مجلس يزيد... 324

في حبس الشام... 325

مع الصحابي سهل الساعدي... 326

قتلوا بك التكبير والتهليلا... 327

هل قرأت القرآن؟... 328

يزيد يتظاهر بلعن ابن مرجانة... 329

ما ظنك برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 330

زينب في مجلس يزيد... 331

ص: 459

يزيد ينكت ثنايا الحسين (عليه السلام) ... 332

خطبة زينب (عليها السلام) ... 332

ويلك يا يزيد... 335

هب لي هذه الجارية... 336

ويلك أيها الخاطب... 337

خطبة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ... 339

يا سبحان اللّه... 342

رسول ملك الروم... 343

نساء يزيد يندبن الحسين (عليه السلام) ... 344

كيف أمسيت؟... 345

يزيد يأمر بقتل زين العابدين (عليه السلام) ... 345

عند الخروج من الشام... 347

38- الرجوع إلى كربلاء... 349

39- الرجوع إلى المدينة... 352

خطبة زين العابدين (عليه السلام) في المدينة... 353

أم كلثوم (عليها السلام) في المدينة... 355

زينب (عليها السلام) في المدينة... 357

40- أحداث كونية... 358

بكاء السماء والأرض... 360

دم عبيط... 362

ص: 460

نوح الملك... 365

نوح الجن... 367

عزاء الطير والوحش... 368

41- المشهد الشريف... 372

حكام الجور والقبر الشريف... 374

42- التربة الحسينية... 378

أرض كربلاء... 379

الشفاء في تربتي ومائي... 381

طوبى لك من تربة... 382

جزاء من أهان التربة المقدسة... 383

43- في يوم المحشر... 386

44- زيارة الإمام (عليه السلام) ... 388

45- وثاقة حوادث كربلاء... 391

46- بين الأفضلية والخصائص... 394

47- الشعائر الحسينية... 396

البكاء... 396

شدة البكاء والإغماء... 403

البكاء وخوف الهلكة... 404

النياحة... 405

الجزع... 407

ص: 461

الصراخ... 409

السواد والحداد... 410

شق الجيوب... 411

أيام الحزن... 412

إقامة المأتم ومجالس العزاء... 414

إنشاد الشعر... 415

إطعام الطعام... 418

اللطم... 418

المواساة بالدم... 419

النبي آدم (عليه السلام) ... 419

إبراهيم الخليل (عليه السلام) ... 419

النبي موسى (عليه السلام) ... 420

السيدة زينب (عليها السلام) ... 421

الإمام الرضا (عليه السلام) ... 421

الإمام المهدي (عليه السلام) ... 421

مطلق المواساة... 422

زيارة المشاهد المشرفة... 423

لعن قتلة الحسين (عليه السلام) ... 430

كراهة صوم عاشوراء... 432

48- جزاء قتلة الإمام (عليه السلام) في الدنيا 434

ص: 462

49- قتلة الحسين (عليه السلام) في الآخرة... 438

50- أولاد الإمام (عليه السلام) ... 439

خاتمة: الأمة الإسلامية إلى أين؟... 442

الفهرس... 447

ص: 463

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.