من حياة المعصومين عليهم السلام المجلد 1

هوية الكتاب

من حياة المعصومين عليهم السلام

الجزء الاول

الرسول الأعظم صلی اللّه عليه وآله

المرجع الديني الراحل

السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

الشجرة الطيبة

1443 ه 2022 م

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی للناشر

1443 ه 2022 م

مؤسسة الشجرة الطيبة النجف الأشرف

تهميش

مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلی اللّه علی محمد وآله الطاهرين .

أما بعد ، فهذا هو الجزء الأول من سلسلة (من حياة المعصومين) صلوات اللّه عليهم أجمعين ، ويتضمن بعض الإشارات المختصرة لجوانب من حياة الرسول الأعظم صلی اللّه عليه وآله ، وقد جعله اللّه تعالی أسوة لنا في مختلف أمورنا الدينية والدنيوية ، قال عزوجل : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(1).

أسأل اللّه تعالی التوفيق والقبول إنّه سميع مجيب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 5


1- سورة الأحزاب: 21.

1

النسب الشريف

هو محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بن عبد اللّه، بن عبد المطلب، بن هاشم.

كنيته: أبو القاسم.

أمه: آمنة بنت وهب.

وأمها: برة بنت أسد.

وكان وهب (جد النبي من الأم) سيد بني زهرة.

خطب عبد المطلب (عليه السلام) آمنة (عليها السلام) لولده عبد اللّه (عليه السلام) وزوّجها به، وكان عبد اللّه في الرابعة والعشرين من العمر.

وبعد زواجه منها خرج عبد اللّه في تجارة له إلى الشام وكانت آمنة حاملاً بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلما عاد نزل على أخواله بني النجار بالمدينة فمرض هناك ومات، ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمل، ويرى البعض أن مرض عبد اللّه كان بسبب سمّ من بعض اليهود أرادوا القضاء على عبد اللّه حتى لا يولد منه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ثم إن آباء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى آدم (عليه السلام) وكذلك الأمهات التي حملت نوره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المبارك،كلهم مؤمنون غير مشركين، قال تعالى: {وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ}(1)، فهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طُهر طاهر مطهر من طُهر طاهر مطهر، على تفصيل ذكرناه في بعض كتبنا.

ص: 6


1- سورة الشعراء: 219.

2

الولادة المباركة

وُلد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة المكرمة، يوم الجمعة، عند طلوع الفجر، في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول، عام الفيل، بعد شهر أو شهرين من هلاك أصحاب الفيل.

وقد أرسلت آمنة إلى عبد المطلب تبشره بمولد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسرّ بذلك وجاء إليها وهو يدعو اللّه ويشكر ما أعطاه، فقال:

الحمد لله الذي أعطاني *** هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان*** أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتى أراه مبلغ الفتيان *** أعيذه من كل ذي شنآن

حتى يكون بلغة الغشيان *** من حاسد مضطرب العنان

وكانت ولادته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دار عبد اللّه، وقد وهبها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ذلك لعقيل بن أبي طالب (عليه السلام) ، فلما توفي عقيل باعها ولده،ثم جُعلت مسجداً يُصلي فيه وذلك أيام العباسيين(1) وهو معروف إلى الآن، وكان المسلمون يزورنه ويصلون فيه ويتبركون به، ولما سيطر الوهابيون على مكة والمدينة قاموا بهدم آثار النبوة والرسالة، ومنعوا الناس من زيارته وهدموا بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 7


1- قيل: إن أم هارون العباسي هي التي اشترته وجعلته مسجداً.

3

رؤيا آمنة (عليها السلام)

روي: أنه قالت آمنة (رضوان اللّه عليها): لما قربت ولادة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأيت جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب الرعب عني، وأتيت بشربة بيضاء وكنت عطشى، فشربتها فأصابني نورٌ عال.

ثم رأيت نسوة كالنخل طوالاً تحدثني، وسمعت كلاماً لا يشبه كلام الآدميين، حتى رأيت كالديباج الأبيض قد ملأ بين السماء والأرض، وقائل يقول: خذوه من أعز الناس.

ورأيت رجالاً وقوفاً في الهواء بأيديهم أباريق، ورأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت علماً من سندس على قضيب من ياقوتة، قد ضرب بين السماء والأرض في ظهر الكعبة، فخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رافعاً إصبعه إلى السماء.

ورأيت سحابة بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته، فسمعت

ص: 8

نداءً: طوفوا بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شرق الأرض وغربها والبحار، لتعرفوه باسمه ونعته وصورته، ثم انجلت عنه الغمامة فإذا أنا به في ثوب أبيض من اللبن، وتحته حريرة خضراء، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وقائل يقول: قبض محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على مفاتيح النصرة والريح والنبوة.

ثم أقبلت سحابة أخرى فغيبته عن وجهي أطول من المرة الأولى، وسمعت نداءً: طوفوا بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشرق والغرب، وأعرضوه على روحاني الجن والإنس، والطير والسباع، وأعطوه صفا آدم، ورقة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وكمال يوسف، وبشرى يعقوب، وصوت داود، وزهد يحيى، وكرم عيسى (عليهم السلام) .

ثم انكشف عنه فإذا أنا به وبيده حريرة بيضاء، قد طويت طياً شديداً وقد قبض عليها، وقائل يقول: قد قبض محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الدنيا كلها، فلم يبق شيء إلاّ دخل في قبضته.

ثم إن ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجههم، في يد أحدهم إبريق فضة ونافحة مسك. وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء لها أربع جوانب من كل جانب لؤلؤة بيضاء، وقائل يقول: هذه الدنيا فاقبض عليها يا حبيب اللّه. فقبض على وسطها، وقائل يقول: اقبض الكعبة. وفي يد الثالث حريرة بيضاء مطوية فنشرها، فأخرج منها خاتماً تحار أبصار الناظرين فيه، فغسل بذلك الماء من الإبريق سبع مرات، ثم ضرب الخاتم على كتفيه، وتفل في فيه فاستنطقه فنطق، فلم أفهم ما قال إلا أنه قال: في أمان اللّه وحفظه وكلائته، قد حشوت قلبك إيماناً وعلماً ويقيناً وعقلاً وشجاعةً، أنت خير البشر، طوبى لمن اتبعك، وويل لمن تخلف عنك. ثم أدخل بين أجنحتهم ساعة، وكان الفاعل به هذا رضوان، ثم انصرف وجعل يلتفت إليه ويقول: أبشر يا عزّ بعزّ الدنيا والآخرة.

ورأيت نوراً يسطع من رأسه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى بلغ السماء، ورأيت قصور الشامات كأنه شعلة نار نوراً، ورأيت حولي من القطاة أمراً عظيما قد نشرت أجنحتها(1).

ص: 9


1- المناقب: ج1 ص28-29 فصل في مولده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقالت آمنة (عليها السلام) : إن ابني واللّه سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نور أضاء له كل شيء وسمعت في الضوء قائلاً يقول: إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).

ص: 10


1- الأمالي للصدوق: ص286 المجلس48 ح1.

4

إرهاصات الولادة

لما وُلد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه!

وقال عمرو بن أمية - وكان من أزجر أهل الجاهلية -: انظروا هذه النجوم التي يُهتدى بها ويُعرف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شيء، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث.

وانكبت الأصنام كلها على وجهها صبيحة ولد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق.

ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلاّ أصبح منكوساً، والملك مخرساً لايتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلاّ حجبت عن صاحبها.

وفي يوم مولد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صاح إبليس (لعنه اللّه) في أبالسته فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟.

فقال لهم: ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في

ص: 11

الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رُفع عيسى ابن مريم (عليه السلام) ، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث؟.

فافترقوا ثم اجتمعوا إليه، فقالوا: ما وجدنا شيئاً.

فقال إبليس (لعنه اللّه): أنا لهذا الأمر.

ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم، فوجد الحرم محفوظاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصر - وهو العصفور - فدخل من قبل حرى.

فقال له جبرئيل (عليه السلام) : وراك لعنك اللّه.

فقال له: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟.

فقال له: وُلد محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فقال له: هل لي فيه نصيب؟.

قال: لا.

قال: ففي أمته؟.

قال: نعم.

قال: رضيت (1).

ص: 12


1- بحار الأنوار: ج15 ص258-259 ب3 ضمن ح9.

5

أيام الرضاعة

رضع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أمه آمنة (عليها السلام) ، ومن ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابنها مسروح أياماً، وبعد ذلك رضع من حليمة السعدية وكانت أرضعت قبله عمه حمزة (عليه السلام) .

وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكرم أمهاته الرضاعية، وكذلك تكرمهن زوجته خديجة أم المؤمنين (عليها السلام) .

فكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبعث إلى ثويبة من المدينة ببعض الهدايا والأموال حتى ماتت، فسأل عن ابنها مسروح فقيل: مات. فسأل عن قرابتها، فقيل: ماتوا.

وفي التاريخ: أنه جاء عشر نسوة من بني سعد يطلبن الرضاع وفيهن حليمة، فأصبن الرضاع كلهن إلاّ حليمة، وكان معها زوجها الحارث المكني أبا ذؤيب وولدها منه عبد اللّه، فعُرض عليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت: يتيم ولا مال له وما عست أمه أن تفعل. وعندما أخذته ووضعته في حجرها درّ ثدياها حتى روي وروي أخوه، وكان أخوه لا ينام من الجوع. فبقي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندها سنتين حتى فطم، فقدموا به على أمه زائرين لها، وأخبرتها حليمة ما رأت من بركته، فردته معها، ثم ردته على أمه وهو ابن خمس سنين ويومين.

وكم من معاجز وبركات رأت حليمة السعدية من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه

ص: 13

الفترة، لا يسع المجال لذكرها(1).

وقدمت حليمة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما تزوج، فبسط لها رداءه، وأعطتها خديجة (عليها السلام) أربعين شاة، كما وأعطتها بعيراً. وجاءت إليه يوم حنين فقام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه.

وجاءه وفد هوازن يوم حنين وفيهم أبو ثروان، أو أبو برقان عمه من الرضاعة، وقد سُبي منهم وغُنم، وطلبوا أن يمنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهم، فخيرهم بين السبي والأموال، فقالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كنا لنعدل بالأحساب شيئاً.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس.

فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وأبى بعض المؤلفة قلوبهم من قبائل العرب وقبائلهم، فأعطاهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إبلاً عوضا من ذلك.

روي: عن أبي جرول زهير - وكان رئيس قومه - قال: أسرنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح خيبر، فبينا هو يميز الرجال من النساء إذ وثبتُ حتى جلست بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأسمعته شعراً أذكره حين شب فينا ونشأ في هوازن وحين أرضعوه، فأنشأت أقول:

امنن علينا رسول اللّه في كرم***فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر***مفرق شملها في دهرها غِير

ص: 14


1- للتفصيل انظر للإمام المؤلف (رحمه اللّه) : ولأول مرة في تاريخ العالم ج1 ومن معاجز النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

أبقت لنا الحرب هتافاً على حزن***على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركهم نعماء تنشرها***يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها***إذ فوك يملؤه من مخضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها***وإذ يرينك ما تأتي وما تذر

يا خير من مرحت كمت الجياد به***عند الهياج إذا ما استوقد الشرر

لا تتركنا كمن شالت نعامته***واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعماء وقد كفرت***وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه***من أمهاتك إن العفو مشتهر

إنا نؤمل عفواً منك تلبسه***هادي البرية أن تعفو وتنتصر

فاعف عفا اللّه عما أنت راهبه***يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، فردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال(1).

وجاءوا يوم حنين بأخته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الرضاعة - وهي الشيماء بنت الحارث - فقالت: يا رسول اللّه، إني أختك من الرضاعة.

فبسط (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها رداءه فأجلسها عليه، وقال: «إن أحببتِ فعندي محببة مكرمة، وإن أحببتِ أن أعطيكِ وترجعي إلى قومكِ».

فقالت: بل تعطيني وتردني إلى قومي.

فأعطاها وأرجعها معززة.

ص: 15


1- الأمالي للصدوق: ص502-503 المجلس75 ح18.

6

كفالة عبد المطلب وأبي طالب (عليهما السلام)

وُلد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتيماً، حيث مات والده عبد اللّه (عليه السلام) وهو حمل في بطن أمه آمنة (عليها السلام) ، فكان كافله جده عبد المطلب (عليه السلام) ، ومن بعده عمه أبو طالب (عليه السلام) .

ولما صار عمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ست سنوات، خرج مع أمه آمنة (عليها السلام) إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة، ومعهما أم أيمن تحضنه، فبقيت عندهم شهراً، وفي رجوعهم إلى مكة توفيت آمنة (عليها السلام) بالأبواء بين المدينة ومكة ودفنت هناك.

فعادت أم أيمن بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مكة إلى جده عبد المطلب (عليه السلام) وبقيت تحضنه، فكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كفالة عبد المطلب من حين وفاة أبيه وبعد وفاة أمه لثمان سنين.

وقام عبد المطلب (عليه السلام) بتربيته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحفظه أحسن قيام، وكان حريصاً عليه أكثر من ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ولا يأكل طعاماً إلاّ أحضره، وكان يحرسه ويقيه بنفسه وبأولاده، فإنه كان يعلم بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا هو خاتم النبيين وكان مؤمناً به.

وبعد مضي ثمان سنوات من عمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) توفي جده عبد المطلب (عليه السلام) وله ثمانون سنة، فلما حضرته الوفاة أوصى خير ولده وهو أبو طالب (عليه السلام) بحفظ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحياطته وكفالته.

ص: 16

وكان أبو طالب (عليه السلام) أنبل إخوته وأكرمهم وأعظمهم مكانة في قريش وأجلهم قدراً، وأكثرهم إيماناً باللّه وخوفاً منه، فكفله أبو طالب (عليه السلام) خير كفالة، وقام برعاية محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابن أخيه أحسن قيام.

كان أبو طالب (عليه السلام) يحب محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر من حبه لولده، وكان لا ينام إلاّ إلى جنبه، وكان عندما يخرج يُخرجه معه، وكان يخصه بالطعام، وكان أولاده يصبحون رمصاً(1) شعثاً ويصبح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كحيلاً دهيناً. وكان كثيراً ما يخاف على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان يغير مكان نومه ليلاً ويُضجع ابنه علياً (عليه السلام) مكانه خوفاً عليه.

وهكذا بقي أبو طالب (عليه السلام) يحمي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من كل خطر وبلاء ومن شر الأعداء حتى بُعث محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة وجاء بالإسلام، فكان أبو طالب (عليه السلام) حاميه الأول، ولولاه لقضى المشركون على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقتلوه.

علماً بأن أبا طالب (عليه السلام) كان مؤمناً باللّه ولم يشرك به طرفة عين، وعندما جاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإسلام أسلم، ولكنه أخفى إسلامه بأمر خاص من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهكذا كان حمزة والعباس (عليهم السلام) .

روى العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في (البحار):

أنه لما توفي عبد اللّه بن عبد المطلب أبو النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمل.. فلما وضعته أمه كفله جده عبد المطلب (عليه السلام) ثماني سنين، ثم احتضر للموت فدعا ابنه أبا طالب. فقال له: يا بني، تكفل ابن أخيك مني فأنت شيخ قومك وعاقلهم

ص: 17


1- الرمص بالتحريك: وسخ يجتمع في موق العين، فإن سال فهو غمص، وإن جمد فهو رمص. انظر مجمع البحرين: ج4 ص172 مادة رمص.

ومن أجد فيه الحجى دونهم، وهذا الغلام ما تحدثت به الكهان، وقد روينا في الأخبار أنه سيظهر من تهامة نبي كريم، وروي فيه علامات قد وجدتها فيه فأكرم مثواه واحفظه من اليهود؛ فإنهم أعداؤه. فلم يزل أبو طالب (عليه السلام) لقول عبد المطلب (عليه السلام) حافظاً ولوصيته راعياً(1).

ص: 18


1- بحار الأنوار: ج35 ص129-130 ب3.

7

مع بحيرا الراهب

خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع عمّه أبي طالب (عليه السلام) في تجارة إلى الشام وله تسع سنين، وقيل: اثنتا عشرة سنة، ونظر إليه بحيرا الراهب ورآى منه علائم النبوة. فقال: احفظوا به فإنه نبي!. وذلك في قصة مفصلة، رواه العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في (البحار)، قال:

إن أبا طالب (عليه السلام) خرج به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معه إلى الشام في تجارة قريش، فلما انتهى به إلى بصرى وفيها راهب لم يكلّم أهل مكة إذا مروا به، ورأى علامة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الركب، فإنه رأى غمامة تظله في مسيره، ونزل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحت شجرة قريبة من صومعته فتثنت أغصان الشجرة عليه والغمامة على رأسه بحالها، فصنع الراهب لهم طعاماً فاجتمعوا عليه وتخلف محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلما نظر بحيرا إليهم ولم ير الصفة التي يعرف، قال: فهل تخلف منكم أحد؟.

قالوا: لا واللات والعزى إلا صبي.

فاستحضره، فلما لحظ إليه نظر إلى أشياء من جسده قد كان يعرفها من صفته، فلما تفرقوا، قال: يا غلام، أتخبرني عن أشياء أسألك عنها؟.

قال: سل.

قال: أنشدك باللات والعزى إلاّ أخبرتني عما أسألك عنه.

ص: 19

وإنما أراد أن يعرف لأنه سمعهم يحلفون بهما، فذكروا أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: «لا تسألني باللات والعزى؛ فإني واللّه لم أبغض بغضهما شيئاً قط».

قال: فباللّه إلاّ أخبرتني عما أسألك عنه.

قال: فجعل يسأله عن حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخبره، فكان يجدها موافقة لما عنده.

فقال له: اكشف عن ظهرك.

فكشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الموضع الذي يجده عنده، فأخذه الأفكل - وهو الرعدة - واهتز الديراني.

فقال: من أبو هذا الغلام؟.

قال أبو طالب (عليه السلام) : هو ابني.

قال: لا واللّه لا يكون أبوه حياً.

قال أبو طالب: إنه ابن أخي.

قال: فما فعل أبوه؟.

قال: مات.

قال: صدقت.

قال: فارجع بابن أخيك إلى بلادك واحذر عليه اليهود، فو اللّه لئن رأته وعرفوا منه الذي عرفت ليبغينه شراً.

فخرج أبو طالب (عليه السلام) فرده إلى مكة(1).

وفي (الخرائج): إن أبا طالب (عليه السلام) سافر بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: فلما كنا نسير في

ص: 20


1- بحار الأنوار: ج15 ص215 ب2 ح28.

الشمس تسير الغمامة بسيرنا وتقف بوقوفنا. فنزلنا يوماً على راهب بأطراف الشام في صومعة يقال له: بحيرا الراهب، فلما قربنا منه نظر إلى الغمامة تسير بسيرنا على رؤوسنا. فقال: في هذه القافلة نبي مرسل، فنزل من صومعته فأضافنا، وكشف عن كتفيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنظر إلى الشامة بين كتفيه فبكى. وقال: يا أبا طالب، لم يجب أن تخرجه معك من مكة وبعد إذ أخرجته فاحتفظ به واحذر عليه اليهود، فله شأن عظيم وليتني أدركه فأكون أول مجيب لدعوته(1).

قال أبو طالب (عليه السلام) في شعره(2):

أ لم ترني من بعد هم هممته *** بفرقة خير الوالدين كرام

بأحمد لما أن شددت مطيتي***برحل وقد ودعته بسلام

بكى حزناً والعيس قد قلصت بنا***وناوش بالكفين فضل زمام

ذكرت أباه ثم رقرقت عبرة***تفيض على الخدين ذات سجام

وقلت له: رح راشداً في عمومة***مواسين في البأساء غير لئام

فلما هبطنا أرض بصرى تشرفوا***لنا فوق دور ينظرون جسام

وجاء بحيرا عند ذلك حاسراً***لنا بشراب طيب وطعام

فقال: اجمعوا أصحابكم لطعامنا***كثير عليه اليوم غير حرام

فلما رآه مقبلاً نحو داره***يوقيه حر الشمس ظل غمام

حنا رأسه شبه السجود وضمه***إلى نحره والصدر أي ضمام

وأقبل رهط يطلبون الذي رأى***بحيرا من الأعلام وسط خيام

فذلك من إعلامه وبيانه***وليس نهار واضح كظلام

ص: 21


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص138 فدك.
2- إيمان أبي طالب، للفخار: ص289-291 ف7 ألوان من إيمان أبي طالب.

وقال (عليه السلام) في ذلك:

وما برحوا حتى رأوا من محمد***أحاديث تجلو غم كل فؤاد

ص: 22

8

الاستسقاء برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قحط أهل مكة قحطاً شديداً، فاستسقى أبو طالب (عليه السلام) برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو صغير فأمطرت السماء ورفع عنهم القحط.

روي: أنه عندما أجدبت الأنواء، وأخلقت العواء، وإذا قريش حلق قد ارتفعت لهم ضوضاء. فقائل يقول: استجيروا باللات والعزى، وقائل يقول: بل استجيروا بمناة الثالثة الأخرى!.

فقام رجل من جملتهم يقال له: ورقة بن نوفل عم خديجة بنت خويلد، فقال: إني نوفلي، بكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل (عليهما السلام) ؟.

فقالوا: كأنك عنيت أبا طالب (عليه السلام) .

قال: هو ذاك.

فقاموا إليه بأجمعهم، فقالوا: يا أبا طالب، قد أقحط الواد وأجدبت العباد، فقم واستسق لنا.

فقال: رويدكم دلوك الشمس، وهبوط الريح.

فلما زاغت الشمس أو كادت، وإذا أبو طالب قد خرج وحوله أغيلمة من بني عبد المطلب، وفي وسطهم غلام أيفع منهم كأنه شمس ضحى تجلت عن غمامة قتماء، فجاء حتى أسند ظهره إلى الكعبة فاستجار ولاذ بإصبعه وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا حتى لت

ص: 23

ولف، وأسحم وأقتم، وأرعد وأودق، وانفجر به الوادي وافعوعم.

وبذلك قال أبو طالب (عليه السلام) يمدح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه***ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تطوف به الهلاك من آل هاشم***فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان صدق لا يخس شعيرة***ووزان حق وزنه غير عائل(1)

وعن إسحاق بن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) ، قال: قيل له:

إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافراً!

فقال (عليه السلام) : «كذبوا، كيف يكون كافراً وهو يقول:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً***نبياً كموسى خط في أول الكتب

وفي حديث آخر: «كيف يكون أبو طالب (عليه السلام) كافراً وهو يقول:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب***لدينا ولا يعبأ بقول الأباطل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه***ثمال اليتامى عصمة للأرامل»(2)

هذا وبعد بعثة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسنوات وفي المدينة المنورة، جاء أعرابي إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: واللّه يا رسول اللّه لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا غنم يغط، ثم أنشأ يقول:

أتيناك يا خير البرية كلها***لترحمنا مما لقينا من الأزل

أتيناك والعذراء يدمي لبانها***وقد شغلت أم الصبي عن الطفل

وألقى بكفيه الفتى استكانة***من الجوع ضعفاً ما يمر وما يحلي

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا***سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

ص: 24


1- إيمان أبي طالب، للفخار: ص313-316 ف8 استسقاء أبي طالب بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
2- الكافي: ج1 ص448-449 باب مولد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووفاته ح29.

وليس لنا إلا إليك فرارنا***وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: «إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطاً شديداً». ثم قام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، وكان مما حمد ربه أن قال:

«الحمد لله الذي علا في السماء فكان عالياً، وفي الأرض قريباً دانياً، أقرب إلينا من حبل الوريد - ورفع يديه إلى السماء وقال:

اللّهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً مريعاً، غدقاً طبقاً، عاجلاً غير رائث، نافعاً غير ضائر، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها».

فما رد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل، والتقت السماء بأردافها، وجاء أهل البطاح يضجون: يا رسول اللّه، الغرق الغرق.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم حوالينا ولا علينا»، فانجاب السحاب عن السماء، فضحك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله».

فقام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: «كأنك أردت يا رسول اللّه قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه***ربيع اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم***فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت اللّه نبزي محمداً***ولما نماصع دونه ونقاتل

ونسلمه حتى نصرع حوله***ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أجل»(1).

ص: 25


1- الأمالي للمفيد: ص301-305 المجلس36 ح3.

9

حلف الفضول

المعاهدات والتحالفات الإنسانية محترمة في الإسلام، وقد شهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلف الفضول - وهو صغير - وذلك في دار ابن جدعان.

وكان سببه أن رجلاً من اليمن قدم مكة بمتاع فاشتراه العاص بن وائل السهمي ومطله بالثمن حتى أتعبه.

فقام الرجل بالحِجْر وناشد قريشاً ظلامته، فاجتمع بنو هاشم وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تميم في دار ابن جدعان فتحالفوا على نصرة المظلوم، وغمسوا أيديهم في ماء زمزم بعد أن غسلوا به أركان البيت: أن ينصروا كل مظلوم بمكة ويردوا عليه ظلامته، ويأخذوا على يد الظالم، وينهوا عن كل منكر.

فسمي (حلف الفضول) لفضله وفضل المتحالفين، وقد ذكره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «شهدته وما أحب أن لي به حمر النعم ولا يزيده الإسلام إلاّ شدة»(1).

وحلف الفضول هو أشرف حلف كان في العرب كلها، وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام.

ص: 26


1- شرح نهج البلاغة: ج14 ص130 ف3 قصة غزوة بدر.

قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت»(1).

ص: 27


1- شرح نهج البلاغة: ج15 ص203 فضل بني هاشم على بني عبد شمس.

10

الزواج المبارك

خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بطلب من خديجة (عليها السلام) إلى الشام في تجارة لها، وكان عمره الشريف خمساً وعشرين سنة، وقد أمرت خديجة غلامها ميسرة أن يكون في خدمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وأرادت خديجة من هذه السفرة أن تتعرف أكثر على محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

إن خديجة (عليها السلام) كانت مؤمنة باللّه تعالى وذات شرف عظيم ومال كبير، وكانت تستأجر الناس في تجارتها، وكانت تعلم بأنها ستتزوج من نبي آخر الزمان حيث أخبرها بذلك بعض أولياء اللّه، ولذلك لم تقبل بأي شخص تقدم لخطبتها من أشراف قريش وغيرهم، فبقيت بكراً إلى أن تزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

نعم، طلبت خديجة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبكل احترام أن يشرّف الركب بحضوره ويسافر إلى الشام بصحبة مجموعة ممن عينتهم خديجة لخدمته، لا أن يكون أجيراً لها.

فخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع ميسرة في ركب خديجة (عليها السلام) ، ولما رجع الركب رجعوا بربح كبير، وذلك ببركة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . ونقل ميسرة لخديجة تلك الكرامات والمعاجز الكثيرة التي رآها من محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فعرفت خديجة (عليها السلام) بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو خاتم النبيين التي بُشرت من قبلُ بزواجه منها، فأرسلت إلى أعمام

ص: 28

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يقدموا لخطبتها لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان ذلك بعد قدوم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الشام بشهرين وأيام. وكان عمر خديجة أربعين سنة، وقيل: أقل، ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخامس والعشرين، فتزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحتفلت الملائكة بزواجهما في السماوات، وقد أرجعها اللّه شابة كما أرجع زليخا شابة عندما تزوجها يوسف (عليه السلام) بعد أن أصبح ملكا.

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : كان زواجه منها في العاشر من ربيع الأول، وخديجة بنت خويلد أم المؤمنين (عليها السلام) لها أربعون سنة وله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خمس وعشرون سنة، ويستحب صيامه شكراً لله تعالى على توفيقه بين رسوله والصالحة الرضية المرضية النقية (1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما أراد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتزوج خديجة بنت خويلد، أقبل أبو طالب (عليه السلام) في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة، فابتدأ أبو طالب (عليه السلام) بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل (عليهما السلام) ، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي هذا - يعني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به، ولايقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال فإن المال رفد جار، وظل زائل، وله في خديجة (عليها السلام) رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل.

ص: 29


1- الإقبال: ص598-599 ب4 فصل فيما نذكره من صوم يوم العاشر من شهر ربيع الأول.

ثم سكت أبو طالب (عليه السلام) وتكلّم عمها، وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر، وكان رجلاً من القسيسين.

فقالت خديجة (عليها السلام) مبتدئة: يا عماه، إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها وادخل على أهلك.

قال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضمانها المهر في مالها.

فقال بعض قريش: يا عجباه، المهر على النساء للرجال.

فغضب أبو طالب (عليه السلام) غضباً شديداً وقام على قدميه، وكان ممن يهابه الرجال ويكره غضبه. فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.

ونحر أبو طالب (عليه السلام) ناقة ودخل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأهله»(1).

إن خديجة (عليها السلام) كانت أفضل امرأة تزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، علماً بأنه لم يتزوج عليها في حياتها أبداً. ويكفي في فضل خديجة (عليها السلام) أن جبرئيل (عليه السلام) كان يقرؤها سلام اللّه عزوجل، روي: أن جبرئيل (عليه السلام) أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسأل عن خديجة فلم يجدها، فقال: «إذا جاءت فأخبرها أن ربها يقرئها السلام»(2).

وقد وهبت خديجة (عليها السلام) جميع ما تملك من الأموال الكثيرة، لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليستعين بها في نشر الإسلام وحماية المسلمين، حتى ورد: (ما قام الإسلام إلاّ بمال خديجة، وسيف علي بن أبي طالب، وحماية أبي طالب)؛ ولذلك كان

ص: 30


1- الكافي: ج5 ص374-375 باب خطب النكاح ح9.
2- كشف الغمة: ج1 ص508 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرى لها المكانة العظمى في حياتها وبعد وفاتها، وكان يفضلها على جميع زوجاته. عن عائشة قالت: (ما غرت للنبي على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط)(1).

وروت عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «كانت (عليها السلام) فاضلة وكانت عاقلة - إلى قوله: - آمنَتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدّقَتْني إذ كذّبني الناس، وواسَتْني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه ولدها إذ حرمني أولاد النساء»(2).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :«أفضل نساء الجنة أربع،خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(3).

ص: 31


1- انظر العمدة: ص393 فصل في ذكر مناقب خديجة (عليها السلام) ح787.
2- انظر فتح الباري، لابن حجر: ج7 ص103 باب تزويج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خديجة وفضلها.
3- قصص الأنبياء، للجزائري: ص259-260 ب12 ف5.

11

الحجر الأسود

خافت قريش على الكعبة من الهدم، وذلك لما حصل فيها من التشققات على أثر السيل، فقاموا بتجديد بنائها من أطهر أموالهم، فلما بلغوا موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيما بينهم، فمن هو الذي يضع الحجر الأسود في مكانه، وينال شرف ذلك؟ لأنهم كانوا يعرفون شرف الحجر الأسود، وأنه نزل من الجنة(1).

فكل قبيلة أرادت ذلك لنفسها، حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة، ثم رضوا بحكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان عمره آنذاك خمساً وثلاثين سنة ولم يبعث للنبوة بعدُ، فحكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يوضع الحجر في ثوب ويحمل كل القبائل أطرافه، ثم أخذه من الثوب ووضعه في مكانه.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت، فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه، وألقي في روعهم الرعب حتى قال قائل منهم: ليأتي كل رجل منكم بأطيب ماله، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام. ففعلوا فخلي بينهم وبين بنائه فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه؟ حتى كاد أن يكون بينهم

ص: 32


1- قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن الحجر الأسود من الجنة»، انظر غوالي اللآلي: ج1 ص174 ف8 ح206.

شر، فحكموا أول من يدخل من باب المسجد، فدخل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلما أتاهم أمر بثوب فبسط ثم وضع الحجر في وسطه ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه، ثم تناوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوضعه في موضعه فخصه اللّه به»(1). وفي الحديث: «أنزل اللّه الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من اللبن وأضوأ من الشمس، وإنما اسود لأن المشركين تمسحوا به فمن نجس المشركين اسود الحجر»(2).

ص: 33


1- الكافي: ج4 ص217 باب ورود تبع وأصحاب الفيل البيت ح3.
2- بحار الأنوار: ج11 ص195 ب3 ح48.

12

غار حراء

إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتعبد قبل البعثة على دين الحنيفية ولم يشرك باللّه طرفة عين.

روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «فنشأ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حجر أبي طالب (عليه السلام) ، فبينا هو غلام يجيء بين الصفا و المروة إذ نظر إليه رجل من أهل الكتاب.

فقال: ما اسمك؟.

قال: اسمي محمد.

قال: ابن من؟.

قال: ابن عبد اللّه.

قال: ابن من؟.

قال: ابن عبد المطلب.

قال: فما اسم هذه؟، وأشار إلى السماء.

قال: السماء.

قال: فما اسم هذه؟، وأشار إلى الأرض.

قال: الأرض.

ص: 34

قال: فمن ربهما؟.

قال: اللّه.

قال: فهل لهما رب غير اللّه؟.

قال: «لا»(1).

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتعبد في غار حراء ويخرج كل يوم إليه، وربما خرج إلى حراء شهراً كاملا يتنسك فيه، ثم لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.

وربما أخرج معه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيعبدان اللّه عزوجل في الغار.

وفي الحديث: أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من حراء كان أول ما يبدأ به إذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى جاءت السنة التي أكرمه اللّه فيها بالرسالة، فجاور في حراء شهر رمضان ومعه أهله خديجة وعلي بن أبي طالب وخادم لهم، فجاءه جبريل (عليه السلام) بالرسالة (2).

ص: 35


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص71 فصل من روايات العامة.
2- شرح نهج البلاغة: ج13 ص208 ذكر حال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نشوئه.

13

المبعث الشريف

بُعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة في السابع والعشرين من شهر رجب، وكان عمره الشريف أربعين سنة. حيث نزل عليه جبرائيل (عليه السلام) وهو في غار حراء، فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(1).

قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما ترك التجارة إلى الشام وتصدّق بكل ما رزقه اللّه تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة اللّه، وإلى أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار ويتذكر بتلك الآيات ويعبد اللّه حق عبادته، فلما استكمل أربعين سنة ونظر اللّه عزوجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب، وأجلها وأطوعها، وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور

ص: 36


1- سورة العلق: 1-5.

طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه، وقال: يا محمد اقرأ.

قال: وما أقرأ؟.

قال: يا محمد {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(1)، ثم أوحى إليه ما أوحى إليه ربه عزوجل، ثم صعد إلى العلو ونزل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال اللّه وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض..

يقول: وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون، وأنه يعتريه شياطين، وكان من أول أمره أعقل خليقة اللّه وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان، وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد اللّه عزوجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه، فأنطق الجبال والصخور والمدر، وكلما وصل إلى شيء منها ناداه:

السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي اللّه، السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا حبيب اللّه، أبشر فإن اللّه عزوجل قد فضلك وجملك وزينك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين، لا يحزنك قول قريش: إنك مجنون وعن الدين مفتون، فإن الفاضل من فضله رب العالمين، والكريم من كرمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات، وسوف ينعم ويفرح أولياءك بوصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسوف يبث علومك في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك علي بن أبي

ص: 37


1- سورة العلق: 1-5.

طالب (عليه السلام) ، وسوف يقر عينك ببنتك فاطمة (عليها السلام) ، وسوف يخرج منها ومن علي: الحسن والحسين (عليهما السلام) سيدي شباب أهل الجنة، وسوف ينشر في البلاد دينك، وسوف يعظم أجور المحبين لك ولأخيك، وسوف يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك علي (عليه السلام) فيكون تحته كل نبي وصديق وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلى جنات النعيم»(1).

كانت بعثة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد فترة من الرسل، وبعد ما أشرف الناس على الهلاك لكثرة الخرافات وشدة الجاهلية، فقام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) برسالته ودعا العالم بأجمعه إلى التوحيد والإيمان باللّه عزوجل، وترك عبادة الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ودعى إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، ونهى عن الرذائل وقباح الصفات، ودعى إلى السلم ونبذ العنف، ودعى إلى حب الآخرين وقضاء حوائجهم، ودعى إلى الكرامة والأخلاق بعد ما فشي فيهم القتل والسرقة والزنا وارتكاب الفواحش، وبعد ما كانوا يأخذون الربا ويشربون الخمر، ويطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساءً.

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) في خطبتها: «وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(2).

وقالت (عليها السلام) : «فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها،

ص: 38


1- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : ص156-158 تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ح78.
2- الاحتجاج: ج1 ص100 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك.

منكرة لله مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ظُلَمها، وكشف عن القلوب بُهَمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم»(1).

ص: 39


1- الاحتجاج: ج1 ص99 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك.

17

القرآن الكريم

جاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم من اللّه عزوجل دستورا للحياة، وهو معجزته الخالدة والكتاب السماوي العظيم الذي لم يطرأ عليه التحريف أبداً، لازيادة ولا نقيصة، {وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(1).

فهذا القرآن الذي هو اليوم بأيدينا وأيدي المسلمين جميعاً هو القرآن الذي نزل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من دون زيادة ولا نقصان، وقد جمعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الشكل في ترتيب آياته وسوره بأمر من اللّه عزوجل، وذلك في حياته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المباركة، ولم يتركه ليجمع بعدئذ كما يتصوره البعض.

أما بعض الروايات التي تقول بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) هو الذي جمع القرآن فالمراد جمع تفسيره وتأويله وعلومه لا أصل القرآن فإنه جمع في حياة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقد تحدى القرآن جميع البلغاء والفصحاء بالمعارضة، وأن يأتوا بالمماثلة ولو في عشر سوره أو سورة منه أو بعض السورة فقط، ولكنهم عجزوا ولم يستطيعوا

ص: 40


1- سورة فصلت: 41-42.

معارضته، وكانوا أفصح العرب وإليهم تنتهي الفصاحة والبلاغة.

والقرآن الكريم يحتوى على أحكام الدين، وأخبار الماضين، ومكارم الأخلاق، والأمر بالعدل، والنهي عن الظلم، وفيه تبيان كل شيء، ما يزال يُتلى على كر الدهور ومر الأيام وهو غض طري يحير ببيانه العقول، ولا تمله الطباع مهما تكررت تلاوته وتقادم عهده.

وقد خلف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) القرآن أمانة بأيدي المسلمين مضافاً إلى العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، حيث قال في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين: «إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).

ولكن المسلمين تركوا القرآن والعترة، فحصل ما حصل بهم من التأخر والويلات ومختلف المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، كما هو المشاهد اليوم.

عن السكوني، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أيها الناس، إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز - قال - فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه، وما دار الهدنة؟. قال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن؛ فإنه شافع مُشفّع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو

ص: 41


1- وسائل الشيعة: ج27 ص34 ب5 ح33144.

الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلص من نشب؛ فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص، وقلة التربص»(1).

وعن عقبة بن عمار، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يعذب اللّه قلباً وعى القرآن»(2). وعن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنة قيل له: ارقأ واقرأ لكل آية درجة، فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة»(3). وعن النعمان بن سعد عن علي (عليه السلام) أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه»(4).

وعن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابُه وأهلُ بيتي، ثم أمتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب اللّه وبأهل بيتي»(5).

ص: 42


1- الكافي: ج2 ص598-599 كتاب فضل القرآ ن ح2.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص167 ب1 ح7640.
3- بحار الأنوار: ج89 ص22 ب1 ح22.
4- وسائل الشيعة: ج6 ص167 ب1 ح7641.
5- الكافي: ج2 ص600 كتاب فضل القرآ ن ح4.

وعن معاذ، قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «ما من رجل علّم ولده القرآن إلا توّج اللّه أبويه يوم القيامة تاج الملك، وكُسيا حلتين لم ير الناس مثلهما»(1). وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أعطاه اللّه القرآن فرأى أن أحداً أعطي شيئاً أفضل مما أعطي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أهل القرآن هم أهل اللّه وخاصته»(3).

وعن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم؛ فإن لهم من اللّه العزيز الجبار لمكاناً علياً»(4).

ص: 43


1- وسائل الشيعة: ج6 ص168 ب1 ح7643.
2- بحار الأنوار: ج89 ص13 ب1 ح3.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص168 ب1 ح7644.
4- الكافي: ج2 ص603 باب فضل حامل القرآن ح1.

15

هجرة الحبشة

عند ما اشتد أذى قريش للمسلمين أمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالهجرة إلى الحبشة.

ذكر القمي (رحمه اللّه) في تفسيره: وأما قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارى}(1)، فإنه كان سبب نزولها أنه لما اشتدت قريش في أذى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل الهجرة، أمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخرجوا إلى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) أن يخرج معهم. فخرج جعفر ومعه سبعون رجلاً من المسلمين حتى ركبوا البحر.

فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردوهم إليهم، وكان عمرو وعمارة متعاديين.

فقالت قريش: كيف نبعث رجلين متعاديين؟.

فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة، وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص!.

ص: 44


1- سورة المائدة: 82.

فخرج عمارة وكان حسن الوجه شاباً مترفاً فأخرج عمرو بن العاص أهله معه، فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر.

فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك تقبلني.

فقال عمرو: أيجوز هذا، سبحان اللّه!.

فسكت عمارة، فلما انتشا عمرو وكان على صدر السفينة دفعه عمارة وألقاه في البحر، فتشبث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه..

فوردوا على النجاشي وقد كانوا حملوا إليه هدايا، فقبلها منهم.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، إن قوماً منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا.

فبعث النجاشي إلى جعفر، فجاءوا به.

فقال: يا جعفر، ما يقول هؤلاء؟.

فقال جعفر: أيها الملك، وما يقولون؟.

قال يسألون: أن أردّكم إليهم.

قال: أيها الملك، سلهم أعبيد نحن لهم؟.

فقال عمرو: لا بل أحرار كرام.

قال: فسلهم أ لهم علينا ديون يطالبوننا بها؟.

قال: لا ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟.

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، خالفونا في ديننا، وسبوا آلهتنا، وأفسدوا

ص: 45

شبابنا، وفرقوا جماعتنا، فردّهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر: نعم أيها الملك، خالفناهم بأنه بعث اللّه فينا نبياً أمر بخلع الأنداد،وترك الاستقسام بالأزلام،وأمرنا بالصلاة والزكاة،وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقها والزنا والربا والميتة والدم، وأمرنا بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللّه عيسى ابن مريم (عليه السلام) .

ثم قال النجاشي: يا جعفر، هل تحفظ مما أنزل اللّه على نبيك شيئاً؟.

قال: نعم.

فقرأ عليه سورة مريم (عليها السلام) فلما بلغ إلى قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}(1).

فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاءً شديداً، وقال: هذا واللّه هو الحق.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، إن هذا مخالفنا فرده إلينا.

فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو، ثم قال: اسكت، واللّه يا هذا لئن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك.

فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له.

وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه، فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميلاً فأحبته، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك. فراسلها فأجابته.

ص: 46


1- سورة مريم: 25-26.

فقال عمرو: قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئاً.

فقال لها، فبعثت إليه، فأخذ عمرو من ذلك الطيب، وكان الذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر، فأدخل الطيب على النجاشي.

فقال: أيها الملك، إن حرمة الملك عندنا وطاعته علينا، وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشه ولا نريبه، وإن صاحبي هذا الذي معي قد أرسل إلى حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك.

ثم وضع الطيب بين يديه، فغضب النجاشي وهمّ بقتل عمارة، ثم قال: لايجوز قتله؛ فإنهم دخلوا بلادي فأمان لهم.

فدعا النجاشي السحرة، فقال لهم: اعملوا به شيئاً أشد عليه من القتل...

ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم أن جعفر في أرض الحبشة في أكرم كرامة.

فلم يزل - جعفر - بها حتى هادن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قريشاً وصالحهم وفتح خيبر فوافى بجميع من معه، ووُلد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عميس: عبد اللّه بن جعفر، ووُلد للنجاشي ابن فسماه محمداً.

وبعث النجاشي إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمارية القبطية أم إبراهيم، وبعث إليه بثياب وطيب وفرس، وبعث ثلاثين رجلاً من القسيسين، فقال لهم: انظروا إلى كلامه، وإلى مقعده، ومشربه ومصلاه!.

فلما وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الإسلام، وقرأ عليهم القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} إلى قوله: {فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}(1)، فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 47


1- سورة المائدة: 110.

بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي، فأخبروه خبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقرءوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه، وخرج من بلاد الحبشة إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما عبر البحر توفي، فأنزل اللّه على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} - إلى قوله - {وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ}(1)»(2).

ص: 48


1- سورة المائدة: 82-85.
2- راجع تفسير القمي: ج1 ص176-179 الهجرة إلى الحبشة.

16

عام الحزن

عام الحزن هو السنة العاشرة من البعثة والثالثة قبل الهجرة، وهو العام الذي مات فيه أبو طالب (عليه السلام) حامي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وماتت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (عليها السلام) ، فتتابعت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المصائب بعد ذلك،قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما زالت قريش قاعدة عني حتى مات أبو طالب»(1).

وقد سمى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك العام (عام الحزن) لشدة مصابه بهما ووجده عليهما. وكان بين موت أبي طالب (عليه السلام) وموت خديجة (عليها السلام) ثلاثة أيام.

قال ابن عباس: عارض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جنازة أبي طالب. فقال: «وصلتك رحم وجزاك اللّه خيراً يا عم».

وروي أنه لما مرضت خديجة (عليها السلام) مرضها الذي توفيت فيه، دخل عليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها: «بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل اللّه في الكره خيراً كثيراً.

ودفن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا طالب وخديجة (عليهما السلام) بالحجون في مكة المكرمة، ونزل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبرهما وترحم عليهما.

ص: 49


1- بحار الأنوار: ج19 ص25 ب5 ح14.

وروي عن عبد اللّه بن ثعلبة بن صغير، قال: لما توفي أبو طالب وخديجة وكان بينهما شهر وخمسة أيام اجتمعت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مصيبتان، فلزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع.

ص: 50

17

رحلة الطائف

لما توفي أبو طالب (عليه السلام) حامي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الطائف وأقام فيه شهراً وكان معه زيد بن الحارث، ثم انصرف إلى مكة ومكث فيها سنة وستة أشهر.

عن محمد بن جبير، قال: لما توفي أبو طالب تناولت قريش من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة وذلك في ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة، فأقام بها عشرة أيام وقيل: شهراً، فآذوه ورموه بالحجارة، فانصرف إلى مكة، فلما نزل نخلة صرف اللّه إليه النفر من الجن.

وروي: أنه لما انصرف (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الطائف عمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وقال:

«اللّهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لكن لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»(1).

ص: 51


1- بحار الأنوار: ج19 ص20-22 ب5 ضمن ح11.

وعن الزهري، قال: لما توفي أبو طالب (عليه السلام) اشتد البلاء على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤوه، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة وهم: إخوة عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو، فعرض عليهم نفسه.

فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك بشيء قط!.

وقال الآخر: أعجز اللّه أن يرسل غيرك!.

وقال الآخر: واللّه لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبداً، ولئن كنت رسولاً كما تقول فلأنت أعظم خطراً من أن يرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب على اللّه فما ينبغي لي أن أكلمك بعد!.

وتهزءوا به وأفشوا في قومهم ما راجعوه به، فقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه، فخلص منهم وهما يسيلان دماً..

فعمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء إلى حائط من حيطانهم فاستظل في ظل نخلة منه، وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دماً، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله، فلما رأياه أرسلا إليه غلاماً لهما يدعى عداس معه عنب، وهو نصراني من أهل نينوى.

فلما جاءه قال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أي أرض أنت؟».

قال: من أهل نينوى.

قال: «من مدينة العبد الصالح يونس بن متى (عليه السلام) ».

فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى؟!.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنا رسول اللّه، واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى».

فلما أخبره بما أوحى اللّه إليه من شأن يونس (عليه السلام) خر عداس ساجداً لله

ص: 52

ومعظما لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وجعل يقبّل قدميه وهما تسيلان الدماء، فلما بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا، فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت ذلك بأحد منا؟.

قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه اللّه إلينا يدعى يونس بن متى (عليه السلام) .

فضحكا وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك؛ فإنه رجل خداع.

فرجع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مكة حتى إذا كان بنخلة قام في جوف الليل يصلي، فمر به نفر من أهل نصيبين من اليمن فوجدوه يصلي صلاة الغداة ويتلو القرآن فاستمعوا له(1).

وعن ابن مسعود: لما دخل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الطائف رأى عتبة وشيبة جالسين على سرير، فقالا: هو يقوم قبلنا. فلما قرب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منهما خر السرير ووقعا على الأرض. فقالا: عجز سحرك عن أهل مكة فأتيت الطائف(2).

ص: 53


1- بحار الأنوار: ج18 ص76-77 ب9.
2- بحار الأنوار: ج19 ص18 ب5 ضمن ح9.

18

بيعة العقبة الأولى والثانية

كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فلقي رهطاً من الخزرج قدموا من يثرب (المدينة) فقال: ألا تجلسون أحدثكم؟.

قالوا: بلى. فجلسوا إليه، فدعاهم إلى اللّه وتلا عليهم القرآن.

فقال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون واللّه إنه النبي الذي كان يوعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه أحد. فأجابوه وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، وعسى أن يجمع اللّه بينهم بك، فتقدم عليهم وتدعوهم إلى أمرك.

وكانوا ستة نفر، فكانت بيعة العقبة الأولى بمنى، فبايعه خمسة نفر من الخزرج وواحد من الأوس في خفية من قومهم.

فلما قدموا المدينة أخبروا قومهم بالخبر، فما دار حول إلاّ وفيها حديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبايعوه وهي بيعة العقبة الثانية، ثم انصرفوا، وبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم مصعب بن عمير يصلي بهم، وكان بينهم بالمدينة يسمى المقرئ، فلم يبق دار في المدينة إلاّ وفيها رجال ونساء مسلمون إلاّ دار أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف، فإنهم أسلموا بعد بدر وأحد والخندق(1).

ص: 54


1- المناقب: ج1 ص181 فصل في هجرته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ذكر القمي (رحمه اللّه) في تفسيره: قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(1)، إنها نزلت بمكة قبل الهجرة، وكان سبب نزولها أنه لما أظهر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الدعوة بمكة قدمت عليه الأوس والخزرج. فقال لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تمنعوني وتكونون لي جاراً حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على اللّه الجنة».

فقالوا: «نعم خذ لربك ولنفسك ما شئت».

فقال لهم: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق».

فحجوا ورجعوا إلى منى، وكان فيهم ممن قد حج بشر كثير، فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق، قال لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائماً ولينسل واحد فواحد».

فجاء سبعون رجلا من الأوس والخزرج فدخلوا الدار، فقال لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تمنعوني وتجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على اللّه الجنة».

فقال سعد بن زرارة، والبراء بن مغرور [معرور]، وعبد اللّه بن حزام: نعم يا رسول اللّه، اشترط لربك ولنفسك ما شئت.

فقال: «أما ما أشترط لربي فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعوا أهلي مما تمنعون أهاليكم وأولادكم».

فقالوا: وما لنا على ذلك؟.

فقال: «الجنة في الآخرة، وتملكون العرب، وتدين لكم العجم في الدنيا».

ص: 55


1- سورة الأنفال: 30.

فقالوا: قد رضينا.

فقال: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى (عليه السلام) من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً».

فأشار إليهم جبرئيل، فقال: هذا نقيب، هذا نقيب، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

فمن الخزرج: سعد بن زرارة، والبراء بن مغرور، وعبد اللّه بن حزام، وهو أبو جابر بن عبد اللّه، ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمر، وعبد اللّه بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت.

ومن الأوس: أبو الهشيم بن التيهان وهو من اليمن، وأسد بن حصين، وسعد بن خثيمة.

فلما اجتمعوا وبايعوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، صاح إبليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم.

فأسمع أهل منى وهاجت قريش، فأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) النداء. فقال للأنصار: «تفرقوا».

فقالوا: يا رسول اللّه، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لم أؤمر بذلك ولم يأذن اللّه لي في محاربتهم».

قالوا: أفتخرج معنا؟.

قال: «أنتظر أمر اللّه».

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، وخرج حمزة (عليه السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ومعهما السيوف فوقفا على العقبة، فلما نظرت قريش إليهما.

ص: 56

قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟.

فقال حمزة: ما هاهنا أحد، واللّه لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي.

فرجعوا إلى مكة، وقالوا: لا نأمن من أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الحديث(1).

ص: 57


1- تفسير القمي: ج1 ص272-276 شورى قريش في دار الندوة.

19

الهجرة النبوية

اجتمع المشركون في دار الندوة، ليتآمروا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك بعد بيعة العقبة، وكان لا يدخل دار الندوة إلاّ من قد أتى عليه أربعون سنة، فدخل أربعون رجلاً من مشايخ قريش، وجاء إبليس (لعنه اللّه) في صورة شيخ كبير، فقال له البواب: من أنت؟.

فقال: أنا شيخ من أهل نجد، لا يعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لأشير عليكم.

فقال الرجل: ادخل.

فدخل إبليس.

فلما أخذوا مجلسهم. قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل اللّه تغدو إلينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد اللّه فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى أنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن أخبار السماء تأتيه، فسفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا، وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً.

ص: 58

قالوا: وما رأيت؟.

قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلاً منا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.

فقال الخبيث: هذا رأي خبيث.

قالوا: وكيف ذلك؟.

قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة، فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؛ فإنه إذا قُتل محمد تغضب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وأن بني هاشم لاترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فيقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا.

فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر.

قال: وما هو؟.

قال: نثبته في بيت ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون، فيموت كما مات زهير والنابغة وإمرؤ القيس.

فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر.

قال: وكيف ذلك؟.

قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه.

قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ نحن لعبادة آلهتنا.

قال إبليس: هذا أخبث من الرأيين المتقدمين.

قالوا: وكيف ذاك؟.

قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً، وأنطق الناس لساناً،

ص: 59

وأفصحهم لهجة فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلاّ وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً.

فبقوا حائرين، ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟.

قال: ما فيه إلاّ رأي واحد.

قالوا: وما هو؟.

قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفاً فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات.

فقالوا: نعم وعشر ديات.

ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي.

فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ونزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}(1). واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفقون ويطوفون بالبيت، فأنزل اللّه: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}(2)، فالمكاء التصفير، والتصدية صفق اليدين.

فلما أمسى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاءت قريش ليدخلوا عليه، فقال أبو لهب:

ص: 60


1- سورة الأنفال: 30.
2- سورة الأنفال: 35.

لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل؛ فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يفرش له، ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) : «أفدني بنفسك».

قال: «نعم يا رسول اللّه».

قال: «نم على فراشي، والتحف ببردتي».

فنام علي (عليه السلام) على فراش رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتحف ببردته، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخرجه على قريش وهم نيام، وهو يقرأ عليهم: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}(1)، وقال له جبرئيل: «خذ على طريق ثور»، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان.

فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب علي (عليه السلام) في وجوههم، فقال: «ما شأنكم؟».

قالوا له: أين محمد؟.

قال: «أجعلتموني عليه رقيباً، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم».

فأقبلوا يضربون أبا لهب ويقولون: أنت تخدعنا منذ الليلة».

فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفو الآثار،

ص: 61


1- سوة يس: 9.

فقالوا له: يا أبا كرز، اليوم اليوم.

فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: هذه قدم محمد، واللّه إنها لأخت القدم التي في المقام.

وكان أبو بكر استقبل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرده معه، فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه - ثم قال - وهاهنا عبر ابن أبي قحافة. فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار، ثم قال: ما جاوزا هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض.

وبعث اللّه العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار، ثم قال: ما في الغار واحد. فتفرقوا في الشعاب وصرفهم اللّه عن رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أذن لنبيه في الهجرة(1).

ص: 62


1- تفسير القمي: ج1 ص272-276 شورى قريش في دار الندوة.

20

حروب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

حروب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت دفاعية بأجمعها، ولم تكن هذه الحروب إلاّ بعد هجرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة واستقراره فيها وتشكيله حكومةً إسلامية قوية، عند ذلك فرض اللّه على المسلمين القتال الدفاعي لمن قاتلهم، دون من لم يقاتلهم، فقال تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}(1).

فكانت حرب بدر وأحد والخندق وغيرها، على تفصيل ذكرناه في كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) (2) وهنا نكتفي ببعض الكلام فيها.

غزوة بدر الكبرى

جاء خبر رجوع قافلة المشركين من الشام وكان يترأسها أبو سفيان، فخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليها مع أصحابه. وكان خروجهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وخرج معه الأنصار، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فلما بلغ أبا سفيان مسيره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحجم عن الاقتراب من بدر وأرسل شخصا بعشرة دنانير على أن يأتي قريشاً بمكة فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد اعترض

ص: 63


1- سورة البقرة: 190.
2- راجع كتاب ولأول مرة في تاريخ العالم، للإمام الراحل الشيرازي (قدس سره) : ج1 ص110 فصل في غزواته وسراياه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

لعيرهم في أصحابه.

فنهض المشركون مسرعين في ألف مقاتل تقريبا، وحشدوا فيمن حولهم من العرب، ولم يتخلف من بطون قريش سوى عدي بن كعب. وخرجوا من ديارهم وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن نكون كعير ابن الحضرمي؟. فخرجوا سراعاً وأخرجوا معهم القيان يشربون الخمور ويضربون بالدفوف.

وفلت أبو سفيان بعير قريش، ولكن المشركين أصروا على محاربة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووقعت الحرب وأنزل اللّه نصره للمسلمين على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وانهزم جيش الأعداء.

غزوة أحد

غزوة (أُحُد) وقعت عند جبل مشهور قرب المدينة يسمى أُحُدا، وكان ذلك في شوال من العام الثالث للهجرة. فإنّ قريشاً لما رجعوا من بدر إلى مكة منعهم أبو سفيان من البكاء والنوح على قتلاهم، ليبقوا على حنقهم وغيظهم ويفكروا في الثأر لقتلاهم، وقال: الدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمداً. وبقوا يستعدون للحرب.

فلما استعدت قريش لحرب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب العباس بن عبد المطلب وهو في مكة كتاباً يخبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخبرهم، واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام ويوصل الرسالة إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقدم الغفاري المدينة وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بعض حيطانها فقرأ الرسالة، وأمر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه أن يدخلوا المدينة، فأخبرهم بالخبر. وأخذ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستشير أصحابه، ثم صلّى فيهم الجمعة وخطب فيهم وأمرهم بالجد والجهاد. وأخبرهم أن النصر لهم إذا صبروا وثبتوا..

ص: 64

وبدأت المعركة، وجعل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على راية المهاجرين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة، وجعل عبد اللّه بن جبير على باب الشعب في خمسين من الرماة، وأكد عليهم في الثبات في مكانهم وقال لهم: اتقوا اللّه واصبروا، إن رأيتمونا قد هزمناهم وأدخلناهم إلى مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة، فلا تبرحوا والتزموا مراكزكم حتى أرسل إليكم، ولو قتلنا عن آخرنا فإنما نؤتى من موضعكم.

وكان أول من برز من المشركين طلحة بن أبي طلحة فقام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وبرز إليه وضربه (عليه السلام) ضربة فمات وسقطت الراية من يده. وكان لطلحة أربعة إخوة فتقدموا فقتلهم علي (عليه السلام) . ثم حمل راية المشركين غرير بن عثمان فقتله علي (عليه السلام) ، ثم حملها عبد اللّه بن جميلة فقتله علي (عليه السلام) ثم حملها أرطأة فقتله علي (عليه السلام) ، ثم حملها صوابٌ الحبشي فقتله علي (عليه السلام) . ولما سقطت الراية بعد حملها التسعة لم يتجرأ أحدٌ على حملها.

ثم كان الهجوم العام بين الفريقين، وقاتل المسلمون قتالاً شديداً، وقتلوا جماعة كثيرة من رؤساء قريش وأبطالهم، وانهزم المشركون، وكانت مع المشركين هندٌ زوجة أبي سفيان فجعلت تدور على المشركين المنهزمين وتقدم لهم ميلاً ومكحلةً وتقول لهم: إنما أنتم نساء فاكتحلوا.

كما جعلت هند جائزة كبيرة ل(وحشي) على أن يقتل أحد ثلاثة: محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو علياً (عليه السلام) أو حمزة (عليه السلام) . فقال لها وحشي: أما محمد فلا أقدر عليه، لأن أصحابه يطوفون به، وأما علي فإنه أحذر من الذئب، وأما حمزة فإني أطمع فيه لأنه إذا غضب لا يبصر بين يديه.

ولما ظهرت الغلبة للمسلمين اشتغل المسلمون باغتنام الأموال.فرأى أصحاب

ص: 65

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين يقودهم عبد اللّه بن جبير على باب الشعب، (وقد أوصاهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً بأن يبقوا في مواضعهم، ولا يبرحوا منها لو انتصر المسلمون أو انكسروا).

رأى هؤلاء أن جماعتهم من المسلمين انتصروا، فقالوا لعبد اللّه: ما يقيمنا هاهنا وقد غنم أصحابنا ونحن نبقى بلا غنيمة! وأرادوا أن ينزلوا من مواضعهم، فجعل عبد اللّه يذكرهم بوصايا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم، فلم يسمعوا منه، فنزلوا وأخلوا مواضعهم، ولم يبق مع عبد اللّه إلا اثنا عشر رجلاً.

ورأى خالد بن الوليد ذلك وقد جعله أبو سفيان في مائتي فارس، فرجع هو وعكرمة بن أبي جهل ورجالهما، وحملوا على عبد اللّه بن جبير وأصحابه فقتلوهم. ثم نزل المشركون من مواضعهم وأحاطوا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن معه وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة، وهرب أكثر المسلمين على رؤوس الجبال، ولم يبق مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا عدد قليل وقد قرب خالد بن الوليد من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحاربه، وباشر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) القتال بنفسه وأصيب بجراح، وأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) يكر فيهم يميناً وشمالاً، حتى أبعدهم عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونادى جبرئيل:

لا فتى إلا علي***لا سيف إلا ذو الفقار

وكان (وحشي) قد اختبأ خلف إحدى الصخور متربصاً لحمزة (عليه السلام) يوازن حربته بيده، فلما مر حمزة من أمامه رماه بها فسقط حمزة عم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شهيدا وقد مثّلت به هند.

ثم انتهت معركة أحُد بكثرة القتلى من المسلمين لأنهم خالفوا أوامر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزلوا من الجبل لأجل الغنيمة. غير أنهم في النهاية عادوا بأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكروا على المشركين وطاردوهم وهزموهم.

ص: 66

غزوة الخندق

كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة النبوية المباركة.

وذلك حيث اجتمع اليهود على نقض العهد والميثاق الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واتفقوا مع كفار قريش على محاربة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني قرارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتوجهوا في عشرة آلاف، وقيل: في ثمانية عشر ألف رجل، نحو المدينة.

وجمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين واستشارهم وكان سلمان الفارسي (رحمه اللّه) قد أشار بحفر خندق حول المدينة ليكون بين المسلمين والكافرين حجاباً فيؤخرهم الخندق عن الهجوم السريع..

واستحسن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون رأيه، فأمر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه بحفر الخندق، وجعل على كل عشرين أو ثلاثين خطوة قوماً من المهاجرين والأنصار يحفرونه، وقد حمل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه معهم وظل يحفر حتى عرق جبينه الشريف.

ولما عرف المشركون بحفر الخندق حول المدينة تضايقوا، وأخيراً هجم خمسة من أبطالهم وعلى رأسهم (عمرو بن عبد ود) فاجتاز عمرو الخندق وأخذ يطلب البراز من المسلمين وينادي فيهم برفيع صوته: هل من مبارز؟ هل من مبارز؟

فلم يجبه أحد ... إلاّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .. فخرج علي (عليه السلام) إلى عمرو، ووقف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه ينظرون إليه، وقد دمعت عينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذ يدعو لعلي (عليه السلام) بالنصر ويقول: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله» (1).

ص: 67


1- بحار الأنوار: 20 ص215 باب17 غزوة الأحزاب ح2.

وبدأت المعركة، وقد قَتَل علي (عليه السلام) عمراً، فلما رأى الكفار ذلك تفرقوا، وكفى اللّه المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام) .

ص: 68

21

من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآدابه

اشارة

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قمة في الأخلاق الطيبة، وقد اهتدى ببركة أخلاقه الكثير من المشركين والكافرين والمنافقين وغيرهم إلى الإسلام. حتى قال في حقه الباري عزوجل في سورة القلم: {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1).

وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ}(2).

قال ابن شهر آشوب في (المناقب):

كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحكم الناس وأحلمهم، وأشجعهم وأعدلهم، وأعطفهم وأسخاهم، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، لا يأخذ مما آتاه اللّه إلا قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل اللّه، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه، حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس على الأرض وينام عليها،ويخصف النعل،ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع

ص: 69


1- سورة القلم: 4.
2- سورة آل عمران: 159.

طهوره بالليل بيده، ولا يجلس متكئاً، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم، ولم يتجشأ قط، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولايثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلبس برداً حبرة يمنية وشملة وجبة صوف، والغليظ من القطن والكتان، وأكثر ثيابه البياض، ويلبس القميص من قبل ميامنه، وكان له ثوب للجمعة خاصة، وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً..

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن، ويكره الريح الردية، ويستاك عند الوضوء، ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار، ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار، ويمشي راجلاً.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشيع الجنائز، ويعود المرضى في أقصى المدينة.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشر بالبر لهم.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلاّ بما أمر اللّه، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسماً ما لم ينزل عليه القرآن أو تجر عظة، وربما ضحك من غير قهقهة، لا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا في ملبس، ما شتم أحداً بشتمة، ولا لعن امرأة ولا خادماً بلعنة، ولا لاموا أحداً إلاّ قال: «دعوه»، لا يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلاّ قام معه في حاجته، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يغفر ويصفح.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا لقي مسلماً بدأه بالمصافحة، وكان لايقوم ولا يجلس إلاّ على ذكر اللّه، وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلاّ

ص: 70

خفف صلاته وأقبل عليه وقال: «ألك حاجة؟».

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط له ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا يقول إلا حقاً.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل القثاء بالرطب والملح، وكان أحب الفواكه الرطبة إليه البطيخ والعنب، وأكثر طعامه الماء والتمر، وكان يتمجع اللبن بالتمر ويسميهما الأطيبين، وكان أحب الطعام إليه اللحم، ويأكل الثريد باللحم، وكان يحب القرع، وكان يأكل لحم الصيد ولا يصيده، وكان يأكل الخبز والسمن، وكان يحب من الشاة الذراع والكتف، ومن الصباغ الخل، ومن التمر العجوة، ومن البقول الهندباء، وكان يمزح ولا يقول إلا حقاً (1).

ومما جاء في صفته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنه كان يسأل عن أصحابه فإن كان أحدهم غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده، وإذا لقيه الرجل فصافحه لم ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، وإذا لقيه أحد فقام معه أو جالسه أحد لم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وما وضع أحد فمه في أذنه إلاّ استمر صاغياً حتى يفرغ من حديثه ويذهب.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ضحوك السن، أشد الناس خشية وخوفاً من اللّه، وما ضرب امرأة له ولا خادماً، يسبق حلمه غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلاّ حلماً.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحسن الناس خُلُقاً، وأرجحهم حلماً، وأعظمهم عفواً، وأجود

ص: 71


1- راجع المناقب: ج1 ص145-147 فصل في آدابه ومزاحه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

بالخير من الريح المرسلة، وأشجع الناس قلباً، وأشدهم بأساً، وأشدهم حياءً، كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه، يحب الفال الحسن، ويغير الاسم القبيح بالحسن.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشاور أصحابه في الأمر، وهو أكثر الناس إغضاء عن العورات، إذا كره شيئاً عرف في وجهه، ولم يشافه أحداً بمكروه، حتى إذا بلغه عن أحد ما يكره لم يقل: ما بال فلان يقول أو يفعل كذا، بل ما بال أقوام.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوسع الناس صدراً، ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلاّ قال: «لبيك»، وكان يخالط أصحابه ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ولا يدعوه أحمر ولا أسود من الناس إلاّ أجابه. لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه، ولا مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له قط.

قال أنس: خدمت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر سنين فما رأيته قط أدنى ركبتيه من ركبة جليسه - إلى أن قال - وما قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَ كذا؟، ولقد شممت العطر فما شممت ريح شيء أطيب ريحاً من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينادي أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي خفف صلاته.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر الناس شفقة على خلق اللّه، وأرأفهم بهم، وأرحمهم بهم.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوصل الناس للرحم، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد، يأكل على الأرض ويقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد». وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلبس الغليظ، ويحب التيامن في شأنه كله، في طهوره وترجله وتنعله، يعود المساكين بين أصحابه، ويعلف ناضحه، ويقمّ البيت، ويجلس

ص: 72

ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، لا يجمع في بطنه بين طعامين.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، ما سُئل شيئاً قط فقال: لا، إذا أراد أن يفعل قال: نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا جاء شهر رمضان أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل.

وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصبر الناس على أوزار الناس، ليس بالعاجز ولا الكسلان، وما رُئي يأكل متكئاً قط. وكثيراً ما يصلي في نعليه، ويلبس القلانس اللاطئة، ويلبس القلنسوة تحت العمامة، وبدون عمامة، ويتعمم بدون قلنسوة، وكان له عمامة سوداء دخل يوم فتح مكة وهو لابسها، وكان يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه، وروي أنها كانت تسعة أكوار، وقال بعضهم: الظاهر إنها كانت نحو عشرة أذرع، وكانت له بردة يخطب فيها.

ومما جاء في وصفه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنه كان حسن الإصغاء إلى محدثه، لا يلوي عن أحد وجهه، ولا يكتفي بالاستماع إلى من يحدثه، بل يلتفت إليه بكل جسمه، وكان قليل الكلام، كثير الإنصات، ميالاً للجد من القول، ويضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه.

وعن الحسن بن محمد الديلمي في (الإرشاد)، قال: «كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجة من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلم على من استقبله من كبير وصغير وغني وفقير، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى خشف التمرة، وكان خفيف المئونة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بشاشاً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً

ص: 73

من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجشأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع»(1).

وقال أبو الدرداء: لا يزال العبد يزداد من اللّه بعدا ما مُشي خلفه، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بعض الأوقات يمشي مع الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم(2).

وقال أنس: كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا ينزع منها يده حتى تذهب به حيث شاءت(3).

ودخل رجل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعليه جدري قد يقشر وعنده أصحابه يأكلون، فما جلس عند أحد إلا قام من جنبه، فأجلسه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بجنبه(4).

وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصافح الغني والفقير والصغير والكبير، ويسلم مبتدئاً على كل من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر، حر أو عبد من أهل الصلاة. ليس له حلة لمدخله وحلة لمخرجه، لا يستحيي من أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل، لايرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، هين المقولة، لين الخلقة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، شديداً من غير عنف، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رحيماً بكل ذي قربى، قريباً من كل ذمي ومسلم، رقيق القلب، دائم الإطراق، لم يبشم قط

ص: 74


1- إرشاد القلوب: ج1 ص115 ب32.
2- بحار الأنوار: ج70 ص206 ب130.
3- التواضع والخمول، ابن أبي الدنيا: ص158 باب التواضع ح122.
4- بحار الأنوار: ج70 ص206 ب130.

من شبع، ولا يمد يده إلى طمع»(1).

وعن معلى بن خنيس عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رجل للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا رسول اللّه علمني؟. قال: اذهب ولا تغضب. فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك.

فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا تغضب، فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه. فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه.

فقال القوم: فما كان فهو لكم نحن أولى بذلك منكم.

قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب»(2).

وهكذا يصفه الأمير (عليه السلام)

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو أعرف الناس به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا علي، ما عرف اللّه إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا اللّه وأنت، ولا عرفك إلا اللّه وأنا»(3).

قال (عليه السلام) في نهج البلاغة: «فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن اللّه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلاّ حبنا ما

ص: 75


1- بحار الأنوار: ج70 ص208-209 ب130.
2- الكافي: ج2 ص304 باب الغضب ح11.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص145 سورة النساء، تأويل الآيات الظاهرة: ص227 سورة يونس.

أبغض اللّه، وتعظيمنا ما صغر اللّه لكفى به شقاقاً لله ومحادة عن أمر اللّه، ولقد كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته تكون فيه التصاوير فيقول: «يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيبيه عني؛ فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها»، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها؛ إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله أ أكرم اللّه بذلك محمداً أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، فقد كذب واللّه العظيم وأتى بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أن اللّه قد أهان غيره؛ حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه، فإن تأسى متأسٍ بنبيه واقتص أثره وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن اللّه جعل محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للساعة، ومبشراً بالجنة،ومنذراً بالعقوبة خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً، لم يضع حجراً على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه، فما أعظم منة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه، وقائداً نطأ عقبه. واللّه، لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(1).

ص: 76


1- مكارم الأخلاق: ص9-10 المقدمة.

22

قصص عن أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

يا أخا بني سليم

بُعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهداية الناس لا للانتقام منهم، فكان يعفو عن مسيئهم، ويسعى في هدايتهم بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة.

عن ابن عباس، قال: خرج أعرابي من بني سليم يتبدى في البرية فإذا هو بضبّ قد نفر من بين يديه، فسعى وراءه حتى اصطاده، ثم جعله في كُمّه وأقبل يزدلف نحو النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فلما أن وقف بإزائه ناداه: يا محمد، يا محمد، وكان من أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا قيل له: يا محمد. قال: يا محمد، وإذا قيل له: يا أحمد. قال: يا أحمد، وإذا قيل له: يا أبا القاسم. قال: يا أبا القاسم، وإذا قيل له: يا رسول اللّه. قال: لبيك وسعديك، وتهلّل وجهه. فلما أن ناداه الأعرابي: يا محمد، يا محمد. قال له النبي: يا محمد، يا محمد. قال له: أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك! أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزى لولا أني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين.

فوثب إليه عمر بن الخطاب ليبطش به، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اجلس يا

ص: 77

با حفص فقد كاد الحليم أن يكون نبياً». ثم التفت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الأعرابي فقال له: «يا أخا بني سليم، هكذا تفعل العرب يتهجمون علينا في مجالسنا يجبهوننا بالكلام الغليظ. يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضربي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى. يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً إن أهل السماء السابعة يسمونني أحمد الصادق. يا أعرابي، أسلم تسلم من النار يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، وتكون أخانا في الإسلام».

قال: فغضب الأعرابي وقال: واللات والعزى لا أومن بك يا محمد أو يؤمن هذا الضب. ثم رمى بالضب عن كُمه، فلما أن وقع الضب على الأرض ولى هارباً فناداه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أيها الضب، أقبل إليَّ». فأقبل الضب ينظر إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أيها الضب من أنا؟». فإذا هو ينطق بلسان فصيح ذرب غير قطع فقال: أنت محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من تعبد؟». قال: أعبد اللّه عزوجل الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، واتخذ إبراهيم خليلاً، واصطفاك يا محمد حبيباً، ثم أنشأ يقول:

ألا يا رسول اللّه إنك صادق***فبوركت مهدياً وبوركت هاديا

شرعت لنا دين الحنيفة بعدما***عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا

فيا خير مدعو ويا خير مرسل***إلى الجن بعد الإنس لبيك داعيا

ونحن أناس من سليم وإننا***أتيناك نرجو أن ننال العواليا

أتيت ببرهان من اللّه واضح***فأصبحت فينا صادق القول زاكيا

فبوركت في الأحوال حياً وميتاً***وبوركت مولوداً وبوركت ناشيا

قال: ثم أطبق على فم الضب فلم يحر جواباً، فلما أن نظر الأعرابي إلى ذلك قال: وا عجباً ضب اصطدته من البرية ثم أتيت به في كمي لا يفقه ولا ينقه ولا

ص: 78

يعقل يكلم محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الكلام ويشهد له بهذه الشهادة أنا لا أطلب أثراً بعد عين، مد يمينك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فأسلم الأعرابي وحسن إسلامه(1).

قد اعتقتك

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «اُتي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأسارى فقدم رجل منهم ليضرب عنقه، فقال له جبرئيل: أخر هذا، اليوم يا محمد. فرده وأخرج غيره حتى كان هو آخرهم، فدعا به ليضرب عنقه فقال له جبرئيل: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن أسيرك هذا يُطعم الطعام، ويُقري الضيف، ويصبر على النائبة، ويحمل الحمالات.

فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن جبرئيل أخبرني فيك عن اللّه بكذا وكذا وقد أعتقتك. فقال له: وإن ربك ليحب هذا؟!.

فقال: نعم.

قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والذي بعثك بالحق نبياً لا رددت عن مالي أحداً أبداً»(2).

فيك خصال يحبها اللّه

عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «أتي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأسارى فأمر بقتلهم خلا رجل من بينهم. فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا محمد، كيف أطلقت عني من بينهم؟.

ص: 79


1- بحار الأنوار: ج43 ص69-71 ب3 ح61.
2- وسائل الشيعة: ج9 ص470 ب47 ح12518.

فقال: أخبرني جبرئيل عن اللّه عزوجل أن فيك خمس خصال يحبه اللّه عزوجل ورسوله: الغيرة الشديدة على حرمك، والسخاء، وحسن الخلق، وصدق اللسان، والشجاعة.

فلما سمعها الرجل أسلم وحسن إسلامه، وقاتل مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قتالاً شديداً حتى استشهد»(1).

العفو عند المقدرة

وبلغ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن جمعاً من غطفان قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، عليهم رجل يقال له: دعثور بن الحارث بن محارب.

فخرج (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أربعمائة وخمسين رجلاً ومعهم أفراس وهرب منه الأعراب فوق ذري الجبال، ونزل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذا أمر وعسكر به، وأصابهم مطر كثير. فذهب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحاجة فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وادي أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف وألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فقالت الأعراب لدعثور - وكان سيدهم وأشجعهم -: قد أمكنك محمد وقد انفرد من بين أصحابه حيث إن غوث بأصحابه لم يغث حتى تقتله. فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس رسول اللّه بالسيف مشهوراً. فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟.

قال: «اللّه»، ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقام على رأسه وقال: «من يمنعك مني؟».

ص: 80


1- بحار الأنوار: ج68 ص384-385 ب92 ح25.

قال: لا أحد وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، واللّه لا أكثر عليك جمعاً أبداً. فأعطاه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه ثم قال: واللّه لأنت خير مني. قال رسول اللّه: «أنا أحق بذلك». فأتى قومه فقيل له: أينما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك!. قال: وقد كان واللّه ذلك ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمداً رسول اللّه، واللّه لا أكثر عليه، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام(1).

ص: 81


1- إعلام الورى: ص79-78 ب4.

23

الشورى والاستشارة

اشارة

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكد على مبدأ الاستشارة في الأمور، وعدم الاستبداد في الرأي، كما نص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ}(1)، وقال عزوجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ}(2).

فإن الأمور تكون بالشورى إلاّ فيما ورد فيه النص عن اللّه عزوجل أو المعصوم (عليه السلام) ، حيث لا يجوز الاجتهاد في قبال النص.

وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يطبق الاستشارة بنفسه، كما استشار في قصة الخندق، وحرب أحد، وغزوة الخندق، وحتى في اللحظات الأخيرة من حياته عندما نزل عليه ملك الموت ...

في غزوة بدر

في غزوة بدر الكبرى نزل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأصحابه ذفران، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، ونزل عليه جبرئيل فأخبره بأن العير قد أفلتت، وأن قريشاً قد أقبلت لقتاله. فاستشار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه في ذلك وأخبرهم عن

ص: 82


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 159.

قريش وخروجهم إليهم. فقام المقداد بن الأسود وقال: يا رسول اللّه، امض لما أمرك اللّه فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(1)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - وهو موضع باليمن - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك. فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خيراً ودعا له بخير، ثم قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أشيروا عليَّ أيها الناس». وإنما يريد الأنصار، ثم أعادها ثانية وثالثة، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال: لكأنك يا رسول اللّه تريدنا؟. فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أجل». فقال سعد: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق من عند اللّه، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل اللّه يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة اللّه وصل من شئت واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. فسر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقول سعد وشكره والأنصار على ذلك.

ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سيروا على بركة اللّه وأبشروا فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده، واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم»، ثم

ص: 83


1- سورة المائدة: 24.

ارتحل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم ونزل قريباً من بدر(1).

وورد أيضا:

ثم سار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى نزل مياه بدر - وكانت منطقة بدر واسعة - جنوبها العدوة القصوى، وشمالها العدوة الدنيا، وفيها عدة آبار وعيون للماء تنزل فيها القوافل. فسبق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قريشاً إلى بدر، ومنع قريشاً من السبق إليه مطر عظيم أرسله اللّه تعالى مما يليهم ولم يصب منه المسلمين إلا ما لبد لهم دهس الوادي وأعانهم. ولما نزل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مياه بدر مما يلي المدينة أتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنزل هو منزل أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي في الحرب؟. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جوابه: «بل هو الرأي». فقال: يا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فيكون الماء في متناولنا فنشرب ونروى. فاستحسن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا الرأي وفعله، فكان سبباً من أسباب تفوقهم على المشركين(2).

في غزوة أحد

ولما علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن قريش قد اجتمعت لحربه في غزوة أحد، جمع أصحابه يستشيرهم في مواجهة المشركين، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أشيروا عليَّ»، ورأى

ص: 84


1- انظر كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم)، للإمام الشيرازي (قدس سره) : ج1 ص120-121 النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستشير أصحابه.
2- انظر كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام المؤلف (قدس سره) : ج1 ص124 التشاور يهدي إلى التفوق.

- على رواية - أن لا يخرج من المدينة. فقال بعضهم: يا رسول اللّه، إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو منها قط إلاّ أصاب منا، وما دخل علينا قط إلاّ أصبناهم، يعني بذلك: عدم الخروج من المدينة. وقال بعضهم: يا رسول اللّه، إنا نخشى أن يظن عدونا أنا نكره الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا. وقال حمزة: والذي أُنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أُجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة. وكان هذا رأي الأكثرية، فعزم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الخروج، فصلى بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد،وأخبر أن لهم النصر ما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ففرح الناس بذلك. ثم صلى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالناس العصر وقد تحشدوا، وحضر أهل العوالي واصطف الناس ينتظرون خروجه، فلبس (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السلاح وخرج(1).

في غزوة الخندق

لما خرجت قريش في حرب الأحزاب وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني قرارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتوجهوا في عشرة آلاف، وقيل: في ثمانية عشر ألف رجل نحو المدينة، وسمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتجمع الأحزاب وسيرهم نحو المدينة المنورة استشار أصحابه، فكان رأيهم على المقام في المدينة وحرب القوم إن جاءوا إليهم على أنقابها. فأشار سلمان الفارسي بالخندق واستحسنه القوم، ونزل جبرئيل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بصواب رأي سلمان. فخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحدد حفر الخندق من ناحية أُحد إلى راتج، حيث كان

ص: 85


1- انظر كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1 ص142-143 النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستشير أصحابه.

سائر أنحاء المدينة مشبك بالنخيل والبنيان، وخط موضع الحفر بخط على الأرض، فضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ترغيباً للمسلمين في الأجر، فحفر بنفسه في موضع المهاجرين وعلي (عليه السلام) ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيا، وقال: «لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين»(1).

استشارة أم سلمة

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن اللّه عزوجل أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا، فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وساقوا البدن، وساق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ستاً وستين بدنة وأشعرها عند إحرامه، وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة قد ساق من ساق منهم الهدي مشعرات مجللات - وساق قصة الحديبية وصدهم المشركون وكيفية الصلح إلى أن قال (عليه السلام) - وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : انحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم. فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة. فاغتمّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ذلك وشكا ذلك إلى أم سلمة. فقالت: يا رسول اللّه، انحر أنت واحلق. فنحر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحلق، فنحر القوم على خبث يقين وشك وارتياب. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعظيماً للبدن: رحم اللّه المحلقين. وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول اللّه، والمقصرين؛ لأن من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثانياً: رحم اللّه المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي. قالوا: يا رسول اللّه،

ص: 86


1- انظر كتاب ولأول مرة في تاريخ العالم: ج1 ص178 المشورة تهدي إلى الظفر.

والمقصرين. فقال: رحم اللّه المقصرين»، الخبر(1).

ملكاً رسولاً أم عبداً رسولاً؟

استشار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جبرئيل عندما نزل عليه ملك - وهو إسرافيل حسب بعض الروايات(2)

- وقال: إن اللّه تعالى يخيرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أو ملكاً رسولاً؟. فنظر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جبرئيل وأومأ جبرئيل بيده أن تواضع.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «عبداً متواضعاً رسولاً»(3).

وحتى في اللحظات الأخيرة

في الحديث: «أنه لما استأذن عزرائيل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودخل بيت فاطمة (عليها السلام) وقال: السلام عليك يا رسول اللّه وعلى أهل بيتك.

قال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وعليك السلام يا ملك الموت.

قال عزرائيل: إن ربك أرسلني إليك وهو يقرؤك السلام ويخيرك بين لقائه والرجوع إلى الدنيا.

فاستمهله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى ينزل جبرئيل ويستشيره، فخرج ملك الموت من عنده وجاء جبرئيل فقال: السلام عليك يا أبا القاسم {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}(4)»، إلى آخر الحديث(5).

ص: 87


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص312-313 ب4 ح10988.
2- انظر بحار الأنوار: ج16 ص292، وتفسير القمي: ج2 ص27.
3- راجع الكافي: ج2 ص122 باب التواضع ح5.
4- سورة الضحى: 4 - 5.
5- سيأتي تفصيل ذلك في نهاية هذا الكتاب تحت عنوان (في بيت فاطمة (عليها السلام) ).

روايات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الاستشارة

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمرهم»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الأمور».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أراد أمراً فشاور فيه امرئ مسلماً وفّقهُ اللّه لأرشد أموره».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وهو يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ما بعثه إلى اليمن -: «يا علي، ما حار من استخار، ولا ندم من استشار»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، ولم يكن أمركم شورى بينكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما شقا عبد بمشورة، ولا سعد باستغناء رأي».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة»(3).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما من رجل يشاور أحداً إلا هُدي إلى الرشد»(4).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير»(5).

وعن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}(6)، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

ص: 88


1- بحار الأنوار: ج75 ص105ب19 ح4.
2- وسائل الشيعة: ج8 ص78 ب5 ح10125.
3- تفسير نور الثقلين: ج1 ص404 ح410 سورة آل عمران.
4- مجمع البيان: ج9 ص57 سورة الشورى.
5- مكارم الأخلاق: ص238 ب8 ف10.
6- سورة آل عمران: 159.

«أما إن اللّه ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها اللّه رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «شاوروا العلماء الصالحين، فإذا عزمتم على إمضاء ذلك فتوكلوا على اللّه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «آخ من الإخوان أهل التقى، واجعل مشورتك من يخاف اللّه تعالى».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «شاور المتقين، الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا، ويؤثرون على أنفسهم في أموركم».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا أشار عليك العاقل الناصح فاقبل وإياك والخلاف عليهم فإن فيه الهلاك»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «استرشدوا العاقل ترشدوا،ولا تعصوه فتندموا»(3).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من استشار أخاه فأشار عليه بأمر وهو يرى الرشد غير ذلك خانه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه».

ص: 89


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص342 ب20 ح9610.
2- بحار الأنوار:ج72 ص105 ب48 ضمن ح41.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص19-20 ب9 ح15531.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المستشار مؤتمن»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المستشار مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المستشير معان».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من استشير فأشار بغير رأيه سلبه اللّه تعالى رأيه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من غش المسلمين في مشورة فقد برئتُ منه»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه اللّه لبه»(3).

ص: 90


1- غوالي اللآلئ: ج1 ص104 ف6 ح39، وغوالي اللآلئ: ج1 ص439 ب1 المسلك الثالث ح156.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص66 ب31 ح296.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص346 ب22 ح9621.

24

العلم والعلماء

كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحث المسلمين على التعليم والتعلّم، ويؤكد كثيراً على العلم والعلماء، فرسول الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسول العلم والفضيلة، والدين الإسلامي دين العقل والمنطق، لا السيف والجبر، قال تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ}(1). وقال عزوجل: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ}(2).

وقال سبحانه: {فَذَكّرْ إِنّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ * لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(3).

فكان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحب العلم والعلماء ويرجح حلقات العلم على حلقات الدعاء، ففي الحديث: خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإذا في المسجد مجلسان: مجلس يتفقهون ومجلس يدعون اللّه ويسألونه، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون اللّه وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم أُرسلتُ»، ثم قعد معهم(4).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة»(5).

ص: 91


1- سورة البقرة: 256.
2- سورة الأنفال: 42.
3- سورة الغاشية: 21-22.
4- بحار الأنوار: ج1 ص206 ب4 ح35.
5- مستدرك الوسائل: ج17 ص249 ب4 ح21250.

وعن أبي ذر (رضوان اللّه عليه) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العالم أحب إلى اللّه من ألف جنازة من جنازة الشهداء، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من قيام ألف ليلة يصلي في كل ليلة ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من ألف غزوة و قراءة القرآن كله».

قال: يا رسول اللّه، مذاكرة العلم خير من قراءة القرآن كله؟!

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إليَّ من قراءة القرآن كله اثني عشر ألف مرة، عليكم بمذاكرة العلم فإن بالعلم تعرفون الحلال من الحرام، ومن خرج من بيته ليلتمس باباً من العلم كتب اللّه عزوجل له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء، وأعطاه اللّه بكل حرف يستمع أو يكتب مدينة في الجنة، وطالب العلم أحبه اللّه وأحبه الملائكة وأحبه النبيون، ولايحب العلم إلاّ السعيد، وطوبى لطالب العلم يوم القيامة. يا أبا ذر، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خير لك من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، والنظر إلى وجه العالم خير لك من عتق ألف رقبة»(1).

وفي (روضة الواعظين): روي عن بعض الصحابة، قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، إذا حضرت جنازة أو حضر مجلس عالم أيهما أحبّ إليك أن أشهد؟. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن كان للجنازة من يتبعها ويدفنها فإن حضور مجلس العالم أفضل من حضور ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض، ومن قيام ألف ليلة، ومن صيام ألف يوم، ومن ألف درهم

ص: 92


1- جامع الأخبار: ص37 الفصل العشرون في العلم.

يتصدق بها على المساكين، ومن ألف حجة سوى الفريضة، ومن ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل اللّه بمالك ونفسك، وأين تقع هذه المشاهد من مشهد عالم، أما علمت أن اللّه يُطاع بالعلم ويُعبد بالعلم، وخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وأكثر مدارسة العلماء ومناظرة الحكماء في تثبيت سنن العدل على مواضعها، وإقامتها على ما صلح به الناس؛ فإن ذلك يحيي الحق ويميت الباطل ويُكتفى دليلاً به على ما صلح به الناس، لأن السنة الصالحة من أسباب الحق التي تعرف بها، ودليل أهلها على السبيل إلى طاعة اللّه فيها»(2).

وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً فيما بينه وبين النار، وأعطاه اللّه تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلاّ ناداه ربه عزوجل: جلست إلى حبيبي فو عزتي وجلالي لأسكنتك الجنة معه ولا أبالي»(3).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم عبادة»(4).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الأنبياء قادة، والفقهاء سادة، ومجالستهم زيادة»(5).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مجالسة العلماء عبادة، والنظر إلى علي (عليه السلام) عبادة»(6).

ص: 93


1- روضة الواعظين: ج1 ص12 باب الكلام في ماهية العلوم وفضلها.
2- دعائم الإسلام: ج1 ص357 ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص95-96 ب8 ح33308.
4- الأمالي للطوسي: ص225 المجلس الثامن ح392.
5- الأمالي للطوسي: ص473 المجلس17 ح1032.
6- بحار الأنوار: ج1 ص204 ب4 ح24.

وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «النظر في وجه العالم حباً له عبادة»(1).

وعن أبي ذر (رحمه اللّه) قال: سمعنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات شهيداً»(2).

ص: 94


1- بحار الأنوار: ج1 ص205 ب4 ح29.
2- منية المريد: ص121-122 ف6.

25

التعددية

النظام السياسي - وكذلك الاقتصادي - في الإسلام نظام تعددي تنافسي، وهو من مقومات تقدم المجتمع، وهذه التعددية الإيجابية كانت جلية بين المهاجرين والأنصار، وربما الفئات الأخرى من المجتمع.

وفلسفة التعددية هي التنافس في الخير والفضيلة والتقدم.

وهذه التعددية لا تنافي الأخوة الإسلامية كما هو واضح.

روي في (غوالي اللآلي) باب السبق والرماية: (أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مر بقوم من الأنصار يترامون، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنا في الحزب الذي فيه ابن الأدرع، فأمسك الحزب الآخر وقالوا: لن يغلب حزب فيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: «ارموا فإني أرمي معكم»، فرمى مع كل واحد رشقاً، فلم يسبق بعضهم بعضاً، فلم يزالوا يترامون وأولادهم وأولاد أولادهم لا يسبق بعضهم بعضاً)(1).

وكم من خطبة خطبها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال فيها: «يا معشر المهاجرين والأنصار»، نشير إلى بعضها: في قصة حفر الخندق: قام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى شفير الخندق ثم قال: «يا معشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً»، قال جابر: وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلهم، ثم لم يمر بأحد من المهاجرين

ص: 95


1- منية المريد: ص121-122 ف6.

والأنصار إلا قال: «أجيبوا جابرا»، القصة(1). وفي حرب أحد، أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منادياً ينادي: «يا معشر المهاجرين والأنصار، من كانت به جراحة فليخرج ومن لم يكن به جراحة فليقم»(2).

وروى العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في (البحار): في خبر عن كعب بن عجرة، أن المهاجرين والأنصار وبني هاشم اختصموا في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أينا أولى به وأحب إليه؟. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أما أنتم يا معشر الأنصار فإنما أنا أخوكم».

فقالوا: اللّه أكبر، ذهبنا به ورب الكعبة.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وأما أنتم معشر المهاجرين فإنما أنا منكم».

فقالوا: اللّه أكبر، ذهبنا به ورب الكعبة.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وأما أنتم يا بني هاشم فأنتم مني وإليَّ».

يقول الراوي: فقمنا وكلنا راض مغتبط برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (3).

وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ}(4) جمعهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار، إن اللّه تعالى يقول: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} والمنسك هو الإمام، لكل أمة بعد نبيها حتى يدركه نبي، ألا وإن لزوم الإمام وطاعته هو الدين وهو المنسك، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمامكم بعدي»(5).

ص: 96


1- تفسير القمي: ج2 ص178 معاجز رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخندق.
2- تفسير القمي: ج1 ص124-125 مواساة رجل من الأنصار.
3- بحار الأنوار: ج22 ص312 ب8 ح16.
4- سورة الحج: 67.
5- تأويل الآيات الظاهرة: ص345 سورة الحج وما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.

وعن سلمان الفارسي (رحمه اللّه) ،قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «يا معشر المهاجرين والأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً». قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «هذا علي أخي ووزيري ووارثي وخليفتي إمامكم، فأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي؛ فإن جبرئيل أمرني أن أقول لكم ما قلت»(1). وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «يا معشر المهاجرين والأنصار، أحبوا علياً بحبي وأكرموه لكرامتي، واللّه ما قلت لكم هذا من قبلي ولكن اللّه أمرني بذلك»(2).

ص: 97


1- الأمالي للطوسي: ص223 المجلس الثامن ح386.
2- بحار الأنوار: ج39 ص305 ب87 ضمن ح120.

26

الحريات الإسلامية

اشارة

لم تر البشرية من الحريات مثل ما جاء به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث ضمن للكل حرياتهم المشروعة من دون الاعتداء على حرية الآخرين.

وقد وصف الباري تعالى رسوله الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: {الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

نماذج من الحريات الإسلامية

حرية التجارة، حرية البيع، حرية الاشتراط في العقد، حرية القرض، حرية الرهن ، حرية الضمان، حرية الحوالة، حرية الكفالة، حرية الصلح، حرية الشركة، حرية المضاربة، حرية المزارعة، حرية المساقاة، حرية الإيداع، حرية الاستعارة، حرية الإجارة، حرية الوكالة، حرية الوقف، حرية الصدقات، حرية السكنى والعمرى والرقبى والحبس، حرية الهبة، حرية السبق والرماية، حرية الوصية، حرية النكاح، حرية الطلاق، حرية الخلع، حرية المباراة، حرية اللعان، حرية الإقرار، حرية الجعالة، حرية الأيمان، حرية الشفعة، حرية إحياء

ص: 98


1- سورة الأعراف: 157.

الموات، حرية حيازة المباحات، حرية اللقطة، حرية الصيد والذباحة، الحريات العبادية، حرية الإعلام، حرية التأليف، حرية البيان، حرية النشر والتوزيع، حرية التجمع، حرية تأسيس الأحزاب والمنظمات والهيئات، حرية التعبير عن الرأي، حرية المعارضة وحقوقها، حرية الخروج بالمظاهرات السلمية، حرية الإقامة والسفر، حرية فتح الشركات والمصانع والمعامل، حرية الكسب والتجارة، حرية البناء والعمران، الحريات السياسية، الحريات الاقتصادية، الحريات الاجتماعية، وغيرها من الحريات الكثيرة(1).

ص: 99


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب الحريات، وكذلك كتاب (الحرية الإسلامية) وكتاب (الصياغة الجديدة) للإمام المؤلف (قدس سره) .

27

حقوق المعارضة

من أهم الحريات السياسية في الإسلام حرية المعارضة وضمان حقوقها، وهذا ما جاء به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطبقه في حكومته الإسلامية بالمدينة المنورة، فالمعارضة كانوا يتمتعون بكامل حرياتهم، ومن أمثلة ذلك قصص المنافقين في عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

روى الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في (الإرشاد) (1)، قال: لما قسم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنائم حنين، أقبل رجل طويل آدم أجنأ بين عينيه أثر السجود، فسلم ولم يخص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وكيف رأيت»؟.

قال: لم أرك عدلت!

فغضب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقال:«ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون»؟!

فقال المسلمون: ألا نقتله؟.

قال:«دعوه، فإنه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم اللّه على يد أحب الخلق إليه من بعدي». فقتله أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن قتل يوم النهروان من الخوارج.

ص: 100


1- الإرشاد: ج1 ص148 باب طرف من أخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وروى العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في (البحار) (1): إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان - وكان رجلاً قوياً - فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سلمان منا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب أخرج اللّه من باطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا. فقلنا: يا سلمان، إرق إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره؛ فإنا لا نحب أن نتجاوز خطه.

قال: فرقي سلمان إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول اللّه، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نتجاوز خطك.

قال: فهبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثالثة فكسرها

ص: 101


1- بحار الأنوار: ج20 ص188 ب17 غزوة الأحزاب.

وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح وكبر المسلمون، وأخذ بيد سلمان ورقي. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد رأيت منك شيئاً ما رأيته منك قط؟!

فالتفت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال: «رأيتم ما يقول سلمان؟».

فقالوا: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا».

فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر.

فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويعلمكم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!

فنزل القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورا}(1).

وقد تركهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. وهكذا كان المنافقون يعيشون في ظل رحمة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكامل حرياتهم.

ص: 102


1- سورة الأحزاب: 12.

28

المرأة

اشارة

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكرم المرأة أكبر الإكرام مما لم يسبق له مثيل في التاريخ، بعد ما كانت المرأة مهانة في الجاهلية.

ولولا الدين الإسلامي لضاعت المرأة ضياعاً كاملاً.

عن بحر السقاء قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا بحر حُسن الخُلق يُسر - ثم قال -: ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة».

قلت: بلى.

قال: «بينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه فقام لها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هدبة من ثوبه ثم رجعت.

فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل، حبستِ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً ولا هو يقول لك شيئاً ما كانت حاجتك إليه؟. قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(1).

ص: 103


1- الكافي: ج2 ص102 باب حسن الخلق ح15.

روايات في تكريم المرأة

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كلما ازداد العبد إيماناً أزداد حباً للنساء»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الجنة تحت أقدام الأمهات»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة»(3).

وقال رجل لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن أحملها على ظهري، وأطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا؛ لأن بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(4).

وقيل: يا رسول اللّه، ما حق الوالد؟.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أن تطيعه ما عاش».

فقيل: وما حق الوالدة؟.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «هيهات هيهات، لو أنه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها»(5).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من سعادة المرء الزوجة الصالحة»(6).

ص: 104


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص157 ب3 ح16365.
2- مستدرك الوسائل: ج15 ص180 ب70 ح17933.
3- مستدرك الوسائل: ج15 ص180 ب70 ح17933.
4- مستدرك الوسائل: ج15 ص180 ب70 ح17932.
5- مستدرك الوسائل: ج15 ص182 ب70 ح17937.
6- وسائل الشيعة: ج20 ص41 ب9 ح24981.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تحملوا النساء أثقالكم واستغنوا عنهن ما استطعتم..»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة»(2).

ص: 105


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص408. ق6 ب1 ف4 ح9382.
2- النوادر للراوندي: ص35.

29

اللاعنف

كان المنهج العام في سياسة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو اللاعنف، في مختلف الحالات ومع الجميع، مع المسلم والكافر، مع المؤمن والمنافق، مع الصديق والعدو.

ومن هنا كانت حروب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كلها دفاعية، وما أقل القتلى فيها كما سبق.

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ولِّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم وحسن السياسة وصالح الأخلاق، ممن يبطئ عن الغضب، ويسرع إلى العذر، ويرأف بالضعيف، ولا يلح على القوي، ممن لا يسره العنف، ولا يقعد به الضعف»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه، ثم قال: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، وأيما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام اللّه، فإذا سمع كلام اللّه عزوجل فإن تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى

ص: 106


1- دعائم الإسلام: ج1 ص358 ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم.

فاستعينوا باللّه عليه وأبلغوه مأمنه»(1).

وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا أراد أن يبعث أميراً على سرية أمره بتقوى اللّه عزوجل في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغزوا بسم اللّه وفي سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه ولاتغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا،ولا تقتلوا وليداً،ولا متبتلاً في شاهق،ولاتحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً؛ لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لابد لكم من أكله، وإذا لقيتم عدواً من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث فإن هم أجابوكم إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعوهم إلى الإسلام وكف عنهم، وادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام؛ فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين، ولا تجري لهم في الفيء من القسمة شيئاً إلاّ أن يجاهدوا في سبيل اللّه، فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون؛ فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن باللّه عليهم وجاهدهم في اللّه حق جهاده»(2).

وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «نهى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يلقى السم في بلاد المشركين»(3).

وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه

ص: 107


1- الكافي: ج5 ص30 باب وصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في السرايا ح9.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص139-138 ب60 ح2.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص62 ب16 ح19989.

عليه): «بعثني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اليمن وقال لي: يا علي، لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم اللّه لأن يهدي اللّه على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي»(1).

ص: 108


1- الكافي: ج5 ص28 باب وصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في السرايا ح4.

30

الزهد

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زاهداً في الدنيا وزخارفها، بما للكلمة من معنى.

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «نزل جبرئيل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: ربك يقرئك السلام ويقول لك: هذه بطحاء مكة تكون لك رضراضة ذهب ولا تنقص مما ادخرت لك شيئاً. قال: فنظر رسول اللّه إلى البطحاء فقال: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً فأحمدك وأجوع يوماً فأسألك»(1).

وعن ابن عباس، قال: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبيه. فقال: يا نبي اللّه، لو اتخذت فراشاً. فقال: «ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلاّ كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح و تركها»(2).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: «لقد قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن درعه لمرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقةً لأهله»(3).

ص: 109


1- مشكاة الأنوار: ص264 ف7.
2- بحار الأنوار: ج16 ص239 ب9 في جمل من أحواله وأخلاقه.
3- وسائل الشيعة: ج18 ص322 ب2 ح23766.

وفي الحديث أنه مات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعليه دَين(1).

وهكذا كان أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين (عليهم السلام) فإنهم استشهدوا وعليهم دَين (2).

ص: 110


1- وسائل الشيعة: ج18 ص322 ب2 ح23758.
2- راجع وسائل الشيعة: ج18 ص322 ب2 ح23768وح23769.

31

الرحمة المهداة

من صفات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرحمة المهداة، فكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمةً للعالمين بأجمعهم، قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ}(1).

عن أبان الأحمر، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد بلى ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً.

فقال: يا علي، خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه.

قال علي (عليه السلام) : فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنظر إليه.

فقال: يا علي، غير هذا أحب إليَّ، أترى صاحبه يقيلنا؟.

فقلت: لا أدري.

فقال: انظر.

فجئت إلى صاحبه فقلت: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد كره هذا، يريد ثوباً دونه فأقلنا فيه. فرد عليَّ الدراهم وجئت به إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول

ص: 111


1- سورة الأنبياء: 107.

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما شأنكِ؟.

قالت: يا رسول اللّه، إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم.

فأعطاها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلكِ. ومضى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد اللّه، وخرج فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه اللّه من ثياب الجنة. فخلع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد اللّه ورجع إلى منزله، وإذا الجارية قاعدة على الطريق، فقال لها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما لكِ لا تأتين أهلكِ؟.

قالت: يا رسول اللّه، إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : مري بين يدي ودلّيني على أهلكِ.

فجاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار.

فلم يجيبوه، فأعاد السلام فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني؟.

قالوا: يا رسول اللّه، سمعنا سلامك فأحببنا أن تستكثر منه.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول اللّه، هي حرة لممشاك.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الحمد لله، ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من

ص: 112

هذه، كسا اللّه بها عريانين وأعتق بها نسمة»(1).

وهكذا كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمةً للجميع حتى للأمة التي لم يعتنوا بها في المجتمع الجاهلي.

ص: 113


1- بحار الأنوار: ج16 ص214-215 ب9 ح1

32

الشعائر الدينية

اشارة

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكد على الشعائر الدينية بمختلف أنواعها، من الصلاة والصيام والحج وسائر العبادات، وحتى مجالس البكاء وما أشبه، بل وحتى الشعائر الحسينية حيث أشار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليها وحبذها.

وهذا ما قد رواه الفريقان في كتبهم.

عن جابر قال: لما جرد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمزة (عليه السلام) بكى، فلما رأى أمثاله(1) شهق(2).

وعن أنس بن مالك، قال: لما رجع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من اُحُد سمع نساء الأنصار يبكين، فقال: «لكن حمزة لا بواكي له»!، فبلغ ذلك نساء الأنصار فبكين لحمزة (عليه السلام) ...، ثم قال: وهو أشهر حديث بالمدينة فإن نساء المدينة لا يندبن موتاهن حتى يندبن حمزة (عليه السلام) وإلى يومنا هذا(3).

وعن أبي هريرة، قال: خرج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على جنازة ومعه عمر بن الخطاب فسمع نساء يبكين فزبرهن عمر، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا عمر، دعهن فإن

ص: 114


1- أي ما مثل به.
2- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص218 ح4893 طبع دار الكتب العلمية - بيروت.
3- المستدرك على الصحيحين: ج1 ص537 ح1407.

العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب»(1).

وعن جابر بن عبد اللّه، قال: فقد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم أحد حمزة حين فاء الناس من القتال، قال: فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرة وهو يقول: «أنا أسد اللّه وأسد رسوله، اللّهم أني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء لأبي سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء من انهزامهم». فسار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نحوه فلما رأى جبهته بكى، ولما رأى ما مُثّل به شهق، ثم قال: «ألا كفن»، فقام رجل من الأنصار فرمى بثوب. قال جابر: فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سيد الشهداء عند اللّه تعالى يوم القيامة حمزة»(2).

وعن جابر، قال: لما بلغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قتل حمزة بكى، فلما نظر إليه شهق. وعن جابر، قال: لما جرد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمزة بكى فلما رأى مثاله شهق(3).

وعن أسماء بنت يزيد، قالت: لما توفي ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إبراهيم بكى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال له المعزي - إما أبو بكر وإما عمر -: أنت أحق من عظم اللّه حقه. قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر تابع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدنا وإنا بك لمحزونون»(4).

ص: 115


1- المستدرك على الصحيحين: ج1 ص537 ح1406.
2- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص219 ح4900.
3- مجمع الزوائد: ج6 ص118 وص119 باب مقتل حمزة رضي اللّه عنه، طبع دار الريان للتراث - القاهرة.
4- مصباح الزجاجة: ج2 ص47 و48 باب ما جاء في البكاء على الميت، طبع الدار العربية - بيروت.

وعن ابن عمر: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مر بنساء عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لكن حمزة لا بواكي له»، فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة.

إلى غيرها من الروايات(1).

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي على الحسين (عليه السلام)

عن عائشة، قالت: دخل الحسين بن علي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يُوحى إليه، فنزا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو منكب وهو على ظهره. قال جبريل لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أ تحبه يا محمد؟».

قال: «يا جبريل، ومالي لا أحب ابني».

قال:« فإن أمتك ستقتله من بعدك». فمد جبريل (عليه السلام) يده فأتاه بتربة بيضاء فقال: «في هذه الأرض يقتل ابنك هذا واسمها الطف».

فلما ذهب جبريل (عليه السلام) من عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتزمه في يده يبكي. فقال: «يا عائشة، إن جبريل أخبرني أن ابني حسين مقتول في أرض الطف، وأن أمتي ستفتن بعدي»، ثم خرج (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه فيهم علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر وهو يبكي. فقالوا: ما يبكيك يا رسول اللّه؟. فقال: «أخبرني جبريل (عليه السلام) أن ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه»(2).

ص: 116


1- وللمزيد انظر شرح معاني الآثار: ج4 ص293 طبع دار الكتب العلمية - بيروت، ومسند الشاشي: ج2 ص413 طبع المدينة المنورة، والمعجم الكبير: ج3 ص142 طبع الموصل.
2- مجمع الزوائد: ج9 ص187 طبع دار الريان للتراث - القاهرة.

وعن أم سلمة، قالت: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالساً ذات يوم في بيتي. قال: «لا يدخل عليَّ أحد»، فانتظرت فدخل الحسين (عليه السلام) فسمعت نشيج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي، فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يمسح جبينه وهو يبكي.

فقلت: واللّه ما علمت حين دخل.

فقال: «إن جبريل (عليه السلام) كان معنا في البيت، قال: أفتحبّه؟. قلت: أما في الدنيا فنعم. قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء». فتناول جبريل من تربتها فأراها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فلما أحيط بحسين (عليه السلام) حين قُتل قال:« ما اسم هذه الأرض؟». قالوا: كربلاء. فقال: «صدق اللّه ورسوله كرب وبلاء» - وفي رواية -: «صدق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرض كرب وبلاء»(1).

وعن أم سلمة، قالت: كان الحسن والحسين (عليهما السلام) يلعبان بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بيتي، فنزل جبريل فقال: «يا محمد، إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك»، وأومئ بيده إلى الحسين (عليه السلام) . فبكى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضمه إلى صدره ثم قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وضعت عندكِ هذه التربة»، فشمها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «ريح كرب وبلاء - وقال: - يا أم سلمة، إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قتل». فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: إن يوماً تحولين دماً ليوم عظيم(2).

وقالت أم سلمة: دخل الحسين على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا جالسة على الباب،

ص: 117


1- مجمع الزوائد: ج9 ص 187. وانظر أيضا المعجم الكبير: ج23 ص289 ح637 طبع الموصل.
2- تهذيب التهذيب: ج2 ص300-301 ضمن ح615.

فتطلعت فرأيت في كف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً يقلبه وهو نائم على بطنه. فقلت: يا رسول اللّه، تطلعت فرأيتك تقلب شيئاً في كفك والصبي نائم على بطنك ودموعك تسيل؟. فقال: «إن جبريل أتاني بالتربة التي يُقتل عليها وأخبرني أن أمتي يقتلونه»(1).

وعن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه، إني رأيت حلماً منكراً الليلة.

قال: «ما هو؟».

قالت: إنه شديد.

قال: «ما هو؟».

قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رأيتِ خيراً، تلد فاطمة إن شاء اللّه غلاماً فيكون في حجرك». فولدت فاطمة الحسين (عليهما السلام) فكان في حجري كما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فدخلت يوماً إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تهريقان من الدموع. قالت: فقلت: يا نبي اللّه، بأبي أنت وأمي مالك؟.

قال: «أتاني جبريل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا».

فقلت: هذا!!

فقال: «نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء»(2).

ص: 118


1- مصنف ابن أبي شيبة: ج7 ص477-478 ح37366 طبع مكتبة الرشد - الرياض.
2- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص194 ح4818 طبع دار الكتب العلمية - بيروت.

وعن عبد اللّه بن نجي عن أبيه: إنه سار مع علي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي: «اصبر أبا عبد اللّه، اصبر أبا عبد اللّه بشط الفرات». قلت: وماذا؟. قال: «دخلت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم وعيناه تفيضان. قلت: يا نبي، اللّه أغضبك أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟. قال: بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين (عليه السلام) يقتل بشط الفرات. قال: فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟. قال: قلت: نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا»(1).

إلى غيرها مما هو كثير(2).

ص: 119


1- الأحاديث المختارة: ج2 ص375 ح758، طبع مكة المكرمة. وانظر أيضا مصنف ابن أبي شيبة: ج7 ص477-478 ح37367.
2- للمزيد انظر مسند البزار: ج3 ص101 طبع مؤسسة علوم القرآن - بيروت، ومسند أبي يعلى: ج1 ص298 طبع دار المأمون للتراث - دمشق. والآحاد والمثاني: ج1 ص308 طبع دار الراية - الرياض. والمعجم الكبير: ج3 ص105 طبع مكتبة العلوم والحكم - الموصل.

33

الصلاة

الصلاة عمود الدين، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثير الصلاة والعبادة، والتضرع إلى اللّه عزوجل والخوف منه.

عن أبي ذر، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أبا ذر، إن اللّه جعل قُرة عيني في الصلاة، وحبّبها إليَّ كما حبب إلى الجائع الطعام وإلى الظمآن الماء، وإن الجائع إذا أكل الطعام شبع والظمآن إذا شرب الماء روي وأنا لا أشبع من الصلاة»(1).

وعن أبي ذر - في حديث - قال: قلت: يا رسول اللّه، إنك أمرتني بالصلاة ما الصلاة؟. قال: «الصلاة خير موضوع استُكثِر أم استُقِل»(2).

وعن الزهري، قال: دخلت مع علي بن الحسين (عليه السلام) على عبد الملك بن مروان، قال: فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين (عليه السلام) . فقال: يا أبا محمد، لقد بُيِّنَ عليك الاجتهاد ولقد سبق لك من اللّه الحسنى، وأنت بضعة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قريب النسب وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتِك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلاّ من مضى من سلفك. وأقبل

ص: 120


1- مستدرك الوسائل: ج3 ص41 ب10 ح2968.
2- مستدرك الوسائل: ج3 ص42-43 ب10 ح2971.

يثني عليه ويطريه، قال: فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «كل ما ذكرته ووصفته من فضل اللّه سبحانه وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم، كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقف في الصلاة حتى تورم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه. فقيل له: يا رسول اللّه، ألم يغفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. فيقول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أفلا أكون عبداً شكوراً»(1).

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند عائشة ليلتها. فقالت: يا رسول اللّه، لم تتعب نفسك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. فقال: يا عائشة، ألا أكون عبداً شكوراً - قال: - وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل اللّه سبحانه وتعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى}(2)»(3).

وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: «إن يهودياً من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء (عليهم السلام) - إلى أن قال - قال له اليهودي: هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبل معه لخوفه. قال له علي (عليه السلام) : لقد كان كذلك، ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أريز كأريز المرجل على الأثافي من شدة البكاء وقد آمنه اللّه عزوجل من عقابه، فأراد أن يتخشع لربه ببكائه فيكون إماماً لمن اقتدى به، ولقد قام (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 121


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص125-126 ب18 ح165.
2- سورة طه: 1-2.
3- الكافي: ج2 ص95 باب الشكر ح6.

عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال اللّه عزوجل: {طه * مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى}(1) بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه. فقيل له: يا رسول اللّه، أليس اللّه غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. قال: بلى، أفلا أكون عبداً شكوراً»(2).

ص: 122


1- سورة طه: 1-2.
2- الاحتجاج: ج1 ص219-220 احتجاجه (عليه السلام) على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكثير من فضائله.

34

مع العصاة والمذنبين

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رؤوفاً بالجميع، حتى بالعصاة والمذنبين.

عن أبان، عن أبي العباس، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل. فقال: إني زنيت فطهرني. فصرف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجهه عنه، فأتاه من جانبه الآخر ثم قال مثل ما قال، فصرف وجهه عنه ثم جاء الثالثة. فقال له: يا رسول اللّه، إني زنيت وعذاب الدنيا أهون لي من عذاب الآخرة. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أبصاحبكم بأس - يعني جُنة -؟. فقالوا: لا. فأقر على نفسه الرابعة فأمر به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يرجم، فحفروا له حفيرة فلما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه الزبير فرماه بساق بعير فسقط فعقله به، فأدركه الناس فقتلوه فأخبروا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك. فقال: هلا تركتموه - ثم قال - لو استتر ثم تاب كان خيراً له»(1).

ولما غزا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم حنين قصد إليه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عن يمينه فوجد عباساً، فأتى عن يساره فوجد أبا سفيان بن الحارث، فأتى من خلفه فوقعت بينهما شواظ من نار فرجع القهقرى، فرجع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليه وقال: «يا

ص: 123


1- الكافي: ج7 ص185 باب صفة الرجم ح6.

شيب، يا شيب ادن مني، اللّهم أذهب عنه الشيطان». قال: فنظرت إليه ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا شيب، قاتل الكفار». فلما انقضى القتال دخل عليه فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الذي أراد اللّه بك خير مما أردته لنفسك»، وحدّثه بجميع ما زوى في نفسه فأسلم(1).

وروي: أن سارة مولاة أبي عمرو بن ضيفي بن هشام أتت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مكة مسترفدة، فأمر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب بأسدانها، فأعطاها حاطب بن أبي بلتعة عشرة دنانير على أن تحمل كتاباً بخبر وفود النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مكة، وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسر ذلك ليدخل عليهم بغتة(2)، فأخذت الكتاب وأخفته في شعرها وذهبت، فأتى جبرئيل وقص القصة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ..

فأنفذ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علياً والزبير ومقداد وعماراً وعمر وطلحة وأبا مرثد خلفها فأدركوها بروضة خاخ يطالبوها بالكتاب، فأنكرت وما وجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع.

فقال علي (عليه السلام) : «واللّه ما كذبنا ولا كذبنا»، وسلّ سيفه وقال: «أخرجي الكتاب وإلا واللّه لأضربن عنقكِ».

فأخرجته من عقيصتها فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الكتاب وجاء إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فدعا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحاطب بن أبي بلتعة وقال له: «ما حملك على ما فعلت؟».

قال: كنت رجلاً عزيزاً في أهل مكة - أي غريباً - ساكناً بجوارهم فأحببت أن أتخذ عندهم بكتابي إليهم مودة ليدفعوا عن أهلي بذلك، فنزل قوله تعالى:

ص: 124


1- بحار الأنوار: ج18 ص61 ب8 ضمن ح19.
2- وذلك اجتنابا لوقوع حرب وسقوط ضحايا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}(1)»(2).

ثم تركه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وروي: أن امرأة يهودية أتته بشاة مسمومة ومع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر بن البراء بن عازب، فتناول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذراع وتناول بشر الكراع، فأما النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلاكها ولفظها وقال: «إنها مسمومة»، وأما بشر فلاك المضغة وابتلعها فمات، فأرسل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليها فأقرت وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما حملكِ على ما فعلتِ؟».

قالت: قتلت زوجي وأشراف قومي فقلت: إن كان ملكاً قتلته، وإن كان نبياً فسيطلعه اللّه تبارك وتعالى على ذلك(3).

وعفى عنها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وروي: أن سارة مولاة بني هاشم وكانت مغنية نواحة بمكة، وكانت قد قدمت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة تطلب أن يصلها، وشكت إليه الحاجة وذلك بعد بدر وأحد. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها: «أما كان لكِ في غنائكِ ونياحكِ ما يغنيكِ؟!».

قالت: يا محمد، إن قريشاً منذ قُتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء.

فوصلها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوقر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى قريش وهي على دينها(4).

ص: 125


1- سورة الممتحنة: 1.
2- المناقب: ج2 ص143-144 فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
3- راجع قرب الإسناد: ص137-138 ما جاء في الشهادات.
4- شرح نهج البلاغة: ج18 ص16 ذكر بقية الخبر عن فتح مكة.

35

الرضا بما قدره اللّه

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قمة في الرضا بما يختار اللّه له، فكان يحمد اللّه في السراء والضراء. عن عبد اللّه بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «لم يكن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول لشيء قد مضى لو كان غيره»(1).

وعن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: «ضحك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا تسألوني مم ضحكت؟. قالوا: بلى يا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: عجبت للمرء المسلم أنه ليس من قضاء يقضيه اللّه عزوجل له إلا كان خيرا له في عاقبة أمره»(2). وعن علي بن عبد اللّه بن العباس، قال: عرض على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما هو مفتوح على أمته من بعده كفراً كفراً(3)، فسر بذلك فأنزل اللّه عزوجل: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}(4)، قال: فأعطاه اللّه عزوجل ألف قصر في الجنة ترابه المسك، وفي كل

ص: 126


1- الكافي: ج2 ص63 باب الرضا بالقضاء ح13.
2- بحار الأنوار: ج68 ص140-141 ب63 ح32.
3- أي: قرية قرية.
4- سورة الضحى: 4-5.

قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم(1).

ودخل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي وتطحن بالرحى وعليها كساء من أجلة الإبل، فلما رآها بكى وقال: «يا فاطمة، تجرعي مرارة الدنيا اليوم لنعيم الآخرة غداً فأنزل اللّه تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}(2)»(3).

ص: 127


1- تأويل الآيات الظاهرة: ص783 سورة الضحى.
2- سورة الضحى: 5.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص230

36

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير البشر

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير البشر، بل خير الكائنات بأجمعها، ولِنوره ونور عترته الطاهرة (عليهم السلام) خلق اللّه عزوجل الكون والكائنات.

عن سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : هل صام أحد من آبائك شعبان؟.

قال: «خير آبائي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صامه»(1).

وعن ابن عباس، قال: أتاه رجل يسأله عن الصيام؟. فقال: إن كنت تريد صوم داود (عليه السلام) فإنه كان من أعبد الناس - إلى أن قال - وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن أفضل الصيام صيام أخي داود (عليه السلام) »، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وإن كنت تريد صيام سليمان (عليه السلام) فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة ومن وسط الشهر ثلاثة ومن آخره ثلاثة، وإن كنت تريد صوم عيسى (عليه السلام) فإنه كان يصوم الدهر كله لا يفطر منه شيئاً وإن كنت تريد صوم مريم (عليها السلام) فإنها كانت تصوم يومين وتفطر يوماً، وإن كنت تريد صوم خير البشر العربي القرشي أبي القاسم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويقول: «هي صيام الدهر»(2).

ص: 128


1- الكافي: ج4 ص90 باب صوم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ح5.
2- وسائل الشيعة: ج10 ص439 ب13 ح13793.

وجاء في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : ثم قال اللّه عزوجل: {وإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ والْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1) قال الإمام (عليه السلام) : «واذكروا إذ آتينا موسى الكتاب وهو التوراة الذي أخذ على بني إسرائيل الإيمان به والانقياد لما يوجبه، والفرقان آتيناه أيضاً فرق به ما بين الحق والباطل، وفرق ما بين المحقين والمبطلين، وذلك أنه لما أكرمهم اللّه تعالى بالكتاب والإيمان به والانقياد له، أوحى اللّه بعد ذلك إلى موسى (عليه السلام) : يا موسى، هذا الكتاب قد أقروا به، وقد بقي الفرقان فرق ما بين المؤمنين والكافرين والمحقين والمبطلين، فجدد عليهم العهد به فإني قد آليت على نفسي قسماً حقاً لا أتقبل من أحد إيماناً ولا عملاً إلا مع الإيمان به.

قال موسى (عليه السلام) : ما هو يا رب؟.

قال اللّه عزوجل: يا موسى، تأخذ على بني إسرائيل أن محمداً خير البشر وسيد المرسلين، وأن أخاه ووصيه علياً خير الوصيين، وأن أولياءه الذين يقيمهم سادة الخلق، وأن شيعته المنقادين له المسلّمين له ولأوامره ونواهيه ولخلفائه نجوم الفردوس الأعلى وملوك جنات عدن»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أسري به نزل جبرئيل (عليه السلام) بالبراق، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عيناه في حوافره، خطاه مد بصره، له جناحان يحفزانه من خلفه، عليه سرج من ياقوت فيه من كل لون، أهدب العرف الأيمن. فوقفه على باب خديجة ودخل على

ص: 129


1- سورة البقرة: 53.
2- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : ص252-253 نجاة بني إسرائيل لإقرارهم ولاية محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتجديدها ح123.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: اسكن، فإنما يركبك خير البشر أحب خلق اللّه إليه. فسكن ثم خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فركب ليلاً وتوجه نحو بيت المقدس»(1).

ص: 130


1- الخرائج والجرائح: ج1 ص84 فصل من روايات الخاصة.

37

تحمل الصعاب

لقد تحمل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصعاب والمشاكل والأذى في سبيل اللّه تعالى، حتى قال: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1).

وهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة لكل العاملين في سبيل اللّه، فعليهم أن يتحملوا الصعاب لكسب رضا اللّه تعالى.

وقد ورد في قصة الأحزاب وحفر الخندق: أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان من شدة الجوع مستلقيا على قفاه وقد شد على بطنه حجرا.

قال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مستلقي على قفاه ورداؤه تحت رأسه وقد شد على بطنه حجرا(2)

فقلت: يا رسول اللّه إنه قد عرض لنا جبل لا تعمل المعاول فيه.

فقام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مسرعا حتى جاءه، ثم دعا بماء في إناء وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ثم شرب ومج ذلك الماء في فيه ثم صبه على ذلك الحجر، ثم أخذ معولا فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب أخرى

ص: 131


1- المناقب: ج3 ص247 فصل في مساواته يعقوب ويوسف (عليهما السلام) .
2- من الجوع.

فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور اليمن، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أما إنه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

فقال جابر فعلمت أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مقوي أي جائع لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول اللّه هل لك في الغداء؟

قال: ما عندك يا جابر؟ فقلت: عناق وصاع من شعير.

فقال: تقدم وأصلح ما عندك، الحديث(1).

وهكذا كان الأنبياء العظام (عليهم السلام) يتحملون الصعاب في سبيل اللّه، وكان أكثرهم تحملا هو رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ورد في قصة النبي نوح (عليه السلام) : أنه كان الرجل من الكفار يأتي بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح (عليه السلام) فيقول: يا بني إن بقيت بعدي فلا تطيعن هذا المجنون! وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتى يسيل مسامعه دما وحتى لا يعقل شيئا مما يصنع به فيحمل فيرمى في بيت أو على باب داره مغشيا عليه، فأوحى اللّه تعالى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ}(2) فعندها أقبل على الدعاء عليهم ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك فقال {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ...}(3) إلى آخر السورة(4).

وقال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) : لما أظهر اللّه تبارك وتعالى نبوة نوح (عليه السلام)

ص: 132


1- بحار الأنوار: ج20 ص216-221 ب17 ح3.
2- سورة هود: 36.
3- سورة نوح: 26-28.
4- بحار الأنوار: ج11 ص298 ب3.

وأيقن الشيعة - أي شيعة نوح - بالفرج اشتدت البلوى وعظمت الفرية إلى أن آل الأمر إلى شدة شديدة نالت الشيعة والوثوب إلى نوح بالضرب المبرح حتى مكث (عليه السلام) في بعض الأوقات مغشيا عليه ثلاثة أيام يجري الدم من أذنه، ثم أفاق وذلك بعد سنة ثلاثمائة من مبعثه وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلا ونهارا فيهربون، ويدعوهم سرا فلا يجيبون، ويدعوهم علانية فيولون، فهمّ بعد ثلاثمائة سنة بالدعاء عليهم وجلس بعد صلاة الفجر للدعاء، فهبط إليه وفد من من السماء السابعة وهو ثلاثة أملاك، فسلموا عليه ثم قالوا له: يا نبي اللّه لنا حاجة، قال: وما هي؟ قالوا: تؤخر الدعاء على قومك، فإنها أول سطوة لله عزوجل في الأرض.

قال: قد أخرت الدعاء عليهم ثلاثمائة سنة أخرى، وعاد إليهم فصنع ما كان يصنع ويفعلون ما كانوا يفعلون حتى إذا انقضت ثلاثمائة سنة أخرى ويئس من إيمانهم جلس في وقت ضحى النهار للدعاء، فهبط عليه وفد من السماء السادسة فسلموا عليه فقالوا: خرجنا بكرة و جئناك ضحوة ثم سألوه مثل ما سأله وفد السماء السابعة فأجابهم إلى مثل ما أجاب أولئك إليه وعاد (عليه السلام) إلى قومه يدعوهم، فلا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا حتى انقضت ثلاثمائة سنة تتمة تسعمائة سنة، فصارت إليه الشيعة وشكوا ما ينالهم من العامة والطواغيت وسألوا الدعاء بالفرج، فأجابهم إلى ذلك وصلى ودعا فهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال له: إن اللّه تبارك وتعالى قد أجاب دعوتك فقل للشيعة: يأكلوا التمر ويغرسوا النوى ويراعوه حتى يثمر فإذا أثمر فرجت عنهم.

فحمد اللّه وأثنى عليه وعرّفهم ذلك، فاستبشروا، فأخبرهم نوح بما أوحى اللّه تعالى إليه ففعلوا ذلك وراعوه حتى أثمر، ثم صاروا بالثمر إلى نوح (عليه السلام) وسألوه

ص: 133

أن ينجز لهم الوعد، فسأل اللّه عزوجل عن ذلك فأوحى إليه قل لهم كلوا هذا التمر واغرسوا النوى فإذا أثمرت فرجت عنكم، فلما ظنوا أن الخلف قد وقع عليهم ارتد منهم الثلث وثبت الثلثان، فأكلوا التمر وغرسوا النوى حتى إذا أثمر أتوا به نوحا (عليه السلام) فأخبروه وسألوه أن ينجز لهم الوعد، فسأل اللّه عزوجل عن ذلك فأوحى إليه قل لهم كلوا هذا التمر واغرسوا النوى، فارتد الثلث الآخر وبقي الثلث، فأكلوا التمر وغرسوا النوى، فلما أثمر أتوا به نوحا (عليه السلام) ثم قالوا له: لم يبق منا إلا القليل ونحن نتخوف على أنفسنا بتأخر الفرج أن نهلك.

فصلى نوح (عليه السلام) ثم قال: يا رب لم يبق من أصحابي إلا هذه العصابة وإني أخاف عليهم الهلاك أن تؤخر الفرج عنهم، فأوحى اللّه عزوجل إليه قد أجبت دعوتك فاصنع الفلك، فكان بين إجابة الدعاء وبين الطوفان خمسون سنة(1).

وعن عكرمة قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحقني من الجزع عليه ما لم يلحقني قط، ولم أملك نفسي وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره فقلت: ما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليفر وما رأيته في القتلى وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى اُقتل، وحملت على القوم فأفرجوا عني وإذا أنا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد وقع على الأرض مغشيا عليه!! فقمت على رأسه فنظر إلي فقال: ما صنع الناس يا علي؟ فقلت: كفروا يا رسول اللّه وولوا الدبر من العدو وأسلموك، فنظر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي رد عني يا علي هذه الكتيبة فحملت عليها أضربها بسيفي يمينا وشمالا حتى

ص: 134


1- راجع كمال الدين: ج1 ص133-134 ب2 باب في ذكر ظهور نوح (عليه السلام) بالنبوة بعد ذلك ح2.

ولوا الأدبار، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أما تسمع يا علي مديحك في السماء إن ملكا يقال له رضوان ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.

فبكيت سرورا وحمدت اللّه سبحانه وتعالى على نعمته(1).

ص: 135


1- راجع الارشاد: ج1 ص86-87 فصل في ذكر غزاة احد.

38

الحث على الزواج

اشارة

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكد كثيراً على الزواج، وأنه ضرورة اجتماعية دينية خاصة للشباب.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فشكا إليه الحاجة، فقال: تزوّج. فتزوّج فوُسّع عليه»(1).

وكان المسلمون يسهلون أمر الزواج، ولم تكن هذه التعقيدات الموجودة اليوم.

وعن عكاف بن وداعة الهلالي، قال: أتيت إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لي: «يا عكاف، ألك زوجة؟». قلت: لا.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألك جارية؟». قلت: لا.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وأنت صحيح موسر؟». قلت: نعم والحمد لله.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فإنك إذاً من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما أن تصنع كما يصنع المسلمون وإن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم - إلى أن قال: - ويحك يا عكاف تزوّج.. تزوّج فإنك من

ص: 136


1- الكافي: ج5 ص330 باب أن التزويج يزيد في الرزق ح2.

الخاطئين». قلت: يا رسول اللّه، زوّجني قبل أن أقوم. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «زوجتك كريمة بنت كلثوم الحميري»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنكحت زيد بن حارثة زينب بنت جحش، وأنكحت المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب؛ ليعلموا أن أشرف الشرف الإسلام»(2).

وعن علي (عليه السلام) ، قال: «إن جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل، فأخبرت أم سلمة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخرج إلى أصحابه. فقال: أترغبون عن النساء! إني آتي النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وأنزل اللّه: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}(3).

الحياة الزوجية السعيدة

الحياة الزوجية السعيدة لها مقومات بيّنها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأفضل نموذج في ذلك حياته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) حيث كان ملؤها الإيمان والمحبة.

نشأت خديجة بنت خويلد بن أسد (عليها السلام) في بيت شرف ويسار. وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكانت ذات تجارة تبعث بها إلى الشام، تستأجر الرجال وتدفع لهم المال

ص: 137


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص155-156 ب2 ح16359.
2- مكارم الأخلاق: ص207 ب8 ف3.
3- وسائل الشيعة: ج20 ص21 ب2 ح24921.

مضاربة بشيء تجعله منه. فلما بلغها عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار. وبعد ذلك بعثت إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقالت له: «يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك»، ثم عرضت عليه نفسها للزواج، وكانت أسن منه بخمس عشرة سنة على رواية، فتزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل النبوة وقد مهرها اثنتي عشرة أوقية وكذلك كانت مهور نسائه. فولدت له القاسم - وكان يكنى به - وعبد اللّه - وهو الطاهر والطيب - وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة (عليها السلام) . ولما بُعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعاها إلى الإسلام فآمنت وصدقت وآزرت، فكانت أول من أسلمت من النساء.

عن محمد بن إسحاق، قال: كانت خديجة أول من آمن باللّه ورسوله، وصدقت بما جاء من اللّه، ووازرته على أمره، فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلاّ فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رحمها اللّه(1).

وقد ورد عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فضلها وعظيم منزلتها أحاديث عديدة رواها المسلمون جميعاً. فعن عبد اللّه بن جعفر، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أُمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(2).

ص: 138


1- كشف الغمة: ج1 ص511 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .
2- كشف الغمة: ج1 ص507 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .

وعن أنس بن مالك، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون»(1).

وعن أبي هريرة، قال: أتى جبرئيل (عليه السلام) النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: «هذه خديجة قد أتتك معها إناء مغطى فيه أدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(2).

وقال ابن هشام: حدثني من أثق به: أن جبرئيل أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أقرئ خديجة من ربها السلام». فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا خديجة، هذا جبرئيل يقرئكِ من ربكِ السلام». قالت خديجة: «اللّه السلام ومنه السلام، وعلى جبرئيل السلام»(3).

ولذلك كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحبها حباً جماً، وكذلك يحبّ من يحبها ويكرم من يكرمها، فلم يتزوج عليها في حياتها إكراماً لها، وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها.

يروى: أن عجوزاً دخلت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فألطفها، فلما خرجت سألته عنها عائشة فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان»(4).

وعن عائشة، قالت: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء

ص: 139


1- كشف الغمة: ج1 ص507 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .
2- كشف الغمة: ج1 ص508 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .
3- كشف الغمة: ج1 ص512 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .
4- كشف الغمة: ج1 ص508 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .

عليها واستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك اللّه من كبيرة السن. قالت: فرأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غضب غضباً شديداً فسقطت في يدي، فقلت: اللّهم إنك إن أذهبت بغضب رسولك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم أعد لذكرها بسوء ما بقيت، قالت: فلما رأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما لقيت. قال: «كيف قلتِ، واللّه لقد آمنَتْ بي إذ كفر الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقت مني الولد حيث حرمتموه»(1).

روايات في الحياة الزوجية

عن ضريس الكناسي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «إن امرأةً أتت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لبعض الحاجة. فقال لها: لعلكِ من المسوفات!.

قالت: وما المسوفات يا رسول اللّه؟.

قال: المرأة التي يدعوها زوجها لبعض الحاجة فلا تزال تسوفه حتى ينعس زوجها فينام، فتلك التي لا تزال الملائكة تلعنها حتى يستيقظ زوجها»(2).

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل اللّه صلاتها ولاحسنةً من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر وقامت، وأعتقت الرقاب، وأنفقت الأموال في سبيل اللّه، وكانت أول من ترد النار.

ثم قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً، ومن صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه اللّه بكل مرة يصبر عليها من الثواب مثل ما أعطى أيوب على بلائه، وكان عليها من الوزر في كل

ص: 140


1- كشف الغمة: ج1 ص512 فصل في مناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة (عليها السلام) .
2- وسائل الشيعة: ج20 ص164-165 ب83 ح25317.

يوم وليلة مثل رمل عالج، فإن ماتت قبل أن تعتبه وقبل أن يرضى عنها حشرت يوم القيامة منكوسةً مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ومن كانت له امرأة ولم توافقه ولم تصبر على ما رزقه اللّه وشقت عليه وحملته ما لم يقدر عليه، لم يقبل اللّه لها حسنةً تتقي بها النار وغضب اللّه عليها ما دامت كذلك»(1).

وفي خبر المناهي: عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قال: «نهى - رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها؛ فإن خرجت لعنها كل ملك في السماء، وكل شيء تمر عليه من الجن والإنس حتى ترجع إلى بيتها. ونهى أن تتزين لغير زوجها؛ فإن فعلت كان حقاً على اللّه عزوجل أن يحرقها بالنار. ونهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات مما لابد لها منه»(2).

وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال: سألته عن المرأة العاصية لزوجها هل لها صلاة، وما حالها؟.

قال (عليه السلام) : «لا تزال عاصيته حتى يرضى عنها».

وسألته عن المرأة لها أن تعطي من بيت زوجها من غير إذنه؟.

قال (عليه السلام) : «لا، إلا أن يحللها».

وسألته عن المرأة هل لها أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه؟.

قال (عليه السلام) : «لا»(3).

ص: 141


1- وسائل الشيعة: ج20 ص163-164 ب82 ح25315.
2- مكارم الأخلاق: ص425 ب12 ف2.
3- قرب الإسناد: ص101 باب ما يجب على النساء في الصلاة.

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال في حجة الوداع: «أيها الناس، إن النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن ضراً ولا نفعاً، أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمات اللّه، فلكم عليهن حق ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم، ولا يعصينكم في معروف؛ فإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ولا تضربوهن»(1).

وجاء رجل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت لي: ما يهمك إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل لك به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن لله عمالاً وهذه من عماله، لها نصف أجر الشهيد»(2).

ص: 142


1- الخصال: ج2 ص487 الشهور اثنا عشر شهراً ح63.
2- وسائل الشيعة: ج20 ص32 ب6 ح24954.

39

مع الشباب

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثير الاهتمام بالشباب، فعندما يرى شاباً يكرمه ويحترمه ويقبل إليه، فيسأله عن اسمه وعن عمله، وهل أنه متزوج أم لا؟، ثم يقدم له نصيحة.

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «أتى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاب من الأنصار فشكا إليه الحاجة، فقال له: تزوج. فقال الشاب: إني لأستحيي أن أعود إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فلحقه رجل من الأنصار، فقال: إن لي بنتاً وسيمة. فزوجها إياه، قال: فوسع اللّه عليه فأتى الشاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا معشر الشباب عليكم بالباه»(1). أي بالزواج.

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنه قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباه فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليدمن الصوم فإن له وجاء»(2).

وعن زيد بن ثابت، قال: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا زيد، تزوجت؟».

ص: 143


1- وسائل الشيعة: ج20 ص44 ب11 ح24989.
2- مكارم الأخلاق: ص197 ب8 ف1.

قلت: لا. قال: «تزوج تستعف مع عفتك، ولا تزوجن خمساً». قال زيد: من هنّ؟. قال: «لا تزوجن شهبرة، ولا لهبرة، ولا نهبرة، ولا هيدرة، ولا لفوتاً». قال زيد: ما عرفت مما قلت شيئاً؟. قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أ لستم عرباً، أما الشهبرة فالزرقاء البذية، وأما اللّهبرة فالطويلة المهزولة، وأما النهبرة فالقصيرة الدميمة، وأما الهيدرة فالعجوز المدبرة، وأما اللفوت فذات الولد من غيرك»(1).

ص: 144


1- وسائل الشيعة: ج20 ص35-36 ب7 ح24964.

40

في متناول الفقراء

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في متناول الفقراء، ومع جميع طبقات شعبه دائماً، حتى عندما شكل الحكومة الإسلامية في المدينة وكان قائداً عاماً لها.

عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : «أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يأتي أهل الصفة وكانوا ضيفان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة، فأسكنهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صُفة المسجد وهم أربعمائة رجل، يسلّم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهم بالغداة والعشي، فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله ومنهم من يرقع ثوبه ومنهم من يتفلى، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرزقهم مداً مداً من تمر في كل يوم. فقام رجل منهم فقال: يا رسول اللّه، التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا!.

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أما إني لو استطعت أن أطعمكم الدنيا لأطعمتكم، ولكن من عاش منكم بعدي فسيغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان، ويغدو أحدكم في قميصة ويروح في أخرى، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة».

فقام رجل فقال: يا رسول اللّه، إنا إلى ذلك الزمان بالأشواق فمتى هو؟.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «زمانكم هذا خير من ذلك الزمان، إنكم إن ملأتم بطونكم من

ص: 145

الحلال توشكون أن تملئوها من الحرام»(1).

وعن جابر بن عبد اللّه، قال: غزا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسعة عشر وغبت عن اثنتين، فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيانا ضحى تحتي بالليل فبرك، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في آخرنا في آخريات الناس، فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم، فانتهى إليَّ وأنا أقول: يا لهف أماه وما زال لنا ناضح سوء.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من هذا؟».

فقلت: أنا جابر بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما شأنك؟».

قلت: أعيا ناضحي.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أمعك عصا؟».

فقلت: نعم.

فضربه(2)

ثم بعثه ثم أناخه ووطئ على ذراعه وقال: «اركب».

فركبت فسايرته فجعل جملي يسبقه، فاستغفر لي تلك الليلة خمسا وعشرين مرة. فقال لي: «ما ترك عبد اللّه من الولد؟»، يعني أباه.

قلت: سبع نسوة.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أبوك عليه دين؟».

قلت: نعم.

ص: 146


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص56 ب63 ح13499.
2- أي أشار إليه بالضرب، أو ضربه ضربا خفيفا لا يؤذي الحيوان (منه (قدس سره) ).

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا فإذا حضر جذاذ نخلكم فآذني».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «هل تزوجت؟».

قلت: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «بمن؟».

قلت: بفلانة بنت فلان، بأيم كانت بالمدينة.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟».

قلت: يا رسول اللّه، كن عندي نسوة خرق - يعني أخواته - فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء، فقلت: هذه أجمع لأمري.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أصبت ورشدت».

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «بكم اشتريت جملك؟».

فقلت: بخمس أواق من ذهب.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قد أخذناه».

فلما قدم المدينة أتيته بالجمل، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا بلال، أعطه خمس أواق من ذهب يستعين به في دَين عبد اللّه، وزده ثلاثاً واردد عليه جمله.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «هل قاطعت غرماء عبد اللّه؟».

قلت: لا يا رسول اللّه.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أ ترك وفاءً؟».

قلت: لا. قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا عليك، إذا حضر جذاذ نخلكم فآذني».

فأذنته فجاء فدعا لنا، فجذذنا واستوفى كل غريم ما كان يطلب تمراً وفاء وبقي لنا ما كنا نجذ وأكثر.

ص: 147

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ارفعوا ولا تكيلوا»، فرفعناه وأكلنا منه زماناً (1).

وعن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول: «أُتي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشيء فقسّمه فلم يسع أهل الصفة جميعاً، فخص به أناساً منهم، فخاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يكون قد دخل قلوب لآخرين شيء، فخرج إليهم فقال: معذرة إلى اللّه عزوجل وإليكم يا أهل الصفة، إنا أوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم، فخصصت به أناساً منكم خشينا جزهم وهلعهم»(2).

ص: 148


1- بحار الأنوار: ج16 ص233-234 ب9 في الرفق بأمته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
2- الكافي: ج3 ص550 باب تفضيل أهل الزكاة بعضهم على بعض ح5.

41

الحياء والعفة

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قمة الحياء والعفة.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) - في خطبة له خاصة يذكر فيها حال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وصفاتهم -: «فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه، وأكرمهم عليه: محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، في حومة العز مولده، وفي دومة الكرم محتده، غير مشوب حسبه، ولا ممزوج نسبه ولا مجهول، عند أهل العلم صفته، بشرت به الأنبياء (عليهم السلام) في كتبها، ونطقت به العلماء بنعتها، وتأملته الحكماء بوصفها، مهذب لا يدانى، هاشمي لايوازى، أبطحي لايُسامى، شيمته الحياء، وطبيعته السخاء، مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها...»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «كنت قاعداً في البقيع مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم دجن ومطر، إذ مرت امرأة على حمار فوقع يد الحمار في وهدة فسقطت المرأة، فأعرض النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بوجهه، قالوا: يا رسول اللّه، إنها متسرولة؟.

قال: اللّهم اغفر للمتسرولات - ثلاثاً - يا أيها الناس، اتخذوا السراويلات

ص: 149


1- بحار الأنوار: ج16 ص396 ب11 ح80.

فإنها من أستر ثيابكم، وحصنوا بها نساؤكم إذا خرجن»(1).

وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيياً لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه(2).

وعنه قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه(3).

ونظر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى رجل يغتسل بحيث يراه الناس. فقال: «أيها الناس، إن اللّه يحب من عباده الحياء والستر، فأيكم اغتسل فليتوار من الناس فإن الحياء زينة الإسلام»(4).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من لا حياء له فلا إيمان له»(5).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «استحيوا من اللّه حق الحياء»(6).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الحياء شعبة من الإيمان»(7).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء»(8).

وقد فسروا الحياء: بانقباض النفس عن القبائح، وقالوا هو من خصائص الإنسان فلا يوجد في الحيوان كالفرس والغنم والبقر ونحوها. وقد جعله اللّه تعالى

ص: 150


1- مستدرك الوسائل: ج3 ص244 ب7 ح3490.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص465 ب93 ح10023.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص465 ب93 ح10024.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص463 ب93 ح10020.
5- شرح نهج البلاغة: ج19 ص47 فصل في الحياء وما قيل فيه.
6- شرح نهج البلاغة: ج19 ص47.
7- شرح نهج البلاغة: ج19 ص47.
8- شرح نهج البلاغة: ج19 ص47.

في الإنسان ليرتدع عما تنزع إليه نفسه من القبيح فلا يكون كالبهيمة، قالوا وهو خُلق مركب من جبن وعفة.

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث أخافهن على أمتي من بعدي : الضلالة بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج»(1).

ص: 151


1- الكافي: ج2 ص80 باب العفة ح6.

42

مخالفة الهوى

من أهم ما يوجب الفوز بسعادة الدارين مخالفة الهوى، وقد أكد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ذلك. وكان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول من يخالف هواه، كما سبق في بعض أخلاقياته.

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم»(1).

وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه عند عودته من غزوة تبوك: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر! وبقي عليهم الجهاد الأكبر!». قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟. قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جهاد النفس»(2).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحل قلوبكم الحكمة»(3).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(4).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الكيّس من الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز

ص: 152


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص122.
2- بحار الأنوار: ج67 ص65 ب45 ح7.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص122.
4- بحار الأنوار: ج67 ص64 ب45 ح1.

من اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه عزوجل الأماني»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فالثلاث المهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، الخبر»(2).

ص: 153


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص112 ب81 ح13664.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص113 ب81 ح13666.

43

تغيير الأسماء القبيحة

كان من أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يغير الأسماء القبيحة للأشخاص أو البلدان إلى أسماء حسنة.

فعن الحسين بن علوان، عن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «استحسنوا أسماءكم؛ فإنكم تدعون بها يوم القيامة، قم يا فلان بن فلان إلى نورك، وقم يا فلان بن فلان لا نور لك»(2).

وقد وفد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حي من العرب، فقال: «بنو من أنتم؟».

قالوا: بنو نُهم، بضم الميم.

فقال: «نهم شيطان، أنتم بنو عبد اللّه»(3).

ومن الوفود التي قدمت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفد طيء وفيهم زيد الخيل وعدي بن حاتم، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم، وسماه

ص: 154


1- وسائل الشيعة: ج21 ص390 ب22 ح27379.
2- الكافي: ج6 ص19 باب الأسماء والكنى ح10.
3- الفايق في غريب الحديث: ج3ص337 حرف النون - النون مع الهاء.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زيد الخير(1).

وعن أبي أيوب: أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى أن يقال للمدينة يثرب(2).

وعن عبد اللّه بن جعفر، قال: سمى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة طيبة(3).

وعن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشر يقول: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسمي المدينة طابة(4).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن اللّه أمرني أن أسمي المدينة طيبة».

وعن عبد اللّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: لما أقبلنا من غزوة تبوك قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «هذه طيبة أسكننيها ربي »(5).

وعن أبي حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عام تبوك، قال: فقال: «إني متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل معي فليفعل». فخرج وخرجنا حتى إذا أوفى على المدينة قال: «هذه طابة»(6).

وعن جابر بن سمرة: أنهم كانوا يقولون: المدينة ويثرب. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن اللّه سماها طابة»(7).

وعنه قال: كانوا يسمون المدينة بثرب، فسماها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طيبة (8).

ص: 155


1- بحار الأنوار: ج21 ص365-366 ب35 ح1.
2- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص165 ما جاء في أسماء المدينة.
3- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص163 ما جاء في أسماء المدينة.
4- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص165 ما جاء في أسماء المدينة.
5- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص163 ما جاء في أسماء المدينة.
6- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص164 ما جاء في أسماء المدينة.
7- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص164 ما جاء في أسماء المدينة.
8- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص164 ما جاء في أسماء المدينة.

وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من قال للمدينة: يثرب فليقل: أستغفر اللّه ثلاثاً، هي: طابة، هي طابة، هي طابة»(1).

وعن ابن عباس، عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعنى المدينة، ومن قال: يثرب، فليستغفر اللّه ثلاث مرات، هي طيبة، هي طيبة، هي طيبة».

فإن كلمة يثرب مأخوذة من الثرب بالتحريك وهو الفساد، أو من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحب الاسم الحسن، ولهذا أسماها طابة وطيبة. وأما تسميتها في القرآن يثرب فذلك حكاية عن قول المنافقين، حيث قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً}(2).

وفي شرح النهج:

(كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يغير بعض الأسماء، سمى أبا بكر عبد اللّه وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وسمى ابن عوف عبد الرحمن وكان اسمه عبد الحارث، وسمى شعب الضلالة شعب الهدى، وسمى يثرب طيبة، وسمى بني الريبة بني الرشدة، وبني معاوية بني مرشدة.

كان سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أحد الفقهاء المشهورين أتى جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: «ما اسمك؟». قال: حزن. قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا بل أنت

ص: 156


1- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري: ج1 ص164-165 ما جاء في أسماء المدينة.
2- سورة الأحزاب: 12-13.

سهل». فقال: لا بل أنا حزن. عاوده فيها ثلاثاً ثم قال: لا أحب هذا الاسم، السهل يوطأ ويمتهن. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فأنت حزن». فكان سعيد يقول: فما زلت أعرف تلك الحزونة فينا)(1).

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة: ج19 ص366 طرائف حول الأسماء والكنى.

44

التعامل مع الكفار

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نموذجاً في علاقته الطيبة مع الإنسان بما هو إنسان، فكان يحترم الجميع حتى الكفار ويسعى في هدايتهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن لم يهتدوا لم يبدأهم بحرب بل يتركهم وشأنهم.

إن الإسلام قد جعل في علاقة المسلمين بغيرهم أصولاً كلها عقلية، وهي على أتم وجه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1). ولم يخصص اللّه سبحانه وتعالى هذا الحكم بالنسبة إلى المسلمين فحسب، بل يشمل المسلمين والكفار حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ...}.

وفي حديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إنه قال: «من ظلم ذمياً أو معاهداً فأنا خصمه يوم القيامة، ومن كنت خصمه خاصمته»(2).

وقال تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ

ص: 158


1- سورة الحجرات: 13.
2- راجع لسان الميزان لابن حجر: ج3 ص398 ح1579.

الظَّالِمُونَ}(1).

وقد أراد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اختلاط المسلمين بغير المسلمين ليطلع غير المسلمين على عقائد المسلمين وحسن أخلاقهم وأعمالهم وشعائرهم حتى يرغبوا في الإسلام عقيدة وعملاً، حيث إن الإسلام جميل في كل شؤونه، فإذا رآه غير المسلم انجذب إليه، ومن مقتضيات العلاقة بينهما المخالطة وتبادلهم المصالح والمنافع وتقوية الصلات، سواء كانوا كفاراً ذميين أم محايدين أم معاهدين، وإنما المستثنى من ذلك الكفار المحاربون في الجملة.

وكان الأمر في حسن العلاقات وحسن التعامل وحسن المعاشرة بين المسلمين ومختلف الكفار منذ فجر الإسلام، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الأمر المشهور بأن غير الكتابي يخير بين قبول الإسلام أو المحاربة لا دليل قوي عليه، كما لا أثر له في مرحلة التطبيق الخارجي في مختلف عصور المسلمين، كما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى حكام المسلمين الذين استولوا على الهند وغير الهند، ومن القديم كان فيها المسلمون وغير المسلمين، الكتابيون وغير الكتابيين، من عبدة الأصنام، وعبدة النار، وعبدة الماء، وعبدة البقر، وغير ذلك من الأديان المتعددة التي لا تمت إلى أهل الكتاب (اليهود والنصارى والمجوس) بشيء.

فمن حق غير المسلمين - في حدودهم وأطُرهم - أن يمارسوا شعائرهم ويظهروا عقائدهم، ولا تهدم لهم كنيسة ولا بيعة ولا صلوات ولا سائر المعابد، ولا يكسر لهم صليب أو ما يدل على شعاراتهم ومقدساتهم، ولا يهضم لهم حق، ولا ينتقص من حقوقهم ما داموا ملتزمين بالولاء للدولة الإسلامية، محترمين

ص: 159


1- سورة الممتحنة: 8-9.

لعقيدتها، غير متعاونين مع أعداء الدولة على صفة الجواسيس وما أشبه ضد المسلمين.

ولذا نشاهد في التاريخ أن الذين دخلوا في الإسلام لم يدخلوا فيه عن سيف وإكراه، وإنما كان السيف لأجل تغيير الحاكم الظالم فقط وإنقاذ المظلومين، ولكن الناس دخلوا بأنفسهم في الإسلام رغبة، وذلك لما رأوا فيه من الحسن والواقعية والمنطق والبرهان والتسامح واللاعنف، ثم إن أخذ الجزية من غير المسلمين هو في مقابل أخذ الزكاة من المسلمين وإنما الفرق في اللفظ، فالجزية أخذ جزء من مال الكفار في مقابل الزكاة التي هي عبارة عن التزكية والتطهير للنفس والمال.

ولم يكن الإسلام يحترم الكفار فيما لهم من الحقوق فحسب، بل كان يحترمهم حتى فيما لم يكن لهم من الحقوق، كما نشاهد ذلك في قصة زيد الذي كان من أحبار اليهود، فإنه أقرض النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قرضاً كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد احتاج إليه، ثم رأى زيد أن يذهب قبل ميعاد الوفاء المحدد ليطالب بدَينه. قال زيد: فأتيت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت: يا محمد، ألا تقضيني دَيني فو اللّه ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلاّ مطلاً. فنظر إليَّ عمر وعيناه تدوران في وجهه ثم رماني ببصره فقال: يا عدو اللّه، أتقول لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أسمع وتصنع به ما أرى! فو الذي نفسي بيده لولا ما أحاذر لضربت بسيفي رأسك. ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينظر في هدوء، فقال: «يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الاقتضاء. اذهب يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما روعته».

قال زيد: فذهب عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت:

ص: 160

ما هذه الزيادة يا عمر؟.

قال: أمرني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن أزيدك مكان ما روعتك(1).

فإن اليهودي كان معتدياً على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع ذلك لم يقابله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمثل بل قابله بالفضل. وهكذا كانت سيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى سائر الكفار والمشركين والمنافقين.

ثم إن الإسلام شرع للمسلم أن يتزوج بالكتابية كما أحل طعامهم، قال سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ له مُسْلِمُونَ}(3).

وقال عزوجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}(4).

حيث تدل هذه الآيات على غاية الحنان واللطف والعطف بما لا يجد الإنسان مثلها في أي دين ومبدأ.

وقد حرض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على زيارة الكفار وعيادة مرضاهم وتقديم الهدايا لهم ومبادرتهم البيع والشراء وسائر المعاملات، وهكذا عمل المسلمون

ص: 161


1- راجع المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3 ص605.
2- سورة المائدة: 5.
3- سورة العنكبوت: 46.
4- سورة سبأ: 24.

طول التاريخ الإسلامي مع غير المسلمين، سواء كانوا من أهل الكتاب أم غير أهل الكتاب، وقد ثبت أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مات ودرعه مرهونة عند يهودي في دَين على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لليهودي. كما ثبت أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زار ذلك اليهودي الذي كان يصبّ على رأس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرماد.

وفي حديث صفوان أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استعار منه أدرعاً يوم حنين، وقد كان صفوان بمثابة وزير الدفاع للكفار، ولما أراد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يذهب إلى حرب حنين طلب منه أن يعيره أربعمائة من الدروع.

فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟! فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «بل عارية مضمونة»(1).

مع العلم أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان هو المسيطر والغالب وكان يتمكن أن يأخذ الدروع.

كما أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقبل الهدايا من الكفار والمشركين، وقصة قبوله للشاة المشوية المسمومة من تلك اليهودية مشهورة(2).

وورد أن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبإجازة من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذهبت إلى عرس أقامها اليهود لبعض بناتهم(3).

ومن جانب آخر ترك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الكفار ولم يحاسبهم إذا ارتكبوا المحرمات في بيوتهم ولم يتظاهروا بذلك في المجتمع الإسلامي، وذلك لقانون الإلزام، حيث قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»(4).

نعم لا يجوز للكفار إظهار المناكير؛ لأن ذلك خلاف المعايشة السلمية، فإن

ص: 162


1- راجع الكافي: ج5 ص240 باب ضمان العارية والوديعة ح10.
2- راجع الأمالي للصدوق: ص224 المجلس الأربعون ح2.
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص30 ب3 ح37.
4- تهذيب الأحكام: ج9 ص322 ب29 ح12.

اللازم على من يعيش في دولة أن يحترم قوانينها.

وقد كان المسلمون طول التاريخ الإسلامي يعاملون غير المسلمين أحسن من معاملة أمثالهم لهم، ذكر (نورمان لينزانة) لما فتح العثمانيون القسطنطينية كان أكثر الشعب المسيحي في عشية الفتح ينفرون من أي اتفاق مع كنيسة روما الكاثوليكية أشد من نفورهم من الاتفاق مع المسلمين، فما زال الناس يرددون الكلمة المشهورة التي نطق بها رئيس في بيزنطة في ذلك الحين وهي أنه قال: (لخير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا من أن نرى فيها تاج البابوية)؛ وذلك لأن تاج البابوية كان يظلمهم ويضطرهم إلى قيود كثيرة تحد من حرياتهم، بينما العمامة الإسلامية لم تكن كذلك، وإنما كانت تعطي لهم الحرية في مختلف مشاريعهم وشعائرهم. وقد تحدث عنه المقوقس عظيم القبط في مصر بعد أن قابلوا الفاتح الإسلامي فقالوا: رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة، جلوسهم على التراب وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف كبيرهم من صغيرهم، ولا السيد فيهم من العبد، فإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخضعون في صلاتهم.

ولما فتح المسلمون البلاد أباحوا للمطرودين والفارين منهم أن يرجعوا إلى أوطانهم سالمين، ولهذا أحب الكفار المسلمين ودخلوا في دين اللّه أفواجاً، فالآية الكريمة وإن كانت في زمن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً}(1) إلا أن ذلك استمر إلى اليوم حيث يدخل الكفار في دين اللّه أفواجاً.

ص: 163


1- سورة النصر: 2.

وقد رأيت تقريراً يقول: إن جماعة من نساء اليهود دخلوا الإسلام حيث رأوا السماحة الإسلامية في أسلوب معاشرة الرجال للنساء، فإنه خير من أسلوب معاشرة رجال اليهود لهن.

فالحرية التي منحها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين منحها أيضاً لغير المسلمين كل في إطاره وموازينه على تفصيل ذكر في التاريخ والتفسير والفقه الإسلامي.

ولذا نشاهد أن الآيات القرآنية على الأغلب تميل إلى خطاب كل طوائف البشر، مثلاً قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(1)، وهكذا في آيات أخر وأحاديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليهم السلام) .

وفي حديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى، ألا فليبلغ الشاهد الغائب»(2).

ص: 164


1- سورة النساء: 1.
2- شرح نهج البلاغة: ج1 ص126 فصل في الكلام على السجع.

45

لا للعصبيات

من الأسس التي سنّها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي إبعاد الناس عن العصبيات القومية واللغوية واللونية والعرقية والجغرافية الخاصة التي تسمى بالملية والوطنية بالمعنى الضيق، وكذلك عن سائر العصبيات التي تنافي إنسانية الإنسان، وهذا من أهم أسس السلم والسلام في المجتمع، وارتفع بالجماعة أن يكونوا مرتبطين بعضهم ببعض أو منفصلين بعضهم عن بعض بهذه الروابط الضيقة، فالموجود البديع الذي هو أبدع موجودات اللّه سبحانه وتعالى أرفع وأسمى من أن يكون بعضهم يواصل بعض أو يقاطع بعض في لغة أو لون أو جغرافية أو ما أشبه ذلك مما يسبب مختلف التنازع والتدابر والتهاجر، ومما يوجب الحقد والشحناء والبغضاء وظهور العداوات والمخاصمات والتي بالآخرة تنتج انفصام عرى الإنسانية الكاملة وتقويض السلام وتقضي على روح التعاون والأخوة.

قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(1).

وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

ص: 165


1- سورة آ ل عمران: 101-102.

كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(1).

وقال عزوجل: ­{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(3).

لذا فالمهم في الإسلام هو الإنسان والعمل الصالح، كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(4).

نعم ورد النهي عن اتخاذ الكفار أولياءً وذلك نشراً للفضيلة وردعاً عن المنكرات، حيث يجب في شرع اللّه سبحانه أن يُتخذ الأولياء أولياءً والأعداء أعداءً، واتخاذ الأعداء أعداءً ليس لذاته، بل لقطع دابر الظالم والظالمين، والمنحرف والمنحرفين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}(5).

وفي آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(6).

ص: 166


1- سورة آ ل عمران: 103.
2- سورة آ ل عمران: 105.
3- سورة النساء: 1.
4- سورة آ ل عمران: 110.
5- سورة آ ل عمران: 118.
6- سورة المائدة: 51.

وفي آية ثالثة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(1).

وفي آية رابعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(2).

ومن الواضح أن معادة الأعداء - إلاّ ما خرج بالدليل - إنما يكون بقدر، فهو كالعملية الجراحية التي لا تكون إلا بقدر الضرورة، وإلا فالأصل ما قاله سبحانه: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(3).

كما يستثنى من عدم جواز الموالاة، ما كان في صورة التقية والضرورة، فإنه كما في الحديث: «ليس شيء مما حرمه اللّه إلا وقد أحله لمن اضطر إليه»(4).

وقد قال سبحانه: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(5).

وهناك قسم ثالث بين الكافرين والمؤمنين: وهم المنافقون، فالإسلام يعاملهم

ص: 167


1- سورة التوبة: 23.
2- سورة الممتحنة: 1.
3- سورة الممتحنة: 8.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص258 ب24 ح14051.
5- سورة آ ل عمران: 28.

معاملة حسنة، فمعاداتهم تكون بقدر، لا بقدر الكفار في الابتعاد ولا بقدر المؤمنين في الاقتراب، فقد قال سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُراءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ له سَبِيلاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}(1).

وفي قوله سبحانه: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(2) دلالة على أن حكم المنافقين في الدنيا لا يختلف عن حكم المسلمين والمؤمنين، ولكن حسابهم وعقابهم يكون في الآخرة فمصيرهم جهنم وبئس المصير، إذن ليس عليهم حكم خاص إلا ما ينطبق على سائر المسلمين في الدنيا، وإن كانوا هم العدو فاحذرهم قاتلهم اللّه، كما في القرآن الحكيم(3).

وقد لاحظ الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الأمر في المنافقين دائر بين أن يبقوا في

ص: 168


1- سورة النساء: 138-144.
2- سورة النساء: 142.
3- إشارة إلى قوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} سورة المنافقون: 4.

صف الكفار ويحاربوا المسلمين بكل صراحة وجرأة، وبين أن يتظاهروا بالإسلام ويراعوا ما يكشف باطنهم، وإن كانوا قلباً مع الكفار.. وكان الثاني أولى.

ثم إن الإسلام لم يحكم على المنافقين حكماً قاضياً، بل تركهم وشأنهم، وفي قصة مسجد ضرار مع أنه وصفهم اللّه سبحانه وتعالى بأوصاف شديدة، لم يرتب عليهم حكماً قاضياً، فلم يُقتلوا ولم يُسجنوا ولم يُغرموا...

وهذا أمر يدل عليه العقل أيضا، فإنه يرى باتخاذ الأهم وترك المهم، قال سبحانه في سورة التوبة: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).

وأما قوله تعالى: {يَا أيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(2). فإنه لا يراد بذلك جهاد المنافقين كجهاد الكفار بل للمنافقين جهاد خاص، كما أن للكفار جهاداً خاصاً، والجامع هو الجهد والاجتهاد.. نعم في الآخرة مصيرهم جهنم كما في الآية.

ثم إن الإسلام بما أنه لم يكن دين تفرقة وتشتيت، بل دين جمع شمل ووحدة كلمة وسلام وهداية، نشاهد أنه يجلل الديانات السماوية والأنبياء جميعاً فقد

ص: 169


1- سورة التوبة: 107-110.
2- سورة التوبة: 73.

قال سبحانه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ له مُسْلِمُونَ}(1).

وقال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}(2).

وقال تعالى بالنسبة إلى موسى (عليه السلام) : {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ}(3).

وقال سبحانه عن النبي عيسى (عليه السلام) : {وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}(4).

وقال سبحانه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}(5).

ولذلك نشاهد أن المسلمين من يومهم الأول لم يحاربوا اليهود ولا النصارى أما بالنسبة إلى النصارى فقد صالحهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قصة نصارى نجران(6).

وأما بالنسبة إلى اليهود فقد كتب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم معاهدة احترام وتعامل

ص: 170


1- سورة البقرة: 136.
2- سورة البقرة: 285.
3- سورة المائدة: 44.
4- سورة المائدة: 46.
5- سورة المائدة: 68.
6- راجع بحار الأنوار: ج21 ص276 ب32.

طيب، والتزم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها.. ولكنهم نقضوا العهد وخانوا المسلمين فحدث بين المسلمين وبين اليهود بعض المناوشات والحروب، وبمجرد أن انتهت أكرمهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أي إكرام لم يعرف في التاريخ لا قبله ولا بعده مثله، حيث تزوج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنت ملكهم صفية بعد أن أسلمت بينما كانت أسيرة بيد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان يتمكن أن يتصرف فيها تصرف الغزاة الفاتحين مع الأرقاء المأسورين..

وذات مرة تعرضت لها بعض نساء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشيء من الكلام الخشن، فسألت منها: من أبوكِ ومن عمكِ؟. ولما عرفت صفية أنها مغرضة أخذت تبكي، فلما جاءها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نقلت القصة، فقال لها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا سألوكِ بعد ذلك فقولي: جدي موسى كليم اللّه، وعمي هارون نبي اللّه، وزوجي محمد رسول اللّه»(1).

أما بعض القضايا الخشنة في التعامل مع أهل الكتاب، الواردة في بعض التواريخ فقد ذكرنا في موارد متعددة أنها دس في التاريخ الإسلامي، والشواهد تدل على أنها مدسوسة فإنه لم ير العالم دينا كدين الإسلام في العفو والتسامح واللاعنف. وحتى النصارى واليهود ليس بينهم مثل هذا التسامح الذي جعله الإسلام بالنسبة إليهم، فالعداوة بين اليهود والنصارى شديدة لأن اليهود يدينون بأن بني إسرائيل هم شعب اللّه المختار ويزعمون أن عيسى (عليه السلام) كاذب والعياذ باللّه وأتباعه ضالون، بل ينسبون إلى عيسى (عليه السلام) وأمه الطاهرة (عليها السلام) بعض الموبقات الكبيرة، كما قال القرآن الحكيم: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً}(2)، والمسيحيون

ص: 171


1- راجع تفسير القمي: ج2 ص321 الإفك على مارية.
2- سورة النساء: 156.

وان كانوا يقرون بنبوة موسى (عليه السلام) ونزول التوراة، ولكنهم ينقمون على اليهود أنهم يتهمون عيسى (عليه السلام) في نسبه ويجحدون رسالته، كما ينقمون عليهم في قصة الصليب، كما ينقمون على المسلمين أيضا لأن الإسلام في زعمهم دين افتراه رجل عربي. أما عداوة اليهود للمسلمين فأشد، ومع كل ذلك فالإسلام احترمهم وأكرمهم.

وقد ظهر مما سبق أن نظر اليهود والنصارى أحدهما إلى الآخر، وكذلك نظرهما للمسلمين نظر سوء وافتراء وعداء، أما نظر الإسلام إليهما فهو نظر هداية وإرشاد وتسامح وعفو وإصلاح.

قال تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ}(1).

وقال سبحانه: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

وقال عزوجل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(3).

وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ}(4).

ص: 172


1- سورة البقرة: 256.
2- سورة العنكبوت: 46.
3- سورة الكهف: 29.
4- سورة القصص: 56.

46

التسامح

من أهم الأسس التي أكد عليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبدأ التسامح بمختلف صورها، وقد أخذ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأصل التسامح حتى مع أشد أعدائه، وحينما قدر عليهم.

وفي القرآن الحكيم آيات عديدة تدل على التسامح بمعناه العام والشمولي.

قال سبحانه: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1).

ومن الواضح أن الآية لا تختص بأهل الكتاب، بل تشمل كل من لم يكن مسلماً.

وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

وقال عزوجل: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3).

وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}(4).

وقال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(5).

ص: 173


1- سورة الممتحنة: 8.
2- سورة النحل: 125.
3- سورة العنكبوت: 46.
4- سورة الغاشية: 21-22.
5- سورة يونس: 99.

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}(1).

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}(2).

وقد أمر اللّه سبحانه بحسن المعاملة مع الجميع وبالوفاء بالعهد مع الجميع، حيث قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(3). ولا فرق بين عقد مع مسلم أو كافر.

وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}(4).

وقال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً}(5).

وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(6).

وفي سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشيء الكثير من أمثلة التسامح، وقد روي عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة».

ص: 174


1- سورة الإسراء: 54.
2- سورة آل عمران: 64.
3- سورة المائدة: 1.
4- سورة النحل: 91.
5- سورة الإسراء: 34.
6- سورة التوبة: 4.

وقد عقد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معاهدة مع قبيلة تغلب في السنة التاسعة من الهجرة وكان الإسلام قد قوي أشد القوة ودانت به العرب والجزيرة ومع ذلك لم يجبرهم على الإسلام وأباح لهم البقاء على نصرانيتهم. وصالح (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نصارى نجران - كما سبق - وتركهم أحراراً في دينهم.

ووجه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عماله إلى اليمن لأخذ الجزية ممن أقام على نصرانيته، وكذلك فعل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع النصارى واليهود جميعاً في بلاد العرب.

وكان المجوس موزعين في بقاع شتى من جزيرة العرب منهم مجوس نجران وهجر وعمان والبحرين، وهؤلاء جميعاً بقوا على دينهم ودفعوا الجزية، ولم ينقل التاريخ أنه اضطُهد مجوسي بترك دينه أو بترك قريته، وقد فتح المسلمون بلاداً أخرى وسلكوا مع أهاليها مسلك السماحة.

وتسامح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان منذ اليوم الأول، وقد اشترطت قريش على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في صلح الحديبية شروطاً قاسية، وتسامح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم وقبل بها، منها أن من جاء من محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قريش لاترده إلى محمد، ومن جاء من قريش إلى محمد بغير إذن وليه رده محمد، وقبل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شرطهم الجائر لحكمة رآها من توسيع الإسلام، كما شاهدناه بعد ذلك وتبرم بعضهم وما كانوا يفقهون من توقيع المعاهدة حتى جاء أول امتحان للوفاء، إذ وصل مسلم من مكة اسمه أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد فاراً من أذى قومه وألح على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أن يضمه إليه، لكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سلمه لقريش وفاءً بعهده، وقال أبو جندل: إنهم سيعذبوني. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اصبر واحتسب فإن اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا عقدنا بيننا وبينهم وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد اللّه فإنا لانغدر بهم».

ثم وفد على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمدينة أبو بصير عتبة ابن أسيد فرده وقال له مثل ما

ص: 175

قال لأبي جندل، ثم اجتمع جماعة منهم في الطريق بين مكة والمدينة وكانوا يقطعون على وفود مكة مما اضطر أهل مكة أن يتنازلوا عن العهد ويقبلوا بالتحاقهم بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).

وكان من سماحة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن عامل أسرى بدر معاملة حسنة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمم، فقد كانت الأمم تعامل أسراها معاملة العدو البغيض، فتقتلهم أو تبيعهم أو تسترقهم، أو تسخرهم في أشق الأعمال، أو تعذبهم أشد العذاب. وقد استشار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شأن أسرى بدر، فأشار بعضهم عليه بقتلهم، وأشار بعضهم بفدائهم، فوافق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الفداء وجعل فداء الذين يكتبون أن يعلّم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة الكتابة.

كما أنه أشار بعض الصحابة أن يمثل بسهيل بن عمر وهو أحد المحرضين على محاربة المسلمين، بأن ينتزع ثنيتيه السفليين فلا يستطيع الخطابة، فرفض النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «لا أمثل به فيمثل اللّه بي وإن كنت نبياً»(2).

ولما فتح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة قال لقريش: «ما تظنوني فاعل بكم؟». قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما أقول إلاّ كما قال أخي يوسف لأخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء»(3).

كما أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقبل أن يقطع الماء على يهود خيبر، مع أنه كان في

ص: 176


1- راجع تفسير القمي: ج2 ص309 صلح الحديبية، بحار الأنوار: ج20 ص361 ب20 ح10.
2- شرح نهج البلاغة: ج14 ص172 ف3 القول فيما جرى في الغنيمة والأسارى بعد هزيمة قريش ورجوعها إلى مكة.
3- راجع الكافي: ج4 ص225 باب أن اللّه عزوجل حرم مكة حين خلق السماوات والأرض ح3.

قطع الماء السيطرة عليهم(1).

وكان من إحسانه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهل الكتاب أنه كان يقترض منهم مكررا، مع أن بعض الصحابة كانوا أثرياء وكلهم يتلهف على أن يقترض الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منه.

وإنما فعل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك تعليماً للأمة، وتثبيتاً عملياً لما يدعو إليه من السلم والسلام والوئام حتى مع الكفار، وتدليلاً على أن الإسلام لا يقطع علاقات المسلمين مع مواطنيهم من غير دينهم.

كما أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) حضر مع يهودي عند شريح القاضي للتقاضي(2).

وقبله حضر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بعض قضاته مع مشرك ادعى عليه كذباً(3).

وقد شايع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يهودياً كان مصاحباً له في الطريق.. ولم يعرف اليهودي علياً (عليه السلام) ثم لما عرفه في قصة مذكورة أسلم(4).

لذا نجد أن شعوب الكفار على اختلافهم وفي البلاد المفتوحة رحبوا بالفاتحين المسلمين أشد ترحيب، وقد كتب المسيحيون في الشام إلى رئيس المسلمين كتاباً يقولون فيه: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا، كما ذكره (فتوح الشام) للأزدي البصري.

ويذكر (فتوح البلدان) للبلاذري: إن أهل حمص أغلقوا أبواب مدينتهم حتى لا يدخلها جيش هرقل، وقالوا: إن المسلمين ولايتهم وعدلهم أحب إليهم من

ص: 177


1- راجع بحار الأنوار: ج21 ص30-31 ب22 ح32.
2- راجع المناقب: ج2 ص105 في المسابقة بالتواضع.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص274-275 ب18 ح33759.
4- راجع بحار الأنوار: ج71 ص157 ب10 ح4.

ظلم الرومان وتعسفهم(1).

وكانت في الشمال قبائل عربية دانت بالمسيحية زمناً طويلاً، فلما بدأ الإسلام يصطرع مع الروم سارع بعضهم إلى اعتناق الإسلام والانضمام إلى المسلمين مثل بني غسان وغيرهم.

وكذلك صنعت بعض القبائل العربية التي كانت موالية للفرس في العراق، فقد وفد على قائد المسلمين بعد واقعة القادسية كثير من العرب المسيحيين المقيمين على نهر الفرات وأسلموا، كما أسلم إخوان لهم من قبل.

وكذلك رحب القبط في مصر بالفتح الإسلامي وبالقائد الفاتح وشكروه؛ لأنه أنقذهم من الاضطهاد الديني ومن عسف الروم وتنكيلهم بمخالفيهم في المذهب وإن كان دينهما واحداً. ولما فتح المسلمون بلاد الفرس لم يلقوا من الشعب مقاومة عنيفة؛ لأن حكامها كانوا قد استبدوا بهم وأعنتوهم ولأنهم كان يناصرون ديانة زرادشت التي صارت الدين الرسمي للدولة، فقد كانت مبغوضة بالنسبة إلى كثير من الأهالي، وقد استغل كهنتها نفوذهم في اضطهاد الفرق الدينية الأخرى وكانت كثيرة، كما أنهم كانوا يضطهدون المسيحيين واليهود والصابئة أيضاً، هذا بالإضافة إلى فرض الضرائب الباهضة على مختلف الطبقات وكان الغالب يكرهون بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم في مسألة التزويج، فلما انتصر المسلمون عليهم تنفسوا الصعداء من جهة الدين ومن جهة الضرائب ومن جهة النكاح، ورحبوا بهم حباً للخلاص من ظلم الحكام ورغبة في إعفائهم من الخدمة العسكرية الجبرية، ولأن حكام المسلمين أعطوهم الحريات الدينية والعملية.

ص: 178


1- راجع فتوح البلدان: ج1 ص162 ح367.

ولما حارب المسلمون مع أهل الشام المسيحيين وأخذوا ينتصرون، ائتمر قادة أهل الحرب من النصارى حول علاج الأمر وسألوا عن واحد واحد عن سبب تقدم المسلمين عليهم، فأجاب كل بجواب، حتى وصل الأمر إلى خادم كان يخدمهم في ذلك المجلس، ولما سألوا عنه عن سبب انتصار المسلمين عليهم مع أنهم كفار برابرة أجانب! أجاب الخادم بعد أن أخذ الأمان منهم قال: لأنهم أفضل منكم وإن كنتُ على دينكم لكني أدع اللّه سبحانه وتعالى في قلبي كل يوم أن ينتصر المسلمون، ثم بين السبب قال: قد كانت لي مزرعة نعيش في المزرعة أنا وزوجتي وأولادي من البنين والبنات، ولما جئتم أنتم اغتصب هذا الضابط - وأشار إلى أحدهم - ابنتي، وهذا الضابط - وأشار إلى آخر - زوجتي، وذاك وأشار إلى ثالث ولدي، وآخر مزرعتي، فهل تريدون مني أن انتظر انتصاركم أو أخدمكم بكل قلبي، وإن أهل الشام كلهم على شاكلتي، أنتم تحاربونهم في أرزاقهم ومعايشهم وأولادهم وأراضيهم ومزارعهم وزوجاتهم وبناتهم، لذا يرحبون بالمسلمين ويكون ذلك سبب انتصار المسلمين عليكم، فإنهم لا يتعاملون معنا إلا بالحسنى.

وهكذا كان انتصار المسلمين على الحكام الظلمة حيث كان يرحب بهم أهل البلاد أعظم ترحيب، وهكذا تقدم المسلمون يوماً بعد يوم عندما كان يتحلون بالتسامح، ولكن بعد ما تركوا هذا التسامح رجعوا القهقرى وأصبحوا متفرقين متشتتين متعصبين، هذا يكفر ذاك وذاك يكفر هذا، ويحل بعضهم دماء بعض، كما نشاهده اليوم.. حتى انفض الناس من حولهم كما قال سبحانه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(1).

ص: 179


1- سورة آل عمران: 159.

وقد التف بعض الناس اليوم إلى جهة أخرى قد يكون فيها نوع من التسامح، وهم المتحضرون الغربيون، مع الفرق الشاسع بين التسامح الإسلامي والتسامح الغربي، وبين المتحضرين الغربيين اليوم وبين المسلمين الأوائل المتسامحين، حيث إن التسامح عند المسلمين أكثر بكثير من تسامح هؤلاء الماديين، مضافاً إلى أن المسلمين كانوا يبشرون بالدنيا والآخرة، بينما المتحضرون الغربيون لا يبشرون إلاّ بالدنيا، والدنيا لا تملأ إلا جزءً واحدا من جزئي الإنسان، والإنسان بحاجة إلى الجزء الآخر المرتبط بروحه ولا يملؤه إلاّ الآخرة. وكل من الدنيا والآخرة عند المسلمين مؤيد بالعقل القطعي والبراهين الجلية والمنطق الإنساني الرفيع والفطرة السليمة، وهذا ما يفتقده الآخرون.

ثم إن التسامح الذي ذكرناه ليس في موضوع خاص، بل في كل جوانب الإسلام، وجميع أحكامه، حيث التسامح بالنسبة إلى المسلم نفسه وبالنسبة إلى أهله وعياله وجيرانه، وبالنسبة إلى سائر المسلمين، بل وغير المسلمين، بل وحتى الحيوانات. وحديث امرأة دخلت النار في هرة حبستها، وامرأة دخلت الجنة في كلب روته، مشهور(1).

ص: 180


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص302 ب44 ح9502.

47

تكريم الإنسان

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكرم الإنسان بما هو إنسان تكريماً فوق كل تكريم، مع قطع النظر عن دينه ومعتقداته. يقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(1).

والسؤال هو أنه إذا كان الإنسان مكرّماً على كثير، فهل هناك غير الكثير حيث يساوي بني آدم أو يكون أفضل منه؟.

الجواب: لا، وإنما الأكرم هو الإنسان فقط، والتعبير تعبير بلاغي قرآني حيث في كثير من الأحيان تقتضي البلاغة عدم ذكر الكلية وعدم الجزم بالأمر، ومن هنا ترى كثيراً ما تستعمل كلمة (لعل) في القرآن الحكيم مع أن اللّه سبحانه يعلم الواقع،قال سبحانه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}(2). إن عقلاء العالم كثيراً ما يستخدمون ليت ولعل، ولا يتكلمون بالقطع واليقين وإن كانوا قاطعين متيقنين.

وفي آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا

ص: 181


1- سورة الإسراء: 70.
2- سورة سبأ: 24.

وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}(1).

فالدخول في بيت الناس بلا استئذان غير جائز، وهذا تكريم للإنسان وحفظ لحقوقه.

وفي آية أخرى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً}(2).

وقال سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ}(3).

وهناك العديد من حقوق المسلم على المسلم، بل بعض تلك الحقوق تشمل غير المسلم أيضاً. ومن أدلة تكريم اللّه الإنسان قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ}(4).

ومن هنا فإن أفضل منشور لحقوق الإنسان هو ما جاء به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

روي: أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نظر إلى الكعبة، وقال: «مرحباً بالبيت ما أعظمك وما أعظم حرمتك على اللّه، واللّه للمؤمن أعظم حرمة منك؛ لأن اللّه حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله، ودمه، وأن يظن به ظن السوء»(5).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(6).

ص: 182


1- سورة النور: 27.
2- سورة النساء: 8.
3- سورة الذاريات: 24-25.
4- سورة البقرة: 34، سورة الإسراء: 61، سورة الكهف: 50، سورة طه: 116.
5- بحار الأنوار: ج64 ص71 ب1 الأخبار ح39.
6- جامع الأخبار: ص147 ف110.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضا: «من آذى ذميا فقد آذاني».

وفي التاريخ أنه لما فر عدي بن حاتم، وأن خيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أخذوا أخته، وقدموا بها على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمنّ عليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكساها وأعطاها نفقة، فخرجت مع ركب حتى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم، فقدم وأسلم وأكرمه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده(1).

ص: 183


1- راجع بحار الأنوار: ج21 ص366 ب35 ح1.

48

حق الناس

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكد على حق الناس أكبر التأكيد، فلا يُسمح لأحد أن يتجاوز على حق أحد أو يتصرف في نفسه أو ماله بدون إذنه.

عن معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إنه ذكر لنا أن رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران ديناً، فلم يصلّ عليه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: صلوا على صاحبكم، حتى ضمنهما عنه بعض قرابته. فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ذلك الحق - ثم قال - إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما فعل ذلك ليتّعظوا وليردّ بعضهم على بعض ولئلا يستخفوا بالدَين»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: «كل ذنب يكفره القتل في سبيل اللّه عزوجل إلا الدَين لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحق»(2).

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة»(3).

ص: 184


1- الكافي: ج5 ص93 باب الدين ح2.
2- الكافي: ج5 ص94 باب الدين ح6.
3- الكافي: ج2 ص333 باب الظلم ح15.

وقال (عليه السلام) : «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حراما»(1).

وعن العالم (عليه السلام) : «من أكل مال اليتيم درهما واحدا ظلماً من غير حق، يخلده اللّه في النار»(2).

ص: 185


1- وسائل الشيعة: ج17 ص81 ب1 ح22042.
2- مستدرك الوسائل: ج13 ص192 ب58 ح15071.

49

حق الرعية

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل أسوة في أداء حق رعيته، فكان بإمكان كل واحد من المسلمين والمسلمات - بل وحتى الكفار - أن يصل إليه ويبثّ إليه همومه ومشاكله، ويطلب منه قضاء حاجته مباشرة ومن دون حاجب.

وفي الحديث أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا كان في صلاة فيقبل عليه أحد، خفف من صلاته وأقبل عليه وقال: «ألك حاجة؟»(1).

وهذا أكبر درس للحكومات والولاة ومن أشبه بأن من حقوق الناس عليهم قضاء حوائجهم والاهتمام بهم.

عن صباح بن سيابة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أيما مؤمن أو مسلم مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن اللّه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}(2) الآية، فهو من الغارمين وله سهم عند الإمام، فإن حبسه فإثمه عليه»(3).

ص: 186


1- راجع المناقب: ج1 ص147 فصل في آدابه ومزاحه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
2- سورة التوبة: 60.
3- بحار الأنوار: ج27 ص249 ب13 ح9.

وعن حنان عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم - وفي رواية أخرى - حتى يكون للرعية كالأب الرحيم»(1).

ص: 187


1- بحار الأنوار: ج27 ص250 ب13 ح10.

50

حق الحيوان

لم يحُرم من رحمة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى الحيوان، حيث ورد عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التأكيد على حقوق الحيوان وحرمة إيذائه.

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن اللّه يحب الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدواب العجف فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها»(1).

وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «للدابة على صاحبها خصال: يبدأ بعلفها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مر به، ولا يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها، ولا يقف على ظهرها إلاّ في سبيل اللّه عزوجل، ولا يحملها فوق طاقتها، ولايكلفها من المشي إلاّ ما تطيق»(2).

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أين صاحبها؟، مروه فليستعد غداً للخصومة»(3).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تتوركوا على الدواب، ولا تتخذوا ظهورها مجالس»(4).

ص: 188


1- الكافي: ج2 ص120 باب الرفق ح12.
2- من لا يحضره الفقيه : ج2 ص286 باب حق الدابة على صاحبها ح2465.
3- بحار الأنوار : ج61 ص203 ب8 ح5.
4- من لا يحضره الفقيه : ج2 ص287 باب حق الدابة على صاحبها ح2471.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «لا تسبوا الديك فإنه صديقي وأنا صديقه وعدوه عدوي، والذي بعثني بالحق لو يعلم بنو آدم ما في قترته لاشتروا ريشه ولحمه بالذهب والفضة وأنه يطرد مذمومة من الجن»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تسبوا الديك؛ فإنه يدل على مواقيت الصلاة»(3).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»(4).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أكثروا من الدواجن في بيوتكم تتشاغل بها الشياطين عن صبيانكم» (5).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الإبل عز لأهلها» (6).

وعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعمته: ما يمنعك من أن تتخذي في بيتك بركة!، قالت: يا رسول اللّه ما البركة؟ فقال: شاة تحلب، فإنه من كانت في داره شاة تحلب أو نعجة أو بقرة فبركات كلهن»(7).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما من نبي إلاّ وقد رعى الغنم» قيل: وأنت يا رسول اللّه؟ قال:

ص: 189


1- بحار الأنوار : ج62 ص9 ب2 ح13.
2- مكارم الأخلاق: ص130 ب6 ف9 فيما يتعلق بالمسكن.
3- مكارم الأخلاق: ص130 ب6 ف9 فيما يتعلق بالمسكن.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص303 ب44 ح9505.
5- مستدرك الوسائل: ج8 ص285 ب27 ح9459.
6- المحاسن: ج2 ص635 ب15 ح131.
7- الكافي: ج6 ص545 باب الغنم ح7.

«وأنا» (1).

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة(2).

ص: 189


1- بحار الأنوار: ج61 ص117 ب2.
2- راجع كتاب (الفقه: حقوق الحيوان وأحكامه) للإمام المؤلف (قدس سره) .

51

إكرام الوفود

كان من أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسياسته العامة إكرام الوفود وإن كانوا كفاراً، وقد توافدت عليه الوفود بكثرة في السنة التاسعة والعاشرة من الهجرة المباركة، وأكرمهم جميعاً بالمال والهدايا وبأخلاقه الطيبة.

وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك(1).

روي أنه قدم على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عروة بن مسعود الثقفي مسلماً واستأذن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرجوع إلى قومه. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني أخاف أن يقتلوك». فقال: إن وجدوني نائماً ما أيقظوني. فأذن له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم، فعصوه وأسمعوه الأذى حتى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذن وتشهد، فرماه رجل بسهم فقتله. وأقبل بعد قتله من وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف، فأسلموا فأكرمهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحباهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر، وقد كان تعلّم سوراً من القرآن(2).

ولما أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفود العرب فدخلوا في دين

ص: 190


1- بحار الأنوار: ج21 ص372 ب35 ح2.
2- بحار الأنوار: ج21 ص364 ب35 ح1.

اللّه أفواجاً كما قال اللّه سبحانه، فقدم عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعيينة بن حصن الفزاري، وعمرو بن الأهتم. وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتح مكة وحنيناً والطائف، فلما قدم وفد تميم دخلا معهم فأجارهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحسن جوارهم(1).

وممن قدم عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة لأمه، وكان عامر قد قال لأربد: إني شاغل عنك وجهه فإذا فعلته فأعله بالسيف. فلما قدموا عليه قال عامر: يا محمد خالني. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا حتى تؤمن باللّه وحده» قالها مرتين.

فلما أبى عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: واللّه لأملأنها عليك خيلاً حمراً ورجالاً. فلما ولى قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اكفني عامر بن الطفيل».

فلما خرجوا قال عامر لأربد: أين ما كنت أمرتك به؟. قال: واللّه ما هممت بالذي أمرتني به إلاّ دخلت بيني وبين الرجل، أفأضربك بالسيف؟. وبعث اللّه على عامر بن الطفيل في طريقه ذلك الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من سلول، وخرج أصحابه حين واروه إلى بلادهم، وأرسل اللّه على أربد وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما(2).

وقدم وفد محارب في حجة الوداع وهم عشرة نفر فيهم سواء بن الحارث وابنه خزيمة، ولم يكن أحد أفظ ولا أغلظ على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منهم، وكان في الوفد

ص: 191


1- بحار الأنوار: ج21 ص364 ب35 ح1.
2- بحار الأنوار: ج21 ص365 ب35 ح1.

رجل منهم فعرفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. فقال - الرجل -: الحمد لله الذي أبقاني حتى صدقت بك. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن هذه القلوب بيد اللّه»، ومسح وجه خزيمة فصارت له غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد وانصرفوا(1).

وقدم وفد بجيلة قدم جرير بن عبد اللّه البجلي ومعه من قومه مائة وخمسون رجلاً. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يطلع عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن على وجهه مسحة ملك». فطلع جرير على راحلته ومعه قومه فأسلموا وبايعوا.

قال جرير: وبسط رسول اللّه يده فبايعني وقال: «على أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتنصح للمسلمين، وتطيع الوالي وإن كان عبداً حبشيا».

فقلت: نعم، فبايعته.

وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسأله عما وراءه فقال: يا رسول اللّه، قد أظهر اللّه الإسلام والأذان وهدمت القبائل أصنامهم التي تعبد. قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فما فعل ذو الخلصة؟».

قال: هو على حاله.

فبعثه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هدم ذي الخلصة وعقد له لواء. فقال: إني لا أثبت على الخيل. فمسح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صدره وقال: «اللّهم اجعله هادياً مهدياً».

فخرج في قومه وهم زهاء مائتين فما أطال الغيبة حتى رجع فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أ هدمته؟».

قال: نعم والذي بعثك بالحق وأحرقته بالنار فتركته كما يسوء أهله. فبرك

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج21 ص370 ب35 ح2.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على خيل أخمس ورجالها(1).

وقدم السيد والعاقب من نجران فكتب لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاب صلح. على تفصيل ذكرناه في كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم).

ص: 193


1- بحار الأنوار: ج21 ص371 ب35 ح2.

52

قصة الغدير

قام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتليغ رسالات اللّه بأجمعها، وكان تكميلها بولاية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) . قال تعالى: {يَا أيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ}(1).

فقد جمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الناس في غدير خم وأبلغهم أن الخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون غيره .. ومن بعد علي: الحسن والحسين والتسعة المعصومين من ذرية الحسين (عليهم السلام) ونزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(2).

جاء في (تفسير القمي): قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: نزلت هذه الآية في علي (عليه السلام) {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(3)، قال: نزلت هذه الآية في منصرف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من حجة الوداع.. وحج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة. فكان من قوله بمنى أن حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه

ص: 194


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة المائدة: 3.
3- سورة المائدة: 67.

عني، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا - ثم قال: - هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة؟».

قال الناس: هذا اليوم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فأي شهر؟». قال الناس: هذا.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وأي بلد أعظم حرمة؟». قالوا: بلدنا هذا.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغتُ أيها الناس؟».

قالوا: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اشهد - ثم قال: - ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين، ليس أحد أكرم من أحد إلاّ بالتقوى، ألا هل بلّغتُ؟».

قالوا: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اشهد - ثم قال: - ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع... ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع وأول موضوع دم ربيعة، ألا هل بلّغتُ؟».

قالوا: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اشهد - ثم قال: - ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد. ألا أيها الناس إن المسلم أخو المسلم حقاً، لا يحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلاّ ما أعطاه بطيبة نفس منه، وإني أمرت أن أقاتل الناس

ص: 195

حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على اللّه، ألا هل بلّغتُ أيها الناس؟».

قالوا: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اشهد - ثم قال: - أيها الناس، احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي وافهموه تنعشوا، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا؛ فإن فعلتم ذلك ولتفعلن لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف - ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ثم قال :- إن شاء اللّه أو علي بن أبي طالب»..

ثم قال: «ألا وإني قد تركت فيكم أمرين، إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي؛ فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك، ألا هل بلّغتُ؟». قالوا: نعم.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اشهد - ثم قال - ألا وإنه سيرد عليَّ الحوض منكم رجال فيدفعون عني، فأقول: رب أصحابي! فقال: يا محمد، إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك. فأقول: سحقاً سحقاً».

فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل اللّه {إِذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ}(1)، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «نعيت إليَّ نفسي». ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف، فاجتمع الناس فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «نصر اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل

ص: 196


1- سورة النصر: 1.

فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: أخلص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، ولزم جماعتهم؛ فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين».

قالوا: يا رسول اللّه، وما الثقلان؟.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه - ولا أقول كهاتين - وجمع سبابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه».

فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا: يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته، فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً، فأنزل اللّه على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلَى ورُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}(1). فخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مكة يريد المدينة حتى نزل منزلاً يقال له: غدير خم، وقد علم الناس مناسكهم وأوعز إليهم وصيته إذ نزلت عليه هذه الآية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(2).

فقام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه: «أيها الناس، هل تعلمون من وليكم؟». فقالوا: نعم، اللّه ورسوله. ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألستم تعلمون

ص: 197


1- سورة الزخرف: 79-80.
2- سورة المائدة: 67.

أني أولى بكم من أنفسكم؟». قالوا: بلى. قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم اشهد». فأعاد ذلك عليهم ثلاثاً كل ذلك يقول مثل قوله الأول ويقول الناس كذلك ويقول: «اللّهم اشهد»، ثم أخذ بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) فرفعها حتى بدا للناس بياض إبطيهما، ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبه - ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: - اللّهم اشهد عليهم وأنا من الشاهدين». فاستفهمه عمر فقام من بين أصحابه فقال: يا رسول اللّه، هذا من اللّه ومن رسوله؟. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «نعم من اللّه ورسوله، إنه أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، يقعده اللّه يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار»(1).

ص: 198


1- تفسير القمي: ج1 ص172-174 خطبة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم الغدير.

53

العترة الطاهرة

العترة الطاهرة (عليهم السلام) هي الامتداد الحقيقي لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد خلّف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمته الثقلين: كتاب اللّه وعترته أهل بيته (سلام اللّه عليهم أجمعين)، فكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مختلف المناسبات يؤكد للمسلمين ضرورة التمسك بأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ومتابعتهم وعدم مخالفتهم.

روي بطرق مختلفة عن أبي سعيد الخدري وعن غيره، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أيامه الأخيرة أنه قال: «إني أوشك أن أدعى فأجيب، فإني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزوجل وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا بما ذا تخلفوني»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الإسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوفاء، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(2).

وعن رافع مولى أبي ذر، قال: رأيت أبا ذر (رحمه اللّه) آخذاً بحلقة باب الكعبة

ص: 199


1- معاني الأخبار: ص90 باب معنى الثقلين والعترة.
2- المحاسن: ج1 ص286 ب46 ح427.

ويقول: من عرفني فقد عرفني أنا جندب الغفاري، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول:

«من قاتلني في الأولى وقاتل أهل بيتي في الثانية حشره اللّه مع الدجال، إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومثل باب حطة من دخلها نجا ومن لم يدخله هلك»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنا ميزان العلم وعلي (عليه السلام) كفتاه، والحسن والحسين (عليهما السلام) حباله، وفاطمة (عليها السلام) علاقته، والأئمة (عليهم السلام) من بعدهم يزنون المحبين والمبغضين»(2).

وعن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن لكل نبي عصبة ينتمون إليها إلاّ ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم، وهم عترتي خلقوا من طينتي، وويل للمكذبين بفضلهم، من أحبهم أحبه اللّه، ومن أبغضهم أبغضه اللّه»(3).

وعن يزيد بن حيان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سيرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا عنده قال له حصين:

لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت معه خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قال: يا ابن أخي، لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت

ص: 200


1- بشارة المصطفى: ص88.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص111 سورة آل عمران وما فيها من الآيات البينات في الأئمة الهداة.
3- بحار الأنوار: ج23 ص104-105 ب7 ح2.

أعي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فما حدثتكم فاقبلوه وما لا أذكره فلا تكلفوني، ثم قال: قام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فينا خطيباً بماء يدعى خُماً بين مكة والمدينة، فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب اللّه فيه النور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به - فحث على كتاب اللّه تعالى ورغب فيه، ثم قال - وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني فرطكم على الحوض فأسألكم حين تلقوني عن الثقلين كيف خلفتموني فيهما».

فاعتل علينا لا ندري ما الثقلان حتى قام رجل من المهاجرين فقال: يا نبي اللّه، بأبي أنت وأمي ما الثقلان؟.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الأكبر منهما كتاب اللّه طرف بيد اللّه تعالى وطرف بأيديكم، فتمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا. والأصغر منهما عترتي، من استقبل قبلتي، وأجاب دعوتي، فلا تقتلوهم ولا تغزوهم؛ فإني سألت اللطيف الخبير فأعطاني أن يردا عليَّ الحوض كهاتين - و أشار بالمسبحة والوسطى - ناصرهما ناصري، وخاذلهما خاذلي، وعدوهما عدوي، ألا وإنه لن تهلك أمة قبلكم حتى تدين بأهوائها، وتظاهر على نبيها، وتقتل من يأمر بالقسط فيها»(2).

وروى الزمخشري بإسناده قال: قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فاطمة بهجة قلبي، وابناها

ص: 201


1- بحار الأنوار: ج23 ص107-108 ب7 ح10.
2- الطرائف: ج1 ص117 حديث الثقلين ح179.

ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، وأئمة من ولدها أمنائي، وحبل ممدود بيني وبين خلقه من اعتصم به نجا، ومن تخلف عنهم هلك»(1).

وعن أبان بن تغلب، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أراد أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل جنة عدن التي غرسها اللّه ربي بيده، فليتول علي بن أبي طالب وليتول وليه، وليعاد عدوه، وليسلم للأوصياء من بعده؛ فإنهم عترتي من لحمي ودمي، أعطاهم اللّه فهمي وعلمي، إلى اللّه أشكو أمر أمتي المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، وأيم اللّه ليقتلن ابني لا أنالهم اللّه شفاعتي»(2).

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «من أحب أن يتمسك بالقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه اللّه تعالى في جنة عدن فليتمسك بحب علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين»(3).

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أحب أن ينسئ اللّه له في أجله، وأن يتمتع بما خوله اللّه، فليخلفني في أهلي خلافة حسنة؛ فإنه من لم يخلفني فيهم بتك اللّه عمره، وورد عليَّ يوم القيامة مسوداً وجهه»(4).

وعن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من دان بديني، وسلك منهاجي، واتبع سنتي، فليدن بتفضيل الأئمة من أهل بيتي على جميع أمتي؛

ص: 202


1- نهج الحق: ص396 المسألة السابعة ف2 الإجماع.
2- الكافي: ج1 ص209 باب ما فرض اللّه عزوجل ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الكون مع الأئمة (عليهم السلام) ح5.
3- الطرائف: ج1 ص118 حديث الثقلين ح182.
4- بحار الأنوار: ج23 ص116 ب7 ح31.

فإن مثلهم في هذه الأمة مثل باب حطة في بني إسرائيل»(1).

وعن أمه أم سلمة (رضوان اللّه عليها) قالت: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «علي بن أبي طالب والأئمة من ولده بعدي سادة أهل الأرض، وقادة الغر المحجلين يوم القيامة»(2).

ص: 202


1- الأمالي للصدوق: ص74 المجلس17 ح6.
2- بحار الأنوار: ج23 ص127 ب7 ح59.

54

جيش أسامة

آخر بعث بعثه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الشام هو جيش أسامة، حيث أمّر على المسلمين أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمّره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء(1)

والداروم(2)

من أرض فلسطين، فتجهز الناس.. وتخلف من تخلف.

روي: أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة اللواء بيده ثم قال: «أغز بسم اللّه في سبيل اللّه، فقاتل من كفر باللّه».

فخرج أسامة وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلاّ انتدب في تلك الغزوة فيهم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وغيرهم. فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين.

فغضب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غضباً شديداً فخرج وقد عصب على رأسه عصابة، فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، أيها الناس فما مقالة بلغتني

ص: 203


1- البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قصبتها عمان وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة. راجع معجم البلدان: ج1 ص489.
2- الداروم: قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر، الواقف فيها يرى البحر إلا أن بينها وبين البحر مقدار فرسخ، خربها صلاح الدين لما ملك الساحل في سنة 584. راجع معجم البلدان: ج2 ص 424.

عن بعضكم تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في أمارتي أباه من قبله، وأيم اللّه إنه كان للإمارة لخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة». ثم نزل فدخل بيته وكان ذلك يوم السبت، وثقل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأثر السم، فجعل يقول: «انفذوا بعث أسامة، انفذوا بعث أسامة، أنفذوا بعث أسامة، لعن اللّه من تخلف عن جيش أسامة».

وقال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في (الإرشاد):

«ثم إنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره؛ حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من يختلف في الرئاسة، ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده، ولا ينازعه في حقه منازع، فعقد له الإمرة على ما ذكرناه. وجدّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إخراجهم، فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف، وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه، وحذرهم من التلوم والإبطاء عنه»(1).

وقد تخلف بعض الصحابة لأسباب سياسية غير خفية على البصير، فشملهم لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 204


1- الإرشاد: ج1 ص180-181.

55

استشهاد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

كانت وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل استشهاده في صبيحة يوم الاثنين أو عند زواله، لليلتين بقيتا من شهر صفر، سنة إحدى عشرة من الهجرة، وعمره الشريف آنذاك ثلاث وستون سنة. ودفن (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم الثلاثاء، وقيل: يوم الأربعاء.

وقد اشتكى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مرض قبل وفاته بثلاث عشرة ليلة تقريباً، وكان ذلك من أثر السم، قيل: إنه سم المرأة اليهودية في قصة خيبر(1).

ص: 205


1- لما تمكن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من فتح خيبر وصالح اليهود على صالحهم عليه، أهدت له زينب بنت الحارث بن سلام بن مشكم - وهي ابنة أخي مرحب - شاة مصلية وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟. فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم وسمت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة وانتهش منها، ومعه بشر بن البراء بن معرور فتناول عظماً فانتهش منه. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ارفعوا أيديكم؛ فإن كتف هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة». فدعاها فاعترفت، فقال: «ما حملكِ على ذلك؟». فقال: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبياً فسيخبر، وإن كان ملكاً استرحت منه. فتجاوز عنها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل. قال: ودخلت أم بشر بن البراء على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعوده في مرضه الذي توفي فيه. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أم بشر، ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنكِ تعاودني، فهذا أوان قطعت أبهري». فكان المسلمون يرون أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مات شهيداً مع ما أكرمه اللّه به من النبوة. راجع بحار الأنوار: ج21 ص6-7 ب22.

وكان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكد كثيراً خلال مرضه هذا على التمسك بأهل بيته (عليهم السلام) وضرورة تجهيز جيش أسامة والخروج من المدينة، ولعن من تخلف عن جيش أسامة (1) فأراد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخلي المدينة من المنافقين وغيرهم، حتى تتهيأ الأجواء لتسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخلافة. ولكن بعض الصحابة تخلفوا وعصوا أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خروجهم، فهل كانوا على علم بأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يشفى من مرضه هذا، وأنه سُقي سماً لا يبرأ منه؟!.

ص: 206


1- بحار الأنوار: ج30 ص432 ب22 الثاني التخلف عن جيش أسامة.

56

من الخطب الأخيرة

لما سمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن فلاناً أخذ يصلي بالمسلمين، قال: «ادعوا ليَّ العباس». فدُعي فحمله هو وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخرجاه، فدخل المسجد واستأنف الصلاة بالمسلمين وإنه لقاعد، ثم حمل فوضع على منبره فلم يجلس بعد ذلك على المنبر، واجتمع له جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتى برزت العواتق من خدورهن، فبين باكٍ وصائح وصارخ ومسترجع، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخطب ساعة ويسكت ساعة، وكان مما ذكر في خطبته أن قال:

«يا معشر المهاجرين والأنصار ومن حضرني في يومي هذا وفي ساعتي هذه من الجن والإنس، فليبلغ شاهدكم الغائب، ألا قد خلّفت فيكم كتاب اللّه فيه النور والهدى والبيان ما فرط اللّه فيه من شيء حجة اللّه لي عليكم، وخلّفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدى وصيي علي بن أبي طالب، ألا هو حبل اللّه فاعتصموا به جميعا ولا تفرقوا عنه»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصيته قرب وفاته: «أيها الناس لا تأتوني غداً بالدنيا تزفونها زفا ويأتي أهل بيتي شعثاً غبراً مقهورين مظلومين تسيل دماؤهم، إياكم وبيعات الضلالة والشورى للجهالة، ألا و إن هذا الأمر له أصحاب وآيات قد سماهم اللّه

ص: 207


1- بحار الأنوار: ج22 ص486 ب1 ح31.

في كتابه وعرّفتكم وبلّغتكم ما أرسلت به إليكم ولكني أراكم قوما تجهلون، لاترجعن بعدي كفارا مرتدين تتأولون الكتاب على غير معرفة وتبتدعون السنة بالهوى، وكل سنة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل»(1).

ص: 208


1- خصائص الأئمة: ص74.

57

في بيت فاطمة (عليها السلام)

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في آخر أيام حياته المباركة في بيت فاطمة (عليها السلام) ، وقد استأذن على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ملك الموت عزرائيل.

قال ابن عباس: فلما طرق الباب قالت فاطمة (عليها السلام) : «من ذا؟».

قال: «أنا غريب أتيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهل تأذنون لي في الدخول عليه؟».

فأجابت: «امضِ رحمك اللّه لحاجتك، فرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنك مشغول».

فمضى ثم رجع فدق الباب، وقال: «غريب يستأذن على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهل تأذنون للغرباء؟».

فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا فاطمة، إن هذا مفرق الجماعات، ومنغص اللذات، هذا ملك الموت، ما استأذن واللّه على أحد قبلي، ولا يستأذن على أحد بعدي، استأذن عليَّ لكرامتي على اللّه، ائذني له».

فدخل وقال: «السلام عليك يا رسول اللّه وعلى أهل بيتك».

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وعليك السلام يا ملك الموت».

فقال: «إن ربك أرسلني إليك وهو يقرؤك السلام ويخيرك بين لقائه والرجوع إلى الدنيا».

فاستمهله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى ينزل جبرئيل ويستشيره، فخرج ملك الموت من عنده

ص: 209

وجاء جبرئيل، فقال: «السلام عليك يا أبا القاسم».

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وعليك السلام يا حبيبي جبرائيل».

فقال: «يا رسول اللّه، إن ربك إليك مشتاق وما استأذن ملك الموت على أحد قبلك ولا يستأذن على أحد بعدك».

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا حبيبي جبرئيل إن ملك الموت قد خيرني عن ربي بين لقائه وبين الرجوع إلى الدنيا، فما الذي ترى؟».

فقال: «يا رسول اللّه {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}(1)».

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «نعم، لقاء ربي خير لي، لا تبرح يا حبيبي جبرئيل حتى ينزل ملك الموت». فنزل ملك الموت فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «امض لما أُمرت له».

ثم قال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا حبيبي جبرئيل ادن مني».

فدنا منه فكان جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وملك الموت قابضاً لروحه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . ثم مدّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده إلى علي (عليه السلام) فجذبه إليه وهو يقول: «ادن مني يا أخي فقد جاء أمر اللّه».

فدنا (عليه السلام) منه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه في أُذنه، وجعل يناجيه طويلاً حتى فارقت روحه الدنيا (صلوات اللّه عليه وآله) ويد أمير المؤمنين (عليه السلام) اليمنى تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها فرفعها (عليه السلام) إلى وجهه فمسحه بها.

ثم قال علي (عليه السلام) : «أعظم اللّه أُجوركم في نبيكم، فقد قبضه اللّه إليه».

ص: 210


1- سورة الضحى: 4- 5.

ثم مد عليه إزاره، وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، يا لها من مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين، لما يصابوا بمثلها قط ولا عاينوا مثلها».

فارتفعت عندها الأصوات بالضجة والبكاء، فصاحت فاطمة (عليها السلام) وصاح المسلمون، وصاروا يضعون التراب على رؤوسهم، وفاطمة (عليها السلام) تقول: «يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه، يا أبتاه أجاب رباً دعاه».

واجتمعت نسوة بني هاشم وجعلن يذكرن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويبكين.

ص: 211

58

تجهيز النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بتغسيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والصلاة عليه، وكفنه ودفنه في قبره الشريف حيث مزاره اليوم في المسجد النبوي الشريف.

قال الإمام علي (عليه السلام) : «أوصى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يغسله أحد غيري»(1).

وقال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : فلما أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) غسل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استدعى الفضل بن العباس فأمره أن يناوله الماء لغسله بعد أن عصب عينيه، فشق قميصه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قبل جيبه حتى بلغ به إلى سرته، وتولى غسله وتحنيطه وتكفينه، والفضل يعطيه الماء ويعينه عليه..

فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم (عليه السلام) فصلى عليه وحده، لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه، وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم في الصلاة عليه، وأين يدفن، فخرج إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال لهم:

«إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إمامنا حياً وميتاً فيدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلون عليه بغير إمام وينصرفون، وإن اللّه لم يقبض نبياً في مكان إلاّ وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإني لدافنه في حجرته التي قبض فيها»، فسلم القوم لذلك ورضوا به(2).

ص: 212


1- المناقب: ج1 ص239 فصل في وفاته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
2- الإرشاد: ج1 ص187.

وكانت الحجرة هي بيت فاطمة (عليها السلام) .

فصلى على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان، لا يؤمهم أحد وكانت صلاتهم: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً}(1).

عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ، قال:

«لما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من تغسيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتكفينه وتحنيطه أذن للناس وقال: ليدخل منكم عشرة عشرة ليصلوا عليه، فدخلوا وقام أمير المؤمنين (عليه السلام) بينه وبينهم وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(2) وكان الناس يقولون كما يقول».

قال أبو جعفر (عليه السلام) : «وهكذا كانت الصلاة عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(3).

وعن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: كيف كانت الصلاة على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟.

قال: «لما غسله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكفنه سجاه، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ثم وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ ومَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(4)، فيقول القوم كما يقول، حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي»(5).

ص: 213


1- سورة الأحزاب: 56.
2- سورة الأحزاب: 56.
3- الأمالي للمفيد: ص31 المجلس4 ح5.
4- سورة الأحزاب: 56.
5- الكافي: ج1 ص450 باب مولد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووفاته ح35.

59

زيارة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

من المستحبات المؤكدة زيارة قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور الأئمة الطاهرين من أهل بيته (عليهم السلام) ، ودل على ذلك متواتر الروايات.

ويأتي من بعد ذلك في الاستحباب والفضل: زيارة قبور الأولياء والعلماء والصالحين، ومن ثم زيارة قبور مطلق المؤمنين؛ فإنها تذكّر بالآخرة وتشدّ الناس نحو الخير والتقوى.

عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، قال: «إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين، فأما الأربعة الذين هم من الأولين: فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ، وأما الأربعة من الآخرين: فمحمد وعلي والحسن والحسين (صلوات اللّه عليهم)، ثم يمد المضمار فيقعد معنا من زار قبور الأئمة (عليهم السلام) إلاّ أن أعلاهم درجة وأقربهم حبوة زوار قبر ولدي علي (عليه السلام) »(1).

هذا ولا يصح الإشكال بأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد مات فما فائدة زيارته والتوسل به إلى اللّه عزوجل؟، فإنه مردود بالأدلة العقلية والنقلية.

أَمْوَاتاً

ص: 214


1- الكافي: ج4 ص585 باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ح4.

قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ}(1). وقال سبحانه: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ}(2).

مضافاً إلى خصوص ما ورد في أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) لافرق بين حيهم وميتهم، وأنهم يسمعون الكلام ويردون السلام عند ما يزورهم الإنسان بعد مماتهم، إلى غير ذلك مما ذكرناه في الكتب العقائدية.

عن سماعة، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «ما لكم تسوءون رسول اللّه».

فقلت له: جعلت فداك وكيف نسوؤه؟.

قال (عليه السلام) : «أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى معصية ساءه ذلك، فلا تسوءوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(3).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة»(4).

وعن ابن أبي نجران قال:

سألت أبا جعفر (عليه السلام) (5)

عمن زار قبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قاصدا؟

قال: «له الجنة»(6).

ص: 215


1- سورة البقرة: 154.
2- سورة آل عمران: 169.
3- مشكاة الأنوار: ص71-72 ب2 ف3.
4- كامل الزيارات: ص12 ب2 ح1.
5- أي الإمام الجواد (عليه السلام) .
6- كامل الزيارات: ص12 ب2 ح3.

وعن أبي بكر الحضرمي قال: قد أمرني أبو عبد اللّه (عليه السلام) أن أكثر الصلاة في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما استطعت، وقال: «إنك لا تقدر عليه كلما شئت» وقال لي: «تأتي قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »؟

فقلت: نعم.

فقال: «أما إنه يسمعك من قريب، ويبلغه عنك إذا كنت نائيا»(1).

وعن عامر بن عبد اللّه قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إني زدت جمالي دينارين أو ثلاث على أن يمر بي إلى المدينة، فقال: «قد أحسنت، أما أيسر هذا تأتي قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أما إنه يسمعك من قريب ويبلغه عنك من بعيد»(2).

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من زارني في حياتي أو بعد موتي كان في جواري يوم القيامة»(3).

وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي وكنت له شهيدا وشافعا يوم القيامة»(4).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليّ في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إلي السلام فإنه يبلغني»(5).

وقال الحسين بن علي (عليه السلام) لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أبتاه ما جزاء من زارك»؟

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا بني من زارني حيا أو ميتا كان حقا علي أن أزوره يوم القيامة

ص: 216


1- وسائل الشيعة: ج14 ص338-339 ب4 ح19349.
2- كامل الزيارات: ص12 ب2 ح6.
3- وسائل الشيعة: ج14 ص336 ب3 ح19342.
4- بحار الأنوار: ج97 ص143 ب1 ح27.
5- تهذيب الأحكام: ج6 ص3 ب2 ح1.

وأخلصه من ذنوبه»(1).

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن زيارة قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعدل حجة مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبرورة»(2).

ص: 217


1- راجع من لا يحضره الفقيه: ج2 ص577 باب ثواب زيارة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... ح3159.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص335 ب3 ح19341.

60

من روايات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

كلمات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورواياته الشريفة نور للبشرية جمعاء، يلزم على المسلمين وغيرهم أن يعملوا بها، ويزّينوا بيوتهم ومحلاتهم وأسواقهم ودوائرهم وكل مرافق الحياة بها، وخاصة كلمات قصاره وهي فصل الخطاب.

قال قيس بن عاصم: وفدت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جماعة من بني تميم... فقلت: يا رسول اللّه عظنا موعظة ننتفع بها.

فقال: «يا قيس إن مع العز ذلاً.. وإن مع الحياة موتاً.. وإن مع الدنيا آخرة.. وإن لكل شيء حسيباً.. وعلى كل شيء رقيباً.. وإن لكل حسنة ثواباً.. ولكل سيئة عقاباً.. » الحديث(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اليد العليا خير من اليد السفلى»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خير الزاد التقوى».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رأس الحكمة مخافة اللّه عزوجل».

ص: 218


1- راجع إرشاد القلوب: ج1 ص36 ب5.
2- انظر من لا يحضره الفقيه: ج4 ص376-381 ومن ألفاظ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5763-5832.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خير ما ألقي في القلب اليقين».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الارتياب من الكفر».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «السكر جمر النار».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الخمر جماع الآثام».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «شر المكاسب كسب الربا».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «شر المآكل أكل مال اليتيم ظلماً».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «السعيد من وعظ بغيره».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الشقي من شقي في بطن أمه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أربى الربا الكذب».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سباب المؤمن فسوق، قتال المؤمن كفر، أكل لحمه من معصية اللّه عزوجل، حرمة ماله كحرمة دمه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من يكظم الغيظ يأجره اللّه عزوجل».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من يصبر على الرزية يعوضه اللّه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يلسع المؤمن من جُحر مرتين».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يجني على المرء إلاّ يده».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الشديد من غلب نفسه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ليس الخبر كالمعاينة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهم بارك لأمتي في بكورها يوم سبتها وخميسها».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المجالس بالأمانة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سيد القوم خادمهم».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لو بغى جبل على جبل لجعله اللّه دكاً».

ص: 219

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ابدأ بمن تعول».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المسلم مرآة لأخيه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الناس كأسنان المشط سواء».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أي داء أدوى من البخل».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الحياء خير كله».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اليمين الفاجرة تذر الديار من أهلها بلاقع».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أعجل الشر عقوبة البغي».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أسرع الخير ثواباً البر».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «المسلمون عند شروطهم».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ارحم مَن في الأرض يرحمك مَن في السماء».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من قُتل دون ماله فهو شهيد».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «العائد في هبته كالعائد في قيئه».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه المؤمن فوق ثلاث».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من لا يَرحم لا يُرحم».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الندم توبة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الدالّ على الخير كفاعله».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حبك للشيء يعمي ويصم».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يشكر اللّه من لا يشكر الناس».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يؤوي الضالة إلاّ الضال».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اتقوا النار ولو بشق تمرة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها

ص: 220

اختلف».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَطَل الغني ظلم».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «استنزلوا الرزق بالصدقة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ادفعوا البلاء بالدعاء».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما نقص مال من صدقة».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا صدقة وذو رحم محتاج».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «عفو الملك أبقى للملك».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «هبة الرجل لزوجته تزيد في عفتها».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(1).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

«إن أسرع الثواب على الخير اللين، وإن أسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه، وأن يعير الناس بما لا يستطيع تركه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه»(2).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في

ص: 221


1- انظر من لا يحضره الفقيه: ج4 ص376-381 ومن ألفاظ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5763-5832.
2- مشكاة الأنوار: ص71-72 ب2 ف3.

رياض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً»(1).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قال حبيبي جبرئيل: إن مثل هذا الدين كمثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والصلاة عروقها، والزكاة ماؤها، والصوم سعفها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن المحارم ثمرها، فلا تكمل شجرة إلاّ بالثمر، كذلك الإيمان لا يكمل إلاّ بالكف عن المحارم»(2).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا ابن آدم، لا ينسينك ذنب الناس عن ذنبك، ولا نعمة الناس عن نعمة اللّه عليك، ولا تقنط الناس من رحمة اللّه وأنت ترجوها لنفسك»(3).

وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث من لقي اللّه بهن دخل الجنة من أي باب شاء، من حسن خلقه، وخشي اللّه في المغيب والمحضر، وترك المراء وإن كان محقاً»(4).

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اتق اللّه حيث كنت، وخالق الناس بخلق حسن، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها»(5).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أول عنوان صحيفة المؤمن بعد موته ما يقول الناس فيه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأول تحفة المؤمن أن يغفر له ولمن تبع جنازته.

ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا فضل، لا يأتي المسجد من كل قبيلة إلاّ وافدها، ومن كل أهل بيت إلاّ نجيبها.

ص: 222


1- وسائل الشيعة: ج12 ص237 ب135 ح16186.
2- بحار الأنوار: ج68 ص388 ب92 ح40.
3- مشكاة الأنوار: ص72 ب2 ف3.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص236 ب135 ح16181.
5- بحار الأنوار: ج68 ص389 ب92 ح46.

يا فضل، إنه لا يرجع صاحب المسجد بأقل من إحدى ثلاث: إما دعاء يدعو به يدخله اللّه به الجنة، وإما دعاء يدعو به ليصرف اللّه به عنه بلاء الدنيا، وإما أخ يستفيده في اللّه عزوجل».

ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في اللّه عزوجل.

ثم قال: يا فضل، لا تزهدوا في فقراء شيعتنا؛ فإن الفقير منهم ليشفع يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر.

ثم قال: يا فضل، إنما سمي المؤمن مؤمناً؛ لأنه يؤمن على اللّه فيجيز اللّه أمانه.

ثم قال: أما سمعت اللّه تعالى يقول في أعدائكم إذا رأوا شفاعة الرجل منكم لصديقه يوم القيامة: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}(1)»(2).

وعن أبي ذر (رحمه اللّه) قال: قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أ با ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خير لك من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، والنظر إلى وجه العالم خير لك من عتق ألف رقبة»(3).

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة(4).

***

ص: 223


1- سورة الشعراء: 100-101.
2- الأمالي للطوسي :ص46-47 المجلس2 ح26 -57.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص152-153 ب145 ح10529.
4- للتفصيل انظر (موسوعة الكلمة) كلمة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لآية اللّه الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) ط دار العلوم.

وهذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الكتاب، واللّه الموفق للصواب.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 223

الفهرس

المقدمة... 5

1- النسب الشريف... 6

2- الولادة المباركة... 7

3- رؤيا آمنة (عليها السلام) ... 8

4- إرهاصات الولادة... 11

5- أيام الرضاعة... 13

6- كفالة عبد المطلب وأبي طالب (عليهما السلام) ... 16

7- مع بحيرا الراهب... 19

8- الاستسقاء برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 23

9- حلف الفضول... 26

10- الزواج المبارك... 28

11- الحجر الأسود... 32

12- غار حراء... 34

13- المبعث الشريف... 36

14- القرآن الكريم... 40

15- هجرة الحبشة... 44

16- عام الحزن... 49

17- رحلة الطائف... 51

18- بيعة العقبة الأولى والثانية... 54

19- الهجرة النبوية... 58

20- حروب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 63

غزوة بدر الكبرى... 63

غزوة أحد... 64

غزوة الخندق... 67

21- من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآدابه... 69

وهكذا يصفه الأمير (عليه السلام) ... 75

22- قصص عن أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 77

يا أخا بني سليم... 77

قد اعتقتك... 79

فيك خصال يحبها اللّه... 79

العفو عند المقدرة... 80

23- الشورى والاستشارة... 82

في غزوة بدر... 82

في غزوة أحد... 84

في غزوة الخندق... 85

استشارة أم سلمة... 86

ملكاً رسولاً أم عبداً رسولاً؟... 87

وحتى في اللحظات الأخيرة... 87

روايات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الاستشارة... 88

24- العلم والعلماء... 91

25- التعددية... 95

26- الحريات الإسلامية... 98

نماذج من الحريات الإسلامية... 98

27- حقوق المعارضة... 100

28- المرأة... 103

روايات في تكريم المرأة... 104

29- اللاعنف... 106

30- الزهد... 109

31- الرحمة المهداة... 111

32- الشعائر الدينية... 114

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي على الحسين (عليه السلام) ... 116

33- الصلاة... 120

34- مع العصاة والمذنبين... 123

35- الرضا بما قدره اللّه... 126

36- النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير البشر... 128

37- تحمل الصعاب... 131

38- الحث على الزواج... 136

الحياة الزوجية السعيدة... 137

روايات في الحياة الزوجية... 140

39- مع الشباب... 143

40- في متناول الفقراء... 145

41- الحياء والعفة... 149

42- مخالفة الهوى... 152

43- تغيير الأسماء القبيحة... 154

44- التعامل مع الكفار... 158

45- لا للعصبيات... 165

46- التسامح... 173

47- تكريم الإنسان... 181

48- حق الناس... 184

49- حق الرعية... 186

50- حق الحيوان... 188

51- إكرام الوفود... 191

52- قصة الغدير... 195

53- العترة الطاهرة... 200

54- جيش أسامة... 205

55- استشهاد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 207

56- من الخطب الأخيرة... 209

57- في بيت فاطمة (عليها السلام) ... 211

58- تجهيز النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 214

59- زيارة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 216

60- من روايات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 220

الفهرس... 227

ص: 224

17- رحلة الطائف... 51

18- بيعة العقبة الأولى والثانية... 54

19- الهجرة النبوية... 58

20- حروب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 63

غزوة بدر الكبرى... 63

غزوة أحد... 64

غزوة الخندق... 67

21- من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآدابه... 69

وهكذا يصفه الأمير (عليه السلام) ... 75

22- قصص عن أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 77

يا أخا بني سليم... 77

قد اعتقتك... 79

فيك خصال يحبها اللّه... 79

العفو عند المقدرة... 80

23- الشورى والاستشارة... 82

في غزوة بدر... 82

في غزوة أحد... 84

في غزوة الخندق... 85

استشارة أم سلمة... 86

ملكاً رسولاً أم عبداً رسولاً؟... 87

وحتى في اللحظات الأخيرة... 87

روايات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الاستشارة... 88

24- العلم والعلماء... 91

25- التعددية... 95

ص: 225

26- الحريات الإسلامية... 98

نماذج من الحريات الإسلامية... 98

27- حقوق المعارضة... 100

28- المرأة... 103

روايات في تكريم المرأة... 104

29- اللاعنف... 106

30- الزهد... 109

31- الرحمة المهداة... 111

32- الشعائر الدينية... 114

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي على الحسين (عليه السلام) ... 116

33- الصلاة... 120

34- مع العصاة والمذنبين... 123

35- الرضا بما قدره اللّه... 126

36- النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير البشر... 128

37- تحمل الصعاب... 131

38- الحث على الزواج... 136

الحياة الزوجية السعيدة... 137

روايات في الحياة الزوجية... 140

39- مع الشباب... 143

40- في متناول الفقراء... 145

41- الحياء والعفة... 149

42- مخالفة الهوى... 152

ص: 226

المقدمة... 5

1- النسب الشريف... 6

2- الولادة المباركة... 7

3- رؤيا آمنة (عليها السلام) ... 8

4- إرهاصات الولادة... 11

5- أيام الرضاعة... 13

6- كفالة عبد المطلب وأبي طالب (عليهما السلام) ... 16

7- مع بحيرا الراهب... 19

8- الاستسقاء برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 23

9- حلف الفضول... 26

10- الزواج المبارك... 28

11- الحجر الأسود... 32

12- غار حراء... 34

13- المبعث الشريف... 36

14- القرآن الكريم... 40

15- هجرة الحبشة... 44

16- عام الحزن... 49

17- رحلة الطائف... 51

18- بيعة العقبة الأولى والثانية... 54

19- الهجرة النبوية... 58

20- حروب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 63

غزوة بدر الكبرى... 63

غزوة أحد... 64

غزوة الخندق... 67

21- من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآدابه... 69

وهكذا يصفه الأمير (عليه السلام) ... 75

22- قصص عن أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 77

يا أخا بني سليم... 77

قد اعتقتك... 79

فيك خصال يحبها اللّه... 79

العفو عند المقدرة... 80

23- الشورى والاستشارة... 82

في غزوة بدر... 82

في غزوة أحد... 84

في غزوة الخندق... 85

استشارة أم سلمة... 86

ملكاً رسولاً أم عبداً رسولاً؟... 87

وحتى في اللحظات الأخيرة... 87

روايات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الاستشارة... 88

24- العلم والعلماء... 91

25- التعددية... 95

26- الحريات الإسلامية... 98

نماذج من الحريات الإسلامية... 98

27- حقوق المعارضة... 100

28- المرأة... 103

روايات في تكريم المرأة... 104

29- اللاعنف... 106

30- الزهد... 109

31- الرحمة المهداة... 111

32- الشعائر الدينية... 114

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبكي على الحسين (عليه السلام) ... 116

33- الصلاة... 120

34- مع العصاة والمذنبين... 123

35- الرضا بما قدره اللّه... 126

36- النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير البشر... 128

37- تحمل الصعاب... 131

38- الحث على الزواج... 136

الحياة الزوجية السعيدة... 137

روايات في الحياة الزوجية... 140

39- مع الشباب... 143

40- في متناول الفقراء... 145

41- الحياء والعفة... 149

42- مخالفة الهوى... 152

43- تغيير الأسماء القبيحة... 154

44- التعامل مع الكفار... 158

45- لا للعصبيات... 165

46- التسامح... 173

47- تكريم الإنسان... 181

48- حق الناس... 184

49- حق الرعية... 186

50- حق الحيوان... 188

51- إكرام الوفود... 191

52- قصة الغدير... 195

53- العترة الطاهرة... 200

54- جيش أسامة... 205

55- استشهاد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 207

56- من الخطب الأخيرة... 209

57- في بيت فاطمة (عليها السلام) ... 211

58- تجهيز النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 214

59- زيارة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 216

60- من روايات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 220

الفهرس... 227

ص: 227

مؤلفات الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) حول الرسول الأعظم النبي الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

· أسبوع المولد الشريف

· أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة

· باقة عطرة في أحوال خاتم النبيين (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

· البعثة النبويّة الشريفة

· حكومة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

· رسول الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة

· رسول الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة، الجزء 1-3

· السيرة الفواحة

· گذری كوتاه بر زندگی و زمان حضرت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) / فارسي

· محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن

· من حياة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

· من سيرة النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

· المولد النبوي الشريف

· هكذا حج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

· ولأول مرة في تاريخ العالم ج1و2

ولكم في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة

ص: 228

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.