من حياة المعصومين عليهم السلام
الجزء الرابع
الإمام الحسن عليه السلام
المرجع الديني الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه
الشجرة الطيبة
1443 ه 2022 م
النجف الأشرف
ص: 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی للناشر
1443 ه 2022 م
مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف
تهميش
مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد، فهذا هو الجزء الرابع من سلسلة (من حياة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويتضمن بعض الجوانب من حياة الإمام الحسن (عليه السلام) .
أسأل اللّه تعالى التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 5
ص: 6
1
هو الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم (عليهم السلام) .
أمه الطاهرة: الصديقة فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين.
جدّه: محمد المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم) سيد الأنبياء (عليهم السلام) .
جدته: خديجة الكبرى (عليها السلام) أم المؤمنين وأول نساء هذه الأمة إسلاماً.
عمّه: جعفر (عليه السلام) الطيار في الجنان.
عم أبيه: حمزة (عليه السلام) أسد اللّه وأسد رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) .
جدّه من أبيه: أبو طالب (عليه السلام) مؤمن قريش وناصر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
جدّ جده: عبد المطلب (عليه السلام) شيبة الحمد وسيد البطحاء.
جدّه الأعلى: هاشم (عليه السلام) سيد قريش ومُطعم الحجيج وهاشم الثريد.
وفي رواية عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) التمجيد بهذا النسب الشريف(1).
ص: 7
كنيته (عليه السلام) : أبو محمد، كنّاه به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
وقيل: أبو القاسم أيضاً(1).
ألقابه (عليه السلام) الطاهرة كثيرة، منها:
المجتبى، والسبط، وسيد شباب أهل الجنة، وريحانة المصطفى، والتقي، والزكي، والولي، والوزير، والقائم، والحجة، والأمين، والبرّ، والأثير، والزاهد(2).
ص: 8
2
وُلد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في المدينة المنورة يوم الثلاثاء، في النصف من شهر رمضان المبارك سنة ثلاث من الهجرة الشريفة(1).
وقد بنى أمير المؤمنين (عليه السلام) بفاطمة (عليها السلام) في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة(2).
وكان الحسن (عليه السلام) في ولادته - مثل ولادة جده وأبيه (عليهما السلام) - طاهراً مطهراً، يسبّح اللّه ويهلّله حالها(3) ويقرأ القرآن، وكان جبرئيل (عليه السلام) يناغيه في مهده.
روي أنه لما حملت فاطمة (عليها السلام) بالحسن (عليه السلام) خرج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في بعض وجوهه فقال لها: «إنك ستلدين غلاماً قد هنأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتى أصير إليك»(4).
أقول: أراد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يجعل لسانه في فم الحسن (عليه السلام)
ص: 9
ليغتذي أول ما يغتذي به من وجود رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
عن عروة البارقي(1) قال: حججت في بعض السنين فدخلت مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فوجدت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) جالساً وحوله غلامان يافعان وهو يقبّل هذا مرة وهذا أخرى، فإذا رآه الناس يفعل ذلك أمسكوا عن كلامهم حتى يقضي وطره منهما، وما يعرفون لأي سبب حبه إياهما؟
فجئته وهو يفعل ذلك بهما فقلت: يا رسول اللّه هذان ابناك؟
فقال: «إنهما ابنا ابنتي وابنا أخي وابن عمي وأحب الرجال إليّ ومن هو سمعي وبصري، ومن نفسه نفسي ونفسي نفسه، ومن أحزن لحزنه ويحزن لحزني»، فقلت له: قد عجبتُ يا رسول اللّه من فعلك بهما وحبك لهما! فقال لي: «أحدثك أيها الرجل: إني لما عُرج بي إلى السماء ودخلت الجنة انتهيت إلى شجرة في رياض الجنة، فعجبت من طيب رائحتها، فقال لي جبرئيل: يا محمد لا تعجب من هذه الشجرة فثمرها أطيب من ريحها، فجعل جبرئيل يتحفني من ثمرها ويطعمني من فاكهتها وأنا لا أمل منها، ثم مررنا بشجرة أخرى فقال لي جبرئيل: يا محمد كل من هذه الشجرة فإنها تشبه الشجرة التي أكلت منها الثمر فهي أطيب طعماً وأزكى رائحة، قال: فجعل جبرئيل يتحفني بثمرها ويشمني من رائحتها وأنا لا أمل منها، فقلت: يا أخي جبرئيل ما رأيت في الأشجار أطيب
ص: 10
ولا أحسن من هاتين الشجرتين، فقال لي: يا محمد أتدري ما اسم هاتين الشجرتين؟ فقلت: لا أدري، فقال: إحداهما الحسن، والأخرى الحسين، فإذا هبطت يا محمد إلى الأرض من فورك فأت زوجتك خديجة وواقعها من وقتك وساعتك فإنه يخرج منك طيب رائحة الثمر الذي أكلته من هاتين الشجرتين فتلد لك فاطمة الزهراء، ثم زوّجها أخاك علياً فتلد له ابنين فسمّ أحدهما الحسن والآخر الحسين»، قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ففعلت ما أمرني أخي جبرئيل فكان الأمر ما كان، فنزل إليّ جبرئيل بعد ما وُلد الحسن والحسين فقلت له يا جبرئيل: ما أشوقني إلى تينك الشجرتين، فقال لي: يا محمد إذا اشتقت إلى الأكل من ثمرة تينك الشجرتين فشم الحسن والحسين»، قال: فجعل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كلما اشتاق إلى الشجرتين يشم الحسن والحسين ويلثمهما وهو يقول: «صدق أخي جبرئيل (عليه السلام) » ثم يقبل الحسن والحسين (عليهما السلام) ويقول: «يا أصحابي إني أود أني أقاسمهما حياتي لحبي لهما فهما ريحانتاي من الدنيا»، فتعجب الرجل من وصف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن والحسين (عليهما السلام) فكيف لو شاهد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من سفك دماءهم وقتل رجالهم وذبح أطفالهم ونهب أموالهم وسبي حريمهم {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(1)، {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}(2)(3).
اسم (الحسن) لم يكن يُعرف من قبل، وقد ادخره اللّه للإمام الحسن (عليه السلام) وقد
ص: 11
سمى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه عزّوجل مولوده الشريف بهذا الإسم المبارك.
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إني سميت ابني هذين باسم ابني هارون شَبَراً وشُبَيراً»(1).
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا فاطمة اسم الحسن والحسين في ابني هارون شَبَر وشُبَير لكرامتهما على اللّه عزّ وجل»(2).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «سمَّى هارون ابنيه شَبَراً وشُبيراً، وإني سميتُ ابنيّ الحسن والحسين بما سمى هارون ابنيه»(3).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) عن أبيه: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اُمرت أن أسمّي ابني هذين حسناً وحسيناً»(4).
وعن عكرمة قال: (لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسن جاءت به إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسمّاه حسناً)(5).
وفي أسد الغابة: (سمّاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حسناً، وكناه أبا محمد، ولم يكن يعرف هذا الاسم في الجاهلية)(6).
وروى البعض أنه لما وُلد الحسن (عليه السلام) سمّاه علي (عليه السلام) حمزة، فلما وُلد الحسين سمّاه جعفراً، قال علي (عليه السلام) : فدعاني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: إني اُمرت أن أغير
ص: 12
اسم هذين، فقلت: اللّه ورسوله أعلم، فسمّاهما حسنا وحسينا(1).
عن أسماء بنت عميس قالت: حدثتني فاطمة (عليها السلام) : «لما حملتُ بالحسن (عليه السلام) وولدته جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... ثم قال لعلي (عليه السلام) : بأي شيء سميت ابني؟ قال: ما كنت أسبقك باسمه يا رسول اللّه، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : ولا أنا أسبق باسمه ربي، ثم هبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : وما اسم ابن هارون؟ قال: شَبَر. قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : لساني عربي. قال جبرئيل (عليه السلام) : سمّه الحَسَن، قالت أسماء: فسماه الحسن»(2).
وعن زيد بن علي (عليه السلام) عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «لما وَلَدَت فاطمة (عليها السلام) الحسن (عليه السلام) قالت لعلي (عليه السلام) : سمّه، فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فجاءه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: هل سميته؟
فقال: ما كنت لأسبقك باسمه.
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : وما كنت لأسبق باسمه ربي عزّ وجل.
فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد وُلد لمحمد ابن فاهبط إليه فأقرئه السلام وهنئه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون. فهبط جبرئيل (عليه السلام) فهنأه من اللّه عزّ وجل ثم قال: إن اللّه تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شَبَر، قال: لساني عربي، قال:
ص: 13
اسمّه الحسن، فسماه الحسن»(1).
روي أنه أوحى اللّه عزّ ذكره إلى جبرئيل (عليه السلام) : «إنه قد وُلد لمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ابن فاهبط إليه فأقرئه السلام وهنّئه منّي ومنك...» فهبط جبرئيل على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهنأه من اللّه عزّوجل ومنه(2).
عن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن التهنئة بالولد متى؟ فقال: «لما وُلد الحسن بن علي (عليه السلام) هبط جبرئيل على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالتهنئة في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه»(3).
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: «أهدى جبرئيل إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) اسم الحسن بن علي، وخرقة حرير من ثياب الجنة، واشتق اسم الحسين من اسم الحسن (عليهما السلام) »(4).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه، قال: «لما وُلد الحسن بن علي (عليه السلام) أهدى جبرئيل إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) اسمه في سرقة من حرير من ثياب الجنة مكتوب فيها حسن، واشتق منها اسم الحسين (عليه السلام) »(5).
ص: 14
وروي أن فاطمة (عليها السلام) جاءت بالحسن (عليه السلام) إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم السابع من مولده في خرقة من حرير الجنة كان جبرئيل (عليه السلام) نزل بها إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسماه حسناً وعق عنه كبشاً(1).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما عُرج برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نزل بالصلاة عشر ركعات؛ ركعتين ركعتين، فلما وُلد الحسن والحسين (عليهما السلام) زاد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سبع ركعات شكراً لله، فأجاز اللّه له ذلك»(2).
ص: 15
3
مما يستحب في حق المولود أن يُسمى باسمٍ حسن، وقد اختار اللّه عزّ وجل ورسوله اسم (الحسن) لهذا المولود الطاهر.
فإن الحسن والحسين اسمان من أسامي أهل الجنة ولم يكونا في الدنيا، ذكروا أن اللّه عزّ وجل حجب هذين الاسمين عن الخلق حتى يسمي بهما ابنا فاطمة (عليهم السلام) فإنه لا يعرف أن أحداً من العرب تسمى بهما في قديم الأيام إلى عصرهما، لا من ولد نزار ولا اليمن مع سعة أفخاذهما.
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «سمُي الحسن حسناً لأن بإحسان اللّه قامت السماوات والأرضون، واشتق الحسين من الإحسان، وعلي والحسن اسمان من أسماء اللّه تعالى، والحسين تصغير الحسن»(1).
مما يستحب في حق المولود أن يُعقّ عنه.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «عقّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن الحسن بيده وقال: باسم
ص: 16
اللّه عقيقة عن الحسن، وقال: اللّهم عظمها بعظمه، ولحمها بلحمه، ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللّهم اجعلها وقاءً لمحمد وآله»(1).
ثم أعطى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) القابلة فخذاً وديناراً.
قال بعض العلماء: من هنا صارت العقيقة سنة مستمرة بما فعله النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في حق الحسن (عليه السلام) (2).
وفي رواية الإمام الرضا (عليه السلام) عن ولادة الإمام الحسن (عليه السلام) قال: «فلما كان يوم سابعه عقّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عنه بكبشين أملحين، وأعطى القابلة فخذاً وديناراً، ثم حلق رأسه وتصدق بوزن الشعر ورقاً، وطلى رأسه بالخلوق، ثم قال: يا أسماء(3) الدم فعل الجاهلية(4)»(5).
ويستفاد من هذه الرواية أنه يستحب أن يعق عن المولود بكبشين، فأصل
ص: 17
العقيقة مستحب وتثنيتها مستحب آخر(1).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «إن فاطمة (عليها السلام) عقت عن الحسن والحسين (عليهما السلام) وأعطت القابلة رجل شاة وديناراً»(2).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حسناً وحسيناً (عليهما السلام) يوم سابعهما.. وعق عنهما شاة شاة، وبعثوا برجل شاة إلى القابلة، ونظروا ما غيره فأكلوا منه وأهدوا إلى الجيران»(3).
وروي أن النبي (عليه السلام) عقّ عن الحسن والحسين (صلوات اللّه عليهما) شاة شاة، وقال: «كلوا وأطعموا وابعثوا إلى القابلة برِجل» يعني الربع المؤخر من الشاة(4).
مما يستحب في حق المولود أن يحُلق رأسه ويتصدق بوزن شعره فضة، ويستحب أن يكون ذلك في اليوم السابع من ولادته.
روي أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حلق رأس الحسن (عليه السلام) أو أمر بحلقه، وأن يتصدق
ص: 18
بزنة شعره فضة، ففعلت فاطمة (عليها السلام) ذلك فكان وزنه درهماً وشيئاً(1).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن فاطمة (عليها السلام) حلقت ابنيها وتصدقت بوزن شعرهما فضة»(2).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «عقّت فاطمة (عليها السلام) عن ابنيها (صلوات اللّه عليهما) وحلقت رءوسهما في اليوم السابع وتصدقت بوزن الشعر وَرِقاً»(3).
أقول: الوَرِق: الفضة(4).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عقّ عن الحسن (عليه السلام) بكبش وعن الحسين (عليه السلام) بكبش وأعطى القابلة ربعاً وحلق رأسيهما يوم سابعهما ووزن شعرهما وتصدق بوزنه فضة»(5).
وفي حديث: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) : «احلقي رأسه وتصدقي بوزن الشعر فضة» ففعلت ذلك وكان وزن شعره يوم حلقه درهماً وشيئاً فتصدقت به(6).
مما يستحب في حق المولود أن يلفّ في ثوب أبيض، ويكره في الأصفر.
عن زيد بن علي (عليه السلام) عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «لما وَلَدَت فاطمة (عليها السلام) الحسن (عليه السلام) قالت لعلي (عليه السلام) : سمّه، فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
ص: 19
فجاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأخرج إليه في خرقة صفراء، فقال: ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء، ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها»(1).
عن أسماء قالت: حدثتني فاطمة (عليها السلام) : «لما حملتُ بالحسن بن علي (عليه السلام) وولدته جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أسماء هلمّي ابني(2)،
فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى بها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) »(3).
مما يستحب في حق المولود أن يؤذّن في أذنه اليمنى، ويُقام في أذنه اليسرى.
عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث عن ولادة الإمام الحسن (عليه السلام) قال: «فأذّن - النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) - في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى»(4).
وعن أبي رافع(5) قال: (رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أذّن في أذن الحسن بن علي (عليه السلام)
ص: 20
لما وُلد، وأذّن كذلك في أذن الحسين (عليه السلام) لما وُلد)(1).
وعن أسماء قالت: حدثتني فاطمة (عليها السلام) : «لما حملتُ بالحسن (عليه السلام) وولدته جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى»(2).
وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال:
«لما حضرت ولادة فاطمة (عليها السلام) قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لأسماء بنت عميس(3) وأم سلمة(4) احضراها فإذا وقع ولدها واستهل فأذنا في أذنه اليمنى وأقيما في أذنه اليسرى فإنه لا يفعل ذلك بمثله إلاّ عصم من الشيطان»(5).
كما روي عن فاطمة: «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لما دنا ولادتها أمر أم سلمة وزينب بنت جحش أن يأتيا فيقرأ عندها آية الكرسي و{إِنّ رَبَّكُمْ اللّهُ} الآية(6) ويعوّذاها
ص: 21
بالمعوذتين(1).
مما يستحب في حق المولود أن يُعوّذ بالمعوذتين (سورة الفلق والناس) والأدعية المأثورة، وهكذا بالنسبة إلى الطفل بل كل إنسان.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «رقا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حسناً وحسيناً فقال: «اُعيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامَةِ وَأسْمَائِهِ الحُسْنىَ كُلِّهَا عَامّةً، مِنْ شَرِّ السّامَّةِ وَالْهَامَّةِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ(2)، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَد» ثم التفت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلينا فقال: «هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق (عليهم السلام) »(3).
وفي رواية: كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يعوّذ الحسن والحسين (عليهما السلام) ويقول: إن أباكما إبراهيم (عليه السلام) كان يعوّذ بها إسماعيل وإسحاق (عليهما السلام) : أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامَةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ»(4).
قال الراوي: كنا جلوساً عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ مرّ به الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما صبيان قال: هات ابنيّ أعوّذهما بما عوّذ به إبراهيم ابنيه إسماعيل وإسحاق، فقال: «أعُيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّة»(5).
ص: 22
وفي التفاسير: أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يعوذهما (عليهما السلام) بالمعوذتين، ولهذا سمّي المعوذتين(1).
وفي رواية: «كانت لآل محمد (عليهم السلام) وسادة لا يجلس عليها إلاّ جبرئيل، فإذا قام عنها طويت، فكان إذا قام انتفض من زغبه فتلتقطه فاطمة (عليها السلام) فتجعله في تمائم الحسن والحسين (عليهما السلام) »(2).
وروي أنه كان على الحسن والحسين (عليهما السلام) تعويذان حشوهما من زغب جناح جبرئيل (عليه السلام) (3).
وروي أنه لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسن (عليه السلام) أتاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسرّه ولبأه بريقه(4)، وقال: «اللّهُمَّ إنّي أُعِيذُهُ بِكَ وَوُلْدَهُ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيم»(5).
مما يستحب في حق المولود أن يقبّله الوالدان، فإن إظهار المحبة للطفل والعطف عليه والحنان إليه مستحب.
روي أنه كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقبّل الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال أحدهم: إن لي عشرة ما قبّلت واحداً منهم قط! فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من لا يَرحَم لا يُرحم»(6).
ص: 23
وفي رواية: غضب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى التمع لونه وقال للرجل: «إن كان اللّه عزّوجل قد نزع الرحمة من قلبك فما أصنع بك؟ من لم يرحم صغيرنا ويعزز كبيرنا فليس منا»(1).
وعن أبي قتادة(2):
(إن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قبّل الحسن وهو يصلي)(3).
وفي رواية قال: خرج علينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومعه الحسن والحسين (عليهما السلام) هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسول اللّه إنك لتحبهما، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أحبّهما فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»(4).
مما يلزم في حق المولود أن يربيه الوالدان تربية حسنة.
وقد تربى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في أفضل بيت، بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) ، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}(5).
وتغذى من جدّه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
ص: 24
عن جابر قال: لما حملت فاطمة بالحسن (عليهما السلام) فولدت... جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فأخذه وقبّله وأدخل لسانه في فيه، فجعل الحسن (عليه السلام) يمصه(1).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يأتي مراضع فاطمة (عليها السلام) فيتفل في أفواههم ويقول لفاطمة (عليها السلام) : لا ترضعيهم»(2).
وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: خرج علينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) آخذاً بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال: إن ابنيّ هذين ربيتهما صغيرين، ودعوت لهما كبيرين، وسألت اللّه تعالى لهما ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت اللّه لهما أن يجعلهما طاهرين مطهرين زكيين فأجابني إلى ذلك، وسألت اللّه أن يقيهما وذريتهما وشيعتهما النار فأعطاني ذلك، وسألت اللّه أن يجمع الأمة على محبتهما فقال: يا محمد إني قضيت قضاءً وقدّرت قدراً وإن طائفة من أمتك ستفي لك بذمتك في اليهود والنصارى والمجوس، وسيخفرون ذمتك في ولدك، وإني أوجبت على نفسي لمن فعل ذلك أن لا أحلّه محل كرامتي، ولا أسكنه جنتي، ولا أنظر إليه بعين رحمتي يوم القيامة»(3).
وكانت فاطمة (عليها السلام) تلعّب ابنها الحسن (عليه السلام) وتقول:
أشبه أباك يا حسن***واخلع من الحق الرسن
واعبد إلها ذا منن***ولا توال ذا الإحن(4)
ص: 25
وهكذا تربى الإمام الحسن (عليه السلام) في بيت النبوة ومهبط الوحي، عن رجل من أهل الكوفة قال: إن الحسن بن علي (عليه السلام) كلّم رجلاً، فقال: «من أي بلد أنت»؟
قال: من الكوفة، قال: «لو كنت بالمدينة لأريتك منازل جبرئيل (عليه السلام) من ديارنا»(1).
وكان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) يحضر مجلس رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ابن سبع سنين، فيسمع الوحي فيحفظه، فيأتي أمّه (عليها السلام) فيلقي إليها ما حفظه، كلما دخل علي (عليه السلام) وجد عندها علماً بالتنزيل، فيسألها عن ذلك؟
فقالت: «من ولدك الحسن».
فتخفّى يوماً في الدار وقد دخل الحسن (عليه السلام) وقد سمع الوحي فأراد أن يلقيه إليها فارتج، فعجبت أمه من ذلك، فقال: «لا تعجبي يا أماه فإن كبيراً يسمعني واستماعه قد أوقفني.
فخرج علي (عليه السلام) فقبّله».
وفي رواية قال الحسن (عليه السلام) : «يا أماه قلّ بياني، وكلّ لساني، لعلّ سيداً يرعاني»(2).
ص: 26
4
النصوص على إمامة الإمام الحسن (عليه السلام) كثيرة متواترة، وقد صرّح بإمامته رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في العديد من المواقف، منها يوم الغدير، حيث نصب الإمام علياً (عليه السلام) خليفة من بعده، ثم ذكر أسماء أوصيائه واحداً بعد واحد، إلى الإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه فرجه الشريف)(1).
وكذلك في حديث اللوح الذي نزل به جبرئيل (عليه السلام) المروي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري..(2).
ص: 27
كما نصّ على إمامته أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وكذلك الصديقة فاطمة (عليها السلام) (1)..
وهكذا ورد التأكيد على إمامته (عليه السلام) على لسان سائر المعصومين (عليهم السلام) من بعده..
عن علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليهما السلام) أنهما ذكرا وصية علي (عليه السلام) فقالا: «أوصى إلى ابنه الحسن (عليه السلام) ، وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع الكتب إليه والسلاح، ثم قال له: أمرني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ودفع إليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك إلى أخيك الحسين (عليه السلام) ، ثم أقبل على الحسين (عليه السلام) فقال: وأمرك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن تدفعه إلى ابنك هذا، ثم أخذ بيد ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) فضمّه إليه، فقال له: يا بني وأمرك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن تدفعه إلى ابنك محمد (عليه السلام) ،
ص: 28
فأقرئه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومني السلام، ثم أقبل إلى ابنه الحسن (عليه السلام) فقال: يا بني أنت ولي الأمر..»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه لما حضره الوفاة الذي حضره قال لابنه الحسن (عليه السلام) : ادنُ مني حتى أسرَّ إليك ما أسرّ إليّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وائتمنك على ما ائتمنني عليه، ففعل»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) : «أنتما إمامان بعدي، سيدا شباب أهل الجنة، والمعصومان، حفظكما اللّه، ولعنة اللّه على من عاداكما»(3).
وعن حذيفة بن اليمان قال:
بينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في جبل أظنه حري(4)
أو غيره ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام) وجماعة من المهاجرين والأنصار وأنس حاضر لهذا الحديث، وحذيفة يحدث به: إذ أقبل الحسن بن علي (عليه السلام) يمشي على هدوء ووقار، فنظر إليه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... وقال: «إن جبرئيل يهديه، وميكائيل يسدده، وهو ولدي والطاهر من نفسي وضلع من أضلاعي، هذا سبطي وقرة عيني، بأبي هو» وقام رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقمنا معه وهو يقول له: «أنت تفاحتي، وأنت حبيبي، ومهجة قلبي»
ص: 29
وأخذ بيده فمشى معه ونحن نمشي حتى جلس وجلسنا حوله ننظر إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو لا يرفع بصره عنه ثم قال: «إنه سيكون بعدي هادياً مهدياً، هذا هدية من رب العالمين لي، ينبئ عني ويعرف الناس آثاري، ويحيي سنتي، ويتولى أموري في فعله، ينظر اللّه إليه فيرحمه، رحم اللّه من عرف له ذلك، وبرّني فيه وأكرمني فيه»(1).
وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(2).
وعن حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس، ثم ساقت الحديث إلى أن قالت: فلم أزل أقفو اثره حتى قعد في رحبة المسجد فقلت له: يا أمير المؤمنين ما دلالة الإمامة رحمك اللّه؟ قالت: فقال: «إئتيني بتلك الحصاة» وأشار بيده إلى حصاة، فأتيته بها فطبع لي فيها بخاتمه ثم قال لي: «يا حبابة، إذا ادعى مدع الإمامة فقدر أن يطبع كما رأيت فاعلمي أنه إمام مفترض الطاعة، والإمام لا يعزب عنه شئ يريده».
قالت: ثم انصرفت حتى قبض أمير المؤمنين (عليه السلام) فجئت إلى الحسن، وهو في مجلس أمير المؤمنين والناس يسألونه فقال لي: «يا حبابة الوالبية».
فقلت: نعم يا مولاي. قال: «هاتي ما معك». قالت: فأعطيته الحصاة، فطبع لي فيها، كما طبع أمير المؤمنين (عليه السلام) . قالت: ثم أتيت الحسين (عليه السلام) وهو في مسجد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقرب ورحب، ثم قال لي: «أتريدين دلالة الإمامة؟».
فقلت: نعم يا سيدي. قال: «هاتي ما معك» فناولته الحصاة فطبع لي فيها. قالت: ثم أتيت علي بن الحسين (عليهما السلام) وقد بلغ بي الكبر إلى أن أعييت، وأنا أعد
ص: 30
يومئذ مائة وثلاث عشرة سنة، فرأيته راكعاً وساجداً مشغولاً بالعبادة، فيئست من الدلالة، فأومى إليّ بالسبابة فعاد إلي شبابي قالت: فقلت: يا سيدي كم مضى من الدنيا وكم بقي؟ فقال: «أما ما مضى فنعم، وأما ما بقي فلا».
قالت: ثم قال لي: «هات ما معك» فأعطيته الحصاة فطبع فيها، ثم أتيت أبا جعفر (عليهما السلام) فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) فطبع لي فيها، ثم أتيت الرضا (عليه السلام) فطبع لي فيها. وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر على ما ذكره عبد اللّه بن هشام(1).
ص: 31
5
الآيات الكريمة التي نزلت في الإمام الحسن (عليه السلام) أو هي مُفسّرة أو مؤولة به (عليه السلام) كثيرة، نشير إلى بعضها.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1)، نزلت في محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) . رواه الفريقان(2).
ص: 32
وكذلك نزلت سورة الإنسان في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) (1).
وفي قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2)، قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أهل بيتي: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) »(3).
وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {والتِّينِ والزَّيْتُونِ}(4) قال: «الحسن والحسين (عليهما السلام) »(5).
وروي في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجانُ}(6): الحسن
ص: 33
والحسين (عليهما السلام) (1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {ولَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} «كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم (عليهم السلام) {فَنَسِيَ}(2) هكذا واللّه أنزلت على محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(3).
أقول: قوله (عليه السلام) : هكذا نزلت، أي بهذا المعنى.
وفي المناقب لابن شهرآشوب(4): قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بِإِيمانٍ}(5)، قال: (ولا اتباع أحسن من اتباع الحسن والحسين (عليهما السلام) )(6).
وكذلك(7)
في قوله تعالى: {أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}(8).
ص: 34
وفي قوله تعالى: {فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ}(1) أجمع المفسرون بأن المراد ب- {أَبْنائَنَا}: الحسن والحسين (عليهما السلام) (2).
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى}(3) قال: (هم أهل بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وأولادهم إلى يوم القيامة، هم صفوة اللّه وخيرته من خلقه)(4).
وعن سعيد بن جبير(5) في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}(6)، قال: نزلت هذه الآية واللّه خاصة في أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كان أكثر دعائه يقول: {رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْوَاجِنَا} يعني
ص: 35
فاطمة (عليها السلام) {وَذُرِّيَّاتِنَا} الحسن والحسين (عليهما السلام) {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : واللّه ما سألت ربي ولداً نضير الوجه ولا سألته ولداً حسن القامة ولكن سألت ربي: ولداً مطيعين لله خائفين وجلين منه حتى إذا نظرتُ إليه وهو مطيع لله قرّت به عيني.
قال: {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} قال: نقتدي بمن قبلنا من المتقين فيقتدي المتقون بنا من بعدنا وقال اللّه: {أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا} يعني: علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة (عليها السلام) {وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً * خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً}(1)»(2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}(3) قال: «الكفلين الحسن والحسين (عليها السلام) والنور علي (عليه السلام) »(4).
ص: 36
وفي تفسير القمي: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً}(1) قال: {بِوالِدَيْهِ} إنما عنى الحسن والحسين (عليهما السلام) (2).
والتعبير بالوالدين لأن الإمام (عليه السلام) كالوالد للرعية في الشفقة عليهم ووجوب طاعتهم له.
وعن محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال: «أذنب رجل ذنباً في حياة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فطُلب، فتغيب حتى وجد الحسن والحسين (عليهما السلام) في طريق خالٍ، فأخذهما فاحتملهما على عاتقيه وأتى بهما النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه إني مستجير باللّه وبهما.
فضحك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى ردّ يده إلى فمه، ثم قال للرجل: اذهب فأنت طليق، وقال للحسن والحسين (عليهما السلام) : قد شفعتكما فيه، أي فتيان.
فأنزل اللّه عزّ وجل: {ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}(3)»(4).
وقال عزّ وجل: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}(5) وعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من أراد أن يتمسك بعروة اللّه الوثقى التي قال اللّه تعالى في كتابه، فليوال علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) فإن اللّه تبارك وتعالى يحبهما من فوق
ص: 37
6
الروايات الشريفة المروية عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في فضل الإمام الحسن (عليه السلام) ومقامه عند اللّه عزّ وجل، ولزوم محبته وطاعته، والنهي عن بغضه وغضبه، كثيرة جداً، وقد رواها الفريقان، نشير إلى بعضها:
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض»(1).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ابناي هذان سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما»(1).
وعن ابن عباس قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، من أحبهما أحبني، ومن أبغضهما أبغضني»(2).
وقال حذيفة قال لي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في خبر: «أما رأيت الشخص الذي اعترض لي؟ قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: ذاك ملك لم يهبط قط إلى الأرض قبل الساعة، استأذن اللّه عزّ وجل في السلام على علي، وبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»(3).
وسُئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن قول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين سيدا شباب
ص: 40
أهل الجنة»؟ فقال: «هما واللّه سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) : «أنتما إمامان بعقبي، وسيدا شباب أهل الجنة، والمعصومان، حفظكما اللّه، ولعنة اللّه على من عاداكما»(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن (عليه السلام) : «أشبهت خلقي وخلقي»(3).
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد: (كان الحسن (عليه السلام) أشبه الناس برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) خَلقاً وسؤدداً وهدياً)(4).
وفي أسد الغابة عن أنس بن مالك: (لم يكن أحد أشبه برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من الحسن بن علي)(5).
وفي بعض الروايات: «أن الحسن بن علي (عليه السلام) كان يشبه بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من صدره إلى رأسه»(6).
وقال المسهر مولى الزبير(7): (تذاكرنا من أشبه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من أهله، فدخل
ص: 41
علينا عبد اللّه بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله إليه؛ الحسن بن علي (عليه السلام) رأيته يجي ء وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) ساجد فيركب ظهره (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ورأيته يجي ء وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر، وقال فيه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «هو ريحاني من الدنيا، وإن ابني هذا سيد، يصلح اللّه به بين فئتين من المسلمين». وقال: «اللّهم إني أحبه وأحب من يحبه»)(1).
وروي: (كان الحسن بن علي (عليه السلام) أبيض مشرباً حمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، دقيق المسربة، كثّ اللحية، ذا وفرة، وكأن عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، ربعة ليس بالطويل ولا القصير، مليحاً، من أحسن الناس وجهاً، وكان يخضب بالسواد، وكان جعد الشعر، حسن البدن)(2).
عن زينب بنت أبي رافع قالت: إن فاطمة (عليها السلام) أتت بابنيها الحسن والحسين (عليهما السلام) إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقالت: «انحل ابنيّ هذين يا رسول اللّه» وفي رواية: «هذان ابناك فورثهما شيئاً» فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فإن له جرأتي وجودي»(3).
وفي رواية: أنه أتت فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بابنيها الحسن والحسين (عليهما السلام) إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في شكواه الذي توفي فيه فقالت: «يا رسول اللّه هذان ابناك
ص: 42
فورثهما شيئاً» فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فإن له شجاعتي وجودي»(1).
وفي رواية قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أما الحسن فأنحله الهيبة والحلم»(2).
وعن محمد بن إسحاق(3) قال: (ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما بلغ الحسن بن علي (عليه السلام) ، كان يُبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما مرّ أحد من خلق اللّه إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمرّ الناس.
قال الراوي: ولقد رأيته في طريق مكة نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق اللّه أحد إلاّ نزل ومشى، حتى رأيت سعد ابن أبي وقاص قد نزل ومشى إلى جنبه)(4).
يقول الراوي(5): رأيت الحسن والحسين (عليهما السلام) يمشيان إلى الحج، فلم يمرّا برجل راكب إلاّ نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم، فقالوا لسعد بن أبي وقاص: قد ثقل علينا المشي ولا نستحسن أن نركب وهذان السيدان (عليهما السلام) يمشيان، فقال سعد للحسن (عليه السلام) : يا أبا محمد، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك، والناس إذا
ص: 43
رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا فلو ركبتما، فقال الحسن (عليه السلام) : «لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت اللّه الحرام على أقدامنا، ولكنا نتنكب عن الطريق» فأخذا جانباً من الناس(1).
قيل للحسن بن علي (عليه السلام) : فيك عظمة، قال (عليه السلام) : «بل فيّ عزة، قال اللّه: {ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ}(2)»(3).
قال واصل بن عطاء: (كان للحسن بن علي (عليه السلام) سيماء الأنبياء وبهاء الملوك)(4).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن والحسين (عليهما السلام) : «إنكما من ريحان اللّه»(5).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الولد ريحانة، وريحانتاي الحسن والحسين»(6).
وكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقبّل الحسن والحسين (عليهما السلام) ويقول: «يا أصحابي إني أودّ
ص: 44
أني أقاسمهما حياتي لحبي لهما، فهما ريحانتاي من الدنيا»(1).
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين هما ريحانيّ في الدنيا»(2).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الولد الصالح ريحانة من اللّه، قسمها بين عباده، وإن ريحانتي من الدنيا الحسن والحسين (عليهما السلام) سميتهما باسم سبطين من بني إسرائيل شَبَراً وشُبَيرا»(3).
وفي رواية: كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي بنا فيجي ء الحسن وهو ساجد وهو صغير حتى يصير على ظهره أو رقبته فيرفعه رفعاً رفيقاً، فلما صلى قالوا: يا رسول اللّه إنك تصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد؟ فقال: «إن هذا ريحانتي»(4) الخبر.
وفي رواية: أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) وضعهما في حجره وجعل يقبّل هذا مرة وهذا مرة، فقال قوم: أتحبهما يا رسول اللّه؟ فقال: «ما لي لا أحب ريحانتي من الدنيا»(5).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «قرة عيني النساء وريحانتي الحسن والحسين»(6).
وعن الأصبغ(7) عن زاذان(8) قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الرحبة
ص: 45
يقول: «الحسن والحسين ريحانتا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).
وعن الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري:
سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) قبل موته بثلاث: «سلام اللّه عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتيّ من الدنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك، واللّه خليفتي عليك». الخبر(2).
وروى النسائي بسنده عن أنس بن مالك قال: دخلنا، وربما قال: دخلت على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والحسن والحسين ينقلبان على بطنه قال: ويقول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ريحانتاي من هذه الأمة»(3).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن اللّه تعالى جعل ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلب علي بن أبي طالب، ومن فاطمة ابنتي»(4).
عن ابن عباس قال: إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان جالساً ذات يوم وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال: «اللّهم إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي،
ص: 46
وأكرم الناس عليّ، فأحبب من يحبهم، وأبغض من يبغضهم، ووال من والاهم، وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم، واجعلهم مطهرين من كل رجس، معصومين من كل ذنب، وأيدهم بروح القدس منك»(1).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الأقربون، وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في أمّته، وتالي كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيءٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه»(2).
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث: «إن اللّه خلقني وخلق علياً ولا سماء ولا أرض، ولا جنة ولا نار، ولا لوح ولا قلم، فلما أراد اللّه عزّ وجل بدو خلقنا تكلم بكلمة فكانت نوراً، ثم تكلم كلمة ثانية فكانت روحاً، فمزج فيما بينهما واعتدلا فخلقني وعلياً منهما، ثم فتق من نوري نور العرش، فأنا أجلّ من العرش، ثم فتق من نور علي نور السماوات، فعلي أجلّ من السماوات، ثم فتق من نور الحسن نور الشمس، ومن نور الحسين نور القمر، فهما أجلّ من الشمس والقمر»(3).
وفي رواية: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ثم فتق نور الحسن فخلق منه الشمس
ص: 47
والقمر، فنور الشمس والقمر من نور الحسن، ونور الحسن من نور اللّه، والحسن أفضل من الشمس والقمر»(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إذا كان يوم القيامة زُيّن عرش رب العالمين بكل زينة، ثم يؤتى بمنبرين من نور، طولهما مائة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش، والآخر عن يسار العرش، ثم يؤتى بالحسن والحسين (عليهما السلام) فيقوم الحسن (عليه السلام) على أحدهما، والحسين (عليه السلام) على الآخر، يزيّن الرب تبارك وتعالى بهما عرشه كما يزين المرأة قرطاها»(2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الحسن والحسين يوم القيامة عن جنبي عرش الرحمن تبارك وتعالى بمنزلة الشنفين(3)
من الوجه»(4).
وعن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «الحسن والحسين شنفا العرش»(5).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) :
«أتاني ملك فقال: يا محمد إن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول لك: قد زوّجت فاطمة من علي، فزوّجها منه، وإني أمرت شجرة طوبى أن تحمل الدرّ والياقوت
ص: 48
والمرجان، وإن أهل السماء قد فرحوا لذلك، وسيولد منها ولدان هما سيدا شباب أهل الجنة، وبهما يُزيّن أهل الجنة، فأبشر يا محمد فإنك خير الأولين والآخرين»(1).
عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «سألت الفردوس من ربها فقالت: أي رب زيّني، فإن أصحابي وأهلي أتقياء أبرار، فأوحى اللّه عزّ وجل إليها: ألم أزينك بالحسن والحسين»(2).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن الحسن والحسين شنفا العرش وإن الجنة قالت: يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين، فقال لها اللّه تعالى: ألا ترضين أني زينت أركانك بالحسن والحسين، قال: فماست كما تميس(3) العروس فرحاً»(4).
وفي رواية: «سألت الجنة ربها أن يزين ركناً من أركانها، فأوحى اللّه تعالى إليها: إني قد زينتك بالحسن والحسين، فزادت الجنة سروراً بذلك»(5).
عن أم الفضل زوجة العباس(6) بن عبد المطلب قالت: قلت: يا رسول اللّه
ص: 49
رأيت في المنام كأنّ عضواً من أعضائك في بيتي! قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «خيراً رأيت، تلد فاطمة (عليها السلام) غلاماً، ترضعينه بلبن قثم» فولدت الحسن فأرضعته بلبن قثم(1).
وفي رواية قالت: يا رسول اللّه صلى اللّه عليك رأيت في المنام كأنّ عضواً من أعضائك في حجري! فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «تلد فاطمة غلاماً فتكفليه» فولدت فاطمة الحسن (عليهما السلام) فدفعه إليها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فرضعته بلبن قثم بن العباس(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الحسن ضلع من أضلاعي»(3).
روى الفريقان: أنه سُئل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: «الحسن والحسين»، وكان (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لفاطمة (عليها السلام) : «أدعي لي ابنيّ» فيشمهما ويضمهما إليه(4).
ص: 50
وروى الفريقان: عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال في الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما على وركيه: «هذان ابناي وابنا ابنتي اللّهم أني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما»(1).
روى الفريقان أنه خرج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومعه الحسن والحسين (عليهما السلام) ، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) يلثم هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا فقال: «من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»(2).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أحبّ الحسن والحسين أحببتُه، ومن أحببتُه أحبّه اللّه، ومن أحبّه اللّه أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضتُه، ومن أبغضتُه أبغضه اللّه، ومن أبغضه اللّه أدخله النار»(3).
ص: 51
وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال: «من أحب هذين وأباهما وأمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة»(1).
وعن نعيم قال: قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن (عليه السلام) قط إلاّ فاضت عيناي دموعاً، وذلك أنه أتى يوماً يشتد حتى قعد في حجر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ورسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يفتح فمه ثم يدخل فمه في فمه ويقول: «اللّهم إني أحبّه فأحبه وأحبّ من يحبّه» يقولها ثلاث مرات(2).
وعن أبي ذر الغفاري (رحمه الله) قال: رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقبّل الحسن والحسين (عليهما السلام) وهو يقول: «من أحب الحسن والحسين وذريتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج؛ إلاّ أن يكون ذنباً يخرجه من الإيمان»(3).
وعن علي بن جعفر(4) عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: «أخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) فقال: من أحبّ هذين الغلامين وأباهما وأمهما؛ فهو معي
ص: 52
في درجتي يوم القيامة»(1).
وفي رواية: جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فجلس بفناء بيت فاطمة (عليها السلام) ... فجاء الحسن (عليه السلام) يشتد(2) حتى عانقه وقبّله وقال: «اللّهم أحببه وأحب من يحبه»(3).
وعن سلمان قال: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول في الحسن والحسين (عليهما السلام) : «اللّهم إني أحبهما فأحبهما(4) وأحبب من أحبهما»(5).
ص: 53
وقال أيضاً: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن والحسين (عليهما السلام) : «من أحبهما أحببته ومن أحببته أحبه اللّه ومن أحبه اللّه أدخله جنات نعيم ومن أبغضهما أبغضه اللّه ومن أبغضه اللّه أدخله جهنم وله عذاب مقيم»(1).
وعن أسامة بن زيد(2) قال: طرقت على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ذات ليلة، في بعض الحاجة فخرج النبي وهو مشتمل على شي ء لا أدري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا هو الحسن والحسين (عليهما السلام) على وركيه. فقال: «هذان ابناي وابنا ابنتي اللّهم إني أحبهما وأحب من يحبهما»(3)(4).
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اللّهم أحب حسناً وحسيناً وأحب من يحبهما»(5).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن حب علي قُذف في قلوب المؤمنين فلا يحبه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق، وإن حب الحسن والحسين
ص: 54
قذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين فلا ترى لهم ذاماً»(1).
أقول: بناء على هذا فمحبة الإمام الحسن (عليه السلام) وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) التي توجب الجنة هي التي تكون مشفوعة بولايتهما.
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الحسن والحسين (عليهما السلام) : «إن اللّه أمرني بحبهما»(2).
وعن علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «يا علي لقد أذهلني هذان الغلامان؛ يعني الحسن والحسين، أن أحبّ بعدهما أحداً، إن ربي أمرني أن أحبهما وأحب من يحبهما»(3).
عن أبي ذر الغفاري (رحمه الله) قال: (أمرني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بحبّ الحسن والحسين (عليهما السلام) ، فأنا أحبهما وأحب من يحبهما لحب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إياهما)(4).
وعن عبد اللّه بن مسعود، قال: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «من كان يحبني فليحب ابنيّ هذين، فإن اللّه أمرني بحبّهما»(5).
وعن ابن مسعود قال: كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلّي فجاءه الحسن والحسين (عليهما السلام) فارتدفاه، فلما رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً، فلما عاد عادا.
فلما انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن وهذا على فخذه الأيسر، وقال:
ص: 55
«من أحبني فليحب هذين»(1).
وقال الراوي(2): رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واضعاً الحسن (عليه السلام) على عاتقه وقال: «من أحبني فليحبه»(3)(4).
وعن زهير بن الأقمر(5) قال: بينما الحسن بن علي (عليه السلام) يخطب بعدما قتل علي (عليه السلام) إذ قام رجل من الأزد آدم طوال فقال: لقد رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واضعه في حبوته يقول: «من أحبني فليحبه، فليبلغ الشاهد الغائب» ولولا عزمة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما حدثتكم(6).
روى الفريقان أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال في الحسن والحسين (عليهما السلام) «من أبغضهما
ص: 56
فقد أبغضني»(1).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) في الحسن والحسين (عليهما السلام) : «من أبغضهما أبغضتُه، ومن أبغضتُه أبغضه اللّه، ومن أبغضه اللّه أدخله(2) النار»(3).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أبغض الحسن والحسين جاء يوم القيامة وليس على وجهه لحم، ولم تنله شفاعتي»(4).
عن علي (عليه السلام) قال: «بينا الحسن والحسين يصطرعان عند النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : هَيْ(1) يا حسن، فقالت فاطمة (عليها السلام) : يا رسول اللّه، تعين الكبير على الصغير؟ فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : جبرئيل يقول: هَيْ يا حسين، وأنا أقول: هَيْ يا حسن»(2).
وعن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: «اصطرع الحسن والحسين (عليهما السلام) بين يدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : إيهاً حسن خذ حسيناً، فقالت فاطمة (عليها السلام) : يا رسول اللّه، أتستنهض الكبير على الصغير؟ فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : هذا جبرئيل (عليه السلام) يقول للحسين: إيهاً يا حسينا، خذ الحسن»(3).
روى الفريقان: أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يضع الحسن (عليه السلام) على عاتقه وهو يقول: «اللّهم إني أحبه فأحبه» وفي رواية: «فأحبّ من يحبه»(4).
وروي أنه كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حامل الحسن بن علي (عليه السلام) على عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ونعم الراكب هو»(5).
ص: 58
عن جابر قال: دخلت على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والحسن والحسين (عليهما السلام) على ظهره وهو يجثو لهما ويقول(1):
«نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما»(2).
وروي أن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يركبان ظهر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ويقولان: «حل حل» والنبي يجثو لهما ويقول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «نعم الجمل جملكما، ونعم الراكبان أنتما»(3).
وعن ابن مسعود قال: حمل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين (عليهما السلام) على ظهره: الحسن على أضلاعه اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى ثم مشى وقال: «نعم المطي مطيكما ونعم الراكبان أنتما وأبوكما خير منكما»(4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: «وأما الحسن ابني فقد تعلمان ويعلم أهل المدينة أنه كان يتخطى الصفوف حتى يأتي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ساجد فيركب على ظهره، فيقوم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ويده على ظهر الحسن والأخرى على ركبته حتى يتم الصلاة»، قالا: «نعم، قد علمنا ذلك»(5) الحديث.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: «تعلمان ويعلم أهل المدينة أن الحسن كان
ص: 59
يسعى إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ويركب على رقبته ويدلي الحسن رجليه على صدر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يخطب ولا يزال على رقبته حتى يفرغ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من خطبته والحسن على رقبته»(1) الحديث.
قال أبو هريرة: سمع أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بيديه جميعاً بكتفي الحسن والحسين(2) (عليهما السلام) وقدماهما على قدم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويقول: «ترق عين بقة»(3)، قال: فرقا الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال له:«افتح فاك» ثم قبّله ثم قال: «اللّهم أحبه فإني أحبه»(4).
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في الحسن (عليه السلام) : «اللّهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه، وضمه إلى صدره»(5).
ص: 60
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد جاءه الحسن (عليه السلام) وفي عنقه السخاب(1)
فالتزمه رسول اللّه والتزم هو رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: «اللّهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه» ثلاث مرات(2).
وعن أنس بن مالك قال: سُئل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: الحسن والحسين (عليهما السلام) وكان (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لفاطمة (عليها السلام) : «ادعي لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه»(3).
عن أسامة بن زيد: كان نبي اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي (عليه السلام) فخذه الأخرى ثم يضمنا ثم يقول: «اللّهم ارحمهما فإني أرحمهما»(4).
روي أنه كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين (عليهما السلام) على
ص: 61
ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما صلى وضعهما في حجره ثم قال: «من أحبني فليحب هذين»(1).
وفي رواية: قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ذروهما(2) بأبي وأمي، من أحبني فليحب هذين»(3).
وعن أبي هريرة قال: كنا نصلى مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) العشاء فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقاً ويضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته أقعدهما على فخذيه قال: فقمت إليه فقلت: يا رسول اللّه أردهما، فقال: «لا»، فبرقت برقة فقال لهما: «الحقا بأمكما» قال: فمكث ضوءها حتى دخلا(4).
ص: 62
روي أنه دعي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى صلاة والحسن متعلق به، فوضعه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) مقابل جنبه وصلى، فلما سجد أطال السجود، يقول الراوي: فرفعت رأسي من بين القوم فإذا الحسن على كتف رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فلما سلّم (صلی الله عليه وآله وسلم) قال له القوم: يا رسول اللّه لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها كأنما يوحى إليك؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : لم يوح إليّ ولكن ابني كان على كتفي فكرهت أن أعجله حتى نزل»(1).
كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يخطب على المنبر فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه(2).
عن يعلى بن مرة(3) قال: خرجنا مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد دُعينا إلى طعام، فإذا
ص: 63
الحسن (عليه السلام) يلعب في الطريق، فأسرع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمام القوم ثم بسط يده فجعل يمر مرة هاهنا ومرة هاهنا يضاحكه حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه ثم اعتنقه فقبّله ثم قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «حسن مني وأنا منه، أحب اللّه من أحبه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط»(1).
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «حسن مني وحسين من علي»(2).
وعن البراء بن عازب قال: قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن أو الحسين: «هذا مني وأنا منه، وهو يحرم عليه ما يحرم عليّ»(3).
عن علي (عليه السلام) قال: «عطش المسلمون عطشاً شديداً فجاءت فاطمة (عليها السلام) بالحسن والحسين (عليهم السلام) إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه إنهما صغيران لا يحتملان العطش، فدعا الحسن (عليه السلام) فأعطاه لسانه فمصّه حتى ارتوى، ثم دعا الحسين (عليه السلام) فأعطاه لسانه فمصّه حتى ارتوى»(1).
عن علي (عليه السلام) قال: «رأينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أدخل رجله في اللحاف أو في الشعار، فاستسقى الحسن (عليه السلام) فوثب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى منيحة لنا فمص من ضرعها فجعله في قدح ثم وضعه في يد الحسن (عليه السلام) »(2).
كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لشدة حبه للإمام الحسن (عليه السلام) يفديه بنفسه وبأبويه.
ص: 65
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الإمام الحسن (عليهما السلام) : «هذا سبطي وقرة عيني، بأبي هو»(1).
وفي رواية: كان رسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يوماً يصلي بالناس، وأقبل الحسن والحسين (عليهما السلام) - وهما غلامان - يثبان على ظهره إذا سجد وأقبل الناس ينحونهما عنه فلما انصرف قال: (صلی الله عليه وآله وسلم) : «دعوهما بأبي وأمي، من أحبني فليحب هذين»(2).
عن جابر بن عبد اللّه قال: دخلت على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يمشي على أربع والحسن والحسين (عليهما السلام) على ظهره ويقول: «نعم الجمل جملكما ونعم الحملان أنتما»(3).
عن جابر قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن اللّه عزّ وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن اللّه تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب (عليه السلام) »(4).
ص: 66
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن كل بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلاّ أولاد فاطمة (عليها السلام) فإني أنا أبوهم»(1).
عن أبي هريرة قال: (رأيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يمص لعاب الحسن والحسين (عليهما السلام) كما يمص الرجل التمرة)(2).
ص: 67
روي أنه سمع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بكاء الحسن والحسين (عليهما السلام) وهو على المنبر، فقام فزعاً إليهما، وقبّلهما وأسكتهما، ثم رجع إلى المنبر(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : في الحسن والحسين (عليهم السلام) : «هما وديعتي في أمتي»(2).
روي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان جالساً فأقبل الحسن والحسين (عليهما السلام) فلما رآهما النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قام لهما واستبطأ بلوغهما إليه، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه، وقال: «نعم المطي مطيكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خير منكما»(3).
روي أنه من كثرة فضل الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحبة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إياهما (عليهما السلام) أنه جعل نوافل المغرب وهي أربع ركعات كل ركعتين منها عند ولادة كل واحد منهما (عليهما السلام) (4).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ليلة عُرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوباً:
ص: 68
لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، علي حبيب اللّه، الحسن والحسين صفوة اللّه، فاطمة أمة اللّه، على باغضيهم لعنة اللّه»(1).
في حديث التفاحة عن ابن عباس قال: … فتحيّا بها - أي بالتفاحة التي جاء بها جبرائيل من الجنة - علي (عليه السلام) ثانيةً فلما همّ أن يردّها إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) سقطت التفاحة من أطراف أنامله فانفلقت بنصفين، فسطع منها نور حتى بلغ إلى السماء الدنيا، وإذا عليه سطران مكتوبان:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، تحية من اللّه تعالى إلى محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين سبطي رسول اللّه، وأمان لمحبيهما يوم القيامة من النار»(2).
ص: 69
وعن ابن عباس، قال: (كنا جلوساً مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ هبط عليه الأمين جبرئيل (عليه السلام) ومعه جام من البلور الأحمر مملوءة مسكاً وعنبراً، وكان إلى جنب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) وولداه الحسن والحسين (عليهما السلام) ، فقال له: السلام عليك، اللّه يقرأ عليك السلام ويحييك بهذه التحية، ويأمرك أن تحيي بها علياً وولدَيه.
قال ابن عباس: فلما صارت في كف رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) هلّلت ثلاثاً وكبّرت ثلاثاً، ثم قالت بلسان ذرب طلق: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * طَه * مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(1) فاشتمها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وحيا بها علياً (عليه السلام) فلما صارت في كف علي (عليه السلام) قالت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(2) فاشتمها علي (عليه السلام) وحيي بها الحسن (عليه السلام) فلما صارت في كف الحسن (عليه السلام) قالت: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}(3)، فاشتمها الحسن (عليه السلام) وحيي بها الحسين (عليه السلام) فلما صارت في كف الحسين (عليه السلام) قالت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}(4) ثم ردّت إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: {اللَّهُ
ص: 70
نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ}(1).
قال ابن عباس: فلا أدري إلى السماء صعدت أم في الأرض توارت بقدرة اللّه عزّ وجل)(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن فاطمة وعلياً والحسن والحسين (عليهم السلام) في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن عزّ وجل»(3).
ص: 72
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن جبرئيل (عليه السلام) يهديه، وميكائيل (عليه السلام) يسدده، وهو ولدي والطاهر من نفسي، وضلع من أضلاعي، هذا سبطي وقرة عيني بأبي هو»(1).
روي أنه انصرف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى منزل فاطمة (عليها السلام) فرآها قائمة خلف بابها فقال: «ما بال حبيبتي هاهنا؟».
فقالت: «ابناك خرجا غدوة وقد غبي عليّ(2) خبرهما».
فمضى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقفو آثارهما حتى صار إلى كهف جبل فوجدهما نائمين وحية مطوقة عند رأسهما، فأخذ حجراً وأهوى إليها، فقالت: السلام عليك يا رسول اللّه، واللّه ما نمت عند رأسهما إلاّ حراسة لهما، فدعا لها بخير، ثم حمل الحسن (عليه السلام) على كتفه اليمنى والحسين (عليه السلام) على كتفه اليسرى، فنزل جبرئيل فأخذ جبرئيل الحسين (عليه السلام) وحمله، فكانا بعد ذلك يفتخران فيقول الحسن (عليه السلام) : «حملني خير أهل الأرض» ويقول الحسين (عليه السلام) : «حملني خير أهل السماء»(3).
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «ما تكلّم الحسين (عليه السلام) بين يدي الحسن (عليه السلام) إعظاماً
ص: 73
له»(1).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما مشى الحسين (عليه السلام) بين يدي الحسن (عليه السلام) قط، ولا بدره بمنطق إذا اجتمعا، تعظيماً له»(2).
كانت شفاعة الإمام الحسن (عليه السلام) مقبولة عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
روي أنه جاء أبو سفيان إلى علي (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن جئتك في حاجة.
قال (عليه السلام) : «وفيم جئتني؟».
قال: تمشي معي إلى ابن عمك محمد فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً.
فقال: «يا أبا سفيان لقد عقد لك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عقداً لا يرجع عنه أبداً».
وكانت فاطمة (عليها السلام) من وراء الستر والحسن (عليه السلام) يدرج بين يديها، وهو طفل من أبناء أربعة عشر شهراً، فقال لها: «يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلّم لي جده فيسود بكلامه العرب والعجم».
فأقبل الحسن (عليه السلام) إلى أبي سفيان وضرب إحدى يديه على أنفه، والأخرى على لحيته، ثم أنطقه اللّه عزّ وجل بأن قال:
«يا أبا سفيان قل: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه حتى أكون شفيعاً» فقال علي (عليه السلام) : «الحمد لله الذي جعل من ذرية محمد المصطفى نظير يحيى بن زكريا {وآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}»(3)(4).
ص: 74
وعن محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال: أذنب رجل ذنباً في حياة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فتغيب حتى وجد الحسن والحسين (عليهما السلام) في طريق خال، فأخذهما واحتملهما على عاتقيه وأتى بهما النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه إني مستجير باللّه وبهما.
فضحك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى ردّ يده إلى فمه، ثم قال للرجل:
«اذهب فأنت طليق». وقال للحسن والحسين (عليهما السلام) قد شفعتكما فيه أي فتيان، فأنزل اللّه تعالى: {ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}(1)»(2).
ص: 75
7
كان الإمام الحسن (عليه السلام) عالماً بما كان وما يكون وما هو كائن، وذلك بالعلم اللدني الذي منحه الباري عزّ وجل، وكذلك بالعلم الاكتسابي من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) .
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أما الحسن فأنحله الهيبة والعلم».
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: إن الحسن بن علي (عليه السلام) كان عنده رجلان، فقال لأحدهما: «إنك حدثت البارحة فلاناً بحديث كذا وكذا» فقال الرجل: إنه ليعلم ما كان، وعجب من ذلك، فقال (عليه السلام) : «إنا لنعلم ما يجري بالليل والنهار» ثم قال: «إن اللّه تبارك وتعالى علّم رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) الحلال والحرام والتنزيل والتأويل فعلّم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) علياً علمه كله»(1).
هذا وقد اعترف الآخرون بعلم الإمام الحسن (عليه السلام) .. قال عبد اللّه بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر في الحسن والحسين (عليهما السلام) : (إنهما غُذّيا بالعلم غذاء)(2).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب
ص: 76
المسجد فسأله فأمر له بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني، فقال له عثمان: دونك الفتية التي ترى، وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر (عليهم السلام) .
فمضى الرجل نحوهم حتى سلّم عليهم وسألهم، فقال له الحسن (عليه السلام) : يا هذا إن المسألة لا تحل إلاّ في إحدى ثلاث: دم مفجع أو دَين مُقرح أو فقر مُدقع، ففي أيها تسأل؟ فقال: في واحدة من هذه الثلاث، فأمر له الحسن (عليه السلام) بخمسين ديناراً، وأمر له الحسين (عليه السلام) بتسعة وأربعين ديناراً، وأمر له عبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين ديناراً، فانصرف الرجل فمرّ بعثمان فقال له: ما صنعت؟ فقال: مررت بك فسألتك فأمرت لي بما أمرت ولم تسألني فيما أسأل، وإن صاحب الوفرة لما سألته قال لي: يا هذا فيما تسأل فإن المسألة لا تحل إلاّ في إحدى ثلاث فأخبرته بالوجه الذي أسأله من الثلاثة فأعطاني خمسين ديناراً، وأعطاني الثاني تسعة وأربعين ديناراً، وأعطاني الثالث ثمانية وأربعين ديناراً، فقال عثمان: ومن لك بمثل هؤلاء الفتية أولئك فطموا العلم فطماً، وحازوا الخير والحكمة»(1).
كتب ملك الروم إلى معاوية يسأله عن ثلاث: عن مكان بمقدار وسط السماء، وعن أول قطرة دم وقعت على الأرض، وعن مكان طلعت فيه الشمس مرّة؟ فلم يعلم ذلك، فاستغاث بالحسن بن علي (عليه السلام) فقال (عليه السلام) : «ظهر الكعبة، ودم حواء، وأرض البحر حين ضربه موسى»(2).
ص: 77
وفي رواية عن الإمام الحسن (عليه السلام) في جواب ملك الروم: عما لا قبلة له ومن لا قرابة له: «ما لا قبلة له فهي الكعبة،وما لا قرابة له فهو الرب تعالى»(1).
سأل شامي(2) الحسن بن علي (عليه السلام) فقال: كم بين الحق والباطل؟ وكم بين السماء والأرض؟ وكم بين المشرق والمغرب؟...
فقال الحسن بن علي (عليهما السلام) : «بين الحق والباطل أربع أصابع فما رأيته بعينك فهو الحق، وقد تسمع بإذنيك باطلاً كثيراً»، قال الشامي صدقت.
قال (عليه السلام) : «وبين السماء والأرض دعوة المظلوم ومدّ البصر، فمن قال لك غير هذا فكذّبه» قال: صدقت يا ابن رسول اللّه.
قال (عليه السلام) : «وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب من مغربها»، قال الشامي: صدقت.
... فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حقاً وأن علياً أولى بالأمر من معاوية، ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها معاوية إلى ابن الأصفر فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية لم تكلمني بغير كلامك وتجيبني بغير جوابك، أقسم بالمسيح ما هذا جوابك وما هو إلاّ من معدن
ص: 78
النبوة وموضع الرسالة، وأما أنت فلو سألتني درهماً ما أعطيتك(1).
عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد اللّه (عليهما السلام) يقولان: «بينا الحسن بن علي (عليه السلام) في مجلس أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) إذ أقبل قوم فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين، قال: وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة، قال: وما هي تخبرونا بها، فقالوا: امرأة جامعها زوجها فلما قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فألقت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن (عليه السلام) : معضلة وأبو الحسن لها وأقول، فإن أصبت فمن اللّه ثم من أمير المؤمنين (عليه السلام) وإن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا أخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتى تشق فتذهب عذرتها، ثم ترجم المرأة لأنها محصنة، ثم يتنظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية الحد، قال: فانصرف القوم من عند الحسن (عليه السلام) فلقوا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ما قلتم لأبي محمد؟ وما قال لكم؟ فأخبروه، فقال: لو أنني المسئول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني»(2).
سأل أعرابي أبا بكر فقال: إني أصبت بيض نعام فشويته وأكلته وأنا محرم فما يجب عليّ؟ فقال له: يا أعرابي أشكلت عليّ في قضيتك فدلّه على عمر، ودلّه
ص: 79
عمر على عبد الرحمن، فلما عجزوا قالوا: عليك بالأصلع، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «سل أي الغلامين شئت».
فقال الحسن (عليه السلام) : «يا أعرابي ألك إبل»؟ قال: نعم، قال: «فاعمد إلى عدد ما أكلت من البيض نوقاً فاضربهن بالفحول فما فضل منها فأهده إلى بيت اللّه العتيق الذي حججت إليه» فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إن من النوق السلوب، ومنها ما يزلق» فقال: «إن يكن من النوق السلوب، وما يزلق فإن من البيض ما يمرق» قال: فسمع صوت معاشر الناس: إن الذي فهم هذا الغلام هو الذي فهمها سليمان بن داود»(1).
وروي أن رجلاً سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إني خرجت محرماً فوطئت ناقتي بيض نعام فكسرته فهل عليّ كفارة؟ فقال له: «امض فاسئل ابني الحسن عنها» وكان بحيث يسمع كلامه فتقدم إليه الرجل فسأله فقال له الحسن (عليه السلام) : «يجب عليك أن ترسل فحول الإبل في إناثها بعدد ما انكسر من البيض، فما نتج فهو هدي لبيت اللّه عزّ وجل».
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : «يا بني كيف قلت ذلك، وأنت تعلم أن الإبل ربما أزلقت أو كان فيها ما يزلق» فقال: «يا أمير المؤمنين والبيض ربما أمرق أو كان فيه ما يمرق» فتبسم أمير المؤمنين وقال له: «صدقت يا بني ثم تلا هذه الآية: {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}»(2)(3).
ص: 80
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «لما صالح الحسن بن علي (عليه السلام) معاوية جلسا بالنخيلة(1)، فقال معاوية: يا أبا محمد بلغني أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يخرص النخل فهل عندك من ذلك علم، فإن شيعتكم يزعمون أنه لا يعزب عنكم علم شي ء في الأرض ولا في السماء، فقال الحسن (عليه السلام) : «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يخرص كيلاً، وأنا أخرص عدداً» فقال معاوية: كم في هذه النخلة من بسرة؟ قال الحسن (عليه السلام) : «أربعة آلاف بسرة وأربع بسرات، فأمر معاوية بها فصرمت فجاءت أربعة الآف وثلاث بسرات، فقال الحسن واللّه ما كذبت ولا كذبت فنظرنا فإذا في يد عبداللّه بن عامر بن كريز بسرة ثم قال (عليه السلام) : أما واللّه يا معاوية لولا أنك تفر لأخبرتك بما أعلم وذلك أن رسول اللّه كان في زمان لا يكذب وأنت تكذب وتقول متى سمع من جه على صغر سنه واللّه لقد عين زياد أو لتقتلن حجراً ويحمل إليك رأس عمرو بن الحق»(2).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن لله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، عليهما سوران من حديد، وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب، وفيها سبعون ألف ألف لغة، يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه، وأنا أعرف جميع اللغات، وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري والحسين أخي»(3).
ص: 81
روي أن الإمام الحسن (عليه السلام) وإخوته وعبد اللّه بن العباس كانوا على مائدة، فجاءت جرادة ووقعت على المائدة، فقال عبد اللّه للحسن (عليه السلام) : أي شي ء مكتوب على جناح الجرادة؟ فقال (عليه السلام) : «مكتوب عليه: (أنا اللّه لا إله إلا أنا، ربما أبعث الجراد رحمة لقوم جياع ليأكلوه، وربما أبعثها نقمة على قوم فتأكل أطعمتهم).
فقام عبد اللّه وقبّل رأس الحسن (عليه السلام) وقال: هذا من مكنون العلم»(1).
روي أنه أقبل أعرابي يجر هراوة له، فلما نظر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إليه قال: «قد جاءكم رجل يكلمكم بكلام غليظ تقشعر منه جلودكم، وإنه يسألكم من أمور إلا أن لكلامه جفوة».
فجاء الأعرابي فلم يسلّم فقال: أيكم محمد؟
قلنا: ما تريد؟
فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «مهلاً».
فقال: يا محمد، قد كنت أبغضك ولم أرك والآن قد ازددت لك بغضاً!.
فتبسم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وغضبنا لذلك، وأردنا للإعرابي إرادة، فأومأ إلينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن امسكوا.
فقال الأعرابي: يا محمد إنك تزعم أنك نبي، وإنك قد كذبت على الأنبياء، وما معك من دلائلهم شيء!
ص: 82
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا أعرابي، وما يدريك»؟
قال: فخبرني ببراهينك، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن أحببت أخبرتك كيف خرجت من منزلك، وكيف كنت في نادي قومك، وإن أردت أخبرك عضو من أعضائي، فيكون ذلك أوكد لبرهاني»، قال: أويتكلم العضو؟ قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «نعم، يا حسن قم».
فازدرى الأعرابي نفسه وقال: هو لا يأتي ويأمر صبياً يكلمني.
قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنك ستجده عالماً بما تريد»...
فابتدر الحسن فقال: «مهلاً يا أعرابي:
ما غبياً سألت وابن غبي***بل فقيهاً إذن وأنت الجهول
فإن تك قد جهلت فإن عندي***شفاء الجهل ماسأل السؤول
وبحراً لا تقسه الدوالي***تراثاً كان أورثه الرسول
لقد بسطت لسانك، وعدوت طورك، وخادعت نفسك، غير أنك لا تبرح حتى تؤمن إن شاء اللّه تعالى».
فتبسم الأعرابي وقال: هيهات.
فقال له الحسن (عليه السلام) : «قد اجتمعتم في نادي قومك، وقد تذاكرتم ما جرى بينكم على جهل، وخرق منكم، فزعمتم أن محمداً صنبور(1)، والعرب قاطبة تبغضه، ولا طالب له بثأره، وزعمت أنك قاتله وكاف قومك مئونته، فحملت نفسك على ذلك، وقد أخذت قضاتك بيدك تؤمه وتريد قتله، تعسر عليك
ص: 83
مسلكك، وعمي عليك بصرك، وأبيت إلاّ ذلك، فأتيتنا خوفاً من أن يستهزئوا بك، وإنما جئت لخير يراد بك.
أنبئك عن سفرك: خرجت في ليلة ضحياء، إذ عصفت ريح شديدة اشتد منها ظلماؤها، وأطبقت سماؤها، وأعصر سحابها، وبقيت محرنجماً كالأشقر إن تقدم نحر، وإن تأخر عقر، لا تسمع لواطئ حساً، ولا لنافخ نار خرساً، تدالت عليك غيومها، وتوارت عنك نجومها، فلا تهتدي بنجم طالع ولا بعلم لامع، تقطع محجة وتهبط لجة بعد لجة في ديمومة قفر بعيدة القعر مجحفة بالسفر، إذا علوت مصعداً ازددت بعداً، وأرادت الريح تخطفك والشوك تخبطك، في ريح عاصف وبرق خاطف، قد أوحشتك قفارها وقطعتك سلامها، فانصرفت فإذا أنت عندنا، فقرّت عينك وظهر زينك وذهب أنينك».
قال: من أين قلت يا غلام هذا، كأنك كشفت عن سويداء قلبي، وكأنك كنت شاهدي، وما خفي عليك شي ء من أمري، وكأنك عالم الغيب؟ يا غلام، لقني الإسلام؟
فقال الحسن (عليه السلام) : «اللّه أكبر، قل: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله» فأسلم وحسن إسلامه وعلّمه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً من القرآن.
فقال: يا رسول اللّه أرجع إلى قومي وأعرفهم ذلك، فأذن (صلی الله عليه وآله وسلم) له فانصرف ثم رجع ومعه جماعة من قومه، فدخلوا في الإسلام، وكان الحسن (عليه السلام) إذا نظر إليه الناس قالوا: لقد اُعطي هذا ما لم يعط أحد من العالمين(1).
ص: 84
روي أن علياً (عليه السلام) كان في الرحبة، فقام إليه رجل فقال: أنا من رعيتك وأهل بلادك.
قال (عليه السلام) : «لست من رعيتي، ولا من أهل بلادي، ولكن ابن الأصفر بعث بمسائل إلى معاوية أقلقته وأرسلك إليّ بها» قال: صدقت يا أمير المؤمنين، إن معاوية أرسلني إليك في خفية، وأنت قد اطلعت على ذلك ولا يعلمها غير اللّه.
فقال (عليه السلام) : «سل أحد ابنيّ هذين». قال: أسأل ذا الوفرة يعني الحسن، فأتاه فقال له الحسن (عليه السلام) : «جئت تسأل كم بين الحق والباطل؟ وكم بين السماء والأرض؟ وكم بين المشرق والمغرب؟ وما قوس قزح؟ وما المؤنث؟ وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض؟» قال: نعم، قال الحسن (عليه السلام) (1): «بين الحق والباطل أربعة أصابع، ما رأيته بعينك فهو الحق، وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً، وبين السماء والأرض دعوة المظلوم ومدّ البصر، وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، وقزح اسم للشيطان، لا تقل: قوس قزح، هو قوس اللّه، وعلامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق، وأما المؤنث(2) فهو الذي لا يدرى أذكر أم أنثى فإنه ينتظر به فإن كان ذكراً احتلم، وإن كانت أنثى حاضت وبدا ثديها، وإلا قيل له: بل، فإن أصاب بوله الحائط فهو ذكر، وإن انتكص بوله على رجليه كما ينتكص بول البعير فهو أنثى، وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض: فأشد شي ء خلق اللّه: الحجر، وأشد منه الحديد يقطع به الحجر، وأشد
ص: 85
من الحديد: النار تذيب الحديد، وأشد من النار: الماء يطفي النار، وأشد من الماء: السحاب يحمل الماء، وأشد من السحاب: الريح تحمل السحاب، وأشد من الريح: الملك الذي يردها، وأشد من الملك: ملك الموت الذي يميت الملك، وأشد من ملك الموت: الموت الذي يميت ملك الموت، وأشد من الموت: أمر اللّه الذي يدفع الموت»(1).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في أمّته، والثاني كتاب اللّه فيه تفصيل كل شيءٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله بل نتيقّن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة اللّه عزّ وجل ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) مقرونةً..»(2).
كان الإمام الحسن (عليه السلام) يحثّ على كتابة العلم وتدوين الأحاديث ونشر الأحكام، مع أن القوم منعوا من تدوين الحديث بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
ولكن علياً (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) قد كتبوا ودوّنوا. ولا شك في أنه لولا كتابة العلم لضاع العلم فهي منقبة لعلي وولده (عليهما السلام) .
قال القاضي أي ابن عياض: (كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف
ص: 86
كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف)(1).
وفي رواية: إن الإمام الحسن (عليه السلام) دعا بنيه وبني أخيه، فقال: «إنكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(2).
في رواية: أنه نظر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى ولده الحسن (عليه السلام) (3) وقال: «إنه سيكون بعدي هادياً مهدياً، هذا هدية من رب العالمين لي، ينبئ عني ويعرّف الناس آثاري، ويحيي سنتي، ويتولى أموري في فعله، وينظر اللّه تعالى إليه ويرحمه، رحم اللّه من عرف له ذلك، وبرّني فيه، وأكرمني فيه»(4).
روي أن الحسن والحسين (عليها السلام) مرّا على شيخ يتوضأ وهو لا يحسن الوضوء، فأظهرا تنازعاً، يقول كل واحد منهما للآخر: أنا أحسن الوضوء، فقالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا، فتوضئا وقالا: أينا يحسن الوضوء؟ فقال الشيخ: كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن وقد تعلم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما»(5).
ص: 87
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما جالسان على الصفا فسألهما، فقالا: إن الصدقة لا تحل إلاّ في دَين موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع، ففيك شي ء من هذا؟
قال: نعم.
فأعطياه، وقد كان الرجل سأل عبد اللّه بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فأعطياه ولم يسألاه عن شي ء فرجع إليهما، فقال لهما: ما لكما لم تسألاني عما سألني عنه الحسن والحسين (عليهما السلام) ؟ وأخبرهما بما قالا، فقالا: إنهما غذيا بالعلم غذاء»(1).
روي عن عمر بن إسحاق(2)
قال: دخلت أنا ورجل على الحسن بن علي (عليه السلام) نعوده، فقال (عليه السلام) : «يا فلان سلني».
فقال: لا واللّه لا نسألك حتى يعافيك اللّه ثم أسألك..
قال: ثم خرج إلينا فقال: «سلني قبل أن لا تسألني» قال: بل يعافيك اللّه ثم أسألك، قال: «قد ألقيت طائفة من كبدي وإني قد سقيت السم مراراً، فلم أسق مثل هذه المرة»(3).
ص: 88
في رواية جنادة(1) أنه دخل على الإمام الحسن (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه وبين يديه طشت يقذف فيه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السمّ الذي أسقاه معاوية لعنه اللّه..
يقول: ثم التفت الإمام الحسن (عليه السلام) إليّ فقال: «واللّه إنه لعهد عهده إلينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلاّ مسموم أو مقتول». ثم رفعت الطشت واتكئ صلوات اللّه عليه، فقلت: عظني يا ابن رسول اللّه، قال:
«نعم، استعد لسفرك، وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنه تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازنا لغيرك، واعلم أن في حلالها حساباً، وفي حرامها عقاباً، وفي الشبهات عتاباً، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم تكن قد أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإن العتاب يسير، وأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعة اللّه عزّ وجل، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن
ص: 89
صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتدأك، وإن نزلت بك إحدى الملمات واساك، من لا يأتيك منه البوائق، ولا يختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسما آثرك»، قال: ثم انقطع نفسه واصفر لونه حتى خشيت عليه. الحديث(1).
عن أبي برزة الأسلمي(2) قال: وُلد للحسن بن علي (عليه السلام) مولود فأتته قريش فقالوا: يهنئك الفارس، فقال (عليه السلام) : «وما هذا من الكلام؟ قولوا: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ اللّه به أشده، ورزقك بره»(3).
وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «هنأ رجل رجلاً أصاب ابناً فقال: يهنيك الفارس، فقال له الحسن (عليه السلام) : ما علمك أن يكون فارساً أو راجلاً؟ فقال له: جعلت فداك فما أقول؟ قال: تقول: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب وبلغ أشده، ورُزقت بره»(4).
كان الإمام الحسن (عليه السلام) يهتم بالأطفال فإذا رآهم عطف عليهم وشجّعهم، وفي
ص: 90
رواية أنه (عليه السلام) دعا بنيه وبني أخيه، فقال: «إنكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(1).
ص: 91
8
كان الإمام الحسن (عليه السلام) كسائر المعصومين (عليهم السلام) يعلم الغيب بإذن اللّه تعالى، وهذه نماذج من ذلك:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : «أن الحسن (عليه السلام) قال يوماً لأخيه الحسين (عليه السلام) ولعبد اللّه بن جعفر: «إن معاوية بعث إليكم بجوائزكم، وهي تصل إليكم يوم كذا لمستهل الهلال» وقد أضاقا فوصلت في الساعة التي ذكرها لما كان رأس الهلال»(1).
روى أبو حمزة الثمالي(2)
عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: «كان الحسن بن علي جالساً فأتاه آت فقال: يا ابن رسول اللّه قد احترقت دارك! قال: «لا، ما احترقت» إذا أتاه آت فقال: يا ابن رسول اللّه قد وقعت النار في دار إلى جنب
ص: 92
دارك حتى ما شككنا أنها ستحرق دارك، ثم إن اللّه صرفها عنها»(1).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : «أن الحسن (عليه السلام) خرج من مكة ماشياً إلى المدينة فتورمت قدماه، فقيل له: لو ركبت ليسكن عنك هذا الورم، فقال: كلا، ولكنا إذا أتينا المنزل فإنه يستقبلنا أسود معه دهن يصلح لهذا الورم فاشتروا منه ولا تماكسوه.
فقال له بعض مواليه: ليس أمامنا منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء؟
فقال: بلى، إنه أمامنا، وساروا أميالاً فإذا الأسود قد استقبلهم، فقال الحسن (عليه السلام) لمولاه: دونك الأسود فخذ الدهن منه بثمنه.
فقال الأسود: لمن تأخذ هذا الدهن؟
قال: للحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) . قال: انطلق بي إليه، فصار الأسود إليه، فقال الأسود: يا ابن رسول اللّه إني مولاك لا آخذ له ثمنا، ولكن ادع اللّه أن يرزقني ولداً سوياً ذكراً يحبكم أهل البيت فإني خلفت امرأتي تمخض.
فقال (عليه السلام) : انطلق إلى منزلك فإن اللّه تعالى قد وهب لك ولداً ذكراً سوياً - وهو من شيعتنا -.
فرجع الأسود من فوره فإذا امرأته قد ولدت غلاماً سوياً، ثم رجع الأسود إلى الحسن (عليه السلام) ودعا له بالخير بولادة الغلام له، وإن الحسن (عليه السلام) قد مسح رجليه بذلك الدهن فما قام عن موضعه حتى زال الورم»(2).
ص: 93
مرّ الحسن بن علي (عليه السلام) في مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بحلقة فيها قوم من بني أمية، فتغامزوا به وذلك عندما تغلب معاوية على ظاهر أمره.
فرآهم وتغامزهم به فصلّى ركعتين ثم جاءهم فلما رأوه جعل كل واحد منهم يتنحى عنه مجلسه له. فقال لهم: «كونوا كما أنتم فإني لم أرد الجلوس معكم ولكن قد رأيت تغامزكم بي أما واللّه لا تملكون يوماً إلاّ ملكنا يومين، ولا شهراً إلاّ ملكنا شهرين، ولا سنة إلاّ ملكنا سنتين، وإنا لنأكل في سلطانكم ونشرب ونلبس وننكح ونركب، وأنتم لا تأكلون في سلطاننا ولا تشربون ولا تنكحون».
فقال له رجل: فكيف يكون ذلك يا أبا محمد، وأنتم أجود الناس وأرأفهم وأرحمهم تأمنون في سلطان القوم، ولا يأمنون في سلطانكم؟
فقال: «لأنهم عادونا بكيد الشيطان، وكيد الشيطان كان ضعيفاً، وإنا عاديناهم بكيد اللّه، وكيد اللّه شديد»(1).
ص: 94
9
كان الإمام الحسن (عليه السلام) أعبد الناس في زمانه، وكان تقياً شديد الخوف من اللّه عزّ وجل، وكان (عليه السلام) كثير البكاء والتضرع، فإذا ذكر الموت والقبر والحشر والنشر بكى، وربما وقع مغشياً عليه من خوفه، وكانت ترتعد فرائصه حال الصلاة.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) حدثني أبي (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) : «أن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم»(1).
وقال (عليه السلام) : «إن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ... كان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يُغشى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عزّ وجل، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم(2)، وسأل اللّه تعالى الجنة وتعوذ به من النار وكان (عليه السلام) لا يقرأ من كتاب اللّه عزّ وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلاّ قال: لبيك اللّهم لبيك، ولم ير في شي ء من أحواله إلاّ ذاكراً لله سبحانه»(3).
ص: 95
وروى الشيخ ابن فهد الحلي (رحمه الله) : أن الإمام الحسن (عليه السلام) مشى حافياً إلى حج بيت اللّه عزوجل(1).
وقد روي: أن الحسن بن علي (عليه السلام) كان إذا توضأ ارتعدت مفاصله، واصفر لونه، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام) : «حق على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفر لونه وترتعد مفاصله»(2).
عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: «لما حضرت الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الوفاة بكى، فقيل له: يا بن رسول اللّه، أتبكي ومكانك من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي أنت فيه، وقد قال فيك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما قال، وقد حججت عشرين حجة ماشياً، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل والنعل، فقال: إنما أبكي لخصلتين: هول المطلع، وفراق الأحبة»(3).
حج الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) عشرين حجة - بل خمسة وعشرين - ماشياً إلى بيت اللّه الحرام، وربما كان حافياً في مشيه خضوعاً وخشوعاً لله تعالى(4).
ص: 96
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان الحسن بن علي (عليه السلام) يحج ماشياً وتساق معه المحامل والرحال»(1).
وقال الصادق (عليه السلام) : «إن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ... كان إذا حجّ حج ماشياً، وربما مشى حافياً(2)»(3).
وعن ابن بكير(4) قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : بلغنا أن الحسن بن علي (عليه السلام) حج عشرين حجة ماشياً، قال: «إن الحسن بن علي (عليه السلام) حج ويساق معه المحامل والرحال»(5).
وفي رواية قال الصادق (عليه السلام) : «إن الحسن بن علي (عليه السلام) حج خمساً وعشرين حجة ماشياً»(6).
وفي خبر: «وحج عشرين حجة على قدميه»(7).
في المناقب لابن شهرآشوب: دخلت على الحسن (عليه السلام) امرأة جميلة وهو في
ص: 97
صلاته فأوجز في صلاته ثم قال لها: «ألك حاجة؟» قالت: نعم، قال: «وما هي؟» قالت: قم فأصب مني فإني وفدت ولا بعل لي، قال: «إليك عني لاتحرقيني بالنار ونفسك» فجعلت تراوده عن نفسه وهو يبكي ويقول: «ويحك إليك عني، واشتد بكاؤه» فلما رأت ذلك بكت لبكائه.
فدخل الحسين (عليه السلام) ورآهما يبكيان فجلس يبكي وجعل أصحابه يأتون ويجلسون ويبكون حتى كثر البكاء وعلت الأصوات، فخرجت الأعرابية وقام القوم وترحلوا(1).
روي: «أن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان لا يمر في شي ء من أحواله إلاّ ذكر اللّه سبحانه».
وكان (عليه السلام) إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه وهو يقول: «إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم»(2).
وروي أن الحسن (عليه السلام) كان إذا فرغ من الفجر لم يتكلم إلاّ بالدعاء حتى تطلع الشمس، وإن زحزح، أي وإن أريد تنحيه من ذلك باستنطاق ما يهم(3).
«يَا مَنْ بِسُلْطَانِهِ يَنْتَصِرُ المظْلُومُ، وَبِعَوْنِهِ يَعْتَصِمُ المكْلُومُ، سَبَقَتْ مَشِيّتُكَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُكَ، وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير، وَبِمَا تمَضِيهِ خَبِير، يَا حَاضِرَ كُلِّ
ص: 98
غَيْبٍ، وَيَا عَالِمَ كُلِّ سِرّ، وَمَلْجَأ كُلِّ مُضْطَرٍ، ضَلَّتْ فِيكَ الفُهُومُ، وَتَقَطَّعَتْ دُونَكَ الْعُلُومُ، وَأنْتَ اللّهُ الحَيُّ الْقَيُّومُ الدّائِمُ الدَّيمُومُ، قَدْ تَرَى مَا أنَتَ بِهِ عَلِيمٌ، وَفِيهِ حَكِيمٌ، وَعَنْهُ حَلِيمٌ، وَأنْتَ بِالتّنَاصُرِ عَلَى كَشْفِهِ وَالْعَوْنِ عَلَى كَفّهِ غَيرُ ضَائِق، وَإلَيْكَ مَرْجَعُ كُلِّ أمْرٍ كَمَا عَنْ مَشِيّتِكَ مَصْدَرُهُ، وَقَدْ أبَنْتَ عَنْ عُقُودِ كُلّ قَوْمٍ، وَأخْفَيْتَ سَرَايِرَ آخَرِينَ وَأمْضَيْتَ مَا قَضَيْتَ، وَأخَّرْتَ مَا لاَ فَوْتَ عَلَيْكَ فِيهِ، وَحَمَلْتَ الْعُقُولَ مَا تحَمّلَتْ في غَيْبِكَ، لِيَهْلَكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيحَيْىَ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيّنَةٍ، وَإنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، الأحَدُ الْبَصِيرُ.
وَأنْتَ اللّهُمَّ المُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ التّوَكُلُ، وَأنْتَ وَلِيُّ مَا تَوَلَّيْتَ، لَكَ الأمْرُ كُلُّهُ، تَشْهَدُ الانْفِعَالَ، وَتَعْلَمُ الاخْتِلاَلَ، وَتَرَى تَخَاذُلَ أهْلِ الخِبَالِ وَجُنُوحَهُمْ إلَى مَا جَنَحُوا إلَيْهِ مِنْ عَاجِلٍ فَانٍ، وَحُطَامٍ عُقْبَاهُ حَمِيمٌ آنٍ، وَقُعُودَ مَنْ قَعَدَ وَارْتِدَادَ مَنْ ارْتَدَّ وَخُلُوّي مِنَ النُّصَّارِ، وَانْفِرَادِي مِنَ الظُّهَّارِ، وَبِكَ أعْتَصِمُ وَبحَبْلِكَ أسْتَمْسِكُ وَعَلَيْكَ أتَوَكَّلُ.
اللّهُمَّ فَقَدْ تَعْلَمُ أنِّي مَا ذَخَرْتُ جُهْدِي، وَلاَ مَنَعْتُ وَجْدِي، حَتّى انْفَلَّ حَدِّي، وَبَقِيتُ وَحْدِي، فَاتّبَعْتُ طَرِيقَ مَنْ تَقَدَّمَنِي في كَفِّ العَادِيَة، وَتَسْكِينِ الطّاغِيَة، عَنْ دِمَاءِ أهْلِ المُشَايَعَة، وَحَرَسْتُ مَا حَرَسَهُ أوْلِيَائِي مِنْ أمْرِ آخِرَتِي وَدُنْيَايَ، فَكُنْتُ لِغَيْظِهِمْ أكْظِمُ، وَبِنِظَامِهِمْ أنْتَظِمُ، وَلِطَرِيقِهِمْ أتَسَنَّم، وَبمَِيْسِمِهِم أتَّسِم، حَتّى يَأتِي نَصْرُكَ وَأنْتَ نَاصِرُ الحَقِّ وَعَوْنُهُ، وَإنْ بَعُدَ المدَى مِنَ المرُتَاد، وَنَأى الْوَقْتُ عَنْ إفْنَاءِ الأضْدَاد.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى محُمَّدٍ وَآلِهِ، وَأخْرِجْهُمْ مَعَ النُّصّابِ في سَرْمَدِ الْعَذَاب، وأعْمِ عَنِ الرُّشْدِ أبْصَارَهُم، وَسَكِّعْهُمْ في غَمَرَاتِ لَذّاتِهِم حَتّى تَأخُذَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ غَافِلُون، وَسَحْرَةً وَهُمْ نَائِمُون، بِالحَقِّ الّذِي تُظْهِرُهُ، وَالْيَدِ الّتِي تُبْطِشُ بِهَا،
ص: 99
وَالْعلمِ الّذِي تُبْدِيه، إنّكَ كَرِيمٌ عَلِيم».
«اللّهُمَّ إنَّكَ الرَّبُّ الرّؤُوفُ، المَلِكُ العَطُوفُ، المُتَحَنِّنُ المَألُوفُ، وَأنْتَ غِيَاثُ الحَيْرَانِ الملْهُوفِ، وَمُرْشِدُ الضّالِ المَكْفُوفِ، تَشْهَدُ خَوَاطِرَ أسْرَارِ المُسِرّينَ كَمُشَاهِدَتِكَ أقْوَالَ النَّاطِقِين، أسْألُكَ بِمَغِيبَاتِ عِلْمِكَ في بَوَاطِنِ سَرَائِرِ المُسِرّينَ إلَيْكَ، أنْ تُصَلّيَ عَلَى محُمَّدٍ وَآلِهِ صَلاةً نَسْبَقُ بِهَا مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ، وَنَتَجَاوَزُ فِيهَا مَن يجَتَهِدُ مِنَ المُتَأخّرِينَ، وَأنْ تَصِلَ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ صِلَةَ مَنْ صَنَعْتَهُ لِنَفْسِكَ وَاصْطَنَعْتَهُ لِعَيْنِكَ، فَلَمْ تَتَخَطَّفْهُ خَاطِفَاتُ الظَّنَن، وَلا وَارِدَاتُ الفِتَن، حَتّىَ نَكُونَ لَكَ في الدّنْيَا مُطِيعِينَ، وَفي الآخِرَةِ في جِوَارِكَ خَالِدِين»(1).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: حدثني أبي (عليه السلام) عن جدي (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه... وإذا أراد أحدكم النوم فلا يضعن جنبه على الأرض حتى يقول: (أُعِيذُ نَفْسِي وَدِينِي وَأهْلِي وَوُلْدِي وَمَالِي وَخَوَاتِيمَ عَمَلِي وَمَا رَزَقَنِي رَبّي وَخَوَّلَنِي بِعِزّةِ اللّهِ، وَعَظَمَةِ اللّهِ، وَجَبَرُوتِ اللّهِ، وَسُلْطَانِ اللّهِ، وَرَحْمَةِ اللّهِ، وَرَأفَةِ اللّهِ، وَغُفْرَانِ اللّهِ، وَقُوَّةِ اللّهِ، وَقُدْرَةِ اللّهِ، وَجَلالِ اللّهِ، وَبِصُنْعِ اللّهِ، وَأرْكَانِ اللّهِ، وَبِجَمْعِ اللّهِ عَزّ وَجَل، وَبِرَسُولِ اللّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وَبِقُدْرَةِ اللّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، مِن شَرِّ السَّامَّةِ وَالْهَامَّةِ، وَمِنْ شّرِّ الجِنِّ وَالإنْسِ، وَمِنْ شَرّ مَا يَدُبُّ في الأرْضِ، وَمَا يخَرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ
ص: 100
شَرّ كُلِّ دَابّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إلاّ بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم)..
فإن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يعوّذ بها الحسن والحسين (عليهما السلام) وبذلك أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله»(1).
وفي البحار: حرز للإمام الحسن (عليه السلام) : «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم: اللّهُمّ إنّي أسْألُكَ بمَكَانِكَ وَمَعَاقِدِ عِزِّكَ، وَسُكّانِ سَمَاوَاتِكَ، وَأنْبِيائِكَ وَرُسُلِكَ، أنْ تَسْتَجِيبَ لِي، فَقَدْ رَهَقَنِي مِنْ أمْرِي عُسْرٌ، اللّهُمَّ إنّي أسْألُكَ أنْ تُصَلِّيَ عَلَى محُمَّدٍ وَآلِ محُمَّدٍ، وَأنْ تَجْعَلَ لِي مْنْ عُسْرِي يُسْرَاً»(2).
وقيل: كان نقش خاتمه (عليه السلام) : (اللّهُ أكْبَرُ وَبِهِ أسْتَعِينُ)(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «في خاتم الحسن والحسين (عليهما السلام) : حَسْبِيَ اللّهُ»(2).
وفي رواية قال (عليه السلام) : «كان في خاتم الحسن والحسين (عليهما السلام) : الحَمْدُ لله»(3).
وربما تحمل هذه الروايات على عدة خواتيم في زمن واحد أو عدة أزمان.
ص: 102
10
كان الإمام الحسن (عليه السلام) أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، فإنه أشبه الناس بجدّه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن (عليه السلام) : «أشبهت خَلقي وخُلُقي»(2).
وقال المدائني(3):
(كان الحسن (عليه السلام) سيداً سخياً حليماً وكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يحبه)(4).
حيّت جارية الحسن بن علي (عليه السلام) بطاقة ريحان، فقال لها: «أنت حرة لوجه
ص: 103
اللّه» فقيل له في ذلك(1)، فقال (عليه السلام) : «أدّبنا اللّه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(2) وكان أحسن منها إعتاقها»(3).
روي أن مروان بن الحكم(4) شتم الحسن بن علي (عليه السلام) فلما فرغ قال الحسن (عليه السلام) : «إني واللّه لا أمحو عنك شيئاً ولكن موعدك اللّه، فلئن كنت صادقاً فجزاك اللّه بصدقك، ولئن كنت كاذباً فجزاك اللّه بكذبك، واللّه أشد نقمة مني»(5).
روي أن غلاماً للإمام الحسن (عليه السلام) جنى جناية توجب العقاب.
فأمر به أن يضرب، فقال: {وَالْكَاظِمِيْنَ الْغَيْظَ} قال: خلّوا عنه.
قال: يا مولاي: {والْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال: قد عفوت عنك.
ص: 104
قال: يا مولاي {واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: «أنت حر لوجه اللّه تعالى ولك ضعف ما كنت أعطيك»(1).
سبق أن الإمامين الحسن والحسين (عليها السلام) مرّا على شيخ يتوضأ وهو لا يحسن الوضوء، فعلّماه الوضوء بأسلوب أخلاقي جميل بحيث لا يتأثر الشيخ ولايخجل من جهله(2).
روي أن الإمام الحسن (عليه السلام) مرّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلم يا ابن بنت رسول اللّه إلى الغداء، قال: فنزل (عليه السلام) وقال:
«إن اللّه لا يحب المتكبرين» وجعل (عليه السلام) يأكل معهم، حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته، ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم(3).
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى(4) قال: دخل الحسن بن علي (عليه السلام) الفرات في بردة كانت عليه، قال: فقلت له: لو نزعت ثوبك.
ص: 105
فقال لي: «يا أبا عبد الرحمن(1) إن للماء سكانا»(2).
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) للحسن (عليه السلام) : «يا بني قم فاخطب حتى أسمع كلامك»، قال: «يا أبتاه كيف أخطب وأنا أنظر إلى وجهك أستحيي منك»(3).
روي أن شامياً رآى الإمام الحسن (عليه السلام) راكباً فجعل يلعنه! والحسن (عليه السلام) لايرد، فلما فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) فسلّم عليه وضحك فقال: «أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شُبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً».
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة اللّه في أرضه {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إليّ، والآن أنت أحب خلق اللّه إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم»(1).
وقال مروان بن الحكم في حق الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن حلمه يوازن الجبال»(2).
روي أنه دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) محمد بن الحنفية يوم الجمل فأعطاه رمحه وقال له: أقصد بهذا الرمح قصد الجمل، فذهب فمنعوه بنو ضبة، فلما رجع إلى والده انتزع الحسن (عليه السلام) رمحه من يده وقصد قصد الجمل وطعنه برمحه ورجع إلى والده وعلى رمحه أثر الدم، فتمغر وجه محمد من ذلك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لا تأنف فإنه ابن النبي وأنت ابن علي»(1)(2).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «وكان الحسن بن علي (عليه السلام) ... أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقاً، ولقد قيل(3)
لمعاوية ذات يوم: لو أمرت الحسن بن علي ابن أبي طالب فصعد المنبر فخطب ليتبين للناس نقصه! فدعاه فقال له: اصعد المنبر وتكلم بكلمات تعظنا بها.
فقام (عليه السلام) فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، وابن سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أنا ابن خير خلق اللّه، أنا ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أنا ابن صاحب الفضائل، أنا ابن صاحب المعجزات والدلائل، أنا ابن أمير المؤمنين، أنا المدفوع عن حقي، أنا وأخي الحسين سيدا شباب أهل الجنة، أنا ابن الركن والمقام، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن المشعر وعرفات».
فقال له معاوية: يا با محمد خذ في نعت الرطب ودع هذا.
ص: 108
فقال (عليه السلام) : «الريح تنفخه، والحر ينضجه، والبرد يطيبه».
ثم عاد (عليه السلام) في كلامه فقال: «أنا إمام خلق اللّه، وابن محمد رسول اللّه» فخشي معاوية أن يتكلم بعد ذلك بما يفتتن به الناس فقال: يا أبا محمد، انزل فقد كفى ما جرى، فنزل (عليه السلام) »(1).
ذكروا أن عبد اللّه بن عمر(2) نادى الحسن بن علي (عليه السلام) في أيام صفين وقال: إن لي نصيحة، فلما برز إليه قال: إن أباك بُغضُه لعنة(3)، وقد خاض في دم عثمان، فهل لك أن تخلعه نبايعك؟! فأسمعه الحسن (عليه السلام) ما كرهه، فقال معاوية: إنه ابن أبيه(4).
كان الإمام الحسن (عليه السلام) كريماً ينفق ما عنده في سبيل اللّه عزّ وجل، حتى قاسم
ص: 109
ربَّه أمواله ثلاث مرات حتى النعل والنعل.
وربما خرج من ماله كله ولم يبق عنده شيء، وربما استقرض لينفقه في مرضات اللّه.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث: «مات الحسن (عليه السلام) وعليه دَين»(1).
وفي حديث: «كان على الحسن (عليه السلام) دَين كثير»(2).
وروي أنه لما اُهدي للإمام الحسن (عليه السلام) أموالاً قضى ديونه وفرّق الفاضل في أهل بيته ومواليه(3).
وروى الفريقان(4):
أن الحسن بن علي (عليه السلام) قاسم اللّه ماله نصفين، أكثر من مرة.
ففي رواية: خرج الحسن بن علي (عليه السلام) من ماله لله تعالى مرتين(5).
وفي رواية(6): «إن الحسن بن علي (عليه السلام) قاسم اللّه تعالى ماله ثلاث مرات، حتى
ص: 110
أنه كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطي خفاً ويمسك خفاً»(1).
روي أنه سأل الحسن بن علي (عليه السلام) رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال: «ائتِ بحمال يحمله لك». فأتى بحمال فأعطاه طيلسانه(2)، وقال: «يكون كراء الحمال من قبلي»(3).
جاء بعض الأعراب إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ليسأله، فقال (عليه السلام) : «أعطوه ما في الخزانة».
فوجد فيها عشرون ألف درهم، فدفعها إلى الأعرابي, فقال الأعرابي: يا مولاي، ألا تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي. فأنشأ الحسن (عليه السلام) :
نحن أناس نوالنا خضل***يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا***خوفاً على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا***لغاض من بعد فيضه خل(4)
ص: 111
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حق ولده الحسن (عليه السلام) : إنه يكرم بحيث يستغني السائل فلا يبقى له حاجة حتى يأتيه من باب آخر، وذلك في قصة أن حاتم جعل عشرة أبواب لبيته ليدخل عليه السائل عدة مرات فيعطيه.
جاء أعرابي إلى الإمام الحسن (عليه السلام) برقعة لحاجة قد كتب عليها:
لم يبق عندي ما يباع بدرهم***يكفيك رؤية منظري عن مخبري
إلاّ بقايا ماء وجه صنته***أفلا أبيع وقد وجدتك مشتري
فأعطاه الإمام (عليه السلام) مالاً جزيلاً وأجابه:
عاجلتنا في الأمر فأتاك وابل برنا***ولو أمهلتنا لم نقصر
فخذ القليل وكن كأنك لم***تبع ما صنته وكأننا لم نشترِ(1)
خرج الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد اللّه بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فرأوا في بعض الشعوب خباءً رثاً وعجوزاً فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة، ففعلوا واستطعموها فقالت: ليس إلاّ هي فليقم أحدكم فليذبحها حتى أصنع لكم طعاما فذبحها أحدهم، ثم شوت لهم من لحمها فأكلوا وقيلوا عندها فلما نهضوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي(2) بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم رحلوا.
ص: 112
ثم مضت الأيام فأضرّت بها الحال فرحلت حتى اجتازت بالمدينة فبصر بها الحسن (عليه السلام) فأمر لها بألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولاً إلى الحسين (عليه السلام) فأعطاها مثل ذلك ثم بعثها إلى عبد اللّه بن جعفر فأعطاها مثل ذلك(1).
وفي رواية: أنها أتت عبد اللّه بن جعفر فقال ابدئي بسيدي الحسن والحسين (عليهما السلام) فأتت الحسن (عليه السلام) فأمر لها بمائة بعير، وأعطاها الحسين (عليه السلام) ألف شاة فعادت إلى عبد اللّه فسألها فأخبرته فقال: كفاني سيداي أمر الإبل والشاة وأمر لها بمائة ألف درهم(2).
في الرواية: إن الإمام الحسن (عليه السلام) وهب لرجل ديته(3).
سأل رجل من الإمام الحسنَ (عليه السلام) شيئاً، فأمر له بأربعمائة درهم، فكتب له بأربعمائة دينار، فقيل له في ذلك، فأخذه وقال: «هذا سخاؤه» وكتب عليه بأربعة آلاف درهم(4).
سمع الإمام الحسن (عليه السلام) رجلاً إلى جنبه في المسجد الحرام يسأل اللّه أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف إلى بيته وبعث إليه بعشرة آلاف درهم.
ص: 113
دخل على الإمام الحسن (عليه السلام) جماعة وهو يأكل، فسلّموا وقعدوا فقال (عليه السلام) : «هلّموا فإنما وضع الطعام ليؤكل(1)»(2).
دخل الغاضري(3) على الإمام الحسن (عليه السلام) فقال: إني عصيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: بئس ما عملت، كيف؟ قال: قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لا يفلح قوم ملكت عليهم امرأة» وقد ملكت عليّ امرأتي، وأمرتني أن أشتري عبداً فاشتريته فأبق مني، فقال (عليه السلام) : «اختر أحد ثلاثة إن شئت، فثمن عبد» فقال: هاهنا ولاتتجاوز وقد اخترت، فأعطاه (عليه السلام) ذلك(4).
بحمل عظيم ووضع قبله، ثم إن الحسن (عليه السلام) لما أراد الخروج خصف خادم نعله، فأعطاه البارنامج(1).
روي أنه خرج الإمام الحسن (عليه السلام) ليركب بغلته وكان مروان بن الحكم مشغوفا بها، فأرسل ابن أبي عتيق(2) عنده، فقال له الحسن (عليه السلام) وتبسم: «ألك حاجة» قال: نعم ركوب البغلة، فنزل الحسن (عليه السلام) ودفعها إليه(3).
عن نجيح(4) قال: رأيت الحسن بن علي (عليه السلام) يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا ابن رسول اللّه ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال: «دعه إني لأستحيي من اللّه تعالى أن يكون ذو روح ينظر في
ص: 115
وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه»(1).
كان الإمام الحسن (عليه السلام) ينفق الكثير حتى لا يبقى عنده شيء.
روي أن رجلاً جاء إليه (عليه السلام) فسأله حاجة، فقال له: «يا هذا حق سؤالك يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب لك يكبر لدي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات اللّه عزّ وجل قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور، ورفعت عني مئونة الاحتفال والاهتمام بما أتكلفه من واجبك فعلت» فقال: يا ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أقبل القليل وأشكر العطية، وأعذر على المنع، فدعا الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، فقال: «هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم»، فأحضر خمسين ألفاً، قال: «فما فعل الخمسمائة دينار»، قال: هي عندي، قال: «أحضرها» فأحضرها، فدفع (عليه السلام) الدراهم والدنانير إلى الرجل وقال: «هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع الحسن (عليه السلام) إليه رداءه لكراء الحمالين، فقال مواليه: واللّه ما بقي عندنا درهم! فقال (عليه السلام) : «لكني أرجو أن يكون لي عند اللّه أجر عظيم»(2).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن ناساً بالمدينة قالوا: ليس للحسن (عليه السلام) مال، فبعث الحسن (عليه السلام) إلى رجل بالمدينة فاستقرض منه ألف درهم، فأرسل بها إلى
ص: 116
روي أن الحسن (عليه السلام) أعطى شاعراً، فقال له رجل من جلسائه: سبحان اللّه أتعطي شاعراً يعصي الرحمن ويقول البهتان؟ فقال (عليه السلام) : «يا عبد اللّه إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر»(3).
روي أن الحسن بن علي (عليه السلام) كان له دَين على إنسان، فطالب غريمه فقال: أحسن إليّ يا ابن رسول اللّه، فقال (عليه السلام) : «وهبت لك النصف»، فقيل له: النصف كثير، فقال (عليه السلام) : «وأين ذهب قوله تعالى: {وَاحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة البقرة: 195) سمعت جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: من تمام الإحسان أن يحط الشطر»(4).
ص: 117
11
كان من أخلاق الإمام الحسن (عليه السلام) إكرام المرأة واحترامها، كما كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يكرم المرأة ويحترمها، روي عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما أكرم النساء إلاّ كريم وما أهانهن إلاّ لئيم»(1).
روي أن الحسن بن علي (عليه السلام) تزوج جعدة بنت الأشعث بن قيس على سنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأرسل إليها ألف دينار(2).
وقيل: كان تحت الحسن بن علي (عليه السلام) امرأتان تميمية وجُعفية، فطلقهما جميعاً ومتعهما العشرة الآلاف وكل واحدة منهما بكذا وكذا من العسل والسمن(3).
وربما هذا الإنفاق - مضافا إلى أنه نوع إكرام لها - كان لأجل أن تصرفها في وجوه البر، في فقراء عشيرتها وفي سبيل نشر الدين وما أشبه.
ص: 118
12
كان الإمام الحسن (عليه السلام) كجده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) من رواد مبدأ السلم واللاعنف.
ومن مصاديق ذلك عفوه عن المسيئين والشاتمين وعدم مقابلتهم بالمثل، بل إكرامهم والإحسان إليهم(1).
وكذلك قبوله بالصلح لحفظ دماء المسلمين على ما سيأتي تفصيله بإذن اللّه تعالى.
وحتى في آخر اللحظات من حياته، قد وصى الإمام الحسن (عليه السلام) بعدم إراقة حتى محجمة دم في تشييع جنازته وإن بادر الأعداء برشق الجنازة بالسهام ومنعوه من الدفن بجوار جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
كان الإمام الحسن (عليه السلام) كأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وكجده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يبدأ بقتال أحد، بل كانت حربه دفاعية، فإنه لم يتحرك نحو معاوية إلاّ بعد ما هاجم معاوية أهل العراق ووصل قرية الحبونية(2)، فأرسل الإمام الحسن (عليه السلام) جيشاً
ص: 119
للدفاع.
روي أنه (استنفر معاوية الناس فلما بلغ جسر منبج بعث الحسن (عليه السلام) حجر بن عدي واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا، ثم خف معه أخلاط من شيعته ومحكمة وشكاك وأصحاب عصبية وفتن)(1).
وهكذا أمر الإمام الحسن (عليه السلام) قائد جيشه وهو عبيد اللّه بن العباس أن لايبدأ بالقتال وقال: «وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله»(2).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «ألقيت طائفة من كبدي وإني قد سقيت السم مراراً، فلم أسق مثل هذه المرة».
يقول الراوي: ثم دخلت عليه من الغد وهو يجود بنفسه والحسين (عليه السلام) عند رأسه فقال: «يا أخي من تتهم»؟
قال: «لم َ تسأل، لتقتله»؟.
قال: «نعم».
قال: «إن يكن الذي أظن فإنه أشد بأساً وأشد تنكيلاً وإلاّ يكن فما أحب أن يقتل بي بري ء ثم قضى (عليه السلام) (3).
أقول: الإمام (عليه السلام) كان يعلم بقاتله، ولكن هذا تأكيد على عدم إراقة الدماء.
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده علي بن الحسين (عليه السلام) قال:
ص: 120
«دخل الحسين على عمي الحسن حدثان ما سقي السم فقام لحاجة الإنسان ثم رجع فقال: سقيت السم عدة مرات وما سقيت مثل هذه، لقد لفظت طائفة من كبدي ورأيتني أقلّبه بعود في يدي»، فقال له الحسين (عليه السلام) : «يا أخي ومن سقاك؟» قال: «وما تريد بذلك؟ فإن كان الذي أظنه فاللّه حسيبه، وإن كان غيره فما أحب أن يؤخذ بي بريء» فلم يلبث بعد ذلك إلاّ ثلاثاً حتى توفي صلوات اللّه عليه»(1).
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : «أن الحسن (عليه السلام) قال لأهل بيته: إني أموت بالسم كما مات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
قالوا: ومن يفعل ذلك؟
قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإن معاوية يدسّ إليها ويأمرها بذلك.
قالوا: أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك.
قال (عليه السلام) : كيف أخرجها؟ ولم تفعل بعدُ شيئاً»(2).
ص: 121
13
كان الإمام الحسن (عليه السلام) مع عصمته وعلمه اللدني يستشير أصحابه، كما كان كذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ومن ذلك: ما كان في أمر الصلح حيث جمع أصحابه واستشارهم بين الحرب والصلح فاختاروا الصلح بأكثرية الآراء بل بالإجماع.
روي أنه خطب الحسن بن علي (عليه السلام) بعد وفاة أبيه، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أما واللّه ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، فكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم أصبحتم تعدون قتيلين: قتيلاً بصفين تبكون عليه، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأره، فأما الباكي فخاذل وأما الطالب فثائر، وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفه، فإن أردتم الحياة قبلناه منه وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات اللّه وحاكمناه إلى اللّه» فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة(1).
وكان الإمام الحسن (عليه السلام) يؤكد على التشاور، قال (عليه السلام) : «ما تشاور قوم إلاّ
ص: 122
هدوا لأرشد أمرهم»(1).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) لقائد جيشه عبيد اللّه بن العباس: «ثم امض حتى تستقبل معاوية فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيكاً وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين يعني: قيس بن سعد وسعيد بن قيس»(2).
ص: 123
14
الحريات الموجودة في الإسلام لا مثيل لها في سائر القوانين، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الحريات الغربية على إشكالاتها، لا تصل بمقدار عُشر الحريات الإسلامية(1).
وكان الإمام الحسن (عليه السلام) أسوة في تطبيق الحريات الإسلامية، والمطالبة بها، والدفاع عنها..
وكان هناك كثير من الخوارج وأعداء الإمام (عليه السلام) يتآمرون ضد الإمام، ولكنه (عليه السلام) تركهم وشأنهم، حتى الذين طعنوه بالرمح لم ينتقم منهم.
وهذا ما يسمى اليوم بحرية المعارضة، فكان المعارضون يأتون ويقفون بوجه الإمام (عليه السلام) ويبدون آراءهم بكل حرية، بل كانوا يتجاسرون أحياناً على الإمام (عليه السلام) وربما وصفوه بمذل المؤمنين وما أشبه، لكنه كان يتلقى ذلك برحابة صدر ولم يأمر بمجازاتهم بل كان يحاورهم بالمنطق ويسعى في إقناعهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولما طرح الإمام (عليه السلام) في خطبة له قضية معاوية وسأل أصحابه عن رأيهم،
ص: 124
فاختار الناس الهدنة وعدم الحرب، فقالوا: (بل البقية والحياة)(1) لم يفرض عليهم خلاف ذلك ولم يستفد من صلاحياته كقائد وإمام ورئيس دولة، بل احترم حرية الناس في اتخاذ الموقف والتعبير عن الرأي(2).
وبعد الانتهاء من الصلح والهدنة غيّر البعض رأيه وجاء يعاتب الإمام (عليه السلام) على قبوله بالهدنة، ويخاطب الإمامَ بأفكار معادية وبألفاظ بذيئة، ولكن الإمام (عليه السلام) عفى عنه ولم يمنعه من قوله وإبداء رأيه.
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«جاء رجل من أصحاب الحسن (عليه السلام) يقال له: سفيان بن ليلى وهو على راحلة له فدخل على الحسن وهو محتب في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين!
فقال له الحسن (عليه السلام) : انزل ولا تعجل.
فنزل فعقل راحلته في الدار، ثم أقبل يمشي حتى انتهى إليه، قال: فقال له الحسن (عليه السلام) : ما قلت؟
قال: قلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين!
قال: وما علمك بذلك؟
قال: عمدت إلى أمر الأمة فحللته من عنقك وقلّدته هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل اللّه.
قال: فقال له الحسن (عليه السلام) : سأخبرك لِمَ فعلت ذلك؟
ص: 125
قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لن تذهب الأيام والليالي حتى يلي على أمتي رجل واسع البلعوم رحب الصدر يأكل ولا يشبع وهو معاوية فلذلك فعلت»(1) الخبر.
وروي أنه لما صالح الحسن بن علي (عليه السلام) عُذل(2) وقيل له: يا مذل المؤمنين ومسود الوجوه!، فقال (عليه السلام) : «لا تعذلوني فإن فيها مصلحة»(3).
واكتفى بذلك ولم يتصد لمناوئيه.
وعن عدي بن ثابت(4) عن سفيان(5) قال: أتيت الحسن بن علي (عليه السلام) حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط، فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين!
قال: «عليك السلام يا سفيان انزل».
فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال (عليه السلام) : «كيف قلت يا سفيان؟»
فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين.
فقال: «ما جرّ هذا منك إلينا؟».
فقلت: أنت واللّه بأبي أنت وأمي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلمت الأمر إلى اللعين بن اللعين ابن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك، وقد جمع اللّه لك أمر الناس.
ص: 126
فقال (عليه السلام) : «يا سفيان، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، وإني سمعت عليا (عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول:
لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم(1)
ضخم البلعوم(2)
يأكل ولا يشبع لا ينظر اللّه إليه ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر وإنه لمعاوية، وإني عرفت أن اللّه بالغ أمره.
ثم أذّن المؤذن فقمنا إلى حالب يحلب ناقة فتناول الإناء فشرب قائماً ثم سقاني فخرجنا نمشي إلى المسجد، فقال لي: «ما جاءنا بك يا سفيان؟»
قلت: حبكم والذي بعث محمداً بالهدى ودين الحق.
قال: «فأبشر يا سفيان فإني سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: يرد عليّ الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين، يعني السبابتين. ولو شئت لقلت هاتين يعني السبابة والوسطى، إحداهما تفضل على الأخرى، أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث اللّه إمام الحق من آل محمد (عليهم السلام) »(3).
ص: 127
15
مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مدرسة متكاملة شاملة لجميع أبعاد الحياة، وهي التي تراعي جميع الحقوق، من حق الإنسان، وحق الحيوان، وحق الجماد وغيرها بأفضل ما يمكن.
روي أن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) كان يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقال الراوي: يا ابن رسول اللّه ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟
قال (عليه السلام) : «دعه، إني لأستحيي من اللّه تعالى أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل، ثم لا أطعمه»(1).
ص: 128
16
إن اللّه عزّ وجل منح أنبياءه وأولياءه المعصومين (عليهم السلام) القدرة على المعاجز، ليتمكن الناس من معرفتهم، وعدم الخداع بمن يدعي النبوة والإمامة كذباً. وكان الإمام الحسن (عليه السلام) قادراً على المعاجز بإذن اللّه تعالى.
وكذلك بالنسبة إلى الكرامات فقد أكرمهم اللّه بها لمكانتهم عنده.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يلعبان عند النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى مضى عامة الليل، ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) لهما: انصرفا إلى أمكما، فبرقت برقة فما زالت تضيء لهما حتى دخلا على فاطمة (عليها السلام) والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ينظر إلى البرقة فقال: الحمد لله الذي أكرمنا أهل البيت»(1).
عن سلمان قال: أتيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسلّمت عليه، ثم دخلت على فاطمة (عليها السلام)
ص: 129
فسلمت عليها فقالت: «يا أبا عبد اللّه إن الحسن والحسين (عليهما السلام) جائعان يبكيان، خذ بأيديهما فاخرج بهما إلى جدهما» فأخذت بأيديهما فحملتهما حتى أتيت بهما إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ما لكما يا حبيباي» قالا: «نشتهي طعاماً يارسول اللّه» فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اللّهم أطعمهما» ثلاثاً، قال: فنظرت فإذا سفرجلة في يد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) شبيهة بقلة من قلال هَجَر أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ففركها (صلی الله عليه وآله وسلم) بإبهامه فصيرها نصفين ثم دفع إلى الحسن نصفها وإلى الحسين نصفها، فجعلت أنظر إلى النصفين في أيديهما وأنا أشتهيها، فقال لي: «يا سلمان هذا طعام من الجنة لا يأكله أحد حتى ينجو من النار والحساب، وإنك لعلى خير»(1).
عن جماعة من الصحابة قالوا: دخل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) دار فاطمة (عليها السلام) فقال: «يا فاطمة إن أباك اليوم ضيفك»، فقالت (عليه السلام) : «يا أبة إن الحسن والحسين يطالباني بشي ء من الزاد فلم أجد لهما شيئاً يقتاتان به»، ثم إن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) دخل وجلس مع علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) وفاطمة متحيرة ما تدري كيف تصنع، ثم إن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إلى السماء ساعة وإذا بجبرئيل (عليه السلام) قد نزل وقال: «يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك: قل لعلي وفاطمة والحسن والحسين أي شي ء يشتهون من فواكه الجنة»؟ فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا علي ويا فاطمة ويا حسن ويا حسين إن رب العزة علم أنكم جياع فأي شي ء تشتهون من فواكه الجنة؟» فأمسكوا عن الكلام ولم يردوا جواباً حياءً من
ص: 130
النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال الحسين (عليه السلام) : «عن إذنك يا أباه يا أمير المؤمنين وعن إذنك يا أماه يا سيدة نساء العالمين وعن إذنك يا أخاه الحسن الزكي أختار لكم شيئاً من فواكه الجنة» فقالوا جميعاً: «قل يا حسين ما شئت فقد رضينا بما تختاره لنا» فقال: «يا رسول اللّه قل لجبرئيل: إنا نشتهي رطباً جنياً» فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «قد علم اللّه ذلك» ثم قال: «يا فاطمة قومي وادخلي البيت وأحضري إلينا ما فيه فدخلت فرأت فيه طبقاً من البلور مغطى بمنديل من السندس الأخضر وفيه رطب جني في غير أوانه» فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا فاطمة {أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}(1) كما قالت مريم بنت عمران، فقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وتناوله وقدّمه بين أيديهم ثم قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» ثم أخذ رطبة فوضعها في فم الحسين (عليه السلام) فقال: «هنيئاً مريئاً يا حسين»، ثم أخذ رطبة فوضعها في فم الحسن (عليه السلام) وقال: «هنيئاً مريئاً يا حسن»، ثم أخذ رطبة ثالثة فوضعها في فم فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقال لها: «هنيئاً مريئاً لك يا فاطمة الزهراء»، ثم أخذ رطبة رابعة فوضعها في فم علي (عليه السلام) وقال: «هنيئاً مريئاً لك يا علي»، ثم ناول علياً رطبة أخرى والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول له: «هنيئاً لك يا علي».
ثم وثب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قائماً ثم جلس ثم أكلوا جميعاً عن ذلك الرطب فلما اكتفوا وشبعوا ارتفعت المائدة إلى السماء بإذن اللّه تعالى، فقالت فاطمة (عليها السلام) : «يا أبة لقد رأيت اليوم منك عجباً».
فقال: «يا فاطمة أما الرطبة الأولى التي وضعتها في فم الحسين وقلت له: هنيئاً يا حسين فإني سمعت ميكائيل وإسرافيل يقولان: هنيئاً لك يا حسين فقلت
ص: 131
أيضاً موافقا لهما بالقول، هنيئاً لك يا حسين، ثم أخذت الثانية فوضعتها في فم الحسن فسمعت جبرئيل وميكائيل يقولان هنيئا لك يا حسن فقلت أنا موافقاً لهما في القول، ثم أخذت الثالثة فوضعتها في فمك يا فاطمة فسمعت الحور العين مسرورين مشرفين علينا من الجنان وهن يقلن هنيئا لك يا فاطمة فقلت موافقا لهن بالقول، ولما أخذت الرابعة فوضعتها في فم علي سمعت النداء من الحق سبحانه وتعالى يقول: هنيئا مريئا لك يا علي، فقلت موافقا لقول اللّه عزّ وجل، ثم ناولت عليا رطبة أخرى ثم أخرى وأنا أسمع صوت الحق سبحانه وتعالى يقول هنيئاً مريئاً لك يا علي، ثم قمت إجلالاً لرب العزة جل جلاله فسمعته يقول: يا محمد وعزتي وجلالي لو ناولت علياً من هذه الساعة إلى يوم القيامة رطبة رطبة لقلت له هنيئاً مريئاً بغير انقطاع»(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «خرج الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في بعض عمره ومعه رجل من ولد الزبير كان يقول بإمامته، قال: فنزلوا في منهل من تلك المناهل، قال: نزلوا تحت نخل يابس قد يبس من العطش، قال: ففُرش للحسن (عليه السلام) تحت نخلة وللزبيري بحذائه تحت نخلة أخرى، قال: فقال الزبيري ورفع رأسه: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه.
قال: فقال له الحسن (عليه السلام) : وإنك لتشتهي الرطب؟ قال: نعم.
فرفع الحسن (عليه السلام) يده إلى السماء فدعا بكلام لم يفهمه الزبيري فاخضرت النخلة ثم صارت إلى حالها فأورقت وحملت رطباً.
ص: 132
قال: فقال له الجمال الذي اكتروا منه: سحرٌ واللّه!.
قال: فقال له الحسن (عليه السلام) : ويلك! ليس بسحر ولكن دعوة ابن النبي مجابة.
قال: فصعدوا إلى النخلة حتى يصرموا مما كان فيها فاكفاهم»(1).
استغاث الناس من زياد إلى الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) .. فرفع (عليه السلام) يده وقال: «اللّهم خذ لنا ولشيعتنا من زياد ابن أبيه وأرنا فيه نكالاً عاجلاً إنك على كل شيء قدير» قال: فخرج خراج في إبهام يمينه، يقال لها: السلعة، وورم إلى عنقه فمات(2).
ادعى رجل على الحسن بن علي (عليه السلام) ألف دينار كذباً ولم يكن له عليه، فذهبا إلى شريح فقال للحسن (عليه السلام) : أتحلف؟ قال: «إن حلف خصمي أعطيه»، فقال شريح للرجل: قل: (باللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة)، فقال الحسن (عليه السلام) : «لا أريد مثل هذا لكن قل: (باللّه إن لك عليّ هذا) وخذ الألف»، فقال الرجل ذلك وأخذ الدنانير، فلما قام خرّ إلى الأرض ومات.
فسُئل الحسن (عليه السلام) عن ذلك فقال: «خشيت أنه لو تكلم بالتوحيد يغفر له يمينه
ص: 133
ببركة التوحيد، ويحجب عنه عقوبة يمينه»(1).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) : قال بعضهم للحسن بن علي (عليه السلام) في احتماله الشدائد عن معاوية فقال (عليه السلام) كلاما معناه: لو دعوت اللّه تعالى لجعل العراق شاماً والشام عراقاً، وجعل المرأة رجلاً والرجل امرأة، فقال الشامي: ومن يقدر على ذلك؟
فقال (عليه السلام) : انهضي ألا تستحين أن تقعدي بين الرجال، فوجد الرجل نفسه امرأة، ثم قال: وصارت عيالك رجلاً وتقاربك وتحمل عنها وتلد ولداً خنثى، فكان كما قال (عليه السلام) ثم إنهما تابا وجاءا إليه فدعا اللّه تعالى فعادا إلى الحالة الأولى(2).
عن سلمان (رحمه الله) قال: كنا حول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فجاءت أم أيمن فقالت: يا رسول اللّه؟ لقد ضل الحسن والحسين قال: وذلك رأد النهار، يقول: ارتفاع النهار، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «قوموا فاطلبوا ابنيّ» قال: وأخذ كل رجل تجاه وجهه وأخذت نحو النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يزل حتى أتى سفح الجبل وإذا الحسن والحسين (عليهما السلام) ملتزق كل واحد منهما بصاحبه وإذا شجاع قائم على ذنبه يخرج من فيه شبه النار، فأسرع إليه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فالتفت مخاطباً لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم أنساب فدخل بعض الأجحرة ثم أتاهما فأفرق بينهما ثم مسح وجوههما وقال: «بأبي وأمي أنتما ما أكرمكما على اللّه» ثم حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر
ص: 134
على عاتقه الأيسر.
فقلت: طوباكما نعم المطية مطيتكما، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ونعم الراكبان هما وأبوهما خير منهما»(1).
وروي أنه: «خرج الحسنان(2) (عليهما السلام) في ليلة ظلماء مدلهمة ذات رعد وبرق، وقد أرخت السماء عزالها فسطع لهما نور فلم يزالا يمشيان في ذلك النور، والحسن (عليه السلام) قابض بيده اليمنى على يد الحسين (عليه السلام) اليسرى وهما يتماشيان ويتحدثان حتى أتيا حديقة بني النجار، فلما بلغا الحديقة حارا فبقيا لا يعلمان أين يأخذان؟ فقال الحسن للحسين (عليهما السلام) : إنا قد حرنا وبقينا على حالتنا هذه وما ندري أين نسلك؟ فلا علينا أن ننام في وقتنا هذا حتى نصبح، فقال له الحسين (عليه السلام) دونك أخي فافعل ما ترى فاضطجعا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه
ص: 135
وناما، وانتبه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن نومته التي نامها وطلبهما في منزل فاطمة (عليها السلام) فلم يكونا فيه فافتقدهما، فقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قائماً على رجليه وهو يقول: يا إلهي وسيدي ومولاي هذان شبلاي خرجا من المخمصة والمجاعة اللّهم أنت وكيلي عليهما.
فسطع للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) نور فلم يزل يمضي في ذلك النور حتى أتى حديقة بني النجار، فإذا هما نائمان وقد اعتنق كل واحد منهما صاحبه وقد تقشطت السماء فوقهما كطبق فهي تمطر كأشد مطر لم يراه الناس قط وقد منع اللّه عزّ وجل المطر منهما في البقعة التي هما فيها نائمان لا تمطر عليهما قطرة، وقد اكتنفتهما حية لها شعرات كآجام القصب وجناحان جناح غطت به الحسن وجناح قد غطت به الحسين، فلما أن بصرهما النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تنحنح فانسابت الحية وهي تقول: اللّهم إني أشهدك، وأشهد ملائكتك أن هذين شبلا نبيك قد حفظتهما عليه ودفعتهما إليه سالمين صحيحين، فقال لها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : أيتها الحية من أنت؟ قالت: أنا رسول الجن إليك، قال: وأي الجن، قالت: جن نصيبين نفر من بني فليح نسينا آية من كتاب اللّه عزّ وجل فبعثوني إليك لتعلمنا ما نسينا من كتاب اللّه عزّ وجل فلما بلغت هذا الموضع سمعت منادياً ينادي: أيتها الحية هذان شبلا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاحفظيهما من العاهات والآفات ومن طوارق الليل والنهار، فقد حفظتهما وسلمتهما إليك سالمين صحيحين وأخذت الحية الآية وانصرفت.
فأخذ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الحسن (عليه السلام) فوضعه على عاتقه الأيمن ووضع الحسين (عليه السلام) على عاتقه الأيسر» الخبر(1).
ص: 136
روي أن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يكتبان فقال الحسن للحسين (عليهما السلام) : خطي أحسن من خطك، وقال الحسين (عليه السلام) : لا بل خطي أحسن من خطك، فقالا لفاطمة (عليها السلام) : احكمي بيننا.
فكرهت فاطمة (عليها السلام) أن تؤذي أحدهما، فقالت لهما: سلا أباكما، فسألاه فكره أن يؤذي أحدهما، فقال: سلا جدكما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : لا أحكم بينكما حتى أسأل جبرئيل.
فلما جاء جبرئيل قال: لا أحكم بينهما ولكن إسرافيل يحكم بينهما.
فقال إسرافيل: لا أحكم بينهما ولكن أسأل اللّه أن يحكم بينهما.
فسأل اللّه تعالى ذلك فقال تعالى: لا أحكم بينهما ولكن أمهما
فاطمة (عليها السلام) تحكم بينهما.
فقالت فاطمة: أحَكُمُ بينهما يا رب، وكانت لها قلادة فقالت لهما: أنا أنثر بينكما جواهر هذه القلادة فمن أخذ منهما أكثر فخطه أحسن، فنثرتها وكان جبرئيل وقتئذ عند قائمة العرش فأمره اللّه تعالى أن يهبط إلى الأرض وينصف الجواهر بينهما كيلا يتأذى أحدهما ففعل ذلك جبرئيل إكراماً لهما وتعظيماً(1).
روي أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان جائعاً لا يقدر على ما يأكل فقال لعائشة: هاتي ردائي، فقلت: أين تريد؟ قال: إلى فاطمة ابنتي فانظر إلى الحسن والحسين فيذهب بعض ما بي من الجوع، فخرج حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا
ص: 137
فاطمة أين ابناي؟ فقالت: يا رسول اللّه خرجا من الجوع وهما يبكيان، فخرج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في طلبهما فرأى أبا الدرداء(1)
فقال: يا عويمر هل رأيت ابني؟ قال: نعم يا رسول اللّه هما نائمان في ظل حائط بني جدعان، فانطلق النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فضمهما وهما يبكيان وهو يمسح الدموع عنهما، فقال له أبو الدرداء دعني أحملهما؟ فقال: يا أبا الدرداء دعني أمسح الدموع عنهما فو الذي بعثني بالحق نبياً لو قطر قطرة في الأرض لبقيت المجاعة في أمتي إلى يوم القيامة، ثم حملهما وهما يبكيان وهو يبكي، فجاء جبرئيل (عليه السلام) فقال: السلام عليك يا محمد رب العزة جلّ جلاله يقرئك السلام ويقول: ما هذا الجزع؟ فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا جبرئيل ما أبكي جزعاً بل أبكي من ذل الدنيا، فقال جبرئيل: إن اللّه تعالى يقول: أيسرك أن أحول لك اُحُداً ذهباً ولا ينقص لك مما عندي شيء؟ قال: لا، قال: لم؟ قال: لأن اللّه تعالى لم يحب الدنيا ولو أحبها لما جعل للكافر أكملها(2)، فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمد ادع بالجفنة المنكوسة التي في ناحية البيت، قال: فدعا بها فلما حملت فإذا فيها ثريد ولحم كثير، فقال: كل يا محمد وأطعم ابنيك وأهل بيتك، قال: فأكلوا فشبعوا»(3).
روي عن سلمان الفارسي (رحمه الله) قال: أهدي إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قطف من العنب في غير أوانه فقال لي: «يا سلمان آتيني بولدي الحسن والحسين (عليهما السلام) ليأكلا معي من
ص: 138
هذا العنب» قال سلمان الفارسي: فذهبت أطرق عليهما منزل أمهما فلم أرهما، فأتيت منزل أختهما(1) أم كلثوم فلم أرهما، فجئت فخبرت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فاضطرب ووثب قائماً وهو يقول: وا ولداه وا قرة عيناه من يرشدني عليهما فله على اللّه الجنة، فنزل جبرئيل من السماء وقال: يا محمد علام هذا الانزعاج؟ فقال: على ولديّ الحسن والحسين فإني خائف عليهما من كيد اليهود، فقال جبرئيل: يا محمد بل خف عليهما من كيد المنافقين فإن كيدهم أشد من كيد اليهود، واعلم يا محمد إن ابنيك الحسن والحسين (عليهما السلام) نائمان في حديقة أبي الدحداح، فسار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من وقته وساعته إلى الحديقة وأنا معه حتى دخلنا الحديقة وإذا هما نائمان وقد اعتنق أحدهما الآخر وثعبان في فيه طاقة ريحان يروّح بها وجهيهما، فلما رأى الثعبان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ألقى ما كان في فيه وقال: السلام عليك يا رسول اللّه لست أنا ثعباناً ولكني ملك من ملائكة اللّه الكروبيين غفلت عن ذكر ربي طرفة عين فغضب عليّ ربي ومسخني ثعباناً كما ترى وطردني من السماء إلى الأرض وإني منذ سنين كثيرة أقصد كريماً على اللّه فأسأله أن يشفع لي عند ربي عسى أن يرحمني ويعيدني ملكا كما كنت أولاً إنه على كل شيء قدير، قال: فجثا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقبلهما حتى استيقظا، فجلسا على ركبتي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال لهما النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : انظرا يا ولدي هذا ملك من ملائكة اللّه الكروبيين قد غفل عن ذكر ربه طرفة عين فجعله اللّه هكذا وأنا مستشفع إلى اللّه تعالى بكما فاشفعا له، فوثب الحسن والحسين (عليهما السلام) فأسبغا الوضوء وصليا ركعتين وقالا: اللّهم بحق جدنا الجليل الحبيب محمد المصطفى وبأبينا علي المرتضى وبأمنا
ص: 139
فاطمة الزهراء إلاّ ما رددته إلى حالته الأولى، قال: فما استتم دعاءهما وإذا بجبرئيل قد نزل من السماء في رهط من الملائكة وبشر ذلك الملك برضى اللّه عنه وبرده إلى سيرته الأولى، ثم ارتفعوا به إلى السماء وهم يسبحون اللّه تعالى، ثم رجع جبرئيل إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو مبتسم وقال: يا رسول اللّه إن ذلك الملك يفتخر على ملائكة السبع السماوات ويقول لهم: من مثلي وأنا في شفاعة السيدين السبطين» الحسن والحسين(1).
في المناقب لابن شهرآشوب: إن ملكاً نزل من السماء على صفة الطير فقعد على يد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسلّم عليه بالنبوة، وعلى يد علي (عليه السلام) فسلّم عليه بالوصية، وعلى يد الحسن والحسين (عليهما السلام) فسلّم عليهما بالخلافة، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : لِم لم تقعد على يد فلان؟ فقال: أنا لا أقعد في أرض عُصي عليها اللّه فكيف أقعد على يد عصت اللّه»(2).
قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «عري الحسن والحسين (صلوات اللّه عليهما) وأدركهما العيد، فقالا لأمهما: قد زينوا صبيان المدينة إلاّ نحن فما لك لا تزيننا؟ فقالت (عليها السلام) : إن ثيابكما عند الخياط فإذا أتاني زينتكما، فلما كانت ليلة العيد أعادا القول على أمهما، فبكت ورحمتهما فقالت لهما ما قالت في الأولى فردا عليها، فلما أخذ الظلام قرع الباب قارع فقالت فاطمة (عليها السلام) : «من هذا»؟
ص: 140
قال: يا بنت رسول اللّه أنا الخياط جئت بالثياب.
ففتحت الباب فإذا رجل ومعه من لباس العيد، قالت فاطمة (عليها السلام) : واللّه لم أر رجلاً أهيب سيمة منه، فناولها منديلا مشدودا ثم انصرف، فدخلت فاطمة (عليها السلام) ففتحت المنديل فإذا فيه قميصان ودراعتان وسراويلان ورداءان وعمامتان وخفان أسودان معقبان بحمرة، فأيقظتهما وألبستهما، فدخل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهما مزينان فحملهما وقبّلهما ثم قال: رأيت الخياط؟
قالت: نعم يا رسول اللّه والذي أنفذته من الثياب.
قال: يا بنية ما هو خياط إنما هو رضوان خازن الجنة.
قالت فاطمة (عليها السلام) : فمن أخبرك يا رسول اللّه؟
قال: ما عرج حتى جاءني وأخبرني بذلك»(1).
روي أن الحسن والحسين (عليهما السلام) دخلا على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبين يديه جبرئيل، فجعلا يدوران حوله يشبهانه بدحية الكلبي، فجعل جبرئيل يومئ بيديه كالمتناول شيئاً، فإذا في يده تفاحة وسفرجلة ورمانة فناولهما وتهلل وجهاهما وسعيا إلى جدهما، فأخذ منهما فشمها ثم قال: صيرا إلى أمكما بما معكما، وبدؤكما بأبيكما أعجب.
فصارا كما أمرهما فلم يأكلوا حتى صار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم فأكلوا جميعا، فلم يزل كلما أكل منه عاد إلى ما كان» الحديث(2).
ص: 141
عن جابر(1)
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاء الناس إلى الحسن بن علي (عليه السلام) فقالوا: أرنا من عجائب أبيك التي كان يريناها.
فقال: أو تؤمنون بذلك؟
قالوا: نعم نؤمن بذلك.
قال: ألستم تعرفون أبي؟
قالوا جميعاً: بلى نعرفه، فرفع لهم جانب الستر، فإذا أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعد، فقالوا جميعاً: هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) ونشهد أنك أنت ولي اللّه حقاً والإمام من بعده، ولقد أريتنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد موته كما أرى أبوك أبا بكر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) جدك في مسجد قبا(2) بعد موته(3)، فقال الحسن (عليه السلام) : ويحكم أما
ص: 142
سمعتم قول اللّه عزّ وجل {ولا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولكِنْ لا تَشْعُرُونَ}(1)، فإذا كان هذا فيمن قُتل في سبيل اللّه فما تقولون فينا، قالوا: أنتم أفضل يا ابن رسول اللّه»(2).
وكان من كرامات الإمام الحسن (عليه السلام) معرفته بجميع اللغات، بإذن اللّه تعالى.
وقد سبق أن الحسن بن علي (عليه السلام) قال: «إن لله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب عليهما سوران من حديد، وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب، وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه، وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري والحسين أخي»(3).
ومن كرامات الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاجزه علمه بالغيب على ما مر(4).
عن عبد اللّه بن عباس قال: مرت بالحسن بن علي (عليه السلام) بقرة فقال: «هذه
ص: 143
حبلى بعجلة أنثى، لها غرة في جبهتها، ورأس ذنبها أبيض»، فانطلقنا مع القصاب حتى ذبحها فوجدنا العجلة كما وصف على صورتها، فقلنا أوليس اللّه عزّ وجل يقول: {ويَعْلَمُ ما فِي الأَرْحامِ}(1) فكيف علمت هذا؟ فقال: إنا نعلم المخزون المكنون المخزون المكتوم، الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد (صلى اللّه عليه وآله) وذريته (عليهم السلام) »(2).
أقول: علمهم (عليهم السلام) بتعليم من اللّه تعالى ووحيه وإلهامه.
روي أن فاطمة (عليها السلام) ولدت الحسن والحسين (عليهما السلام) من فخذها الأيسر، كما روي أن مريم (عليها السلام) ولدت المسيح (عليه السلام) من فخذها الأيمن(3).
قدم راهب على قعود له فقال: دلّوني على منزل فاطمة (عليها السلام) فدلّوه عليها، فقال لها: يا بنت رسول اللّه أخرجي إليّ ابنيك.
فأخرجت إليه الحسن والحسين، فجعل يقبّلهما ويبكي ويقول: اسمهما في التوراة شبير وشبر، وفي الإنجيل طاب وطيب.
ثم سأله عن صفة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلما ذكروه قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (4).
ص: 144
روي أن رجلاً شاباً من بني أمية أغلظ للحسن (عليه السلام) كلامه، وتجاوز الحد في السب والشتم له ولأبيه.
فقال الحسن (عليه السلام) : «اللّهم غير ما به من النعمة، واجعله أنثى ليعتبر به» فنظر الأموي في نفسه وقد صار امرأة قد بدل اللّه له فرجه بفرج النساء وسقطت لحيته، فقال الحسن (عليه السلام) : «اغربي ما لك ومحفل الرجال فإنك امرأة»..
ثم شاع أمر الشاب الأموي وأتت زوجته إلى الحسن (عليه السلام) فجعلت تبكي وتتضرع، فرقّ (عليه السلام) له ودعا، فجعله اللّه كما كان(1).
روي أن رجلاً من الأعداء أهان قبر الإمام الحسن (عليه السلام) فجن فجعل ينبح كما تنبح الكلاب، ولما مات سمع من قبره يعوي ويصيح(2).
ص: 145
17
روي أن علياً (عليه السلام) قال لابنه الحسن (عليه السلام) : «أجمع الناس» فاجتمعوا فأقبل الإمام الحسن (عليه السلام) فخطب الناس، فحمد اللّه وأثنى عليه وتشهد ثم قال:
«أيها الناس إن اللّه اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خلقه، وأنزل علينا كتابه ووحيه، وأيم اللّه لا ينقصنا أحد من حقنا شيئاً إلاّ انتقصه اللّه من حقه في عاجل دنياه وآجل آخرته، ولا تكون علينا دولة إلاّ كانت لنا العاقبة {ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}(1) ثم نزل وجمع بالناس، وبلغ أباه فقبّل بين عينيه ثم قال: «بأبي وأمي {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2)(3).
روي أن عمرو بن العاص، قال لمعاوية: ابعث إلى الحسن بن علي (عليه السلام) فمُرّه أن يصعد المنبر ويخطب الناس، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما نعيره به في كل محفل، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر وقد جمع له الناس ورؤساء أهل الشام، فحمد اللّه
ص: 146
الحسن (صلوات اللّه عليه) وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم نبي اللّه أول المسلمين إسلاماً، وأمي فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وجدي محمد بن عبد اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس أجمعين».
فقطع عليه معاوية فقال: يا أبا محمد خلنا من هذا وحدثنا في نعت الرطب! أراد بذلك تخجيله.
فقال الحسن (عليه السلام) : «نعم التمر، الريح تنفخه، والحر ينضجه، والليل يبرده ويطيبه».
ثم أقبل الحسن (عليه السلام) : فرجع في كلامه الأول فقال: «أنا ابن مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض عن رأسه التراب، أنا ابن من يقرع باب الجنة فيفتح له فيدخلها، أنا ابن من قاتل معه الملائكة، وأحل له المغنم ونصر بالرعب من مسيرة شهر» فأكثر في هذا النوع من الكلام(1) ولم يزل به حتى أظلمت الدنيا على معاوية، وعرف الحسن (عليه السلام) من لم يكن عرفه من أهل الشام وغيرهم ثم نزل.
فقال له معاوية: أما إنك يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست
ص: 147
هناك، فقال الحسن (عليه السلام) : «أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وعمل بطاعة اللّه عزّ وجل، وليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنن واتخذ الدنيا أما وأبا، وعباد اللّه خولاً، وماله دولاً، ولكن ذلك أمر ملك أصاب ملكا فتمتع منه قليلا، وكان قد انقطع عنه فأتخم لذته وبقيت عليه تبعته، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(1)، {مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}(2) وأومى بيده إلى معاوية ثم قام فانصرف. فقال معاوية لعمرو: واللّه ما أردت إلا شيني حين أمرتني بما أمرتني، واللّه ما كان يرى أهل الشام أن أحدا مثلي في حسب ولا غيره، حتى قال الحسن ما قال، قال عمرو: وهذا شي ء لا يستطاع دفنه ولا تغييره لشهرته في الناس واتضاحه، فسكت معاوية(3).
وفي رواية: قال عمرو: أبا محمد هل تنعت الخرأة؟! قال (عليه السلام) : «نعم، تبعد الممشى في الأرض الصحصح(4)، حتى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تمسح باللقمة والرمة؛ يريد العظم والروث، ولا تبل في الماء الراكد»(5).
وفي رواية: إن معاوية سأل الحسن (عليه السلام) أن يصعد المنبر وينتسب، فصعد (عليه السلام) فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني
ص: 148
فسأبين له نفسي، بلدي مكة ومنى، وأنا ابن المروة والصفا، وأنا ابن النبي المصطفى، وأنا ابن من علا الجبال الرواسي، وأنا ابن من كسا محاسن وجهه الحياء، أنا ابن فاطمة سيدة النساء، أنا ابن قليلات العيوب، نقيات الجيوب» وأذن المؤذن(1)، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، فقال: «يا معاوية محمد أبي أم أبوك؟ فإن قلت: ليس بأبي، فقد كفرت، وإن قلت: نعم، فقد أقررت» ثم قال: «أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) منها وأصبحت العجم تعرف حق العرب بأن محمداً منها؛ يطلبون حقنا ولا يردون إلينا حقنا»(2).
قيل(3): طعن أقوام من أهل الكوفة في الحسن بن علي (عليه السلام) فقالوا: إنه عيّ لا يقوم بحجة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فدعا الحسن (عليه السلام) فقال: «يا ابن رسول اللّه، إن أهل الكوفة قد قالوا فيك مقالة أكرهها» قال: «وما يقولون يا أمير المؤمنين» قال: يقولون: «إن الحسن بن علي عيّ اللسان لا يقوم بحجة، وإن هذه الأعواد فأخبر الناس».
فقال: «يا أمير المؤمنين لا أستطيع الكلام وأنا أنظر إليك» فقال أمير
ص: 149
المؤمنين (عليه السلام) : «إني متخلف عنك» فناد: إن الصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون، فصعد (عليه السلام) المنبر فخطب خطبة بليغة وجيزة، فضج المسلمون بالبكاء، ثم قال:
أيها الناس اعقلوا عن ربكم {إِنَّ اللَّهَ} عزّ وجل {اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1) فنحن الذرية من آدم، والأسرة من نوح، والصفوة من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، وآل من محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ونحن فيكم كالسماء المرفوعة، والأرض المدحوة، والشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ}(2) التي بورك زيتها، النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أصلها، وعلي (عليه السلام) فرعها، ونحن واللّه ثمرة تلك الشجرة، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن تخلف عنها فإلى النار هوى» فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أقصى الناس يسحب رداءه من خلفه، حتى علا المنبر مع الحسن (عليه السلام) فقبّل بين عينيه، ثم قال: «يا ابن رسول اللّه أثبتَّ على القوم حجتك، وأوجبت عليهم طاعتك، فويل لمن خالفك»(3).
أول خطبة بعد أبيه
لما قُتل أمير المؤمنين (عليه السلام) رقى الحسن بن علي (عليه السلام) المنبر فأراد الكلام فخنقته العبرة فقعد ساعة ثم قام فقال: «الحمد لله الذي كان في أوليته وحدانيا في أزليته، متعظما بإلهيته، متكبرا بكبريائه وجبروته، ابتدأ ما ابتدع وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق مما خلق ربنا اللطيف بلطف ربوبيته، وبعلم خبره فتق، وبأحكام قدرته خلق جميع ما خلق، فلا مبدل لخلقه، ولا مغير لصنعه، ولامعقّب
ص: 150
لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مستراح عن دعوته، خلق جميع ما خلق ولا زوال لملكه، ولا انقطاع لمدته، فوق كل شي ء علا ومن كل شي ء دنا، فتجلى لخلقه من غير أن يكون يُرى وهو بالمنظر الأعلى، احتجب بنوره، وسما في علوه، فاستتر عن خلقه، وبعث إليهم شهيداً عليهم، وبعث فيهم {النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ}(1) {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}(2) وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه، فيعرفوه بربوبيته بعد ما أنكروه، والحمد لله الذي أحسن الخلافة علينا أهل البيت وعنده نحتسب عزانا في خير الآباء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وعند اللّه نحتسب عزانا في أمير المؤمنين، ولقد أصيب به الشرق والغرب، واللّه ما خلف درهماً ولا ديناراً إلاّ أربعمائة درهم؛ أراد أن يبتاع لأهله خادماً، ولقد حدثني حبيبي جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منا إلا مقتول أو مسموم» ثم نزل (عليه السلام) عن منبره(3).
عن سفيان عن هشام بن حسان(4) قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي (عليه السلام) يخطب الناس بعد البيعة له بالأمر فقال: «نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول
ص: 151
اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في أمته، والتالي كتاب اللّه، فيه {تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}(1) {لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(2)، فالمعوّل علينا في تفسيره، لانتظنى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة اللّه عزّ وجل ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ}(3) {ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(4) وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان بكم ف- {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(5) فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: {لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وقال إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ}(6) فتُلقون إلى الرماح وزراً، وإلى السيوف جزراً، وللعمد حطماً، وللسهام غرضاً ثم {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً}»(7)(8).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) في خطبة له: «الحمد لله الواحد بغير تشبيه، الدائم بغير تكوين، القائم بغير كلفة، الخالق بغير منصبة، الموصوف بغير غاية، المعروف
ص: 152
بغير محدودية، العزيز لم يزل قديماً في القدم، ردعت القلوب لهيبته، وذهلت العقول لعزته، وخضعت الرقاب لقدرته، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته، ولا يبلغ الناس كنه جلاله، ولا يفصح الواصفون منهم لِكُنه عظمته، ولا يقوم الوهم منهم على التفكر على مضا سببه (سيبه)، ولا تبلغه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكر بتدبير أمورها، أعلم خلقه به الذي بالحد لايصفه، يدرك الأبصار ولا يدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير»(1).
نقل أن الإمام الحسن (عليه السلام) اغتسل وخرج من داره في حلة فاخرة وبزة طاهرة ومحاسن سافرة وقسمات ظاهرة ونفخات ناشرة، ووجهه يشرق حسناً، وشكله قد كمل صورة ومعنى، والإقبال يلوح من أعطافه، ونضرة النعيم تعرف في أطرافه، وقاضي القدر قد حكم أن السعادة من أوصافه، ثم ركب بغلة فارهة غير قطوف، وسار مكتنفاً من حاشيته وغاشيته بصفوف، فلو شاهده عبد مناف لأرغم بمفاخرته به معاطس أنوف وعده وآباءه وجده في إحراز خصل الفخار يوم التفاخر بألوف، فعرض له في طريقه من محاويج اليهود هم في هدم قد أنهكته العلة وارتكبته الذلة وأهلكته القلة وجلده يستر عظامه وضعفه يقيد أقدامه وضره قد ملك زمامه وسوء حاله قد حبب إليه حمامه وشمس الظهيرة تشوي شواه وأخمصه تصافح ثرى ممشاه وعذاب عرعريه قد عراه وطول طواه قد أضعف بطنه وطواه وهو حامل جر مملوء ماءً على مطاه وحاله يعطف عليه القلوب القاسية عند مرآه، فاستوقف الحسن (عليه السلام) وقال: يا ابن رسول اللّه أنصفني!
ص: 153
فقال (عليه السلام) : «في أي شي ء»؟ فقال: جدك (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وأنت مؤمن وأنا كافر، فما أرى الدنيا إلاّ جنة تتنعم بها وتستلذ بها وما أراها إلاّ سجنا لي قد أهلكني ضرها وأتلفني فقرها، فلما سمع الحسن (عليه السلام) كلامه أشرق عليه نور التأييد واستخرج الجواب بفهمه من خزانة علمه وأوضح لليهودي خطأ ظنه وخطل زعمه وقال: «يا شيخ لو نظرت إلى ما أعدّ اللّه لي وللمؤمنين في الدار الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت لعلمت أني قبل انتقالي إليه في هذه الدنيا في سجن ضنك، ولو نظرت إلى ما أعد اللّه لك ولكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار الجحيم ونكال العذاب المقيم لرأيت أنك قبل مصيرك إليه الآن في جنة واسعة ونعمة جامعة»(1). ثم وهب له ما أغناه.
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: لقي الحسن بن علي (عليه السلام) عبد اللّه بن جعفر فقال: «يا عبد اللّه كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسمه ويحقر منزلته والحاكم عليه اللّه، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلاّ الرضا أن يدعو اللّه فيستجاب له»(2).
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «كان للحسن بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليهما) صديق وكان ماجناً(3) فتباطأ عليه أياماً، فجاءه يوماً فقال له الحسن (عليه السلام) : كيف أصبحت؟ فقال: يا ابن رسول اللّه أصبحت بخلاف ما أحب
ص: 154
ويحب اللّه ويحب الشيطان، فضحك الحسن (عليه السلام) ثم قال: وكيف ذاك؟ قال: لأن اللّه عزّ وجل يحب أن أطيعه ولا أعصيه ولست كذلك، والشيطان يحب أن أعصي اللّه ولا أطيعه ولست كذلك، وأنا أحب أن لا أموت ولست كذلك»(1).
قال الحسن (عليه السلام) : «إن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور»(2).
قال الحسن (عليه السلام) : «واللّه لا يحبنا عبد أبداً ولو كان أسيراً في الديلم إلاّ نفعه حبنا، وإن حبنا ليساقط الذنوب من ابن آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر»(3).
روي أنه قام إلى الإمام الحسن (عليه السلام) رجل فقال: يا ابن رسول اللّه ما بالنا نكره الموت ولا نحبه؟ فقال الحسن (عليه السلام) : «إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب»(4).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «أما علمتم أنه ما منا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة
ص: 155
لطاغية زمانه إلاّ القائم الذي يصلي روح اللّه عيسى ابن مريم (عليه السلام) خلفه، فإن اللّه عزّ وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء يطيل اللّه عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أن اللّه على كل شيء قدير»(1).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن علياً (عليه السلام) باب من دخله كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً»(2).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن للماء أهلاً وسكاناً كسكان الأرض»(3).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن اللّه عزّ وجل عرض ولايتنا على المياه فما قبل ولايتنا عذب وطاب، وما جحد ولايتنا جعله اللّه عزّ وجل مُرّاً وملحاً أجاجاً»(4).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: كان الحسن بن علي (عليه السلام) عند معاوية، فقال له:
ص: 156
أخبرني عن المروءة؟.
فقال (عليه السلام) : «حفظ الرجل دينه، وقيامه في إصلاح ضيعته، وحسن منازعته، وإفشاء السلام، ولين الكلام، والكف، والتحبب إلى الناس»(1).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «ما تشاور قوم إلاّ هدوا إلى رشدهم»(2).
قال (عليه السلام) : «إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك»(3).
وقال (عليه السلام) : «إن من ابتغاء الخير إتقاء الشر»(4).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «ويلك يا معاوية، إنما الخليفة من سار بسيرة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وعمل بطاعة اللّه، ولعمري إنّا لأعلام الهدى ومنار التقى، ولكنك يا معاوية ممن أباد السنن وأحيا البدع، واتخذ عباد اللّه خولاً، ودين اللّه لعبا؛ فكان قد أخمل ما أنت فيه، فعشت يسيراً وبقيت عليك تبعاته»(5).
ص: 157
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن اللّه خلق السماوات سبعاً والأرضين سبعاً، والجن من سبع والإنس من سبع، فتطلب من ليلة ثلاث وعشرين إلى ليلة سبع وعشرين»(1).
خطب الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: «الحمد لله الذي توحّد في ملكه، وتفرّد في ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء، والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قديماً وحديثاً أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم، أيها الناس إن ربّ علي (عليه السلام) كان أعلم بعلي حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لن تعهدوا بمثله، ولن تجدوا مثل سابقته.
فهيهات هيهات! طالما قلبتم الأمور حتى أعلاه اللّه عليكم، وهو صاحبكم، غزاكم في بدر وأخواتها، جرعكم رنقاً وسقاكم علقاً، وأذل رقابكم وشرقكم بريقكم، فلستم بملومين على بغضه، وأيم اللّه لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية، ولقد وجه اللّه إليكم فتنة لن تصدّوا عنها حتى تهلكوا؛ لطاعتكم طواغيتكم، وانضوائكم إلى شياطينكم، فعند اللّه أحتسب ما مضى، وما ينتظر من سوء رغبتكم، وحيف حلمكم».
ثم قال (عليه السلام) : «يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي اللّه، صائب على أعداء اللّه، نكال على فجار قريش، لم يزل آخذا بحناجرها، جاثماً
ص: 158
على أنفسها، ليس بالملومة في أمر اللّه، ولا بالسروقة لمال اللّه، ولا بالفروقة في حرب أعداء اللّه، أعطى الكتاب خواتيمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فأتبعه، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، فصلوات اللّه عليه ورحمته»(1).
سأل ابن العاص(2)
الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: أخبرني عن الكرم والنجدة والمروءة؟ فقال (عليه السلام) : «أما الكرم فالتبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال، وأما النجدة فالذب عن المحارم، والصبر في المواطن عند المكاره، وأما المروءة فحفظ الرجل دينه، وإحرازه نفسه من الدنس، وقيامه بأداء الحقوق، وإفشاء السلام»(3).
ص: 159
18
نسبت هذه الأبيات إلى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) :
ذري كدر الأيام إن صفاءها***تولى بأيام السرور الذواهب
وكيف يغر الدهر من كان بينه***وبين الليالي محكمات
التجارب(1)
قل للمقيم بغير دار إقامة***حان الرحيل فودع الأحبابا
إن الذين لقيتهم وصحبتهم***صاروا جميعا في القبور ترابا(2)
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها***إن المقام بظل زائل حمق(3)
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني***وشربة من قراح الماء تكفيني
ص: 160
وطمرة من رقيق الثوب تسترني***حيا وإن مت تكفيني لتكفيني(1)
نحن أناس نوالنا خضل***يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا***خوفا على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا***لغاض من بعد فيضه خجل(2)
19
عن محمد بن مسلم(1) قال سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كتب إلى الحسن بن علي (عليه السلام) قوم من أصحابه يعزونه عن ابنة له، فكتب إليهم:
«أما بعد، فقد بلغني كتابكم تعزوني بفلانة، فعند اللّه احتسبها، تسليماً لقضائه، وصبراً على بلائه، فإن أوجعتنا المصائب وفجعتنا النوائب بالأحبة المألوفة التي كانت بنا حفية، والإخوان المحبين، الذين كان يُسرُّ بهم الناظرون وتَقرُّ بهم العيون، أضحوا قد اخترمتهم الأيام، ونزل بهم الحِمام، فخلفوا الخلوف، وأودت بهم الحتوف، فهم صرعى في عساكر الموتى، متجاورون في غير محلة التجاور، ولا صلات بينهم ولا تزاور، ولا يتلاقون عن قرب جوارهم، أجسامهم نائية من أهلها، خالية من أربابها، قد خشعها إخوانها، فلم أر مثل دارها داراً، ولا مثل قرارها قراراً، في بيوت موحشة وحلول مضجعة، قد
ص: 162
صارت في تلك الديار الموحشة وخرجت من الدار المونسة، ففارقتها من غير قلى، فاستودعتها للبلى، وكانت أمة مملوكة سلكت سبيلاً مسلوكة صار إليها الأولون، وسيصير إليها الآخرون، والسلام»(1).
مما كتبه(2) الإمام الحسن (عليه السلام) إلى معاوية: «أما بعد فإن خطبي انتهى إلى اليأس من حق أحييه وباطل أميته، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده، وإنني أعتزل هذا الأمر وأخليه لك وإن كان تخليتي إياه شراً لك في معادك، ولي شروط أشرطها لا تبهظنك إن وفيت لي بها بعهد ولا تخف إن غدرت، وكتب الشروط في كتاب آخر فيه يمنيه بالوفاء وترك الغدر وستندم يا معاوية كما ندم غيرك ممن نهض في الباطل أو قعد عن الحق حين لم ينفع الندم، والسلام»(3).
ص: 163
كتب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد بايعه الناس: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه الحسن بن أمير المؤمنين إلى معاوية بن صخر أما بعد فإن اللّه بعث محمدا (صلی الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، فأظهر به الحق، ودفع به الباطل، وأذل به أهل الشرك، وأعزّ به العرب عامة، وشرف به من شاء منهم خاصة، فقال تعالى: {وإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ}(1).
فلما قبضه اللّه تعالى تنازعت العرب الأمر بعده، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقالت قريش: نحن أولياؤه وعشيرته، فلا تنازعوا سلطانه، فعرفت العرب ذلك لقريش، ونحن الآن أولياؤه وذوو القربى منه - ولا غرو - إن منازعتك إيانا بغير حق في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، والموعد اللّه تعالى بيننا وبينك، ونحن نسأله تبارك وتعالى أن لا يؤتينا في هذه الدنيا شيئاً ينقصنا به في الآخرة.
وبعد، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما نزل به الموت ولاني هذا الأمر من بعده، فاتق اللّه يا معاوية، وانظر لأمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ما تحقن به دماءهم وتصلح أمورهم، والسلام»(2).
* وكتب أيضاً مع جندب بن عبد اللّه الأزدي(3) إلى معاوية: «أما بعد، فإن
ص: 164
اللّه جلّ جلاله بعث محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، ومنة للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين فبلغ رسالات اللّه، وقام بأمر اللّه حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان، بعد أن أظهر اللّه به الحق، ومحق به الشرك، وخصّ به قريشاً خاصة، فقال له: {وإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ}(1).
فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وأن الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأنعمت لهم، وسلمت إليهم.
ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاجت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها وأنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج.
فلما صرنا أهل بيت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأولياؤه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا، ومراغمتنا، والعنت منهم لنا، فالموعد اللّه وهو الولي النصير.
ولقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا، وأن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده.
فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لابفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من
ص: 165
الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولكتابه، واللّه حسبك، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار، وباللّه لتلقين عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدمت يداك، وما اللّه بظلام للعبيد.
إن علياً (عليه السلام) لما مضى لسبيله - رحمة اللّه عليه يوم قُبض ويوم منّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حياً - ولاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل اللّه أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته.
وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين اللّه عزّ وجل في أمرك، ولك في ذلك أن فعلته الحظ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند اللّه، وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب.
واتق اللّه ودع البغي، وأحقن دماء المسلمين، فو اللّه ما لك من خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ اللّه النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين»(1).
ص: 166
20
في المناقب: تفاخرت قريش والحسن بن علي (عليه السلام) حاضر لا ينطق، فقال معاوية: يا أبا محمد ما لك لا تنطق؟ فواللّه ما أنت بمشوب الحسب ولا بكليل اللسان؟
قال الحسن (عليه السلام) : «ما ذكروا فضيلة إلاّ ولي محضها ولبابها»، ثم قال:
فيم الكلام وقد سبقت مبرزا***سبق الجواد من المدى
المتنفس(1)
روي أن معاوية فخر يوماً فقال: أنا ابن بطحاء مكة... فقال الحسن بن علي (عليه السلام) : «أعليّ تفتخر يا معاوية، أنا ابن عروق الثرى(2)، أنا ابن مأوى التقى، أنا ابن من جاء بالهدى، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالفضل السابق والحسب الفائق، أنا ابن من طاعته طاعة اللّه ومعصيته معصية اللّه، فهل لك أب كأبي
ص: 167
تباهيني به؟ وقديم كقديمي تساميني به؟ تقول: نعم أو لا(1)».
قال معاوية: بل أقول لا وهي لك تصديق.
فقال الحسن (عليه السلام) :
الحق أبلج ما يحيل سبيله***والحق يعرفه ذوو الألباب(2)
قال معاوية للحسن بن علي (عليه السلام) : أنا أخير منك يا حسن! قال (عليه السلام) : «وكيف ذاك يا ابن هند؟» قال: لأن الناس قد أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك.
قال (عليه السلام) : «هيهات هيهات لشر ما علوت، يا ابن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان: بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب اللّه، وحاش لله أن أقول: أنا خير منك فلا خير فيك، ولكن اللّه برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل»(3).
عن ابن عباس في قوله {وشارِكْهُمْ فِي الأمْوالِ والأوْلادِ}(4) أنه جلس الحسن بن علي (عليه السلام) ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان يأكلان الرطب فقال يزيد: يا حسن إني منذ كنت أبغضك، قال الحسن (عليه السلام) : «يا يزيد اعلم أن إبليس شارك أباك في جماعه فاختلط الماءان فأورثك ذلك عداوتي لأن اللّه تعالى يقول: {وشارِكْهُمْ فِي الأمْوالِ والأوْلادِ} وشارك الشيطان حرباً عند جماعه فولد له صخر فلذلك كان
ص: 168
يبغض جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).
روي أنه لما قدم معاوية الكوفة قيل له: إن الحسن بن علي (عليه السلام) مرتفع في أنفس الناس فلو أمرته أن يقوم دون مقامك على المنبر فتدركه الحداثة والعي فيسقط من أنفس الناس وأعينهم، فأبى عليهم وأبوا عليه إلاّ أن يأمره بذلك، فأمره فقام دون مقامه في المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس فإنكم لو طلبتم ما بين كذا وكذا لتجدوا رجلاً جده نبي لم تجدوه غيري وغير أخي، وإنا أعطينا صفقتنا هذا الطاغية - وأشار بيده إلى أعلى المنبر إلى معاوية - وهو في مقام رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من المنبر ورأينا حقن دماء المسلمين أفضل من إهراقها، {وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ ومَتاعٌ إِلى حِينٍ}(2)، وأشار بيده إلى معاوية. فقال له معاوية: ما أردت بقولك هذا؟
فقال: «ما أردت به إلا ما أراد اللّه عزّ وجل» فقام معاوية فخطب خطبة عيية فاحشة، فسب فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقام إليه الحسن بن علي (عليه السلام) فقال له - وهو على المنبر -: «يا ابن آكلة الأكباد أوأنت تسب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه، ومن سب اللّه أدخله اللّه نار جهنم خالداً فيها مخلداً وله عذاب مقيم» ثم انحدر الحسن (عليه السلام) عن المنبر ودخل داره ولم يصل هناك بعد ذلك أبداً(3).
ص: 169
في كلام كان بين الإمام الحسن (عليه السلام) وبين الوليد بن عقبة(1)، عندما سبّ الوليد علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له الحسن (عليه السلام) : «لا ألومك أن تسب علياً (عليه السلام) ، وقد جلدك في الخمر(2) ثمانين سوطاً(3)،
وقتل أباك صبراً بأمر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في يوم
ص: 170
بدر(1)، وقد سمّاه اللّه عزّ وجل في غير آية مؤمناً، وسمّاك فاسقاً(2)، وقد قال الشاعر(3) فيك وفي علي (عليه السلام) :
أنزل اللّه في الكتاب علينا***في علي وفي الوليد قرآنا
فتبوأ الوليد منزل كفر***وعلي تبوأ الإيمانا
ليس من كان مؤمناً يعبد اللّه***كمن كان فاسقاً خوانا
ص: 171
سوف يدعى الوليد بعد قليل***وعلي إلى الجزاء عيانا
فعلي يجزى هناك جنانا***وهناك الوليد يجزى هوانا»(1)
روي أنه لقي عمرو بن العاص الإمام الحسن (عليه السلام) في الطواف فقال له: يا حسن! زعمت أن الدين لا يقوم إلاّ بك وبأبيك! فقد رأيت اللّه أقام معاوية فجعله راسياً بعد ميله، وبيّناً بعد خفائه، أفيرضى اللّه بقتل عثمان؟ أو من الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين عليك ثياب كغرقئ البيض(2) وأنت قاتل عثمان! واللّه إنه لألم للشعث، وأسهل للوعث، أن يوردك معاوية حياض أبيك!
فقال الإمام الحسن (عليه السلام) : «إن لأهل النار علامات يعرفون بها: إلحاد لأولياء اللّه وموالاة لأعداء اللّه، واللّه إنك لتعلم أن علياً لم يرتب في الدين ولم يشك في اللّه ساعة ولا طرفة عين قط واللّه لتنتهين يا ابن أم عمرو أو لأنفذن حضنيك بنوافذ أشد من الأقضبة(3)، فإياك والهجم عليّ فإني من قد عرفت، ليس بضعيف الغمزة، ولا هش المشاشة، ولا مري ء المأكلة، وإني من قريش كواسطة القلادة يعرف حسبي ولا أدعى لغير أبي، وأنت من تعلم ويعلم الناس، تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك جزارها: ألأمهم حسباً، وأعظمهم لؤماً، فإياك عني فإنك رجس ونحن أهل بيت الطهارة، أذهب اللّه عنا الرجس
ص: 172
وطهّرنا تطهيراً» فأفحم عمرو وانصرف كئيباً(1).
روي(2) أنه اجتمع يوم عند معاوية بن أبي سفيان: عمرو بن عثمان بن عفان وعمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة بن أبي معيط والمغيرة بن شعبة وقد تواطئوا على أمر واحد.
فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ألا تبعث إلى الحسن بن علي فتحضره، فقد أحيا سنة أبيه، وخفقت النعال خلفه، أمر فأطيع، قال فصدق، وهذان يرفعان به إلى ما هو أعظم منهما، فلو بعثت إليه فقصرنا به وبأبيه، وسببناه وسببنا أباه وصغرنا بقدره وقدر أبيه!
وقعدنا لذلك حتى صدق لك فيه، فقال لهم معاوية: إني أخاف أن يقلدكم قلايد يبقى عليكم عارها، حتى يدخلكم قبوركم، واللّه ما رأيته قط إلا كرهت جنابه، وهبت عتابه، وإني إن بعثت إليه لأنصفنه منكم.
قال عمرو بن العاص: أتخاف أن يتسامى باطله على حقنا، ومرضه على صحتنا!، قال: لا، قال: فابعث إذا إليه.
فقال عتبة: هذا رأي لا أعرفه، واللّه ما تستطيعون أن تلقوه بأكثر ولا أعظم مما في أنفسكم عليه، ولا يلقاكم بأعظم مما في نفسه عليكم، وإنه لأهل بيت
ص: 173
خصم جدل.
فبعثوا إلى الحسن (عليه السلام) فلما أتاه الرسول قال له: يدعوك معاوية، قال: «ومن عنده»؟
قال الرسول: عنده فلان وفلان، وسمى كلا منهم باسمه.
فقال الحسن (عليه السلام) : «ما لهم خرّ عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون»، ثم قال: «يا جارية أبلغيني ثيابي» ثم قال: «اللّهم إني أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم، وأستعين بك عليهم، فاكفنيهم بما شئت وأنى شئت من حولك وقوتك يا أرحم الراحمين» وقال للرسول: هذا كلام الفرج.
فلما أتى معاوية رحّب به وحياه وصافحه.
فقال الحسن (عليه السلام) : «إن الذي حييت به سلامة، والمصافحة أمن» فقال معاوية: أجل إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني ليقرروك: إن عثمان قُتل مظلوماً، وأن أباك قتله! فاسمع منهم ثم أجبهم بمثل ما يكلمونك، فلا يمنعك مكاني من جوابهم.
فقال الحسن (عليه السلام) : «سبحان اللّه البيت بيتك والإذن فيه إليك، واللّه لئن أجبتهم إلى ما أرادوا إني لأستحيي لك من الفحش، وإن كانوا غلبوك على ما تريد، إني لأستحيي لك من الضعف، فبأيهما تقر، ومن أيهما تعتذر، وأما إني لو علمت بمكانهم واجتماعهم، لجئت بعدتهم من بني هاشم مع أني مع وحدتي هم أوحش مني مع جمعهم، فإن اللّه عزّ وجل لوليي اليوم وفيما بعد اليوم، فمرهم فليقولوا فأسمع، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم».
فتكلّم القوم وأكثروا من سبّ الإمام الحسن (عليه السلام) وأبيه علي أمير المؤمنين (عليه السلام)
ص: 174
واتهموه بقتل عثمان وعمر وأبي بكر(1)...
ص: 175
فتكلم أبو محمد الحسن بن علي (صلوات اللّه عليهما) فقال: «الحمد لله الذي هدى أولكم بأولنا، وآخركم بآخرنا، وصلى اللّه على جدي محمد النبي وآله وسلم».
ثم قال: «اسمعوا مني مقالتي وأعيروني فهمكم، وبك أبدأ يا معاوية.. إنه لعمر اللّه، يا أزرق ما شتمني غيرك وما هؤلاء شتموني، ولا سبني غيرك وما هؤلاء سبوني، ولكن شتمتني وسببتني فحشاً منك، وسوء رأي، وبغياً، وعدواناً، وحسداً علينا، وعداوة لمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) قديماً وحديثاً، وإنه واللّه لو كنتُ أنا وهؤلاء يا أزرق مشاورين في مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وحولنا المهاجرون والأنصار ما قدروا أن يتكلموا به، ولا استقبلوني بما استقبلوني به.
فاسمعوا مني أيها الملأ المجتمعون المتعاونون عليّ، ولا تكتموا حقاً علمتموه، ولا تصدقوا بباطل إن نطقت به، وسأبدأ بك يا معاوية ولا أقول فيك إلاّ دون ما فيك.
ص: 176
أنشدكم باللّه هل تعلمون أن الرجل الذي شتمتموه صلّى القبلتين كلتيهما، وأنت تراهما جميعا في ضلالة تعبد اللات والعزى، وبايع البيعتين كلتيهما بيعة الرضوان وبيعة الفتح وأنت يا معاوية بالأولى كافر وبالأخرى ناكث».
ثم قال (عليه السلام) : «أنشدكم باللّه هل تعلمون أن ما أقول حقا، إنه لقيكم مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم بدر ومعه راية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، ومعك يا معاوية راية المشركين وأنت تعبد اللات والعزى وترى حرب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فرضاً واجباً، ولقيكم يوم أحد ومعه راية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ومعك يا معاوية راية المشركين، ولقيكم يوم الأحزاب ومعه راية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ومعك يا معاوية راية المشركين، كل ذلك يفلج اللّه حجته، ويحق دعوته، ويصدق أحدوثته، وينصر رايته، وكل ذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يُرى عنه راضياً في المواطن كلها، ساخطاً عليك.
ثم أنشدكم باللّه هل تعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حاصر بني قريظة وبني النضير ثم بعث عمر بن الخطاب ومعه راية المهاجرين، وسعد بن معاذ ومعه راية الأنصار فأما سعد بن معاذ فجرح وحمل جريحاً، وأما عمر فرجع هارباً وهو يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُّ اللّهَ ورسولَه ويحبه اللّهُ ورسولُه، كرار غير فرار، ثم لا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه، فتعرض لها أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار وعلي يومئذ أرمد شديد الرمد، فدعاه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فتفل في عينيه فبرأ من رمده، وأعطاه الراية فمضى ولم يثن حتى فتح اللّه عليه بمنه وطوله، وأنت يومئذ بمكة عدو لله ورسوله، فهل يستوي بين رجل نصح لله ولرسوله، ورجل عادى اللّه ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم أقسم باللّه ما أسلم قلبك بعدُ، ولكن اللسان خائف فهو يتكلم بما ليس في القلب.
ص: 177
أنشدكم باللّه أتعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) استخلفه على المدينة في غزاة تبوك ولا سخط ذلك ولاكراهة، وتكلم فيه المنافقون، فقال: لا تخلفني يا رسول اللّه فإني لم أتخلف عنك في غزوة قط، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أنت وصيي وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: أيها الناس من تولاني فقد تولى اللّه، ومن تولى علياً فقد تولاني، ومن أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن أحبني فقد أحب اللّه، ومن أحب علياً فقد أحبني.
ثم قال: أنشدكم باللّه أتعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال في حجة الوداع: أيها الناس إني قد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا بما أنزل اللّه من الكتاب، وأحبوا أهل بيتي وعترتي، ووالوا من والاهم، وانصروهم على من عاداهم، وأنهما لن يزالا فيكم حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة، ثم دعا وهو على المنبر علياً فاجتذبه بيده فقال: اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، اللّهم من عادى علياً فلا تجعل له في الأرض مقعداً، ولا في السماء مصعداً، واجعله في أسفل درك من النار.
وأنشدكم باللّه أتعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال له: أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط إبله.
أنشدكم باللّه أتعلمون أنه دخل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي توفي فيه فبكى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال علي: ما يبكيك يا رسول اللّه؟ فقال: يبكيني أني أعلم أن لك في قلوب رجال من أمتي ضغائن، لا يبدونها حتى أتولى عنك.
أنشدكم باللّه أتعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حين حضرته الوفاة واجتمع عليه
ص: 178
أهل بيته قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي، اللّهم وال من والاهم وانصرهم على من عاداهم، وقال: إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من دخل فيها نجا ومن تخلف عنها غرق.
وأنشدكم باللّه أتعلمون أن أصحاب رسول اللّه قد سلّموا عليه بالولاية في عهد رسول اللّه وحياته (صلی الله عليه وآله وسلم) .
أنشدكم باللّه أتعلمون أن علياً أول من حرّم الشهوات كلها على نفسه من أصحاب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأنزل اللّه عزّ وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}(1) وكان عنده علم المنايا، وعلم القضايا، وفصل الكتاب، ورسوخ العلم، ومنزل القرآن، وكان رهط لا نعلمهم يتممون عشرة، نبأهم اللّه أنهم مؤمنون، وأنتم في رهط قريب من عدة أولئك لعنوا على لسان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأشهد لكم وأشهد عليكم: أنكم لعناء اللّه على لسان نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) كلكم.
وأنشدكم باللّه هل تعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بعث إليك لتكتب لبني خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد فانصرف إليه الرسول فقال: هو يأكل، فأعاد الرسول إليك ثلاث مرات كل ذلك ينصرف الرسول إليه ويقول: هو يأكل، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : (اللّهم لا تشبع بطنه)(2) فهي واللّه في نهمتك، وأكلك إلى يوم القيامة، ثم قال: أنشدكم باللّه هل تعلمون أن ما أقول حقاً إنك يا معاوية
ص: 179
كنت تسوق بأبيك على جمل أحمر يقوده أخوك(1)، وهذا: يوم الأحزاب، فلعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) القائد والراكب والسائق فكان: أبوك الراكب، وأنت يا أزرق السائق، وأخوك هذا القاعد القائد.
ثم أنشدكم باللّه هل تعلمون أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن:
أولهن: حين خرج من مكة إلى المدينة وأبو سفيان جاء من الشام، فوقع فيه أبو سفيان فسبه، وأوعده، وهمّ أن يبطش به، ثم صرفه اللّه عزّ وجل عنه.
والثانية: يوم العير حيث طردها أبو سفيان ليحرزها من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
والثالثة: يوم أحُد يوم قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : اللّه مولانا ولا مولى لكم، وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فلعنه اللّه وملائكته ورسوله والمؤمنون أجمعون.
والرابعة: يوم حنين يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش وهوازن، وجاء عيينة بغطفان واليهود فردهم اللّه عزّ وجل بغيظهم لم ينالوا خيراً، هذا قول اللّه عزّ وجل أنزل في سورتين في كلتيهما يسمي أبا سفيان وأصحابه كفاراً، وأنت يا معاوية يومئذ مشرك على رأي أبيك بمكة، وعلي يومئذ مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى رأيه ودينه.
والخامسة: قول اللّه عزّوجل: {والْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}(2)، وصددت أنت وأبوك ومشركو قريش رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلعنه اللّه لعنة شملته وذريته إلى يوم القيامة.
ص: 180
والسادسة: يوم الأحزاب يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش، وجاء عيينة بن حصين بن بدر بغطفان، فلعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) القادة والأتباع والساقة إلى يوم القيامة، فقيل: يا رسول اللّه أما في الأتباع مؤمن؟ قال: لا تصيب اللعنة مؤمنا من الأتباع، وأما القادة فليس فيهم مؤمن، ولا مجيب ولا ناج.
والسابعة: يوم الثنية يوم شدّ على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر رجلا سبعة منهم من بني أمية وخمسة من سائر قريش، فلعن اللّه تبارك وتعالى ورسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من حل الثنية غير النبي وسائقه وقائده.
ثم أنشدكم باللّه هل تعلمون أن أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا ابن أخي هل علينا من عين؟ فقال: لا، فقال أبو سفيان: تداولوا الخلافة يا فتيان بني أمية فو الذي نفس أبي سفيان بيده، ما من جنة ولا نار.
وأنشدكم باللّه أتعلمون أن أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بويع عثمان وقال: يا ابن أخي اخرج معي إلى بقيع الغرقد، فخرج حتى إذا توسط القبور اجتره فصاح بأعلى صوته: يا أهل القبور! الذي كنتم تقاتلونا عليه صار بأيدينا وأنتم رميم.
فقال الحسين بن علي (عليه السلام) : قبح اللّه شيبتك وقبح وجهك، ثم نتر يده وتركه فلو لا النعمان بن بشير أخذ بيده ورده إلى المدينة لهلك، فهذا لك يا معاوية فهل تستطيع أن ترد علينا شيئاً.
ومن لعنتك يا معاوية أن أباك أبا سفيان كان يهم أن يسلم، فبعثت إليه بشعر معروف مروي في قريش وغيرهم، تنهاه عن الإسلام وتصده.
ومنها أن عمر بن الخطاب ولاك الشام فخنت به، وولاك عثمان فتربصت به
ص: 181
ريب المنون، ثم أعظم من ذلك جرأتك على اللّه ورسوله: أنك قاتلت علياً (عليه السلام) وقد عرفته وعرفت سوابقه، وفضله وعلمه على أمر هو أولى به منك، ومن غيرك عند اللّه وعند الناس، ولأذيته، بل أوطأت الناس عشوة، وأرقت دماء خلق من خلق اللّه بخدعك وكيدك وتمويهك، فعل من لا يؤمن بالمعاد، ولا يخشى العقاب، فلما بلغ الكتاب أجله صرت إلى شر مثوى، وعلي إلى خير منقلب واللّه لك بالمرصاد.
فهذا لك يا معاوية خاصة. وما أمسكت عنه من مساويك وعيوبك فقد كرهت به التطويل.
وأما أنت يا عمرو بن عثمان فلم تكن للجواب حقيقاً بحمقك، أن تتبع هذه الأمور فإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإني أريد أن أنزل عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك فكيف يشق عليّ نزولك، وإني واللّه ما شعرت أنك تجسر أن تعادي لي فيشق عليّ ذلك، وإني لمجيبك في الذي قلت: إن سبك علياً أبنقص في حسبه أو تباعده من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو بسوء بلاء في الإسلام، أو بجور في حكم، أو رغبة في الدنيا، فإن قلت واحدة منها فقد كذبت، وأما قولك: إن لكم فينا تسعة عشر دماً بقتلى مشركي بني أمية ببدر، فإن اللّه ورسوله قتلهم، ولعمري لتقتلن من بني هاشم تسعة عشر وثلاثة بعد تسعة عشر، ثم يقتل من بني أمية تسعة عشر وتسعة عشر في موطن واحد سوى ما قتل من بني أمية لا يحصي عددهم إلا اللّه، وأن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إذا بلغ ولد الوزغ ثلاثين رجلاً: أخذوا مال اللّه بينهم دولاً، وعباده خولاً، وكتابه دغلاً، فإذا بلغوا ثلاثمائة وعشراً حقّت اللعنة عليهم ولهم، فإذا بلغوا أربعمائة وخمسة وسبعين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة، فأقبل الحكم بن أبي العاص
ص: 182
وهم في ذلك الذكر والكلام فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : اخفضوا أصواتكم فإن الوزغ يسمع، وذلك حين رآهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن يملك بعده منهم أمر هذه الأمة - يعني في المنام - فساءه ذلك وشق عليه، فأنزل اللّه عزّ وجل في كتابه: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}(1) يعني: بني أمية وأنزل أيضاً: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر}(2) فأشهد لكم، وأشهد عليكم، ما سلطانكم بعد قتل علي إلا ألف شهر التي أجلها اللّه عزّ وجل في كتابه.
وأما أنت يا عمرو بن العاص الشانئ اللعين الأبتر، فإنما أنت كلب أول أمرك، إن أمك لبغية وإنك ولدت على فراش مشترك، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم: أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وعثمان بن الحارث والنضر بن الحارث بن كلدة والعاص بن وائل كلهم يزعم أنك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً، وأخبثهم منصباً، وأعظمهم بغية، ثم قمت خطيباً وقلت: أنا شانئ محمد، وقال العاص بن وائل: إن محمداً رجل أبتر لا ولد له، فلو قد مات انقطع ذكره، فأنزل اللّه تبارك وتعالى {إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(3) وكانت أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية، تأتيهم في دورهم ورحالهم وبطون أوديتهم، ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، من عدوه أشدهم له عداوة، وأشدهم له تكذيباً، ثم كنت في أصحاب السفينة: الذين أتوا النجاشي والمهجر الخارج إلى الحبشة في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وسائر المهاجرين إلى النجاشي، فحاق المكر السيئ بك، وجعل جدك الأسفل، وأبطل أمنيتك،
ص: 183
وخيب سعيك، وأكذب أحدوثتك، {وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا}(1) وأما قولك في عثمان فأنت يا قليل الحياء والدين ألهبت عليه ناراً، ثم هربت إلى فلسطين تتربص به الدوائر، فلما أتتك خبر قتله حبست نفسك على معاوية فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك، ولسنا نلومك على بغضنا، ولم نعاتبك على حبنا، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، وقد هجوت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بسبعين بيتاً من شعر، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : اللّهم إني لا أحسن الشعر، ولا ينبغي لي أن أقوله فالعن عمرو بن العاص بكل بيت ألف لعنة، ثم أنت يا عمرو المؤثر دنياك على دينك أهديت إلى النجاشي الهدايا ورحلت إليه رحلتك الثانية، ولم تنهك الأولى عن الثانية، كل ذلك ترجع مغلوباً، حسيرا تريد بذلك هلاك جعفر وأصحابه، فلما أخطأك ما رجوت وأملت أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد.
وأما أنت يا وليد بن عقبة فو اللّه ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر ثمانين جلدة، وقتل أباك صبرا بيده يوم بدر، أم كيف تسبه وقد سماه اللّه مؤمنا في عشر آيات من القرآن وسماك فاسقاً وهو قول اللّه عزّ وجل: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ}(2) وقوله: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ}(3) وما أنت وذكر قريش وإنما أنت ابن علج من أهل صفورية اسمه: ذكوان، وأما زعمك أنا قتلنا عثمان فو اللّه ما استطاع طلحة والزبير وعائشة أن يقولوا ذلك لعلي بن أبي طالب فكيف تقوله أنت، ولو سألت
ص: 184
أمك من أبوك إذ تركت ذكوان فألصقتك بعقبة بن أبي معيط اكتسبت بذلك عند نفسها سناء ورفعة، مع ما أعد اللّه لك ولأبيك ولأمك من العار والخزي في الدنيا والآخرة وما اللّه بظلام للعبيد.
ثم أنت يا وليد واللّه أكبر في الميلاد ممن تدعى له، فكيف تسب علياً ولو اشتغلت بنفسك لتثبت نسبك إلى أبيك لا إلى من تدعي له، ولقد قالت لذلك أمك: يا بني أبوك واللّه ألأم وأخبث من عقبة.
وأما أنت يا عتبة بن أبي سفيان: فو اللّه ما أنت بحصيف فأجاوبك، ولا عاقل فأعاتبك، وما عندك خير يرجى، وما كنت ولو سببت علياً لأعير به عليك، لأنك عندي لست بكفو لعبد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأرد عليك، وأعاتبك، ولكن اللّه عزّ وجل لك ولأبيك وأمك وأخيك لبالمرصاد، فأنت ذرية آبائك الذين ذكرهم اللّه في القرآن فقال: {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى ناراً حامِيَةً * تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} إلى قوله: {مِنْ جُوعٍ}(1) وأما وعيدك إياي أن تقتلني فهلا قتلت الذي وجدته على فراشك مع حليلتك، وقد غلبك على فرجها وشركك في ولدها حتى ألصق بك ولداً ليس لك، ويلاً لك لو شغلت نفسك بطلب ثأرك منه كنت جديراً، ولذلك حرياً إذ تسومني القتل وتوعدني به، ولا ألومك أن تسب علياً وقد قتل أخاك مبارزة، واشترك هو وحمزة بن عبد المطلب (عليهما السلام) في قتل جدك حتى أصلاهما اللّه على أيديهما نار جهنم، وأذاقهما العذاب الأليم، ونفي عمك بأمر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
وأما رجائي الخلافة، فلعمر اللّه لئن رجوتها فإن لي فيها لملتمساً، وما أنت
ص: 185
بنظير أخيك، ولا خليفة أبيك، لأن أخاك أثر تمرداً على اللّه، وأشد طلباً لإهراقه دماء المسلمين، وطلب ما ليس له بأهل، يخادع الناس ويمكرهم، ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين.
وأما قولك: إن علياً كان شر قريش لقريش فو اللّه ما حقر مرحوماً ولا قَتَل مظلوماً.
وأما أنت يا مغيرة بن شعبة! فإنك لله عدو، ولكتابه نابذ، ولنبيه مكذب، وأنت الزاني وقد وجب عليك الرجم، وشهد عليك العدول البررة الأتقياء، فأخر رجمك، ودفع الحق بالأباطيل، والصدق بالأغاليط، وذلك لما أعدّ اللّه لك من العذاب الأليم، والخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنت الذي ضربت فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى أدميتها وألقت ما في بطنها، استذلالاً منك لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومخالفة منك لأمره، وانتهاكا لحرمته، وقد قال لها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا فاطمة أنت سيدة نساء أهل الجنة، واللّه مصيرك إلى النار، وجاعل وبال ما نطقت به عليك، فبأي الثلاثة سببت علياً: أنقصا من نسبه، أم بعداً من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أم سوء بلاء في الإسلام أم جوراً في حكم أم رغبة في الدنيا، إن قلت بها فقد كذبت وكذبك الناس، أتزعم أن علياً قتل عثمان مظلوما فعلي واللّه أتقى وأنقى من لائمة في ذلك، ولعمري إن كان علي قتل عثمان مظلوماً فو اللّه ما أنت من ذلك في شي ء، فما نصرته حياً ولا تعصبت له ميتاً، وما زالت الطائف دارك تتبع البغايا وتحيي أمر الجاهلية، وتميت الإسلام، حتى كان في أمس.
وأما اعتراضك في بني هاشم وبني أمية فهو ادعاؤك إلى معاوية.
وأما قولك في شأن الإمارة وقول أصحابك في الملك الذي ملكتموه، فقد
ص: 186
ملك فرعون مصر أربعمائة سنة وموسى وهارون (عليهما السلام) نبيان مرسلان يلقيان ما يلقيان من الأذى، وهو ملك اللّه يعطيه البر والفاجر..
وقال اللّه عزّوجل: {وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ ومَتاعٌ إِلى حِينٍ}(1) وقال: {وإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً}(2).
ثم قام الحسن (عليه السلام) فنفض ثيابه وهو يقول: {الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ والْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ} هم واللّه يا معاوية: أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك: {والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ}(3) هم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه وشيعته.
ثم خرج وهو يقول لمعاوية: ذق وبال ما كسبت يداك وما جنيت، وما قد أعد اللّه لك ولهم من الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
فقال معاوية لأصحابه: وأنتم فذوقوا وبال ما قد جنيتم.
فقال له الوليد بن عقبة: واللّه ما ذقنا إلا كما ذقت، ولا اجترأ إلاّ عليك.
فقال معاوية: ألم أقل لكم إنكم لن تنتصفوا من الرجل فهلا أطعتموني أول مرة فانتصرتم من الرجل إذ فضحكم، فواللّه ما قام حتى أظلم عليّ البيت، وهممت أن أسطو به فليس فيكم خير اليوم ولا بعد اليوم.
قال وسمع مروان بن الحكم بما لقي معاوية وأصحابه المذكورون من الحسن بن علي (عليه السلام) فأتاهم فوجدهم عند معاوية في البيت فسألهم: ما الذي بلغني عن الحسن وزعله؟
ص: 187
قالوا: قد كان كذلك، فقال لهم مروان: أفلا أحضرتموني ذلك. فو اللّه لأسبنه ولأسبن أباه وأهل البيت سبّاً تتغنى به الإماء والعبيد.
فقال معاوية والقوم: لم يفتك شي ء وهم يعلمون من مروان بذو لسان وفحش، فقال مروان: فأرسل إليه يا معاوية فأرسل معاوية إلى الحسن بن علي (عليه السلام) . فلما جاءه الرسول قال له الحسن (عليه السلام) : ما يريد هذا الطاغية مني؟ واللّه إن أعاد الكلام لأوقرن مسامعه ما يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة، فأقبل الحسن (عليه السلام) فلما أن جاءهم وجدهم بالمجلس على حالتهم التي تركهم فيها، غير أن مروان قد حضر معهم في هذا الوقت، فمشى الحسن (عليه السلام) حتى جلس على السرير مع معاوية وعمرو بن العاص، ثم قال الحسن لمعاوية: لِمَ أرسلت إليّ؟ قال: لست أنا أرسلت إليك ولكن مروان الذي أرسل إليك.
فقال مروان: أنت يا حسن السباب لرجال قريش،
فقال الحسن (عليه السلام) : وما الذي أردت؟
فقال: واللّه لأسبنك وأباك وأهل بيتك سبّاً تتغنى به الإماء والعبيد.
فقال الحسن (عليه السلام) : أما أنت يا مروان فلست أنا سببتك ولا سببت أباك، ولكن اللّه عزّ وجل لعنك ولعن أباك، وأهل بيتك وذريتك، وما خرج من صلب أبيك إلى يوم القيامة، على لسان نبيه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) واللّه يا مروان ما تنكر أنت ولا أحد ممن حضر هذه اللعنة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لك ولأبيك من قبلك، وما زادك اللّه يا مروان بما خوفك إلا طغياناً كبيراً، وصدق اللّه وصدق رسوله يقول تبارك وتعالى: {والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ونُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً}(1)، وأنت
ص: 188
يا مروان وذريتك الشجرة الملعونة في القرآن، وذلك عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجل. فوثب معاوية فوضع يده على فم الحسن (عليه السلام) ، وقال: يا با محمد ما كنت فحّاشاً ولا طيّاشاً، فنفض الحسن (عليه السلام) ثوبه، وقام فخرج فتفرق القوم عن المجلس بغيظ، وحزن، وسواد الوجوه(1).
ص: 189
21
لقد نص رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه على الأئمة الاثني عشر، وصرّح بأسمائهم واحداً واحداً، كما نص كل إمام على الإمام الذي بعده، وهذه بعض النصوص:
وكان من نصوص النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ما ذكره يوم غدير خم في خطبته: حيث قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «فَقُولُوا بِأَجْمَعِكُمْ: إنَّا سَامِعُونَ مُطيعُونَ رَاضُونَ مُنْقَادُونَ لِمَا بَلَّغْتَ عَنْ رَبِّنَا وَرَبِّكَ في أَمْرِ إمَامِنَا عَلِيٍّ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ وَأَمْرِ وُلدِهِ مِنْ صُلْبِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ.
نُبَايِعُكَ عَلَى ذلِكَ بِقُلُوبِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَلْسِنَتِنَا وَأَيْدينَا. عَلَى ذَلِكَ نَحْيى وَعَلَيْهِ نَمُوتُ وَعَلَيْهِ نُبْعَثُ.
وَلاَ نُغَيِّرُ وَلاَ نُبَدِّلُ، وَلاَ نَشُكُّ وَلاَ نَجْحَدُ وَلاَ نَرْتَابُ، وَلاَ نَرْجِعُ عَنِ الْعَهْدِ وَلاَ نَنْقُضُ الْميثَاقَ.. نُطيعُ اللّهَ وَنُطيعُكَ وَعَليّاً أَميرَِ الْمُؤْمِنينَ وَالأَئِمَّةَ الَّذينَ ذَكَرْتَهُم مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مِنْ وُلْدِهِ بَعْدَهُ، الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ.. فَالْعَهْدُ وَالْميثَاقُ لَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَّا، مِنْ قُلُوبِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَلْسِنَتِنَا وَضَمَايِرِنَا وَمُصَافَقةِ أَيدينَا. مَن أَدرَكهَا بِيَدِه وَإلاَّ فَقَد أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَلاَ يَبغي بِذلِكَ بَدَلاً وَلاَ يَرَى اللّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا عَنْهُ حِوَلاً أَبداً. نَحْنُ نُؤَدّي ذلِكَ عَنْكَ، الدَّاني وَالْقَاصي مِنْ أَوْلاَدِنَا وَأَهَالينَا، وَنُشْهِدُ اللّهَ بِذلِكَ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً وَأَنْتَ عَلَيْنَا بِهِ شَهيدٌ..
ص: 190
مَعَاشِرَ النَّاسِ، مَا تَقُولُونَ؟ فَاِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ كُلَّ صَوْت وَخَافِيَةَ كُلِّ نَفْس، {فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}(1)، وَمَنْ بَايَعَ فَإنَّمَا يُبَايِعُ اللّهَ،{يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ}(2).
مَعَاشِرَ النَّاسِ، فَاتّقُوا اللّه وَبَايِعُوا عَلِيّاً أَميرَ الْمُؤْمِنينَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَالأَئِمَّةَ كَلِمَةً طيّبةً بَاقِيَة; يُهْلِكُ اللّهُ مَنْ غَدَرَ وَيَرْحَمُ مَنْ وَفى.
{فَمَنْ نَكَثَ فَاِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهُ فَسَيُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً}(3)(4).
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) مضافاً إلى تصريحه بأن الخلافة والإمامة تكون من بعده لابنه الحسن (عليه السلام) ثم الحسين (عليه السلام) قد جعل الولاية في أوقافه للحسن ثم للحسين (عليهما السلام) ..
في نهج البلاغة: «هذا ما أمر به عبد اللّه علي بن أبي طالب في ماله، ابتغاء وجه اللّه، ليولجه به الجنة، ويعطيه به الأمنة.
(منها) وأنه يقوم بذلك الحسن بن علي، يأكل منه بالمعروف وينفق في المعروف، فإن حدث بحسن حدث وحسين حي، قام بالأمر بعده وأصدره مصدره.
وإن لابني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، وإني إنما جعلت
ص: 191
القيام بذلك إلى ابنيّ فاطمة، ابتغاء وجه اللّه وقربة إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وتكريماً لحرمته وتشريفاً لوصلته»(1).
كما جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ولي الأمر من بعده وولي دمه ولده الحسن (عليه السلام) حيث قال له: «يا بني أنت ولي الأمر، وولي الدم، فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأتم، وكان قبل ذلك قد خص الحسن والحسين (عليهما السلام) بوصية أسرها إليهما كتب لهما فيها أسماء الملوك في هذه الدنيا ومدة الدنيا وأسماء الدعاة إلى يوم القيامة، ودفع إليهما كتاب القرآن وكتاب العلم»(2).
أقول: وقد اقتص الإمام الحسن (عليه السلام) من ابن ملجم ولم يعف عنه، لأن الناس لم يتحملوا العفو وكانوا يريدون أن يقطعوا ابن ملجم قطعة قطعة، فأجرى الإمام القصاص بضربة سيف كما ضرب هو(3) من غير زيادة(4).
ص: 192
ص: 193
ص: 194
ص: 195
بعد استشهاد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في 21 من شهر رمضان سنة 40 هجرية، اجتمع الناس لمبايعة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) فقام عبد اللّه بن العباس بين
ص: 196
يديه(1)، فقال: (يا معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه)(2)، فاستجاب الناس فبايعوه بأجمعهم.
قال المفيد (رحمه الله) في الإرشاد: (وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة، وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة فرتب العمال وأمّر الأمراء، وأنفذ عبد اللّه بن العباس رضي اللّه عنه إلى البصرة، ونظر في الأمور)(3).
وقال أبو الفرج: (وكان أول شي ء أحدث الحسن (عليه السلام) أنه زاد المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي (عليه السلام) فعل ذلك يوم الجمل، والحسن (عليه السلام) فعله على حال الاستخلاف فتبعه الخلفاء من بعد ذلك)(4).
وفي المناقب لابن شهر آشوب: (بويع الحسن (عليه السلام) بعد أبيه يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان في سنة أربعين.. وكان عمره (عليه السلام) لما بويع سبعاً وثلاثين سنة)(5).
روي أنه خطب الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) في صبيحة الليلة التي قُبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال:
«لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيقيه بنفسه، وكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)
ص: 197
يوجهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، فلا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه، ولقد توفي (عليه السلام) في الليلة التي عُرج فيها بعيسى ابن مريم، وفيها قبض فيها يوشع بن نون، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله».
ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه، ثم قال: «أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، أنا من أهل بيت افترض اللّه مودتهم في كتابه فقال تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}(1) فالحسنة مودتنا أهل البيت»(2).
ثم جلس، فقام عبد اللّه بن العباس ما بين يديه فقال: (معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه)، فاستجاب له الناس وقالوا: ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا، وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة، وذلك في يوم الجمعة الواحد والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فرتب العمال وأمّر الأمراء وأنفذ عبد اللّه بن العباس إلى البصرة، ونظر في الأمور(3).
وهكذا بدأت خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان في سنة أربعين بعد مقتل أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان عمره لما بويع
ص: 198
سبعاً وثلاثين سنة فبقي في خلافته أربعة أشهر وثلاثة أيام، ثم وقع الصلح بينه وبين معاوية في سنة إحدى وأربعين وخرج الإمام الحسن (عليه السلام) من الكوفة إلى المدينة فأقام بها.
لما بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيعة الناس ابنه الحسن (عليه السلام) دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة، ورجلاً من بني القين إلى البصرة، ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا على الإمام الحسن (عليه السلام) الأمور - وبعث معهم أموالاً طائلة، فجاءا وأخذا يفسدان في الأرض - فعرف ذلك الإمام الحسن (عليه السلام) وأمر باعتقالهما، فاستخرج الحميري من عند حجام بالكوفة، كما كتب (عليه السلام) إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأخرج(1)، وهكذا فشلت خطة معاوية، ولكنه أخذ يخطط ضد حكومة الإمام (عليه السلام) بكل مكر وخديعة.
ولم يكتف معاوية بذلك بل دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وإلى حجر بن الحارث وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه: أنك إن قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم وجند من أجناد الشام وبنت من بناتي، فبلغ الحسن (عليه السلام) فاستلأم ولبس درعا وكفرها وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم إلاّ كذلك فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة، فلما صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمل فيه الخنجر..
ص: 199
وقال بعضهم: تعال حتى نأخذ الحسن ونسلمه إلى معاوية فيجعل لنا العراق، فهمّ الشيعة بقتل القائل ولكن الإمام الحسن (عليه السلام) عفى عنه، وقال الحسن (عليه السلام) : «ويلكم واللّه إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي وإني أظن أني إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدي (صلی الله عليه وآله وسلم) وإني أقدر أن أعبد اللّه عزّ وجل وحدي ولكني كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله اللّه لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسُحقاً لما كسبته أيديهم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}(1).
فجعلوا يعتذرون بما لا عذر لهم فيه(2).
ثم إن معاوية هو الذي بدأ بالحرب على الإمام الحسن (عليه السلام) وتحرك بجيشه نحو العراق، فخرج الإمام الحسن (عليه السلام) دفاعاً ولكن القوم خذلوه فاضطر إلى المهادنة مع معاوية. هذا وقد وقع الحرب بين جيش الإمام وجيش معاوية.
عن الفضل بن شاذان في بعض كتبه قال: إن الحسن (عليه السلام) لما قُتل أبوه (عليه السلام) خرج في شوال من الكوفة إلى قتال معاوية، فالتقوا بكسكر وحاربه ستة أشهر(3).
وكان قد كتب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى معاوية: «أما بعد: فإنك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاء، وما أوشك ذلك! فتوقعه إن شاء اللّه تعالى. وبلغني أنك تشمتّ بما لم يشمت به ذوو الحجى وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
ص: 200
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى***تجهز لأخرى مثلها فكأن قد
فإنا ومن قد مات منا لكالذي***يروح ويمسي في المبيت يغتدي(1)
وكان بين الإمام الحسن (عليه السلام) وبين معاوية مكاتبات ومراسلات واحتجاجات للحسن (عليه السلام) في استحقاقه الأمر دون معاوية، وأن من تقدم على أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ابتزوا سلطان ابن عم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ..
وسار معاوية نحو العراق ليغلب عليه. فلما بلغ جسر منبج تحرك الإمام الحسن (عليه السلام) وبعث حجر بن عدي يأمر العمال بالمسير واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثم خفوا، ومعه أخلاط من الناس. ومن هنا بدأت مقدمات الحرب.. ثم خان أصحاب الإمام (عليه السلام) إمامهم الذي بايعوه، والتحقوا بمعاوية.. ورأى الإمام (عليه السلام) أن الصلح خير له ولأهل بيته ولشيعته وللمؤمنين وللمسلمين.
ص: 201
22
روي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) خطب على المنبر وهو ينظر إلى الناس مرة وإلى الحسن (عليه السلام) مرة وقال: «إن ابني هذا سيصلح اللّه به بين فئتين من المسلمين»(1).
ولا يخفى أن صدق (المسلم) على الفئة الباغية من باب أن من تشهد بالشهادتين فهو مسلم.
قال الراوي: كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي بنا فجاءه الحسن (عليه السلام) وهو ساجد وهو صغير حتى يصير على ظهره أو رقبته، فيرفعه رفعاً رفيقاً، فلما صلى قالوا: يا رسول اللّه إنك تصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد! فقال: «إن هذا ريحانتي، وإن ابني هذا سيد، وعسى أن يصلح اللّه به بين فئتين من المسلمين»(2).
ثم إن الإمام الحسن (عليه السلام) صالح معاوية لحفظ دماء المسلمين والمؤمنين، ولم يبايع معاوية قط ولم يتنازل له في أمر الإمامة ولا أقر له بالخلافة - بل شرط أن
ص: 202
لايُسمى معاوية بأمير المؤمنين - وذلك كما صالح الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) المشركين في الحديبية ولم يبايعهم.
وكما سكت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على من غصب الخلافة منه ولم يبايعهم أبداً.
ولولا الصلح لما ترك معاوية من شيعة علي (عليه السلام) على وجه الأرض أحداً إلاّ قتله.
عن سدير(1) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) ومعنا ابني: «يا سدير، اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه، فإن كان فيه إغراق كففناك عنه، وإن كان مقصراً أرشدناك» قال: فذهبت أن أتكلم، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «أمسك حتى أكفيك، إن العلم الذي وضع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عند علي (عليه السلام) من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً، ثم كان من بعده الحسن (عليه السلام) ».
قلت: كيف يكون بتلك المنزلة وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟ فقال: «اسكت، فإنه أعلم بما صنع لولا ما صنع لكان أمر عظيم»(2).
ابن رسول اللّه لِمَ داهنتَ معاوية وصالحته وقد علمتَ الحق لك دونه، وأن معاوية ضال باغ؟
فقال (عليه السلام) : «يا أبا سعيد ألستُ حجة اللّه تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي (عليه السلام) ؟
قلت: بلى، قال (عليه السلام) : «ألستُ الذي قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لي ولأخي الحسين إمامان قاما أو قعدا»؟
قلت: بلى، قال (عليه السلام) : «أنا فإذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل اللّه تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى إلى الخضر (عليه السلام) ، لما أخرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضى، هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قتل»(1).
صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي (عليه السلام) شيئاً، وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم،
ص: 204
وأن يجعل ذلك من خراج دارابجرد.
وهذا يدل بوضوح على إسقاط معاوية عن إمرة المؤمنين، كما يدل على عدم عدالة معاوية فإن الشهادة تقام عند قاض عادل وحاكم مشروع.
ثم إن الإمام الحسن (عليه السلام) لم يعط معاوية في شيء من أمره ما توجب الشرعية له، ولما خرج الخوارج على معاوية قال معاوية للحسن: أخرج إليهم وقاتلهم، فقال (عليه السلام) : «يأبى اللّه لي بذلك» قال: فلِمَ؟ أليس هم أعداؤك وأعدائي؟ قال: «نعم يا معاوية ولكن ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فوجده» فأسكت معاوية(1).
أقول: الاجتماع عليه، ليس بمعنى القبول به، بل على للضرر أي الاجتماع ضده، والفتنة الامتحان.
ص: 206
وأراد معاوية أن يشيع في الناس أن الإمام الحسن (عليه السلام) طالب للدنيا وأنه (عليه السلام) يحارب من أجل الملك، وبالصلح افتضح معاوية.
كما أن المأمون العباسي أراد أن يقول للناس بأن الإمام الرضا (عليه السلام) طالب للدنيا والحكم ولذا رضي بولاية العهد، ولكن الإمام (عليه السلام) لما اشترط عدم تدخله في أي أمر حكومي فضح المأمون.
روي إن الإمام الحسن (عليه السلام) قال لجبير بن نفير(1) حين قال له: إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة، فقال (عليه السلام) : «قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت تركتها ابتغاء وجه اللّه وحقن دماء أمة محمد»(2).
ثم إن معاوية أراد أن يقتل الإمام الحسن (عليه السلام) وسائر أهل البيت (عليهم السلام) عن آخرهم، عبر خطة خبيثة، ثم يخدع الناس بمكره فتضيع دماؤهم. وبالصلح وما تبعه افتضح معاوية.
إن معاوية اشترى عدداً من أصحاب الإمام (عليه السلام) بالأموال الطائلة.. ثم أرسل
ص: 207
بعض السذج وبعض أهل الدنيا ممن كان يلصق نفسه بالشيعة ليهددوا الإمام (عليه السلام) ثم يقتلوه ويقتلوا أهل بيته (عليهم السلام) لكي يشيع معاوية بين الناس أن شيعة الإمام هم الذين قتلوه.
أو أن يأخذوا الإمام (عليه السلام) أسيراً إلى معاوية، ليقتله أو يمن عليه بعدم قتله..
وتمكن الإمام الحسن (عليه السلام) بالصلح أن يحفظ نفسه وأهل بيته (عليهم السلام) وشيعته، وشيئاً فشيئاً كشف عن حقيقة معاوية حتى وصل الأمر إلى يزيد فافتضحت بنو أمية أكثر فأكثر وسلب غطاء الشرعية عنهم، عند ذلك نهض الإمام الحسين (عليه السلام) .. ولم تتمكن بنو أمية من تضييع دم الإمام (عليه السلام) .
روي عن زيد بن وهب الجهني(1) قال: لما طعن الحسن بن علي (عليه السلام) بالمدائن أتيته وهو متوجع فقلت: ما ترى يا ابن رسول اللّه فإن الناس متحيرون؟ فقال: أرى واللّه أن معاوية خيراً لي من هؤلاء؛ يزعمون أنهم لي شيعة(2) ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي، واللّه لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي، واللّه لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً، و اللّه لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمن عليّ فتكون سبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر
ص: 208
ولمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منا والميت.
قال: قلت: تترك يا ابن رسول اللّه شيعتك كالغنم ليس لها راع، قال: وما أصنع يا أخا جهينة إني واللّه أعلم بأمر قد أدى به إليّ ثقاته: أن أمير المؤمنين ع قال لي - ذات يوم وقد رآني فرحاً: ياحسن أ تفرح كيف بك إذا رأيت أباك قتيلا؟ كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو أمية؟ وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الأعفاج، يأكل ولا يشبع يموت وليس له في السماء ناصر ولا في الأرض عاذر ثم يستولي على غربها وشرقها يدين له العباد ويطول ملكه يستن بسنن أهل البدع والضلال ويميت الحق وسنة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويذل في ملكه المؤمن، ويقوى في سلطانه الفاسق ويجعل المال بين أنصاره دولا، ويتخذ عباد اللّه خولا، يدرس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويقتل من ناواه على الحق، ويدين من والاه على الباطل، فكذلك حتى يبعث اللّه رجلا في آخر الزمان، وكلب من الدهر، وجهل من الناس، يؤيده اللّه بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره على أهل الأرض حتى يدينوا طوعا وكرها، يملأ الأرض قسطاً وعدلا ونورا وبرهانا يدين له عرض البلاد وطولها حتى لا يبقى كافر إلا آمن ولا طالح إلا صلح ويصطلح في ملكه السباع وتخرج الأرض نبتها وتنزل السماء بركتها وتظهر له الكنوز يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً فطوبى لمن أدرك أيامه وسمع كلامه(1).
جاء رجل إلى الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: يا ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أذللت رقابنا
ص: 209
وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ما بقي معك رجل.
فقال (عليه السلام) : «ومم ذاك»؟ قال: قلت بتسليمك الأمر لهذا الطاغية.
قال: «واللّه ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسداً، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا: إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا»(1).
وروي عن الحارث الهمداني(2) قال: لما مات علي (عليه السلام) جاء الناس إلى الحسن بن علي (عليه السلام) فقالوا له: أنت خليفة أبيك ووصيه ونحن السامعون المطيعون لك فمُرنا بأمرك.
فقال (عليه السلام) : «كذبتم واللّه، ما وفيتم لمن كان خيراً مني فكيف تفون لي، أوكيف أطمئن إليكم ولا أثق بكم؟ إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن، فوافوني هناك.
فركب وركب معه من أراد الخروج، وتخلّف عنه خلق كثير فلم يفوا بما قالوه وبما وعدوه، وغروه كما غروا أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبله.
فقام خطيباً وقال: «قد غررتموني كما غررتم من كان من قبلي، مع أي إمام
ص: 210
تقاتلون بعدي، مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن باللّه ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو ولا بنو أمية إلاّ فرقاً من السيف، ولو لم يبق لبني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين اللّه عوجاً وهكذا قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ».
ثم وجّه إليه قائداً في أربعة آلاف وكان من كندة وأمره أن يعسكر بالأنبار ولا يحدث شيئاً حتى يأتيه أمره، فلما توجه إلى الأنبار ونزل بها وعلم معاوية بذلك بعث إليه رسلا وكتب إليه معهم: أنك إن أقبلت إلي وليتك بعض كور الشام أو الجزيرة غير منفس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم، فقبض الكندي - عدو اللّه - المال وقلب على الحسن وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته.
وبلغ الحسن (عليه السلام) ذلك فقام خطيباً وقال: «هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا وأنا موجه رجلاً آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه، ولا يراقب اللّه فيّ ولا فيكم».
فبعث إليه رجلا من مراد في أربعة آلاف وتقدم إليه بمشهد من الناس، وتوكد عليه وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي، فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل.
فقال الحسن (عليه السلام) : «إنه سيغدر» فلما توجه إلى الأنبار أرسل معاوية إليه رسلاً وكتب إليه بمثل ما كتب إلى صاحبه وبعث إليه بخمسمائة ألف درهم، ومنّاه أي ولاية أحبّ من كور الشام أو الجزيرة، فقلب على الحسن (عليه السلام) وأخذ طريقه إلى معاوية ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود.
وبلغ الحسن (عليه السلام) ما فعل المرادي فقام خطيباً فقال وقال: «قد أخبرتكم مرة
ص: 211
بعد أخرى أنكم لا تفون لله بعهود، وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم، وصار إلى معاوية».
ثم كتب معاوية إلى الحسن (عليه السلام) : (يا ابن عم، لا تقطع الرحم الذي بيني وبينك فإن الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك).
فقالوا: إن خانك الرجلان وغدرا، فإنا مناصحون لك.
فقال لهم الحسن (عليه السلام) : «لأعودن هذه المرة فيما بيني وبينكم، وإني لأعلم أنكم غادرون والموعد ما بيني وبينكم إن معسكري بالنخيلة فوافوني هناك واللّه لا تفون لي بعهد ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم».
ثم إن الحسن (عليه السلام) أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف، فانصرف إلى الكوفة فصعد المنبر وقال: «يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين مرة بعد مرة، ولو سلّمت إلى معاوية الأمر فأيم اللّه لا ترون فرجا أبدا مع بني أمية واللّه ليسومنكم سوء العذاب حتى تتمنوا أن عليكم حبشياً، ولو وجدت أعوانا ما سلمتُ له الأمر لأنه محرّم على بني أمية، فاُفّ وترحاً يا عبيد الدنيا».
وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية: بأنا معك، وإن شئت أخذنا الحسن (عليه السلام) وبعثناه إليك، ثم أغاروا على فسطاطه وضربوه بحربة، فأخذ مجروحاً، ثم كتب جواباً لمعاوية:
«إنما إن هذا الأمر لي والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنها لمحرّمة عليك وعلى أهل بيتك، سمعته من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واللّه لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلمت لك ولا أعطيتك ما تريد» وانصرف إلى الكوفة»(1).
ص: 212
عن الصادق (عليه السلام) في أخبار الرجعة أنه (عليه السلام) قال: «يا مفضل، ويقوم الحسن (عليه السلام) إلى جده (صلی الله عليه وآله وسلم) فيقول: يا جداه كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في دار هجرته بالكوفة حتى استشهد بضربة عبد الرحمن بن ملجم (لعنه اللّه) فوصاني بما وصيته يا جداه، وبلغ اللعين معاوية قتل أبي فأنفذ الدعي اللعين زياداً إلى الكوفة في مائة ألف وخمسين ألف مقاتل، فأمر بالقبض عليّ وعلى أخي الحسين وسائر إخواني وأهل بيتي وشيعتنا وموالينا، وأن يأخذ علينا البيعة لمعاوية، فمن يأبى منا ضرب عنقه وسير إلى معاوية رأسه، فلما علمت ذلك من فعل معاوية خرجت من داري فدخلت جامع الكوفة للصلاة ورقيت المنبر واجتمع الناس فحمدت اللّه وأثنيت عليه وقلت: معشر الناس عفت الديار ومحيت الآثار وقلّ الاصطبار فلا قرار على همزات الشياطين، وحكم الخائنين الساعة، واللّه صحت البراهين وفصلّت الآيات وبانت المشكلات ولقد كنا نتوقع تمام هذه الآية تأويلها قال اللّه عزّ وجل: {وما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ومَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(1) فلقد مات واللّه جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقُتل أبي (عليه السلام) وصاح الوسواس الخناس في قلوب الناس ونعق ناعق الفتنة وخالفتم السنة، فيا لها من فتنة صماء عمياء، لا يسمع لداعيها ولا يجاب مناديها ولايخالف واليها، ظهرت كلمة النفاق وسُيّرت رايات أهل الشقاق وتكالبت جيوش أهل المراق من الشام والعراق، هلمّوا رحمكم اللّه إلى الافتتاح والنور الوضاح والعلم الجحجاح والنور الذي لا يطفى
ص: 213
والحق الذي لا يخفى، أيها الناس تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكانيف الظلمة، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية ونيات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية افتراق لأجاهدن بالسيف قدماً قدماً، ولأضيقن من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها ومن الخيل سنابكها، فتكلموا رحمكم اللّه، فكأنما ألجموا بلجام الصمت عن إجابة الدعوة إلاّ عشرين رجلاً فإنهم قاموا إليّ فقالوا: يا ابن رسول اللّه ما نملك إلاّ أنفسنا وسيوفنا فها نحن بين يديك، لأمرك طائعون وعن رأيك صادرون فمُرنا بما شئت، فنظرت يمنة ويسرة فلم أر أحداً غيرهم، فقلت: لي أسوة بجدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حين عبد اللّه سراً وهو يومئذ في تسعة وثلاثين رجلاً فلما أكمل اللّه له الأربعين صار في عدة وأظهر أمر اللّه فلو كان معي عدتهم جاهدت في اللّه حق جهاده، ثم رفعت رأسي نحو السماء فقلت: (اللّهم إني قد دعوتُ وأنذرتُ وأمرتُ ونهيتُ وكانوا عن إجابة الداعي غافلين وعن نصرته قاعدين وفي طاعته مقصرين ولأعدائه ناصرين، اللّهم فأنزل عليهم رجزك وبأسك وعذابك الذي لا يرد عن القوم الظالمين) ونزلت ثم خرجت من الكوفة راحلاً إلى المدينة، فجاءوني يقولون: إن معاوية أسرى سراياه إلى الأنبار والكوفة وشنّ غاراته على المسلمين(1) وقتل من لم يقاتله!
ص: 214
وقتل النساء والأطفال!(1)
فأعلمتهم أنه لا وفاء لهم فأنفذت معهم رجالاً وجيوشاً وعرّفتهم أنهم يستجيبون لمعاوية وينقضون عهدي وبيعتي فلم يكن إلاّ
ص: 215
ما قلت لهم وأخبرتهم...(1)».
يقول السيد المرتضى (رحمه الله) (2) في بيان فلسفة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) :
(قد ثبت أنه (عليه السلام) الإمام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة والأدلة القاهرة، فلابد من التسليم لجميع أفعاله وحملها على الصحة، وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر ربما نفرت النفس عنه.
وقال: إن الذي جرى منه (عليه السلام) كان السبب فيه ظاهرا والحامل عليه بيناً جلياً لأن المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد فقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية وامراحه من أحب في الأموال من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له (عليه السلام) النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولج والتلبس، فتخلّى من الأمر وتحرّز من المكيدة التي كادت تتم عليه في سعة من الوقت.
وقد صرّح بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة وبألفاظ مختلفة، وقال (عليه السلام) : «إنما هادنت حقناً للدماء وضنّاً بها وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»(3)، فكيف لا يخاف أصحابه ويتهمهم على نفسه
ص: 216
وأهله؟..
وقال: أوليس أحدهم قد جلس له في مظلم ساباط وطعنه بمعول كان معه أصاب فخذه وشقه حتى وصل إلى العظم وانتزع من يده..)(1).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) في جواب بعض أصحابه(2) عن سبب الصلح: «وإنما فعلت ما فعلت إبقاءً عليكم»(3).
ثم إن الصلح الذي قام به الإمام الحسن (عليه السلام) كان بأمر من اللّه تعالى، وقد أمره بذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) فإن اللّه قد قضى بذلك.
قال الحسن (عليه السلام) في جواب بعض شيعته(4): «أنتم شيعتنا وأهل مودتنا فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، ولا أشد شكيمةً، ولا أمضى عزيمةً، ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلاّ حقن الدماء فارضوا بقضاء اللّه، وسلموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا».
أو قال: «كفوا أيديكم حتى يستريح برّ أو يستراح من فاجر»(5).
ص: 217
وكان من أسباب الصلح: اجتماع رأي أصحاب الإمام الإمام الحسن (عليه السلام) على الصلح دون القتال، حيث استشارهم الإمام (عليه السلام) في خصوص ذلك فأجمعوا على الصلح، فقبل الإمام (عليه السلام) برأيهم.
كما ورد في خطبة للإمام الحسن (عليه السلام) بعد وفاة أبيه، حيث حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أما واللّه ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، فكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم أصبحتم تعدون قتيلين: قتيلاً بصفين تبكون عليه، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأره، فأما الباكي فخاذل وأما الطالب فثائر.
وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات اللّه وحاكمنا إلى اللّه.
فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة(1).
ص: 218
روي أن الإمام الحسن (عليه السلام) قال في صلح معاوية: «أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جدّه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما وجدتموه غيري وغير أخي، وأنتم تعلمون أن اللّه بجدي هداكم، وبه أنقذكم من الضلالة وحماكم من الجهالة، وأعزمن بعد الذلة، وكثركم بعد القلة، وأن معاوية نازعني حقاً هو لي، فتركته لصلاح الأمة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وقد رأيت أن أسالمه وأن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(1)»(2).
وفي رواية: «إنما هادنت حقنا للدماء وصيانتها، وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»(3).
وكان من أسباب الصلح اختلاف آراء أصحاب الإمام (عليه السلام) فلم يتفقوا على القتال، قال حجر بن عدي للإمام الحسن (عليه السلام) : «أما واللّه لوددت أننا متنا معك ولم نر هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا.
فلما خلا به الحسن (عليه السلام) قال: يا حجر قد سمعت كلامك في مجلس معاوية
ص: 219
وليس كل إنسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم، واللّه تعالى كل يوم هو في شأن، وأنشأ (عليه السلام) لما اضطر إلى البيعة:
أجامل أقواما حياء ولا أرى***قلوبهم تغلي علي مراضها
عن أبي سعيد عقيصا قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته، فقال الحسن (عليه السلام) : «ويحكم ما تدرون ما عملتُ، واللّه الذي عملتُ خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) علي؟» قالوا: بلى، قال: «أو ما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران (عليه السلام) إذ أن قد خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند اللّه تعالى ذكره حكمة وصواباً»(1).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: واللّه للذي صنعه الحسن بن علي (عليه السلام) كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، واللّه لقد نزلت هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ} إنما هي طاعة الإمام وطلبوا القتال {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ} مع الحسين (عليه السلام) {قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ}(2)، {نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ}(3) أرادوا تأخير ذلك إلى
ص: 220
القائم (عليه السلام) »(1).
وقد سأل الإمام الحسين (عليه السلام) أخاه الإمام الحسن (عليه السلام) عن سبب الصلح، وذلك لتعليم الآخرين، حيث دخل الحسين (عليه السلام) على أخيه (عليه السلام) باكياً، ثم خرج ضاحكاً، فقال له مواليه: ما هذا؟
قال: العجب من دخولي على إمام أريد أن أعلّمه، فقلت: ماذا دعاك إلى تسليم الخلافة؟
فقال: «الذي دعا أباك فيما تقدم»(2).
لما سار معاوية نحو العراق لمحاربة الإمام الحسن (عليه السلام) وبلغ جسر منبج، تحرك الإمام الحسن (عليه السلام) وبعث حجر بن عدي يأمر العمال بالمسير واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثم خفوا، ومعه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين.
فسار حتى أتى حمام عمر، ثم أخذ على دير كعب فنزل ساباط دون القنطرة وبات هناك، فلما أصبح أراد (عليه السلام) أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له ليتميز بذلك أولياؤه من أعدائه ويكون على بصيرة من لقاء معاوية وأهل الشام،
ص: 221
فأمر أن ينادي في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا فصعد المنبر فخطبهم فقال: «الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا اللّه كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً، وائتمنه على الوحي (صلی الله عليه وآله وسلم) .
أما بعد: فإني واللّه لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه ومنّه وأنا أنصح خلق اللّه لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ولا مريدا له بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا علي رأيي، غفر اللّه لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا».
قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنه واللّه يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقالوا: كفر واللّه الرجل! ثم شدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد اللّه بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلداً بالسيف بغير رداء.
ثم دعا (عليه السلام) بفرسه وركبه وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أراده، فقال: «ادعوا ليّ ربيعة وهمدان» فدعوا له فأطافوا به ودفعوا الناس عنه (عليه السلام) .
وسار ومعه شوب من غيرهم، فلما مرّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له: الجراح بن سنان وأخذ بلجام بغلته وبيده مغول: وقال اللّه أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ثم طعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم، ثم اعتنقه الحسن (عليه السلام) وخرا جميعا إلى الأرض فوثب إليه رجل من شيعة الحسن (عليه السلام) يقال له: عبد اللّه بن خطل الطائي فانتزع المغول من يده وخضخض
ص: 222
به جوفه فهلك من ذلك، وأخذ آخر كان معه فقتل.
وحمل الحسن (عليه السلام) على سرير إلى المدائن فأنزل به على سعد بن مسعود الثقفي وكان عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) بها فأقره الحسن (عليه السلام) على ذلك.. واشتغل الحسن (عليه السلام) بنفسه يعالج جرحه.
وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالسمع والطاعة له في السر واستحثوه على المسير نحوهم وضمنوا له تسليم الحسن (عليه السلام) إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به، وبلغ الحسن (عليه السلام) ذلك.
وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيد اللّه بن العباس عند مسيره من الكوفة ليلقى معاوية ويرده عن العراق وجعله أميراً على الجماعة وقال: إن أصبت فالأمير قيس بن سعد فوصل كتاب قيس بن سعد يخبره أنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الحبونية بإزاء مسكن، وأن معاوية أرسل إلى عبيد اللّه بن العباس يرغبه في المصير إليه وضمن له ألف ألف درهم يعجل له منها النصف ويعطيه النصف الآخر عند دخوله إلى الكوفة، فانسل عبيد اللّه في الليل إلى معسكر معاوية في خاصته، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في أمورهم.
فازدادت بصيرة الحسن (عليه السلام) بخذلان القوم له وفساد نيات المحكمة فيه بما أظهروه له من السب والتكفير له واستحلال دمه ونهب أمواله ولم يبق معه من يأمن غوائله إلا خاصة من شيعة أبيه وشيعته وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام.
فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطا كثيرة وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسن (عليه السلام)
ص: 223
وعلم باحتياله بذلك واغتياله غير أنه لم يجد بُداً من إجابته إلى ما التمس منه من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة لما كان عليه أصحابه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه ومصيره إلى عدوه وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة.
فتوثق (عليه السلام) لنفسه من معاوية لتوكيد الحجة عليه والإعذار فيما بينه وبينه عند اللّه تعالى وعند كافة المسلمين واشترط عليه ترك سب أمير المؤمنين (عليه السلام) والعدول عن القنوت عليه في الصلوات وأن يؤمن شيعته رضي اللّه عنهم ولايتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق حقه. فأجابه معاوية إلى ذلك كله وعاهد عليه وحلف له بالوفاء له.
فلما استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فصلى بالناس ضحى النار فخطبهم وقال في خطبته:
(إني واللّه ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشي ء منها له).
ثم سار معاوية حتى دخل الكوفة فأقام بها أياماً فلما استتمت البيعة له من أهلها صعد المنبر فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) ونال منه ونال من الحسن (عليه السلام) ما نال وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) حاضرين فقام الحسين (عليه السلام) ليرد عليه فأخذ بيده الحسن (عليه السلام) فأجلسه، ثم قام فقال:
أيها الذاكر علياً أنا الحسن وأبي علي وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك
ص: 224
قتيلة، فلعن اللّه أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرّنا قدماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً.
فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين(1).
ص: 225
23
روي أنه لما سار معاوية قاصداً إلى العراق وبلغ جسر منبج نادى المنادي: الصلاة جامعة، فلما اجتمعوا خرج الإمام الحسن (عليه السلام) فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فإن اللّه كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: {اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك فاخرجوا رحمكم اللّه إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون.
قال: وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له.
قال: فسكتوا فما تكلم منهم أحد ولا أجابه بحرف، فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال: أنا ابن حاتم سبحان اللّه ما أقبح هذا المقام؟ ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب أما تخافون مقت اللّه ولا عيبها وعارها.
ثم استقبل الحسن (عليه السلام) بوجهه فقال: أصاب اللّه بك المراشد وجنبك المكاره
ص: 226
ووفقك لما يحمد ورده وصدره وقد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت وهذا وجهي إلى معسكري فمن أحب أن يوافي فليواف.
ثم مضى لوجهه فخرج من المسجد ودابته بالباب فركبها ومضى إلى النخيلة وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه فكان عدي أول الناس عسكراً.
ثم قام قيس بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة التيمي فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم وكلموا الحسن (عليه السلام) بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول.
فقال لهم الحسن (عليه السلام) : صدقتم رحمكم اللّه ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة فجزاكم اللّه خيرا.
ثم نزل وخرج الناس وعسكروا ونشطوا للخروج وخرج الحسن (عليه السلام) إلى المعسكر واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس على اللحوق إليه وسار الحسن (عليه السلام) في عسكر عظيم حتى نزل دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس.
ثم دعا عبيد اللّه بن العباس فقال له: يا ابن عم إني باعث معك اثني عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر الرجل منهم يزيد الكتيبة فسر بهم وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين (عليه السلام) وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصير إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيكا وليكن خبرك عندي كل يوم وشاور هذين يعني: قيس بن سعد وسعيد بن قيس وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل
ص: 227
فقاتله فإن أصبت فقيس بن سعد على الناس فإن أصيب فسعيد بن قيس على الناس ثم أمره بما أراد.
فسار عبيد اللّه حتى انتهى إلى شينور حتى خرج إلى شاهي ثم لزم الفرات والفلوجة حتى أتى مسكن، وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة..
أما معاوية فإنه وافى حتى نزل في قرية يقال له الحيوضية بمسكن، وأقبل عبيد اللّه بن العباس حتى نزل بإزائه فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيد اللّه بن العباس فيمن معه فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم، فلما كان الليل ارسل معاوية إلى عبيد اللّه أن الحسن قد راسلني في الصلح وهو مسلم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا وإلا دخلت وأنت تابع ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر.
فانسل عبيد اللّه ليلاً فدخل عسكر معاوية فوفى له بما وعده وأصبح الناس ينتظرونه أن يخرج فيصلي بهم فلم يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطبهم فثبتهم وذكر عبيد اللّه فنال منه ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو فأجابوه بالطاعة وقالوا له: انهض بنا إلى عدونا على اسم اللّه فنهض بهم.
وخرج إليهم بسر بن أرطاة في عشرين ألفاً فصاحوا بهم: هذا أميركم عندنا قد بايع وإمامكم الحسن قد صالح فعلام تقتلون أنفسكم.
فقال لهم قيس بن سعد اختاروا إحدى اثنتين: إما القتال مع غير إمام وإما أن تبايعوا بيعة ضلال، قالوا بل نقاتل بلا إمام فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى
ص: 228
ردوهم إلى مصافهم.
وكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنيه فكتب إليه قيس: لا واللّه لا تلقاني أبدا إلا بيني وبينك الرمح.
فكتب إليه معاوية لما يئس منه: أما بعد فإنك يهودي ابن يهودي تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وعزلك، وإن ظهر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ورمى غير غرضه فأكثر الحز وأخطأ المفصل فخذله قومه وأدركه يومه فمات بحوران طريدا غريبا والسلام.
فكتب إليه قيس بن سعد رحمه اللّه: أما بعد فإنما أنت وثن ابن وثن من هذه الأوثان دخلت في الإسلام كرها وأقمت فيه فرقا وخرجت منه طوعا ولم يجعل اللّه لك فيه نصيبا لم يقدم إسلامك ولم يحدث نفاقك ولم تزل حربا لله ولرسوله وحزبا من أحزاب المشركين فأنت عدو اللّه ورسوله والمؤمنين من عباده.
وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه ولا رمى إلا غرضه فشغب عليه من لا يشق غباره ولا يبلغ كعبه وزعمت أني يهودي ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس إني وأبي من أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام.
فلما قرأ معاوية كتابه غاظه وأراد إجابته فقال له عمرو: مهلا فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس فأمسك عنه.
وبعث معاوية عبد اللّه بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن (عليه السلام) للصلح فدعواه إليه وزهداه في الأمر وأعطياه ما شرط له معاوية وأن لا يتبع أحد بما مضى ولا ينال أحد من شيعة علي بمكروه ولا يذكر علي إلا بخير وأشياء
ص: 229
اشترطها الحسن فأجاب إلى ذلك.
وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة(1).
روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن الشيخ محمد بن بحر الشيباني في كتابه المعروف بكتاب (الفروق بين الأباطيل والحقوق) قال:
بايع الحسن بن علي صلوات اللّه عليه معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين، ولايقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي شيئاً - ويؤمنهم ولايتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق منهم حقه - وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد(2) من بلاد فارس(3).
وكان فيما شرطه أن يترك معاوية سب أمير المؤمنين (عليه السلام) والقنوت عليه في الصلاة.
وعاهد معاوية الحسن على ما تم بينهما من الشروط وحلف له بالوفاء وكتب بينه وبينه بذلك كتابا ثم لم يفِ له بشي ء مما عاهده عليه.
قال ابن الأثير: (إنه لم يجبه إلى الكف عن شتم علي فطلب أن لا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضاً)(4).
وكان الإمام الحسن (عليه السلام) قد شرط على معاوية في شروط الصلح أن لا يعهد
ص: 230
إلى أحد بالخلافة بعده وأن تكون الخلافة له من بعده.
وكان كتاب الصلح والمهادنة بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية، على ما ذكره ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة كالتالي:
(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد الى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.
وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.
وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا.
وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد اللّه وميثاقه، وما اخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء وبما أعطى اللّه من نفسه.
وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين غائلة ولا لأحد من بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) غائلة سوء سراً وجهراً.
ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
شهد عليه بذلك فلان وفلان وكفى باللّه شهيداً)(1).
أقول: قوله: (يسلم إليه أمر المسلمين) ليس بمعنى القبول بولايته، بل بمعنى
ص: 231
أنه (عليه السلام) يترك الحرب ضده، وهذا لا يعني إعطاء شرعية لمعاوية أبداً، كما أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) صالح المشركين في الحديبية ولم يكن ذلك إعطاء الشرعية لهم.
ثم إن الصلح كان مشروطاً بشروط لم يف معاوية بها أبداً، فلا إقرار له مع مخالفة الشروط.
ولا يخفى أن هذا الكتاب يدل على أن مدى ظلم معاوية ومخالفته لكتاب اللّه وسنة نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث اشترط الإمام (عليه السلام) عليه بالعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله، وإلا فلم تكن حاجة لاشتراط ذلك.
كما يدل الكتاب على أن عموم الناس في عهد معاوية كانوا غير آمنين من ظلم معاوية في مختلف البلاد الإسلامية حتى في الشام، وخاصة شيعة علي (عليه السلام) .
وأن معاوية كان يبغي الحسن والحسين وسائر أهل البيت (عليهم السلام) سراً وجهراً وكان يخيفهم في الآفاق، وبذلك تمكن الإمام الحسن (عليه السلام) من أن يفضح معاوية للتاريخ وخاصة بعد نقضه لشروط الصلح.
وقال أيضاً في خطبته: (إني واللّه ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون(1).
ألا وإني كنت منيّت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشي ء منها له!)(2).
وفي المقابل كان الإمام الحسن (عليه السلام) وفياً بعهده، قال المسيب بن نجبة الفزاري وسليمان بن صرد الخزاعي للحسن بن علي (عليه السلام) : ما ينقضي تعجبنا منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز؟
فقال الحسن (عليه السلام) : «قد كان ذلك فما ترى الآن؟» فقال: واللّه أرى أن ترجع لأنه نقض، فقال: «يا مسيب إن الغدر لا خير فيه ولو أردت لما فعلت»(3).
وأقام الإمام الحسن (عليه السلام) - بعد الصلح - بالكوفة أياماً ثم تجهز للشخوص إلى المدينة، فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه، فقال (عليه السلام) : «الحمد لله الغالب على أمره، لو جمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا».. فعرض له المسيب وظبيان بالرجوع - والبقاء في الكوفة - فقال (عليه السلام) : «ليس إلى ذلك سبيل» فلما كان من غد خرج - وتوجه إلى
ص: 233
المدينة هو وأخوه الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وحشمهم، وجعل الناس يبكون عند مسيرهم - من الكوفة، فلما صار بدير هند(1)
نظر إلى الكوفة وقال:
ولا عن قلى فارقت دار معاشري***هم المانعون حوزتي وذماري(2)
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : (خرج الحسن (عليه السلام) إلى المدينة فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً منزله، منتظراً لأمر ربه جلّ اسمه)(3).
سبق أن الإمام الحسن (عليه السلام) لم يبايع معاوية، بل هادنه وصالحه وعاهده على عدم القتال، ولم يقرّ له بالإمامة والخلافة لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أبداًً.
بل إذا ادعى معاوية ذلك احتج الإمام الحسن (عليه السلام) عليه.
فالصلح مع معاوية لم يكن بمعنى تسليم الأمر له والإقرار به، بل كان كفاً عن المحاربة والمغالبة وذلك لفقد الأعوان والأنصار وتلاقي الفتنة كما سبق.
وكلام الإمام (عليه السلام) وخطبه المشهورة كلها تدل على عدم رضاه بمعاوية وأن الأمر له (عليه السلام) وهو أحق الناس به وإنما كف عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين والمؤمنين.
عن سليم بن قيس قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنبر حين اجتمع مع معاوية، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إن معاوية زعم:
ص: 234
أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب اللّه وعلى لسان نبي اللّه، فأقسم باللّه لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية، وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : ما ولّت أمة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ملة عبدة العجل.
وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أن هارون خليفة موسى (عليهما السلام) وقد تركت الأمة علياً (عليه السلام) وقد سمعوا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبي بعدي» وقد هرب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من قومه وهو يدعوهم إلى اللّه حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعوانا ما هرب منهم، ولو وجدتُ أنا أعواناً ما بايعتك(1) يا معاوية.
وقد جعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً، وقد جعل اللّه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في سعة حين فرّ من قومه لما لم يجد أعوانا عليهم، وكذلك أنا وأبي في سعة من اللّه حين تركَتْنا الأمة وبايعَت غيرنا ولم نجد أعواناً، وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً(2)، أيها الناس إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلاً من ولد نبي غيري وغير أخي»(3).
ص: 235
وروي أن الإمام الحسن (عليه السلام) لما طالبه معاوية بأن يتكلم على الناس، ويعلمهم ما عنده في هذا الباب، قام (عليه السلام) فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ثم قال:
«إن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابرس رجلاً جدّه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين، وإن اللّه قد هداكم بأولنا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وإن معاوية نازعني حقاً هو لي، فتركته لصلاح الأمة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وقد رأيت أن أسالمه ورأيت أن ما حقن الدماء خير مما سفكها، وأردت صلاحكم وأن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(1)»(2).
ثم إن بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) لم يبايعوا معاوية بل تركوا القتال فرضي منهم بذلك، كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري(3) صاحب شرطة الخميس، فكيف بالإمام (عليه السلام) .
ص: 236
قال أبو الفرج: (وقد روي أن الحسن (عليه السلام) لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف وأبى أن يبايع، فلما بايع الحسن(1) أدخل قيس ليبايع، قال أبو مخنف في حديثه: فأقبل على الحسن (عليه السلام) فقال: أنا في حلّ من بيعتك؟ قال: نعم، فألقي لقيس كرسي وجلس معاوية على سريره فقال له معاوية: أتبايع يا قيس؟ قال: نعم، فوضع قيس يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية، فجثا معاوية على سريره وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع قيس إليه يده)(2).
أقول: كأن قيس تعلّم ذلك من علي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث لم يبايع أبا بكر بل لم يمدّ يده إليه، وإنما ضرب أبو بكر يده على يد علي (عليه السلام) ورضي بذلك(3).
وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) لم يبايع معاوية، روي أن معاوية طلب البيعة من الحسين (عليه السلام) فقال الحسن (عليه السلام) : «يا معاوية لا تكرهه فإنه لن يبايع أبداً أو يقتل، ولن يُقتل حتى يُقتل أهل بيته، ولن يُقتل أهل بيته حتى يقتل أهل الشام»(4). وهكذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) .. لم يبايع معاوية بل صالحه، كما صالح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) المشركين ولم يبايعهم.
عن أبي عمر زاذان قال: لما وادع الحسن بن علي (عليه السلام) معاوية صعد معاوية
ص: 237
المنبر وجمع الناس فخطبهم وقال: إن الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً! ولم ير نفسه لها أهلا! وكان الحسن (عليه السلام) أسفل منه بمرقاة، فلما فرغ من كلامه قام الحسن (عليه السلام) فحمد اللّه تعالى بما هو أهله، ثم ذكر المباهلة فقال: «فجاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من الأنفس بأبي، ومن الأبناء بي وبأخي، ومن النساء بأمي، وكنا أهله ونحن آله، وهو منا ونحن منه.
ولما نزلت آية التطهير جمعنا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في كساء لأم سلمة (رضي اللّه عنها) خيبري، ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فلم يكن أحد في الكساء غيري وأخي وأبي وأمي، ولم يكن أحد يجنب في المسجد ويولد له فيه إلاّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأبي، تكرمة من اللّه تعالى لنا وتفضيلاً منه لنا.
وقد رأيتم مكان منزلنا من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمر بسدّ الأبواب فسدّها وترك بابنا، فقيل له في ذلك فقال: أما إني لم أسدها وأفتح بابه، ولكن اللّه عزّ وجل أمرني أن أسدها وأفتح بابه.
وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً! فكذب معاوية، نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض اللّه تعالى نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاللّه بيننا وبين من ظلمنا حقنا، وتوثب على رقابنا وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء، ومنع اُمّنا ما جعل لها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
وأقسم باللّه لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، وما طمعت فيها يا معاوية، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها، فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء: أنت وأصحابك،
ص: 238
وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : إما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا، وقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى (عليهم السلام) فيهم واتبعوا السامري، وقد تركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة، وقد رأوا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نصب أبي يوم غدير خم وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، وقد هرب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من قومه وهو يدعوهم إلى اللّه تعالى حتى دخل الغار ولو وجد أعواناً ما هرب، وقد كفّ أبي يده حين ناشدهم واستغاث فلم يغث، فجعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل اللّه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً، وكذلك أبي وأنا في سعة من اللّه حين خذلتنا هذه الأمة وبايعوك يا معاوية، وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً»(1).
ص: 239
24
إن معاوية خالف جميع البنود التي صالح بها الإمام الحسن (عليه السلام) ، وقد تمكن الإمام (عليه السلام) أن يفضح معاوية أمام الناس، ويسلب منه الشرعية التي كان يدعيها.
فقد نادى منادي معاوية: أن برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وفضل أهل بيته.
وفي التاريخ: أنه كان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد ابن أبيه وضم إليه العراقين: الكوفة والبصرة فجعل يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، حتى نفوا عن العراق، فلم يبق بها أحد معروف مشهور فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد.
وكتب معاوية إلى جميع عماله في الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ومحبي أهل بيته وأهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه باسمه واسم أبيه وقبيلته، ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطائع من
ص: 240
العرب والموالي فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في الأموال والدنيا، فليس أحد يجيء من مصر من الأنصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلاّ كتب اسمه وأجيز فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.
ثم كتب معاوية إلى عمّاله: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه، فإن ذلك أحبّ إلينا وأقر لأعيننا وأدحض لحجة أهل هذا البيت وأشد عليهم.
فقرأ كل أمير وقاض كتابه على الناس، فأخذ الناس في الروايات في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة وكل مسجد زوراً، وألقوا ذلك إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا ذلك صبيانهم كما يعلمونهم القرآن حتى علّموه بناتهم ونساءهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.
وكتب زياد ابن أبيه إليه في حق الحضرميين: إنهم على دين علي وعلى رأيه فكتب إليه معاوية: اقتل كل من كان على دين علي ورأيه فقتلهم ومثّل بهم.
وكتب كتاباً آخر: انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهمتموه بحبه فاقتلوه، وإن لم تقم عليه البينة فاقتلوه على التهمة والظنة والشبهة تحت كل حجر.
حتى لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه، حتى كان الرجل يرمى بالزندقة والكفر كان يكرم ويعظم ولا يتعرض له بمكروه والرجل من الشيعة لا يأمن على نفسه في بلد من البلدان لا سيما الكوفة والبصرة، حتى لو أن أحدا منهم أراد أن يلقي سراً إلى من يثق به لأتاه في بيته فيخاف خادمه ومملوكه فلا يحدثه إلاّ بعد أن يأخذ عليهم الأيمان المغلظة: ليكتمن عليه، ثم لا يزداد الأمر إلاّ شدة حتى كثر وظهر أحاديثهم الكاذبة ونشأ عليه الصبيان يتعلمون ذلك.
وكان أشد الناس في ذلك القرّاء المراءون المتصنعون الذين يظهرون الخشوع
ص: 241
والورع، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولدوها فيحظون بذلك عند الولاة والقضاة ويدنون مجالسهم ويصيبون بذلك الأموال والقطائع والمنازل حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقا وصدقاً فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها وأحبوا عليها وأبغضوا من ردها أو شك فيها، فاجتمعت على ذلك جماعتهم وصارت في يد المتنسكين والمتدينين منهم الذين لا يحبون الافتعال إلى مثلها فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا بطلانها وتيقنوا أنها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها ولم يدينوا بها ولم يبغضوا من خالفها، فصار الحق في ذلك الزمان عندهم باطلاً والباطل عندهم حقاً والكذب صدقاً والصدق كذباً.
فلما مات الحسن بن علي (عليه السلام) ازداد البلاء والفتنة، فلم يبق لله ولي إلاّ خائف على نفسه أو مقتول أو طريد أو شريد(1).
ص: 242
25
قام معاوية وبنو أمية ببث التهم ضد الإمام الحسن (عليه السلام) فقالوا ضمن ما قالوه: إنه (عليه السلام) تزوج بأكثر من مائتي امرأة! وأنه مطلاق، وأن علياً (عليه السلام) كان يقول: لا تنكحوه!.
وكل ذلك من الأكاذيب.
أما ما ورد من ذلك في بعض كتبنا فإنه تقية(1) أو ما أشبه.
وقد اختلفوا في أكاذيبهم، فقال بعضهم: تزوج سبعيناً(2)..
وقال بعضهم: تزوج مائتين وخمسين(3)..
وقال بعضهم: ثلاثمائة(4)..
ص: 243
وقال بعضهم غير ذلك.
ومما يدل أيضاً على عدم صحة هذه الاتهامات: أن أكثر من قال في أولاد الإمام الحسن (عليه السلام) قال: إنهم ستة عشر(1)،
أما الباقون فقالوا: أقل(2).
فإذا كان له ثلاثمائة زوجة كان له ثلاثمائة ولد، وربما أكثر لأن كل زوجة عادة تلد أكثر من واحد.
ص: 244
26
توفي الإمام الحسن (عليه السلام) مسموماً شهيداً في المدينة المنورة، يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر صفر، وروي: في السابع منه، سنة خمسين من الهجرة.
وكان ذلك بسمّ بعثه معاوية فدُسّ إلى الإمام (عليه السلام) .
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قبض الحسن بن علي وهو ابن سبع وأربعين سنة في عام خمسين، عاش بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أربعين سنة»(1).
روى ابن الخشاب البغدادي(2) باسناده عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا: «مضى أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) وهو ابن سبع وأربعين سنة، وكان بين أبي محمد الحسن (عليه السلام) وأبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) مدة الحمل، وكان حمل أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) ستة أشهر، ولم يولد مولود قط لستة أشهر فعاش غير الحسين (عليه السلام) وعيسى ابن مريم (عليه السلام) ».
ثم قال ابن الخشاب: (فأقام أبو محمد (عليه السلام) مع جدّه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سبع سنين، وأقام مع أبيه بعد وفاة جدّه ثلاثين سنة، وأقام بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام)
ص: 245
عشر سنين، فكان عمره سبعاً وأربعين سنة)(1).
وعن ابن عباس قال: (أول ذل دخل على العرب موت الحسن (عليه السلام) )(2).
وفي (مقاتل الطالبيين) قيل لأبي إسحاق: متى ذل الناس؟ قال: حيث مات الحسن وادعي زياد وقُتل حجر بن عدي(3).
عن ابن عباس قال: إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السلام) فلما رآه بكى، ثم قال: «إليّ يا بني» فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، وساق الحديث إلى أن قال: قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «وأما الحسن فإنه ابني وولدي، ومني، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة اللّه على الأمة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنه مني، ومن عصاه فليس مني، وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي، فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسم ظلماً وعدواناً»(4).
روى الفريقان أن معاوية هو الذي قتل الإمام الحسن (عليه السلام) ..
حيث بعث معاوية إلى جُعدة بنت الأشعث زوجة الإمام (عليه السلام) سمّاً وأرسل لها مائة ألف درهم، وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد إن قتلت الإمام الحسن (عليه السلام) ..
ص: 246
وكان ذلك بعد مضي عشر سنين من ملكه.
وروي أن معاوية بذل لجعدة بنت محمد بن الأشعث الكندي وهي ابنة أم فروة أخت أبي بكر بن أبي قحافة عشرة آلاف دينار وأقطاع عشرة ضياع من سقي سورا وسواد الكوفة على أن تسم الحسن (عليه السلام) ، فمرض الإمام (عليه السلام) أربعين يوماً.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين (عليه السلام) (1)، وابنته جعدة سمّت الحسن (عليه السلام) ، وابنه محمد(2) شرك في دم الحسين (عليه السلام) »(3).
ص: 247
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) : «قال الحسن بن علي (عليه السلام) لأهل بيته: إني أموت بالسم كما مات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال له أهل بيته: ومن الذي يسمّك؟ قال: جاريتي أو امرأتي، فقالوا له: أخرجها من ملكك عليها لعنة اللّه، فقال: هيهات من إخراجها ومنيتي على يدها، ما لي منها محيص، ولو أخرجتها ما يقتلني غيرها، كان قضاء مقضياً وأمرا واجباً من اللّه، فما ذهبت الأيام حتى بعث معاوية إلى امرأته قال: فقال الحسن (عليه السلام) : هل عندك من شربة لبن؟ فقالت: نعم وفيه ذلك السم الذي بعث به معاوية، فلما شربه وجد مس السم في جسده، فقال: يا عدوة اللّه قتلتيني قاتلك اللّه، أما واللّه لا تصيبين مني خلفاً، ولا تنالين من الفاسق عدو اللّه اللعين خيراً أبداً»(1).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) : (إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من إمارته وعزم على البيعة لابنه يزيد، فدسّ إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس - وكانت زوجة الحسن (عليه السلام) - من حملها على سمّه، وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد، وأرسل إليها مائة ألف درهم، فسقته جعدة السم، فبقي (عليه السلام) مريضاً أربعين يوماً ومضى (عليه السلام) لسبيله)(2).
وقال الحافظ الجنابذي(3): (وُلد الحسن بن علي (عليه السلام) في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، ومات سنة تسع وأربعين، وكان قد سُقي السم مراراً وكان مرضه أربعين يوماً)(4).
ص: 248
وقال أبو الفرج: (بإسناده عن إسماعيل بن عبد الرحمن.. قال: وانصرف الحسن رضي اللّه عنه إلى المدينة فأقام بها، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شي ء أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص، فدسّ إليهما سماً فماتا منه..
وبإسناده عن مغيرة قال: أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث أني مزوجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن بن علي، وبعث إليها بمائة ألف درهم فقبلت وسمّت الحسن فسوغها المال، ولم يزوّجها منه، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا: يا بني مسمّة الأزواج(1)..
وبإسناده عن أبي بكر بن حفص قال: توفي الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين وكانوا يرون أنه سقاهما سمّاً)(2).
وقال المدائني: (دسّ إليه معاوية سمّاً على يد جعدة بنت الأشعث ابن قيس زوجة الحسن، وقال لها: إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف وأزوّجك يزيد ابني، فلما مات (عليه السلام) وفى - معاوية - لها بالمال ولم يزوّجها من يزيد، وقال: أخشى أن تصنع بابني ما صنعت بابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) )(3).
وقال الطبري في تاريخه كما نقله عنه ابن أبي أصيبعة(4): (إن الحسن بن علي
ص: 249
رضي اللّه عنهما مات مسموماً في أيام معاوية وكان عند معاوية كما قيل دهاء فدس إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس وكانت زوجة الحسن رضي اللّه عنه شربة وقال لها إن قتلت الحسن زوجتك بيزيد، فلما توفي الحسن بعثت إلى معاوية تطلب قوله فقال لها في الجواب أنا أضن بيزيد)(1).
وفي تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي: (قال علماء السير منهم ابن عبد البر: سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي)(2).
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: (وقال قتادة وأبو بكر بن حفص: سُمّ الحسن بن علي، سمّته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي، وقالت طائفة: كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك)(3).
وقال الشعبي: (إنما دسّ إليها معاوية فقال: سمي الحسن وأزوّجك يزيد وأعطيك مائة ألف درهم، فلما مات الحسن بعثت إلى معاوية تطلب إنجاز الوعد فبعث إليها بالمال، وقال: إني أحب يزيد وأرجو حياته لولا ذلك لزوجتك إياه).
وقال الشعبي: (مصداق هذا القول إن الحسن كان يقول عند موته وقد بلغه ما صنعه معاوية لقد عملت شربته وبلغ أمنيته واللّه لا يفي بما وعد ولا يصدق فيما يقول)(4).
وقال سبط ابن الجوزي أيضاً: (وقال ابن سعد في الطبقات: سمّه معاوية مراراً لأنه كان يقدم عليه الشام هو وأخوه الحسين (عليه السلام) )(5).
ص: 250
وذكر يعقوب بن سفيان في تاريخه: (أن جعدة هي التي سمته)(1).
وقال ابن أبي الحديد: روى أبو الحسن المدائني قال: سُقي الحسن (عليه السلام) السم أربع مرات، فقال (عليه السلام) : «لقد سقيته مراراً فما شق علي مثل مشقته هذه المرة»(2).
وقال الشاعر(3) في ذلك:
تعزّ فكم لك من أسوة***تسكن عليك غليل الحزن
بموت النبي وقتل الوصي***وذبح الحسين وسم الحسن(4)
يقول الراوي: كان الإمام الحسن (عليه السلام) يكلمني إذا تنخع الدم، فدعا بطست فحمل من بين يديه ملئ مما خرج من جوفه من الدم، فقلت له: ما هذا يا ابن رسول اللّه إني لأراك وجعاً؟
قال (عليه السلام) : «أجل دسّ إليّ هذا الطاغية من سقاني سمّاً فقد وقع على كبدي وهو يخرج قطعاً كما ترى».
قلت: أفلا تتداوى؟
قال: «قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواءً، ولقد رقي إليّ: أنه كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجه إليه من السم القتّال شربة، فكتب إليه ملك
ص: 251
الروم: أنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا، فكتب إليه أن هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة، وقد خرج يطلب ملك أبيه وأنا أريد أن أدس إليه من يسقيه ذلك فأريح العباد والبلاد منه، ووجه إليه بهدايا وألطاف، فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دسّ بها فسقيتها»(1).
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن الحسن (عليه السلام) قال لأهل بيته: «إني أموت بالسم كما مات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قالوا: ومن يفعل ذلك؟
قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإن معاوية يدسّ إليها ويأمرها بذلك.
قالوا: أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك.
قال: كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً؟ ولو أخرجتها ما قتلني غيرها، وكان لها عذر عند الناس».
فما ذهبت الأيام حتى بعث إليها معاوية مالاً جسيماً، وجعل يمنيّها بأن يعطيها مائة ألف درهم أيضا ويزوّجها من يزيد وحمل إليها شربة سم لتسقيها الحسن (عليه السلام) فانصرف إلى منزله وهو صائم فأخرجت وقت الإفطار وكان يوماً حاراً شربة لبن وقد ألقت فيها ذلك السم، فشربها وقال: عدوة اللّه قتلتيني قتلك اللّه واللّه لا تصيبين مني خلفاً ولقد غرّك وسخر منك، واللّه يخزيك ويخزيه.
فمكث (عليه السلام) يومان ثم مضى، فغدر بها معاوية ولم يفِ لها بما عاهد عليه»(2).
ص: 252
وفي رواية قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «لقد سُقيت السم مراراً ما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلبها بعود معي»(1).
ص: 253
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «ألقيتُ طائفة من كبدي وإني قد سقيتُ السم مراراً، فلم اُسق مثل هذه المرة» يقول الراوي: ثم دخلت عليه من الغد وهو يجود بنفسه والحسين (عليه السلام) عند رأسه فقال: «يا أخي من تتهم»؟ قال: «لمَ تسأله؟ لتقتله» قال: «نعم» قال: «إن يكن الذي أظن فإنه أشد بأساً وأشد تنكيلاً، وإلاّ يكن فما أحب أن يقتل بي بريء» ثم قضي (عليه السلام) (1).
أقول: الإمام (عليه السلام) كان يعلم بقاتله، ولكن هذا تأكيد على عدم إراقة الدماء.
وقيل(2): لما حضر الحسن بن علي (عليه السلام) الموت قال: «أخرجوني إلى الصحراء لعلّي أنظر في ملكوت السماء» يعني الآيات، فلما أخرج به قال: «اللّهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس عليّ، وكان له مما صنع اللّه له أنه أحتسب نفسه»(3).
وعن جنادة بن أبي أمية قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ص: 254
في مرضه الذي توفي فيه، وبين يديه طست يقذف عليه الدم، ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي أسقاه معاوية، فقلت: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟ فقال: يا عبد اللّه بما ذا أعالج الموت؟ قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم التفت إليّ فقال: «واللّه لقد عهد إلينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلاّ مسموم أو مقتول».
ثم رفعت الطست واتكئ صلوات اللّه عليه.
قال: فقلت له: عظني يا ابن رسول اللّه.
قال (عليه السلام) : «نعم، استعد لسفرك وحصل زادك قبل حلول أجلك..»، قال: ثم انقطع نفسه واصفر لونه حتى خشيت عليه ودخل الحسين (عليه السلام) والأسود بن أبي الأسود، فانكب عليه حتى قبل رأسه وعينيه ثم قعد عنده فتسارا جميعاً، فقال أبو الأسود(1):
إنا لله، إن الحسن قد نعيت إليه نفسه، وقد أوصى إلى الحسين (عليه السلام) وتوفي يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبع وأربعون سنة ودفن بالبقيع(2).
روي أن الإمام الحسن (عليه السلام) لما دنت وفاته ونفدت أيامه وجرى السم في بدنه تغير لونه واخضر، فقال له الحسين (عليه السلام) : «ما لي أرى لونك مائلاً إلى الخضرة»؟ فبكى الحسن (عليه السلام) وقال: «يا أخي لقد صحّ حديث جدي فيّ وفيك» ثم اعتنقه طويلا وبكيا كثيراً.
ص: 255
فسُئل (عليه السلام) عن ذلك فقال: «أخبرني جدي قال: لما دخلت ليلة المعراج روضات الجنان ومررت على منازل أهل الإيمان رأيت قصرين عاليين متجاورين على صفة واحدة، ألا إن أحدهما من الزبرجد الأخضر، والآخر من الياقوت الأحمر، فقلت: يا جبرئيل لمن هذان القصران؟ فقال: أحدهما للحسن والآخر للحسين (عليهما السلام) ، فقلت: يا جبرئيل فلِمَ لَمْ يكونا على لون واحد؟ فسكت ولم يرد جواباً فقلت: لم لا تتكلم؟ قال: حياءً منك، فقلت له: سألتك باللّه إلاّ ما أخبرتني، فقال: أما خضرة قصر الحسن (عليه السلام) فإنه يموت بالسم ويخضر لونه عند موته، وأما حمرة قصر الحسين (عليه السلام) فإنه يُقتل ويحمر وجهه بالدم، فعند ذلك بكيا وضجّ الحاضرون بالبكاء والنحيب»(1).
حكي أن الإمام الحسن (عليه السلام) لما أشرف على الموت قال له الإمام الحسين (عليه السلام) : أريد أن أعلم حالك يا أخي؟ فقال له الحسن: سمعت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: لا يفارق العقل منا أهل البيت ما دام الروح فينا، فضع يدك في يدي حتى إذا عاينت ملك الموت، أغمز يدك فوضع يده في يده، فلما كان بعد ساعة غمز يده غمزاً خفيفاً فقرّب الحسين (عليه السلام) أذنه إلى فمه فقال: قال لي ملك الموت: أبشر فإن اللّه عنك راض وجدّك شافع(2).
لما سُقي الإمام الحسن (عليه السلام) السمّ قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله
ص: 256
على لقاء محمد سيد المرسلين، وأبي سيد الوصيين، وأمي سيدة نساء العالمين، وعمي جعفر الطيار في الجنة، وحمزة سيد الشهداء، صلوات اللّه عليهم أجمعين».
ودخل عليه أخوه الحسين (صلوات اللّه عليه) فقال: «كيف تجد نفسك»؟
قال: «أنا في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، على كره مني لفراقك وفراق إخوتي» ثم قال: «أستغفر اللّه على محبة مني للقاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين وفاطمة وجعفر وحمزة (عليهم السلام) ». ثم أوصى إليه وسلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء (عليهم السلام) التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) سلّمها إليه.
ثم قال: «يا أخي إذا أنا متّ فغسّلني وحنّطني وكفّني واحملني إلى جدي (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى تلحدني إلى جانبه، فإن منعت من ذلك فبحق جدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأبيك أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمك فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن لا تخاصم أحداً، واردد جنازتي من فورك إلى البقيع حتى تدفني مع أمي (عليها السلام) »(1).
عن ابن عباس قال: دخل الحسين بن علي (عليه السلام) على أخيه الحسن بن علي (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه، فقال له: «كيف تجدك يا أخي»؟ قال: «أجدني في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا».. ثم قال:
«ولكن اكتب يا أخي: هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين بن علي، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأنه يعبده حق عبادته، لا شريك له في الملك، ولا ولي له من الذل، وأنه خلق كل شيء فقدّره
ص: 257
تقديراً، وأنه أولى من عبد، وأحق من حمد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى.
فإني أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنني مع جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فإني أحق به وببيته ممن أُدخل بيته بغير إذنه، ولا كتاب جاءهم من بعده، قال اللّه تعالى فيما أنزله على نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) في كتابه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}(1) فو اللّه ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته، ونحن مأذون لنا في التصرف فيما ورثناه من بعده، فإن أبت عليك المرأة فأنشدك اللّه بالقرابة التي قرب اللّه عزّ وجل منك، والرحم الماسة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن لاتهريق فيّ محجمة من دم حتى نلقى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فنختصم إليه، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده. ثم قُبض»(2).
تولى الإمام الحسين (عليه السلام) غسل الإمام الحسن (عليه السلام) وتكفينه ودفنه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ، وذلك كما أوصاه الحسن (عليه السلام) (3).
ص: 258
وقد صلّى على الإمام الحسن (عليه السلام) أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) ، أما ما ذكره البعض من أن سعيد بن العاص أمير المدينة صلّى عليه فغير صحيح(1).
ص: 259
28
قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أول امرأة ركبت البغل بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عائشة، جاءت إلى المسجد فمنعت أن يدفن الحسن بن علي (عليه السلام) مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).
وروي أن الصادق (عليه السلام) قال: «لما حضرت الحسن بن علي (عليه السلام) الوفاة بكى بكاءً شديداً وقال: إني أقدم على أمر عظيم وهول لم أقدم على مثله قط، ثم أوصى أن يدفنوه بالبقيع.
فقال: يا أخي احملني على سريري إلى قبر جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لأجدد به عهدي ثم ردني إلى قبر جدتي فاطمة بنت أسد (عليها السلام) فادفني هناك، فستعلم يا ابن أم إن القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيُجلبون في منعكم، وباللّه أقسم عليك أن لا تهرق في أمري محجمة دم.
فلما غسّله وكفّنه الحسين (عليه السلام) حمله على سريره، وتوجه به إلى قبر جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليجدد به عهداً، أتى مروان بن الحكم ومن معه من بني أمية(2).
ص: 260
فقال: أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يكون ذلك أبداً.
ولحقت عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم يا بني هاشم، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب!!
فقال ابن عباس لمروان: لا نريد دفن صاحبنا عند رسول اللّه فإنه كان أعلم وأعرف بحرمة قبر جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من أن يطرق عليه هدماً، كما يطرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه، انصرف فنحن ندفنه بالبقيع كما وصى.
ثم قال لعائشة: وا سوأتاه يوما على بغل ويوما على جمل، وفي رواية: يوماً تجمّلت ويوماً تبغّلت وإن عشت تفيّلت.
فأخذه ابن الحجاج الشاعر البغدادي(1) فقال:
ص: 261
يا بنت أبي بكر***لا كان ولا كنت
لك التُسع من الثُمن***وبالكل تملكت
تجملت تبغلت***وإن عشت تفيلت(1) وقال ابن عباس: دعاني الحسين بن علي (عليه السلام) وعبد اللّه بن جعفر وعلي بن عبد اللّه بن العباس(2).
فقال (عليه السلام) : «اغسلوا ابن عمكم»(3) فغسلناه وحنطناه وألبسناه أكفانه، ثم خرجنا به حتى صلينا عليه في المسجد، وإن الحسين (عليه السلام) أمر أن يفتح البيت، فحال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي سفيان ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان وقالوا: يدفن الأمير - عثمان - الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشرّ مكان، ويدفن الحسن مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا وتنقصف الرماح وينفد النبل.
فقال الحسين (عليه السلام) : «أما واللّه الذي حرّم مكة، لَلحسن بن علي وابن فاطمة أحق برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه، وهو واللّه أحق به من
ص: 262
حمّال الخطايا مسيّر أبي ذر رحمه اللّه، الفاعل بعمار ما فعل، وبعبد اللّه ما صنع، الحامي الحمى، المؤوي لطريد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لكنكم صرتم بعده الأمراء وتابعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء».
قال: فحملناه فأتينا به قبر أمه فاطمة (عليها السلام) (1) فدفناه إلى جنبها»(2).
وهذا ما رواه أبناء العامة أيضا(3):
ص: 263
ص: 264
قال ابن عباس: وكنت أول من انصرف فسمعت اللغط وخفت أن يعجل
ص: 265
الحسين على من قد أقبل، ورأيت شخصاً علمت الشر فيه، فأقبلت مبادراً فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحل تقدمهم وتأمرهم بالقتال، فلما رأتني قالت: إليّ إليّ يا ابن عباس لقد اجترأتم عليّ في الدنيا تؤذونني مرة بعد أخرى، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحب!
فقلت: وا سوأتاه يوم على بغل، ويوم على جمل، تريدين أن تطفئي فيه نور اللّه، وتقاتلي أولياء اللّه، وتحولي بين رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبين حبيبه أن يدفن معه، ارجعي فقد كفى اللّه تعالى المئونة، ودفن الحسن (عليه السلام) إلى جنب أمه، فلم يزدد من اللّه تعالى إلاّ قرباً، وما ازددتم منه واللّه إلاّ بُعداً، يا سوأتاه! انصرفي فقد رأيت ما سرّك.
قال: فقطبت في وجهي ونادت بأعلى صوتها: أما نسيتم الجمل يا ابن عباس، إنكم لذوو أحقاد.
فقلت: أم واللّه ما نسيته أهل السماء، فكيف ينساه أهل الأرض، فانصرفت وهي تقول:
فألقت عصاها فاستقرت بها النوى***كما قرّ عيناً بالإياب المسافر(1)
لما فرغ الإمام الحسين (عليه السلام) من شأن الإمام الحسن (عليه السلام) وحمله ليدفنه مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ركب مروان بن الحكم طريد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بغلة وأتى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين إن الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واللّه إن دُفن معه ليذهبن فخر أبيك وصاحبه عمر إلى يوم القيامة، قالت: فما أصنع يا
ص: 266
مروان؟ قال: الحقي به وامنعيه من أن يُدفن معه، قالت: وكيف ألحقه؟ قال: اركبي بغلتي هذه، فنزل عن بغلته وركبتها وكانت تثور الناس وبني أمية على الحسين (عليه السلام) وتحرضهم على منعه مما همّ به، فلما قربت من قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكانت قد وصلت جنازة الحسن فرمت بنفسها عن البغلة وقالت: واللّه لايدفن الحسن هاهنا أبداً أو تجز هذه، وأومت بيدها إلى شعرها، فأراد بنو هاشم المجادلة فقال الحسين (عليه السلام) : «اللّه اللّه لا تضيعوا وصية أخي واعدلوا به إلى البقيع فإنه أقسم عليّ إن أنا مُنعت من دفنه مع جده (صلی الله عليه وآله وسلم) أن لا أخاصم فيه أحداً وأن أدفنه بالبقيع مع أمه (عليها السلام) » فعدلوا به ودفنوه بالبقيع معها (عليها السلام) (1).
ثم إن القوم لم يكتفوا بمنع الجنازة أن تدفن بجوار جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بل رموها بالنبال حتى سلّ منها سبعون نبلاً(2).
ويبدو أنه كانت هناك خطة أموية خبيثة لجرجرة الوضع إلى الحرب(3)، ولكن حكمة الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) منعتهم من ذلك.
قال الإمام الحسن (عليه السلام) في وصاياه الأخيرة للإمام الحسين (عليه السلام) : «يا أخي، إنني
ص: 267
مفارقك ولاحق بربي، وقد سقيت السم ورميت بكبدي في الطست، وإنني لعارف بمن سقاني، ومن أين دهيت، وأنا أخاصمه إلى اللّه عزّ وجل،فبحقي عليك إن تكلمت في ذلك بشي ء، وانتظر ما يحدث اللّه تبارك وتعالى فيّ»(1).
وفي خبر، قال (عليه السلام) : «وباللّه أقسم عليك أن لا تهريق في أمري محجمة من دم»(2).
وفي خبر أنه قال (عليه السلام) : لقد سقيت السم مراراً، ما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي، فجعلت أقلبها بعود معي فقال له الحسين (عليه السلام) : «ومن سقاكه»؟ فقال: «وما تريد به؟ أتريد أن تقتله؟ إن يكن هو هو فاللّه أشد نقمة منك، وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء»(3).
عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما احتضر الحسن بن علي (عليه السلام) قال للحسين (عليه السلام) : «يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها، فإذا أنا متّ فهيئني ثم وجهني إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لأحدث به عهداً ثم اصرفني إلى أمي فاطمة (عليها السلام) ثم ردني فادفني بالبقيع، واعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها وعداوتها لله ولرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وعداوتها لنا أهل البيت».
فلما قبض الحسن (عليه السلام) وضع على سريره فانطلقوا به إلى مصلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي كان يصلي فيه على الجنائز فصلى على الحسن (عليه السلام) (4) فلما أن صلى عليه حمل فأدخل المسجد - فلما أوقف على قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بلغ عائشة
ص: 268
الخبر وقيل لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن بن علي (عليه السلام) ليدفن مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فخرجت مبادرة على بغل بسرج - فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجاً - فوقفت فقالت: نحّوا ابنكم عن بيتي(1)، فإنه لا يدفن فيه شي ء ولا يهتك على
ص: 269
رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حجابه!
فقال لها الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما):
قديماً هتكت أنت وأبوك حجاب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأدخلت بيته من لا يحب رسولُ اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قربه، وإن اللّه سائلك عن ذلك، يا عائشة إن أخي أمرني أن أقربه من أبيه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليحدث به عهداً واعلمي أن أخي أعلم الناس باللّه ورسوله وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ستره، لأن اللّه تبارك وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}(1) وقد أدخلت أنت بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الرجال بغير إذنه، وقد قال اللّه عزّوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}(2) ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند أذن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) المعاول، وقال اللّه عزّوجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى}(3) ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه
ص: 270
على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بقربهما منه الأذى، وما رعيا من حقه ما أمرهما اللّه به على لسان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إن اللّه حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياء، وتاللّه يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه رسول اللّه (صلوات اللّه عليهما) جائزاً فيما بيننا وبين اللّه لعلمت أنه سيدفن وإن رغم معطسك.
قال: ثم تكلم محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة يوماً على بغل، ويوماً على جمل، فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم، قال: فأقبلت عليه فقالت: يا ابن الحنفية هؤلاء الفواطم يتكلمون رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حجابه!
فقال لها الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما):
قديماً هتكت أنت وأبوك حجاب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأدخلت بيته من لا يحب رسولُ اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قربه، وإن اللّه سائلك عن ذلك، يا عائشة إن أخي أمرني أن أقربه من أبيه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليحدث به عهداً واعلمي أن أخي أعلم الناس باللّه ورسوله وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ستره، لأن اللّه تبارك وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}(1) وقد أدخلت أنت بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الرجال بغير إذنه، وقد قال اللّه عزّوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}(2) ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند أذن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) المعاول، وقال اللّه عزّوجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى}(3) ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بقربهما منه الأذى، وما رعيا من حقه ما أمرهما اللّه به على لسان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إن اللّه حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياء، وتاللّه يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه رسول اللّه (صلوات اللّه عليهما) جائزاً فيما بيننا وبين اللّه لعلمت أنه سيدفن وإن رغم معطسك.
قال: ثم تكلم محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة يوماً على بغل، ويوماً على جمل، فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم، قال: فأقبلت عليه فقالت: يا ابن الحنفية هؤلاء الفواطم يتكلمون فما كلامك؟ فقال لها الحسين (عليه السلام) : «وأنى تبعدين محمداً من الفواطم، فو اللّه لقد ولّدته ثلاث فواطم: فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر».
قال: فقالت عائشة للحسين (عليه السلام) : نحّوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون، قال: فمضى الحسين (عليه السلام) إلى قبر أمه ثم أخرجه فدفنه بالبقيع»(4).
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : لما مضى الحسن (عليه السلام) لسبيله غسّله الحسين (عليه السلام) وكفّنه وحمله على سريره، ولم يشك مروان ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فتجمعوا له ولبسوا السلاح، فلما توجه به الحسين بن علي (عليه السلام) إلى قبر جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليجدد به عهداً أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب!
وجعل مروان يقول: يا رب هيجا هي خير من دعة، أيدفن عثمان في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع النبي، لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.
ص: 271
وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية(1).
نعم أراد هؤلاء وكذلك أتباعهم، القضاء على العترة الطاهرة (عليهم السلام) بالكامل، بحيث لا يبقى لهم اسم ولا رسم، فبعد أن قضوا عليهم بالسم أو السيف، منعوهم حتى من الدفن عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولما دفنوا في البقيع وبنى المؤمنون القباب على قبورهم الطاهرة قاموا بهدمها.
وفي المقابل دفنوا من شاؤوا بجنب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ..
وكان ذلك ضمن مخططهم لمحو الإسلام وطمس آثاره، أو لا أقل من تحريفه بالكامل.
قال بعض العلماء: إن بني أمية أردوا في قصة جنازة الإمام الحسن (عليه السلام) ورمي النعش الطاهر بالسهام أن تقع حرب مع بني هاشم وكانوا قد جاؤوا بعائشة لتمنع من دفن الإمام الحسن (عليه السلام) بجنب جده (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأمروا البعضَ منهم أنه إذا نشبت الحرب بيننا وبين بني هاشم فارم عائشة بسهم واقتلها(2)، لكي يتهموا بني هاشم والإمام الحسين (عليه السلام) بقتلها، ومن هنا وصّى الإمام الحسن (عليه السلام) بأن لا يراق في جنازته حتى بمقدار محجمة دم.
قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «واللّه لولا عهد الحسن (عليه السلام) إليّ بحقن الدماء وأن لا
ص: 272
أهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف اللّه منكم مأخذه؟، وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا»(1).
فقال أبو هريرة: أتنفسون على ابن نبيكم (صلی الله عليه وآله وسلم) بتربة تدفنونه فيها وقد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: «من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني»(2).
لما بلغ معاوية موت الحسن (عليه السلام) سجد شكراً وسجد من حوله، وكبر وكبروا معه. رواه الفريقان.
وقال بعض الشعراء(3):
أصبح اليوم ابن هند شامتا***ظاهر النخوة إذ أن مات الحسن
يا ابن هند إن تذق كأس الردى***تك في الدهر كشي ء لم يكن
لست بالباقي فلا تشمت به***كل حي للمنايا مرتهن(4)
هذا وكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد صلّى شكراً لله تعالى عند ما وُلد الإمام
ص: 273
الحسن (عليه السلام) ولكن معاوية يفرح بموت الحسن (عليه السلام) !
قال ابن أبي أصيبعة: وأظهر معاوية الشماتة بموت الحسن(1).
وروي أنه: انتهى خبر وفاة الحسن إلى معاوية - كتب به إليه عامله على المدينة مروان - فأرسل إلى ابن عباس(2)، وكان عنده بالشام - قدم عليه وافداً - فدخل عليه، فعزاه، وأظهر الشماتة بموته، فقال له ابن عباس: (لا تشمتن بموته، فواللّه لا تلبث بعده إلا قليلا)(3).
ولما كتب مروان إلى معاوية بشكاته كتب إليه أن أقبل المطي إلي بخبر الحسن ولما بلغه موته سمع تكبيرا من الحضر فكبر أهل الشام لذلك التكبير فقالت فاختة زوجة معاوية: أقر اللّه عينك يا أمير ما الذي كبرت له، قال: مات الحسن، قالت: أعلى موت ابن فاطمة تكبر!! قال: واللّه ما كبرت شماتة بموته؟! ولكن استراح قلبي! وكان ابن عباس بالشام فدخل عليه فقال يا ابن عباس: هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال: لا أدري ما حدث إلا أني أراك مستبشرا وقد بلغني تكبيرك وسجودك قال: مات الحسن، قال: إنا لله يرحم اللّه أبا محمد ثلاثا، ثم قال: واللّه يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك ولا يزيد نقص عمره في يومك وإن كنا أصبنا بالحسن لقد أصبنا بإمام المتقين وخاتم النبيين فسكن اللّه تلك العبرة وجبر تلك المصيبة وكان اللّه الخلف علينا من بعده(4).
ص: 274
ولما أتى نعي الإمام الحسن (عليه السلام) إلى البصرة وذلك في إمارة زياد بن سمية بكى الناس، فسمع الضجة أبو بكرة أخو زياد وكان مريضاً فقال: ما هذا؟
فقالت له زوجته وكانت ثقفية: مات الحسن بن علي والحمد لله الذي أراح الناس منه!
فقال: اسكتي ويحك فقد أراحه اللّه من شر كثير، وفقد الناس بموته خيراً كثيراً، يرحم اللّه حسناً(1).
ص: 275
29
يستحب البكاء والنوح على الإمام الحسن (عليه السلام) وإحياء شعائره من إقامة المجالس والمواكب وتعطيل الأسواق في ذكرى استشهاده (عليه السلام) وطبع الكتب في سيرته ومحاسن كلامه وما أشبه. وكذلك زيارته والاهتمام بمزاره الشريف ويجب السعي لتجديد بناء قبره الطاهر والقبور المطهرة في البقيع.
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مكث الناس يبكون على الحسن بن علي (عليه السلام) سبعاً ما تقوم الأسواق(1)»(2).
وعن ابن أبي نجيح(3) عن أبيه قال: (بكا على حسن بن علي بمكة والمدينة سبعاً النساء والصبيان والرجال)(4).
وروى الحاكم في المستدرك: إنه لما توفي الحسن (عليه السلام) أقام نساء بني هاشم النوح
ص: 276
عليه شهراً(1).
وعن عائشة بنت سعد قالت: (حد نساء الحسن بن علي سنة)(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث حول سبطه الحسن (عليه السلام) : «فمن بكى عليه لم تعم عينه أبداً يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب»(3).
لما مات الإمام الحسن (عليه السلام) مسموماً شهيداً بكته الملائكة والسبع الشداد، وبكاه كل شيء حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء، وقد أخبر بذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث قال:
«فلا يزال الأمر به حتى يُقتل بالسم ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد بموته ويبكيه كل شي ء حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء»(4).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)
ص: 277
إذا التفت إلينا فبكى، فقلت: ما يبكيك يا رسول اللّه؟ فقال: أبكي مما يصنع بكم بعدي.
فقلت: وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال: أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدها، وطعنة الحسن في الفخذ والسم الذي يُسقى، وقتل الحسين.
قال: فبكى أهل البيت جميعاً، فقلت: يا رسول اللّه ما خلقنا ربنا إلاّ للبلاء، قال: أبشر يا علي، فإن اللّه عزّ وجل قد عهد إليّ أنه لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(1).
ومن الشعائر الحسنية: إنشاء الأشعار وإنشادها في رثاء الإمام الحسن (عليه السلام) ومدحه.
قال الإمام الحسين (عليه السلام) لما وضع الحسن (عليه السلام) في لحده:
أ أدهن رأسي أم تطيب مجالسي***ورأسك معفور وأنت سليب
أو أستمتع الدنيا لشي ء أحبه***ألا كل ما أدنا إليك حبيب
فلا زلت أبكي ما تغنت حمامة***عليك وما هبت صبا وجنوب
وما هملت عيني من الدمع قطرة***وما اخضر في دوح الحجاز قضيب
بكائي طويل والدموع غزيرة***وأنت بعيد والمزار قريب
غريب وأطراف البيوت تحوطه***ألا كل من تحت التراب غريب
و لا يفرح الباقي خلاف الذي مضى***وكل فتى للموت فيه نصيب
فليس حريب من أصيب بماله***ولكن من وارى أخاه حريب
نسيبك من أمسى يناجيك طيفه***وليس لمن تحت التراب نسيب(2)
ص: 278
وله (عليه السلام) أيضاً:
إن لم أمت أسفا عليك فقد***أصبحت مشتاقا إلى الموت(1)
وروي: أن الإمام الحسين (عليه السلام) قال عند قبر أخيه الحسن (عليه السلام) يوم شهادته: «رحمك اللّه أبا محمد إذ كنت لناصر الحق مظانه، وتؤثر اللّه عند مداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يدا طاهرة، وتردع ماردة أعدائك بأيسر المؤونة عليك، وأنت ابن سلالة النبوة، ورضيع لبان الحكمة، وقد صرت الى روح وريحان وجنة نعيم، أعظم اللّه لنا ولكم الاجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه»(2).
ووقف على قبره أخوه محمد بن علي (ابن الحنفية) فقال: (يرحمك اللّه أبا محمد فان عزت حياتك، لقد هدت وفاتك، ولنعم الروح روح تضمنه بدنك، ولنعم البدن بدن تضمنه كفنك، وكيف لا يكون هكذا؛ وأنت سليل الهدى، وحليف أهل التقى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك اكف الحق، وربيت في حجور الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، وطبت حياً وميتاً، أن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، فلا نشك في الخير لك، يرحمك اللّه ثم انصرف عن قبره)(3).
من المستحب المؤكد زيارة قبر الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في البقيع وفيه الثواب
ص: 279
العظيم، وفي بعض الروايات أن ثوابها الجنة.
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام»(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «بينا الحسن بن علي (عليه السلام) يوماً في حجر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ رفع رأسه، فقال: يا أبة ما لمن زارك بعد موتك؟ قال: يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنة»(2).
وعن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: «إن الحسين بن علي (عليه السلام) كان يزور قبر الحسن (عليه السلام) في كل عشية جمعة»(3).
عن داود الرقي(4) قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «ما خلق اللّه خلقاً أكثر من الملائكة وإنه ينزل من السماء كل مساء سبعون ألف ملك يطوفون بالبيت ليلتهم حتى إذا طلع الفجر انصرفوا إلى قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسلموا عليه، ثم يأتون قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر الحسن بن علي (عليه السلام) فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر الحسين (عليه السلام) فيسلمون عليه، ثم يعرجون إلى السماء قبل أن
ص: 280
تطلع الشمس، ثم تنزل ملائكة النهار سبعون ألف ملك فيطوفون بالبيت الحرام نهارهم حتى إذا دنت الشمس للغروب انصرفوا إلى قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر الحسن (عليه السلام) فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر الحسين (عليه السلام) فيسلمون عليه ثم يعرجون إلى السماء قبل أن تغرب الشمس»(1).
يجب السعي لبناء القبور الطاهرة في البقيع، فإن هذه المراقد الشريفة قد أمر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بزيارتها وتعميرها وتعاهدها، وقد ذكرنا في بعض الكتب(2) ما يدل على جواز البناء على القبور وأدلة رجحان بل لزوم البناء على قبور الأولياء المعصومين وذويهم (عليهم السلام) .
عن سيد العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) قال: «زارنا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فعملنا له خزيرة وأهدت إليه أم أيمن قعبا من زبد وصحفة من تمر، فأكل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأكلنا معه ثم وضأت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فمسح رأسه ووجهه بيده واستقبل القبلة فدعا اللّه ما شاء ثم أكبّ إلى الأرض بدموع غزيرة مثل المطر فهبنا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن نسأله فوثب الحسين (عليه السلام) فأكب على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أبة رأيتك تصنع ما لم تصنع مثله قط؟ قال: يا بني سررت بكم اليوم سروراً لم أسر بكم مثله وإن حبيبي جبرئيل أتاني وأخبرني أنكم قتلى ومصارعكم شتى وأحزنني ذلك فدعوت اللّه لكم بالخيرة، فقال الحسين (عليه السلام) :
ص: 281
فمن يزورنا على تشتتنا وتبعد قبورنا؟ فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : طائفة من أمتي يريدون به بري وصلتي إذا كان يوم القيامة زرتها بالموقف وأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده»(1).
وعن أبي عامر التباني واعظ أهل الحجاز قال: أتيت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) وقلت له: يا ابن رسول اللّه ما لمن زار قبره، يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمّر تربته؟ قال: يا أبا عامر حدثني أبي (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده الحسين ابن علي (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال له: واللّه لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول اللّه ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن إن اللّه تعالى جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها وإن اللّه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحن إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى اللّه ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي الواردون حوضي وهم زواري غداً في الجنة، يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه فأبشر وبشّر أولياءك ومحبيك من النعيم وقرة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم كما تغير الزانية بزنائها أولئك شرار أمتي لا أنالهم اللّه شفاعتي ولا يردون حوضي»(2).
ص: 282
وروى الشيخ المفيد (رحمه اللّه) قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) للحسن (عليه السلام) : «من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنة»(1).
ص: 283
30
كان للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) حسب بعض الأقوال(1): خمسة عشر ولداً ما
ص: 284
بين ذكر وأنثى وهم:
ص: 285
1: زيد(1)..
3-2: أم الحسن(2) وأم الحسين.
أمهما وأم زيد هي: أم بشير بنت أبي مسعود بن عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجية.
4: الحسن(3)، أمه خولة بنت منظور الفزارية.
ص: 286
5: عَمْرو(1). أما من قال إن اسمه عُمَر، فليس بصحيح.
7-6: القاسم وعبد اللّه(2). أمهما وأم الحسن: أم ولد(3).
ص: 287
8: عبد الرحمن(1)، أمه أم ولد.
11-9: الحسين الملقب بالأثرم(2)،
وطلحة(3)،
وفاطمة، أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التميمي(4).
15-12: أم عبد اللّه وفاطمة وأم سلمة ورقية، لأمهات أولاد شتّى.
وفي إعلام الورى: له من الأولاد ستة عشر، وزاد فيهم أبا بكر(5)(6).
أقول: ما ورد من أسماء عمر وأبي بكر وما أشبه في أولاد المعصومين (عليهم السلام) فإنه تحريف في التاريخ، فالاسم إما علي أو عَمْرو أو عمّار أو ما أشبه فقالوا: إنه عمر، وربما كان بعض الناس يسميهم أو يكنيهم بمثل أبي بكر، أو أن الحكومة لأغراض سياسية كانت تناديهم بذلك، فزعم البعض بأنها أسماؤهم.
* * *
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 288
المقدمة... 5
1- النسب الشريف... 7
الكنية الشريفة... 8
الألقاب الطاهرة... 8
2- الولادة المباركة... 9
من شجرة الجنة... 10
النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يختار الاسم... 11
تسمية من اللّه... 13
تهنئة من اللّه... 14
تهنئة جبرئيل (عليه السلام) ... 14
هدية جبرئيل (عليه السلام) ... 14
النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي شكراً 15
3- من آداب المولود... 16
الأسم الحسن... 16
العقيقة... 16
ص: 289
الصدقة... 18
الثوب الأبيض... 19
الأذان والإقامة... 20
التعويذة... 22
التقبيل... 23
التربية الحسنة... 24
4- نصوص الإمامة... 27
5- من فضائل الإمام الحسن (عليه السلام) ... 32
في الآيات القرآنية... 32
6- من فضائل الإمام الحسن (عليه السلام) ... 39
في الروايات النبوية... 39
خير أهل الأرض... 39
سيد شباب الجنة... 39
الأشبه بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 41
الهيبة المحمدية... 42
العزة للمؤمنين... 44
سيماء الأنبياء (عليهم السلام) ... 44
ريحان اللّه... 44
ريحانة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 44
ذرية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 46
ص: 290
هؤلاء أهل بيتي... 46
نحن العترة الطاهرة... 47
نور الشمس والقمر... 47
زينة العرش... 48
زينة أهل الجنة... 48
زينة الفردوس... 49
عضو من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 49
ضلع من أضلاعي... 50
أحب الناس إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 50
حب الحسن (عليه السلام) ... 51
اللّه يأمر بحبه (عليه السلام) ... 55
النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يأمر بحبه (عليه السلام) ... 55
بغض الحسن (عليه السلام) ... 56
اللّهم سلمه... 57
هَيْ يا حسن... 58
على عاتق النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 58
على ظهر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 59
على رقبة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 59
على صدر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 60
إلى صدر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 60
ص: 291
في حجر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 61
وفي الصلاة... 61
وفي السجدة... 63
وحين الخطبة... 63
إنه مني وأنا منه... 63
مع ابن عباس... 64
لسان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 65
لمّا عطش الحسن (عليه السلام) ... 65
بأبي هو... 65
نعم الحمل... 66
أنا أبوه... 66
اللعاب الطاهر... 67
بكاء الحسن (عليه السلام) ... 68
الوديعة في الأمة... 68
ويقوم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 68
نوافل المغرب... 68
صفوة اللّه... 68
تحية من اللّه... 69
وفي يوم القيامة... 71
الجنة تشتاقه... 71
ص: 292
هداية وتسديد... 73
حملني خير أهل الأرض... 73
إعظاماً للحسن (عليه السلام) ... 73
شفاعة مقبولة... 74
7- العلم الجم... 76
فطموا العلم... 76
أسئلة ملك الروم... 77
بين الحق والباطل... 78
من مسائل الحدود... 79
من مسائل الحج... 79
لا يعزب عنكم علم شيء... 81
معرفة جميع اللغات... 81
مكنون العلم... 82
أُعطي ما لم يُعط أحد... 82
أسأل الحسن (عليه السلام) ... 85
علوم القرآن عندهم... 86
العلم ونشره... 86
المحيي لسنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 87
نشر العلم بالأخلاق... 87
متى تحل الصدقة؟... 88
الاهتمام بالعلم... 88
ص: 293
العلم حتى اللحظات الأخيرة... 89
التهنئة بالمولود... 90
الاهتمام بالأطفال... 90
8- علم الغيب... 92
تصل الجوائز يوم كذا 92
ما احترقت الدار... 92
إنه من شيعتنا 93
أيام الرجعة والظهور... 94
9- عبادته (عليه السلام) ... 95
هول المطلع... 96
الحج ماشياً 96
لا تحرقيني بالنار... 97
الذكر الدائم... 98
قنوت الإمام (عليه السلام) ... 98
ودعا (عليه السلام) في قنوته... 100
حرز الإمام (عليه السلام) ... 100
نقش خاتمه (عليه السلام) ... 101
10- الأخلاق الطيبة... 103
أنت حرة لوجه اللّه... 103
مع مروان... 104
ص: 294
والعافين عن الناس... 104
شيخ لا يحسن الوضوء... 105
التواضع... 105
الحياء... 105
احترام الوالدين... 106
الصدق... 106
الحلم... 107
العفو والإحسان... 107
الشجاعة... 108
الفصاحة والبلاغة... 108
مع الظالمين... 109
الجود والكرم... 109
خمسون ألف وكراء الحمال... 111
اعطوه ما في الخزانة... 111
أكرم من حاتم... 112
وكأننا لم نشترِ... 112
في طريق الحج... 112
دية الرجل... 113
أربعة آلاف... 113
عشرة آلاف... 113
الطعام للأكل... 114
ص: 295
ثمن العبد... 114
جزاء الإحسان... 114
ألك حاجة؟... 115
ويطعم الكلب... 115
لم يبق لنا درهم... 116
قرض وهبة... 116
لوقاية العرض... 117
تمام الإحسان... 117
11- إكرام المرأة... 118
12- اللاعنف... 119
لا تبدأ بالقتال... 119
لا يقتل بي أحد... 120
لا قصاص قبل الجناية... 121
13- الاستشارة... 122
التشاور... 123
14- الحريات الإسلامية... 124
15- حقوق الحيوان... 128
16- المعاجز والكرامات... 129
برقة تضيء الطريق... 129
سفرجلة الجنة... 129
رطب الجنة... 130
ص: 296
مع الزبيري... 132
اللّهم خذ لنا ولشيعتنا 133
عقوبة من ادعى كذباً 133
التصرف التكويني... 134
ثعبان يحرسه... 134
لا لإيذاء الحسن (عليه السلام) ... 137
من طعام الجنة... 137
من كيد المنافقين... 138
طير من الجنة... 140
أنا الخياط... 140
تفاحة الجنة... 141
هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 142
معرفة جميع اللغات... 143
الغيب... 143
الفخذ الأيسر... 144
راهب يسلم ببركته... 144
إنك امرأة... 145
نبح الكلاب... 145
17- كلمات وخطب... 146
إن اللّه اختارنا 146
من هو خليفة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟... 146
ص: 297
نحن الصفوة... 149
نحن حزب اللّه الغالبون... 151
صفات الباري... 152
الدنيا سجن المؤمن... 153
من شروط استجابة الدعاء... 154
كيف أصبحت؟... 154
التقى والفجور... 155
حب أهل البيت (عليهم السلام) ... 155
لماذا نكره الموت؟... 155
بشارة بالقائم المهدي (عليه السلام) ... 155
ميزان الإيمان والكفر... 156
سكان الماء... 156
من آثار الولاية... 156
ما هي المروءة؟... 156
الاستشارة... 157
خير المال... 157
اتقاء الشر... 157
نحن أعلام الهدى... 157
ليلة القدر... 158
خطبة بعد الصلح... 158
الكرم والنجدة والمروءة... 159
ص: 298
18- من أشعاره (عليه السلام) ... 160
لا يغرنك الدهر... 160
حان الرحيل... 160
يا أهل الدنيا 160
لماذا الزهد؟... 160
الجود والكرم... 161
السخاء فريضة... 161
مع الدهر الخؤون... 161
19- من مكاتباته... 162
صرعى في عساكر الموتى... 162
ستندم يا معاوية... 163
اتق اللّه يا معاوية... 164
20- مناظرات... 167
لب الفضائل... 167
هل لك أب كأبي... 167
هيهات هيهات... 168
الشيطان شارك في نطفتك... 168
الطاغية معاوية... 169
مع الوليد... 170
وفي الطواف... 172
مع الطلقاء وأذنابهم... 173
ص: 299
21- الإمامة والخلافة... 190
أنت ولي الأمر... 192
بيعة الناس للإمام (عليه السلام) ... 196
معاوية يخطط ضد الإمام (عليه السلام) ... 199
معاوية يخطط لاغتيال الإمام (عليه السلام) ... 199
استعدادات حربية... 200
22- فصل: صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ... 202
لولا الصلح... 203
لماذا الصلح؟... 203
بنود الصلح... 204
الصلح فتنة... 205
من أسباب الصلح... 207
حفظاً للعترة الطاهرة... 207
لم أجد أنصاراً 209
تأسياً بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والوصي (عليه السلام) ... 213
مع السيد المرتضى (رحمه الله) ... 216
ابقاء عليكم... 217
قضاء من اللّه... 217
البقية والحياة... 218
حقن الدماء... 219
ص: 300
اختلاف الآراء... 219
الصلح خير لشيعتي... 220
خير من الشمس... 220
لكي يتبين أسباب الصلح... 221
تشتت جيش الإمام (عليه السلام) ... 221
23- وبَدَأ القتال... 226
شروط الصلح... 230
كتاب الصلح... 231
خطبة معاوية... 232
لا لنقض العهد... 233
الهجرة إلى المدينة... 233
لا لبيعة الطغاة... 234
كذب معاوية... 237
24- ما بعد الصلح... 240
25- من اتهامات بني أمية... 243
26- فصل: الشهادة المؤلمة... 245
النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يخبر بشهادته... 246
معاوية يقتل الإمام (عليه السلام) ... 246
سم من ملك الروم... 251
الإمام (عليه السلام) يخبر بوفاته مسموماً 252
ص: 301
27- وفي اللحظات الأخيرة... 254
لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه... 255
مع ملك الموت... 256
وصايا أخيرة... 256
هذا ما أوصى به الحسن (عليه السلام) ... 257
الغسل والصلاة... 258
28- قصة الدفن... 260
ابن عباس يحتج على عائشة... 265
مروان بن الحكم وعائشة... 266
جنازة الإمام ترمى بالسهام... 267
لا لإراقة الدماء... 267
عائشة تبغلت... 268
أتنفسون على ابن نبيكم... 273
معاوية يفرح... 273
بكاء أهل البصرة... 275
29- الشعائر الحسنية... 276
البكاء... 276
ثواب البكاء... 277
بكاء الملائكة والكون... 277
ما يبكيك يا رسول اللّه... 277
الرثاء... 278
ص: 302
زيارة القبر الشريف... 279
الملائكة زوار قبره... 280
السعي لبناء القبور الطاهرة... 281
30- أولاد الإمام الحسن (عليه السلام) ... 284
الفهرس... 289
ص: 303