شرح نهج البلاغة (موسوی) المجلد 5

هویة الکتاب

شرح نهج البلاغة (موسوی)

شارح: موسوی، عباس علی

جامع: شریف الرضی، محمد بن حسین

كاتب: علی بن ابی طالب (ع)، امام اول

لغة: العربية

الناشر: دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - بیروت لبنان

سنة النشر:1418 هجری قمری|1998 میلادی

قانون الكونجرس: / م 8 38/02 BP

مكان النشر: بیروت - لبنان

سال نشر: 1377 ش

موضوع: علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - خطب

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - حروف

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - الأمثال

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. نهج البلاغة - نقد و تفسیر

لغة: العربية

عدد المجلدات: 5

ص: 1

اشارة

شرح نهج البلاغة (موسوی)

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

شرح نهج البلاغة (موسوی)

دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - دارالمحجة البیضاء

ص: 4

تتمة باب المختار من كتبه

53 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

كتبه للأشتر النخعي، لما ولاه على مصر و أعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاّه مصر: جباية (1) خراجها، و جهاد عدوّها، و استصلاح أهلها، و عمارة بلادها.

أمره بتقوى اللّه، و إيثار (2) طاعته، و اتّباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه (3) و سننه (4)، الّتي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، و لا يشقى (5) إلاّ مع جحودها و إضاعتها (6)، و أن ينصر اللّه سبحانه بقلبه و يده و لسانه، فإنّه، جلّ اسمه، قد تكفّل بنصر من نصره، و إعزاز من أعزّه.

و أمره أن يكسر نفسه (7) من الشّهوات، و يزعها (8) عند الجمحات (9)، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء، إلاّ ما رحم اللّه.

ثمّ اعلم يا مالك، أنّي قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت (10) عليها دول قبلك، من عدل و جور (11)، و أنّ النّاس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصّالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ

ص: 5

الذّخائر إليك ذخيرة (12) العمل الصّالح، فاملك هواك، و شحّ (13) بنفسك عمّا لا يحلّ لك، فإنّ الشّحّ بالنّفس الإنصاف (14) منها فيما أحبّت أو كرهت.

و أشعر (15) قلبك الرّحمة للرّعيّة (16)، و المحبّة لهم، و اللّطف (17) بهم، و لا تكوننّ عليهم سبعا (18) ضاريا (19) تغتنم (20) أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير (21) لك في الخلق، يفرط (22) منهم الزّلل (23)، و تعرض (24) لهم العلل، و يؤتى على أيديهم (25) في العمد و الخطإ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الّذي تحبّ و ترضى أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنّك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك! و قد استكفاك (26) أمرهم، و ابتلاك بهم. و لا تنصبنّ (27) نفسك لحرب اللّه فإنّه لا يد لك بنقمته (28)، و لا غنى بك عن عفوه و رحمته. و لا تندمنّ (29) على عفو، و لا تبجحنّ (30) بعقوبة، و لا تسرعنّ إلى بادرة (31) وجدت منها مندوحة (32)، و لا تقولنّ : إنّي مؤمّر آمر فأطاع، فإنّ ذلك إدغال (33) في القلب، و منهكة (34) للدّين، و تقرّب من الغير. و إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة (35) أو مخيلة (36)، فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك، و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يطامن (37) إليك من طماحك (38)، و يكفّ (39) عنك من غربك (40)، و يفيء إليك بما عزب عنك من عقلك!.

إياك و مساماة اللّه في عظمته، و التّشبّه به في جبروته (41)، فإنّ اللّه يذلّ كلّ جبّار، و يهين كلّ مختال (42).

أنصف (43) اللّه و أنصف النّاس من نفسك، و من خاصّة أهلك، و من لك فيه هوى من رعيّتك، فإنّك إلاّ تفعل تظلم! و من ظلم عباد اللّه كان اللّه

ص: 6

خصمه (44) دون عباده، و من خاصمه اللّه أدحض (45) حجّته، و كان للّه حربا حتّى ينزع (46) أو يتوب. و ليس شيء أدعى (47) إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته (48) من إقامة (49) على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين (50)، و هو للظّالمين بالمرصاد (51).

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ ، و أعمّها في العدل، و أجمعها لرضى الرّعيّة، فإنّ سخط (52) العامّة يجحف (53) برضى الخاصّة، و إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة. و ليس أحد من الرّعيّة أثقل على الوالي مئونة في الرّخاء، و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف (54)، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات (55) الدّهر من أهل الخاصّة. و إنّما عماد الدّين، و جماع (56) المسلمين، و العدّة للأعداء، العامّة من الأمّة، فليكن صغوك (57) لهم، و ميلك معهم.

و ليكن أبعد رعيّتك منك، و أشنأهم (58) عندك، أطلبهم لمعايب النّاس، فإنّ في النّاس عيوبا، الوالي أحقّ من سترها، فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، و اللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة (59) ما استطعت يستر اللّه منك ما تحبّ ستره من رعيّتك، أطلق عن النّاس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر (60)، و تغاب (61) عن كلّ ما لا يضح لك، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإنّ السّاعي (62) غاشّ ، و إن تشبّه بالنّاصحين.

و لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل (63) بك عن الفضل (64)، و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزيّن لك الشّره (65)

ص: 7

بالجور (66)، فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظّنّ باللّه.

إنّ شرّ وزرائك من كان للاشراء قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام (67) فلا يكوننّ لك بطانة (68)، فإنّهم أعوان (69) الأثمة، و إخوان الظّلمة، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم و نفاذهم، و ليس عليه مثل آصارهم (70) و أوزارهم و آثامهم، ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه، و لا آثما على إثمه: أولئك أخفّ عليك مئونة، و أحسن لك معونة، و أحنى (71) عليك عطفا، و أقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك و حفلاتك (72)، ثمّ ليكن آثرهم (73) عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك، و أقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع. و الصق (74) بأهل الورع و الصّدق، ثمّ رضهم (75) على ألاّ يطروك (76) و لا يبجحوك (77) بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزّهو (78)، و تدني من العزّة.

و لا يكوننّ المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة! و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه. و اعلم أنّه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم، و تخفيفه المئونات عليهم، و ترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظّنّ برعيّتك، فإنّ حسن الظّنّ يقطع عنك نصبا (79) طويلا. و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك (80) عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده.

و لا تنقض سنّة (81) صالحة عمل بها صدور (82) هذه الأمّة، و اجتمعت

ص: 8

بها الألفة (83)، و صلحت عليها الرّعيّة. و لا تحدثنّ سنّة تضرّ بشيء من ماضي تلك السّنن، فيكون الأجر لمن سنّها، و الوزر (84) عليك بما نقضت (85) منها.

و أكثر مدارسة العلماء، و مناقشة (86) الحكماء، في تثبيت (87) ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به النّاس قبلك.

و اعلم أنّ الرّعيّة طبقات (88) لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، و لا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود اللّه، و منها كتّاب العامّة و الخاصّة، و منها قضاة العدل، و منها عمّال الإنصاف و الرّفق، و منها أهل الجزية (89) و الخراج من أهل الذّمّة (90) و مسلمة النّاس، و منها التّجّار و أهل الصّناعات و منها الطّبقة السّفلى من ذوي الحاجة و المسكنة، و كلّ قد سمّى اللّه له سهمه (91)، و وضع على حدّه فريضة في كتابه أو سنّة نبيّه - صلّى اللّه عليه و آله - عهدا منه عندنا محفوظا.

فالجنود، بإذن اللّه، حصون (92) الرّعيّة، و زين الولاة، و عزّ الدّين، و سبل (93) الأمن، و ليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم. ثمّ لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج اللّه لهم من الخراج (94) الّذي يقوون به على جهاد عدوّهم، و يعتمدون عليه فيما يصلحهم، و يكون من وراء حاجتهم. ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلاّ بالصّنف الثّالث من القضاة و العمّال و الكتّاب، لما يحكمون من المعاقد (95)، و يجمعون من المنافع، و يؤتمنون عليه من خواصّ (96) الأمور و عوامّها. و لا قوام لهم جميعا إلاّ بالتّجّار و ذوي الصّناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم (97)، و يقيمونه من أسواقهم، و يكفونهم من التّرفّق (98) بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثمّ الطّبقة السّفلى من أهل الحاجة و المسكنة

ص: 9

الّذين يحقّ رفدهم (99) و معونتهم. و في اللّه لكلّ سعة، و لكلّ على الوالي حقّ بقدر ما يصلحه، و ليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه من ذلك إلاّ بالاهتمام و الاستعانة باللّه، و توطين (100) نفسه على لزوم الحقّ ، و الصّبر عليه فيما خفّ عليه أو ثقل. فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا (101)، و أفضلهم حلما، ممّن يبطىء (102) عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف (103) بالضّعفاء، و ينبو (104) على الأقوياء، و ممّن لا يثيره (105) العنف، و لا يقعد به الضّعف.

ثمّ الصق بذوي المروءات (106) و الأحساب، و أهل البيوتات الصّالحة، و السّوابق الحسنة، ثمّ أهل النّجدة (107) و الشّجاعة، و السّخاء و السّماحة، فإنّهم جماع (108) من الكرم، و شعب من العرف (109). ثمّ تفقّد (110) من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، و لا يتفاقمنّ (111) في نفسك شيء قوّيتهم به، و لا تحقرنّ لطفا (112) تعاهدتهم (113) به و إن قلّ ، فإنّه داعية لهم إلى بذل النّصيحة لك، و حسن الظّنّ بك، و لا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه.

و ليكن آثر (114) رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، و أفضل عليهم من جدته (115)، بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف (116) أهليهم، حتّى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، و إنّ أفضل قرّة عين (117) الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرّعيّة. و إنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم (118) على ولاة الأمور، و قلّة استثقال (119)

ص: 10

دولهم، و ترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح في آمالهم، و واصل في حسن الثّناء عليهم، و تعديد ما أبلى ذوو البلاء (120) منهم، فإنّ كثرة الذّكر لحسن أفعالهم تهزّ الشّجاع (121)، و تحرّض (122) النّاكل (123)، إن شاء اللّه.

ثمّ اعرف لكلّ امرىء منهم ما أبلى، و لا تضمّنّ بلاء امرىء إلى غيره، و لا تقصّرن به دون غاية بلائه، و لا يدعونّك شرف امرىء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرىء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك (124) من الخطوب (125)، و يشتبه عليك من الأمور، فقد قال اللّه تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ » فالرّدّ إلى اللّه: الأخذ بمحكم كتابه، و الرّدّ إلى الرّسول: الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة.

ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك، ممّن لا تضيق به الأمور، و لا تمحّكه (126) الخصوم، و لا يتمادى (127) في الزّلّة، و لا يحصر (128) من الفيء (129) إلى الحقّ إذا عرفه، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، و أوقفهم في الشّبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما (130) بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم (131) عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه (132) إطراء (133)، و لا يستميله إغراء (134)، و أولئك قليل. ثمّ أكثر تعاهد (135) قضائه، و افسح له (136) في البذل (137) ما يزيل علّته (138)، و تقلّ معه حاجته إلى النّاس. و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن

ص: 11

بذلك اغتيال (139) الرّجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإنّ هذا الدّين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، و تطلب به الدّنيا.

ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا (140)، و لا تولّهم محاباة (141) و أثرة (142)، فإنّهما جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخّ (143) منهم أهل التّجربة و الحياء، من أهل البيوتات الصّالحة، و القدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا، و أصحّ أعراضا، و أقلّ في المطامع إشراقا، و أبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثمّ أسبغ (144) عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك (145). ثمّ تفقّد أعمالهم، و ابعث العيون (146) من أهل الصّدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السّرّ لأمورهم حدوة (147) لهم على استعمال الأمانة، و الرّفق بالرّعيّة. و تحفّظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته (148) بمقام المذلّة، و وسمته (149) بالخيانة، و قلّدته (150) عار التّهمة.

و تفقّد (151) أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم، لأنّ النّاس كلّهم عيال (152) على الخراج و أهله، و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، و أهلك العباد، و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

فإن شكوا ثقلا أو علّة، أو انقطاع شرب (153) أو بالّة (154)، أو إحالة

ص: 12

أرض (155) اغتمرها غرق، أو أجحف (156) بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، و لا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المئونة عنهم، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، و تزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، و تبجّحك (157) باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوّتهم، بما ذخرت عندهم من إجمامك (158) لهم، و الثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم و رفقك بهم، فربّما حدث من الأمور ما إذا عوّلت (159) فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإنّ العمران محتمل ما حمّلته، و إنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز (160) أهلها، و إنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، و سوء ظنّهم بالبقاء، و قلّة انتفاعهم بالعبر (161).

ثمّ انظر في حال كتّابك، فولّ على أمورك خيرهم، و اخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك (162) و أسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممّن لا تبطره (163) الكرامة، فيجترئ (164) بها عليك في خلاف لك بحضرة ملاء (165)، و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك عليك، و إصدار جواباتها على الصّواب عنك، فيما يأخذ لك و يعطي منك، و لا يضعف عقدا اعتقده لك، و لا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، و لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك (166) و استنامتك (167) و حسن الظّنّ منك، فإنّ الرّجال يتعرّضون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النّصيحة و الأمانة شيء. و لكن اختبرهم بما ولّوا (169) للصّالحين قبلك، فاعمد (170) لأحسنهم كان في العامّة أثرا، و أعرفهم بالأمانة وجها، فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن ولّيت أمره. و اجعل لرأس كلّ أمر من

ص: 13

أمورك رأسا منهم، لا يقهره (171) كبيرها، و لا يتشتّت عليه كثيرها، و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت (172) عنه ألزمته.

ثمّ استوص بالتّجّار و ذوي الصّناعات، و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله (173)، و المترفّق (174) ببدنه، فإنّهم موادّ (175) المنافع، و أسباب المرافق، و جلاّبها من المباعد و المطارح (176)، في برّك و بحرك، و سهلك و جبلك، و حيث لا يلتئم (177) النّاس لمواضعها، و لا يجترءون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته (178)، و صلح لا تخشى غائلته (179).

و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي (180) بلادك. و اعلم - مع ذلك - أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا، و شحّا (181) قبيحا، و احتكارا (182) للمنافع، و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة (183) للعامّة، و عيب على الولاة.

فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا (184): بموازين عدل، و أسعار لا تجحف (185) بالفريقين من البائع و المبتاع. فمن قارف (186) حكرة (187) بعد نهيك إيّاه فنكّل به (188)، و عاقبه في غير إسراف (189).

ثمّ اللّه اللّه في الطّبقة السّفلى من الّذين لا حيلة لهم، من المساكين و المحتاجين و أهل البؤسى (190) و الزّمنى (191)، فإنّ في هذه الطّبقة قانعا (192) و معترّا (193)، و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك، و قسما من غلاّت صوافي (194) الإسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الّذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر (195)، فإنّك لا تعذر بتضييعك التّافه (196) لإحكامك الكثير المهمّ .

فلا تشخص همّك عنهم، و لا تصغّر خدّك (197) لهم، و تفقّد أمور من لا يصل

ص: 14

إليك منهم ممّن تقتحمه العيون (198)، و تحقره الرّجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التّواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالإعذار (199) إلى اللّه يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرّعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، و كلّ فأعذر إلى اللّه في تأدية حقّه إليه، و تعهّد أهل اليتم (200) و ذوي الرّقّة في السّنّ (201) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب (202) للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل، و قد يخفّفه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم، و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم.

و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك (203) و شرطك (204)، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع (205)، فإنّي سمعت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - يقول في غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع». ثمّ احتمل الخرق (206) منهم و العيّ (207)، و نحّ (208) عنهم الضّيق و الأنف (209) يبسط اللّه عليك بذلك أكناف (210) رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته. و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع في إجمال و إعذار!.

ثمّ أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا (211) عنه كتّابك، و منها إصدار (212) حاجات النّاس يوم ورودها عليك بما تحرج (213) به صدور أعوانك. و أمض لكلّ يوم عمله، فإنّ لكلّ يوم ما فيه. و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه أفضل تلك المواقيت، و أجزل (214) تلك الأقسام، و إن كانت كلّها للّه إذا صلحت فيها النّيّة، و سلمت منها الرّعيّة.

ص: 15

و ليكن في خاصّة ما تخلص به للّه دينك: إقامة فرائضه الّتي هي له خاصّة، فأعط اللّه من بدنك في ليلك و نهارك، و وفّ ما تقرّبت به إلى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم (215) و لا منقوص، بالغا من بدنك ما بلغ. و إذا قمت في صلاتك للنّاس، فلا تكوننّ منفّرا و لا مضيّعا، فإنّ في النّاس من به العلّة و له الحاجة. و قد سألت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - حين وجّهني إلى اليمن كيف أصلّي بهم ؟ فقال: «صلّ بهم كصلاة أضعفهم، و كن بالمؤمنين رحيما».

و أمّا بعد، فلا تطوّلنّ احتجابك (216) عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرّعيّة شعبة (217) من الضّيق، و قلّة علم بالأمور، و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، و يعظم الصّغير، و يقبح الحسن، و يحسن القبيح، و يشاب (218) الحقّ بالباطل. و إنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى (219) عنه النّاس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات (220) تعرف بها ضروب (221) الصّدق من الكذب، و إنّما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت (222) نفسك بالبذل (223) في الحقّ ، ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه، أو فعل كريم تسديه (224)! أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ النّاس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك! مع أنّ أكثر حاجات النّاس إليك ممّا لا مئونة فيه عليك، من شكاة (225) مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة.

ثمّ إنّ للوالي خاصّة و بطانة، فيهم استئثار (226) و تطاول (227)، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم (228) مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. و لا تقطعنّ (229) لأحد من حاشيتك و حامّتك (230) قطيعة، و لا يطمعنّ منك في اعتقاد (231) عقدة (232)، تضرّ بمن يليها من النّاس، في شرب أو عمل

ص: 16

مشترك، يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ (233) ذلك لهم دونك، و عيبه عليك في الدّنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ (234) عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة (235) ذلك محمودة.

و إن ظنّت الرّعيّة بك حيفا (236) فأصحر (237) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنّ في ذلك رياضة (238) منك لنفسك، و رفقا برعيّتك، و إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ .

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضى، فإنّ في الصّلح دعة (239) لجنودك، و راحة من همومك، و أمنا لبلادك، و لكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإنّ العدوّ ربّما قارب ليتغفّل. فخذ بالحزم، و اتّهم في ذلك حسن الظّنّ . و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة، أو ألبسته منك ذمّة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّة (240) دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض اللّه شيء النّاس أشدّ عليه اجتماعا، مع تفرّق أهوائهم، و تشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا (241) من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك، و لا تخيسنّ بعهدك (242)، و لا تختلنّ (243) عدوّك، فإنّه لا يجترىء على اللّه إلاّ جاهل شقيّ . و قد جعل اللّه عهده و ذمّته أمنا أفضاه (244) بين العباد برحمته، و حريما (245) يسكنون إلى منعته (246)، و يستفيضون إلى جواره، فلا إدغال (247) و لا مدالسة (248) و لا خداع فيه، و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل (249)، و لا تعوّلنّ على لحن قول (250) بعد التّأكيد

ص: 17

و التّوثقة. و لا يدعونّك ضيق أمر، لزمك فيه عهد اللّه، إلى طلب انفساخه بغير الحقّ ، فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه و فضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، و أن تحيط بك من اللّه فيه طلبة، لا تستقبل فيها دنياك و لا آخرتك.

إيّاك و الدّماء و سفكها (251) بغير حلّها، فإنّه ليس شيء أدنى لنقمة، و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة، و انقطاع مدّة، من سفك الدّماء بغير حقّها. و اللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدّماء يوم القيامة، فلا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه، بل يزيله و ينقله. و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد، لأنّ فيه قود (252) البدن. و إن ابتليت بخطإ و أفرط (253) عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإنّ في الوكزة (254) فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ (255) بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّي إلى أولياء المقتول حقّهم.

و إيّاك و الإعجاب بنفسك، و الثّقة بما يعجبك منها، و حبّ الإطراء (256)، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشّيطان في نفسه ليمحق (257) ما يكون من إحسان المحسنين.

و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التّزيّد (258) فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التّزيّد يذهب بنور الحقّ ، و الخلف يوجب المقت (259) عند اللّه و النّاس.

قال اللّه تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ » .

و إيّاك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التّسقّط (260) فيها عند إمكانها،

ص: 18

أو اللّجاجة (261) فيها إذا تنكّرت (262)، أو الوهن (263) عنها إذا استوضحت.

فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

و إيّاك و الاستئثار (264) بما النّاس فيه أسوة، و التّغابي (265) عمّا تعنى به ممّا قد وضح للعيون، فإنّه مأخوذ منك لغيرك. و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، و ينتصف منك للمظلوم. املك حميّة أنفك (266)، و سورة (267) حدّك، و سطوة يدك، و غرب (268) لسانك، و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة (269)، و تأخير السّطوة، حتّى يسكن غضبك فتملك الاختيار: و لن تحكم ذلك من نفسك حتّى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربّك.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا - صلّى اللّه عليه و آله - أو فريضة في كتاب اللّه، فتقتدي بما شاهدت ممّا عملنا به فيها، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه بسعة رحمته، و عظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة، أن يوفّقني و إيّاك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه و إلى خلقه، مع حسن الثّناء في العباد، و جميل الأثر في البلاد، و تمام النّعمة، و تضعيف الكرامة، و أن يختم لي و لك بالسَّعادة و الشّهادة، «إنّا إليه راجعون». و السّلام على رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - الطّيّبين الطّاهرين، و سلّم تسليما كثيرا، و السّلام.

ص: 19

اللغة

1 - الجباية: من جبا الخراج إذا جمعه.

2 - الإيثار: الاختيار، و التفضيل.

3 - الفرائض: الواجبات.

4 - السنن: المستحبات.

5 - يشقى: ضد يسعد.

6 - ضيع الشيء: أهمله و أهلكه.

7 - يكسر نفسه: يمنعها.

8 - يزعها: يكفها.

9 - الجمحات: من جمح الفرس إذا تغلب على راكبه و ذهب به لا ينثني.

10 - جرت: مرّت.

11 - الجور: الظلم.

12 - الذخائر: جمع ذخيرة ما يخبؤه المرء لوقت الحاجة.

13 - الشح: البخل.

14 - الإنصاف: العدل، و أنصف الخصمين سوّى بينهما و عاملهما بالعدل.

15 - أشعر: أخبر و الشعار ما يلي البدن من الثياب.

16 - الرعية: جمعها رعايا عامة الناس الذين عليهم راع.

17 - لطف به: رفق به.

18 - السبع: المفترس من الحيوان.

19 - الضاري: المعتاد للصيد، الجريىء عليه.

20 - اغتنم الشيء: عدّه غنيمة و انتهز غنمه.

21 - النظير: المثيل و المساوي.

22 - يفرط: يسبق.

23 - الزلل: الخطأ.

24 - تعرض: تظهر، تصيبه.

25 - يؤتى على أيديهم: يفعلون.

26 - استكفاك: يقال استكفى الرجل الشيء طلب منه أن يكفيه إياه.

27 - لا تنصبن: لا تقومنّ في المواجهة.

28 - النقمة: العقوبة.

29 - تندمنّ : من الندم و هو الحزن.

ص: 20

30 - التبجح: الفرح و إظهار المباهاة.

31 - البادرة: الحدة.

32 - المندوحة: السعة في الأمر و الفسحة و عدم الاضطرار.

33 - الأدغال: الفساد.

34 - المنهكة: الضعف.

35 - الأبهة: الكبر.

36 - المخيلة: الكبر و الزهو.

37 - يطامن: يخفّض.

38 - الطماح: النشوز و الجماح.

39 - يكف: يمنع.

40 - الغرب: الحدة و عزب أي غاب.

41 - الجبروت: صيغة مبالغة بمعنى القدرة و السلطة و العظمة.

42 - اختال: تبختر و تكبر.

43 - أنصف: أقسم مناصفة و هنا أعدل.

44 - الخصم: المنازع.

45 - أدحض حجته: أبطلها.

46 - ينزع: يرجع.

47 - ادعى: أنسب و أشد.

48 - نقمة: عقوبة.

49 - أقام على الشيء: دوام عليه و استمر على فعله.

الفلاني 50 - المضطهدين: المقهورين، المظلومين.

51 - المرصاد: الطريق.

52 - السخط: الغضب.

53 - يجحف به: يذهب به.

54 - الإلحاف: الالحاح و الشدة في السؤال.

55 - الملمات من الدهر: خطوبه و بلاياه.

56 - جماع المسلمين: جماعتهم.

57 - الصغو: الميل.

58 - أشنأهم: أبغضهم.

59 - العورة: ما يستقبح كشفه.

60 - الوتر: العداوة.

ص: 21

61 - تغاب: تغافل.

62 - الساعي: النمام.

63 - عدل به: حاد به و انحرف.

64 - الفضل: العطاء.

65 - الشره: أشد الحرص.

66 - الجور: الظلم.

67 - الآثام: المعاصي.

68 - بطانة الرجل: خاصته الملاصقون به.

69 - أعوان: مساعدون و أنصار.

70 - الآصار: الآثام.

71 - أحنى: أعطف.

72 - حفلاتك: جلساتك في المجامع و المحافل.

73 - آثرهم: أفضلهم.

74 - ألصق: قرّب.

75 - رضهم: عوّدهم.

76 - الإطراء: المدح المبالغ فيه.

77 - يبجحوك: يسروك.

78 - الزهو: الكبر.

79 - النصب: التعب.

80 - بلاؤك: أعمالك الحسنة التي تمتحن فيها فتنجح.

81 - السنة: الطريقة و هي مقابل البدعة.

82 - الصدور: جمع صدر ما دون العنق إلى فضاء الجوف و المقصود هنا المسلمون زمن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -.

83 - الإلفة: الصداقة و المحبة.

84 - الوزر: الإثم.

85 - نقض: حلّ و أبطل.

86 - المناقشة: المحادثة.

87 - تثبيت: استقرار.

88 - طبقات: مراتب.

89 - الجزية: ضريبة تؤخذ من أهل الذمة.

90 - أهل الذمة: هم أهل الكتاب الذين يعيشون في عهدة المسلمين بموجب عهد بينهما.

ص: 22

91 - سهمه: نصيبه.

92 - الحصون: جمع حصن كل مكان محمي منيع.

93 - سبل: جمع سبيل و هو الطريق.

94 - الخراج: ضريبة على الأرض قدرها الشارع.

95 - المعاقد: جمع معقد و هو العقد و القرار في المعاملات و يطلق على الأوراق المتضمنة للمعاهدات.

96 - الخواصّ : جمع الخاصة ضد العامة الذي تخصّه بنفسك و هنا صاحب السر.

97 - المرافق: جمع مرفق ما ينتفع به و منه مرافق الدار أي منافعها.

98 - الترفق بأيديهم: الإعانة بها.

99 - الرفد: الإعانة و العطاء.

100 - وطّن نفسه على كذا: حملها عليه.

على كذا 101 - نقي الجيب: ناصح لا يغش و لا يخون أو يسرق.

102 - يبطىء: يتأخر.

103 - يرأف: يعطف.

104 - ينبو: يعلو، يتباعد.

105 - يثيره: يحركه.

106 - المروءات: جمع مروءة و هي النخوة و كمال الرجولة.

107 - النجدة: يقال فلان صاحب نجدة أي إعانة فهو يمضي فيما يعجز عنه غيره، الرفعة.

108 - جماع الشيء: مجتمعه.

109 - العرف: المعروف و كل أمر حسن.

110 - تفقده: طلبه حال غيبته.

111 - تفاقم: عظم.

112 - لا تحقرن لطفا: لا تستصغر الصغير مما تسديه إليهم.

113 - تعاهد الأمر: إذا داوم عليه و استمر.

114 - آثرهم: أحظاهم و أقربهم.

115 - الجدة: بكسر الجيم الغنى.

116 - الخلوف: جمع خلف المتخلفون.

117 - قرة العين: ما تقربه العين و تسر.

118 - الحيطة: الشفقة و الرعاية.

119 - استثقال: تحمل الشدة و الاستنكار بالقلب.

ص: 23

120 - أبلى بلاء حسنا: عمل عملا حسنا.

121 - تهز الشجاع: تحركه.

122 - حرّضه على الأمر: حثه عليه.

123 - الناكل: المتأخر، القاعد.

124 - ما يضلعك: ما يثقلك و يستصعب عليك.

125 - الخطوب: الأمور العظيمة.

126 - لا تمحكه: لا تجعله غضوبا لجوجا عسر الخلق.

الخصوم.

127 - يتمادى: يستمر.

128 - الحصر: الضيق و لا يحصر لا يضيق.

129 - الفيء: الرجوع.

130 - التبرم: الضجر و السأم.

131 - أصرمهم: أقطعهم و أمضاهم.

132 - ازدهاه: استخفه.

133 - الإطراء: المدح.

134 - الإغراء: التحريض.

135 - تعاهده: تتبعه بالاستكشاف و التعرف.

136 - أفسح له في: وسّع عليه في العطاء.

البذل 137 - البذل: العطاء.

138 - يزيل علته: يمحوها و يرفعها.

139 - الاغتيال: الهلكة، القتل على غفلة.

140 - استعملهم اختبارا: ولّهم الأعمال بالامتحان.

141 - المحاباة: الميل و العطاء بدون عوض.

142 - الإثرة: الاستبداد.

143 - التوخي: التقصد.

144 - أسبغ عليه الرزق: أكمله و أوسع له فيه.

145 - ثلموا أمانتك: نقصوا في أدائها أو خانوا.

146 - العيون: الرقباء.

147 - حدوة: حث لهم و بعث.

148 - نصبته: أقمته.

149 - وسمته: جعلت له علامة يعرف بها.

ص: 24

150 - قلّدته: من القلادة و هو ما يوضع في جيد الفتاة من الزينة.

151 - تفقده: طلبه عند غيبته.

152 - عيال: العالة الحاجة.

153 - انقطاع الشرب: بالكسر نقصان الماء في بلاد تسقى بها.

154 - انقطاع بالة: أي ما يبل الأرض.

155 - أحالة الأرض: يعني حالت الأرض فتغيرت و فسد حبها من جراء غرقها.

156 - أجحف بها: أتلفها.

العطش 157 - التبجح: السرور و الفرح.

158 - الإجمام: الترفيه.

159 - عولت: اعتمدت.

160 - العوز: الحاجة و الضيق.

161 - العبر: العظات.

162 - المكائد: جمع مكيدة تدبير سري تجاه العدو.

163 - البطر: الطغيان عند النعمة.

164 - جرؤا عليه: أقدم عليه و هجم.

165 - الملأ: الجماعة الذين لهم الرأي.

166 - الفراسة: قوة الفطنة.

167 - الاستنامة: السكون و الثقة.

168 - التصنع: التكلف.

169 - ولوا: تولوا و تقلدوا.

170 - أعمد: أقصد.

171 - يقهره: يغلبه.

172 - تغابيت: تغافلت.

173 - المضطرب بماله: المتردد بين البلدان بأمواله.

174 - المترفق ببدنه: المكتسب بعمله.

175 - المواد: الأصول.

176 - المطارح: الأماكن البعيدة.

177 - لا يلتئم: لا يجتمع.

178 - البائقة: الداهية.

179 - الغائلة: الشر.

180 - حواشي البلاد: أطرافها.

ص: 25

181 - الشح: البخل.

182 - الاحتكار: حبس المنافع عن الناس عند الحاجة إليها.

183 - المضرة: الضرر.

184 - السمح: السهل الذي لا ضيق فيه.

185 - لا تجحف: من الإجحاف و هو النقص الفاحش.

186 - قارف الشيء: ارتكبه و عمله.

187 - الحكرة: بالضم الاحتكار.

188 - نكّل به: أوقع به العذاب.

189 - من غير إسراف: من غير تجاوز للحد المشروع.

190 - البؤسى: من البؤس و هو شدة الفقر.

191 - الزمنى: بفتح أوله أولو الزمانة جمع زمين و هم أرباب العاهات كأصحاب الفالج.

192 - القانع: السائل.

193 - المعتر: بتشديد الراء المتعرض للعطاء بلا سؤال.

194 - الصوافي: هي الأرض التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.

195 - البطر: طغيان النعمة.

196 - التافه: القليل.

197 - صعر خده: تكبر عليهم.

198 - تقتحمه العيون: تزدريه.

199 - أعذر في الأمر: صار ذا عذر فيه.

200 - أهل اليتم: الأيتام.

201 - ذوي الرقة في: المتقدمون فيه.

2 لسن 202 - ينصب نفسه: يقيمها.

203 - الأحراس: جمع حرس بالتحريك و هو من يحرس الحاكم و يسعى في حفظه.

204 - الشرط: بضم ففتح الشرطة.

205 - التعتعة في الكلام: الاضطراب في الكلام من جراء الخوف.

206 - الخرق: بالضم العنف ضد الرفق.

207 - العي: بالكسر العجز عن الكلام.

208 - نح: أبعد.

209 - الأنف: الأنفة و هي خصلة تلازم التكبر.

210 - الأكناف: الجوانب.

ص: 26

211 - يعيي: يعجز.

212 - الإصدار: ضد الورود.

213 - الحرج: الضيق.

214 - أجزلها: أعظمها.

215 - المثلوم: ما فيه خلل.

216 - احتجب: استتر.

217 - شعبة: قسم.

218 - شاب شوبا: خلط.

219 - توارى: اختفى.

220 - سمات: علامات.

221 - ضروب: أنواع.

222 - سخت: جادت.

223 - البذل: العطاء.

224 - تسديه: تؤديه و تعطيه.

225 - شكاة: بالفتح من الشكاية و هي التظلم.

226 - الاستئثار: طلب الأمور للنفس خاصة.

227 - التطاول: الإشراف و هو العلو و الارتفاع.

228 - الحسم: قطع الدم بالكي و حسمه حسما قطعه.

229 - الإقطاع: المنحة من الأرض و القطيعة هو الممنوح منها.

230 - الحامة: الخاصة و القرابة.

231 - الاعتقاد: الامتلاك.

232 - العقدة: بالضم، الضيعة و اعتقاد الضيعة اقتناؤها.

233 - المهنأ: المنفعة الهنيئة.

234 - أبتغ: أطلب.

235 - المغبة: العاقبة.

236 - الحيف: الظلم.

237 - أصحر لهم: أبرز.

238 - رياضة منك: تعويدا لنفسك.

239 - الدعة: الراحة.

240 - الجنة: بالضم الوقاية.

241 - استوبلوا: و أصل الوبال الوخم و هنا سوء العاقبة.

242 - خاس بعهده: خانه و نقضه.

ص: 27

243 - الختل: الخداع.

244 - أفضاه: أفشاه.

245 - الحريم: ما حرم هتكه و التفريط فيه.

246 - المنعة: بالتحريك ما تمتنع به من القوة.

247 - الإدغال: الإفساد.

248 - المدالسة: الخيانة.

249 - العلل: ما يحول الكلام عن قصده المراد.

250 - لحن القول: ما يقبل التخلص من العقد بالتورية و التعريض.

251 - سفك الدم: أراقه.

252 - القود: بالتحريك القصاص و قتل القاتل قبال جنايته على القتيل.

253 - أفرط: سبق و عجل.

254 - الوكزة: الضربة بجمع الكف.

255 - فلا تطمحن: فلا ترتفعن.

256 - الإطراء: المدح و الإفراط فيه.

257 - محق الشيء: أزاله.

258 - التزيد: الزيادة أي احتساب العمل أزيد مما يكون.

259 - المقت: البغض و السخط.

260 - التسقط: التهاون.

261 - لج في الأمر: لازمه و ألح في طلبه.

262 - تنكرت: لم يعرف وجه الصواب فيها.

263 - الوهن: الضعف.

264 - استأثر بالشيء: استبد به و خص به نفسه.

265 - التغابي: التغافل.

266 - حمية الأنف: الغضب.

267 - السورة: بفتح السين و سكون الواو الحدة.

268 - غرب لسانك: حدّ لسانك تشبيها له بحد السيف.

269 - البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب.

الشرح

اشارة

(هذا ما أمر به عبد اللّه علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، و جهاد عدوها، و استصلاح أهلها، و عمارة

ص: 28

بلادها) صفة العبودية للّه من أرفع الأوصاف و أجلها و هي ترادف التحرر من جميع العبوديات الأخرى التي تتجسد في المال و المنصب و الأهل و العشيرة و القومية و العنصرية، فإن من كان عبدا للّه يرفض أن يكون عبدا لهذه الأمور و بمقدار تعمق هذه العبودية يكون التحرر و الانطلاق، فإن من كان عبدا للّه لا يرضى أن يكون عبدا للمال فلا يذل نفسه و لا يهينها من أجل حفنة من الدراهم يتقاضاها رشوة، أو يمديده إليها ليسرقها أو يساوم على كرامة أمته و وجودها و كذلك العبودية للّه يرفض على أساسها أن يكون المسلم عبدا لشهواته... و غيرها من الأصنام و الآلهة المصطنعة...

و لعظم هذه الصفة - العبودية للّه - نرى أن اللّه وصف رسوله الكريم بها يقول تعالى شأنه: «سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ » فلم يقل سبحان الذي أسرى بمحمد أو بالرسول أو بأبي القاسم بل جاء بصفة العبودية التي تمثل الشرف و السمو و الكرامة بمنتهى درجاتها.

و لشرف هذه الصفة نرى أن اللّه يصف بها أنبياءه، فهذا شيخ الأنبياء إبراهيم يقول اللّه تعالى في حقه: «سَلاٰمٌ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ » .

و هذا موسى و هارون يقول تعالى عنهما: «سَلاٰمٌ عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمٰا مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ » .

و هذا عيسى يحكي اللّه عنه واقع أمره: «لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّٰهِ » .

و كذلك جرى ذكر الأنبياء كلهم بالعبودية، نوح و أيوب و يعقوب و إسحاق و زكريا و داود و لوط و غيرهم... و هذا كله يدلّل على أن هذه الصفة لها مرتبة عليا عند اللّه و بمقدار ما يكون الإنسان عبدا للّه و مطيعا له يكون متحررا و منطلقا. و إن أمير المؤمنين يعترف بعبوديته للّه و يجسد ذلك في جميع تصرفاته و أعماله فلا يخرج عن هذه العبودية طيلة حياته فهو في خطّ اللّه الذي رسم لعباده و أمرهم بانتهاجه، هو عبد اللّه عند ما كان يجاهد بين يدي النبي - صلّى اللّه عليه و آله - و هو عبد اللّه عند ما انحرفت عنه الخلافة و جلس في بيته و هو عبد اللّه عند ما عادت إليه و تولاها فهو عبد اللّه في جميع أحواله، و كذلك يجب أن يكون المؤمنون، بنفس الخط و في ذات الاتجاه عبيدا للّه، و للّه فقط...

و هذه الأمور الأربعة هي غاية الحاكم المسلم، فمن أجلها يرغب في الأمرة و الولاية، إن استطاع أن يقيمها بحدودها و يرعاها بشرائطها، و من هنا كان الإمام علي

ص: 29

يقول: اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان و لا التماس شيء من فضول الحطام و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطلة من حدودك... و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته و لا الجافي فيقطعهم بجفائه و لا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع و لا المعطل للسنة فيهلك الأمة. و أما إذا لم يكن مستطيعا لذلك فلا يجوز أن يتقدم لها فإن تقدم و الحال كذلك يعد خيانة للّه و رسوله و عباده المسلمين...

إن إقامة المجتمع الإسلامي النظيف لا يتحقق إلا إذا استطاع الوالي أن يقوم بهذه الأمور...
جباية الخراج:

المعبر عنه في عصرنا بالضرائب و لكنها ضرائب إسلامية لم تؤخذ لجيوب الكبار من الطبقة الحاكمة، و ليس لها بحال أن تصرف في ملاهي الأمير و الملك و حاشيتهما، في أمريكا و أوربا كما يفعله أمراء الضلال و حكام الباطل، بل دور هذه الضرائب أن تصرف في سدّ حاجة المحتاجين و رفع عوز المساكين و ستر عورة الفقراء البائسين، إنها تؤخذ لتعطى لأهل المسكنة و المتربة ممن لا حيلة لهم في العمل و لا قدرة لهم على ممارسة الضرب في الأرض من المقعدين و المرضى و المعوقين. إنها ضرائب فرضها اللّه على الإنسان من أجل أخيه الإنسان...

جهاد عدوها:

و هذه هي المهمة الثانية التي يجب أن يقوم بها الحاكم المسلم و هي جهاد عدو الدولة فإنها مهمة شاقة و كبيرة و لكنها جليلة و عظيمة و هذا الجهاد ليس عدوانيا أو استعماريا كما تنتهجه الدول الكبرى في عصرنا حيث قسموا السماء و الأرض و من عليهما إلى مناطق نفوذ و أسواق لتصريف منتوجاتهم إن هذه الحروب التي تشنها الدول الكبرى غايتها و جوهرها استعباد الناس و استذلالهم و قتل الروح الثورية المتفتحة فيهم، إن قتال الدول الكبرى اليوم لم يكن إلا من أجل استغلال و استعباد الشعوب الضعيفة التي لا تملك القوة الرادعة للمجابهة و المقاومة...

و هذا بخلاف الجهاد الإسلامي الذي يتبنى الإنسان المقهور و المسحوق و المستذل و المستعبد، هذا الإنسان الذي استعبدته الآلهة المصطنعة و منعته من رؤية النور و الحق،

ص: 30

فيأتي الإسلام في جهاده ليرفع القهر و الظلم و الإذلال و الاستعباد، يأتي ليحطم الأصنام البشرية التي صنعتها أيدي الطواغيت و الظالمين و يرفع الغشاوة التي وضعها المستكبرون على عقول المستضعفين... الجهاد الإسلامي كان من أجل الإنسان، من أجل رد اعتباره و كرامته و هل هناك مسوّغ أعظم من ذلك لعملية الجهاد و القتال... إن الجهاد يوفر الفرصة للإنسان كي يقف على الحقيقة و يبصر النور الذي يقوده لسعادة الدنيا و الآخرة... و الجهاد في الإسلام كما بحثه الفقهاء ينقسم إلى أربعة أقسام.

الأول: جهاد المشركين ابتداء لدعائهم إلى الإسلام المعبر عنه بجهاد نشر الإسلام.

الثاني: جهاد المشركين الذين يعلنون الحرب على المسلمين لاحتلال أرضهم و أخذ أموالهم و هذا هو المسمى بالدفاع.

الثالث: جهاد من يريد قتل نفس محترمة أو أخذ مال و هذا أيضا من الدفاع.

الرابع: جهاد الخارجين على الإمام المعبر عنهم بالبغاة...

و هذه العناوين الأربعة لها تفصيلات و تفريعات قد أحاط بها فقهاؤنا رضوان اللّه عليهم و أتوا على كل مسألة مسألة و بيّنوا حكم الإسلام فيها فمن أرادها فليرجع إلى كتب الفقه فإنها خزائن تلك المسائل و مقالعها...

و استصلاح أهلها:

و هذه هي المهمة الثالثة التي تناط بالحاكم المسلم إنها مهمة إصلاح أهل البلاد، إصلاحهم في جميع أمورهم المعاشية و المعادية، ينظر إلى دنياهم فيوفر لهم الضروريات التي تتوقف الحياة عليها و يهيىء لهم الفرص الكافية للعمل و الجد و الاشتغال كي يتهيّأ لهم المأكل و المطعم و الملبس.

كما يجب على الوالي أن يصلحهم و يأدبهم بلسانه و سوطه كي يدوم المستقيم على استقامته و يرتدع الفاسد عن فساده. و هذه المهمة من أعظم المهمات و أجلها، من أجل الإصلاح كانت دعوة الأنبياء و رسالاتهم، و من أجل الإصلاح كانت ثورة المصلحين و العظماء...

من أجل إصلاح الناس نزلت الشرائع و تحدث المصلحون و المرشدون، إنها عملية شاقة في قلع الانحراف و القضاء على الفساد و لكنها مطلب رسالي و هدف إسلامي.

ص: 31

و عمارة بلادها.

و هذه هي المهمة الرابعة للحاكم المسلم، إنها عمارة البلاد التي تتقوم بتنشيط التجارة و الزراعة و الصناعة و توفير المواد الأولية للأعمال التي تتطلبها أو تحتاجها، إن عمارة البلاد تتوقف على الأمن و الدعة كي يطمئن صاحب المال إلى بقاء ماله و استثماره و يعلم العامل أنه في استمرار و دوام في عمله فيجدّ و يبني و يعمل و كذلك الزراع و الفلاح و أصحاب الأعمال و الحرف...

إن عمارة البلاد يتوقف على رأس المال الذي يجبى من الخراج و على الأمن الذي ينعم به الفرد حيث يعلم أنه غير مهدد في وجوده من أعدائه في الخارج أو من المفسدين في الداخل...

بهذه الأمور الأربعة يتقوم صلب العدل الاجتماعي و الرفاهية الإنسانية و السعادة البشرية و بقيام الحاكم بها يكون قد أدى دورا إسلاميا رائدا في بناء المجتمع الصالح الذي ينشده الأنبياء و يدعو إليه المصلحون...

(أمره بتقوى اللّه، و إيثار طاعته. و اتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه و سننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، و لا يشقى إلا مع جحودها و إضاعتها) فيما مضى كان النظر متوجها إلى الحاكم باعتباره ولي أمور الناس و الناظر فيما يصلحهم و يحقق سعادتهم فلذا كان الإمام يوجهه إلى ما يتحقق به ذلك و أما في هذا المقام فقد توجه إلى الوالي باعتباره مسلما و أوصاه بهذه الوصايا العظيمة التي تعد غرة الوصايا و شرفها...

أمره بتقوى اللّه و تقوى اللّه تشكل الالتزام الحرفي بالإسلام فلا يترك واجبا و لا يرتكب محرما و يبقى هكذا مستمرا ضمن هذا الخط المستقيم و هذا المعنى يطلبه الإسلام من كل الناس الذين يدينون به و يؤمنون بتعاليمه، فالأصل الأولي في كل مسلم أن يكون بهذا المستوى من الالتزام و أما الانحراف عن هذا، و الخروج عنه فيعده الإسلام شذوذا و ضلالا و خرقا للقاعدة الأصلية التي يجب أن تتوفر في كل مسلم...

تقوى اللّه بالمعنى الذي أوضحناه يحقق السعادة للفرد و المجتمع و يساعد على تحقيق المجتمع الإسلامي الصالح فإن المجتمع إذا كانت كل أفراده ملتزمة بحرفية الشريعة يتحقق عندها المجتمع السليم الذي ينادي به الإسلام و ينشده...

ثم إن الإمام بيّن أن السعيد حقا هو من التزم جانب الفرائض و السنن فأقامها و في مقابله الشقي الذي يجحد تلك السنن و ينكرها أو يعترف بها و لكنه لا يقيمها، و الإنكار لهذه الفرائض و السنن يمثل قمة الرفض و العناد إذ قد يأخذ دور الحرب لها و للمقيمين لها

ص: 32

و هذا يشكل أخطر مرحلة من مراحل الإنكار...

إن الميزان الذي يضعه الإمام لسعادة الفرد و شقائه هو هذا الميزان المأخوذ من هذه الفقرات... فالسعيد هو المطيع لأمر اللّه و الشقي هو العاصي لذلك الأمر.

(و أن ينصر اللّه سبحانه بقلبه و يده و لسانه، فإنه، جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره، و إعزاز من أعزه. و أمره أن يكسر نفسه من الشهوات و يزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم اللّه) هذه وصية أخرى من أغلى الوصايا و هي نصرة اللّه المتجسدة بنصرة دينه و عباده و قد اتخذت هذه النصرة أشكالا ثلاثة النصرة بالقلب المتجسدة في إنكار المنكر و عدم الرضا به ممن صدر منه أو الفرح و السرور بمن أطاع اللّه و عمل بما أمر به و هذه أقل مراتب النصرة و أيسرها و قد أفتى الفقهاء بحرمة الرضا بالحرام بل يجب على المسلم أن لا يكون راضيا بالحرام و من هنا ورد عن أمير المؤمنين من ترك إنكار المنكر بقلبه و لسانه فهو ميت بين الأحياء و يحدث ابن أبي ليلى الفقيه قال: إني سمعت عليا عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و برىء و من أنكره بلسانه فقد أجر و هو أفضل من صاحبه و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نور في قلبه اليقين. ثم النصرة باليد و هي أن يمنع من تحقيق المنكرو و يردع المرتكب للمحرمات باليد و القوة أو يساعد الناس بقوته و سلطانه على تحقيق الطاعات و القربات و هناك نموذج ثالث لنصرة اللّه و هي النصرة باللسان بتوجيه الناس نحو الخيرات و الواجبات أو يردعهم عن المحرمات و الممنوعات و هذه المراتب الثلاثة ليست في رتبة واحدة بل تتخذ الشكل الطولي و التسلسل التدريجي فرب إنسان يكتفي منك أن تشعره بعدم الرضا بفعله فيرتدع و ربما لا يكتفي آخر بذلك فتحتاج إلى أن تضم إليه الكلام و هكذا...

و هذه النصرة لدين اللّه و عباده متوجة بالربح على كل حال - فلا تتعرض للخسارة أبدا - لأنه متى نصر اللّه بالقلب و اليد و اللسان يكون قد عمل بما أمره اللّه تعالى و متى عمل بما أمر اللّه تحقق له الفوز و السعادة لأن رضا اللّه هو الغاية و قد تحقق بامتثال ما أمر...

ثم إن الإمام ينبه على مطلب مهم يجب أن يلتفت إليه كل إنسان و يبقى على حذر منه و هو هذه النفس التي تميل نحو الشهوات و الأهواء فإنه يوصي عليه السلام أن يكسر حدتها و يكبح جماحها و يجعلها خاضعة في ميولها و مشتهياتها إلى مرضاة اللّه و أمره و قد ورد عن أهل البيت عليهم السلام الكثير من الحث على مراقبة النفس و محاسبتها و ردعها

ص: 33

عن رغباتها المحرمة فقد ورد عن النبي أنه بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول اللّه ما الجهاد الأكبر؟ قال:

جهاد النفس.

و ورد عن الإمام الصادق (ع): من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا اشتهى و إذا غضب و إذا رضي حرم اللّه جسده على النار.

يجب على المسلم أن يكسر نفسه و يمنعها لأنه متى كسرها امتنعت، أن يكسر هذه النفس عن الشهوات فربما اشتهت أمرا محرما و كثيرا ما تشتهي فيردعها المسلم عن الإقدام على ذلك متذكرا أن وراءها غضب اللّه و عذابه...

إنه عليه السلام يقول له: كف نفسك عند ما تجمح إلى شهواتها و مآربها فإنها تأمر بالسوء إلا للذين رحمهم اللّه من النبيين و المرسلين و الصالحين.

(ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده) إن الإمام هنا يريد أن يلفت نظر مالك إلى هذا البلد الذي ولاه عليه - و إلى كل بلد - كما يريد أن يعيده إلى نفسه قبل بضع سنوات، عند ما كان فردا من الرعية، و يذكره بشعوره الذي كان يخالجه اتجاه الولاة...

إنه يريد أن يقول لمالك: إنني قد وجهتك إلى بلاد قد تداول عليها الجور و الظلم، و هذا التاريخ ينقل سيرة أولئك الذين تولوا عليها، فهل يمكن للوالي أن يختار أحد الطريقين فيسلك أيهما شاء، أو أنه يتعين عليه الأخذ بالعدل و العمل بالمساواة و السير بالحق، إنه طريق واحد يريده الإسلام من الوالي و تريده الرعية أيضا إنه العدل، و العدل فقط، و أقوى دليل على هذا التعيين هو أنك كنت فردا من الرعية، كنت في الكوفة تعيش مع الولاة و تطمح نفسك إليك أن يسيروا بالعدل و الهدى، إنك يا مالك قد تحركت في وجه الظلم و الانحراف فكيف تمارسه الآن عند ما أتتك الدنيا و أصبحت في مركز المسئولية و الولاية... بل يجب عليك أن تعمل مع الرعية ما كنت تتمنى أن يعمله الولاة معك عند ما كنت رعية لهم...

ثم إن الإمام يوضح أن ألسن الصالحين و حديثهم في حق إنسان يدلل على صلاحه و إحسانه فإنهم لا يتكلمون إلا بما يرون فلذا يكون حديثهم عن معرفة و يقين لا يزيدون فيه و لا ينقصون منه فإن صلاحهم يمنعهم عن ذلك...

ص: 34

(فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت) العمل الصالح قرين الإيمان و رفيق مسيرته، فحيث يحل الإيمان يتبعه العمل الصالح و قد ذكره اللّه في كتابه مع الإيمان و لم يفكك بينهما لما لهما من الاتصال و الوفاق، فالإيمان عقيدة في القلب يتحرك الإنسان على أساسها في اتجاه مستقيم من فعل الخير و الإحسان و زرع الحب بين الناس و لا يمكن أن يفرض الإيمان في قلب فرد عاريا عن العمل الصالح فإن مثل هذا الإيمان مثل الجسد المشلول الذي يملك الصورة البشرية دون أن يملك الحركة التي على أساسها يملك الاختيار و وجهة المسير... و العمل الصالح يتجسد في إطاعة اللّه في أوامره و الانتهاء عن نواهيه فاللّه يأمر بالعدل و الإحسان و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و إعانة الضعيف و مدّ يد العون إلى المسكين و اليتيم و رفع ضائقة المحتاجين و سد عوز الفقراء و المعوزين. إنه تعالى يأمر بكل ما يحقق لهذا الإنسان سعادة الدنيا و الآخرة إنه تعالى يأمر بالعمل الصالح و هل هناك أفضل من هذه الذخيرة و أنفع منها؟ إن أنفع ما يدخره المرء هو العمل الصالح ثم إن الإمام يوجه نصيحته قائلا لمالك: «فاملك هواك و شح بنفسك» فإن الإنسان إذا استطاع أن يسيطر على هواه استطاع أن يحقق إرادة اللّه فينشر العدالة و ينصف الناس و يعطي كل ذي حق حقه، إن الإنسان إذا أطاع هواه فيما أحب يخرج عن عبوديته للّه ليكون عبدا لهذا الهوى الفاسد و قد عدّ اللّه من أطاع هواه عابدا له من دون اللّه فقال سبحانه: «أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ » فإن الإتباع للهوى يصدّ عن سبيل اللّه...

ثم إن الإمام يقول له شح بنفسك و يفسر له الشح بالإنصاف من هذه النفس فيما أحبت أو كرهت فإن الإنسان يجب أن يكون على حذر من نفسه فيطيعها في طاعة اللّه و يعصيها في معصية اللّه و ذلك هو إنصافها...

إن هذه النفس تمثل أغلى ما يملكه هذا الإنسان، إنها أغلى عنده من ماله و متاعه و من كل ما تحت يده فلذا يضحي في سبيلها بكل شيء يملكه و لا يضحي فيها من أجل شيء يملكه، فإذا كانت عزيزة بهذا المقدار و يحرص المرء عليها هذا الحرص فيجب أن يفكها من النار، و يفتديها من الهوان فلا تدفعه إلى ارتكاب الحرام و عدم إنصاف الناس بالجور عليهم و الانحراف عن العدل و الحق فيهم...

(و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبة لهم، و اللطف بهم، و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ، فأعطهم من

ص: 35

عفوك و صفحك مثل الذي تحب و ترضى أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاك! و قد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم) الوالي كالأب الرحيم، يعطف على الضعيف، يعين العاجز، يوفر ظروف السعادة لرعيته لأنه يمثل القدوة و الأسوة فعند ما يتخذ هذا السلوك سيرة له مع الناس ينعكس هذا الأمر فيما بين الناس أنفسهم فيتبادلون الحب و العطف و الرحمة و اللطف و بذلك يسن طريقة تجمع القلوب و توحد الأيدي و تلم شمل الناس على مائدة الوئام و السلام و قد مثل الإمام علي و هو في سدة الخلافة أروع صور العطف و الحنان على رعيته و هذه صورة مشرقة من تلك الصور الفذة...

دخلت سودة بنت عمارة الهمدانية على معاوية بعد موت علي عليه السلام، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، و آل أمره إلى أن قال: ما حاجتك.

قالت: إن اللّه سائلك عن أمرنا، و ما افترض عليك من حقنا، و لا يزال يتقدم علينا من قبلك، من يسمو بمكانك و يبطش بقوة سلطانك فيحصدنا حصد السنبل و يدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف و يذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطأة قدم علينا فقتل رجالنا و أخذ أموالنا، و لو لا الطاعة لكان فينا عز و منعة فإن عزلته عنا شكرناك و إلا كفرناك.

فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة ؟ لقد هممت أن أحملك على قتب فأردك إليه فينفذ فيك حكمه.

فأطرقت سودة ساعة ثم قال:

صلّى الإله على روح تضمنها *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا *** فصار بالحق و الإيمان مقرونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة ؟.

قالت: هو و اللّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، و اللّه لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائما يصلي فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي برحمة و رفق و رأفة و تعطف و قال: أ لك حاجة ؟.

قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي و عليهم و إني لم آمرهم بظلم خلقك ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم: قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل و الميزان و لا

ص: 36

تبخسوا الناس أشياءهم فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك و السلام...

فالوالي يجب أن يكون صاحب القلب الكبير ينظر بعطف و رحمة إلى رعيته و لا يكونن عليهم سبعا ضاريا يتحين الفرص لينقض على أنفسهم فيذيقها العذاب و على أموالهم فيتسلط عليها ظلما و عدوانا و على أعراضهم فينالهم بالهتك و المهانة...

و يعلل الإمام ذلك بأجل عبارة و أخصرها و أروع بيان و أكمله حيث يقول: «فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق» للّه أنت يا أبا الحسن... يا رحمة الإسلام لهذا الإنسان، عشت الإنسانية بأبعادها و ارتدت الحق بمغارسه و اخترقت بفكرك عمق الزمان و المكان لتقف أمام الإنسانية عملاقا يتحدى الباطل و يستنهض الخير الكامن في وجدان كل فرد من الناس، لقد حملت هم الإنسان و ترجمت ذلك في أعمالك و أقوالك. فجئت إسلاما متحركا في أهاب إنسان...

«إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق» عبارة على قصرها تتحدى ما توصل إليه الإنسان في القرن العشرين، إنها عبارة انطلقت قبل أربعة عشر قرنا و اخترقت كل هذا الزمن لتتحدى فكر الإنسان في القرن العشرين الذي لم يستطع أن يأتي بصياغة أجمل منها... يحتوي على نفس المضمون العميق...

إما أخ لك في الدين تربطه معك العقيدة و المبدأ و هذا له حق عليك بل حقوق و هناك أخ لك في الخلق تجمعه معك أصل الخلقة و التكوين و هذا المعنى المشترك يفرض حقا لكل فرد من الناس على الآخرين...

(إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق) و كلا الرجلين يستحق الشفقة و الرقة و الحنان فإذا صدر من أحدهما زلة أو عثرة أو تجاوز ما هو مرسوم له عمدا أو خطأ فإن ذلك شيئا يمكن أن يصدر من إنسان يدخل تحت الإمكان و لا تحوطه العصمة أو ترشده يد اللّه، فإذا صدر شيء من ذلك و أمكن للوالي أن يغفرها لهم أو يسترها عليهم أو يجنبهم جرائرها و آثارها فهذا شيء مطلوب و مرغوب فيه و لينظر الوالي نفسه كيف أنه لو أخطأ أو عثر يتمنى في قرارة نفسه أن يعفو عنه اللّه بعفوه و كذلك من هو فوقه فليكن هذا الوالي مع أمنيات رعيته في عفوه عنهم... و طبعا هذا إنما يكون في الأمور التي يمكن أن يتساهل فيها أو يعفى عنها، أما إذا كان من الحدود التي لا يجوز التهاون فيها، أو الحقوق التي يجب تحصيلها فليس لأحد أن يسترها أو يعفو عنها...

ثم إن اللّه فوق الجميع و بيده الأمور كلها و هو الذي ولىّ القادر على تحمل

ص: 37

المسئولية و جعله المسئول الذي يتولى أزمة الأمور فيسوس الرعية و يصلح الحياة و يوفر للناس الدعة و الصلاح و الأمان...

(و لا تنصبن نفسك لحرب اللّه فإنه لا يد لك بنقمته و لا غنى بك عن عفوه و رحمته، و لا تندمن على عفو، و لا تبجحن بعقوبة، و لا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، و لا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب، و منهكة للدين، و تقرب من الغير) لا يزال الإمام يوجه موعظته إلى مالك منبها له على أمر خطير جدا و هو أن لا يكون الإنسان مناصبا عدائه للّه فإن مناصبة العداء إن جرت فإنما تجري بين المتكافئين اللذين يملكان القدرة لقهر كل منهما الآخر و أما مناصبة العداء بين ضعيف صغير مخلوق فقير و بين قوي كبير خالق غني مناصبة ظاهرة النتائج لا تحتاج إلى فكر طويل.

كيف يستطيع هذا المخلوق الضعيف الذي استمد أصل وجوده و استمراريته من خالقه الغني ؟ كيف يقوم بمناصبة العداء لمن أفاض عليه الوجود و أغدق عليه النعم و الخيرات ؟!.

اللّه... بيده أزمة الأمور و هو القادر المعطي المبدىء المعيد المحيي المميت على هذا يحيا المسلم و عليه يموت فلذا لا يخرج عن طاعة اللّه إلى معصيته و كل معاصيه تعد من إعلان الحرب عليه فالمسلم لا يعمل بالمعاصي لأن اعتقاده باللّه جميل فهو يعبده و يطيعه لأنه أهل أن يعبد و يطاع و تلك عبادة الأحرار أو يعبده و يطيعه خوفا من عذابه أو يعبده و يطيعه طمعا في جنته على حد مقولة أمير المؤمنين علي عليه السلام...

ثم إن العفو باعتباره مرغوبا فيه مدفوعا إليه من الشارع فلا يندمن مسلم على عفو قد صدر منه و كيف يندم على فعل أراده اللّه و رغب فيه و كذلك الوالي إذا مارس عقوبة على إنسان استحقها فلا يتبجح بها و يتحدث بزهوه و قدرته على ذلك لأنه لم يقمها إلا للّه و قد استوفاها في وقتها و كذلك يجب على الوالي إذا غضب أن لا يدخله غضبه في مخالفة الشرع بل يجب أن ينصرف عن ذلك إلى ما لا حرمة فيه...

(و إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، و يكف عنك من غربك، و يفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.

إياك و مساماة اللّه في عظمته و التشبه به في جبروته، فإن اللّه يذل كل جبار، و يهين كل مختال) للحكم لذة لا توصف، تفوق لذاذات الحياة جميعا عند بعض الناس، إن لهذا الكرسي سكرة تنسي صاحبها اللّه، و الدار الآخرة و هنا يكمن الخطر فتزل الأقدام

ص: 38

و تتحطم كل المقاييس ليعيش مقياس المحافظة على ركوب الكرسي.

من أجل الحكم تقطع الأرحام فيخاطب الأب هارون الرشيد ولده: «و اللّه لو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عينك» و من أجل الحكم تدور الحروب بين الأخوين الأمين و المأمون و يهدى رأس الأمين لأخيه و من أجل الحكم تحصل الانقلابات و المنازعات و من أجل الحكم يقوم الابن قابوس بانقلابه على أبيه في عمان و من أجل الحكم تدور المعارك بين الأصدقاء و تحصل التصفيات بين رفاق السلاح من أجل الحكم يتنكر كثير من الناس للحق فيدخلون النار...

إن الإنسان إذا رأى قعقعة السلاح و خفق النعال و وجد نفسه أنه الآمر الناهي الذي يملك تصريف الأمور و تحريكها، إذا رأى أن حاجات الناس لديه و هو يملك قضاءها و منعها تغره نفسه و يقوده هواه إلى أن يبقى في منصبه و مقامه و لو على حساب دماء الناس و أشلائهم و دموعهم و راحتهم...

إن لذة الحكم قد تطغى بالحاكم إلى أن يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىٰ » كما قال فرعون و يقول: أنا الدولة كما قال غيره...

إن هذه اللذة إذا طغت فإنها تفسد الدين و الضمير و تجعل الثورة على أبواب الملك لتدق عظمه و تعيده إلى حجمه الطبيعي الصغير...

إن هذا الملك أو السلطان إذا تخيل أنه يملك كل شيء و وقف موقف الإعجاب بنفسه فعليه أن يلتفت لفتة بسيطة قليلة إلى قدرة اللّه العظيمة، عليه أن يلتفت إلى ربه و قدرته عليه و على سائر المخلوقات ليعرف أن اللّه الذي هو فوقه يملك من القدرة في حق هذا الإنسان أكثر مما يملكه الإنسان من نفسه... فاللّه يملك أن يميته فهل يملك هذا الإنسان أن يتحدى ذلك فلا يموت... اللّه يملك القدرة أن يمرضه فهل يملك هذا الإنسان القدرة على الشفاء... اللّه يملك القدرة أن يسلبه أمنه و راحته كما فعل مع شاه إيران محمد رضا بهلوي بحيث لفظته الأرض و رفضته السماء فهل كان بمقدوره أن يوفر الأمن و الراحة... كلا... حتى الأصدقاء تنكروا له و نبذوه...

فإذا مر هذا الشريط من قدرة اللّه و عظمتها و أنها فوق قدرة الملك و سلطانه يطأطىء رأسه حياء و يخفف من كبريائه و ارتفاع نفسه ليضعها موضعها اللائق بها فلا يرتفع تكبرا و تجبرا و لا يتيه غطرسة و عنادا و لا يخرج عن سمة العقلاء غضبا وحدة، بل تلك الصورة العظيمة لقدرة اللّه تخفف من كل ذلك و تجعله يرجع إلى عقله و يعود إلى رشده...

إن من يتشبه باللّه و يفرض نفسه في ذلك المحل الرفيع، فيتجبر و يتكبر و يقوده ذلك

ص: 39

إلى الفرعنة الكافرة و النمردة الملحدة، إن مثل هذا الإنسان يذله اللّه و يهينه و لا يدعه في كبره و صلفه بل ربما سلط عليه أحقر خلقه و أقلها شأنا كي يذيقه هو ان الدنيا و خزيها...

(أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك و من لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم! و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، و من خاصمه اللّه أدحض حجته و كان للّه حربا حتى ينزع أو يتوب. و ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد) إنصاف اللّه أن يعترف به و يقر أن بيده كل شيء و أنه القادر على كل شيء، و لا يعصى له أمر و لا يرتكب له نهيا و إنصاف الناس من النفس أنه لو كان عليه الحق دفعه لأهله و لا يقوده هواه لنفسه أو لأهله أو لأحد ممن هواه معه لا يقوده ذلك إلى مخالفة الحق و السير وراء الأهواء الباطلة و كثيرا ما يسيطر هوى الإنسان و تضعف قوة الإيمان بحيث يضحى المرء كريشة أمام أهوائه و شهواته و يحدثنا التاريخ عن كثيرين ممن انحرفوا خلف أهوائهم و حبهم لأهلهم و عشيرتهم، و إن هذا الاتباع للهوى هو الظلم و الجور فإن كل ما لم يكن فيه إنصاف يكون مقابله الجور و الظلم على عباد اللّه و من كان ظالما للناس تولى اللّه دفع ظلمه عنهم و استوفى حقهم منه و من كان اللّه خصمه فإنه لا حجة له و لا دافع.

و قد ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: «من واسى الفقير و أنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقا».

(و ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، و أعمها في العدل، و أجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة و إن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة.

و ليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونة في الرخاء، و أقل معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف، و أقل شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة. و إنما عماد الدين و جماع المسلمين و العدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم، و ميلك معهم) الناس مع الحاكم صنفان، صنف يعيش في ظله و نعيمه، يتمتع بأمجاد الدولة و شرفها، و يعلو بسمو منزلة السلطان و هيبته، و هم الخاصة من كتاب و ولاة و وزراء و قضاة و من على شاكلتهم ممن يعيش في هذه الساحة الملكية و هذا الصنف من الناس يصفهم الإمام و كأنه يقرأ نفوسهم عن قرب و يدخل إلى ضمائرهم ليعبر عنها ضمن هذه الكلمات القليلة، هذه الصفات يحملها هذا الصنف قديما كما يحملها نفس الصنف الآن، و في هذا الزمن و لكن على شكل أقبح و أبشع إذ اليوم تحول رجال الحكم إلى تجار سحت و باعة ضمير و واهبي كرامات لم،

ص: 40

يعد للمبادئ و القيم و الرسالات و المثل أي وزن أو قيمة. و هذا الصنف من الناس - و هم الحاشية الملكية و الرئاسية - عند ما يكون الحاكم نافذ الكلمة مطاعا بين الناس، مقبلة الدنيا عليه تراهم كلهم تحت أمره و نهيه يخلصون له الود و يظهرون الحب و الإخلاص و تراهم تكثر شفاعاتهم لدى الوالي و تتعدد طلباتهم عليه لأن كل فرد في الحاشية له حاشية خاصة و زملاء و أصدقاء و معارف و أحباب و كل واحد يشفعه في قضية أو يسأله قضاء حاجة و من هنا يتوسل إلى الحاكم الأعلى في قضائها و إنجازها و هي ليست واحدة بل كثيرة و كثيرة.

و هذا الفرد نفسه بينما تراه على هذه الحالة أيام الرخاء إذ به ينقلب في أيام البلاء إلى ذئب مفترس يظهر معايب سيده الحاكم و يتنكر لكل ذلك النعيم الذي حباه و أكرمه به... إنه في أيام الرخاء يلحس قصاع الملك و يتمدد على فراش النعيم بينما في الشدة يخذله و يتنكر له. و هذا الصنف بالذات يكره الإنصاف لأن الإنصاف يكبح من جماحه و يرده إلى حجمه الطبيعي من كونه فردا من رعية و شخصا من مجموعة مسلمة يتساوى معهم في الخصائص و يعدلهم في العطاء و يوافقهم في سائر الأمور و هذا المعنى لا يرتضيه إذ هو من حاشية السلطان و صاحب المقام السامي العريض و لو أعطى ما أعطى لم يشكر و لم يحمد لأنه أيضا يرى أن حصته قليلة و عطاءه غير كاف لأنه من حاشية الحاكم و رجاله... و أما لو منعه الملك مطلبه ورده في حاجته و اعتذر إليه بما فيه مصلحة و فائدة عدّ ذلك إهانة له و لم يقبل الاعتذار و لم يرض السماح... هذا هو الصنف الأول من الناس و هم خاصة الحاكم و حاشيته و هم قلة قليلة. و هناك صنف آخر و هم العامة الذين يشكلون الصفوف البشرية الموّاجة الذين لا ينعمون بهذه الأمور و لا يلحقهم كل ذلك الخير و الإحسان، و إنما يطالهم القانون العام و الرحمة العامة من شق الطرقات و فتح المدارس و إنشاء المستشفيات و غيرها من المشتركات و هذا الصنف من الناس يكون أشد وفاء للحاكم و أخلص له من الخاصة - إذا كان الحاكم عادلا مخلصا - لأن إخلاصه و وفاءه إنما ينبع من إخلاص الحاكم و وفائه و نحن قد رأينا بأم العين كيف استطاع الشعب المسلم في إيران أن يخلص لقيادته الدينية و يبقى وفيا لها حتى بعد أن نفاها الطاغوت و استمرت مبعدة عن وطنها و جماهيرها ما يزيد عن الخمسة عشر سنة فقد استطاع هذا الشعب بجماهيره الواسعة و ملايينه المتعددة أن يلتف حول قيادة الإمام آية اللّه الخميني و هو في منفاه و استطاع بهذا الإخلاص أن يقود الثورة و يسقط عرش الطاغوت و يبني الدولة الإسلامية فهذه الجماهير - أو العامة - يجب أن يكون همّ الحاكم إحراز رضاها و تحقيق رفاهيتها و سعادتها و إن غضبت الحاشية و لم ترض بذلك، فإن رضى العامة يجبر سخط الخاصة بينما رضى الخاصة - باعتبارهم انتهازيين نفعيين - لا يفيد مع

ص: 41

سخط العامة فالحاكم يجب أن يكون نظره متوجها نحو هذا الصنف فإنهم السد المنيع في وجه الأعداء و القوة الضاربة لكل شر و فساد و ما اكتسب سلطان و دهم و عطفهم إلا ظفر و انتصر.

(و ليكن أبعد رعيتك منك و أشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك. و اللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد، و اقطع عنك سبب كل وتر، و تغاب عن كل ما لا يصح لك و لا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش، و إن تشبه بالناصحين) الطهر فضيلة ينشرها الإسلام و يطالب أبناءه بالتحلي بها و يؤكد عليها في المسئولين الذين يتولون الأمور و يشكلون القدورة للناس، و هذا الطهر و السمو و النظرة الصافية للرعية لا يكون إلا بارتفاع الحاكم عن سماع معايب الناس و كشف عوراتهم، فإن ذلك بحسب الطبيعة البشرية يربي الحقد على الناس و يزرع في النفس شيئا من الاشمئزاز و هذا شيء واقع تحت التجربة، و من الأمور الوجدانية الصادقة فمن لا تعرف عنه شيئا تتلقاه بالبشر و طلاقة الوجه و اللسان و أما من استمعت في حقه شيئا - و لم تصدقه - يخلق ذلك السماع في نفسك و لو مقدارا قليلا من الحذر نحوه و تتغير نفسيتك بعض الشيء فكيف إذا تكثر و تعدد و أضحى كل فرد من الناس يزرع حبة حقد في نفس الحاكم فإن نفسيته تفسد و ظنونه تسيء و أحواله تتغير، و هذا يشكل الطرف السيء الذي لا يريده الإسلام من الناس...

إن الوالي مهمته أن يقيم الحدود إذا ظهرت دون أن يتقّصاها و يكشف ما غاب عنه منها، فإن المعصية إذا لم يجاهر بها صاحبها فإنها لا تضر غير العامل بها و يكون العاصي المتستر في حصانة منيعة من هتك هذا الستر و هذا بخلاف المتجاهر الذي أماط بنفسه ستر حيائه و هتك نفسه بنفسه فإنه إذا ثبت عند الحاكم شيء من ذلك وجب أن يقيم عليه الحد و يردعه عن المعصية لأن المعصية إذا تجاهر بها صاحبها أصبحت أداة إفساد للمجتمع بجميع عناصره و هون هذا التجاهر من حرمتها حتى تغدو بعد فترة من الزمن و قد انتزع عنها لباس الحرمة و سهل اقتحامها...

إن الإمام يوجه نصيحته إلى الوالي أن يبعد عن ساحته من يطلب معايب الناس فيبحث عنها و يفتش للحصول عليها فإن من كان دأبه أن يهتك أستار الناس فإن الناس فيها شيء من المعايب، و إذا ظهر شيء من ذلك مما يمكن فيه العفو و الستر فالوالي أحق من ستر و عفى لأنه مهذب النفوس و مربيها و الأسوة في هذا المجال

ص: 42

و المضمار و أما إذا ظهر شيء و ليس للوالي العفو عنه فليقم على مرتكبه الحد و ليدع ما خفي إلى حساب اللّه...

ثم إن الإمام يوجه الوالي إلى أن يحل عقد الأحقاد من الناس بحسن السيرة معهم و أن يرفع العداوات بحسن سلوكه و عدم الإساءة إليهم و إذا مر عليه شيء مما يترفع عنه الولاة فلا يصغي إلى شيء منه بل يترفع و يتجاهل الأمر و في نهاية الفقرة يأمره أن لا يستمع إلى واش خبيث يريد أن يفسد الود و يفرق الجمع فإن هذا الواشي و إن لبس لباس الناصحين المخلصين فإنه ألدّ الأعداء حيث يثير الأحقاد و يفسد على الوالي طبيعته الصحيحة السلمية.

(و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللّه) البخل و الجبن و الحرص ثلاثة خصال لو مثّلت لكانت مثال سوء، قتلها الدين في نفوس أتباعه و ذمها الشرفاء في حديثهم و أفعالهم و قبحها العقلاء في تفكيرهم و حقائقهم، إنها تمنع الحق و تميت الدين و تقضي على المروءة، إنها تزرع الرعب و تفسد الطبيعة و تقعد بالمرء عن الجهاد.

الجبن، هلع في القلب و سوء في التفكير و اضطراب في الأعضاء، يركع الجبان أمام اللئام و يتنازل عن كرامته لأخس الناس. يصفع فيبارك اليد التي صفعته، بل يلثمها لتعف عنه بعض أيام يعيشها ذلا و حقارة. لا نامت عيون الجبناء و لا بوركت أيامهم إنهم يضيعون الأرض و الكرامات و الإنسان...

و أما البخيل فإنه يمنع الحقوق و يعد الناس الفقر، يستمسك بحاجته و كأن اللّه لم يخلقها إلا ليسجنها هذا البخيل مؤبدا، إنه يسيء الظن باللّه و يبخل على عباده، يعيش في الدنيا عيشة الفقراء و يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، فبئس العيش و بئس الحساب و هل مثل هذا يقدم خيرا أو يهدي إلى معروف ؟!.

و أما الحريص فينفتح بطنه على سعته يطلب ما يجد و ما لا يجد، لو جئته بمال قارون لدفعك إلى لم قروش البشر أيضا، إنه حريص، يجور بما يجمع، و يمنع و لا يعطي، و يكفي هؤلاء الثلاثة خزيا أن لا يكونوا أهلا للمشورة كما يقوله الإمام في فقرته هذه...

(إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، و إخوان الظلمة، و أنت واجد منهم خير الخلف ممن له

ص: 43

مثل آرائهم و نفاذهم، و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم و آثامهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه، أولئك أخف عليك مئونة، و أحسن لك معونة، و أحنى عليك عطفا، و أقل لغيرك إلفا، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك و حفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك و أقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره اللّه لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو و تدني من العزة) الوزير، عفوا معالي الوزير، عفوا العفو معالي الاستاذ الوزير هكذا نسمي الظلمة في زماننا - و كل وزرائنا ظلمة - ليس وزراء هذا الزمن أعوان للظلمة بل هم أشد الناس ظلما و قساوة، مارسوا على الإنسان أفظع أساليب التضليل و الخيانة و الاستهتار و المهانة، لو جئنا لنفتح دفاترهم لسودنا صفحات جمة كلها أوساخ و مهانات، كلها عار و خزي...

فهذا الوزير قد سرق باسم وزارته ملايين الملايين، و هذا الوزير قد نهب خيرات البلد و حارب الضمير و الوجدان، و هذا الوزير قد استطاع أن يبني قصرا يعجز تجار الرقيق في الزمن القديم من بنائه، و هذا الوزير يحيي لياليه الحمراء بين بنات الهوى و حانات الدعارة كله عهر و دناءة...

و هذا الوزير قد سخر كل المومسات و العاهرات من أجل أن يتصل بالمسئولين كي يستلم مركزه.

و هذا الوزير قد عمل عميلا لمدة مديدة تحت وكالة الاستخبارات الأجنبية و هكذا دواليك... بالوعة لا يخرج منها إلا القذارة... هذا هو حال الوزراء في زماننا، واقع مأساوي قضى على كثير من الطموحات و الآمال، للشعوب المستضعفة.

إن الإمام يوصي أن لا يتعامل الوالي مع هؤلاء الوزراء الذين كانوا في عهد الطاغوت أعوانا له فإن نفسيتهم الخبيثة و سلوكهم المشين و ممارساتهم الشاذة و انحرافهم القديم يؤثر على ثقة الناس بالوالي من جهة و يدفع الجماهير إلى التشكيك في البناء الاجتماعي للمجتمع المسلم و أنه عاجز عن تقديم نماذج بديلة عن هؤلاء الوزراء الأشرار.

و من هنا يدفع الإمام بوصيته للوالي أن ينحي هؤلاء الوزراء الذين عاونوا الطاغوت، ينحيهم جانبا فإن في المجتمع الإسلامي من به الكفاءة ممن لم يتدنس بمرافقة الظلمة و لم يعنهم في جورهم و هذا الإنسان الطاهر الذي لم يتدنس يستطيع أن يندفع بإخلاص و يعاون برغبة و يسعى بعطف و حنان كي يثبت الحق و يدفع الباطل و يعمل بمقتضى نظافة باطنه و طهارة ضميره...

ص: 44

ثم إن هؤلاء الأعوان الجدد يختلفون في وثاقتهم و إخلاصهم و ليكن أحب هؤلاء لنفس الوالي من يتكلم بمر الحق و يعلن الحقيقة عارية و إن لم تعجب الوالي و لم ترضه فإن القضية ليست قضية محسوبيات و زعامات و لا قضية إرضاء له أو اكتسابا لوده و كذلك أحب الأعوان للوالي يجب أن يكون من لم يعن الوالي عما يبعده عن اللّه و هذا من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المطلوب تحقيقه من كل إنسان و في كل زمان و مكان.

ثم إن على الوالي أن يجمع حوله أهل الورع و الصدق و يزرع في نفوسهم عدم إطرائه و مدحه فإن ذلك يجعل في النفس زهوا و كبرا و قد يؤدي إلى انحراف في الضمير و السلوك و قد قال الشاعر:

شارب الخمر قد يظل سليما *** شارب المدح لن يظل سليما

(و لا يكونن المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة! و ألزم كلا منهم ما ألزم نفسه.

و اعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، و تخفيفه المئونات عليهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا. و إن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده) المعصية غير الخطأ، المعصية هي ارتكاب الفعل المحظور مع كامل الاختيار و المعرفة بينما الخطأ ارتكاب للمحظور و هو يجهل بمحظوريته و اللّه قد عفى عن الخطأ إذا لم يتهاون الإنسان في مقدماته التي أدت إلى الوقوع فيه بينما المعصية قد أعد اللّه لفاعلها نار جهنم، لأن المعصية انحراف عن الاستقامة و دخول في حرب مع اللّه العزيز الجبار، العاصي يتمرد على اللّه و يتحداه فيما نهى عنه أو ترك ما أوجبه عليه و هل يمكن أن يتساوى هذا الإنسان المتمرد العاصي مع من أطاع اللّه و عمل بأوامره و انتهى عن نواهيه، هل تتعادل كفتا الميزان أمام العقلاء فيساوى بين إنسان خارج عن القانون و إنسان عامل به، بين فرد يحترم الحق و يدافع عنه و بين فرد يحتقر الحق و يقاتله ؟! إن ميزان العقلاء يأبى وضع المجرم في مقابل المطيع، و يرفض أن يساوي بين الفردين في قليل أو كثير...

و ما السر في ذلك: إن الإمام و هو عقل العقلاء و ضمير الأحياء ينطق بالعلة و يفصح بالحكمة و يقول: إن في المساواة بين المجرم و المطيع جريمتين الأولى: إن هذه المساواة تزهد أهل الطاعة و الإحسان في طاعتهم و إحسانهم لأنهم إذا وجدوا أمرهم بعد طاعتهم و انقيادهم على نفس مستوى العاصين فلا يرغبون في الطاعة لأن المساواة

ص: 45

حاصلة على كل حال و النتيجة واحدة في كلتا الحالتين...

و أما الجريمة الثانية للمساواة هي أن أهل الإساءة يتجرءون على الإساءة و يستمرون عليها لأن من أمن العقاب أساء الأدب و هؤلاء لما اطمئنوا إلى عدم العقاب تمادوا في الطغيان و استمروا عليه.

إذا يجب أن يعامل كل واحد من المطيع و العاصي بما اختاره هو لنفسه فإنه كان عاقلا حرا مختارا عند إقدامه على ما يريد فيستحق ما ألزم نفسه به و اختاره لها و في التنزيل الكريم ورد قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ » (1) و في دعاء كميل و أنت جلّ ثناؤك قلت مبتدئا و تطوّلت بالأنعام متكرما، أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون...

ثم إن الإمام يقول للوالي إذا أردت أن يحسن ظنك برعيتك و ترتاح لمقامك معهم فاعمل لهم من المبرات و الخيرات و المشاريع العامة ما يجعلهم يرتاحون لك و يأنسون بوجودك و إذا كانت نفوسهم نحوك صافية من خلال أياديك الكريمة، لم تعد تسمع منهم نقدا بسوء و لا جرحا لكرامة و لا حديثا عليك إلا بخير و هذا بنفسه يجعل ظنك بهم حسنا و معيشتك معهم كريمة و هذا الظن الحسن منك برعيتك يخفف عنك أتعابا كبيرة أنت بغنى عنها لأنك إذا ساء ظنك بإنسان حاولت أن تتقصى أيامه و حياته و حركاته و سكناته و هذا فيه مشقات كبيرة...

(و لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة و اجتمعت بها الألفة، و صلحت عليها الرعية. و لا تحدثن سنّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها و الوزر عليك بما نقضت منها.

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك) ورد الحديث عن رسول اللّه: «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة» و هذه السنن الصالحة ليست تشريعا محرما لأنها تدخل تحت عمومات أو مطلقات أحبها الشارع و رغب في إقامتها مثلا فعل الخير يحبه الإسلام و يدفع الناس إلى ممارسته و يعد ذلك صدقة و فاعله خيّرا فلو أراد إنسان أن يبني مبرّة خيرية من أجل1.

ص: 46


1- سورة الجاثية، آية - 21.

إعانة الفقراء فإن هذه المبرة لم ينص عليها الشارع و لكنها سنّة حسنها لأهل الخير يسيرون عليها لأنها تدخل تحت استحباب فعل الخير العام فتكون هذه السنة الصالحة من الخيرات التي يكسب مبدعها أجرا مستمرا مدة إقامة الناس لها و لأمثالها لأن تأسيسها كان السبب في إنشاء أمثالها من الخيرات...

و أما السنة السيئة فهي التي يبتدعها المنحرفون مما يدخل تحت عموم محرّم على الأمة كما لو أقام إنسان حانة لشرب الخمر فإن هذه السنّة السيئة مما يؤزر عليها فاعلها و يبقى يلاحقه إثمها و إثم كل حانة للدعارة طيلة الزمن لأنه كان مفتاح هذا الشر و مبدع هذه الضلالة.

و الوالي الصالح هو الذي ينظر إلى السنن الصالحة التي تفيد المجتمع و تجمع الأمة و توحّد الصف فيعمل بها و إن كانت متقدمة عليه و ينظر إلى البدع المفرقة التي تخالف قواعد الشرع و الدين فيتبعد عنها بل يسعى في منعها و ردع من تسول له نفسه في ذلك، ثم إن على الوالي أن يلتقي بالعلماء، فإنهم الأمناء الذين يحافظون على الدين و يدافعون عن الشريعة و يقفون سدا منيعا أمام البدع و الخرافات إنهم الحصون التي تتكسر عليها كل الأفكار المنحرفة و الدعاوي المضللة التي تفسد المجتمع الإسلامي و تريد أن تحطم إنسانه و تدوس قرانه...

إن العلماء بما يحملون من فكر إسلامي يجب على الوالي أن يجتمع معهم و يأخذ رأي الدين منهم و لا يتكل على رأيه و نظره فإن ذلك يفسد عليه دينه و يضله عن السبيل المستقيم.

ثم إن على الوالي أن يجتمع بالحكماء الذين درسوا الحياة و عرفوا ما يصلح الرعية مما يفسدها، و ما يوحدها مما يفرقها، و ما يحقق لها السعادة مما يجر عليها الشقاء...

إن هؤلاء الحكماء - الذين يضعون الأشياء مواضعها - قد خبروا الحياة و نفذوا إلى بواطن الأمور و استطاعوا بما عندهم من خبرة أن يكونوا أعوانا له في صلاح البلاد و العباد و إقامة الحق و العدل...

(و اعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، و لا غنى ببعضها عن بعض:

فمنها جنود اللّه، و منها كتاب العامة و الخاصة، و منها قضاة العدل، و منها عمال الإنصاف و الرفق، و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس، و منها التجار و أهل الصناعات، و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة و المسكنة، و كل قد سمّى اللّه له سهمه. و وضع على حده فريضة في كتابه أو سنّة نبيه - صلّى اللّه عليه و آله - عهدا منه

ص: 47

عندنا محفوظا) المجتمع البشري طبقات مختلفة و لكل طبقة اختصاص و توجّه تستطيع من خلاله أن تمد الآخرين بما عندها من عطاء، هذا العطاء يسد حاجة المجتمع و يتكامل مع عطاء الآخرين فيمنع الانهيار و الفوضى و يرفع المشكلة الاقتصادية التي يسببها عجز طبقة معينة في مجالها التي تتحرك ضمنه... و هنا يعطي الإمام الفهرست لتلك الطبقات التي لا يستغني المجتمع عن عطائها و مشاركتها في بناء الحياة المدنية الكريمة...

إنها عناوين مجملة، جند اللّه... كتاب العامة و الخاصة... قضاة العدل...

أهل الجزية و الخراج... التجار، الصنّاع... و أخيرا الطبقة الضعيفة من ذوي الحاجات و المسكنة...

هذه العناوين العامة تحتاج إلى بيان و إيضاح فلذا دخل الإمام في تفصيلها و بيان دورها و أهميتها و لكن بشكل تدريجي...

(فالجنود، بإذن اللّه حصون الرعية، و زين الولاة، و عز الدين، و سبل الأمن، و ليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، و يعتمدون عليه فيما يصلحهم، و يكون من وراء حاجتهم. ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة و العمال و الكتاب، لما يحكمون من المعاقد، و يجمعون من المنافع، و يؤتمنون عليه من خواص الأمور و عوامها) هذا البيان أوسع من البيان السابق و سيأتي التفصيل فيما بعد.

جنود اللّه، حصون الرعية بمنعون التعدي فيأمن كل فرد لحمايتهم و هم عز الدين حيث يقمعون المنحرف الأثيم و الخارج على القانون، إن الانحرافات تموت بوجودهم لأنهم بقوتهم يصدون المتطاول على الشريعة و المنتهك لهذا الدين و لا تسعد الرعية و لا تقوم إلا بوجودهم و كيف تسعد الرعية إذا كانت مهددة في مصالحها و منافعها و هل يعطي الأمان و الدعة إلا القوة التي يشكلها الجند و حزمه المتين.

ثم إن هؤلاء الجنود لا بد لهم من رزق يعطونه كي يسدوا حاجتهم و يصلحوا حالهم و يستطيعوا أن يقفوا في وجه الأعداء و إلا إذا كان الجندي غير مكتف بمعاشه الذي يخرج له فإنه يضطر إلى أن يصرف بعض أوقاته في غير الخدمة التي تطوع فيها... هذا حال الجند...

أما حال القضاة و العمال و الكتاب فإنهم الأمناء الذين يفصلون الخصومة و يحكمون بالعدل كما في القضاة أو الذين يضبطون الأمور فيسجلون المنافع و المعاملات من الكتاب...

ص: 48

(و لا قوام لهم جميعا إلا بالتجار و ذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم و يقيمونه من أسواقهم. و يكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة و المسكنة الذين يحق رفدهم و معونتهم و في اللّه لكل سعة، و لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، و ليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه من ذلك إلا بالاهتمام و الاستعانة باللّه، و توطين نفسه على لزوم الحق، و الصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل) إن التجار و الصناع هم العمد الذين يقوم عليهم نشاط البلاد و حركتها الاقتصادية فهم الذين يهيئون المواد الأولية باستيرادها و بذلها في الأسواق و يوفرون السلع للناس كل حسب حاجته، فيرون ما يحتاجه السوق و ما يهم الناس فيبذلون قصارى جهدهم في سد العوز و منع النقص، و نحن نجد أمامنا عند ما لا تتوفر الحاجات في الأسواق كيف يكثر الشغب و المظاهرات و تتحرك جموع الكفر و الإلحاد و تتخذ من هذا النقص ذريعة للإفساد و خراب البلاد.

و أما الطبقة الأخيرة و هي طبقة الفقراء من الذين لم تساعدهم الظروف و لم يسعفهم الزمن، هذه الطبقة قد شغلت فكر علي طويلا و أقلقت عليه مضجعه و منعته من لذة العيش، هذه الطبقة المعدومة الفقيرة لم يهملها الإسلام و يتركها و شأنها بل وفر حسب نظريته الرائعة أحسن السبل من أجل إنعاشها و توفير الحد الأدنى لها من المسكن و المأكل و الملبس و جعل ذلك فريضة إسلامية تتحملها الدولة الإسلامية عند وجودها و عامة المسلمين عند عدمها و هذا النوع من الاهتمام بالفقراء و المساكين لم يتحقق في أنظمة الدول المتقدمة التي تدعي أنها اجتازت قمة الحياة التقدمية...

(فول من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممن يبطىء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

ثم الصق بذوي المروءات و الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثم أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة، فإنهم جماع من الكرم، و شعب من العرف)

عدد الإمام طبقات المجتمع الإسلامي بشكل موجز فكانت سبع طبقات
اشارة

و هي الجنود، القضاة، العمال، أهل الخراج، الكتاب، التجار، و الفقراء. و في هذا الفصل يدخل في بيان التفصيلات لكل واحدة برأسها.

الطبقة الأولى: طبقة الجند.
اشارة

الجنود هم حماة الوطن و سياجه المنيع، عز الدين و زينة الولاة لولاهم لانتشر

ص: 49

الطغاة و كثر الطامعون، الجنود أبناء الشعب و شبابه على أيديهم تسترد الكرامات و بصولتهم تتحقق البطولات، إذا صلح الجيش فكان عونا على الخير و تحقيق الأمن انتشر العدل و ساد القانون و إذا فسد كان الدمار و الخراب و الظلم و العدوان.

و إن الإمام يضع المواصفات التي يجب أن تجتمع بالجندي المسلم ليكون جنديا فاعلا يحتل مرتبته بجدارة، هذه المواصفات التي يجب أن تجتمع بالجندي هي أرقى ما يمكن أن يتوصل إليها العقلاء و الحكماء، و هذه الأوصاف تحقق الجندي العقائدي الذي يحمل الإسلام هدفا له في الحياة إنها لا تعتبر الطول و لا العرض و لا اللون و لا الطبقة و لا تأخذ المواصفات الجسدية و غيرها من الأمور التي تعتبرها بعض الدول الآن.

الصفة الأولى التي يجب أن تتوفر في الجندي المسلم سلامة العقيدة

التي يترجمها الإخلاص للّه و لرسوله و للإمام...

فمن لم يكن مؤمنا باللّه مطيعا لرسول اللّه عاملا بأمر الإمام ليس أهلا أن يكون جنديا في دولة الحق و الإيمان لأنه يفسد و يضلل و يشكك و يهدم، من لم يكن مؤمنا باللّه لا يعمل من أجل اللّه... و من لم يكن مؤمنا مخلصا لرسول اللّه لا يعمل ضمن خط الرسالة و منهاجها و لا يستطيع أن يقاتل من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية المطلوبة...

و من لم يكن مخلصا للإمام فإنه يصبح خارجا عليه في أول فرصة تسنح له.

الصفة الثانية أن يكون الجندي حليما

بحيث يستطيع أن يسيطر على أعصابه فلا يأخذ به الغضب مأخذه و لا يخرجه عن حدوده الشرعية المرسومة له و إذا أسيء إليه ثم اعتذر منه قبل العذر، يرأف بالضعفاء و يأبى أن يسلط الأقوياء على أخذ حق الفقراء فهو إذا غضب لم يدخل في باطل و إذا لان لم يكن عن ضعف بل عن حق و متابعة للشريعة...

الصفة الثالثة أن يكون جيّد السلوك، حسن السيرة

و هذا غالبا ما يتحقق بأهل الأحساب و البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة فإن البيت الصالح كثيرا ما يكون الصلاح في أبنائه و صاحب السوابق الحسنة يمكن أن يستأنس بحسن سوابقه على حسن حاضره.

الصفة الرابعة أن يكون الجندي من أهل النجدة و الشجاعة

و هذه الصفة من أخصّ خصائص الجندية و مميزاتها لأن الجنود لرفع الظلم و دفع الاعتداء و تحقيق العدالة و بسط المساواة و هذا يتطلب الحزم و القوة و هما قرينتا الشجاعة و النجدة. فإذا لم يكن الجندي شجاعا سقطت هيبته بين الناس و خصوصا أولئك الأشرار الذين لم يرتبطوا بالدين ضميريا و لم يؤمنوا بالشريعة قلبيا، فإن هؤلاء إن لم يخافوا من الجند و شجاعتهم و قوتهم

ص: 50

و سطوتهم أفسدوا حيثما يستطيعون و سلبوا أمن الناس عند ما يقدرون.

الصفة الخامسة أن يكون الجندي من أهل السخاء و السماحة.

و هذه الصفة يطلبها الإسلام من جميع أتباعه و لكنها تتأكد في الجندي لأنه يتمتع بصلاحية أكثر من غيره من عامة الناس فإن الصفح و السماح يتأكدان في الجندي إذا كان لهما طريق من الشرع لأن المخالفة كثيرا ما يضبطها بنفسه أو تقع تحت يده باعتباره المولج بحفظ الأمن و الاستقرار.

ثم وجهه الإمام إلى أن يلتصق بأهل البيوتات و يتصل بهم و يغدق عليهم من كرمه و معروفه و كذلك أهل الأحساب و السوابق الحسنة فإن كرم الأحساب يدفع بكثير من الناس إلى مراعاة أحسابهم و المحافظة عليها فقد قيل: «عليكم بذوي الأحساب فإن هم لم يتكرموا استحيوا» و نحن قد أدركنا هذا و لمسناه بأيدينا فإن بعض البيوتات المحافظة تتجنب كثيرا من الشذوذات لأجل أحسابها لا لأجل دينها...

و أما أهل السوابق الحسنة فإن سوابقهم ترشد إلى صلاحهم و تجعل عند الوالي ظنا حسنا بأنهم على طريقتهم و صلاحهم سيستمرون...

(ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من وليدهما، و لا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، و لا تحقرن لطفا تعاهدتهم به و إن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، و حسن الظن بك. و لا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه.

و ليكن آثر رءوس جندك عندك من و اساهم في معونته، و أفضل عليهم من جدته، بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك) بعد ذكر المواصفات التي يجب أن تتوفر في الجندي جاء دور التوصيات به، الأوامر هنا صدرت إلى الولاة كي يهتموا بالجندي و يعطفوا عليه و يبحثوا عما يوفر له توحيد الهدف في حرب العدو فلا تأخذ المسالك المتعددة و الهموم المختلفة بعض توجهاته و اهتماماته بل يجب أن يتوجه إلى العدو و هو مطمئن إلى القيادة مرتاح إلى سعادة أهله من خلفه...

إنها جملة توصيات و أوامر تلقي الأضواء على مدى اهتمام الإسلام بالجندي المسلم، إنها توصيات ودّ و رحمة و تعاطف و إخاء، توصية القيادة الرشيدة التي يجب أن يسمع قولها فيطاع و تطلب أمرا فتجاب...

ص: 51

فانظر رحمك اللّه إلى جملة هذه الأوامر و الوصايا حيث يقول:

1 - ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، هذا أول أمر يصدره الإمام إلى الولاة، إنه لا يكتفي منك أن تتعامل معهم معاملة شركاء في الجهاد، أخوة في الكفاح، بل يحملك الإمام إلى أن تكون بمنزلة الأب الذي يهمه توفير السعادة لأبنائه و الرفاهية لهم و لو على حساب شقائه و عذابه، نظرة الأبوة و عطفها يجب أن تتجسد في الولاة على الجنود...

2 - أن لا يحتقر لطفا يتعهدهم به فإن كل لطف يزيدهم حبا و طاعة، فإن هذا الأمر الصغير على صغره يزرع في النفس أثرا طيبا لا يمكن أن يزرعه الأمر الكبير، فإن لكل موقعه و مكانه لا يسد مسده إلا هو و هذا ما أشار إليه الإمام حيث قال: و لا تحقرن لطفا تعاهدتهم به و إن قلّ فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك و حسن الظن بك، و لا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه...

3 - أن يكون أحب رؤساء الجنود إلى الوالي و أقربهم منه من كان أشدهم معونة للجنود و أكرمهم عليهم إذا كان بيده شيء من الغنى، فإن إظهار الحب و الشفقة يدرّ التلاحم و يعطي الوفاق و الانسجام في جهاد الأعداء.

(و إن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودة الرعية. و إنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور و قلة استثقال دولهم، و ترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم و واصل في حسن الثناء عليهم و تعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، و تحرض الناكل، إن شاء اللّه.

ثم اعرف لكل امرىء منهم ما أبلى و لا تضيفن بلاء امرىء إلى غيره، و لا تقصرن به دون غاية بلائه و لا يدعونك شرف امرىء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرىء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك من الخطوب، و يشتبه عليك من الأمور، فقد قال اللّه تعالى لقوم أحب إرشادهم: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ » فالرد إلى اللّه: الأخذ بمحكم كتابه، و الرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة) إقامة العدل و بسط الحق من أهم واجبات الولاة، و لا خير في دولة لا عدل فيها.

ص: 52

إنها لا تدوم و لن تدوم بل الظلم يقوض أركانها و يهدم أساسها و يدعها عبرة للأجيال القادمة، و إن الحاكم العادل هو الذي يبسط العدل بين رعيته و يكتسب مودتهم و عطفهم فإن الرعية لا يصفو ودّها إلا إذا كانت صدورها سالمة و لا تكون صدورها سالمة إلا إذا رأت الشفقة و العطف و الاهتمام من الراعي.

ثم إن هذه الرعية لا تكون صادقة في نصيحتها لولاتها إلا إذا كانت تندفع في المحافظة على ولاتها و تحرص على بقائهم و لا ترى في نفسها زوال دولتهم بل تتمنى باستمرار أن تدوم هذه الدولة التي تحقق لها الكرامة و العزة...

إن الرعية لا تخلص في أعمالها إلا إذا كانت الدولة دولتها تحافظ على عقيدتها و تنشرها و تحمل أهداف شعبها ثم كانت تنظر إلى الرعية و تهتم بشأنها و تدافع عن مصالحها و تنظر فيما يصلحها فتهيئ جميع السبل التي تحقق سعادة الشعب و سيادته.

ثم إن الإمام يكمل نصيحته للولاة و يلقنهم كيفية الاهتمام بالجنود و قد تقدمت عدة أوامر و هذه هي البقية...

4 - أن يفسح في آمال الجند فإن استماع آمالهم و شدّ عضدهم بها يفتح أمامهم باب الطموح و عدم اليأس و هذا مطلب مهم...

5 - مداومة حسن الثناء و المدح و الإشادة بالمواقف البطولية التي حققها الجنود النوابغ فإن هذه الإشادة في الثناء تهز الشجاع و تحرك الجبان و هذا شيء مدرك بالوجدان.

6 - أن يقف الوالي على من أبلى البلاء الحسن فيضيف إليه أعماله و انتصاراته و يحملها عليه فإنها وليدة جهاده و نضاله فإن ذلك يحفزه للاستزادة و هذا عكس ما لو سلبت عن صاحبها و أعطيت لغيره فإن ذلك يفسد النفوس و يحركها لمخالفة الحق.

7 - أن ينظر الوالي إلى العمل مجردا عن العامل فإن كان العمل كبيرا جليلا قدّر عليه فاعله و إن لم يكن من أصحاب الأحساب و الأنساب و الطبقات العليا و إن كان العمل صغيرا فلا يكبره الوالي - إذا كان صاحبه كبيرا - بل يضعه ضمن مؤهلاته و مستواه...

ثم إن الإمام في آخر حديثه عن الجنود يرجع إلى الوالي ليعطيه الميزان السليم إن اشتدت الأمور و تفاقمت الأحداث و حدث ما اشتبه على الوالي حكمه فإن الإمام يقول له يجب أن يرجع إلى اللّه و رسوله... إلى اللّه في كتابه فيتلوه و يرى ما هو حكمه، و إن لم يظهر له في الكتاب العزيز البيان الشافي لغموض في الاستنباط أو عجز في الإدراك

ص: 53

فليرجع إلى السنة المطهرة فإنها الكفيلة بتفصيل المجملات و المؤسّسة لكثير من التشريعات...

هذه هي شروط الجندي المسلم كما يراها الإسلام و هذه هي توصيات الإمام الشريفة إلى الولاة في عملية الرفق و العطف و الحنان و ما يصلح الجنود، فهلاّ يحق لنا أن نفخر و نعتّز بسمّوها... إنها من معطيات الإسلام الرائد و المبدع و المهيمن...

(ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادى في الزلة، و لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، و لا تشرف نفسه على طمع و لا يكتفي بأدنى فهم دوه أقصاه، و أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشف الأمور، و أصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل) هذه هي الطبقة الثانية من طبقات المجتمع التي ذكرها الإمام و هي طبقة القضاة و قد شدد الإسلام عليها و بين من يحقّ له أن يحكم و من لا يحق له ذلك فإنها مرتبة عظيمة لا ينالها إلا الأنبياء و الأوصياء و الخواص من الأمة التي تجتمع فيهم الشروط و هم قلة قليلة في كل زمان...

القضاء عملية فصل الخصومات و فك للمنازعات و حكم في الدماء و الفروج و الأموال و هذه الأمور تشكل منعطفا خطيرا قد تجرف القاضي إلى نار جهنم إن لم يكن على ثقة من حكم اللّه و توجيهه، و لذا قال أمير المؤمنين لشريح القاضي: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلا نبي أو وصيّ نبي أو شقي.

و هذا ما حذر منه الإمام الصادق حيث قال: القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة، رجل قضى بجور و هو يعلم فهو من أهل النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار و رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة.

فالقضاء يحتل المرتبة السامية في وظائف الدولة تخضع لحكمه سائر أفراد الأمة بما فيهم الحاكم الأعلى لأن القاضي لا يتناول القضية باعتبارها رأيا شخصيا له بل باعتباره أعلم بأوامر اللّه و أمهر في تطبيقها على مصاديقها و أشد حيطة في نقل مرادات اللّه...

و

الإمام يشترط في القاضي مواصفات
اشارة

يجب أن تجتمع فيه ليحق له أن يتولى هذا المنصب الرفيع:

ص: 54

فأول هذه الصفات أن يكون أفضل الرعية عند الحاكم و هذه الأفضلية يمكن إدراكها بعدة أمور.
الأول: أن يكون القاضي ممن لا تضيق به الأمور

يعني أنه يستطيع أن يجد لكل مشكلة حلا فلا تلتبس عليه الأمور و لا تنسد في وجهه المخارج التشريعية لهذه الخصومة و هذا يتوقف على أن يكون مجتهدا مطلقا ملما بجميع أبواب الشريعة و متفرقاتها، يستطيع أن يقضي في كل مسألة تعترض سبيله و تحتاج إلى حل فلا يقف مكتوف الأيدي أمام ما يعرض عليه من المشاكل و الأحداث...

الثاني: أن يكون القاضي ممن لا تمحكه الخصوم

بحيث لا تجعله منازعة الخصوم لجوجا يريد أن يقضي في الأمر مسرعا فإن اللجاجة تفسد الحكم لأنها قد تحمل في طياتها عدم استيعاب جوانب القضية بأجمعها...

الثالث: أن لا يتمادى في الذلة

بحيث لو أخطأ في حكمه و اتضحت لديه علامات أخطائه لا يبقى مستمرا في الانحراف و المعصية بل يرجع إلى الحق و يفيء إلى العدل.

الرابع: لا تشرف نفسه للطمع

فإن من طمع بما في أيدي الناس ذل لهم و جار في حكمه لصالح من طمع عنده.

الخامس: أن لا يكتفي بأدنى فهم للقضية دون أقصاه

بل يجب أن يستوعب القضية من خيوطها الأولى و يقف على جميع جوانب المسألة و ما له علاقة بها فإن هذا الاستيعاب للأمور يكشف عن أمور مهمة لها علاقتها في المشكلة و حلها، و في هذا الاستيعاب و التقصي لهذه الأمور يحصل غالبا على الحل الحاسم و العادل في القضية...

السادس: أن يكون القاضي أوقفهم في الشبهات

بحيث لو لم تتضح معالم المسألة و بقي الأمر مشتبها لا يقدم على البتّ و الفصل فيها لأن ذلك حرام لا يجوز فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات...

السابع: أن لا يترك القاضي الأخذ بالحجج

إذا كانت شرعية يمضيها الدين فإن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال: إنما أقضي بينكم بالإيمان و البينات و هذا هو الأقرب في الوصول إلى الحقيقة.

الثامن: أن لا يتبرم القاضي و يضجر بمراجعة الخصم له،

فإن طبيعة المتخاصمين أن يثبت كل منهما حقه بما يقدر عليه و قد يستدعي هذا منهما مراجعته أكثر من مرة...

ص: 55

التاسع: أن يكون القاضي ممن يتمتع بملكة الصبر

على تقصّي الأمور المتعلقة بالمشكلة فربّ قضية تحتاج إلى خيط واحد لكي تحل فلا يجوز إغفاله لنفاذ الصبر و عدم التروي...

العاشر: أن يحكم القاضي و يقضي في الخصومة بمجرد أن يستكمل التحقيق

و يتضح الحق و لا يجوز التأجيل في الحكم إذا اتضحت معالمه و بانت وجوهه لأن ذلك يفسد على صاحب الحق حقه و يضيع عليه ثمراته...

الحادي عشر: أن لا يتأثر القاضي بالمدح و لا الإغراء.

ثم إن الإمام يقول إن من اجتمعت فيه هذه الشروط قليل جدا فإنها شروط عزيزة التحقق إلا في النوادر من الناس... و إن أغلب هذه الشروط يمكن أن تندكّ تحت شرطين و هما الاجتهاد و العدالة... و لكن الإمام ذكر بعض هذه الجزئيات من الشروط لأهميتها و دورها في تنزيه القاضي و نزاهة حكمه...

و إن باب القضاء من الأبواب المهمة في الفقه الإسلامي بحثه فقهاؤنا رضوان اللّه عليهم و أتوا على كل مسألة فبينوا جميع جوانبها و مختلف شئونها و أوجبوا على الأمة الإسلامية بسائر أفرادها أن تقبل بحكم القاضي المسلم الذي تمت فيه جميع الشرائط المطلوبة و حكموا بأن حكمه ينفذ و لا يجوز ردّه من أحد، كما حرموا على المسلمين أن يتحاكموا إلى القضاء المدني بل عدوا ذلك تحاكما إلى الطاغوت و قد أمرهم اللّه أن يكفروا به...

و إن فتاوى فقهائنا مدوّنة في رسائلهم العملية تقول: لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور و يقصدون بذلك كل قاض غير مسلم و لا مجتهد و لا عادل...

(ثم أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علته، و تقل معه حاجته إلى الناس. و اعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، و تطلب به الدنيا) كان الحديث فيما تقدم عن الشروط التي يجب أن تتوفر في القاضي نفسه و الآن يوجه الإمام أوامره إلى الوالي و يعطيه الإرشادات في كيفية التعامل مع هذا القاضي كي يبقى على سيرته الحسنة و سلوكه الجيد و أمانته الصادقة...

فأول أوامره عليه السلام أن يتتبع الوالي موارد القضاء فلا يترك القاضي يتحرك كيف يشاء بل يجب أن يلتفت أن هناك عينا للوالي لا تنام عنه ترصد قضاءه و تتبع

ص: 56

أحكامه، و عند ما يحسب هذا الحساب يضطر أن يدقق في أحكامه و يقف عند كل حادثة وقفة إسلامية سليمة و هذا ليس غريبا عن الإمام فإنه لما تولى الخلافة و كان شريح على القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه.

الأمر الثاني: أن يوسّع عليه في العطاء

بحيث يسد حاجته و يرفع عوزه فإن الاكتفاء يرفع كثيرا من الميل نحو أحد الفرقاء المتخاصمين و هذا بعكس ما لو كانت له حاجة ماسة فقد تغرّ به حاجته و تسوّل له نفسه أن يساوم على الحق و لو في أدنى درجاته فيحيف في الحكم و يجور في القضاء.

الأمر الثالث: أن يقربه منه درجة تمنع غيره من الناس

و لو كان من خواص الوالي أن يطمع في الطعن فيه أو النيل منه، فإن القاضي عند ما يرتاح إلى وضع الوالي منه و أن لا أحد يستطيع أن يغري قلبه عليه يحكم عندها بالحق و يقضي بالعدل...

و بعد هذا يتوجه الإمام إلى الوالي ليحثّه على الدقّة في اختيار القاضي ثم يقول: إن هذا الدين كان أسيرا في أيدي الأشرار من بني أمية لم يقض فيه بحكمه و لم يتبع فيه بإرادته بل عمل في زمانهم بالأهواء و اتبعت الشهوات و طلب به الدنيا فيجب أن يعاد إليه حكمه و قضاؤه...

إن بني أمية قد تسلطوا في عهد عثمان على رقاب المسلمين باسم الإسلام و لم يرعوا لهذا الدين حرمة و لم يطبقوا من تعاليمه إلا ما يخدم مصلحتهم و يعود عليهم بالنفع، إنهم لم يحكموا به بل حكموا عليه فيجب أن يعاد له دوره في الحكم و القضاء... بل في جميع شئون الحياة...

(ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولهم محاباة و أثرة، فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخ منهم أهل التجربة و الحياء، من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، و أصح أعراضا، و أقل في المطامع إشراقا، و أبلغ في عواقب الأمور نظرا) الطبقة الثالثة طبقة العمال: في ميزان علي تسقط كل الاعتبارات الزائفة من القرابة و الحب و الحسب و النسب و الجاه و السلطان و المال و غيرها لأنها كلها لا تستطيع أن تثبت أمام اعتبارات الإسلام السليمة فإن الميزان الوحيد في نظر الإمام هي الكفاءة فحسب، فمن كان أكفأ في تحمل المسئولية و أعرق في إدارة شئون البلاد فهو المؤهل إسلاميا للدخول في سلك الدولة العادلة...

و من هذا المنطلق

يحدد الإمام كيف يكون تعيين الولاة.
فأولها: أن يكون من أهل الخبرة في مجال عمله

فإذا أردنا أن نوظف فردا في إدارة

ص: 57

الكهرباء يجب أن يكون مهندسا قديرا خبيرا و لا يجوز أن يتولى هذا المنصب من لا خبرة له بها... و هكذا كل فرد يجب أن يكون في مجاله الخاص و لا يجوز أن تتدخل المحبة و الميل لإنسان في تعيينه في غير مجاله الذي يستطيع أن يعمله ضمنه.

و ثانيها: أن يكون من أهل الحياء و أصحاب البيوتات الصالحة

و القدم المتقدمة في الإسلام فإن من كان من أهل الحياء يخجل أن يقصّر في أعماله و كذلك أصحاب البيوتات الصالحة يمنعها صلاحها عن تعمّد التقصير فإن الصلاح قرين الإخلاص و الاتقان و كذلك الأمر بالنسبة لمن كان أعرق إسلاما و أقدم إيمانا فإنه يكون على علم بدقائق الأحكام و أثبت عقيدة من الداخل حديثا و قد علل الإمام كل ذلك بقوله: فإنهم أكرم أخلاقا و أصح أعراضا و أقل في المطامع أشرافا و أبلغ في عواقب الأمور نظرا...

هذه الشروط التي يحددها الإمام في العامل من أعظم الشروط و أحسنها و لو جئنا لواقعنا المعاش لوجدنا المحسوبيات و الزعامات و الوجاهات و أصحاب المال، لوجدنا كل هؤلاء قد استلموا دفة العمل و الوظائف و أقصي عنها أهل الخير و الصلاح حتى غدا الفاسق و الفاجر و شارب الخمر و العاهر هو المسلط على المناصب الرفيعة يتحكم في العمال يعين من شاء و يقيل من يشاء و تلك مصيبة منتشرة بشكل مرعب و فظيع... نسأل اللّه أن يمن علينا بدولة العدل الإسلامية لترفع هذا الحيف و تدكّ هذا الباطل و تعيد الحق لأهله...

(ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، و حجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية، و تحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب من عمله. ثم نصبته بمقام المذلة، و وسمته بالخيانة، و قلدته عار التهمة) هكذا يحدد الإمام رواتب العمال، يجب أن تكون كافية لسد حاجاتهم فإن المصاريف إذا كانت أكثر من الرواتب يضطر العامل إلى أن يسرق و يغش و يأكل أموال الدولة و الناس حينما تسنح له الفرصة لسد العوز الذي يقع فيه.

ففي إسباغ الأرزاق على العمال و جعلها أكثر من حاجاتهم فوائد كثيرة أهمها كما يذكرها الإمام ثلاثة:

الأول: إن في سعة الرزق عليهم إصلاح لأنفسهم فإنهم يصرفون ذلك في

ص: 58

حوائجهم و ما ينوبهم من الأمور و المصائب و ما يحتاجون إليه في إقامة حياتهم و استدامتها.

الثاني: إن هذا الرزق يكون مانعا لهم عن تناول ما تحت أيديهم من الأمول و الأرزاق...

الثالث: إن هذا الرزق يكون حجة عليهم فيما لو خالفوا الأمر و خانوا أمانتهم فإنهم يستحقون العقاب المفروض لمخالفتهم...

ثم إن على الوالي أن يتفقد أعمال العمال و تحركاتهم فإنهم إذا عرفوا أن هناك مراقبا لهم و متفقدا لأعمالهم يجيدون العمل و يتقنوه، و على الوالي أيضا أن يكون لديه عيون من أهل الصدق و الوفاء يراقبون العمال و يقفون على مدى اجتهادهم في أعمالهم و إجادتهم لها و هذا بنفسه يدفع العمال إلى أن يؤدوا الأمانة بشكلها الصحيح السليم...

و إذا خان العامل و شهدت بذلك الثقاة من نقلة الأخبار الذين ولاّهم الوالي تقصي أمور عماله فإن عليه أن يقيم العقوبة المفروضة لمثل هذه المخالفة، يقيمها في بدنه إن كانت حدا أو تعزيرا و في هذا إهانة تصنفه في خانة الخائنين. و يكفي بها سمة ذل و هو ان يترفع عنها أصحاب النفوس الكبيرة و الضمائر الحية من البيوتات الصالحة و الأخلاق الفاضلة...

(و تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج و أهله.

و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد، و لم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم، بما ترجو أن يصلح به أمرهم، و لا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم) هذه هي الطبقة الرابعة و هم أهل الخراج الذين يقومون بزراعة الأرض و الاعتناء بها و جني المحاصيل التي تقوم عليها اقتصاديات البلد... و الإمام هنا يجسد روح العطف و الحنان على هذه الطبقة و يأمر الوالي أن يهتم بها و يصلح من شأنها و لا يحملها من الأمر ما لا تطيق فلا يرهقها و لا يثقل عليها بل إن الاعتناء بأهل الخراج و صلاحهم صلاح لعامة الناس فإنهم يموّنون الأمة و يغدقون على الشعب بأهم احتياجاته فإذا كانوا بخير استطاعوا أن يقدموا أحسن انتاج و أفضله...

و يجب أن يهتم الوالي بالأرض و إصلاحها أكثر مما يهتم بما يجلبه من الخراج فإن

ص: 59

الاهتمام بالخراج و تحصيله دون الاهتمام بعمارة الأرض، تخرّب البلاد و تهلك العباد و هذا بدوره يشكل ثورة عمالية لا تمهل الوالي إلا قليلا حتى تلحقه بالظالمين...

إن عمارة الأرض و العناية بها و تسهيل الأمر لأهلها و رفع الإجحاف عنهم كل ذلك يخلق طمأنينة عند أهل الخراج بأن الدولة تهتم بهم و تعتني بشئونهم فيحاولون أن يستردوا قواهم و يجددوا نشاطهم و يسعوا في سبيل ازدياد الانتاج و ازدهاره...

و انظر رحمك اللّه إلى علي و مدى اهتمامه بهم حيث يوصي الوالي أن ينظر في أمور هذه الطبقة حيث يقول له: فإن شكوا ثقلا (في الضريبة) أو علّة (من مطر) أو انقطاع شرب (من نهر و غيره) أو بالة (من مطر) أو إحالة أرض اغتمرها غرق (بحيث فسدت من الطوفان) أو أجحف بها عطش (بحيث أتلفها) خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم... يعني إن حصل بعض الآفات فخفف عنهم ما استطعت، فإن في التخفيف عنهم إعانة لهم و إصلاحا لشئونهم...

(فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، و تزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، و تبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم، بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم و الثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم و رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، و سوء ظنهم بالبقاء، و قلة انتفاعهم بالعبر) إن آفات الزمن إذا حلّت بأهل الخراج فلم يكن موسمهم مزدهرا لعلة ما، فعلى الوالي أن يخفف عنهم مما عليهم من الضرائب و الخراج و لا يثقلن ذلك عليه فإن المنافع الفائتة الآن من جراء هذا التخفيف سيعوضه الازدهار المرتقب في المستقبل على الدولة سيشعر هذا الإنسان أن الدولة تهتم بأموره و تساعده في حل مشاكله و أنها تعيش معه في ضرائه كما تعيش معه في سرّائه فيقوم بعملية المدح و الثناء و ينشر إعلاميا عدل الدولة و اعتنائها به و هذا له دور كبير في عملية الراحة النفسية و الاطمئنان القلبي و ستبقى هذه اليد البيضاء محفوظة للدولة إذا احتاجت في يوم ما إلى إعانتها مما في أيديهم فإنهم يقدمون على عملية العطاء برضا و طيبة نفس لأن البلاد عامرة و النفوس سليمة باذلة... فإن الأرض إذا كانت عامرة يستطيع أهلها أن يقدموا المساعدات الممكنة التي تحتملها و أما إذا كانت خربة فإنهم يعجزون عن سدّ الحد الأدنى المطلوب منهم، و هذا الخراب لا بد و أن يأتي من جشع الولاة و طمعهم في تحصيل الخراج و لو كان على حساب المحتاجين من أهل الأرض، لأن هؤلاء الولاة يعرفون أن لا بقاء لهم و لا استمرارية لمنصبهم فلذا يحاولون أن يجمعوا

ص: 60

أكبر كمية ممكنة مما تطالها أيديهم حتى إذا انصرفوا، انصرفوا و معهم و فر كثير، و كأنهم لم ينظروا إلى من تقدمهم من الولاة و لم يعتبروا بما حلّ فيهم...

(ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، و اخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة، فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، و إصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك و يعطي منك، و لا يضعف عقدا اعتقده لك، و لا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك. و لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل) الطبقة الخامسة هي طبقة الكتاب و قد كان لهم دور بارز و مهمة كبرى لدى الملوك و الأمراء و قد ذكر كثير من المتقدمين مواصفات متعددة للكاتب. و الإمام هنا يشير إلى أن الكاتب يجب أن يكون من خيرة الناس و بالأخص ذلك الكاتب الذي يطلع على المكائد الحربية و الأسرار الإسلامية فإن مثل هذا الإنسان يجب أن تجتمع فيه مكارم الأخلاق و وجوهها الصالحة بأن يكون ممن لا تطغيه الكرامة التي حبوته بها فإن طغيانه يسبب جرأته عليك فيقوم لك أمام الناس بالنقد و التشهير و هذا يسبب سقوط هيبتك من قلوب الناس و كذلك يجب أن لا يكون من الذين تأخذهم الغفلة فإن ذلك يؤدي إلى عدم وقوفك على ما عند عمالك من الحسنات و الأعمال و ما لديهم من الأقوال و الاقتراحات كما أن أو امرك و وصاياك لا تصل إليهم بشكل مأمون و صادق فيشكل هذا النوع من الغفلة ضررا كبيرا على مسيرة الدولة التي تتولى شئونها و تقوم بإدارتها...

كما أن هذا الكاتب يجب أن يكون حاذقا لبقا بحيث لو عقد لك عقدا لكان مستحكما قويا لا يحل كما أنه لو عقد عليك عقد يستطيع أن يحله و يخرج منه بما لديه من قدرة و تسلط على حل العقود...

و يجب أن يكون الكاتب عالما بقدر نفسه فيضعها موضعها و لا يجوز أن يكون الجاهل بنفسه أهلا لهذه المرتبة فإنه إذا كان جاهلا بنفسه فهو بقدر غيره أجهل...

(ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك و حسن الظن منك، فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شيء. و لكن اختبرهم بما و لوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا، و أعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن وليت أمره. و اجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم، لا يقهره كبيرها، و لا يتشتت عليه كثيرها، و مهما

ص: 61

كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته) اختيار الرجال الذين تناط بهم المسئوليات و يتولون أزمّة الأمور يجب أن يكون عن دراسة لهم و لحياتهم الماضية، كيف كان سلوكهم ؟ و ما هي تحركاتهم ؟ و في ركاب من كانت مسيرتهم ؟ و لا يكتفي بحسن الظن بهم و الاطمئنان إلى ما هم فيه، فرب مطيع لا عن حب بالطاعة بل لعجز في البضاعة، و رب جمر تحت الرماد لو حركته اتقد فمن هنا يجب أن يكون اختيارهم لا عن حسن الظن بهم و ما هم فيه من التظاهر الشكلي بالطاعة فربما كان ذلك تصنعا منهم من أجل الوصول إلى أهدافهم الخسيسة و ليس وراء ذلك أمانة و لا نصح، فيجب أن يكون الاختيار لهم بما تولوه قبلك من عمل الصالحين فإنك تستطيع أن تنتخب من كان معروفا عند الناس بالثقة و الأمانة فإن ذلك دليل على أمانته و وثاقته.

ثم إنه عليه السلام يقول إنه يجب أن يجعل لكل فرع من فروع كتاباته كاتبا مستقلا فإنه لا ينوء بحمل الكثير و لا يعجز عن الكبير ثم يقول له إذا وقفت على عيب في كتابك فلا تتغافل عنه لأن ذلك العيب يلحقك أنت باعتبارك المسئول عن الجميع...

(ثم استوص بالتجار و ذوي الصناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله و المترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، و أسباب المرافق و جلابها من المباعد و المطارح، في برك و بحرك و سهلك و جبلك و حيث لا يلتئم الناس لمواضعها و لا يجترءون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، و صلح لا تخش غائلته) الطبقة السادسة هي طبقة التجار و الصناع و قد أمر عليه السلام الوالي بأوامر في غاية الأهمية، أمره أن يلتفت بنفسه إليهم كما أمره أن يوصي غيره من أتباعه بهم فيسهلوا معاملاتهم و يهتموا بشئونهم و ما يوفر لهم المكسب و المربح، أوصاه بجميع التجار المقيم منهم و المتجول و غيره من أصناف التجار فإن هذه الطبقة هي التي تهيّ ء البضاعة فتسافر إلى البلاد النائية في سبيل أن توفر الضروريات و تؤمن الأسواق و تعمّرها بما تجلبه من ملبوسات و مآكل و غذاء، و لو أراد كل إنسان من المجتمع أن يوفر ذلك له من موضعه لعجز و لم يستطع أن يوفره إذ ليس كل الناس يقدر على ذلك أو يملك الجرأة لمواجهة الأخطار و ركوب البراري و القفار.

ثم إنه عليه السلام نبّه الوالي إلى هذه الطبقة و أنها طبقة السلم يهمها توفير الأمن لها لتوفر احتياجات البلد و ليست من الطبقات التي يخشى منها على الدولة و أمنها، فإن التاجر لا يستشرف إلا إلى الربح و تأمينه دون أن تمنيه نفسه بالحكم و تقلباته.

(و تفقد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، و شحا قبيحا، و احتكارا للمنافع، و تحكما في البياعات، و ذلك باب مضرة

ص: 62

للعامة و عيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، و عاقبه في غير إسراف) إن عليا و هو على رأس الدولة يشعر بمسؤوليته الضخمة التي يجب أن يؤديها على أكمل وجه و أتّمه، و لا يجوز أن يحرم من وصاياه كل ما يقدّم للأمة نفعا و للناس خيرا و هو هنا يأمر الوالي أن يتفقد أمور التجار من كان تحت سلطانه في بلده أو في أقاصي البلاد التي يحكمها هذا الوالي فإن كبر مسئوليته وسعتها لا يكون شفيعا له إن أهمل أو قصّر فإن إدارة البلاد ليست من أجل الرئاسة و الوجاهة بل من أجل خدمة الناس و تنمية الحياة عندهم و الأخذ بما في أيديهم لصالح المسلمين قاطبة و هذا يتطلب من الوالي أن يكون مع أفراد المجتمع و طبقاته.

و ينبه الإمام إلى أن التجار فيهم بعض الأوصاف غير النظيفة التي يحاربها الدين و يحب أن يقتلعها من نفوسهم لأنها من جهة في أنفسها صفات خسيسة و لأنها تضرّ بعامة الناس من جهة أخرى.

ففيهم عسر في المعاملة و شح في النفوس و فيهم حب الربح الفاحش الذي يطلبونه و لو بالاحتكار المحرم، فإن الدين قد حارب المحتكرين الذين يجمعون ما يحتاجه المجتمع مما نص عليه الشارع كالحنطة و التمر و السمن و الملح و غيرها من المواد الأولية الضرورية لحياة المجتمع، يجمعونه في أيام و فرته إلى وقت حاجته فيمنعونه عن المحتاجين بالأسعار الخفيفة حتى إذا نفذ من الأسواق طلبوا به الأسعار العالية التي ترهق كاهل الناس و تعجزهم عن شرائه و في هذا النوع من التجاوز الشرعي فضلا عما ذكرنا من الأضرار بالناس فيه مذمة للولاة و عيب عليهم لأنه يقال إن في زمنهم حصل هذا الأمر المحرم الذي أضرّ بالمجتمع و ذلك لإهمالهم و تكاسلهم و عدم التفاتهم إلى رعيتهم و لو أنهم كانوا بمستوى المسئولية المنوطة بهم لما حصل ما حصل فإن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قد منع عن الاحتكار و حرمه على أمته فيجب على من تولى الأمر نيابة عن النبي أن يقتفي أثره في تحليل حلاله و تحريم حرامه.

و ليكن البيع بيعا سمحا لا إجحاف فيه، بموازين سليمة صحيحة ليس فيها تطفيف أو أكل للمال بالباطل و كذلك يجب أن تكون الأسعار معتدلة لصالح الفريقين البائع و المشتري فلا ترتفع فتضرّ بالمشتري و لا تقل فتضر بالبائع... و في ختام حديثه عن هذه الطبقة يأمره أن يؤدب من احتكر بعد النهي و لتكن العقوبة بقدر محدد كما رسمها الشارع و كما هي المصلحة دون أن يكون فيها تجاوز لأنها لردع المنحرف و ليس للانتقام منه...

ص: 63

(ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤسى و الزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعا و معترا، و احفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك، و قسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم و لا تصعر خدك لهم، و تفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون، و تحقره الرجال.

ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، و كل فأعذر إلى اللّه في تأدية حقه إليه) الطبقة السابعة طبقة الفقراء: اللّه أكبر يا علي يا أمير المؤمنين، إن لهذه الطبقة الأخيرة منزلة عندك و اهتماما فاق سائر الطبقات، إنك تعيش بقلبك و روحك و جسمك و سائر شئونك مع هذه الطبقة الضعيفة، لقد عشت آلام المحرومين و المعذبين و أنت مع الناس و عشت معهم و أنت خليفة و رحلت عنهم و وصاياك بهم حية لا تزال تعيش... سهرت من أجل أن يطيب لهم المنام و ظمئت من أجل ريّهم وجعت من أجل شبعهم و عريت من أجل إكسائهم و زهدت من أجل ترفيههم... فكنت أبا للمساكين و الأرامل و الأيتام و كانوا لك أبناء بررة يعيشون آلامك و يحققون أحلامك...

علي عليه السّلام بهذه الصيغة التي تحوي الرقة و الرجوع إلى اللّه كانت وصيته بهم (اللّه... اللّه) في هذه الطبقة التي لم تمكنها الأقدار و لم تفسح لها الحياة في الكسب و السعة، من المساكين و المحتاجين و أهل البؤس و المقعدين، فإن هذه الطبقة تستحق الشفقة و العطف و يجب على المجتمع أن يؤمن لها احتياجاتها إن عجزت الدولة، أو لم يكن بيدها ما توفره لها...

إن في هذه الطبقة من الفقراء و المساكين و أهل الحاجة من يسأل و يمد يده ليطلب حقه و لكن هناك من تمنعه العفّة و يصون وجهه عن الطلب و لكل منهما حق يجب إيصاله إليه، يجب على الوالي أن يحفظ اللّه في هذه الطبقة و يجعل لها قسما من بيت مال المسلمين فإنه معد للمصالح العامة و لإعاشة الفقراء و هذه مصاديق ذلك و أحق من يأخذ ذلك بحقه. و ليكن عون بيت المال تلك الصوافي التي توزّع على جميع الفقراء، القاصي منهم و الداني و لا يهمل هذه الأمور الصغيرة ظنا منه أنه يعمل الأعمال الكبيرة من إدارة شئون البلاد و تحريك سياستها فإن اللّه لا يغفل الصغير و إن قام المسئول بالكبير فإن لكل من القسمين أجره و ثوابه كما أن لكل منهما مسئوليته و عقابه فلذا لا يجوز أن يعرض عن

ص: 64

هؤلاء الفقراء و يتنحى عن إعانتهم و مديده إليهم...

(و تعهد أهل اليتم و ذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل (و الحق كله ثقيل). و قد يخففه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم) هذه وصايا الأنبياء إلى أتباعهم و هذا هو منطق السماء الذي يتعادل فيه القوي و الضعيف، الغني و الفقير، الحاكم و المحكوم، صاحب الجاه و الصعلوك، إن كل هذه الفئات مخلوقة للّه و تتساوى أمامه دون تمييز فلذا يتعامل معها بمنطق واحد و لسان واحد، و الإمام هنا يشدد الوصية بالاهتمام بهذه الطبقة الفقيرة التي لا تستطيع أن تقفز فوق الحواجز المصطنعة لتصل إلى الوالي فترفع شكواها و احتياجاتها إليه إن هناك من هذه الطبقة من تحتقره العيون و تزدريه لأنها عيون لم تبصر بنور اللّه تتعامل مع الثياب و المال دون المثل و القيم إن مثل هذه الأفراد يجب على الوالي أن يوظّف لها رجلا من أهل التقوى للّه و التواضع لعباده، فيعمل بمقتضى تقواه دون أن يزيد على حالة البؤساء بؤسا أو ينقص منها شيئا، بل يرفعها إلى الوالي على حقيقتها كما هي كي تعالج بوصفتها المناسبة لها دون مضاعفات أو مخاطر مراعيا ربه مطمئنا إلى ما يقدمه من الأعذار التي تشفع له عند ما يسأل عن أحوال هؤلاء الفقراء الذين لم يخرجوا من رعيته و سلطانه...

ثم الأيتام هؤلاء الذين فقدوا الآباء فإنهم يستحقون الاهتمام و العناية التي تعوض لهم عن حرمان الأب و حنانه فإنهم أبناء المسلمين الذين لم يتمتعوا بآبائهم فكان لهم في الوالي أبا بدلا عنهم. و أما أولئك الذين كبرت سنّهم و دقّ عظمهم و انقطعت حيلتهم عن الكدّ و السعي و العمل فهم أيضا يستحقون الإعالة و الكفالة من الدولة فإنهم بذلوا شبابهم و جهودهم في سبيل بنائها فلا يجوز لها أن تهملهم من حساباتها و معوناتها إذا عجزوا عن اقتحام مداخل أبواب الوالي و عتبات داره...

ثم إنه عليه السلام يلفت النظر إلى أن هذه الطلبات و الوصايا ثقيلة على الولاة لأنها تكلفهم أتعابا و جهودا و عرقا و كدا و تأخذ من أوقاتهم الشيء الكثير و لكنه يعود ليقول لهم إن الحق كله ثقيل، لأنه يتطلب العدل و الإنصاف و هذا مما لا تقبله أغلب النفوس و لكن الإنسان الصالح يستطيع أن يقهر نفسه بل يستطيع أن يتقبل الحق بكل راحة نفس و اطمئنان و اللّه يمده بالعون إذا صبر و يسهل عليه الأمر إذا رأى ما أعده اللّه له من الحسنات و الخيرات...

(و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك

ص: 65

حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع». ثم احتمل الخرق منهم و العي، و نح عنهم الضيق و؟؟؟؟؟ يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته. و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع في إجمال و إعذار!) هكذا تتسامى الشخصيات الكبيرة في تواضعها و بهذه الأحرف السماوية يرقم عليّ على قلوب الولاة العطف و الحنان و التنازل عن مقامات الملك و السلطان ليعيش الوالي مع أبناء الشعب الذين يملكون رؤاهم و حاجاتهم الخاصة... إن على الوالي أن يجعل قسما من وقته يفرغه للقاء أصحاب الحاجات... إنها جلسة مفتوحة يستطيع كل فرد من أفراد الشعب أن يكشف سره و يطلع الوالي على احتياجاته و النظر في مظلمته. فإن اللّه قد استرعاه و هو سائله عن كل تقصير أو تهاون...

و ليكن ذلك المجلس مع التواضع للّه و الحدب على الفقير و ليبعد عن أصحاب الشكاوى جميع جنده و حرسه و شرطته فإن لهذه المظاهر أثرا في نفوس بعض الأشخاص يعجزون معها أن يؤدوا ما في نفوسهم أو يكشفوا عما يجول في خواطرهم، إنها مظاهر تشير بالقوة و العزم و الهيبة و السلطان و هو يتنافى مع مجالس الضعفاء الذين لم يتعوّدوا مثل هذه المشاهد إلا في مقامات القوة و الحرب و القتال الذي يفقد فيها الكثير عزيمتهم و تخونهم أعصابهم و عقولهم فلا يعودوا يملكون المنطق السليم الذي يكشف عما في نفوسهم...

هكذا يعلّم علي الولاة، و هكذا يكون أهل الحق و العدل من الحكام... و يعلل ذلك أن الأمة التي لا تأخذ الحق لصاحبه غير مضطرب و لا خائف لا تكون أمة طاهرة مستقيمة نزيهة كما ورد عن رسول اللّه...

ثم إن على الوالي أن يحتمل و يصبر على عجز بعض الناس عن بيان ما في نفسه و عن حصر بعضهم عن الكلام و ليكن هذا الصبر مع البسط و السهولة راجيا من وراء ذلك رضا اللّه و مثوبته...

و إذا ثبت الحق فليعطه لأهله دون منّة بل يشعرهم بحقهم كي يطمئنوا إلى عدله و إذا ثبت أنه ليس لهم حق فليكن رده لهم بيسر و سهولة أيضا مع بيان العذر و الحجة كي يكونوا على بيّنة من عدم القضاء لمصلحتهم...

(ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيى عنه كتابك، و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك.

ص: 66

و امض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه. و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه أفضل تلك المواقيت، و اجزل تلك الأقسام، و إن كانت كلها للّه إذا صلحت فيها النية، و سلمت منها الرعية) مهما سمت الأعوان و كانت قادرة على تصريف الأمور و تنسيقها فإن من الأمور ما لا يقضى إلا بيد الوالي و على عينه خاصة و قد ذكر الإمام نماذج لتلك التي يجب أن يتولاها الوالي بنفسه منها ما ورد على كتّابه و عجزوا عن القيام به و الإجابة عنه فإن على الوالي أن يقوم بالإجابة عنها بنفسه و منها إجابة ما ورد عليه من الناس إذا ضاقت صدور أعوانه فإنهم إذا كلفوا بها و الحالة تلك لا يؤدونها على وجهها الصحيح...

ثم يوصيه أن لكل يوم عمل خاص به و هذا يدل على وجوب تنجيز الأمور في أوقاتها لأنه أذا تراكمت الأعمال لم يعد الفرد قادرا على إنجازها بنجاح تام.

ثم يوصيه أن يختار أفضل الأوقات لعبادته و مناجاة ربه مما ورد الحثّ في استحباب العبادة فيها و بعد هذا يعطي كبرى كلية على أساسها يستطيع المسلم أن يحوّل كل أعماله عبادة تقربه من اللّه إذا اقترنت بنيّة التقرب منه و سلم الناس من بوائق يده و ظلمه...

(و ليكن في خاصة ما تخلص به للّه دينك: إقامة فرائضة التي هي له خاصة، فاعط اللّه من بدنك في ليلك و نهارك، ووف ما تقربت به إلى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم و لا منقوص، بالغا من بدنك ما بلغ. و إذا قمت في صلاتك للناس، فلا تكونن منفرا و لا مضيعا، فإن في الناس من به العلة و له الحاجة. و قد سألت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم ؟ فقال: «صل بهم كصلاة أضعفهم و كن بالمؤمنين رحيما») بعد أن انتهى عليه السلام من وصيته العامة بالرعية شرع في وصية الوالي بالأمور الخاصة التي أمس ما يجب أن يكون الوالي متمسكا بها.

و أخص تلك الفرائض و أهمها إقامة الصلاة بحذافيرها من الشروط و المستحبات و الآداب في الليل و النهار و إن كلفه ذلك جهدا بدنيا فإن عاقبة تلك الأتعاب جنة عرضها السماوات و الأرض و الحصول عليها يهوّن كل مشقات الطريق و أتعابه...

ثم يوصيه و هو يؤدي الصلاة بالناس جماعة أن يكون في إمامته لهم معتدلا، غير منفر بالتطويل و لا مخل بالتنقيص، أما عدم التنقيص فواضح أما التنفير بالتطويل فلأن في الناس من هو عاجز و أن فيهم أصحاب الأشغال و الأعمال و كل هؤلاء يجب أن لا ينفصل الناس من هو عاجز و أن فيهم أصحاب الأشغال و الأعمال و كل هؤلاء يجب أن لا ينفصل عن عمله أزيد من اللازم ثم يستشهد على ذلك بقول النبي (صلی الله علیه و آله) و أكرم ببيان رسول اللّه بيانا و بحديثه حديثا: «صل بهم كصلاة أضعفهم».

ص: 67

(و أما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، و قلة علم بالأمور، و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، و يعظم الصغير، و يقبح الحسن، و يحسن القبيح، و يشاب الحق بالباطل.

و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيما احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه! أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك! مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤنة فيه عليك، من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة) و هذه وصية أخرى من وصاياه الغالية يتعطر بها الوجود و يسبّح بذكرها الموجود إنها تلقي الأضواء الساطعة التي تكشف مخاطر الاحتجاب عن الرعية و تدلل أن الوالي يجب أن يكون على اتصال دائم بهذه الجماهير التي تولي أمرها و أنيط به شأنها لئلا تقطع دونه الأسباب و يساء فهم الوالي للأمور فإن الاحتجاب يورث الوالي الانقطاع عن أخبار رعيته فيعظم عنده الأمر الصغير و قد يهون الكبير كما أنه قد تقلب الأمور فيغدو الأمر الحسن قبيحا و القبيح حسنا و بذلك يختلط الحق بالباطل لأنه إذا احتجب اضطر أن يعوّل على أخبار الذين يتصلون به و ينقلون إليه صور العالم الخارجي و هؤلاء قد يحسّنون له السيء، و قد يعكسون الأمر و ليس له اطلاع على الحقيقة إلا من جهتهم و هو بما يحمل من الهوية البشرية لا يعرف ما توارى عنه و اختفى و ليس على الحق رايات تصرخ باسمه حتى يسمعها الوالي فيجيب إن امتزج الصدق بالكذب و اختلط الحق بالباطل...

ثم إنه عليه السلام أراد أن يثير في نفس الوالي قضية حقيقية لعلها تيقظه و تحرك فيه شعور الخير و عوامل البناء و النمو فوجه إليه كلامه بأنك لا يخلو أمرك من أحد رجلين و كلاهما لا داعي إلى احتجابه فإما أن تكون رجل يدفع الحق و يبذله لأهله و لا داعي لاحتجابك إذا كنت تحمل صفات هذا الرجل و إما أنك رجل مبتلى بالمنع لهذا الحق فإن الناس لا بد و أن تعرف ذلك عنك فتمتنع عن المطالبة و على هذا أيضا لا داعي لاحتجابك...

ثم نبهه إلى قضية مهمة و خفيفة على النفس حيث قال له إن أكثر حاجات الناس إليك ليس فيها مئونة عليك لأنها إما شكوى لبعض المظالم التي لحقتهم أو طلب إنصاف في معاملة قد جار فيها بعضهم و تعدّى فيها آخرون... و في كلا الأمرين ليس فيه أي حزازة أو مرارة و لا كلفة و لا ثقل فيهون الأمر و يسهل فلا داعي لاحتجابك أصلا...

ص: 68

(ثم إن للوالي خاصة و بطانة فيهم استئثار و تطاول و قلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. و لا تقطعن لأحد من حاشيتك و حامتك قطيعة، و لا يطمعن منك في اعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترك، يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة) إن عليا قد رأى بأم عينه و وقف بنفسه على عمال عثمان و مظالمهم حيث أكلوا البلاد و قتلوا العباد، فاستأثروا بالفيء و مغانم المسلمين و ألحقوا الضرر بكل أفراد الأمة حتى ضجّ الناس منهم و أحبوا التخلص من ظلمهم و جورهم... و قد كان عثمان الخليفة يرعى شئونهم بما لا يرعى به شئون المسلمين و يمنحهم الأعطيات و الأراضي و المال بشكل غير جائز و لا مقبول و يذكر التاريخ جملة من تلك التجاوزات التي مارسها الخليفة و بنو أبيه حتى قال الإمام عنهم مصورا حالهم كما في خطبته الشقشقية: «إلى أن قام ثالث القوم (عثمان) نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع».

و يقول عليه السلام في كلام أخر: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود فإن الحق لا يبطله شيء و لو وجدته قد تزوج به النساء و فرق في البلدان لرددته إلى حاله...».

و قد استغل الأمويون شيخهم عثمان بعد توليته الخلافة أقبح استغلال و أبشعه حيث تولوا مراكز الولايات في كل من البصرة و الكوفة و مصر و الحجاز دون كفاءة أو جدارة بل لأنهم عشيرة الخليفة و أقرباءه و قد وصلهم بأموال المسلمين مما جعل الناس يثورون عليه و عليهم و ينهون حكمهم الظالم الجائر.

و إن الإمام علي هنا ينبه الوالي في تعاليمه إلى أن يقطع سبب طمع هؤلاء الناس من الخاصة و البطانة فلا يقطعن لأحد منهم أرضا تضرّ بمصالح المسلمين و منافعهم فإن الحاشية و الخواص يطمعون في أحسن الأراضي و أخصبها و أشدها منفعة و درّا و إن كان في ذلك مضرّة على المسلمين... فإن الوالي إذا فعل ذلك يكون آثما و معيبا عليه في الدنيا و الآخرة...

(و ألزم الحق من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصتك حيث وقع. و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة.

و إن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك،

ص: 69

فإن في ذلك رياضة منك لنفسك و رفقا برعيتك، و إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق) الحق في الإسلام لا يعرف القريب و البعيد و لا الصغير و الكبير و لا الملك و عامة الناس، بل صاحب الحق سلطان لأنه ينظر من خلال حجته التي تدين الغير و تجبره على الإذعان و الاعتراف لصاحب الحق بحقه...

و إن أحق الناس بإقامة الحق هم الولاة الذين بيدهم أزمّة الأمور و خصوصا على حاشيتهم و قرابتهم مهما كانت إقامته قاسية و وقعه صارم و عنيف، فإن مع عنفه لذة و مع قساوته سموّ و رفعة و أن هذا الثقل الذي يجده المرء من خلال إقامته على خواصه و أهله يجد لذته في يوم تشخص فيه العيون و الأبصار كما يجد لذته أيضا في الدنيا و بذلك يجمع كرامة الدارين...

ثم على الوالي أن يتعامل مع رعيته من موقع الثقة المتبادلة و هذا لا يتم إذا أساءت الرأي فيه في قضية من القضايا و خصوصا إذا تصورت أن الوالي يظلمها و يحيف عليها في مسألة ما، و هنا يجب على الوالي العادل أن يرفع هذا الظن من عقول رعيته و يعلنها أمامهم بكل صراحة مبينا وجه التقشف - إن كان هناك تقشفا - موضحا أمامهم طريقه و سبيله الذي حداه إلى سلوك هذا النهج... و في هذا الإعلان يكتسب أمرين، أولهما أنه يرفع سوء ظن رعيته به و الثاني أنه يعوّد نفسه على أن يكشفها أمام الناس و يبيّن أعذاره بشكل واضح و في هذا على النفس ثقل كبير فليس كل فرد يستطيع أن يكشف أوراقه و يوضح معالم مسيرته و خصوصا إذا كان في موقع رفيع من المسئولية حيث يرى نفسه فوق هذه الأمور و أرفع منها.

(و لا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك و للّه فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك، و أمنا لبلادك، و لكن كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم، و اتهم في ذلك حسن الظن. و إن عقدت بينك و بين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت) السلام و الأمان شعائر إسلامية ذات مضامين ربانية تحمل أسمى المعاني و أعمقها و أروع المداليل و أقيمها...

السلام الإسلامي ليس على حساب الضعفاء و الفقراء، و ليس على حساب المباديء و المثل، و ليس على حساب الشعوب الآمنة و سلب راحتها و زعزعة كيانها...

السلام في أيامنا بين أميركا و روسيا يأتي على حساب راحة العالم كله - ما عدا الدولتين، سلام أمريكا و روسيا معناه سلب راحة الشعوب و نشر القتال بينها و زرع

ص: 70

الفتن بين الشعوب، و تقسيم الأرض كلها إلى مناطق نفوذ كل دولة لها مجموعة من الدول الصغيرة التي تدور في فكلها و تسبح في محيطها...

فأمن روسيا و سلامها أن تحتل أفغانستان و المجر و غيرها و أمن أمريكا أن تخلق دولة إسرائيل الصهيونية لتشرد شعبا كاملا عن دياره و تقلق وضع المنطقة بأسرها و تهدد باحتلال منابع النفظ و الاستيلاء عليها لأن أمنها يتطلب ذلك...

أمن الدول الكبرى يقوم على قلق الشعوب و راحتها و سلب سكونها و دعتها فهل يمكن أن يتم صلح و يعقد سلام بين آكل و مأكول إلا على حساب المأكول...

الإسلام يقول: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا» إنها دعوة إلى السلام بالمعنى الصحيح لأن الحرب في الإسلام حالة استثنائية لا يرجع إليها إلا بعد أن تقفل جميع أبواب السلام...

السلام في الإسلام لصالح الإسلام لأنه رسالة يخاطب العقل و الفكر و الضمير و يدخل إلى مكامن النفس فيحولها إلى عنصر جديد و خلق جديد... الإسلام يعتمد على الحجة و المحاورة فإذا فسح المجال لهما فلا حرب و لا نزاع... أما إذا أراد العدو أن يسد جميع المنافذ و يغلق سائر الأبواب على الشعب المسحوق و يمنعه أن ينظر في الدعوة الإسلامية و أحكامها فلصالح الإنسان أن تكون الحرب التي تكسر هذه القيود و تطلق له الحرية و لجميع المستضعفين...

السلام في الإسلام سلام عادل لا ظلم فيه سلام من أجل فتح القلوب و النفوس على الحق و العدل و الإيمان و رضا اللّه تعالى و لذا يوجه الإمام وصيته إلى الوالي أن لا يدفع صلحا يدعوه إليه العدو إذا كان للّه فيه رضا و يعلل ذلك فإن في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك ثم يوصيه أن لا يغفل عمن صالحه فلعل صلح العدو خدعة من أجل أن ينقض عليه و يجعله لقمة سائغة...

و إذا تم عقد الصلح فيجب على الوالي أن يبذل كل ما يستطيع للوفاء به مهما كلفه ذلك و تطلبه...

(فإنه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم و تشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر فلا تغدرن بذمتك و لا تخيسن بعهدك و لا تختلن عدوك، فإنه لا يجترىء على اللّه إلا جاهل شقي. و قد جعل اللّه عهده و ذمته أمنا أفضاه بين العباد

ص: 71

برحمته، و حريما يسكنون إلى منعته، و يستفيضون إلى جواره. فلا إدغال و لا مدالسة و لا خداع فيه) هناك مسلمات عقلائية تجتمع عليها الناس قاطبة المسلم منهم و الكافر الموحد و الملحد و ذلك لوضوحها و صحتها في العقول و هذه المسلمات يكون دور الشارع فيها التأكيد و ليس التأسيس فإن هذا العقل أودعه اللّه في الإنسان حجة له و عليه يستطيع أن يستقل بالحكم في هذه المسلمات كما في حسن العدل و قبح الظلم و غيرهما من البديهيات العقلائية المعبر عنها بالحسن و القبح العقليين و أن الإمام هنا يبين جزئية من تلك الجزئيات التي تسالم عليها العقلاء و أقروها في تصرفهم و سلوكهم، إنه الوفاء بالعهد فإننا نجد كيف تم التسالم بين العقلاء قاطبة حتى المجتمع المشرك قد تعامل فيما بينه بالوفاء به. فإن أهل الجاهلية كانت تلتزم بالعهود و تذم من ينقض عهدا أو يخالفه، و ترى شعراؤها تهجوه و تقبح فعاله و تجعله و صمة عار في جبين ناقضه لا يفارقه مدى عمره بل قد يلحق أبناءه و أحفاده و جميع من ينتسب إليه... إن الوفاء بالعهد مطلب إسلامي أكد عليه الإسلام و أوجبه على أتباعه...

قال تعالى: «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً» (1).

و قال تعالى: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ وَ لاٰ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ » (2).

فالإمام يطلب من الوالي أن يلتزم بعهده و هو أحق من يلتزم به فلا يجوز له أن يحتال أو يخدع عدوه بعد العهد لأن العهد و إن كان طرفه الآخر هو العدو و لكن عهدا أيضا مع اللّه و لا يخفر ذمة اللّه إلا جاهل...

(و لا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، و لا تعولن على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة.

و لا يدعونك ضيق أمر، لزمك فيه عهد اللّه، إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه و فضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته. و أن تحيط بك من اللّه فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك و لا آخرتك) نهي منه عليه السّلام أن يعقد عقدا يمكن أن تكثر فيه التأويلات و تتعدد الوجوه و الاحتمالات بل يجب أن يكون العقد نصا في المطلوب لكي لا تكثر الاحتمالات التي يمكن أن يتثبت بها العدو.

كما نهاه أن يخرج عما عقده و أحكمه إلى وجه خفي لا يهتدي إليه إلا الأوحدي1.

ص: 72


1- سورة الإسراء، آية - 34.
2- سورة النحل آية، - 91.

فإن ذلك ليس من دأب المسلمين للّه المعتصمين بحبله و إذا تم العقد و استحكمت الأمور لا يجوز للوالي إذا رأى خلاف ذلك أن ينقضه و يفسخه، بل يجب عليه أن يلتزم به على وجهه المتفق عليه و يصبر فإنه إذا صبر على أمر يرجو انفراجه و ينتظر حسن عاقبته خير له من أمر يعتذر منه و لكن لا يقبل العذر بل تلحقه التبعة و تحيط به المطالبة من اللّه و هل ينجو عبد يطلبه اللّه، فما أجدر هذا الإنسان أن يودع دنياه بالوفاء ليستقبل آخرته مع وفود الأنبياء...

(إياك و الدماء و سفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة، و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة و انقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها. و اللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطان بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه و يوهنه، بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن) إن للنفوس البشرية في الإسلام حرمتها و حصانتها، و الإنسان في هذا الدين كائن له قدسيته المميزة و احترامه الخاص، فمن أجله خلق اللّه الدنيا و من أجله سخر له كل ما فيها، من أجله أسجد اللّه ملائكته ففضله عليهم. أعطى الإسلام اهتمامه البالغ في الحفاظ على حرمة الدماء و حقنها من كل اعتداء و رعاها رعاية لم يرع مثلها من الأمور الكبيرة فقد عدّ الاعتداء على الإنسان دون حق يعادل الاعتداء على كافة الناس قال تعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ اَلنّٰاسَ جَمِيعاً» (1) فإن نزعة الشر إذا سيطرت على عقل جاهل أو سفيه أو مجرم محترف فقتل فردا واحدا دون ذنب أو حق فهو بما يحمل من نفس شريرة تتقبل نفسه أن يقتل الناس جميعا و لذا يحمله اللّه مسئولية قتل البشرية كلها...

إن الإسلام اعتبر الإنسان محقون الدم لا يجوز التعدي عليه و إزهاق نفسه دون فرق بين كبير و صغير حتى عمليات الإجهاض حرّمها الإسلام و منع من القيام بها لأنها تشكل اعتداء على آدمي تمتع بقسط من الوجود فلا يجوز قتله...

إن الإسلام حرم إهدار الدماء و منع من سفكها... فلا تهدر من أجل النزوات الشخصية للحكام المجرمين و لا تهدر من أجل الثروات التي بيد الغير فيعتدى عليهم و تسلب من أيديهم...

و لا تهدر من أجل الاستعمار و الاستغلال.2.

ص: 73


1- سورة المائدة، آية - 32.

و لا تهدر من أجل مطمع أو مغنم.

و لا تهدر من أجل شيء أبدا إلا للّه وحده إنها تسقط من أجل دينه و رسالته و أمره لتنير الدرب للسالكين و تفتح طريق الجنة للمجاهدين...

إن سفك الدماء جريمة يعاقب الإسلام مرتكبها بالقتل في الدنيا و بالنار في الآخرة ففي الحديث عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «أول ما يحكم اللّه فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنا آدم فيفصل [فيقضي] بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد، ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيتشخب في دمه وجهه فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته ؟ فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثا».

و الإمام هنا يحذر الوالي من الدماء و سفكها بغير حقها، فإنها أهم الأسباب و أقربها لنزول نقمة اللّه بالقاتل و أعظمها في لحوق التبعة منه و أولاها بزوال النعمة و انقطاع مدة العمر و الدولة...

ثم بين عليه السلام أن اللّه أول ما يحاسب عليه هو الدم الحرام الذي سفك بغير حله و قد تقدمت الرواية الدالة على ذلك.

و إن من أراد تقوية سلطانه بالدم الحرام فإن ذلك لا يتم و لن يتم فإن سفك الدماء يضعف الملك و يوهنه بل يزيله عن أهله إلى غيرهم و هذا ما رأيناه بالعين المجردة و مر أمامنا في زماننا كما يقرأ ذلك أيضا في التواريخ... فإن سلطانا يقوم على الحديد و النار و سفك الدماء و قتل الناس فهو سلطان لا يدوم... و إن تاريخ الأمويين و تلك المجازر التي ارتكبوها كانت السبب في القضاء عليهم و زوال ملكهم كما أن بني العباس و ما مارسوه من الظلم و إهدار الدماء كان هو نفس السبب في نقمة الناس عليهم و الثورة ضدهم و زوال ملكهم...

(و إن ابتليت بخطأ و أفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم) القتل الذي تهتز له السماوات و الأرض و تحكم بحرمته الشرائع و الأديان هو قتل العمد دون حق لما يمثل من اعتداء على الإنسانية و قد جعل الإسلام حدا له و هو قتل القاتل منعا للفساد و حسما لمادته التي تجسدت في إنسان تملكت عليه نزعة الشر شعوره و وجدانه فراح يعيث في الأرض الفساد و يقتل الحياة و العباد...

إن في قتل العمد ترفض الأعذار و ترد الاسترحامات و لا تقبل الشفاعات فإن

ص: 74

لأولياء المقتول الحق في قتل القاتل عمدا، عليه وحده يقع الحق و منه فقط يقتص، فلا يجوز في منطق الإسلام أن يعتدى على غيره من أب و أخ و قريب و رحم، الجاني وحده هو الذي تلحقه تبعة هذه الجريمة و يؤخذ بجريرتها، فللأولياء - أولياء المقتول الاقتصاص منه - كما أن لهم الحق في العفو عنه و العدول إلى الدية - كما أن لهم الحق في العفو المطلق الذي تسقط معه كل آثار و تبعات هذه الجريمة...

إن جريمة قتل العمد تلحقها تبعاتها سواء كان مرتكب الجريمة حاكما أم سوقة و لا يكون المنصب الكبير - و إن كان خليفة - شفيعا له في عدم الاقتصاص منه، فإن الأحكام الإسلامية يتساوى فيها الحاكم و المحكوم السائس و المسوس بل هي في حق الكبير أوجب و ألزم لأنه يمثل الرسالة و يدعي المحافظة عليها و تطبيق أحكامها و بنودها فإذا خالف ذلك - و هو في ذلك المركز - كانت المسئولية عليه أكبر و المطالبة له أضخم و أكبر. إن في تشريع الإسلام المستقى من أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) و كما يصرح به الإمام هنا أن في قتل العمد الاقتصاص من بدن القاتل و لا عذر يقبل في رفع الاقتصاص...

و أما إذا كان القتل خطأ - لا عن عمد - بسوط لا يقتل عادة أو ضربة بيد فإن في ذلك الدية و لا يجوز أن يستغل الحاكم منصبه فيأكل حق المقتول و يرفض أن يدفع لأهله ديته...

إن الوالي مهما سمى بمنزلته و ارتفع في علو سلطانه فإنه يبقى تحت إرادة اللّه و حكمه لا يجوز له الخروج عنها و لا الاعتداء عليها و إلا أخذ بما يؤخذ به أي إنسان آخر من عامة الناس...

(و إياك و الإعجاب بنفسك، و الثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين) الإعجاب بالنفس من المهلكات لها، إذ يمنّ الإنسان بعمله على ربه فتطمح نفسه إلى الاستعلاء و الاستكبار، إنه ينظر إلى نفسه فيتخيل أنها منزهة عن كل تقصير فيأخذه التيه و يتمنى أن تتحول ألسنة الناس كلها إلى أبواق تسبح بذكره و تمجّد أفعاله و أقواله و من هذا الباب يستطيع أن يدخل الشيطان فيزين له سوء عمله فيراه حسنا، فتنقلب عنده الأوضاع و تتبدل الموازين فيتخيل أن جميع أفعال الناس و أعمالهم و ما قدموه من خيرات و صالحات كلها لا تعدل عملا من أعماله و أثرا من آثاره و بذلك تمحق آثار الصالحين و تذوب كل أعمالهم الطيبة و جهادهم الميمون. و هذا أمر له ما بعده من الفساد و الضلال.

ففي الحديث عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع): الرجل

ص: 75

يعمل العمل و هو خائف مشفق ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به ؟ فقال: هو في حاله الأولى و هو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه.

و في الحديث عن أبي عبد اللّه (ع) قال: أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك ؟.

فقال: مثلي يسأل عن صلاته ؟! و أنا أعبد اللّه منذ كذا و كذا، قال: فكيف بكاؤك ؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال له العالم: فإن ضحكك و أنت خائف أفضل من بكائك و أنت مدلّ ، إن المدل لا يصعد من عمله شيء.

(و إياك و المن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، و التزيد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس. قال اللّه تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ » ) المنّ يفسد العمل لما فيه من إيذاء على الممنون عليه، و قد حرمه اللّه و منع منه و جعل الصدقة فاسدة لا تعطي خيرها و ثوابها إذا اقترنت بذلك قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىٰ » و لأجل هذا قال الإمام في مقام التنديد بالمنّ على الرعية بقوله: «فإن المنّ يبطل الإحسان».

و أما التزيد فهو قبيح لأنه يتضمن الكذب و الكذب حرام، فإن العامل جزءا واحدا و مدع للعمل عشرة أجزاء مريدا الافتخار بهذه النسبة مثل هذا الإنسان سينكشف كذبه و يتضح حاله و تنزل منزلته عما هي عليه و بذلك قد يقضي حتى على الجزء الذي عمله و تنطمس معالمه من جراء كذبه ذاك و لذا قال الإمام في مقام عدم جواز التزيد: «بأنه يذهب بنور الحق».

و أما خلف الوعد فإنه أوضح الثلاثة في القبح عند الناس حيث تنتزع الثقة ممن وعد و لم يف و لا يؤخذ بقوله بعد خلفه لوعده و كفى بذلك ذلا و إهانة و أما عند اللّه فلقوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ » .

(و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها، عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه، و أوقع كل أمر موقعه) هذا هو قانون الوسطية الذي يرسمه الإسلام لأتباعه عامة و لولاة الأمر بشكل خاص فلا إفراط و لا تفريط في الأمور بل الجادة الوسطى هي المطلب الذي يجب السير عليه و الإمام هنا يرسم للوالي كيفية الاختيار فيحذره من العجلة في الأمور قبل الأوان المقابل للتهاون فيها عند إمكانها كما يحذره من اللجاجة في المطالب إذا لم تنضج وجوهها

ص: 76

و يقابله الوهن و الضعف عنه إذا كانت الأمور واضحة... بل يجب أن يضع كل أمر في مكانه و يوقع كل أمر موقفه...

(و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك. و عما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، و ينتصف منك للمظلوم. املك حمية أنفك و سورة حدك، و سطوة يدك، و غرب لسانك، و احترس من كل ذلك بكف البادرة، و تأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، و لن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك) هذا تحذير منه عليه السلام إلى قضية ذات أهمية كبرى إنها قضية الاستئثار بدل الإيثار، و الاستئثار الذي يبيح للفرد أن يأخذ حقه و يتناول حق غيره فإذا كان الناس شركاء في أمر من الأمور لا يجوز للقوي بما يتمتع به من سلطة أن تمتد يده لتأخذ ما ليس له بحق بل يجب أن يقف عند حقه دون التعدي على شركائه الذين يتساوون معه في هذا الحق.

ثم نبه إلى عدم جواز التغافل عما يجب العلم به من حقوق الناس التي أخذت ظلما و قد رأت العيون كلها إهمالك لها و بين له من الأمور ما فيه مزدجر حيث يقتص من الوالي لغيره ممن ظلمه أو تمكن من منع الظلم عنه فلم يرفعه يوم تنكشف الحجب و توفّى كل نفس ما عملت و ينادي العزيز الحكيم و كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد عندها يقتص للمظلوم من الظالم و يقتص للجماء من القرناء و يقف كل صاحب حق يطالب بحقه...

و إذا كانت الأمور ستنكشف على حقيقتها و ستتوضح الأمور على جليتها فلا بد للعاقل من أخذ الأهبة و الاستعداد للقاء يوم الحساب فلا يغضب بل يملك نفسه عن ذلك و إذا كان ذو بأس فلا تأخذه الحدة للانتقام و إذا كان ذو سطوة فلا ينتقم و إذا كان صاحب لسان حديدي فلا يأكل أعراض الناس أو يعتدي على كرامتهم بل إذا حصل شيء يوجب ذلك أخّر السطوة و الانتقام حتى يسكن الغضب و يستطيع أن يختار بكل حريته فلا يقع تحت أسر هذه الأمور السالبة للقدرة و الاختيار... و ليتفكر الإنسان قبل اتخاذ القرار بأن له يوم المعاد موقفا ترتقص منه القلوب فزعا و جزعا فليعد الإجابة عن كل حركة و قول و فعل...

(و الواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبينا - صلّى اللّه عليه و آله - أو فريضة في كتاب اللّه، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، و تجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من

ص: 77

الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها و أنا أسأل اللّه بسعة رحمته، و عظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه و إلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، و جميل الأثر في البلاد، و تمام النعمة، و تضعيف الكرامة، و أن يختم لي و لك بالسعادة و الشهادة) هكذا تكون الحكومة العادلة التي تكشف عن إرادة الحق و تتمتع بالسمع و الطاعة من الناس، إذ لا ديكتاتورية في الحكومة و لا عبودية للرئيس و لا صنمية بشرية جديدة، بل الحكم للّه منه يؤخذ التشريع و طبقا لأوامره تتم الأمور، فالحكومة العادلة التي تقدمت على هذه الحكومة يجب أن تكون قدوة في المسيرة الحكومية فيتخذ الولاة منها أسوة و درسا عمليا في حياتهم و سلوكهم العام ثم ينظر الوالي إلى سنة فاضلة راشدة أو أثر عن رسول الحياة و قائد مسيرة النضال أو فريضة في كتاب اللّه نصّ الباري عليها فيقتدي بكل ذلك لأن فيه الاجتياز عن المخاطر و العقبات و الوصل إلى شاطىء الأمن و السلام...

و إذا لم يكن كل ذلك - لا أثر من حكومة عادلة - و لا سنّة فاضلة و لا أثر عن نبينا و لا فريضة في كتاب اللّه فعلى الوالي أن يجتهد و سعه في سبيل الوصول إلى حجة مقنعة ترضي اللّه في كل أمر يقدم عليه أو يتبناه في عمله الحكومي...

و هذا العهد هو الحجة الذي يمكن أن يحاسب على أساسه الوالي إذا تسرع في حكمه و جار في قضائه أو عمل بهواه و شهواته.

هذا هو الفصل الأخير من العهد العلوي الشريف، إنه فصل الدعاء و الابتهال إلى اللّه، فصل الخشوع بالقلب و الروح و الجوارح إليه تعالى أن يديم التوفيق لما فيه رضاه المتمثل في إدامة الحجة أمام اللّه و أمام العباد...

و في نهايته طلب السعادة المقترنة بالشهادة التي يتمناها كل مسلم و يطلبها من اللّه لأنها المرتبة السامية التي تقصر عنها جميع المراتب الأخرى و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين...

ترجمة مالك بن الحارث الأشتر.
اشارة

(الأشتر) مالك بن الحارث عظيم من الرجال بطل من الشجعان عاصر النبي و رافق مسيرة الخلافة في أشخاصها الأربعة فكان له دور لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه و خصوصا تلك الفترة التي تفجرت فيها الثورة الشعبية في وجه عثمان و الحكم الأموي فكان الأشتر أحد وجوهها و زعمائها الذين قادوا المعارضة من الكوفة كما كان له دور بارز و تحرك مبارك في عهد الخلافة العلوية و حربي الجمل و الصفين...

ص: 78

نسبه:

هو مالك بن الحرث بن عبد(1) يغوث بن سلمة بن ربيعة بن الحرث بن جذيمة بن مالك بن النخع النخعي المعروف بالأشتر.

«و النخع بفتح النون(2) و الخاء و بعدها عين مهملة لقب لرجل يسمى (جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد» و قيل له النخع لأنه انتخع من قومه أي بعد عنهم، نزل (بيشة) و نزلوا في الإسلام الكوفة».

«و بيشة» اسم قرية في واد كثير الأهل من بلاد(3) اليمن و فيه يقول الشاعر:

فإن التي أهدت على نأي دارها *** سلاما لمردود عليها سلامها

عديد الحصى و الأشل من بطن (بيشة) *** و طرفائها ما دام فيها حمامها

و لقب بالأشتر حتى كاد لا يعرف إلا به و لذا عند ما صرخ ابن الزبير من تحت الأشتر: اقتلوني و مالكا لم يعلم أحد من الناس من يقصد و لو قال: «اقتلوني(4) و الأشتر لقتلا جميعا».

و سمي بالأشتر لضربة أصابته يوم اليرموك(5) على رأسه فسالت الجراحة قيحا إلى عينه فشترتها.

حياته:

لم يرفدنا التاريخ بشيء عن حياة الأشتر قبل الإسلام بل كل ما نعرفه عنه: عربي من اليمن يرجع إلى النخع القبيلة العربية الأصيلة كما أنه لم ينقل إلينا تاريخ إسلامه و على يد من أسلم و لكننا نعرف أنه أسلم في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) و يمكن أن يكون إسلامه في السنة العاشرة من الهجرة عند ما وجه النبي خالد بن الوليد إلى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام فلم يفلح فوجه عليا عليه السلام بعدها و استطاع في خلال يوم واحد أن يقنع أكبر القبائل - و هي همدان - أن تسلم فأسلمت ثم تتابع أهل(6) اليمن على الإسلام.

ص: 79


1- الإصابة في تمييز الصحابة ج 3 ص 482.
2- اللباب في تهذيب الانسان للجزري ج 3 ص 304.
3- مراصد الاطلاع لياقوت ج 1 ص 242.
4- ابن أبي الحديد ج 15 ص 101.
5- الإصابة نقلا عن معجم الشعراء.
6- الكامل في التاريخ ج ص 2 300.

شهد الأشتر معركتي اليرموك و القادسية و اشترك مع الجند الذي جاء من اليمن لدخول المعركة و يظهر أنه كان وجها من الوجوه المعروفة في ذلك الوقت فقد ذكر ابن الأثير في كامله أن أبا عبيدة بن الجراح أرسل جيشا مع أحد قواده إلى بلاد الروم عن طريق أنطاكية... ثم قال و لحق به - و بذلك القائد و الجيش - مالك الأشتر(1) النخعي مددا له... و هذا يدلل على أن مالكا كان يرأس فرقة تصلح أن تكون مددا لمن تقدم عليها و قد ذكره المؤرخون و ذكروا مواقفه و بطولاته فقد قال صاحب اللباب عند ذكره للأشتر أحد الفرسان(2) المعروفين له المقامات المشهودة في فتح العراق و غيره و في الجمل و صفين و قال صاحب الإصابة (و كان للأشتر مواقف في فتوح الشام مذكورة)(3).

الأشتر في الكوفة:

في السنة السابعة عشر و بعد فتح العراق و الشام اختطت الكوفة، و نزلها المسلمون و كانوا قبل ذلك ينزلون المدائن عاصمة كسرى - بعد فتحها - و لكنهم اشتكوا منها فأمر عمر بن الخطاب كلا من سلمان و حذيفة أن يرتادا منزلا ملائما للناس فوقع نظرهما على الكوفة و أعجبتهما فنزلا وصليا و دعوا اللّه تعالى أن يجعلها منزل الثبات و انتقل المسلمون من المدائن و كان من جملة من استقر بها بطلنا الأشتر و أضحت الكوفة من يومها مركزا و مستقرا لكل الأحرار و الشرفاء...

الكوفة في عهد الخلفاء:

بقيت الكوفة منذ تمصيرها وفية للخليفة مؤدية ما عليها من الحقوق و الواجبات فرجالها و كل أفرادها في خدمة الإسلام فإن طلب منهم الجهاد لبوا و سعوا و إن طلب منهم الاستمرار في عملهم فهم أبناء الأرض و بناة الحياة و استمرت مسيرتهم رتيبة متزنة تسير بهم مع أمرائهم المحليين الذين عينهم الخليفة دون اعتراض أو إشكال و بقي الأمر كذلك حتى جاء عثمان خليفة و عين عليها ولاة و أمراء لم يكونوا أهلا لمراكزهم التي تولوها سواء في الكوفة و البصرة أو مصر و الشام أو غيرها من بلاد المسلمين و قد نال الكوفة من جور الأمراء الأمويين و ظلمهم النصيب الكبير و كان للأشتر دور فذ و رائد في مسيرة الحياة الكوفية التي كانت من أوائل الثغور الإسلامية التي تطالب بالإصلاح و دفع الفساد و باعتبار أن الكوفة هي المركز التي انطلقت منها الثورة ضد الخليفة فإن علينا أن

ص: 80


1- الكامل في التاريخ ج 2 ص 497.
2- اللباب في تهذيب الأنساب ج 3 ص 304.
3- الإصابة ج 3 ص 482.

نعيش معها و لو فترة قصيرة كي نقف على الدوافع التي حركت تلك الجموع المسلمة و نرصد الأحداث التي مرت على الساحة الكوفية التي أنتجت قتل الخليفة بسيف الثوار و فتحت الباب أمام فتنة عمياء كان من جرائها قتل الإمام علي و تسليط معاوية الطليق على رقاب المسلمين فسامهم الذل و الهوان و داس الدين و المقدسات...

الكوفة و الأمراء:

عند ما توفي عمر كان على الكوفة سعد بن أبي وقاص و لما انتخب عثمان خليفة أبقى سعدا سنة ثم عزله و عين مكانه الوليد بن عقبة بن أبي معيط قريب الخليفة بل أخوه لأمه، و ما أن سمع المسلمون عامة بنبإ التعيين هذا و أهل الكوفة بشكل خاص حتى اهتزوا من أعماقهم و ارتسمت في أذهانهم صورة الوليد بشكلها الحقيقي و أعاد اسم الوليد شريطا من الأحداث التي سجلها هذا الإنسان في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) و ترقبوا أن يكون هذا التعيين حاملا لأحداث أخرى تحمل المسلمين على النقمة و التغيير...

أعاد نبأ التعيين إلى أذهانهم فسق الوليد و ما أنزل اللّه فيه من الآيات، إنهم يعرفون بمن نزلت آية النبأ التي تقول:(1)«يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ » و قوله تعالى:(2)«أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ » .

و لكن طالما أن الخليفة هو صاحب الرأي فلعله قد وقف على استقامة الوليد و اعتداله و الأيام الآتية هي وحدها التي تكشف الحقيقة و ترفع الغشاوة و تفصل بين الحقائق و الأوهام.

نزل الوليد دار الإمارة في الكوفة و كان على بيت المال عبد اللّه بن مسعود فاستقرضه مالا فأقرضه ثم بعد مدة اقتضاه إياه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان فكتب الخليفة إلى ابن مسعود إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال فطرح ابن مسعود المفاتيح و قال: كنت أظن أني خازن للمسلمين أما إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك...

و كانت هذه أول الهنات التي سمع بها أهل الكوفة و على رأسهم الأشتر.

ثم أتت حادثة الخمر لتغطي على هذه الحادثة فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في

ص: 81


1- سورة الحجرات، آية - 6.
2- سورة السجدة، آية ة 18.

كتاب الأغاني أن الوليد بن عقبة كان زانيا شريب خمر فشرب الخمر بالكوفة و قام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم و قال: أزدكم و تقيأ في المحراب و قرأ بهم في الصلاة و هو رافع صوته:

علق القلب الربابا *** بعد ما شابت و شابا

و هذا ما دفع الحطئية الشاعر المعروف إلى أن يقول:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر

نادى و قد نفذت صلاتهم *** أ أزيدكم ثملا و ما يدري

ليزيدهم خيرا و لو قبلوا *** منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب و لو فعلوا *** لقرنت بين الشفع و الوتر

حبسوا عنانك إذ جريت و لو *** خلوا سبيلك لم تزل تجري

و على أثر هذه الحادثة خرج في أمره إلى عثمان أربعة نفر و لكنه أو عدهم و تهددهم و بعد تدخل الإمام في الأمر استدعي الوليد و أقيمت عليه الشهادة فجلده الإمام بيده، ثم عزله عثمان عن الكوفة و عين مكانه سعيد بن العاص الأموي و في زمانه فاض الكيل و بلغ السيل الزبى و الحزام الطين، في زمانه تحرك المسلمون الغيارى للدفاع عن حرمة دينهم و مكتسباتهم التي جنتها سيوفهم حيث حاول أن يسيطر عليها و كانت البذرة الأولى التي حركت الكوفة بقيادة الأشتر للثورة و التمرد...

كلمة جائرة: (السواد بستان لقريش).

كان يسمر عند سعيد وجوه الناس و أهل القادسية و قرّاء أهل الكوفة فقال سعيد:

إنما هذا السواد بستان لقريش.

فقال الأشتر: أ تزعم أن السواد الذي أفاءه اللّه علينا بأسيافنا بستان لك و لقومك و تكلم القوم كذلك.

فقال عبد الرحمن الأسدي و كان على شرطة سعيد: أتردون على الأمير مقالته ؟ و أغلظ لهم.

فقال الأشتر: من ههنا؟ لا يفوتنكم الرجل! فوثبوا عليه فوطؤوه وطئا شديدا حتى غشي عليه و امتنع سعيد بعدها عن مسامرة الناس و كتب إلى عثمان في إخراجهم من الكوفة.

و قد ذكر ابن الأثير في بدايته حوادث سنة ثلاث و ثلاثين و قال: فيها سير أمير

ص: 82

المؤمنين (عثمان) جماعة من قرّاء أهل الكوفة إلى الشام و كان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد فكتب إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام و كتب عثمان إلى معاوية أمير الشام أنه قد أخرج إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم و أكرمهم و تألفهم فلما قدموا أنزلهم معاوية و أكرمهم و اجتمع بهم و وعظهم و نصحهم فيما يعتمدونه من اتباع الجماعة و ترك الانفراد و الابتعاد فأجابه متكلمهم و المترجم عنهم بكلام فيه بشاعة و شناعة فاحتملهم معاوية لحلمه و أخذ في مدح قريش - و كانوا قد نالوا منها - و أخذ في المدح لرسول اللّه و الثناء عليه و الصلاة و التسليم، و افتخر معاوية بوالده و شرفه في قومه و قال فيما قال: و أظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازما.

فقال له صعصعة بن صوحان، كذبت، قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه اللّه بيده و نفخ فيه من روحه و أمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البر و الفاجر و الأحمق و الكيس ثم بذل لهم النصح مرة أخرى فإذا هم يتمادون في غيهم و يستمرون على جهالتهم و حماقتهم فعند ذلك أخرجهم من بلده و نفاهم عن الشام لئلا يشوشوا عقول الطغام... و كان بينهم كميل بن زياد و الأشتر النخعي و علقمة بن قيس و عمرو بن الحمق الخزاعي و صعصعة بن صوحان...

إن هؤلاء الأبطال و على رأسهم الأشتر بعد أن وقفوا على الممارسات الأموية على أرض الكوفة الإسلامية و رأوا بأم عينهم كيف أن الولاة ينحرفون بالإسلام لمصالحهم الخاصة و ينحرفون عنه دون ورع أو صلاح أرادوا أن يرفعوا ذلك المنكر و يحققوا العدالة بين الناس و لذلك طالبوا بالإصلاح و عزل الفسقة من العمال فما كان من الخليفة إلا أن سيرهم إلى وال أراد أن يثبت كبرياءه و علوه فأخذ في مدح قريش و الأمويين و أبي سفيان فما كان من هذه الجماعة المهجرة إلا أن أطلقت الكلمة الحرة و قالت بصراحة ما هو حق و صدق فردت على معاوية افتخاره و زهوه.

إنها فئة ليست من عامة الناس بل من قرّاء المصر و وجهائه من علمائه و كباره، إنهم أسلموا وجوههم للّه فرفضوا الذل و الهوان و آلوا على أنفسهم إلا أن يجهروا بكلمة الإسلام و رأيه...

و لكن معاوية و هو الخبير بأهل الشام يخاف عليهم من كل تحرك يفتح أمامهم أبواب الحقيقة وضوء الإسلام المنير، لقد ربّاهم معاوية كما أراد فلا يسمح لأحد أن يفسدهم عليه و إن كان الإسلام و الدين...

ص: 83

صلحاء الكوفة في الجزيرة.

فلذا سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و كان واليا على الجزيرة و قد مارس معهم أساليب الشتم و الإهانة و الازدراء و صغرهم كثيرا دون أن يلتفت إلى منزلتهم و مقامهم، لقد سلك مع هؤلاء القوم سلوكا خشنا قاسيا مهينا فكان كلما ركب أمشاهم فإذا مر به صعصعة قال: يا ابن الحطيئة أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر و هكذا بقي مستمرا على ضلاله و ممارسته لمدة شهر حتى أرضوه باللسان و عندها سرح الأشتر إلى عثمان.

و في مدينة النبي (صلی الله علیه و آله) التقى الأشتر بأقطاب المعارضة و على رأسهم طلحة و الزبير و عمرو بن العاص و قد شحنت هذه المعارضة من صحابة النبي سائر المعارضين الغرباء عن المدينة و زودتهم بالمستمسكات و الوثائق و الأحداث التي ارتكبها الخليفة بالذات أو عماله و ولاته الذين يتمثلون بأقربائه، لقد اشعلت المعارضة الداخلية نفوس المعارضة الخارجية و خصوصا أم المؤمنين عائشة صاحبة الكلمة النافذة و سائر المسلمين الصامتين الذين رأوا الانحراف و الجور في الحكم و التصرفات.

و في ذلك الوقت بالذات كان الخليفة قد استدعى عماله من الأمصار و جمعهم للحديث معهم في شكاوى الناس و كيفية علاجها يقول الطبري في تاريخه: فلما اجتمعوا عنده - عند عثمان - قال لهم: إن لكل امرىء وزراء و نصحاء و إنكم وزرائى(1) و نصحائي و أهل ثقتي و قد صنع الناس ما قد رأيتم و طلبوا إلي أن أعزل عمالي و أن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم و أشيروا عليّ .

و أشار الوزراء و النصحاء على الخليفة فمن قائل: الرأي يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك و أن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه و ما هو فيه من دبرة دابته و قمل فروته.

و من ناصح: إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا و لا يجتمع لهم أمر.

و من مشير: إن الناس أهل طمع فاعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.

و هكذا تداول الخليفة مع ولاته المشاكل و الأحداث و شكاوى الناس و قد رأى أن لا يغير شيئا مما هو عليه بل أن يبقي عماله على أعمالهم دون الاستجابة لشيء من

ص: 84


1- الطبري حوادث سنة 74.

مطالب المعارضة بل قرر أن يضربها ضربة تجعلها عديمة التفكير إلا بطلب السلامة و الراحة و لو ساعة واحدة.

ينقل المسعودي في مروجه: عند ما خرج عمرو بن العاص من(1) عند عثمان أتى المسجد فإذا طلحة و الزبير جالسان في ناحية منه فقالا له: إلينا، فصار إليهما، فقالا:

فما وراءك.

قال: الشر... ما ترك شيئا من المنكر إلا أتى به أو أمر به.

و كان عثمان يرسم خطة يجمع فيها بين سائر النصائح التي تفضل بها عليه ولاته فقد قرر أن يرجع عماله إلى أعمالهم و يأمر الناس بالجهاد و يوزع المال و يضرب بيد من حديد لكل معارض و قد عرف بطلنا الأشتر بكل ما ينوي أن يفعله الخليفة و ارتسم في ذهنه مدى الظلم و الجور الذي يحيق بأهل الكوفة إن رجع سعيد بن العاص و اليها إليها، فلذا قرر أن يعود إلى الكوفة و يقود المعارضة التي تحمل السيف و تمنع سعيدا من العودة و هكذا كان، فما أن دخل الكوفة حتى جمع الناس و صعد المنبر و سيفه في عنقه ما وضعه بعد ثم قال:

أما بعد، فإن عاملكم الذي أنكرتم تعديه و سوء سيرته قد رد عليكم و أمر بتجهيزكم في البعوث فبايعوني أن لا يدخلها. فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة و خرج راكبا متخفيا يريد المدينة أو مكة، فلقي سعيدا في الطريق فرده فانصرف سعيد إلى المدينة، و كما يقول المسعودي: فخرج أهل الكوفة عليه - أي على سعيد - بالسلاح و رجع سعيد إلى المدينة ثم ارتحل الأشتر بعد ذلك إليها مع ثلاثة من وجهاء أهل الكوفة على رأس جيش يمثل أكبر الأعداد التي تداعت من البصرة و مصر و غيرها من بلاد الإسلام إلى المدينة كي يعيدوا الحق إلى نصابه... و يرفعوا الجور و الحيف عن المسلمين... فكان الأمر ما كان من قتل الخليفة عثمان و تولية الإمام علي عليه السلام.

و لئن لم يكن للأشتر من يد في قتل عثمان فقد كان له اليد الطولى في بيعة علي و مشاركته الفذة في حربي الجمل و صفين...

الأشتر بين بيعة علي (ع) و معركتي الجمل و صفين.

عند ما أجهز الثوار على الخليفة عثمان و قضوا عليه لم يكن أمامهم و أمام الناس قاطبة إلا شخصية واحدة، إليها تتطلع العيون و ترنو الأفئدة و تخضع الرقاب، إنها

ص: 85


1- مروج الذهب ج 1 ص 437.

الشخصية التي اجتمعت فيها المناقبية الإسلامية و حلمت بحكمها سائر طبقات الأمة إذ على يديها يمكن تحقيق العدالة و المساواة و رفع الظلم و الجور فمن هنا بادر الثوار و سائر الناس و راحوا يهرعون نحو علي بن أبي طالب (ع) ليبايعوه خليفة عليهم.

و قد كان بطلنا الأشتر على رأس المتقدمين نحو الإمام يصفق على يديه و يبايعه على السمع و الطاعة، و لئن نقل و اشتهر أن أول يد بايعت عليا هي يد طلحة الشلاء التي تشاءم منها الناس فإن هناك من ينقل أن(1) يمين الأشتر هي الأولى التي بايعت عليا ثم لحقتها أيدي الناس...

بايع الأشتر عليا و بقي يرقب الجموع و يتفقد من يغيب و يرصد ما قيل أو يقال و بينما هم كذلك إذ يطلع عليهم (ابن عمر) في زمرة من الناس فيقول الإمام لابن عمر:

بايع.

فيقول: لا، حتى يبايع الناس.

يقول الإمام: ائتني بكفيل.

فيقول ابن عمر: لا أرى كفيلا.

و هنا يتدخل الأشتر ليحسم الموقف - لو وافق الإمام - بضرب عنق الرافض لبيعته و لكن الإمام منع الأشتر من ذلك و تخلف العمري عن بيعة علي...

و هكذا تمت البيعة لعلي و اجتمعت الأمة على توليته ثم قام بتوزيع عماله و تعينهم في أماكنهم و كان حظ الأشتر أن يبقى إلى جانب الإمام لا يفارقه فقد استأثر هذا العظيم بكثير من التقدير و الاحترام لما فيه من المميزات و الصفات.

الأشتر و الأشعري المنحرف.

عند ما رفض معاوية بيعة علي و أعلن الثالوث المقدس المكون من طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة العصيان و نكث البيعة و تهيأت العصابة الثالوثية لشن حرب ضد الخليفة كان على الكوفة وال لم يدن بالطاعة للإمام إلا من طرف اللسان و هذا هو الوقت المناسب ليقوم الأشعري بدور رائد في تثبيط الناس عن الخروج مع علي و الدفاع عن وحدة الأمة و ردع الناكثين، إنه يقبع في زوايا المحراب فيختلق للناس حديثا عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول فيه: «إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم و القائم خير من

ص: 86


1- هذا ما أورده الطبري في تاريخه حيث قال: و أهل الكوفة يقولون أن أول من بايعه الأشتر.

الماشي و الماشي خير من الراكب، إنه الأشعري ينصح الناس و يوجههم إلى غمد سيوفهم في قرابها و كف أيديهم عن الضرب على أيدي الناكثين، و يطيعه الكثير من الناس و تقف الكوفة بجماهيرها موقف المتردد تتمنى أن ترى الحقيقة و تبصر النور، إنها ترقب الأفق لعله يحمل إليها من يحل عقدة الأشعري و يخلصها من منطقه السقيم و في تلك الظروف القاسية يدخل رسل الإمام الكوفة و يتجادلون مع الأشعري و لكنهم لم يحلوا عقدته و تعقيداته و يطول المجال و هنا يستدعي الإمام الأشتر و يدفعه ليواجه الأشعري بمنطق الحق و الثقة و لا يدع له فرصة واحدة كي ينفث سمومه بين الناس و قد قام الأشتر بمحاولة رائعة كسب من خلالها الموقف لصالحه و استطاع أن يحطم مقولة الأشعري و يصفعه رائعة كسب من خلالها الموقف لصالحه و استطاع أن يحطم مقولة الأشعري و يصفعه صفعة تجعله عبرة لمن سواه حيث دخل الكوفة و كلما مر بقبيلة فيها جماعة قال لهم:

اتبعوني إلى القصر حتى دخل مع من اجتمع معه من القبائل إلى المسجد فوجد الأشعري يخطب و يثبط الناس و الحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك و تنح عن منبرنا. و عمّار ينازعه و في تلك اللحظات يواجه الأشتر أبا موسى و ما أن تلتقي العيون حتى يصيح الأشتر به: اخرج لا أم لك أخرج اللّه نفسك! إنها كلمة سيتبعها ضربة تطيح برأس الأشعري إن عاند أو رفض أو رد و تحت هول المفاجأة قال الأشعري: أجلني هذه العشية.

فقال: هي لك و لا تبيتن في القصر الليلة و دخل الناس لنهب متاع الأشعري فمنعهم الأشتر قائلا لهم: «أنا أجرته فكفّوا عنه».

هكذا استطاع بطلنا الموهوب أن يأخذ زمام المبادرة و تمكن من السيطرة على الموقف المتداعي الذي خلقه الأشعري... استطاع الأشتر أن يتحرك بسرعة مذهلة و لم يترك لخصمه مجالا ينفث سمومه في محيطه أو يكمل ما ابتدأ به من الشوط التخديري بل بادر بجمع الناس و هو في الطريق و ما أن وصل إلى القصر حتى اقتحمه و سيطر عليه و ها هو الآن يقف على أعواد منبره ليحمد اللّه و يمجده و يصلي على النبي و يقول من جملة كلامه:... و قد جاءكم اللّه بأعظم الناس مكانا و أعظمهم في الإسلام سهما ابن عم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أفقه الناس في الدين و أقرأهم للكتاب و أشجعهم عند اللقاء يوم البأس و قد استنفركم فما تنتظرون ؟ أ سعيد أم الوليد؟ الذي شرب الخمر و صلى بكم على سكر... و استباح ما حرمه اللّه فيكم... ألا فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم...

و ما أن أتم الأشتر خطبته و صدع بما أراد حتى تداعى من الناس اثنا عشر ألف رجل فقد استطاع بمنطقه أن يكشف الحجب التي خلقها الأشعري و ضلل بها العامة... خرج

ص: 87

أهل الكوفة و التقوا مع الإمام في ذي قار فكان فرحه بهم عظيما و فرحهم به أعظم و سارت قوافل الحق و الإيمان بقيادته الحكيمة غايتها إعادة الحق إلى نصابه و إخماد الفتنة في مهدها و لكن العصابة الضالة أبت إلا المناجذة بالسيوف فكانت معركة الجمل التي اشترك فيها الأشتر و كان له الكثير من المواقف المشرفة و الضربات القاصمة فكم على يديه من الرءوس قد هوت و كم من الأبطال قد تجندلت فهذا رجل من بني ضبة يأخذ بزمام الجمل الملعون ثم يطلب البراز فينزل إليه الأشتر و يقضي عليه و هناك فارس اعتد بنفسه و أرعد و أبرق لم يمهله مالك أن طهّر الأرض منه و هكذا دواليك...

يقول ابن الأثير في تاريخه: و أحدق أهل النجدات و الشجاعة بعائشة فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل و كان لا يأخذه أحد و الراية إلا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب: أنا فلان ابن فلان. فو اللّه إن كان ليقاتلون عليه و أنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة و عنت و ما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد و حمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه و جاء عبد اللّه بن الزبير و لم يتكلم.

فقالت عائشة: من أنت ؟.

قال: ابنك ابن أختك.

قالت: و اثكل أسماء.

و انتهى إليه الأشتر فاقتتلا فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا و ضربه عبد اللّه ضربة خفيفة و اعتنق كل رجل منهما صاحبه و سقطا على الأرض يعتركان فقال ابن الزبير و هو تحت مالك(1):

اقتلوني و مالكا و اقتلوا مالكا معي فلو يعلمون من مالك لقتلوه إنما كان يعرف بالأشتر فحمل أصحاب علي و عائشة فخلصوهما.

و قد بقي نزول ابن الزبير و اعتراكه مع مالك صورة حية في ذهن أم المؤمنين عائشة فقد أثر ذلك في نفسها و لا تزال تذكر صورة الثكل لاختها و القتل لابنها يقول الشيخ المفيد في كتابه معركة الجمل: لما سقط الجمل الملعون جاء الأشتر إلى أم المؤمنين و قال لها: الحمد للّه الذي نصر وليه و كبت عدوه، جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا كيف رأيت صنع اللّه بك يا عائشة ؟.1.

ص: 88


1- ابن الأثير ج 3 ص 251.

فقالت: من أنت ثكلتك أمك.

فقال: أنا ابنك الأشتر.

قالت: كذبت لست بأمك.

قال: بلى و إن كرهت.

فقالت: أنت الذي أردت أن تثكل اختي أسماء بابنها.

فقال: المعذرة إلى اللّه و إليك و اللّه لو لا أنني كنت طاويا ثلاثا لأرحتك منه و أنشأ يقول:

أ عائش لو لا أنني كنت طاويا *** ثلاثا لألفيت ابن اختك هالكا

غدات ينادي و الرماح تنوشه *** كوقع الصياحي اقتلوني و مالكا

فنجاه مني شبعه و شبابه *** و أني شيخ لم أكن متماسكا(1)

و قد بقيت ضربة الأشتر تلك في ذهن ابن الزبير حتى بعد أن هدأت المعركة و نجا بنفسه.

يقول زهير بن قيس: دخلت مع ابن الزبير الحمام فإذا في رأسه ضربة لو صب عليه قارورة دهن لاستقر.

فقال لي ابن الزبير: أ تدري من ضربني هذه الضربة ؟.

قلت: لا.

قال: ابن عمك الأشتر النخعي.

فإن قول ابن الزبير: اقتلوني و مالكا و ذكراه للضربة التي نالها رأسه و كذلك محاورة السيدة عائشة له يدلل على مدى الأهمية التي يتمتع بها الأشتر بحيث تمنى ابن الزبير أن يقتل مع مالك لما لموت مالك من أثر مهم في جيش الإمام... و انتهت معركة الجمل لصالح الإمام فانتصر على الفتنة و أخمدها ليستقبل ما هو أكبر منها و أعظم و هي معركة صفين التي كان للأشتر فيها أروع البطولات و النضالات و سجل من خلالها مواقف العز و الشرف و الكرامة.1.

ص: 89


1- شرح ابن أبي الحديد ج 15 ص 101.
لمحات من دور الأشتر في معركة صفين.
اشارة

انتهت معركة الجمل لصالح الإمام علي و تفرقت فلول المنهزمين في البلاد و لئن كانت هذه هي المعركة الأولى فلن تكون الأخيرة بل هي فصل في كتاب و حلقة من سلسلة تمتد لتشمل زمن الخلافة العلوية كلها فإن هناك عدوا للخليفة الشرعي يتربص المواقف و يتحينها و قد أعلن التمرد و العصيان و هذه هي مرتزقته تهدد أطراف البلاد التي أعطت الولاء للإمام و منحته الثقة و الطاعة.

إن في الشام معاوية الذي رفض البيعة للخليفة و تمرد على إجماع الأمة فكان على الإمام أن يرده إلى الطاعة و يردعه عن المخالفة فكانت واقعة صفين الدامية التي ذهبت بأرواح الآلاف من أبناء الإسلام الذين لا ذنب لهم إلا مطامع معاوية في الملك و عداءه المبدئي و الشخصي للخليفة الشرعي...

و نحن هنا لا نريد أن نؤرخ لهذه المعركة كما لا نريد أن نستعرض الأحداث التي جرت خلالها و الأبطال الذين جالدوا فيها و الأحزان و المشاكل التي خلفتها، و إنما نريد أن نقف على سيرة بطلنا الأشتر في أبرز مصاديقها و أظهر معالمها دون استيعاب جميع مواقفه و مشاهده و بطولاته و حركاته لأن ذلك يستدعي منا أن نتابع المعركة من ألفها إلى يائها لأن الأشتر كان بطل صفين دون منازع و ذراع علي أمير المؤمنين غير المدافع و قد رافق المعركة من أولها إلى نهايتها و برز اسمه في جميع المواقف بطلا صلبا و مقاتلا شجاعا و خطيبا بليغا، إننا هنا نريد أن نقف على بعض الصور النموذجية من بطولات الأشتر التي كتبها في صفين و أثبت من خلالها أنه أشجع الناس بعد إمامه علي بن أبي طالب و أشد الناس تمسكا بالمبادىء و المحافظة عليها و القتال من أجلها(1)، و يكفي ما ذكره صاحب الإصابة عند ترجمته لمالك حيث قال: شهد مع علي الجمل ثم صفين و أبدى يومئذ عن شجاعة مفرطة، و هذه بعض الصور المشرقة التي يمكن أن تكون محطات لمسيرته الأشترية في صفين بل أبرز الصور المشرقة و أروعها و هي:

المشهد الأول: احتلال مشرعة الماء.

سبق معاوية إلى مشرعة الماء و قرر أن يمنعه عن علي و جنده وعد ذلك أول الفتح الذي استطاع أن يوفق إليه و دارت مفاوضات متعددة كي يتخلى معاوية عن فكرته و لكنه أصر على البغي و العدوان و تجاوز أبسط الحقوق و أيسرها فما كان من الإمام إلا أن أوعز

ص: 90


1- الإصابة ج 3 ص 482.

إلى الأشعث و الأشتر أن يحسما الأمر و يقطعا النزاع و التفت بطلنا الأشتر إلى الحارث بن همام النخعي فأعطاه لواءه قائلا له: يا حارث لو لا أني أعلم أنك تصبر عند الموت لأخذت لوائي منك و لم أحبك لكرامتي ثم التفت إلى أصحابه قائلا: فدتكم نفسي شدوا شدة المحرج الراجي الفرج فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها و إذا عضتكم السيوف فليعض الرجل نواجذه فإنه أشد لشئون الرأس ثم استقبلوا القوم بها ماتكم ثم اندفع فقتل سبعة أفراد من جيش معاوية و اقتحمت خيله الفرات و طردوا البغاة الظالمين و بتعبير(1) ابن مزاحم: ثم أقبل الأشتر يضرب بسيفه جمهور الناس حتى كشف أهل الشام عن الماء.

المشهد الثاني: الأشتر ليلة الهرير.

أيام صفين كلها وقفات عز و انتصار لصالح الإمام و جيشه و قد توجت تلك الأيام بليلة كانت القمة في الجهاد و الكفاح و كان الأشتر فيها القائد الفذ و المناضل المقدام، إنها ليلة الهرير.

في هذه الليلة زحف الناس من الطرفين المتقاتلين بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل و الحجارة حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت و اندقت ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيف و عمد الحديد فلم يسمع السامع إلا وقع الحديد بعضه على بعض و انكشفت الناس و ثار القتام و ضلّت الألوية و الرايات.

و إن بطلنا الأشتر في هذه الليلة كان يسير فيما بين الميمنة و الميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها و استمر الجلاد و القتال بالسيوف و عمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل و لم يزل الأشتر يفعل ذلك بالناس حتى أصبح و المعركة خلف ظهره و افترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم و تلك الليلة و لكن هذه الليلة وراءها ما بعدها حيث الأشتر قرر إكمال الشوط إلى أن يتحقق الانتصار و تخمد رايات الضلال.

و استمر القتال و الأشتر يقول لأصحابه و هو يزحف بهم نحو أهل الشام: ازحفوا قيد رمحي هذا. فإذا فعلوا قال لهم: ازحفوا قاب قوسي هذا فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى ملّ أكثر الناس الإقدام. و لئن مل الناس كلهم الحرب و الجلاد فإن للأشتر موقفا خلاف ذلك إنه على بصيرة من أمره و إيمان من قضيته العادلة و من آمن بأهمية الهدف هانت عليه مشقات الطريق...

ص: 91


1- وقعة صفين ص 179.

لقد رأى الأشتر ملل الناس فتوجه إليهم قائلا لهم: أعيذكم باللّه أن ترضعوا الغنم سائر اليوم ثم دعا بفرسه و خرج يسير في الكتائب و يقول: ألا من يشري نفسه للّه و يقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق باللّه و لما اجتمع إليه نفر من الناس و استجابوا لندائه قال لهم: شدوا فدى لكم عمي و خالي شدة ترضون بها اللّه و تعزون بها الدين و بعد برهة ترجل و شد مع أصحابه على معسكر أهل الشام يضربهم حتى أزاحهم و لما رأى الإمام تباشير النصر قد لاحت من ناحيته أخذ يمدّه بالرجال و أخذ الأشتر يزحف بالنصر من ناحية إلى ناحية و اقترب الفتح المبين و هو يقول لأصحابه: اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس، إنها ساعات معدودة و يحسم الأمر و يقطع اللّه دابر القاسطين، إنها لحظات قاسية و لكنها تحمل الآمال العظيمة التي تحطم فيها الضلال و النفاق و يظهر فيها الحق و العدل و لكن تلك الآمال قد تحطمت عند ما رفعت مصاحف أهل الشام طالبة تحكيم الكتاب الكريم خداعا و تضليلا.

إن الأشتر قد عرف أن رفع المصاحف خدعة و أن أهل الشام لم يرفعوها إلا بعد أن هزموا و أضحت رقابهم تحت حد السيوف فلذا قال للإمام: يا أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله و لك بحمد اللّه الخلف و لو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك و لا بصرك فاقرع الحديد بالحديد و استعن باللّه الحميد. و لكن الأشعث و جماعة من القراء الذين سموا فيما بعد خوارج هؤلاء قد أصروا على الموادعة و قبول التحكيم و كانت الفاجعة الكبرى التي شطرت جيش الإمام إلى رأيين يمثل أحدهما الإمام علي و الأشتر و من معهما و يمثل الطرف الآخر الأشعث و عامة الناس.

و على هذا الافتراق في الرأي كان الافتراق في العمل، فقد توجه الأشتر و الذين آمنوا برأيه إلى إكمال الحرب حتى النصر و توجه الطرف الآخر في عدده الذي يناهز العشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم و قد اسودت جباههم من السجود ينادون الإمام باسمه لا بأمرة المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب اللّه إذ دعيت إليه و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فو اللّه لنفعلنها إن لم تجبهم ثم قالوا له: ابعث إلى الأشتر ليأتيك و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية ليدخله. و بعث الإمام إلى الأشتر أن يأتيه فما كان من بطلنا و هو على أبواب النصر إلا أن يقول لرسوله: ائته فقل له: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي: إني قد رجوت اللّه أن يفتح لي فلا تعجلني و ما هي إلا لحظات و قبل أن يصل الرسول إلى الإمام علت الأصوات من قبل الأشتر و ظهرت دلائل الفتح و النصر لأهل العراق فاغتاظ أصحاب الأشعث و واجهوا الإمام بقولهم: و اللّه ما نراك إلا أمرته بقتال

ص: 92

القوم ثم قالوا له: ابعث إليه فليأتك و إلا فواللّه اعتزلناك و عندها بعث الإمام رسولا ثانيا إلى الأشتر يقول له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت.

و وصل الرسول إلى الأشتر و أخبره الخبر.

فاضطربت في رأس الأشتر الأفكار و أخذته الدهشة و توجه إلى الرسول قائلا:

ويحك ألا ترى إلى ما يلقون، ألا ترى إلى الذي يصنع اللّه لنا، أ ينبغي أن ندع هذا و ننصرف عنه ؟.

فقال له الرسول: أ تحب أنك ظفرت هاهنا و أن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه و يسلم إلى عدوه ؟.

قال الأشتر: سبحان اللّه لا و اللّه ما أحب ذلك.

قال الرسول: فإنهم قالوا: لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك.

وازن الأشتر بين الربح و الخسارة فرأى أن النصر العسكري الموقت بدون القيادة المسددة لا يفلح في هذه الحرب فتوجه عندها إلى القوم و لما انتهى إليهم صاح بهم صيحة الليث الجريح: «يا أهل الذل و الوهن، أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ و قد و اللّه تركوا ما أمر اللّه به فيها و سنة من أنزلت عليه فلا تجيبوهم. أمهلوني(1) فواقا فإني قد أحسست بالفتح.

قالوا: لا.

قال: فامهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر.

قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.

و عند ما امتنع القوم من إجابته توجه إليهم و كله ألم و مرارة و بيّن لهم سوء رأيهم و لكنهم أجابوه بقولهم: دعنا منك يا أشتر... إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا.

فقال لهم: خدعتم و اللّه و انخدعتم و دعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا و شوق إلى لقاء اللّه، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت... فسبوه و سبهم و ضربوا بسياطهم وجه دابته و ضرب بسوطهة.

ص: 93


1- الفواق بالضم و الفتح ما بين الحلبتين للناقة.

وجوه دوابهم فصاح بهم علي فكفوا، و قال الأشتر لعلي: يا أمير المؤمنين احمل الصف على الصف يصرع القوم.. و لكن صيحات القوم إلى الحكومة كانت أقوى من صيحة الأشتر إذ هم أكثر عددا و أوفر حظا و طالب الأمن و الدعة لا يخلو من ناصر و موافق...

المشهد الثالث: اختيار الأشتر و كتابة الصحيفة.

و هذا الموقف من الأشتر من أعظم مواقفه و أجلها، و من أنبل المواقف و أسدها، إنه موقف تجلى فيه الإنسان الرسالي الذي لم يزده الدهر إذا تنكب أو تعثر إلا شدة و قوة و لم تعطه مواقف الذل و الانهيار من الغير إلا تمسكا بمبادئه و تعصبا لها.

الإمام يختار الأشتر.

اضطر الإمام لقبول التحكيم تحت الضغوط الشديدة التي ألجأه إليها أصحاب الجباه السود و بما أن التحكيم قد فرض عليه فرضا فقد أحب أن يكون من قبله أحب الناس و أخلصهم إليه فلذا اختار ابن عباس و لكنهم رفضوه قائلين: و اللّه ما نبالي أ كنت أنت أو ابن عباس و لا نريد إلا رجلا هو منك و من معاوية سواء و ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر.

فقال علي: فإني أجعل الأشتر.

فقال الأشعث: و هل سعّر الأرض علينا غير الأشتر، و هل نحن إلا في حكم الأشتر.

فقال علي: و ما حكمه ؟.

قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت و ما أراد.

الأشتر و صحيفة التحكيم.

كتبت صحيفة التحكيم الظالمة و أخذ الأشعث و من هم على رأيه يدورون بها على الناس كي يشهدوا عليها و لما دعي لها بطلنا الأشتر. قال رأيه فيها و أبدى بصراحة فائقة وجهة نظره حيث أبى أن يوقع اسمه فيها قائلا: لا صحبتني يميني و لا نفعتني بعدها شمالي إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح و لا موادعة أولست على بيّنة من ربي و يقين من ضلالة عدوي ؟ أولستم قد رأيتم الظفر أن لم تجمعوا على الخور؟.

فقال له رجل من الناس: إنك و اللّه ما رأيت ظفرا و لا خورا هلم فاشهد على نفسك و اقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنك لا رغبة بك عن الناس.

ص: 94

قال: بلى، و اللّه، إن بي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا و في الآخرة للآخرة، و لقد سفك اللّه بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي و لا أحرم دما و كان ذلك الرجل هو الأشعث بن قيس...

ثم قال الأشتر: و لكن رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين و دخلت فيما دخل فيه، و خرجت مما خرج منه فإنه لا يدخل إلا في هدى و صواب.

و على كل حال فإن شجاعة الأشتر لا تحتاج إلى برهان فإن معركتي الجمل و صفين و ما دار فيهما يدللان على أنه أشجع العرب و العجم.

و قد أنصف ابن أبي الحديد حيث قال: للّه أم قامت عن الأشتر لو أن إنسانا(1) يقسم أن اللّه تعالى ما خلق في العرب و لا في العجم أشجع منه إلا استاذه علي بن أبي طالب لما خشيت عليه الإثم...

و للّه در القائل(2) و قد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام و هزم موته أهل العراق...

و صلوات اللّه على أمير المؤمنين علي عليه السّلام حيث يقول في كتاب لأهل مصر: و قد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيام الخوف و لا ينكل عن الأعداء حذر الدوائر من أشد عبيد اللّه بأسا و أكرمهم حسبا(3) أضر على الفجار من حريق النار و أبعد الناس من دنس أو عار و هو مالك بن الحارث الأشتر...

مصر في عهد علي.

لقد كان للثوار المسلمين في مصر دورا فذا رائعا أثبتوا من خلاله الروح الإسلامية الرافضة للجور الآبية للخشوع فقد خرجوا من مصر في عهد عثمان يطلبون الإصلاح ما استطاعوا فلما يئسوا كانت النهاية التي حسمت الداء و استأصلته من جذوره عند ما تم القضاء على الخليفة مصدر تلك الشرور و الآثام و بالقضاء عليه انتهت آخر عماله على مصر لتستقبل ولاة الخليفة الجديد علي أمير المؤمنين...

قيس بن سعد بن عبادة.

هذا أول الأمراء من قبل الخليفة الجديد، إنه من شيعة علي و خلّص أصحابه و من محبيه و مناصحيه و من أشد أعداء معاوية و مبغضيه و سيبقى التاريخ يذكر مواقفه العظيمة

ص: 95


1- شرح ابن أبي الحديد.
2- شرح ابن أبي الحديد.
3- شرح ابن أبي الحديد.

و ينقلها إلى الناس بالإكبار و الإعظام سيبقى عناده في الحق و إصراره على رفض معاوية حتى بعد أن يقضي علي شهيدا و يتنازل الحسن إلى معاوية ستبقى مواقفه منطلقة من مبادئه الرسالية العظيمة بعد أن تولى الإمام الخلافة استدعى قيسا و قال له: سر إلى مصر فقد وليتكها و اخرج إلى ظاهر المدينة و اجمع ثقاتك و من أحببت أن يصحبك حتى تأتي مصر و معك جند فإن ذلك أرعب لعدوك و أعز لوليك فإن أنت قدمتها إن شاء اللّه فأحسن إلى المحسن و اشتد على المريب و ارفق بالعامة و الخاصة فالرفق يمن.

بهذا التكليف و التوجيه كان مرسوم التعيين و لكن قيسا الواثق من نفسه المعتد بها المطمئن إلى صحة مسيره و خطاه أجاب عليا: رحمك اللّه يا أمير المؤمنين قد فهمت ما ذكرت فأما الجند فإني أدعه لك فإذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك و إن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كان لك عدة و لكني أسير إلى مصر بنفسي و أهل بيتي و أما ما أوصيتني به من الرفق و الإحسان فاللّه تعالى هو المستعان على ذلك.

ثم إن قيسا خرج بسبعة أفراد من أهله لا غير و دخل مصر و قرأ على أهلها كتاب أمير المؤمنين و خطب هناك و دعا الناس إلى الألفة و الاجتماع و اتحاد الرأي و لكن العثمانيين و من في قلوبهم مرض اعتزلوه و لم يجتمعوا معه فكانت خطته السكوت عنهم ما سكتوا و جرت أمور و حدثت أحداث و اختلفت الأنباء و تهافتت و تدافعت و تناقضت حتى عزله الإمام و عين مكانه محمد بن أبي بكر.

محمد بن أبي بكر.

محمد بن أبي بكر ربيب الإمام و حبيبه الشهيد الصابر تولى إمارة مصر بعد أن عزل قيس بن سعد عنها و لما دخلها لم يلبث إلا شهرا حتى بعث إلى أولئك المعتزلين الذين لم يجتمعوا مع الناس في جمعة و لا جماعة الذين كان قد و ادعهم قيس فقال: يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا و إما أن تخرجوا من بلادنا فبعثوا إليه إنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس فلا تعجل علينا فأبى عليهم فامتنعوا منه و أخذوا حذرهم ثم كانت وقعة صفين و وقف القتال و الهدنة فقوي أمرهم و اجترءوا على محمد و فسدت مصر عليه.

علي يولي الأشتر.

فسدت مصر على محمد و وصلت أنباء فسادها إلى مسامع الإمام و هزه أن تتحول هذه البلدة إلى عدو له بدل أن تكون معه تحارب عدوه و فكر في رجل يضبط أمورها و يوجه صفوفها و يجمع شمل المختلفين فيها فلم يجد غير أحد رجلين إما قيس الذي

ص: 96

عزله بالأمس أو الأشتر النخعي رفيق مسيرته. أما قيس فقد ولاه الإمام على شرطته فلم يبق أمامه سوى الأشتر فاستدعاه إليه و كان قد أرجعه على عمله في الجزيرة أثناء هدنة التحكيم و كان الإمام في نصيبين فكتب إلى الأشتر من هناك كتابا يقول فيه: أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين و أقمع به نخوة الأثيم و أسد به الثغر المخوف و قد كنت و ليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه الخوارج و هو غلام حدث السن ليس بذي تجربة للحروب فاقدم علي لننظر فيما ينبغي و استخلف على عملك أهل الثقة و النصيحة من أصحابك و السلام.

و هل يقام الدين بغير مالك و أمثاله ممن باعوا نفوسهم للّه و كانوا أوتادا صلبة تأبى المهادنة و رفض الخضوع للطغاة و الظالمين...

قدم مالك على الإمام فاستقبله و حدثه حديث مصر و الفتنة فيها و ما وصلته من أخبارها.

و قال له: ليس لها غيرك فاخرج إليها رحمك اللّه فإني لا أوصيك اكتفاء برأيك و استعن باللّه على ما أهمك و اخلط الشدة باللين و ارفق ما كان الرفق أبلغ و اعتزم الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة...

ليس لها غيرك: بهذا التعبير يميزه الإمام عن سائر أصحابه و يعطيه أولوية التقدم على الجميع.

مصر قد اضطربت و سارت الفتن فيها و تحركت حثالات الأمويين و أصحاب المصالح و المفاسد فيها و لئن لم يختر الرجل الكفوء لهذه المهمة فسوف تخرج عن طاعة الخليفة الشرعي و تعلن التمرد و العصيان، و من هو الرجل الذي يرشحه الإمام لإعادة الحق إلى نصابه ؟ و من هو الذي يتولى الأمر بكل جدارة و إخلاص ؟ ليس لها غيرك يا أشتر... أنت وحدك الذي تستطيع أن تحرز ثقة علي و أنت وحدك الذي تقوم بالمهمة على أكمل وجوهها... فلتكن أنت و الي مصر و حاكمها نيابة عن علي... و لبّى الأشتر نداء أمير المؤمنين و استجاب لصوته و ها و هو يستعد للخروج و لكن معاوية خصم علي و عدو الإسلام لم تنم عيناه عن مصر و إن كان يقبع في الشام...

مصر قد وقع العقد عليها بين معاوية و عمرو بن العاص فهل تبقى بعيدة و هل يبقى معاوية هكذا يحسب لها حسابها في موازين الحرب و لئن دخلها الأشتر فلن يكون على أقل التقادير و أسوأها إلا ضابطا لها حافظا لأهلها جامعا لمتفرقاتها موحدا لصفوف أبنائها و هذا شيء لا يرتضيه معاوية و لا يقبله فكيف إذا تجهزت الجيوش منها و خرجت

ص: 97

لغزو الشام فهل يبقى لمعاوية حيلة أو خلاص فلذا كان يعيش باستمرار مع الخطط التي يرسمها علي لمصر... من يرسل إليها واليا؟ ما ذا يفعل بها؟ ما هي خطوطه التي ينهجها نحوها؟ و لما كان لمعاوية عيونه و جواسيسه في دار الخلافة الإسلامية و بالقرب من أمير المؤمنين فقد حملت إليه أنباء تعيين الأشتر على مصر، حملت إليه هما كبيرا جعلته يفكر طويلا في كيفية الخلاص منه قبل وصوله إلى مقر عمله...

عظم على معاوية كثيرا أن يتولى الأشتر مصرا و ساءه ذلك لما يعلم من مواقف الأشتر و صلابته في الحق، إنه ليس كمحمد بن أبي بكر.

الأشتر رجل شديد المراس في الحرب عنيدا في الحق قويا في ذات اللّه مخلصا لأمير المؤمنين عدوا لمعاوية شديد العداوة.

الشهادة هي السعادة.

وصلت أنباء تعيين الأشتر إلى مسامع معاوية هزه أن يتولى مصر و ليكن ما ذا يفيده الاضطراب و القلق و ما ذا تنفعه الحيرة و التردد فالأمر فوق ذلك و أهم فلذا أخذ يفكر في كيفية الخلاص منه قبل أن يصل إليها... و بعد تفكير طويل اهتدى إلى طريق يحرز فيه أمنيته و يحقق مطامعه...

إنها فكرة من أعظم الفكر و أسلوب من أبدع الأساليب يستطيع من خلاله أن يصطاد عصفورين في حجر واحد يقضي على الأشتر من جهة و يستغل ذلك في تقوية جانبه من جهة أخرى فلذا عمد لتحقيق الجهة الأولى إلى دهقان من أهل الخراج كان يسكن العريش فأرغبه و قال له: اترك خراجك عشرين سنة و احتل للأشتر بالسم في طعامه فلما نزل الأشتر في العريش(1) سأل الدهقان: أي الطعام و الشراب أحب إليه ؟.

قيل له: العسل.

فأهدى له عسلا و قال: إن من أمره كذا و كذا و شأنه كذا و كذا و وصفه للأشتر، و كان الأشتر صائما فتناول منه شربة فما استقرت في جوفه حتى تلف.

و هناك روايات تقول: إن الأشتر كانت شهادته في القلزم و ليس في العريش و أن قاتله غير هذا الدهقان. هذه طريقته في تحقيق الجهة الأولى أما الجهة الثانية فإنه عند ما رسم خطته في القضاء على الأشتر كان يرسم خطة أخرى أمام أهل الشام ليصطاد بها قلوبهم و يعطفها عليه.

ص: 98


1- المسعودي ج 2 ص 409.

و كي يقر في خلدهم أنه من الأولياء الذين يرون بنور اللّه و يبصرون بعينه كان يقول لهم: أيها الناس: إن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا اللّه أن يكفيكموه فكانوا يدعون عليه في دبر كل صلاة...

استشهد البطل العظيم قبل أن يكمل شوطه في نصرة الحق، إنها ضربة عظيمة أصابت قلب الخليفة الشرعي و طعنة نجلاء وجهها الغدر الأموي إلى صدر علي: إنها مصيبة أوجعت قلب علي و أجرت مدامعه... إنها حسرة أكلت كبده و آهة أحرقت جوارحه و تلهف لا ينقطع... الشهيد مالك و المعزى علي و الإصابة أصابت الإسلام...

لقد وصل النبأ إلى أمير المؤمنين فكبر عنده استشهاده قبل أوانه.

و قال: إنا للّه و إنا إليه راجعون و الحمد للّه رب العالمين: اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر.

ثم قال: رحم اللّه مالكا، فلقد وفى بعهده و قضى نحبه و لقي ربه، مع أننا قد وطّنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فإنها من أعظم المصائب.

لقد كانت فاجعة كبرى لم يصب بها الخليفة كشخص فحسب و إنما أصيب بها الإسلام و الحق و لذا رؤي الإمام لمدة من الزمن يتلهف على مالك...

قال ابن أبي الحديد عن جماعة من أشياخ النخع قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف و يتأسف عليه ثم قال: للّه در مالك، و ما مالك لو كان من جبل لكان فندا و لو كان من حجر لكان صلدا، أما و اللّه ليهدن موتك عالما و ليفرحن عالما على مثل مالك فلتبك البواكي! و هل موجود كمالك.

قال علقمة بن قيس: فما زال علي يتلهف و يتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا و عرف ذلك في وجهه أياما. و يكفي الأشتر ثقة و فخرا و علوا أن أمير المؤمنين كان يقول فيه: كان الأشتر لي كما كنت لرسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -.

و كان يقول لأصحابه بعد استشهاد الأشتر: و ليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه إذن لخفّت علي مئونتكم و رجوت أن يستقيم لي بعض أودكم.

و قال ابن أبي الحديد: و للّه در القائل و قد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام و هزم موته أهل العراق. و قال مغيرة الضبي: لم يزل أمر علي

ص: 99

شديدا حتى مات الأشتر، و كان الأشتر بالكوفة أسود من الأحنف بالبصرة.

هكذا هزت الفاجعة قلب الإمام و بقدر هذه الهزة الحزينة كان طرب معاوية و فرحه عند ما وصله نبأ استشهاد الأشتر. فقد قام خطيبا في أهل الشام و قال: أما بعد فإنه كان لعلي بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفين و هو عمار بن ياسر و قد قطعت الأخرى اليوم و هو مالك الأشتر و قال: إن للّه جندا من العسل.

السم وسيلة الجبناء.

لقد كان لمعاوية هواية شديدة وحب متأصل في استعمال السم للقضاء على الشرفاء و الوجهاء من خصومه بل أنصاره إن كانوا يشكلون خطرا على أمانيه و أحلامه فقد استعمل الطاغية السم و سماه جندا يقتل به من يشاء ممن أعيته مواجهته خوفا منه أو من ردة الفعل عليه.

سمه لابن رسول اللّه.

فهذا السبط المجتبى ابن رسول اللّه بعد أن يعقد الصلح معه و يشترط عليه شروطا لصالح الإسلام و المسلمين يرى معاوية أن لا يفي بها و يرى أن وجوده ثقيلا في دفعها فيعمد إلى سمه بتوسط زوجته جعدة بنت الأشعث فقد ذكر المسعودي: إن امرأته - امرأة الحسن - جعدة بنت أشعث بن قيس الكندي سقته السم و قد كان معاوية دس إليها إنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم و زوجتك يزيد فكان ذلك الذي بعثها على سمه فلما مات الحسن و فى لها معاوية بالمال و أرسل إليها: إنا نحب حياة يزيد و لو لا ذلك لو فينا لك بتزويجه.

و قد ذكرت كل التواريخ حدث السم هذا كما ذكرت قول الحسن عند موته لقد عملت شربته و بلغت أمنيته و اللّه لا يفي بما وعد و لا يصدق فيما يقول...

سمه لعبد الرحمن بن خالد.

عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان من أنصار معاوية و ولاته و قد اشتد أمر هذا الرجل عند أهل الشام و قوي حتى أضحى عندهم و لا يعدلون به أحدا بعد معاوية و عند ما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد خطب في دمشق و قال: يا أهل الشام إنه كبرت سني و قرب أجلي و قد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم و إنما أنا رجل منكم فروا رأيكم.

فأصفقوا و اجتمعوا و قالوا: رضينا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فشق ذلك على معاوية و أسرها في نفسه. ثم إن عبد الرحمن مرض فأمر معاوية طبيبا عنده يهوديا يقال له

ص: 100

ابن أثال. و كان عنده مكينا، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا فقتل اليهودي فأخذه معاوية و قال له: لا جزاك اللّه من زائر خيرا قتلت طبيبي.

قال: قتلت المأمور و بقي الآمر.

و هكذا قتل معاوية سعد بن أبي وقاص و غيره ممن لا يستطيع مواجهته و يريد التخلص منه.

شهادة النبي (صلی الله علیه و آله) بإيمان الأشتر.

ذكر ابن أبي الحديد في نهجه: و قد روى المحدثون حديثا يدل على(1) فضيلة عظيمة للأشتر رحمه اللّه و هي شهادة قاطعة من النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه مؤمن، روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في حرف الجيم في باب جندب قال أبو عمر: لما حضرت أبا ذر الوفاة و هو بالربذة بكت زوجته أم ذر فقال لها: ما يبكيك ؟.

فقالت: ما لي لا أبكي و أنت تموت بفلاة من الأرض و ليس عندي ثوب يسعك كفنا و لا بد لي من القيام بجهازك!.

فقال: أبشري و لا تبكي فإني سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول: لا يموت بين امرأيين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيتصبران و يحتسبان فيريان النار أبدا و قد مات لنا ثلاثة من الولد و سمعت أيضا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول لنفر أنا فيهم: «ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين» و ليس من أولئك النفر أحد إلا و قد مات في قرية و جماعة فأنا - لا شك - ذلك الرجل و اللّه ما كذبت و لا كذبت فانظري الطريق.

فقالت أم ذر: فقلت: أنّى و قد ذهب الحاج و تقطعت الطرق!.

فقال: اذهبي فتبصري.

قالت: كنت أشتد إلى الكثيب فأصعد فأنظر ثم رجع إليه فأمرضه فبينا أنا و هو على هذه الحال إذا أنا برجال على ركابهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي و قالوا: يا أمة اللّه ما لك ؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه ؟ قالوا:

و من هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ؟ قلت: نعم ففدوه بآبائهم و أمهاتهم و أسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم: «أبشروا فإني سمعت

ص: 101


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 15 ص 99.

رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول لنفر أنا فيهم: «ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» و ليس من أولئك النفر إلا و قد هلك في قرية و جماعة و اللّه ما كذبت و لا كذبت و لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لا مرأتي لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها و أني أنشدكم اللّه ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا! قالت: و ليس في أولئك النفر أحد إلا و قد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار قال له: أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا و في ثوبين معي في عيبتي من غزل أمي فقال أبو ذر: أنت تكفنني فمات فكفنه الأنصاري و غسله النفر الذين حضروه و قاموا عليه و دفنوه في نفر كلهم يمان.

روى أبو عمر بن عبد البر قبل أن(1) يروي هذا الحديث في أول باب جندب: كان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة فصادفه جماعة منهم حجر بن الأدبر (بن عدي الكندي) و مالك بن الحارث الأشتر.

ثناء الإمام على الأشتر:

1 - من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر...

من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للّه حين عصي في أرضه و ذهب بحقه، فضرب الجور سرادقه على البر و الفاجر و المقيم و الظاعن فلا معروف يستراح إليه و لا منكر يتناهى عنه.

أما بعد: فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيام الخوف و لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار و هو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظّبة و لا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم و لا يحجم و لا يؤخر و لا يقدم إلا عن أمري، و قد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم و شدة شكيمته على عدوكم».

هذا الكتاب من أروع كتب الإمام و أحسنها في إعطاء الثقة للأشتر إنه كتاب أمير المؤمنين الذي لا يحب المزايدين أو المادحين دون استحقاق، و قد تلألأت صفات الأشتر و لمعت لكل العيون و أبانت الأشتر و أظهرت مكانته الصحيحة التي لم يتسام إليها إنسان آخر غيره.

ص: 102


1- ابن أبي الحديد ج 15 ص 99.

فانظر إلى كل كلمة و فكر فيها فإن عليا رجل الدقة و الحساب يعطي كل إنسان مقدار استحقاقه دون زيادة أو نقيصة لا يأخذه هوى و لا تجرفه عاطفة و لا يؤثر عليه بغض، إن عليا في كتابه هذا يكشف عن صفات يتمتع بها الأشتر قل أن توجد عند غيره و إن وجد بعضها فلن تجتمع كلها في شخص. فأولها أنه عبد اللّه و ليس عبدا لهواه و هذه أروع صفات المؤمنين بل المرسلين فإن العبودية للّه تمثّل منتهى الاتصال به و الإخلاص له ثم وصفه بقوله: لا ينام أيام الخوف و لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع أشد على الفجار من حريق النار... إنها صورة الإنسان المسلم الذي يدرك ثأره و يشفي نفسه و يحقق أمنيته و كيف ينام و كيف لا يكون شديدا، و الأمر أمر رسالة و دين، و أمر مبدأ و عقيدة، و الحرب مقدسة و القتل شهادة...

ثم قال: فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحق... فإن الأشتر لن ينطق إلا عن الحق و لا يدافع إلا عن الحق و لكنه احتراز من الإمام عن أخطاء قد تقع عن غير عمد...

ثم قال: فإنه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظّبة و لا نابي الضريبة.

قال ابن أبي الحديد عند ذكر هذه الفقرة: فإنه سيف من سيوف اللّه، هذا لقب خالد بن الوليد و اختلف فيمن لقبه به فقيل لقبه به رسول اللّه و الصحيح أنه لقبه به أبو بكر لقتاله أهل الردة و قتله مسيلمة...

و أقول: متى كان خالد سيف اللّه هل في زمن الجاهلية قبل أن يسلم و هل سيف اللّه يجوز عليه الكفر و الشرك و المعاصي و قد كان خالد من أشد الناس على المسلمين و هل غابت معركة أحد و من الذي كان على قيادة خيل المشركين، أليس هو خالد الذي أعاد لهم ثقتهم بوجودهم بعد أن انهزموا؟ أليس هو الذي انتصر به المشركون و قتل حمزة و المسلمون فيها؟.

أم في الإسلام و قد ولاه النبي على جماعة و أمره أن يدعو قوما إلى الإسلام فسار حتى وصل إلى بني جذيمة(1) و كان له عليهم ثأر فاستغنم الفرصة و قتلهم و عند ما وصل النبأ إلى النبي رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثم أرسل عليا إلى من بقي من القوم فودى لهم الدماء و ما أصيب لهم من الأموال... ثم هل يغفل فعله بمالك بن نويرة المسلم العابد الذي قتله وزنى بزوجته فأمر عمر برجمه فدافع عنه أبو بكر...3.

ص: 103


1- الاستيعاب ج 1 ص 153.

ما هذا السيف الإلهي الظالم المخطئ حاشا و كلا نحن لا نعترف بالتسمية المزورة و إنما الذي يسمى بسيف اللّه هو الأشتر الذي يستحق ذلك على لسان علي بن أبي طالب... ثم انظر إلى هذه الفقرة الأخيرة و حقق فيها لترى الثقة بأعلى درجاتها حيث يقول: فإن أمركم أن تنفروا فانفروا و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم و لا يحجم و لا يؤخر و لا يقدم إلا عن أمري و قد آثرتكم به علي نفسي لنصيحته لكم و شدة شكيمته على عدوكم... هكذا يعطي القائد العظيم هذا الوالي المخلص و ساما من أرفع الأوسمة و أعظمها حيث جعل إقدامه كإقدامه و إحجامه كإحجامه... و أي إيثار يؤثرهم به على نفسه تفكر في هذا الإيثار لترى عظمة الأشتر و علوّ كعبه.

2 - من كتاب لعلي عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر لما بلغه توجده من عزله عن مصر ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها.

«أما بعد: فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك و أني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهد و لا ازديادا لك في الجد و لو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك مئونة و أعجب إليك ولاية.

إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا و على عدونا شديدا ناقما فرحمه اللّه! فلقد استكمل أيامه و لاقى حمامه و نحن عنه راضون أولاه اللّه رضوانه و ضاعف الثواب له».

قال ابن أبي الحديد عند ذكر دعاء علي للأشتر في هذا المقام...

و لست أشك(1) بأن الأشتر بهذه الدعوة يغفر اللّه له و يكفر ذنوبه و يدخله الجنة و لا فرق عندي بينها و بين دعوة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و يا طوبى لمن حصل له من علي عليه السلام بعض هذا.

3 - و من كتاب له عليه السلام إلى أميرين من أمراء جيشه:

«و قد أمّرت عليكما و على من في حيزكما(2) مالك بن الحارث الأشتر فاسمعا له و أطيعا و اجعلاه درعا و مجنا، فإنه ممن لا يخاف وهنه و لا سقطته و لا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل.8.

ص: 104


1- ابن أبي الحديد ج 16 ص 144.
2- - ابن أبي الحديد ج 15 ص 98.
الأشتر شاعرا.

إلى جانب الشجاعة الخارقة التي تمتع بها بطلنا الأشتر فإنه تمتع بمواهب أخرى خلقت منه عظيما يضاهي العظماء في تلك الجوانب، و لعل الشعر الذي صاغه و إن كان وليد المعارك فإنه يدلل على الملكة الشعرية التي كانت لديه و أنه قادر على أن يفجر العبقرية الشعرية أكثر مما كانت و لكن الظروف و الأحوال لم تكن ملائمة لمباراة الشعراء و إنما كانت المباراة بالسيوف و الرماح هي المسيطرة و لها الحكم و فصل الخطاب و نحن هنا نسرد بعض متفرقات الشعر الذي كان يبتدعه الأشتر لمناسبة الرد على من تحداه أو لإثارة الحمية في صفوف جنده أو لذكر منقبة تمتع بها هو أو أحد خواصّه و هذه بعضها.

برز عمرو بن العاص أمام علي و لما كاد السيف أن يأخذ منه مأخذه هوى إلى الأرض و كشف عورته فتنزه الإمام عن قبحه و انصرف و كذلك قلّد عمرا بسر بن أرطأة فقال الأشتر في ذلك(1):

أكل يوم رجل شيخ شاغرة *** و عورة وسط العجاج ظاهرة

تبرزها طعنة كف واترة *** عمرو و بسر رميا بالفاقرة

و قال الأشتر حينما قال إني مناجز القوم إذا أصبحت):

قد دنا الفصل في الصباح و للسلم *** رجال و للحروب رجال

فرجال الحروب كل خدب *** مقحم لا تهده الأهوال

يضرب الفارس المدجج بالسيف *** إذا فل في الوغى الأكفال

يا ابن هند شد الحيازيم للموت *** و لا يذهبن بك الآمال

إن في الصبح إن بقيت لأمرا *** تتفادى من هو له الأبطال

فيه عز العراق أو ظفر الشام *** بأهل العراق و الزلزال

فاصبروا للطعان بالأسل السمر *** و ضرب تجري به الأمثال

إن تكونوا قتلتم النفر البيض *** و غالت أولئك الآجال

فلنا قتلهم و إن عظم الخطب *** قليل أمثالهم أبدال

يخطبون الوشيج طعنا إذا *** جرت من الموت بينهم أذيال

طلب الفوز في المعاد و في ذا *** تستهان النفوس و الأموال

و قال مهددا معاوية(2):

ص: 105


1- وقعة صفين.
2- وقعة صفين ص 470.

بقيت و فري و انحرفت عن العلا *** و لقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشن على ابن هند غارة *** لم تخل يوما من ذهاب نفوس

قال صاحب الإصابة بعد أن نقل هذين البيتين ما نصه:

قال بعض المتأخرين من أهل الأدب لو قال: إن لم أشن على ابن حرب(1) غارة كان أنسب. قلت: (صاحب الإصابة) كلا بل بينهما فرق كبير نعم هو أنسب من جهة مراعاة النظير و بطرائق المتأخرين و أما فحول الشعراء فإنهم لا يعتنون بذلك بل نسبة خصمه إلى أمه أبلغ في نكايته.

و هكذا سجل شاعرية الأشتر كل من درس حياته و أراد أن يترجم مواقفه و بطولاته.

فقال عنه ابن أبي الحديد: كان شديد البأس(2) جوادا رئيسا حليما فصيحا شاعرا و كان يجمع بين اللين و العنف فيسطو في موضع السطو و يرفق في موضع الرفق.2.

ص: 106


1- الإصابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 482.
2- ابن أبي الحديد ج 15 ص 102.

54 - و من كتاب له عليه السّلام

اشارة

إلى طلحة و الزبير (مع عمران بن الحصين الخزاعي) ذكره أبو جعفر الإسكافي في كتاب «المقامات» في مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام.

أمّا بعد، فقد علمتما، و إن كتمتما (1)، أنّي لم أرد (2) النّاس حتّى أرادوني، و لم أبايعهم حتّى بايعوني. و إنّكما ممّن أرادني و بايعني و إنّ العامّة (3) لم تبايعني لسلطان غالب (4)، و لا لعرض (5) حاضر، فإن كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا و توبا إلى اللّه من قريب، و إن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السَّبيل (6) بإظهاركما الطّاعة، و إسراركما المعصية. و لعمري ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالتّقيّة و الكتمان، و إنّ دفعكما (7) هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه، كان أوسع عليكما من خروجكما منه، بعد إقراركما به.

و قد زعمتما أنّي قتلت عثمان، فبيني و بينكما من تخلّف (8) عنّي و عنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امرىء بقدر ما احتمل. فأرجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما، فإنّ الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يتجمّع العار (9) و النّار، و السّلام.

اللغة

1 - كتم الشيء: أخفاه و لم يظهره.

2 - لم أرد: لم أطلب.

ص: 107

3 - العامة: خلاف الخاصة، الناس بشكل عام.

4 - سلطان غالب: قوة قاهرة.

5 - العرض: بالتحريك هو المتاع و ما سوى النقدين من المال.

6 - جعل له السبيل: جعل له الحجة.

7 - دفع الأمر الفلاني: ردّه و أبطله.

8 - تخلف عن الشيء: تأخر عنه.

9 - العار: العيب، كل ما يعيّر به الإنسان من قول أو فعل.

الشرح

(أما بعد فقد علمتما و إن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني و لم أبايعهم حتى بايعوني و أنكما ممن أرادني و بايعني). هذا الكتاب بعث به الإمام إلى طلحة و الزبير يحتج به عليهما نكثهما للبيعة و مخالفتهما له و ينصحهما بالعودة إلى الطاعة و التوبة فإن ذلك و إن كان عارا فإنه أولى من العار و دخول النار معا...

يخبرهما الإمام إنه لم يطلب من الناس البيعة بل كما وردت به الروايات أنه اعتزل بعد قتل عثمان و كف يده عند ما طلب الناس منه أن يبايعوه حتى ازدحموا عليه و أصروا على استخلافه و قد قال صلوات اللّه عليه: «فأقبلتم إلى إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون: البيعة البيعة قبضت كفي فبسطتموها و نازعتكم يدي فجاذبتموها».

و عند ما أصر الناس على بيعته و طلبوا منه أن يتولى الأمر أذعن و استجاب و قد بايعوه و كان ممن بايعه طلحة و الزبير و التاريخ يشهد بهذا كما و أطبقت كلمة المؤرخين على أن طلحة و الزبير يعلمان ذلك كله و إن كانا يخفيانه و لا يظهر انه للناس...

(و أن العامة لم تبايعني سلطان غالب و لا لعرض حاضر). برهن على صحة خلافته و أن عقد الخلافة له صحيح سليم و أن هذا الأمر يكون حجة عليهما و هو أن الناس و عامة المسلمين قد بايعتني و لم تكن بيعتها لي بالقهر و القوة و الغلبة و يجمعها الترهيب كما لم تكن بيعتها للمغانم و المناصب و الرشوة و غيرها و يجمعها الترغيب فإذا كانت بيعة الناس لي عن طواعية و اختيار و لم تكن عن قهر و اضطرار فهي بيعة صحيحة شرعية تلزم جميع الناس.

(فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا و توبا إلى اللّه من قريب و إن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة و إسراركما المعصية و لعمري ما

ص: 108

كنتما بأحق المهاجرين بالتقية و الكتمان و إن دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به). هذا احتجاج على طلحة و الزبير و إلزام لهما لا يمكنهما الخروج عنه. حجة دامغة محكمة يقول لهما لا يخلو أمركما إما أن تكونا قد بايعتما طائعين أو مكرهين.

إن بايعتما طائعين و عن اختيار فما على من فعل ذلك ثم تمرد و عصى ما عليه إلا أن يتوب إلى اللّه عن هذه المعصية و يرجع إلى اللّه قبل أن يزداد إثما و معصية...

و إن كانا قد بايعا مكرهين فهنا الإمام يقول: فقد جعلتما لي عليكما الحجة القاطعة و السبيل الواضح أمام الناس و أمام اللّه لأنكما أصبحتما منافقين مخادعين تظهران الطاعة من حيث تبايعا ظاهرا و تسران المعصية و التمرد و الغدر باطنا.

ثم أراد الاحتجاج عليهما أيضا بحجة أخرى و هو أنه إن قلتما إنما خوفا على أنفسنا بايعنا فقال لهما: إن هذا ليس بصحيح لأن المسلمين المهاجرين كانوا أحق بالتقية و حفظ أنفسهم لأنهم لم يكن لهم أتباع و حاشية و جماعة تمشي خلفهم و مع ذلك بايعوا و كانوا أحق بالتقية و لم يدّعها أحد فدعوتكما لها مع ما معكما غير صحيح...

ثم احتج عليهما بغباء الطريقة التي اختاراها فإنه عليه السلام يقول لهما: إن عدم بيعتكما لي من أول الأمر و عدم الدخول فيها من رأس أيسر و أسهل عليكما من هذا الخروج فكان ينبغي عليكما أن لا تدخلا ثم تحاولا الخروج لأن الخروج بعد الدخول صعب لا يقبل و ليس له مبرر شرعي و لا عرفي...

(و قد زعمتما أني قتلت عثمان فبيني و بينكما من تخلف عني و عنكما من أهل المدينة ثم يلزم كل امرىء بقدر ما احتمل). بعد أن أبطل دعوتهما التي تقول إنهما بايعا مكرهين أراد أن يبطل دعواهما بأنه هو الذي قتل عثمان و قد أحال الأمر إلى من تخلف في المدينة ممن لم يخرج معه و لا معهما فإن هؤلاء المتخلفون في المدينة يعرفون القاتل و يحكمون علي و عليكما و يجب أن يحمل كل منا ما يلزمه من هذا الأمر.

و قد كان الإمام أبرأ الناس من دم عثمان لم يباشر و لم يحرض و قد كان طلحة من أشد الناس على عثمان و يساعده الزبير على هذا الأمر...

(فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يتجمع العار و النار و السلام). نصيحة من قلب الإمام لهما بالرجوع عن رأيهما في نكث البيعة و إعلان الحرب عليه فإن أعظم ما يتصوره الناس أن هذا من العار لأنهما أقدما على أمر لا

ص: 109

يجوز و في الرجوع أمر تأنف منه النفس و قد يعيّر به المرء و لكنه أفضل من الإصرار على المعصية و ارتكاب الذنب... أفضل من إكمال الشوط الضال الذي لا يجوز فالاستمرار على التمرد معصية و عار فإذا أكملا المعصية فإنهما يجمعان العار في الدنيا و النار في الآخرة و كأنه عليه السلام يعلم مصيرهما المشئوم و نهايتهما التعيسة و قد اجتمع لهما العار و النار... أما الزبير فقد رجع بعد اشتداد الحرب فقتله ابن جرموز بوادي السباع غيلة فبعد أن سعّر الحرب فرّ من لظاها فتحمّل وزرها و تبعاتها في الآخرة و فرّ فرار الذل و العار في الدنيا.

و أما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم غيلة بسهم فقتله فكان يقول ما رأيت شيخا أضيع دما مني فتأسف و حزن و كسب عارا لا يمحى هذا عار الدنيا.

أما نار الآخرة فلتمردهما و معصيتهما و فكهما لعرى الوحدة و نزاعهما صاحب الحق في حقه حتى جرّأ كل منهما معاوية أن ينزع يد الطاعة و يفارق الجماعة و يعلن المعصية و العدوان...

ص: 110

55 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه قد جعل الدّنيا لما بعدها، و ابتلى (1) فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملا، و لسنا للدّنيا خلقنا، و لا بالسّعي (2) فيها أمرنا، و إنّما وضعنا فيها لنبتلى بها، و قد ابتلاني اللّه بك و ابتلاك بي: فجعل أحدنا حجّة (3) على الآخر، فعدوت (4) على الدّنيا بتأويل (5) القرآن، فطلبتني بما لم تجن (6) يدي و لا لساني، و عصبته أنت و أهل الشّام بي، و ألّب (7) عالمكم جاهلكم، و قائمكم قاعدكم، فاتّق اللّه في نفسك، و نازع (8) الشّيطان قيادك (9)، و اصرف (10) إلى الآخرة وجهك، فهي طريقنا و طريقك.

و احذر (11) أن يصيبك اللّه منه بعاجل قارعة (12) تمسّ الأصل (13)، و تقطع الدّابر (14)، فإنّي أولي لك باللّه أليّة (15) غير فاجرة، لئن جمعتني و إيّاك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك (16) «حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ بَيْنَنٰا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ » .

اللغة

1 - ابتلى: اختبر.

2 - السعي: العمل.

3 - الحجة: البرهان، ما يحتج به.

4 - عدوت: و ثبت.

5 - التأويل: حمل الكلام على خلاف ظاهره.

6 - تجني: تعمل وجنى الثمرة قطفها.

7 - ألّب: حرّض.

ص: 111

8 - نازع: جاذب.

9 - القياد: بكسر القاف الزمام.

10 - اصرف وجهك: حوّله.

11 - احذر: خف.

12 - القارعة: الداهية، المصيبة.

13 - تمس الأصل: تصيبه فتقتلعه.

14 - الدابر: المتأخر.

15 - ألية: يمين، حلف و قسم.

16 - الباحة: ساحة الدار و وسطها.

الشرح

(أما بعد فإن اللّه سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها و ابتلى فيها أهلها ليعلم أيهم أحسن عملا). في هذا الكتاب موعظة لمعاوية و تحذير لما سيلاقيه و قد ابتدأ بذكر الدنيا و ذكّره أنها لم تكن لنفسها مطلوبة و إنما لما بعدها من الآخرة و قد جعلها اللّه محل الاختبار و الامتحان للناس كي يميّز من هو أحسن عملا ممن هو ليس كذلك كما قال تعالى: «تَبٰارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (1).

(و لسنا للدنيا خلقنا و لا بالسعي فيها أمرنا و إنما وضعنا فيها لنبتلى بها و قد ابتلاني اللّه بك و ابتلاك بي: فجعل أحدنا حجة على الآخر). لم يخلق الإنسان من أجل الدنيا لأنها لا تدوم و لا تبقى و لم يؤمر بالسعي لها و من أجلها و إنما خلق للآخرة التي هي الحياة الباقية التي لا تزول و أمرنا بالعمل لأجلها و لأجل ما فيها و اللّه سبحانه خلق الإنسان في الدنيا ليختبره بها و يمتحنه بما فيها ليرى المطيع من العاصي و الشقي من التقي.

ثم ذكر عليه السلام أن من جملة الامتحانات التي كان فيها الاختبار ابتلاؤه عليه السلام بمعاوية و ابتلاء معاوية به.

أما ابتلاء الإمام بمعاوية فقد أراد اللّه أن يمتحن الإمام بقتال معاوية حتى يعود إلى الطاعة و يرجع إلى الجماعة.

ص: 112


1- الملك.

و أما ابتلاء معاوية بالإمام من حيث إن اللّه أمره أن يطيع أولي الأمر و من جملتهم الإمام نفسه و أن لا يشق عصا المسلمين و يفرّق وحدتهم...

و من هنا جعل اللّه كل واحد منا إذا أطاع اللّه حجة على الآخر.

(فعدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن فطلبتني بما لم تجن يدي و لا لساني و عصبته أنت و أهل الشام بي و ألّب عالمكم جاهلكم و قائمكم قاعدكم). أراد معاوية الدنيا فأعرض عن الآخرة... أراد الدنيا بكل وسيلة و استخدم حتى كتاب اللّه حيلة منه يريد أن يصطاد الدنيا و يتغلب على صاحب الحق فقد رفعه في صفين عند ما أوشك على الهزيمة و أوّله بما يناسب ذوقه و يخدم غرضه و مصلحته الخاصة و أشار الإمام هنا إلى ما كان يؤول به معاوية كتاب اللّه و يموه به على أهل الشام فيقول لهم: إنه ولي دم عثمان و يستشهد بقوله تعالى: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً» مع أن معاوية ليس ولي دم عثمان و لا علاقة له به و إنما كان يستخدم القرآن من أجل مصلحته و قد حمّل الإمام هذا الدم مع أن الإمام لم يقتل عثمان و لم يشترك في قتله بل لم يحرض عليه أحدا حتى بالكلمة و إنما كان ينصحه و يشفق عليه...

ثم يذكر الإمام لمعاوية أنه و أهل الشام قد عصوا اللّه بالإمام حيث تمردوا على طاعته و خرجوا عن أمره و قاتلوه و اللّه أمرهم بخلاف ذلك...

هذا إذا كانت (عصيت) بالياء و أما إذا كانت بالباء الموحدة فيكون المعنى: أي أنت و أهل الشام ألزمتموني دمه كما تلزم العصابة للرأس.

ثم ذكر اجتماع أهل الشام على قتاله و اتفاقهم على إعلان الحرب عليه و قد عبّر عن ذلك بأن العالم بالحقيقة حرّض الجاهل و المقاتل حرض القاعد و دفعه إلى خوض الحرب فقد أجمعوا على قتاله و اتفقوا على حربه...

(فاتق اللّه في نفسك و نازع الشيطان قيادك و اصرف إلى الآخرة وجهك فهي طريقنا و طريقك). أمره عليه السلام بعدة أوامر:

1 - اتق اللّه في نفسك: أرحمها من عذاب اللّه و لا تخالف اللّه أو تعصيه فيمسك منه عذاب أليم.

2 - نازع الشيطان قيادك: لا تستسلم إلى ما يريد الشيطان منك و لا تكن مطيعا له في شهواتك و رغباتك بل صدّه عما يريد و ادفعه عنك و لا تدعه ينتصر عليك...

3 - و اصرف إلى الآخرة وجهك فهي طريقنا و طريقك: اجعل عملك و شغلك و كل

ص: 113

حركة تتحركها اجعل ذلك نحو الآخرة فإنها النهاية التي لا بد نحن و أنت و كل الناس أن نصل إليها.

(و احذر أن يصيبك اللّه منه بعاجل قارعة تمس الأصل و تقطع الدابر). خوّفه بأن يعجّل له اللّه مصيبة أو واقعة تأخذه و تقضي عليه و تقضي كذلك على أعقابه و خلفه فلا تترك له أثرا و لا تبقي له خبرا و قد تحقق ذلك فلم يبق من الأمويين مخبر و من بقي يخجل أن يتظاهر أو يتجاهر بنسبه إليهم فسبحان اللّه الذي أنطق عليا بما هو كائن و أخبره بما لم يكن...

(فإني أولي لك باللّه أليّة غير فاجرة لئن جمعتني و إياك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك «حتى يحكم اللّه بيننا و هو خير الحاكمين»). أقسم الإمام باللّه قسما صادقا لا حنث فيه أنه إذا جمعته الأقدار بمعاوية و التقى معه في ساحات القتال فلن يتركه يهرب أو يفر و لن يتراجع عن حربه حتى يحكم اللّه و هو خير الحاكمين و هذا تهديد شديد و وعيد أكيد بالحرب و القتال...

ص: 114

56 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

وصى بها شريح بن هانىء، لما جعله على مقدمته إلى الشام اتّق اللّه في كلّ صباح و مساء، و خف على نفسك الدّنيا الغرور (1)، و لا تأمنها على حال، و اعلم أنّك إن لم تردع (2) نفسك عن كثير ممّا تحبّ ، مخافة مكروه، سمت (3) بك الأهواء (4) إلى كثير من الضّرر. فكن لنفسك مانعا رادعا، و لنزوتك (5) عند الحفيظة (6) واقما (7) قامعا (8).

اللغة

1 - الغرور: بفتح الغين ما يسبب الانخداع و بالضم الأباطيل.

2 - تردع: تمنع و تكف.

3 - سمت: ارتفعت.

4 - الأهواء: جمع هوى و هو ما تهواه النفس و ترغب فيه.

5 - النزوات: جمع نزوة و هي الوثبة.

6 - الحفيظة: الغضب.

7 - الواقم: من وقمته أي رددته أقبح الرد و قهرته.

8 - قمعه: رده و قهره.

الشرح

(اتق اللّه في كل صباح و مساء و خف على نفسك الدنيا الغرور و لا تأمنها على حال) هذه الوصية وصى بها الإمام أحد أصحابه المخلصين و هذا دأبه دائما مذكرا باللّه واعظا مرشدا يريد من أصحابه أن يكونوا مع اللّه و في خطه و ليس مع النفس و هواها...

ابتدأ عليه السلام بوصيته بالتقوى و الحذر من اللّه و أن يخافه و يعدّ العدّة ليوم

ص: 115

الحساب اتق اللّه في كل صباح و مساء كناية عن كل الأوقات و الأزمنة و أن عليه أن يخاف اللّه في جميع أوقاته...

احذر الدنيا التي تغر... احذرها على نفسك فإنها قد تحرف الإنسان عن اللّه و تدخله في مداخل الباطل و تتزين له فيسرع إليها.

و لا تأمنها على حال فلا تقل إنني من هذه الجهة في مأمن و نفسي لا تطالبني بها... كن حذرا من جميع الجهات فمتى أمنت من جهة فقد تأتيك الدنيا منها...

(و اعلم أنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروه سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعا رادعا و لنزواتك عند الحفيظة واقما قامعا) إنك إن لم تكف نفسك و تردعها عن كثير مما تحب خوفا من المكروه الذي يمكن أن تقع فيه فإنها ستدفعك أهواؤها و رغباتها إلى كثير من الضرر و بعبارة أخرى إذا لم تمنع نفسك و تكفها عن كثير مما تحب أوقعتك في الضرر...

ثم أكد الوصية له بأن يمنع نفسه عن الشهوات و يردعها عن المحرمات و إذا غضب و أرادت هذه النفس أن تتوثب للشر فليقهرها و يكسرها و يردها و بعبارة أخرى اردد غضبك و اكظم غيظك إذا أرادت النفس منك شرا و طلبت باطلا...

ص: 116

57 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة أمّا بعد، فإنّي خرجت من حيّي (1) هذا: إمّا ظالما، و إمّا مظلوما، و إمّا باغيا (2) و إمّا مبغيّا عليه (3). و إنّي أذكّر اللّه من بلغه (4) كتابي هذا لمّا نفر (5) إليّ ، فإن كنت محسنا أعانني (6)، و إن كنت مسيئا استعتبني (7).

اللغة

1 - الحي: موطن القبيلة و منزلها.

2 - البغي: الفساد و الباغي المعتدي.

3 - المبغى عليه: المعتدى عليه.

4 - بلغه الكتاب: وصل إليه.

5 - نفر إلى الشيء: أسرع إليه و نفر منه كرهه و ابتعد عنه.

6 - أعانني: ساعدني.

7 - استعتبني: طلب مني العتبى أي الرضى أي طلب مني أن أرضيه.

الشرح

(أما بعد فإني خرجت من حيي هذا: إما ظالما و إما مظلوما و إما باغيا و إما مبغيا عليه و إني أذكر اللّه من بلغه كتابي هذا لما نفر إليّ فإن كنت محسنا أعانني و إن كنت مسيئا استعتبني) غرضه من الكتاب إعلام أهل الكوفة بخروجه من المدينة لقتال الناكثين و حثهم على ملاقاته و استنفارهم إليه و قد استعمل هذا الأسلوب الرقيق لما فيه من استمالة للقلوب و جذبها إليه و شدها إلى التطلع نحو الحق و البحث عنه.

أخبرهم أنه خرج من المدينة و هو أحد رجلين إما ظالما بخروجه لقتال الناكثين

ص: 117

طلحة و الزبير و أم المؤمنين و من خلفهم و إما مظلوما من قبلهم حيث خانوا العهود و نكثوا البيعة و أعلنوا الحرب و بالتالي فهو إما معتديا عليهم أو هو معتدى عليه من قبلهم و هذا ليس شكا في موقفه و إنما هو من باب الاستدراج لهم كي يبحثوا و ينظروا و هو على حد قوله تعالى: «إِنّٰا أَوْ إِيّٰاكُمْ لَعَلىٰ هُدىً أَوْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ » إثارة لهم و تحريكا لفكرهم كي يعيدوا النظر و يتبعوا الحق...

ثم ناشدهم باللّه و دعاهم - كل من وصله كتابه - منهم أن يأتي إليه مسرعا و يقف أمامه و يدرس قضيته فإن كان على الحق في خروجه إليهم و حربه لهم ساعده في ذلك لإحقاق الحق و إزهاق الباطل و إن كان بمسيره مسيئا عاصيا طلب منه الرضى بالحق و الكف عن الباطل و بذلك يكون هذا الناصح ممن نصر الحق و خذل الباطل...

ص: 118

58 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

كتبه إلى أهل الأمصار، يقص فيه ما جرى بينه و بين أهل صفين و كان بدء أمرنا (1) أنّا التقينا و القوم من أهل الشّام، و الظّاهر أنّ ربّنا واحد، و نبيّنا واحد، و دعوتنا في الإسلام واحدة، لا نستزيدهم في الإيمان باللّه و التّصديق برسوله و لا يستزيدوننا: الأمر واحد إلاّ ما اختلفنا فيه من دم عثمان، و نحن منه براء (2)! فقلنا: تعالوا نداو (3) ما لا يدرك اليوم بإطفاء النّائرة (4)، و تسكين العامّة (5)، حتّى يشتدّ الأمر (6) و يستجمع، فنقوى على وضع الحقّ مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة (7)! فأبوا (8) حتّى جنحت (9) الحرب و ركدت (10)، و وقدت (11) نيرانها و حمشت (12). فلمّا ضرّسّتنا (13) و إيّاهم، و وضعت مخالبها (14) فينا و فيهم، أجابوا عند ذلك إلى الّذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا، و سارعناهم (15) إلى ما طلبوا، حتّى استبانت (16) عليهم الحجّة (17)، و انقطعت منهم المعذرة (18). فمن تمّ على ذلك منهم فهو الّذي أنقذه (19) اللّه من الهلكة (20)، و من لجّ (21) و تمادى (22) فهو الرّاكس (23) الّذي ران (24) اللّه على قلبه، و صارت دائرة السّوء على رأسه.

اللغة

1 - بدء الأمر: أوله.

2 - براء: البراء من العيب أو الدين تخلّص و سلم منه.

ص: 119

3 - نداوي: نعالج.

4 - النائرة: العداوة.

5 - تسكين العامة: تهدئة الناس.

6 - يشتد الأمر: يقوى.

7 - المكابرة: المعاندة.

8 - أبوا: رفضوا و امتنعوا.

9 - جنحت: أقبلت و مالت.

10 - ركدت: ثبتت و استقرت.

11 - و قدت: التهبت.

12 - حمشت: التهبت غضبا.

13 - ضرستنا: عضتنا بأضراسها.

14 - المخالب: جمع مخلب و هو للطير كالظفر للإنسان.

15 - سارعناهم: سابقناهم.

16 - استبانت: ظهرت.

17 - الحجة: البينة و البرهان.

18 - المعذرة: الحجة التي يعتذر بها.

19 - أنقذه: خلّصه.

20 - الهلكة: جمعها هلاكات، الهلاك و هو الموت.

21 - لجّ في الأمر: لازمه و أبى أن ينصرف عنه.

22 - تمادى في الشيء: أقام عليه و طلب الغاية منه.

23 - الراكس: من الركس و هو رد الشيء مقلوبا.

24 - ران: غطى.

الشرح

(و كان بدء أمرنا أنا التقينا و القوم من أهل الشام و الظاهر أن ربنا واحد و نبينا واحد و دعوتنا في الإسلام واحدة لا نستزيدهم في الإيمان باللّه و التصديق برسوله و لا يستزيدوننا الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان و نحن منه براء) كان الإمام صريحا مع نفسه و مع شعبه كان يعلمهم بكل ما جرى و ما يجري لا يخفي عليهم صغيرة و لا كبيرة.

و هذا الكتاب أرسله إلى أهل الأقطار و البلاد الإسلامية التي تحت حكمه يعلم

ص: 120

الناس و يخبرهم بما جرى بينه و بين أهل الشام في صفين و كيف دعاهم أول الأمر إلى الهدوء و التروي و عدم إثارة الحرب فرفضوا و تمردوا فعند ما اندلعت و أكلتهم و ذاقوا حرها و قساوتها دعوه إلى ما كان دعاهم إليه فاستجاب و لبى...

ابتدأ عليه السلام ببيان ما هو الظاهر من حال أهل الشام فحكم على ظاهرهم - دون الباطن - بالإسلام و أنهم مثلنا في التوحيد فربنا و ربهم في الظاهر واحد و كذلك نبينا محمد واحد و دعوتنا في الإسلام واحدة لا فرق بيننا و بينهم و لا نرى إيماننا يفوق إيمانهم و لا إيمانهم يفوق إيماننا فنحن و إياهم أصحاب عقيدة واحدة متساوية دون زيادة لواحدة على الأخرى.

نعم كانت المسألة المختلف فيها و التي وقع فيها النزاع و نحن براء منها و لا علاقة لنا بها كانت هي دم عثمان فهم يتهموننا بدمه و نحن أبرأ الناس منه... و الإمام في كتابه هذا ينفي عنهم الإيمان في الواقع و قد أظهر ذلك في بعض كلماته المنثورة في النهج فقد قال مخاطبا معاوية و عمرو بن العاص و أمثالهما: «و اللّه ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه».

(فقلنا تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة و تسكين العامة حتى يشتد الأمر و يستجمع فنقوى على وضع الحق مواضعه فقالوا: بل نداويه بالمكابرة فأبوا حتى جنحت الحرب و ركدت و وقدت نيرانها و حمشت) فتح الإمام باب الحوار و التفاهم بينه و بين أهل الشام فأوصدوه و ردوه و لم يوافقوا عليه... كان يحاول بشتى السبل أن لا تقع الحرب و أن يعود معاوية إلى أحضان الشرعية و العدل و الحق فكان يرفض و يصر على رفضه عازما على تفريق كلمة المسلمين و تمزيق وحدة الصف...

أخذ الإمام يبين لهم وجه الحق و وجه نداءه إليهم أن يأتوا إليه و يعالجوا معه ما وقع بالصبر و الأناة حتى يشتد عود الحكم و تقوى دعائمه و تهدأ الثورة التي كانت قائمة على عثمان و يعود الناس إلى مزاولة أعمالهم و يصبح قادرا بهذه الوحدة على القصاص من قتلة عثمان فعندها تجري الأمور على موازين الشرع و الدين فمن ثبت عليه الجرم أدين و أجري عليه حكم اللّه...

و لكن معاوية رفض هذه الدعوة و أبى أن يستجيب لنداء الحق و أراد أن يداوي الأمور بالعناد و المكابرة و الخلاف و رفض ما أردناه و دعونا إليه و صمم على قتالنا و خوض المعركة ضدنا بحجج واهية ظالمة فخاضها و وقعت الحرب و اشتعلت نارها و التهبت بأشد ما تكون ضراوة و قساوة و استعرت تأخذ معها الأنفس و الأرواح إنها...

ص: 121

حرب قاسية ظالمة شنها معاوية و لم يعرف أثرها و مداها...

(فلما ضرستنا و إياهم و وضعت مخالبها فينا و فيهم أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه فأجبناهم إلى ما دعوا و سارعناهم إلى ما طلبوا حتى استبانت عليهم الحجة و انقطعت منهم المعذرة) كانت حرب صفين أقسى حرب بين المسلمين و قد وصفها المؤرخون بأروع ما تكون الحروب... حرب فنيت فيها السهام و تكسرت السيوف و أخذ الناس يقذفون بعضهم بالحجارة و يزحف كل فريق على الآخر حتى أضحى يهرّ عليه...

حرب طحنت الفريقين بقساوتها و ضراوتها و شدتها و مزقت الناس و فرقتهم و أخذت معها خلقا كثيرا بين قتيل و جريح و عندها عاد معاوية و من معه إلى دعوة الإمام و طلبوا منه إيقافها و الرجوع إلى كتاب اللّه الذي رفضوه بالأمس و أبوا التحاكم إليه...

علم الإمام أنها خدعة فلذا رفضها و أبى قبولها بينما أصحابه أسرعوا في الاستجابة لها و بادروا إلى قبولها...

قبل الإمام إيقاف الحرب اضطرارا فلعل معاوية يعود إلى الحق و لعل من غرّر بهم من أهل الشام يهتدي و يرجع إلى الحق... استجبنا لهم في وقف الحرب حتى ظهرت حجتنا عليهم و بطلت معاذيرهم و انقطعت شبهتهم في الحرب التي أوقدوها دون مبرر...

(فمن تم على ذلك منهم فهو الذي أنقذه اللّه من الهلكة و من لجّ و تمادى فهو الراكس الذي ران اللّه على قلبه و صارت دائرة السوء على رأسه) بيّن عليه السلام أن من أكمل مسيرة السلم من أهل الشام و انقاد إلى الحق بعد ظهوره فقد أنقذه اللّه من الهلاك و التلف و الموت و نجاه من العذاب و أما من استمر على ضلاله و أقام على فساده فذاك الذي انقلب على وجهه و غرق في الضلال و الغي و تغطت منافذ النور في قلبه فحجبت رؤية الحق عنه و دارت دائرة السوء عليه و قد وقع الأمر على الخوارج أيضا حيث رفضوا التحكيم بعد إجبارهم للإمام عليه فكان الأمر أن قتلهم اللّه و طهّر الأرض منهم...

ص: 122

59 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان أمّا بعد، فإنّ الوالي إذا اختلف (1) هواه منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن أمر النّاس عندك في الحقّ سواء (2)، فإنّه ليس في الجور (3) عوض (4) من العدل، فاجتنب ما تنكر (5) أمثاله، و ابتذل نفسك (6) فيما افترض اللّه عليك (7)، راجيا ثوابه، و متخوّفا عقابه.

و اعلم أنّ الدّنيا دار بليّة (8) لم يفرغ صاحبها فيها قطّ ساعة إلاّ كانت فرغته عليه حسرة (10) يوم القيامة، و أنّه لن يغنيك عن الحقّ شيء أبدا، و من الحقّ عليك حفظ نفسك، و الاحتساب (11) على الرّعيّة بجهدك (12)، فإنّ الّذي يصل إليك من ذلك أفضل من الّذي يصل بك، و السّلام.

اللغة

1 - اختلف إليه: تردد عليه مرة بعد أخرى و من موضع إلى موضع تردد.

2 - سواء: مستو متساوي.

3 - الجور: الظلم و الميل عن الحق.

4 - عوض: بدل.

5 - تنكر: تعيب و أنكر عليه فعله عابه عليه و نهاه عنه.

6 - ابتذل نفسك: جد بها، استعملها دائما و امتهنها.

7 - افترض اللّه الأمر الفلاني: سنّها و أوجبها.

8 - البلية: الاختبار.

ص: 123

9 - الفرغة: الواحدة من الفراغ و هو عدم ملأ الوقت بما ينفع.

10 - الحسرة: التلهف.

11 - الاحتساب: المراقبة و الإصلاح.

12 - الجهد: الطاقة و الاستطاعة.

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل) هذا الكتاب كتبه الإمام إلى و اليه على مقاطعة حلوان و قد قرّب بعضهم أن تكون جنوب مدينة المدائن العراقية و فيه حث شديد على بذل ما في وسعه في سبيل خدمة الرعية و العدل بينها كما أن فيه موعظة و تذكرة...

و أول ما ابتدأ به حضّه على عدم اتباع الهوى و أن الوالي إذ أخذ يتصرف بهواه و كان الهوى هو الموجه و القائد و الآخذ بالزمام كان الحاكم ظالما جائرا بعيدا عن الحق و العدل لأن الهوى يتقلب و يتغير بينما الحق ثابت مستقر لا يتغير...

(فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل) أمره أن يتساوى الناس عنده في الحق فلا يختار غنيا على فقير و لا وجيها على صعلوك بل الحق يجب أن يحكم الجميع و يجري على الجميع على حد واحد فإذا كان الحق مع الفقير أعطي له من الغني و هكذا إذا كان الحق إلى جانب الوضيع يعطى له من الوجيه.

ثم نبهه إلى أنه ليس في الجور بدل و عوض من العدل أي أن الظلم لا يقوم مقام العدل لأنه يبقى ظلم و جور و حيف على الناس و عواقبه جسيمة حيث يزول به الملك و تكثر الانحرافات بينما العدل يدوم به الملك و يأخذ المظلوم ظلامته ممن ظلمه و يرد الحق إلى أهله و هكذا...

(فاجتنب ما تنكر أمثاله) إذا كنت لا ترضى من غيرك عملا فاجتنبه أنت و لا تأتيه كما لو كنت تنكر الظلم من الآخرين فاجتنبه أنت و ابتعد عنه و لا تمارسه...

(و ابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك راجيا ثوابه و متخوفا عقابه) اجعل نفسك و سخرها فيما أوجب اللّه عليك و أمرك به راجيا ثوابه من خلال عملك و متخوفا عقابه إن قصرت أو تهاونت أي اجعل نفسك في خدمة اللّه و تنفيذ أوامره طالبا بذلك أجره و ثوابه و خائفا من عذابه و عقابه و لا تتكبر عن عبادته أو تترفع عن أوامره...

ص: 124

(و اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة) نبهه إلى أن الدنيا دار امتحان و اختبار و عمل و جهاد و لا يعيش إنسان البطالة و لو ساعة إلا كانت هذه الساعة عليه حسرة يوم القيامة لأن هذه الساعة التي لم يكتسب فيها الأجر و الثواب سيندم عليها لأنها تفوّت عليه لذة كبيرة و مرتبة من السعادة عظيمة فيتحسر على هذه الخسارة يوم القيامة...

(و إنه لن يغنيك عن الحق شيء أبدا و من الحق عليك حفظ نفسك و الاحتساب على الرعية بجهدك فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك و السلام) أوصاه بالحق أن يقوم به و يحفظه و أنه ليس شيء يقوم مقامه لأن كل ما ليس بحق فهو باطل و لا يغني الباطل عن الحق شيئا...

إذا لم تعمل بالحق فلن تعمل شيئا و لن يغني عنك شيئا أبدا.

ثم ذكر له جزئيتين من ذلك الحق.

الأولى: أن يحفظ نفسه من الجور و الظلم و الاعتداء و أن يراقبها بدقة و يأخذها بمر الحق...

الثانية: الاحتساب على الرعية بجهدك: أي ابذل جهدك و طاقتك و قدرتك في سبيل إصلاح الرعية و إنعاشها وردها إلى اللّه و رفع الظلم و الحيف عنها ثم نبهّه إلى أن الذي يحصل عليه من وراء عمله هذا من الأجر و الثواب و حسن العاقبة مع الذكر الجميل و الثناء الكريم أعظم بكثير و أفضل من الذي يصل إلى الرعية منك فما يصلك من عملك أفضل مما يصل إلى الرعية من نفس العمل...

ترجمة الأسود بن قطيبة.

قال ابن أبي الحديد في شرحه ما لفظه: لم أقف إلى الآن على نسب الأسود بن قطيبة و لم أتحقق ذلك و الذي يغلب على ظني أنه الأسود بن زيد بن قطيبة بن غنم الأنصاري من بني عبيد بن عدي ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب و قال: إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدرا.

ص: 125

60 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى من مرّ به الجيش من جباة (1) الخراج (2) و عمّال البلاد.

أمّا بعد، فإنّي قد سيّرت (3) جنودا هي مارّة (4) بكم إن شاء اللّه، و قد أوصيتهم بما يجب للّه عليهم من كفّ الأذى (5)، و صرف الشّذى (6)، و أنا أبرأ إليكم و إلى ذمّتكم (7) من معرّة (8) الجيش، إلاّ من جوعة (9) المضطرّ، لا يجد عنها مذهبا إلى شبعه (10). فنكّلوا (11) من تناول منهم شيئا ظلما عن ظلمهم، و كفّوا أيدي سفهائكم (12) عن مضارّتهم (13)، و التّعرّض (14) لهم فيما استثنيناه منهم. و أنا بين أظهر الجيش، فارفعوا إليّ مظالمكم (15)، و ما عراكم (16) ممّا يغلبكم من أمرهم، و ما لا تطيقون (17) دفعه إلاّ باللّه و بي، فأنا أغيّره بمعونة اللّه، إن شاء اللّه.

اللغة

1 - الجباة: جمع جابي الذي يجمع الخراج.

2 - الخراج: الضرائب، المال المضروب على الأرض.

3 - سيّرت: أخرجت و جعلته يسير.

4 - مرّ به و عليه: اجتاز.

5 - كف الأذى: منعه.

6 - الشذى: الضرب و الشر و الأذى.

ص: 126

7 - الذمة: العهد.

8 - المعرة: المضرة و الإساءة.

9 - الجوعة: بفتح الجيم الواحدة من جاع وجوعة المضطر الجوع المهلك.

10 - الشبع: الامتلاء.

11 - نكلوا: عاقبوا.

12 - السفهاء: جمع سفيه الرديء الخلق، الجاهل، غير الرشيد.

13 - المضارة: الإضامة.

14 - تعرض له: تصدى له.

15 - المظالم: جمع مظلمة، ما أخذ ظلما.

16 - عراكم الأمر: غشيكم.

17 - لا يطيق دفعه: لا يقدر على دفعه.

الشرح

(من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الخراج و عمال البلاد) هذا الكتاب كتبه الأمام إلى جباة الخراج و عمال البلاد يخبرهم فيه بمسير الجيش و أن طريقه عليهم فليكونوا على حذر و ليرصدوا تحركاته و يسهلوا طريقه كما أوصى الجيش بوصايا مهمة أن لا يؤذوا أحدا مسلما أو معاهدا...

(أما بعد فإني قد سيرت جنودا هي مارة بكم إن شاء اللّه و قد أوصيتهم بما يجب للّه عليهم من كف الأذى و صرف الشذى و أنا أبرأ إليكم و إلى ذمتكم من معرة الجيش إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهبا إلى شبعه) هذا هو مضمون الكتاب إنه يخبرهم أنه قد بعث جيشا يجتاز عليهم و يمر على ديارهم و قد أوصاهم بما أراد اللّه منهم، و هو يتمثل بدفع الأذى فلا يؤذوا إنسانا في ماله أو في نفسه أو في ممتلكاته و إذا حصل مثل ذلك فهو بريء منه متنصل من آثاره لا يرضى به و لا يقبل بوقوعه... إنه يبرأ من وقوع شيء على أهل الذمة أيضا من نصارى و يهود لأنهم في ذمة المسلمين و عهدتهم يبرأ من أذى الجيش و مضرته و لا يقبل به.

نعم استثنى للجيش أن يكون له من الحق أن يأكل بمقدار ما يرفع الضرر عن نفسه كما هي حال المضطر الذي ليس له بديل إلا أن يأكل ما يضطر إليه حتى المحرم من أجل الحفاظ على نفسه و هذا أمر تبيحه كل الشرائع و الأديان...

(فنكلوا من تناول منهم شيئا ظلما عن ظلمهم و كفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم

ص: 127

و التعرض لهم فيما استثنيناه منهم) أمر أن يعاقب كل جندي أخذ ظلما ما ليس له حتى يرتدع و يؤدب فإنه لا يجوز ظلم الناس و أخذ أشياءهم و من فعل ذلك و أدين عوقب.

ثم أمر الناس أن يمنعوا السفهاء و الأراذل من التعرض للجند إذا تناولوا ما استثنى لهم من جوعة المضطر لأن في منعهم عن ذلك مخالفة لحكم الشرع و فيه فتنة للجنود و اضطراب لحبل الأمن.

(و أنا بين أظهر الجيش فارفعوا إليّ مظالمكم و ما عراكم مما يغلبكم من أمرهم و ما لا تطيقون دفعه إلا باللّه و بي فأنا أغيره بمعونة اللّه إن شاء اللّه) هدأ في هذا الكلام روع الناس و طمأنهم إلى أنه معهم في شكاواهم التي يقدمونها إليه... إنه قريب منهم تصله كل أخبار الجند و أعمالهم لأنه وضع من يمثله معهم ينقل إليه كل ظلم يحدث و كل اعتداء يقع ثم أمرهم أن يرفعوا إليه هذه المظالم و كل أمر يجري عليهم مما لا يطيقونه و لا يقدرون عليه إلا باللّه و معونته و بإعانته شخصيا باعتباره ولي أمر المسلمين و المتكفل برفع الضيم عنهم فإنه عليه السلام أخذ على نفسه أن يغير الظلم و يرفعه بعون اللّه إن شاء اللّه ...

ص: 128

61 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى كميل بن زياد النخعي، و هو عامله على هيت، ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا الغارة أمّا بعد، فإنّ تضييع المرء ما ولّي، و تكلّفه ما كفي، لعجز (1) حاضر، و رأي متبّر (2). و إنّ تعاطيك (3) الغارة (4) على أهل قرقيسيا (5)، و تعطيلك مسالحك (6) الّتي ولّيناك - ليس بها من يمنعها، و لا يردّ الجيش عنها - لرأي شعاع (7). فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك، غير شديد المنكب (8)، و لا مهيب الجانب، و لا سادّ ثغرة (9)، و لا كاسر لعدوّ شوكة (10)، و لا مغن عن أهل مصره، و لا مجز (11) عن أميره.

اللغة

1 - العجز: عدم القدرة.

2 - المتبر: الهالك و الفاسد.

3 - تعاطيك: من تعاطى الشيء إذا تناوله و الأمر قام به أو خاض فيه.

4 - الغارة: الهجوم المفاجىء و العودة منه بسرعة، و شن الغارة فرّق الخيل و صبها عليهم من كل ناحية.

5 - قرقيسيا: اسم بلد على نهر الفرات.

6 - المسالح: جمع مسلحة و هو الموضع الذي يقام فيه طائفة من الجند لحمايته.

7 - رأي شعاع: متفرق ضعيف.

8 - المنكب: مجتمع الكتف و العضد، و شديد المنكب قوي قادر.

9 - الثغرة: الثلمة و الفرجة التي يدخل منها العدو.

10 - الشوكة: القوة.

11 - مجز: كاف و مغن.

ص: 129

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن تضييع المرء ما ولي و تكلفه ما كفي لعجز حاضر و رأي متبر) هذا الكتاب أرسله الإمام إلى كميل بن زياد و هو أحد أصحابه و من خواصه و شيعته و كان عاملا من قبله على مدينة هيت فكان معاوية يرسل جندا يغزو بهم أطراف دولة الإسلام و كانت هذه الجنود تغير على هيت الذي يتولى أمرها كميل فكان كميل يجبر ضعفه بغزوه على أطراف حكم معاوية دون أي يدفع عن بلاده فوجّه له الإمام هذه الرسالة.

و بين عليه السلام أن الإنسان إذا أهمل ما كلّف به و لم يحفظه و يرعاه كما يجب و تكلف أمرا آخر لم يكلف به يكون هذا منه هزيمة و من العجز الحاضر و الرأي الفاسد لا يوافق عليه عاقل فإن العقلاء يحكمون بوجوب القيام بما كلف به الإنسان و ترك غيره فإذا انعكس الأمر اضطربت القضايا و فسدت الأمور.

(و إن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا و تعطيلك مسالحك التي و ليناك - ليس بها من يمنعها و لا يرد الجيش عنها - لرأي شعاع) بعد أن ذكر في صدر الكتاب القاعدة العامة و الكبرى الكلية جاء هنا إلى التفصيل فذكر له أن غارته التي شنها على أهل قرقيسيا التي هي بلدة تحت حكم معاوية و تركه ما يجب أن يحفظه و يردع العدو عنه و يرد غزو معاوية له هذا العمل غير سديد و لا صحيح و لا يجتمع مع النصر أو يلتقي معه و عبر بالشعاع عن المتفرق الموزع الذي لم يتوحد و إذا لم يتوحد فسد و ضل أصحابه و هذه الوصية من الإمام تدل على مدى عظمة الإمام و أنه لا يقابل ما عليه معاوية من الضلال حيث يغزو الناس العزّل الأبرياء و فيهم الصبيان و النساء و الشيوخ لا يقابل ذلك بغزو المدن التي تحت حكم معاوية بل يصر على ولاته أن يحفظوا بلادهم و يدفعوا عما أوكلوا به من الثغور فلا يدعوا زبانية معاوية يغزونها و ينكلون بأهلها...

(فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك غير شديد المنكب و لا مهيب الجانب و لا ساد ثغرة و لا كاسر لعدو شوكة و لا مغن عن أهل مصره و لا مجز عن أميره) بيّن عليه السلام عجز كميل و مدى ما يتركه إهماله و عدم ضبطه لما كلف به فذكر عدة أمور لعله إذا تنبه لها شدت من عزيمته.

1 - إنه قد أصبح جسرا للأعداء الذي يريدون شن الغارة على أتباع الإمام و أوليائه الذين تحت حكمه و قد أنزله منزلة الجسر من حيث إنه لا يرد من أراد العبور.

ص: 130

2 - غير شديد المنكب و لا مهيب الجانب: لا تستطيع حمل المسئولية و لا يخافك الأعداء أو يهابونك.

3 - و لا ساد ثغرة: لا تستطيع أن تحمي مكانا يدخل منه العدو.

4 - و لا كاسر لعدو شوكة: لا تستطيع أن تهزم عدوا أو تنكل به.

5 - و لا مغن عن أهل مصره: لا يستغنون أهل بلده به في رد العدو.

6 - و لا مجز عن أميره: فما كلفه به أميره و أنابه عنه فيه لا يستطيع القيام به على شكل يجزي و يكفي فهو مقصر عاجز.

ترجمة كميل بن زياد.
اشارة

و قال المعتزلي في شرح نهج البلاغة:

كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد كان من أصحاب علي عليه السلام و شيعته و خاصته و قتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة و كان كميل بن زياد عامل علي على هيت... انتهى...

ولادته.

اختلفوا في ولادته فمنهم من قال: إنها كانت في السنة الثامنة عشرة من الهجرة و قال بعضهم: إن ولادته كانت قبل الهجرة بسنتين.

و قال بعضهم: إن ولادته كانت سنة 12 و وفاته سنة 82.

قتله الحجاج صبرا..

ص: 131

62 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أهل مصر، مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا - صلّى اللّه عليه و آله - نذيرا (1) للعالمين، و مهيمنا (2) على المرسلين. فلمّا مضى عليه السّلام تنازع (3) المسلمون الأمر من بعده. فواللّه ما كان يلقى في روعي (4)، و لا يخطر (5) ببالي (6)، أنّ العرب تزعج (7) هذا الأمر من بعده - صلّى اللّه عليه و آله - عن أهل بيته، و لا أنّهم منحّوه (8) عنّي من بعده! فما راعني (9) إلاّ انثيال (10) النّاس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي (11) حتّى رأيت راجعة (12) النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق (13) دين محمّد - صلّى اللّه عليه و آله - فخشيت (14) إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما (15) أو هدما (16)، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع (17) أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب (18)، أو كما يتقشّع السّحاب (19)، فنهضت في تلك الأحداث (20) حتّى زاح (21) الباطل و زهق (22)، واطمأنّ الدّين و تنهنه (23).

و منه: إنّي و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع (24) الأرض كلّها ما باليت (25) و لا استوحشت، و إنّي من ضلالهم الّذي هم فيه و الهدى الّذي أنا عليه لعلى بصيرة (26) من نفسي و يقين من ربّي. و إنّي إلى لقاء اللّه لمشتاق، و حسن ثوابه لمنتظر راج، و لكنّني آسى (27) أن يلي (28) أمر هذه الأمّة

ص: 132

سفهاؤها و فجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا (29)، و عباده خولا (30)، و الصّالحين حربا، و الفاسقين حزبا، فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام، و جلد حدّا في الإسلام، و إنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرّضائخ (31). فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم (32) و تأنيبكم (33)، و جمعكم و تحريضكم، و لتركتكم إذ أبيتم و ونيتم (34).

ألا ترون إلى أطرافكم (35) قد انتقصت (36)، و إلى أمصاركم قد افتتحت، و إلى ممالككم تزوى (37)، و إلى بلادكم تغزى! انفروا - رحمكم اللّه - إلى قتال عدوّكم، و لا تثّاقلوا (38) إلى الأرض فتقرّوا (39) بالخسف (40)، و تبوءوا (41) بالذّلّ ، و يكون نصيبكم الأخسّ ، و إنّ أخا الحرب الأرق (42)، و من نام لم ينم عنه، و السّلام.

اللغة

1 - النذير: جمعه نذر بمعنى الإنذار المعلم للشيء و المخوّف له من عواقبه.

2 - المهيمن: الشاهد.

3 - تنازعوا: تجاذبوا و تنازع القوم في الشيء تخاصموا.

4 - الروع: بالضم القلب و بالفتح الفزع.

5 - يخطر في الفكر: لاح له و الخاطر جمع خواطر ما يخطر بالقلب من أمر أو تدبير.

6 - البال: الخاطر.

7 - تزعج: ترد.

8 - نحاه عنه: أبعده.

9 - راعني: فاجأني و أفزعني.

10 - الانثيال: الانصباب.

11 - أمسكت يدي: كففتها و منعتها.

12 - راجعة الناس: الراجعون منهم.

13 - المحق: ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يبقى له أثر.

14 - خشيت: خفت.

ص: 133

15 - الثلم: الخرق، الفجوة.

16 - الهدم: السقوط يقال: هدم الحائط إذا سقط.

17 - المتاع: كل ما ينتفع به من عروض الدنيا.

18 - السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء يضرب به المثل في الكذب و الخداع.

19 - تقشع السحاب: زال و انكشف.

20 - الأحداث:.

21 - زاح: ذهب.

22 - زهق: زال و اضمحل.

23 - تنهنه: سكن.

24 - الطلاع: بكسر الطاء ملىء الشيء و طلاع الأرض ملؤها.

25 - ما باليت: ما اهتممت.

26 - البصيرة: العقل، الفطنة.

27 - آسى: أحزن.

28 - يلي أمر الأمة: يتولى شئونها.

29 - دولا: جمع دوله بضم الدال أي شيئا يتداولونه بينهم.

30 - الخول: محركة العبيد.

31 - الرضائخ: العطايا و الرشوة جمع رضيخة و هي ما يعطى للإنسان يصانع به من أجل شيء يريده.

32 - التأليب: التحريض.

33 - التأنيب: اللوم.

34 - و نيتم: ضعفتم و فترتم.

35 - أطراف البلاد: جوانبها.

36 - انتقصت: حصل فيها النقص.

37 - تزوى: تقبض.

38 - تثاقلوا: تباطئوا لم ينهضوا للنجدة و قد استنهضوا لها.

39 - تقروا: تعترفوا.

40 - الخسف: الضيم.

41 - تبوءوا بالذل: ترجعوا به.

42 - الأرق: الساهر الذي لا ينام.

ص: 134

الشرح

(أما بعد فإن اللّه سبحانه بعث محمدا - صلّى اللّه عليه و آله - نذيرا للعالمين و مهيمنا على المرسلين فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر عند ما ولاه عليها و فيها ذكر رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - و ما مرّ بعده و ما وقع من أحداث و ما جرى من خلاف و اختلاف و موقف الإمام منها كما أن فيها ذكر بني أمية و في الختام نصيحة لأصحابه و حث لهم على حفظ الثغور ورد كيد الأعداء...

ابتدأ عليه السلام بذكر بعثة الرسول (صلی الله علیه و آله) و أنه سبحانه أرسله ليخوف من عصاه و تمرد عليه بعذابه و عقابه و أنه سبحانه أرسله شاهدا عليهم و مصدقا برسالات الأنبياء المتقدمين الذين بعثهم اللّه إلى الناس فلما قضى شهيدا و انتهت إقامته في دار الدنيا اختلف المسلمون بعده فيمن يتولى الأمر عنه و يحل محله في الخلافة و الإمامة فالأنصار يريدونها لأنفسهم بحجج و بينات تذرعوا بها و المهاجرون يريدونها أيضا لأنفسهم و كل من الطائفتين ادعت باطلا و عملت سواء لأن الحق ليس لهما و لا علاقة لهما بالخلافة.

(فواللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده - صلّى اللّه عليه و آله - عن أهل بيته و لا أنهم منحوه عني من بعده) أقسم عليه السلام - و هو الصادق الأمين - أنه ما كان يقع في قلبه و لا يمر في ذهنه أن العرب تدفع الخلافة بعد رسول اللّه عن أهل بيت رسول اللّه و لا أنهم يدفعون عليا و يبعدونه عنها... و عدم خطور ذلك في باله لأنه المرشح الوحيد من قبل اللّه و رسوله عينه النبي بأمر إلهي في حديث المنزلة و الدار و الغدير و آية الولاية و التطهير و غير ذلك فمع هذه البينات و الشواهد و الحجج كيف يجرأ أحد على سلب هذا الحق من صاحبه و كيف يرد أمر اللّه و رسوله...

(فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد - صلّى اللّه عليه و آله -) لقد كانت مفاجأة لم تخطر ببال الإمام و لم تمر في ذهنه... إنه يرى نفسه المتعين للخلافة و لا ندّ له أو نظير أو معارض... و بينما يرى ذلك إذ يرى المفاجأة الكبرى و هي ازدحام الناس لبيعة أبي بكر... إنهم العامة... يتحركون بدون تفكير... استغلهم بعض أصحاب المآرب و الغايات فانحرف بهم إلى بيعة أبي بكر تاركين بني هاشم قرب جنازة النبي يجهزونها... إنها بيعة فلتة على حد تعبير عمر و يرى الإمام ذلك فيمتنع عن بيعة الرجل و يحتج عليه مسجلا أنه قد اغتصب حقه و بقي هكذا حتى رأى بأم عينه أن

ص: 135

الناس ترتد عن الإسلام و تخرج اليوم فيما دخلت فيه أمس و تهدد الإسلام في وجوده و بقائه و أخذ المرتدون يدعون إلى القضاء على دين محمد و شريعته و إزالته من الوجود فمسيلمة و سجاح و الأسود العنسي و غيرهم و غيرهم كلهم يتحركون للقضاء على الدين و يرى الإمام ذلك كله فما ذا يفعل هل يبقى على موقفه و هذا يزيد الأمور تفككا و الإسلام ضعفا إذن لا بد من موقف يحفظ الإسلام...

(فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق و اطمأن الدين و تنهنه) يشرح الإمام حاله في تلك الظروف الصعبة التي دار الأمر فيها بين حفظ الإسلام و صيانته و استمرارية وجوده و بين أن يبقى على موقفه في مقاطعة السلطة التي اغتصبت حقه و سلبته سلطانه... إنه موقف صعب يحتاج إلى الإنسان الكبير الذي يطوي أموره الشخصية و يطرحها جانبا ثم يتبنى الأمور الرسالية و الحقوق العامة... ما ذا يعمل و القبائل قد ارتدت و تريد الانقضاض على الإسلام للقضاء عليه: هنا الإمام يقول:

خشيت إن لم أبايع و أعاون بالمشورة و التوجيه أن يختل مكان الإسلام و تتزلزل أركانه و يسقط صريعا و يبطل من الوجود لإطباق الناس على محاربته و عندها تكون المصيبة إبطال الإسلام و القضاء عليه أو زعزعة أركانه و اختلال أصوله و في ذلك مصيبة عظمى تفوق الولاية التي هي حق لي و التي لا تبقى و لا تدوم بل تنقضي بسرعة و تزول بل في الحقيقة هي أمر وهمي لمن تبصّر و نظر تماما كالسراب الذي يتراىء للأغبياء إنه شيء و بالحقيقة لا وجود له و ليس بشيء أو هي تزول و تنقضي كما يتمزق الغيم بسرعة و يزول تشبيه للأمرة بقصر المدة و قلتها.

و هكذا كان: عدل عن المقاطعة أمام الأحداث التي تعصف بالإسلام و عاون من تولى الأمر و اغتصب حقه حتى ذهب الباطل و زال و ارتاح الدين من المرتدين و المشاغبين و بسط سلطانه و انتشر في الأرض طولا و عرضا...

(إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلها ما باليت و لا استوحشت و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربي و إني إلى لقاء اللّه لمشتاق و حسن ثوابه لمنتظر راج) ينفي علي الخوف من نفسه و يقسم باللّه أنه لو لاقى أعداءه و كان وحيدا منفردا و كانوا ملىء الأرض ما اهتم بهم و لا أعطاهم بالا و لا استوحش أو خاف و ذلك.

أولا: إنهم على ضلال و هو على الحق يعلم ذلك و هو على يقين منه.

ص: 136

ثانيا: إنه يشتاق إلى لقاء اللّه و ثوابه و أجره و هو ينتظر ذلك و ليس بينه و بين ذلك إلا الموت فهو لا يبالي به طالما أنه به يعبر إلى لقاء اللّه و ثوابه و من هنا لا يبالي بكثرة الأعداء حتى لو ملأوا الدنيا و كان فيها وحيدا في مواجهتهم.

(و لكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجارها فيتخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام و جلد حدا في الإسلام و إن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم و جمعكم و تحريضكم و لتركتكم إذ أبيتم و ونيتم) لا يخاف الإمام من الموت و لا يحزن أو يتأسف على شيء من الدنيا و إنما يأسف أن يتولى قيادة الأمة و زعامتها سفهاؤها و فجارها الذين لا يرعون الواجبات و لا يرتدعون عن المحرمات يعملون بالإثم و العدوان و معصية اللّه... إنهم يتداولون مال اللّه يوزعونه على بعضهم و ينقلونه من يد أحدهم إلى يد الآخر و كذلك يتخذون عباد اللّه عبيدا لهم يسخرونهم لقضاء حاجاتهم و مصالحهم و شهواتهم إن سيرتهم أن يتخذوا الصالحين حربا يعلنونها عليهم يحاربونهم في معاشهم و قوتهم و وجودهم بينما يتخذون الفاسقين حزبا لهم و أنصارا يعتمدون عليهم و يوكلون الأمر إليهم على عادة الفساق و الفجار ينصبون العداء للصالحين و يعيشون بود و محبة مع الفاسدين...

ثم بين بعض تلك الأفراد و الشخصيات التي خاف منها أن تتولى القيادة و الولاية فأشار بقوله: فإن منهم الذي شرب فيكم الحرام و جلد حدا في الإسلام، أشار به إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي تولى إمرة الكوفة في عهد عثمان و كان أخوه لأمه فشرب الخمر و تقيأها في المحراب و صلى بالناس الصبح أربعا ثم التفت إلى المصلين قائلا لهم: أ أزيدكم و أنشد و هو في صلاته قول الشاعر: «عشق القلب الربابا».

فهجاه الحطيئة و وصلت قبائحه إلى الخليفة و شهد عليه الشهود و لم يقم أحد بإجراء الحد عليه حتى قام الإمام علي بنفسه فجلده الحد...

و أشار بقوله: و إن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ.

أشار بذلك إلى أبي سفيان و ابنه معاوية و غيرهما من المؤلفة قلوبهم حيث دفعت لهم الأموال إغراء لهم و استمالة من أجل أن يدخلوا في الإسلام و يظهروا كلمة التوحيد و يكفوا عن محاربة المسلمين...

فإذا كان في الأمة من هذه صفاتهم فإنه عليه السلام خاف أن يتولى هؤلاء أمرها و قيادتها و زعامتها و لذا لولاهم لم يحرّض أنصاره على القتال و لم يوبخهم لتقاعسهم و لم

ص: 137

يجمعهم على الحرب بل كان يتركهم و شأنهم طالما رفضوا قوله و تهاونوا و تكاسلوا عن الخروج لأعدائهم... إنه يريد أن يبعث فيهم روح الجهاد بأن كل اندفاعه و ثورته و تحريض أصحابه و توبيخهم إنما كان لأجل أن يمنع السفهاء من قيادة الأمة و تولي أمرها و لولاهم لما أهانهم و وبخهم إذا رفضوا قوله و تكاسلوا عن الجهاد و الخروج للحرب...

(ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت و إلى أمصاركم قد افتتحت و إلى ممالككم تزرى و إلى بلادكم تغزى) أراد أن يثير فيهم الغيرة و الحمية و الدفاع عن الأرض أراد ذلك باستفهام توبيخي.

ألا ترون أيها المسلمون و أهل الحق و الإيمان إلى جوانب دولتكم التي تحت حكمنا كيف تنقص شيئا فشيئا باستيلاء معاوية عليها واحدة بعد أخرى و كيف أن أمصارنا و الأقطار التي نحكمها يفتحها معاوية لصالحه و كيف بلادكم تغزى من قبل معاوية و يغار عليها في كل حين... إنها فواجع يراها الإمام و يتألم لها فيحث أصحابه فلا يجد إلا متهاونا أو متكاسلا أو رافضا...

(انفروا - رحمكم اللّه - إلى قتال عدوكم و لا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف و تبوءوا بالذل و يكون نصيبكم الأخس و إن أخا الحرب الأرق و من نام لم ينم عنه و السلام) أمرهم أن يخرجوا مسرعين إلى قتال عدوهم و لا يتباطئوا أو يتكاسلوا فتكون نتيجة قعودهم أن يعترفوا بالضيم و يقروا عليه فيعودوا بالذل و الهوان و يكون نصيبهم الذي يرجعون به هو الخسة و الضعة و المهانة.

ثم أشار بقوله: و إن أخا الحرب الأرق، إلى أن الذي يريد أن يحارب عدوه لا ينام و لا يغمض له جفن بل يبقى يقظا مستعدا لكل حالة طارئة و نبههم إلى أن من نام لم ينم عنه فإن أنت نمت فإن خصمك و عدوك لم ينم عنك أو يغفل عن رسم الخطط للتغلب عليك...

ص: 138

63 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أبي موسى الأشعري، و هو عامله على الكوفة، و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس.

أمّا بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك، فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك (1)، و أشدد (2) مئزرك (3)، و اخرج من جحرك (4)، و اندب (5) من معك، فإن حقّقت (6) فانفذ (7)، و إن تفشّلت (8) فابعد! وايم اللّه لتؤتينّ من حيث أنت، و لا تترك حتّى يخلط زبدك (9) بخاثرك (10)، و ذائبك (11) بجامدك (12)، و حتّى تعجل عن قعدتك (13)، و تحذر (14) من أمامك كحذرك من خلفك، و ما هي بالهوينى (15) الّتي ترجو، و لكنّها الدّاهية (16) الكبرى، يركب جملها، و يذلّلّ (17) صعبها (18)، و يسهّل جبلها. فاعقل عقلك (19)، و املك أمرك (20)، و خذ نصيبك (21) و حظّك. فإن كرهت فتنحّ (22) إلى غير رحب (23) و لا في نجاة، فبالحريّ (24) لتكفينّ و أنت نائم، حتّى لا يقال: أين فلان ؟ و اللّه إنّه لحقّ مع محقّ ، و ما أبالي (25) ما صنع الملحدون (26)، و السّلام.

اللغة

1 - الذيل: آخر الشيء و ذيل الثوب ما جرّ منه إذا أسبل.

2 - شد المئزر: أعقده أي تهيأ.

3 - المئزر: قطعة قماش تغطي البدن.

ص: 139

4 - الجحر: بالضم ثقب الحية و نحوها من الحشار.

5 - أندب: أدع.

6 - حققت: عزمت.

7 - أنفذ: أمض.

8 - تفشلت: جبنت.

9 - الزبد: بالضم ما يستخرج بالمخض من اللبن.

10 - خثر اللبن: اشتد و ثخن.

11 - الذائب: ضد الجامد.

12 - الجامد: المتماسك الأجزاء.

13 - القعدة: بالكسر هيئة القعود و هو الجلوس.

14 - تحذر: تخاف.

15 - الهوينى: تصغير الهوني مؤنث أهون.

16 - الداهية: المصيبة، و النائبة.

17 - يذلل: يسهّل و ذلت له القوافي سهلت و انقادت.

18 - الصعب: ضد السهل و اللين المنقاد.

19 - أعقل عقلك: قيد عقلك بالعزيمة و لا تتردد.

20 - أملك أمرك: استقل به و احبسه عليك.

21 - نصيبك: سهمك.

22 - تنح: ابتعد و اترك.

23 - الرحب: السعة و لا رحب أي لا سعة.

24 - الحري: الجدير بالشيء.

25 - ما أبالي: لا أهتم و لا أعطي بالا أي فكرا.

26 - الملحدون: الكفار.

الشرح

(من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس. أما بعد فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك و اشدد مئزرك و اخرج من جحرك و اندب من معك فإن حققت فانفذ و إن تفشلت فابعد) كان أبو موسى الأشعري - عبد الله بن قيس - واليا على الكوفة عند ما خرج الإمام من المدينة لحرب أصحاب الجمل فأرسل إليه الإمام الرسل يستحثه على استنفار الناس و الخروج بهم إلى حرب الناكثين و لكن الأشعري روى بعض الأحاديث التي لا أصل لها يثبط بذلك عزائم أهل

ص: 140

الكوفة و يقعدهم عن النهوض و الخروج و يأمرهم أن يغمدوا سيوفهم و أنها فتنة لا يجوز القتال فيها فكتب له الإمام هذه الرسالة.

يشير الإمام إلى أنه قد وصله عن الأشعري قول هو له و عليه و ما قاله كما يقول الشارحون: إن أبا موسى خطب بأهل الكوفة عند ما استشاروه بالخروج مع الإمام قائلا لهم: إن عليا إمام هدى و بيعته صحيحة إلا أنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة، و هذا القول أوله صحيح و آخره سخيف و ذلك لأنه إذا تمت البيعة و صحّ عقدها وجب رد الفتنة و قمعها و القضاء على الخارجين على الحكومة الشرعية و أيضا بظاهره دين و ورع يرجع إلى أبي موسى و لكنه عليه لأنه يدعو إلى تثبيط الناس و تخذيلهم عن القيادة السديدة التي أوكلت إليها أمور الأمة...

ثم إنه عليه السلام أمره أن يستعد و يتهيء و يدعو الناس معه لكي يخرجوا جميعا لحرب الناكثين نعم إن عزم على ذلك و اتخذ قرار الوقوف إلى جانبه فليخرج بدون تأخير و إن بقي على موقفه من الشك و التردد و عدم اتخاذ القرار السليم في الوقوف إلى جانبه فليعلن اعتزاله عن ولاية الكوفة و يترك العمل لأهله.

(و أيم اللّه لتؤتين من حيث أنت و لا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك و ذائبك بجامدك و حتى تعجل عن قعدتك و تحذر من أمامك كحذرك من خلفك) أقسم له عليه السلام إن بقي على شكه و موقفه المتردد و لم يحزم أمره لصالح الحكم الشرعي سوف يأتي الإمام إليه - في الكوفة حيث يقيم - و لا يتركه في رغد عيشه و دعته و إنما سيقلب عليه الأمور و يغير القضايا و يناله بالعقوبة اللازمة و قد عبر عن ذلك بقوله: «لا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك و ذائبك بجامدك» و هما كما يقول البحراني مثلان كنى بهما عن خلط أحواله الصافية بالتكدير و عزته بذلته و سروره بغمه و سهولة أمره بصعوبته.

و لشدة ما يناله و يحل بساحته و لهول ما يرى فإن كل ذلك يشغله عن القعود مستقيما مستريحا كما يريد و يحب.

ثم حذره و خوفه أكثر من حيث إنه لن يفر من العقاب و لن يتخلص منه بحال بل هو مدركه لا محالة و عبر عن ذلك بقوله: «و تحذر من أمامك كحذرك من خلفك» و قيل: إن موقفك المتردد الشاك يجعلنا نحن نغضب عليك و كذلك لنفس الموقف يغضب عليك الناكثون فنحن و هم في عداء معك بالغضب عليك منا جميعا و أنت مطلوب من كلا الفريقين...

(و ما هي بالهوينى التي ترجو و لكنها الداهية الكبرى يركب جملها و يذلل صعبها

ص: 141

و يسهل جبلها فاعقل عقلك و املك أمرك و خذ نصيبك و حظك) أخبره أن موقفه المشكك المتردد ليس بالأمر السهل اليسير الذي يرجو أن يمر به بسلام بل إنه مصيبة عظمى و نائبة من نوائب الدهر و عثراته و بالنسبة لنا سنستقبلها و نتحمل نتائجها و نهوّن العسير منها و نروض الصعب المتمرد و نحاول أن نتغلب عليها و لكن عليك أنت أن ترجع إلى عقلك دون هواك و أن يكون قرارك الذي تتخذه نتيجة قناعتك الخاصة و عقلانيتك السليمة و ليس فيه إيحاء خارجي أو وشوشة تسمع إليها ثم خذ نصيبك و سهمك من طاعة الخلافة الشرعية و الجهاد معها فإن البيعة لازمة و واجب الجهاد متعين مع صاحبها.

(فإن كرهت فتنح إلى غير رحب و لا في نجاة فبالحري لتكفين و أنت نائم حتى لا يقال: أين فلان و اللّه إنه لحق مع محق و ما أبالي ما صنع الملحدون و السلام) بعد أن بين له الإمام الصواب و دله عليه و أرشده إلى ما فيه الحق و أوضح أمامه الرؤية أمره إن لم يقبل بذلك أن يترك الولاية و يعتزلها و يقدم استقالته و يبتعد عن السلطة و لكن إلى غير هدى و لا سعة و لا هناء و لا إلى نجاة من عذاب اللّه و عقابه بل إلى النار و بئس القرار...

ثم استخف به قائلا إنا نكفيك الحرب و القتال و جدير بنا أن نقوم بذلك و لا من أحد يلتفت إليك أو يهتم بك بل من شدة الاستخفاف بك أنه ليس من أحد يسأل عنك و يقول أين الأشعري و لما ذا كان غائبا؟ إنك مهمل لا تعدّ في صفوف الرجال الذين يحسب لهم حساب و يسأل عنهم إن غابوا إذ لا دور لك فوجودك و عدمك سيان...

ثم أقسم عليه السلام أن ما يقوم به من حرب الناكثين هو الحق و الصواب و أن القائم به و هو نفسه محق فيما يقوم به و بعد أن يكون عليه السلام مع الحق و يقاتل على الحق فلا يهنم و لا يلقي بالا إلى ما يقوله الجاحدون و المنكرون و المشككون و المثبطون.

قال ابن أبي الحديد في هذا المقام: ثم أقسم أنه لحق أي أنه في حرب هؤلاء لعلى حق و أن من أطاعني مع إمام محق ليس يبالي ما صنع الملحدون و هذا إشارة إلى قول النبي - صلّى اللّه عليه و آله -: «اللهم أدر الحق معه حيثما دار».

ص: 142

64 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية، جوابا أمّا بعد، فإنّا كنّا نحن و أنتم على ما ذكرت من الألفة (1) و الجماعة، ففرّق بيننا و بينكم أمس أنّا آمنّا و كفرتم، و اليوم أنّا استقمنا (2) و فتنتم، و ما أسلم مسلمكم إلاّ كرها، و بعد أن كان أنف (3) الإسلام كلّه لرسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -، حزبا.

و ذكرت أنّي قتلت طلحة و الزّبير، و شرّدت (4) بعائشة، و نزلت بين المصرين (5)! و ذلك أمر غبت عنه فلا عليك، و لا العذر فيه إليك.

و ذكرت أنّك زائري في المهاجرين و الأنصار، و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك، فإن كان فيه عجل فاسترفه (6)، فإنّي إن أزرك فذلك جدير أن يكون اللّه إنّما بعثني إليك للنّقمة (7) منك! و إن تزرني فكما قال أخو بني أسد:

مستقبلين رياح الصّيف تضربهم *** بحاصب (8) بين أغوار (9) و جلمود (10)

و عندي السّيف الّذي أعضضته (11) بجدّك و خالك و أخيك في مقام واحد. و إنّك و اللّه ما علمت الأغلف (12) القلب، المقارب (13) العقل، و الأولى أن يقال لك: إنّك رقيت (14) سلّما (15) أطلعك مطلع سوء عليك لا لك، لأنّك نشدت (16) غير ضالّتك (17)، و رعيت (18) غير سائمتك (19)، و طلبت أمرا لست من أهله و لا في معدنه، فما أبعد قولك من فعلك!!

ص: 143

و قريب ما أشبهت من أعمام و أخوال! حملتهم الشّقاوة، و تمنّي الباطل، على الجحود (20) بمحمّد - صلّى اللّه عليه و آله - فصرعوا مصارعهم (21) حيث علمت، لم يدفعوا عظيما، و لم يمنعوا حريما، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى (22)، و لم تماشها (23) الهوينى (24).

و قد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه النّاس، ثمّ حاكم القوم إليّ ، أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه تعالى، و أمّا تلك الّتي تريد فإنّها خدعة (25) الصّبيّ عن اللّبن في أوّل الفصال (26)، و السّلام لأهله.

اللغة

1 - الألفة: الصداقة و المؤانسة.

2 - استقمنا: اعتدلنا و الاستقامة ضد الاعوجاج.

3 - أنف كل شيء: أوله و أنف الإسلام هنا يراد به الأشراف من العرب.

4 - شرّد به: طرده و فرّق أمره.

5 - المصرين: الكوفة و البصرة.

6 - أسترفه: أطلب الرفاهية و النعيم.

7 - النقمة: العقوبة.

8 - الحاصب: ريح تحمل التراب و الحصى.

9 - الأغوار: جمع غور المنخفض من الأرض.

10 - الجلمود: بالضم، الصخر و الأحجار الصلبة.

11 - أعضضته بالسيف: جعلت السيف يعضهم و يقتلهم.

12 - الأغلف: المغطى بشيء لا يظهر منه.

13 - المقارب: الضعيف الذي لم يكتمل و مقارب العقل ناقصه و ضعيفه.

14 - رقيت: صعدت.

15 - السلم: ما يرتقى عليه.

16 - نشدت: طلبت، و أردت.

17 - الضالة: الشيء المفقود.

18 - رعيت: أطعمت.

ص: 144

19 - السائمة: الأنعام الراعية.

20 - الجحود: الإنكار و الكفر.

21 - صرعوا مصارعهم: سقطوا قتلى في مطارحهم.

22 - الوغى: الحرب.

23 - لم تماشها: لم تصاحبها.

24 - الهوينى: مؤنث الهين و هو السهل.

25 - الخدعة: مثلثة الخاء الحيلة تتغلب بها على عدوك.

26 - الفصال: الفطام.

الشرح

(أما بعد فإنا كنا نحن و أنتم على ما ذكرت من الألفة و الجماعة ففرق بيننا و بينكم أمس أنا آمنا و كفرتم و اليوم أنا استقمنا و فتنتم و ما أسلم مسلمكم إلا كرها و بعد إن كان أنف الإسلام كله لرسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - حزبا) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى معاوية ردا على رسالة كان معاوية قد بعث بها إليه، و فيها حملة شديدة على آل أبي سفيان كما أن فيها ذكر معايبهم و خسيس صفاتهم و في مقابل ذلك يذكر الهاشميين و بعض كريم صفاتهم.

ذكر معاوية ما كان بين الهاشميين و الأمويين من الألفة و الاتحاد و الجماعة في القديم أيام الشرك و الجاهلية و الإمام لا ينكر أنهما أهل بيت واحد و هو بيت عبد مناف و لكن افترقا فيما بعد بأمور:

1 - إن الإسلام الذي ظهر على يد النبي المصطفى قد فرّق بينهما ففي حين آمن الهاشميون برسول اللّه و استسلموا لأحكام اللّه ففي ذلك الوقت كفر الأمويون برسول اللّه و لم يؤمنوا برسالته.

2 - إن الهاشميين استقاموا على خط اللّه و رسوله و استمروا كما أراد اللّه لم يغيروا موقفا و لم ينحرفوا عن سنة بينما انحرف الأمويون و لم يبقوا على خط الاستقامة و التقوى.

3 - لم لم يسلم الأمويون كما هو حال أبي سفيان و معاوية و أضرابهما لم يسلموا إلا كرها و اضطرارا خوف القتل فقد روى المؤرخون أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح بليلة.

ثم أشار الإمام أن إسلامهم لم يكن عن إيمان و إنما كان خوفا و فزعا بعد أن اشتد

ص: 145

ساعد رسول اللّه و قويت شوكته و انضم إليه العرب في جميع الجزيرة عندها أسلم الأمويون...

(و ذكرت أني قتلت طلحة و الزبير و شردت بعائشة و نزلت بين المصرين و ذلك أمر غبت عنه فلا عليك و لا العذر فيه إليك) رد الإمام على معاوية دعواه بأنه قتل طلحة و الزبير و شرد بعائشة و أنه نزل بين المصرين الكوفة و البصرة و ترك المدينة المنورة.

و قد أجابه الإمام بجواب فيه ازدراء له و احتقار يقول له فيه: إن ما وقع بيننا و بينهم لا يعنيك و لا علاقة لك به لكل ما اكتسب و عليك ما اكتسبت.

و بالحقيقة أن كل المنصفين يشهدون أن طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة قد ارتكبوا خطأ حينما بايعوا الإمام ثم نكثوا بيعته و للإمام الحق بل الواجب عليه أن يردهم إلى الطاعة و يلحقهم بالجماعة فإن أبوا جرد عليهم السيف و هكذا كان و هكذا وقع و ليس لمعاوية الاعتذار و لا منه تؤخذ شهادات حسن السلوك و الأداء...

و أما ترك الإمام لمدينة النبي و نزوله بين الكوفة و البصرة فكأنه لا يعلم المصالح الداعية للإمام لكي يخرج و لم يعلم أن الأهم يدفع المهم و يتقدم عليه ورد الخارجين و قمع الناكثين و لمّ شمل الأمة أهم بكثير من البقاء في المدينة المنورة...

(و ذكرت أنك زائري في المهاجرين و الأنصار و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك فإن كان فيك عجل فاسترفه، فإني إن أزرك فذلك جدير أن يكون اللّه إنما بعثني إليك للنقمة منك و أن تزرني فكما قال أخو بني أسد:

مستقبلين رياح الصيف تضربهم *** بحاصب بين أغوار و جلمود

و عندي السيف الذي أعضضته بجدك و خالك و أخيك في مقام واحد) هذا أغرب ما يدعيه معاوية من الباطل، إنه يهدّد عليا بالحرب و أن معه المهاجرين و الأنصار و من المتفق عليه أنه لم يكن مع معاوية في حربه ضد الإمام من الأنصار إلا النعمان بن بشير و مسلمة بن مخلد تبعاه طلبا للدنيا أما المهاجرون فلم يذكر أحد أن أحدا منهم كان مع معاوية...

نعم كان معه الطلقاء و أبناءهم الذين استسلموا عام الفتح و عمرو بن العاص شريك معاوية في حربه و جريمته و لذا يردّ الإمام عليه بأن الهجرة قد انقطعت بعد فتح مكة يوم أسر يزيد بن أبي سفيان و فيه توبيخ لمعاوية شديد و تذكير له أنه لم يسلم مسلمهم إلا خوفا من السيف...

ص: 146

ثم إن الإمام قابل الوعيد بالوعيد و أنه إذا كان مستعجلا في المسير إليه فليتنعم و ليأخذ قسطه من متع الحياة لأنه لن يبقى بعد المواجهة أبدا و زاد في التفصيل بأنه إذا زاره الإمام و قصده إلى حيث هو فذلك أن اللّه يكون قد أرسله إليه لينتقم منه و يعاقبه، و أما إذا قصده معاوية في الحرب و توجه إليه فإنه سيستقبله بالسيوف و الرماح كما تواجه رياح الصيف من يواجهها بحصائها فهي مواجهة لا يقدر على النجاة منها...

ثم ذكره مهددا و متوعدا بأن السيف الذي طال جده عتبة بن ربيعة و خاله الوليد بن عتبة و أخاه حنظلة بن أبي سفيان يوم أحد حيث قتلهم الإمام في يوم واحد ذلك السيف لا يزال بيده يعده له و يتوقع أن يناله ما نالهم بذلك السيف نفسه...

(و إنك و اللّه ما علمت الأغلف القلب المقارب العقل) الذي أعلمه منك أنك محجوب القلب لا تعقل شيئا ضعيف العقل لا يحسن التفكير أو يجيده يرميه بقلة الضمير و العقل...

(و الأولى أن يقال لك: إنك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك لأنك نشدت غير ضالتك و رعيت غير سائمتك و طلبت أمرا لست من أهله و لا في معدنه فما أبعد قولك من فعلك) الأجدر أن يقال لك و أنت به حقيق أنك صعدت سلما فأوصلك إلى السوء فدارت الدائرة عليك و ضدك و ليس لك و لا لصالحك و ذلك لأنك طلبت الخلافة و هي ليس لك بل هي محرمة على الطلقاء و أبناء الطلقاء.

و كذلك أنت تتعب نفسك لغيرك و تتعدى على الخلافة التي هي لي و تريدها أنت لنفسك ظلما و كذلك طلبت الخلافة و أنت طليق ابن طليق و كذلك أنت صعلوك من صعاليك العرب و لست من علياء المسلمين و أهل السبق و القدم الثابتة في هذا الدين فما أبعد قولك عن فعلك فقولك يدور حول الطلب بثأر عثمان و الاقتصاص من قتلته بينما فعلك و عملك و حركتك من أجل الخلافة و الوصول إليها و تولي الأمر و ركوب رقاب المسلمين...

(و قريب ما أشبهت من أعمام و أخوال حملتهم الشقاوة و تمني الباطل على الجحود بمحمد - صلّى اللّه عليه و آله - فصرعوا مصارعهم حيث علمت لم يدفعوا عظيما و لم يمنعوا حريما بوقع سيوف ما خلا منها الوغى و لم تماشها الهوينى) إنك تشبه أعمامك و أخوالك فأنت منهم من لحمهم و دمهم و قد حملتهم التعاسة و الشقاوة و سوء التوفيق و ما كانوا يتمنونه من الباطل و يعملون من أجله فقادهم ذلك إلى إنكار رسالة النبي و إعلان الحرب عليه حتى قتلوا في أماكنهم المعهودة في بدر و غيرها لم يدفعوا عن أنفسهم قتلا

ص: 147

و لا عن غيرهم ظلما و لم يحاموا عن عرض أو أمر محترم لأنهم أخسأ من ذلك و أذل فإنهم لم يمنعوا ذلك بوقع سيوف ما خلا منها الوغى و لم تماشها الهوينى يعني السيوف التي وقعت بهم نالتهم في جميع الحروب و كانت تمر عليهم سريعا كالبرق و تحصدهم ليس فيها بطىء أو تهاون...

(و قد أكثرت في قتلة عثمان فأدخل فيما دخل فيه الناس ثم حاكم القوم إليّ أحملك و إياهم على كتاب اللّه تعالى و أما تلك التي تريد فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال و السلام لأهله) تمرد معاوية على الحكم الشرعي و لم يكن له ما يدعم موقفه إلا دم عثمان فرفع شعار المطالبة بدمه و تسليم قتلته، طلب ذلك من الإمام دون أن يعترف بخلافته و شرعية حكمه فكان الإمام يطلب منه أولا أن يدخل فيما دخل فيه الناس من إعطائه البيعة و الاعتراف بشرعية حكمه ثم بعد ذلك يرفع الدعوى أمام القضاء فيجري الحكم على ما نص عليه كتاب اللّه و سنة رسوله و لكن معاوية لم يكن همه ما يرفعه من شعار و لا يريد تحقيق مضمونه و الوصول إليه و إنما يرفعه من أجل أن يرفض بيعة علي و يتمرد عليه و يطلب إمارة الشام، فالشعار من أجل حكم يطلبه و ليس من أجل الثأر لعثمان و الانتصار له و قد شبّه الإمام فعله بخدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال: إنه يطلب أن يسلمه الإمام قتلة عثمان فكانت هذه هي الذريعة التي يتخذها لإعلان التمرد و استمرارية الحرب فهي خدعة يقدمها أمام الناس كواجهة و لكن في الحقيقة يريد الخلافة و الإمارة و لذا كان يطلب من الإمام ولاية الشام و أن لا يكون له بيعة في عنقه فيقول الإمام: إن هذه خدعة يريد من خلالها رفض البيعة ثم يأخذ بالتمرد و التوسع شيئا فشيئا فهي تشبه فطام الطفل حيث يقرب إليه ما يرغب فيه ليعزف عن الثدي و ينفر منه و نبهه الإمام إلى أن هذه الخدعة لن تمر عليه فليصرف نظره عنها...

ص: 148

65 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إليه أيضا أمّا بعد، فقد آن (1) لك أن تنتفع باللّمح الباصر (2) من عيان الأمور (3)، فقد سلكت (4) مدارج (5) أسلافك (6) بادّعائك الأباطيل، و اقتحامك (7) غرور المين (8) و الأكاذيب، و بانتحالك (9) ما قد علا عنك (10)، و ابتزازك (11) لما قد اختزن (12) دونك، فرارا (13) من الحقّ ، و جحودا (14) لما هو ألزم لك من لحمك و دمك، ممّا قد وعاه (15) سمعك، و ملىء به صدرك، فما ذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال المبين، و بعد البيان إلاّ اللّبس (16) فاحذر الشّبهة و اشتمالها على لبستها، فإنّ الفتنة طالما أغدفت (17) جلابيبها (18)، و أغشت (19) الأبصار ظلمتها.

و قد أتاني كتاب منك ذو أفانين (20) من القول ضعفت قواها عن السّلم (21)، و أساطير (22) لم يحكها (23) منك علم و لا حلم (24)، أصبحت منها كالخائض (25) في الدّهاس (26)، و الخابط (27) في الدّيماس (28)، و ترقّيت (29) إلى مرقبة (30) بعيدة المرام (31)، نازحة (32) الأعلام (33).

تقصر (34) دونها الأنوق (35) و يحاذى (36) بها العيّوق (37).

و حاش (38) للّه أن تلي (39) للمسلمين بعدي صدرا (40) أو وردا (41)، أو أجري لك على أحد منهم عقدا أو عهدا!! فمن الآن فتدارك نفسك (42)،

ص: 149

و انظر لها، فإنّك إن فرّطت (43) حتّى ينهد (44) إليك عباد اللّه أرتجت (45) عليك الأمور، و منعت أمرا هو منك اليوم مقبول، و السّلام.

اللغة

1 - آن: قرب و حان.

2 - اللمح الباصر: النظر الصحيح.

3 - عيان الأمور: مشاهدتها و معاينتها.

4 - سلكت: دخلت.

5 - المدارج: المسالك و الطرائق.

6 - الأسلاف: المتقدمون من الآباء و الأجداد.

7 - الاقتحام و الإقحام: الدخول في الشيء بسرعة و من غير رويّة.

8 - المين: الكذب.

9 - الانتحال: ادعاء ما ليس له.

10 - ما قد علا عنك: ما هو أرفع منك.

11 - الابتزاز: الاستلاب.

12 - اختزن: أي منع دون الوصول إليك.

13 - فرارا: هروبا.

14 - الجحود: الإنكار لما يعلم.

15 - وعاه: سمعه و فهمه.

16 - اللبس: الاختلاط و الإبهام.

17 - أغدفت: أرسلت.

18 - الجلابيب: جمع جلباب الثوب الأعلى.

19 - العشاء: ظلمة العين و امتناعها من الرؤية السليمة.

20 - الأفانين: الأساليب المختلفة.

21 - السلم: ضد الحرب.

22 - الأساطير: الأباطيل، الخرافات التي لا يعلم لها منشأ.

23 - حاكه: نسجه و ألّفه.

24 - الحلم: بكسر الحاء العقل.

25 - خاض الماء: دخل فيه.

ص: 150

26 - الدهاس: كسحاب أرض رخوة ليس ترابا و لا رملا و لكن منهما يعسر فيها السير.

27 - الخابط في سيره: الذي لا يهتدي.

28 - الديماس: المكان المظلم تحت الأرض.

29 - ترقيت: ارتفعت.

30 - المرقبة: مكان الارتقاب، موضع عال مشرف يرتفع إليه الراصد.

31 - المرام: المراد و المطلوب.

32 - نازحة: بعيدة.

33 - الأعلام: جمع علم و هو ما ينصب ليهتدى به.

34 - تقصر: من قصر عن الشيء إذا لم يبلغه.

35 - الأنوق: طائر مكانه في رءوس الجبال الصعبة و البعيدة.

36 - يحاذى: يساوي و يقابل.

37 - العيوق: نجم معروف مكانه فوق زحل.

38 - حاشا للّه: معاذ اللّه.

39 - تلي: تتقلد و تتولى.

40 - الصدر: الرجوع بعد الشرب.

41 - الورد: الإشراف على الماء و إتيانه.

42 - تدارك الشيء: تلافاه.

43 - فرطت: قصّرت و فرط بالشيء ضيعه و بدّده.

44 - ينهد: ينهض.

45 - أرتجت: أغلقت.

الشرح

(أما بعد فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل و اقتحامك غرور المين و الأكاذيب و بانتحالك ما قد علا عنك و ابتزازك لما قد اختزن دونك فرارا من الحق و جحودا لمن هو ألزم لك من لحمك و دمك مما قد وعاه سمعك و ملىء به صدرك) هذه من جملة رسائل الإمام إلى معاوية جوابا له عما كان قد بعث به إليه يقول له فيها: فكما أن المبصر للأشياء و المدارك لها على حقيقتها منتفع بها و متثبت من وجودها فانتفع أنت بما تعرفه بالضرورة من حقي في الخلافة و براءتي من دم عثمان و أعترف بذلك و لا تكابر.

ص: 151

ثم بين له السبب من عدم رؤيته للحق بأنه قد سار على ما سار عليه آباؤه أبو سفيان و عتبة و غيرهما من الأمويين فهم قد حاربوا رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - و أرصدوا للدين و الشريعة كل شر و سوء و معاوية لم يخرج عن طريقتهم و لم يعدل عن سيرتهم فقد ادعى الأباطيل الكاذبة من حيث اتهم الإمام بقتل عثمان و كذلك ادعى أنه هو ولي دمه و لذا طلب من الإمام أن يسلمه القتلة...

و كذلك منعه من رؤية الحق و العمل به «اقتحامك غرور المين و الأكاذيب» فلا يخاف اللّه أو يخشاه بل يبادر إلى الكذب و الدجل و يختلق من الأمور ما لا واقع له و لا أصل و يحيك المؤامرات دون وازع من دين أو ضمير.

و كذلك منعه عن رؤية الحق و مشاهدته «و بانتحالك ما قد علا عنك و ابتزازك لما قد اختزن دونك» فأنت تطلب الخلافة مع أنك تقصر عنها و لا تبلغها و لست من أهلها، أنت صعلوك من صعاليك العرب تطلب ما لا تحلم به و ما لست من شأنه، و أنت تسلب البيعة من أهل الشام و تأخذها لنفسك ممن هم تحت يدك و في حكمك و تسمي نفسك أمير المؤمنين.

ثم بين له أن ما فعله إنما كان من أجل أن يهرب من مر الحق و الدين و حبا للشقاق و التغلب و كفرا لما هو ألزم له من لحمه و دمه و بين ذلك الشيء بأنه قد سمعه بأذنه و اعتقده في قلبه و هو ما كان يقوله النبي في حق الإمام حيث سمع المسلمون قاطبة و منهم معاوية قوله: «ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عادي من عاداه» و قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» و قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و هكذا.

(فما ذا بعد الحق إلا الضلال المبين و بعد البيان إلا اللبس فاحذر الشبهة و اشتمالها على لبستها فإن الفتنة طالما أغدفت جلابيبها و أغشت الأبصار ظلمتها) فالأمور على نحوين: هدى و ضلال و حق و باطل فمن لم يكن على الهدى فهو على الضلال و إذا رفض معاوية حق عليّ و أبي أن يقبله فليس له إلا الباطل بعد رفضه الحق و ليس بعد ما قدمه النبي من البيان الواضح و الدلائل الجلية إلا الالتباس و الاشتباه و عدم الوضوح في الرؤية...

ثم حذره من الشبهة و خوّفه من احتوائها على ما يضل و يضر حذره من أن يدعي أنه عليه السلام هو الذي قتل عثمان كما حذره من المطالبة بقتلته لأن هذه شبهة يقدمها أمام

ص: 152

الناس و يشوه بها الحقيقة عليهم ظنا منهم أنه صادق و لكنه يريد أن يصطاد بها القلوب الضعيفة.

ثم بين أن الفتنة إذا وقعت بين الناس و أضحى قميص عثمان هو الراية التي يرفعها أمامهم و يحركها كلما سكنوا فإن العيون لا تعود تبصر الحقيقة لشدة الغشاوة عليها و الظلمة التي تكتنفها و تحيط بها...

(و قد أتاني كتاب منك ذو أفانين من القول ضعفت قواها عن السلم و أساطير لم يحكها منك علم و لا حلم أصبحت منها كالخائض في الدهاس و الخابط في الديماس) بيّن عليه السلام أنه قد وصله من معاوية كتاب مختلف في نفسه، فيه التناقض و التباين و الأمور المخالفة للإسلام التي لا تصدر من مسلم.

قال ابن أبي الحديد: و كان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام و أن يوليه العهد من بعده و ألا يكلفه الحضور عنده و ليس لتلك الطلبات و الدعاوي و الشبهات التي تضمنها كتابك من القوة ما يقتضي أن يكون المتمسك به مسلما لأنه كلام لا يقوله إلا من هو كافرا أو منافق أو فاسق...

ثم بين صفات الكتاب إنه «أساطير لم يحكها منك علم و لا حلم» إنها أباطيل و خيالات لا حقيقة لها كتبها و نظمها من لا علم له و لا عقل عنده ثم شبه حركته التي يتخبط بها كالماشي في أرض تغور فيها الرجل و لا تستقر أو كالماشي في الليل المظلم فهو يتعثر في مشيته و كلما نهض وقع و لا يهتدي الطريق.

(و ترقيت إلى مرقبة بعيدة المرام، نازحة الأعلام تقصر دونها الأنوف و يحاذى بها العيوق) لقد صعدت إلى مكان رفيع لا تستطيع الوصول إليه فأنت تطلب الخلافة و تريدها و لكن لا تقدر أن تصل إليها، إنها بعيدة عنك جدا لا تصل يدك إليها فهي بمنزلة النجم و أنت تحاول إدراكه أو بمنزلة الأنوق و هي الرخمة التي لا يمكنك أن تدركها بحال و لا أن تصل إليها لعلو مكانها و كذلك الأمر الذي تطلبه... و بعبارة مختصرة إن طلبك للخلافة أمر غير مقدور لك فكما لا تستطيع أن تتناول النجم أو تصل إلى الذروة العالية فكذلك الخلافة بالنسبة إليك...

(و حاشا للّه أن تلي للمسلمين بعدي صدرا أو وردا أو أجري لك على أحد منهم عقدا أو عهدا) أعوذ اللّه و أستجير به و أستغفره أن أجعلك واليا على أمر من أمور المسلمين بعدي أو أجعلك تحل لهم أمرا أو تعقده و لن أجعل لك على أحد من المسلمين سبيلا و لن أمكنك من التسلط عليهم و الاستيلاء على أمورهم.

ص: 153

(فمن الآن فتدارك نفسك و انظر لها فإنك إن فرّطت حتى ينهد إليك عباد اللّه أرتجت عليك الأمور و منعت أمرا هو منك اليوم مقبول و السلام) انظر إلى نفسك فاحفظها من التلف وقها الهلاك و قرّبها من اللّه فإن تأخرت و لم تسرع لما قلته لك و بقيت على موقفك الرافض حتى ينهض إليك المجاهدون و عباد اللّه الصالحين فعندها تقفل الأبواب في وجهك و لن تستطيع أن تخرج من الأزمة أو تتحلل من الشدة لأن قبضاتهم قوية و متينة و شديدة لن تستطيع أن تهرب منها فإن أنت عدت إلى الصواب و الرشاد و تبت عما ظلمت و أجرمت قبل ذلك منك الآن أما إذا بقيت على تمردك مصرا على المعصية و الانحراف فلن يقبل ذلك منك فيما بعد عند ما تقع بين أيدي المجاهدين فانظر لنفسك و ادفع عنها السوء و العذاب...

ص: 154

66 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عبد اللّه بن العباس، و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية أمّا بعد، فإنّ المرء (1) ليفرح بالشّيء الّذي لم يكن ليفوته (2)، و يحزن على الشّيء الّذي لم يكن ليصيبه (3)، فلا يكن أفضل ما نلت (4) في نفسك من دنياك بلوغ (5) لذّة (6) أو شفاء غيظ (7)، و لكن إطفاء (8) باطل أو إحياء حقّ .

و ليكن سرورك بما قدّمت، و أسفك (9) على ما خلّفت (10)، و همّك فيما بعد الموت.

اللغة

1 - المرء: مثلثة الميم الإنسان جمعه رجال من غير لفظه.

2 - فات: الأمر مضى و ذهب وقت فعله، عدم إدراك الشيء.

3 - أصاب: أدرك.

4 - نلت: أدركت و أصبت.

5 - بلغ: وصل و بلغ لذته أدركها و أصابها.

6 - اللذة: جمعها لذات الشهوات و ما يلائم النفس و تشتهيه.

7 - الغيظ: أشد الغضب و سورته.

8 - أطفأ النار: أخمدها.

9 - الأسف: الحزن و التلهف.

10 - خلّفت: تركت.

الشرح

(أما بعد فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته و يحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ

ص: 155

و لكن إطفاء باطل أو إحياء حق و ليكن سرورك بما قدمت و أسفك على ما خلفت و همك فيما بعد الموت) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى ابن عباس و قد تقدم نظيرها إلا بتبديل يسير و مفاد هذا الكتاب:

إن الإنسان يفرح بما يدركه و يحصل عليه و يجد لذة فيما وصل إليه كما أنه إذا أراد شيئا و لم تساعده ذات يده عليه أو حال القدر دونه فإنه يحزن و يتأثر مع أن كل شيء بقدر اللّه و قضائه و قد قال تعالى: «لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ » (1) و بعد هذه المقدمة أراد أن يدخل فيما يريد بيانه له و يعظه فيه فأشار عليه أن لا يجعل كل همه و عمله و شغله و حركته في لذة يصيبها لنفسه من الدنيا أو يشفي مرض غضبه بالاقتصاص من أعدائه و الانتقام منهم بل يجب أن يكون كل همه و شغله الشاغل له أن يمحق باطلا و يزيله من الوجود أو ينشر حقا و يبسطه في الوجود فإن أعظم أهداف الكبار أن يميتوا باطلا و يحيوا حقا...

ثم بين له بأي شيء يكون الفرح و السرور، يجب أن يكون سرور الإنسان بما يقدمه من عمل طيب و كلمة مفيدة و موقف شريف ينفعه ذلك يوم القيامة، و يجب أن يحزن الإنسان و يتأسف على ما يترك من أموال و تراث لأنه لا يستفيد منه لنفسه شيئا و إنما الذي يستفيد الوارث فإن كان صالحا نظر لنفسه و إن كان مسيئا كان معينا له على إساءته...

ثم وجهه إلى أن يكون كل همه فيما بعد الموت من جنة و نار و حساب و عقاب و على كل إنسان أن يعمل لذلك اليوم فيصلح عمله و ما ينفعه يوم الحساب...3.

ص: 156


1- سورة الحديد آية، - 23.

67 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى قثم بن العباس، و هو عامله على مكة أمّا بعد، فأقم للنّاس الحجّ ، و ذكّرهم بأيّام اللّه (1)، و اجلس لهم العصرين (2)، فأفت (3) المستفتي (4)، و علّم الجاهل، و ذاكر العالم (5). و لا يكن لك إلى النّاس سفير (6) إلاّ لسانك، و لا حاجب (7) إلاّ وجهك. و لا تحجبنّ (8) ذا حاجة (9) عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت (10) عن أبوابك في أوّل وردها (11) لم تحمد فيما بعد على قضائها.

و انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك (12) من ذوي العيال (13) و المجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة (14) و الخلاّت (15)، و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا.

و مر أهل مكّة ألاّ يأخذوا من ساكن أجرا، فإنّ اللّه سبحانه يقول:

«سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ» فالعاكف: المقيم به، و البادي: الّذي يحجّ إليه من غير أهله. وفّقنا اللّه و إيّاكم لمحابّه (16)، و السَّلام.

اللغة

1 - أيام اللّه: أيام الانتقام من الماضين.

2 - العصرين: الغداة و العشي.

3 - أفتى فلانا في: أبان له الحكم فيها و أخرج له فيها الفتوى.

المسألة

ص: 157

4 - استفتى العالم في المسألة: طلب أن يفتيه فيها.

5 - ذاكر العالم: تباحث معه و حاوره.

6 - السفير: الرسول.

7 - الحاجب: البواب و ربما خصّ ببوّاب الملوك.

8 - لا تحجبن: لا تمنعن من الدخول.

9 - الحاجة: الطلبة و ما يحتاجه الإنسان و يفتقر إليه.

10 - ذيدت: دفعت و منعت.

11 - وردها: بالكسر ورودها.

12 - قبلك: بكسر ففتح أي عندك و إلى جهتك.

13 - عيال الرجل: أهله الذين يتكفل بإعالتهم و معاشهم.

14 - الفاقة: الفقر الشديد.

15 - الخلات: جمع الخلة بفتح الخاء الحاجة.

16 - المحاب: بفتح الحاء مواضع محبته من الأعمال الصالحة.

الشرح

(أما بعد فأقم للناس الحج) رسالة توجيهية إلى أمير الحاج قثم بن العباس يبين له كيف يتعامل مع تلك الوفود القادمة و كيف يوجهها...

ابتدأ بوصيته بإقامة الحج للناس و إقامته لهم بشروطه و أجزائه و مواقفه و تعليمهم مناسكه و أفعاله...

(و ذكرهم بأيام اللّه) عظهم بما مرّ على الناس قبلهم من النعم و النقم و المصائب و النكبات و الخيرات و البركات فتحصل الرغبة في الخير و البعد عن الشر.

(و اجلس لهم العصرين فافت المستفتي و علم الجاهل و ذاكر العالم) اجلس للناس في هذين الوقتين وقت الصبح و وقت العشاء فإنها أطيب الأوقات في الحجاز و تتقبل الناس فيهما ما تعطيهم من العلم و ما تعظهم به.

ثم قسم مجلسه بين من يريد أن يعرف أحكام دينه فيعرّفه معالم الحلال و الحرام و يرد على مسائل من استفتاه و قسم ثاني من أوقاته يكون لتعليم الناس الذين لا تربطهم بالإسلام رابطة قوية فيعلمهم الدين و أحكامه و مفاهيمه و تشريعاته و قسم ثالث من أوقاته

ص: 158

يكون للمذاكرة مع العلماء و محاورتهم و الوقوف على آرائهم حتى يصل من خلال المناقشة إلى وجه الصواب فيما يذهب إليه و يرتئيه...

(و لا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك و لا حاجب إلا وجهك) اجعل حاجات الناس معك مباشرة و إذا أردت حاجة من أحد فواجه صاحبها بدون وسائط فإن الحاجب يمنع أصحاب الحاجات من إيصالها إليك و السفير قد لا يوصل مرادك إلى من ترسله...

(و لا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها) إذا كان لأحد حاجة عندك فاستقبله بها مباشرة و لا تدافعه أو تأخر تنجيزها أو تسوّف في قضائها و علل ذلك بأنه إذا سوفها ثم قضاها لم يحمد على فعلها لأن لذتها و أجرها يحصل كما قيل في تعجيلها و تصغيرها و سترها فإذا أخر قضاءها فقدت لذتها و بهجتها.

(و انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة و الخلات و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا) أمره أن يقوم بالمال الذي جمعه باسم اللّه من الفيء و الخراج و الجزية المضروبة على أهل الذمة و غير ذلك من الضرائب الشرعية المفروضة أمره عند ما تجتمع عنده أن يوزعها على أهل بلده و من هم في ناحيته و تحت سلطانه و حكمه و ليكون هؤلاء من أصحاب العيال الذين ينوءون بالأولاد و الأيتام و الأرامل و من أصحاب المجاعة و الحاجة و أهل الفقر متوخيا أشد الناس حاجة و أولاهم بالنفقة و إذا فضل شيء من هذا المال عن هؤلاء المحتاجين و أصحاب الفاقة فليدفعه إلى الإمام ليوزعه على مستحقيه ممن هم عنده و هكذا تكون الطريقة العادلة تجمع الصدقات و الأموال العامة في هذه البلدة فتعطى للفقراء فإن لم يكن ثمة فقراء تنقل عندها إلى غيرها من البلاد...

(و مر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا فإن اللّه سبحانه يقول: «سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ» فالعاكف المقيم به و البادي الذي يحج إليه من غير أهله وفقنا اللّه و إياكم لمحابه و السلام) في نهاية الرسالة يأمره أن ينهى أهل مكة و سكانها المقيمين فيها عن أخذ الأجرة ممن يسكن بيوتها و استدل على ذلك بالآية الكريمة و قد وقع الخلاف في جواز بيع بيوت مكة و إجارتها و الصحيح من مذهبنا جواز ذلك و ما ذكره الإمام هنا من منع البيع محمول على الاستحباب...

ثم في النهاية دعى اللّه أن يوفقه و إياه إلى ما يحبه و يرضاه من أعمال الخير و البر...

ص: 159

68 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى سلمان الفارسي رحمه اللّه قبل أيام خلافته أمّا بعد، فإنّما مثل الدّنيا مثل الحيّة (1): ليّن مسّها (2)، قاتل سمّها (3)، فأعرض (4) عمّا يعجبك فيها، لقلّة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما أيقنت به من فراقها، و تصرّف حالاتها (5)، و كن آنس ما تكون بها، أحذر ما تكون منها، فإنّ صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته (6) عنه إلى محذور، أو إلى إيناس (7) أزالته عنه إلى إيحاش (8)! وَ السّلام.

اللغة

1 - الحية: هي الحشرة المعروفة السامة و تطلق على الذكر و الأنثى و يميز بينهما فيقال هذا حية و هذه حية أنثى.

2 - ليّن مسها: ناعم لمسها.

3 - السم: بتثليث السين مادة قاتلة إذا دخلت جوف الإنسان.

4 - أعرض عنه: اتركه و اضرب عنه صفحا.

5 - تصرف حالاتها: تغير حالاتها.

6 - أشخصته: نقلته و ذهبت به.

7 - إيناس: من الأنس و هو ضد الوحشة.

8 - إيحاش: من الوحشة التي هي ضد الأنس.

الشرح

اشارة

(أما بعد، فإنما مثل الدنيا مثل الحية: لين مسها قاتل سمها) سلمان الفارسي نسبة إلى فارس (إيران) عاش في الجاهلية و عاش في الإسلام و قد أخلص

ص: 160

للإسلام و لرسول اللّه و لأهل بيته و كان أحد الأركان الذين أعطوا الولاء للإمام كما كان من الزهد بمكان رفيع و الإمام هنا يكتب إليه هذه الرسالة مذكرا له بالدنيا و مساويها و كيف يستطيع أن يخرج الإنسان منها بتجارة رابحة و رأس مال وفير.

ابتدأ عليه السلام بذكر الدنيا و شبهها بالحية من جهة أن الحية ناعم مسها و من وضع يده عليها شعر بالنعومة و لكن ضمن هذه النعومة سما قاتلا و كذلك الدنيا فإن عيشها رغيد و ملذاتها طيبة و شهواتها مرغوبة تدفع الإنسان إلى الميول و الهوى و لكن عاقبة ذلك العذاب و الهوان و الخلود في النار...

(فاعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها) وجه إليه نصائح عدة و هذه هي النصيحة الأولى أمره أن يجانب و يترك ما يعجبه منها من ملذات و شهوات و مال و عقار و علل ذلك بقلة ما يصحبه منها إلى الآخرة فإن هذه كلها تبقى في الدنيا و لا يأخذ منها صاحبها شيئا بل ربما بقيت تبعتها عليه إن أخذها من غير مواردها المشروعة المحللة...

(وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها و تصرف حالاتها) ألق عنك ما يهمك منها و يشغل بالك فلا تعيش الهم و الغم و القلق المستمر منها و عليها لأن كل ذلك ينقضي و يتصرم بفراقها و الخروج منها و حالاتها المتغيرة من عسر إلى يسر و من شدة إلى رخاء كلها تنقضي و تزول عند ما تطوى صحيفة هذا الإنسان من الدنيا و يتركها بالموت إلى الآخرة...

(و كن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها) أي احذر الدنيا أشد الحذر عند ما تكون في أحسن حالاتك أنسا لأن ساعة الأنس تنسي الآخرة فينحرف الإنسان عن الهدى فيجب أن يكون حذرا جدا في تلك الحالات لئلا تزل به القدم أو تقذف به الدنيا إلى ضد ما هو فيه فيتحول سروره إلى حزن و سعادته إلى شقاء.

(فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى محذور أو إيناس أزالته عنه إلى إيحاش و السلام) و كأن هذا تعليل لوجوب أشد الحذر عند ما يكون أشد أنسابها و سرورا بما فيها و ذلك أنه و هو في أشد حالاته سرورا في ملك أو سلطان أو مال أو جاه و إذا بالدنيا تزيل عنه المال و تسلب منه السلطان و تضعه بعد ذلك الجاه.

و إذا كان مستأنسا بأمر ربما حولته عنه إلى وحشة قاتلة فربما استأنس بالزوجة أو الولد فإذا بملك الموت يقبضهما فيحول ذلك الأنس إلى وحشة و همّ و غم...

ص: 161

ترجمة سلمان الفارسي أو (سلمان المحمدي).
اشارة

هذه سطور من سيرة صحابي من صحابة رسول اللّه و بطل من أبطال الإسلام، سيرة رجل يعد في الرعيل الأول من حملة الدعوة الإسلامية، إنه الرجل الذي ترقّب فجر الدعوة الإسلامية و انضم إليها بمجرد أن سمع لها في هذه الدنيا كلمة و تحركت بها الشفاه هذا هو سلمان الفارسي أحد الأركان الإسلامية الذي أحب اللّه و رسوله و أهل بيت محمد حبا لم يخامره شك و لم يعترضه ارتياب، و بالرغم من قلة السير التي تستوعب حياة هذا البطل و بالرغم من الخفاء لقضايا كثيرة من سيرته كان من الواجب الكشف عنها و إماطة الستر عن وجهها بالرغم من ذلك سوف نستعرض ما أمكننا الكشف عنه من حياة هذا العظيم من أبناء أمتنا التي قدمتها الشريعة نموذجا تفتخر به و تعتز بأمثاله من الأبطال.

اسمه قبل الإسلام: روزبة بن خشنودان.

بلده: رام هرمز أو أصفهان.

لا بد لنا من إلمامة سريعة نستعرض فيها حياة هذا العظيم قبل دخوله في الإسلام لنرى سيرته حيث تلقى إلينا باشعاعات عن نفسيته و صفاته التي يتمتع بها و نحن إذا أخذنا تاريخ حياته السابقة على الإسلام إذا أخذنا ذلك من نفسه يكون أفضل و أضبط و أحسن و هو الثقة الذي لا يشك في صدقه. كنت من أحب عباد اللّه إليه - إلى أبيه - فما زال في حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار التي نوقدها فلا نتركها تخبو و خرجت يوما فمررت بكنيسة للنصارى فسمعت صلاتهم فيها فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلم أزل عندهم و أعجبني ما رأيت من صلاتهم و قلت في نفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه فما برحتهم حتى غابت الشمس فقال أبي: أين كنت ؟ قلت: إني مررت على أناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من أمرهم و صلاتهم و رأيت أن دينهم خير من ديننا فقال لي: أي بني دينك و دين آبائك خير من دينهم قلت له: كلا و اللّه، قال: فجفاني و جعل في رجلي حديدا و حبسني.

من هنا تبدأ رحلة جديدة في عالم الروح إنه اعتقاد جديد يريد أن ينتقل إليه روزبة ينتقل إليه عن اعتقاد و إيمان لا عن هوس و طيش و حبا بالتغيير و هنا أحب أن يغذي روحه و يخلص من المجوسية و تبعاتها فلذا فكر في الأمر و سأل عن أصل هذا الدين - النصرانية - فقالوا له: في الشام قال: و أرسلت إلى النصارى أخبرهم إني رضيت أمرهم و إذا قدم عليكم ركب من الشام فأذنوني، فقدم عليهم ركب من التجار فأرسلوا إليّ

ص: 162

فأرسلت إليهم إن أرادوا الرجوع فأذنوني فلما أرادوا الرجوع أرسلوا لي فرميت بالحديد من رجلي - و كان قد كبّله أبوه به - ثم خرجت معهم إلى الشام فلما قدمت سألت عن عالمهم قيل لي: صاحب الكنيسة فأتيته فأخبرته خبري و قلت له: إني أحب أن أكون معك و أتعلم منك فإني قد رغبت في دينك قال: أقم.

روزبة و راهب الكنيسة:

يقول روزبة و كان - الراهب - رجل سوء في دينه(1) و كان يأمرهم بالصدقة و يرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه الأموال اكتنزها لنفسه حتى جمع سبع قلال دنانير و دارهم ثم مات فاجتمعوا ليدفنوه قلت لهم: إن صاحبكم رجل سوء و أخبرتهم ما كان يصنع قالوا: ما علامة ذلك ؟ فأخرجت القلال مملوءة ذهبا و ورقا فلما رأوها قالوا: و اللّه لا نعيبه ثم صلبوه على خشبة و رجموه بالحجارة و جاءوا بآخر فجعلوه مكانه قال روزبة: فما رأت رجلا أعظم رغبة في الآخرة و لا أزهد في الدنيا و لا أدأب ليلا و نهارا منه فأحببته حبا كثيرا، فلما حضره قدره قلت له: إنه قد حضرك من أمر اللّه ما ترى فما ذا تأمرني و إلى من توصي بي ؟ قال: أي بني ما أرى أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل فأما الناس فقد بدلوا و هلكوا.

و سار روزبة إلى الموصل: فلما وصلها أخبر كاهنها الخبر و وصية راهب دمشق فقال له: أقم فأقام ما شاء اللّه ثم دنت الوفاة من الراهب فقال روزبة ما قاله للراهب السابق: ما ذا تأمرني و إلى من توصي بي فقال له الراهب: أي بني و اللّه ما أعلم أحدنا على أمرنا إلا رجلا بنصيبين فالتحق به فالتحق به و أقام معه ما شاء اللّه حتى دنت الوفاة فقال روزبة له: إلي من توصي بي قال: أي بني و اللّه ما أعلم أحدا من الناس على ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم و لحق روزبة بعد وفاة هذا الراهب براهب عمورية فمكث عنده ما شاء اللّه ثم حضرته الوفاة فقال له روزبة: إلى من توصي بي ؟ فقال له: أي بني و اللّه ما أعلم أنه أصبح على وجه الأرض يدين بمثل ما ندين به، و لكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم يخرج من أرض مهاجرة و قرارة ذات نخل بين حرتين و أن به آيات لا تخفى إنه لا يأكل الصدقة و يأكل الهدية و بين كتفيه خاتم النبوة.

و لما مات الراهب أخذ روزبة يفتش عن بلدة تقع بين حرتين و بعد تفكير طويل اهتدى إليها إنها طيبة، إنها المدينة و أراد الرحيل من عمورية و تحين الفرص أن ترحل قافلة إلى المدينة ليرحل معها و هؤلاء ركب من بني كلب يريدون المدينة و خرج روزبة

ص: 163


1- و ينص القرآن «إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبٰارِ وَ اَلرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلنّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ التوبة» (34).

معهم و لكن نفوس القوم طمعت بالأموال فاسترقت روزبة الحر و عند ما وصل روزبة إلى المدينة آمن أنها هي البلدة التي بين حرتين و باعه بنو كلب من رجل يهودي و تداوله بضع عشر ربا و بينما كان روزبة يؤبر نخلا لسيده إذ دنى ابن عم سيده و قال: قاتل اللّه بني قيلة قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة يزعمون أنه نبي: و هنا روزبة رقصت كل جوارحه و أراد الاستفهام أكثر و لكن سيده لكمه و أمره بالرجوع إلى عمله، رجع روزبة و لكن الشوق يحدوه لاستقصاء الخبر و الوقوف على حقيقته و صمم بينه و بين نفسه أن يختبر الأمر و أن يمتحن هذا الإنسان بما لديه من العلامات و هنا جمع بعض التمرات ثم قدم على النبي و كان رسول اللّه جالسا مع أصحابه فاقترب روزبة و قال: بلغني أنك رجل صالح و أن لك أصحاب غرباء محتاجون و هذا شيء جمعته للصدقة و أنتم أحق به من غيركم و أمسك النبي و النفر من بني هاشم و قال لأصحابه كلوا ثم رجع في اليوم الثاني و قدم بعض التمرات قائلا هذه هدية فأكل النبي و بنو هاشم و هنا أيقن روزبة أنه هو النبي الموعود هو نفسه الذي أخبره به راهب عمورية و لكن بقيت علامة يريد أن يتأكد منها كي تطمئن نفسه و يرتاح ضميره و هنا استدعاه النبي و قال له: تريد خاتم النبوة قال له روزبة:

نعم فكشف له الرسول عن خاتم النبوة بين كتفيه هناك هوى روزبة على قدمي النبي و قال: آمنت بنبوتك أنت الرسول و عندها قال النبي: كان اسمك روزبة و الآن أسميتك سلمان.

و عاد سلمان بعد إيمانه بالنبي عاد إلى سيده اليهودي و كان النبي قد أمره أن يكاتب سيده ليفكه من أسر العبودية يقول سلمان: فسألت صاحبي ذلك فلم أزل به حتى كاتبني على أن أجني له ثلاثماية نخلة أو أربعمائة نخلة نصفها حمراء و الآخر صفراء و أربعين أوقية من ورق(1).

و هنا برزت معجزة النبي و شاء اللّه أن يكون سببها سلمان، هنا أمر النبي أن يحفر للفسيل فحفر له أربعمائة موضع و وضع النبي بنفسه تلك الشجرات فكبرت و أينعت إلا واحدة لم تعط قال النبي من وضعها قيل: عمر فاقتلعها رسول اللّه و غرسها بيده فاطعمت لوقتها و دفع النبي إليه بمثل البيضة من ذهب و قال لسلمان: اذهب بهذه عنك فأداها سلمان و تحرر من ربق العبودية، و بهذا انتهت مرحلة من حياة بطلنا عرفنا فيها كيف تنقل سلمان من دين إلى دين و من رجل إلى رجل حتى وصل إلى المدينة ثم عرفنا كيف تم إسلامه و كيف تحرر و هذه هي مرحلة من مراحل حياة هذا البطل تعطينا الصورة الكاملةة.

ص: 164


1- الورق: الفضة.

العظيمة لنفس تبحث عن الحق تبحث عن الدين الصحيح و الشريعة الإلهية التي أرادها اللّه للناس.

عرفنا كيف أن نفس سلمان دائما تواقة إلى سمو الروح و علو الإيمان عرفنا كيف بحث هذا الإنسان حتى توصل إلى الحقيقة الصحيحة و إلى رسول الإسلام، فأسلم على يديه و الآن نريد أن نعرف عن دوره الآخر دوره في ظل الإسلام...

سلمان يشير بحفر الخندق:

لقد كانت غزوة أحد تجربة مرة على المسلمين إذ كلفتهم ثمنا غاليا و لكنها كانت تجربة أعطتهم درسا كبيرا و عظيما و أراد المسلمون الاستراحة بعدها و لكن أبا سفيان جمع الجموع و أراد أن يغز المدينة و يقضي على محمد و دعوته و أتباعه فجمع أبو سفيان الأحزاب و قرر غزو المدينة و شعر النبي بالخطر و هنا أشار سلمان الذي مرّ بتجارب الفرس و الروم أشار قائلا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا و وقع هذا الرأي موقع القبول من النبي و قرّر رسول اللّه التنفيذ.

سلمان منا أهل البيت:

قرر النبي أن يضرب خندقا يمنع الأحزاب من الوصول إلى المسلمين فقرر لكل عشرة أربعين ذراعا و تنافس المسلمون في سلمان فقال المهاجرون:

سلمان منا و قال الأنصار: سلمان منا و لكن النبي الذي يعرف مكانة سلمان و شرفه و منزلته أبى أن يكون مع أحدهما و أعطاه و ساما يضمه إلى قافلة عظيمة و إلى رتبة تتصاغر عندها الرتب قطع النبي نزاع الخصمين حيث قال: سلمان منا أهل البيت أكرم بسلمان حيث ينضم إلى أهل البيت ما أعظمه من فخر و ما أكبر المنتمى إليه و قد كان أهل البيت يحافظون على هذه النسبة لسلمان و يردون من يقول سلمان الفارسي بقولهم: سلمان المحمدي ذاك منا أهل البيت.

سلمان يأكل من عمله:

إن سلمان الذي تشبع بالروح الإسلامية لم يكن ليأكل من عطائه الذي كان يخرج له بل كان يحب أن يأكل من عمل يديه و لذا نراه يشتري خوصا بدرهم فيعمله و يبيعه بثلاثة دراهم فينفق درهما و يتصدق بدرهم و يشتري بدرهم خوصا.

و نراه كذلك و هو أمير على المدائن و بيده الأموال يعمل بهذا الخوص و يعيش من كده و سعيه و لم يكن عنده إلا عباءة يفرش بعضها و يلتحف بالآخر و لم يكن له بيت و إنما يستظل بالجدر و الشجر و ينقل أن سلمان كان أميرا على المدائن فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم اللّه معه حمل تين و على سلمان عباءة فقال لسلمان: تعال احمل و هو لا يعرف سلمان فحمل فرآه الناس فعرفوه فقالوا: هذا الأمير، قال: لم أعرفك فقال له سلمان: لا حتى أبلغ منزلك.

ص: 165

و قد تولى سلمان إمارة المدائن من قبل عمر بن الخطاب و عمر مع ما يعرف عنه من محاسبته لعماله و مقاسمتهم لأموالهم و ضربهم بالدرة نجد الأمر بالنسبة إلى سلمان على عكس ذلك بل عند ما يتوجه سلمان إلى المدينة يقول عمر لجلسائه: اخرجوا بنا نتلقى سلمان و كان سلمان إذا خرج عطاؤه كما يحدث صاحب الإصابة حيث يقول:

و كان سلمان إذا خرج عطاؤه تصدق به و ينسج الخوص و يأكل من كسب يده.

و اللّه ما أبكي من الموت:

مرض سلمان فدخل عليه سعد بن أبي وقاص فبكى سلمان فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد اللّه توفي رسول اللّه و هو عنك راض و تلقى أصحابك و ترد عليه الحوض قال سلمان: و اللّه ما أبكي جزعا من الموت و لا حرصا على الدنيا و لكن رسول اللّه عهد إلينا فقال: ليكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب و حولي هذه الأساود فعدد ما حوله فإذا هو جفنة و مطهرة أو إجانة.

سلمان و الشيعة:

إن الشيعة لم تكن طائفة دخيلة على الإسلام بل هي الإسلام الصحيح و أن باذر هذه البذرة هو رسول الإسلام محمد بن عبد الله يقول السجستاني: إن أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - هو الشيعة و كان هذا لقب أربعة و هم: أبو ذر و سلمان الفارسي و المقداد بن الأسود و عمار بن ياسر.

و إن عمار كان من أوائل المسلمين إذن فالشيعة كانت هي و الرسالة يمشيان سويا و قد اعتمد هؤلاء الأبطال على النص الوارد من النبي في حق علي فلذا كانوا يتولون عليا و يمشون على سيرته.

و قد قال صاحب تفسير الدر المنثور في تفسير قوله سبحانه و تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ » قال: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي - صلّى اللّه عليه و آله - فقال النبي لعلي (صلی الله علیه و آله) : و الذي نفسي بيده إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة.

ص: 166

69 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى الحارث الهمداني و تمسّك بحبل القرآن و استنصحه، و أحلّ حلاله، و حرّم حرامه، و صدّق بما سلف (1) من الحقّ ، و اعتبر (2) بما مضى من الدّنيا لما بقي منها، فإنّ بعضها يشبه بعضا، و آخرها لاحق بأوّلها! و كلّها حائل (3) مفارق. و عظّم اسم اللّه أن تذكره إلاّ على حقّ ، و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت، و لا تتمنّ الموت إلاّ بشرط وثيق (4). و احذر كلّ عمل يرضاه صاحبه لنفسه، و يكره لعامّة المسلمين. و احذر كلّ عمل يعمل به في السّرّ، و يستحى منه (5) في العلانية (6)، و احذر كلّ عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه. و لا تجعل عرضك (7) غرضا (8) لنبال القول، و لا تحدّث النّاس بكلّ ما سمعت به، فكفى بذلك كذبا. و لا تردّ على النّاس (9) كلّ ما حدّثوك به، فكفى بذلك جهلا. و اكظم الغيظ (10)، و تجاوز (11) عند المقدرة، و احلم عند الغضب، و اصفح (12) مع الدّولة (13)، تكن لك العاقبة. و استصلح كلّ نعمة أنعمها اللّه عليك، و لا تضيّعنّ نعمة من نعم اللّه عندك، ولير عليك أثر ما أنعم اللّه به عليك.

و اعلم أنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة (14) من نفسه و أهله و ماله، فإنّك ما تقدّم من خير يبق لك ذخره (15)، و ما تؤخّره يكن لغيرك خيره.

و احذر صحابة من يفيل (16) رأيه، و ينكر عمله، فإنّ الصّاحب معتبر

ص: 167

بصاحبه. و اسكن الأمصار (17) العظام فإنّها جماع المسلمين (18)، و احذر منازل الغفلة (19) و الجفاء (20) و قلّة الأعوان (21) على طاعة اللّه. و اقصر رأيك (22) على ما يعنيك. و إيّاك و مقاعد الأسواق، فإنّها محاضر الشّيطان، و معاريض (24) الفتن. و أكثر أن تنظر إلى من فضّلت عليه، فإنّ ذلك من أبواب الشّكر، و لا تسافر في يوم جمعة حتّى تشهد الصّلاة إلاّ فاصلا في سبيل اللّه، أو في أمر تعذر به. و أطع اللّه في جميع أمورك، فإنّ طاعة اللّه فاضلة على ما سواها. و خادع نفسك في العبادة، و ارفق بها و لا تقهرها، و خذ عفوها (25) و نشاطها، إلاّ ما كان مكتوبا عليك من الفريضة، فإنّه لا بدّ من قضائها و تعاهدها (26) عند محلّها. و إيّاك أن ينزل بك الموت و أنت آبق (27) من ربّك في طلب الدّنيا. و إيّاك و مصاحبة الفسّاق، فإنّ الشّرّ بالشّرّ ملحق. و وقّر (28) اللّه، و أحبب أحبّاءه. و احذر الغضب، فإنّه جند عظيم من جنود إبليس، و السّلام.

اللغة

1 - بما سلف: ما تقدم.

2 - اعتبر: قس.

3 - حائل: متغير زائل.

4 - وثيق: محكم قوي.

5 - يستحى منه: يخجل منه.

6 - العلانية: خلاف السر، الظاهر الواضح.

7 - العرض: بكسر العين ما يصونه الإنسان من نفسه.

8 - الغرض: الهدف الذي يرمى.

9 - رد على زيد حديثه: لم يقبله منه.

10 - كظم الغيظ: حبسه و أمسك على ما في نفسه منه فلم يظهر غضبه.

11 - تجاوز المكان: جازه و تخطاه.

ص: 168

12 - الصفح: الإعراض عن الشيء و تركه.

13 - الدولة: السلطة.

14 - التقدمة: البذل و الإنفاق.

15 - الذخر: ما يخبؤه الإنسان لوقت الحاجة.

16 - فال رأيه: فسد و ضعف.

17 - الأمصار: جمع مصر، المدينة، الصقع.

18 - جماع المسلمين: اجتماعهم.

19 - الغفلة: عدم التنبه.

20 - الجفاء: ضد الوصال و الأنس.

21 - الأعوان: الأنصار.

22 - أقصر رأيك: احبسه.

23 - محاضر: جمع محضر و هو الحضور.

24 - معاريض: جمع معرض محل عروض الفتن.

25 - العفو: الصفح و ترك العقوبة.

26 - تعاهدها: تعهدها تفقدها و جدد العهد بها.

27 - آبق: شارد و هارب.

28 - وقّر: عظّم و بجّل.

الشرح

اشارة

(و تمسك بحبل القرآن و استنصحه و أحل حلاله و حرم حرامه و صدق بما سلف من الحق) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى الحارث الهمداني و هو من شيعته و أهل الولاء له و هذا الفصل أخذه الشريف الرضي من كتاب طويل و فيه تعليم مكارم الأخلاق و محاسن الآداب.

أمره بالتمسك بحبل القرآن أي أن يعمل بالقرآن و بما جاء فيه و يتخذه ناصحا له يدله على مواطن السعادة و الكرامة و العز و يأخذ بيده لما فيه خيره كما أمره أن يحلل حلاله و يحرم حرامه أي يلتزم بهما و لا يخالف ما أمر به أو يرتكب ما حرم عليه و أن يصدق بما ورد فيه عن الأمم المتقدمة و ما وقع عليها من العذاب أو أصابها من الرخاء فإن كل ذلك حق يجب الإيمان به و العمل بمضمونه.

(و اعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها فإن بعضها يشبه بعضا و آخرها لا حق بأولها

ص: 169

و كلها حائل مفارق) خذ درسا من ماضي الدنيا و كيف لم يبق من أهلها أحد مات الأمير و الحقير و تهدمت القصور و الدور و لم يبق إلا الأطلال تحكي عما مر و تنطق بما جرى فخذ درسا من الماضي و طبقه على ما بقي منها فإنك تجده نسخة طبق الأصل و آخرها سيجري عليه ما جرى على أولها من الخراب و الدمار و الموت و كل ما فيها بل كل ما مضى و ما يأتي، الآخر و الأول كله إلى زوال و فناء لا يبقى و لا يدوم منها شيء...

(و عظم اسم اللّه أن تذكره إلا على حق) استشعر عظمة اللّه و نزه ذكر اسمه و الحلف به إلا على حق تريد إثباته.

(و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت و لا تتمن الموت إلا بشرط وثيق) أوصاه بأن يكثر من ذكر الموت لأنه يذلل النفس و يروضها على طاعة اللّه فإن من عرف أن مصيره إلى الموت هانت عليه الدنيا و مصائبها و ما يمر عليه فيها و من بقي على ذكر دائم لما بعد الموت من الحساب و العقاب و العذاب عمل صالح الأعمال من أجل أن يدفع عن نفسه العذاب و يحصل على السعادة و الهناء.

ثم نهاه أن يتمنى الموت و يطلبه إلا إذا كان له عمل صالح يدخله الجنة فإن من تمنى الموت لا بد و أن يراه أحسن من الدنيا و أكثر سرورا و هذا لا يمكن إلا إذا كان من أهل الأعمال الصالحة و الطاعة للّه أما من كانت أعماله سيئة و معاصيه كثيرة كيف يتمنى الموت و القدوم على اللّه بهذه المعاصي...

(و احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه و يكره لعامة المسلمين) اترك كل عمل ترضاه لنفسك و تحبه لها إذا كان فيه مضرة لعامة المسلمين.

(و احذر كل عمل يعمل به في السر و يستحى منه في العلانية) اجتنب عن كل عمل مشين تريد أن تعمله في السر و لو ظهر لخجلت منه و استحييت فليكن سرك طاهرا لا تخجل منه إذا ظهر أثره في الخارج.

(و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه) لا تعمل ما تنكره لو اتهمت به و سئلت عن فعله، كما يجب عليك أن لا تعمل عملا غير صحيح تعتذر منه بعد ذلك، إنها دعوة إلى التأني و التبصر و النظر في عواقب الأمور.

(و لا تجعل عرضك غرضا لنبال القول) لا تجعل ألسنة الناس متوجهة إليك باللوم و الذم بل العاقل من يجعل ألسنة الناس لصالحه و الثناء عليه بالحق.

(و لا تحدث الناس بكل ما سمعت به فكفى بذلك كذبا) نهاه عن التحدث بكل ما

ص: 170

يسمعه إذ ربما سمع من كذاب أمرا و هو لا يعرف كذبه فحدث بذلك و اكتشف الناس عدم الصدق فيه فيعود العيب عليه و بين ذلك بأن الناس ليس كلهم صادقون فقد يقع الكذب من بعضهم و كفى بذلك كذبا...

(و لا ترد على الناس كل ما حدثوك به فكفى بذلك جهلا) إذا حدثك الناس بأمر غريب أو غير مألوف و لا معروف فلا ترد عليهم بالرفض و الإنكار فإن ذلك دليل جهلك و عدم اطلاعك على الأمور فإن في الدنيا استثناءات كثيرة و أمور غير معتادة...

(و اكظم الغيظ) إذا أغضبت اضبط غضبك و لا تفجره سبابا و انتقاما فإن الأجر في الصبر و الحلم و قد قال رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -: من أحب السبيل إلى اللّه عز و جل جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم و جرعة مصيبة تردها بصبر.

(و تجاوز عند المقدرة) فإن تجاوزك عند ما تقدر على خصمك و عفوك عنه من أبواب الشكر على ما أعطاك اللّه و أقدرك عليه و يكون أعظم من العقوبة في بعض الأحيان.

(و احلم عند الغضب) إذا غضبت و أردت أن تفجر غضبك انتقاما فرده بالحلم و الأناة و الصبر فإنه بالمسلم أليق و له أكمل.

(و اصفح مع الدولة تكن لك العاقبة) إذا كانت لك السلطة و القوة و الدولة و قدرت على البطش بخصومك فاصفح عنهم و تجاوز عن هفواتهم فإن العاقبة الطيبة و الخاتمة السعيدة لك و كذلك فعل رسول اللّه عند فتح مكة و هكذا سار علي في يوم الجمل.

(و استصلح كل نعمة أنعمها اللّه عليك و لا تضيعن نعمة من نعم اللّه عندك و لير عليك أثر ما أنعم اللّه به عليك) أمره بالنسبة إلى النعمة بثلاثة أوامر:

1 - أن يستصلحها أي ينميها و يزيدها و ذلك إنما يكون بشكر من أعطاها قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و شكرها بوضعها في موضعها اللائق بها فلا تبذير و لا إسراف.

2 - أمره أن لا يضيع نعمة من نعم اللّه و إضاعتها بعدم شكرها و عدم شكرها بعدم وضعها في موضعها الذي يجب أن تكون فيه و من لم يشكر النعمة عرّضها للزوال.

3 - أن تظهر آثار النعمة على العبد و ذلك بالحديث عنها قال تعالى مخاطبا نبيه:

«وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ » و قد يكون و هو الأهم أن تظهر عمليا عليه فمن أعطاه اللّه مالا و أغناه ثم عاش القلة و العدم و البخل و الفقر فإنه ممن لم ير للّه عليه نعمة و هكذا من أعطي

ص: 171

جاها و لم يخدم به عباد اللّه و يقضي حاجاتهم...

(و اعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه و أهله و ماله فإنك ما تقدم من خير يبق لك ذخره و ما تؤخره يكن لغيرك خيره) هذا مقياس عظيم يضعه الإمام و على أساسه يكون التفاضل، فأفضل المؤمنين من قدم من نفسه جهادا و عطاء إلى خير المجتمع و رفاهيته و أفضلهم من قدم من أهله فجعلهم أبرارا أوفياء و قدم من ماله في سبيل اللّه و من أجل الفقراء و المساكين و الأيتام ثم علل ذلك بأن ما يقدمه من خير بأي وجه من الوجوه تبقى له منفعته يوم الدين يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.

و أما ما تؤخره و تدخره و لا تخرجه في حياتك فإنه يكون لغيرك يتمتع به و يتلذذ بما تعبت أنت فيه فإن كان صالحا أنفقه فيما ينفعه في آخرته و إن كان شقيا صرفه في معصية اللّه و كنت معينا له على ذلك و العاقل من نظر لنفسه و عمل لها...

(و احذر صحابة من يفيل رأيه و ينكر عمله فإن الصاحب معتبر بصاحبه) احذر أن تتخذ صاحبا يكون فاسد الرأي ضعيفه و مع ذلك سيء العمل تنكره الناس عليه و علل ذلك بقوله: «فإن الصاحب معتبر بصاحبه» و في المثل قل لي من تعاشر أقل لك من أنت و قد يستدل على صلاحك بعشرتك للصالحين و بفسادك لمصاحبتك للفاسدين...

(و اسكن الأمصار العظام فإنها جماع المسلمين و احذر منازل الغفلة و الجفاء و قلة الأعوان على طاعة اللّه) أمره أن يسكن المدن الكبرى فإن فيها اجتماع المسلمين و كثرتهم و فيها عادات الناس و تقاليدهم من أصغر الأمور و أحقرها إلى أعلاها و أعظمها فتأخذ العبرة منهم و الحكمة.

و للمدن ميزات عدة منها خلوها من العشائرية البغيضة و منها أنها محل العمل و الارتزاق أكثر من أي مكان آخر و منها أنها ملتقى الثقافات و الحضارات فيرى الإنسان فيها ما لا يرى في القرى و منها أن فيها رفاهية العيش و ملذات الحياة و هكذا كما و أنه يقابلها مفاسد كثيرة و العاقل من يستطيع أن يميز بين الخير و الشر فيأخذ طريق الخير و يهجر طريق الشر ثم حذره أن يسكن في الأماكن التي توجب الغفلة عن ذكر اللّه و عن عبادته و طاعته و لا يكون فيها أعوان و أنصار يشدون أزره في طريق اللّه...

(و اقصر رأيك على ما يعنيك) ليكن همك ما يعنيك من شئونك فاحبس نفسك عليه و لا تنظر إلى ما لا يعنيك فتكون متطفلا ممقوتا...

(و إياك و مقاعد الأسواق فإنها محاضر الشيطان و معاريض الفتن) نهاه عن الجلوس

ص: 172

في الأسواق و علل ذلك بأنها ساحات يمرح فيها الشيطان لأنه يكثر فيها الغش و الربا و المداهنة و المعاملات الباطلة و الحلف باللّه كذبا و كذلك تعرض الفتن فيها لكثرة ما يتخللها من المفاسد و الانحرافات.

(و أكثر أن تنظر إلى من فضلت عليه فإن ذلك من أبواب الشكر) انظر إلى من دونك و من كنت أحسن منه حالا و مالا و جاها و سلطانا فإذا أبصرت تقدمك عليه دعاك ذاك إلى شكر اللّه و حمده و مديد العون إلى من هو دونك...

(و لا تسافر في يوم جمعة حتى تشهد الصلاة إلا فاصلا في سبيل اللّه أو في أمر تعذر به) نهاه عن السفر يوم الجمعة من أجل أن يؤدي الصلاة مع المصلين و قد ورد كراهته فقد ورد عن الرضا عليه السلام قوله: «ما يؤمن من سافر يوم الجمعة قبل الصلاة أن لا يحفظه اللّه تعالى في سفره و لا يخلفه في أهله و لا يرزقه من فضله».

نعم استثنى من ذلك ما إذا كان الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه أو استدعت الضرورة الخروج كما لو كان من أجل إيقاف الخصام بين اثنين أو رد اعتداء على أحد المسلمين و هكذا...

(و أطع اللّه في جميع أمورك فإن طاعة اللّه فاضلة على ما سواها) العاقل من يلتزم بعبوديته اللّه و يطيعه في كل أمر صغير أو كبير، جليل أو حقير، ديني أو دنيوي فإن طاعة اللّه توجب السعادة الدائمة و النجاة من العذاب و ليس هناك أفضل منها و أعظم بل هي أفضل من كل الأعمال و الأقوال و المواقف.

(و خادع نفسك في العبادة و ارفق بها و لا تقهرها و خذ عفوها و نشاطها إلا ما كان مكتوبا عليك من الفريضة فإنه لا بد من قضائها و تعاهدها عند محلها) أمره أن يعمل مع نفسه عمل المخادع و يسلك معها مسلكه للوصول إلى حاجته فأنت اعطيها الأماني و رغبها في النتيجة و الأجر و الثواب و سهل عليها وردها و أنه بضع ركعات و خذها باللين و اليسر و لا تحملها على أمر لا ترغب فيه قهرا عنها فإن ذلك ينفرها و يبعدها و يحملها على السأم و الملل.

و إذا كانت ترغب في النوافل و إقامة المستحبات و السنن فاقبل على ذلك و اغتنم نشاطها و شبابها و أد ذلك برغبة و شوق هذا كله في النوافل و الزيادات أما الفريضة الواجبة فلا بد من أدائها في وقتها و لا يجوز التساهل فيها أو التسويف و إذا فاتت لعذر من نوم أو إغماء أو غيرهما فلا بد من قضائها.

(و إياك أن ينزل بك الموت و أنت آبق من ربك في طلب الدنيا) قالوا: هذه وصية

ص: 173

شريفة جدا، جعل طالب الدنيا المعرض عن اللّه عند موته كالعبد الآبق يقدم به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس فما ظنك به حينئذ.

و أقول: حذره من نزول الموت به و هو يطلب الدنيا التي لا يقصد بها الآخرة فيكون كالعبد الهارب من مولاه و قد وقع بين يديه فلا مهرب له و القصاص واقع به.

(و إياك و مصاحبة الفاسق فإن الشر بالشر ملحق) حذره من صحبة الفساق و المنحرفين لئلا ينتقل شرهم إليه من حيث إن الطباع تتأثر ببعضها و تأخذ من بعضها و النار تقوى بالنار و الجار يتأثر بالجار...

(و وقر اللّه و احبب أحباءه) توقير اللّه عبارة عن العمل بأوامره و الانتهاء عن نواهيه و استشعار عظمته في النفس و أن لا يهتك سترا من محرماته.

و أما حب أولياء اللّه فهو علامة الإيمان و دليل على صدق الإسلام فإذا أردت أن تعرف أنك على خير و إلى خير فابحث داخل قلبك فإن كان يحب أولياء اللّه فاعلم أنك على خير و إلى خير و إن كان يحب أعداء اللّه فاعلم أنه ليس فيك خير كما ورد هذا في الحديث.

(و احذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود إبليس و السلام) الغضب جذوة من النار و شعبة من الجنون به يخرج الإنسان عن إنسانيته فيرتكب الحرام و يقتل النفس التي حرمها اللّه و يهتك الأعراض و هكذا يتصرف بدافع هذه الطبيعة المشئومة التي هي مع قوة الشهوة أضر من جميع القوى السيئة و من هنا كان الغضب من الجنود العظيمة لإبليس يصرف صاحبه نحو الضلال و الانحراف...

ترجمة الحارث الهمداني.

في الطبقات لابن سعد: الحارث الأعور بن عبد اللّه بن كعب ابن أسد بن خالد بن حوت و اسمه عبد الله بن سبع بن صعب بن معاوية بن كثير بن مالك بن جشم بن حاشد بن خيران بن نوف بن همدان...

كان من خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام و أوليائه و محل عنايته و من أوعية العلم و كبار علماء التابعين بل أفقه علماء عصره.

و كان واحدا من عشرة من ثقاة أمير المؤمنين الذين حضروا عند ما طلبهم.

و هو الذي يقول له الإمام بعد كلام: خذها إليك يا حارث قصيرة من طويلة: أنت

ص: 174

مع من أحببت و لك ما احتسبت أو قال: ما اكتسبت قالها ثلاثا.

فقال الحارث و قام يجر رداءه جذلا: ما أبالي و ربي بعد هذا متى لقيت الموت أو لقيني و قال:

قول علي لحارث عجب *** كم ثم أعجوبة له حملا

يا حار همدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه و أعرفه *** بنعته و اسمه و ما فعلا

و أنت عند الصراط تعرفني *** فلا تخف عثرة و لا زللا

أسقيك من بارد على ظمأ *** تخاله في الحلاوة العسلا

أقول للنار حين تعرض للعرض *** دعيه لا تقتلي الرجلا

دعيه لا تقربيه إن له *** حبلا بحبل الوصي متصلا

مات الحارث سنة 65 للهجرة أيام ولاية عبد الله بن يزيد الأنصاري للكوفة من قبل عبد الله بن الزبير...

ص: 175

70 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى سهل بن حنيف الأنصاري، و هو عامله على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية أمّا بعد، فقد بلغني أنّ رجالا ممّن قبلك (1) يتسلّلون (2) إلى معاوية، فلا تأسف (3) على ما يفوتك من عددهم، و يذهب عنك من مددهم (4)، فكفى لهم غيّا (5)، و لك منهم شافيا (6)، فرارهم (7) من الهدى و الحقّ ، و إيضاعهم (8) إلى العمى و الجهل، و إنّما هم أهل دنيا مقبلون (9) عليها، و مهطعون إليها (10)، و قد عرفوا العدل و رأوه، و سمعوه و وعوه (11)، و علموا أنّ النّاس عندنا في الحقّ أسوة (12)، فهربوا إلى الأثرة (13)، فبعدا لهم و سحقا (14).

إنّهم - و اللّه - لم ينفروا من جور (15)، و لم يلحقوا بعدل، و إنّا لنطمع في هذا الأمر أن يذلّل اللّه لنا صعبه، و يسهّل لنا حزنه (16)، إن شاء اللّه، و السّلام.

اللغة

1 - قبلك: بكسر ففتح أي عندك و في ناحيتك.

2 - يتسللون: يخرجون واحدا بعد آخر في استتار و خفية.

3 - لا تأسف: لا تحزن.

4 - المدد: العون.

5 - الغي: الضلال.

ص: 176

6 - شافيا: من الشفاء و هو البرء.

7 - فرارهم: هروبهم.

8 - إيضاعهم: إسراعهم.

9 - أقبل على الشيء: أخذ فيه و لزمه و أقبل عليه نقيض أدبر عنه.

10 - مهطعون: مسرعون.

11 - وعى الشيء: جمعه و حواه و الحديث تدبره و حفظه.

12 - الأسوة: مستويين.

13 - الأثرة: الاختصاص للنفس و تفضيلها بالفائدة، الاستبداد بالشيء.

14 - سحقا: بعدا و هلاكا.

15 - الجور: الظلم.

16 - الحزن: الصعب من الأرض، ضد السهل.

الشرح

اشارة

(أما بعد فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم و يذهب عنك من مددهم فكفى لهم غيا و لك منهم شافيا فرارهم من الهدى و الحق و إيضاعهم إلى العمى و الجهل) بعث الإمام بهذه الرسالة إلى و اليه على المدينة سهل بن حنيف يهون عليه هروب بعض الناس إلى معاوية و يبين له فيها دواعي الهروب.

وصلتني الأنباء التي تحمل هروب بعض الرجال الذين يعيشون عندكم إلى معاوية فلا يحزنك ذلك و لا يفت في عضدك هذا العدد الهارب و الذين يمكن أن يشكلوا فريقا معاونا لنا.

ثم بين ضلالهم و أنه يكفيهم ضلالا لأنفسهم و راحة لنا أنهم فروا من الهدى و الحق الذي نحن فيه إلى العمى و الجهل الذي فيه معاوية. إنهم لم يهربوا إلا من عدل علي و مساواته إلى ما يرغبون من ظلم معاوية و انحرافه و علي هو علي في جميع حالاته يقول:

«لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة و لا تفرقهم عني وحشة».

(و إنما هم أهل دنيا مقبلون عليها و مهطعون إليها و قد عرفوا العدل و رأوه و سمعوه و وعوه و علموا أن الناس عندنا في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة فبعدا لهم و سحقا) بين عليه السلام أسباب هروبهم من تحت سلطانه و انضمامهم إلى معاوية... لم يكن هروبهم من أجل الدين و لأنهم يرون معاوية صاحب حق أو أنه على طريق هدى أو من

ص: 177

أهل الدين و إنما هربوا لأنهم من أهل الدنيا يحبونها و يبحثون عنها و يميلون معها و مع من تكون معهم... إنهم يسرعون لها، و يذلون أنفسهم من أجلها، و قد عرفوا عدلنا و رأوه و عاشوا و علموا أننا نعدل في الرعية و نقسم بالسوية و الناس عندنا على حد سواء فهربوا من ذلك إلى الامتيازات الخاصة التي يريدونها... إنهم يريدون أن يمتازوا عن الناس فيأخذوا حقوقهم و حقوق غيرهم و ذلك لا يكون عندنا.

ثم دعى عليهم بالبعد عن رحمة اللّه و أن لا تطالهم لأنهم ليسوا أهلا لها كما دعى عليهم بالهلاك و الموت و استئصال شأفتهم...

(إنهم - و اللّه - لم ينفروا من جور و لم يلحقوا بعدل و إنا لنطمع في هذا الأمر أن يذلل اللّه لنا صعبه و يسهل لنا حزنه إن شاء اللّه و السلام) أقسم عليه السلام ليحصر سبب هروبهم و أنهم لم يهربوا من ظلم عندنا يعيشونه - شخصيا أو يعيشه أحد من المسلمين - إلى عدل ينشدونه عند معاوية.

ثم وعده بما يطمع به من اللّه... إنه يأمل من اللّه الخلافة و أن يهون الصعوبات و يذلل العقبات و يرفع الموانع و بعد هذا و قبله فإننا راضون بقضاء اللّه و قدره و هو على كل شيء قدير.

ترجمة سهيل بن حنيف.

سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن الحارث بن مجدعة بن عمرو بن حنش بن عوف بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي يكنى أبا سعد و أبا عبد الله من أهل بدر و كان من السابقين و شهد بدرا و ثبت يوم أحد مع الإمام علي حين انكشف الناس و بايع يومئذ على الموت و كان ينفح عن رسول اللّه بالنبل فيقول: نبلوا سهلا فإنه سهل...

و شهد أيضا الخندق و جميع المشاهد كلها و استخلفه علي على البصرة بعد موقعة الجمل ثم شهد معه صفين.

توفي سهل في سنة 38 في الكوفة و صلى عليه الإمام علي و دفنه.

ص: 178

71 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى المنذر بن الجارود العبدي، و قد خان في بعض ما ولاه من أعماله أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرّني (1) منك، و ظننت أنّك تتّبع هديه (2)، و تسلك (3) سبيله (4)، فإذا أنت فيما رقّي (5) إليّ عنك لا تدع لهواك انقيادا، و لا تبقي لآخرتك عتادا (6). تعمر (7) دنياك بخراب آخرتك، و تصل عشيرتك (8) بقطيعة دينك. و لئن كان ما بلغني عنك حقّا، لجمل أهلك و شسع (9) نعلك (10) خير منك، و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر (11)، أو ينفذ به أمر، أو يعلى (12) له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية (13)، فأقبل إليّ (14) حين يصل إليك كتابي هذا، إن شاء اللّه.

قال الرضي: و المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: إنه لنظار (15) في عطفيه (16) مختال (17) في برديه (18)، تفّال (19) في شراكيه (20).

اللغة

1 - غرني: خدعني.

2 - الهدي: بفتح فسكون الطريقة و السيرة.

3 - تسلك: تدخل.

4 - سبيله: طريقه.

5 - رقي إليّ : رفع و أنهي إليّ .

6 - العتاد: العدة و الذخيرة.

7 - تعمر: تبني.

8 - تصل عشيرتك: تكرمها و تعطيها.

ص: 179

9 - الشسع: بالكسر سير بين الأصبع الوسطى و التي تليها في النعل العربي.

10 - النعل: الحذاء.

11 - الثغر: المكان الذي يخشى دخول العدو منه.

12 - علا قدره: ارتفع شأنه.

13 - الجباية: عمل الجابي و هو الساعي في تحصيل ضرائب الدولة من الخراج و غيره.

14 - أقبل إليّ : أقدم عليّ .

15 - نظّار: كثير النظر.

16 - العطف: بالكسر الجانب.

17 - المختال: المعجب.

18 - البردان: تثنية البرد بضم الباء و هو ثوب مخطط.

19 - تفال: كثير التفل و التفل بالتحريك البصاق.

20 - الشراكان: تثنية شراك ككتاب و هو سير النعل كله.

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك و ظننت أنك تتبع هديه و تسلك سبيله فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا و لا تبقي لآخرتك عتادا تعمر دنياك بخراب آخرتك و تصل عشيرتك بقطيعة دينك) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى المنذر بن الجارود العبدي و قد خان في بعض ما ولاه من أعماله و قد شرح له فيها سبب اختياره لعمله ثم وبخه بكلمات تبقى وصمة عار له و لكل من كان على شاكلته...

ابتدأ عليه السلام بالداعي الذي دعاه إلى اختيار هذا الرجل - إنه صلاح أبيه الجارود العبدي الذي كان مطاعا في قومه و قد وعظهم بعد وفاة رسول اللّه و عصمهم من الردة عند ما ارتدت العرب - صلاح أبيك و ما كان عليه من الالتزام و السلوك الجيد هو الذي أطمعني في أن أوليك هذا العمل فقد ظننت أنك تمشي على سيرته و تسلك طريقته و تقتدي به و لكن للأسف لقد وصل إليّ عنك أمر و بلغني عنك قضايا ثم ذكر هذه الأمور التي وصلته عنه و هي:

1 - لا تدع لهواك انقيادا: إنك رهين هواك يقودك حيث يشاء لم تجعل لك عليه سبيلا و لا تقدر على رده عن الردى و الضلال فما يطلبه منك تستجيب له فيه و لا ترده عنه...

ص: 180

2 - لا تبقي لآخرتك عتادا: لم تعمل عملا صالحا تعتد به يوم القيامة و تقدمه لحاجتك يوم الحساب.

3 - تعمر دنياك بخراب آخرتك: فأنت تتلذذ بالمحرمات تأكل أموال الفقراء في شئونك الخاصة في البناء و العطاء و البذخ و الرفاه و تخرب بذلك آخرتك حيث العذاب و النار في انتظارك.

4 - تصل عشيرتك بقطيعة دينك: تغدق على عشيرتك و أهلك العطاء و توسع عليهم في الرزق دون حق و إنما ذلك لتبقى لك الحظوة عندهم و الشرف فيهم و بذلك تخالف دينك و تعاديه و تعصي اللّه و تتمرد عليه فعلى حساب دينك يكون هذا العطاء...

(و لئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك) إذا كان ما وصل إليّ عنك حقا و صدقا من هذه الخيانة فجمل أهلك الذي يحمل الأثقال و يجره أصغر الأطفال و شسع نعلك الذي بين أصبعي رجليك تدوسه الأقدام - هذان - خير منك عملا و شرفا و هذان مثلان يضربان للاستهانة و المذلة.

إنه علي لا يراعي مقام كبير و لا يحتقر الصغير لسانه صارم كسيفه لا يقع إلا على المستحق و لا يطال إلا الآثم الكفور... كلمات للّه... لم يراع فيها شريفا و لم يخش جفاء صديق أو عداوة ولي...

(و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر أو ينفذ به أمر أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة أو يؤمن على جباية فاقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه) ثم ذمه بذم من هو بصفته فقال عليه السلام: إن من كان بصفته من هذه الخيانة فليس بأهل أن يسد به ثغر: فليس بذلك الشجاع المؤتمن الذي يصح أن يجعل في المواضع المهمة التي يواجه به الأعداء فيحمي الأوطان و يدفع عنها هجومهم.

و ليس بأهل أن ينفذ به أمر: أي لا يقضى ما كلف به و لا يستطيع تنفيذه أو القيام به... دليل على قصور همته و أنه أعجز من ذلك.

و ليس بأهل أن يعلى له قدر: فهو وضيع لا يستطيع أن يرتفع لخساسة طبعه و هو انه وضعته.

و ليس بأهل أن يشرك في أمانة: فلا يصح أن يولّى على أمر أو يكون شريك الخليفة فيما اؤتمن عليه من أرض اللّه و عباده.

و ليس بأهل أن يؤمن على جباية: فهو لخيانته ليس بحقيق أو جدير أن يكون أمينا

ص: 181

في جمع ضرائب الدولة الإسلامية لأنه لا يؤتمن عليها.

ثم دعاه إليه متى وصله كتابه ليصفي حسابه و يؤدب العمال أمثاله...

قال الرضي و المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه تفال في شراكيه» أي إنه كثير النظر في جانبيه هل فيهما نقص فيسويه و يزيله لزهوه و علوه و معنى مختال في برديه أي يمشي الخيلاء عجبا و تيها و معنى تفال في شراكيه أي يتفل يبصق على ظهر حذاءه و يمسحه ليزيل ما علق عليه من الغبار و الطين ليعود نظيفا و إنما يفعل ذلك المعجب بنفسه الذي أخذه الزهو...

ترجمة الجارود العبدي.

ذكر ابن أبي الحديد ما ملخّصه منا.

الجارود بن بشر بن خنيس بن المعلى من بني عبد القيس و بيتهم بيت الشرف في عبد القيس و إنما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره: «كما جرد الجارود بكر بن وائل».

و فد الجارود على النبي - صلّى اللّه عليه و آله - في سنة تسع و قيل: في سنة عشر.

و ذكر أبو عمرو بن عبد البر في الاستيعاب: إنه كان نصرانيا فأسلم و حسن إسلامه.

كنيته أبو عتّاب و يكنى أيضا أبا المنذر.

سكن الجارود البصرة و قتل بأرض فارس و قيل: بل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن و قيل: إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس فقتل بموضع يعرف بعقبة الجارود و ذلك سنة إحدى و عشرين.

و كان الجارود من أطوع الناس في قومه فإنه لما قبض رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - و ارتدت العرب خطب الجارود قومه و حضهم على الثبات في الإيمان فما ارتد منهم أحد.

و أما المنذر بن الجارود فكان شريفا و ابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف و المنذر غير معدود في الصحابة و لا رأى رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - و لا ولد في أيامه و كان معجبا بنفسه.

ص: 182

72 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عبد الله بن العباس أمّا بعد، فإنّك لست بسابق أجلك (1)، و لا مرزوق ما ليس لك، و اعلم بأنّ الدّهر يومان: يوم لك و يوم عليك، و أنّ الدّنيا دار دول (2)، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك.

اللغة

1 - الأجل: الوقت، نهاية عمر الإنسان.

2 - دول: جمع دولة بالضم ما يتداول و يدار من يد إلى يد.

الشرح

(أما بعد فإنك لست بسابق أجلك و لا مرزوق ما ليس لك و اعلم بأن الدهر يومان يوم لك و يوم عليك و أن الدنيا دار دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك) هذه موعظة بليغة و وقفة جليلة يحتاجها الإنسان عند ما تقبل عليه الدنيا فينسى الآخرة أو عند ما ترمي الحياة بثقلها و همومها و متاعبها و مصائبها فيحتاج إلى لمسة رقيقة تعيد له توازن شخصيته و ترده نحو الاستقامة...

بعث الإمام بهذه الرسالة إلى ابن عباس و قد بين له حقيقتين:

الأولى: إنه لن يسبق أجله فالوقت الذي قدره اللّه له لخروجه من الدنيا و انتهاء دوره فيه مؤقت مكتوب لا يستطيع أن يتقدم عليه قال تعالى: «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ » .

الثانية: إن رزقه مقدر مكتوب فمهما جد و اجتهد و هاجر و تغرب فلن يحصل إلا

ص: 183

على رزقه المكتوب له...

ثم وضعه أمام حقيقة من حقائق الدنيا و هي أن الدهر يومان يوم لك و لصالحك تكون لك فيه السلطة و الحكم و الدولة و المال و الثروة فيعطيك جمال غيرك إضافة إلى جمالك و يوم عليك ببؤسه و تعاسته و شقائه و مرضه و فاقته و حاجته بل قد يسلبك محاسن نفسك.

ثم أخبر أن الدنيا دار تتداولها الأيدي تنتقل من يد إلى يد و من واحد لآخر فربما أصبح السوقة ملكا و ربما تحول الملك سوقة فما كتبه اللّه لك لا بد و أن يصل إليك و إن كنت ضعيف الحال فذلك تقدير العزيز الحكيم و ما كان منها عليك فلا تستطيع دفعه أو رفعه مهما عملت و مهما كثرت حيلك و قويت شوكتك.

ص: 184

73 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية أمّا بعد، فإنّي على التّردد (1) في جوابك، و الاستماع إلى كتابك، لموهّن (2) رأيي، و مخطّىء فراستي (3). و إنّك إذ تحاولني الأمور (4) و تراجعني السّطور (5)، كالمستثقل النّائم (6) تكذبه أحلامه، و المتحيّر القائم يبهظه (7) مقامه، لا يدري أله ما يأتي أم عليه، و لست به، غير أنّه بك شبيه.

و أقسم باللّه إنّه لو لا بعض الاستبقاء (8)، لوصلت إليك منّي قوارع (9)، تقرع (10) العظم، و تهلس (11) اللّحم! و اعلم أنّ الشّيطان قد ثبّطك (12) عن أن تراجع أحسن أمورك، و تأذن (13) لمقال نصيحتك، و السّلام لأهله.

اللغة

1 - التردد: الترداد و التكرار.

2 - موهّن: مضعّف.

3 - فراستي: صدق ظني.

4 - تحاولني الأمور: تطلبها و ترومها مني.

5 - تراجعني السطور: أي تطلب مني أن أرجع إلى جوابك بالسطور.

6 - المستثقل النائم: الذي نومه ثقيل.

7 - يبهظه: يثقله و يشق عليه.

8 - الاستبقاء: الإبقاء أي تركه و عدم أخذه.

9 - القوارع: الشدائد و الدواهي.

10 - تقرع العظم: أي تصدمه فتكسره.

11 - تهلس اللحم: أي تذهبه و تذيبه.

ص: 185

12 - ثبطك: أقعدك.

13 - تأذن: تسمع.

الشرح

(أما بعد فإني على التردد في جوابك و الاستماع إلى كتابك لموهن رأي و مخطئ فراستي) يأسف الإمام في هذه الرسالة أشد الأسف على مكاتبته لمعاوية ورد الجواب عليه و الاستماع إلى ما يكتب له فأنا لائم نفسي و مستضعف رأي أن أجعلك نظيرا لي أكتب و تجيبني و تكتب فأجيبك و إنما ينبغي أن يكون جواب مثلك الكف و السكوت لهوانك و صغر شأنك.

و بعبارة أخرى: إن رأي الصائب و فراستي يقولان: إنك لن تنتفع برسائلي و مواعظي و مكاتباتي فكأني بإكمال الشوط معك و الحال ذلك كالمخطئ لذلك الرأي و الفراسة و هذا بيان لمعاوية و أنه عليه السلام أعرف بنفسه و أدرى بما ينطوي عليه قلبه و لكن يكاتبه لإلقاء الحجة عليه و المعذرة إلى اللّه...

(و إنك إذ تحاولني الأمور و تراجعني السطور كالمستثقل النائم تكذبه أحلامه) إنك إذا تحاول معي أن تكون لك ولاية الشام و تكون لك الخلافة من بعدي و تراجعني في رسائلك بذلك إنك كالنائم المستغرق في نومه تراوده الأحلام و تمنيه حتى إذا استيقظ كذبته حقائق اليقظة فلم يجد شيئا.

قال ابن أبي الحديد تعليقه على هذه الكلمة الشريفة: فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - و أنه خليفة يخاطب بأمرة المؤمنين و يحارب عليا على الخلافة و يقوم في المسلمين مقام رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - لما طلب لذلك المنام تأويلا و لا تعبيرا و لعده من وساوس الخيال و أضغاث الأحلام و كيف و أنى له أن يخطر هذا بباله و هو أبعد الخلق منه و هذا كما يخطر للنفاط أن يكون ملكا و لا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى أن الإمامة هي نبوة مختصرة و أن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم المكذب بقلبه و إن أقّر بلسانه الناقص المنزلة عند المسلمين القاعد في أخريات الصف إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه و يملكها و يسمه الناس و سمها و يكون للمؤمنين أميرا و يصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين و الفضل و هذا أعجب من العجب أن يجاهد النبي - صلّى اللّه عليه و آله - قوما بسيفه و لسانه ثلاثا و عشرين سنة و يلعنهم

ص: 186

و يبعدهم و ينزل القرآن بذمهم و لعنهم و البراءة منهم فلما تمهدت له الدولة و غلب الدين على الدنيا و صارت شريعة دينية محكمة مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه و أوسعوا رقعة ملته و عظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم أولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي - صلّى اللّه عليه و آله - فملكوها و حكموا فيها و قتلوا الصلحاء و الأبرار و أقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته و آلت تلك الحركة الأولى و ذلك الاجتهاد السابق إلى أن كان ثمرته لهم فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق و ابنه و مروان و ابنه خلفاء في مقامه يحكمون على المسلمين فوضح أن معاوية فيما يراجعه و يكاتبه كصاحب الأحلام...

(و المتحير القائم يبهظه مقامه لا يدري أله ما يأتي أم عليه و لست به غير أنه بك شبيه) وصفه في رسائله بالمتحير الذي لا يعرف ما ذا يطلب و يريد أو كالقائم خطيبا بين أيدي الفصحاء و البلغاء و قد أخذته هيبتهم و أثقلت كاهله طلعتهم فطار لبه شعاعا و لم يتماسك بل اضطرب و تضعضع و ضاعت أفكاره فهو يتكلم إذا تكلم لا يدري هل كلامه يكون له أم عليه ثم نفى تشبيهه بالمتحير القائم بل جعله أصلا و جعل المتحير فرعا و شبيها به فأنت يا معاوية المشبّه به و ذاك المشبّه مبالغة في ضلاله و حيرته و تنكبه عن طريق الحق...

(و أقسم باللّه أنه لو لا بعض الاستبقاء لو صلت إليك مني قوارع تقرع العظم و تهلس اللحم) أقسم عليه السلام أنه لو لا بعض الأمور المهمة التي تتطلب بقاؤه لو صلت إليه شدائد الحروب و عظائم الشدائد بحيث تطحن عظامه و تزيل لحمه.

(و اعلم أن الشيطان قد ثبطك عن أن تراجع أحسن أمورك و تأذن لمقال نصيحتك و السلام لأهله) إن الشيطان قد أقعدك عن عمل أحسن ما يجب عليك من أن تكون رعية صالحة تبحث عما ينفعك في الآخرة و تسمع للنصيحة التي تحركك نحو الخير بدل سلوكك في الشر و السير في طريق الرذيلة و الانحراف.

ص: 187

74 - و من حلف له عليه السلام

اشارة

كتبه بين ربيعة و اليمن، و نقل من خط هشام بن الكلبي هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن (2) حاضرها (3) و باديها (4)، و ربيعة (5) حاضرها و باديها، أنّهم على كتاب اللّه يدعون إليه، و يأمرون به، و يجيبون من دعا إليه و أمر به، لا يشترون به ثمنا، و لا يرضون به بدلا (6)، و أنّهم يد واحدة على من خالف ذلك و تركه، أنصار بعضهم لبعض: دعوتهم واحدة، لا ينقضون (7) عهدهم لمعتبة (8) عاتب، و لا لغضب غاضب، و لا لاستذلال قوم قوما، و لا لمسبّة (9) قوم قوما! على ذلك شاهدهم (10) و غائبهم، و سفيههم (11) و عالمهم، و حليمهم و جاهلهم. ثمّ إنّ عليهم بذلك عهد اللّه و ميثاقه (12) إِنَّ عَهْدَ اللّٰهِ كَانَ مَسْؤُلاً.

و كتب علي بن أبي طالب.

اللغة

1 - الحلف: العهد.

2 - اليمن: اسم قبيلة ترجع إلى كل من ولده قحطان.

3 - الحاضر: ساكن الحضر و هي المدن.

4 - البادي: ساكن البادية.

5 - ربيعة: اسم قبيلة ترجع أفخادها إلى ربيعة بن نزار بن معد.

6 - البدل: العوض.

7 - نقض العهد: نكثه و أبطله.

8 - المعتبة: الملامة و الغيظ.

ص: 188

9 - المسبة: الشتيمة.

10 - شاهدهم: حاضرهم.

11 - السفيه: الجاهل، غير الحليم.

12 - الميثاق: العهد.

الشرح

(هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها و باديها و ربيعة حاضرها و باديها أنهم على كتاب اللّه يدعون إليه و يأمرون به و يجيبون من دعا إليه و أمر به لا يشترون به ثمنا و لا يرضون به بدلا) هذا الكتاب كتبه عليه السلام ليكون عهدا بين قبيلتي ربيعة و اليمن فيقول: ما نقوله و نسطره هو ما اجتمع عليه أهل اليمن بجميع فئاتهم من كان ساكن المدن أو من يطوف البراري مع البدو الرحل و كذلك ربيعة ساكن المدن أو الذي يطوف في الصحراء اتفقوا جميعا و التقوا كلهم على كتاب اللّه يدعون إليه إلى العمل به و تطبيق أحكامه و التزام أوامره و تحريم حرامه، و كذلك يجيبون من يدعو إليه و إلى أحكامه و يأمر به من أمراء المسلمين و الرعية لا يبدلونه بثمن مهما كان غاليا أي لا يتنازلون عن القرآن و حكمه و العدول عنه إلى غيره مهما كانت المغريات من زعامة و مال و جاه و سلطان...

إنهم اتخذوه قائدا و دليلا لا يرضون عنه بدلا و لا يقبلون به ثمنا...

(و أنهم يد واحدة على من خالف ذلك و تركه) إنهم يجتمعون جميعا قلبا واحدا و يدا واحدة و يضربون بها من خرج عن ذلك و تركه و لم يلتزم به...

(أنصار بعضهم لبعض: دعوتهم واحدة لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب و لا لغضب غاضب و لا لاستذلال قوم قوما و لا لمسبة قوم قوما) ينصر بعضهم البعض و يقوي جانبه و يتكاتفون فيما بينهم دعوتهم واحدة و هي العمل بكتاب اللّه و الاستجابة لمن دعا إليه لا ينقضون عهدهم الذي أخذوه على أنفسهم و التزموا به لهفوة صغيرة يمكن أن تحدث عادة و قد ذكر هذه الأمور التي لا تنقض العهد و لا يجب أن تنقضه إن حصل شيء منها.

1 - لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب: فمن عتب على أخ له لم ينجده في أمر طلبه منه لا يكون ذلك ناقضا للعهد.

2 - و لا لغضب غاضب: فإذا غضب أحدهم على الآخر لأمر حدث فلا يمكن أن يفك هذا العهد أو تحل عراه و ينقض.

ص: 189

3 - و لا لاستذلال قوم قوما: لو أن أحدا مارس القهر و الإذلال على أحد لا يكون ذلك ناقضا للعهد و مبطلا له.

4 - و لا لمسبة قوم قوما: فلو شتم أحد منهم أحدا و تنازعوا لم يسقط العهد الذي كتبوه و تبنوه.

و هذه الأمور لم تنقض العهد لأن العادة جارية بحدوث مثل هذه الأمور في المجتمعات و التجمعات فلو كانت واحدتهم تنقض عهدا لم تتم العهود أبدا و لم تكتمل.

(على ذلك شاهدهم و غائبهم و سفيههم و عالمهم و حليمهم و جاهلهم ثم إن عليهم بذلك عهد اللّه و ميثاقه إن عهد اللّٰه كان مسؤلاً) فجميع أفراد العشيرتين ملزمون بهذا العهد يجب عليهم تنفيذه و عدم الخروج عنه الحاضر منهم و الغائب الجاهل و العالم الحليم و السفيه كلهم في هذا العهد سواء يجب الالتزام به و تطبيقه إن العهد كان عنه في يوم القيامة مسؤولا و عليه محاسبا، فإن نقضه أحد عصى اللّه و حاسبه حسابا عسيرا و من نفذه أطاع اللّٰه فيسر أمره و أدخله الجنة.

ص: 190

75 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية في أول ما بويع له ذكره الواقدي في كتاب «الجمل» من عبد اللّٰه عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان:

أمّا بعد، فقد علمت إعذاري (1) فيكم، و إعراضي (2) عنكم، حتّى كان ما لا بدّ منه و لا دفع له (3)، و الحديث طويل، و الكلام كثير، و قد أدبر (4) ما أدبر، و أقبل ما أقبل. فبايع من قبلك (5)، و أقبل إليّ (6) في وفد (7) من أصحابك. و السّلام.

اللغة

1 - إعذاري: كوني ذا عذر، أو إقامتي على العذر.

2 - أعرض عنه: أتركه و أضرب عنه صفحا.

3 - لا دفع له: لا رد له.

4 - أدبر: ذهب و ولّى.

5 - قبلك: بكسر ففتح عندك و في ناحيتك و جهتك.

6 - أقبل إليّ : تعال إليّ و نحوي و أقبل ضد أدبر.

7 - الوفد: بفتح فسكون الواردون و القادمون من الناس على الملوك و العظماء.

الشرح

(من عبد اللّٰه علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان: أما بعد فقد علمت إعذاري فيكم و إعراضي عنكم حتى كان ما لا بد منه و لا دفع له و الحديث طويل و الكلام كثير و قد أدبر ما أدبر و أقبل ما أقبل فبايع من قبلك و أقبل إلي في وفد من أصحابك

ص: 191

و السلام) هذه الرسالة كانت بعد بيعة الإمام و توليه أمور المسلمين يبعث بها إلى معاوية و الي الشام يبتدأها بأنه مقيم على العذر في نصيحته التي كان ينصح بها عثمان و يوجهه نحو الخير فكان يرفض و بعد ذلك كيف كان يعرض عن بني أمية و يتركهم و يهجرهم عند ما لا يطيعون له أمرا و لا يسمعون له كلاما و بعد هذا قد وقع القضاء و قتل عثمان و انتهت أيام خلافته و لم يمكن دفع ما وقع أو رده فما وقع قد وقع و انتهى و الحديث في تلك الأحداث طويل و الكلام فيه كثير و على كل حال قد ذهبت تلك الأيام و ولت تلك المشاكل و أقبل يوم جديد بما أقبل به و بايعني الناس الذين بايعوا المتقدمين و انعقدت في الأعناق بيعتي فخذ البيعة لي ممن هم عندك و في ناحيتك من أرض الشام ثم أقبل إليّ مع الأعناق بيعتي فخذ البيعة لي ممن هم عندك و في ناحيتك من أرض الشام ثم أقبل إليّ مع جماعة من أصحابك و مضمون الرسالة و غايتها دعوة إليه ليأخذ له البيعة من أهل الشام و يأتي إليه ليدرس وضعه و يتخذ القرار المناسب بحقه و لكن معاوية لم يستجب لأمر الخليفة بل تمرد عليه و تجرد للأخذ بثأر عثمان...

ص: 192

76 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

لعبد الله بن العباس، عند استخلافه إياه على البصرة سع (1) النّاس بوجهك و مجلسك و حكمك، و إيّاك و الغضب فإنّه طيرة (2) من الشّيطان. و اعلم أنّ ما قرّبك من اللّٰه يباعدك من النّار و ما باعدك من اللّٰه يقرّبك من النّار.

اللغة

1 - سع: أمر من وسع يسع ضد الضيق.

2 - طيرة: بفتح الطاء و سكون الباء الخفة و الطيش.

الشرح

(سع الناس بوجهك و مجلسك و حكمك و إياك و الغضب فإنه طيرة من الشيطان و اعلم أن ما قربك من اللّٰه يباعدك من النار و ما باعدك من اللّٰه يقربك من النار) هذه وصية من الإمام إلى ابن عباس حين ولاه البصرة ينصحه فيها بنصائح غالية ثمينة يأمره أن يسع الناس بوجهه أي يبسط وجهه لهم و لتكن الطلاقة و البشر دائما بادية عليه فلا يقطب جبينه في وجوههم و لا يلاقيهم بالعبوس.

و أما سعته لهم في حكمه أي يجعل حكمه لهم و بينهم عادلا منصفا لا جور فيه و لا ظلم.

و أما سعة مجلسه فأن يجعل نفسه معهم متواضعا لا كبر عنده و لا كلام فحش أو بذاءه فيه لئلا يجتنبه الأشراف و يتحاشاه الناس.

ثم حذره الغضب و نفره منه بأنه من نفثات الشيطان و نزغاته يحرف الإنسان عن

ص: 193

الاستقامة و يعدل به عن طريق الحق لأنه متى غضب فقد أعصابه و لم يبق له سيطرة عليها و بذلك قد يتعدى حرمات اللّٰه فيقتل و يضرب و يسب و يهين يفعل ذلك كله بغير حق و لا إذن شرعي...

ثم أخيرا نبهه إلى أن كل ما قرّبه من اللّٰه من الأعمال الصالحة - صلاة و صوما و حجا و زكاة و صدقة و إعانة فقير و سد عوز محتاج و رفع الظلم و دفع الباطل - فإن كل ذلك يباعده عن النار لأن فيه رضا اللّٰه و كلما اقترب من اللّٰه و رضاه ابتعد عن النار التي أعدها لمن عصاه... و القضية تنعكس و تكون كل الأعمال التي تبعده عن اللّٰه تقربه من النار فالرذيلة بجميع أصنافها و المعصية بجميع أفرادها مبعدة عن اللّٰه و متى بعدت عن اللّٰه كنت أقرب إلى النار و العاقل هو الذي يختار ما يقربه من اللّٰه و يبعده عن النار.

ص: 194

77 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

لعبد الله بن العباس، لما بعثه للاحتجاج على الخوارج لا تخاصمهم (1) بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال (2) ذو وجوه، تقول و يقولون، و لكن حاججهم (3) بالسّنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصا (4).

اللغة

1 - لا تخاصمهم: لا تنازعهم و تجادلهم.

2 - حمّال: كثير الحمل و القرآن حمّال أي يحمل وجوها متعددة.

3 - حاججهم: خاصمهم و جادلهم.

4 - لا محيص له: لا مهرب له.

الشرح

(لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول و يقولون و لكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا) مشكلة الخوارج أنهم في دينهم معقدون نتيجة عدم الوعي و العلم و الانفتاح فهم في حالة انغلاق رهيبة إذا دخلت شبهة عليهم انسدت الأبواب أمامهم و لم يعد لفكرهم عمل أو نشاط في حلها فراحوا يبنون على أساسها كل عملهم و حركتهم و إن كان فيها سفك الدماء و قتل الناس و بعد أن عاشت فكرة خطأ التحكيم في أذهانهم راح الإمام بكل وسيلة يريد اقتلاعها من أفكارهم فترة يقوم هو بنفسه في محاورتهم و أخرى يرسل ابن عباس و هذه إحدى المرات التي يوجه بها ابن عباس و يوصيه بالطريق التي يسلكها إنه يوصيه أن لا يحتج عليهم بالقرآن أو يستدل على حقه بآياته و علل ذلك بأنه حمال ذو وجوه فالآية الواحدة قد تتحمل أكثر من معنى فإذا احتج بالآية و فسرها بوجه يردون عليه بها و يفسرونها بوجه آخر و هكذا يدوم الحال و يبقى يقول و يقولون و لا يصل معهم إلى نتيجة حاسمة و بعد أن ينصحه بعدم مجادلتهم بالقرآن يفتح

ص: 195

له باب المحاجة بالسنة فإنها من أقوال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و هي واضحة ظاهرة و نصوص بينة لا تقبل التأويل و التعدد في التفسير و لن يجدوا عنها مهربا أو منها مخرجا.

قال ابن أبي الحديد: فإن قلت: فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها؟.

قلت: كان لأمير المؤمنين عليه السلام في ذلك غرض صحيح و إليه أشار و حوله كان يطوف و يحوم و ذلك أنه أراد أن يقول لهم: قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -:

«علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دار» و قوله: «اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله» و نحو ذلك من الأخبار التي كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه صلوات اللّٰه عليه و قد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة و تثبت بنقلهم و لو احتج بها على الخوارج في أنه لا يحل مخالفته و العدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم و أغراض أخرى أرفع و أعلى منها فلم يقع الأمر بموجب ما أراد و قضى عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم و كان أمر اللّٰه مفعولا...

ص: 196

78 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أبي موسى الأشعري جوابا في أمر الحكمين، ذكره سعيد بن يحيى الأموي في كتاب «المغازي» فإنّ النّاس قد تغيّر كثير منهم عن كثير من حظّهم (1)، فمالوا (2) مع الدّنيا، و نطقوا بالهوى. و إنّي نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا (3)، اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم، و أنا أداوي (4) منهم قرحا (5) أخاف أن يكون علقا (6). و ليس رجل - فاعلم - أحرص (7) على جماعة أمّة محمّد - صلّى اللّٰه عليه و آله - و ألفتها (8) منّي، أبتغي (9) بذلك حسن الثّواب، و كرم المآب (10).

و سأفي بالّذي و أيت (11) على نفسي، و إن تغيّرت (12) عن صالح ما فارقتني عليه، فإنّ الشقيَّ (13) من حرم نفع ما أوتي من العقل، و التّجربة، و إنّي لأعبد (14) أن يقول قائل بباطل، و أن أفسد أمرا قد أصلحه اللّٰه. فدع ما لا تعرف، فإنّ شرار النّاس طائرون إليك بأقاويل السّوء، و السّلام.

اللغة

1 - حظهم: سهمهم و نصيبهم.

2 - مالوا: انحرفوا.

3 - معجبا: داعيا للعجب و موجبا له.

4 - أداوي: أعالج.

5 - القرح: الجرح.

6 - العلق: الدم الغليظ الفاسد.

ص: 197

7 - أحرص: من الحرص و هو التمسك بالشيء و البخل به.

8 - الألفة: الجماعة.

9 - أبتغي: أطلب.

10 - المآب: المرجع.

11 - و آيت: وعدت و تعهدت.

12 - تغيرت: تبدلت.

13 - الشقي: ضد السعيد.

14 - أعبد: آنف و أستنكف من عبد بكسر الباء أي أنف.

الشرح

(فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من حظهم، فمالوا مع الدنيا و نطقوا بالهوى) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى أبي موسى الأشعري الذي رشح بدون رضى الإمام للتحكيم و هي ناطقة بشك الإمام فيه و ارتيابه بتصرفه.

كثير من الناس - و منهم الأشعري نفسه - و يريد الصحابة الذين عاصروا النبي قد تغيرت مواقفهم الكريمة و سقطت أسهمهم من الدين و التقوى و العمل الصالح فاستبدلوا الدين و الشريعة بالرأي و الهوى و لم يعد للحق عندهم دور أو نصيب، لقد مالوا مع الدنيا فاشتغلوا بها و ساروا مع أهلها و إن كانوا ضلالا و من أهل الانحراف و نطقوا بالهوى و طوّعوا النصوص لما يشتهون و يرغبون و ما يخدم مصالحهم و يحقق رغباتهم...

(و إني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم و أنا أداوي منهم قرحا أخاف أن يكون علقا) صرت في منزل الخلافة الذي أنا فيه في منزل يستحق التعجب فقد التف حولي جماعة من أنصاري و من هم على مثل رأيي أو يلتقون معي في الخطوط البعيدة و قد أعجبتهم أنفسهم فكل واحد منهم على رأي و كل واحد في اتجاه يتفقون على خلافي و ضد توجهي و ما أريد و لا أقدر على إجبارهم أو قهرهم أو حملهم على ما أريد فأنا معهم كالطبيب الذي يداوي جراحة قد قاربت الاندمال و الشفاء و لما تندمل فهو يخاف أن يعود إلى فساد يسمم البدن جميعا فأنا أعاملهم بالنصح و الإرشاد فلا ينفع ذلك و أعاملهم بالشدة و القوة فلا ينفع أيضا و هكذا يزدادون سوءا و يشتدون انحرافا و أخاف من عاقبة ذلك كما يخاف الطبيب من فساد الجرح الذي بعد لم يندمل فيخاف أن يعود دما متجددا يفسد البدن...

(و ليس رجل - فاعلم - أحرص على جماعة أمة محمد - صلّى اللّٰه عليه و آله -

ص: 198

و ألفتها مني أبتغي بذلك حسن الثواب و كرم المآب) و اعلم يا أبا موسى - و هو يعلم - أنه ليس رجل في أمة محمد أشد حرصا من الإمام على وحدة الأمة و اتفاقها و لم شملها و جمع كلمتها فإن نظرة واحدة إلى مواقف الإمام منذ وفاة النبي و إلى أن آلت إليه الخلافة يجد صدق هذا الكلام فإنه سكت عن حقه في بيعة السقيفة و لم يشهر سيفا و لم يعلن حربا مع أنه كان صاحب الحق و لم يظهر منه إلا تسجيل الاعتراض و الطعن في البيعة و إعلان أنه هو صاحب الحق بالأولوية و النص و الحق و العدل... و سكت في شورى عمر عند ما رشح ست من المسلمين ينتخبون من يرون - بعد أن أهّل عثمان و شكلها بشكل يتعين معه عثمان خليفة - و هكذا كان همه حفظ الإسلام و صيانته بحفظ الأمة و تحصينها و وحدة كلمتها فإذا كان هذا سلوكه في أيام خلافة السابقين فهو في أيامه أشد حرصا على ذلك و أقوى اندفاعا في سبيله و ما كان ذلك إلا طلبا لأحسن ما عند اللّٰه من ثواب و أجر و أكرم ما يعود الإنسان إليه عند ربه و خالقه من عودة إلى الجنة و نعيمها و طيبات ما فيها...

(و سأفي بالذي و أيت على نفسي و إن تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه فإن الشقي من حرم نفع ما أوتي من العقل و التجربة) ما أخذته على نفسي و عاهدتها عليه من الحفاظ على وحدة الأمة و جمع كلمة المسلمين و القبول بالصلح أن وافق الكتاب و السنة و لم يتضمن ظلما أو جورا فسأفي به و أنجزه هذا من جهتي و أما أنت يا أبا موسى فإن بقيت على ما نعهده منك من اليقظة و الحذر و ما مر عليك من تجارب الحياة و معرفتك بمداخيلها و مخارجها إن عرفت ذلك و بقيت عليه فهو و أما إذا استغلك ابن النابغة و استحمرك فأنت الشقي الذي ستبقى رمزا للبلهاء و الأغبياء يذكرك التاريخ مع المغفلين و الشقي التعيس من لم يستعمل عقله فحرم منفعة هذه الدرة المكنونة و لم يستفد أو ينتفع و الشقي التعيس من لم يستعمل عقله فحرم منفعة هذه الدرة المنكوبة و لم يستفد أو ينتفع من تجربته في الحياة أو تجارب الآخرين و كأن هذا إشارة من الإمام إلى أبي موسى أن يتنبه إلى ابن النابغة و حيله و مكائده و ما هو عليه من الخبث و الدهاء...

(و إني لأعبد أن يقول قائل بباطل) إني لآنف أن ينطق غيري بالباطل و لا أرضاه منه فكيف لا آنفه لنفسي أو أرتضيه لها...

(و أن أفسد أمرا قد أصلحه اللّٰه) و لا أقبل لنفسي و لا أرضى لها أن تفسد أمرا قد أصلحه اللّٰه فإذا أنت يا أبا موسى قد سعيت في وحدة المسلمين و لم شملهم فأنا أول المقرين و المعترفين و الساعين و العاملين...

(فدع ما لا تعرف فإن شرار الناس طائرون إليك بأقاويل السوء، و السلام) يأمره عليه السلام أن لا يقبل من الأنباء و الأخبار إلا ما كان على وجه اليقين ثم حذره من أن

ص: 199

شرار الناس - و هم عمرو و أضرابه - سيحملون إليه بالأقوال السيئة فيوسوسون إليه بما يتقولون له من الأخبار القبيحة التي لا صحة لها فيقربون إليه البعيد و يبعدون عنه القريب من أجل إضلاله عن سبيل اللّٰه و الانحراف به عن الصواب و هكذا كان فقد دخل كل من عمرو و أبي موسى بثوب الناصح الشفيق و خرجا منها واحدهما حمار و الآخر كلب كما وصفا أنفسهما بذلك...

ص: 200

79 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

لما استخلف، إلى أمراء الأجناد أمّا بعد، فإنّما أهلك (1) من كان قبلكم أنّهم منعوا النّاس الحقّ فاشتروه، و أخذوهم بالباطل فافتدوه (2).

اللغة

1 - أهلك: من الهلاك و هو الموت و الفناء.

2 - اقتدى به: فعل فعله أخذ فعله سنّة يعمل بها.

3 - فدى الشيء: استنقذه بمال أو سواه.

الشرح

(أما بعد فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه و أخذوهم بالباطل فافتدوه) يبيّن عليه السلام أن هلاك الأمم السابقة إنما كان لانحرافهم عن الحق و أخذهم طريق الضلال و ذكر لذلك أنهم القادة و الحكام و ولاة الأمر منعوا الناس الحق الذي لهم فاشتروا حقهم بالرشا و الشفاعات و الوساطات الدنيئة لأنهم يريدون حقهم و لا يملكون الوصول إليه إلا عن هذا الطريق الباطل المحرم.

و كذلك أخذوهم بالباطل فاقتدوه أي حملوهم على الباطل من ظلم الناس و الجور عليهم و أخذ الرشوة و قبول الشفاعات الباطلة فجاء الخلف من بعدهم فاقتدوا بآبائهم و أسلافهم و مشوا على سيرتهم قائلين كما يحكي اللّٰه قولهم: «إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ » (1) فسن السلف سنة السوء اتبعهم الخلف عليها تقليدا لهم و اقتداء بهم...

ص: 201


1- سورة الزخرف، آية - 23.

إلى هنا تم شرح كتب الإمام و رسائله الكريمة بيد العبد الفقير إلى اللّٰه عباس علي الموسوي (أبو علي) الملقب بالخطيب في شقته الواقعة في حارة حريك من ضواحي بيروت سائلا اللّٰه تعالى أن يجعلها و سيلتي يوم الدين يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى اللّٰه بقلب سليم.

و ذلك في 23 من شهر جمادى الأولى من سنة 1413 هجرية الموافق 17 تشرين ثاني من سنة 1992 ميلادية و الحمد للّٰه رب العالمين...

ص: 202

باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام

اشارة

و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في سائر أغراضه

ص: 203

يقول ابن أبي الحديد: هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن و السواد من العين و هو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها...

أقول: و هذه الحكم العلوية أضحت في القلوب و على الشفاه أمثالا سائرة و قيما خالدة يستشهد بها الأديب و يذكرها المرشد كما أن بعض فقراتها تحفظها الأطفال و ربات الحجال لأنها روح الحياة و خلاصة تجاربها...

ص: 204

1 - قال عليه السلام: كن في الفتنة (1) كابن اللّبون (2)، لا ظهر (3) فيركب، و لا ضرع (4) فيحلب.

اللغة

1 - الفتنة: اختلاف الناس في الآراء و ما يقع بينهم من القتال بحيث لا يعرف وجه الحق.

2 - ابن اللبون: ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية و دخل في الثالثة.

3 - الظهر: خلاف البطن، الركاب التي تحمل الأثقال.

4 - الضرع: كالثدي للإنسان و هو لكل ذات ظلف أو خف.

الشرح

الفتنة هي النزاع و القتال بين فئيتن ضل الحق بينهما و لم يعرف أين مستقره فالإنسان في مثل ذلك يجتنب كلا الطائفتين المتنازعتين و لا يخوض مع واحدة منهما لأن طريق الحق لم يعرف مع أيهما فربما ساعد بنفسه أو بموقفه أو بماله من لا يستحق المساعدة فيقع في معصية تأتي على حسناته و من هنا نبه الإمام و حذر و جعل المسلم كابن اللبون و هو ولد الناقة الذي لا يستفاد من ظهره فلا يركب و لا يصلح للحمل كما أنه ليس بذات لبن كي يستفاد من حليبه.

أما إذا كان الحق واضح المعالم فلا بد من الوقوف إلى جانبه و القتال معه ضد الباطل فإن ذلك من مقتضى الإيمان و ضروريات الإسلام.

2 - و قال عليه السلام: أزرى (1) بنفسه من استشعر الطّمع (2) (3)،

اشارة

ص: 205

و رضي بالذّلّ (4) من كشف عن ضرّه (5)، و هانت (6) عليه نفسه من أمّر (7) عليها لسانه.

اللغة

1 - أزرى: قصر به و حقره.

2 - استشعر الشيء: تخلق به من الشعار و هو ما يلي البدن من الثياب.

3 - الطمع: ضد القناعة.

4 - الذل: ضد العز، الهوان و الضعة.

5 - الضر: كل ما كان من سوء حال و فقر أو شدة في بدنه.

6 - هان: ذل و صغر.

7 - أمرّ لسانه: جعله أميرا.

الشرح

هذه أمور يقرأها الإمام في نفوس الناس و في وجوههم و يريد منهم أن يترفعوا عنها و يعيشوا الإباء و العزة و الكرامة.

(أزرى بنفسه من استشعر الطمع) الذي يعيش الطمع بما في أيدي الناس و يخضع لهم و يعطيهم من نفسه و يسايرهم في كثير من الأمور يعيش الإهانة في نفسه و الاحتقار عندهم.

أما عندهم فلعلمهم بحاله و بما يتنازل عنه و أما عند نفسه فلأنه يشعر بعمقه بالمساومة على كثير من مبادئه و قيمه فتهون عليه نفسه و في الحديث عن أبي جعفر (ع):

بئس العبد عبد له طمع يقوده و بئس العبد عبد له رغبة تذله...

(و رضي بالذل من كشف عن ضره) من كشف للناس ما به من بؤس و سوء حال فقد تعرى أمامهم و هان عليهم و عادة الناس جارية أنهم يحترمون الأشخاص بصفاتهم و ما يسمعون عنهم و متى عرفوا حقيقتهم و أنهم ليسوا كذلك سقطوا من أعينهم و في المثل «صيت الغنى و لا صيت الفقر» لأن الناس تحترم الأغنياء و تزدري الفقراء فحفظ المقام بحفظ صيت الغنى...

(و هانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه) من جعل لسانه أمير نفسه فقد صغرها

ص: 206

و حقرها لأن اللسان إذا تولى الأمر و أخذ يتكلم كما يشاء فإن سقطاته تكثر و أغلاطه تزداد و عثراته قد لا تقال فاجعل اللسان في خدمة العقل و لا تنطق إلا بعد أن تفكر في كل كلمة تخرج من فمك و تعرف آثارها و ما تخلفّه من الأحداث و المشاكل أو تزرعه من الخيرات و الهداية و هذه الحكمة دعوة إلى ضبط اللسان الذي يحفظ كرامة الإنسان...

3 - و قال عليه السلام: البخل (1) عار (2). و الجبن (3) منقصة (4)، و الفقر يخرس (5) الفطن (6) عن حجّته (7) و المقلّ (8) غريب في بلدته.

اللغة

1 - البخل: الشح.

2 - العار: ما يعاب عليه الإنسان و يخجل منه.

3 - الجبن: الخوف يصيب القلب فلا يقدر على المواجهة لأي أمر.

4 - المنقصة: المذمة و العيب.

5 - يخرس: يسكت و يلجم و الخرس مرض يصيب اللسان يمنعه من الكلام.

6 - الفطن: اللبيب، صاحب الحجة.

7 - الحجة: البرهان، الدليل.

8 - المقل: الفقير الذي لا مال له.

الشرح

(البخل عار) البخل ضد الكرم و بمقدار ما يمدح الكرم و الكرام يذم البخل و البخلاء و للجاحظ كتاب سماه «البخلاء» يذكر أقوالهم و أفعالهم و يذمهم بأبلغ بيان و أحسن لسان.

و البخل هو الشح و عدم العطاء و البذل و هو صفة ذميمة و قبيحة يخجل الإنسان منها و يعاب عليه أن تكون فيه و لذا هي «عار» تلحق البخيل في حياته فتخجله و تسير في أعقابه فتكون و صمة عار يخجلون منها و يستحون من ذكرها.

(و الجبن منقصة) و الجبن هو الخوف و الفزع و الهلع و هو ضد الشجاعة الممدوحة، و الجبان لا يدفع ضيما و لا يرفع حيفا و لا ينصر مظلوما و لا يقمع ظالما و ليس للجبناء حظ في معالي الأمور و كرائمها و كفى بذلك منقصة.

ص: 207

(و الفقر يخرس الفطن عن حجته) الفقر قلة ذات اليد و عدم المال عند الشخص و هو في الغالب يشغل الفكر و يذهب بالتوجه الصحيح فإن الحجة السليمة التي ينتصر بها الإنسان تتوقف على الذكاء و على الانتباه التام و التوجه و عدم شغل الفكر في أمر آخر و أما إذا اشتغل الفكر في كيفية تحصيل القوت و سد الحاجات الأولية لا يتوجه بشكل جيد إلى الحوار و الانتصار و يغفل عما لديه من حجج نافذة و براهين شافية...

(و المقل غريب في بلدته) و المقل هو من لا مال له و لا ثروة عنده و كونه غريب في بلدته لأن الناس تتعامل مع الأغنياء و حاجتهم عندهم، يتوجهون إليهم و يترددون عليهم و يقصدونهم و لا تخلو بيوتهم منهم أما الفقراء فلا أحد ينتبه إليهم فيصبحوا غرباء و إن كانوا في بلدهم لعدم التعامل معهم و الاختلاط بهم و التردد عليهم و زيارتهم و هذا ما نشاهده و نراه في زماننا و أيام حياتنا.

4 - و قال عليه السلام: العجز (1) آفة (2)، و الصّبر شجاعة، و الزّهد ثروة (3)، و الورع جنّة (4)، و نعم القرين (5) الرّضى.

اللغة

1 - العجز: عدم القدرة.

2 - آفة: جمع آفات العاهة، ما يفسد.

3 - الثروة: كثرة المال.

4 - الجنة: بالضم الوقاية.

5 - القرين: المصاحب.

الشرح

(العجز آفة) العجز يعني عدم القدرة أو عدم التمكن من القيام بما يطمح إليه الإنسان أو العجز عما يطلب منه، فمن لم يكن عالما لم يتمكن من نشر العلم و بثه و من لم يكن غنيا لم يستطع البذل و العطاء فالعجز إذا عاهة و مرض يقعد الإنسان عن نيل مراده...

(الصبر شجاعة) الصبر يعني ضبط النفس و عدم اضطرابها عند الأحداث العظيمة

ص: 208

حينما تعصف بهذا الإنسان فهو ذو شجاعة يواجه بها مصاعب الحياة و مشاكلها فلا ينهزم أمامها أو ينسحق تحت ضرباتها و الشجاعة صمود و رباطة جأش و اطمئنان و إقدام و قوة قلب و الصابر إنسان متزن يحافظ على سلامة فكره و استمرارية حل ما يعترض سبيله من قضايا معقدة و مشاكل مستعصية...

(و الزهد ثروة) الزهد هو التعفف عن الدنيا و الاستغناء عما فيها و عمن هي في أيديهم فهو ثروة مال يستغني به الإنسان عن الناس و عما في أيديهم.

و الزاهد حاجته مقضية بل لا حاجة له فهو أغنى ممن يملك الثروة و المال و يقضي حاجته بها مع فارق أن الزاهد لم يحتج إلى الثروة ليقضي حاجته لعدم الحاجة بينما الثاني يحتاج إليها ليقضي بها حاجته...

(و الورع جنة) الورع حالة نفسية تستدعي من الإنسان أن يبتعد عن المحرمات بل عن المشتبهات و بذلك يقي نفسه من النار و يدفع عنها عذاب الملك الجبار فكما أن الترس يحمي من ضربات سيوف الأعداء كذلك الورع يحمي الإنسان من النار...

(و نعم القرين الرضى) أن ترضى بما أنت فيه و ما أنت عليه و تفكر بهدوء بما تحب أن تصير إليه فهذا من أحسن الأمور و أفضلها أما إذا لم ترض و سخطت فإنك ستبتلى بأزمة حادة تفقد فيها أعصابك و تعكر مزاجك و تعيش حياة قلقة باستمرار.

5 - و قال عليه السلام: العلم وراثة (1) كريمة، و الآداب حلل (2) مجدّدة، و الفكر مراة صافية.

اللغة

1 - وراثة: الإرث و الوراثة هو ما يخلفه الميت لورثته و الميراث تركة الميت.

2 - الحلل: جمع الحلة بالضم كل ثوب جديد.

الشرح

(العلم وراثة كريمة) العلم نور يكشف الأمور و به تتضح القضايا و هو نعم ما يخلفه الإنسان لنفسه فإنه يذكر به بين العلماء و أرباب الفكر و الأدب و نجد مصداق ذلك بما

ص: 209

خلفه العلماء وراءهم من آراء و نظريات يذكرون بها و يمدحون عليها و يذكرهم أهل المعرفة بكل خير.

(الآداب حلل مجددة) الآداب الشرعية و السلوكية و الاجتماعية من معاشرة الناس بالحسنى و الاختلاط معهم بالأدب و الاحترام و ما هو مفترض في الدين كل ذلك حلل يتزين بها الإنسان و تتجدد في كل وقت فلا تبقى كما هي و لا تبلى كما تبلى الحلل و الثياب كما أنها تختلف و تتعدد فآداب الحكام و الملوك لها أسلوب و طريقة معينة و قد تختلف و تتجدد من وقت لآخر و آداب العلماء لها أسلوب و طريق يختلف مع الأول و الآداب بين الآباء و الأبناء لها نمط ثالث و آداب الناس لها نمط رابع و هكذا...

(الفكر مرآة صافية) الفكر الصافي الخالي من الهوى و الميول و المؤثرات الوراثية و المصالح و المنافع يصل من الأمور إلى حقيقتها و يدرك واقعها و كما هي فهو يعكس الأشياء كما هي كما تعكس المرآة الصافية الصورة كما هي و تنقلها صحيحة سليمة.

و هذه منه دعوة إلى التجرد العقلي و تحرير العقل من الضغوط عليه عند ما يتوجه للحكم على الأمور أو يريد أن يحلل القضايا و يتبنى النظريات.

6 - و قال عليه السلام: صدر العاقل صندوق (1) سرّه (2)، و البشاشة (3) حبالة (4) المودّة (5)، و الاحتمال (6) قبر العيوب.

اشارة

و روي أنه قال في العبارة عن هذا المعنى أيضا: المسألة خباء العيوب، و من رضي عن نفسه كثر السّاخط عليه.

اللغة

1 - الصندوق: وعاء تحفظ فيه الثياب و الأشياء الثمينة.

2 - السر: ما يكتمه الإنسان في نفسه.

3 - البشاشة: طلاقة الوجه و انشراحه.

4 - الحبالة: شبكة الصياد.

5 - المودة: المحبة.

6 - الاحتمال: تحمل الأذى.

ص: 210

الشرح

(صدر العاقل صندوق سره) إذا أردت أن يبقى سرك محفوظا فلا تتحدث به أمام أحد و كما تحفظ أموالك في صندوقك (خزنتك) و لا تكشف ما فيه و كم فيه و لا يعرف ذلك أحد غيرك اجعل كذلك سرك في صدرك و لا تكشفه إلى أحد.

(البشاشة حبالة المودة) شبه طلاقة الوجه و انشراحه في جلب المحبة و المودة بشبكة الصياد التي بها يصطاد الطيور فهذه للطيور و تلك للقلوب فإن بشاشة الوجه تغرس المحبة في القلوب و تجعلها تميل إليها و تنطلق معها و تحبها و تحب اللقاء معها و لذا كان حسن اللقاء أحسن القرى.

(الاحتمال قبر العيوب) و روي أنه قال في العبارة عن هذا المعنى أيضا: «المسالمة خباء العيوب و من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه».

الصبر على أذى الغير و كظم الغيظ عما يصدر منهم يستر عيوب الإنسان من جهة أن المواجهة بالمثل عيب بنفسه فإذا تحمل الأذى و لم يظهره فقد ستره و من جهة أخرى أن الصبر على الأذى يستدعي من الناس أن لا يكشفوا ما يعرفون عنه من عيوب و بذلك تموت.

و أما إذا كانت العبارة خباء فالمعنى نفسه لا يختلف عنه.

(و من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه) لأنه برضاه عن نفسه لا يقف على عيوبه فيصبح كل ما يمارسه مع الناس من أخطاء و إساءات لا يلتفت إليها و كل إساءة تربي له عدوا و تخلق ساخطا عليه و غاضبا على تصرفاته.

7 - و قال عليه السلام: الصّدقة دواء (1) منجح، و أعمال العباد في عاجلهم (2)، نصب أعينهم (3) في آجالهم (4).

اللغة

1 - الدواء: العلاج.

2 - العاجل: ضد الآجل، و العاجلة هي الدنيا.

ص: 211

3 - نصب أعينهم: أمامها.

4 - آجالهم: جمع أجل و هو الوقت المضروب، يوم القيامة.

الشرح

(الصدقة دواء منجح) الصدقة عبارة عن العطاء المجاني يقصد به وجه اللّٰه و قد جعلها علاجا ناجحا يشفي من الأمراض و ذلك لأن الفقير يأخذها و يدعو للمعطي و هذا الدعاء هو الدواء الناجح لأنه توجه إلى اللّٰه و الذي يمرض هو الذي يشفي و قد ورد عن النبي قوله: «داووا مرضاكم بالصدقة».

(و أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجالهم) كل ما يعمله الإنسان في دنياه يجده في آخرته قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » و قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مٰا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهٰا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» و من هذه الآيات و ما أشبهها و ما كان مثل هذه الكلمة استفاد بعضهم بتجسيم الأعمال في الآخرة...

8 - و قال عليه السلام: أعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم (1) و يتكلّم بلحم، و يسمع بعظم، و يتنفّس من خرم (2)!!.

اللغة

1 - الشحم: ما ابيض و خف من لحم الحيوان و شحمة العين مقلتها.

2 - الخرم: الثقب و خرم الإبرة ثقبها التي يدخل منه الخيط.

الشرح

الإنسان عجيب التكوين و كل عضو فيه معجزة إلهية تحكي دقة الصنع و حكمة الخالق و عظمة المبدع القدير و الإمام يذكر عظمة الباري في هذه الأعضاء الأربعة فينبه الإنسان ليعتبر و يتعظ و يلتفت إلى اللّٰه فيعبده و يتوجه إليه فهذه العين تتراىء و كأنها شحمة و بها يرى الإنسان مع أن في البدن يوجد أمثالها و كذلك يتكلم بلحم و هو اللسان و في البدن أضعاف مضاعفة مثله فلما ذا لا يكون الكلام إلا به و لا يؤدي وظيفته شيء آخر في بدن الإنسان و كذلك السمع يتم بواسطة الأذن و هي عظيمات مجتمعة و مؤلفة بشكل تتم

ص: 212

بواسطتها نقل الأصوات و الاستماع مع أن في البدن عظام أكبر منها و أصلب و كذلك من ثقب الأنف يتم التنفس أو من ثقب الفم مع أن في البدن غيره فلما ذا يكون التنفس منه سبحان من خلق فأبدع و على الإنسان أن ينظر و يعتبر و يفكر و يتعظ و يرجع إلى اللّٰه العليم الخبير...

9 - و قال عليه السلام: إذا أقبلت (1) الدّنيا على أحد أعارته (2) محاسن (3) غيره، و إذا أدبرت عنه (4) سلبته (5) محاسن نفسه.

اللغة

1 - أقبلت الدنيا: أتت بخيراتها و ما فيها.

2 - العارية: العطية للشيء للانتفاع به على أن يرده أو مثله.

3 - المحاسن: جمع حسن و هو الجمال و المحاسن هنا أفضل الأشياء.

4 - أدبر عنه: تولى عنه و أعطاه دبره ذاهبا.

5 - سلب الشيء: انتزعه.

الشرح

هذا هو حال الدنيا و هذه طريقتها مع بعض الناس، إنها إذا أقبلت عليهم و توجهت نحوهم أخذت محاسن غيرهم فأعطتهم إياها... إذا أصبح إنسان غنيا و أعطى درهما حوّلت الدنيا هذا العطاء القليل إلى عطاء كثير تتحدث به الناس و تنقله الركبان و نحن قد قرأنا لبعض من عاصرنا كتبا ضعيفة و مع ذلك ترى وسائل الإعلام تحكي فيها و تتحدث عنها و ترى الصحافة و رجالاتها تثني على مؤلفها و ذلك لأنه شخصية اجتماعية مرموقة و لها وزنها على الساحة السياسية و أما إذا أدبرت الدنيا و حاربت بعض الناس فإنك تجد ما فيه من محاسن و كمالات تنقل عنه و تسلب منه...

10 - و قال عليه السلام: خالطوا النّاس مخالطة (1) إن متّم معها بكوا عليكم، و إن عشتم حنّوا إليكم (2).

اشارة

ص: 213

اللغة

1 - المخالطة: المعاشرة.

2 - حنوا إليكم: اشتاقوا إليكم.

الشرح

دعا الإسلام إلى حسن العشرة و أن يسير الإنسان مع الناس سيرة طيبة بأن يلقاهم بالبشر و يتكلم معهم بالرقة و العطف و يشعرهم أنه معهم في سرائهم و ضرائهم و ما يصيبهم من شدة و عناء و هذا بطبيعة الحال له نتائج و آثار و من آثاره و نتائجه أنه إذا غاب عنهم افتقدوه و بحثوا عنه و حنوا إليه و اشتاقوا إلى رؤيته و أما إذا مات فإنهم يبكون عليه و يحزنون لأنهم يشعرون بخسارتهم لفقده و هكذا ينبغي أن يكون المسلم إن غاب اشتاقوا إليه و إن مات بكوا عليه.

11 - و قال عليه السلام: إذا قدرت (1) على عدوّك فاجعل العفو (2) عنه شكرا للقدرة عليه.

اللغة

1 - قدر عليه: قوي عليه.

2 - العفو: الصفح.

الشرح

لكل نعمة شكرها المناسب لها، و القدرة على العدو نعمة كبرى تستحق الشكر، فإذا أعطاك اللّٰه القدرة البدنية أو العسكرية أو العقلية و انتصرت بذلك على عدوك فاجعل شكر هذا النصر و القدرة على العدو أن تعفو عنه و تصفح.

و في التاريخ أمثلة عظيمة في العفو و الصفح و كم حوّل هذا الأسلوب من التعامل ألدّ الأعداء إلى أصدقاء أوفياء هذا إذا كان المعفو عنه كريما شهما يعرف منابت العز في رءوس الرجال...

ص: 214

12 - و قال عليه السلام: أعجز النّاس من عجز عن اكتساب (1) الإخوان، و أعجز منه من ضيّع (2) من ظفر به (3) منهم.

اللغة

1 - اكتسب: ربح.

2 - ضيّع الشيء: فقده.

3 - ظفر به: فاز به.

الشرح

دعوة إلى اكتساب الإخوان و عدم تنفير و تهجير من هم أصدقاء بالفعل بل يحافظ على أصدقائه و يحاول أن يكتسب غيرهم.

أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأصدقاء لأن اكتسابهم لا يحتاج إلا إلى بعض اللياقة و الصدق و حسن اللقاء و الكلمة الطيبة و السؤال عنهم و مدّ يد العون إليهم قدر الطاقة و من لم يقدر على ذلك فهو من أعجز الناس عن اكتساب ما يحتاج إلى جهد و كلفة و مشقة عالية...

و لكن أعجز من هذا من ضيّع من ظفر به منهم أن يكون لك أصدقاء فتأتي بأعمال تبعدهم عنك و تجعلهم يتخلون عن صداقتك فهذا أشد عجزا من أصل اكتسابهم لأن هروب العصفور من اليد أشد حسرة و أكثر ألما من تحصيل عصفور بعيد لم يقع تحت يدك... و من عجز عن الاحتفاظ بها في يده كان أعجز من أن يكتسب ما لم يقع في يده.

13 - و قال عليه السلام: إذا وصلت إليكم أطراف النّعم (1) فلا تنفّروا (2) أقصاها (3) بقلّة الشّكر.

اللغة

1 - أطراف النعم: أوائلها.

2 - تنفر الدابة: تشرد و تبعد.

3 - أقصاها: أبعدها أي آخرها.

ص: 215

الشرح

إذا ابتدأت نعم اللّٰه تصل إليكم و تتساقط عليكم سواء كانت من النعم المادية كالمال أو المعنوية كالجاه فلا تقطعوا استمرار تدفقها و لا ترفعوا أسباب وجودها و ذلك إنما يحصل بقلة شكرها الذي يعني أن تضعها في غير موضعها، و على العكس مع الشكر قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »

14 - و قال عليه السلام: من ضيّعه (1) الأقرب أتيح له (2) الأبعد.

اللغة

1 - ضيّع الشيء: فقده.

2 - أتيح له: قدر له و هيىء له.

الشرح

من لم يتنبه له الأهل و الأقارب و لم يهتموا بشئونه و يقفوا إلى جنبه هيأ اللّٰه له من هو أبعد منهم إليه يقومون بنفس دورهم و قد يكون أتم و أكمل و قد كان في سيرة رسول اللّٰه و دعوته أعظم العبر حيث إن قريشا في مكة تخلت عنه و عن مساندته بل حاربته و لم تهتد و لم تتعاون معه في دعوته فكانت الهجرة إلى المدينة و هيأ اللّٰه له من الأوس و الخزرج ما كان به الفتح و النصر و قاموا مقام عشيرته و أقرب الناس إليه.

15 - و قال عليه السلام: ما كلّ مفتون (1) يعاتب.

اللغة

1 - المفتون: الواقع في الفتنة.

2 - العتاب: اللوم.

الشرح

نهى عليه السلام عن اللوم للإنسان لمجرد أن تجده يمارس أمرا غير مشروع إذ ربما كان له عذر في إقدامه على ذلك العمل فمن وجدته في مكان لا يليق به فلا تسارع

ص: 216

في لومه إذ ربما كان لوجوده في ذلك المكان ما يسوّغه.

و ربما أراد عليه السلام: لا تلم من لا تؤثر الملامة فيه أو لا تنفع و يؤيد ذلك أنهم قالوا: إن هذا الكلام منه عليه السلام كان لسعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة و عبد اللّٰه بن عمر لما امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم العتاب و اللوم لأنهم يعرفون الحقيقة و ينحرفون عنها فلا ينفعهم اللوم...

16 - و قال عليه السلام: تذلّ (1) الأمور للمقادير (2)، حتّى يكون الحتف (3) في التّدبير.

اللغة

1 - ذل البعير: سهل انقياده.

2 - المقادير: جمع المقدار، القدرة.

3 - الحتف: الموت.

الشرح

قد تصبح الأمور بين يديك تصرفها كيف تشاء و تنجح في تذليل الصعاب فترى في قبضة يدك كل شيء جاهزا و لكن قد يكون في طيات ذلك موتك و القضاء عليك، فربما تسعى في تقوية دولة و تعزيزها ثم يأتي أربابها على نفسك و ينهون حياتك كما وقع ذلك لأبي مسلم الخراساني فالتوكل على اللّٰه و تفويض الأمر إليه هو خير معين...

17 - و سئل عليه السلام عن قول الرسول - صلّى اللّٰه عليه و آله -:

اشارة

«غيّروا (1) الشّيب (2)، و لا تشبّهوا (3) باليهود» فقال عليه السلام: إنّما قال - صلّى اللّٰه عليه و آله - ذلك و الدّين قلّ (4)، فأمّا الآن و قد اتّسع نطاقه (5)، و ضرب بجرانه (6)، فامرؤ و ما اختار.

ص: 217

اللغة

1 - غيروا: بدّلوا.

2 - الشيب: بياض الشعر.

3 - تشبّه به: قلّده و حاكاه.

4 - قلّ : بضم القاف أي قليل أهله.

5 - النطاق: الحزام.

6 - الجران: مقدم عنق البعير.

الشرح

دعا رسول اللّٰه أصحابه من أهل الشيب أن يغيروا شيبهم بالخضاب بالحناء و السواد أو غيرها من الأصباغ و لا يتشبهوا باليهود الذين لا يصبغون شيبهم و أمره عليه السلام إنما كان لأجل أن يظهروا في فتوة و شباب فيها بهم الأعداء و إنما قال ذلك يوم كان المسلمون قلة و أما بعد أن كثر المسلمون و انتشر الإسلام و توطدت أركانه و ثبتت دعائمه فكل مسلم و ما اختار فمن أحب أن يخضب فهو مباح له و من أراد تركه فله الحرية الكاملة...

18 - و قال عليه السلام في الذين اعتزلوا (1) القتال معه: خذلوا الحقّ (2)، و لم ينصروا الباطل.

اللغة

1 - اعتزل الشيء: تنحى عنه و تركه.

2 - خذل الحق: ترك نصرته و معونة أربابه.

الشرح

بعض الناس في عهد الإمام اعتزلوا القتال فلم يقاتلوا معه و لا ضده منهم عبد الله بن عمرو سعد بن أبي وقاص و أبي موسى الأشعري و غيرهم فقال لهم الإمام: إنهم خذلوا الحق بالقعود عن القتال دونه و لم ينصروا الباطل بالقتال معه، فهم لم ينصروا الباطل لكنهم خذلوا الحق و هذه الكلمة منه لهم كلمة ذم بليغة أصابتهم إصابة موجعة لأن المؤمن لا يكون إلا ناصرا للحق مدافعا عنه خاذلا للباطل مقاتلا له.

ص: 218

19 - و قال عليه السلام: من جرى (1) في عنان (2) أمله عثر (3) بأجله (4).

اللغة

1 - جرى: سار.

2 - العنان: وزن كتاب سير اللجام تمسك به الدابة.

3 - عثر: سقط و وقع.

4 - الأجل: الوقت المضروب، الموت.

الشرح

الآمال كثيرة و كلما تحقق من آمالك شيء تجددت آمال و هكذا... فإذا استرسلت وراء تحقيقها و بقيت تسعى دون رأفة أو رحمة و دون نظر إلى حلال أو حرام أو جائز و ممنوع و مارست في سبيلها كل السبل و شتى الطرق يأتيك الموت فجأة فيقطع آمالك و يقضي عليها و تنتقل إلى ربك في حالة تمرد و عصيان... فكلامه عليه السلام تنبيه لهذا الإنسان أن لا يسترسل وراء الأمل دون التفات إلى اللّٰه و دون حساب للموت...

20 - و قال عليه السلام: أقيلوا (1) ذوي المروءات (2) عثراتهم (3)، فما يعثر منهم عاثر إلاّ و يد اللّٰه بيده يرفعه.

اللغة

1 - الإقالة في البيع: فسخه و هنا يراد بها الإغضاء و العفو و الستر.

2 - المروءة: فعل الأكمل و الأجمل و ترك القبيح و ما يغض من شيمة الشخص.

3 - العثرات: جمع عثرة السقطة و الهفوة.

الشرح

من كان صاحب مروءة يأنف من القبيح و يترفع عن السفائف و الصغار إذا وقعت منه زلة أو هفوة فاصفح عنه و لا تؤاخذه عليها أو تعاتبه بها... دعوة إلى الصفح عن

ص: 219

أصحاب الشيم الكريمة و علل ذلك بأن اللّٰه بقوته يرفعهم منها و يسددهم للنهوض من هذه الكبوة و ذلك لكثرة أفعالهم الطيبة التي تستر هذه الزلة و تغطيها.

21 - و قال عليه السلام: قرنت الهيبة (1) بالخيبة (2)، و الحياء (3) بالحرمان (4)، و الفرصة (5) تمرّ مرّ السّحاب (6)، فانتهزوا (7) فرص الخير.

اللغة

1 - الهيبة: المخافة.

2 - الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب.

3 - الحياء: الحشمة و الخجل.

4 - الحرمان: عدم توافر الشيء.

5 - الفرصة: الوقت السانح و المناسب.

6 - السحاب: الغيوم.

7 - انتهزوا: استغلوا الفرصة.

الشرح

(قرنت الهيبة بالخيبة) إذا خفت من أمر لم تقدم عليه و لم تجرؤ على الطلب به فهذا يفوّت عليك المطلوب و هو أسلوب قبيح و طريقة غير صحيحة بل إذا أردت أمرا فاقتحم أبوابه و لا تأخذك هيبة الرجال و قوتهم فيضيع مطلوبك...

(و الحياء بالحرمان) و هذا الحياء و هو الخجل الذي يمنع الإنسان من الطلب بمراده فمن خجل و استحى أن يطلب حقه منع منه و لم يعطى و هذه دعوة إلى رفض الحياء إذا كان يوجب حرمان الناس من حقوقهم و منعهم منها...

(و الفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير) الفرصة فسحة من الوقت تستطيع أن تحقق مطلوبك خلالها و هي قد لا تعود إليك و قد لا تراها مرة أخرى فلذا يجب على الإنسان أن يبادر إلى الاستفادة من فرص الخير و يترقب حلولها ليستفيد منها و لا يقولن بعد فواتها «ليتني» و خصوصا إذا كانت الفرصة لعمل الخير كمن آتته الفرصة لخدمة محتاج فينبغي عليه أن يبادر إلى قضائها و لا يتأخر إذ ربما قضاها غيره أو فات محلها أو عجز بعد ذلك فيقع في خسارة الأجر و الثواب...

ص: 220

22 - و قال عليه السلام: لنا حقّ ، فإن أعطيناه، و إلاّ ركبنا أعجاز (1) الإبل (2)، و إن طال السّرى (3).

اشارة

قال الرضي: و هذا من لطيف الكلام و فصيحه، و معناه: أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء.

و ذلك أن الرديف يركب عجز البعير، كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما.

اللغة

1 - أعجاز الإبل: مآخيرها جمع عجز و هو مركب شاق.

2 - الإبل: الأباعر، الجمال.

3 - السرى: سير الليل.

الشرح

فهم الرضي ما فهمه من كلام الإمام و يمكن أن يكون مراده عليه السلام أن الخلافة من حقوقنا و هي لنا فإن أعطينا حقنا فهو المطلوب و إن منعنا منه صبرنا و احتسبنا و لم نتركه مهما طالت الأيام و امتدت السنون...

و قال بعضهم: إن مراده أنه إن لم يحصل على حقه ركب الصعاب من أجله...

23 - و قال عليه السلام: من أبطأ (1) به عمله لم يسرع به نسبه (2).

اللغة

1 - أبطأ: تأخر.

2 - النسب: القرابة.

الشرح

المقرب من اللّٰه و من الناس هو عمل المرء و سلوكه و بمقدار جهادك و تضحياتك ترتفع منزلتك عند اللّٰه و ترتفع أسهمك عند الخلق و هذا هو الميزان الصحيح و أما النسب و القرابة من الصالحين و العظماء و أصحاب الجاه فليس بنافع إن لم يشفع بالعمل الصالح و إذا اجتمع الحسب و العمل و التقى طيب العنصر مع طيب العمل كان الكمال و التوفيق و الفوز...

ص: 221

و هذه دعوة إلى عدم الاتكال على الحسب و النسب فيريد أن يركب أعناق الناس بحجة أنه يتحدر من آباء أصحاب خدمات و أمجاد و هذا غير صحيح و ليس له حق...

24 - و قال عليه السلام: من كفّارات (1) الذّنوب (2) العظام إغاثة الملهوف (4)، و التّنفيس (5) عن المكروب (6).

اللغة

1 - الكفارات: جمع كفارة فدية أو عمل يغطى بها الإثم و يمحى الذنب.

2 - الذنوب: المعاصي.

3 - إغاثة: إعانة.

4 - الملهوف: الحزين، المفجوع في أمر ما.

5 - نفّس عنه: فرّج عنه.

6 - الكرب: الأحزان و المشقات.

الشرح

هناك ذنوب كبيرة يفعلها الإنسان يستطيع في حياته أن يكفر عنها و يمحو أثرها و ذلك بالتوبة الصادقة و كذلك ربما تكون بعض الأعمال النافعة للناس مكفرة عن هذه الذنوب العظام كما هو الحال في إغاثة الملهوف فمن كان بحاجة إلى لقمة يسد بها رمقه أو قطعة يستر بها عورته أو ترد ظالما أو تقضي حاجته فإن كل ذلك يكفّر عنك سيئاتك الكبيرة و يمحوها من دفتر السيئات و كذلك التنفيس عن المكروب أن تخرج إنسانا وقع في شدة أو تنقذ إنسانا من أزمة حاقت به فهذه موجبة لمحو الذنوب الكبيرة.

25 - و قال عليه السلام: يابن آدم، إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه و أنت تعصيه فأحذره (1).

اللغة

1 - احذره: خف منه و اخشاه.

ص: 222

الشرح

تحذير لهذا الإنسان من أن اللّٰه إذا تابع عليه العطاء و النعم و هو مع ذلك مستمر على المعصية أن يكون ذلك من باب الاستدراج كي يضاعف عليه العقوبة فتكون النعمة نقمة و تتحول هذه العطايا إلى وسائل للعذاب و العقاب و هذا مأخوذ من قوله تعالى:

«أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ » .

26 - و قال عليه السلام: ما أضمر (1) أحد شيئا إلاّ ظهر في فلتات (2) لسانه، و صفحات وجهه (3).

اللغة

1 - أضمر: أسر و أخفى.

2 - الفلتات: جمع الفلتة و هو الأمر الذي يقع عن غير رويّة.

3 - صفحات الوجه: بشرته، جهاته.

الشرح

مهما تكن قادرا على إخفاء ما في نفسك فلن تستطيع أن تقضي على ذلك بالكلية أو تمحو أثره بل لا بد و أن تندّ منك كلمة تظهر في ساعات اللهو و الاسترخاء أو ساعات الهرج و المرج أو ساعات التحدي و الجد و قد يظهر آثار ذلك على وجهك فإذا كنت لا تحب شخصا و جرى الطعن فيه بادرت إلى الطعن فيه مع الطاعنين و لو سهوا أو ظهر استبشار على وجهك أو برزت بعض علامات الرضا و قال بعضهم في تقريب هذا: إن الاعتقاد الذي في صميم الفؤاد كالرطوبة التي في أعماق الشجرة و أصولها فلا شك أنه تظهر آثارها بالأوراق و الأزهار على أغصانها.

27 - و قال عليه السلام: امش بدائك (1) ما مشى بك.

اللغة

1 - الداء: المرض.

ص: 223

الشرح

لا تتوقف عن عملك و تتمدد في فراشك بمجرد أن تشعر بالمرض بل تابع عملك و لا تتوقف عنه إلا إذا أقعدك عن الحركة و لم تعد تحتمله.

و هذا علاج نفسي يقوّي العزيمة و يشدّ الهمة و يحفزك للوقوف أمام المرض العارض المؤقت.

28 - و قال عليه السلام: أفضل الزّهد إخفاء الزّهد.

الشرح

الزهد مشوب بالرياء و السمعة وحب الظهور و قد يكون في بعض الأحيان مشبعا لفضول الإنسان و تطلعاته و مدح الناس له، و قد يكون بابا من أبواب الثناء المريح و من هنا كان إخفاؤه عن الناس و عدم الظهور أمامهم بمظهر الزهد هو الزهد الحقيقي و أفضل الزهد لأنه يبعد عن الرياء و إشباع فضول الإنسان.

29 - و قال عليه السلام: إذا كنت في إدبار، و الموت في إقبال، فما أسرع الملتقى!.

الشرح

إذا كان عمرك في إدبار يقصر شيئا فشيئا - و أكبر ما تكون عند ولادتك - فأنت تمشي نحو الآخرة و الموت في المقابل يمشي نحوك فما أسرع ما تلتقي و إياه فيأخذك معه فإذا كان شخصان متقابلان و يسيران معا نحو هدف في منتصف الطريق فإنهما سيلتقيان بسرعة...

و هذه دعوة إلى الاستعداد للآخرة و العمل لها و أن يكون الإنسان باستمرار متأهبا للرحيل في أي وقت يأتيه الأجل...

ص: 224

30 - و قال عليه السلام: الحذر الحذر! فواللّٰه لقد ستر، حتّى كأنّه قد غفر.

الشرح

احذر سطوات اللّٰه و نقماته فإنه يستر عليك العيوب و لا يكشفها ليفضحك بها و لكنه قد يؤخرها ليوم شديد يأخذك فيه.

فإذا أذنبت فتدارك ذنبك بالتوبة و ارجع إليه تعالى بالاستغفار و الإنابة.

31 - و سئل عن الإيمان، فقال: الإيمان على أربع دعائم (1): على الصّبر، و اليقين، و العدل، و الجهاد. و الصّبر منها على أربع شعب (2): على الشّوق، و الشّفق (3)، و الزّهد، و التّرقّب (4): فمن اشتاق إلى الجنّة سلا (5) عن الشّهوات، و من أشفق من النّار اجتنب المحرّمات، و من زهد في الدّنيا استهان (6) بالمصيبات (7)، و من ارتقب (8) الموت سارع (9) إلى الخيرات.

اشارة

و اليقين منها على أربع شعب: على تبصرة (10) الفطنة، و تأوّل الحكمة، و موعظة العبرة، و سنّة الأوّلين. فمن تبصّر في الفطنة تبيّنت (12) له الحكمة، و من تبيّنت له الحكمة عرف العبرة (13)، و من عرف العبرة فكأنّما كان في الأوّلين. و العدل منها على أربع شعب: على غائص (14) الفهم، و غور العلم (15)، و زهرة الحكم (16)، و رساخة الحلم (17)، فمن فهم علم غور العلم، و من علم غور العلم صدر (18) عن شرائع الحكم، و من حلم لم يفرّط (19) في أمره و عاش في النّاس حميدا (20). و الجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، و النّهي عن المنكر، و الصّدق في المواطن (21)، و شنآن (22) الفاسقين: فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور (23)

ص: 225

المؤمنين، و من نهى عن المنكر أرغم أنوف (24) الكافرين، و من صدق في المواطن قضى ما عليه، و من شنىء الفاسقين و غضب للّٰه، غضب اللّٰه له و أرضاه يوم القيامة. و الكفر على أربع دعائم: على التّعمّق (25) و التّنازع (26)، و الزّيغ (27)، و الشّقاق (28): فمن تعمّق لم ينب (29) إلى الحقّ ، و من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحقّ ، و من زاغ ساءت عنده الحسنة، و حسنت عنده السّيّئة، و سكر سكر الضّلالة، و من شاقّ و عرت (30) عليه طرقه، و أعضل (31) عليه أمره، و ضاق عليه مخرجه. و الشّكّ على أربع شعب: على التّماري (32)، و الهول (33)، و التّردّد (34)، و الاستسلام (35):

فمن جعل المراء (36) ديدنا (37) لم يصبح ليله، و من هاله (38) ما بين يديه نكص (39) على عقبيه (40)، و من تردّد في الرّيب (41) و طئته (42) سنابك (43) الشّياطين، و من استسلم لهلكة الدّنيا و الآخرة هلك فيهما.

قال الرضي: و بعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة و الخروج عن الغرض المقصود في هذا الباب.

اللغة

1 - الدعائم: أعمدة البيت.

2 - شعب: جمع شعبة الفرقة الطائفة من الشيء.

3 - الشفق: الخوف.

4 - الترقب: الانتظار.

5 - سلا: هجر و ترك.

6 - استهان: لم يعر الأمر اهتماما.

7 - المصيبات: جمع مصيبة و هي البلية و الكارثة.

8 - ارتقب: انتظر.

9 - سارع: بادر.

10 - التبصر: التعرف.

11 - الفطنة: الفهم، و الحذق في الأمر.

ص: 226

12 - تبينت: ظهرت.

13 - العبرة: العظة و الاعتبار.

14 - غاص في البحر: دخل تحت الماء إلى العمق.

15 - غور العلم: باطنه و عمقه.

16 - زهرة الحكم: حسنه و نوره.

17 - رساخة الحلم: ثبوته و استقراره.

18 - صدر: رجع ضد ورد.

19 - يفرّط: يقصّر.

20 - حميدا: محمودا ممدوحا.

21 - المواطن: المواقع.

22 - الشنآن: البغض.

23 - شد الظهور: قواها.

24 - أرغم أنفه: أجبره على الرضوخ.

25 - التعمق: الذهاب خلف الأوهام على زعم طلب الأسرار.

26 - التنازع: الخصام.

27 - الزيغ: الانحراف عن الحق.

28 - الشقاق: العناد و الخلاف.

29 - ينب: يرجع و يعود.

30 - الطريق الوعر: الصعب السلوك لخشونته.

31 - أعضل الأمر: اشتد و استغلق.

32 - التماري: المجادلة بغير الحق.

33 - الهول: الفزع.

34 - التردد: عدم الجزم بالشيء بل يقطع بالشيء ثم ينقضه و هكذا.

35 - الاستسلام: عدم المقاومة.

36 - المراء: بكسر الميم الجدال.

37 - الديدن: العادة.

38 - نكص: رجع و احجم.

39 - هاله: أفزعه.

40 - نكص على عقبيه: رجع متقهقرا.

41 - الريب: الشك.

42 - وطأته: داسته.

43 - السنابك: جمع سنبك طرف الحافر.

ص: 227

الشرح

(و سئل عن الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم على الصبر و اليقين و العدل و الجهاد) في هذا الجواب عن الإيمان يوضح الإمام الإيمان و يفصله على حقيقته و يبين بعض خصوصياته و جوانبه و جزئياته فيقول: إن الإيمان يقوم على أربع قواعد أسياسية راسخة قوية عليها يقوم صرح الإيمان و بها يكون و لولاها لهوى و سقط. إنها الصبر و اليقين و العدل و الجهاد ثم جاء إلى كل واحدة ليفصلها و يشرحها و على أي شيء تبنى و ما هي مقوماتها...

(و الصبر منها على أربع شعب: على الشوق و الشفق و الزهد و الترقب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات و من أشفق من النار اجتنب المحرمات و من زهد في الدنيا استهان بالمصيبات و من ارتقب الموت سارع إلى الخيرات) هذا هو الركن الأول من أركان الإيمان: إنه الصبر و هو أيضا على أربع شعب:

أ - على الشوق إلى الجنة و من اشتاق إليها و رغب فيها و حنّ إليها هجر الشهوات المحرمة و ما ترغب فيه النفس من الأمور الباطلة.

ب - و على الشفق و هو الخوف من النار و من خاف من عذاب النار و ألمها ابتعد عن المحرمات و المعاصي و الآثام فلم يترك واجبا و لم يفعل محرما.

ج - و على الزهد في الدنيا و الرغبة عنها و من زهد في الدنيا و عزفت نفسه عنها أضحت عنده كل مصيبة و بلية و محنة شيئا عابرا لا يعتني بها و لا يهتم لأنها إلى زوال و انقضاء...

د - و على الترقب لحلول الموت و من انتظر الموت و ترقبه و عاينه و شعر بقربه بادر إلى فعل الخيرات فأعان الضعفاء و أغاث الملهوفين و كف الأذى عن الناس و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر و هكذا سارع إلى كل فعل طيب خيّر...

(و اليقين منها على أربع شعب على تبصرة الفطنة و تأول الحكمة و موعظة العبرة و سنة الأولين فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة و من تبينت له الحكمة عرف العبرة و من عرف العبرة فكأنما كان في الأولين) هذا هو الركن الثاني من أركان الإيمان: إنه اليقين الذي يبنى على أربع شعب و كل واحدة مبتنية على الأخرى و مؤسسة عليها:

أ - بني على تبصرة الفطنة أي يكون ذكيا حاذقا بصيرا في الأمور عميقا في حقائقها.

ص: 228

ب - تأول الحكمة و هو تفسيرها و إدراك عمقها.

ج - و من تبينت له الحكمة و أدرك عمق الأمور عرف العبرة و هي الموعظة النافعة التي تقربه من اللّٰه و تبعده عن الشيطان.

د - و من عرف العبرة و العظة فكأنه كان في الأولين من الأنبياء و الصالحين الذين سنوا طريق الحياة السليم و منهاجها القويم.

(و العدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم و غور العلم و زهرة الحكم و رساخة الحلم فمن فهم علم غور العلم و من علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم و من حلم لم يفرط في أمره و عاش في الناس حميدا) هذا هو الركن الثالث مما بني عليه الإيمان إنه العدل و هو أيضا على أربع شعب:

أ - على غائص الفهم أي يقف على عمق العلم و أبعاده و يفهمه كما هو.

ب - على غور العلم و هو الإحاطة بالعلم من جميع جوانبه و الوصول إلى كنهه و عمقه.

ج - نور الحكم أي يصل إلى الحكم بشكل واضح لا غبار عليه و لا شبهة فيه.

د - الحلم و هو الملكة التي يملك بها زمام غضبه و يسطير بها على أعصابه فلا يخرج عن الحلال إلى الحرام و لا مما يجوز إلى ما لا يجوز و بذلك لا يظلم و لا ينحرف فيعيش في دنياه محمودا يذكره الناس بجميل الخصال و كريم الصفات.

(و الجهاد منها على أربع شعب على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الصدق في المواطن و شنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين و من نهى عن المنكر أرغم أنوف الكافرين و من صدق في المواطن قضى ما عليه و من شنىء الفاسقين و غضب للّٰه غضب اللّٰه له و أرضاه يوم القيامة) و هذا هو الركن الرابع للإيمان إنه الجهاد و هو على أربع شعب:

أ - على الأمر بالمعروف الذي يعني الأمر بكل ما يحبه اللّٰه و يرضاه و يأمر به و يريده و نتيجته و ثمرته أن يقوى المؤمنون و يصبحوا أصحاب قوة و شدة و بأس لأنه متى قوي الإيمان قوي المؤمنون.

ب - و على النهي عن المنكر: الذي هو ردع الناس عن كل قبيح و معصية و ما لا يريده اللّٰه و في ذلك إذلال للمنافقين و قهر لهم و قمع و ردع لهم عن ارتكاب المعاصي.

ص: 229

ج - و على الصدق في المواطن: الذي يعني الثبات و الصمود في المعارك و الحروب و عدم الفرار منها و الهروب من حرابها و سيوفها و في ذلك انتصار للّٰه و رضى له و دفاع عن المقدسات و الحرمات.

د - و على شنآن الفاسقين: أي بغض المنحرفين و كراهتهم لفسقهم و انحرافهم و ضلالهم ففي ذلك غضب منك للّٰه و إرضاء له.

(و الكفر على أربع دعائم: على التعمق و التنازع و الزيغ و الشقاق: فمن تعمق لم ينب إلى الحق و من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق و من زاغ ساءت عنده الحسنة و حسنت عنده السيئة و سكر سكر الضلالة، و من شاق و عرت عليه طرقه و أعضل عليه أمره و ضاق عليه مخرجه) ذكر الكفر بعد الإيمان لأنه نقيضه و ضده و أراد أن يبيّن على أي شيء يبنى و ما هي قواعده و أسسه الباطلة ليجتنب عنه و عنها من أراد الإيمان فقال: إنه يبنى على أربع دعائم:

أ - و بنى الكفر على التعمق و هو الدخول في بحث الأمور المستعصية التي لا يدرك قعرها و لا يصل فكر الإنسان إليها و من أصبحت هوايته التعسف و التفلسف في بواطن الأمور و أصبحت ملكة عنده لم يرجع إلى الحق إذا اتضح له لأن الشبهة لديه قد أضحت حقيقة و ظن أنه الوحيد الذي أدرك الأمور على حقيقتها فلا يقنع بغير ما وصل إليه و لو كان ما وصل إليه انحرافا و ضلالا...

ب - و بني الكفر على التنازع و هو الجدال في علم اللّٰه و صنعه و حكمه و الجدال وليد الجهل و عدم العلم فمن أصبح ملكة عنده استمر في ضلاله و استغرق في انحرافه و لم يعد إلى حق و لم يرجع إلى صواب.

ج - و بني الكفر على الزيغ و هو الانحراف عن الحق و السير وراء الباطل و من انحرف انعكست عنده الموازين فأصبح يرى السيئة حسنة و الحسنة سيئة يرى الحق باطلا و الباطل حقا و كذلك يصبح يسيء التصرف و لا يضع الأمور مواضعها كحال السكران الذي لا يدرك تصرفه و لا يعرف ما ذا يفعل...

د - و بني الكفر على الشقاق: و هو معاندة الحق و عداوته و محاربته و مثل هذا تصعب عليه الطرق الطيبة فلا يصل إلى خير و لا يهتدي إلى هدى و استعصى عليه واقعه و لم يقدر على الخروج منه لشدته و ضيقه.

(و الشك على أربع شعب: على التماري و الهول و التردد و الاستسلام فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله و من هاله ما بين يديه نكص على عقبيه و من تردد في الريب

ص: 230

و طيئته سنابك الشياطين و من استستلم لهلكة الدنيا و الآخرة هلك فيهما) و بين حكم الشك و وضع الشاك الذي لم يتخذ القرار الواضح و لم يقدر على اتخاذه و بين أنه على أربع شعب.

أ - بني الشك على التماري و هو الجدال ليظهر قوته لا ليثبت الحق و من اتخذ هذا الاسلوب عادة دائمة له و ملكة يبقى في جهل دائم لا يصحو منه و لا يهتدي بعده.

ب - و بني الشك على الهول و هو الخوف لأن الشاك يدافع أو يهاجم فهو ليس على يقين مما يقول فيخاف من كل من يقول و من عاش الخوف من شكه رجع القهقرى و لم يستطع التقدم أبدا لأنه و جل يخشى الإقدام بل يخشى الثبات في مواقعه.

ج - و بني الشك على التردد و هو عدم الجزم في الأمور بل يبني على هذا تارة و على خلافه أخرى و يحتمل هذا مرة و يحتمل غيره أخرى و مثل هذا يقع فريسة الأهواء الباطلة التي تتقاذفه من جهة إلى أخرى و لا يستطيع الصمود لضعفه و تردده و عدم تمكنه من الوقوف عما يثار في وجهه و هذا الشاك لما استسلم لمن لهم بيان و لسان و كانوا على باطل هلك في الدنيا و الآخرة لأنه في الدنيا يعيش الهوان و العذاب لأنه لم تستقر نفسه و لم تهدأ و أما في الآخرة فلعدم إيمانه باللّٰه و الرسول و الكتب المنزلة على الأنبياء...

32 - و قال عليه السلام: فاعل الخير خير منه، و فاعل الشّرّ شرّ منه.

الشرح

هذا حث على فعل الخير و زجر عن فعل الشر و ترغيب في الأول و نهي عن الثاني.

و أما كون فاعل الخير خير من نفس الخير فلأنه العلة الفاعلة لوجود الخير و لولاه لما وجد موجوده فالخير تابع للفاعل و نابع منه و صادر عن نفسه الطيبة و روحه الطاهرة و نزاهته الكريمة فكان خيرا من الخير و كذلك فاعل الشر شر من الشر لنفس السبب...

33 - و قال عليه السلام: كن سمحا (1) و لا تكن مبذّرا (2)، و كن مقدّرا (3) و لا تكن مقتّرا (4).

اشارة

ص: 231

اللغة

1 - السمح: الجواد من غير تقتير و لا تبذير.

2 - المبذر: الذي يضع المال في غير محله.

3 - المقدر: المقتصد.

4 - المقتر: المضيق على نفسه في النفقة.

الشرح

أمر عليه السلام أن يكون الإنسان في حالة الاعتدال في تدبير أموره و صرف أمواله فلا يكون مبذرا يبدد أمواله و يفرقها بدون فائدة و لا يكون مقترا على نفسه مضيقا عليها و على من يعول من أهله حبا في المال و رغبة في جمعه و ادخاره بل يجب أن يكون سمحا يعطي بدون تبذير و مقدرا يصرف بحسب قدرته و دون تقتير و هذا مأخوذ من قوله تعالى:

«وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» و قوله تعالى: «إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً» .

34 - و قال عليه السلام: أشرف الغنى ترك المنى (1).

اللغة

1 - المنى: جمع المنية و هو التمني، ما يتمناه الإنسان لنفسه.

الشرح

يتمنى الإنسان كثيرا من الأشياء و يعيش حياته يطلب ما يتمنى و هذه الأمنيات تلح عليه و كلما تأخر تحقيقها ازدادت تعاسته و هكذا يعيش في سبيل تحقيقها يبذل من نفسه و كرامته و يتعرض للإهانة و في ذلك من الذل ما فيه و من هنا كان أشرف الغنى و أعلاه أن يترك الأمنيات و يهملها...

35 - و قال عليه السلام: من أسرع إلى النّاس بما يكرهون، قالوا فيه بما لا يعلمون.

اشارة

ص: 232

الشرح

الإساءة إلى الناس توجب الكراهة و البغض منهم له و هذا يوجب بنفسه بحسب طبايع الناس إلى القول في المسيئ بما أساء و بما لم يسء و ينسبون إليه أمورا كثيرة سيئة قد يكون بريئا منها تشفيا منه و انتقاما.

36 - و قال عليه السلام: من أطال الأمل أساء العمل.

الشرح

إطالة الأمل هي المكروهة - و ليس أصل الأمل - فمن أطال أمله سوّف توبته و تراخى في عمله بل أجله فتراه ينسى الآخرة و يقبل على الدنيا بكل وسيلة و طريق و نرى من يعتد بقوته و يحسب أنه لن يموت عن قريب يسيء العمل فيفعل ما لا يجوز اعتمادا على أنه سيتوب و يرجع إلى الصلاح بعد ذلك...

37 - و قال عليه السلام و قد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين (1) الأنبار (2)، فترجلوا (3) له و اشتدوا (4) بين يديه، فقال:

اشارة

ما هذا الّذي صنعتموه ؟ فقالوا: خلق (5) منّا نعظّم به أمراءنا، فقال:

و اللّٰه ما ينتفع بهذا أمراؤكم! و إنّكم لتشقّون (6) على أنفسكم في دنياكم، و تشقون (7) به في آخرتكم. و ما أخسر المشقّة وراءها العقاب، و أربح الدّعة (8) معها الأمان من النّار!.

اللغة

1 - الدهاقين: جمع دهقان زعيم الفلاحين عند العجم.

2 - الأنبار: بلد في العراق.

3 - ترجلوا: نزلوا من خيولهم و مشوا.

4 - اشتدوا: أسرعوا.

5 - خلق: طبيعة و عادة.

6 - تشقّون: من المشقة و هي التعب و أن يكلف النفس أكثر مما تطيق.

7 - تشقون: بسكون السين من الشقاوة و هي التعاسة و البؤس.

8 - الدعة الراحة:.

ص: 233

الشرح

هذه حالة يراها الإمام فلا يرتضيها فينبه أهلها للكف عنها...

يمر الإمام بزعماء الفلاحين من العجم في بلدة الأنبار و هو يقصد الشام فيخرج إليه هؤلاء ينزلون عن دوابهم و يسرعون إليه فيستفهم الإمام عن ذلك فيقولون عادة نكرم بها أمراءنا. فأجابهم الإمام.

أولا: إن أمراءكم لا ينتفعون بذلك.

و ثانيا: إن فيما تقومون به مشقة على أنفسكم في الدنيا و هي مشقة غير مطلوبة.

و ثالثا: إنكم بعملكم هذا تعذبون و عليه تعاقبون لأنه أمر لغير اللّٰه و لم يشرع في الدين و نفّر عنه أن الإنسان يحتمل المشقة و العذاب في الدنيا و مع ذلك يعاقب في الآخرة فيجمع مشقة الدنيا و عذاب الآخرة.

و رغب في ضده و هي الدعة و الراحة في الدنيا التي تكون بدون هذا العمل و مع ذلك ينجو الإنسان من النار فيعيش الراحة في الدنيا و الأمان من العذاب في الآخرة...

38 - و قال عليه السلام لابنه الحسن:

اشارة

يا بنيّ ، احفظ عني أربعا، و أربعا، لا يضرك ما عملت معهنّ : إنّ أغنى الغنى العقل، و أكبر الفقر الحمق (1)، و أوحش الوحشة العجب (2)، و أكرم الحسب حسن الخلق.

يا بنيّ ، إيّاك و مصادقة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، و إيّاك و مصادقة البخيل، فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، و إيّاك و مصادقة.

الفاجر (3)، فإنّه يبيعك بالتّافه (4)، و إيّاك و مصادقة الكذّاب، فإنّه كالسّراب (5): يقرّب عليك البعيد، و يبعّد عليك القريب.

ص: 234

اللغة

1 - الحمق: قلة العقل و ضعفه أو فساده.

2 - العجب: حالة نفسية يرى الإنسان من خلاله إنه أعظم من غيره.

3 - الفاجر: الفاسق الذي لا دين له.

4 - التافه: القليل الحقير.

5 - السراب: ما يتراىء في الصحراء أنه شيء و هو ليس بشيء.

الشرح

وصية حنونة من قلب كبير و برقة و عطف الأبوة يخاطبه يا بني... إنها أمور ثمانية تغطي كل العيوب و تقضي على كل الهنات و تقيل كل العثرات.

1 - إن أغنى الغنى العقل: و العقل جوهرة مكنونة بها يصح أن يسمى الإنسان إنسانا... بالعقل يكتسب الإنسان طاعة الرحمن و به يعصى الشيطان... به يعرف مصادر الأمور و مواردها و به يدرك الإنسان الحسن من القبيح به يبعد عن الشر و يقبل نحو الخير... إنه أغنى الغنى و أعظم الثروات لأن به يكتسب الدنيا و الآخرة...

2 - و أكبر الفقر الحمق: لأن الحمق ضد العقل و الأحمق لا يسمع إلى موعظة و لا يقبل رأي عاقل و يتعجل الأمور قبل أوانها و يفسدها في وقتها فهو أكبر الفقر لأنه يفقد به الأصدقاء و الصالحات.

3 - و أوحش الوحشة العجب: فإن المعجب بنفسه الذي يراها أعظم من غيره و فوق غيره فيتكبر على الناس ينفرون منه و يبتعدون عنه فيعيش الوحدة و الوحشة عكس المتواضع السموح.

4 - و أكرم الحسب حسن الخلق: فإن حسن الخلق يستقطب حولك الخلق و يوجب لك ثناء الناس و مدحهم فإن سعة الصدر و طول الأناة و العفو و الصفح من أعظم ما يوجب المدح و الإطراء...

5 - يا بني إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك: حذره من مصادقة الأحمق الذي مر ذكره لأن تصرفاته لا تستند إلى عقل و لا تعتمد على فكر و علل ذلك من حيث إنه يريد أن ينفعك فيضرك.

6 - و إياك و مصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه: نهاه أيضا عن

ص: 235

مصادقة البخيل الذي يسيء الظن باللّٰه فيشد يده على الدرهم فإن هذا لا يعينك عند ما تكون بأشد الحاجة بل يتخلى عنك و ما أنت فيه من الحاجة...

7 - و إياك و مصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه: و نهى عن مصادقة الفاجر و هو العاهر الذي ليس له هم إلا قضاء شهوته و الوصول إلى لذته فإنه لدناءته و سفالته يستبدلك بأقل الأثمان و أحقرها ففي مقابل لذته يقضي عليك من أجل امرأة أو كأس خمر أو أمنية ينشدها.

8 - و إياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد و يبعد عليك القريب: و نهاه عن مصادقة الكذاب الذي لا يتورع عن اختلاق الأحداث و نسبتها إلى من يشاء بدون رادع من دين أو ضمير إنه كالسراب في الصحراء تظن أنه شيء و هو ليس بشيء تتحرك نحوه و كلما تحركت ابتعد عنك و هكذا الكذاب إذا أراد أمرا قربه منك و سهله عليك و زينه لك و إذا أبغض شيئا عظمه و حقره و بعده و قبحه في عينك... إنه ينتقل من الضد إلى ضده فيرميك في المشاكل و الأحداث و يجري عليك المصائب و الويلات.

39 - و قال عليه السلام: لا قربة بالنّوافل (1) إذا أضرّت بالفرائض (2).

اللغة

1 - النوافل: هي المستحبات و ما لم يوجبه اللّٰه عليك.

2 - الفرائض: جمع فريضة و هي الأمر الواجب.

الشرح

هذا حث على المحافظة على الواجبات و الاهتمام بها و أن المستحبات إذا وقفت في طريقها و كانت سببا في الإخلال بها فلا أجر عليها فإذا كانت صلاة الليل تضر بصلاة النهار فلا أجر فيها و هكذا...

40 - و قال عليه السلام: لسان العاقل وراء قلبه، و قلب الأحمق وراء لسانه.

اشارة

ص: 236

الشرح

العاقل يفكر و يتعقل الأمور ثم يطلق لسانه فيما ينفع فينصر حقا أو يدفع باطلا.

و أما الأحمق فإنه يتكلم بدون رويّة و تدبر يطلق الكلام ثم بعد ذلك يفكر فيه و لكن ما وقع قد وقع و آثاره ظهرت و لا يمكن رد ما وقع...

قال الرضي: و هذا من المعاني العجيبة الشريفة و المراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية و مؤامرة الفكرة. و الأحمق تسبق خذفات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره و مما خضة رأيه فكأن لسان العاقل تابع لقلبه و كأن قلب الأحمق تابع للسانه.

41 - و قد روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر، و هو قوله:

اشارة

قلب الأحمق في فيه، و لسان العاقل في قلبه.

و معناهما واحد.

الشرح

فالكلام يصدر بدون روية من الأحمق بينما العاقل لا يطلقه إلا بعد تفكر و هذا يرجع إلى ما تقدم...

42 - و قال لبعض أصحابه في علة (1) اعتلها: جعل اللّٰه ما كان من شكواك (2) حطّا (3) لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، و لكنّه يحطّ السّيّئات، و يحتّها حتّ (4) الأوراق. و إنّما الأجر في القول باللّسان، و العمل بالأيدي و الأقدام، و إنّ اللّٰه سبحانه يدخل بصدق النّيّة و السّريرة الصّالحة من يشاء من عباده الجنّة.

اشارة

قال الرضي: و أقول: صدق عليه السلام، إن المرض لا أجر فيه، لأنه ليس من قبيل ما يستحق عليه العوض، لأن العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل اللّٰه تعالى بالعبد، من الآلام

ص: 237

و الأمراض، و ما يجري مجرى ذلك. و الأجر و الثواب يستحقان على ما كان في مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بينه عليه السلام، كما يقتضيه علمه الثاقب و رأيه الصائب.

اللغة

1 - العلة: المرض.

2 - الشكوى: المرض.

3 - حط حطا: وضعه أو تركه.

4 - حت الورق: قشره و أسقطه.

الشرح

يتوجه الإمام إلى بعض أصحابه الذين أصابهم المرض فيدعو له أن يكون ما به من مرض سببا لمحو سيئاته و إزالة عثراته و نفى عليه السلام أن يكون في المرض أجر أو ثواب و لكنه يزيل السيئات و يسقط الآثام كما تسقط أوراق الشجر ثم بين موارد الأجر و أنه يكون في العمل المتجسد باللسان ذكرا و تسبيحا و العمل باليد بإعانة الفقراء و شد أزرهم و مساعدتهم و كذلك بالسعي بالأقدام في قضاء حاجاتهم و تنفيس كربهم...

ثم إنه عليه السلام بين أن العبد إذا احتسب ما أصابه في مرضه من التعب و العذاب و الألم و كان ذلك بصدق نية مع صلاح سريرته فإنه سبحانه يعطي العبد الأجر و الثواب تفضلا منه و يدخله الجنة بمنه و إحسانه...

43 - و قال عليه السلام في ذكر خباب بن الأرتّ : يرحم اللّٰه خبّاب بن الأرتّ ، فلقد أسلم راغبا، و هاجر طائعا، و قنع (1) بالكفاف (2)، و رضي عن اللّٰه، و عاش مجاهدا.

اللغة

1 - قنع: رضي.

2 - الكفاف: ما يكفي الإنسان لحاجاته الأساسية.

ص: 238

الشرح

اشارة

ذكر الإمام لخباب بن الأرت أوصافا كريمة.

1 - أسلم راغبا و من يسلم رغبة في الإسلام لأنه دين الحق دون مطمع في مال أو جاه أو سلطان أو دون خوف من العذاب مثل ذلك الإنسان هو في أرقى درجات الإيمان و خصوصا أن خباب كان من أوائل المسلمين مع ما في تلك الظروف من المشقات و الآلام...

2 - هاجر طائعا: أي ترك مكة مسقط رأسه و لم يترك دينه فطاعة لرسول اللّه بالهجرة هاجر.

3 - قنع بالكفاف: كان زاهدا يقنع بما يكفيه لحاجاته الضرورية على طريقة الصالحين و الزهاد المخلصين.

4 - رضي عن اللّٰه: أي رضي بكل أمر أراده اللّٰه منه و امتنع عما نهى عنه و علم أنه عبد مأمور فارتاحت نفسه لإرادة اللّٰه و حكمه.

5 - عاش مجاهدا: فهو يعيش حالة الجهاد في زمن رسول اللّه حيث حضر جميع مشاهده و شهد معارك أمير المؤمنين فهو شاخص في سبيل اللّٰه باستمرار.

ترجمة خباب بن الأرت:

قال ابن سعد في طبقاته: خباب بن الأرت ابن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب من بني سعد بن زيد مناه ابن تميم يكنى أبا عبد الله و كان من المستضعفين في مكة الذين يعذبون ليرجعوا عن دينهم. أسلم قبل دخول رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - دار الأرقم و قبل أن يدعو فيها و قيل: إنه كان سادس ستة. هاجر خباب إلى المدينة في جملة من هاجر من المسلمين و آخى النبي بينه و بين جبير بن عتيك و شهد بدرا و أحدا و الخندق و المشاهد كلها مع رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

شهد مع أمير المؤمنين النهروان و صفين و نزل الكوفة فتوفي فيها سنة سبع و ثلاثين و له من العمر ثلاثا و سبعين سنة و صلى عليه الإمام و دفن بظهر الكوفة فكان أول من دفن هناك...

44 - و قال عليه السلام: طوبى (1) لمن ذكر المعاد (2)، و عمل للحساب، و قنع بالكفاف (3)، و رضي عن اللّٰه.

اشارة

ص: 239

اللغة

1 - طوبى: سعادة و خير و غبطة.

2 - المعاد: يوم الحساب، يوم القيامة.

3 - الكفاف: ما يكفي الإنسان لحاجاته الضرورية.

الشرح

الإمام يغبط و يحكي سعادة هذا الإنسان الذي صرف وجهه إلى هذه الأمور التي بها يكتسب الآخرة.

1 - ذكر المعاد: عرف أن له يوما سيعود فيه إلى اللّٰه فهو على ذكر دائم له و من ذكر الوقوف بين يدي اللّٰه أصلح سريرته و أصلح عمله.

2 - و عمل للحساب: فهو يعرف أنه سيحاسب فلذا يعمل من أجل أن يقف ذلك الموقف فيريد أن يحقق ربحا من وراء حسابه.

3 - و قنع بالكفاف: أي بما يحتاجه على وجه الضرورة فلم تمتد عيناه إلى زهرة الحياة الدنيا و هذا تعبير أخر عن الزهد في متاع الدنيا.

4 - و رضي عن اللّٰه: تقبل ما ورد عن اللّٰه من أحكام و تشريعات و آداب و وصايا برضى نفس و اطمئنان إلى عدالة التشريع و حكمة المشرع و أنه سبحانه لا يفعل إلا لمصلحة هذا الإنسان...

45 - و قال عليه السلام: لو ضربت خيشوم (1) المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، و لو صببت (2) الدّنيا بجمّاتها (3) على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني. و ذلك أنّه قضي فانقضى على لسان النّبيّ الأمّيّ - صلّى اللّٰه عليه و آله -، أنّه قال: يا عليّ ، لا يبغضك مؤمن، و لا يحبّك منافق.

اللغة

1 - الخيشوم: أصل الأنف.

2 - صببت: كفأت و سكبت.

3 - الجمات: جمع جمة و هو مجتمع الماء من الأرض و هذا استعارة.

ص: 240

الشرح

المؤمن لا يبغض الإمام مهما كانت الظروف و الأحوال لأن محبته جزء من الإيمان و المنافق لا يحب الإمام لأن المنافق كافر و الكافر لا يحب الإيمان و دعامته و عمدته و لذا يقول الإمام: لو ضربت كناية عن أنه مهما كانت مواقف الإمام قاسية مع المؤمن حتى لو أدى الأمر إلى ضربي له على موضع كرامته و عزه ما أبغضني و في المقابل لو جمعت للمنافق الدنيا بكل ما فيها من جليل أموالها و حقيرها و وضعتها في حجره و سلمتها إلى يده ما أحبنى ثم بين سبب ذلك و أن رسول اللّه - صلّى اللّٰه عليه و آله - حكم و قضى بما كان و هو أنه لا يبغض عليا مؤمن و لا يحبه منافق و بهذا القول النبوي حسم الموقف و اتضحت الصورة و انجلت الأمور فلا مراجعة فيها و لا شك...

46 - و قال عليه السلام: سيّئة تسوءك خير عند اللّٰه من حسنة تعجبك.

الشرح

السيئة - و هي كل ذنب تمارسه أو يقع منك - إذا صدرت منك فتأثرت لصدورها و حزنت لوقوعها و ندمت لحدوثها فأنت إنسان صالح تعيش في عمقك الإيمان باللّٰه و الخوف منه لأن هذا الإحساس بالذنب مؤشر إيمان فلذا أحدثت عندك هذه الردة القوية و جعلتك تشعر بعظيم الجرم فتندم و يغفرها اللّٰه لك بالتوبة.

أما إذا عملت حسنة فأعجبتك نفسك بها و ذهبت بك الأمور إلى أن تقول: إنه ليس في الدنيا أحد مثلك فهذا العجب ممقوت عند اللّٰه مردود عليك لأنه يدل على مرض في النفس رديء...

47 - و قال عليه السلام: قدر (1) الرّجل على قدر همّته، و صدقه على قدر مروءته (2)، و شجاعته على قدر أنفته (3)، و عفّته على قدر غيرته (4).

اللغة

1 - قدر الرجل: قيمته.

2 - المروة: النخوة و كمال الرجولة.

ص: 241

3 - الأنفة: عزة النفس.

4 - الغيرة: النخوة و الغيرة على الزوجة حفظها و عدم المس بها من الأجنبي.

الشرح

أشار عليه السلام إلى أمور أربعة تتولد منها أربعة:

1 - بمقدار همة الرجل و علو نفسه و ما يطلبه من الأمور يكون قدره فإن طلب الأمور العظيمة الجليلة طلب المعالي من الأمور فإن قدره يعظم في أعين الناس و يحتل مرتبة جليلة عندهم و يكبر في نظرهم، أما إذا كانت همته صغائر الأمور و محقراتها و الأمور الصغيرة فإن الأعين تزدريه و يصغر و يكون مقداره و قيمته ما يتطلع إليه من هذه الصغائر.

2 - و على قدر مروءة الرجل و كماله و ما يتصف به من صفات كريمة رفيعة يكون صدقه فإن هذه الصفات تمنع الإنسان عن الكذب لأنه يحط من شأنه و تأنف مروءته أن تتعاطاه لأنه يتنافى و ما يحمله من مروءة...

3 - و شجاعة الرجل بمقدار أنفته، و بمقدار ما يكون عزيز النفس شامخ الروح يأبى الدنية و يرفض الذلة فبالتالي يمتلك الشجاعة التي يحفظ بها هذا الشموخ و الإباء.

4 - و عفته على قدر غيرته: بمقدار ما يكون غيورا على عرضه و حريمه و مقدساته و يأبى لها أن تدنس بعيب تكون عفته و امتناعه لأنه كما يأبى للغير أن يدنسوا شرفه و يهتكوا حرمته يأبى لنفسه أن يدنس أعراض الناس و يهتك حرمتهم و قد قيل: «ما زنا غيور قط».

48 - و قال عليه السلام: الظّفر (1) بالحزم (2)، و الحزم بإجالة (3) الرّأي، و الرّأي بتحصين الأسرار (4).

اللغة

1 - الظفر: النصر.

2 - الحزم: ضبط الرجل أمره و أخذه بالثقة.

ص: 242

3 - الإجالة: الإدارة و إجالة الرأي إعماله.

4 - تحصين الأسرار: كتمانها.

الشرح

إذا أردت أن تنتصر في معركة أو في موقف يجب أن تجزم على وجه اليقين بصحة ما تقدم عليه، و لكن الجزم بذلك لا يكون بالرأي الفطير الذي يخطر على بالك لأول مرة المعبر عنه «بالنظرة الحمقاء» بل يكون بإجالة الرأي و قلب الأمور ظهرا لبطن و دراسة الآراء و الاحتمالات و سد المنافذ التي يمكن أن تكون غير صحيحة أو سليمة و اختيار أفضل الآراء و الاحتمالات و إجالة الآراء،. و اختيار الأفضل لا يكون مفيدا إلا أن يكون بين الخبراء محفوظا عندهم بحيث لا يتسرب منها شيء إلى الأعداء فيكتشفوا الخطط و يضعوا لها ما يواجهها فمن هنا كانت الأسرار ضرورية الحفظ.

49 - و قال عليه السلام: احذروا (1) صولة (2) الكريم إذا جاع، و اللّئيم (3) إذا شبع (4).

اللغة

1 - احذروا: خافوا، و تنبهوا مع أخذ الحيطة.

2 - الصولة: السطوة.

3 - اللئيم: الدنيىء الأصل، المهين.

4 - شبع: امتلأ من الطعام و هنا كناية عن الغنى.

الشرح

حذر عليه السلام من رجلين:

1 - من الكريم إذا جاع فإن شريف النفس كبير الهمة إذا مسته الحاجة و مرّ في ضيق و أزمة شديدة لم تطق نفسه ذلك بل بادر إلى الانتقام و أخذ الحق بالقوة و انعدمت الرحمة في نفسه لمن كان السبب في ذلك أو يريد أن يقف في وجهه لتحقيق مقاصده و رفع الحاجة عنه.

2 - و اللئيم إذا شبع: لأن مستحدث النعمة من ضعته يتكبر و يتجبر من حيث إنه

ص: 243

يعيش عقدة النقص التي كانت فيه فهذا النقص الذي كان فيه يحرك فيه الحس للانتقام من الضعفاء و الفقراء و يتحول إلى جبار عنيد...

50 - و قال عليه السلام: قلوب الرّجال وحشيّة، فمن تألّفها أقبلت عليه.

الشرح

الأصل في القلوب أنها بعيدة عن بعضها فمن لا تعرفه لا تألفه و لا تأنس به و ترى بينك و بينه حواجز كثيرة و لكن تقبل النفوس على بعضها و تلتقي فيما بينها و تستأنس إذا وجدت ما يجمعها و يوحدها سواء كان بالكلمة الطيبة و الحديث الطريف و البسمة المفرحة و المعاملة الحسنة، و الإعانة و بمثل هذه الأمور تقبل النفوس على بعضها و ترتاح...

51 - و قال عليه السلام: عيبك مستور ما أسعدك (1) جدّك (2).

اللغة

1 - أسعده اللّٰه: جعله سعيدا.

2 - الجد: الحظ.

الشرح

ما دام حظك سعيدا و أيامك مقبلة و دنياك غنية فأنت في مأمن من إظهار عيوبك... إنها ستبقى مستورة بل ربما تتحول العيوب إلى محاسن عند بعض الناس كما لو سكت صاحب الحظ عن عي قالوا: لحكمة سكت و إن بخل بشيء قالوا: اقتصد و أراد تعليم الناس و إن أسرف في شيء قالوا: كرم وجود.

و أما إذا عثر الزمان فسقط الحظ في الطريق عندها تكون الطامة الكبرى فتتحول الحسنات سيئات و الأعمال الطيبة إلى قبائح و معايب.

ص: 244

52 - و قال عليه السلام: أولى النّاس بالعفو أقدرهم على العقوبة.

الشرح

أقدر الناس على العقوبة و أقواهم عليها أولى الناس بالعفو و الصفح و ذلك لأن عظيم قدرته مع عفوه يدل على رحمته و كمال رأفته و هذا من الشكر لتلك النعمة التي هي القدرة، هذا إذا كان العفو يرد الجاني و يؤدبه و يصلحه و أيضا إذا كان في الأمور الشخصية التي ليست من قبيل الحدود و الحقوق الإلهية التي لا يجوز العفو عنها.

53 - و قال عليه السلام: السّخاء (1) ما كان ابتداء، فأمّا ما كان عن مسألة فحياء و تذمّم (2).

اللغة

1 - السخاء: الجود.

2 - التذمم: الاستنكاف و الاستحياء.

الشرح

السخاء هو الكرم و الجود و لا يكون إلا إذا ابتدأ به الإنسان من تلقاء نفسه و بادر إلى العطاء بدون جزاء و أما إذا كان العطاء عن مسألة تقدمت و يد امتدت و ماء وجه بذله صاحبه في الطلب فهذا ليس سخاء بل قد يكون عن حياء و خجل من رد السائل أو خوفا من ذمه فيكون عندئذ له مقابل فيتعرى عن صفة الجود و الكرم و السخاء...

54 - و قال عليه السلام: لا غنى كالعقل، و لا فقر كالجهل، و لا ميراث كالأدب، و لا ظهير كالمشاورة.

الشرح

(لا غنى كالعقل) من كان ذا عقل كان من أغنى الناس لأنه بالعقل يحصل الإنسان على المال و الجاه و السلطان و كل شيء و قد أشاد الإسلام بالعقل و أناط به الثواب

ص: 245

و العقاب، و على العكس من ذلك من أعطي مالا و ثروة و لم يعط عقلا فإنه يضيّع المال و يبدده و كذلك من أعطي سلطانا و مقاما و لم يعط عقلا ضيّع السلطان و المقام و من هنا كان العقل أغنى الغنى.

(و لا فقر كالجهل) و الجهل يقابل العلم تقابل الملكة و العدم كما يقول أصحاب المنطق و الجهل أم الرذائل و مجمع القبائح، فالجاهل يبدد ما بيده و يقضي على ما بيد غيره و اضرب ببصرك إلى الأمم الجاهلة كيف تستعبد و كيف تستعمر و كيف تسلب منها خيرات بلادها و ثمرات أرضها و يعيش أهلها أذلاء محتقرين لا يستطيعون الوقوف و المواجهة...

الجهل هو الفقر الحقيقي في مقام تعداد درجات الفقر و أنواعه...

(و لا ميراث كالأدب) فخير ما تورثه أبناءك حسن الأدب أن يكونوا أصحاب أخلاق طيبة و سلوك جيد و عشرة حسنة و معاملة صادقة و أخلاق عالية فإن هذا هو الميراث الذي يتعاملون به مع الناس و على أساسه يمدحون و يعرفون و لذا كان أفضل ميراث تتركه لأبنائك حسن تأديبهم...

(و لا ظهير كالمشاورة) أي لا نصير و لا معين كالمشاورة مع الناس العقلاء و أهل الخبرة فإن مشاورة الرجال و معرفة آرائهم ينكشف بها الكثير من الحقائق و يتوصل بها الإنسان إلى وجه الصواب و الوصول إلى الحقيقة و يكون رأيهم أقوى معين على الخير و الوصول إلى الصواب و اليقين.

55 - و قال عليه السلام: الصّبر صبران: صبر على ما تكره، و صبر عمّا تحبّ .

الشرح

الصبر معناه ضبط النفس و عدم الانهيار أمام الأحداث سواء كانت إيجابية أم سلبية ثم التفكير في الخروج من هذا الضيق... و الصبر تارة يكون على ما يكره هذا الإنسان كالصبر على المصيبة ففي مثل ذلك يجب أن يضبط أعصابه و لا ينهار أمامها بل يفكر في حكمة اللّٰه و تقديره و ما سيصل هو بنفسه إليه... و الصبر تارة أخرى يكون على ما يحب فأنت تحب المال و لكنك أمين على بعض الأموال فيجب أن تصبر على الأمانة و تؤديها

ص: 246

لأهلها و كذلك أنت تحب الجاه فيجب أن لا تتخذ الطرق الملتوية من أجل الوصول إليه بل تسلك المشروع منها و هكذا كل ما تحب يجب أن تضبط أعصابك و تمتنع عنه إذا كان فيه معصية للّٰه و انحرافا عن خطه...

56 - و قال عليه السلام: الغنى في الغربة وطن، و الفقر في الوطن غربة.

الشرح

الوطن هو مكان ولادة الإنسان و فيه يقيم أهله و أقاربه و أحبابه... هذا الوطن يتحول إلى غربة بالنسبة إلى الشخص إذا كان فقيرا لأنه يفقد الأحباب و لا يسأل عنه الأقارب و ينقطع عنه من يحب بل الفقير في وطنه يعيش مشردا يفقد المأوى و لقمة العيش و ما يستر العورة و على العكس من ذلك إذا كان الشخص غنيا فإن الأصدقاء يكثرون و الأحباب لا يعدون و من يطلب رضاه أكثر من أن يحصى و هو لغناه يعيش موفور الكرامة عزيز الجانب إنه و إن كان في الغربة فإنها تتحول إلى وطن...

57 - و قال عليه السلام: القناعة مال لا ينفد.

الشرح

القناعة تعبير آخر عن الرضا بالحال التي عليها الإنسان و ما هو فيه فلا تذهب نفسه حسرات على ما لم يقع في يديه، و إذا قنع الإنسان بما عنده كان راضيا و إذا رضي كان سعيدا، و القناعة هي المال الذي لا ينفد من حيث إنها باستمرار توجب على المرء كفاية ما عنده و الاستغناء عن الناس و الحاجة إليهم بينما المال يزول بالإنفاق و الصرف.

58 - و قال عليه السلام: المال مادّة الشّهوات.

اشارة

ص: 247

الشرح

الشهوات هي رغبات المرء و تطلق على كل أمر تهواه النفس و إن كان بعيدا عن الدين قريبا من الهوى و تحقيق هذه الشهوات من الأكل الطيب و الملبس الفاخر و الجاه العريض و السطوة و السيطرة كلها أو أغلبها أو في أكثر الأحيان تتحقق عن طريق المال فمتى وجد المال استطعت به أن تأتي بكل هذه الأمور و غيرها و الفارق أن أصحاب الدين يتخذونه وسيلة لتحقيق رضا اللّٰه من التوسعة على العيال و إعانة الفقراء و صيانة وجوههم من الابتذال أمام الأغنياء و يحجون به و يزورون و يتصدقون بينما الفساق و الفجار يتخذونه في حبك المؤامرات و الفتن و الرشوة و مظالم العباد و إقامة الحفلات الداعرة الماكرة و السهرات الماجنة الساقطة و هكذا...

59 - و قال عليه السلام: من حذّرك كمن بشّرك.

الشرح

التحذير هو التنبيه و التخويف من أمر مضر كي يأخذ المحذّر استعداده و يتوقى الوقوع فيما حذّر منه و فيه و في ذلك سرور و فرح لأنه يدفع المضرة عنك و هو عند المقارنة على حدّ من بشّرك بشيء يفرحك و يدخل على قلبك السرور فينبغي أن يكون فرحك بمن حذرك على مستوى فرحك بمن بشّرك.

60 - و قال عليه السلام: اللّسان سبع (1)، إن خلّي عنه عقر (2).

اللغة

1 - السبع: المفترس من الحيوان مطلقا.

2 - عقر: جرح.

الشرح

السبع هو الحيوان المفترس إذا ترك قضى على كل حيوان ضعيف و هذه طبيعة فيه... و اللسان إذا لم يحفظه الإنسان و يراقبه و يعرف متى يكون الكلام ؟ و كيف يكون ؟

ص: 248

و أنّى يكون قد يقضي على الإنسان و ينهي حياته فمن أطلق لسانه في سب الناس و شتمهم و اغتيابهم و إلقاء الفتن بينهم زرع البغضاء له و حصد العداوة و المقت و الكراهة لوجوده و قد يكون جرمه في بعض الأحيان أن يقضى عليه فيقتل من جراء عثرات لسانه كما لو أثار بلسانه فتنة تذهب بالأرواح و تقضي على الحرث و النسل...

61 - و قال عليه السلام: المرأة عقرب (1) حلوة اللّبسة (2).

اللغة

1 - العقرب: دويبة من ذات السموم تطلق على الذكر و الأنثى و قد يقال للأنثى عقربة و عقرباء.

2 - اللسبة: اللسعة.

الشرح

العقرب لها لسعة مؤذية و قد تكون مميتة في بعض الأحيان و المرأة لها لسعة و لكن الملسوع يفرح و يستأنس بها فترى المغرم بامرأة قد تؤذيه فيغض عنها و قد ترميه في بلية و هو راض عنها و قد تطلب منه أمرا يكون فيه هلاك دينه فيستجيب لها و هو فرح مسرور فهي على أذيتها محبوبة الفعل لا يستغني عنها أحد مع علمه بمشاكلها...

62 - و قال عليه السلام: إذ حيّيت بتحيّة (1) فحيّ بأحسن منها، و إذا أسديت إليك (2) يد (3) فكافئها (4) بما يربي (5) عليها، و الفضل مع ذلك للبادئ (6).

اللغة

1 - حيى تحية: سلّم عليه.

2 - أسدى إليه: أحسن إليه.

3 - يد: نعمة أو إحسان.

4 - كافأه: جزاه عليه.

ص: 249

5 - يربي: يزيد.

6 - البادىء: المبتدأ.

الشرح

أدب من آداب الإسلام الذي يجب أن يتأدب به المسلمون... مفردات رفيعة الشأن لو امتثلها المسلمون لكانوا في قمة الأخلاق و أدوا رسالة اللّٰه إلى الناس و شكّلوا الدعاة الصادقين للإسلام...

إذا حييت بتحية فحيي بأحسن منها فالسلام كلمات معدودة و لكنه يحمل معه الأمان بجميع مراتبه و على كل المستويات فمن ابتدأك به وجب عليك أن ترد مثله و لكن الأفضل و الأكمل أن ترد بأحسن منه و هذا مأخوذ من قوله تعالى: «وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا» .

و قد ورد استحباب التسليم قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : أولى الناس باللّٰه و برسوله من بدأ بالسلام.

و عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: أبخل الناس من بخل بالسلام.

و عن أبي عبد الله عليه السلام: من التواضع أن تسلم على من لقيت و أما رد السلام فهو واجب بمثله و استحبابا بأحسن منه...

و التحية عنوان لكل خير فإذا أكرمك إنسان بكرامة و قدم إليك معروفا من هدية أو ضيافة أو هبة فعوّضه عن معروفه بمعروف أكبر منه و أعظم ثم اعلم أن له الفضل عليك لأنه الذي ابتدأك و أنت إنما ترد الجميل، و الفضل للمبتدئ لأنه المتبرع الذي بادر ابتداء...

63 - و قال عليه السلام: الشّفيع (1) جناح (2) الطّالب.

اللغة

1 - الشفيع من العدد: الزوج جمع شفعاء الذي يتولى التوسط في قضاء حاجة...

2 - الجناح: ما يطير به الطائر.

ص: 250

الشرح

الشفيع هو الذي يسعى بحاجتك إلى من يقضيها لك و عبّر عنه بالجناح لأنه يوصل حاجته إلى المشفوع عنده و لذا ينبغي أن يكون الجناح - الشفيع - قويا كي ينهض بالأمر و يستطيع أن يقضي حاجتك...

64 - و قال عليه السلام: أهل الدّنيا كركب (1) يسار بهم و هم نيام.

اللغة

1 - الركب: ركبان الإبل و الخيل.

الشرح

هذا تحذير لنا و تنبيه أن نستيقظ من غفلتنا و نتوجه إلى العمل الصالح... أن نجدّ من أجل الآخرة خوفا من أن لا نستفيق إلا بالموت...

فالناس في الدنيا كركبان الإبل و هم نيام عليها فهي تسير و تجد في السير و هم يغطون في النوم فلا يفيقون إلا و قد أدركوا مقاصدهم و كذلك الناس في الدنيا فالأيام تمضي و السنون تمر و هم في غفلة لا يستيقظون إلا عند ما يدركهم الموت...

65 - و قال عليه السلام: فقد (1) الأحبّة غربة.

اللغة

1 - فقده: غاب عنه و عدمه.

الشرح

إذا فقد الإنسان أحبابه و أقاربه و أهله و الأعزاء على نفسه فقد أضحى في غربة لا ناصر له و لا معين و لا محب و لا محبوب و لا من يسأل عنه أو يهتم بشأنه و هذه هي الغربة...

ص: 251

66 - و قال عليه السلام: فوت الحاجة (1) أهون (2) من طلبها إلى غير أهلها.

اللغة

1 - فوت الحاجة: ذهابها و عدم إدراكها.

2 - أهون: أسهل و أيسر.

الشرح

لقضاء الحاجات أهل و هم أهل الفضل و الكرم و الدين و الحاجة عندهم تقضى مع حفظ كرامة المحتاج و صون ماء وجهه بتصغيرها و كتمانها و تعجيلها...

و لكن المصيبة إذا كانت عند غير أهلها... إذا كانت عند لئام الناس الذين يقضون على كرامة الإنسان قبل قضائها فمثل هؤلاء يقينا إذا فاتت الحاجة و انعدمت من الوجود و بقي الإنسان بأمس ما يكون إليها فإن ذلك أيسر و أسهل من طلبها منهم و المذلة إليهم... و الإمام هنا يردع صاحب الحاجة أن يتوجه بها إلى غير أهلها و يقول: إن بقاءك في حاجة أهون عليك و أيسر من أن تطلبها من غير أهلها...

67 - و قال عليه السلام: لا تستح (1) من إعطاء القليل، فإنّ الحرمان (2) أقلّ منه.

اللغة

1 - لا تستح: لا تخجل.

2 - الحرمان: المنع.

الشرح

لا تخجل أن تعطي القليل مما بيدك - مهما كان قليلا - فإنه يبقى شيء بينما الحرمان و عدم العطاء بتاتا - فهو عدم و لا شيء - و الشيء أفضل من لا شيء و الشيء

ص: 252

يكون له أثر نافع و يقع في محله.. و هذه الكلمة ترغيب في العطاء مهما كان قليلا و أن لا يخجل المعطي فيمتنع لقلته...

68 - و قال عليه السلام: العفاف (1) زينة (2) الفقر، و الشّكر زينة الغنى.

اللغة

1 - العفاف: الكف عما لا يحل.

2 - زيّن الشيء: حسّنه و زخرفه.

الشرح

أن تكون فقيرا فليس ذلك عيب و إنما العيب أن تكون فقيرا تقف على أبواب الناس تستجدي منهم لقمة العيش فيقابلك هذا بالاستهزاء و الآخر بالشتم و الثالث بالإعراض فإذا كنت فقيرا فكن متعففا تتيه على أصحاب المال و على الأغنياء و هذه زينة الفقراء...

و إذا كنت غنيا فإنك ستحاسب على غناك و ستؤدي الضريبة قاسية و لكن تستطيع أن تؤدي حقه و تؤجر عليه بشكره، و شكر الغنى أن تأخذه من حله و تصرفه في محله فإذا أنت قد أديت شكره عندها يكون الشكر زينة هذا الغنى.

69 - و قال عليه السلام: إذا لم يكن ما تريد فلا تبل (1) ما كنت.

اللغة

1 - لا تبل: لا تكترث و لا تهتم.

الشرح

إذا لم تتحقق أغراضك كما تريد بل فاتتك و لم تستطع إدراكها فلا تأسف أو تتحسر على ما فاتك و ما كنت تأمله بل مرّ عليه مرور الكرام و انظر إليه بعدم المبالاة...

ص: 253

70 - و قال عليه السلام: لا ترى الجاهل إلاّ مفرطا (1) أو مفرّطا (2).

اللغة

1 - أفرط: جاوز الحد.

2 - فرّط: قصّر.

الشرح

الجاهل خلاف العالم ففي حين يضع العالم الأمور مواضعها يقف الجاهل ليضع الأمور في غير محلها فهو إما أن يكون مسرفا أو بخيلا... متهورا أو جبانا... غيورا دون مبرر أو لا مبالي... و هكذا الجاهل لا يعرف أين يضع قدمه فهي دائما إما متقدمة عن المطلوب أو متأخرة عنه...

71 - و قال عليه السلام: إذا تمّ (1) العقل نقص الكلام.

اللغة

1 - تم: كمل.

الشرح

العقل هو الحاكم - إذا تم - و اللسان هو الناطق فمتى تم العقل و اكتمل لم يسمح للسان أن يثرثر أو يكثر من الكلام بل يلجمه و يحدد له مواقع الكلام و أزمنته و أمكنته فلا يتكلم إلا إذا كان في الكلام فائدة و بذلك ينقص الكلام و يقل...

72 - و قال عليه السلام: الدّهر (1) يخلق (2) الأبدان (3)، و يجدّد (4) الآمال، و يقرّب المنيّة (5)، و يباعد الأمنيّة (6): من ظفر به نصب (7)، و من فاته تعب.

اشارة

ص: 254

اللغة

1 - الدهر: الزمن، الوقت.

2 - يخلق: يفني و يبلي.

3 - الأبدان: جمع البدن و هو جسم الإنسان.

4 - جدد الشيء: صيّره جديدا و هو ضد القديم.

5 - المنية: الموت.

6 - الأمنية: ما يتمناه الإنسان.

7 - النصب: التعب.

الشرح

الدهر هو الزمن المكوّر من الليل و النهار و كلما مرت لحظة أثرت في بدن الإنسان و قضت على ملايين الخلايا و تجددت غيرها و هكذا يبقى الدهر يقضي على الأبدان حتى تعجز و لا تبقى قابلة للنمو فتموت الخلايا و يتحول الشاب القوي هرما عاجزا لا يقدر على الحركة.

و من خصائص الدهر أنه يجدد الآمال فترى الإنسان كلما كبر و امتد به العمر ازدادت آماله و توسعت و أضحى أشد حرصا من أيام الشباب و لذا نرى الكبار في السن يأملون باستمرار بقاءهم و يتعاملون مع أموالهم بحرص فيحافظون عليها و يبخلون بها حتى على أنفسهم و إن كانوا بحاجة إليها و كلما سقط أمل تجددت عندهم آمال...

و من خصائص الدهر أيضا أنه يقرّب المنية فإن الإنسان كلما كبر عمره قرب من الموت و دنى الموت منه.

و من خصائص الدهر أنه يباعد الأمنية لأن آمال المرء يقطعها الموت فلا يتحقق كثير منها كما هو المشاهد عند الكثيرين الذين كانوا يتمنون أمورا و يعملون لها و إذا بالموت يقضي على أمانيهم...

ثم ذكر عليه السلام أنه إذا جاءت الدنيا للمرء تعب في حفظها و صيانتها و إدارة شئونها و إذا فاتته و لم يظفر بها أو يدركها تراه في شقاء و تعب لعدم حصوله عليها فالمدرك للدنيا يعيش التعب و كذلك غير المدرك لها يعيش التعب...

ص: 255

73 - و قال عليه السلام: من نصب (1) نفسه للنّاس إماما (2) فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، و معلّم نفسه و مؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم النّاس و مؤدّبهم.

اللغة

1 - نصب نفسه: أقامها.

2 - الإمام: القدوة.

الشرح

الإمام هو المقدّم في كل شيء. هو مجمع الكمالات و ملتقى حميد الصفات فمن أراد أن يكون إماما للناس و موجها لهم و معلما فقبل كل شيء يجب أن يبدأ بتعليم نفسه و تهذيبها و إلزامها بقبول الحق و رفض الباطل... يجب عليه أن يستقيم و يأخذ نفسه بأحسن ما يكون من الأقوال و الأفعال أولا و ليكن ذلك بسيرته و سلوكه و لا يكتفي بالأقوال الصادرة عنه و التصريحات و الإرشادات فإن تحريك اللسان سهل هين و لكن الالتزام هو الأساس و به العسر و الشدة.

هذه دعوة إلى الدعاة و العلماء و الأئمة و القادة و الرعاة أن يكونوا في موضع الكمال و الثقة حتى تؤثر كلماتهم في الناس و يكون لها نفع و فائدة...

74 - و قال عليه السلام: نفس المرء خطاه (1) إلى أجله (2).

اللغة

1 - الخطوة: جمعها خطوات و خطى ما بين القدمين عند المشي.

2 - الأجل: الوقت المضروب، الموت.

الشرح

كلما تنفس المرء مرة مرت عليه لحظة انقضت من عمره فهو يخطو إلى الآخرة و يقرّب أجله و يدنو نحو الموت كلما تنفّس نفسا... و في هذا الكلام تزهيد عظيم بالدنيا

ص: 256

فلا يغترّ الإنسان فيها و لا يركن إليها بل عليه أن يعدّ العدة للقاء اللّٰه و يكون باستمرار على حذر من الموت أن يفاجئه بدون استعداد...

75 - و قال عليه السلام: كلّ معدود منقض (1)، و كلّ متوقّع (2) آت.

اللغة

1 - انقضى الشيء: فني و تصرم.

2 - توقع الشيء: ترقبه.

الشرح

العمر معدود بالساعات و الأيام و الأشهر و السنين و هي منقضية بسرعة... بالأمس كنا أطفالا و اليوم شبابا و غدا شيبا و بعده في عالم الآخرة... و كل ما نتوقعه ابتداء بالموت و مرورا بالبرزخ و الحساب فيوم القيامة كل ذلك آت لا محالة فأين المفر؟ لا مفر إلا إلى اللّٰه و العمل بما أراد و أمر...

76 - و قال عليه السلام: إنّ الأمور إذا اشتبهت (1) اعتبر (2) آخرها بأوّلها.

اللغة

1 - اشتبهت: التبست.

2 - اعتبر الشيء: اختبره.

الشرح

تستطيع أن تعرف أواخر الأمور و نهاياتها بما يبدو و يظهر من أولها فإذا كانت المقدمات سليمة كانت النتيجة سليمة و إذا كانت إحدى المقدمات مخطئة كانت النتيجة مخطئة و إذا اشتبهت الأمور في أولها لم تتضح في آخرها و على العاقل أن يعتبر بأواخر الأمور بما يجري في أولها...

ص: 257

77 - و من خبر ضرار بن حمزة الضبائي عند دخوله على معاوية و مسألته له عن أمير المؤمنين، و قال: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله (1) و هو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ (2) تململ السليم (3)، و يبكى بكاء الحزين و يقول:

اشارة

يا دنيا يا دنيا، إليك عنّي (4)، أبي تعرّضت (5)؟ أم إليّ تشوّقت (6)؟ لا حان حينك! هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها! فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير. آه من قلّة الزّاد، و طول الطّريق، و بعد السّفر، و عظيم المورد!.

اللغة

1 - السدول: جمع سديل و هو ما أسدل على الهودج و مراده بأرخى سدوله أي حجب ظلامه.

2 - التململ: عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة و هي الرماد الحار.

3 - السليم: الملدوغ من الحية و شبهها سمي بذلك تفاؤلا.

4 - إليك عني: أبعدي عني.

5 - تعرض: تصدى.

6 - لا حان حينك: لا حضر وقتك.

7 - تشوقتي: رغبتي و تزينتي.

الشرح

ذكر ابن أبي الحديد نقلا عن كتاب الاستيعاب لابن عبد البر بسنده قال:

قال معاوية لضرار الضبابي: يا ضرار صف لي عليا.

قال: اعفني يا أمير المؤمنين.

قال: لتصفنه.

قال: أما إذا لا بد من وصفه فكان و اللّٰه بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا و زهرتها و يأنس بالليل و وحشته و كان غزير العبرة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر و من الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه و ينبئنا إذا استفتيناه و نحن

ص: 258

و اللّٰه مع تقريبه إيانا و قربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين و يقرّب المساكين لا يطمع القوي في باطله و لا ييئس الضعيف من عدله و أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول: يا دنيا غري غيري... إلى آخر الكلمة المتقدمة.

فبكى معاوية و قال: رحم اللّٰه أبا حسن كان و اللّٰه كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟.

قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها...

أقول: هذه صورة علي يحكيها أحد رواده و أصحابه... صورة الزاهد العابد الراهب الراغب... صورة تشد الإنسان ليعيش مع علي بضع لحظات و هو ينشد يا دنيا إليك عني فالرغبة فيها مفقودة... إنه ينحيها عن ناظريه و ينعيها بأبلغ بيان...

إليك عني... أبعدي من أمامي و ابحثي عمن يحبك و يرغب فيك... أنت تتصدين لي و تعترضين سبيلي بما فيك و أنت في شوق إلى أن ترميني بدواهيك و لكن لا كان ذلك الوقت الذي أقع فيه فريسة سائغة بين أيديك... هيهات... إن ما تطلبينه مني بعيد فأنا أملك حصانة قوية تمنعك من القرب مني و لكن ابحثي عن غيري و اخدعيه و استدرجيه إلى أحضانك أما أنا فلا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا بائنا يحرم الرجوع فيه حاكيا شدة كراهته لها ثم بين أسباب كراهيته لها.

فعيشك قصير: مدة العمر قليلة ضئيلة فما هي إلا سنوات معدودة مملوءة بالمنغصات و الآلام و العذاب.

و خطرك يسير: قيمتك في عيني قليلة ضئيلة لا تستحق العناية و الاهتمام.

و أملك حقير: فما يؤمل منها حقير لا يطلبه ذو همة عالية و هل المال و الجاه و السلطان و أمثالها إلا أمور تافهة إن لم تحقق مرضاة اللّٰه و تنفيذ أمره.

آه من قلة الزاد: كلمة تأوه خرجت من عمق القلب العلوي... علي في جهاده و إيمانه و كل حياته التي تحولت إلى ساحة واسعة لرضا اللّٰه كل هذا و هو يقول: إنه قليل الزاد ليوم المعاد... نعم إنها نظرة الأولياء و الأئمة إلى أرفع درجات الجنة... علي يتأوه فلنعد نحن النظر في سلوكنا... نحن الذين نعيش الخطايا طيلة نهارنا و ليلنا و لا نكف عن المعاصي حتى في أوقات نومنا آه من قلة الزاد و طول الطريق و ما أطوله و أشقه إنه يحتاج إلى ترويض لهذه النفس و تعويد على الخير و ما أبعده من سفر قد يصل الإنسان

ص: 259

خلاله سليما في دينه ضامنا لآخرته و قد يسقط في وسط الطريق في المعاصي و المآثم.

ثم أخيرا ما أعظمه من مورد إنه مورد عظيم إنه الموت و الحساب فإما إلى جنة و إما إلى نار إنه مورد عظيم لمن لم يجعل اللّٰه له نورا...

78 - و من كلام له عليه السلام للسائل الشامي لما سأله: أ كان مسيرنا إلى الشام بقضاء من اللّٰه و قدر؟ بعد كلام طويل هذا مختاره:

اشارة

ويحك (1)! لعلّك ظننت قضاء (2) لازما، و قدرا (3) حاتما (4)! و لو كان ذلك كذلك لبطل الثّواب و العقاب، و سقط الوعد (5) و الوعيد (6). إنّ اللّٰه سبحانه أمر عباده تخييرا، و نهاهم تحذيرا، و كلّف يسيرا، و لم يكلّف عسيرا، و أعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكرها، و لم يرسل الأنبياء لعبا، و لم ينزل الكتاب للعباد عبثا (7)، و لا خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما باطلا: «ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ» .

اللغة

1 - ويح: كلمة ترحم و توجع و قد تأتي بمعنى المدح و التعجب.

2 - القضاء: الحتم و الجزم.

3 - القدر: التقدير.

4 - الحتم: الجزم الذي لا مفر منه.

5 - الوعد: يكون بالأمر الحسن على الحسن.

6 - الوعيد: التوعد بالعقاب على الأمر القبيح.

7 - العبث: ما لا فائدة فيه.

الشرح

في كتاب الكافي روي الحديث: كان أمير المؤمنين جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثى بين يديه ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل

ص: 260

الشام أبقضاء من اللّٰه و قدره ؟ فقال أمير المؤمنين: أجل يا شيخ ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من اللّٰه عز و جل و قدره.

فقال الشيخ: عند اللّٰه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين عندها التفت إليه أمير المؤمنين و قال له: ويحك لعلك ظننت...

حوار رقيق و دقيق بين شيخ اشتبهت عليه الأمور فأراد أن يستوضحها من الإمام... سؤال و جواب.

أبقضاء اللّٰه و قدره كان المسير إلى أهل الشام فأجابه الإمام نعم... كل ذلك بتقدير اللّٰه فذهب فهم الشيخ إلى أنه لا أجر إذن في مسيره حيث كان مجبرا عليه عندها التفت الإمام ليصحح له ما أراد و يبين له ما يجب أن يفهمه من كلامه...

ظن الشيخ أن المسير لازم حتم لا يمكن أن يتخلص منه فردّ عليه الإمام أنه لو كان الأمر كذلك لبطل الثواب و العقاب و سقط الوعد و الوعيد لأن هذه الأمور مرهونة بالاختيار و أن يملك الإنسان حريته في الفعل و عدم الفعل فإذا ملك الاختيار ترتب الأجر و الثواب و صح الوعد و الوعيد و إلا كيف يعاقب أو يثاب من لا يملك حريته و يكون ما وقع منه مكرها عليه...

ثم بين له أن اللّٰه صدّر الأوامر و الزواجر و ترك حرية الطاعة و العصيان للمكلف...

إنه سبحانه كلف الإنسان بما يقدر عليه و لم يكلفه بما يعسر عليه أو يشق و مع ذلك أعطى على العمل القليل الأجر الجزيل...

ثم بين له بعض الخصوصيات الدقيقة:

إن اللّٰه لم يعص مغلوبا: فمن عصاه لم يعصه لأنه سبحانه عاجز مقهور لا يقدر على ردعه ورده بل لو أراد ذلك لفعل و لكنه يتركه ليرى مقدار طاعته و التزامه.

و لم يطع مكرها: فمن أطاعه سبحانه لم يطعه عن جبر و إكراه و أنه ملزم لا يمكنه تركه.

لم يرسل الأنبياء لعبا و لم ينزل الكتاب عبثا: إنه سبحانه لم يرسل الأنبياء للتلهي و قضاء الوقت و قتله دون غاية عظيمة تتجسد في تكامل الإنسان و رفعته و صيرورته قريبا من اللّٰه و كذلك لم ينزل الكتاب للعباد عبثا فما أنزله من كتب لم يقصد به العبث و إنما أنزله لهداية الخلق وردهم إلى اللّٰه و الأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا بل خلقهما بالحق من أجل الإنسان و سعادته...

ص: 261

و من ظن بأنه خلقهما باطلا فذلك هو ظن الذين كفروا و العذاب لهم على هذا الظن و لهم العقاب...

79 - و قال عليه السلام: خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج (1) في صدره حتّى تخرج فتسكن (2) إلى صواحبها في صدر المؤمن.

اللغة

1 - تلجلج: تتحرك و تتردد.

2 - تسكن: تقرّ و تثبت.

الشرح

دعوة إلى أخذ الحكمة و عدم الترفع عن أخذها من أي مصدر كانت حتى لو كانت عند المنافقين، و الحكمة لا تستقر في صدر المنافق بل تضطرب و تتحرك لأنه ليس من أهلها فتجده في حيرة من أمرها يبحث عن إنسان يلقيها إليه فتخرج عنه قهرا و تدخل صدر المؤمن فتسكن و تستقر إلى صواحبها من الحكميات التي يحويها صدر المؤمن فينتفع بها و يرتاح إليها...

80 - و قال عليه السلام: الحكمة ضالّة (1) المؤمن، فخذ الحكمة و لو من أهل النّفاق.

اللغة

1 - الضالة: الشيء المفقود.

الشرح

المؤمن يبحث عن الحكمة و يفتش عنها لأنه الإنسان المستفيد منها فهي له و هو لها هي الضالة التي يهمه أن يصل إليها و لذا يأخذها و لا يترفع عنها و لو كانت لدى المنافقين فإن المنافق ليس من أهلها و لا علاقة له بها...

ص: 262

81 - و قال عليه السلام: قيمة (1) كلّ امرىء ما يحسنه.

اللغة

1 - قيمة الرجل: قدره.

الشرح

إذا أردت أن تعرف قيمتك عند اللّٰه و عند الناس فانظر ما قدمت نحو اللّٰه و الناس، فهل قدمت جهادا و تضحية و دفاعا عن الوطن ؟ هل قدمت عبادة من صلاة و صيام و حج و صدق و إخلاص ؟ هل قدمت للناس خدمة و إعانة و إغاثة و رفع حاجة ؟ هل قدمت مشروعا عاما يستفيد منه أهل الفاقة و الحاجة و العوز من مستشفى و مصح و مدرسة ؟ هل استطعت أن تصلح بين متخاصمين و تجمع مفترقين و توحد قلبين ؟ هل استطعت أن تقدم شيئا نافعا للبشرية و تسعدها في أيامها؟ انظر مقدار ما قدمت و اعرف أن قيمتك بقدره...

و أما إذا لم تقدم إلا الرذيلة و الفجور و الإنحلال و الخلاعة و الفساد فقيمتك و قدرك ما قدّمته...

82 - قال عليه السلام: أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط (1) الإبل لكانت لذلك أهلا: لا يرجونّ أحد منكم إلاّ ربّه، و لا يخافنّ إلاّ ذنبه، و لا يستحينّ أحد منكم إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم، و لا يستحينّ أحد إذا لم يعلم الشّيء أن يتعلّمه، و عليكم بالصّبر، فإنّ الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد، و لا خير في جسد لا رأس معه، و لا في إيمان لا صبر معه.

اللغة

1 - الإبط: جمعه آباط باطن الكتف.

2 - ضرب الآباط: كناية عن شد الرحال في طلبها.

ص: 263

الشرح

هذه أمور خمسة لو خرجتم في طلبها مهاجرين و سعيتم إليها جادين تضربون في سبيلها الجمال و تحركونها من أجلها هذا في القديم - أما اليوم - فلو ركبتم الطائرات و الصواريخ في سبيلها لكانت أهلا أن يهاجر من أجل طلبها و هذه الأمور هي:

(لا يرجونّ أحد منكم إلا ربه) لا تتوقع الخير و لا تطلبه إلا من اللّٰه فاحصر مطلوبك باللّٰه و عند اللّٰه و اجعل الوسائط و الأسباب التي على يديها يجري الأمر و يحصل المطلوب إنها وسائل و وسائط و فرها اللّٰه و سخرها لقضاء حاجتك و رجاء اللّٰه و الطلب منه فيه عز و رفعة لأنه الخالق و الرازق المطلق...

(و لا يخافن إلا ذنبه) لأنه يدخله النار و ينال به غضب اللّٰه الجبار و هو معصية و تمرد على أمر اللّٰه و يكفي للإنسان أن يتصور العقوبة على الذنب حتى يخاف منه و يحذر و يفر إلى اللّٰه بتركه و البعد عنه و هجره...

(و لا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم) و هذا نهي عن القول بغير علم و أن الإنسان إذا سئل عن أمر لا يعلمه ربما أخذه الحياء من إجابة السائل أنه لا يدري لأنه صاحب مقام أو لكونه شخصية اجتماعية يحط من منزلته قوله لا أدري أو لغير ذلك من الأسباب فنهى الإمام عن الغرور لأن في ذلك هلاك النفس و الدين و في ذاكرتي أن رجلا سأل عالما مسألة و كان جالسا للوعظ فأجابه العالم لا أدري فقال الرجل: انزل عن الكرسي لمن يدري فأجابه العالم: و يلك إن هذا الكرسي لمن يقول أعلم تارة، و لا أعلم أخرى أما من يعلم كل شيء فلا مكان له، يشير إلى اللّٰه و أنه العالم بكل شيء...

(و لا يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه) لأن بقاءه بدون علم لذلك الشيء جهل و الجهل قبيح بل أقبح - إن كان هناك قبح فرضا - من طلب العلم و قصد العلماء و شد الرحال إليهم في سبيل أن يرفع جهله و في قصة موسى و العبد الصالح عبر وعظات...

(و عليكم بالصبر) و هو ضبط النفس و لزوم الاتزان و عدم الضعف و السقوط أمام الأحداث و المشاكل و التفكير في حلها بهدوء ورزانة عليكم بالصبر.

(فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد و لا خير في جسد لا رأس معه و لا في إيمان لا صبر معه) فالجسد بدون الرأس لا فائدة فيه و لا خير يرجى منه و كذلك الإيمان يفقد مدلوله و مفعوله و يصبح مجرد دعوى و شعار إذا كان خاليا من الصبر لأن الصبر

ص: 264

يتضمن التسليم للّٰه و الرضا بقضاء اللّٰه و قدره و بقاء الإنسان أمام الأحداث مهما كانت عظيمة و جسيمة متزنا محافظا على توازنه و طاعته للّٰه...

83 - و قال عليه السلام لرجل أفرط (1) في الثناء (2) عليه، و كان له متّهما: أنا دون ما تقول، و فوق ما في نفسك.

اللغة

1 - أفرط: تجاوز الحد.

2 - الثناء: المدح.

الشرح

أفرط الرجل في مدح الإمام و الثناء عليه دون أن يكون معتقدا ذلك فلذا رد الإمام على الإفراط بأنه دون ما يقول و يثني و اتهمه بعدم الإخلاص و الصدق في قوله بقوله:

و فوق ما في نفسك لأنك تظهر غير ما تضمر...

84 - و قال عليه السلام: بقيّة السّيف أبقى عددا، و أكثر ولدا.

الشرح

قال ابن أبي الحديد: قال شيخنا أبو عثمان: ليته لما ذكر الحكم ذكر العلة...

و المعنى أن من نجى من السيوف و انتصر في المعركة كان أبقى عددا و أكثر ولدا ممن عاش الذل و القهر و الاضطهاد و إن كان كثير العدد و الولد فإن المنتصر يكون أقوى و أقدر على إفناء خصومه و قتلهم...

85 - و قال عليه السلام: من ترك قول «لا أدري» أصيبت مقاتله (1).

اللغة

1 - المقاتل: موضع قتله الذي إذا أصاب صاحبه لا ينجو.

ص: 265

الشرح

من سئل عن كل شيء و أجاب بأنه يدري أجاب بالخطأ و الجهل و هذا الجواب فيه هلاك الدين و الدنيا لأن من يدري كل شيء هو اللّٰه و من يجيب على كل مسألة هو اللّٰه أو من انتجبه اللّٰه من خلقه كالأنبياء...

و هذا تعليم لنا أن لا يأخذنا الغرور فنحسب أنفسنا علماء بكل شيء و محيطين بكل شيء. بل إن عرفنا شيئا يبقى ما نجهله أكثر مما نعرفه و يجب أن نكون أمام كل سؤال بين أمرين... أدري و لا أدري بحسب معرفتنا و عدم معرفتنا...

86 - و قال عليه السلام: رأي الشّيخ (1) أحبّ إليّ من جلد (2) الغلام.

اشارة

و روي «من مشهد الغلام (3)».

اللغة

1 - الشيخ: من تقدم في السن و ظهر عليه الشيب.

2 - جلد الغلام: صبره على القتال.

3 - مشهد الغلام: إيقاعه بالأعداء.

الشرح

الحكمة و الرأي السديد فيمن عاش تجارب السنين و اختبر الحياة كما و أن القوة و العزيمة تكون في الشباب.

و الحرب تحتاج إلى الحكمة و التجربة كما تحتاج إلى القوة و العزم...

و الحكمة و الرأي السديد و التجربة أقوى في الحروب من القوة و أشد فعلا و تأثيرا فلذا فضّل الإمام رأي الشيخ و حكمته الصادرة منه على قتال الشاب و صبره و قوته على النزال.

87 - و قال عليه السلام: عجبت لمن يقنط (1) و معه الاستغفار.

اللغة

1 - القنوط: اليأس.

ص: 266

الشرح

اليأس من رحمة اللّٰه أعظم الذنوب و أشدها إذ هو تحجيم لقدرة اللّٰه و تعجيز له لأن من يتصور أن ذنبه أعظم من أن يغفر فقد أخطأ و أساء الظن باللّٰه و رفض قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً» فإذا آمن بقدرة اللّٰه و استغفر اللّٰه غفر اللّٰه له ذنوبه.

88 - و حكى عنه أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام، أنه قال:

اشارة

كان في الأرض أمانان من عذاب اللّٰه، و قد رفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به: أمّا الأمان الّذي رفع فهو رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -، و أمّا الأمان الباقي فالاستغفار. قال اللّٰه تعالى: «وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » .

قال الرضي: و هذا من محاسن الاستخراج و لطائف الاستنباط.

الشرح

وجود رسول اللّٰه و بركته القائمة أمان من العذاب لأهل ملته و زمانه و بلده فلا يأخذهم بالخسف و الهدم و الصيحة و غيرها مما أخذ به الأمم من العذاب...

و بعد رحيله عن دار الفناء و غيابه ترك لأمته الاستغفار الذي يعني الإقلاع عن الذنب و الرجوع إلى اللّٰه و التوبة عن المعصية فإن من قال استغفر اللّٰه تضمن قوله توبة صادقة و إقلاعا عن المعصية و اللّٰه يتقبل منه توبته و يؤمّنه من العذاب.

و هذا الاستنباط من الإمام هو دأبه و دأب الأئمة من ذريته و لا عجب في ذلك فهم خزان علم اللّٰه و معادن حكمته و ورثة رسول اللّٰه قال النبي (صلی الله علیه و آله) : أنا مدينة العلم و علي بابها...

89 - و قال عليه السلام: من أصلح (1) ما بينه و بين اللّٰه أصلح اللّٰه ما بينه و بين النّاس، و من أصلح أمر آخرته أصلح اللّٰه له أمر دنياه، و من كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللّٰه حافظ.

اشارة

ص: 267

اللغة

1 - أصلح الشيء: ضد أفسده.

الشرح

من أصلح ما بينه و بين اللّٰه أصلح اللّٰه ما بينه و بين الناس و ذلك لأن من قام بحقوق اللّٰه و عمل بما أمر اللّٰه انعكس ذلك على علاقته بالآخرين فأصبح تعامله فيما بينه و بين الناس جيدا فأحسن عشرتهم و صفح عن مسيئهم و أعان ضعيفهم و بذلك يصلح ما بينه و بينهم فيرتفع الشر و الأذى و تصلح الأمور معهم.

و من أصلح أمر آخرته أصلح اللّٰه له أمر دنياه: من أصلح أمر آخرته فصلى و صام و سعى في سبيل تحصيل رضا اللّٰه و جاهد أصلح اللّٰه له أمر دنياه لأن أوامر اللّٰه فيها صلاح الدنيا و سعادة الآخرة و متى اتجه الإنسان نحو الآخرة و سعى لها صلحت دنياه بشكل طبيعي لأنه يتنازل عن كثير من الكماليات و غير الضروريات و لم ينافس أهل الدنيا في دنياهم بل يسعى في الأرض و يكد على عياله كما أمر اللّٰه و بذلك تحصل عنده القناعة و الرضا و يكسب الدنيا.

و من كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللّٰه حافظ فإن العاقل من يفكر في عواقب الأمور و ما ينفع الناس و يروّض نفسه على قبول الحق مهما كان مرا و مثل هذا يعيش الأمان و السلام و يرفع الأذى عن نفسه لأنه يعرف بعقله كيف يسلك في الحياة.

90 - و قال عليه السلام: الفقيه كلّ الفقيه من لم يقنّط (1) النّاس من رحمة اللّٰه، و لم يؤيسهم (2) من روح (3) اللّٰه، و لم يؤمنهم من مكر اللّٰه.

اللغة

1 - القنوط: اليأس و قنّطه يأّسه.

2 - اليأس: القنوط و قطع الرجاء.

3 - روح اللّٰه: لطفه و رأفته.

ص: 268

الشرح

الفقيه هو الرجل الذي فهم الشريعة و وعاها و أدرك عمقها و متطلباتها و أنّ الفقيه الكامل هو الذي يحمل الناس على أن يكونوا بين الخوف و الرجاء فمهما عملوا من سيئات و ارتكبوا من تجاوزات يبقى لهم الأمل بعفو اللّٰه و غفرانه و مهما عملوا من حسنات و طاعات يبقى احتمال الخطر على مستقبلهم قائم فلا يوصد أبواب الرحمة عنهم مهما عصوا و لا يدخلهم الجنة مهما أطاعوا و هذا مأخوذ من قوله تعالى: «يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ » و قوله تعالى: «إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ » و قوله تعالى:

«أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّٰهِ فَلاٰ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخٰاسِرُونَ » .

91 - و قال عليه السلام: إنّ هذه القلوب تملّ (1) كما تملّ الأبدان (2)، فابتغوا (3) لها طرائف الحكم (4).

اللغة

1 - مل الشيء و من الشيء: سئمه و ضجر منه.

2 - الأبدان: الأجسام.

3 - ابتغوا: اطلبوا.

4 - طرائف الحكم: غرائبها المستطرفة.

الشرح

إذا كلت الأبدان و تعبت من العمل توجّه أصحابها لإراحتها بنوع من الرياضة أو التسلية و الترفيه الذي يتجدد به نشاطها و تعود إليها حيويتها و القلوب تصاب أيضا كما تصاب الأبدان فالعقل يتوقف عن التفكير و النفس تتراخى و تتكاسل و التوجه نحو المطالب التي تحتاج إلى تحقيق و تدقيق لا يتوفر فهذه الحالات تحتاج إلى نكتة لطيفة مريحة و لطيفة أدبية ظريفة و فكاهة خفيفة فيعود النشاط الفكري و التوجه النفسي و النشاط الروحي و كل منا قد يمر في بعض أيامه بهذا النوع من الملل و السأم و الضجر فباجتماع مع أصحاب النكتة أو بنزهة أو بطريفة أو بوسيلة من وسائل الترفيه يرتفع عنه كل ذلك و يعود إليه إقباله على ما هو فيه...

ص: 269

92 - و قال عليه السلام: أوضع العلم (1) ما وقف على اللّسان، و أرفعه ما ظهر في الجوارح (2) و الأركان.

اللغة

1 - أوضع العلم: أدناه.

2 - الجوارح: الأعضاء.

3 - أركان البدن: أعضاؤه الرئيسية.

الشرح

العلم هو حصول صورة الشيء في الذهن هذا قد يحصل عليه كثير من الناس و الإمام يجعل لهذا العلم درجات فأدنى درجاته و أحقرها أن يظهر أثره على اللسان فحسب فالعالم يرشد و يعظ و يخطب و لا يتأثر بما يقول أو لا يفعل ما يقول...

و هناك درجة أخرى هي الأرفع و الأعظم و قد حث النبي و الأئمة عليها و هي أن يقترن العلم بالعمل فتنطلق الجوارح و الأعضاء لتنفيذ ما يعلم و يعرف، و العمل ثمرته العمل و إلا تحول إلى كنز مدفون في أعماق الأرض لا يستفيد منه أحد بل وجوده يوجب الأسى و الحسرة.

93 - و قال عليه السلام: لا يقولنّ أحدكم: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة (1)» لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل (2) على فتنة، و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فإنّ اللّٰه سبحانه يقول: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ » ، و معنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال و الأولاد ليتبيّن السّاخط (3) لرزقه، و الرّاضي بقسمه، و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثّواب و العقاب، لأنّ بعضهم يحبّ الذّكور و يكره الإناث، و بعضهم يحبّ تثمير المال (4)، و يكره انثلام (5) الحال.

اشارة

ص: 270

قال الرضي: و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير.

اللغة

1 - الفتنة: الاختبار و الامتحان.

2 - اشتمل بالثوب: تلفف به و أداره على جسمه كله.

3 - الساخط: الغاضب.

4 - تثمير المال: إنماؤه بالربح.

5 - ثلم الإناء: كسره من حافته.

الشرح

نهى عليه السلام أي فرد منا أن يستعيذ من الفتنة التي تعني الاختبار و الامتحان لأنه ليس أحد إلا و هو في موقع الامتحان و ما الدنيا كلها و وجودنا فيها إلا من أجل أن يختبرنا اللّٰه فيها و يمتحننا.

نعم من أراد أن يستعيذ فليستعذ من مضلات الفتن و هي التي يفقد الإنسان فيها الرؤية الصحيحة و يضل وجه الحق عنده فهذه تحتاج إلى استعاذة.

و علل ذلك بقول اللّٰه: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ » و كل منا يمتحن في أمواله و أولاده ليعرف هل يطيع اللّٰه فيهم أم يضل بسببهم ؟ هل يعصي اللّٰه بسببهم أم يطيع اللّٰه فإن الاختبار ليرى الساخط الغاضب على حكم اللّٰه و إرادته من الراضي بذلك و إن كان سبحانه يعلم أحوالهم و أنفسهم و لكن من أجل أن يقيم الحجة عليهم و يقطع أعذارهم و ما يتعللون به إنه لكي يستبين من يستحق الثواب بعمله و من يستحق العقاب بعمله...

ثم ذكر جزئين من ذلك فبعضهم يحب الذكور و يكره الإناث فهل يطيع اللّٰه فيما يكره و فيما يحب أم لا و بعضهم يحب زيادة المال و عدم نقصانه فهل يستغل الطريق المنحرف لزيادة المال كأن يرابي و يغش أو يقنع بما يرضى اللّٰه و إن كان فيه نقص المال و قلته...

94 - و سئل عن الخير ما هو؟ فقال: ليس الخير أن يكثر مالك و ولدك، و لكنّ الخير أن يكثر علمك، و أن يعظم حلمك، و أن تباهي (1)

اشارة

ص: 271

النّاس بعبادة ربّك، فإن أحسنت حمدت اللّٰه، و إن أسأت استغفرت اللّٰه. و لا خير في الدّنيا إلاّ لرجلين: رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها (2) بالتّوبة، و رجل يسارع في الخيرات.

اللغة

1 - تباهي: تفاخر.

2 - تداركه: أتبعه و ألحقه.

الشرح

بعض الناس ينظر إلى أن الخير كل الخير في جمع الأموال و كثرة الأولاد و هذا ميزانهم و الإمام هنا يرد على هذا الميزان بأن الخير كل الخير في أمور:

أن يكثر علمك لأنه الموصل إلى مغفرة اللّٰه و رضوانه و أن يعظم حلمك فلا تغضب لأتفه الأسباب و أحقرها بل تكون واسع الصدر تستقبل الأمور الصعبة فتحللها و تصبر عليها و أن تباهي الناس تفتخر عليهم بعبادة اللّٰه لأنها الرصيد العظيم الذي يجب أن يتفاضل به الناس و به ترتفع درجاتهم في الآخرة...

ثم علمنا أمرا و هو أن نحمد اللّٰه إن أحسنا شكرا له على التوفيق للطاعة و أن نستغفره سبحانه و تعالى إن أسأنا و أخطأنا.

ثم إنه عليه السلام أعطى للحياة قيمتها و أنه لا يستحقها إلا رجلان: رجل أذنب و عصى اللّٰه فزلت قدمه و عثر في مشيته فسقط في المعصية فهذا يتدارك ذنبه بالتوبة و الإنابة إلى اللّٰه و الرجوع إليه و الاستغفار فتمحى السيئات و مثل هذا تكون الحياة بالنسبة له عظيمة و ذات قيمة و يستحق البقاء و الاستمرار و رجل لم يعص و لم يخطىء و لكنه صاحب أعمال طيبة و خيرات يبحث عن الحسنات و يدور وراء الأجر و الثواب و أعمال البر فمثل هذا يستحق الحياة لترتفع درجاته و تعلو منزلته...

و أما من يقضي العمر و ليس بأحد الرجلين فلا فائدة من حياته و لا ثمرة لعمره طال أم قصر فإن الدنيا ليس للأكل و اللذة و التمتع بالطيبات دون أن تكون ذات هدف عظيم أو مرمى بعيد...

ص: 272

95 - و قال عليه السلام: لا يقلّ عمل مع التّقوى، و كيف يقلّ ما يتقبّل ؟.

الشرح

لا يقبل اللّٰه عملا بدون تقوى مهما كان العمل كبيرا قال تعالى: «إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ » و في المقابل يقبل اللّٰه كل عمل مع التقوى و من قبل اللّٰه عمله كان العمل كبيرا و عظيما لأنه مقبول عند اللّٰه و من قبل اللّٰه عمله أدخله الجنة...

96 - و قال عليه السلام: إنّ أولى النّاس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، ثمّ تلا: «إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا» ، ثمّ قال: إنّ وليّ محمّد من أطاع اللّٰه و إن بعدت لحمته (1)، و إنّ عدوّ محمّد من عصى اللّٰه و إن قربت قرابته!.

اللغة

1 - اللحمة: القرابة.

الشرح

هذا تحديد و بيان لمن يكون ولي الأمر بعد النبي... من هو الخليفة القائم مقامه و المتولي الأمر عنه إنه أعلم الناس بما جاء به و أعملهم به.

قال ابن أبي الحديد: و الرواية أعلمهم و الصحيح أعملهم لأن استدلاله بالآية يقتضي ذلك و كذا قوله فيما بعد: إن ولي محمد من أطاع اللّٰه... فلم يذكر العلم...

و هذا التحديد الشريف لولاية الأمر و الاستدلال بآية أن أولى الناس بإبراهيم... يريد النفوذ من خلاله إلى نفسه الشريفة و أنه أولى الناس بالنبي لجهاده و تضحياته و طاعته للّٰه و لرسوله.

97 - و سمع عليه السلام رجلا من الحرورية (1) يتهجد (2) و يقرأ فقال:

اشارة

نوم على يقين خير من صلاة في شكّ .

ص: 273

اللغة

1 - الحرورية: بفتح الحاء هم الخوارج الذين خرجوا على الإمام بحروراء قرية بالنهروان.

2 - يتهجد: يتعبد بالليل.

الشرح

الحرورية فرقة من الخوارج نسبوا إلى حروراء - بالمد و القصر - قرية بالنهروان و قد كانوا زهاد الأمة و عبادها كما كانوا جهالها و أغبياؤها دخلت عليهم شبهة أضلتهم عن دينهم.

و قال بعضهم فيهم: الخارجي يقول الزور و يعتقده الحق و يفعل المنكر و يظنه المعروف و يعتمد على اللّٰه و لا يتصل إليه بسبب مشروع...

و الإمام يعطي درسا بليغا لكل أصحاب القضايا أن يخرجوا من الشك الذي يعيشونه في أي قضية من قضاياهم إلى مرحلة اليقين الساطع و ليدع الإنسان حتى العبادة إذا شغلته عن تحصيل اليقين.

و يقول ابن أبي الحديد معنى آخر هو: ترك التنفل بالعبادات مع سلامة العقيدة الأصلية خير من الاشتغال بالنوافل و أوراد الصلاة مع عدم العلم...

98 - و قال عليه السلام: اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية (1) لا عقل رواية (2)، فإنّ رواة العلم كثير، و رعاته قليل.

اللغة

1 - عقل رعاية: ضبطه بالفهم.

2 - عقل رواية: ضبط ألفاظه و حفظه دون فهم.

الشرح

دعوة من الإمام إلى تحقيق ما يصل إلينا من الأخبار و الروايات و تفحّص صحيحها من سقيمها و تفهم معانيها و ما المراد منها و لا يكتفي الإنسان بحفظ الرواية و نقلها كما

ص: 274

هي فيتحول إلى آلة تسجيل ينقل ما يشاهد و يحفظ ما يسمع دون وعي و تفهم فإن رواة العلم و نقلته و الحافظون له عن ظهر قلب كثيرون و لكن وعاته و الواقفون على حقيقته و المدركون لمعناه فهم قلة قليلة و لذا نجد الحفظة كثيرون و خصوصا في أزمنتنا التي انتشرت فيها الطباعة و أضحت كتب الحديث في كل بيت و لكن ما أقل من يفهمها و يقف على معانيها و يتدبر ما فيها...

99 - و سمع رجلا يقول: «إنّا للّٰه و إنّا إليه راجعون» فقال عليه السلام:

اشارة

إنّ قولنا: «إنّا للّٰه» إقرار على أنفسنا بالملك، و قولنا: «و إنّا إليه راجعون» إقرار على أنفسنا بالهلك (1).

اللغة

1 - الهلك: بالضم الهلاك.

الشرح

التفاتة علوية عميقة و دقيقة ينبه بها الإمام هذا القائل و يعلمه و يعظه.

«إنا للّٰه» اعتراف صريح منّا و إقرار بأننا مملوكون للّٰه و من كان مملوكا وجب عليه أن يطيع المالك و لا يعصي له أمرا و لا يفر أو يهرب من حكمه...

«و إنا إليه راجعون» اعتراف و إقرار بالهلاك و الموت و أن لا بقاء لنا و لا خلود و من كان ميتا يجب أن ينظر إلى ما بعد الموت و ما أعده اللّٰه له من الثواب و العقاب...

100 - و قال عليه السلام، و مدحه قوم في وجهه، فقال: اللّهمّ إنّك أعلم بي من نفسي، و أنا أعلم بنفسي منهم، اللّهمّ اجعلنا خيرا ممّا يظنّون، و اغفر لنا ما لا يعلمون.

اشارة

ص: 275

الشرح

هذا تواضع منه للّٰه و كسر للزهو الذي يمكن حصوله بالمدح و تعليم لنا كيف نقابل المادحين لنا في وجوهنا...

اللهم إنك أعلم بي من نفسي، فأنا الذي أحمل هذه النفس أنت أعلم مني بها...

أنت يا رب خلقتها و تعرفها و تعرف تكوينها و ما تحوي و أنا عاجز أمام معرفتك هذه و أمام كل معارفك...

و أنا أعلم بنفسي من هؤلاء المادحين... هؤلاء يعرفون الظواهر و ما وقع لهم و أما أنا فأعرف الداخل و ما في عمق نفسي...

اللهم اجعلنا خيرا مما يظنون، فهو عليه السلام يطلب الكمال كما يطلب الغفران لما لم تقع عليه عيونهم أو يدركونه بأيديهم...

101 - و قال عليه السلام: لا يستقيم (1) قضاء الحوائج إلاّ بثلاث:

اشارة

باستصغارها لتعظم، و باستكتامها (2) لتظهر، و بتعجيلها لتهنُؤ (3).

اللغة

1 - لا يستقيم: لا يعتدل و يتم.

2 - استكتامها: الحرص على كتمانها و عدم نشرها.

3 - تهنؤ: يلتذ بها.

الشرح

كمال قضاء الحاجة يكون بهذه الشروط:

1 - أن يستصغرها القاضي لها فتعظم في أعين الناس و عين صاحبها.

2 - أن تكتم فلا تذاع و كتمانها يكون السبب في انتشارها بين الناس لأن الناس على عادتهم يحبون معرفة ما استتر و اختفى.

3 - تعجيلها ليهنأ بها صاحبها فإن تسويفها و تأخير قضائها ينغصها على أهلها...

ص: 276

102 - و قال عليه السلام: يأتي على النّاس زمان لا يقرّب (1) فيه إلاّ الماحل (2)، و لا يظرّف (3) فيه إلاّ الفاجر، و لا يضعّف (4) فيه إلاّ المنصف (5)، يعدّون (6) الصّدقة فيه غرما (7)، و صلة الرّحم منّا (8)، و العبادة استطالة (9) على النّاس! فعند ذلك يكون السّلطان بمشورة النّساء، و إمارة الصّبيان، و تدبير الخصيان (10)!.

اللغة

1 - قرّبه: أدناه.

2 - الماحل: الساعي بين الناس بالوشاية.

3 - يظرّف: يعد ظريفا.

4 - يضعّف: يعد ضعيفا.

5 - المنصف: العادل.

6 - يعدون: يحسبون.

7 - الغرم: الدين و الغرامة.

8 - المنّ : تعداد النعمة على الغير مظهرا بالعلو عليه.

9 - الاستطالة: الارتفاع.

10 - الخصيان: العبيد.

الشرح

هذه جملة أمور كشف الإمام عنها... إنه سيحملها الزمن و تلدها الأيام القادمة... يقرأ الأحداث قبل وقوعها و يستشرف المستقبل فيجد فيه هذه الصورة الكريهة... إنه زمان شؤم و نحس تتبدل فيه الموازين و تتحطم المقاييس... إنه زمان له علامات و علاماته هي:

1 - لا يقرّب فيه إلا الماحل: من يسعى بين الناس بالوشاية و ينقل منهم و إليهم ما يفتنهم به ذلك هو الرجل المقرّب المقدّر الذي يصبح له حظوة و مكانة، فالمفرق بين الأحبة الذي يزرع الفتن هو المقرب من الناس.

2 - و لا يظرّف فيه إلاّ الفاجر: فمن تهتك يصبح ظريفا لطيفا و أني أجد مصداق

ص: 277

ذلك في المغنين و المغنيات الذين يغوون كثرة كثيرة من الناس.

3 - لا يضعف فيه إلا المنصف: فالعادل الذي ينصف اللّٰه و ينصف الناس يرونه ضعيفا حقيرا أو أنهم يعدون المنصف لا يفهم لأنهم لا يحترمون العدل الذي يحمله و يرونه شيئا لا قيمة له لأنه لا يخدمهم.

4 - يعدّون الصدقة فيه غرما: و هذه من غرائب ذلك الزمن إن أهله يعدون دفع الزكاة الواجبة عليهم و التي فرضها اللّٰه على الأغنياء منهم يعدونها ضريبة إجبارية يدفعونها قهرا عنهم و رغما عن أنوفهم.

5 - وصلة الرحم منّا: إذا وصل أحدهم رحمه منّ عليه بها و هذا ما نجده فإذا زار الأخ أخاه رأى نفسه متفضلا عليه يذكره بزيارته و يكرر ذلك.

6 - و العبادة استطالة على الناس: فإذا أدى ما وجب عليه من صلاة و صيام و عبادة تكبّر على الناس و أحس من نفسه أنه أعلى منهم فترفع و تكبر و أخذه العجب و الزهو.

ثم إنه عليه السلام بعد أن ذكر ما سيحمله الزمن و تتبدل الموازين و يصبح الأمر كما مر عندئذ يكون الحكم بمشورة النساء فلا يقطع الحاكم أمرا إلا إذا استشار امرأة و يحدثنا بعض أصحاب السلطان أن الحاكم لا يقدر على إمضاء أمر إذا لم ترض به زوجته و عندئذ تكون الأمرة بيد الصبيان فيوصى إلى ولاة العهد و هم أطفال صغار رضع و يدبر الأمر عنهم و يصرفه المرتزقة من الناس عبيد الحكم و المنصب و الجاه...

103 - ورئي عليه إزار (1) خلق (2) مرقوع فقيل له في ذلك، فقال:

اشارة

يخشع له القلب، و تذلّ به النّفس، و يقتدي به المؤمنون. إنّ الدّنيا و الآخرة عدوّان متفاوتان (3)، و سبيلان (4) مختلفان، فمن أحبّ الدّنيا و تولاّها أبغض الآخرة و عاداها، و هما بمنزلة المشرق و المغرب، و ماش بينهما، كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، و هما بعد ضرّتان (5)!.

اللغة

1 - الإزار: ثوب يستر البدن.

2 - الخلق: البالي.

ص: 278

3 - متفاوتان: مختلفتان متباعدتان.

4 - سبيلان: مثنى سبيل و هو الطريق.

5 - ضرة المرأة: امرأة زوجها و هما ضرتان.

الشرح

ربما كان هذا المشهد أيام خلافته... أمير المؤمنين في زي مسكين يلبس ثوبا باليا قد أكل الدهر عليه و شرب و مرقّع فلا يخجل به أو يستحي... إنه ينطلق من مفهوم أن الجمال هو جمال النفوس و طهرها و عفافها و أو العمدة على ما يحمله الإنسان في داخله فربما احتوت الثياب الجميلة قلوب الذئاب و حيل الثعالب و حسد النساء و عداوة الضرائر و مكر الشياطين...

إنه عليه السلام يعاتب على ذلك فينطلق بهذا البيان الذي يتضمن موعظة عظيمة...

إنه ثوب يخشع له القلب فلا يأخذه الكبر و العلو كما يأخذ أصحاب الثياب الجديدة الجميلة الجيدة.

كما أنه تذل به النفس تتواضع و تنحني أمام أولئك الذين لا يجدون ما يسترون أبدانهم...

و ثالثا يقتدي به المؤمنون: فأنا إمام فيقتدي بي المؤمنون فلا يأخذ الثوب الجديد نفوسهم و يخرجها عن طاعة اللّٰه فيعصون اللّٰه فيه...

ثم بين أن الدنيا و الآخرة متنافرتان فهذه عدوة لتلك و تلك عدوة لهذه متباعدتان لا جامع بينهما فمن أحب الدنيا و تولاها أبغض الآخرة و عاداها... فالدنيا سبيل و طريق يتجه إلى النار و الآخرة سبيل و طريق يتجه إلى الجنة إنهما بمنزلة المشرق و المغرب و الإنسان بينهما فهل يمكن أن تتحدان أو تجتمعان فكما لا يمكن ذلك لا يمكن الجمع بين الدنيا و الآخرة كما أن الإنسان إذا كان يقف بينهما فإنه كلما اقترب من واحدة ابتعد بين الدنيا و الآخرة كما أن الإنسان إذا كان يقف بينهما فإنه كلما اقترب من واحدة ابتعد عن الأخرى ثم شبههما بضرتين لا يمكن للرجل أن يرضيهما معا بل إن أرضى واحدة أسخط الأخرى و على العاقل أن يختار المريحة منهما و من له فيها العقبى السعيدة.

104 - و عن نوف البكالي قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة و قد خرج من

اشارة

ص: 279

فراشه فنظر في النجوم فقال لي: يا نوف أراقد (1) أنا أم رامق ؟ فقلت: بل رامق (2) قال:

يا نوف، طوبى (3) للزّاهدين في الدّنيا، الرّاغبين في الآخرة، أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و مائها طيبا، و القران شعارا (4)، و الدّعاء دثارا (5)، ثمّ قرضوا (6) الدّنيا قرضا على منهاج (7) المسيح.

يا نوف، إنّ داود عليه السّلام قام في مثل هذه السّاعة من اللّيل فقال:

إنّها لساعة لا يدعو فيها عبد إلاّ استجيب له، إلاّ أن يكون عشّارا (8) أو عريفا (9) أو شرطيّا (10)، أو صاحب عرطبة (و هي الطنبور) أو صاحب كوبة (و هي الطبل. و قد قيل أيضا: إن العرطبة الطبل و الكوبة الطنبور).

اللغة

1 - راقد: نائم.

2 - رامق: من رمقه إذا لحظه لحظا خفيفا.

3 - طوبى: سعادة و هناء.

4 - الشعار: ما يلي البدن من الثياب.

5 - الدثار: ما يعلو البدن من الثياب.

6 - قرضوا: اقتطعوا.

7 - المنهاج: الطريق.

8 - العشار: جامع أعشار المال.

9 - العريف: من يتجسس على أعراض الناس ليكشفها لأميره.

10 - الشرطي: معاون الحاكم في ظلمه و منفذ أمره.

الشرح

نوفى البكالي من شيعة أمير المؤمنين و المخلصين في محبته و قد خرج الإمام إلى الفضاء ينظر إلى ملكوت السموات و الأرض ثم استفهم من نوف هل هو نائم أم مستيقظ فأجابه نوف أنه غير نائم فوجه إليه هذه الموعظة الرقيقة.

هنّأ أولئك الزهاد في الدنيا الذين عزفت نفوسهم عنها و توجهت نحو الآخرة...

إنهم الذين تعلقت قلوبهم في الآخرة و لئلا يشتبه عليه الأمر فيمن ادعى الزهد في الدنيا

ص: 280

ذكر له بعض مواصفات الزهاد الذين يقصدهم إنهم قوم لهم عدة صفات:

1 - إنهم قوم اتخذوا الأرض بساطا رفضوا ما عليه أبناء الدنيا من بسط و سجاد و فراش حيث يفترشون ذلك و يتنعمون به.

2 - اتخذوا من التراب فراشا ينامون عليه و يرتاحون إليه و لا يهتمون بما يتنازع عليه أبناء الدنيا.

3 - و ماءها طيبا: فتحول الماء إلى شراب طيب و رفضوا تأنق أهل الدنيا و سعيهم وراء المشروبات اللذيذة.

4 - اتخذوا القرآن شعارا: فالقرآن يعيش في قلوبهم يرتلونه و يحيون أحكامه و ينفذون أوامره.

5 - اتخذوا الدعاء دثارا: إنهم قوم يعيشون مع الدعاء فإن قاموا دعوا اللّٰه و إن قعدوا دعوا اللّٰه و كيفما تحركوا دعوا اللّٰه فالدعاء ملازم لهم و من صفاتهم أنهم قوم أهل دعاء.

6 - ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح: إنهم أخذوا من الدنيا و أكلوا منها ما أكله المسيح فهو القدوة لهم و هو لم ينل منها إلا الكفاف الذي يقيم أوده و ما يكمل به استمرارية الحياة...

ثم نبهه إلى أن هذه الساعة التي قام بها أمير المؤمنين هي الساعة التي قام بها داود عليه السلام ترغيبا لنوف إلى أنها ساعة يقوم بها الأنبياء و لعلها ساعة السحر فإنها ساعة يستجاب فيها الدعاء و لا يرد إلا دعاء من انقطعت الصلة بينهم و بين اللّٰه و تعطلت الإتصالات و قد ذكر العشار الذي يأخذ العشر من أموال الناس و غلاتهم ظلما و عدوانا و كذلك العريف الذي يتجسس على عيوب الناس و ينقلها إلى أسياده الظالمين و الثالث هو الشرطي الذي ينفذ أمر الحاكمين الظالمين في قهر الناس و إذلالهم و الرابع صاحب عرطبة و هو الطنبور و يمكن أن ينطبق على الموسيقار الفاسق أو صاحب كوبة و هو الطبل أي أهل الغناء و الفسق الذين يضلون الناس و ينحرفون بهم إلى غير طاعة اللّٰه.

105 - و قال عليه السلام: إنّ اللّٰه افترض (1) عليكم فرائض (2)، فلا تضيّعوها (3)، و حدّ لكم حدودا، فلا تعتدوها (4)، و نهاكم عن أشياء، فلا تنتهكوها (5)، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها (6) نسيانا، فلا تتكلّفوها (7).

اشارة

ص: 281

اللغة

1 - افترض: أوجب.

2 - الفرائض: الواجبات.

3 - ضيّع الصلاة: أهملها.

4 - تعتدوها: تتجاوزوها.

5 - الانتهاك: الإهانة و الإضعاف.

6 - يدعها: يتركها.

7 - تكلف الأمر: تجشمه و تحمله على مشقة أو على خلاف عادته.

الشرح

موعظة بالغة موجزها أن على الإنسان أن يقف أمام تكاليفه فينفذ الواجب منها و يترك الحرام و يسكت عما سكت اللّٰه عنه:

1 - إن اللّٰه أوجب عليكم واجبات من صلاة و صيام و حج و زكاة و رفع للظلم ورد للاعتداء فلا تتخلوا عن ذلك أو تتركوه.

2 - و حد لكم حدودا فلا تعتدوها: رسم لكم الأطر و الحدود التي يجوز لكم أن تتحركوا ضمنها فلا تتجاوزوها أو تخرجوا عنها فتحاسبوا عليها...

3 - و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها: نهاكم عن ارتكاب بعض المحظورات و حرم عليكم تناولها أو القيام بها كالزنا و السرقة و شرب الخمر و ظلم الناس و الاعتداء عليهم فلا تفعلوها و تقوموا بها.

4 - و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها: و اللّٰه سبحانه سكت عن أشياء و لم يبيّنها كما لم يوجب البحث عنها و التدقيق فيها و لم يكن ذلك نسيانا منه لها بل هو اللّٰه الذي لا ينسى و إنما تركها لعدم فائدتها و نفعها فلا تكلفوا أنفسكم و تشقوا عليها بالبحث عنها و النظر في حقيقتها كما هو الحال في الملائكة و الجن و الملأ الأعلى و غيرها من الأمور التي لم يكلفنا اللّٰه بالبحث عنها و لم يحملنا مسئولية دراستها...

106 - و قال عليه السلام: لا يترك النّاس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلاّ فتح اللّٰه عليهم ما هو أضرّ منه.

اشارة

ص: 282

الشرح

قد يتصور البعض أنه إذا ترك أمرا من أمور الدين يستطيع أن يحصل على دنيا سعيدة و حياة رغيدة و لكن القضية قد تكون أقسى و أضر عليه و تأتي خلاف ما يطلب، فقد يترك الجهاد للحفاظ على حياته و دنياه فإذا به يعيش الذل و الهوان و يموت و هو يتحرك و قد يقضي الظالمون على حياته في آخر الأمر...

و هذه من الإمام دعوة إلى الحفاظ على الدين و عدم إضاعة شيء منه من أجل الدنيا و ما فيها...

107 - و قال عليه السلام: ربّ عالم قد قتله جهله، و علمه معه لا ينفعه.

الشرح

الذي يخالف علمه فهو من جهة يصدق عليه أنه عالم عارف و من جهة مخالفته لهذا العلم يصدق عليه أنه جاهل بل يأخذ حكم الجاهل و تلحقه آثار الجهل و عدم المعرفة فيقتله ذلك لعدم عمله بما يعلم فيورد النار و بئس القرار...

108 - و قال عليه السلام: لقد علّق بنياط (1) هذا الإنسان بضعة (2) هي أعجب ما فيه: و ذلك القلب. و ذلك أنّ له موادّ من الحكمة (3) و أضدادا من خلافها، فإن سنح له (4) الرّجاء أذلّه الطّمع، و إن هاج (5) به الطّمع أهلكه الحرص (6)، و إن ملكه اليأس قتله الأسف (7)، و إن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ (8)، و إن أسعده الرّضى نسي التّحفّظ (9)، و إن غاله (10) الخوف شغله الحذر (11)، و إن اتّسع له الأمر استلبته الغرّة (12)، و إن أفاد (13) مالا أطغاه (14) الغنى، و إن أصابته مصيبة فضحه (15) الجزع (16)، و إن عضّته (17)

اشارة

ص: 283

الفاقة (18) شغله البلاء (19)، و إن جهده (20) الجوع قعد به الضّعف، و إن أفرط (21) به الشّبع كظّته (22) البطنة (23). فكلّ تقصير به مضرّ، و كلّ إفراط له مفسد.

اللغة

1 - النياط: عرق غليظ متصل بالقلب.

2 - البضعة: بفتح الباء القطعة من اللحم.

3 - الحكمة: القول السديد.

4 - سنح له: عرض له و ظهر.

5 - هاج: ثار و انبعث.

6 - الحرص: التمسك بالشيء و عدم التفريط فيه.

7 - الأسف: الحزن.

8 - الغيظ: الغضب أو أشده.

9 - التحفظ: التوقي و التحرز من المضرات.

10 - غاله: أخذه على غرة.

11 - الحذر: الاحتراز و التنبه.

12 - الغرة: بالكسر الغفلة.

13 - أفاد: استفاد و انتفع.

14 - أطغاه: من الطغيان و هو البطر و تجاوز الحد.

15 - فضحه: كشف عيوبه.

16 - الجزع: عدم الصبر و إظهار الحزن.

17 - العض: الأخذ بأطراف الأسنان.

18 - الفاقة: الحاجة.

19 - البلاء: المصائب و المحن.

20 - جهده: أعياه و أتعبه.

21 - أفرط: تجاوز الحد.

22 - الكظة: امتلاء البطن كثيرا.

23 - البطنة: امتلاء البطن حتى يضيق النفس.

ص: 284

الشرح

أراد الإمام في هذا الفصل أن ينبه الإنسان إلى أنه ينبغي عليه أن يحافظ على الاعتدال في الأمور فلا يأخذ جانب الإفراط كما لا يأخذ جانب التفريط و ذكر بعض الحالات التي تعترض هذا الإنسان فتشده إلى التهور و عدم الاعتدال.

ابتدأ بذكر محور هذه الأمور و مصدرها و منطلقها و حركتها إنه القلب الذي يتصل بكل تلك الملكات و الحالات و هو يتحملها و يكون المصبّ لها جميعا أنه يحمل الشيء و ضده و القضية و نقيضها و قد ذكر موارد ينحرف فيها الإنسان و يتجاوز الحدود.

1 - فإن سنح له الرجاء أذله الطمع: إذا مرّ في خاطره أن فلانا يحقق له ما يرجوه و يصبو إليه تراه يخضع له و يذل نفسه من أجل أن يصل إلى ما يرجو... إن الطمع في الوصول إلى ما يرجو هو الذي يقوده إلى إذلال نفسه و إهانتها ثم إذا اشتد الطمع و ازداد و استفحل أمره يتحول إلى حرص قاتل لأن من حرص على شيء بذل نفسه في سبيل تحقيقه إن كان مفقودا و في الحفاظ عليه إن كان موجودا.

2 - و إن ملكه اليأس قتله الأسف: إن انسدت الأبواب في وجه مطلوبه و دب اليأس في قلبه حتى وصل إلى العمق فإن الحزن و الأسى سيقتله لأنه يعيش الكآبة الدائمة و تصبح بالنسبة له ملازمة فتتحول حياته إلى شقاء و عذاب و هو نوع من الموت إن لم يكن هو الموت كله.

3 - و إن عرض له الغضب اشتد به الغيظ: إذا ثار الغضب في نفسه فإنه قد يشتد إلى أن يحنق و يكاد ينفجر من شدته.

4 - و إن أسعده الرضى نسي التحفظ: إذا رضي عن حاله أو ماله و أقبلت عليه الدنيا من جهة نسي أن يصونها و يحفظها و يضعها موضعها فإذا أعطى المال و اطمأن إليه نسي المحافظة عليه بأداء الحق المعلق فيه و عدم استعماله في الحرام و هكذا إن أعطي صحة و ولدا و جاها.

5 - و إن غاله الخوف شغله الحذر: إن سيطر الخوف عليه و استولى على قلبه تراه يعيش الحذر و الخوف من كل شيء و كأن كل صيحة عليه فإن سيطر عنصر الخوف من المرض حذر من كل طعام وعده عدوا له و هكذا...

6 - و إن اتسع له الأمر استلبته الغرة: إذا وسع اللّٰه عليه في نفسه أو ماله بأن اطمأن إلى صحته أو إلى سعة ماله و كثرته فإنه يأمن غوائل الدهر و يروح في دعة و هناء لا يفكر

ص: 285

في تحصين ما عنده و إذا بالقدر يأتيه على حين غرة فيفاجئه بحادث يغير عليه مجرى حياته و يسلبه ما كان يعيش من الأمان...

7 - و إن أفاد مالا أطغاه الغنى: إن استغنى طغى مصداقا للآية الكريمة: «إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىٰ » و هذه رذيلة عدم المحافظة على النعمة فيحولها الإنسان إلى ضد الهدف التي كانت من أجله.

8 - و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع: إذا أصابته مصيبة فحلّ المرض في نفسه أو مات عزيز لديه من والد أو ولد تراه يصرخ و يضج و يتأوه حتى يذهب أجره لفقدانه الصبر و عدم الانضباط و لم يلتزم فيما أمر اللّٰه من الاعتدال و اتخاذ الصبر مطية يقطع عليها و بها جميع الحالات الصعبة...

9 - و إن عضته الفاقة شغله البلاء: إن افتقر و أملق استولى عليه الحزن و اشتد بلاؤه حتى أنساه نفسه.

10 - و إن جهده الجوع قعد به الضعف: إن جاع و اشتد به الجوع خارت قواه و هوى تحت و طأته ذليلا ضعيفا.

11 - و إن أفرط به الشبع كظته البطنة: إن أكل حتى تجاوز الحد فامتلأت بطنه زيادة عما تتحمله أتخمه الأكل و أضرّ به.

و بالجملة فكل تقصير به مضر من جوع أو حاجة أو جزع و غيرها كما أن كل إفراط به مضر من تخمة أو غنى فاحش أو غضب أو غيرها و بقي الحد الوسط و الاعتدال في الأمور دون إفراط أو تفريط هو الدواء المفيد لهذا الإنسان و به تتحقق سعادته...

109 - و قال عليه السلام: نحن النّمرقة (1) الوسطى، بها يلحق التّالي (2)، و إليها يرجع الغالي (3).

اللغة

1 - النمرقة: الوسادة.

2 - التالي: المفرّط المقصّر.

3 - الغالي: المبالغ في الأمر المجاوز للحد.

ص: 286

الشرح

شبّه أهل البيت بالوسادة الوسطى المعتدلة التي تريح من يتكىء عليها و إليها و أنه لا بد للناس لكي يسعدوا و ينجحوا من الرجوع إليهم و الاعتماد عليهم باعتبارهم أهل الحق و أئمة العدل يجب أن يعود إليهم المنحرف عن طريقتهم و المختلف عنهم كما يجب أن يرجع إليهم و إلى طريقتهم من تجاوز حدوده المفروضة و بهم يتحقق الاعتدال فالمقصر في حقهم مارق و المغالي بهم هالك و الحد الوسط هو الناجي.

110 - و قال عليه السلام: لا يقيم (1) أمر اللّٰه سبحانه إلاّ من لا يصانع (2)، و لا يضارع (3)، و لا يتّبع المطامع.

اللغة

1 - أقام الحق: أظهره و أقام الصلاة أتمها.

2 - المصانعة: المداراة و المداهنة.

3 - المضارعة: المشابهة أو من الضراعة بمعنى الخضوع.

الشرح

الذي يتولى أمور الأمة و يقيم أمر اللّٰه في العباد و البلاد يجب أن يكون قويا أمينا عادلا نزيها فهو قدوة الشعب و امامهم إليه تتجه الأنظار و به يقتدي الأخيار و قد وضع الإمام بعض الشروط لمن يتولى الأمر و هي:

1 - لا يصانع: أي لا يداهن و يداري الناس بالرشوة و الأمور الحرام ليكتسب و دهم على حساب الدين.

2 - لا يضارع: أي لا يذل و يخنع فإن الذليل لا يقيم حدود اللّٰه أو لا يشابه الكفار و المبطلين في أعماله و في سلوكه فإن ذلك يتنافى و الدين.

3 - و لا يتبع المطامع: لا ينقاد إلى الطامعين فيه من المسلمين فيستسلم لشهواتهم و أطماعهم و يعطل بذلك حدود اللّٰه...

ص: 287

111 - و قال عليه السلام، و قد توفي سهل بن حنيف الأنصاري بالكوفة بعد مرجعه معه من صفين، و كان أحب الناس إليه:

اشارة

لو أحبّني جبل لتهافت (1).

معنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه، فتسرع المصائب إليه، و لا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار و المصطفين الأخيار، و هذا مثل قوله عليه السلام: من أحبّنا أهل البيت فليستعدّ للفقر جلبابا.

«و قد يؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره».

اللغة

1 - تهافت: تصدع و تساقط.

الشرح

قال بعضهم في توضيح ما ذهب إليه الشريف من المعنى الآخر...

قال: قد ثبت أن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - قال له (لعلي): «لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق».

و قد ثبت أن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - قال: «إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور» و في حديث آخر «المؤمن ملقّى و الكافر موقّى» و في حديث آخر «خيركم عند اللّٰه أعظمكم مصائب في نفسه و ماله و ولده».

و هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة و هي أنه عليه السلام لو أحبه جبل لتهافت و لعل هذا هو مراد الرضي بقوله: «و قد يؤول ذلك على معنى آخر»...

112 - قال عليه السلام: من أحبّنا أهل البيت فليستعدّ للفقر جلبابا (1).

اللغة

1 - الجلباب: القميص أو الثوب الواسع.

ص: 288

الشرح

قد فسّره الشريف الرضي في الكلمة السابقة و قال: إنها و هذه الكلمة تؤديان نفس المعنى و أقول كأن ذلك من جهة أن أهل البيت يمثلون الحق و العدل و أكثر الناس على خلاف ذلك و ضده - و خصوصا الحكام الظلمة - فيلاقون تشريدا و تطريدا و قتلا و تنكيلا فضلا عن قطع أرزاقهم و عدم إعطائهم حقوقهم و هكذا...

و إن نظره سريعة إلى ما مضى و مر على شيعة أهل البيت يكشف بعض ما أقول...

113 - و قال عليه السلام: لا مال أعود (1) من العقل، و لا وحدة (2) أوحش (3) من العجب (4)، و لا عقل كالتّدبير (5)، و لا كرم كالتّقوى، و لا قرين (6) كحسن الخلق، و لا ميراث كالأدب، و لا قائد كالتّوفيق، و لا تجارة كالعمل الصّالح، و لا ربح كالثّواب، و لا ورع كالوقوف عند الشّبهة، و لا زهد كالزّهد في الحرام، و لا علم كالتّفكّر، و لا عبادة كأداء الفرائض (7)، و لا إيمان كالحياء و الصّبر، و لا حسب (8) كالتّواضع، و لا شرف كالعلم، و لا عزّ كالحلم، و لا مظاهرة (9) أوثق من المشاورة.

اللغة

1 - أعود: أنفع.

2 - الوحدة: الانفراد بالنفس.

3 - أوحش: من الوحشة التي هي ضد الأنس.

4 - العجب: بضم العين الإعجاب بالنفس.

5 - التدبير: تنظيم الأمر، أو التفكر فيما يكون في عاقبته.

6 - القرين: الصاحب.

7 - أداء الفرائض: القيام بالواجبات.

8 - الحسب: شرف الأصل، ما يعدّ من مفاخر الآباء.

9 - المظاهرة: المعاونة.

ص: 289

الشرح

كلمات قصار تحمل المعاني الكبار... إنها عبارات كريمة كل واحدة منها عصارة تجارب طويلة و أيام مديدة.

1 - لا مال أعود من العقل: العقل هو رأس المال الذي به يستطيع الإنسان أن يكتسب كل شيء، يكتسب المال و المقام و الجاه و السلطان و إذا فقده فلا يستطيع أن يحصل إلا على الشقاء و التعب و العذاب و كم من عاقل جرّ لنفسه العظمة و اكتسب المال و ربح السلطان و كم من صاحب مال ضيّع ماله لقلة عقله و كم من ملك ضيّع ملكه لقلة عقله و سوء تصرفه...

2 - و لا وحدة أوحش من العجب: العجب إعظام النفس لما يرى فيها حقيقة أو ادعاء و هو من المهلكات و قد ورد التحذير منه فقد جاء عن رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) ثلاث مهلكات: «شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه».

و العجب يوجب مقت الناس لأن المعجب يرى نفسه اعظم منهم و أعلى فيجافيهم و يقابلونه بالمثل فينفرد و يعيش الوحشة لأنه لا يرى أحدا يقاربه في فضائله فيذهب بعيدا لا يلتقي مع الناس و لا يعيش معهم...

3 - لا عقل كالتدبير: تصريف الأمور و وضعها مواضعها و معرفة كيف يحافظ على القضايا و الأشياء و استغلال كل صغيرة و كبيرة كل ذلك من أعظم موارد العقل و مصاديقه فكم من غني سيئ التدبير لا يستطيع استثمار أمواله و الحفاظ عليها و كم من قليل المال استطاع بلباقته و حسن تدبيره تنمية ماله و زيادة ثروته.

4 - و لا كرم كالتقوى: فإن أكرم الناس و أشرفهم أتقاهم قال تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ » .

5 - و لا قرين كحسن الخلق: أفضل الأصحاب و خير من تصاحب حسن الخلق فإنه يجر وراءه كل الصفات الطيبة و يجمع لصاحبه الناس و يحببهم به و ما رأيت صاحب خلق حسن إلا و رأيت الناس حوله و له...

6 - و لا ميراث كالأدب: الآباء يتركون للأبناء ميراثا من مال و دور و قصور و عقارات و مكانة و منزلة و الإمام هنا يعلّمك أن أفضل ميراث تتركه لمن بعدك الأدب أن تعلم أبناءك احترام الناس و إعانتهم و سد عوزهم، و أن يكونوا أمناء أوفياء... أن تجعل من نفسك مدرسا للأجيال بحسن الأدب و السلوك.

ص: 290

7 - و لا قائد كالتوفيق: التوفيق هو التسديد من اللّٰه و تسهيل الأمور لتحصيل المطلوب و إذا كان التوفيق حليف إنسان تراه يشق الصخر و يمخر عباب البحر و يحصل على مطلوبه و إذا أردنا أن نثني على إنسان نقول له: إنه موفق...

8 - و لا تجارة كالعمل الصالح: لأن العمل الصالح يدوم أجره و ثوابه بينما الأعمال الأخرى ليس فيها ذلك فمن هنا كان العمل الصالح ثمرته الجنة و ربحه الدار الآخرة...

9 - و لا ربح كالثواب: لأن أرباح الدنيا إلى زوال و فناء و تتعرض للخسران أو تبقى للوراث بينما الثواب هو الذي يدخره الإنسان ليوم حاجته و فاقته و به تكون سعادته...

10 - و لا ورع كالوقوف عند الشبهة: الورع حالة نفسية تستدعي من صاحبها أن يبتعد عن الحرام فلا يرتكبه كما يستدعي منه أن لا يترك واجبا و أشد درجات الورع و أعظمها أن يجتنب مواضع الشبهات التي يحتمل أن يقع في بعض أفرادها في الحرام دون شعور أو علم فمن يجتنب عن الشبهة لاحتمال وجود الحرام فيها فهو عن الحرام أشد اجتنابا فيكون أورع الناس و أتقاهم.

11 - و لا زهد كالزهد في الحرام: فليس الزهد أن يمتنع عن أكل الطيبات من الحلال و إنما الزهد أن يمتنع عن الحرام و هو أفضل من لبس الخشن و أكل الجشب في كثير من الأحيان...

12 - و لا علم كالتفكر: لأن التفكر يوصل إلى الحقيقة و يؤدي إلى العمل و أما مجرد الحفظ عن ظهر قلب دون تدبر أو تفكر فهو آلة تسجيل ينقل ما هو موجود دون أن يؤثر أو يتأثر و لا فائدة مهمة فيه.

13 - و لا عبادة كأداء الفرائض: لأن الفرائض هي الواجبة عليك و التي تسأل عنها يوم القيامة فمن أداها فقد أدى أفضل عباداته من نوافل و سنن.

14 - و لا إيمان كالحياء و الصبر: الإيمان المقرون بالحياء و الصبر هو الإيمان الكامل لأن المؤمن يستحي من اللّٰه فيترك الحرام و يستحي من الناس فلا يعمل ما يشينه و يهينه أو يسقطه من أعين الناس و هكذا دواليك..

و كذلك الصبر فإن المؤمن يصبر على البلاء و على المصائب و يصبر على مشقة التكاليف و هكذا مع الصبر يذلل الصعاب و يدرك ما يتمنى.

15 - و لا حسب كالتواضع: فإن شرف الآباء و إن كان يعلو به الإنسان و يكبر و لكن بالتواضع يرتفع و يعلو أكثر لأن الأول جاء بالميراث و الثاني بالاكتساب و ما كان

ص: 291

عن الطريق الثاني أشرف و أفضل...

16 - و لا شرف كالعلم: فإن العلم يرفع الخامل و يأخذ بيد الفقير إلى الغنى و الاحترام و يشرف الحقير و يدل على كل خير و هو باب كل فضيلة و شرف كل شرف.

17 - و لا عز كالحلم: فالترفع عن السفيه و العفو عن المسيء و الإغضاء عن المؤذي يعز المرء و يرفعه في الدنيا و الآخرة...

18 - و لا مظاهرة أوثق من المشاورة: من شاور الناس شاركهم في عقولهم و استطاع أن يدرك وجه الصواب فيما يصبو إليه و يريد، فالمشاورة نعم المعين و النصير لإدراك ما يريد الإنسان و يطلب.

114 - و قال عليه السلام: إذا استولى (1) الصّلاح على الزّمان و أهله، ثمّ أساء رجل الظّنّ برجل لم تظهر منه حوبة (3) فقد ظلم! و إذا استولى الفساد على الزّمان و أهله، فأحسن رجل الظّنّ برجل فقد غرّر (4)!.

اللغة

1 - استولى عليه: غلبه و تمكّن منه.

2 - استولى على الشيء: صار الشيء في يده.

3 - الحوبة: الإثم.

4 - غرّر: أوقع نفسه في الغرر و هو الخطر.

الشرح

إذا كان المجتمع صالحا و الأمة ورعة تقية فلا يجوز لك أن تظن بأحد سوءا إلا إذا ظهرت منه سيئة أو معصية.

و إذا انعكس الأمر فكان الزمان زمان الأشرار و الفجار و الضلال و الانحراف و عاشت الأمة بعيدة عن اللّٰه ثم أحسن المرء ظنه بالناس فقد أوقع نفسه بالضرر و الهلاك لأن الغالب هو الفساد... فالمعيار لحسن الظن بالناس و لسوء الظن بهم صلاح المجتمع و فساده...

ص: 292

115 - و قيل له عليه السلام: كيف نجدك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: كيف يكون حال من يفنى ببقائه، و يسقم (1) بصحّته و يؤتى من مأمنه (2)!.

اللغة

1 - السقم: المرض.

2 - المأمن: أماكن الأمن و السلامة.

الشرح

أجاب عليه السلام بموعظة بليغة تنبه الإنسان إلى عدم الاطمئنان لشيء من أمور الحياة و ما فيها و لا يعتمد على شيء منها... فلا تغره الصحة و لا الأمان و لا طول البقاء فإنه قد يؤتى من قبلها جميعا... قد يأتي الهمّ و الألم و العذاب من هذه الجهات...

كيف يكون حال من يفنى و يزول ببقائه فهو على قيد الحياة و أيامه تنقضي و تتصرم و كلما كبر عمره دنى أجله و أيضا بينما هو صحيح إذ به يحمل جراثيم المرض و آفات البدن و ثالثا بينما هو في دعة و أمان إذ بالموت يجهز عليه و يقضي على وجوده و في هذه الأمور عبرة و عظة.

116 - و قال عليه السلام: كم من مستدرج (1) بالإحسان إليه، و مغرور (2) بالسّتر عليه، و مفتون بحسن القول فيه! و ما ابتلى (3) اللّٰه أحدا بمثل الإملاء له (4).

اللغة

1 - المستدرج: المأخوذ على غرة و استدرجه إلى كذا قرّبه إليه.

2 - المغرور: المخدوع.

3 - ابتلي: امتحن.

4 - الإملاء: الإمهال و تأخير المدة.

ص: 293

الشرح

هذه عيوب يجب على المرء أن يتنبه لها و يجتنب عنها.

1 - كم من مستدرج بالإحسان إليه: فكم من شخص أحسن اللّٰه إليه بالنعم المتتالية فأكثر له المال و الأولاد و أعطاه الجاه و هو مع ذلك يتمرد على ربه و يتمدد في معصيته و لا يشكر نعمته فهذا الإمهال من اللّٰه و التأخير في أخذه إنما كان استدراجا له لينال العذاب الشديد فيأخذه اللّٰه أخذ عزيز مقتدر على حين غفلة منه فيفقد كل ما بيده و يرد إلى ربه ليعذبه بها عذابا شديدا...

2 - و مغرور بالستر عليه: و هذا عيب آخر فكم من مغرور يعصي اللّٰه فيستر اللّٰه عليه عيوبه لعله يرجع أو يتوب و لكنه يتمادى في غيّه و يزداد من إثمه حتى تأتي الساعة فيكشف اللّٰه سوءته و يفضحه على رءوس الأشهاد و يشهّر به و هو في بيته...

3 - و مفتون بحسن القول فيه: و هذا من العيوب الكبيرة فكم من إنسان إذا مدحته و أثنيت عليه و أطريته أخذه الزهو فتكبر و تجبر و أفتتن و امتنع عن زيادة الفضل و اكتساب المكارم...

4 - و ما ابتلى اللّٰه أحدا بمثل الإملاء له: و هذا أشد الإبتلاءات إنه الإبتلاء بالإملاء بأن يعطي اللّٰه للإنسان و يمدّ له في العطاء و لا يؤاخذه بشيء منها حتى يزداد إثما و تتضاعف عقوبته و هو يحسب أن عطاء اللّٰه له إنما كان محبة منه له.

117 - و قال عليه السلام: هلك فيّ رجلان: محبّ غال (1)، و مبغض قال (2).

اللغة

1 - الغلو: تجاوز الحد.

2 - القالي: المبغض الشديد البغض.

ص: 294

الشرح

هذا الكلام من الإمام تحقق فعلا فهلك في حب الإمام و بغضه رجلان:.

هلك المحب الغالي الذي رفعه إلى منزلة الألوهية و مثل هذا الإنسان عاد مشركا باللّٰه و هذا موجود عند بعض الغلاة الذين رأوا من خوارق العادات التي جاءت على يديه و الكرامات التي تحققت منه و صدرت عنه فاستحكمت الشبهة عندهم دون قصد و لم تتحمل عقولهم أن ترى هذه الخوارق فضلّت و انحرفت و هلكت.

و هلك أيضا رجل مبغض للإمام لأن حب أهل البيت و على رأس أهل البيت سيدهم الإمام علي من مسلمات الدين و بديهيات الشريعة بل جعلت محبة أهل البيت أجرا للرسالة و من هنا كان الاعتدال هو المطلوب و محبتهم فرض واجب.

118 - و قال عليه السلام: إضاعة الفرصة (1) غصّة (2).

اللغة

1 - أضاع الشيء: فقده و لم يحفظه.

2 - الغصة: الشجى في الحلق.

الشرح

رب فوات ساعة بقيت حسرتها إلى قيام الساعة فإذا توفرت لك فرصة فأضعتها و لم تغتنمها ندمت على فواتها أشد الندامة و إذا لمعت في الأفق برقة استطعت أن تنقل خلالها قدميك فانقلها و لا تتأخر فلسوف تندم و تعجز.

و قد قيل: «الفرص تمر مر السحاب فاغتنموها».

119 - و قال عليه السلام: مثل الدّنيا كمثل الحيّة ليّن (1) مسّها (2)، و السّمّ النّاقع (3) في جوفها (4)، يهوي (5) إليها الغرّ (6) الجاهل، و يحذرها ذو اللّبّ (7) العاقل!.

اشارة

ص: 295

اللغة

1 - اللين: الطري الناعم.

2 - مسّ الشيء: لمسه.

3 - السم الناقع: السم القاتل البالغ.

4 - الجوف: البطن، الداخل.

5 - يهوي إليها: يطلبها.

6 - الغر: بالكسر الشاب لا خبرة له.

7 - ذو اللب: صاحب العقل.

الشرح

شبه الدنيا بالحية و وجه الشبه جمال ظاهرهما و قبح باطنهما، فالحية لين مسها طري جلدها يحسبها الأعمى و الجاهل أنها حرير ناعم فيندفع نحوها لأخذها و تناولها بينما هي تحوي في باطنها السم القاتل إذا استحكمت منه لسعته و قضت عليه.

و أما الدنيا فظاهرها أنيق يتراىء نعيمها للعيون بهجة و سرورا و لذتها يحسبها الإنسان أنها تخلد و تدوم و لكن ما أن يتنعم و يتلذذ حتى يأتي الحساب الأليم و العذاب الشديد فهي تغره و تضره حيث تحرفه إلى طريق الضلال و الفساد و يرتكب عن طريقها الحرام و عصيان الملك الديان...

و الإمام يقصد من الدنيا هذه هي الدنيا المنقطعة عن الآخرة التي يريدها الإنسان من الحرام و كيف حصلت و يريد أن يستعملها في الحرام و الفساد فهو عليه السلام يحذرنا من الاطمئنان إليها و الاستسلام لها...

120 - و سئل عليه السلام عن قريش فقال: أمّا بنو مخزوم فريحانة (1) قريش، نحبّ حديث رجالهم، و النّكاح في نسائهم. و أمّا بنو عبد شمس فأبعدها رأيا، و أمنعها لما وراء ظهورها. و أمّا نحن فأبذل (2) لما في أيدينا، و أسمح عند الموت بنفوسنا، و هم أكثر و أمكر و أنكر (3)، و نحن أفصح و أنصح و أصبح.

اشارة

ص: 296

اللغة

1 - الريحان: كل نبت طيب الريح.

2 - البذل: العطاء.

3 - أنكر: أشد لفعل المنكرات و هي الفواحش.

الشرح

هذا سؤال توجه للإمام و أجاب عنه بذكر أهم بطون قريش و هم بنو مخزوم و بنو عبد شمس و بنو هاشم و ذكر لكل بعض خصوصياته فأشار:

1 - أما بنو مخزوم فريحانة قريش من حيث جمالهم و حالهم و دلالهم و غض قوامهم و في حديث رجالهم أنس و له حلاوة و لذة فلذا يأنس الإنسان بهم و أما نسائهم فإنهن طيبات العشرة لينات العريكة سهلات الانقياد مطيعات يسعدن أزواجهن و يؤدبن أبنائهن...

2 - و أما بنو عبد شمس و منهم أبو سفيان و من خلفه ذريته فرأيها يذهب بعيدا يدور خلف المنافع و الفوائد تستقصي الأمور لتصدر رأيها و فيهم أيضا حمية الدفاع عن أنفسهم و الثأر لها كما وقع ليزيد حيث ثأر لقتلى بدر من أهله في حربه للحسين بن علي و قتله و قتل أهل بيته و من معه من المسلمين و قال يومها: يوم بيوم بدر...

3 - و أما نحن بنو هاشم رهط النبي و عشيرته و أهله فأسخياء كرماء و فيهم أنزل اللّٰه قوله: «وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً» .

و كذلك نحن أهل الجهاد و التضحية و الشهادة فهناك جعفر و حمزة و عبيدة و سيد الشهداء الحسين بن علي.

ثم ذكر فرقا مهما بين بني هاشم و بني أمية فذكر أن بني أمية أكثر عددا و لكنهم أشد مكرا و حيلا فهم سادة في الخداع و الضلال و تمويه الأمور على البسطاء و كذلك هم أنكر فهم أهل المنكرات و الموبقات حيث كانت نسائهن لا يدفعن يد لامس و كان رجالهم في المقابل يطلبون البغايا دون تورع أو تعيب.

بينما في المقابل بنو هاشم أفصح لسانا و أقوى بيانا و أشدهم نصحا للّٰه و رسوله و لعامة الناس أجمعين و كذلك أصبح الناس وجوها...

ص: 297

121 - و قال عليه السلام: شتّان (1) ما بين عملين: عمل تذهب لذّته و تبقى تبعته (2)، و عمل تذهب مئونته (3) و يبقى أجره.

اللغة

1 - شتان: اسم فعل بمعنى بعد.

2 - التبعة: الإثم.

3 - مئونته: كلفته و أتعابه.

الشرح

الفرق شاسع و بعيد بين عمل تذهب لذته و تبقى تبعته كمن يزني فإنه يأخذ لذته لحظة قصيرة من عمر الزمن و لكن أثر ذلك يبقى يلاحقه ففي الدنيا قد يأتي بابن الخطيئة الذي يشير إليه و إلى رذيلته باستمرار و في الآخرة عذاب اللّٰه و عقوبته...

و بين عمل آخر تذهب مئونته أي أتعابه و مشقاته و يبقى أجره و ثوابه كمن يحجب سفك دم أو يدفع فتنة فإن ذلك و إن كان فيه مشقة لكنها تذهب و يبقى الأجر إذا ففرق كبير بين العملين و العاقل يختار ما ينفعه في آخرته و دنياه معا.

122 - و تبع جنازة فسمع رجلا يضحك، فقال: كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، و كأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب (1)، و كأنّ الّذي نرى من الأموات سفر (2) عمّا قليل إلينا راجعون! نبوّئهم (3) أجداثهم (4)، و نأكل تراثهم (5)، كأنّا مخلّدون بعدهم! ثمّ قد نسينا كلّ واعظ و واعظة، و رمينا بكلّ فادح (6) و جائحة (7).

اللغة

1 - وجب: ثبت.

2 - سفر: مسافرون.

ص: 298

3 - الأجداث: القبور.

4 - تراثهم: ميراثهم، تركتهم.

5 - نبوئهم: ننزلهم.

6 - الفادح: ما أثقل الكاهل و بهظه و الفادح الصعب و الفادحة المصيبة.

7 - الجائحة: الآفة تهلك الأصل و الفرع.

الشرح

المشهد رهيب إنسان يغادر الدنيا يحمل جنازته الناس و عادة تأخذ الجميع رهبة و تفكر و خشية وردة إلى اللّٰه و لكن هناك من يكون في غفلة فينطلق في أجواء هذا المشهد الرهيب ينطلق في الضحك و تصل تلك الضحكات إلى مسامع الإمام فيقول هذه الكلمات بما تحمل من عظة و عبرة...

بادر إلى استفهام إنكاري يقرر من خلاله حقيقة تمر علينا جميعا كأن الموت فيها على غيرنا كتب فلذا نضحك و الموتى على أكتافنا.

و كأن الحق فيها على غيرنا وجب و الموت حق و الحساب و العذاب و العقاب كلها حقوق كأنها لغيرنا وجبت و ثبتت أما نحن فلا يطالنا شيء منها...

ثم بعد ذلك حكى قصة هؤلاء الراحلون و استنكر أن يكونوا في سفر لتجارة أو حج أو زيارة و بعد قليل سيعودون إلينا و كيف يكونون كذلك و نحن ننزلهم قبورهم و ندفنهم فيها و نقسم أموالهم و نوزع تركتهم إذ لو كانوا أحياء في سفر يعودون منه لما صح ذلك و لكن بما أننا نفعله إذا لا يعودون و لا يرجعون و نحن نستعمل معهم أسلوب من لا يعودون أبدا.

و أخيرا قال لنا: إن سهام الآفات التي تجتاح الأصل و الفرع هي في كل يوم تصيبنا فأرض تبلع في كل يوم عزيز تقضي على الأصول من الآباء و الأجداد و تأتي على الفروع الأبناء و الأحفاد و من كان عاقلا احترز و تأهب و استعد...

123 - و قال عليه السلام: طوبى (1) لمن ذلّ في نفسه، و طاب كسبه (2)، و صلحت سريرته (3)، و حسنت خليقته (4)، و أنفق الفضل (5) من

اشارة

ص: 299

ماله، و أمسك الفضل من لسانه، و عزل عن النّاس شرّه، و وسعته السّنّة، و لم ينسب إلى البدعة.

قال الرضي: أقول: و من الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول اللّه - صلّى اللّٰه عليه و آله -، و كذلك الذي قبله.

اللغة

1 - طوبى: سعادة و خير.

2 - الكسب: ما يكتسبه الإنسان و يجمعه من المال.

3 - السريرة: جمعها سرائر ما يكتمه الإنسان.

4 - الخليقة: الخلق و الطبيعة.

5 - الفضل: الزيادة.

الشرح

طوبى أي كل سعادة و هناء و خير لمن كانت هذه أعماله و صفاته و هذا إما دعاء من الإمام أو إخبار عن واقع ما سيصل إليه هؤلاء الأخيار و هم أصناف.

1 - طوبى لمن ذل في نفسه: الذلة في النفس أن يستشعر الإنسان أنه صغير أمام اللّٰه العزيز القدير...

إنه يعيش حالة التواضع و الالتزام فيعطف و يرق يحمل نفسا شفافة رقيقة تتأثر لكل مشهد من مشاهد الضعفاء و المظلومين... و بمقدار ذلة النفس بهذا التفسير يكون المرء عزيزا أمام الكافرين قويا عليهم شديدا في مواجهتهم...

2 - و طاب كسبه: طوبى لمن اتخذ السبل المشروعة لاكتساب ماله... إنه ينظر إلى السبل التي أباحها الشارع فيسلكها فلا يأكل مال الناس بالباطل و لا يتخذ الربا و الغش و السرقة و غيرها طرقا لاكتساب المال و إنما يأكل المال من كد يمينه و عرق جبينه.

3 - و صلحت سريرته: فلا يحمل غلا على الذين آمنوا و لا ينصب لهم عداء و لا ينوي لهم شرا... من صلحت سريرته تمنى الخير لكل الناس و فرح بكل أمر يسعدهم و تأثر لكل أمر يحزنهم.

4 - و حسنت خليقته: طبيعته طيبة ليّنة تستجيب للخيرات و تكره الشر و الأشرار.

ص: 300

5 - و أنفق الفضل من ماله: ما زاد عن حاجته أدى ما وجب فيه من الحق الشرعي من الخمس و الزكاة و الصدقات للأيتام و المساكين و الفقراء...

6 - و أمسك الفضل من لسانه: فهناك مقدار يتحرك فيه اللسان إنه بمقدار الواجب و المستحب و أما الزيادة فيرفضها و يمتنع عن الحديث فيها فلا يهذي و لا يثرثر و لا يسب و لا يشتم.

7 - و عزل عن الناس شره: أراح الناس من شره فكانوا في أمن و أمان من جهته لا يلحقهم منه أذى أو شر.

8 - و وسعته السنة: قبل ما جاء به النبي و الأئمة و كان له فيما جاء عنهم كفاية.

9 - و لم ينسب إلى البدعة: ففي مقابل قبوله بالسنة رفض البدعة و لم يقبل بشيء يخالف هذه السنة أو يهدمها بل من واجب المسلم أن يحارب البدعة و يرفعها بكل الوسائل و شتى الطرق...

124 - و قال عليه السلام: غيرة (1) المرأة كفر، و غيرة الرّجل إيمان.

اللغة

1 - الغيرة: بالكسر نفرة تكون عن بخل مشاركة الغير في أمر محبوب له (مجمع البحرين للطريحي).

الشرح

باختلاف المصدر يتبدل الحكم: فإن صدرت الغيرة من المرأة كان الكفر من حيث إنها إذا غارت ذهبت إلى تحريم ما أحل اللّٰه فهي تحرم على الزوج تعدد الزوجات و هذا قد يستدعي إنكار تشريع ثابت من ضروريات دين الإسلام و هو موجب للكفر و أما إذا كان الرجل غيورا فإن ذلك علامة الإيمان من حيث إنه لا يرضى لأحد من الرجال أن يشترك معه في زوجته أو يمسها أو يتطلع إليها بنظرة مريبة و هذا من أسّ الإيمان و قواعده و كذلك من الإيمان أن يغار عليها من التبذل...

125 - و قال عليه السلام: لأنسبنّ (1) الإسلام نسبة لم ينسبها أحد

اشارة

ص: 301

قبلي. الإسلام هو التّسليم، و التّسليم هو اليقين، و اليقين هو التّصديق، و التّصديق هو الإقرار (2)، و الإقرار هو الأداء (3)، و الأداء هو العمل.

اللغة

1 - نسب الرجل: وصفه و ذكر نسبه.

2 - الإقرار: الاعتراف.

3 - أداه: أوصله.

الشرح

هذا الكلام من الإمام حضّ على العمل و الالتزام بأحكام الإسلام و أن من يدعي الإيمان يجب أن يقرن دعواه بالعمل.

و الإمام هنا يفرّق بين الإسلام الظاهري التي تجري عليه المواريث و تحل المناكح و تحقن الدماء من حيث إن هذه تجري على كل من نطق بكلمة لا إله إلا اللّٰه محمد رسول اللّٰه حتى لو كان في باطنه كافرا أو منافقا يفرّق الإمام بين هذا و بين من قالها بحقها و حقيقتها معتقدا بها مؤمنا بصحتها.

فالإسلام هو التسليم لأمر اللّٰه و حكمه فلا مناقشة و لا احتجاج على أي حكم و إن خالف هواك و لم يوافق ذوقك أو مصلحتك.

و التسليم هو اليقين و الاطمئنان القلبي.

و اليقين هو التصديق بكل ما جاء به و أنه لأجل مصلحة الإنسان و سعادته.

و التصديق هو الإقرار و الاعتراف و إعلان ذلك أمام الملأ.

و الإقرار هو الأداء فمن أقر بشيء أداه لصاحبه و الأداء هو العمل...

فالمسلم عامل بكل ما أراد اللّٰه منه منفّذ لحكمه ملتزم بكل صغيرة و كبيرة صدرت عنه و هذا هو الإسلام الذي يكافأ عليه معتقده بالجنة و به يفرّق بينه و بين المنافق...

126 - و قال عليه السلام: عجبت للبخيل يستعجل الفقر الّذي منه

اشارة

ص: 302

هرب، و يفوته الغنى الّذي إيّاه طلب، فيعيش في الدّنيا عيش الفقراء، و يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، و عجبت للمتكبّر الّذي كان بالأمس نطفة (1)، و يكون غدا جيفة (2)، و عجبت لمن شكّ في اللّٰه، و هو يرى خلق اللّٰه، و عجبت لمن نسي الموت، و هو يرى الموتى، و عجبت لمن أنكر النّشأة الأخرى، و هو يرى النّشأة الأولى، و عجبت لعامر دار الفناء و تارك دار البقاء.

اللغة

1 - النطفة: الماء الذي يتكوّن منه الولد.

2 - الجيفة: الجثة المنتنة.

الشرح

هذه أمور تعجّب منها الإمام و أراد من خلال تعجبه أن يحذرنا منها و ينفرنا عنها و يرغبنا في أضدادها.

1 - هذا أول ما يثير العجب أنه البخيل الذي يجمع المال و العقار و يبخل على نفسه بالقليل من الزاد... إنه يجمع و يبخل و يريد من وراء ذلك أن يهرب من الفقر المتوقع فإذا به يقع في الفقر فعلا بعمله، إنه لا يأكل طيبا و لا يلبس جيدا و لا يشرب لذيذا إنه يعيش حياة الفقراء الذين لا تتوفر لهم مقومات الحياة و لكنه يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء الذين جمعوا و كنزوا و سيسأل يوم القيامة عن أسباب بخله و أنه لم يكن إلا عن سوء ظنه باللّٰه فيلقى في جهنم...

2 - عجبت للمتكبر الذي كان بالأمس نطفة و يكون غدا جيفة: هذه التفاتة عجيبة من الإمام... إنه يريد أن يرد هذا المتكبر المتعاظم الذي ينتفخ كبرا يريد أن يرده إلى أصله و يصغّره إلى أن ينزع تكبره و يعود إلى طبيعته... هذا المتكبر الذي تراه يتعالى قد تكوّن بالأمس من نطفة حقيرة و هو ماء الرجل و المرأة... كان تكوينه من نطفة يغسل الإنسان يده و بدنه من نجاستها و أما غدا و ما أدراك ما يحمل الغد لهذا المتكبر... إنه سيتحول بالموت إلى جيفة نتنة تتقزز منها النفس و يسرع إلى مواراتها تحت الثرى خوف

ص: 303

انتشار رائحتها و أذية الناس فيها... و الإنسان أي إنسان إذا لاحظ مبدأ تكوينه و منتهى ما سينتهي إليه طأطأ رأسه و انحنى تواضعا و خشية.

3 - و عجبت لمن شك في اللّٰه و هو يرى خلق اللّٰه: و هذا أمر عجيب أن يقف الإنسان في مرحلة شك باللّٰه و أفعاله و صنعه و حكمته و صفاته و هو يرى خلقه من سماوات مبنية و أرض مدحية... يرى دقة الصنع و التكوين من الذرة إلى المجرة... يرى الحكمة الدقيقة في أصغر المخلوقات فإن ذلك الصنع يدل على الصانع و يحكي عن حكمته و علمه...

4 - و عجبت لمن نسي الموت و هو يرى الموتى: و مما يبعث العجب أن هذا الإنسان يحمل في كل يوم جنازة و يشيّع عزيزا، و يدفن صديقا و مع ذلك ينسى مصيره و لا يتأهب لتلك الساعات الصعبة التي ستحل به و تتركه جثة هامدة... و هذه دعوة إلى أن يبقى الموت أمام عيون الناس لأنهم إليه صائرون و من هذا ينطلقون ليجيدوا أعمالهم و يحققوا ما يعزّهم في آخرتهم.

5 - و عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى و هو يرى النشأة الأولى: بعض الناس لا يكتفي بالشك بالحساب و العقاب و أن اللّٰه سيعيدنا بل ينطلق لإنكار الإعادة للحساب و هذا بعينه يرى كيف كان تكوينه و نشأته و كيف تدرج حتى أصبح رجلا... ينكر الإعادة للحساب لحسابات خاطئة توهمها فراح ينسج عليها إنكاره و لكنه لو التفت إلى تكوينه وصل إلى الحقيقة من أن اللّٰه الذي ابتدأه من لا شيء قادر على إعادته و قد صار شيئا...

قال تعالى: «وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » .

6 - و عجبت لعامر دار الفناء و تارك دار البقاء: و هذا مما يثير العجب أن هذا الإنسان يعكس القضايا و يقلبها رأسا على عقب تراه يبني في الدنيا دورا و قصورا وجاها و سلطانا و هو يعرف أنه سيرحل عن كل ما يبني و سيتخلى قهرا عنه و يتركه للوارث و مع ذلك يبني بينما يترك عمارة الآخرة و ما يبقى و يدوم له فيها... تنبيه إلى كل فرد أن يعكس الأمر فيبني الدار الآخرة التي هي دار الخلود له و لما يبنيه و يترك الدنيا الفانية الزائلة.

127 - و قال عليه السلام: من قصّر في العمل ابتلي بالهمّ (1)، و لا حاجة اللّٰه فيمن ليس للّٰه في ماله و نفسه نصيب (1).

اشارة

ص: 304

اللغة

1 - الهمّ : الحزن.

2 - نصيب: سهم.

الشرح

(من قصر في العمل ابتلي بالهم) هذه صورة الإنسان العاقل الذي يقف أمام تقصيره ليحاسب نفسه و يلومها على تقصيره فيحزن لما أصابه و ما وقع منه و لا يرفع همه إلا أن يجبر تقصيره بعمل يعوّض به هذا التقصير...

(و لا حاجة للّٰه فيمن ليس للّٰه في ماله و نفسه نصيب) اللّٰه هو الغني المطلق و من لم يكن للّٰه من الناس في ماله نصيب من زكاة أو خمس فلم يؤدها و لم يكن للّٰه في نفسه نصيب أي جهاد من أجل اللّٰه و في سبيله و في سبيل الدفاع عن دينه فإن اللّٰه لا ينظر إليه...

و قيل: يمكن أن يكون هذا كناية عن التعرض للبلاء و النقص في المال أو النفس... أي إن الإنسان مبتلى في نفسه و ماله و من لم يبتل فيهما فاللّٰه غني عنه و لم يرض عليه...

128 - و قال عليه السلام: توقّوا (1) البرد في أوّله، و تلقّوه (2) في آخره، فإنّه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار، أوّله يحرق، و آخره يورق (3).

اللغة

1 - توقوا: احترزوا و تجنبوا.

2 - تلقوه: استقبلوه.

3 - أورق الشجر: ظهر ورقه.

ص: 305

الشرح

دعوة للصحة و تخوف من الابتلاء بالمرض من جراء عدم الوقاية و التحفظ..

توقوا من البرد و احترزوا منه، و خذوا الاحتياط له ففي أول فصل الخريف ينبغي أن يستعد الإنسان و يأخذ الإجراءات التي تحميه من البرد و ذلك باعتبار أن الجسم قد تعّود طيلة فصل الصيف على الحر فإذا فاجأه البرد أصيب بالمرض و ذلك عكس تلقيه في آخره و هو فصل الربيع فإن البدن قد تعود على البرودة و هواء الربيع لطيف خفيف ليس فيه قساوة الشتاء و لا حرارة الصيف فينتعش الجسم و يصح و قد علله الإمام بهذه العلة اللطيفة و أنه يفعل في الأبدان كما يفعل في الأشجار و كيف أنه في أول الشتاء يحرق الورق و يسقطه و كيف أنه في آخره في أيام الربيع يورقها و تعود إليها الحياة فتنتعش فهكذا يفعل في الأجسام.

129 - و قال عليه السلام: عظم الخالق عندك يصغّر المخلوق في عينك.

الشرح

بمقدار ما يتعمّق الإيمان باللّٰه في نفسك و يعظم اللّٰه في عينك يصغر ما دونه من المخلوقات في عينك فمهما كان الإنسان طاغيا جبارا ظالما يكون صغيرا حقيرا ذليلا لأنك ترى اللّٰه في نفسك فوق كل شيء و بيده كل شيء و هذا الطاغية ما هو إلا ذرة صغيرة يمحقها اللّٰه و يقضي عليها بلحظة واحدة... الطاغية بجبروته و ظلمه يتحول أمام اللّٰه إلى هشيم محطم تذروه الرياح، هذا النظر بالنسبة إلى الطواغيت أما بالنسبة إلى عباد اللّٰه و أهل طاعته فهم يكبرون في عينك و يجب أن تكون منازلهم جليلة عندك لأنهم أهل طاعة اللّٰه و منفذي أمره و تقديرهم و احترامهم و إجلالهم يعود إلى تقدير اللّٰه و إجلاله و احترامه لهم... و فرق كبير بين المطيعين و العاصين و الجبارين و المنقادين.

130 - و قال عليه السلام، و قد رجع من صفين، فأشرف على القبور بظاهر الكوفة:

اشارة

ص: 306

يا أهل الدّيار الموحشة (1)، و المحالّ (2) المقفرة (3)، و القبور المظلمة، يا أهل التّربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط (4) سابق، و نحن لكم تبع (5) لاحق. أمّا الدّور (6) فقد سكنت، و أمّا الأزواج فقد نكحت، و أمّا الأموال فقد قسمت. هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم ؟.

ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ «خير الزّاد التّقوى».

اللغة

1 - الموحشة: من الوحشة و هي ضد الأنس.

2 - المحال: جمع محلّ و هو المكان.

3 - أقفر المحل: خلى من الناس.

4 - الفرط: بالتحريك المتقدم.

5 - التبع: التابع.

6 - الدور: البيوت.

الشرح

بعد معركة صفين التي جرت بين الإمام علي و معاوية بن أبي سفيان عاد الإمام إلى الكوفة فلما أشرف على القبور كانت منه هذه الكلمات التي يحسّها الإنسان في عمقه و يعيشها في مجتمعه و يتأثر بها في واقعه... إنها صرخة إنذار لعلها تيقظ النائمين و تنبه الغافلين و ترد الضالين. خطاب توجه به إلى أهل القبور يريد من ورائه الأحياء الذين سيصبحون مثلهم في غد أو بعد غد...

يا أهل الديار الموحشة و أي ديار هي أشد وحشة من القبور فلا حسيس و لا أنيس بل رهبة قاتلة و وحشة مفزعة... من هو الذي يتصور أحبابه و أصدقاءه و خلانه الذين كان يأنس بهم و يرتاح لحديثهم ثم يمر فوق أجداثهم اليوم قد خرسوا عن الكلام و عجزوا عن إبداء المرام من ذا الذي يتصور ذلك ثم لا يستوحش... للقبور وحشة و خصوصا في الليالي المظلمة...

ص: 307

يا أهل الديار المقفرة فمنازلهم التي هي القبور خالية من الناس الذين يعرفهم و يعرف آمالهم و تطلعاتهم و ما يعيش فيه أبناء الدنيا... أنتم أبناء القبور المظلمة فلا نور يخترفها لينيرها و أنتم أهل التراب خدودكم عليه فانتسبتم إليه يا أهل الغربة فلا أنيس لكم و لا خليل أنتم مع قربكم بعيدون و مع دنوكم متقاطعون.

يا أهل الوحدة: كل واحد منكم رهين قبره منفرد فيه.

يا أهل الوحشة: أنتم مستوحشون فلا والد و لا ولد و لا خليل و لا صاحب.

أنتم لنا فرط سابق و نحن لكم تبع لاحق: أنتم سبقتمونا و تقدمتم علينا في هذا الطريق و نحن وراءكم سنتبع خطاكم و نقتفي أثركم، فهو درب مكتوب علينا و لا بد من السير عليه و الوصول إلى نهايته.

أما الدور فقد سكنت و أما الأزواج فقد نكحت و أما الأموال فقد قسمت هذا خبر ما عند ما فما خبر ما عندكم ؟ أراد الإمام أن ينبه الحاضرين السامعين إلى هذه الحقائق التي سيصل أغلبهم إليها لوجود هذه الحالات فيهم... تنبهوا أيها السامعون إلى هذه الحقائق إنها دورة الحياة ستشملكم كما شملت هؤلاء الأموات أما الدور التي بنيتموها من الحلال و الحرام و تعبتم من أجل تزيينها و زخرفتها هذه الدور التي كانت جنى أعماركم و كانت عندكم عزيزة قد انتقلت عنكم بالموت و سكنها غيركم.

و أما الأزواج: فنساؤكم اللاتي ترملن لفقدكم قد تزوجن و انتقلن إلى أحضان غيركم.

و أما الأموال التي جمعتموها و تعبتم من أجلها فقد قسمت على الورثة و وزعت عليهم فلم تبق مجموعة كما كانت في أيديكم صرة واحدة بل راح كل وارث بنصيبه يتصرف فيه في ملذاته و شهواته.

و بعد هذا العرض و الحديث التفت إلى أصحابه و أراد أن يرمي صيده و هذا هو بيت القصيد و من أجله كانت تلك المقدمة التفت إليهم و قال: أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن «خير الزاد التقوى» فخير ما تجمعه و تأخذه من دنياك هو تقوى اللّٰه التي تعني الالتزام بأوامر اللّٰه و بما أراد و الانتهاء عما حرم و نهى...

131 - و قال عليه السلام، و قد سمع رجلا يذم الدنيا: أيّها الذّامّ

اشارة

ص: 308

للدّنيا، المغترّ (1) بغرورها، المخدوع بأباطيلها (2)! أتغترّ بالدّنيا ثمّ تذمّها؟ أنت المتجرّم (3) عليها، أم هي المتجرّمة عليك ؟ متى استهوتك (4)، أم متى غرّتك ؟ أ بمصارع (5) آبائك من البلى (6) أم بمضاجع (7) أمّهاتك تحت الثّرى (8) ؟ كم علّلت (9) بكفّيك، و كم مرّضت (10) بيديك! تبتغي (11) لهم الشّفاء، و تستوصف (12) لهم الأطبّاء، غداة لا يغني عنهم دواؤك، و لا يجدي (13) عليهم بكاؤك. لم ينفع أحدهم إشفاقك (14)، و لم تسعف (15) فيه بطلبتك، و لم تدفع عنّه بقوّتك! و قد مثّلت لك به الدّنيا نفسك، و بمصرعه مصرعك.

إنّ الدّنيا دار صدق لمن صدقها، و دار عافية لمن فهم عنها، و دار غنى لمن تزوّد منها، و دار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء اللّٰه، و مصلّى ملائكة اللّٰه، و مهبط وحي اللّٰه، و متجر أولياء اللّٰه. اكتسبوا فيها الرّحمة، و ربحوا فيها الجنّة. فمن ذا يذمّها و قد آذنت (16) ببينها (17)، و نادت بفراقها، و نعت (18) نفسها و أهلها، فمثّلت (19) لهم ببلائها البلاء (20)، و شوّقتهم بسرورها إلى السّرور؟! راحت بعافية، و ابتكرت (21) بفجيعة (22)، ترغيبا و ترهيبا، و تخويفا و تحذيرا، فذمّها رجال غداة (23) النّدامة، و حمدها آخرون يوم القيامة. ذكّرتهم الدّنيا فتذكّروا، و حدّثتهم فصدّقوا، و وعظتهم فاتّعظوا.

اللغة

1 - المغتر: المخدوع.

2 - الأباطيل: جمع باطل، ضد الحق.

3 - المتجرم: من تجرم عليه أي اتهمه بجرم و هو الذنب.

4 - استهوتك: حيرتك بشكل سلبت عقلك.

5 - المصارع: جمع مصرع و هو مكان الصرع و أصله الطرح على الأرض.

6 - البلى: بكسر الباء الفناء بالتحلل.

7 - المضاجع: جمع مضجع مكان الاستلقاء على الجنب.

ص: 309

8 - الثرى: التراب.

9 - علل المريض: خدمه في علته.

10 - مرّضه: خدمه في مرضه.

11 - تبتغي: تطلب.

12 - تستوصف: يطلب منه أن يصف له ما يريد.

13 - لا يجدي: لا ينفع.

14 - الإشفاق: الخوف.

15 - أسعفه: أعانه.

16 - آذنت: أعلمت.

17 - ببينها: بزوالها و بعدها.

18 - نعت نفسها: أخبرت بزوالها و نعاه إذا أخبر بوفاته.

19 - مثّلت: صوّرت.

20 - البلاء: المصاب.

21 - ابتكرت: أصبحت.

22 - فجيعة: مصيبة فاجعة مؤلمة.

23 - الغداة: أول النهار.

الشرح

الذامون للدنيا كثيرون و لكنهم هم أنفسهم عبّادها و المتمسكون بها، و الإمام قد سمع رجلا يذمها فكانت منه هذه الموعظة البليغة.

(أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها أتغتر بالدنيا ثم تذمها) هذه هي حالة كثيرين منا يذمون الدنيا و يذكرون رذائلها و سيئاتها و هم مجذوبون إلى لذاتها و متاعها و ما فيها من مال و ضياع إنهم ينخدعون بما فيها من أباطيل و من لهو و زينة و أموال و أولاد... إنهم يعيشون غرورها و يجرون معها على قدم و ساق و مع ذلك يذمونها... فهي مذمومة لهم مرغوبة عندهم يجرون وراءها و يبحثون عنها و يتلهفون عليها ثم يذمونها و يوسعونها شتى الشتائم و الإهانات... إنهم لا ينسجمون مع أنفسهم و يخالف قولهم عملهم.

(أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك) استفهام توبيخي لهذا الرجل الذام للدنيا و أنها هل هي المجرمة في حقك و الجانية عليك أم أنت المجرم فيها و الجاني على نفسك فيها...

ص: 310

(متى استهوتك أم متى غرتك أ بمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى) استفهام استنكاري يراد به استبعاد غرور الدنيا له و أن من يجري عليه مثل هذا يجب أن يتنبه و يستيقظ و لا يغتر... متى سلبت الدنيا فكرك و جذبتك إليها و نادتك نحوها و متى أضلتك و انحرفت بك و أنت ترى مصير آبائك و نهايتهم فقد أنهتهم من الوجود و أصبحوا رهائن القبور و كذلك أمهاتك أين أصبحن و أين صرن ألم يمتن و لم يبق منهن أحد؟ و هل هذا يوجب الاعتبار بها و إلى أخذ العظة منها بأنك لن تبقى أنت عليها و لن تدوم هي لك... إنها من دواعي التنبه لا من دواعي الاغترار...

(كم عللت بكفيك و كم مرضت بيديك تبتغي لهم الشفاء و تستوصف لهم الأطباء غداة لا يغني عنهم دواؤك و لا يجدي عليهم بكاؤك) كل منا يمرض له كبير يخدمه و يطلب له الدواء و الأطباء يريد له الشفاء فترانا نطلب لهم الوصفات الطبية التي نريد من وراءها شفاؤهم و لكن يغلب المقدور و تتعطل الأدوية و يرتفع الشفاء و يسقط المداوى ميتا بين أيدينا لا يشفيه الدواء و لا يرده البكاء...

(لم ينفع أحدهم إشفاقك و لم تسعف فيه بطلبتك و لم تدفع عنه بقوتك و قد مثلت لك به الدنيا نفسك و بمصرعه مصرعك) هذا بيان لسقوط الحيل أمام الموت فلا تجدي الرحمة منك و الشفقة على الميت و ما تطلبه له لا ينفعه و لا يعينه و مهما كانت قوتك في سبيل ذلك تتعطل و تتوقف لقد صورتك الدنيا به فهو صورة عنك فكأنك أنت الملقى بين أيدي أحبتك يعللونك و يسعفونك و يطلبون لك الأدوية و الشفاء و لكن لا ينفعك شيء منها بل يأتيك الموت رغما عنك و عنهم فكأنك أنت نفسك و كأن مصرعه مصرعك و موته موتك...

(إن الدنيا دار صدق لمن صدقها) ذكر محاسن الدنيا و كيف يستطيع هذا الإنسان أن يستفيد منها و يستغلها لصالحه في دنياه و آخرته فإذا صدقت مع الدنيا - بعد معرفتك بها - صدقتك هي و صدقك معها أن تعرفها و تحذر غوائلها و تبتعد عن مفاسدها و مآثمها و بذلك تصدقك الدنيا و تصدق معك فلا تغرك و لا تضلك و لا تدفعك إلى النار.

(و دار عافية لمن فهم عنها) فمن فهم مواعظ الدنيا و رسائلها التي جرت على الآباء و الأمهات و الأسلاف و عامة الأموات كانت له عافية من المآثم و المعاصي و الحرام.

(و دار موعظة لمن اتعظ بها) فمن أراد العبرة و العظة منها استطاع أن يأخذ ذلك مما يمر بنفسه فيه أو مما يمر فيه غيره من المآسي و المصائب و الفجائع و الدواهي.

(مسجد أحباء اللّٰه و مصلى ملائكة اللّٰه) هذه محاسن الدنيا و أرفع ما فيها عليها اتعبّد

ص: 311

الأنبياء و الصالحون و تهجد العباد و المريدون... في هذه الدنيا عاش الأنبياء في أصفى أجوائهم الروحية فاتخذوها مركز عبادتهم كما أنها المكان الذي تصلي فيه الملائكة و هذه فضيلة للدنيا تذكر.

(و مهبط وحي اللّٰه) إنها محل نزول وحي اللّٰه ففيها كان مهبط جبرئيل فتشرفت بنزوله عليها و هبوطه فيها فأخذت بركة و رحمة...

(و متجر أولياء اللّٰه اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا فيها الجنة) و هذه حسنة من حسنات الدنيا و بركة من بركاتها إنها المكان الذي اتجر فيه أولياء اللّٰه فربحت تجارتهم حيث عبدوا اللّٰه أياما قليلة و أطاعوه أوقاتا قصيرة ربحوا بها الجنة و ما فيها و الخلود الدائم في مرابعها... إنهم ربحوا الرحمة و ربحوا الجنة و ذلك هو الفوز العظيم...

(فمن ذا يذمها و قد آذنت ببينها و نادت بفراقها و نعت نفسها و أهلها) إنها الدنيا قد أعلمت الناس بفراقها لهم و بعدها عنهم و أنها لا تدوم لهم و لا تبقى و إذا كان لسان حالها قد أفصح بهذا البيان فكيف يذمها الذام و هل الحق إلا عليه فحسب دونها...

(فمثلت لهم ببلائها البلاء و شوقتهم بسرورها إلى السرور) فمن بلائها و مصائبها و أحزانها نعرف بلاء الآخرة و حزنها و مصائبها و من سرورها و نعيمها و عافيتها نعرف سرور الآخرة و نعيمها و عافيتها مع الفارق بين الدنيا و الآخرة...

(راحت بعافية و ابتكرت بفجيعة ترغيبا و ترهيبا و تخويفا و تحذيرا) هذه حالات الدنيا و تقلباتها لا تدوم أيام السرور و لا تبقى أيام الحزن إنها تمسي عليك و أنت في صحة و عافية و أمان و سرور و لا تصبح عليك و يظهر صبحها عليك إلا بفاجعة و مصيبة في النفس أو الأهل أو المال إنها باستمرار ترغب في بعض الحالات و تخوف في بعضها الآخر...

إنها تحذر و تبشر و هكذا...

(فذمها رجال غداة الندامة و حمدها آخرون يوم القيامة) يوم الندامة هو يوم القيامة اليوم الذي يحزن الإنسان على ما ارتكبه من حرام و يقول يا أسفي على ما فرطت في جنب اللّٰه أما أهل الطاعة و الالتزام بأوامر اللّٰه فإنهم سيوجهون للدنيا الحمد لأنها حذرتهم فقبلوا تحذيرها و لم يغتروا بها فشكروها لهذا و لأنها المكان الذي اكتسبوا فيه الجنة و دار الخلود...

(ذكرتهم الدنيا فتذكروا و حدثتهم فصدقوا و وعظتهم فاتعظوا) هذه صفات الذين حمدوا الدنيا في يوم القيامة إنهم و هم في الدنيا كانوا عقلاء فطناء.

ص: 312

ذكرتهم الدنيا بمعايبها و جرائمها و أخذها فتذكروا و أخذوا الحيطة و أعدوا و استعدوا و حدثتهم بفجائعها و نوائبها و ما يجري فيها فصدقوا حديثها و وعظتهم بما مرّ عليها و ما يجري على أهلها فاتعظوا و ارتدعوا عن الحرام و اجتنبوا الآثام و سعوا إلى الجنة و الحياة الأبدية...

132 - و قال عليه السلام: إنّ للّٰه ملكا ينادي في كلّ يوم: لدوا (1) للموت، و اجمعوا للفناء (2)، و ابنوا للخراب.

اللغة

1 - لدوا: فعل أمر من ولد، و ولدت الأنثى وضعت حملها.

2 - الفناء: الهلاك.

الشرح

هذا هو لسان حال الحياة و عاقبة هذه الأمور... فالأولاد عاقبتهم الموت و ما نجمع من حطام الدنيا و متاعها إلى الفناء و الهلاك و ما نعمّر و نبني و نشيد فإنه للخراب و الدمار و كل من عليها فان و كل شيء هالك إلا وجهه الكريم...

133 - و قال عليه السلام: الدّنيا دار ممرّ لا دار مقرّ، و النّاس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها (1)، و رجل ابتاع (2) نفسه فأعتقها (3).

اللغة

1 - أوبقها: أهلكها.

2 - ابتاع: اشترى.

3 - أعتقها: حرّرها.

ص: 313

الشرح

الدنيا دار يعبر عنها الإنسان و يمر بها إلى الآخرة حيث المستقر النهائي و الدائم له، و العاقل من يعرف كيف يمر و يعمل من أجل المستقر... و الناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه بلذائذها و محرماتها و محظوراتها فأوبقها أي أهلكها و قضى عليها بالعذاب الدائم...

و رجل ابتاع نفسه أي اشتراها بالعمل الصالح و الطاعة للّٰه و رسوله فأعتقها من النار و أنجاها من عذاب الملك الجبار.

134 - و قال عليه السلام: لا يكون الصّديق صديقا حتّى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته (1)، و غيبته، و وفاته.

اللغة

1 - النكبة: المصيبة.

الشرح

هذا تحديد للصديق الكامل الذي ترعى صداقته و يعتز به.

إنه من يحفظ أخاه في هذه الأمور الثلاثة:

1 - يحفظه في نكبته: عند ما يقلب له الدهر ظهر المجن و تدبر الدنيا عنه عندها يقبل هذا الأخ عليه يواسيه يهدىء من شجونه يعينه على بلواه و مصابه بما يقدر عليه ماديا و معنويا و كل مساعدة تشد من عزيمته و تقويه ليجتاز نكبته و يتخطاها...

2 - و من يحفظه في غيبته: فإذا كان غائبا صديقه عنه حفظه و لم يغتابه بل يرد الغيبة عنه... لا يجرحه بكلمة تحط من شأنه... يرعاه في عائلته و أهله و أولاده و من يحب فيتفقدهم و يعطف عليهم و يساعدهم.

3 - و الصديق هو من يحفظ صديقه بعد وفاته فلا ينساه بمجرد أن يدفنه و تنتهي مراسيم الدفن... إن الصديق هو ذلك الذي يعيش صديقه الميت في وجدانه و في

ص: 314

أعماله... يقرأ لروحه القرآن و يذكره بفاتحة الكتاب باستمرار و يتذكره ليترحم عليه...

و يتصدق عن روحه بما تيسر له ثم يفتش عن أهله و من كان يعولهم فيقوم بإعالتهم و عيادتهم و مديد العون إليهم...

135 - و قال عليه السلام: من أعطي أربعا لم يحرم أربعا: من أعطي الدّعاء لم يحرم الإجابة، و من أعطي التوبة لم يحرم القبول، و من أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، و من أعطي الشّكر لم يحرم الزّيادة.

اشارة

قال الرضي: و تصديق ذلك كتاب اللّٰه، قال اللّٰه في الدعاء: «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » و قال في الاستغفار: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ يَجِدِ اَللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً» و قال في الشكر: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و قال في التوبة: «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً» .

الشرح

من أعطي أربعا أعطاه اللّٰه في مقابلها أربعا.

1 - من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة: إذا توفق المرء إلى الدعاء و ذلك بالوقوف بين يدي اللّٰه وقفة العبد أمام سيده وقفة التذلل و الخشوع و الانقطاع إليه سبحانه و الإخلاص له... إذا دعا مع استجماع شروط الدعاء و أهمها أن يكون قائما بالواجبات مبتعدا عن المحرمات ملتزما بما أمر اللّٰه و منتهيا عما نهى استجاب اللّٰه دعاؤه و هذا المعنى مصداق قوله تعالى: «وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » (1).

2 - و من أعطي التوبة لم يحرم القبول: و هذه أخرى إذا أعطيها العبد قوبلت بأخرى أفضل منها من أعطي التوبة التي تعني الكف عن المعصية و الندم على فعلها و الاستغفار منها ورد الحق إلى أصحابه سواء كان ذلك في المال أو غيره من حقوق اللّٰه أو حقوق العباد و ليعلم أن التوبة واجبة على كل واحد منا إذا ارتكب ذنبا أو عمل سوءا و في مقابل توبة العبد هناك استجابة إلهية لهذا العبد فإن اللّٰه يتقبلها منه و يكفر عنه سيئاته و هذا مصداق قوله تعالى في كتابه قال سبحانه: «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ »

ص: 315


1- سورة غافر، آية 60.

«بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً» (1) .

3 - و من أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة: هذه ثالثة العطايا للعبد الصالح...

من أعطي الاستغفار و توفق له و ليس الاستغفار هو ما اعتاده الناس من كونه لقلقه لسان فحسب بل إنه في داخل القلب يترجمه اللسان... الاستغفار الذي يعني تنزيه اللّٰه عن كل قبيح و الالتزام بكل ما أمر و الكف عن كل ما نهى... و يقابل هذا الاستغفار من العبد بالمغفرة من اللّٰه و هذا مصداقه من كتاب اللّٰه قال تعالى: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ يَجِدِ اَللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً» (2).

4 - و من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة: أي نعمة أنعم اللّٰه بها على الإنسان سواء كانت مادية أو معنوية في بدنه أو خارجه ثم شكرها، و شكرها يعني الإقرار أنها من اللّٰه ثم وضعها في موضعها المعدّ لها فمن أعطى الشكر على النعمة قابلة اللّٰه بزيادتها و إنمائها و مصداق ذلك في كتاب اللّٰه تعالى قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » (3).

136 - و قال عليه السلام: الصّلاة قربان (1) كلّ تقيّ ، و الحجّ جهاد كلّ ضعيف. و لكلّ شيء زكاة، و زكاة البدن (2) الصّيام، و جهاد المرأة حسن التّبعّل (3).

اللغة

1 - قربان: ما يتقرب به إلى اللّٰه.

2 - البدن: جسد الإنسان.

3 - حسن التبعل: معاشرة الزوج و صحبته بالحسنى.

الشرح

(الصلاة قربان كل تقي) الصلاة صلة بين اللّٰه و العبد ينعكس الأثر على نفسية المسلم فتحوله إلى عملاق يتحدى طواغيت الأرض و أشرارها... ترتفع هذه الصلاة

ص: 316


1- سورة النساء، آية - 17.
2- سورة النساء، آية - 110.
3- سورة إبراهيم، آية - 7.

بهذا الإنسان إلى أعظم مراتب الفضيلة و الطهارة فلذا كانت قربان يتقرب بها العبد من اللّٰه بل إنها أفضل وسيلة يتقرب بها العبد إلى اللّٰه...

(و الحج جهاد كل ضعيف) و الحج مؤتمر إسلامي ينعقد في مكة بدعوة من اللّٰه و باعتبار ما يتطلبه من جهود مضنية و سفر و غربة كان جهادا للضعفاء الذين لا يقوون على حمل السلاح و مقارعة الأعداء فكان الضعفاء بحجهم يجاهدون أنفسهم و يغالبونها في سبيل الوصول إلى رضا اللّٰه و هو نوع من الجهاد...

(و لكل شيء زكاة و زكاة البدن الصيام) هذه قاعدة عامة يجب أن يتنبه لها المسلمون و هي: إن لكل شيء زكاة فالجاه له زكاة و زكاته خدمة الناس و قضاء حوائجهم و العلم له زكاة و زكاته تعليم الناس و بذله لطالبيه و القوة لها زكاة و زكاتها أن يقوى على عبادة اللّٰه و خدمة عباده فلا يطغى بها على الناس و هكذا دواليك و من جملتها البدن فإن له زكاة و زكاته أداء الصيام فإنه ينقّيه و يذكره باللّٰه و أيامه العظيمة...

ثم ذكر أن للمرأة جهادا و لكن في ميدانها المرسوم لها و هو ميدان الزوجية بمعنى أن تكون الزوجة وفيّة مخلصة مطيعة صادقة لا تعصي له أمرا تسمع قوله و تعينه على أمر آخرته و دنياه و بعبارة مختصرة أن تحسن عشرته من جميع وجوه العشرة و هذا هو ميدان جهادها التي تعادل به جهاد الرجال...

137 - و قال عليه السلام: استنزلوا الرّزق بالصّدقة.

الشرح

الصدقة هي العطاء قربة لوجه اللّٰه و تجوز على كل إنسان محتاجا أو غنيا مسلما أو كافرا - ما لم يكن حربيا - ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا.

و درهم الصدقة بعشر حسنات و اللّٰه يحب البذل و العطاء و يدفع نحوهما و أنت عند ما تتصدق تتعامل مع اللّٰه بتجارة رابحة فتعطي لتأخذ تعطي المال لتأخذ الجنة..

و تعطي المال لتربح المال قال تعالى: «إِنْ تُقْرِضُوا اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ » (1)تعطي الدرهم فيضاعفه اللّٰه لك أضعافا كثيرة فينزل عليك الرزق فإنه وعد و وعده صادق لا يخلفه.

ص: 317


1- سورة البقر، آية - 245.

138 - و قال عليه السلام: من أيقن بالخلف (1) جاد (2) بالعطيّة (3).

اللغة

1 - الخلف: البدل و العوض.

2 - جاد: تكرّم و بذل.

3 - العطية: ما يعطى، الصدقة.

الشرح

هذا ترغيب في البذل و العطاء و حث على الكرم بذكر ما يدفع المرء في هذا الميدان فقد ذكر أن من أيقن و صدّق أنه متى أنفق من ماله جاء عوضه و بدله سخى و تكرم و بذل و هكذا كل عطية أو بذل أو هدية في سبيل اللّٰه و على عباده فإن اللّٰه يعوضه عنها أضعافا مضاعفة... قال تعالى: «مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ » (1).

139 - و قال عليه السلام: تنزل المعونة (1) على قدر المئونة (2).

اللغة

1 - المعونة: المساعدة.

2 - المئونة: القوت، الشدة و الثقل.

الشرح

إذا كانت الدول الظالمة تتعامل مع رعاياها بهذا المنطق فالأعزب من الموظفين تفرض له راتبا معينا يكفيه فإذا تزوج زاد راتبه و فرض لزوجته راتبا فإذا رزق أولادا فرضت لهم رواتبا و هكذا يكبر الراتب و يزداد بكبر العائلة و زيادة أفرادها... أقول: إذا كانت هذه هي سيرة الظالمين فكيف بك في اللّٰه أكرم الأكرمين الذي أفاض علينا أصل الوجود و كان عن يديه كل موجود فلا شك أن بركاته تنزل أضعافا مضاعفة و قد علمتنا

ص: 318


1- سورة البقرة، آية - 261.

الأحداث و الأيام و سمعنا و رأينا بأم العين كيف أن اللّٰه يوسّع على صاحب العيال بمقدار كفايتهم و زيادة...

140 - و قال عليه السلام: ما عال (1) من اقتصد (2).

اللغة

1 - عال: افتقر.

2 - اقتصد في النفقة: اعتدل في النفقة بدون إفراط و لا تفريط.

الشرح

هذه دعوة إلى الاعتدال في النفقة و أن لا يسرف الإنسان، فإن الاقتصاد في النفقة يعني الإنفاق قدر الحاجة و هذا قد تكفّل اللّٰه به و نحن نجد من يقتصد في صرفه و إنفاقه كيف أنه لا يقع في حاجة و لا فقر...

141 - و قال عليه السلام: قلّة العيال (1) أحد اليسارين (2).

اللغة

1 - العيال: من يقوم بمعاشهم.

2 - اليسار: الغنى.

الشرح

المال هو اليسار الأول و به يستطيع الإنسان أن يقضي حاجاته...

و قلة العيال هو اليسار الآخر فإن من كانت عائلته قليلة الأفراد خفّ مصروفهم و قليت النفقة عليهم و باعتبار انتفاء المصرف و عدم الحاجة إلى المال فهو نوع من الغنى.

142 - و قال عليه السلام: التّودّد (1) نصف العقل.

اشارة

ص: 319

اللغة

1 - التودد: التحبب.

الشرح

التودد هو الحب و العطف و هو نوع من لين الجانب للناس و إظهار جانب الرحمة لهم و العطف عليهم و هذا بنفسه يوجب محبتهم له و رغبتهم فيه و هذا دليل كمال عقل الإنسان و وعيه لأن العقل يحلل الأمور و يفصّلها و يرى منافعها و مضارها و التودد هو التطبيق لما يراه العقل و يتبناه فهو نصف العقل بتعبير الإمام...

143 - و قال عليه السلام: الهمّ (1) نصف الهرم (2).

اللغة

1 - الهم: الحزن، ما يشغل الفكر.

2 - الهرم: من بلغ أقصى الكبر.

الشرح

الهرم كبر في السن و ثقل في الهمة و ضعف في البنية و قد يعتور الإنسان بعض النقص العقلي فيرجع إلى أرذل العمر من حيث العلم و المعرفة و ضبطه للأمور.

و الهم قد يسبب ذلك أو بعضه فترى الكآبة مسحة على وجهه ظاهرة و ترى تشتت الفكر و ترى أثر الهم في بدنه و خصوصا إذا بلغ بعض مراتبه العليا فقد يحطم معنويات الإنسان و بنيته...

144 - و قال عليه السلام: ينزل الصّبر على قدر المصيبة (1)، و من ضرب يده على فخذه (2) عند مصيبته حبط عمله (3).

اشارة

ص: 320

اللغة

1 - المصيبة: البلية و كل أمر مكروه، فجيعة الموت.

2 - الفخذ: ما بين الركبة و الورك.

3 - حبط عمله: بطل.

الشرح

مهما كانت المصيبة عظيمة فهناك ما يقابلها من الصبر إذا فلا تغلب مصيبة مصابا و من فعل أمرا يستنكر فيه قضاء اللّٰه و يرفض حكمه - كمن ضرب يده على فخذه أو خمش وجهه أو شق جيبه - فقد أسخط اللّٰه و ذهب ثوابه و أجر احتسابه لمصيبته.

145 - و قال عليه السلام: كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع و الظمأ (1)، و كم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السّهر و العناء (2)، حبّذا نوم الأكياس (3) و إفطارهم!.

اللغة

1 - الظمأ: العطش.

2 - العناء: التعب.

3 - الأكياس: جمع كيّس بالتشديد و هو العاقل.

الشرح

العبادة متقومة بالإخلاص للّٰه و التوجه إليه و أن تكون على الطريقة المرسومة شرعا شروطا و شرائطا مع المحافظة على أجزائها و أحكامها و معرفة ما يفسدها و يبطلها فإذا أخل القائم بها ببعض ما وجب فيها استوى مع من لم يصل و كلمة الإمام تنطلق من هذا المنطلق و أن كثيرا من الناس الذين يصلون لا ينالهم من صلاتهم و لا يقبل اللّٰه منهم فرضا بل لا ينالهم إلا التعب بالقيام و الركوع و السجود و هكذا من لم يعرف أحكام الصوم فيرتكب المبطلات له فإنه لا يناله إلا الجوع و العطش... ثم مدح نوم العلماء الواعين لأن نومهم كان عن صلاة أدوها بجميع خصوصياتها و كذلك مدحهم لصومهم و إفطارهم

ص: 321

لمعرفتهم بموارد الصوم و موارد الإفطار و يعرفون كيف يؤدون عباداتهم على الوجه السليم...

146 - و قال عليه السلام: سوسوا (1) إيمانكم بالصّدقة، و حصّنوا (2) أموالكم بالزّكاة، و ادفعوا أمواج البلاء (3) بالدّعاء.

اللغة

1 - سوسوا: أمر من السياسة و هي صيانة الشيء و حفظه و إدارته.

2 - حصنوا: احفظوا و حوطوا.

3 - البلاء: المصائب.

الشرح

احفظوا إيمانكم و حافظوا عليه و ارعوه بالصدقة لأنها تدرّ الشفقة و لا تنبعث إلا عن قلب رحيم... و حصنوا أموالكم من التلف بما تخرجونه من زكاتها و في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: و اللّٰه ما ضاع مال في بر أو بحر إلا و كان للّٰه فيه حق...

و البلاء مهما كان عظيما و قريب الوقوع فإنه يدفع بالدعاء و الالتجاء إلى اللّٰه قال تعالى:

«اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » .

147 - و من كلام له عليه السلام: لكميل بن زياد النخعي.

اشارة

قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فأخرجني إلى الجبّان (1)، فلما أصحر (2) تنفس الصّعداء (3)، ثم قال:

يا كميل بن زياد، إنّ هذه القلوب أوعية (4)، فخيرها أوعاها (5)، فاحفظ عنّي ما أقول لك:.

النّاس ثلاثة: فعالم ربّانيّ (6)، و متعلّم على سبيل نجاة، و همج (7) رعاع (8) أتباع كلّ ناعق (9)، يميلون (10) مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور

ص: 322

العلم، و لم يلجئوا (11) إلى ركن وثيق.

يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك و أنت تحرس المال.

و المال تنقصه النّفقة (12)، و العلم يزكو (13) على الإنفاق، و صنيع (14) المال يزول بزواله.

يا كميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان (15) به، به يكسب الإنسان الطّاعة في حياته، و جميل الأحدوثة (16) بعد وفاته. و العلم حاكم، و المال محكوم عليه.

يا كميل، هلك خزّان (17) الأموال و هم أحياء، و العلماء باقون ما بقي الدّهر: أعيانهم (18) مفقودة (19)، و أمثالهم (20) في القلوب موجودة. ها إنّ ها هنا لعلما جمّا (21) (و أشار بيده إلى صدره) لو أصبت (22) له حملة (23)! بلى أصبت لقنا (24) غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدّين للدّنيا، و مستظهرا (25) بنعم اللّٰه على عباده، و بحججه على أوليائه، أو منقادا لحملة الحقّ ، لا بصيرة له في أحنائه (26)، ينقدح (27) الشّكّ في قلبه لأوّل عارض من شبهة. ألا لا ذا و لا ذاك! أو منهوما (28) باللّذّة، سلس (29) القياد (30) للشّهوة، أو مغرما (31) بالجمع و الادّخار (32)، ليسا من رعاة (33) الدّين في شيء، أقرب شيء شبها بهما الأنعام (34) السّائمة (35)! كذلك يموت العلم بموت حامليه.

اللّهمّ بلى! لا تخلو الأرض من قائم للّٰه بحجّة، إمّا ظاهرا مشهورا، و إمّا خائفا مغمورا (36)، لئلاّ تبطل حجج اللّٰه و بيّناته. و كم ذا و أين أولئك ؟ أولئك - و اللّٰه - الأقلّون عددا، و الأعظمون عند اللّٰه قدرا (37). يحفظ اللّٰه بهم حججه و بيّناته، حتّى يودعوها نظراءهم (38)، و يزرعوها في قلوب أشباههم.

ص: 323

هجم (39) بهم العلم على حقيقة البصيرة، و باشروا روح اليقين، و استلانوا (40) ما استوعره (41) المترفون (42)، و أنسوا (43) بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى. أولئك خلفاء اللّٰه في أرضه، و الدّعاة إلى دينه. آه آه شوقا إلى رؤيتهم! انصرف يا كميل إذا شئت.

اللغة

1 - الجبان: الجبانة، المقبرة.

2 - أصحر: صار في الصحراء.

3 - تنفس الصعداء: تنفسا طويلا ممدودا.

4 - الأوعية: جمع وعاء و هو الإناء.

5 - أوعاها: أكثرها حفظا.

6 - الرباني: المنسوب إلى الرب.

7 - الهمج: ذباب صغير كالبعوض و المقصود هنا الحمقى.

8 - الرعاع: العوام و السفلة و أمثالهما.

9 - ناعق: صائح، داعي.

10 - يميلون: ينحرفون.

11 - يلجئون: يعتمدون و يرجعون.

12 - النفقة: ما ينفقه الإنسان أي يصرفه.

13 - يزكو: ينمو.

14 - الصنيع: الإحسان.

15 - يدان: يجزى.

16 - الأحدوثة:.

17 - خزان: جمع خازن من يتولى حفظ المال.

18 - أعيانهم: أشخاصهم.

19 - مفقودة: غائبة.

20 - أمثالهم: صورهم.

21 - الجمّ : الكثير.

22 - أصبت وجدت:.

ص: 324

23 - الحملة: بالتحريك جمع حامل.

24 - اللقن: بفتح فكسر من يفهم بسرعة.

25 - مستظهرا: متغلبا و استظهر عليه علاه و غلبه.

26 - أحنائه: جوانبه.

27 - ينقدح: يظهر و يبرز.

28 - المنهوم: المفرط في شهوة الطعام.

29 - سلس: لين.

30 - القياد: ما تقاد به الدابة من حبل و نحوه و فلان سلس القياد أي يطاوعه.

31 - المغرم: المولع.

32 - ادخار المال: جمعه و اكتنازه.

33 - الرعاة: جمع الراعي من ولي أمر قوم و اهتم بشئونهم.

34 - الأنعام: البهائم.

35 - السائمة: غير المعلوفة و هي التي تترك لترعى.

36 - المغمور: المغطى الذي لا يظهر.

37 - قدرا: منزلة.

38 - نظراءهم: أشباههم و أمثالهم.

39 - هجم: انتهى إليه بغتة و على غفلة، أسرع.

40 - استلانوا: عدوا الشيء لينا.

41 - استوعروه: عدوه و عرا أي خشنا صعبا.

42 - المترفون: أهل الترف هم أهل التنعم مع البطر.

43 - أنسوا: ضد استوحشوا.

الشرح

(يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها اسمع عني ما أقول لك:

الناس ثلاثة: فعالم رباني و متعلم على سبيل نجاة و همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجئوا إلى ركن وثيق) أراد الإمام أن يبثّ علمه فلم يجد أذنا صاغية... كان يطلب من الناس أن يسألوا و يستفهموا و يبحثوا فلم يجد منهم إلا الاستهزاء و الاستخفاف فلذا كان يختار من أصحابه بعض الخواص فينشر عليهم من علومه و يعطيهم من حكمته...

و هذه وقفة مع كميل بن زياد أحد أصحابه الذي استشهد على ولائه و محبته له...

ص: 325

صورة جليلة ينقلها كميل... صورة علي و هو يأخذ بيد كميل... يأخذ بيده و يخرج به إلى القبور إلى حيث لا يفهم لغة علي أحد في الحياة... المعادلة العلوية لا تستوعيها أذهان الأحياء فأراد أن يريح نفسه ببيانها بين القبور و تحت السماء...

خرج الاثنان علي و كميل و مرّا على الجبانة و لما صارا في القضاء الطلق أخذ الإمام تنفسا طويلا تنفّس المتعبين من الحياة. تنفس الذين أكلت الهموم قلوبهم و لم يجدوا من يبثون إليه شكواهم و ألمهم... صورة تحكي عمق الأسى الذي يعيش في قلب الإمام فتدفعه إلى هذا التنفس الطويل... إنه يريد أن يبث في أذن كميل علما كريما ينقله للأجيال و يحكي به قصته معه...

في الهواء الطلق يريد الإمام أن تنطلق الكلمات منه لعل الزمن يحملها إلى طلابها فيستفيدوا منها... و في هذا الجو و هذه اللحظات ينطلق الإمام بمقدمة ينبه بها كميل... إنها إشارة إلى أن هذه القلوب هي أوعية العلم و خزنته فيها يجمع العلم و الحكمة و المواعظ و العبر و خير هذه القلوب أكثرها علما و حفظا و وعاية و دراية...

ثم قال له: احفظ عني ما أقول لك احفظه في نفسك و انقله للأجيال لتسمع كلام علي... ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام:

1 - عالم رباني: و هو المنسوب إلى الرب و هم الأنبياء و الأوصياء الذين يأخذون علومهم بواسطة الوحي... إنهم الذين يرسل اللّٰه إليهم ملائكة تنقل مراداته أو يلهمهم أو يكلمهم من وراء حجاب و هؤلاء هم الصفوة و أعلى طبقات الناس... إنهم أخلصوا للّٰه فاصطفاهم اللّٰه و نسبهم إليه...

2 - و متعلم على سبيل نجاة: و هم العلماء و السائرون في طريق تحصيل العلم الذين يتوجهون إلى اللّٰه في دراستهم فهم في طريق النجاة.

3 - و همج رعاع: و هم بقية الناس إنهم العوام الغالبية من البشر... هذا السواد الأعظم الذي يملأ الدنيا و يشغلها... و قد وصفهم بأوصاف.

أ - إنهم همج تصغير لهم و تحقير فقد شبههم بالذباب الصغير الذي يطير إلى هنا تارة و إلى هناك أخرى...

ب - إنهم رعاع و في هذا اللفظ تحس العوام من الناس الذين لا يرتبطون بعهود و مواثيق لا يفكرون و لا ينطلقون مع الفكر...

ج - أتباع كل ناعق: فمن دعاهم أسرعوا وراءه دون دراسة لدعوته و لما ذا يدعو؟

ص: 326

إنهم يسيرون بسرعة وراء دعوته الباطلة دون دراسة لخلفيات الداعي و ما وراءها و ما يريد...

د - يميلون مع كل ريح: ليس لهم استقامة و ثبات في اتجاه واحد بل كيف يوجهون يتوجهون... إذا كانت القوة مع الظالم انحرفوا معه و إذا كانت مع العادل كانوا معه...

و إذا كان الحاكم مؤمنا تحركوا بأمره و إذا كان فاسدا كانوا معه... و هكذا...

ه - لم يستضيئوا بنور العلم: لم يتعلموا و يكتشفوا رموز الحياة... لم يملكوا الرؤية الواضحة... لم تنكشف إليهم الأمور كما تنكشف لأهل العلم... إنهم يعيشون في ظلام الجهل و عدم العلم...

و - و لم يلجئوا إلى ركن وثيق: لم يعتمدوا فيما يأخذون و يتركون على أمور يقينية ثابتة لا تتزلزل.

(يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك و أنت تحرس المال، و المال تنقصه النفقة و العلم يزكو على الإنفاق و صنيع المال يزول بزواله) فاضل عليه السلام بين العلم و المال و قدّم العلم و فضّله على المال ترغيبا به و اهتماما بشأنه و شأن من يحمله...

العلم خير من المال و وجه الخيرية و الأفضلية عدة اعتبارات.

أ - العلم يحرسك و أنت تحرس المال: العلم هو الذي فجر الذرة و ركب الإنسان به ظهر المجرة... بهذا العلم احتمت الدول الكبرى من الظلم و حمّت أصدقاءها...

بما قدمه العلم من مخترعات و وسائل وقاية احتفظ هذا الإنسان بوجوده... بينما المال بما قدمه العلم من مخترعات و وسائل وقاية احتفظ هذا الإنسان بوجوده... بينما المال يحتاج إلى من يحرسه و يحميه و إلا امتدت إليه أيدي اللصوص و السراق و اختطفوه...

ثم هناك فرق بين أن تكون حارسا أو محروسا... خادما أو مخدوما...

ب - و المال تنقصه النفقة و العلم يزكو على الإنفاق: المال يحتاج إلى الحارس و الحاسب و المكان و غيرها من المئونة له و هذا يعرضه للنقصان هذا إذا تجمد و أما العلم فإنه ينمو و يزداد فإنك كلما علمت انتفتحت أمامك أبواب و إشكالات و نكات و لطائف دقيقة... إن الذهن يتفتق عن أمور جليلة و كنوز دفينة من العلم أثناء التدريس و التعليم...

ج - و صنيع المال يزول بزواله: هذا أيضا فرق بين المال و العلم و كون العلم أفضل و ذلك أن الإحسان بالمال يزول بزوال المال فلو أعطيت إنسانا سيارة يزول هذا الإحسان و تنتفي العين المحسن بها بزوالها أما بالحوادث أو بالتلف الطبيعي و هكذا دواليك في كل

ص: 327

الأموال... و أما العلم فإنه يصفي القلوب و يكشف الدروب و هو أيضا ينتقل من عالم إلى متعلم و يسري بين المتعلمين و يبقى أجره و ثوابه إلى المعلم الأول دون أن ينقص من أجور من يأتي بعده و يعلمه...

(يا كميل بن زياد معرفة العلم دين يدان به به يكسب الإنسان الطاعة في حياته و جميل الأحدوثة بعد وفاته. و العلم حاكم و المال محكوم عليه...) و هذه أيضا ميزات للعلم و خصوصيات له.

أ - إنه دين يدان به: أي طلب العلم ركن من أركان الدين و واجب مفروض يجب تحصليه و قد قال النبي (صلی الله علیه و آله) : «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» و قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» و يكفي أن أول سورة نزلت على النبي هي سورة «اقرأ» و مطلعها:

«اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ » دعوة إلى العلم صريحة و لو لا العلم ما عرف اللّٰه حق معرفته و لا عبد حق عبادته.

ب - بالعلم يكسب الإنسان الطاعة في حياته و جميل الأحدوثة بعد وفاته... و هذه من بركات العلم و ثمراته إن أمر العالم يطاع من الناس، و الناس تسمع له و تستجيب و تقبل ما يقول و هذه من نعم اللّٰه على العلماء فالملوك حكام على الرعية و العلماء حكام على الملوك و أيضا بالعلم يبقى للإنسان جميل الذكر بما زرعه في قلوب رواده و تلامذته و من نهل من منهله. و هؤلاء هم علماؤنا رضوان اللّٰه عليهم قد مر عليهم مئات السنين نذكرهم بآثارهم و بما تركوا من علم و معرفة و سرّح نظرك في قائمتهم و اقرأ الطوسي و الطبرسي و الرضي و المرتضى و العلامة و الشهيد و هكذا... لا يزالون يعيشون معنا و لا نزال نذكرهم بما تركوا و خلفوا...

ج - و العلم حاكم و المال محكوم عليه: العلم هو الذي يحكم الحياة إذ بالعلم تعرف كيف تتصرف و متى تتصرف... بالعلم استطاعت الدول الكبرى أن تحكم الصغرى و تستعمر أرضها و تستعبد شعبها بينما المال محكوم لا ينتقل إلا بأمر العلم و توجيهه و أمامنا اليوم المال العربي المحكوم للعلم الأمريكي و الأوروبي... تراه محكوم لإرادة أولئك يستغلونه في مصالحهم و يحرموننا منه و هل هناك شاهد أعظم مما نعيش... مليارات الدولارات العربية مجمدة في المصارف الأمريكية، بل مملوكة لغير المسلمين إنه الجهل الذي نعيشه... إن وظيفتنا حراسة المال لأرباب العلم يتصرفون فيه كيف يشاءون و يحكمون به كما يريدون...

(يا كميل هلك خزان الأموال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر: أعيانهم

ص: 328

مفقودة و أمثالهم في القلوب موجوده) و هذا ترغيب في العلم من وجه آخر و ذلك بالحكم يموت خزان الأموال و إن كانوا على قيد الحياة و في المقابل بحياة العلماء و بقاؤهم و إن كانوا أمواتا.

أما هلاك خزان الأموال فلأنهم لم ينفقوه في طاعة اللّٰه و خدمة عباده فماتوا معنويا و هو أعظم من الموت الحسي... أو لأنهم عاشوا لذاته و شهواته فلم يعرف عنهم أحد شيئا.

أما حياة العلماء فإنهم يعيشون ما بقي الدهر... إنهم و إن غابوا بأجسادهم عن الحياة و لكن آثارهم و ما تركوه لا يزال يعيش بيننا، فهم يعيشون بما تركوا و خلفوا...

يعيشون بتراثهم... بأفكارهم... بنظرياتهم بكتبهم و مؤلفاتهم و قراءة سريعة ترى أصحاب الأموال في زاوية العدم لا تذكر منهم أحدا بينما قائمة العلم بالآلاف المؤلفة و هذه المكتبات العامرة تحكي عنهم و تنقل أقوالهم فكأنهم يعيشون بيننا و كأننا و إياهم في حوار فما أعجبنا من آرائهم قبلناه و وافقناهم عليه و ما لم يعجبنا ناقشناهم و حاورناهم و هكذا...

(ها إن هنا لعلما جما و أشار بيده إلى صدره لو أصبت له حملة) أكلت الحسرة قلب الإمام إذ لم يجد من يبث إليه علمه و فقد من يقدر على حمل ذلك العلم... هكذا يموت العظماء و في نفوسهم حسرات... و علي يتمنى أن يضع يده على فرد يحمل علمه ليبثه إليه... العلم يفقد بفقد العلماء و بفقد من يتحمله... علي يعلنها صرخة من عمق نفسه يتمنى أن يجد لعلمه حملة فلا يضيع ذلك العلم بفقده... نعم لم يجد من يحمل علمه و بقيت الحسرة في قلبه و انتقل إلى ربه يحملها و بقيت هذه الكلمات ذكريات نرددها و نأسف لعدم وجود من يحمل عن الأئمة علومهم.

(بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا و مستظهرا بنعم اللّٰه على عباده و بحججه على أوليائه) بعد أن نفى عليه السلام وجود من يحمل عنه علمه استدرك بأنه قد وجده و لكن من وجدهم ليسوا أهلا لحمله، و هذا بمنزلة عدمه و بمنزلة المفقود و قد ذكر أربعة رجال و كل رجل يحمل سمات لا تؤهله لحمل هذا العلم و هذا أول الرجال و قد وصفه بأنه لقن فطن لبيب نبيه و لكنه خائن للعلم لا يعمل بما يعلم و لا يضع العلم موضعه أو يستعمله في موضعه يستغل الدين ليصطاد به الدنيا فهو يظهر النسك و العبادة من أجل أن يصل إلى الدنيا و يبلغ مرامه منها كما أنه بما جمع من العلم يرى نفسه أعظم العباد فيفتخر عليهم و يأخذ من البراهين و الحجج التي تعلمها ما يلبس الحق بالباطل و الصدق بالكذب.

ص: 329

(أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة إلا لا ذا و لا ذاك) و هذا الرجل الثاني الذي توفر لحمل العلم و لكنه ليس مؤهلا له و قد وصفه بأنه رجل طيب ينقاد لأهل الحق و يسمع منهم و لكن مشكلته في أمرين سيئين فيه.

1 - إنه لا بصيرة له و لا عمق في تفكيره: لم يتبحر في الأمور الإلهية و لم يصل إلى أعماق الأمور و جوانبها و منعطفاتها أي إشكالاتها و الشبهات التي ترد عليها و يفهمها و يدقق فيها.

2 - إن الشك يثور في نفسه إذا اعترضته شبهة فلقصور باعه في هذا العلم تستقر الشبهة في نفسه و تحركه الأيدي المغرضة في كل اتجاه.

ثم إن الإمام بعد أن يذكر هذين الرجلين يقول: لا هذا و لا ذاك يصلح لحمل هذا العلم الإلهي الذي أحمله و بعد ذلك يذكر الرجل الثالث و هو.

(أو منهوما باللذة سلس القياد للشهوة) هذا هو الرجل الثالث المغرم باللذة الذي يريد اقتناصها أنى كانت تجره الشهوات إليها بكل يسر و سهولة و بمجرد أن تتراىء له يتراخى لها و يجري خلفها...

(أو مغرما بالجمع و الادخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شيء شبها بهما الأنعام السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه) و هذا رابع الأربعة إنه رجل له حب و هوى في جمع المال و ادخاره فهو يسعى في سبيل المال و يحوله إلى المصارف ليزداد رقم حسابه هناك.

ثم رفض الإمام أن يكون هذان القسمان من حملة الدين و أهله فصاحب الشهوة و المغرم بالمال كلاهما لا يعرفان غير اللذة و المال و لا يتعرفان على الدين و لا علاقة لهما به.

و بعد ذلك وصفهما بأنهما كالبهائم التي ترعى مسترسلة في البراري لا تحسب لغير بطنها و لذتها حسابا فهما أيضا لا يتنبهان للدين و لا يلتفتان إليه و إلى الآخرة و بعد أن وصل إلى هنا تأسف لوصول الحال إلى هذه المرحلة التي إذا طلب فيها فردا يؤهله لتلقي علومه لا يجده...

(اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم للّٰه بحجة إما ظاهرا مشهورا و إما خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج اللّٰه و بيناته) استدرك عليه السلام على قوله: إن العلم يموت

ص: 330

بموت صاحبه قائلا: لا... إن العلم لا يموت بموتي فأنا إذا فارقت الحياة فإن هناك حملة للعلم يقام بهم الحق و عليهم مدار العلم و هم أقطاب هذا الوجود... إنهم الأئمة الذين يواكبون مسيرة البشرية و لا يفارقونها أبدا و لو لا هم لساخت الأرض بأهلها و لا تخلو منهم الأرض و هم بين ظاهر شاهر سيفه أو مستور غائب ينتظر الفرج و الأمر له بالخروج و تطهير الأرض كما هو الحال في الإمام محمد بن الحسن المهدي صلوات اللّٰه عليه الذي غاب عن الأنظار و ينتظر إذن اللّٰه له بالخروج... إن ذلك التقدير الإلهي و حفظ هذا العلم عند الأئمة لئلا تبطل حجج اللّٰه و بيناته فإنه إذا ارتفع البيان و وصول الحجة إلى الناس لم يكن للّه أن يعاقب عباده على تقصيرهم.

و يقول ابن أبي الحديد: و هذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الإمامية و لكنه على عادته يلوي النص و يحرفه ليخدم معتقده و ما يذهب إليه فمع صراحة هذا الكلام الذي يذهب إليه العرف العام و كل إنسان مستقيم الفهم سليم العقل يذهب به مذهبا بعيدا لا يقبله منه عوام الناس فكيف بالعلماء و المحققين و أصحاب الرأي...

و قال غيره من شراح النهج: هذا تصريح منه بوجوب الإمامة بين الناس في كل زمان ما دام التكليف باقيا و أن الإمام قائم بحجة اللّٰه على خلقه و يجب بمقتضى حكمته و هو إما أن يكون ظاهرا معروفا كالذين سبقوا إلى الإحسان و وصلوا إلى المحل الأعلى من ولده الأحد عشر و إما أن يكون خائفا مستورا لكثرة أعدائه و قلة المخلصين من أوليائه كالحجة المنتظر لئلا يكون للناس على اللّٰه حجة بعد الرسل...

(و كم ذا أو أين أولئك - و اللّٰه - الأقلون عددا و الأعظمون عند اللّٰه قدرا يحفظ اللّٰه بهم حججه و بيناته حتى يودعهم نظراءهم و يزرعون في قلوب أشباههم) بعد أن ذكر أنه لا تخلو الأرض من حجة استقل عددهم إنهم قلة قليلة اختارهم اللّٰه ثم استفهم عن مكانهم و محلهم و استقرارهم و بعد أن بشرّ بهم ذكر أوصافهم في معرض مدحهم و هي:

1 - الأقلون عددا و الأعظمون عند اللّٰه قدرا: عددهم اثنا عشر إماما لا غير و لكنهم نخبة العالم و أعظم الناس قدرا جعلهم اللّٰه أئمة يهدون بأمره إلى الحق و إلى الصراط المستقيم.

2 - يحفظ اللّٰه بهم حججه و بيناته حتى يودعهم نظراءهم و يزرعون في قلوب أشباههم.

بهؤلاء الأئمة حفظ اللّٰه ما أنزل من القرآن و ما ورد في السنة فقد فهموا آيات اللّٰه و خطاباته وردوا كل شبهة و دحروا كل متفلسف يريد الطعن في أي جانب من جوانب

ص: 331

التشريع... إنهم الأئمة الذين يملكون ناصية الكلام قد كشفوا زيف المبطلين و المعاندين و هكذا كان كل واحد منهم يودعها من يخلفه و يأتي بعده و يعلم من يريد أن يتعلمها ممن يحمل الأمانة من العلماء و الفقهاء.

3 - (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة) و هذا من صفات أهل البيت الأئمة...

فإن العلم قد دخل إلى قلوبهم لأن علومهم من لدن الباري جل جلاله فهو علم حقيقة انكشفت لهم الأمور و الحقائق.

4 - (و باشروا روح اليقين) لمسوا راحة اليقين و الوصول إلى ما يحبون.

5 - (و استلانوا ما استوعره المترفون) أي رفضوا حياة المترفين و نعيمها و وجدوا ما يعرفه المترفون من خشونة و قساوة و جدوه طيبا لذيذا فالزهد و التقشف و جشوبة العيش كلها بالنسبة لهم حياة كريمة لينة لأن وراءها أهدافا عظيمة...

6 - (و صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء اللّٰه في أرضه و الدعاة إلى دينه آه آه شوقا إلى رؤيتهم انصرف يا كميل إذا شئت) و هذا من خصائص الأئمة و صفاتهم... فأبدانهم في الأرض و أرواحهم عند اللّٰه... إنهم مع اللّٰه لا ينفصلون عنه لحظة و لا ينسون ذكره ساعة... إنهم الأئمة الذين يقيمون حدود اللّٰه و ينفذون أحكامه الذين يدعون إلى دينه و ينشرون مراداته... يوضحون حدود اللّٰه و ينفذون أحكامه الذين يدعون إلى دينه و ينشرون مراداته... يوضحون و يشرحون و يبينون... ينذرون... يبشرون و في الأخير إنه يتشوق إلى رؤيتهم لأنه يرى من خلالها العدل و الحق و الصدق و كل المعاني الطيبة الخيرة... برؤيتهم يرى رسول اللّٰه لأنهم ذريته و أبناؤه الذين حملوا ميراث النبوة و ثقلها...

148 - و قال عليه السلام: المرء (1) مخبوء (2) تحت لسانه.

اللغة

1 - المرء: مثلثة الميم الإنسان جمعه رجل من غير لفظة.

2 - مخبوء: مستور.

الشرح

إذا أردت أن تعرف شخصا فاتركه يتكلم فإن لسان المرء عنوان شخصيته و به تكشف حقيقته و من خلاله يظهر ما يبطن... فاللسان يكشف هذا الإنسان فلربما ظننت

ص: 332

به شيئا فلما تكلم كشف عن خلافه فقد تزدري الرجل و تحتقر مرآه فلما يتكلم و تستمع إلى حديثه يأخذك منطقه و بيانه و يجذبك إليه فتحترمه قهرا عنك بمنطق العقل و الأدب.

149 - و قال عليه السلام: هلك امرؤ لم يعرف قدره (1).

اللغة

1 - القدر: الشأن.

الشرح

إن من لم يعرف قدره و لا منزلته على حقيقتها فلا بد و أن يرفعها أكثر مما تستحق و يضعها في غير موضعها و ينزلها في غير منزلتها و بذلك يهلك فمن جهل قدره و وضع نفسه موضع العلماء ثم أخذ يفتي بغير علم و يتكلم بدون رصيد شرعي فإنه يهتك ستره في الدنيا و ينكشف للناس و بذلك تسقط منزلته و يحتقر و أما في الآخرة فالعذاب حليفه و العقاب رفيقه لأن من أفتى بغير علم أكبه اللّٰه على منخريه في جهنم و هكذا دواليك في كل رجل لم يعرف قدره و وضع نفسه في غير موضعها...

150 - و قال عليه السلام لرجل سأله أن يعظه:

اشارة

لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، و يرجّي التّوبة (1) بطول الأمل، يقول في الدّنيا بقول الزّاهدين، و يعمل فيها بعمل الرّاغبين، إن أعطي منها لم يشبع، و إن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي (2)، و يبتغي (3) الزّيادة فيما بقي، ينهى و لا ينتهي، و يأمر بما لا يأتي، يحبّ الصّالحين و لا يعمل عملهم، و يبغض المذنبين و هو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، و يقيم (4) على ما يكره الموت من أجله، إن سقم (5) ظلّ نادما، و إن صحّ (6) أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي (7) و يقنط (8) إذا ابتلي (9)، إن أصابه بلاء (10) دعا

ص: 333

مضطرّا، و إن ناله (11) رخاء (12) أعرض مغترّا (13)، تغلبه نفسه على ما يظنّ ، و لا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، و يرجو لنفسه بأكثر من عمله، إن استغنى بطر (14) و فتن، و إن افتقر قنط و وهن (15)، يقصّر إذا عمل، و يبالغ إذا سأل، إن عرضت له شهوة أسلف (16) المعصية، و سوّف (17) التّوبة، و إن عرته محنة (18) انفرج (19) عن شرائط الملّة (20).

يصف العبرة (21) و لا يعتبر، و يبالغ في الموعظة و لا يتّعظ، فهو بالقول مدلّ (22)، و من العمل مقلّ ، ينافس فيما يفنى، و يسامح فيما يبقى. يرى الغنم (23) مغرما (24)، و الغرم مغنما، يخشى الموت، و لا يبادر (24) الفوت (25)، يستعظم من معصية غيره ما يستقلّ أكثر منه من نفسه، و يستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على النّاس طاعن (27)، و لنفسه مداهن (28)، اللّهو مع الأغنياء أحبّ إليه من الذّكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه، و لا يحكم عليها لغيره، يرشد (29) غيره و يغوي (30) نفسه، فهو يطاع و يعصي، و يستوفي (31) و لا يوفي (32)، و يخشى (33) الخلق في غير ربّه و لا يخشى ربّه في خلقه.

قال الرضي: و لو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة، و حكمة بالغة، و بصيرة لمبصر، و عبرة لناظر مفكر.

اللغة

1 - يرجّي التوبة: يؤخرها.

2 - أوتي: أعطي.

3 - يبتغي: يطلب.

4 - يقيم على الشيء: يداوم عليه.

5 - سقم: مرض.

6 - صحّ : سلم و تعافى.

ص: 334

7 - عوفي: من العافية و هي الصحة و عدم المرض.

8 - يقنط: ييأس.

9 - ابتلي: أصيب بمصيبة.

10 - البلاء: الغمّ .

11 - ناله: أصابه.

12 - الرخاء: النعيم و السعة.

13 - المغتر: الذي أصابه الغرور.

14 - بطر: طغى بالنعمة.

15 - وهن: ضعف.

16 - أسلف: قدّم.

17 - سوّف: أخّر.

18 - عرته محنة: أصابته مصيبة و عرضت له.

19 - انفرج عنها: ابتعد عنها و انخلع منها.

20 - الملة: الدين.

21 - العبرة: الموعظة التي تنبه النفس إلى ما يصيب غيرها فتحترس منه.

22 - المدل: المستعلي.

23 - الغنم: بالضم الغنيمة.

24 - الغرم: الغرامة.

25 - بادر: أسرع و عجّل.

26 - الفوت: فوات الفرصة و انقضاؤها.

27 - طاعن: عائب.

28 - المداهن: المخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن.

29 - يرشد: يهدي.

30 - يغوي: يضل.

31 - يستوفي: يأخذ حقه كاملا.

32 - يوفي: من وفيّ توفية الرجل حقه أعطاه إياه تاما.

33 - يخشى: يخاف.

الشرح

هذا رجل شعر أن بقلبه قساوة فتوجه إلى الإمام طالبا منه الموعظة التي ترقق هذا القلب و تلين قساوته فبادر إلى موعظته بهذه الكلمات الكريمة التي قال عنها الشريف

ص: 335

الرضي: إنه لو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة و حكمة بالغة و بصيرة لمبصر و عبرة لناظر مفكر.

و قد أجاد بعضهم حيث ذكر أنه عليه السلام قد نهى طالب الموعظة عن أربع و ثلاثين رذيلة و نحن سنبتدئ بذكر هذه الموعظة بذكر فقراتها فقرة فقرة.

1 - لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل: فإذا كنت تطلب الآخرة و تريد الوصول إليها فلا تقتصر في طلبك لها على مجرد التمني بل لا بد لك من أن تقرن الرجاء بالعمل و تجمع بينهما...

و في الحديث عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا و لا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو(1).

2 - و يرجّي التوبة بطول الأمل: فإذا أذنب لا يبادر إلى التوبة و الرجوع إلى اللّٰه بل لأن أمله طويل في الدنيا يؤخرها و يسوّفها و لا يدري أن الموت ربما أتاه فجأة فيقطع أمله و يبطل توبته و بذلك أعظم الفواجع و أقساها فلا تكن أنت ذلك المسوف للتوبة بل بادر إليها و بأسرع ما يكون...

3 - يقول في الدنيا بقول الزاهدين و يعمل فيها بعمل الراغبين: فهذا إذا تحدث عن الزهد تراه يبلغ الغاية في وصفه و منافعه و ثمراته و ما أعده اللّٰه للزاهدين... ففي حديثه زاهد متنسك و لكن في عمله راغب طالب نهم شره فقوله يخالف عمله و هذا خداع و تضليل و تحريف و تزوير.

4 - إن أعطي منها لم يشبع: و هذه رذيلة الحرص... إنه يفتح بطنه و لا يملأه إلا الموت... فما يأتيه من الدنيا لا يكتفي به و لا يوفيه.

5 - و إن منع منها لم يقنع: إذا منع عن بعض الأمور تراه يلح و يصرّ و يكرّر الطلب و لا يرضى بالقناعة.

6 - يعجز عن شكر ما أوتي و يبتغي الزيادة فيما بقي: فهو يجمع بين رذيلة عدم الشكر لما أعطاه اللّٰه فلا يقوم بأداء شكره و بين رذيلة طلب الزيادة و أنه مهما أعطي يبقى يطلب الزيادة و ينشد الكثرة... لا يؤدي شكر ما أعطى و يطلب ما لم يعط...

7 - ينهى و لا ينتهي: ينهى الناس عن الدنيا و حطامها و لا ينتهي عنها أو يكف عن طلبها و السعي لها.5.

ص: 336


1- وسائل الشيعة كتاب جهاد النفس باب 13 حديث 5.

8 - و يأمر بما لا يأتي: يأمر غيره من الناس بالإحسان و كرم الأخلاق و طيب العشرة و لكنه لا يأتي هو بشيء مما يأمر...

9 - يحب الصالحين و لا يعمل عملهم: يحب الصالحين لعملهم لأنهم قوم مع اللّٰه و في خدمة عباده و لكنه لا يعمل عملهم و لا يقتدي بهم...

10 - و يبغض المذنبين و هو أحدهم: في نفسه كره للمذنبين لأنهم خرجوا عن طاعة اللّٰه و إرادته و لكنه أحدهم بأفعاله و ممارساته و سلوكه فكأنه في العمق يكره نفسه و لا يدري.

11 - يكره الموت لكثرة ذنوبه و يقيم على ما يكره الموت من أجله: فهو يكره الموت لكثرة ذنوبه لأن بعد الموت حساب و عقاب و عذاب فيكره الموت خوفا من العذاب و لكنه لتعاسته يمارس الذنوب و الأعمال السيئة التي من أجلها كان يكره الموت فهو يكره الشيء و يمارسه...

12 - إن سقم ظل نادما: إذا حل به المرض و جم و حزن و تأسف على تلك الساعات التي قضاها بعيدا عن اللّه و في غير طاعته.

و إن صح أمن لاهيا: إذا كان سليما معافى في بدنه و صحته تراه يلهو مطمئنا مسرورا و كأنه قد ملك الدنيا و أمن من العذاب لا يفكر في عاقبة و لا يحسن تدبير أمور الآخرة...

13 - يعجب بنفسه إذا عوفي: إذا كان معافى أخذه العجب فتاه و لم يعد ينظر إلى قفاه فأهلك نفسه و أوبقها.

14 - و يقنط إذا ابتلي: إذا ابتلاه اللّٰه بمصيبة في نفسه أو في ماله تراه يدب اليأس إلى قلبه و يقطع رجاءه ممن بيده الشفاء...

15 - إن أصابه بلاء دعا مضطرا و إن ناله رخاء أعرض مغترا: إذا نزلت به نازلة عاد إلى اللّٰه و دعاه دعاء المضطر بقلب كله حرقة و اندفاع و صدق و لكنه إذا أقبلت الدنيا عليه و أصبح في سعة أعرض عن اللّٰه و نسي فضله و اغتر بما يملك قال تعالى: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ » (1) و قال تعالى: «وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ » (2).3.

ص: 337


1- سورة النحل، آية - 53.
2- سورة الإسراء، آية 83.

16 - تغلبه نفسه على ما يظن و لا يغلبها على ما يستيقن: و هذه رذيلة حيث ينساق وراء ما تظنه نفسه و تشتهيه فبمجرد أن يظن بأمر و يكون منسجما و هواه تراه يميل إليه فتغلبه شهوته بينما لا يستطيع أن يقهرها على ما يعلم أنه سيصير إليه من الموت و الحساب و الوقوف بين يدي اللّٰه.

17 - يخاف على غيره بأدنى من ذنبه و يرجو لنفسه بأكثر من عمله: فهو يخاف على الآخرين ذنوبهم الصغيرة التي هي أقل من ذنوبه و لا يخاف ذنوبه و هذا عيب كبير أن تخاف على الناس من ذنوبهم الصغيرة و لا تخاف على نفسك من ذنوبك التي هي أكبر من التي تخافها على غيرك.

و كذلك من العيوب أن يرجو لنفسه على العمل الذي يقوم به أكثر مما يستحق فإذا عمل عملا صغيرا رجى الثواب الكبير.

18 - إن استغنى بطر و فتن: قال تعالى: «إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىٰ » فإذا أصابه الغنى فصار من الأغنياء تحول بأمواله إلى المجون و استعمله كسلاح يستعلي به على الناس و هكذا...

19 - و إن افتقر قنط و وهن: إذا أصابه الفقر يئس من الحياة و وقع ما في يديه و عجز عن مقاومة الحالة الحاضرة المطبقة بقساوتها عليه... إنه ينهار و يدب اليأس إلى قلبه...

20 - يقصر إذا عمل: إذا عمل عملا لا يتمه أو لا يكمله أو لا يجيده فهو يعيش التقصير في عمله.

21 - و يبالغ إذا سأل: إذا أراد أمرا و سأل أربابه ألح عليهم و طلبه بشدة منهم و هذا عكس قوله تعالى: «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لاٰ يَسْئَلُونَ اَلنّٰاسَ إِلْحٰافاً» (1) فمدحهم سبحانه لعدم الإلحاح في السؤال.

22 - إن عرضت له شهوة أسلف المعصية و سوف التوبة: فهو يعصي اللّٰه لمجرد أن تدعوه شهوته لأمر محرم فهو بعزمه على ارتكاب الحرام كان مقدما على المعصية قبل وقوعها و إذا وقعت لا يبادر إلى التوبة بل يؤخرها لشقائه و تعاسته.

23 - و إن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة: إذا وقع في مصيبة أو بلية يخرج عن3.

ص: 338


1- سورة البقرة، آية - 273.

الإسلام و يكفر بالرحمن و ينسى الصبر و أجر الصابرين.

24 - يصف العبرة و لا يعتبر: يصف ما فيه عظة و عبرة و دروس لغيره من الناس حتى يتعظوا و يعتبروا و لا يعتبر هو أو يتعظ... يصف الدواء لغيره و لا يداوي نفسه.

25 - و يبالغ في الموعظة و لا يتعظ: يجيد الموعظة لغيره و يبلغ بها منتهاها فيتأثر بها الغير و يتعظ أما هو فلا يتأثر بما يقول و لا ينتبه إليه...

فهو بالقول مدلّ و من العمل مقلّ : كلامه كثير و فعله قليل فهو يدخل في قوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ » .

26 - ينافس فيما يفنى و يسامع فيما يبقى: إنه يزاحم الناس و يعلو عليهم في الجمع فيما يفنى من متاع الدنيا و حطامها بينما لا يسأل عن الآخرة و نعيمها و ما فيها مما يبقى له و لا يفنى أبدا...

27 - يرى الغنم مغرما و الغرم مغنما: يرى الإنفاق في سبيل اللّٰه المتمثل بإداء الزكاة و الخمس و الصدقات ضريبة ثقيلة على نفسه بينما يرى ما ينفقه في اللهو و يصرفه في الانحراف هو ما ينتفع به و يستفيده...

28 - يخشى الموت و لا يبادر الفوت: إنه يخاف الموت و ما بعده من الحساب و العقاب و لكن لسوء حظه و تعاسة جده لا يبادر إلى اغتنام الفرص فيستفيد من الوقت قبل الموت... لا يستفيد منه بالعمل الصالح الذي به يأمن من الموت و ما بعده...

29 - يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه و يستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره فهو على الناس طاعن و لنفسه مداهن: يرى معصية غيره كبيرة جدا بينما معصيته و إن كانت كبيرة يراها صغيرة يكبّر القشة لتصبح جذعا إذا كانت عند غيره بينما يصغر الجذع ليصبح قشة إذا كان عنده و كذلك لو أتى ببعض الأعمال الصالحة يراها كبيرة جدا بينما لو أتى بالأعمال الكبيرة الصالحة غيره لرآها قليلة حقيرة فهو بسلوكه هذا يذم الناس و يعيبهم و يطعن عليهم بينما لنفسه مداهن متساهل في أمر نفسه لا يذكر لها عيبا و لا يرى فيها نقصا...

30 - اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء: من شدة حبه للدنيا و تعلقه بها يرى اللهو مع الأغنياء و أصحاب المال في الملاهي و البارات أحب إليه من مجالس الذكر مع الفقراء، فهو لا يحب طاعة اللّٰه مع الفقراء بل يؤثرها بمعصيته مع الأغنياء...

31 - يحكم على غيره لنفسه و لا يحكم عليها لغيره: فهو يصدر الحكم على الغير

ص: 339

لصالح نفسه بينما لا يحكم لغيره على نفسه و لا يدين نفسه لصالح غيره...

32 - يرشد غيره و يغوي نفسه فهو يطاع و يعصي: إنه يهدي غيره إلى الطرق السليمة و ما فيه فوزه و نجاته بينما هو نفسه يضل و ينحرف و يعدل عن الاستقامة و الهدى فهو يطاع من قبل غيره ممن يسمع له بينما هو يعصي و يتمرد على كل من يأمره بخير أو يهديه إلى هدى...

33 - و يستوفي و لا يوفي: إذا كان له على الناس حق أخذه كاملا تاما غير منقوص بينما إذا كان للناس عليه حق لا يسلمهم حقهم كاملا متكاملا و هذا يدخل في قوله تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتٰالُوا عَلَى اَلنّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » (1).

34 - و يخشى الخلق في غير ربه و لا يخشى ربه في خلقه: يخاف من العباد و يحسب لهم ألف حساب في أمر ليس للّٰه و هذا يستدعي أن يعصيه ليرضيهم...

و كذلك لا يخاف ربه في عباده أي لا يطيعه في الإحسان إليهم و عدم الأذية لهم...

151 - و قال عليه السلام: لكلّ امرىء عاقبة حلوة أو مرّة.

الشرح

إذا كانت الكلمة «لكل أمر» فهذه دعوة منه إلى تدبر الأمور و النظر في عواقبها فإن كانت حلوة أقدم عليها كالنظر إلى الآخرة و ما وراءها من سعادة دائمة فيقبل عليها...

و إن كانت العاقبة مرة و سيئة كالإقبال على الدنيا و ما فيها من متاعب و آثار سيئة اجتنبها و ابتعد عنها بل سخرها للآخرة...

و أما إذا كانت الكلمة «لكل امرىء» فهذا كقوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ» فنهاية بعض الناس إلى الجنة و بعضهم إلى النار و الأولى عاقبة حلوة و الثانية عاقبة مرة.

ص: 340


1- سورة المطففين، آية - 1، 2.

152 - و قال عليه السلام: لكلّ مقبل إدبار، و ما أدبر كأن لم يكن.

الشرح

الشباب و الصحة و الجاه و المال كلها إذا أقبلت عليك فإنها ستدبر عنك و ستتركها قهرا عنك و ما أدبر عنك كأن لم يكن و كأنه لم يوجد و كأنك لم تتنعم به فهي إذا حقيرة سخيفة لا يجوز للإنسان أن يصرف همه إليها و هذا توجيه إلى الاهتمام بالأمور الباقية التي لا تفنى ككمالات النفس و تهذيبها و الآخرة و ما فيها...

153 - و قال عليه السلام: لا يعدم الصّبور الظّفر (1) و إن طال (2) به الزّمان.

اللغة

1 - الظفر: الفوز.

2 - طال: امتد.

الشرح

الصبر مهما كان قاسيا و مرا و مهما كان دربه طويلا و شاقا فإن لذة الظفر و الفوز بالمطلوب تهوّنه و تسهله و تيسره على أهله و ما من أمة صبرت إلا و ظفرت و في التاريخ شواهد كثيرة و على رأس القائمة أمتنا الإسلامية في ابتداء تكوينها...

154 - و قال عليه السلام: الرّاضي بفعل قوم كالدّاخل فيه معهم.

اشارة

و على كلّ داخل في باطل إثمان: إثم (1) العمل به، و إثم الرّضى به.

اللغة

1 - الإثم: الذنب.

ص: 341

الشرح

هناك مرتكب للحرام في الخارج يمارسه في سلوكه و عمله فيشرب الخمر أو يزني، و هناك إنسان بعيد عن ذلك و لكنه راض بهذا الفعل يقبله من غيره و هنا على الفاعل إثمان إثم الرضى و إثم الممارسة و الفعل و على الراضي بذلك إثم واحد هو إثم الرضى بما يرتكب من الحرام...

فإن قلت: لما ذا يأثم الراضي بفعل الحرام من غيره مع أنه هو شخصيا لم يمارس الحرام...

قلت: إن هذا الراضي بفعل الحرام متمرد على اللّٰه عاص له من حيث إنه في عمقه الداخلي يرضى بمعصية اللّٰه و من يرضى بمعصية اللّٰه فهو متمرد عليه لأن ذلك دليل مرضه من الداخل و من مقتضى الإيمان أن لا يرضى المؤمن بمعصية اللّٰه و في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم.

155 - و قال عليه السلام: اعتصموا (1) بالذّمم (2) في أوتادها (3).

اللغة

1 - اعتصموا: تحصّنوا.

2 - الذمم: العهود.

3 - الأوتاد: جمع و تد ما رز في الأرض أو الحائط من خشب و نحوه.

الشرح

قالوا: إن هذه الكلمة قالها بعد انقضاء أمر الجمل و حضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه منهم مروان بن الحكم فقال: و ما ذا أصنع ببيعتك ؟ ألم تبايعني بالأمس يعني بعد مقتل عثمان ثم أمر بإخراجهم و رفع نفسه عن مبايعة أمثالهم و تكلم بكلام ذكر فيه ذمام العرب و ذمام الإسلام و ذكر أن من لا دين له لا ذمام له ثم قال في أثناء الكلام هذه الكلمة: أي إذا صدرت عن ذوي الدين فاقبلوها أما من لا دين له عهد له...

و بعبارة أخرى: اتخذوا أصحاب الدين دخلاء صدق و اقبلوهم اخوانا لكم و لا تقبلوا الخونة و من لا دين لهم...

ص: 342

156 - و قال عليه السلام: عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته.

الشرح

عليكم بطاعة اللّٰه و رسوله و الإمام الذي يخلف الرسول في منصبه فإن معرفتهم واجبة و لا يعذر المرء إذا جهلها فوجب الالتزام بطاعتهم...

و قال ابن أبي الحديد و قوله حق في الجملة: يعني نفسه عليه السلام و هو حق على المذهبين جميعا أما نحن فعندنا أنه إمام واجب الطاعة بالاختيار فلا يعذر أحد من المكلفين في الجهل بوجوب طاعته و أما على مذهب الشيعة فلأنه إمام واجب الطاعة بالنص فلا يعذر أحد من المكلفين في جهالة إمامته و عندهم أن معرفة إمامته تجري مجرى معرفة محمد - صلّى اللّٰه عليه و آله - و مجرى معرفة الباري سبحانه و يقولون: لا تصح لأحد صلاة و لا صوم و لا عبادة إلا بمعرفة اللّٰه و النبي و الإمام. و على التحقيق فلا فرق بيننا و بينهم في هذا المعنى لأن من جهل إمامة علي عليه السلام و أنكر صحتها و لزومها فهو عند أصحابنا مخلد في النار لا ينفعه صوم و لا صلاة لأن المعرفة بذلك من الأصول الكلية التي هي أركان الدين و لكنا لا نسمي منكر إمامته كافرا بل نسميه فاسقا و خارجيا و مارقا و نحو ذلك و الشيعة تسميه كافرا فهذا هو الفرق بيننا و بينهم و هو في اللفظ لا في المعنى.

157 - و قال عليه السلام: قد بصّرتم إن أبصرتم، و قد هديتم إن اهتديتم، و أسمعتم إن استمعتم.

الشرح

هذه الآثار نراها بأم العين، إنها آثار من تقدم علينا و مخلفاتهم فيجب أن نبتصر بها و نعتبر و نأخذ الحكمة من ذلك.

و هذه أبواب الهداية مفتوحة أمامنا لو أردنا أن نهتدي لاهتدينا.

و هذه نداءات اللّٰه على ألسنة الرسل و هذه عظات الصالحين تملأ الخافقين لمن أراد أن يسمع فكل هذه الآيات أمامنا ينبغي أن نعتبر بها...

ص: 343

158 - و قال عليه السلام: عاتب (1) أخاك بالإحسان إليه، و اردد (2) شرّه بالإنعام (3) عليه.

اللغة

1 - عتب عليه: أنكر عليه شيئا من فعله.

2 - اردد: اصرف.

3 - الأنعام: العطايا.

الشرح

هذا هو أدب أئمتنا و منهاجهم في تأديب شيعتهم... هذا هو سلوكهم مع من كان يؤذيهم... إنه الصفح و العفو و الإحسان... لقد نالوا أكبر قسط و رجعوا بأوفر نصيب من هذه المكارم... لقد علموا الناس كيف يتجسد الإسلام بشرا يتحرك على هذه الأرض... فإذا أردت معاتبة أخيك فلا تقابله بالشدة و القسوة و لا بالكلمة القارصة بل قابله بالإحسان إليه و التفضل عليه و إذا آذاك فأكرمه و أنعم عليه حتى يعود إلى رشده و يلتفت إلى ربه و يرجع إلى ضميره...

159 - و قال عليه السلام: من وضع نفسه مواضع التّهمة (1) فلا يلومنّ (2) من أساء به الظّنّ .

اللغة

1 - التهمة: ما يتهم به و هو الظن به.

2 - اللوم: العذل.

الشرح

أنت تقيم في الخمارة و على أبواب الدعارة و تتردد باستمرار على بيوت الفساد و اللهو و تريد من الناس أن يحسنوا الظن بك هذا أمر محال بل لا بد و أن يظنوا بك ظن

ص: 344

السوء نتيجة مواقفك و مداخلك السيئة فإذا أساءوا بك الظن فلا تلو منهم بل يجب أن تلوم نفسك التي لم تتنزه عن هذه المحلات القبيحة... و هذه دعوة إلى تجنب الأماكن التي يتهم بها المرء و يساء الظن به من خلالها...

160 - و قال عليه السلام: من ملك استأثر (1).

اللغة

1 - استأثر: استبد.

الشرح

من طبيعة الحاكم أن يستبد و من طبيعته أن يستأثر لنفسه بأمور يحبها و يرغب فيها كما أنه يرفض لغيره أن يشاركه فيها و لا أقل أنه يستأثر بمركز القيادة و مركز القرار و لا يرضى أن يتنازل عنه لأحد و من هذا المركز تتفرع كل الاختصاصات الأخرى...

161 - و قال عليه السلام: من استبدّ (1) برأيه هلك، و من شاور الرّجال شاركها في عقولها.

اللغة

1 - استبد: استقل به منفردا.

الشرح

من استقل برأيه و اكتفى به دون أن يرجع إلى أصحاب الخبرة و الدراية و أهل المعرفة فإنه يهلك لأنه يملك عقلا واحدا ليس معصوما عن الخطأ.

و من شاور الناس فأبدوا آراءهم و عرف ما عند كل واحد منهم فكأنه شاركهم في عقولهم فيختار ما هو أصلح و أنجح من الآراء و المقترحات و هذا ترغيب في المشاورة

ص: 345

و تنفير عن الانفراد بالرأي و الاستقلال به و ليس كل أحد يستشار و ليس في كل قضية تكون الاستشارة فهناك شروط يجب أن تتوفر فيمن تستشيره و أهمها أن يكون متدينا ملتزما خبيرا فيما تستشيره فيه إلى غير ذلك مما يجب توفره في المستشير...

162 - و قال عليه السلام: من كتم سرّه (1) كانت الخيرة (2) بيده.

اللغة

1 - كتم السر: أخفاه.

2 - الخيرة: الخيار.

الشرح

ترغيب في كتمان السر، و إن من كتم سره و لم يفشه لأحد كان الخيار بيده إن شاء أذاعه و أظهره متى شاء و إن شاء احتفظ به و أبقاه عنده...

و أما إذا أفشاه فقد صار عند غيره و امتنع هذا الخيار و صار سره في عهدة غيره...

163 - و قال عليه السلام: الفقر الموت الأكبر.

الشرح

كأنه عليه السلام قسم الموت إلى قسمين.

القسم الأول هو المعتاد بين الناس الذي يتم بانقضاء الحياة فيستوفي الإنسان أجله القسم الأول هو المعتاد بين الناس الذي يتم بانقضاء الحياة فيستوفي الإنسان أجله عند تمامه و هذا هو الموت الأصغر.

القسم الثاني هو الموت الأكبر الذي يكون ضمن الفقر و ذلك لأن الفقير لا يصل إلى رغباته و يبقى يكابد ألم الحاجة و مسّ الضر بما يحمل ذلك من مرارة و قساوة و عدم استقرار و قد يصل الأمر بالفقير أن يطلب الموت أكثر من مرة من أجل التخلص مما هو فيه و هذا الطلب للموت دليل على أن ما هو فيه أكبر مما سيقع عليه من الموت الذي

ص: 346

يختم الحياة و ينهي وجود هذا الإنسان.

و هذه واحدة من كلمات الإمام التي يذكر فيها الفقر و يصفه بالموت الأكبر و له عليه السلام كلمات منها قوله: الفقر منقصة للدين مدهشة للعقل داعية للمقت و منها مساوته بالكفر حيث قال: كاد الفقر أن يكون كفرا و هكذا...

164 - و قال عليه السلام: من قضى (1) حقّ من لا يقضي حقّه فقد عبده.

اللغة

1 - قضى: أدى.

الشرح

هناك قراءة «عبّده» بالتشديد و يكون المعنى أن من أنعمت عليه ابتداء فقد جعلته عبدا بإحسانك و إنعامك عليه لأنه لا يستحق ذلك منك و لكن تفضلا منك فتعبّده بإحسانك.

و أما إذا كانت «عبده» بالتخفيف فيكون المعنى أنك إذا قضيت حق من لا يستحق قضاء الحق فقد عبدته أي عند ما يقضي الإنسان حق الغير بدون استحقاق و لا خوف و لا رجاء فقد اعتبره يستحق ذلك لذاته و هذا معنى العبودية الصرفة...

165 - و قال عليه السلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

الشرح

في الأصل يجب أن تكون الطاعة للّٰه لأنه الخالق الذي أفاض علينا الوجود فشكره يتجسد في طاعته و من هذه الطاعة تتفرع الطاعات الأخرى كطاعة الرسول باعتباره مبلغا لرسالة اللّٰه - و طاعة الأئمة - باعتبارهم خلفاء رسول اللّٰه - و طاعة الوالدين أو الزوجة

ص: 347

لزوجها - فلأن اللّٰه أمر بذلك و من هنا فكل طاعة يكون فيها معصية للّٰه لا تقبل... فلو أمرت بترك الصلاة أو السرقة أو بأمر فيه حرام فلا طاعة للآمر إذا كانت مؤدية إلى معصية اللّٰه و الانحراف عن أوامره...

و هذه دعوة إلى رفض كل أمر يتعارض مع أمر اللّٰه...

166 - و قال عليه السلام: لا يعاب المرء بتأخير حقّه، إنّما يعاب من أخذ ما ليس له.

الشرح

قال ابن أبي الحديد: إن هذا الكلام منه عليه السلام جواب لسائل سأله: لم أخّرت المطالبة بحقك من الإمامة ؟ فأجابه بهذا الجواب.

و كأنه عليه السلام يريد أن يقول للسائل: لا عيب و لا غضاضة إذا أخّر المسلم المطالبة بحقه إذا كان له عذر في التأخير كحدوث فتنة و ما أشبهها و إنما العيب على من أخذ ما ليس له بحق فذلك هو المجرم و المنحرف و في هذا طعن على من سلبه حقه و استبد به دونه...

167 - و قال عليه السلام: الإعجاب يمنع الازدياد.

الشرح

الاعجاب بالنفس أن يراها قد بلغت الكمال و الغاية العظمى و إذا رأى المرء نفسه كذلك امتنع عن طلب الزيادة و ارتفع عن اكتساب الكمال لظنه أنه لا زيادة حتى يطلبها...

و قد وردت الأحاديث في ذم العجب و بيان أخطاره و عواقبه السيئة.

في الحديث عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه

ص: 348

و يعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله ذلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه.

و قال رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) في حديث: ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه.

168 - و قال عليه السلام: الأمر قريب و الاصطحاب (1) قليل.

اللغة

1 - اصطحبه: جعله في صحبته.

الشرح

مراده بالأمر «الموت» و ليس هناك أقرب منه فالإنسان في كل يوم يتحرك نحو أخرته و لكن ما يأخذه معه من الدنيا قليل جدا فهو لا يفعل الخير بل يزهد فيه و هذا هو ما يصطحبه معه و ما ينفعه و يفيده و هو قليل قلما يتنبه الإنسان له...

169 - و قال عليه السلام: قد أضاء الصّبح لذي عينين.

الشرح

أراد أن يبين أن الحق واضح جلي فمن أراد الرشاد استرشد و أما من أراد أن يحوم حول الشبه و يتمسك بالأباطيل فلن تنفعه كل الحجج و البراهين.

170 - و قال عليه السلام: ترك الذّنب أهون من طلب التوبة.

الشرح

ترك الذنب أي عدم ارتكابه أمر ميسور مقدور لا يحتاج إلى كلفة و لا زيادة مؤنة.

و أما التوبة فإنها تحتاج إلى مقدمات قد تتوفر لمن أراد التوبة و قد لا تتوفر و قد

ص: 349

يعجز عنها و قد لا يقدر عليها كمن أذنب بسرقة أموال الناس و بعد إنفاقها أراد التوبة ثم عجز و أفلس فمثل هذا لا تسقط التوبة حقوق الناس بل يبقى يطالب بها فلو ترك النذب من رأس لكان أهون عليه من طلب التوبة الآن...

171 - و قال عليه السلام: كم من أكلة منعت أكلات!.

الشرح

أضحت هذه الكلمة مثلا سائرا يتناقله الناس و هو يضرب لمن فعل فعلا كان سببا في حرمانه من غيره من الأمور الطيبة الأخرى فصار إفراطه سببا في حرمانه.

و أصله: إن الرجل يأكل حتى يتخم فيحمى عن الأكل و يؤمر بالكف عن تناوله عدة أيام فتكون الأكلة الزائدة سببا في منعه من تناول الأكلات الأخرى أثناء الحمية بل ربما أدت هذه الأكلة إلى الموت إذا ازدادت زيادة فاحشة...

172 - و قال عليه السلام: النّاس أعداء ما جهلوا.

الشرح

إذا جهلت أمرا أو حكما أو قضية تعاملت معها معاملة العدو من حيث بعدك عنها و عدم اهتمامك بشأنها بل قد تحاربها إذا توفرت لك الظروف - اعتقادا منك بأنها باطلة أو سخيفة أو لا يجوز بقاؤها غافلا عن وجه المصلحة و المنفعة فيها لجهلك - و من هنا كان العلم الذي هو ضد الجهل يفتح القلوب و ينير الأذهان و يكشف الظلمات و يوقف الإنسان أمام الأشياء بدقة و على الوجه السليم.

173 - و قال عليه السلام: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطإ.

اشارة

ص: 350

الشرح

في الحوزات العلمية و الجامعات و عند العلماء المحققين أنهم عند ما يطرحون مسألة عليهم أن يذكروا جميع الأقوال فيها و كل الاحتمالات الممكن فرضها و التي يمكن أن تتحمله المسألة ثم يبدءون بمناقشة كل رأي مستقلا و كذلك كل احتمال حتى يأتوا على الآراء كلها فيبطلوها ثم يتبنون رأيا لهم خاصا يدعمونه بالأدلة و البراهين و هكذا كل قضية فإذا عرضت على العلماء الآراء عرفوا الخطأ من الصواب فرفضوا الخطأ و تبنوا الصواب...

174 - و قال عليه السلام: من أحدّ (1) سنان (2) الغضب للّٰه قوي على قتل أشدّاء الباطل.

اللغة

1 - أحدّ: بفتح الهمزة و الحاء و تشديد الدال أي شحذ.

2 - السنان: نصل الرمح.

الشرح

من تنمّر للّٰه و أخذته العزة في سبيل اللّٰه استطاع أن يقهر الباطل مهما كان قويا و عظيما و جبارا فموسى النبي الضعيف في موازين البشر استطاع بصبره و جلده و تمسكه بدينه أن يقهر فرعون و يذله و يزيل دولته و ينهي حكمه.

و النبي محمد بقوة إيمانه و ثبات عقيدته و هو يتيم استطاع أن يقضي على الجاهلية بكل رموزها و عاداتها و تقاليدها و يبني الإسلام في نفوس الناس و في الحياة و هكذا يستطيع كل إنسان مؤمن أن يسير على نفس الطريق التي سلكها موسى و محمد و الأنبياء و يقضي على الباطل بكل أشكاله و ألوانه...

ص: 351

175 - و قال عليه السلام: إذا هبت (1) أمرا فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه (1) أعظم ممّا تخاف منه.

اللغة

1 - هبت أمرا: خفت منه.

2 - التوقي: الاحتراز.

الشرح

إذا كنت تتخوف من قضية فأطرق أبوابها بحكمة و حذر و استعد لها بالأمور الممكنة عندك التي يجب توفرها لمثلها و لا تحجم عن اقتحامها و تعيش مترددا في اتخاذ القرار بحقها، فإن التردد و التهيب منها أعظم هما و أسى على النفس من اقتحامها و هذا مجرّب بالوجدان فإنك تتهيب و تخشى أن تقابل شخصية معينة و قبل لقائه تقف تفكر كيف يستقبلك و تحسب لكلماتك كل كلمة حسابها فأنت تعيش لحظات ما قبل اللقاء بأشد صعوبة مما تعيشها أثناؤه بل عند ما تلتقي معه تتبدد كل تلك المحاذير و المخاوف و يذهب التهيب بالكلية...

176 - و قال عليه السلام: آلة الرّياسة سعة الصّدر.

الشرح

الرياسة تعني الزعامة، و الزعامة تختلف فقد تضيق و قد تتسع و باعتبار أنها تتطلب تصريف أمور الناس و حلّ مشكلاتهم و درس قضاياهم، و قد يعرض على الرئيس السلم تارة و الحرب أخرى و المهادنة ثالثة و هذه الأمور كلها تحتاج إلى الإنسان الذي يتحملها و يحملها بسعة صدر و يستقبلها بكل هدوء و سرور فيقضي حاجة المحتاج دون ضجر و يحل عقدة الآخر دون ملل و يرفع النزاع ثالثة و هكذا دواليك و هذه تحتاج إلى صبر و أناة و يحل عقدة الآخر دون ملل و يرفع النزاع ثالثة و هكذا دواليك و هذه تحتاج إلى صبر و أناة وسعة صبر ليستوعب الناس و يحتملهم و هذا من لوازم الرياسة و صفات الرؤساء و الزعماء.

ص: 352

177 - و قال عليه السلام: ازجر (1) المسيء بثواب المحسن.

اللغة

- الزجر: الصيحة بشدة و انتهار، المنع.

الشرح

هذا أسلوب من أساليب التربية أن تكرم المحسن و تثيبه و تكافئه و بهذا من جهة تشجع المحسن و تقوّي عزيمته ليزداد إصرارا في شق طريق نجاحه و تكامله و تقديم أعظم الإنجازات و من جهة أخرى تأنيب للمسيء و زجر له عن إساءته لأنه عند ما يرى نتيجة الإحسان و النجاح يؤنبه ضميره و يحس من نفسه أن عليه أن يشد العزيمة و يطرد الكسل و يلتحق بركب الناجحين و العاملين المحسنين...

178 - و قال عليه السلام: احصد (1) الشّرّ من صدر غيرك بقلعه (2) من صدرك.

اللغة

1 - الحصاد: بالفتح و الكسر قطع الزرع و هو يكون من على وجه الأرض.

2 - القلع: انتزاع الشيء من أصله.

الشرح

إذا أردت أن تقتل الشر المتمثل بالحقد و الحسد و الغل و الضغينة و غيرها من قلوب الناس فابدأ بقتلها من نفسك أولا فإن استطعت القضاء عليها و اجتثاث جذورها من نفسك فأنت على القضاء عليها من نفوس الآخرين أقوى و أقدر.

و قال بعضهم: إن معنى الكلمة: لا تضمر لأخيك سوءا فإنك لا تضمر ذلك إلا يضمر لك ذلك لأن القلوب يشعر بعضها ببعض فإذا صفوت لواحد صفا لك.

ص: 353

179 - و قال عليه السلام: اللّجاجة (1) تسلّ الرّأي (2).

اللغة

1 - اللجاجة: شدة الخصام تعصبا لا للحق.

2 - سل الشيء: انتزعه و أخرجه برفق.

الشرح

اللجاجة تعني الإصرار على الإنكار و التمرد في وجه القضايا المطروحة بحيث يفقد اللجوج الصبر و التروي و بذلك يؤثر على رأيه و وعيه و لا يعود يسمع كلمة الحق أو ينصاع إلى العقل أو يستمع إلى المحاور فيبقى في إطار نفسه ينغلق عليها و يفقد صحة الرأي و سلامته الذي يمكن أن يحصل عليه بالحوار و النقاش...

180 - و قال عليه السلام: الطّمع رقّ (1) مؤبّد (2).

اللغة

1 - الرق: العبودية.

2 - المؤبد: من الأبد و هو الدهر.

الشرح

الذي يعيش الطمع و ينظر باستمرار إلى ما في أيدي الناس يترقب منهم دائما إمداده و إعطاؤه، هذا الإنسان يعيش الذل و الهوان و يقبل الاستعباد و الاستبداد فهو عبد مؤبد لا ينفك عن العبودية لطمعه و لمن يطمع به و لما يطمع فيه...

و هذه دعوة إلى التخلي عن الطمع و الاكتفاء بما قسم له الرحمن و ما كسبته يداه ...

ص: 354

181 - و قال عليه السلام: ثمرة (1) التّفريط (2) النّدامة، و ثمرة الحزم (3) السّلامة.

اللغة

1 - الثمرة: ما تحمله الشجرة.

2 - التفريط: التقصير.

3 - الحزم: ضبط الأمور و الاستيقان منها.

الشرح

إذا كان الإنسان مطلوبا بأمر ما ثم فرّط فيه و قصّر و لم يستعد له أو يتأهب فإنه سيفشل و ستكون نتيجته الندم و الخزي فمن فرّط في العمل لأجل الآخرة و لم يستعد لها سيحصد الندامة و الخزي يوم القيامة ثم النار.

و أما من استعد و تأهب و شمّر و بادر إلى تحصيل المقدمات فقام بالواجبات و انتهى عن المحرمات و أدى ما هو مطلوب منه فإنه سيفوز يوم الحساب و ينجح و له الجنة خالدا فيها...

182 - و قال عليه السلام: لا خير في الصّمت (1) عن الحكم، كما أنّه لا خير في القول بالجهل.

اللغة

1 - الصمت: السكوت.

الشرح

إذا كنت تعرف وجه الحق و عين الصواب فلا خير في سكوتك إن سكت بل أنت آثم في هذا السكوت يجب عليك أن تبين الحقيقة و تجهر بالصواب و تظهر الحكم

ص: 355

الصحيح كما أنه إذا كنت تجهل وجه الحق فلا خير في قولك و لا بورك في منطقك لأنه قول بالباطل و كلام بغير الحق.

183 - و قال عليه السلام: ما اختلفت دعوتان إلاّ كانت إحداهما ضلالة.

الشرح

لأن الحق واحد لا تعدّد فيه كانت إحدى الدعويين باطلة و ضالة و منحرفة عن الصراط المستقيم.

و ربما كانتا معا على ضلالة و انحراف و لذا عبّر عليه السلام بأن (إحداهما ضلالة) و هو لا ينفي كونهما معا على ضلالة إذ ربما لم تكن إحداهما على حق...

184 - و قال عليه السلام: ما شككت في الحقّ مذ أريته.

الشرح

رأى الإمام الحق بعينه و أدركه بحسه و عاشه في وجدانه و أحياه في قلبه فاستحكمت الرؤية و انجلت كأظهر ما يكون... أخذ الحق من الرسول الأعظم مباشرة دون واسطة و لذا لم يخامره شك و لم يعترضه تردد و قد قال النبي فيه: «علي مع الحق و الحق مع علي اللهم أدر الحق معه كيف دار».

185 - و قال عليه السلام: ما كذبت و لا كذّبت، و لا ضللت و لا ضلّ بي.

اشارة

ص: 356

الشرح

هذا هو منطق العظماء الشرفاء في الدنيا لا يكذبون في حديثهم... إنهم صادقون مع اللّٰه و مع أنفسهم و مع الناس في منطقهم و سلوكهم و حركة حياتهم كما أنهم لم يجعلوا للناس طريقا للطعن فيهم و تكذيبهم... إنهم دائما على الهدى و الحق إنهم قادة الحق و هداة البشر فلم يضلوا و لم يضلل بهم أحد...

186 - و قال عليه السلام: للظّالم البادي غدا بكفّه عضّة (1).

اللغة

1 - العضّ : الإمساك بالأسنان.

الشرح

هذا تقبيح للظلم و تنفير منه و أن المبتدأ بالظلم غدا تأخذه الندامة على فعله و يجازى عليه بأسوأ ما عمل و هذا مأخوذ من قوله تعالى: «يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّٰالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ » .

187 - و قال عليه السلام: الرّحيل وشيك (1).

اللغة

1 - وشيك: قريب.

الشرح

هذا بيان لسرعة انقضاء الدنيا و الرحيل عنها إلى عالم الآخرة و أن على الإنسان أن يعدّ العدة و يستعد لمواجهة ما سيقدم عليه و يحاسب من أجله...

ص: 357

188 - و قال عليه السلام: من أبدى (1) صفحته (2) للحقّ هلك.

اللغة

1 - أبدى: أظهر.

2 - صفحة الوجه: ناحيته.

الشرح

من وقف في وجه الحق و عانده و أراد محاربته هلك لأن الحق لا بد و أن ينتصر و لا بد و أن تكون الهزيمة لمن وقف في وجهه و عانده.

189 - و قال عليه السلام: من لم ينجه (1) الصّبر أهلكه الجزع (2).

اللغة

1 - نجاه: خلّصه.

2 - الجزع: الحزن الشديد.

الشرح

هذا حيث على الصبر و حمل عليه و إن كان صعبا و قاسيا و لكنه أقرب إلى اللّٰه و إلى النجاة من عذابه، فإن صاحب المصيبة إذا لم يصبر بل أصابه الجزع فإن يهلك نفسه من حيث إنه يقضي عمره مغموما حزينا و قد يموت من الغمّ ...

190 - و قال عليه السلام: و اعجباه! أتكون الخلافة بالصّحابة و القرابة ؟.

اشارة

ص: 358

قال الرضي: و روي له شعر في هذا المعنى:

فإن كنت بالشّورى (1) ملكت أمورهم *** فكيف بهذا و المشيرون غيّب (2)؟

و إن كنت بالقربى حججت (3) خصيمهم (4) *** فغيرك أولى بالنّبيّ و أقرب

اللغة

1 - الشورى: المشورة.

2 - غيّب: جمع غائب و هو من لم يكن حاضرا.

3 - حججته: انتصرت عليه.

4 - الخصيم: المجادل.

الشرح

هذا إنكار منه عليه السلام و رفض للقول بأن الخلافة عن رسول اللّٰه تكون بالقرابة أو الصحابة لمجرد القرابة و الصحابة و هذا ينسجم و يتصف مع مذهب الإمامية القائلين:

لا بد و أن ينص النبي على الخليفة من بعده لأن الإمامة عندهم كالنبوة تحتاج إلى أن يكون الإمام معصوما عن الخطأ و الزلل و هذه الملكة النفسية لا يمكن للبشر أن يطّلعوا عليها فلذا يخبر عنها النبي و يعين من بعده الولي...

و أما الشعر فواضح المعنى و مفاده أن الخلافة التي صارت إلى أبي بكر لا تخلوا إما أن تكون بالشورى و هذا لم يتم لأن أصحاب المشورة الحقيقيون كانوا غائبين في شغل شاغل و هو تجهيز رسول اللّٰه و دفنه و هم أهل البيت و على رأسهم سيدهم أمير المؤمنين.

و إما أن تكون الخلافة بالقرابة من رسول اللّه و هذا لم يتم في أبي بكر لأن هناك من هو أقرب إلى النبي منه يعني به نفسه الشريفة و أهل البيت كالحسن و الحسين و العباس بن عبد المطلب و بني هاشم...

191 - و قال عليه السلام: إنّما المرء في الدّنيا غرض (1) تنتضل (2) فيه المنايا (3)، و نهب (4) تبادره (5) المصائب (6)، و مع كلّ جرعة (7) شرق (8).

اشارة

ص: 359

و في كلّ أكلة غصص (9). و لا ينال العبد نعمة إلاّ بفراق أخرى، و لا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله. فنحن أعوان (10) المنون (11)، و أنفسنا نصب الحتوف (12)، فمن أين نرجو البقاء و هذا اللّيل و النّهار لم يرفعا من شيء شرفا (13)، إلاّ أسرعا الكرّة في هدم ما بنيا، و تفريق ما جمعا؟!.

اللغة

1 - الغرض: الهدف المرمي.

2 - تنتضل فيه: تصيبه و تثبت فيه.

3 - المنايا: جمع منية و هي الموت.

4 - النهب: المنهوب و هو المسلوب.

5 - بادر: أسرع.

6 - المصائب: البلايا.

7 - الجرعة: البلعة.

8 - شرق: غص بالريق.

9 - الغصة: الشجى في الحلق.

10 - أعوان: مساعدون.

11 - المنون: المنية، الموت.

12 - الحتوف: الهلاك، الموت.

13 - الشرف: العالي من الشيء.

الشرح

هذه موعظة بليغة لهذا الإنسان و قد ذكر له جملة أمور تنغّص عليه حياته و تقلقه و تصيبه في نفسه ذكرها لينفي عن هذا الإنسان السعادة في الدنيا و أن لا بد له من الرحيل عنها إلى عالم آخر هو مكان السعادة و موطنها و هذه الأمور هي:

1 - إنما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا: فالإنسان في الدنيا هدف يرميه الموت بسهامه التي هي المرض و العلل و سائر الأمور المهلكة.

2 - و نهب تبادره المصائب: شبه الإنسان بالمال المنهوب الذي يريد كل إنسان

ص: 360

أخذه و كذلك المصائب و البلايا تتناوش هذا الإنسان و تتناوله من كل جانب.

3 - و مع كل جرعة شرق: مع كل شربة ماء ما ينغّصها حيث يشرق بها و لا يكاد يستسيغها.

4 - و مع كل أكلة غصص: ما يختاره من الأطعمة ليلتذ به يغصّ فيه و تتنغّص لذته فيه.

5 - لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى: فإذا توفق إلى نعمة المال تراه تسلب منه الراحة و هدوء البال و إذا توفرت له نعمة الصحة ابتلي بفساد الأولاد و هكذا دواليك.

6 - و لا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله: فلا يدخل في يوم غد إلا و قد فارقه يوم أمس و بذلك يقترب أجله و تدنو منيته مع كل يوم يأتي...

7 - فنحن أعوان المنون و أنفسنا نصب الحتوف: نحن نساعد الموت في القضاء علينا فالأكل و الشرب و الملذات لا بد لنا منها و هي أدوات في تخريب بنيتنا فترى المعدة تصاب بالداء و ترى اللذة توجب ضعف البدن و هزاله و من هنا نعرف أن أنفسنا هدف يقصده الموت و يركز اهتمامه به لينهي وجوده من الدنيا و يرفع أثره منها.

و أخيرا استفهم مستنكرا على من يرجو البقاء في الدنيا و حكم أنه لا بقاء له و كيف يبقى و الليل و النهار ما بنيا شيئا إلا و هدماه و ما رفعا أحدا إلا و أسقطاه فترى كيف يهدما الأجساد العامرة بعد أن بنياها و يردا المرء إلى أرذل العمر بعد العلم و المعرفة و هكذا يهدما كل شيء بمرورهما عليه و بما يحدث فيهما من حوادث.

192 - و قال عليه السلام: يا بن آدم ما كسبت (1) فوق قوتك، فأنت فيه خازن (2) لغيرك.

اللغة

1 - كسب: ربح.

2 - خازن: حافظ و جامع.

ص: 361

الشرح

هذه دعوة إلى عدم جمع المال و تخزينه و كنزه بل دعوة إلى الإنفاق على النفس و على الأهل و على العيال، دعوة إلى إخراج الحقوق و إلى قضاء حاجات الناس بما لديك...

و إن واقع الأمر و حقيقته أن الإنسان مهما جمع فأوعى من الأموال و العقارات فإنه سيتخلى عنها جميعا قهرا عنه و سيتركها للوارث يتنعم بها و يصرفها على ملذاته و شهواته فأنت بجمعك المال تكون خازنا له.

193 - و قال عليه السلام: إنّ للقلوب شهوة و إقبالا و إدبارا، فأتوها من قبل (1) شهوتها و إقبالها، فإنّ القلب إذا أكره عمي.

اللغة

1 - من قبل: من ناحية.

الشرح

دعوة إلى الرفق و اللين و الدخول إلى القلوب من المنافذ التي تريحها و هذا مدرك بالوجدان لمن أراد النجاح فإن بعض الأعمال يرغب بها الإنسان و يشتهيها فتراه إذا مارسها و اشتغل فيها حقق تقدما و نجاحا و أما إذا كنت لا ترغب في أمر و حمّلت عليه و أكرهت نفسك على القيام به فغالبا ما يخالفك النجاح و لا تفوز بالفلاح لأن الإنسان يملّ و يكلّ و في مثل ذلك لا يثمر تحركه...

و بعبارة أخرى: إذا أقبلت القلوب على أمر فكونوا معها و احملوها عليه و رغبوها فيه و إذا أدبرت عن أمر فاتركوها و شأنها فإنها لن تفلح إذا أكرهت عليه...

194 - و كان عليه السلام يقول: متى أشفي غيظي (1) إذا غضبت ؟

اشارة

ص: 362

أحين أعجز عن الانتقام (2) فيقال لي: لو صبرت ؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي: لو عفوت.

اللغة

1 - الغيظ: أشد الغضب.

2 - انتقم منه: أعاقبه.

الشرح

ترغيب في الصبر و العفو، و الإمام ينظر إلى أشد ساعات ينفعل فيها الإنسان و هي ساعات الغضب فيقول إذا غضبت هل أستطيع أن أشفي غيظي و أبرد حرارة قلبي ؟ إن ذلك غير ممكن بالنسبة لي لأنني حين أغضب إما أن أعجز عن الانتقام فيشمت بي الآخرون و يهدءون روعي بقولهم: لو صبرت و احتسبت و بقولهم هذا أرى الهوان و الامتهان فكأن قولهم يحمل سخرية و استهزاء لأنني لا أقدر على الانتقام.

و أما حين أقدر فيبادرون إلى القول لي: لو عفوت عمن أذنب معك و سامحته و غفرت له و لا مجال لترك هذه الخصلة الكريمة و الالتزام بها لأنها خصلة يرغب الإسلام فيها و يريدها بل يطلبها من أتباعه...

195 - و قال عليه السلام و قد مر بقذر (1) على مزبلة (2): هذا ما بخل به الباخلون.

اللغة

1 - القذر: الوسخ و قد يطلق على الغائط.

2 - المزبلة: مواضع الزبل و هو روث الحيوان.

ص: 363

الشرح

هذا الكلام منه عليه السلام لتقبيح فعل المتقاتلين على الدنيا و ما فيها من طيبات الطعام... فأنت تبخل بالصدقة على الفقير لتوفر المبلغ لنفسك فتشتري به أكلة طيبة لذيذة فتأكلها و تتحول هذه الأكلة إلى قذارة مادية تنفر نفسك منها و تقتلك رائحتها...

و هكذا الناس يتنافسون في المآكل الطيبة و الولائم الثمينة الجيدة و نهايتها أنها تتحول إلى و هكذا الناس يتنافسون في المآكل الطيبة و الولائم الثمينة الجيدة و نهايتها أنها تتحول إلى قذارة فينبغي للعاقل أن يخفف من التنافس على أكل الطيبات قدر الإمكان...

196 - و قال عليه السلام: لم يذهب من مالك ما وعظك.

الشرح

المال الذي يذهب دون مقابل هو المال الذي يذهب هدرا و هو المال الذي يذهب حقيقة و يجب أن يتأسف عليه الإنسان و أما المال الذي يكون مقابله عوض و بدل فهذا لم يذهب دون فائدة أو انتفاع بل ربما كانت الموعظة المستفادة من المال الذاهب أنفع و أجدى بكثير من ذهابه لأن في مقابله يتحقق العلم الذي يفوق ذهابه...

197 - و قال عليه السلام: إنّ هذه القلوب تملّ (1) كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها (2) طرائف الحكمة.

اللغة

1 - تمل: تسأم و تضجر.

2 - ابتغوا لها: اطلبوا لها.

الشرح

تمر على الإنسان لحظات تقفل فيها منافذ الاستقبال في القلب لكثرة العمل و زيادة الملل حتى قد يصل الإنسان في بعض الأحيان إلى تشويه العمل و الإساءة فيه فإذا رفّه عن

ص: 364

نفسه بنكتة أدبية طريفة أو فكاهة ظريفة أو نزهة لطيفة تعود إليه قوته و يستجد نشاطه و يكمل عندها مسيرته بنجاح و فلاح...

198 - و قال عليه السلام لما سمع قول الخوارج: «لا حكم إلاّ للّٰه»:

اشارة

كلمة حقّ يراد بها باطل.

الشرح

قولهم: لا حكم إلا للّٰه هي كلمة الحق المأخوذة من قوله تعالى: «إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ » و لكنهم أرادوا بها الفتنة و إثارة الفوضى و المشاغبة على الحكم العادل... أرادوا من وراء طرحها الباطل و إضلال الناس و هكذا كثير من الشعارات التي تطرح و تكون شعارات حق و لكن وراءها الأهداف الباطلة المشبوهة كشعار الحرية و التحرر و غير ذلك...

199 - و قال عليه السلام في صفة الغوغاء (1): هم الّذين إذا اجتمعوا غلبوا، و إذا تفرّقوا لم يعرفوا. و قيل: بل قال عليه السلام: هم الّذين إذا اجتمعوا ضرّوا، و إذا تفرّقوا نفعوا، فقيل: قد عرفنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم ؟ فقال: يرجع أصحاب المهن (2) إلى مهنتهم، فينتفع النّاس بهم، كرجوع البنّاء إلى بنائه، و النّسّاج إلى منسجه، و الخبّاز إلى مخبزه.

اللغة

1 - الغوغاء: أوباش الناس و عامتهم.

2 - المهن: جمع مهنة، الحرفة.

الشرح

العامة من الناس المعبر عنهم بلغة العصر «الجماهير» إذا اجتمعوا و استطاع بعض المنحرفين أن يستغلهم خربوا الديار و أهلكوا العباد و إذا تفرقوا استفاد الناس عامة منهم

ص: 365

كما يستفيد بعضهم من بعض للعلة التي ذكرها الإمام من انصراف كل عامل إلى عمله...

200 - و قال عليه السلام و أتى بجان (1) و معه غوغاء فقال: لا مرحبا بوجوه لا ترى إلاّ عند كلّ سوأة (2).

اللغة

1 - الجاني: المذنب.

2 - السوأة: الفاحشة، العورة، الخلة القبيحة.

الشرح

صورة منكرة تؤذي الشعور لما تحكي عنه و تنطق به... صورة إنسان ارتكب فعلا قبيحا فقبض عليه بالجرم المشهود فساقه المسئولون و مشى خلفه العامة... لقد لملم هذا المشهد كل العاطلين عن العمل و كل الفضوليين... مشهد آذى الإمام فبادرهم بقوله: لا مرحبا و لا أهلا بوجوه لا ترى إلا عند كل قبيح فكأنها نذير شؤم و علامة على حدوث حدث غير كريم...

201 - و قال عليه السلام: إنّ مع كلّ إنسان ملكين يحفظانه، فإذا جاء القدر (1) خلّيا (2) بينه و بينه، و إنّ الأجل (3) جنّة (4) حصينة (5).

اللغة

1 - القدر: ما قدره اللّٰه و كتبه.

2 - خلياه: تركاه.

3 - الأجل: مدة العمر المقدرة لحياة الإنسان.

4 - جنة: بالضم وقاية.

5 - حصينة: منيعة.

ص: 366

الشرح

هذا مأخوذ من قوله تعالى: «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ كِرٰاماً كٰاتِبِينَ » و من قوله تعالى: «وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا وَ هُمْ لاٰ يُفَرِّطُونَ » فإن الملائكة الحفظة يحفظون الإنسان فإذا جاء أجله المقدر له و الموت المحتوم عليه خلياه و شأنه فيقبض ملك الموت روحه... ثم أشار إلى أن الأجل إذا كان فيه متسع و وقت الموت لم يحن كفى بذلك حصنا حصينا لا يمكن اختراقه و لا القضاء على صاحبه...

202 - و قال عليه السلام و قد قال له طلحة و الزبير: نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الأمر: لا، و لكنّكما شريكان في القوّة و الاستعانة، و عونان (1) على العجز و الأود (2).

اللغة

1 - عونان: مساعدان.

2 - الأود: العجز البالغ.

الشرح

أراد طلحة و الزبير أن يكونا شريكان للإمام في الحكم و إدارة البلاد على نحو يكون كل منهما نافذ الأمر يحلّ و يربط يفك و يعقد مقابل أن يبايعاه بالخلافة و لكن الإمام رد عليهم أن ذلك لا يمكن و لا يخدم المصلحة العامة نعم أنتما تقويان إن قوي الإسلام و قويت أنا و إن طرأ عجز لي فأنتم تعيناني على عجزي و ترفعا تعبي...

203 - و قال عليه السلام: أيّها النّاس، اتّقوا اللّٰه الّذي إن قلتم سمع، و إن أضمرتم (1) علم، و بادروا (2) الموت الّذي إن هربتم منه أدرككم، و إن أقمتم أخذكم، و إن نسيتموه ذكركم.

اشارة

ص: 367

اللغة

1 - أضمر: أسرّ في ضميره.

2 - بادروا: أسرعوا.

الشرح

موعظة بالغة لعلها تصادف قلبا عامرا طيبا فترده إلى اللّٰه عبدا منيبا يحسب حساب ربه يوم القيامة...

اتقوا اللّٰه الذي إن قلتم سمع إنه السميع العليم و إن أضمرتم أمرا و أخفيتم سرا علم قال تعالى: إنه «يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » و بادروا الموت و استعدوا له فإنكم إن هربتم منه أدرككم كما قال تعالى: «أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ » و إن أقمتم أخذكم «كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ » و إن نسيتم ذكركم فهو في طلبكم مستمر على كل حال سواء كنتم مقيمين أم مرتحلين، ذاكرين له أم ناسين...

204 - و قال عليه السلام: لا يزهّدنّك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، و قد تدرك من شكر الشّاكر أكثر ممّا أضاع الكافر، «وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ » .

الشرح

المعروف كل فعل مطلوب منك شرعا و لو على نحو الاستحباب كإعانة الضعيف و الصدقة و سد عوز المحتاج و الإحسان بشتى وجوهه، و هذا المعروف حسن بذاته و مأجور عليه فاعله، و كلمة الإمام فيها حض لفاعل المعروف أن لا يزهد و يمتنع عن فعل المعروف إذا لم يشكره عليه من فعله معه و قد رغبه بالمعروف و الحال كذلك من وجوه ثلاثة.

1 - إنه قد يشكره عليه غير المحسن إليه ممن يسمع بإحسانه.

2 - قد يكون شكر الشاكر - الذي سمع بصنيعك المعروف - أكثر من شكر المحسن إليه.

3 - إن الإحسان بنفسه محبوب إلى اللّٰه و اللّٰه يحب المحسنين...

ص: 368

205 - و قال عليه السلام: كلّ وعاء (1) يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم، فإنّه يتّسع به.

اللغة

1 - الوعاء: الإناء.

الشرح

ترغيب في طلب العلم و إن العقل كلما اكتسب علما اتسع له و كلما ازدادت معارفك توسع وعاء العلم عندك فلا تقصر نفسك على بعض المسائل ثم تكتفي بها و هذا عكس الأمور المادية فالكوز له حجم معين لا يتسع لأكثر من حجمه و هكذا...

206 - و قال عليه السلام: أوّل عوض الحليم من حلمه أنّ النّاس أنصاره على الجاهل.

الشرح

الحلم ملكة يترفع الإنسان من خلالها أن يجاري السفيه في فعله أو يردّ عليه بالمقابل و المثل. و الحلم في نفسه كمال، و فيه لذة تجرع الأذى و كظم الغيظ، و فيه أجر عظيم من اللّٰه.

و الإمام هنا يذكر أول ثمرة للحلم و هي ثمرة كريمة، إن الناس يقفون إلى جانبك ضد الجاهل و هي نتيجة طيبة و ثمرة عظيمة للحلم...

207 - و قال عليه السلام: إن لم تكن حليما (1) فتحلّم، فإنّه قلّ (2) من تشبّه (3) بقوم إلاّ أوشك (4) أن يكون منهم.

اشارة

ص: 369

اللغة

1 - تحلّم: تصنّع الحلم.

2 - قل: ضد كثر.

3 - تشبه به: ماثله و جاراه في العمل.

4 - أوشك: قارب.

الشرح

التحلم هو إظهار الحلم و التعود عليه و إن كان خلاف الطبع لهذا الإنسان و من المعروف أن الإنسان يتغير طبعه إذا استطاع أن يضبط نفسه و يسيطر على أعصابه في أكثر المواقف فإذا أخذ بهذا القرار و أخذ في ترويض نفسه بالتدريج فإن ذلك على التكرار و طول الاستمرار تنشأ عنده عادة دائمة و يتحول عن طبعه الشاذ الغضوب إلى طبع الحلماء و أصحاب الملكات الطيبة الممدوحين.

208 - و قال عليه السلام: من حاسب نفسه ربح، و من غفل عنها خسر، و من خاف أمن، و من اعتبر أبصر، و من أبصر فهم، و من فهم علم.

الشرح

هذه كلمات خالدات تعيد الإنسان إلى ذاته و تضع خطواته في الاتجاه الصحيح...

من حاسب نفسه ربح و من غفل عنها خسر: من حاسب نفسه عرف الربح و الخسارة و أدرك مواقع الضعف و الخلل فيها فتدارك ذلك و فكّر فيما يوجب الربح و يجبر الخسارة و أما إذا غفل عنها و لم يحاسبها فإنها تجره إلى المعصية و الانحراف فيقع في الأمور المحرمة و تزل قدمه فيسقط في عالم المعصية و في ذلك خسارة الدنيا و الآخرة...

و من خاف أمن: من خاف عذاب اللّٰه و حرّ ناره عمل على طاعته و من أطاعه أمن من عذابه و نجا من ناره.

ص: 370

و من اعتبر أبصر و من أبصر فهم و من فهم علم: من نظر في مواقع العبرة مما جرى مع غيره و ما مر على الناس من قبله أدرك الحقيقة و أبصر ما ينفع مما يضر و فهم العبر ثم علم نتائجها الحسنة الطيبة.

209 - و قال عليه السلام: لتعطفنّ (1) الدّنيا علينا بعد شماسها (2) عطف (3) الضّروس (4) على ولدها، و تلا عقيب ذلك: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ » .

اللغة

1 - عطف إليه: مال.

2 - و عطف عليه: رجع عليه.

3 - الشماس: بكسر الشين امتناع ظهر الفرس من الركوب.

4 - الضروس: الناقة السيئة الخلق تعضّ حالبها.

الشرح

هذا إخبار منه عن حال الدنيا و كيف أساءت إلى أهل البيت و قلبت لهم ظهر المجن فعاشوا في عذاب و ألم و تشريد و تطريد و شبهها بقساوتها و ظلمها بالفرس التي لا تمكّن صاحبها من ظهرها و أنها و إن كانت بهذا المستوى من العناء لكنها سترجع إليهم و تعطف نحوهم و تكون معهم كالناقة التي تدفع حالبها لتحتفظ بحليبها لابنها عطفا منها عليه و كذلك الدنيا ستتحول لصالح أهل البيت و لصالح شيعتهم عند ما يظهر الإمام المنتظر و يتولى قيادة العالم و تصبح الأمور بين يديه و أما الاستشهاد بالآية فظاهر.

قال ابن أبي الحديد: و الإمامية تزعم أن ذلك وعد منه بالإمام الغائب الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا في آخر الزمان...

210 - و قال عليه السلام: اتّقوا اللّٰه تقيّة من شمّر (1) تجريدا (2)،

اشارة

ص: 371

وجدّ (3) تشميرا، و كمّش (4) في مهل (5)، و بادر (6) عن وجل (7)، و نظر في كرّة (8) الموئل (9) و عاقبة المصدر، و مغبّة (10) المرجع.

اللغة

1 - شمر للأمر: أراده و تهيأ له.

2 - تجرد للأمر: تفرّغ له و جدّ فيه.

3 - جد: اجتهد.

4 - أكمش: أسرع.

5 - المهل: الإمهال، ضد الإسراع.

6 - بادر: أسرع.

7 - الوجل: الخوف.

8 - الكرّة: الرجعة.

9 - الموئل: المرجع.

10 - المغبة: العاقبة.

الشرح

أمر عليه السلام بتقوى اللّٰه تقوى من شمر في ميادين الطاعة لبلوغ رضاه و تجرد من كل هوى و تفرغ في سبيل الحصول على مبتغاه، تقوى من أسرع وجد في مدة عمره الباقية إلى الأعمال الصالحة و عبّر عن ذلك - كمش في مهل - و أسرع إلى الأعمال المرغوبة و المحبوبة خوفا من اللّٰه و عذابه... تقوى من نظر في العاقبة و النهاية و ما سيئول إليه أمر آخرته و خاتمة مصيره و ما إليه سيرجع فيعمل ما يحمد عليه و ما به تكون سعادته و انتصاره و فوزه...

211 - و قال عليه السلام: الجود (1) حارس الأعراض (2)، و الحلم فدام (3) السّفيه، و العفو زكاة الظّفر (4)، و السّلوّ (5) عوضك (6) ممّن غدر، و الاستشارة عين الهداية. و قد خاطر (7) من استغنى برأيه. و الصّبر يناضل

اشارة

ص: 372

الحدثان (8)، و الجزع (9) من أعوان (10) الزّمان. و أشرف الغنى ترك المنى (11).

و كم من عقل أسير تحت هوى أمير! و من التّوفيق حفظ التّجربة. و المودّة (12) قرابة مستفادة. و لا تأمننّ ملولا (13).

اللغة

1 - الجود: الكرم.

2 - الأعراض: جمع عرض ما يحامي عنه الإنسان من حسب أو نسب أو شرف.

3 - الفدام: بكسر الفاء شيء يشد على الفم.

4 - الظفر: الفوز.

5 - سلوت عنه: صبرت عنه.

6 - العوض: البدل.

7 - المخاطر: الذي في معرض الهلاك.

8 - الحدثان: نوائب الدهر.

9 - الجزع: شدة الفزع و الخوف.

10 - أعوان: مساعدون.

11 - المنى: ما يتمناه الإنسان و يرغب فيه.

12 - المودة: المحبة.

13 - الملل: السأم و الضجر.

الشرح

هذه كلمات عظيمة حاكية عن الواقع و فيها ترجمة للحياة... إنها كلمات خالدة نتيجة خبرة في الحياة و تجربة طويلة فيها.

الجود حارس الأعراض: الكرم يمنع الناس أن يتناولوك بالذم و التهكم و التهم و كم ستر الجود من عيوب فأنت تقطع لسان القريب و البعيد و الصديق و العدو بكرمك و في المثل الكرم ستار العيوب.

الحلم فدام السفيه: الفدام ما يسد به الفم و يمنع من الكلام و الحلم عن السفيه يسد فمه و يمنعه من الاسترسال في سفهه و طيشه و قلة حيائه.

ص: 373

و العفو زكاة الظفر: إذا ظفرت بعدوك فهذا أكبر المنى و أعظم منن اللّٰه عليك فاجعل زكاة هذا الظفر و حقه عليك أن تعفو عن المغلوب و تصفح عنه فكما أنك لو ظفرت بمال وجب عليك أن تخرج زكاته كذلك لو ظفرت اجعل العفو زكاة الظفر.

و السلو عوضك ممن غدر: من كنت تنتظر الوفاء منه إذا غدر بك فاهجره و اصطبر فإن في تناسيه عوضا عن ذكره و ذكر قبائحه.

و الاستشارة عين الهداية: لأن الاستشارة تكشف وجوه الصواب و الخطأ و يستطيع العاقل المستشير أن يكشف الصحيح من غير الصحيح و السليم من السقيم فتبادل الآراء و إجالتها تهدي الإنسان إلى الصواب...

و قد خاطر من استغنى برأيه: لأن الاستبداد بالرأي و الاستقلال به دون مشورة الرجال يبقى قاصرا فيكون في معرض الخطأ و الزلل و الحكم غير الصائب...

و الصبر يناضل الحدثان: نوائب الدهر و مصائبه و ما يجري على الإنسان في الحياة من شدائد لا يمكن التغلب عليها كلها إلا بالصبر الذي يعني عدم الانهيار أمام الأحداث بل الثبات و الرزانة و التفكير في الحلول المناسبة لها و بهذا ينتصر الإنسان عليها...

و الجزع من أعوان الزمان: الزمان بما يحمل من أحداث و مشاكل و مصائب إذا أردت أن ينتصر عليك فوفر له من الجنود و الأعوان و المساعدون ما تريد و أهم أعوانه أن تسقط أنت فتفقد الصبر و تصاب بالجزع فإن انهيارك أمام أحداثه من أهم أعوانه و أنصاره عليك...

و أشرف الغنى ترك المنى: أن تتمنى أمرا دون أن تعمل له فهذا ضرب من الحمق، و الغنى بل أشرف الغنى أن تترك المنى و تبادر إلى الحقائق فتحصلها و تحققها في الخارج.

و كم من عقل أسير تحت هوى أمير: هناك عقول كثيرة خاضعة للهوى و ذليلة له و أسيرة عنده فإنك ترى أن الهوى هو الأمير المتحكم المسيطر صاحب الأمر و النهي و إن كان في ذلك مخالفة للعقل و الدين و الضمير...

و هذا تنبيه منه عليه السلام أن العاقل يجب أن يجعل العقل هو الأمير و يجعل الهوى هو الأسير و أمره بيد العقل و تحت سلطانه...

و من التوفيق حفظ التجربة: إذا مررت بتجربة أو مرّ بها غيرك فاحفظها و احتفظ بها... اعرف آثارها و فوائدها و لا تنسى منافعها فإن من التوفيق و التسديد و حسن طالعك

ص: 374

أن تستفيد منها عند الحاجة و تنقلها إلى غيرك عند ما يطلبها منك...

و المودة قرابة مستفادة: هناك قرابة نسب كالأخوة و الأبوة و البنوة و هناك قرابة سبب كالزوجية و هناك قرابة محبة و لعل هذه في بعض مراتبها أكمل من الأولى و أشد دواما و بقاء.

و لا تأمنن ملولا: لأن من ملّ منك باعك بأبخس الأثمان و أزعجك لمجرد أن تضيق نفسه... و الملول لا يستطيع الاستقرار في مكان أو الراحة إلى شخص أو الدوام في عمل... إنه كل يوم في مكان و في كل وقت مع صديق فكيف تؤمن صداقته و ترتاح إلى خلقه...

212 - و قال عليه السلام: عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله.

الشرح

الحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عنك و العجب يوقف النمو العقلي و الإبداع الفني لأن المعجب يتصور الكمال في نفسه و أن لا زيادة ممكنة يمكن أن يسعى إليها فيتوقف السعي و النمو و من هنا كان العجب أحد حساد العقل الذي يمنع بقاء النعمة في موضعها لأنه إذا امتنع عن النمو ضاع ما عنده و فقده.

213 - و قال عليه السلام: أغض (1) على القذى (2) و الألم ترضى أبدا.

اللغة

1 - أغض: من الإغضاء عن الشيء و هو التغافل عنه.

2 - القذى: ما يقع في العين فيؤذيها.

الشرح

تحمل ما يرد عليك مما يؤذيك و يؤلمك بروح رياضية راضية فترتاح في حياتك و تستقر أوضاعك و أن بعض هذه الصور نراها في بعضهم ممن رضي بسنّة الحياة و عرفوا

ص: 375

أن الدنيا هكذا تكونت و بهذه الطريقة جعلت... أموات و أحياء و تعساء و سعداء و فقراء و أثرياء... هكذا هي الحياة فلنقبلها ضمن رضى اللّٰه و كما أراد منا.

214 - و قال عليه السلام: من لان (1) عوده (2) كثفت (3) أغصانه.

اللغة

1 - لان: طري.

2 - العود: الخشب، و الغصن بعد أن يقطع.

3 - كثف: غلظ و كثر و التف.

الشرح

من كان لين العريكة طيب العشرة حسن السليقة عظيم الأخلاق كثر أعوانه و محبوه و أتباعه و أنصاره و ذلك فضل من اللّٰه يؤتيه من يشاء من عباده الطيبين.

215 - و قال عليه السلام: الخلاف (1) يهدم (2) الرّأي.

اللغة

1 - الخلاف: النزاع.

2 - يهدم: يزيل و يسقط.

الشرح

مهما كان الرأي جيدا و صائبا و مثمرا و في المرتقى العالي من النضج و الاستقامة، يسقط و يفشل إذا دب الخلاف بين الجماعة و بين المجتمعين، فالخلاف و الخصام يقضي على الرأي الصائب و لا يبقى العمل الصالح بل يقضي على كل خير و نعمة.

ص: 376

216 - و قال عليه السلام: من نال (1) استطال (2).

اللغة

1 - نال: أعطي.

2 - الاستطالة: الاستعلاء بالفضل.

الشرح

من كثر ماله أو و جاهته أو مركزه استعلى على الناس و رأى نفسه أكبر رتبة و منزلة و أنه أشرف و أعظم و هذا داء لا يزيله إلا الإيمان باللّٰه و العمل بأوامره.

217 - و قال عليه السلام: في تقلّب الأحوال (1)، علم جواهر (2) الرّجال.

اللغة

1 - تقلّب الأحوال: تغيّرها و تبدلها.

2 - جوهر الشيء: الجبلة المخلوق عليها.

الشرح

إذا أردت أن تعرف إيمان الرجل فانتظر ساعات الامتحان و هي البلاء بالفقر أو الغنى أو الزعامة و إذا أردت معرفة الصديق فانتظر يوم الضيق و انظر هل يقدم لك المعونة و يرفع الحاجة عنك... و إذا أردت أن تعرف الشجاع فانتظر أيام الحرب و النزاع...

إنها ساعات تكشف الرجال على حقيقتهم و تعرّيهم من ادعاءاتهم...

218 - و قال عليه السلام: حسد الصّديق من سقم (1) المودّة (2).

اشارة

ص: 377

اللغة

1 - السقم: المرض.

2 - سقم المودة: ضعف الصداقة.

3 - المودة: المحبة.

الشرح

الصداقة تستلزم المودة و صفاء الطوية و أن يحب الصديق لصديقه ما يحبه لنفسه فإذا حسد الصديق صديقه فهذا دليل على عدم صحة الصداقة بل إنها صداقة فيها خلل كبير تحتاج إلى إعادة نظر...

219 - و قال عليه السلام: أكثر مصارع (1) العقول تحت بروق المطامع.

اللغة

1 - المصارع: جمع مصرع مكان الصرع و هو الطرح على الأرض و الهلاك.

الشرح

الطمع رق مؤبد يذل صاحبه و يورده المهالك و كثير من العقول تتعطل عن العمل و تصاب بالشلل و تفقد التفكير من جراء الطمع، فمع أن صاحب الطمع يملك عقلا و لكنه عقل صرعه الطمع فلا يعود يفكر فيه أو يستخدمه فيما ينفع أو يفيد.

220 - و قال عليه السلام: ليس من العدل القضاء على الثّقة بالظّنّ .

الشرح

إذا كان عندك من تثق به و تطمئن إلى استقامته و تتيقن عدالته فلا يجوز إذا ظننت به

ص: 378

خلاف ذلك أن تحكم عليه بظنك ذاك، فإن حكمك يكون جورا و ظلما لأنه بحكم العقلاء لا يجوز نقض اليقين بالشك أو الظن.

221 - و قال عليه السلام: بئس الزّاد (1) إلى المعاد (2)، العدوان (3) على العباد.

اللغة

1 - الزاد: ما يتزوده الإنسان من طعام في السفر.

2 - المعاد: يوم القيامة.

3 - العدوان: الاعتداء.

الشرح

زاد الآخرة النافع المفيد يتجسد في إعانة الناس و سد عوزهم و قضاء حاجاتهم و كف الأذى عنهم و الالتزام بأوامر اللّٰه و أحكام دينه و في هذه الفوز يوم القيامة عند ما تنصب الموازين للقضاء فيحكم لفاعل ذلك بالسعادة و الفوز و دخول الجنة...

أما إذا كان زاده الذي يأخذه معه قطع الأرحام و إيذاء الناس و الاعتداء عليهم و ترك ما أمر اللّٰه به و أوجبه فهذا بئس الزاد لأنه سيورده النار و يدفعه إليها دفعا و ستكون نهايته النار نعوذ باللّٰه منها و من كل عمل يؤدي إليها...

222 - و قال عليه السلام: من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم.

الشرح

الكريم قريب من اللّٰه قريب من الناس يحبه اللّٰه و يحبه الناس و هو يمتاز بنفسية عالية كريمة و له صفات جليلة و عظيمة و من أهمها التغافل عن السفهاء و غضّ النظر عنهم و إذا علم بهفوة من أحد سترها و لم يظهرها بل تغافل عنها حتى كأنه لم يسمع بها و لم يراها و هذا هو دأب النفوس الكبيرة التي ترفض أن تخوض في سفاسف الأمور و صغيرها...

ص: 379

223 - و قال عليه السلام: من كساه (1) الحياء ثوبه، لم ير النّاس عيبه.

اللغة

1 - كساه: ستره و غطاه.

الشرح

إذا كان الإنسان يمتلك ملكة الحياء، يستحي و يخجل و لا يرتكب عيبا قط لأنه يخجل من مقابلة الناس إذا انكشف لهم فعله القبيح فمن هنا كان يستحي فلن يقرب من عيب و إذا لم يقترف عيبا امتنع على الناس أن يروا إلا الأفعال الطيبة الحسنة...

224 - و قال عليه السلام: بكثرة الصّمت تكون الهيبة (1)، و بالنّصفة (2) يكثر المواصلون (3) و بالإفضال (4) تعظم الأقدار، و بالتّواضع تتمّ النّعمة، و باحتمال المؤن (5) يجب السّؤدد (6)، و بالسّيرة العادلة يقهر المناوىء (7)، و بالحلم عن السّفيه تكثر الأنصار عليه.

اللغة

1 - الهيبة: العظمة، الوقار، الخوف.

2 - النصفة: بالتحريك الإنصاف.

3 - المواصلون: المحبون.

4 - الإفضال: الإنعام.

5 - المؤن: القوت.

6 - السؤدد: الشرف.

7 - المناوىء: المخالف المعاند.

الشرح

هذه سبع فضائل جديرة بالاهتمام.

1 - بكثرة الصمت تكون الهيبة: إذا كان الصمت و السكون عن عقل و تفكر اقترن

ص: 380

بالاحترام و التقدير و كان للصامت هيبة في نفوس الناس بحيث يمتنعون عن العبث و الثرثرة و الكلام غير المفيد بل يقتصرون من الكلام على الضروري منه، و قد رأينا مهابة العظماء عند ما يسكتون و ينصتون كيف ينصت المجلس كله و كأن على رءوس الجميع الطير ينصت المجلس كله دون أن يكون للعظيم سطوة أو سيف أو سوط و قد عهدنا ذلك عند علمائنا و مراجعنا في النجف الأشرف و عشنا في مجالسهم تلك الحالة فإنك تجلس بين أيديهم و المجلس يغصّ بالزوار و لا تحس بكلمة تخرج منهم يسمعها الحاضرون بل تجد الجميع سكون هيبة للمرجعية و احتراما لها.

3 - و بالنصفة يكثر المواصلون: بالإنصاف و العدل بين الناس يكثر أصحابك و القاصدون إليك و تقوى صلة الناس بك و توجههم نحوك قاصدين عدلك و إنصافك عند كل حادثة تحتاج إلى حكم أو إلى فصل فيها.

3 - و بالإفضال تعظم الأقدار: بما تبذل للناس و تتفضل عليهم بالعطاء و ما تساعدهم به من مال أو جاه أو سلطان أو علم يرتفع قدرك و تعلو منزلتك لأن العطاء بجميع صوره إحسان و المحسن كبير في نظر الناس و له احترامه و قيمته.

4 - و بالتواضع تتم النعمة: كمال النعمة و تمامها أن تقرنها بالتواضع للاخوان و لكل الناس و لا ترى بما أنعم اللّٰه عليك أنك فوقهم فيأخذك الكبر و العلو فتضيع النعمة عندئذ و يتفرق الاخوان عنك.

5 - و باحتمال المؤن يجب السؤدد: بمقدار ما تحمل عن الناس من الأثقال من دين و غرامة و ديات و بمقدار ما تخفف عنهم من الأتعاب و تقدمه لهم من العطايا ترتفع منزلتك و تتقدم في سلم الشرف و يعلو نجمك في الحياة و تكون المقدم عندهم...

6 - و بالسيرة العادلة يقهر المناوىء: إذا أردت الانتصار على أعدائك و قهرهم فلتكن سيرتك و سلوكك و حركة حياتك في خدمة عباد اللّٰه و مرضاة اللّٰه... جسّد الحق عمليا و ألبسه ثوب الحركة و الواقعية و لا تكتفي بالكلام و الحديث عن القيم و المثل فحسب فتلك أمور لا تؤثر في نفوس الناس كثيرا...

7 - و بالحلم عن السفيه تكثر الأنصار عليه: إذا قابلت السفيه بالعفو عنه و الصفح عن سيئاته فلا محالة أن الناس سيقفون معك و إلى جانبك ضده و هذا انتصار كبير، و الحلم ما عاش في نفس إلا و انتصر صاحبه و فاز...

ص: 381

225 - و قال عليه السلام: العجب لغفلة الحسّاد، عن سلامة الأجساد!.

الشرح

الحسد كما يؤثر في الروح يؤثر في البدن، فكما أنه مخالفة إلهية منهي عنها يتصاغر الإنسان روحيا بارتكابها و تضعف صلته باللّٰه كذلك يؤثر على البدن فإن الحاسد يتلمظ و يحنق و يتأذى و هذا يمنعه من طيب العيش و هدوء البال و هذا يؤدي إلى ضعف البدن و الهزال بل إلى عدم سلامة البدن و صحته...

226 - و قال عليه السلام: الطّامع في وثاق (1) الذّلّ .

اللغة

1 - الوثاق: ما يشدّ به من قيد و حبل و نحوهما.

الشرح

الطمع هو النظر إلى ما في أيدي الناس و الترقب في أن يمنّوا عليه ببعض منها و من كان نظره إلى ما في أيدي الناس ذل لهم و خطب و دهم و لو على حساب كرامته و دينه فمن هنا كان في وثاق الذل كل طامع و راغب بما في أيدي الناس...

227 - و سئل عن الإيمان فقال: الإيمان معرفة بالقلب، و إقرار (1) باللّسان، و عمل بالأركان.

اللغة

1 - إقرار: اعتراف.

ص: 382

الشرح

الإيمان الكامل الذي يثاب عليه المؤمن في الآخرة و يدخل به جنة عدن يتقوم بهذه الأمور الثلاثة: المعرفة بالقلب التي تعني عقد القلب على الإيمان بأصول الدين الخمسة، ثم الإقرار بها و إعلانها و إشاعتها بين الناس حتى يترتب الحكم عليها بحسب الظاهر ثم العمل بكل ما أوجبه اللّٰه بحيث تكون هناك ترجمة عملية لهذا الإيمان و هو يتجسد بالصوم و الصلاة و الحج و الزكاة و أن تكون كل مسيرته الحياتية على طبق الموازين الإسلامية.

228 - و قال عليه السلام: من أصبح على الدّنيا حزينا فقد أصبح لقضاء اللّٰه ساخطا (1)، و من أصبح يشكو مصيبة (2) نزلت فقد أصبح يشكو ربّه، و من أتى غنيّا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه، و من قرأ القرآن فمات فدخل النّار فهو ممّن كان يتّخذ آيات اللّٰه هزوا (3)، و من لهج (4) قلبه بحبّ الدّنيا التاط (5) قلبه منها بثلاث: همّ (6) لا يغبّه (7)، و حرص لا يتركه، و أمل لا يدركه.

اللغة

1 - السخط: الغضب و عدم الرضى.

2 - المصيبة: البلاء.

3 - الهزو: الاستهزاء و السخرية.

4 - لهج بالشيء: أغري به فثابر عليه.

5 - التاط: التصق.

6 - الهم: شغل الفكر، الحزن.

7 - لا يغبّه: لا يفارقه.

الشرح

أشار الإمام إلى خمسة خصال قبيحة ردع عنها الإمام و نفر عنها بذكر عللها...

1 - من أصبح على الدنيا حزينا فقد أصبح لقضاء اللّٰه ساخطا: من فاتته الدنيا و لم

ص: 383

يستطع إدراك ما يريد منها ثم بات حزينا كئيبا بحيث انعكس ذلك على أسارير وجهه و على قسمات محياه فهذا قد أصبح بفعله ساخطا و غاضبا لما قضى به اللّٰه و قدره و أضحى عاصيا للّٰه لأنه سبحانه قسّم الأرزاق و هو الذي أراد له ذلك فيعود حزنه إلى الإنكار على اللّٰه و هو انحراف و تمرد و سخط على إرادة اللّٰه و اختياره.

2 - و من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فقد أصبح يشكو ربه: لأن المصيبة إذا لم تكن بيد العبد و من سوء تصرفه كما لو مات له ولد أو والد بشكل طبيعي حتف الأنف - فإن الشكوى عندئذ تكون كمن يشكو ربه و هو انحراف لأن اللّٰه كتب على الإنسان الموت و الفناء فلما ذا الشكاية و هل على اللّٰه تشتكي إنه ظلم و جور منك.

3 - و من أتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه: إذا كان الغني مؤمنا و تواضعت له لإيمانه و لم تزد في تواضعك له عن سائر المؤمنين فهذا لا بأس به أما إذا كان تواضعك له لماله و غناه فتحسبه عظيما فهذا انحراف عن الإيمان و يذهب بثلثي الدين على حد تعبير الإمام لأنه ليس للمؤمن أن يتعامل مع الناس بموازين المنحرفين و الفاسقين فينحرف و يفسق و يذهب إيمانه إن لم يكن كله فثلثاه و قال بعضهم: أما تقديره بالثلثين فالأصل فيه أن الدين على ثلاثة أقسام: بالقلب و اللسان و الجوارح و التواضع يبنى على أمرين:

اعتقاد في القلب و نية و عمل بالجوارح فيستعمل فيه آلتان من آلات الإيمان و هو القلب و الجوارح فيذهب بها عن الآلتين و يبقى ثلثه و هو الإقرار باللسان ربما يعظمه بلسانه و أفعاله و لم يعظمه بقلبه فصرف في تعظيمه ركنين من أركان الإيمان. و قال آخر إن مراده بالثلثين استعارة يراد به أكثر دينه.

5 - و من لهج قلبه بحب الدنيا التاط قلبه منها بثلاث هم لا يغبه و حرص لا يتركه و أمل لا يدركه: إذا تملكت الدنيا من قلب إنسان فعشقها و ذاب بها و بما فيها أفرزت في قلبه ثلاثة أمراض مزمنة لا تفارقه حتى يفارق الحياة نفسها فهو في همّ دائم لا يفارقه، همّ جمعها و حفظها و صيانتها و أيضا الحرص عليها يريدها من أي سبب كان من الحلال أو الحرام و ثالثا ينفتح عنده باب الأمل الذي يسيء من خلاله العمل فيقطع الأرحام و يمنع الحقوق و يسيء الظنون في سبيل جمعها و حفظها و الحصول عليها...

229 - و قال عليه السلام: كفى بالقناعة ملكا، و بحسن الخلق نعيما، و سئل عليه السلام عن قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً » فقال: هي القناعة.

اشارة

ص: 384

الشرح

من ملك القناعة ملك كل شيء و ذلك لأن فائدة الملك الاستغناء عن الناس و عدم الحاجة إليهم و القانع مستغني عن الناس ليس بحاجة إليهم فكأنه مالك أعظم الأمور و حسن الخلق يستدعي أن يكون كل من تعاشرهم من أحسن الناس معك و أطيبهم سلوكا و أشدهم بذلا لك فهم يقدمون لك كل معونة و يبذلون لك كل خير و لا يبخلون عليك بشيء تريده... و أما تفسيره للآية فواضح و منطبق...

230 - و قال عليه السلام: شاركوا الّذي قد أقبل عليه الرّزق، فإنّه أخلق (1) للغنى، و أجدر (2) بإقبال الحظّ عليه.

اللغة

1 - أخلق: أولى.

2 - أجدر: أولى.

الشرح

هذه نصيحة منه عليه السلام إلى مشاركة من كان الحظ مقبل عليه فإنك ترى بعض البسطاء الذين لا يعرفون كيف يتكلمون و لا ما ذا يتكلمون كيف يبسط لهم الرزق بينما ترى العالم اللبيب مقتر عليه رزقه إذا فتح بابا يريد الولوج إليه و يتوقع منه الفرج فإذا به يفتحه إلى البحر أو الصحراء فالجدب و الماء و لا شيء أبدا و سبحان من قسم الأرزاق و كان بيده الأخذ و العطاء ليعرف الناس أنه وحده الرزاق، فالإمام يدعو إلى مشاركة من أقبل عليه الحظ فإن مشاركته داعية للغنى و إقبال الحظ عليه يمكن أن ينالك بعضه.

231 - و قال عليه السلام في قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ » العدل: الإنصاف، و الإحسان: التَّفضّل.

اشارة

ص: 385

الشرح

هذه هي الآية 90 من سورة النحل و أن اللّٰه كما أمر بالواجب أمر بالمستحب فالواجب الإنصاف و العدل و المستحب الإحسان و التفضل بالزيادة الطيبة...

232 - و قال عليه السلام: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطّويلة.

الشرح

قال الرضي: أقول: و معنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البر - و إن كان يسيرا - فإن اللّٰه تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا، و اليدان ها هنا: عبارة عن النعمتين، ففرّق عليه السلام بين نعمة العبد و نعمة الرب تعالى ذكره، بالقصيرة و الطويلة، فجعل تلك قصيرة و هذه طويلة، لأن نعم اللّٰه أبدا تضعف على نعم المخلوق أضعافا كثيرة، إذ كانت نعم اللّٰه أصل النعم كلها، فكل نعمة إليها ترجع و منها تنزع.

هذا التفسير من الرضي يؤيده قوله تعالى: «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا» فإذا قدم العبد القليل أعطاه اللّٰه الكثير...

233 - و قال عليه السلام لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعونّ إلى مبارزة (1)، و إن دعيت إليها فأجب، فإنّ الدّاعي إليها باغ و الباغي مصروع.

اللغة

1 - المبارزة: القتال.

الشرح

تعليم و تدريب واجه به ولده و المراد به نحن من باب إياك أعنى و أسمعي يا جارة نهاه أن يدعو أحدا إلى المبارزة و القتال لأن هذه الدعوة ظالمة و فيها خروج عن مقتضى الشجاعة و السير وراء شهوات النفس و من كان كذلك لم يفلح بل يجازى بضد هذه

ص: 386

الدعوة و يعامل بما يخالفها و يكون هو المصروع و المقتول و من هنا كان الإمام يجيب دعوة من دعاه إلى المبارزة و يسحقه كما فعل بعمرو بن ود العامري... و أما إذا دعي إليها و طلب منه البراز فليجب فإن النصر حليفه و اللّٰه معه... لينفي عنه الجبن و الهزيمة...

234 - و قال عليه السلام: خيار (1) خصال (2) النّساء شرار خصال الرّجال: الزّهو (3)، و الجبن، و البخل، فإذا كانت المرأة مزهوّة (4) لم تمكّن من نفسها، و إذا كانت بخيلة حفظت مالها و مال بعلها (5)، و إذا كانت جبانة فرقت (6) من كلّ شيء يعرض لها.

اللغة

1 - خيار الشيء: أفضله.

2 - الخصال: جمع خصلة و هي الخلة.

3 - الزهو: بالفتح الكبر.

4 - مزهوة: متكبرة.

5 - البعل: الزوج.

6 - فرقت: فزعت و خافت.

الشرح

قبائح الرجال فضائل النساء فإذا زهت المرأة لم يطمع فيها أحد من الناس و لم يقترب من ساحتها أحد لاستعصامها بزهوها فينفرون منها و هذه الصفة قبيحة للرجال، و إذا كان الرجل بخيلا كان ذما له و إهانة لكرامته بينما البخل في المرأة يعني المحافظة على مالها و مال زوجها فلا تبذره أو تسرف فيه أو تصرفه في غير مواضعه، و إذا كان الجبن عار على الرجال لأنه صفة مذمومة فإنه بالنسبة إلى المرأة شيء ممدوح باعتبار أنها لا تخاطر بنفسها و ذلك يوجب صيانتها و حفظها و أما لو كانت شجاعة فتقع في بعض المواقع التي لا يمكن أن تحفظ عرضها و كرامتها...

ص: 387

235 - و قيل له: صف لنا العاقل، فقال عليه السلام: هو الّذي يضع الشّيء مواضعه، فقيل: فصف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت.

اشارة

قال الرضي: يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل.

الشرح

قد قيل: و الضد يظهر حسنه الضد فإذا عرّفت العاقل، فقد عرّفت الجاهل في نفس الوقت لأنهما ضدان...

236 - و قال عليه السلام: و اللّٰه لدنياكم هذه أهون (1) في عيني من عراق (2) خنزير (3) في يد مجذوم (4).

اللغة

1 - أهون: أحقر.

2 - العراق: العظم الذي أخذ منه اللحم.

3 - الخنزير: الحيوان النجس الكريه المنظر.

4 - المجذوم: الذي أصابه الجذام و هو مرض تتساقط فيه الأعضاء.

الشرح

صورة قبيحة لا تجد قبحا أشد منها صورة مجذوم تتقطع أوصاله شيئا فشيئا و هو يحمل في يده عظمة خنزير خالية من اللحم أو عليها قليل جدا منه، صورة تتقزز النفس منها و تنفر و قد لا تستطيع تصورها في ذهنك لشدة قبحها و الدنيا في نظر علي أحقر من عظم الخنزير في يد المجذوم و قد صدق صلوات اللّٰه عليه قولا و فعلا و قد خرج من الدنيا و هو الخليفة العظيم و لم يترك صفراء أو بيضاء و لا دورا و لا عقارا...

ص: 388

237 - و قال عليه السلام: إنّ قوما عبدوا اللّٰه رغبة فتلك عبادة التّجّار، و إنّ قوما عبدوا اللّٰه رهبة (1) فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّٰه شكرا فتلك عبادة الأحرار.

اللغة

1 - الرهبة: الخوف.

الشرح

العبادة للّٰه تتمحور حول إحدى أمور ثلاثة إما رغبة أو رهبة أو بدونهما و إنما لأنه سبحانه يستحق العبادة فمن عبد اللّٰه رغبة في جنته و توقعا للحصول عليها فهذه عبادة التجار التي تقتضي المبادلة عينا بعين عبادة متمثلة بصلاة و صيام و حج و زكاة و غيرها بالجنة و إما أن تكون العبادة خوفا من النار و فرارا من العذاب و هي عبادة العبيد الأذلاء الذين يخافون من السوط و العصا و لو لا ذلك لما عبدوه و هؤلاء يدفعون الشر عن أنفسهم و لذا يعبدونه و القسم الثالث و هو الذي يعبد اللّٰه لأنه أهل للعبادة و شكرا له على تفضله و إحسانه وجوده و كرمه فهؤلاء هم الذين يعبدون ربهم حق عبادته...

238 - و قال عليه السلام: المرأة شرّ كلّها، و شرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها!.

الشرح

الرجل له علاقة مع كل ما يحيط به و لكن علاقته بالمرأة أسوأ ما يكون فإنها بالنسبة له كلها شر فإن كانت جميلة تغويه و إن كانت قبيحة تؤذيه و إن كانت زوجة توجب عليه النفقة و إن كانت بعيدة أوجبت فتنة و إن عادته كادت له و نصبت له الحبائل و هكذا شرورها تتعدد و تتكثر و الشيء الطريف أنه لا بد للرجل منها لحاجته الطبيعية لها إذن لا بد من شرها... و العاقل هو الذي يكون عند قول النبي (صلی الله علیه و آله) في النساء: كونوا من خيارهن على حذر...

ص: 389

239 - و قال عليه السلام: من أطاع التّواني (1) ضيّع الحقوق، و من أطاع الواشي (2) ضيّع الصّديق.

اللغة

1 - تواني: فتر و قصّر.

2 - الواشي: النمّام.

الشرح

التسويف و التأخير يؤدي إلى ضياع الحقوق فيكون أمرا قبيحا و لذا ينبغي للعاقل أن يبادر في أول أزمنة الإمكان إلى تنفيد ما أمر به و لا يؤخره أبدا و من أطاع النمام - الذي ينقل إليه الكلام عن الأصدقاء - فقد أضاعهم و فقدهم لأنه إذا صدّقه عاداهم فيكون سببا للفتنة و إضاعة للصديق و العاقل يرفض الوشاية على أصدقائه لأنه على العادة كما يوشي إليه يوشي عليه...

240 - و قال عليه السلام: الحجر الغصيب (1) في الدّار رهن على خرابها.

اشارة

قال الرضي: و يروى هذا الكلام عن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -، و لا عجب أن يشتبه الكلامان، لأن مستقاهما من قليب (2)، و مفروغهما من ذنوب (3).

اللغة

1 - الغصيب: المغصوب.

2 - القليب: بفتح فكسر البئر.

3 - الذنوب: بفتح فضم الدلو الكبير.

الشرح

الدار إذا بنيت على الحلال و كان فيها حجر مغصوب تهدم إذا كان صاحبها غاصبا للحجر و هو يعلم بالغصب بمعنى لو توقف خرابها على استخراج الحجر المغصوب

ص: 390

هدمت من أجل إعادته لأصحابه و هذا تعظيم لحرمة الغصب و أن الغاصب كما يقول الفقهاء: يؤخذ بأشد الأحوال، فالاغتصاب قاض بالخراب كما يقضي الرهن بأداء الدين المرهون.

241 - و قال عليه السلام: يوم المظلوم على الظّالم أشدّ من يوم الظّالم على المظلوم.

الشرح

يوم المظلوم على الظالم هو يوم القيامة و هو أشد و أعظم من يوم الظالم على المظلوم لأن الظالم في الدنيا أقصى ما يعمله أن يقتل المظلوم و هي ميتة واحدة و أما يوم المظلوم على الظالم في يوم القيامة فإنه عذاب مخلد لا يموت و لا يحيى بل عذاب مستمر دائم فهو أعظم من كل أيام الدنيا و ما فيها من عذاب.

242 - و قال عليه السلام: اتّق اللّٰه بعض التّقى و إن قلّ ، و اجعل بينك و بين اللّٰه سترا (1) و إن رقّ (2).

اللغة

1 - الستر: ما يستتر به أي يغطى و يطلق هنا و يراد به الحياء من اللّٰه.

2 - رقّ : ضد غلظ و ثخن.

الشرح

ما لا يدرك كله لا يترك كله هذه قاعدة عقلائية فإذا لم تكن من الطبقة الأولى من أهل التقى فلا تكن من أهل الفسق و الانحراف بل استمر على البقاء مع أهل التقوى و إن كنت آخرهم... و لا تهتك الستر بينك و بين اللّٰه بل إذا ارتكبت حراما في ساعة من ساعات الزلل فلا تصبح مجرما و في رعيل المتهتكين الذين لا يرعون للّٰه حرمة.

ص: 391

243 - و قال عليه السلام: إذا ازدحم (1) الجواب، خفي الصّواب (2).

اللغة

1 - ازدحم القوم: تدافعوا و المراد هنا تعددت الأجوبة.

2 - الصواب: ضد الخطأ، الجواب الصحيح.

الشرح

إذا سئلت عن مسألة فأجبت عنها بعدة احتمالات ضاع الجواب الحقيقي و اختفى على السائل و كذلك الأمر إذا طرح السؤال و كان في حلقة الفحول من العلماء و بادر كل منهم إلى الإجابة فازدحموا في الجواب فإنه يضيع السائل و لا يهتدي إلى الصواب...

244 - و قال عليه السلام: إنّ للّٰه في كلّ نعمة حقّا، فمن أدّاه (1) زاده منها، و من قصّر فيه خاطر (2) بزوال نعمته.

اللغة

1 - أداه: بلغه و أوصله، أخرجه.

2 - خاطر: عرضها للهلكة.

الشرح

حق اللّٰه في كل نعمة أن تشكرها و شكرها أن تضعها موضعها و تخرج الحق الواجب منها فتنفقه على الفقراء و المساكين فمن أدى ذلك زادها اللّٰه له و نماها و هو مصداق قوله تعالى: و «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و أما من قصر في أداء شكرها فقد عرضها للزوال لأن عدم شكرها معصية و المعاصي منها ما يزيل النعم.

245 - و قال عليه السلام: إذا كثرت المقدرة قلّت الشّهوة.

اشارة

ص: 392

الشرح

قد قيل - و أحب شيء إلى الإنسان ما منع - فإن القادر على الشيء في أي وقت و أي مكان استقرت نفسه و خفت شهوته و طلبه له و أما من أحس بعدم ذلك فتراه يشتد في طلبه و يزداد إلحاحا للحصول عليه فزيادة المقدرة على الشيء يقلل الشهوة إليه.

246 - و قال عليه السلام: احذروا نفار (1) النّعم (2) فما كلّ شارد (3) بمردود.

اللغة

1 - نفر: شرد و بعد.

2 - النعم: المواشي من إبل و بقر و غنم و نحوها.

3 - شرد: نفر.

الشرح

احذروا زوال النعم بالمعاصي، فإن المعاصي تزيل النعم و تبعدها عنكم و إذا نفرت و بعدت عنكم فليس من المعلوم أن تعود إليكم فإن النعم إذا نفرت قد لا تعود بل تبقى شاردة تائهة... و هي دعوة إلى شكر النعم.

247 - و قال عليه السلام: الكرم أعطف (1) من الرّحم (2).

اللغة

1 - أعطف: من العطف و هو الميل.

2 - الرحم: القرابة.

ص: 393

الشرح

الكريم قريب من اللّٰه قريب من الناس و العطف على الناس و إكرامهم و تقديم المعونة لهم توجب عطفا لهم أكثر من العطف على الرحم لمجرد أنها رحم، فإنك ترى الكريم مسموع الكلمة محترم الجانب تتداعى الناس لخدمته و معونته بشتى الطرق و مختلف الأساليب.

248 - و قال عليه السلام: من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه.

الشرح

إذا قصدك إنسان لقضاء حاجة ظانا بك القدرة على قضائها فصدّق ظنه و اقضها له، و إن قصدك لاستدانة مبلغ من المال و هو متوفر لديك فاقض حاجته فإنه لم يقصدك إلا لحسن ظنه بك و إذا ظن بك الأخلاق الطيبة و المعاملة الجيدة فصدق ظنه...

249 - و قال عليه السلام: أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه.

الشرح

إذا كانت النفس ترغب في فعل انساقت وراءه و حققته بيسر و سهولة و أما إذا كان على خلاف ما ترغب و تشتهي فقد تمتنع عن فعله أو تتردد فمن هنا تكون مجاهدة النفس و يؤجر المرء على فعله لو فعله لأنه فعله امتثالا لأمر اللّٰه مخالفا هواه و رغبته.

250 - و قال عليه السلام: عرفت اللّٰه سبحانه بفسخ العزائم (1) و حلّ العقود (3)، و نقض (4) الهمم.

اللغة

1 - العزائم: جمع العزيمة ما يعقد الإنسان قلبه على فعله.

2 - فسخ العزائم: نقضها و إبطالها.

ص: 394

3 - العقود: جمع عقد و هو ما يعقد الإنسان ضميره على فعله.

4 - نقض الشيء: أبطله.

الشرح

هذا أحد الطرق لمعرفة اللّٰه إنك تعزم على أمر و تهيء كل مقدماته ثم تعرض عنه و تصرف نظرك عن متابعته و القيام به و تخمد همتك القوية التي كانت مندفعة لتحقيقه، من الذي صرفك ؟ و من الذي حلّ عزيمتك حتى فترت همتك إنه اللّٰه سبحانه القائل:

«وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ » .

251 - و قال عليه السلام: مرارة الدّنيا حلاوة الآخرة، و حلاوة الدّنيا مرارة الآخرة.

الشرح

مشقة التكليف في الدنيا و ما يصيب الإنسان من العناء من جراء تنفيذ أمر اللّٰه، هذا يعقبه حلاوة في الآخرة لا تقدر و لذة لا تحصر لأنه يترتب عليه الثواب و هو نعيم دائم بينما ملذات الدنيا و شهواتها التي تتراىء للناس أنها طيبة يعقبها في الآخرة مرارة عظمى و العاقل يبحث عن الدائم و الباقي و هو حلاوة الآخرة و نعيمها.

252 - و قال عليه السلام: فرض (1) اللّٰه الإيمان تطهيرا (2) من الشّرك، و الصّلاة تنزيها عن الكبر (3)، و الزّكاة تسبيبا (4) للرّزق، و الصّيام ابتلاء (5) لإخلاص الخلق (6)، و الحجّ تقربة (7) للدّين، و الجهاد عزّا للإسلام، و الأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ (8)، و النّهي عن المنكر ردعا (9) للسّفهاء، وصلة الرّحم منماة (10) للعدد، و القصاص (11) حقنا للدّماء (12)، و إقامة الحدود إعظاما للمحارم، و ترك شرب الخمر تحصينا للعقل (13)، و مجانبة السّرقة

اشارة

ص: 395

إيجابا للعفّة، و ترك الزّنى تحصينا للنّسب، و ترك اللّواط (14) تكثيرا للنّسل (15)، و الشّهادات (16) استظهارا (17) على المجاحدات (18)، و ترك الكذب تشريفا للصّدق، و السّلام أمانا من المخاوف، و الأمانة نظاما للأمّة، و الطّاعة تعظيما للإمامة.

اللغة

1 - فرض: أوجب.

2 - التطهير: التنظيف.

3 - الكبر: التكبر.

4 - التسبيب: السبب.

5 - الابتلاء: الاختبار.

6 - الخلق: البشر.

7 - التقربة: القرب بعضهم من بعض.

8 - العوام: عامة الناس.

9 - ردعه: رده و جبهه.

10 - منماة: من النمو و هي الزيادة و الكثرة.

11 - القصاص: العقوبة.

12 - حقن الدماء: حفظها و لم يسفكها.

13 - تحصينا للنسب: حفظا له.

14 - اللواط: إتيان الذكر للذكر.

15 - النسل: الذرية.

16 - الشهادات: ما يدلي به الشهداء على الحقوق.

17 - استظهارا: إسنادا و تقوية.

18 - المجاحدات: الجحود و الإنكار.

الشرح

هذه أوامر إلهية أراد الإمام أن يرغّب الناس فيها فذكر عللها و أسباب تشريعها.

فرض اللّٰه الإيمان: باللّٰه الواحد الأحد الذي لا شريك له.

ص: 396

تطهيرا: و تنزيها.

من الشرك: الذي هو نجاسة معنوية باعتبار أن الشرك باللّٰه بأي أنواع الشرك هو خلاف الواقع و فيه إسفاف عقلي و تصغير للإنسان و مسخ لعقله الذي وهب له فكأن الشرك نجاسة و المشرك نجس و لا يطهره إلا التوحيد للّٰه.

و الصلاة: بما فيها من ركوع و وضع أشرف موضع - و هو الجبهة - على الأرض المعبر عنه بالسجود هذه الصلاة جعلت.

تنزيها: لهذا الإنسان.

عن الكبر: أن يأخذه و يشده إليه.

و الزكاة: بما أنها حق مالي يدفعها الغني إذا اجتمعت شروطها جعلت.

تسبيبا للزرق: سببا لرزق الفقراء و المساكين و المجاهدين.

و الصيام: فرضه اللّٰه.

ابتلاء: و امتحانا.

لإخلاص الخلق: ليرى المطيع من العاصي لما فيه من الشدة و هجر المطعم و المشرب و ترك اللذة.

و الحج تقربة للدين: أي يقرب الحج بين المسلمين فيجمعهم في صعيد واحد و على زي واحد ضمن شعار واحد أو تقوية للدين لأن المسلمين يجتمعون كلهم فتقوى نفوسهم بلقائهم و تشتد عزيمتهم لكثرتهم.

و الجهاد عزا للإسلام: لأنه يحطم قوة الكفر و يبسط سلطان الإسلام في الأرض.

و الأمر بالمعروف مصلحة للعوام: لأنه يعلمهم الإسلام و يعرفهم معالم الحلال و الحرام.

و النهي عن المنكر ردعا للسفهاء: حتى لا يتمادوا في فسادهم و ظلمهم و انحلالهم فيضربوا على أيديهم منعا لانتشار الرذيلة.

وصلة الرحم: و هي أن يتحاب الأقرباء فيما بينهم.

منماة للعدد: لأنهم إذا تواصلوا اقتربوا من بعضهم و واصل الرحم يكثر بأقربائه لالتفافهم حوله.

ص: 397

و القصاص حقنا للدماء: لأن القاتل إذا عرف أنه يقتل فلا يقدم على الجريمة و قاطع اليد إذا عرف أن يده تقطع فلا يقطع يد أحد.

و إقامة الحدود إعظاما للمحارم: حتى لا تنتهك حرمات اللّٰه و ما لا يجوز في دين اللّٰه.

و ترك شرب الخمر تحصينا للعقل: فإنه سبحانه فرض ترك شرب الخمر لئلا يفقد الإنسان عقله فيترك عندها الواجبات و يفعل المحرمات و يقتل النفوس المؤمنة و يعيث في الأرض الفساد.

و مجانبة السرقة: و البعد عنها.

إيجابا للعفة: و صونا لكرامة الإنسان و ترفعا له عن الضعة و الخسة.

و ترك الزنى تحصينا للنسب: فإنه سبحانه نهى عن الزنا لما فيه من اختلاط المياه و تضييع الأنساب بحيث لا يعود يعرف الولد لمن هو و لما فيه أيضا من القضاء على الأسرة كما هو الشائع في الدول الكافرة.

و ترك اللواط تكثيرا للنسل: لأن اللواط معناه اكتفاء الذكر بالذكر في قضاء الشهوة و هذا مسخ للفطرة و هو أقبح من الزنا لأن الزنا انحراف و ذاك مسخ و اللواط يمنع النسل و عدمه يكثر النسل حيث يتزوج الإنسان و يثمر الزواج بأولاد.

و الشهادات استظهارا على المجاحدات: فمن أنكر أمرا اتهم به تأتي الشهادة عليه لترفع إنكاره و جحده و تثبت الحق عليه أو له إذا كان له دعوة صادقة مقرونة بالبينة و الشهادة لصالحه.

و ترك الكذب تشريفا للصدق: نهى عن الكذب من أجل أن يعمر الكون بالصدق و تتم المعاملات وفقا له و يقبل القول من أصحابه.

و السلام أمانا من المخاوف: لأن السلام يعني عدم الحرب و الحرب فيها مخاوف و هلع و خراب و دمار و السلام عكس ذلك كله فمن هنا كان السلام أمانا.

و الأمانة نظاما للأمة: دستورا و طريقا بها يتعاملون و عليها تمشي أمورهم و عكسها الخيانة فإنها تفقد الثقة و ذلك يوجب الحرج و العسر.

و الطاعة تعظيما للإمامة: فإن الأمة إذا اجتمعت حول قيادتها ارتفعت منزلة الإمامة و ارتفاع منزلتها و تعظيمها تعظيما للدين و ارتفاعا له...

ص: 398

253 - و كان عليه السلام يقول: أحلفوا (1) الظّالم - إذا أردتم يمينه - بأنّه بريء من حول اللّٰه و قوّته، فإنّه إذا حلف بها كاذبا عوجل العقوبة، و إذا حلف باللّٰه الّذي لا إله إلاّ هو لم يعاجل، لأنّه قد وحّد اللّٰه تعالى.

اللغة

1 - الحلف: القسم.

الشرح

هذا من الأيمان المغلظة التي يقف لها شعر البدن فلا يتمالك المسلم المؤمن باللّٰه أن يتلفظ بها و إذا أقدم جرأة على اللّٰه فإن اللّٰه يأخذه كما ورد في الخبر: إن الصادق عليه السلام أحلف بيمين البراءة - و هو هذا اليمين - رجلا ادعى عليه زورا و كذبا أمام المنصور فما أتم الحالف يمينه حتى أصيب بالفالج و جر برجله من المجلس ثم مات...

254 - و قال عليه السلام: يابن آدم، كن وصيّ نفسك في مالك، و اعمل فيه ما تؤثر (1) أن يعمل فيه من بعدك.

اللغة

1 - تؤثر: تحب.

الشرح

اعتاد بعض الناس أنهم إذا دنت ساعة فراقهم من الدنيا أن يوصوا من خلفهم أن يتصدقوا عنهم أو يعملوا بأموالهم بعض الأعمال الحسنة التي يؤجرون عليها في آخرتهم و تنفعهم يوم لقاء ربهم و الإمام ينبه هذا الصنف من الناس و يلفت نظرهم إلى أنه لا داعي للوصية و لا داعي لتأخير التنفيذ بل نفذ ما تريد في حال حياتك فأنت الذي تعبت حتى حصلت على المال و أنت الذي جنيت المال فنفّذ ما تريد فلعل غيرك لا ينفذ ما تريد و لا يعمل في أموالك ما تحب...

ص: 399

255 - و قال عليه السلام: الحدّة (1) ضرب من الجنون، لأنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم (2).

اللغة

1 - الحدة: ما يعتري الإنسان من الغضب.

2 - استحكم الأمر: تمكّن.

الشرح

الحدة، الغضب الشديد و الإثارة لأدنى شيء و صاحبها يرجع مباشرة إلى الاعتذار و يندم على فعله و لكنه إذا لم يندم بل بقي مصرا على فعله وحدته فهو مجنون و جنونه دائم لأنه لم يستعمل عقله الذي زوده به اللّٰه و من لم يستعمل عقله دخل في زمرة المجانين و في هذا البيان تنبيه إلى سيئات الحدة و هو تنبيه إلى بعض خصوصيات صاحب الحدة...

256 - و قال عليه السلام: صحّة الجسد، من قلّة الحسد.

الشرح

هذا ترغيب في البعد عن الحسد بذكر بعض فوائد الاجتناب عنه و هو أن عدم الحسد يجعل البدن صحيحا و قد تقدم ما يشبه هذا.

257 - و قال عليه السلام لكميل بن زياد النخعي: يا كميل، مر (1) أهلك أن يروحوا (2) في كسب المكارم، و يدلجوا (3) في حاجة من هو نائم.

اشارة

فوالّذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلاّ و خلق اللّٰه له من ذلك السّرور لطفا. فإذا نزلت به نائبة (4) جرى (5) إليها كالماء في انحداره حتّى يطردها (6) عنه كما تطرد غريبة الإبل (7).

ص: 400

اللغة

1 - مر: فعل أمر من أمر.

2 - يروحوا: يذهبوا من الرواح و هو الذهاب بعد الظهر.

3 - يدلجوا: يدخلوا في الليل و يسافروا فيه.

4 - النائبة: المصيبة.

5 - جرى الماء: سال.

6 - يطردها: يبعدها.

7 - غريبة الإبل: التي لم تكن من جملة القطيع و من أفراده فهي غريبة يطردها أصحابهم أو نفس الإبل تطردها.

الشرح

توجيه لكميل أن يأمر أهل بيته بكسب المكارم و يتعلموا محاسن الأخلاق و يتعاملوا مع الناس بالحسنى ثم قضاء حاجة الناس و قد ورد الكثير من الأخبار في هذا الباب و ورد عن أهل البيت أن من قضى حاجة لأخيه المؤمن قضى اللّٰه له سبعين حاجة من حوائج الآخرة... و في سيرة أهل البيت أعلى الدروس و أنفع النصائح و يكفي ما بشر به الإمام هنا فهذا اليمين منه - و هو صادق بدونه - بأن اللّٰه يخلق من ذلك السرور الذي أدخله على المؤمن بقضاء حاجته، يخلق له لطفا فإذا تزلت نازلة و مصيبة تداعى اللطف فكشفها عنه فلعل بقضاء الحاجة للمؤمن يعرفه الناس و لا ينساه صاحبه فيكون ذلك كاشفا لهمه و غمه و مصيبته.

258 - و قال عليه السلام: إذا أملقتم (1) فتاجروا اللّٰه بالصّدقة.

اللغة

1 - أملقتم: افتقرتم.

الشرح

الإملاق هو الفقر فإذا حل الفقر بساحتك فتاجر مع اللّٰه بقليل من الصدقة تدفعها إلى فقير فيرتفع صوته بالدعاء لك بالرزق و الخير و هذا الأمر يعلم اللّٰه سره و هو الذي بيده

ص: 401

مفاتيح خزائن السموات و الأرض و ليس ذلك بعزيز عليه فقد يجعل الرزق من هذا الباب إذا انسدت الأبواب كلها.

259 - و قال عليه السلام: الوفاء لأهل الغدر (1) غدر عند اللّٰه، و الغدر بأهل الغدر وفاء عند اللّٰه.

اللغة

1 - الغدر: هو نقض العهد و ترك الوفاء به.

الشرح

إذا اعتاد بعضهم على الغدر ثم وفيت لهم بما وعدت فهذا غدر عند اللّٰه لأنك تساعدهم على غدرهم و تعاونهم ليستمروا في نقضهم للعهود بينما إذا غدرت بهم و أدبتهم فهذا وفاء لهم باعتبار أنهم سيتأدبون و يعرفون قيمة الغدر و آثاره السيئة فيرتدعوا عنه و يكفوا عن ممارسته و في ذلك وفاء عند اللّٰه لأنك أدبتهم و علمتهم على الوفاء...

260 - و قال عليه السلام: كم من مستدرج (1) بالإحسان إليه، و مغرور بالسّتر عليه، و مفتون بحسن القول فيه. و ما ابتلى اللّٰه سبحانه أحدا بمثل الإملاء له.

اشارة

قال الرضي: و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلا أن فيه ها هنا زيادة جيدة مفيدة.

اللغة

1 - الاستدراج: تتابع النعمة على المعاصي ليعذر في عذابه و أخذه.

2 - الإملاء: الإمهال.

تقدم هذا بنصه الحرفي في الحكمة رقم 116 فليراجع هناك.

ص: 402

فصل نذكر فيه شيئا من غريب كلامه المحتاج إلى التفسير

1 - و في حديثه عليه السلام فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدّين بذنبه، فيجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف.

قال الرضي: اليعسوب: السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ، و القزع: قطع الغيم التي لا ماء فيها.

هذا إخبار منه بالإمام المنتظر و أنه بعد غيبته و خوفه سيخرج و يجتمع إليه المؤمنون فيبسط سلطانه على العالم و يقيم دولة العدل و الإيمان.

2 - و في حديثه عليه السلام هذا الخطيب الشّحشح.

يريد الماهر بالخطبة الماضي فيها، و كل ماض في كلام أو سير فهو شحشح، و الشحشح في غير هذا الموضع: البخيل الممسك.

قال المعتزلي في شرحه: قد جاء الشحشح بمعنى الغيور و الشحشح بمعنى الشجاع و الشحشح بمعنى المواظب على الشيء الملازم له و الشحشح الحاوي و مثله الشحشحان.

و هذه الكلمة قالها علي عليه السلام لصعصعة بن صوحان العبدي رحمه اللّٰه و كفى صعصعة بها فخرا أن يكون مثل علي عليه السلام يثني عليه بالمهارة و فصاحة اللسان و كان صعصعة أفصح الناس...

3 - و في حديثه عليه السلام إنّ للخصومة قحما.

ص: 403

يريد بالقحم المهالك، لأنها تقحم أصحابها في المهالك و المتالف في الأكثر. و من ذلك «قحمة الأعراب» و هو أن تصيبهم السنة فتتعرق أموالهم فذلك تقحمها فيهم. و قيل فيه وجه آخر:

و هو أنها تقحمهم بلاد الريف، أي تحوجهم إلى دخول الحضر عند محول البدو.

قال بعض شراح النهج إن هذه الكلمة قالها عند ما و كلّ عبد اللّٰه بن جعفر في الخصومة عنه، و هو شاهد و قال آخر لعلها كانت في أيام الثلاثة...

4 - و في حديثه عليه السلام إذا بلغ النّساء نصّ الحقاق فالعصبة أولى.

و النص: منتهى الأشياء و مبلغ أقصاها كالنص في السير، لأنه أقصى ما تقدر عليه الدابة.

و تقول: نصصت الرجل عن الأمر، إذا استقصيت مسألته عنه لتستخرج ما عنده فيه. فنص الحقائق يريد به الإدراك، لأنه منتهى الصغر، و الوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبير، و هو من أفصح الكنايات عن هذا الأمر، و أغربها. يقول: فإذا بلغ النساء ذلك فالعصبة أولى بالمرأة من أمها، إذا كانوا محرما، مثل الإخوة و الأعمام، و بتزويجها إن أرادوا ذلك. و الحقاق:

محّاقة الأم للعصبة في المرأة، و هو الجدال و الخصومة، و قول كل واحد منهما للآخر: «أنا أحق منك بهذا» يقال منه: حاققته حقاقا، مثل جادلته جدالا. و قد قيل: إن «نص الحقاق» بلوغ العقل، و هو الإدراك، لأنه عليه السلام إنما أراد منتهى الأمر الذي تجب فيه الحقوق و الأحكام، و من رواه «نص الحقائق» فإنما أراد جمع حقيقة.

هذا معنى ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام، و الذي عندي أن المراد بنص الحقاق ها هنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز فيه تزويجها و تصرفها في حقوقها، تشبيها بالحقاق من الإبل، و هي جمع حقّة و حقّ و هو الذي استكمل ثلاث سنين و دخل في الرابعة، و عند ذلك يبلغ إلى الحد الذي يتمكن فيه من ركوب ظهره، و نصه في السير، و الحقائق أيضا: جمع حقة. فالروايتان جميعا ترجعان إلى معنى واحد، و هذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أولا.

المراد أن البنت إذا بلغت و قد توفي أبوها فتنازع أقرباء الأم و الأب كل يريدها و يريد تزويجها فأقرباء الأب أولى من غيرهم...

5 - و في حديثه عليه السلام إنّ الإيمان يبدو لمظة في القلب، كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللّمظة.

ص: 404

و اللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض. و منه قيل: فرس ألمظ، إذا كان بجحفلته شيء من البياض.

و في هذه الكلمة بيان أن الإيمان يزداد و يقلّ و يقوى و يضعف فإذا توجه الإنسان إلى اللّٰه و واظب على العبادة و قام باعمال الخير قوي الإيمان و ترسخ و إذا عمل المفاسد و ترك العبادات فإنه يضعف حتى يصل به الأمر إلى الكفر في نهاية المطاف...

6 - و في حديثه عليه السلام إنّ الرّجل إذا كان له الدّين الظنّون، يجب عليه أن يزكّيه، لما مضى، إذا قبضه.

فالظنون: الذي لا يعلم صاحبه أ يقبضه من الذين هو عليه أم لا، فكأنه الذي يظن به، فمرة يرجوه و مرة لا يرجوه. و هذا من أفصح الكلام، و كذلك كل أمر تطلبه و لا تدري على أي شيء أنت منه فهو ظنون، و على ذلك قول الأعشى:.

ما يجعل الجدّ الظّنون الّذي *** جنّب صوب اللّجب الماطر

مثل الفراتيّ إذا ما طما *** يقذف بالبوصيّ و الماهر

و الجدّ: البئر العادية في الصحراء، و الظنون: التي لا يعلم هل فيها ماء أم لا.

الدين الظنون هو الدين على أحد الناس و لا يدرى أتحصل عليه أم يبقى إلى قيام الساعة و الإمام هنا يحكم أنه إذا قبضه يجب تزكيته و يحمل الحكم هنا على الاستحباب و لا داعي للتأويلات و الاحتمالات لأن الحكم بالوجوب مخالف لما ورد عن أهل البيت من عدم الزكاة في مثل هذه الصورة...

7 - و في حديثه عليه السلام أنه شيع جيشا بغزية فقال: اعذبوا عن النّساء ما استطعتم.

و معناه: اصدفوا عن ذكر النساء و شغل القلب بهن، و امتنعوا من المقاربة لهن، لأن ذلك يفتّ في عضد الحميّة، و يقدح في معاقد العزيمة، و يكسر عن العدو و يلفت عن الإبعاد في الغزو، و كل من امتنع من شيء فقد عذب عنه. و العاذب و العذوب: الممتنع من الأكل و الشرب.

ص: 405

هذه وصية منه و توجيه ليبقى الجيش خالصا بنيته للّٰه دون أن يشوب جهاده قلق أو أذية من خلال تذكره للنساء.

8 - و في حديثه عليه السلام كالياسر الفالج ينتظر أوّل فوزة من قداحه.

الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور، و الفالج: القاهر و الغالب، يقال: فلج عليهم و فلجهم، و قال الراجز: لما رأيت فالجا قد فلجا.

و مراده أن المؤمن الطاهر المطيع للّٰه سعيد في دنياه و آخرته فله إحدى الحسنين النصر أو الشهادة...

9 - و في حديثه عليه السلام كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه.

و معنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو، و اشتد عضاض الحرب، فزع المسلمون إلى قتال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بنفسه، فينزل اللّٰه عليهم النصر به، و يأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه.

و قوله: «إذا احمر البأس» كناية عن اشتداد الأمر، و قد قيل في ذلك أقوال أحسنها: أنه شبه حمي الحرب بالنار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها. و مما يقوي ذلك قول رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -، و قد رأى مجتلد الناس يوم حنين و هي حرب هوازن: «الآن حمي الوطيس» فالوطيس: مستوقد النار، فشبه رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ما استحرّ من جلاد القوم باحتدام النار و شدة التهابها.

هذه شهادة من فارس الإسلام و المسلمين و قاتل الكفار و المشركين، شهادة من أعظم المقاتلين يشهد أن رسول اللّٰه أشجع البشر فلا مفر للعالم كله أن يعترف و يقر بهذه الحقيقة المحمدية...

ص: 406

261 - و قال عليه السلام لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار، فخرج بنفسه ماشيا حتى أتى النّخيلة فأدركه الناس، و قالوا: يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم، فقال:

اشارة

ما تكفونني أنفسكم، فكيف تكفونني غيركم ؟ إن كانت الرّعايا (1) قبلي لتشكو حيف رعاتها (2)، و إنّني اليوم لأشكو حيف (3) رعيّتي، كأنّني المقود و هم القادة، أو الموزوع (4) و هم الوزعة (5)!.

فلما قال عليه السلام هذا القول، في كلام طويل قد ذكرنا مختاره في جملة الخطب، تقدم إليه رجلان من أصحابه فقال أحدهما: إني لا أملك إلا نفسي و أخي، فمر بأمرك يا أمير المؤمنين ننقد له، فقال عليه السلام:

و أين تقعان ممّا أريد؟.

اللغة

1 - الرعايا: عامة الناس الذين عليهم راع.

2 - الرعاة: جمع الراعي و هو كل من ولي أمر قوم.

3 - الحيف: الظلم و الجور.

4 - الموزوع: المحكوم.

5 - الوزعة: محركة جمع و ازع بمعنى الحاكم.

الشرح

عانى الإمام من أصحابه أشد العناء و كان حظه منهم ضئيل حقير لم يطيعوه فيما أمر و ألزموه بما رأوا و هذه الكلمات نفثة مصدور و آهة محموم أشعر فيها بغبن الحياة و ظلمها للعظماء و الشرفاء.

و هذه حادثة - من جملة حوادث - مرت على الإمام و هي أن معاوية كان يبعث بعض أصحابه للإغارة على أطراف ما يحكمه الإمام فيقتلون و يسلبون و يخربون حتى وصل شرهم إلى بلدة الأنبار - و هي بلدة تقع على الجانب الشرقي للفرات - فلما سمع الإمام خرج منفردا ماشيا حتى وصل إلى منطقة النخيلة و هي بظهر الكوفة و فيها كان يعسكر الإمام و عندها تحرك الناس و أدركوه و قالوا له نحن نكفيك فأجابهم إنكم لا تكفونني أنفسكم، فأنتم تحتاجون إلى تهذيب و تعليم و إصلاح و رد إلى اللّٰه و رسوله

ص: 407

فكيف تكفونني غيركم، و إن الموازين قد تغيرت كانت الرعية تخاف ظلم الراعي و الحاكم فصرت أشكو ظلم رعيتي لي حيث لم يطيعوا أمري و يريدون تنفيذ أوامرهم فكأني لظلمهم أصبحوا القادة و أنا الرعية و هم الحكام و أنا المحكوم و بعد كلام طويل منه تقدم إليه العبدان الصالحان و قال أحدهما: إني لا أملك إلا نفسي و أخي فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين ننقد له قال عليه السلام: و أين تقعان مما أريد فأنا أريد قتال معاوية و هذا يحتاج إلى جيش لجب و إلى رجال يقارعون بالسيوف و أنتم اثنان لا تكفيان لذلك...

262 - و قيل إن الحارث بن حوط أتاه فقال: أ تراني أظنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة ؟.

اشارة

فقال عليه السلام: يا حارث، إنّك نظرت تحتك و لم تنظر فوقك فحرت (1)! إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف من أتاه (2)، و لم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.

فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعيد بن مالك و عبد الله بن عمر، فقال عليه السلام:

إنّ سعيدا و عبد الله بن عمر لم ينصرا الحقّ ، و لم يخذلا (3) الباطل.

اللغة

1 - حرت: تحيرت.

2 - من أتاه: من أخذه.

3 - خذله: تخلى عن نصرته.

الشرح

اشارة

هذه شبهة دخلت في ذهن هذا الرجل لبساطته و قلة معرفته و عدم إحاطته بالأمور فهو يستنكر أن يكون أصحاب الجمل على ضلالة و ردّ الإمام عليه إنك يا حارث قصير النظر عديم المعرفة لأنك رأيت أصحاب النبي و زوجته فقلت إذن الحق معهم و إلى جانبهم و هذا هو الخطأ فالحق لا يعرف بالرجال بل القضية بالعكس متى عرفت الحق و الباطل عرفت الرجال و أنهم على الحق أو الباطل.

ص: 408

ثم أراد أن يتخلّص بأسلوب آخر فقال إن سعيد بن مالك و عبد الله بن عمر اعتزلا القتال و اجتنبا الفتنة و عملهما هذا جيد مبرئ للذمة.

فأجابه الإمام إنهما لم ينصرا الحق المتمثل بالخلافة الشرعية و لم يدافعا عن القيادة و أهدافها أو يبينا للناس وجه الصواب، و لم يخذلا الباطل المتمثل بمعاوية و أصحابه و المسلم لا يعيش بهذه الصورة بل رسالته توجب عليه أن ينصر الحق و يدافع عنه و يخذل الباطل و يخزي النفاق فعمل الرجلين ليس شرعيا و لا صحيحا فأنت لا يمكن أن تقتدي بهما...

ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب.

عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب.

أمه اسمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص.

ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي و كان يكنى أبا عبد الرحمن أسلم بمكة مع إسلام أبيه عمر.

لم يعهد عنه موقف مميز بل كان ضعيف الشخصية لا يأتي أمير إلا صلى خلفه و أدى إليه زكاة ماله و كان شعاره لا أقاتل في الفتنة و أصلي وراء من غلب فصلى حتى خلف الحجاج بن يوسف الثقفي.

و كان يقول: لا أسأل أحدا شيئا و لا أرد ما رزقني اللّٰه و لذا كان يقبل من المختار الثقفي و من عبد العزيز بن مروان و من معاوية و ابنه يزيد و لضعفه في دينه لما بويع يزيد بن معاوية بلغ ابن عمر ذلك فقال: إن كان خيرا رضينا و إن كان بلاء صبرنا و قد خالف إجماع أهل المدينة عند ما خلعوا يزيد فقد جمع بنيه و قال: إنا بايعنا هذا الرجل - يزيد - على بيع اللّٰه و رسوله و إني سمعت رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقول: هذه غدرة فلان و إن من أعظم الغدر إلا أن يكون الشرك باللّٰه أن يبايع رجل رجلا على بيع اللّٰه و رسوله (صلی الله علیه و آله) ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد و لا يسرعن أحد منكم في هذا الأمر فتكون الصيلم بيني و بينه.

و عبد الله هو الذي رفض بيعة علي (ع) و لم يبايعه مع أنه ذهب إلى الحجاج ليبايع لعبد الملك بحجة أنه يخاف الموت بدون إمام فيموت ميتة جاهلية...

ص: 409

مات ابن عمر بمكة و دفن بفخ سنة أربع و سبعين و كان سنه يوم مات أربع و ثمانين سنة.

263 - و قال عليه السلام: صاحب السّلطان كراكب الأسد: يغبط (1) بموقعه (2)، و هو أعلم بموضعه.

اللغة

1 - الغبطة: أن يتمنى المرء مثل ما عند غيره دون أن يزول عنهم.

2 - بموقعه: بمكانه.

الشرح

أعوان الحاكم و حاشيته في نظر الناس أنهم أصحاب رتب مرموقة يتمنى الكثيرون أن يصلوا إلى منزلتهم و مقامهم و لكنهم لا يعرفون الأخطار المحدقة بهم ففي لحظة واحدة يسقط عن منزلته و تصادر أمواله و يسجن و قد ينكّل به شر تنكيل و في التاريخ نماذج كثيرة لهذه الحوادث كنكبة البرامكة في زمن الرشيد فقد كان لهم الوزارة و الحظوة و السطوة و ما هي إلا لحظات حتى غضب عليهم الرشيد فأفناهم و قضى عليهم فصاحب السلطان كراكب الأسد فهو في أعين الناس عظيم و محله رفيع يتمنى كثيرون أن يكونوا هم راكبوا الأسد و لكن راكب الأسد وحده الذي يعرف الخطر و أنه ربما غفل لحظة فذهب ضحية سهلة...

264 - و قال عليه السلام: أحسنوا في عقب (1) غيركم تحفظوا في عقبكم.

اللغة

1 - العقب: النسل و من يأتي بعدك من ذريتك.

ص: 410

الشرح

إذا أردت الإحسان إلى ذريتك و من يأتي بعدك من أولادك و أحفادك أحسن إلى أولاد الناس و أحفادهم و عاملهم بأجمل ما تحب أن يعامل به أولادك و ذريتك و هذا أمر مجرب فإنك بإحسانك تعطف قلوب الناس على أحفادك و تبقى صورة الإحسان في أذهانهم مما يحركهم للإحسان إلى ذريتك...

265 - و قال عليه السلام: إنّ كلام الحكماء إذا كان صوابا (1) كان دواء، و إذا كان خطأ كان داء (2).

اللغة

1 - الصواب: غير الخطأ.

2 - داء: مرض.

الشرح

لأن الحكماء قدوة للناس و الناس يعملون بما يقولون فإذا كان القول صحيحا استفادوا منه و سعدوا و تقدمت حياتهم و فازوا و أما إذا كان باطلا و فاسدا فإنه يفسد المجتمع و يخرب الحياة و ينشر البؤس و التعاسة...

266 - و سأله رجل أن يعرفه الإيمان فقال عليه السلام: إذا كان الغد فأتني حتّى أخبرك على أسماع النّاس، فإن نسيت مقالتي حفظها عليك غيرك، فإنّ الكلام كالشّاردة (1)، ينقفها (2) هذا و يخطئها هذا.

اشارة

و قد ذكرنا ما أجابه به فيما تقدم من هذا الباب و هو قوله: «الإيمان على أربع شعب».

اللغة

1 - الشاردة: النافرة.

2 - ينقفها: يصيبها.

ص: 411

الشرح

و قد تقدم شرح ذلك في الكلمة 31.

267 - و قال عليه السلام: يا بن آدم، لا تحمل همّ يومك الّذي لم يأتك على يومك الّذي قد أتاك، فإنّه إن يك من عمرك يأت اللّٰه فيه برزقك.

الشرح

لكل يوم همومه و فيه مشاغله و أتعابه و الإمام يريد أن لا تنقل أحزان المستقبل و مشاكله و ما فيه من هموم إلى يومك هذا فتتضاعف الأحزان و الهموم و قد تكسرك و لا تستطيع الوقوف أمامها، فأنت فكر في يومك و ما أنت فيه و أما المستقبل فبيد اللّٰه هو الذي تكفل لك برزقك و لن تموت نفس حتى تستكمل قوتها... لا يشغل فكرك غد و أنت في الساعات الأولى من يومك الحاضر.

268 - و قال عليه السلام: أحبب حبيبك هونا (1) ما، عسى أن يكون بغيضك يوما (2) ما، و أبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما.

اللغة

1 - الهون: الحقير و المراد هنا القليل.

2 - البغيض: المبغوض المكروه.

الشرح

دعوة إلى الاعتدال و عدم الإفراط حتى في الحب و البغض و أنك إذا أحببت شخصا فلا تذوب فيه و لا تعطيه أسرارك و تكشف له عيوبك فلربما انقلب عدوا فيعرف معايبك و ينشر مساويك و يعرف كيف يضرك و كذلك إذا أبغضت إنسانا فلا تقطع جميع الخيوط

ص: 412

بينك و بينه بل ليكن ذلك بقدر بحيث لو رجع إلى الصواب أمكن الرجوع إليه دون تأسف أو أسى على ما مضى من كلام سخيف بذيء...

269 - و قال عليه السلام: النّاس في الدّنيا عاملان: عامل عمل في الدّنيا للدّنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى (1) على من يخلفه (2) الفقر، و يأمنه على نفسه، فيفني عمره في منفعة غيره، و عامل عمل في الدّنيا لما بعدها، فجاءه الّذي له من الدّنيا بغير عمل، فأحرز (3) الحظّين (4) معا، و ملك الدّارين جميعا، فأصبح وجيها (5) عند اللّٰه، لا يسأل اللّٰه حاجة فيمنعه.

اللغة

1 - يخشى: يخاف.

2 - يخلفه: يتركه خلفه.

3 - أحرز الشيء: حازه.

4 - الحظين: النصيبين.

5 - الوجيه: سيد القوم ذو الجاه و الوجاهة.

الشرح

الناس في الدنيا عاملان: عامل عمل في الدنيا للدنيا، و من أجلها قاطعا النظر عن الآخرة و ثوابها و ما ينتظره منها.

قد شغلته دنياه عن آخرته: فقد استولت الدنيا على قلبه فيقوم و هو يفكر فيها و ينام و هو يفكر فيها و كيفما يتحرك يفكر فيها.

يخشى: و يخاف.

على من يخلفه: من أبناء و أحفاد.

الفقر: و الحاجة.

و يأمنه على نفسه: فهو في أمن من الفقر لأنه يعرف موارد الرزق و كيف يكتسب الأموال و يجمع الحطام.

ص: 413

فيفني عمره في منفعة غيره: إنه يجمع للأبناء و الأحفاد و يقتني الدور و العقار من أجلهم فعمره كله ينقضي في الجمع لهم.

و عامل: آخر.

عمل في الدنيا لما بعدها: و ما يترقبه و يراه من الحساب و العذاب و الجنة و النار فسعى من أجل الجنة و نعيمها و ما فيها.

فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل: فإنه بعمله الذي كان يعمله للآخرة - فيه نفسه - يحصّل رزق الدنيا و رزق الآخرة.

فأحرز الحظين معا: حظه في الدنيا و حظه في الآخرة.

و ملك الدارين: الدنيا و الآخرة.

جميعا فأصبح وجيها عند اللّٰه لا يسأل اللّٰه حاجة فيمنعه: بل كل حاجاته مقضية بإذن اللّٰه لطاعته للّٰه...

270 - و روي أنه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة و كثرته، فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، و ما تصنع الكعبة بالحلي ؟ فهم عمر بذلك، و سأل عنه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عليه السلام:

اشارة

إنّ هذا القرآن أنزل على النّبيّ - صلّى اللّٰه عليه و آله -، و الأموال أربعة: أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض (1)، و الفيء (2) فقسّمه على مستحقّيه، و الخمس (3) فوضعه اللّٰه حيث وضعه، و الصّدقات فجعلها اللّٰه حيث جعلها، و كان حلي الكعبة (4) فيها يومئذ، فتركه اللّٰه على حاله، و لم يتركه نسيانا، و لم يخف عليه مكانا، فأقرّه حيث أقرّه اللّٰه و رسوله. فقال له عمر: لولاك لافتضحنا. و ترك الحلي بحاله.

اللغة

1 - الفرائض: ما فرض لكل واحد من الورثة و علم الفرائض علم يعلم به توزيع التركة .

ص: 414

2 - الفيء: الضرائب.

3 - الخمس: يخرج خمس الأرباح.

4 - حلى الكعبة: المصوغات التي تزين به الكعبة.

الشرح

كان الإمام لا يبخل بنصيحة يعود خيرها على المسلمين و بالرغم من أنه لم يقل بشرعية الخلافة للخلفاء الثلاثة و يرى أن الحق له دونهم لكنه مع ذلك كان يبذل النصيحة لهم و يدلهم على المواضع التي يكون فيها عز الإسلام و المسلمين و من ذلك نصيحته لعمر عند ما أراد أن يفتح فارس و أراد أن يكون هو على رأس الجيش نصحه الإمام ورده عن رأيه و منها هذه النصيحة و هي أنه لما همّ عمر بأخذ حلى الكعبة نصحه الإمام بهذا البيان الجليل و هو أن الأموال أربعة أموال خاصة يكتسبها الإنسان فهذه توزع على الورثة بعد الوفاة و أموال عامة فمال الفيء الذي يكسبه المجاهدون يوزع عليهم على تفصيل مذكور في كتاب الفقه و مال الخمس وضعه اللّٰه حيث وضعه في بني هاشم بدل الزكاة و مال الصدقات فجعلها للأصناف الثمانية و بقي مال الكعبة و قد كان أمام نظر اللّٰه و نظر رسول اللّٰه فأبقياه مكانه و أن اللّٰه لم يغفل عنه و رسوله لم يحركه فوجب الاقتداء بذلك.

271 - و روي أنه عليه السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال اللّٰه أحدهما عبد من مال اللّٰه، و الآخر من عروض الناس.

اشارة

فقال عليه السلام: أمّا هذا فهو من مال اللّٰه و لا حدّ (1) عليه، مال اللّٰه أكل بعضه بعضا، و أمّا الآخر فعليه الحدّ الشّديد. فقطع يده.

اللغة

1 - الحد: عقوبة مفروضة نتيجة إثم معين.

الشرح

هذه مسألة فقهية مفادها أن اثنين سرقا من مال اللّٰه المعبر عنه بالفيء و الغنيمة أحد الرجلين عبد من نفس المغنم و الآخر من عامة الناس الآخرين فأمر الإمام بالنسبة للأول

ص: 415

أنه لا قطع عليه لأنه من جملة الفيء و المغنم فمال اللّٰه أكل بعضه البعض كالدابة المغنومة إذا أكلت من الغنيمة شيئا و أما الآخر فيجب عليه القطع إذا حصلت شرائط السرقة

272 - و قال عليه السلام: لو قد استوت (1) قدماي من هذه المداحض (2) لغيّرت أشياء.

اللغة

1 - استوت قدماي: استقر حكمي.

2 - المداحض: المزالق التي تزل بها الأقدام.

الشرح

يقول عليه السلام لو سكنت الفتنة و استتب الأمن و عاد الهدوء و انطمس الضلال و قضي على الباطل و خرجنا من هذه الحروب لغيرت كثيرا مما ابتدعه الخلفاء قبلي و خالفوا فيه الحق و العدل و هذا إنكار منه على كثير مما جرى في زمن من تقدمه و يذكر أمور كثيرة من البدع و الانحرفات عن الدين ذكر بعضها ابن أبي الحديد في طيات شرحه و ذكر العلامة الأميني كثيرا منها في موسوعة الغدير الغراء...

273 - و قال عليه السلام: اعلموا علما يقينا أنّ اللّٰه لم يجعل للعبد - و إن عظمت حيلته، و اشتدّت طلبته، و قويت مكيدته - أكثر ممّا سمّي له في الذّكر الحكيم (1)، و لم يحل (2) بين العبد في ضعفه و قلّة حيلته، و بين أن يبلغ ما سمّي له في الذّكر الحكيم. و العارف لهذا، العامل به، أعظم النّاس راحة في منفعة، و التّارك له الشّاكّ فيه أعظم النّاس شغلا في مضرّة. و ربّ منعم عليه مستدرج (3) بالنّعمى، و ربّ مبتلى (4) مصنوع له (5) بالبلوى! فزد أيّها المستنفع في شكرك و قصّر من عجلتك، وقف عند منتهى رزقك.

اشارة

ص: 416

اللغة

1 - الذكر الحكيم: القرآن.

2 - يحل: من الحائل و هو الفاصل.

3 - المستدرج: الذي يمد اللّٰه له بالنعمة و يمهله فلا يأخذه بالمعصية.

4 - المبتلى: المصاب بالمصائب.

5 - مصنوع له: معتنى به.

الشرح

هذه دعوة إلى عدم الحرص و التكالب على الدنيا و أن الإنسان سيصله رزقه المقسوم له و لن ينال أزيد منه مهما تعب و كد و سعى و مهما كان واعيا و متحركا كما أنه لن ينقص من رزق آخر مهما كان قليل الحركة قليل السعي و هذا قد رأيناه بأم العين قد رأينا بعض البسطاء السذج الذي إذا تكلم لا يكاد يحسن تركيب عبارتين و لا أن يعبر عن مقصوده قد اتسعت أبواب الرزق أمامه فأضحى من الأغنياء بينما رأينا العالم اللبق المتحرك اللسن يستجدي من رزق المتقدم و تلك حكمة إلهية تخفى على أولي الألباب، و لا تخفى على المتدينين الأتقياء... فالإمام هنا يقول: اعلموا علما يقينا لا يخالطه شك أن اللّٰه سبحانه و تعالى لم يجعل للعبد و إن عظمت حيلته و كانت لديه القدرة لفتح أبواب الرزق و اشتدت طلبته فسعى في طلب الرزق كل مسعى و قويت شوكته كانت له همة عالية في طرق أبواب الرزق فلا يتوانى أو يكسل فمهما كان فيه ذلك فلم يجعل له أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم، و الآيات تتعرض لذلك كما في قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ » و قوله تعالى: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاٰ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللّٰهُ يَرْزُقُهٰا وَ إِيّٰاكُمْ » و في المقابل لم يحل بين العبد في ضعفه و قلة حيلته فمهما كان العبد ضعيفا و قليل الحيلة في السعي لم يحل بينه و بين أن يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم من الرزق المقسوم الموعود به و كما قال الشاعر:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه *** و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

و العارف لهذا المطمئن إلى أن الرزق مقسوم و على العبد أن يطلبه لأنه مأمور بالطلب العامل به أعظم الناس راحة في منفعة فهو إذا علم أن رزقه مقسوم و أنه لا بد و أن يصل إليه ارتاحت نفسه و انتفع بوقته و أما التارك له الشاك فيه أعظم الناس شغلا في مضرة، فإن الشاك في ذلك يسعى في مضرة نفسه حيث يغامر و يسافر فيركب البحر و البر و الجو و حالته حرجة و لا يحصل إلا على ما قسمه اللّٰه... ثم أراد عليه السلام أن ينبه

ص: 417

أصحاب النعمة كما ينبه المقتر عليهم بقوله: «و رب منعم عليه مستدرج بالنعمى» يعني فلا يظن أن كل نعمة هي خير و لسعادة المعطى إذ ربما كانت من أجل عذابه فاللّٰه يعطيه و هو يعصيه فتكون بظاهرها نعمة و في واقعها نقمة كما روي أنه رب مبتلى مصنوع له بالبلوى فرب مبتلى بالفقر كان الإبتلاء له من أجل زيادة أجر، و زيادة ثوابه فظاهرها نقمة و باطنها نعمة فزد أيها المستنفع في شكرك ليزيد اللّٰه في رزقك و قصر من عجلتك في طلب الرزق لتبلغ أمنيتك من الأجر و الثواب و قف عند منتهى رزقك و لا تتجاوزه إلى الحرام ظانا أنه يصبح حلالا سائغا و لا تكابد كثيرا مشقات طلبه فإنه مقسوم و لا بد من أن يصل إليك...

274 - و قال عليه السلام: لا تجعلوا علمكم جهلا، و يقينكم شكّا. إذا علمتم فاعملوا، و إذا تيقّنتم فأقدموا.

الشرح

هذا نهي أن يتحول العالم إلى جاهل و المتيقن بأمر إلى شاك فيه لأن أثر العلم العمل به و أثر اليقين أن يسير وفق يقينه فإذا علم الإنسان أمرا عمل به و إذا تيقن بأمر عمل بمقتضاه...

275 - و قال عليه السلام: إنّ الطّمع مورد (1) غير مصدر (2)، و ضامن (3) غير وفيّ . و ربّما شرق (4) شارب الماء قبل ريّه (5)، و كلّما عظم قدر الشّيء المتنافس فيه عظمت الرّزيّة (6) لفقده (7). و الأمانيّ تعمي أعين البصائر، و الحظّ يأتي من لا يأتيه.

اللغة

1 - مورد: موصل.

2 - مصدر: من الصدور و هو الرجوع.

ص: 418

3 - ضامن: كافل.

4 - شرق بالماء: غصّ به.

5 - الري: الشبع من الماء.

6 - الرزية: المصيبة العظيمة.

7 - فقد الشيء: غاب عنه و عدمه.

الشرح

هذه الكلمة منه عليه السلام تنهى عن الطمع و تذكر بعض مساويه و الطمع صفة ذميمة يبقى نظر الطامع باستمرار بما في أيدي الناس من النعمة إن الطمع يورد الطامع إلى الهلكة غير مصدور لا يخرج منها إلا بالموت و الهلاك و ضامن غير و في فإن الطمع يرّغب في الطلب و يمني الإنسان بإدراك المطلوب و هو لا يفي بذلك و لا يصدق معه ثم نبه إلى عدم الاسترسال وراء المطموع به بقوله: «و ربما شرق شارب الماء قبل ريه» و هو مثل يضرب لمن تدركه المنية و هو في حال نعيمه و سعادته و ربما قضى الطامع قبل إدراك أمنيته فلا يأسف و لا يتحسر على الدنيا و ما فيها و كلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزية لفقده فبقدر ما يكون الشيء عظيما في نفسك يكون جزعك لفقده فينبغي أن لا يعظم عليك شيء و ما فاتك اجعله كأنه لم يكن و لا تحزن عليه و هوّنه في نفسك و الأماني تعمي أعين البصائر فإن الأماني التي يتصورها الإنسان تعمي عليه مسالك التفكير السليم و كل ما كان كذلك يجب اجتنابه و في النهاية الحظ يأتي من لا يأتيه هذا تهوين و تخفيف عن الإنسان ورد إلى اللّٰه و أن الحظ إذا حالف أحدا فاز و انتصر مهما كان صغيرا و إذا جانبه لم ينفعه شيء...

276 - و قال عليه السلام: اللّهمّ إنّي أعوذ بك (1) من أن تحسّن في لامعة العيون (2) علانيتي (3)، و تقبّح فيما أبطن لك سريرتي، محافظا على رثاء (4) النّاس من نفسي بجميع ما أنت مطّلع عليه منّي، فأبدي (5) للنّاس حسن ظاهري، و أفضي (6) إليك بسوء عملي، تقرّبا إلى عبادك، و تباعدا من مرضاتك.

اشارة

ص: 419

اللغة

1 - أعوذ بك: أستجير.

2 - لامعة العيون: رؤيتها.

3 - العلانية: خلاف السر، الظاهر.

4 - رثى الميت: عدد محاسنه.

5 - أبدي: أظهر.

6 - أفضي إليه بسره: أعلمه به.

الشرح

هذه استجارة باللّٰه أن لا يجعل ظاهره في أعين الناس تقيا ورعا أمينا و في واقعه خلاف ذلك بل يسأله التطابق بين الظاهر و الباطن و بين الواقع و الصورة و هذا ابتلاء عم بين الناس و شاع يخشون الناس و اللّٰه أحق أن يخشوه و يخافون من ألسنة الناس و لا يخافون من حساب اللّٰه، فتراهم يتزينون ليظهروا في أعين الناس على أتم ترتيب و أعظم هندام و لكنهم يغفلون عن نظافة باطنهم و تطهيره من الدنس و الخطيئة و هذا هو الرياء المنهي عنه و المبطل للعبادة فيتقرب العامل بعمله إلى الناس و يبتعد عن اللّٰه...

277 - و قال عليه السلام: لا و الّذي أمسينا منه في غبر (1) ليلة دهماء (2)، تكشر (3) عن يوم أغرّ (4)، ما كان كذا و كذا.

اللغة

1 - الغبر: البقايا.

2 - الدهماء: السوداء.

3 - التكشر: الضحك الذي يظهر معه الأنياب و الثنايا.

4 - الأغر: الأبيض.

الشرح

حلف باللّٰه الذي يبقي الإنسان على قيد الحياة إلى أن يمضي الليل المظلم و يظهر الصبح المشرق كما نقول أقسم باللّٰه الذي يبقينا على قيد الحياة حتى يطلع الصبح ما كان هذا الأمر و هذا الأمر و هذا الأمر... و هو حلف على نفي الشيء الفلاني...

ص: 420

278 - و قال عليه السلام: قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول (1) منه.

اللغة

1 - الملل: السأم و الضجر.

الشرح

يقال: ساقية جارية و لا نهر مقطوع... فالقليل من الأجر أو العمل مع المداومة عليه و الاستمرارية فيه خير من الأجر الكبير الذي تحصل عليه دفعة ثم تتوقف عن الأجر بعده و كذلك العمل إذا كان كثيرا و توقف، و ركعتان تتعهد نفسك بإقامتها باستمرار في كل يوم خير من نوافل نهار بكاملها تنقطع بعدها عن النوافل أبدا...

279 - و قال عليه السلام: إذا أضرّت النّوافل بالفرائض فارفضوها.

الشرح

لأن الفرائض واجبات فلا تزاحمها المستحبات فإذا كانت المستحبات تمنع من الواجبات فلا خير فيها كمن يصلي صلاة الليل و يترك صلاة الصبح الواجبة أو يتصدق استحبابا و يترك ما عليه من الواجبات المالية كالخمس و الزكاة... و قد تقدمت هذه الكلمة بعينها في الكلمة 39.

280 - و قال عليه السلام: من تذكّر بعد السّفر استعدّ.

الشرح

كلما كان سفرك طويلا و رحلتك أيامها مديدة لا بد و أن تهيء زادا كافيا لها لئلا تنقطع في الطريق، و الطريق إلى الآخرة و السفر إليها ليس هناك أبعد منها و أشق و زادها

ص: 421

الإيمان و التقوى و العمل الصالح و كلما كانت هذه أكثر كلما كان الإنسان أشد راحة و أكثر اطمئنانا و أسعد جدا...

281 - و قال عليه السلام: ليست الرّويّة (1) كالمعاينة (2) مع الإبصار، فقد تكذب العيون أهلها، و لا يغشّ العقل من استنصحه.

اللغة

1 - الروية: إجالة الفكر في طلب الصواب.

2 - المعاينة: الروية و المشاهدة.

الشرح

بدون إشكال أن الحواس تكذب الإنسان في بعض الأحيان فالنظر يريك القادم الكبير من بعيد صغيرا جدا و قد ترى الإنسان فتظنه غيره و هكذا سائر الحواس الأخرى أما العقل فإنه الحاكم المطلق الذي لا يغش بل هو الذي يميز و يحكم على الأشياء و لذا وردت الآيات و الأحاديث في الحث على إعمال الفكر و تحريكه و إثارته من مكامنه.

282 - و قال عليه السلام: بينكم و بين الموعظة حجاب من الغرّة (1).

اللغة

1 - الغرة: بكسر الغين الغفلة.

الشرح

الغرة معناها الغفلة، و المواعظ البليغة بين أيدينا نراها في كل حركة و في كل أثر من آثار الأقدمين، فهذه آثار القوم و هذه ديارهم سكنوها قبلنا و مروا عليها و سنمضي و تبقى لغيرنا لكننا مع ذلك في غفلة من أخذ العبرة منها و الاستعداد ليوم الحساب يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلا من أتى اللّٰه بقلب سليم...

ص: 422

283 - و قال عليه السلام: جاهلكم مزداد (1)، و عالمكم مسوّف (2).

اللغة

1 - مزداد: من الزيادة و هي الكثرة.

2 - مسوّف: مؤخّر.

الشرح

إذا ارتدت الأمة إلى الجاهلية انعكست فيها الموازين و اختلت المقاييس و من علائم ذلك أن الجاهل يزداد من العمل و يكثر منه فيصلي و هو لا يحسن صلاته و يكثر منها و هو لا يدرك عمقها و كذلك سائر العبادات و أما العالم فإنه مسوف للعمل مؤجل له فإذا طولب قدم المعاذير و الحجج الفارغة فلا يرعوي و لا يعود إلى اللّٰه...

284 - و قال عليه السلام: قطع العلم عذر المتعلّلين (1).

اللغة

1 - المتعللين: المعتذرين.

الشرح

لا تستطيع أن تعتذر إذا استطعت أن تتعلم و طالما أن باب العلم مفتوح لكل الناس و تستطيع الوصول إلى الحقيقة بعينها بالبحث عنها بنفسك فلا عذر لك أبدا و كما في الحديث يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: هلاّ عملت فيقول: لم أعلم فيقال له: هلاّ تعلمت...

285 - و قال عليه السلام: كلّ معاجل (1) يسأل الإنظار (2)، و كلّ مؤجّل (3) يتعلّل بالتّسويف (4).

اشارة

ص: 423

اللغة

1 - المعاجل: من العجلة ضد البطىء.

2 - الإنظار: التأخير.

3 - مؤجل: مؤخر.

4 - التسويف: التأخير.

الشرح

كل من جاء أجله قال ربي أرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت أو قال يا رب أخرني حتى أعمل من الصالحات بينما إذا كان في الوقت سعة و العمر فيه فسحة من الزمن يسوّف و يؤخر حتى تدركه المنية فالإنسان بين حالتين، حالة يطلب فيها التأخير و التأجيل إذا تضيق الخناق عليه و حالة أخرى يسوف و يؤخر و لا يبادر إلى العمل إذا كان له متسع و فسحة من الوقت، و العاقل الذي يعرف أنه لا تأجيل و لا تأخير إن جاء الأجل و لا يسوّف إن كان عنده سعة و امتداد في الأجل...

286 - و قال عليه السلام: ما قال النّاس لشيء «طوبى (1) له» إلاّ و قد خبأ (2) له الدّهر يوم سوء.

اللغة

1 - طوبى: سعادة و خير و هناء.

2 - خبأ: أخفى.

الشرح

إذا توجهت أنظار الناس إلى شيء بالإعجاب و الإكبار رماه الدهر بقاصمات الظهر فالملك على كرسيه و الزعيم في زعامته و الغني في ثرائه يتساقطون تحت ضربات الدهر فينزل الملك إلى الحضيض و يزيل ملكه و قد يقضي عليه و تتهاوى الزعامة و يفتقر الغني و تلك حكمة اللّٰه شاء أن يعطي لهذا الإنسان درسا أن لا يأمن لحوادث الدهر بل يحسب لفواجعه حساباتها و لا يغتر بما هو فيه من النعيم...

ص: 424

287 - و سئل عن القدر فقال: طريق مظلم (1) فلا تسلكوه (2)، و بحر عميق فلا تلجوه (3)، و سرّ اللّٰه فلا تتكلّفوه (4).

اللغة

1 - مظلم: معتم.

2 - سلك الطريق: دخله.

3 - ولج: دخل.

4 - تكلف الشيء: تجشمه و تحمله على مشقة أو على خلاف عادته.

الشرح

هذا نهي للعوام أن يتحدثوا في قضية القدر و أن اللّٰه لم قدر على هذا الإنسان هذا الفعل و على ذاك غيره و كيف وقع هذا الفعل من العاصي و كيف سمح به اللّٰه و إلى غيرها من الأسئلة التي لا يستطيع ذهن العامي استيعابها و فهمها و قد خوفهم بأنه طريق مظلم ليس للإنسان فيه موطىء قدم لشدته و كثرة الخوف منه من أن يضل أن ينحرف و بحر عميق قد لا يستطيع الإنسان السباحة فيه و النجاة منه و أخيرا بأنه من الأسرار الإلهية و أنتم غير مطالبين بمعرفته و لا تحاسبون على جهلكم به...

288 - و قال عليه السلام: إذا أرذل (1) اللّٰه عبدا حظر عليه (2) العلم.

اللغة

1 - أرذله: جعله رذيلا و الرذيل هو الساقط غير المحترم.

2 - حظر عليه: منعه منه و حرمه.

الشرح

من عدم توفيق الإنسان و من أسباب سقوطه و رذالته أن يمنع من العلم و لا يوفق لتحصيله و قد رأينا أراذل الناس ينادون ليتعلموا و يدعون ليتفهموا فيهربوا أو يتهربوا...

ص: 425

289 - و قال عليه السلام: كان لي فيما مضى أخ في اللّٰه، و كان يعظمه (1) في عيني صغر الدّنيا في عينه. و كان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهي (2) ما لا يجد، و لا يكثر إذا وجد. و كان أكثر دهره صامتا، فإن قال بذّ (3) القائلين، و نقع غليل (4) السّائلين. و كان ضعيفا مستضعفا! فإن جاء الجدّ (5) فهو ليث (6) غاب (7)، وصلّ (8) واد، لا يدلي (9) بحجّة حتّى يأتي قاضيا (10). و كان لا يلوم (11) أحدا على ما يجد العذر في مثله، حتّى يسمع اعتذاره، و كان لا يشكو وجعا (12) إلاّ عند برئه (13)، و كان يقول ما يفعل و لا يقول ما لا يفعل، و كان إذا غلب على الكلام (14) لم يغلب على السّكوت، و كان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، و كان إذا بدهه (15) أمران ينظر أيّهما أقرب إلى الهوى فيخالفه، فعليكم بهذه الخلائق (16) فالزموها و تنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خير من ترك الكثير.

اللغة

1 - يعظمه: يرفع من شأنه.

2 - اشتهى: رغب.

3 - بذّ: غلب.

4 - نقع الغليل: أزال العطش.

5 - الجد: الاجتهاد.

6 - الليث: الأسد.

7 - الغاب: جمع غابة و هي الشجر الملتف الكثيف.

8 - الصل: بالكسر الحية.

9 - أدلى بحجته: أحضرها، أرسلها و احتج بها.

10 - يأتي قاضيا: يجيء فاصلا حاكما.

11 - اللوم: العذل.

12 - الوجع: الألم.

13 - البرىء: الشفاء.

ص: 426

14 - غلب على الكلام: سبقه الآخرون في الكلام.

15 - بدهه الأمر: أتاه من غير تأهب، فاجأه.

16 - الخلائق: الطبائع.

الشرح

هذا وصف للأخ المثالي الذي يتصوره الإمام و يضع له هذه المواصفات العظيمة و قد يكون نظره إلى أحد أصحابه الطيبين التي تنطيق عليه هذه المواصفات و على كل حال فالعبرة أن نأخذ هذه الأوصاف و نعيشها حية متجسدة في سلوكنا فنمتثل الأمر العلوي بالتزامها و التنافس فيها.

قال عليه السلام: كان لي فيما مضى من الزمن و العمر أخ في اللّٰه جمعتنا و إياه الأخوة في اللّٰه التي هي أقوى من أخوة النسب و كان يعظمه في عيني و يرتفع شأنه في نظري و في نفسي صغر الدنيا في عينه لقد كانت الدنيا كلها حقيرة صغيرة في عينه و كان خارجا من سلطان بطنه فليس أسيرا لشهوة البطن فلا يهتم بأكله و مشربه و لذا فلا يشتهي ما لا يجد حتى يروح يبحث عنه و يشغل فكره في الحصول عليه و لا يكثر من تناوله إذا وجد و كان أكثر دهره صامتا فلا يثرثر و لا يهذي و إنما يتكلم ما ينفع و ما يفيد فإن قال و وجد للقول مجال و فائدة بذ القائلين فاقهم و تقدمهم و نقع غليل السائلين رد على كل سائل و أفاده بما لا يحتاج معه إلى سؤال غيره و أقنعه بما قاله له و كان ضعيفا مستضعفا في نظر الناس و في منظره الخارجي فإن جاء الجد و الحقيقة و حمي الوطيس و دارت الحرب برحاها فهو ليث غاب أسد الغابات التي لا يقف أمامه أحد من الأعداء وصل واد حية واد لا تقارب تحمي نفسها و موقعها و لا يجرأ أحد على التخطي عنها أو مقاربتها لا يدلي بحجة حتى يأتي قاضيا فهو في حجته يقضي على خصمه لوجود عناصر الانتصار فيها و دلائل صدقها في طيات كلماتها ففيها الفصل و كان من شدة ورعه و احتياطه لا يلوم أحدا و لا يعتب عليه على ما يجد العذر في مثله و يمكن أن يوجه بوجه شرعي لأنه فعل المسلم يحمل على الصحة أو على الاضطرار و الضرورة حتى يسمع اعتذاره فإن كان لعذره وجه مشروع مقبول قبل منه و إلا فرده بإحسان و وعظه بما ينبغي للمسلم أن يعظ أخاه و كان لوعيه و إيمانه لا يشكو وجعا لئلا يشق على الناس فيشمت عدو أو يساء حبيب و ربما كان في الشكوى نوع من التبرم و السخط و هذا قد يسقط الأجر و الثواب نعم كان عند برئه يحكي مرضه و يشكر ربه و كان يقول ما يفعل و لا يقول ما لا يفعل فكان قوله مطابقا لفعله و كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت إذا رأى أن الكلام لا يفيد

ص: 427

و لا ينفع عدل عنه إلى السكوت لأنه الأقوم و الأحسن و الأقرب من اللّٰه و كان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلم لأنه بالسماع يعرف الأشخاص و يعرف الكلام فيميز قبيحه من حسنه و باطله من مفيده و كان إذا بدهه أمران ينظر أيهما أقرب إلى الهوى فيخالفه كان إذا فاجأه أمران كل منهما حلال سائغ نظر في هوى نفسه فمن كان يرغب فيه تركه و أخذ بالآخر ليقهر النفس و يذللها على الطاعة ليكون عند قوله تعالى: «وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىٰ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوىٰ » فعليكم أيها المسلمون بهذه الخلائق و الطبائع و الصفات فالزموها و تنافسوا فيها فإن لم تستطيعوها كلها و لم تقدروا على الاتصاف بها فاعلموا أن أخذ القليل منها خير من ترك الكثير منها و ما لا يدرك كله لا يترك كله.

290 - و قال عليه السلام: لو لم يتوعّد (1) اللّٰه على معصيته لكان يجب ألاّ يعصى شكرا لنعمه.

اللغة

1 - التوعد: الوعيد و هو الوعد بالعقوبة.

الشرح

بعد أن يعرف الإنسان أن اللّٰه هو المنعم و يعرف أن شكر المنعم واجب يقوم بأداء الشكر و لا يحتاج إلى وعيد اللّٰه بالعقوبة و تخويفه بالنار حتى يطيعه و لا يعصيه...

291 - و قال عليه السلام، و قد عزى (1) الأشعث بن قيس عن ابن له:

اشارة

يا أشعث، إن تحزن على ابنك فقد استحقّت منك ذلك الرّحم (2)، و إن تصبر ففي اللّٰه من كلّ مصيبة (3) خلف (4). يا أشعث، إن صبرت جرى عليك القدر و أنت مأجور (5)، و إن جزعت (6) جرى عليك القدر و أنت مأزور (7). يا أشعث، ابنك سرّك و هو بلاء و فتنة (8)، و حزنك و هو ثواب و رحمة.

ص: 428

اللغة

1 - عزى مصابا: حمله على العزاء و هو الصبر.

2 - الرحم: القرابة.

3 - مصيبة: بلية، نازلة.

4 - خلف: عوض.

5 - مأجور: مثاب.

6 - جزعت: حزنت حزنا شديدا و لم تصبر.

7 - مأزور: مأثوم.

8 - فتنة: امتحان و اختبار.

الشرح

(يا أشعث) بن قيس (إن تحزن على ابنك فقد استحقت منك ذلك الرحم) لأن صلة القربى و العاطفة التي أودعها اللّٰه في نفوس الأرحام أمر طبيعي للتكامل في طريق التعامل و المحبة (و) لكن (إن تصبر ففي اللّٰه من كل مصيبة خلف) إن ألزمت نفسك بالصبر فإن في ثواب اللّٰه و ما جعله من الأجر للصابرين و المصابين عوض عن فقدك لابنك، و اعلم يا أشعث إن صبرت جرى عليك القدر و أنت مأجور فحكم اللّٰه سينفذ شئت أم أبيت فإن رضيت بقضائه و حكمه و صبرت على بلائه كان لك الأجر و الثواب و إن جزعت فشققت الثياب و لطمت الوجه و دعوت بالويل و الثبور جرى عليك القدر المحتوم المكتوب عليك و أنت مأزور مأثوم يا أشعث ابنك سرك و هو بلاء و فتنة كما قال تعالى: إن من «أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ » و حزنك و هو ثواب و رحمة فموت الطفل و إن كان يحزن أبويه و لكنه رحمة لهم يقف على باب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل أبواي كما في الحديث...

292 - و قال عليه السلام، على قبر رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ساعة دفنه:

اشارة

إنّ الصّبر لجميل إلاّ عنك، و إنّ الجزع (1) لقبيح إلاّ عليك، و إنّ المصاب (2) بك لجليل، و إنّه قبلك و بعدك لجلل (3).

اللغة

1 - الجزع: أشد الحزن و عدم الصبر.

2 - المصاب: البلية و كل أمر مكروه.

ص: 429

3 - الجلل: بالتحريك الأمر الهين و الأمر العظيم فهو من الأضداد و المقصود هنا الهين.

الشرح

كان فقد النبي (صلی الله علیه و آله) بالنسبة للإمام موجعا لقلبه، و قد تأثر أشد ما يكون و حزن و تألم لأن بفقده تنطفىء أنوار النبوة و تنقطع أخبار السماء و تذهب البركة و الخيرات و قد كان منه هذه النفثة التي تعبر عن عميق الأسى و الحزن إن الصبر لجميل إلا عنك لأن الحزن عليك يجعلك باستمرار في قلوبنا و تعاليمك في صدورنا و عقولنا و سلوكنا و إن الجزع لقبيح إلا عليك لأنك في أعلى درجات الكمال و الفضيلة و بفقدك لا نجد بديلا عنك و أن المصاب بك لجليل مصيبتنا بك جليلة و عظيمة و أنه قبلك و بعدك لجلل فكل مصيبة قبلك و كل مصيبة بعدك هينة سهلة بالنسبة إلى مصابك فمصيبتك هونت المصائب الماضية و الآتية...

293 - و قال عليه السلام: لا تصحب المائق (1) فإنّه يزيّن (2) لك فعله، و يودّ (3) أن تكون مثله.

اللغة

1 - المائق: الأحمق.

2 - يزيّن: يزخرف.

3 - يود: يرغب.

الشرح

المائق الأحمق و هذا نهي إرشادي لاجتناب صحبة الأحمق فإنه لحمقه و جهله المركب يزين لك فعله و يحسّنه في عينك حتى تتقبله بالتدريج و يود أن تكون مثله في أفعاله و أعماله و ساعات غضبه و حمقه...

ص: 430

294 - و قد سئل عن مسافة ما بين المشرق و المغرب، فقال عليه السلام: مسيرة يوم للشّمس.

الشرح

هذا جواب إقناعي من أجل أن يسكت السائل و لا يلح لأن التحديد بغيره قد يصعب الاقتناع به عند السائل و الحضور و خصوصا في ذلك الزمان الذي يفقد الإنسان فيه وسيلة القياس و التقدير فربما لو أجابه الإمام بالجواب الدقيق شكك أو رد...

295 - و قال عليه السلام: أصدقاؤك ثلاثة، و أعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، و صديق صديقك، و عدوّ عدوّك. و أعداؤك:

اشارة

عدوّك، و عدوّ صديقك، و صديق عدوّك.

الشرح

أصدقاؤك ثلاثة: صديقك لأنك انسجمت معه و توافقت طبائعك مع طبائعه و مزاجك مع مزاجه و اتفق معك في الغايات و الأهداف و الوسائل، و صديق صديقك لبركة صديقك أضحى صديقه ايضا صديقك و عدو عدوك لجهة انكما تتفقان معا فى عداوة هذا العدو يضحى صديقك لأنكما في توجه واحد و الأهداف كما يقال توحد...

و أعداؤك ثلاثة: عدوك في توجهك و أمانيك و عدو صديقك عدو وحدتك و صداقتك، و صديقه عدوك لأن من صادق عدوك لم يحبك و أنت لن تحبه و لن تتخذه صاحبا...

296 - و قال عليه السلام، لرجل رآه يسعى على عدوّ له، بما فيه إضرار بنفسه: إنّما أنت كالطّاعن (1) نفسه ليقتل ردفه (2).

اشارة

ص: 431

اللغة

1 - طعنه بالرمح: ضربه و وخزه به.

2 - الردف: بالكسر الراكب خلف الراكب.

الشرح

الردف مقصود به الرديف و هو الراكب خلف رجل على ناقة أو جمل أو فرس واحد و هذا من السخف بمكان أنه يسعى للإضرار بمن خلفه بأن يطعن نفسه ليخرج السهم منه إلى من خلفه فيقتله.

297 - و قال عليه السلام: ما أكثر العبر و أقلّ الاعتبار (1)!.

اللغة

1 - الاعتبار: الاتعاظ.

الشرح

كيفما نظرت اعتبرت ففي الأموات عبرة و في الأحياء عبرة و في الأصحاء عبرة و في المرضى عبرة و الدنيا كلها عبرة و لكن لذوي العقول و الأفكار و ليس لأصحاب الشهوات و الأهواء و أصحاب العقول قلة و المعتبرون أقل.

298 - و قال عليه السلام: من بالغ في الخصومة (1) أثم (2)، و من قصّر (3) فيها ظلم، و لا يستطيع أن يتّقي اللّٰه من خاصم.

اللغة

1 - الخصومة: الجدال.

2 - أثم: ارتكب الإثم و هو الحرام.

3 - قصّر: تهاون.

ص: 432

الشرح

إذا أكثر الإنسان الجدل و أراد الانتصار كيف كان أثم لأنه يتعدى الحدود الشرعية و يتجاوز الحلال إلى الحرام و أما إذا قصر و لم يدافع كما يجب فإنه سيظلم و على كل حال المخاصم لن يحصل على تقوى اللّٰه لأن النبي نهى عن الجدال و الخصومة.

299 - و قال عليه السلام: ما أهمّني ذنب أمهلت بعده حتّى أصلّي ركعتين و أسأل اللّٰه العافية.

الشرح

الذنب عظيم و تبعاته كبيرة و عقابه النار و لكن من دواعي التوفيق و الرحمة أن الإنسان إذا عصى بادر إلى التوبة و الإنابة إلى ربه فصلى ركعتين و طلب العفو و حسن العاقبة من ربه...

300 - و سئل عليه السلام: كيف يحاسب اللّٰه الخلق على كثرتهم ؟ فقال عليه السلام: كما يرزقهم على كثرتهم. فقيل: كيف يحاسبهم و لا يرونه ؟ فقال عليه السلام: كما يرزقهم و لا يرونه.

الشرح

لا تحديد لقدرة اللّٰه و لا عجز يتصف به بل هو الغني في كل شيء و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون دون وسائط و لا وسائل و من هنا كان حسابه للخلق جميعا كما يرزقهم جميعا و يرزقهم بدون أن يروه تعالى أن يرى إذ ليس هو بجسم و لا جوهر و لا عرض كذلك يحاسبهم و هم لا يرونه: «وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» .

ص: 433

301 - و قال عليه السلام: رسولك (1) ترجمان عقلك، و كتابك أبلغ (2) ما ينطق عنك!.

اللغة

1 - رسولك: سفيرك.

2 - أبلغ: أفصح.

الشرح

في كلمة أخرى الرسول دليل عقل المرسل، لأن الرسول هو المعبر و المبين و الشارح مراد المرسل فإذا كان سخيفا ضعيفا عي اللسان عبر عن المرسل.

و في كلمة ثالثة أرسل عاقلا و لا توصه لأنه ينطلق من عقله و العقل لا يخون و الكتاب ينطق عنك و يحكي عما يجول في نفسك فأنت ترقم على كتابك شخصيتك و ترسم عليه ذاتك فلاّ تشوه صورتك أو تمسخها ثم تقدمها للناس في كتاب بل ليكن أجمل ما يكون و أعظم ما يكون ما تكتبه.

302 - و قال عليه السلام: ما المبتلى الّذي قد اشتدّ به البلاء (1)، بأحوج إلى الدّعاء الّذي لا يأمن البلاء!.

اللغة

1 - البلاء: المصيبة، المكروه.

الشرح

المعافى و المبتلى في الحاجة إلى الدعاء على حد سواء فإن المبتلى بحاجة إلى الدعاء ليرفع البلاء عنه و المعافى بحاجة أيضا لتدوم النعمة فكل منهما بحاجة إلى التوجه إلى اللّٰه و التضرع إليه و صاحب العافية يحتاج إلى شكر النعمة و الدعاء نوع من الشكر...

ص: 434

303 - و قال عليه السلام: النّاس أبناء الدّنيا، و لا يلام الرّجل على حبّ أمّه.

الشرح

إذا كان حب الدنيا لا يدخل الناس في الحرام فهذا ليس حبا محرما و إنما يحرم الحب إذا اقترن بمعصية اللّٰه و اتخذ بعدا يعبر عن التمرد على إرادته و الخروج عن سلطانه كمن يحب الدنيا فيقطع الأرحام و يسفك الدماء و ينتهك الأعراض أما من يحب الدنيا من أجل الآخرة و من أجل الفقراء و سد عوزهم و قضاء حاجتهم فهذا شيء رائع و عظيم...

304 - و قال عليه السلام: إنّ المسكين رسول اللّٰه، فمن منعه فقد منع اللّٰه، و من أعطاه فقد أعطى اللّٰه.

الشرح

المسكين و الفقير إذا اجتمعا في كلام كانا متغايرين و إذا افترقا فذكر أحدهما أريد به الآخر أيضا و المسكين باعتبار أنه له حق مفروض من قبل اللّٰه هو الذي شرعه له و أوجب على الأغنياء دفعه إليه فمن هنا كان رسول من اللّٰه لقبض حق اللّٰه الذي وضعه له و لأمثاله فمن منعه حقه و بخل بما افترض اللّٰه عليه فهو يمنع اللّٰه حقه و من أعطاه فقد أعطى اللّٰه و وفى للّٰه بما أخذه على نفسه.

305 - و قال عليه السلام: ما زنى (1) غيور (2) قطّ (3).

اللغة

1 - الزنا: الوطأ الحرام.

2 - الغيور: الذي لا يقبل بالاعتداء.

3 - قط: أبدا.

ص: 435

الشرح

الغيور هو كثير الغيرة و صاحب الغيرة لا يزني أبدا و لا يهتك سترا محرما عليه قط لأنه كما يغار على عرضه أن يهتك و يتصور فداحة ذلك و عظيم أثره على نفسه يرفض أن يمارس ذلك بأعراض الناس و يلحق بهم هذا العار الشنيع.

306 - و قال عليه السلام: كفى بالأجل حارسا!.

الشرح

هذه عبارة علوية سارت بين الناس مسيرة الشمس و القمر في الدنيا بحيث أضحت مثلا يضربها كل منا و يعرفها حتى النساء، و بعض الحوادث لا نجد تفسيرا لها إلا هذه الكلمة، فيحصل الانفجار الضخم في سيارة صغيرة يأخذ أحد الشخصين دون الآخر الجالس بجنبه. تسقط طائرة من السماء فيموت بعض الركاب و لا يصاب بأذى البعض الآخر و هكذا دواليك...

307 - و قال عليه السلام: ينام الرّجل على الثّكل (1)، و لا ينام على الحرب (2).

اشارة

قال الرضي: و معنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد، و لا يصبر على سلب الأموال.

اللغة

1 - الثكل: بالضم فقد الأولاد.

2 - الحرب: بالتحريك سلب المال.

الشرح

لشدة حب الإنسان لماله لا ينساه و لا ينام على من سلبه منه لأنه يمس غروره و فيه إهانة و احتقار له بينما فقد الأولاد باعتبار أنه بفعل اللّٰه و تقديره فإنه يصبر عليه.

ص: 436

308 - و قال عليه السلام: مودّة (1) الآباء قرابة بين الأبناء، و القرابة إلى المودّة أحوج من المودّة إلى القرابة.

اللغة

1 - المودة: المحبة.

الشرح

إذا تصافى الآباء و اتحدت مشاعرهم و كانت المودة بينهم سارية انتقلت إلى الأبناء و تحولوا بفعلها إلى أقرباء و اخوة، و لا خير في قرابة بدون مودة و عطف و حنان، و مع المودة قد يستغني الإنسان عن القرابة... فالعبرة بالمعاملة و طيب العشرة و ليس بصلة القربى و الدم...

309 - و قال عليه السلام: اتّقوا ظنون المؤمنين، فإنّ اللّٰه تعالى جعل الحقّ على ألسنتهم.

الشرح

لا تفعلوا المنكر و ترتكبوا الحرام في السر و الخفاء فإن المؤمنين يكشفون ذلك بفراستهم و شدة حدسهم كما قال النبي (صلی الله علیه و آله) : اتقوا فراسة المؤمن فإنه يبصر بنور اللّٰه... فهو من الإمارات التي عنده يكشف واقعكم و يظهرها على لسانه...

310 - و قال عليه السلام: لا يصدق إيمان عبد، حتّى يكون بما في يد اللّٰه أوثق منه بما في يده.

الشرح

الإيمان الصادق باللّٰه و بما جاء منه على ألسنة رسله هو أن يكون الإنسان مؤمنا بما أخبر اللّٰه به من عالم الغيب على نفس المستوى من عالم الشهادة و أن يكون الإنسان مؤمنا

ص: 437

بأن كل درهم ينفقه قربة إلى اللّٰه يضاعفه له أضعافا مضاعفة بل وعد اللّٰه أحق و أصدق و في النفس أثبت و عندها يصدق الإيمان لأن ما في يد العبد معرضا للتلف و ما في يد اللّٰه مصان محفوظ.

311 - و قال عليه السلام لأنس بن مالك، و قد كان بعثه إلى طلحة و الزبير لما جاء إلى البصرة يذكرهما شيئا مما سمعه من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - في معناهما، فلوى عن ذلك، فرجع إليه، فقال:

اشارة

إنّي أنسيت ذلك الأمر، فقال عليه السلام: إن كنت كاذبا فضربك اللّٰه بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة.

قال الرضي: يعني البرص، فأصاب أنسا هذا الداء فيما بعد في وجهه، فكان لا يرى إلا مبرقعا.

الشرح

اشارة

هذه دعوة علوية استجابها اللّٰه لوليه و نحن لا نشك في أن الأئمة لو توجهوا إلى اللّٰه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بل أكثر من ذلك اعتقادنا و عقيدتنا و في هذه الحادثة عبرة و مفادها أن الإمام كلّف أنسا أن يلتقي طلحة و الزبير و يذكرهما بحديث رسول اللّٰه: إنكما ستقاتلان عليا و أنتما له ظالمان فلما بعثه لقي من صرفه و لوى رأيه فرجع فدعا عليه الإمام و استجاب اللّٰه دعوته.

ترجمة أنس بن مالك.

في الإصابة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار أبو حمزة الأنصاري الخزرجي خادم رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) و أحد المكثرين من الرواية عنه.

يقول عن نفسه أنه خدم رسول اللّٰه عشر سنين أقام بالمدينة بعد وفاة رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) ثم قطن البصرة و مات فيها و كان آخر الصحابة الذين ماتوا فيها انتهى.

و قد أخفى أنس ما ناشده الإمام في الرحبة و قيل مسجد النبي فادعى أنه قد كبر و نسي فدعا عليه الإمام إن كان كاذبا أن يصيبه البرص فأصيب به و أخذ - كما يقال - على نفسه أن لا يخفي منقبة للإمام سمعها. مات ستة 90.

ص: 438

312 - و قال عليه السلام: إنّ للقلوب إقبالا و إدبارا، فإذا أقبلت فاحملوها على النّوافل، و إذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض.

الشرح

عند ما تتصل القلوب باللّٰه و تتوجه إليه تقوى عزيمة الإنسان و تهون عليه الصعوبات فتراه يقطع الصعاب و يجتاز المشقات لتحقيق رضي اللّٰه سبحانه فإذا أقبلت النفوس على العبادة في بعض لحظات الأنس باللّٰه فليغتنم الفرصة و ليؤدي الفرائض الواجبة عليه و معها النوافل المرتبة و غيرها مما ترغب به النفس و إذا أدبرت القلوب لبعض الأزمات و الأمور الحياتية الصعبة فليقتصر الإنسان على الفرائض لأنه عند ما يعدم التوجه تصبح العبادة مجرد شكل عبادي خال من المضمون الروحي...

313 - و قال عليه السلام: و في القرآن نبأ (1) ما قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم.

اللغة

1 - النبأ: الخبر.

الشرح

في القرآن أخبار الماضين من الأمم التي سادت ثم بادت، المؤمنة و الكافرة و فيه خبر ما بعدنا من الجنة و النار و الحساب و العذاب و ما سنصل إليه في الدار الآخرة كما أنه فيه حكم ما يجري بيننا الذي لا يخرج عن الأحكام التشريعية الخمسة، الوجوب و الحرمة و الكراهة و الاستحباب و الإباحة...

314 - و قال عليه السلام: ردّوا الحجر من حيث جاء، فإنّ الشّرّ لا يدفعه إلاّ الشّرّ.

اشارة

ص: 439

الشرح

الحجر يقصد به هنا الشر و إذا لم يدفع الشر إلا بشر مثله وجب فمن لا يرتدع عن سب الناس و إهانتهم إلا بالتعزير وجب تعزيره لردعه و من قطع يد إنسان وجب قطع يده ليرتدع و هكذا دواليك كما قال تعالى: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ » .

315 - و قال عليه السلام لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: ألق دواتك (1)، و أطل جلفة (2) قلمك، و فرّج بين السّطور، و قرمط (3) بين الحروف: فإنّ ذلك أجدر (4) بصباحة الخطّ.

اللغة

1 - دواة مليقة: أي أصلح مدادها.

2 - جلفة القلم: سنانه.

3 - القرمطة بين الحروف: تقريب بعضها من بعض.

4 - أجدر: أولى.

الشرح

هذا إرشاد إلى كاتبه و بيان لتحسين خطه و معنى ألق دواتك أي أصلح مدادها، و جلفة القلم هيئة فتحة القلم التي يستمد بها المداد و القرمطة بين الحروف المقاربة بينها و تضييق الفسحة أما الصباحة فهي الوضوح و الجمال.

316 - و قال عليه السلام: أنا يعسوب (1) المؤمنين، و المال يعسوب الفجّار.

اشارة

قال الرضي: و معنى ذلك أن المؤمنين يتبعونني، و الفجار يتبعون المال كما تتبع النحل يعسوبها، و هو رئيسها.

ص: 440

اللغة

1 - اليعسوب: ملكة النحل.

الشرح

اليعسوب الرئيس و قال ابن أبي الحديد: هذه كلمة قالها رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) بلفظين مختلفين تارة «أنت يعسوب الدين و تارة أنت يعسوب المؤمنين» و الكل راجع إلى معنى واحد كأنه جعله رئيس المؤمنين و سيدهم أو جعل الدين يتبعه و يقفو أثره حيث سلك كما يتبع النحل اليعسوب و هذا نحو قوله: و أدر الحق معه كيف دار.

317 - و قال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه! فقال عليه السلام له: إنّما اختلفنا عنه لا فيه، و لكنّكم ما جفّت (1) أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم: «اِجْعَلْ لَنٰا إِلٰهاً كَمٰا لَهُمْ آلِهَةٌ قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » .

اللغة

1 - جفت: يبست.

الشرح

لم يختلف المسلمون في نبوة النبي (صلی الله علیه و آله) أبدا و من شك في نبوته كفر و لذا رد الإمام بأن الاختلاف عنه و فيما ورد عنه حيث قال بعض السامعين سمعت عنه كذا ورد الآخر بعدم السماع فوقع الخلاف بما صدر عنه و ليس فيه بينما اليهود الذين عاشوا مع موسى و قدم بين أيديهم المعجزات بمجرد أن خرجوا من البحر و كان دخولهم فيه و خروجهم منه معجزة وجدوا قوما يعبدون أصناما على شكل البقر فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء، شكا في نبوته و إنكارا لما جاء به...

ص: 441

318 - و قيل له: بأيّ شيء غلبت الأقران (1)؟ فقال عليه السلام: ما لقيت رجلا إلاّ أعانني على نفسه.

اشارة

قال الرضي: يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب.

اللغة

1 - الأقران: جمع قرن النظير.

الشرح

إعانة الرجل على نفسه لأنه كان عند ما يريد أن يدخل المعركة مع الإمام يدخلها و هو مهزوم نفسيا منهار أمام وطئة صيت الإمام و أنه قاتل الفرسان و الشجعان فكان الرجل تخونه قواه و لا تساعده للوقوف في المواجهة و كأنه يتهيء للموت و يريد أن يعرف كيف يموت لا كيف يميت...

319 - و قال عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: يا بنيّ ، إنّي أخاف عليك الفقر، فاستعذ باللّٰه منه، فإنّ الفقر منقصة (1) للدّين، مدهشة (2) للعقل، داعية للمقت (3)!.

اللغة

1 - منقصة: نقص و عيب.

2 - مدهشة: دهش إذا تحير.

3 - المقت: البغض.

الشرح

ما أقبح صورة الفقر و ما أزعجها، صورة ممسوخة منكرة تحمل معها الكفر و التشرد و الغربة و كل ألوان الرذيلة و النقيصة و لذا يأمر الإمام ولده محمد بأن يلتجىء إلى

ص: 442

اللّٰه في دفعها عنه وردها عن ساحته و قد ذكر لها ثلاثة معايب أساسية تنفتح منها معايب كثيرة و رذائل لا تحصى فالفقر منقصة للدين لا يستطيع الإنسان الفقير أن يؤدي حق اللّٰه على الوجه الأكمل و لا يقدر على إعانة عباد اللّٰه كما يريد اللّٰه و لا يستطيع أن يدفع حاجة محتاج كما يريد اللّٰه و الفقر أيضا مدهشة للعقل لأن من كان محتاجا لم يقدر على استجماع قواه العقلية بشكل جيد لأن حاجاته الكثيرة تسلبه التركيز و التدقيق و كذلك الفقر داعية لمقت الناس للفقير و إهانتهم له و عدم الاعتبار لوجوده و هذه السيرة بين أيدينا و الرجال أمامنا...

320 - و قال عليه السلام لسائل سأله عن معضلة (1): سل تفقّها، و لا تسأل تعنّتا (2)، فإنّ الجاهل المتعلّم شبيه بالعالم، و إنّ العالم المتعسّف (3) شبيه بالجاهل المتعنّت.

اللغة

1 - المعضلة: المسألة الصعبة على الحل الضيقة المخارج.

2 - التعنت: طلب الأمر الشاق على من يطلب منه.

3 - التعسف: الأخذ على غير الطريق.

الشرح

المتفلسفون و الممتحنون كثيرون و الذين يريدون حب الظهور و الإعلام لا يحصون فرب عالم بمسألة يحاول أن يمتحنك فيها ليخجلك أو يهينك و هذا النموذج من الناس مرّ على الإمام فواجهه بهذه النصيحة و هي أن تكون المسألة من أجل الفهم و الدراية و المعرفة لا من أجل الامتحان أو الاستهزاء أو رؤية الحال و علل له ذلك بأن الجاهل إذا كانت مسألته من أجل الفهم و الدراية شبيها بالعالم لأن طبيعة العلماء أنهم يسألون من أجل أن يفهموا بينما العالم إذا سأل لا يقصد الفهم بل تعنتا كان شبيها بالجاهل لأن دأب الجهلاء أن يسألوا لغير الفهم و الدراية...

ص: 443

321 - و قال عليه السلام لعبد اللّٰه بن العباس، و قد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه:

اشارة

لك أن تشير عليّ و أرى، فإن عصيتك فأطعني.

الشرح

على الحاشية و أصحاب الرأي و الدراية و العقل أن يقدموا الاستشارة للحاكم فقط و عليه هو أن يختار فإذا اختار عكس آرائهم فليس لهم أن يخالفوه و يشقوا عصا الطاعة و الجماعة لأنه هو المسئول و هو صاحب الكلمة الأولى و الأخيرة.

322 - و روي أنه عليه السلام، لما رود الكوفة قادما من صفين مر بالشّباميين (1)، فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، و خرج إليه حرب بن شرحبيل الشّبامي، و كان من وجوه قومه، فقال عليه السلام له:

اشارة

أ تغلبكم نساؤكم على ما أسمع ؟ ألا تنهونهنّ عن هذا الرّنين (2)؟.

و أقبل حرب يمشي معه، و هو عليه السلام راكب، فقال عليه السلام:

ارجع، فإنّ مشي مثلك مع مثلي فتنة (3) للوالي، و مذلّة (4) للمؤمن.

اللغة

1 - الشباميين: حي من العرب.

2 - الرنين: صوت البكاء.

3 - فتنة: اختبار.

4 - مذلة: موجبة للذل.

الشرح

الشباميّون حي من العرب و قد توجه الإمام إلى هذا الوجيه المؤمن بالاستنكار عليه بأن نساءهم لا تطيعهم في ترك البكاء على قتلى صفين ثم استفهم منه قاصدا الأمر بأن يأمروا النساء بالكف و لعله لئلا يظهر المنافقون الشماتة ثم التفت الإمام إلى موقفه مع هذا الرجل الكريم و أنه عليه السلام راكب و الآخر يمشي فواجهه بما يحفظ كرامة المؤمن

ص: 444

و ما يحفظ نفسه من التعالي بان ركوبي فيه مذلة لك و فيه شيء من الزهو بالنسبة لي و لا يمكن القبول بذلك و أمره بالرجوع إلى منزله...

323 - و قال عليه السلام و قد مر بقتلى الخوارج يوم النّهروان:

اشارة

بؤسا (1) لكم، لقد ضرّكم من غرّكم، فقيل له: من غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال: الشّيطان المضلّ ، و الأنفس الأمّارة بالسّوء، غرّتهم بالأمانيّ ، و فسحت لهم بالمعاصي، و وعدتهم الإظهار (2)، فاقتحمت بهم النّار.

اللغة

1 - البؤس: التعاسة الشدة و الضيق.

2 - الإظهار: الغلبة.

3 - اقتحمت بهم: أدخلتهم.

الشرح

خاطبهم عليه السلام ليعظ السامعين من جهة و يبين خطأهم من جهة أخرى و قد دعا عليهم بالتعاسة و قد تعسوا بمخالفتهم و شق عصا المسلمين و قد بين من غرهم و أن من غرهم لم يكن خارجا عنهم، لم يكن معاوية و ابن العاص و لكنه الشيطان الذي وسوس في صدورهم فانحرف بهم سواء السبيل و الأنفس الأمارة بالسوء و هي لشبهة علقت في أذهانهم في قضية التحكيم فرفعوا شعار التمرد و قالوا لا حكم إلا للّٰه ثم أخذت تتحكم العقدة في نفوسهم و تمدهم بالمعصية وحب الظهور و الاستعلاء فأوردتهم النار...

324 - و قال عليه السلام: اتّقوا معاصي اللّٰه في الخلوات (1)، فإنّ الشّاهد هو الحاكم.

اللغة

1 - الخلوات: جمع الخلوة مكان الاختلاء أي الانفراد.

ص: 445

الشرح

تحذير من ارتكاب المعاصي في السر و الخفاء لأن اللّٰه مطلع عليها و مشاهد لها و شاهد على فعلها و الشاهد هو نفسه الحاكم غدا فهل بعد ذلك مهرب، إنك مأخوذ إن لم ترجع إليه و تتوب.

325 - و قال عليه السلام، لما بلغه قتل محمد بن أبي بكر:

اشارة

إنّ حزننا عليه على قدر سرورهم به، إلاّ أنّهم نقصوا بغيضا (1)، و نقصنا حبيبا.

اللغة

1 - البغيض: الشديد البغض.

الشرح

كان سرور معاوية و أصحابه بمقتل محمد بن أبي بكر عظيما لأنه ساعد علي و حبيبه و ربيبه و لذا كان حزن الإمام عظيما جدا و عبر عنه بمقدار فرحهم لشدة فرحهم و شدة حزنه ثم قال: إلا أنهم فقدوا مبغضا لهم و فقدنا حبيبا لنا و فرق كبير بين الفقدين و بين الحزن و الفرح...

326 - و قال عليه السلام: العمر الّذي أعذر (1) اللّٰه فيه إلى ابن آدم ستّون سنة.

اللغة

1 - أعذر: سمح له بالعذر و قبله منه.

ص: 446

الشرح

يريد الإمام أنه لا عذر للإنسان إذا بلغ الستين لأن قواه قد خارت و أجله اقترب من الآخرة فبما ذا يطمع، لو كان شابا قويا كانت شهوته تطغى و لو كان قويا قوته كانت تطغى و لو كان غنيا استطاع أن يحصل على ملذاته و يسر بها و أما إذا بلغ الستين فلا الصبايا ترغب فيه و لا الجسم عامر و لا المال مفيد لأنه عاجز عن نيل الشهوات عجزا تكوينيا...

327 - و قال عليه السلام: ما ظفر من ظفر الإثم (1) به، و الغالب بالشّرّ مغلوب.

اللغة

1 - الإثم: الذنب.

الشرح

الظفر إنما يكون بالخير و بما يحقق السعادة و رضى اللّٰه و أما من ظفر بالإثم و المعصية و التمرد على اللّٰه فهذا لم يظفر إلا بالعذاب و الخزي و العقاب و هل يستطيع من فعل شرا و غلب غيره به أن يكون إلا مغلوبا مقهورا نادما مخذولا...

328 - و قال عليه السلام: إنّ اللّٰه سبحانه فرض (1) في أموال الأغنياء أقوات (2) الفقراء: فما جاع فقير إلاّ بما متّع (3) به غني، و اللّٰه تعالى سائلهم عن ذلك.

اللغة

1 - فرض: أوجب.

2 - أقوات: جمع قوت ما يؤكل.

3 - تمتع: تلذذ و انتفع أكثر مما يحتاج.

ص: 447

الشرح

هذه دعوة إلى الأغنياء و تحذير لهم من عذاب اللّٰه: دعوة للإنفاق على الفقراء لأن اللّٰه فرض عليهم إعالتهم و إعانتهم و سد عوزهم و حاجتهم و حذرهم من أن اللّٰه سيسألهم عن ذلك إذا قصروا أو تأخروا و من سأله اللّٰه أدانه و من أدانه عذبه، و هذه الفقرة دستور عظيم للتكافل الاجتماعي لو أردنا الكتابة عنها بشكل مستوف لجاءت كتيبا صغيرا...

329 - و قال عليه السلام: الاستغناء عن العذر أعزّ من الصّدق به.

الشرح

لا تفعل شيئا تعتذر منه و إن كنت في عذرك صادقا لأن نفس الاعتذار يحمل في روحه شيء من الإذلال و الامتهان.

330 - و قال عليه السلام: أقلّ ما يلزمكم للّٰه ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه.

الشرح

حق النعمة أن توضع موضعها و يطاع اللّٰه فيها و يؤدى شكرها و إذا أساء الإنسان الاختيار فليستعملها في المباح من الأمور أما أن يستعملها في الحرام فهذا أمر من أعظم الأمور و أشقها على الغيور و هذا زجر عن استعمال النعمة في المعصية كمن يعطيه اللّٰه مالا فيستغله في الربا أو في فتح خمارة أو مركز دعارة...

331 - و قال عليه السلام: إنّ اللّٰه سبحانه جعل الطّاعة غنيمة الأكياس (1) عند تفريط (2) العجزة (3)!.

اشارة

ص: 448

اللغة

1 - الأكياس: جمع كيس العقلاء.

2 - التفريط: التقصير.

3 - العجزة: جمع العاجز و هو المقصّر.

الشرح

الأكياس هم العقلاء و أولو الألباب و هذه دعوة إلى اغتنام الفرص و الاستفادة منها و أيضا ذم للمتخاذلين فإن اللّٰه سبحانه جعل للعقلاء حركة ذات فائدة تكون غنيمة لهم و فائدة يستغلونها في لحظات قعود العجزة و المتخاذلين كمن تكلفه بفعل شيء يؤجر عليه فيتأخر و يتوانى فيقدم عليه آخر ذو همة فيقضيه و يؤجر عليه و لا يعود للعاجز حاجة...

332 - و قال عليه السلام: السّلطان وزعة (1) اللّٰه في أرضه.

اللغة

1 - الوزعة: بالتحريك جمع وازع و هو الحاكم.

الشرح

الوزعة من الوازع مثل قتلة و قاتل و معناه الكافي و المانع،. السلطان و الحاكم هو الذي يردع العصاة و يمنعهم عن المخالفات و خصوصا إذا كان قويا عادلا عاملا بأمر اللّٰه منتهيا عما نهى فإنه يضرب بيد من حديد على يد كل مخالف للحق مرتكب للحرام و إن عامة الناس لا تخاف إلا على جلودها...

333 - و قال عليه السلام، في صفة المؤمن: المؤمن بشره (1) في وجهه، و حزنه في قلبه، أوسع شيء صدرا، و أذلّ شيء نفسا. يكره الرّفعة (2)، و يشنأ (3) السّمعة (4). طويل غمّه (5)، كثير صمته، مشغول وقته.

اشارة

ص: 449

شكور صبور، مغمور (6) بفكرته، ضنين (7) بخلّته (8)، سهل الخليقة (9)، ليّن (10) العريكة (11)! نفسه أصلب (12) من الصّلد (13)، و هو أذلّ من العبد.

اللغة

1 - البشر: بكسر الباء البشاشة و الطلاقة.

2 - الرفعة: علو القدر.

3 - ينشأ: يبغض و يكره.

4 - السمعة: الصيت و الذكر يقال فعله رئاء و سمعه أي ليراه الناس و يسمعوه.

5 - الغم: الحزن.

6 - مغمور: من غمره الماء إذا غطاه.

7 - ضنين: بخيل.

8 - الخلة: بالفتح الحاجة.

9 - الخليقة: الطبيعة.

10 - ليّن: طري، سهل.

11 - العريكة: النفس.

12 - أصلب: أشد و أقسى و الصلب ضد اللين.

13 - الصلد: الحجر الصلب.

الشرح

هذه صفات أعلائية للمؤمن و قليل ما نجد منها فضلا عنها كلها في واحد ممن نعيش معهم أو نعرفهم و على كل حال يذكرها الإمام و نكررها نحن عسى يستيقظ أحد و يرجع إلى نفسه فيجمع هذه الخصال و يلم هذه المواصفات و هذه الصفات هي:

المؤمن بشره في وجهه و حزنه في قلبه: فالتبسم و حسن الملاقاة ظاهرة بادية على قسمات وجهه تواضعا للمؤمنين و ابتهاجا بهم و لكن الحزن في قلبه و الأسى في داخله لما يمكن أن يكون منه من التقصير و الأخطاء.

أوسع شيء صدرا: يتحمل المشقات و الأتعاب و الأزمات و يصبر على الثقلاء.

و أذل شيء نفسا: بينه و بين اللّٰه ذليل النفس لا يتكبر على أبناء أمه و لا يرى نفسه فوقهم.

ص: 450

يكره الرفعة و يشنأ السمعة: لا يحب الترفع و التكبر امتثالا لقوله تعالى: «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ » كما يبغض و يكره السمعة و الصيت لأن ذلك مشوب بالرياء و فيه عدم الإخلاص للّٰه.

طويل غمه بعيد همه: فهو مغموم محزون باستمرار لما يرى من معاصي اللّٰه و لما هو فيه من التقصير و ليس بالضرورة أن يكون مرتكبا لحرام بل ربما كان لأنه قد فاته اكتساب المكرمات و تحقيق أعظم قسط من القربات و أما همه ففي أمور الآخرة و ما بعدها و ما سوف يقدم عليه...

كثير صمته: يفكر باللّٰه و بما ينفع عباده.

مشغول وقته: ليس عنده وقت فراغ يتلهى به بل باستمرار وقته في شغل يقضي حوائج الناس و يعين الضعفاء و يسعى من أجل نفسه و عائلته و يذكر ربه في جميع ذلك.

شكور: لربه على نعمه و عطاياه.

صبور: على البلاء و المحن.

مغمور بفكرته: مشغول بما يسأله عنه أمام اللّٰه يوم العرض و الحساب.

ضنين بخلته: بخيل بحاجته أن يعرضها للناس فهو كما قال تعالى: «يَحْسَبُهُمُ اَلْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ » .

سهل الخليقة لين العريكة: فهو سهل الطبيعة لا قساوة في تصرفه لين التصرف مع الناس حسن المعاملة معهم...

نفسه أصلب من الصلد: بل نفس المؤمن لا يفل منها شيء و الجبال يفل منها بل تزول الجبال و لا تتحول نفس المؤمن عن معتقدها و توجهها.

و هو أذل من العبد: نحو اللّٰه و عظمته و تواضعا أمام ربه...

334 - و قال عليه السلام: لو رأى العبد الأجل (1) و مصيره (2)، لأبغض الأمل و غروره.

اشارة

ص: 451

اللغة

1 - الأجل: وقت الموت.

2 - المصير: ما يصير إليه النهاية.

الشرح

لو أبصر العبد أجله و عرف أن عمره ينقضي شيئا فشيئا و عرف مصيره و أنه إلى الموت صائر ثم إلى الحساب فإما إلى جنة أو إلى نار لو أبصر ذلك لأبغض الآمال الباطلة التي تحرفه عن التوجه للّٰه ورمى بغرور الأمل الذي يقوده إلى الجشع و الطمع وحب الدنيا.

335 - لكلّ امرىء في ماله شريكان: الوارث و الحوادث.

الشرح

مهما جمعت و أكثرت حتى لو أصبح لديك مال قارون فإنك مفارقه و لن يغني عنك من اللّٰه شيئا، اجمع و اتعب و قاتل و ناصب و اسرق إن استطعت و احتل ما قدرت فإن المال الذي حصلت عليه لن تأخذ منه قرشا واحدا و قد تموت حرقا أو غرقا أو بانفجار فلا يعرف بدنك و لا تأخذ حتى الكفن المعتاد و سيبقى الجميع لورثتك يتنعمون به إن لم تصبه آفة في حياتك تفجعك به و تحزنك عليه و رحم اللّٰه الشريف الرضي حيث يقول:

خذ من تراثك ما استطعت فإنما *** شركاؤك الأيام و الوراث

336 - و قال عليه السلام: المسئول حرّ حتّى يعد (1).

اللغة

1 - يعد: من وعد و هو ان يقطع على نفسه أمرا.

ص: 452

الشرح

ترغيب في الوفاء بالوعد و أنك قبل الوعد حر في عطائك و عدم عطائك للسائل أما إذا وعدته فقلت له لك غدا درهم فعندها ينبغي عليك أن تفي بما وعدت و تفقد حريتك السابقة التي كانت قبل الوعد...

337 - و قال عليه السلام: الدّاعي بلا عمل كالرّامي بلا وتر (1).

اللغة

1 - الوتر: شرعة القوس.

الشرح

نسمعها كثيرا و من كثير من الفساق و العصاة: يا رب أدخلنا الجنة و زوجنا من الحور العين و هم لم يتوجهوا إلى ربهم بركعتين من الصلاة في حياتهم كما لم يؤدوا فريضة شهر رمضان في عمرهم مرة واحدة و لم يؤدوا واجباتهم الأخرى فهؤلاء يدعون بدخول الجنة بدون عمل و دعاؤهم هذا لا فائدة فيه و لا دخول للجنة إلا من الباب الذي رسمه اللّٰه و هو باب الطاعة له و الالتزام بما أمر أما الدعاء منفردا فهذا يشبه الرامي بالقوس و لكنه بدون وتر له فإنه لن يصيب هدفه بل لن يتحرك الريش من موضعه لعدم وجود الوتر المؤثر في تحريك الريش...

338 - و قال عليه السلام: العلم علمان: مطبوع (1) و مسموع (2)، و لا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع.

اللغة

1 - مطبوع العلم: ما رسخ في النفس.

2 - المسموع: المنقول و المحفوظ.

ص: 453

الشرح

قسم العلم إلى قسمين: العلم الضروري البديهي الموجود في النفس و المعبر عنه بالفطري و الغريزي و علم كسبي يحصل عليه الإنسان بالتجربة و الخبرة و الدراسة و التلقين و التعليم و لا ينفع الثاني إن فقد الأول فلذا يتوقف على الأول و على مدى الاستعداد الطبيعي للتحصيل...

339 - و قال عليه السلام: صواب الرّأي بالدّول: يقبل بإقبالها، و يذهب بذهابها.

الشرح

إذا أقبلت الدنيا على أمة ترى آراءها صائبة و ضرباتها قاصمة و النجاح حليفها في كل حال لأن الدولة لها و هي تملك المقدرات و تستطيع أن تصفو أفكارها فتصيب الحق بينما إذا أدبرت فتنكرت فإنك ترى الآراء تدبر و تنتكس و لا تحصل على الرأي الصائب نتيجة تضعضعها و اضطرابها... فالرأي الصائب مع الدولة إذا أقبلت و يتبدل الرأي إذا تبدلت الدولة و انتكست.

340 - و قال عليه السلام: العفاف (1) زينة الفقر، و الشّكر زينة الغني.

اللغة

1 - العفاف: الكف عما لا يحل أو يجمل و العفة ترك الشهوات الدنيئة.

الشرح

إذا كنت فقيرا فكن عفيفا لا تسأل الناس و لا تمد يدك إليهم بل أظهر الغنى إن استطعت لتكون عند مدح اللّٰه في قوله: «يَحْسَبُهُمُ اَلْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ » و إذا كنت غنيا فكن عبدا شكورا تأخذ أموالك من حلها و تصرفها في محلها و تؤدي واجبك الشرعي منها

ص: 454

و لا تبطر أو تصرف في معصية اللّٰه فاللّٰه قادر أن يسلبك إياها بلحظة واحدة إذا أراد ذلك...

341 - و قال عليه السلام: يوم العدل على الظّالم أشدّ من يوم الجور (1) على المظلوم!.

اللغة

1 - الجور: الظلم.

الشرح

يوم العدل هو يوم القيامة و هو أشد على الظالم من يوم المظلوم في الدنيا لأن يوم القيامة يعقبه الحساب و أخيرا دوام النار و العذاب و هذا لا انقطاع له و لا أمد محدود يقف عنده بينما عذاب المظلوم في الدنيا كان مؤقتا و لفترة بسيطة بل قد يمر بسرعة البرق كمن أطلق عليه النار فمات فورا... و هذا تحذير منه للظالمين و تخويف لما سيلاقونه...

342 - و قال عليه السلام: الغنى الأكبر اليأس عمّا في أيدي النّاس.

الشرح

عدم حاجتك للناس و الاستغناء عنهم أعظم مما لو كنت تملك مالا و عندك ثروة إذ رب ثري غني عينه في أموال غيره أو عينه في انماء ثروته لتتضاعف عما يملك، فهو غني، و لكن الذي يئس عما في أيدي الناس فهو أعظم و أغنى...

343 - و قال عليه السلام: الأقاويل (1) محفوظة، و السّرائر مبلوّة (2)، و «كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » ، و النّاس منقوصون (3) مدخولون (4) إلاّ من

اشارة

ص: 455

عصم اللّٰه (5): سائلهم متعنّت (6)، و مجيبهم متكلّف (7)، يكاد أفضلهم رأيا يردّه عن فضل رأيه الرّضى و السّخط (8)، و يكاد أصلبهم عودا تنكؤه (9) اللّحظة (10)، و تستحيله (11) الكلمة الواحدة.

اللغة

1 - الأقاويل: جمع الجمع للقول و هو الكلام أو كل لفظ.

2 - مبلوة: من بلاها اللّٰه أي اختبرها.

3 - المنقوص: المأخوذ من رشده و كماله.

4 - المدخول: المصاب بالدخل بالتحريك و هو مرض العقل و القلب.

5 - عصمه اللّٰه: منعه اللّٰه.

6 - المتعنت: الذي يسأل على جهة التلبيس للإحراج.

7 - المتكلف: الذي يتجشم الأمر و يتحمله على مشقة أو على خلاف طبعه.

8 - السخط: الغضب و عدم الرضى.

9 - تنكؤه: تجرحه فيسيل دمه.

10 - اللحظة: النظرة.

11 - تستحيله: تغيره و تحوله.

الشرح

الأقاويل محفوظة فكل كلمة محفوظة ستسأل عنها فإن كانت خيرا جزيت خيرا و إن كانت شرا جزيت شرا قال تعالى: «مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» و السرائر مبلوة ما أضمره الإنسان في نفسه و ما أسره فيها من خير و شر فإن اللّٰه مطلع عليه عارف به كما قال تعالى: «إِنَّهُ عَلىٰ رَجْعِهِ لَقٰادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرٰائِرُ» و كل نفس بما كسبت رهينة فالنفوس مرهونة و محكومة لعملها فإن عملت صالحا نجت من النار و إلا فإنها فيها ساقطة هاوية و الناس منقوصون أصابهم النقص في رشدهم و ليسوا كاملين مدخولون أصابهم الدخل في عقولهم و هو المرض يصيب العقول فلا تعي و القلوب فلا تفقه إلا من عصم اللّٰه هم أقلية قليلة و ثلة ضئيلة ثم شرح حال هذا النقص و الدخل الموجود عند الناس و بعض الصفات السيئة فيهم سائلهم متعنّت لا يسأل لكي يتفقه و يفهم و إنما يسأل للامتحان و الاختبار أو للإهانة و الازدراء أو لغير ذلك مما لا محل للسؤال و مجيبهم متكلف المجيب يلفق الجواب و يدور في الإجابة دون إعطاء الحقيقة لعدم معرفتها يكاد

ص: 456

أفضلهم رأيا يرده عن فضل رأيه الرضى و السخط لخفتهم و انقيادهم للهوى و العاطفة ترى أفضلهم في الرأي و الحكم و القضاء، إذا غضب على أحد سلبه حقه و أعطاه لغيره ممن يرضى عنه فهم ينقادون لعواطفهم لا لدينهم و يكاد أصلبهم عودا تنكؤه اللحظة و تستميله الكلمة الواحدة فأشدهم التزاما يدينه و أقواهم على طاعته ينهار أمام لحظة تعجبه أو ممن إذا نظر أخاف تبدّل الكلمة الواحدة منه مواقفه من جهة إلى أخرى، فهو متقلب رغم أنه أصلبهم فكيف بغيره.

344 - و قال عليه السلام: معاشر النّاس، اتّقوا اللّٰه، فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، و بان ما لا يسكنه، و جامع ما سوف يتركه، و لعلّه من باطل جمعه، و من حقّ منعه، أصابه حراما، و احتمل به آثاما (1)، فباء (2) بوزره (3)، و قدم على ربّه، آسفا لاهفا، قد «خَسِرَ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ اَلْمُبِينُ » .

اللغة

1 - الآثام: الذنوب.

2 - باء: رجع.

3 - الوزر: الذنب.

الشرح

و هذه كلمات في سياق الكلمات المتقدمة و بعضهم جعلها تتمة للأولى معاشر الناس الذين تستحقون المعاشرة و الالفة اتقوا اللّٰه الذي لا إله غيره و لا معبود سواه و بيده الحياة و الموت و الضر و النفع فكم من مؤمل ما لا يبلغه و كثيرون بل ما أكثر الذين يؤملون في الحياة فيرسمون في أذهانهم مستقبل حياتهم و يبنون أمجاد أيامهم و لكن لم يتحقق شيء منها على الإطلاق و كم بان من الدور و القصور ما لا يسكنه و يقيم فيه و كم جامع من الأموال ما سوف يتركه خلفه للوارث و لعله من باطل جمعه من سرقة و غش و احتيال و من حق للفقراء و المساكين منعه إياهم أصابه حراما من الأبواب الممنوعة و احتمل به آثاما

ص: 457

ارتكب به الحرام فباء بوزه رجع من عمله ذاك بإثمه و قدم على ربه آسفا لاهفا أنه متأسف حزين متلهف على فعله الأثيم قد خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين و أي خسارة أعظم من ذلك و أكبر...

345 - و قال عليه السلام: من العصمة تعذّر المعاصي.

الشرح

العصمة منحة ربانية تتوافق مع اختيار الإنسان لا يرتكب صاحبها محرما و لا يترك واجبا و من تعذرت المعصية عليه فهو أيضا لا يرتكب حراما فهما إذن شريكان في عدم الخطيئة...

346 - و قال عليه السلام: ماء وجهك جامد يقطره السّؤال، فانظر عند من تقطره (1).

اللغة

1 - قطّر الماء: أساله قطرة قطرة.

الشرح

السؤال يحمل الذل و الخجل و عند بعض النفوس الشريفة يعادل الرق فلذا يترفع عنه أصحاب الكرامة و يأباه الشرفاء و الإمام هنا في هذا الاتجاه من المنع عن السؤال و أن يتجنبه الإنسان مهما أمكن و لكن إذا الضرورة دعته و الحاجة الماسة أحوجته فليترقب الإنسان الذي يحفظ كرامة الناس و يحافظ على مقامهم و عزة نفوسهم ثم يقصده بالسؤال و لا يسأل أنذال الناس و عوامهم...

347 - و قال عليه السلام: الثّناء (1) بأكثر من الاستحقاق (2) ملق (3)، و التّقصير عن الاستحقاق عيّ (4) أو حسد.

اشارة

ص: 458

اللغة

1 - الثناء: المدح و الإطراء.

2 - استحق الشيء: استوجبه و استأهله.

3 - الملق: التذلل أو إبداء الإكرام باللسان دون القلب.

4 - عيي: عجز.

الشرح

الاعتدال في الثناء و المدح هو المطلوب و الزيادة أو النقيصة خروج عن حد العدل إلى أحد طرفي الإفراط أو التفريط فإن زاد في المدح تحولت الزيادة إلى تملق و رياء من أجل اكتساب ودّ الممدوح و إن قصر و لم يؤد الثناء حقه كان لداع نفسي في التقصير و هو الحسد له فلذا يمنعك إظهار الثناء بحقه أو لأنك عاجز عن أداء الحق و كلاهما عيب في المثني و المادح...

348 - و قال عليه السلام: أشدّ الدّنوب ما استهان به (1) صاحبه.

اللغة

1 - استهان به: استحقره.

الشرح

الذنوب كلها عظيمة لأنها تمثل التمرد و العصيان و النفسية السافلة و لكن أشد هذه الذنوب إذا كان الإنسان مستهينا مستصغرا لها لأنه يستحقر التمرد و يستسهل العصيان و بالآخرة يستخف باللّٰه و عقابه و عذابه و لذا كانت من أشد الذنوب.

349 - و قال عليه السلام: من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، و من رضي برزق اللّٰه لم يحزن على ما فاته، و من سلّ سيف (1) البغي (2) قتل به، و من كابد الأمور (3) عطب (4)، و من اقتحم (5) اللّجج (6) غرق، و من

اشارة

ص: 459

دخل مداخل السّوء اتّهم. و من كثر كلامه كثر خطؤه، و من كثر خطؤه قلّ حياؤه، و من قلّ حياؤه قلّ ورعه، و من قلّ ورعه مات قلبه، و من مات قلبه دخل النّار. و من نظر في عيوب النّاس، فأنكرها (7)، ثمّ رضيها لنفسه، فذلك الأحمق بعينه. و القناعة مال لا ينفد. و من أكثر من ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير، و من علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه (8).

اللغة

1 - سل السيف: انتزعه من غمده.

2 - البغي: الظلم.

3 - كابد الأمور: قاسى شدائدها.

4 - عطب: انكسر.

5 - اقتحم: رمى بنفسه بشدة و مشقة.

6 - اللجج: جمع لجة معظم الماء و وسطه.

7 - أنكرها عليه: عابه و نهاه عنها.

8 - يعنيه: يهمه.

الشرح

هذه كلمات خالدات فيها العظات و العبر و فيها الأخلاق و الآداب و فيها الكثير مما يفيد الإنسان في حياته و بعد وفاته.

من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره: لأن عيوب الإنسان كثيرة فمتى انتبه إليها اشتغل بها و هي لكثرتها لا يفرغ منها لعيوب الناس حتى يعيبهم بها.

و من رضي برزق اللّٰه: المقسوم له.

لم يحزن على ما فاته: مما يتصور أنه له و أنه تحت يده لأنه لو كان من رزقه لما فاته.

و من سل سيف البغي قتل به: و كما قيل و على الباغي تدور الدوائر و الظلم لا يعمر و إن عمّر دمر.

ص: 460

و من كابد الأمور عطب: من واجه الأيام و الليالي و ما فيهما من خطوب بدون سلاح و عتاد سقط فيهما فريسة سهلة للأحداث.

و من اقتحم اللجج غرق: من نزل في خضم الشدائد و الحروب سقط و لم تسمح له الظروف بالنجاة.

و من دخل مداخل السوء: كمن جلس متفرجا على من يلعب القمار أو يشرب الحمر.

اتهم: بجلسته و نسب إلى شرب الخمر و لعب القمار.

و من كثر كلامه كثر خطؤه: لأن كثير الكلام يهذي و يلقي الكلام على رسله دون ملاحظة عواقبه و ما يخلفه وراءه.

و من كثر خطؤه قل حياؤه: لأنه لكثرة ممارسته للخطيئة تصبح عادة فيألفها و لا يعود يستحي من الخطأ.

و من قل حياؤه قل ورعه: لأنه يتمادى في الذلة و تهون عليه المحرمات فيفقد الورع و التدين.

و من قل ورعه مات قلبه: فإن الدين الورع عن المحارم فمن قل ورعه مات قلبه و سقط عن مرتبته الإنسانية.

و من مات قلبه دخل النار: لأنه إذا ارتكس في المعاصي دخل النار.

و من نظر في عيوب الناس: فعددها و ذكر.

فأنكرها: عليهم و لهم.

ثم رضيها لنفسه: و قام بارتكابها و فعلها.

فذلك الأحمق بعينه: لأنه لو كان عاقلا فطنا لكرهها لنفسه و ابتعد عنها كما كرهها لغيره و أنكرها عليهم.

و القناعة مال لا ينفد: و المال ينفد لأنه بالصرف ينتهي و بالآفات يزول بينما القناعة لا تنتهي و لا تصيبها الآفات.

و من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير: لأنه يعرف أنه لن يأخذ معه شيئا بعد الموت مما يجمعه في الدنيا فيتصور نهايته و قرب رحيله فيقنع بما تيسر من مال الدنيا الحلال...

ص: 461

و من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه: فهو لا يقول إلا ما يعمل و إذا كان عمله قليل قل الكلام فيما لا يعنيه و لا يفيده و ينفعه.

350 - و قال عليه السلام: للظّالم من الرّجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، و من دونه بالغلبة (1)، و يظاهر (2) القوم الظّلمة (3).

اللغة

1 - الغلبة: القهر.

2 - يظاهر: يعاون.

3 - الظلمة: جمع ظالم.

الشرح

بإحدى ثلاثة علامات يعرف الظالم يعرف بظلمه من له حق الطاعة عليه و من هو فوقه فإنه يرتكب المعصية للّٰه بمخالفته لأمره و يظلم من دونه و من تحت يده بأن يظلمه و يسلبه حقه و يعتدى عليه و الثالثة أنه يعاون الظالمين و يكون نصيرا لهم في ظلمهم و اعتدائهم...

351 - و قال عليه السلام: عند تناهي (1) الشّدّة (2) تكون الفرجة (3)، و عند تضايق حلق البلاء يكون الرّخاء (4).

اللغة

1 - تناهي: بلوغ النهاية.

2 - الشدة: ما يحل بالإنسان من مكاره الدهر.

3 - الفرجة: الخلوص من الشدة و الهم.

4 - الرخاء: السعة.

ص: 462

الشرح

يريدنا أن لا نيأس مهما كانت الشدة قوية و أن الشدة إذا بلغت ذروتها لا بد و أن تنفرج و هذه قاعدة عامة إذا وصلت الأمور إلى منتهاها لا بد و أن تعود إلى اليسر و السهولة...

352 - و قال عليه السلام لبعض أصحابه: لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك و ولدك: فإن يكن أهلك و ولدك أولياء اللّٰه، فإنّ اللّٰه لا يضيع (1) أولياءه، و إن يكونوا أعداء اللّٰه، فما همّك و شغلك بأعداء اللّٰه ؟!.

اللغة

1 - لن يضيع: لن يهمل.

الشرح

كأنه عليه السلام رأى رجلا يصرف أكثر أوقاته إن لم يكن كلها في خدمة أهله و ولده يدبر شئونهم، يهتم بهم، يجمع لهم الأموال، يترك الواجبات و المستحبات في سبيلهم فنهاه عن الإكثار و ليس عن الزيادة و بين له وجها مرغبا لمثله بأنهم إن كانوا من أولياء اللّٰه فاللّٰه لن يترك أولياءه و إن كانوا من أعدائه فلا يجوز العمل لهم و السعي من أجل تقويتهم...

353 - و قال عليه السلام: أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله.

الشرح

العيب الكبير بل أكبر العيوب أن تعيب الناس بعيب و ذلك العيب موجود فيك، ترمي الناس بالبخل و الكذب و أنت تلتقي فيك الصفتان معا، فاقلع الجسر من عينك قبل أن تحرك القشة من عين الآخرين...

ص: 463

354 - و هنأ بحضرته رجل رجلا بغلام ولد له فقال له: ليهنئك الفارس، فقال عليه السلام: لا تقل ذلك، و لكن قل: شكرت الواهب، و بورك لك في الموهوب، و بلغ أشدّه (1)، و رزقت برّه (2).

اللغة

1 - بلغ أشده: أي قوته يمعني الإدراك و البلوغ.

2 - بر الوالدين: حسن معاملتهما عن حب.

الشرح

هذا من الإمام تعليم و إرشاد إلى أصول التهنئة بالمولود الجديد و استهله بأنه على الوالد أن يشكر اللّٰه الذي وهب له هذا الولد و الدعاء للولد أن يجعله اللّٰه ولدا مباركا طيبا و أيضا دعاء للولد أن يبلغ أشده و يصبح رجلا و أخيرا أن يكون مطيعا لأبيه برا به يحفظه في حياته و في آخرته بطاعة اللّٰه سبحانه...

355 - و بنى رجل من عماله بناء فخما (1)، فقال عليه السلام: أطلعت الورق (2) رؤوسها! إنّ البناء يصف لك الغنى.

اللغة

1 - الفخم: العظيم الضخم.

2 - الورق: بفتح فكسر الفضة.

الشرح

الورق معناه الفضة و لما كان البناء لا يشاد إلا بالمال فمن بنى بناء عظيما كبيرا دل ذلك على أن أمواله من الدراهم و الدنانير كثيرة و كأنها أظهرت رؤوسها من الطين تعلن عن وجودها و البناء إذا كان ضخما عظيما دل على أن صاحبه غني ثري...

ص: 464

356 - و قيل له عليه السلام: لو سدّ على رجل باب بيته، و ترك فيه، من أين كان يأتيه رزقه ؟ فقال عليه السلام: من حيث يأتيه أجله (1).

اللغة

1 - الأجل: الموت.

الشرح

هذا رد إلى اللّٰه و توكل عليه و أن اللّٰه الذي بيده الأعمار بيده الأرزاق لا غرابة في أن الإنسان إذا سجن و كان للّٰه في حياته مصلحة أن يرزقه كيف يشاء و لو من غير الطرق المتعارفة...

357 - و عزّى قوما عن ميت مات لهم فقال عليه السلام: إنّ هذا الأمر ليس لكم بدأ، و لا إليكم انتهى، و قد كان صاحبكم هذا يسافر، فعدّوه في بعض أسفاره، فإن قدم عليكم و إلاّ قدمتم عليه.

الشرح

لم يبتدأ الموت بأحد منا و لن ينتهي عندنا بل كان منذ ولد آدم و كتب على أبنائه من بعده إلى أن تقوم الساعة و لم يعد على وجه الأرض روح و ما أجمل هذا العزاء العظيم لو أراد الإنسان أن يفكر فيه بشكل جدي رصين و أن الميت افرضوه في سفر من سفراته فإن لم يعد عليكم و يرجع إليكم فإنكم سوف تقدمون أنتم عليه و ما أسرع الأيام و شدة انقضائها و تكونون معه في عداد الأموات فتأهبوا للرحيل و تزودوا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلا من أتى اللّٰه بقلب سليم.

358 - و قال عليه السلام: أيّها النّاس، ليركم اللّٰه من النّعمة وجلين (1)، كما يراكم من النّقمة (2) فرقين (3)! إنّه من وسّع عليه في ذات يده

اشارة

ص: 465

فلم ير ذلك استدراجا (4) فقد أمن مخوفا، و من ضيّق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختبارا (5) فقد ضيّع مأمولا.

اللغة

1 - الوجل: الخوف.

2 - النقمة: العقوبة.

3 - فرقين: فزعين.

4 - الاستدراج: ازدياد النعم على العاصي و هو يعصي ليأخذه اللّٰه بها.

5 - اختبارا: امتحانا.

الشرح

النعمة و النقمة امتحان للإنسان كي يعرف مقدار شكره و مقدار صبره و من هنا يبقى المؤمن خائفا من النعمة أن لا يكون قد أدى شكرها لئلا يعرضها للزوال من جهة و لئلا يحاسب عليها من جهة أخرى و كذلك النقمة و المصيبة يجب أن تتحول عند المؤمن إلى درس يعرف مقدار صبره من خلاله هل يتحمل أم يكفر و ليكن المؤمن في حذر من تكاثر النعم عليه أن تكون استدراجا له ليدخل مداخل الحرام و يفعل ما لا يجوز له أن يفعله و من رأى التوسعة عليه فاطمأن و لم يحذر أو يخاف على نفسه فقد أمن أمرا عظيما لا يأمنه العقلاء و هو خوف الاستدراج و كذلك من ضيق اللّٰه عليه رزقه و لم ير ذلك اختبارا فقد ضيع ما هو مأمول من اللّٰه في الآخرة من ثوابه و أجره و إحسانه...

359 - و قال عليه السلام: يا أسرى (1) الرّغبة (2) أقصروا (3) فإنّ المعرّج (4) على الدّنيا لا يروعه (5) منها إلاّ صريف (6) أنياب الحدثان (7). أيّها النّاس، تولّوا (8) من أنفسكم تأديبها، و اعدلوا بها (9) عن ضراوة (10) عاداتها.

اللغة

1 - أسرى: جمع أسير.

2 - الرغبة: الطمع.

ص: 466

3 - أقصروا: كفّوا.

4 - المعرج: المائل إلى الشيء.

5 - لا يروعه: لا يفزعه.

6 - الصريف: صوت الأسنان عن الاصطكاك.

7 - الحدثان: بالكسر النوائب.

8 - تولى الشيء: تحمل اولايته ليقوم به.

9 - اعدلوا بها: انحرفوا بها.

10 - الضراوة: اللهج بالشيء و الولوع به.

الشرح

و الإمام يخاطب أولئك الذين يقعون في أسر الرغبات و الشهوات و لا يستطيعون الخلاص منها بأن يكفوا عن طاعتهم لها و يتمردوا عليها لأن من اطمأن إلى الدنيا و مال إليها مرتاحا إلى ظلها و نعيمها فإنه لا يستفيق منها إلا على ما يروعه و يفزعه حيث تأخذه المصائب و البلايا إليها فينتابه المرض و تدب به الشيخوخة و يصاب بالبلاء تلو البلاء، أيها الناس تولوا أنتم تأديب أنفسكم و أخذها بما يرضي اللّٰه و التزام أوامره و غيروا عاداتها التي ألفتها و لم تكن منسجمة مع خط اللّٰه و إرادته و ذلك مستطاع لكم و تحت قدرتكم...

360 - و قال عليه السلام: لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا، و أنت تجد لها في الخير محتملا.

الشرح

إذا كانت الكلمة ظاهرها سوء و لكنها تحتمل وجها أو وجوها أخرى سليمة و مقبولة فاحملها على الخير و على الوجه الحسن و هذا المبنى يريح الناس و يوطد العلاقة و يحسنها فيما بينهم جميعا...

361 - و قال عليه السلام: إذا كانت لك إلى اللّٰه سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصّلاة على رسوله - صلّى اللّٰه عليه و آله - ثمّ سل حاجتك، فإنّ اللّٰه

اشارة

ص: 467

أكرم من أن يسأل حاجتين، فيقضي إحداهما و يمنع الأخرى.

الشرح

أمر عليه السلام أن يفتتح صاحب المسألة مسألته بالصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) فتكون مقبولة و مستجابة فتستجاب الثانية بجريرة الأولى و تبعا لها و كما قيل: و قد يؤخذ الجار بجرم الجار، و إذا حشر مع الكرام لئيم أكرم لكرامتهم و بجريرتهم...

362 - و قال عليه السلام: من ضنّ (1) بعرضه فليدع المراء (2).

اللغة

1 - ضنّ : بخل.

2 - المراء: الجدال في غير حق.

الشرح

المراء هو الجدل لا بقصد إحقاق الحق و هو يؤدي إلى المماحكة و السباب و الشتائم و الكريم يبخل بعرضه أن يتعرض لذلك و يترفع أن يقع في مثل تلك المحاذير.

363 - و قال عليه السلام: من الخرق (1) المعاجلة قبل الإمكان (2)، و الأناة (3) بعد الفرصة.

اللغة

1 - الخرق: بالضم الحمق و قلة العقل.

2 - الإمكان: التمكن و القدرة.

3 - الأناة: التأني.

ص: 468

الشرح

الخرق، معناه الحمق و عدم الرفق و قد جعل الإمام من عاجل أمرا قبل أوانه و إمكانه خرقا على حد تأخير اجتنائه بعد إمكان الفرصة منه و هو أمر بلزوم الأمور و إيقاعها في مواقعها دون تأخير أو تقديم.

364 - و قال عليه السلام لا تسأل عمّا لا يكون، ففي الّذي قد كان لك شغل.

الشرح

نهى عن التكلف و السؤال عن عالم الامكان و ما يمكن أن يتصور في عالم الفكر و الخيال كبعض المترفين عقليا فإنهم يفترضون مسألة و يعيشون في أجوائها و يتركون ما هم بحاجة إليه و ما يهمهم في أمور معاشهم و معادهم بل العاقل هو الذي يحل مشاكله العالقة و المطلوبة منه حاليا و لا يقدر على ذلك لكثرتها و فيها شغل و اف و كبير يشغله عن الافتراضات و الإمكانات فبدلا من أن نختلف أن الملائكة إناث أم ذكور فلننظر في أمورنا المهمة التي تدخل في أساس حياتنا.

365 - و قال عليه السلام: الفكر مرآة صافية، و الاعتبار (1) منذر (2) ناصح. و كفى أدبا لنفسك تجنّبك (3) ما كرهته لغيرك.

اللغة

1 - الاعتبار: أخذ العبرة و هي الموعظة.

2 - منذر: مخوف محذّر.

3 - التجنب: الترك.

الشرح

الفكر كالمرآة ينقل الحقائق دون تشويه أو تزييف و يصل إلى باطن الأمور بدقة

ص: 469

و صفاء، و الاعتبار بما يقع في الحياة و ما يمر على الإنسان من مرارتها و حلاوتها و ما يقع على الغير من المصائب و الموت منذر لهذا الإنسان و ناصح له فلا يغش لأنه سيصل إلى ما أنذره و العاقل هو الذي إذا كره أمرا من غيره أدب نفسه على اجتنابه و الابتعاد عنه...

366 - و قال عليه السلام: العلم مقرون بالعمل: فمن علم عمل، و العلم يهتف (1) بالعمل، فإن أجابه و إلاّ ارتحل عنه (2).

اللغة

1 - يهتف: يصيح و ينادي.

2 - ارتحل عنه: تركه و ذهب.

الشرح

من حق العالم أن يكون عاملا فمن عرف أن الصلاة واجبة وجب عليه أن يقيمها و من عرف أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عليه واجب عليه أن ينهض بهما فحق العلم العمل به، و العلم يصرخ بالعمل و يحذر المتكاسلين فإن أجاب العمل للعلم فهو المطلوب و إلا ارتحل العلم و فقد الأثر المترتب عليه فالعمل روح العلم و من أجله يتعلم الإنسان فإذا لم يعمل فكأنه لم يعلم و كم عالم ميت و إن عدّ مع الأحياء لأنه لم يستعمل علمه...

367 - و قال عليه السلام: يا أيّها النّاس، متاع (1) الدّنيا حطام (2) موبىء (3) فتجنّبوا (4) مرعاه (5)! قلعتها (6) أحظى (7) من طمأنينتها (8)، و بلغتها (9) أزكى (10) من ثروتها (11). حكم على مكثر منها بالفاقة (12)، و أعين (13) من غني عنها (14) بالرّاحة. من راقه (15) زبرجها (16) أعقبت (17) ناظريه كمها (18)، و من استشعر الشّغف (19) بها ملأت ضميره أشجانا (20)، لهنّ رقص (21) على سويداء قلبه (22) همّ يشغله، و غمّ (23) يحزنه، كذلك

اشارة

ص: 470

حتّى يؤخذ بكظمه (24) فيلقى بالفضاء، منقطعا (25) أبهراه (26)، هيّنا (27) على اللّٰه فناؤه، و على الإخوان إلقاؤه (28). و إنّما ينظر المؤمن إلى الدّنيا بعين الاعتبار (29)، و يقتات (30) منها ببطن الاضطرار (31)، و يسمع فيها بأذن المقت (32) و الإبغاض، إن قيل أثرى (33) قيل أكدى (34)! و إن فرح له بالبقاء حزن له بالفناء! هذا و لم يأتهم يَوْمٌ فِيهِ يُبْلِسُونَ (35).

اللغة

1 - المتاع: كل ما ينتفع به من عروض الدنيا.

2 - الحطام: ما تكسر من يابس النبات.

3 - الموبىء: أي ذو و باء معدي.

4 - تجنبوا: اتركوا.

5 - مرعاه: محل رعيه و الأكل منه.

6 - القلعة: بالضم عدم سكونك للتوطن.

7 - أحظى: أسعد.

8 - طمأنينتها: سكونها.

9 - البلغة: ما يتبلغ به من القوت.

10 - أزكى: أنمى و أكثر.

11 - الثروة: اليسار و الغنى.

12 - الفاقة: الحاجة و الفقر.

13 - أعين: سوعد.

14 - غني عنها: استغنى عنها.

15 - راقه: أعجبه.

16 - الزبرج: بكسر فسكون فكسر الزينة.

17 - أعقبت الشيء: تركته عقبها أي بعدها.

18 - الكمه: محركة العمى.

19 - الشغف: الولوع و الحب النافذ في القلب.

20 - الأشجان: الأحزان و العوارض المؤلمة.

21 - الرقص: بالفتح و بالتحريك، الغليان و الحركة المتوثبة.

22 - سويداء القلب: حبته.

ص: 471

23 - الغم: الحزن.

24 - الكظم: مجرى النفس.

25 - انقطع: انفصل.

26 - الأبهران: عرقان متصلان بالقلب.

27 - الهين: اليسير السهل.

28 - إلقاؤه: رميه و طرحه.

29 - الاعتبار: الاتعاظ.

30 - يقتات: يأخذ منها القوت.

31 - بطن الاضطرار: بطن المضطر.

32 - المقت: الكره و السخط.

33 - أثرى: استغنى.

34 - أكدى: افتقر.

35 - أبلس: يئس و تحيّر.

الشرح

في هذا الفصل تنفير عن الدنيا و زينتها (يا أيها الناس متاع الدنيا) و كل ما فيها (حطام موبىء فتجنبوا مرعاه) شبه متاع الدنيا و مقتنياتها بالحشيش اليابس الذي يتحطم لتفاهته و سرعة زواله و لم يكتف بذلك حتى جعل فيها الوباء الذي ينقل العدوى لمجرد الملاقاة معه حيث أنه يجذب الناس إليه و يأسرهم بهواه و لذا أمره باجتناب تناوله و أكله و هذه الدنيا بما فيها (قلعتها أحظى من طمأنينتها) عدم الاستقرار فيها و التوطن عليها أسعد ممن يطمئن إليها و يستقر فيها (و بلغتها أزكى من ثروتها) إذا استطاع الإنسان فيها أن يأخذ قدر كفايته منها و من يقدر فقط أن يبقى على قيد الحياة خير له من أن يصبح صاحب ثروة و مال فيها (حكم على مكثر منها بالفاقة) كلما أكثر الإنسان منها احتاج إلى ما بقي منها فطالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما شرب كلما عطش (و أعين من غني عنها بالراحة) من استغنى عنها أعانه اللّٰه على الراحة منها (من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها) من أعجبه منها زينتها و محاسنها أعقبته العمى في بصيرته فلا يعود يعتبر بما فيها و ما سوف يطرأ عليها من تغيرات و ما يمر عليها من عبر (و من استشعر الشغف بها ملأت ضميره أشجانا) من دخلت إلى قلبه و تملكت عليه حبه لها ملأت قلبه أحزانا و أوجاعا لما فاته منها و تحسرا على ما لم يصل إليه منها و هذه الأشجان و الأحزان (لهن رقص على سويداء قلبه) تناوب على قلبه (همّ يشغله) عن نفسه و عن اللّٰه و الآخرة (و غم) منها (يحزنه) و يجعله كئيبا باستمرار و يبقى الأمر (كذلك حتى يؤخذ بكظمه) حتى يؤخذ

ص: 472

بأنفاسه فيقضي عليه فيموت (فيلقى بالفضاء) في القبر (منقطعا أبهراه) منقطعة نياط قلبه و عروقه الرئيسية التي تتصل بالقلب و تغذي سائر الجسد و هو كناية عن الموت (هينا على اللّٰه فناؤه) و القضاء عليه (و على الأخوان إلقاؤه) في حفرته و قبره...

ثم أشار إلى صفات المؤمن و مصاحبته للدنيا و علاقته بها (و إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا) و ما فيها من متاع و زينة (بعين الاعتبار) فيستفيد منها عدم دوامها و بقائها و أنه لا بد من الرحيل عنها و الخروج منها فلا بد من الاستعداد و التزود للقاء الملك الجبار (و يقتات منها ببطن الاضطرار) فمقدار الضرورة يكون أكله منها و ليس من القوم الذين يبحثون عن طيبات الأكل و ملذاته (و يسمع فيها بإذن المقت و الإبغاض) يسمع حديثها و هو مبغض لها كاره لوجودها يتعامل معها كعدو يصاحبه و هو لا يحبه و يكره حديثه ثم رجع إلى حال أبناء الدنيا و من ملكت عليهم شغاف قلوبهم (إن قيل أثرى) و اغتنى هذا الإنسان فجأة (قيل أكدى) و افتقر و أملق (و إن فرح له بالبقاء) و طول العمر (حزن له بالفناء) و الموت و القضاء عليه فهذه حالات غير مستقرة فنعيمها لا يدوم و خيرها يزول (هذا و لم يأتهم يوم فيه يبلسون) هذا كله في دار الدنيا و تقلباتها و بعد لم يأت يوم القيامة الذي فيه ييأسون من رحمة اللّٰه و ينالهم عذابه و هو انه...

368 - و قال عليه السلام: إنّ اللّٰه سبحانه وضع الثّواب على طاعته، و العقاب على معصيته، ذيادة (1) لعباده عن نقمته (2)، و حياشة (3) لهم إلى جنّته.

اللغة

1 - الذود: الدفع و المنع.

2 - النقمة: العقوبة.

3 - حشت الإبل: جمعتها.

الشرح

بيّن الحكمة التي من أجلها وضع الثواب و العقاب و إنهما وضعا من أجل أن يدفع الإنسان عن العقاب و يبعده عن العذاب و يقربه من الجنة و يدنيه من الثواب...

ص: 473

369 - و قال عليه السلام: يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه (1)، و من الإسلام إلاّ اسمه، و مساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكّانها و عمّارها شرّ أهل الأرض، منهم تخرج الفتنة (2)، و إليهم تأوي (3) الخطيئة (4)، يردّون من شذّ (5) عنها فيها، و يسوقون من تأخّر عنها إليها. يقول اللّٰه سبحانه: فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران، و قد فعل، و نحن نستقيل اللّٰه عثرة (6) الغفلة.

اللغة

1 - الرسم: ما كان لاصقا بالأرض من أثر الدار.

2 - الفتنة: الابتلاء و المصبية.

3 - تأوي: تجتمع و تبيت.

4 - الخطيئة: المعصية.

5 - شذّ: انحرف.

6 - العثرة: السقطة و زلة القدم.

الشرح

هذا خبر من أخبار الغيب التي أطلع عليها الإمام بما عنده من العلم اللدني و هي حاكية بصدق عن واقعنا المعاش فمن نظر أبصر كيف تنطبق و كأنها تصف قائما أمامها يأتي على الناس زمان لقبحه و ظلمه و سوءه لا يبقى فيهم، في الناس من القرآن إلا رسمه و كتابته و في زماننا إلا طباعته يتباهى الملوك و الأمراء بطبع القرآن و يبتعدون عن العمل به و تطبيقه بل يحاربون من يعمل به و يطاردونهم في كل بلاد اللّٰه و لم يبق من الإسلام إلا اسمه، فالإسلام قد اندرست أحكامه و تعطلت شرائعه و باسم الإسلام ظلما و عدوانا يعقدون المؤتمرات و يقيمون الندوات و كأنهم باسم الإسلام يريدون محاربة الإسلام و في هذه السنة و هي سنة 1987 و في الشهر الأول منها و أنا أكتب هذه الفصول يجتمع ملوك و رؤساء الدول الإسلامية في الكويت و قد تمثل في المؤتمر 44 دولة و قاطعته إيران الإسلام و كأن هذا المؤتمر يعقد باسم الإسلام و يقصد به محاربة الإسلام و المسلمين و قد

ص: 474

حضره أمين الجميل المسيحي الكتائبي رئيس جمهورية لبنان و تكلم في المؤتمر باسم الإسلام و المسلمين في مؤتمر القمة الإسلامية و هذا من عجائب الدنيا و غرائبها، فإن أمين الجميل الذي ذبح المسلمين و قضى على الإسلام الذي يلتقي مع الصهاينة في قتال الإسلام و المسلمين يجتمع في القمة الإسلامية و يتكلم باسم الإسلام فهل سمعنا و سمع المسلمون في تاريخهم مثل هذا الخبر و هل هؤلاء الرؤساء حقيقة ينصحون الإسلام و يدافعون عنه أو يقضون عليه و على كل تعاليمه و تشريعاته و على كل حال إنا للّٰه و إنا إليه راجعون لما وصلت إليه حالة المسلمين من البؤس و التعاسة...

و مساجدهم يومئذ عامرة من البناء خراب من الهدى فمساجدهم مبنية من الحجر المنحوت الجميل و لكنها خالية من الهدى لأن أئمتها قد عينتهم السلطة الظالمة فهم يثنون عليهم و يمدحون ظلمهم و جورهم و يعملون بخلاف ما أمر اللّٰه سكانها و عمارها شر أهل الأرض فالسعوديون بيدهم خدمة الحرم و هم يشيدون المساجد و كذلك غيرهم من الذين يتشوقون للوجاهة و الزعامة هم شر عمارها و فسقتهم و لا يدخلها إلا الوهابي الفاسد الفاسق الذي يحمل التجسيم للّٰه و الازدراء برسول اللّٰه و بالأولياء الصالحين...

منهم تخرج الفتنة لأنهم بلباس الدين يفتنون الناس عن دينهم و يضلونهم عن إسلامهم و إليهم تأوي الخطيئة فكل خطيئة و انحراف عن الإسلام يكون منهم لأنهم الدعاة إلى الضلال و الانحراف يردون من شذ عنها منها و يسوقون من تأخر عنها إليها لشدة انحرافهم و ضلالهم كأنهم يجمعون الفتنة من كل مكان يقول اللّٰه سبحانه: فبي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران و قد فعل و نحن نستقيل اللّٰه عثرة الغفلة فاللّٰه يحلف بنفسه ليرسل عليهم فتنة عمياء لا يهتدي فيها الحليم إلى مواضع قدميه و نحن الآن نعيش هذه الفتنة القاسية و نستغفره من خطايانا و سيئات أعمالنا...

370 - و روي أنّه عليه السلام قلما اعتدل (1) به المنبر إلا قال أمام الخطبة: أيّها النّاس، اتّقوا اللّٰه فما خلق امرؤ عبثا (2) فيلهو (3)، و لا ترك سدى (4) فيلغو (5)! و ما دنياه الّتي تحسّنت له بخلف (6) من الآخرة الّتي قبّحها (7) سوء النّظر عنده، و ما المغرور الّذي ظفر (8) من الدّنيا بأعلى همّته كالآخر الّذي ظفر من الآخرة بأدنى سهمته (9).

اشارة

ص: 475

اللغة

1 - اعتدل: استقام.

2 - العبث: ارتكاب أمر بدون فائدة.

3 - اللهو: اللعب.

4 - سدى: مهمل.

5 - اللغو: ما لا فائدة فيه.

6 - خلف: بفتح اللام ما يخلف الشيء و يأتي بعده.

7 - القبيح: ضد الحسن.

8 - ظفر: فاز.

9 - السهمة: بالضم النصيب.

الشرح

كان يبتدأ عليه السلام باستمرار في التزهيد بالدنيا و ما فيها و الترغيب بالآخرة و ما فيها أيها الناس اتقوا اللّٰه الذي لا إله سواه فما خلق امرؤ عبثا فيلهو كما قال تعالى: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ » و لا ترك سدى مهملا بدون تكليف مطلوب منه و مناط به فيلغو في الحياة و ما دنياه التي تحسنت له بخلف من الاخره التى قبحها سوء النظر عنده. و في نظره السيء استقبح الآخرة و تحسنت الدنيا في عينه و لكن ليس فيما استحسن بديل عما استقبح إذ الذي استقبحه بسوء نظره لا بديل له و لا شبيه له و ما المغرور الذي ظفر من الدنيا بأعلى همته كالآخر الذي ظفر من الآخرة بأدنى سهمته لا مناسبة بين الدنيا و الآخرة و أن من ظفر من الدنيا بأعلى و أعظم أمنيته ليس كالآخر الذي ظفر من الآخرة بأدنى درجات أهل الثواب و كما يقال: الذنب في الخير أعظم من الرأس في الشر و لا قياس بينهما...

371 - و قال عليه السلام: لا شرف أعلى من الإسلام، و لا عزّ أعزّ من التّقوى، و لا معقل (1) أحسن من الورع، و لا شفيع أنجح من التّوبة، و لا كنز أغنى من القناعة، و لا مال أذهب للفاقة (2) من الرّضى بالقوت. و من اقتصر على بلغة (3) الكفاف (4) فقد انتظم (5) الرّاحة، و تبوّأ (6) خفض (7) الدّعة (8).

اشارة

ص: 476

و الرّغبة (9) مفتاح النّصب (10) و مطيّة (11) و مطيّة (11) التّعب، و الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التّقحّم (12) في الذّنوب، و الشّرّ جامع مساوىء العيوب.

اللغة

1 - المعقل: الملجأ.

2 - الفاقة: الحاجة.

3 - البلغة: ما يتبلغ به الإنسان أي يكفيه.

4 - الكفاف: قدر الحاجة.

5 - انتظمه بالرمح: أنفذه فيه.

6 - تبوأ: نزل.

7 - الخفض: السعة.

8 - الدعة: بالتحريك كالخفض.

9 - الرغبة: الطمع.

10 - النصب: التعب.

11 - المطية: ما يمتطى أي يركب من دابة و نحوها.

12 - التقحم: الدخول بقوة.

الشرح

وصايا متفرقة و حكم متناثرة و أخلاقيات عظيمة رفيعة (لا شرف أعلى من الإسلام) لأنه يستلزم شرف الدنيا و الآخرة (و لا عز أعز من التقوى) لأن التقوى تستلزم جميع المكرمات و الابتعاد عن جميع الخسائس و رذائل الصفات فكانت أعز من غيرها (و لا معقل أحسن من الورع) فإن الورع درع حصينة و معقل لا يمكن لصفة ذميمة أن تقتحمه أو تعتدي عليه (و لا شفيع أنجح من التوبة) فإن التوبة هي التي إن جئت بها محوت السيئات و قضيت على المعاصي و الآثام و هي خير من يشفع في العفو و محو السيئات (و لا كنز أغنى من القناعة) لأنك بالقناعة لا تحتاج إلى أحد بل تستغني عن كل أحد حتى عن المال و الدنيا و لذا كانت أغنى كنز (و لا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت) إذا رضيت بقوت نفسك كان ذلك أشد لنفي الفقر و أقوى رادع للحاجة لأن القوت تكفل لك به اللّٰه (و من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة و تبوأ خفض الدعة) من اقتصر على الكفاف و مقدار حاجته فحسب فقد دخل في راحة البدن و النفس من هم الطلب و السعي

ص: 477

و نال الدعة و الهدوء و العيش اللين الطيب (و الرغبة مفتاح النصب و مطية التعب) إذا كانت لك رغبة في الدنيا و زينتها فقد فتحت على نفسك باب التعب و سعيت وراء الشقاء و النصب.

(و الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التقحم في الذنوب) فإن هذه الأمور الثلاثة الحرص و ما يجر إليه من التكالب على الدنيا و ما يدعو إليه من الظلم و الكذب و الفجور و ما يدعو إليه الكبر من عدم التواضع و التهور و قلة الإنصاف و ما يدعو إليه الحسد من البغي و الظلم فإن كل هذه تدخل الإنسان بسرعة في الذنوب (و الشر جامع مساوىء العيوب) فإن الشر بقول مطلق يجمع كل هذه العيوب و من اتصف به اتصف بها جميعا...

372 - و قال عليه السلام لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر، قوام (1) الدّين و الدّنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، و جاهل لا يستنكف (2) أن يتعلّم، و جواد لا يبخل بمعروفه، و فقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم، و إذا بخل الغنيّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه.

اشارة

يا جابر، من كثرت نعم اللّٰه عليه كثرت حوائج النّاس إليه، فمن قام للّٰه فيها بما يجب فيها عرّضها للدّوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزّوال و الفناء.

اللغة

1 - القوام: الاعتدال.

2 - استنكف: رفض و أبى.

الشرح

اشارة

تقوم الدنيا و الدين بأربعة أركان، متى استقامت و ثبتت هذه الأربعة ؟ و متى صلحت و اعتدلت اعتدلت أمور الدين و أمور الدنيا (عالم مستعمل علمه) فهو تعلّم و تفقّه و وقف على أسرار الشريعة ليس ليكنز العلم لنفسه و يدخره في باطنه فإن من بخل بعلمه جاء أنتن

ص: 478

الناس ريحا يوم القيامة بل إنما تعلم من أجل أن يستعمل العلم فيطبقه على نفسه و ينفذ ما يعرفه ثم يعلمه لغيره من الناس و يبثه بين البشر (و جاهل لا يستنكف أن يتعلم) و هو الأمي الذي لا يعرف أحكام الدين و لم يطلع عليها فهو لا يتكبر عن التعلم بل يبادر إلى أن يسأل عن كل مسألة لم يعرفها و يبحث عن كل تكليف متعلق به فيتعلمه و يعمل به (و جواد لا يبخل بمعروفه) كريم منّ اللّٰه عليه و أعطاه من فضله فلا يبخل بالعطاء و البذل على الفقراء و المحتاجين و إعانة الضعفاء (و فقير لا يبيع آخرته بدنياه) فإن في المجتمع فقراء و استقامة الحياة إنما تكون بأن يكون الفقير متعففا ملتزما بأحكام اللّٰه بعيدا عن السرقة و الخيانة و الاعتداء فلا يبيع آخرته بشيء من حطام الدنيا و ما فيها فإذا هذه الأركان الأربعة كانت عادلة ملتزمة استقامت الحياة و الدين و أما إذا تبدلت الأحوال و تغيرت فانقلبت الموازين بضد ما هي عليه اضطربت الحياة و فسد الدين (فإذا ضيّع العالم علمه) و لم يعمل به و لم يعلمه للناس كانت النتيجة لهذه المخالفة أن (استنكف الجاهل أن يتعلم) لأنه يرى العالم مخالف لعلمه فيشك فيه و يسقط قوله و لا يعود له قيمه (و إذا بخل الغني بمعروفه) فلم يبذل على الفقراء و لم يخرج الحق الشرعي من ماله كانت النتيجة أن (باع الفقير آخرته بدنياه) فتجاوز المرسوم له ليسرق و ينهب و يعتدي (يا جابر من كثرت نعم اللّٰه عليه كثرت حوائج الناس إليه) فمن لم يعط مالا لم تقصده الناس، و من لم يكن وجيها لم تقصده الناس و من لم يكن عالما كبيرا لم تقصده الناس و هكذا دواليك بمقدار النعم تعود إليك الرجال بالمراجعة و السؤال (فمن قام للّٰه فيها بما يجب فيها عرضها للدوام و البقاء و من لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال و الفناء) فإن من قام بحق النعمة عرضها للدوام و الزيادة كما قال تعالى: و «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و أما إذا لم يقم بحق هذه النعمة فطرد الناس عن أبوابه و أقفل الأبواب و جعل الحجاب انصرف الناس عنه و عرضها للزوال حيث ارتد الناس عنه و بحثوا عن غيره...

ترجمة جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري.

جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام بن عمر بن سواد بن سلمة الأنصاري السلمي من بني سلمة.

و أمه نسيبة بنت عقبة بن عبد بن سنان بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم.

من أصحاب رسول اللّٰه حضر بدرا و المشاهد كان منقطعا إلى أهل البيت و من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام و في الخلاصة عن البرقي أنه كان من الأصفياء.

ص: 479

شهد صفين مع الإمام علي.

كان جابر يتوكأ على عصاه و هو يدور في سكك المدينة و مجالسهم و يقول: «علي خير البشر فمن أبى فقد كفر معاشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي فمن أبى فلينظر في شأن أمه»(1).

و في سنة 40 بعث معاوية بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف فسار حتى قدم المدينة فأرسل إلى بني سلمة فقال: و اللّٰه ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - فقال لها ما ذا ترين أن هذه بيعة ضلالة و قد خشيت أن أقتل.

فقالت: أرى أن تبايع فأتاه جابر فبايعه.

و في كتاب الملهوف لابن طاوس: و لما رجعت نساء الحسين و عياله من الشام و بلغوا إلى العراق قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري و جماعة من بني هاشم و رجالا من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام فوافوا في وقت واحد و تلاقوا بالبكاء و الحزن و اللطم و أقاموا المآتم المقرحة للأكباد و اجتمع عليهم نساء ذلك السواد و أقاموا على ذلك أياما...

توفي جابر في المدينة زمن عبد الملك بن مروان سنة 78 و قيل سنة 77 و قيل سنة 74.

373 - و روى ابن جرير الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه - و كان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث - أنه قال فيما كان يحض به الناس على الجهاد: إني سمعت عليا رفع اللّٰه درجته في الصالحين، و أثابه ثواب الشهداء و الصدّيقين، يقول يوم لقينا أهل الشام:

اشارة

أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا (1) يعمل به و منكرا يدعى إليه، فأنكره (2) بقلبه فقد سلم و برىء (3)، و من أنكره بلسانه فقد أجر (4)، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسّيف لتكون كلمة اللّٰه هي العليا و كلمة

ص: 480


1- أعيان الشيعة.

الظّالمين هي السّفلى، فذلك الّذي أصاب (5) سبيل الهدى، و قام على الطّريق، و نوّر في قلبه اليقين.

اللغة

1 - العدوان: الظلم.

2 - أنكر المنكر: عابه عليه و نهاه عنه.

3 - برىء: سلم.

4 - أجر: أثيب.

5 - أصاب: أدرك.

الشرح

إذا رأيت المنكر و هو كل فعل قبيح محرم في نظر الشرع يجب عليك أن تنكره بقلبك فتبغضه و تبغض فاعله و هذه أقل المراتب و أسفلها لأنها لا تتطلب جهدا و لا كلفة و لا يلحقك منها ضرر و هي من حقائق الإيمان فإن المؤمن لا يرضى بوقوع المنكر - و هو المعصية - لأن فيها تمرد على اللّٰه و من أنكره بقلبه فقد سلم من الذنب و برىء من الإثم و أما من استطاع أن يقف أمام الظالم و ينصحه و يرده عن ظلمه و يصرخ في وجهه أن يكف عن المنكر فهو أفضل من الأول و له أجر على موقفه و صرخته و أما من أنكر المنكر بالسيف و جاهد الباطل بيده لتكون كلمة اللّٰه هي العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب طريق الحق و الرشاد و الهدى و استقام على الطريق و كان على يقين من نور الحق و الإيمان الذي هو فيه...

374 - و في كلام أخر له يجري هذا المجرى: فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه، فذلك المستكمل (1) لخصال الخير، و منهم المنكر بلسانه و قلبه و التّارك بيده، فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير و مضيّع خصلة، و منهم المنكر بقلبه، و التّارك بيده و لسانه، فذلك الّذي ضيّع (2) أشرف الخصلتين من الثّلاث، و تمسّك بواحدة، و منهم تارك لإنكار المنكر

اشارة

ص: 481

بلسانه و قلبه و يده، فذلك ميّت الأحياء. و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّٰه، عند الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، إلاّ كنفثة (3) في بحر لجّيّ (4). و إنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر.

اللغة

1 - استكمل: أتم.

2 - ضيّع الشيء: فقده.

3 - النفثة: كالنفخة.

4 - اللجة: معظم الماء و مجتمعه.

5 - الأجل: وقت الموت.

الشرح

و هذا تقسيم آخر للناهين عن المنكر و أن هناك من أنكر المنكر بيده و لسانه و قلبه و استعمل كل الوسائل الممكنة له في دفع المنكر و رفعه من الحياة و هذا هو الذي استكمل خصال الخير فكانت كلها فيه و هو العظيم الأوحدي من الناس و هناك قسم ثان و هو من أنكر المنكر بلسانه و قلبه و لكن تركه بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير و مضيع لخصلة شريفة عظيمة و هي خصلة إنكار المنكر باليد و هناك قسم ثالث و هو المنكر للمنكر بقلبه و التارك له بلسانه و يده فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث و هناك قسم تعيس شقي و هو المضيّع لخصال الخير كلها و هو الذي لا ينكر المنكر أبدا لا بيده و لا بلسانه و لا بقلبه و ذلك بتعبير الإمام ميت الأحياء ففي الصورة حي يتحرك و في الواقع ميت لأن من لا خير فيه فهو ميت و إن لم يوفى من سجل الأحياء ثم إنه عليه السلام عظّم الأمر بالمعروف و جعل أعظم الأمور شيئا ضئيلا حقيرا بجانبه لما له من أهمية و عظمة و دور في إحقاق الحق و إزهاق الباطل و ما أعمال البر المتمثلة بالصدقات و الصلاة و حتى الجهاد في سبيل اللّٰه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلا شيء ضئيل حقير كنفثة في بحر لجي مثل ما يخرج من الفم عند النفخ مقابل البحر المتماوج...

ص: 482

ثم رغب بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بأنهما لن يقربا أجلا و لن ينقصا من رزق و إذا كان العمر بيد اللّٰه و الرزق منه فلا يضرك ما أمرت بالمعروف و نهيت عن المنكر ثم ذكر أن أفضل من ذلك أن يقف المسلم أمام ظالم جبار فيواجهه بكلمة العدل و يتحداه بالحق و يرده عن طغيانه بأن يأمره بالمعروف و ينهاه عن المنكر و كان ذلك أعظم لأنه يفتح أمام المتخوفين على أنفسهم و شخصيتهم و وظائفهم يفتح أمامهم باب الإنكار عليه و يكون قدوة صالحة لكل الأحرار و إمام في تحدي الجبابرة و الظالمين...

375 - و عن أبي جحيفة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أوّل ما تغلبون (1) عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثمّ بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا، و لم ينكر منكرا، قلب فجعل أعلاه أسفله (2)، و أسفله أعلاه.

اللغة

1 - غلب على الشيء: أخذ منه بالغلبة أي بالقهر.

2 - أسفل الإناء: قعره.

الشرح

لقد شلت أيدي المسلمين عن الجهاد و هذه هي الأمة الإسلامية بعدتها و عديدها تقف متفرجة على ما يجري في فلسطين حيث سلب اليهود القدس و دنسوا الحرم و أذاقوا المسلمين المحن و البلايا و هذه الألسنة المؤمنة قد كفّت عن إنكار المنكر لوجود جواسيس السلطان و مخابراته الذين يحصون على الناس أنفاسهم و من اشتبهوا به غيبوه في ظلمات السجن مع العذاب و الهوان و لذا لا نرى أصوات علماء الإسلام ترتفع في وجه الظالمين من الحكام و الرؤساء حتى يقتلوا و يعذبوا أو يشردوا...

و لم يبق عند المسلمين إلا الإنكار بالقلب و حتى هذا قد فقد عند الكثيرين فأصبحوا يمرون على المعصية دون أن تؤذي شعورهم أو تحركها و مثل هؤلاء يقلب أعلاهم أسفلهم و أسفلهم أعلاهم كناية عن نزوله إلى درك الحيوانية بدل أن يرتفع إلى درجات الكمال و أعلى المراتب السامية...

ص: 483

376 - و قال عليه السلام: إنّ الحقّ ثقيل مريء (1) و إنّ الباطل خفيف وبيء (2).

اللغة

1 - مريء: سهل هنيىء.

2 - وبيء: كثير الوباء و هو المرض العام.

الشرح

الحق و إن كان ثقيلا على النفس لكنه هنيء طيب و الباطل و إن كان سهلا ميسورا لكنه مهلك مميت، فمن أعطى الحق كان قاسيا عليه و لكنه في الآخرة عاقبته حسنة و طيبة و من دفع الحق و أخذ الباطل و إن كان الدفع سهلا ميسورا و الباطل مؤنس و لكن عاقبته جهنم و بئس الدار.

377 - و قال عليه السلام: لا تأمننّ على خير هذه الأمّة عذاب اللّٰه، لقوله تعالى: «فَلاٰ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخٰاسِرُونَ » و لا تيأسنّ لشرّ هذه الأمّة من روح اللّٰه (1) لقوله تعالى: «إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ » .

اللغة

1 - روح اللّٰه: بالفتح رحمته.

الشرح

الإنسان المسلم بين الخوف و الرجاء فمهما عمل من الصالحات ينبغي أن يستمر خوفه و لا يأمن عقاب اللّٰه و عذابه و مهما عصى و أساء ينبغي أن لا ييأس من رحمة اللّٰه و كرمه... و الآيتان تشهدان بهذا...

ص: 484

378 - و قال عليه السلام: البخل جامع لمساوئ العيوب، و هو زمام (1) يقاد به إلى كلّ سوء.

اللغة

1 - الزمام: المقود.

الشرح

البخل مجمع الرذائل فإن البخيل يمنع حق نفسه و حق الناس و حق اللّٰه و البخيل يبخل بما له و يبخل بنفسه و يبخل بكل خير و البخيل يطارد الناس من أجل جمع أموالها إليه و ضمها إليها فهو كدودة القز يجمع ليموت دون أن يستفيد مما يجمع و البخل كالزمام الذي يقود البخيل إلى كل سوء ففتش عن كل رذيلة تجد منشأها البخل...

379 - و قال عليه السلام: يا بن آدم، الرّزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك. فلا تحمل همّ سنتك على همّ يومك! كفاك كلّ يوم على ما فيه، فإن تكن السّنة من عمرك فإنّ اللّٰه تعالى سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قسم لك، و إن لم تكن السّنة من عمرك فما تصنع بالهمّ فيما ليس لك، و لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن يغلبك عليه غالب، و لن يبطىء (1) عنك ما قد قدّر لك.

اشارة

قال الرضي: و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب، إلا أنه ها هنا أوضح و أشرح، فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول الكتاب.

اللغة

1 - يبطىء: يتأخر.

ص: 485

الشرح

الرزق رزقان، رزق يحتاج إلى أن تسعى وراءه و تهيء الأسباب للحصول عليه و هذا ما تعارف الناس عليه و سار عليه العقلاء و دعا إليه رب السماء و هناك رزق يقدره اللّٰه لك لم يكن باجتهادك و كدك و طول باعك، و قد سمعنا بأرزاق كثيرة لم تكن في منظور أصحابها من قريب أو بعيد بعثها اللّٰه، و قد علمنا للّٰه أنك إذا أخلصت له النية و توكلت عليه يرزقك من حيث لا تحتسب و كم من باب للرزق يقفل و إذا بالعبد يتغير وضعه و يسيء الظن باللّٰه من أين يأتيه الرزق و إذا بالأبواب تفتح أمامه و تكون أعظم و أحسن من الباب الذي أقفل ثم إن الإمام نهانا أن نشغل فكرنا و نحمل همّ سنتنا التي لم تأت بل علينا أن نهتم بيومنا فإن حصلنا على رزقنا فيه فقد أوتينا خيرا كثيرا و أما همّ السنة فإن كانت من أعمارنا يأتينا رزقنا فيها و إلا فلما ذا نجمع و نتعب و أن اللّٰه بيده الأرزاق لا يستطيع أحد أن يأكل رزقك المقدر لك و لن يبطىء الرزق إذا كتبه اللّٰه لك فالرزق من اللّٰه و هو الذي يضعه أين يشاء و كيف يشاء و متى يشاء...

380 - و قال عليه السلام: ربّ مستقبل يوما ليس بمستدبره، و مغبوط (1) في أوّل ليله، قامت بواكيه في آخره.

اللغة

1 - الغبطة: أن تتمنى ما عند الغير من النعمة دون أن تزول عنهم.

الشرح

قد يطلع عليك الفجر و تستقبل يومك الجديد و يكون هو يومك الأخير الذي لا يخرج عنك إلا و أنت تحت التراب و قد تسهر ليلتك بالبهجة و السرور مع عائلتك و أطفالك و أصدقائك و أحبابك ثم في آخر الليل تقوم عليك البواكي من نسائك و أطفالك لفقدك و نهاية حياتك و هذا تحذير للإنسان أن لا يطمئن إلى الدنيا و يبقى باستمرار ذاكرا الموت و الحساب.

381 - و قال عليه السلام: الكلام في وثاقك (1) ما لم تتكلّم به، فإذا

اشارة

ص: 486

تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن (2) لسانك كما تخزن ذهبك و ورقك (3)، فربّ كلمة سلبت نعمة و جلبت (4) نقمة (5).

اللغة

1 - الوثاق: ما يشد به و يربط.

2 - اخزن: احفظ.

3 - الورق: بفتح فكسر الفضة.

4 - جلبت: أتت به.

5 - النقمة: المصيبة.

الشرح

نهى عن الاسترسال في الكلام و أن يفكر الإنسان فيما يقول قبل أن يقول فإن الكلام قبل أن تطلقه فهو مملوك لك و ليس لأحد حق عليك و أما إذا تكلمت به فقد صرت في وثاقه و تحولت أنت إلى عبد له تحتاج إلى الدفاع عن نفسك و إلى تأويل ما تكلمت به فلذا يجب أن يحفظ اللسان كما يحفظ الفضة و الذهب و يحافظ عليه كما يحافظ عليها إذ ربما صدرت منك كلمة سلبت منك رزقك و نعمتك بل ربما جاءتك بمصيبة دامية قد تأخذك إلى عالم الآخرة...

382 - و قال عليه السلام: لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم، فإنّ اللّٰه فرض (1) على جوارحك كلّها فرائض يحتجّ بها عليك يوم القيامة.

اللغة

1 - الفرض: الواجب.

الشرح

(لا تقل ما لا تعلم) لأنك سوف تندم و تذم و يضحك عليك من يعلم لأنك ستنكشف له و سيقف على جهلك (بل لا تقل كل ما تعلم) إذ ليس كل العقول تتقبل ما

ص: 487

تعلم فلئلا ترمى بالكذب أو المبالغة القريبة من الكذب تجنب ذلك و لأن اللّٰه فرض على جوارحك من العين إلى اللسان إلى اليدين فرائض يحتج بها عليك إن قصرت يوم القيامة و هو يوم عصيب و اللّٰه عليك حسيب...

383 - و قال عليه السلام: احذر (1) أن يراك اللّٰه عند معصيته، و يفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين، و إذا قويت (2) فاقو على طاعة اللّٰه، و إذا ضعفت فاضعف عن معصية اللّٰه.

اللغة

1 - احذر: اخش و خف.

2 - قويت: قدرت.

الشرح

تحذير عن المعصية و دعاء إلى الطاعة لما في المعصية من العقاب و لما في الطاعة من الثواب و أن من يراه اللّٰه على المعصية و يفقده في الطاعة هو من الأخسرين يوم القيامة الذين يعضون أيديهم من الندامة و الخزي ثم ارشد الناس إلى أن من أراد أن يكون قويا فليكن قويا على طاعة اللّٰه المتمثلة بجهاد الأعداء و إقامة أسس العدل و الحق و حمل شعار الأحرار و الثوار للقضاء على الكفار و الاستعمار و بمقدار طاعة اللّٰه يجب أن يكون ضعيفا عن معصيته لما فيها من التمرد و العصيان و ما وراءها من مخلفات الاستعباد و الاستبداد...

384 - و قال عليه السلام: الرّكون (1) إلى الدّنيا مع ما تعاين (2) منها جهل، و التّقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثّواب عليه غبن، و الطّمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار له عجز.

اشارة

ص: 488

اللغة

1 - ركن: سكن و اطمأن.

2 - تعاين: ترى بعينك.

الشرح

أجهل الناس و أسخفهم من رأى الدنيا و نكباتها و ما ترمي به أهلها من المصائب و المحن و البلايا ثم ينام بهدوء و يركن إليها مطمئنا إلى أنه من أصحاب الحظوظ العظيمة فهذا هو الجهل المطبق على العقل الذي يمنع من الاعتبار و التفكير.

و المغبون الذي يخسر و لا يربح هو ذلك الذي يثق بأن على الطاعة الثواب و الأجر و لكن مع ذلك لا يكمله و لا يتمه و لا يخرجه على وجهه الشرعي المطلوب الذي أمر به اللّٰه جزاء و شرائط و واجبات...

و العجز في الرأي من اعتمد على أحد بعد الاختبار و الامتحان فكيف بمن لم يختبر و لم يجرب الأشخاص ثم يعتمد عليهم فهو أشد عجزا و لا يستطيع أن يخرج إن كبى.

385 - و قال عليه السلام: من هوان (1) الدّنيا على اللّٰه أنّه لا يعصى إلاّ فيها، و لا ينال (2) ما عنده إلاّ بتركها.

اللغة

1 - الهوان: الحقارة و الذل.

2 - ينال: يدرك.

الشرح

الدنيا مرتع الشيطان و فيها تكون المعصية و التمرد و يكون الشقاء، فيها يجري سفك الدماء و هتك الأعراض و الاعتداء على الممتلكات، فيها يعصى اللّٰه و يتجرأ على العصيان و ذلك كله يدلل على هوانها عند اللّٰه و احتقاره لها و من أراد أن ينال الجنة و الثواب و ما أعده اللّٰه للأولياء، فعليه أن يتركها و يترك ما فيها...

ص: 489

386 - و قال عليه السلام: من طلب شيئا ناله (1) أو بعضه.

اللغة

1 - ناله: حصل عليه و أدركه.

الشرح

كل من أراد شيئا في الدنيا و سعى له و ذلل الصعوبات من أمامه استطاع الوصول إليه كله و إلا فبعضه و قد سمعنا و رأينا كثيرا من هذه النماذج فهناك عشاق الكراسي قد و صلوا إلى أمنياتهم و طموحاتهم و هناك عشاق المال أضحوا بعد تصميمهم و جهادهم للفقر فوق ما كانوا يتمنونه و هكذا كثيرون من الذين صمموا على إدراك أمر قد أدركوه أو بعضه...

387 - و قال عليه السلام: ما خيرء بخير بعده النّار، و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة، و كلّ نعيم دون (1) الجنّة فهو محقور (2)، و كلّ بلاء (3) دون النّار عافية.

اللغة

1 - دون: غير.

2 - محقور: الحقير المحقّر.

3 - بلاء: مصيبة، كل أمر مكروه.

الشرح

لا نستطيع أن نقول إن هناك خير في عمل إذا أعقبته النار و كانت النهاية و كان المصير جهنم و لا نستطيع أن نقول لشيء أنه شر إذا أعقبته الجنة و كانت خاتمته و نهايته رحمة اللّٰه، فالعمدة في الجنة و النار و في رضى اللّٰه و غضبه فإن حسن العمل بما يعقبه و كل نعيم إذا كان غير الجنة فهو حقير صغير قليل تافه و كل بلاء مهما كان عظيما إذا لم يؤدي إلى النار فهو مقبول و عافية، و هذا ترغيب في الجنة و تنفير من النار...

ص: 490

388 - و قال عليه السلام: ألا و إنّ من البلاء (1) الفاقة (2)، و أشدّ من الفاقة مرض البدن، و أشدّ من مرض البدن مرض القلب، ألا و إنّ من صحّة البدن تقوى القلب.

اللغة

1 - البلاء: المصيبة، و كل أمر مكروه.

2 - الفاقة: الفقر و الحاجة.

الشرح

الابتلاء في الدنيا لا ينتهي و الأمراض مستمرة متعاقبة و لكن بعضها أخف من بعض إذ رب مرض أخذ معه الإنسان و رب مرض أخذ معه الإيمان و من البلاء الحاجة إلى الناس و أشد من الحاجة إلى الناس و أمضى منها و أقسى مرض البدن الذي لا يشعر الإنسان معه بلذة الحياة و نعيمها و خيرها و أشد من مرض البدن و أقسى منه مرض القلب، المعبر عنه بالنفاق و التذبذب و عدم الاستقامة و في مقابل هذه الابتلاءات هناك نعم توازيها فالغنى نعمة و الصحة نعمة و تقوى القلب و الإيمان و الورع عن المحارم من سلامة القلب و تقواه نعمة نسأل اللّٰه إدامة النعمة و إزالة النقمة...

389 - و قال عليه السلام: من أبطأ (1) به عمله لم يسرع به نسبه. و في رواية أخرى: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب آبائه.

اللغة

1 - أبطأ: تأخر.

الشرح

من كان سيئ العمل مؤذ غير عامل بأمر اللّٰه فإن نسبه و إن كان يرجع إلى الآباء العظام و المحققين الكبار بل لو كان يرجع إلى أعظم الأنبياء و سيدهم محمد فإنه لن ينفعه

ص: 491

نسبه و لم يفده آباؤه و هذه دعوة إلى العمل الجيد و إلى أن يصل الإنسان بعمله إلى أعلى المراتب و لا يعتمد على النسب فإنه لا يفيد...

390 - و قال عليه السلام: للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربّه، و ساعة يرمّ (1) معاشه (2)، و ساعة يخلّي بين نفسه و بين لذّتها فيما يحلّ و يجمل. و ليس للعاقل أن يكون شاخصا (3) إلاّ في ثلاث: مرمّة (4) لمعاش، أو خطوة في معاد (5)، أو لذّة في غير محرّم.

اللغة

1 - يرم: بكسر الراء و ضمها أي يصلح.

2 - المعاش: ما تكون به الحياة ما يتعيش به من المأكل و المشرب.

3 - شاخصا: راحلا.

4 - المرمة: بالفتح الإصلاح.

5 - المعاد: يوم القيامة.

الشرح

تقسيم الزمن و الالتزام بكل قسم بما يناسبه من أروع الأمور و أشدها فائدة فلا يضيع رأس المال - و هو العمر - سدى و بدون ثمرة و الإمام هنا يقسم لنا الزمن و يضع لنا برنامج إجمالي و مفاده أن يومك المكور عليك من بياض النهار و سواد الليل يجب أن تقسمه إلى ثلاثة أقسام، فساعة تناجي فيها ربك تتعبد، تصلي، تدعو، تتضرع إلى اللّٰه و ساعة ثانية ترمّ معاشك، أي تصلحه فتبحث عما تستفيده لتستغني عن الناس و تكف يدك عنهم و وجهك أن يضرع إليهم بذل العطية و ساعة ثالثة أن تكون خاصة لمتعتك و لذتك المحللة مع زوجتك و نزهتك و العيش مع أطفالك و ليس للعاقل أن يكون شاخصا أي مرتحلا، متنقلا إلا في ثلاث مرمة لمعاش، لإصلاح معاشه أو خطوة في معاد، من أجل الآخرة و ما بعدها أو لذة في غير محرم كأن يقصد أهله البعيدين عنه فهذه الثلاثة يحل معها السفر و الارتحال...

ص: 492

391 - و قال عليه السلام: ازهد في الدّنيا يبصّرك (1) اللّٰه عوراتها (2)، و لا تغفل فلست بمغفول عنك!.

اللغة

1 - يبصّرك: يعرفك.

2 - العورات: جمع العورة ما يستحي الإنسان من كشفه أمام الناس و المراد هنا عيوبها.

الشرح

قد قيل: حبك للشيء يعمي و يصم و نحن لم ندرك عيوب الدنيا و نقف على مسالبها لأننا نحبها فإذا أردنا أن نعرف عيوبها و سيئاتها فما علينا إلا أن نزهد فيها، فإذا زهدنا فيها استطاع بصرنا أن ينفذ إلى داخلها و يحكم عليها بنزاهة و موضوعية، و ينبغي على الإنسان أن لا يغفل عما يراد به و عما هو مطلوب به لأنه غير مغفول عنه سيحاسب على كل كبيرة و صغيرة و سيقف أمام علام الغيوب و كاشف الكروب...

392 - و قال عليه السلام: تكلّموا تعرفوا، فإنّ المرء مخبوء (1) تحت لسانه.

اللغة

1 - مخبوء: مستور و مختفي.

الشرح

الناس صناديق مغلقة و محكمة الغلق لا يعرف ما فيها إلا بفتحها فإذا فتحت عرفت و إذا كان الإنسان صامتا لا تعرفه و لا تعرف داخله و لا تستطيع الدخول إلى قلبه و سره و لكن دعه يتكلم فتعرف من خلال حديثه وعيه الإسلامي و تعرف منطقه و تعرف نفسيته و جميع شئونه، فهذا اللسان إذا انطلق كشف حقيقة الإنسان و وضعه في موضعه...

ص: 493

393 - و قال عليه السلام: خذ من الدّنيا ما أتاك، و تولّ (1) عمّا تولّى عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل (2) في الطّلب.

اللغة

1 - تولّ : أعرض.

2 - أجمل في الطلب: اعتدل.

الشرح

إذا أقبلت عليك الدنيا بشيء فخذه و إذا أدبرت عنك بشيء فاصرف وجهك عنه و لا تذهب نفسك عليه حسرات و إذا كنت لا تريد ذلك و لا تقنع به فقصر الطلب و اجعله ضمن الحلال دون التجاوز به إلى الحرام...

394 - و قال عليه السلام: ربّ قول أنفذ (1) من صول (2).

اللغة

1 - نفذ السهم: خرق الهدف و خرج منه.

2 - الصول: السطوة.

الشرح

الصول معناه السطوة أي قد يبلغ الإنسان بالقول ما لا يبلغه بالسطوة و القوة و أن الرفق أنفذ من العنف و أقوى أثرا و قد يقال: إن الشخص قد تؤذيه الكلمة أكثر مما يؤذيه السيف إذ رب شخص يكون الكلام على عرضه و شرفه أشد أثرا عنده من أن تطعنه بالسيف لما في الأول من الهتك و الفضيحة دون الثاني...

395 - و قال عليه السلام: كلّ مقتصر (1) عليه كاف.

اشارة

ص: 494

اللغة

1 - اقتصر عليه: اكتفى به.

الشرح

هذا من باب القناعة و أن من قنع بما قسمه اللّٰه له اكتفى به و اقتصر عليه و أما من كان طامعا فلا يكفيه ما بيديه حتى يطلب ما بيد غيره و يبقى طيلة عمره في حاجة لأنه كلما سدت حاجة انفتحت له حاجات...

396 - و قال عليه السلام: المنيّة (1) و لا الدّنيّة (2)! و التّقلّل (3) و لا التّوسّل (4). و من لم يعط قاعدا لم يعط قائما، و الدّهر يومان: يوم لك، و يوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر (5)، و إذا كان عليك فاصبر!.

اللغة

1 - المنية: الموت.

2 - الدنية: التذلل و النفاق و الخسة.

3 - التقلل: الاكتفاء بالقليل.

4 - التوسل: الخضوع لأهل الدنيا و جعلهم وسيلة لبلوغ مرامه.

5 - بطر النعمة: استخفها فلم يشكرها طغى بالنعمة فصرفها إلى غير وجهها.

الشرح

هذه كلمات علوية أرق من النسيم و أطيب ريحا من المسك انتشرت بين الناس و أضحت شواهدا يستشهد بها الكتاب و الأدباء و الشعراء و الخطباء من منا لم يقل المنية و لا الدنية و يستشهد بها لعزة النفس و الإباء و للترفع عن الدنايا و العار فالموت أطيب من العار و المذلة.

(و التقلل و لا التوسل) القليل مما تملك و القناعة فيه خير من التضرع على أبواب الزعماء و الوجهاء و أصحاب الكراسي و قد رأينا خساسة بعض المعممين الذين عملوا

ص: 495

كخدم في بيوت الزعماء من أجل وظيفة و بعضهم باع كرامته بل فقدها من أجل أن يتزلف إلى صاحب مقام و وجيه... و إذا كنا نتكلم عن العلماء فلأنهم الطبقة الراقية و لأنهم الأكمل في سلم الكمال و أما غيرهم من العوام فغضّ الطرف و لا تسأل...

(و من لم يعط قاعدا لم يعط قائما) هذا حث على الإجمال في الطلب و أن الرزق مقسوم و أن اللّٰه إذا لم يعطك بالسعي البسيط لم يعطك بالسعي الحثيث...

(و الدهر يومان يوم لك و يوم عليك) و هذه حكمة عظيمة تنحني لها الرءوس بخضوع و خشوع... الدهر يومان فتارة تقبل عليك الدنيا و يقول لك الكريم خذ ما شئت من أموال و أولاد و جاه و سلطان ليختبر طاعتك و التزامك و مقدار محافظتك على النعمة فإذا كان اليوم يومك... و أنزلت عليك النعم و البركة فلا يأخذك البطر و تروح تسرف و تبذر و تمنع حق اللّٰه و حق العباد و لا تتسلط على رقاب الناس بسلطانك و جاهك...

و أما إذا كان الدهر عليك فسلبك عزك و أموالك و أولادك و سلطانك فلا تيأس و اصبر و احتسب فإنما هو امتحان أرادك اللّٰه له ليرى هل تنجح فيه أم ترسب... و على كل حال سيزول و لن يبقى أبدا... فالصبر سيقطعه و ستنتصر إن بقيت على تقوى اللّٰه و الالتزام بأوامر اللّٰه...

397 - و قال عليه السلام: نعم الطّيب (1) المسك (2)، خفيف محمله، عطر ريحه.

اللغة

1 - الطيب: كل ذي رائحة عطرة.

2 - المسك: طيب يستخرج من دابة كالظبي.

الشرح

هذا مدح للمسك بما أنه طيب و ذو رائحة طيبة تنعش الروح و تفرح القلب و قد كان رسول اللّٰه يحب الروائح الطيبة و خصوصا المسك و المؤمن رائحته كالمسك، من جهة الكرم و الشجاعة و العفة و النزاهة و رائحته أيضا عطرة تتنسمها الأنوف فتعشقها و هذه دعوة إلى أن تكون رائحة المؤمن طيبة باستمرار...

ص: 496

398 - و قال عليه السلام: ضع (1) فخرك (2)، و احطط كبرك (3)، و اذكر قبرك.

اللغة

1 - ضع: اترك.

2 - الفخر: التباهي، التمدح بالمناقب و الخصال و المكارم.

3 - الكبر: التكبر.

الشرح

بماذا تفتخر، بالمال أم بالجاه، أم بالسلطان أم بالحسب أم بالنسب فكلها لن تغني عنك من اللّٰه شيئا و لن تنفعك يوم حشرك و نشرك و عرضك على الواحد الديان و إذا كانت كلها لا تنفعك فاتركها و اهجرها وضعها جانبا لا تتكلم بها و لا تفتخر فيها...

و كبريائك بماذا اكتسبتها؟ و لما ذا تتكبر؟ تتكبر لأصلك فأصلك نطفة أم تتكبر لنهايتك و نهايتك جيفة نتنة تشتمئز منها النفوس إذن انزل عن كبريائك و تنازل عنها و اذكر قبرك عند كل موقف تجمع نفسك إلى العلو و تطغى في الضلال، اذكره فإنه مقام مرعب و مكان رهيب ما تصوره جبار أو عظيم إلا و ارتعش، إنها نهاية في بيت الوحدة و بيت الوحشة و بيت الغربة لا يؤنس فيه إلا العمل الصالح...

399 - و قال عليه السلام: إنّ للولد على الوالد حقّا، و إنّ للوالد على الولد حقّا. فحقّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلّ شيء، إلاّ في معصية اللّٰه سبحانه، و حقّ الولد على الوالد أن يحسّن اسمه، و يحسّن أدبه، و يعلّمه القرآن.

الشرح

حق الوالد على الولد ليس له حدود و إنما يجب على الولد أن يطيعه في كل أمر أو نهي إلا أن يكون في ذلك معصية للّٰه فلا طاعة عندئذ لمخلوق في معصية الخالق و هذا

ص: 497

مأخوذ من قوله تعالى: «أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا» .

و أما حق الولد فتحسين الاسم لئلا ينبذ به أو يساء إليه به أو يستهجن منه أو يتخذ سخرية و استهزاء و قد وردت أحاديث كثيرة في اختيار الأسماء الجميلة ذات المعاني اللطيفة كأحمد و محمود و عبد الله و أما تحسين أدبه فهذا الثمرة العظيمة و أفضل ما ورثه الآباء للأبناء و هو أن يكون الولد مؤدبا مع الناس معظما و محترما لهم لا يؤذي و لا يعتدي و أما تعليمه القرآن فلأنه الأساس لاستقامته و عدالته و تقواه و هو الأخذ بيده إلى العمل الموصل للجنة و حسن العاقبة...

400 - و قال عليه السلام: العين حقّ ، و الرّقى (1) حقّ ، و السّحر حقّ ، و الفأل (2) حقّ ، و الطّيرة (3) ليست بحقّ ، و العدوى (4) ليست بحقّ ، و الطّيب (5) نشرة (6)، و العسل نشرة، و الرّكوب نشرة، و النّظر إلى الخضرة نشرة.

اللغة

1 - الرقي: من الرقية و هي ما يستعان به للحصول على أمر أو دفعه بقوى تفوق القوى الطبيعية.

2 - الفأل: ضد الشؤم و هو ما يستبشر برؤيته و يتوقع من خلالها المسرة.

3 - الطيرة: ما يتشاءم به.

4 - العدوى: انتقال المرض من مريض إلى سليم.

5 - الطيب: كل ذي رائحة عطرة.

6 - نشرة: نشاط و قوة و في الأصل رقية يعالج بها المجنون أو المريض سميت بذلك لأنها تكشف ما به من الداء.

الشرح

العين حق: أي إصابة العين و تأثيرها في بدن المصاب بمرض أو وجع واقع و هذا من المجربات و قد كان النبي يعوذ الحسنين بالمعوذتين...

ص: 498

الرقى حق: و هي أدعية أو أذكار أو قرآن يقرأ فيرتفع الأذى عن المصاب بالعين و ما أشبه ذلك.

و السحر حق: و هذا واقع و من مسلمات الأمور على اختلاف تفسيره و تأويله.

الفأل حق: دعوة إلى الفرح بالأمور التي يراها الإنسان و يستبشر بها و أما الطيرة فهو التشاؤم و هي حالة نفسية رفعها الشرع برفضها كفكرة و عالجها بالصدقة ثم المضي في الأمر المتوجه إليه.

و العدوي ليست بحق: انتقال المرض لا يكون إلا في بعض الأمراض الخبيثة و مثل هذه دعا الشرع إلى الفرار من المصاب بها كالجذام فقال: فرّ من الجذام فرارك من الأسد و أما هنا فهي دعوة إلى ما يسري بين الناس من أمراض اعتادوا عليها و لا تنقل بسرعة فيجب أن لا يعيش الإنسان حالة الخوف منها،. و أما بقية الأمور من العسل و أخويه فهي تجدد نشاط الإنسان و تحرك فيه روح الجد و يجد فيها لذة و نشوة.

401 - و قال عليه السلام: مقاربة (1) النّاس في أخلاقهم أمن (2) من غوائلهم (3).

اللغة

1 - قاربه: داناه.

2 - أمن: سلامة.

3 - الغوائل: جمع الغائلة و هي العداوة و الشر و الغوائل هي الدواهي.

الشرح

و متى قربت أخلاق الناس بعضها من بعض انسجمت و ائتلفت و أمن كل شر الآخر و أما إذا تنافرت الأخلاق و اختلفت تباغض الأشخاص و بغى بعضهم على بعض و هي دعوة إلى مداراة الناس و الرفق بهم في حدود الالتزام الشرعي المسموح به...

و المجاملة مطلوبة و مرغوبة...

ص: 499

402 - و قال عليه السلام لبعض مخاطبيه، و قد تكلم بكلمة يستصغر مثله عن قول مثلها:

اشارة

لقد طرت شكيرا، و هدرت سقبا.

قال الرضي: و الشكير ها هنا: أول ما ينبت من ريش الطائر، قبل أن يقوى و يتسحصف.

و السقب: الصغير من الإبل، و لا يهدر إلا بعد أن يستفحل.

الشرح

و هذا مثل قولهم في المثل: تزبزب قبل أن يتحصرم...

403 - و قال عليه السلام: من أومأ (1) إلى متفاوت (2) خذلته الحيل (3).

اللغة

1 - أومأ: أشار.

2 - المتفاوت: المتباعد.

3 - خذلته الحيلة: تخلت عنه المكيدة و لم يفلح بها.

الشرح

من أراد أن يجمع بين المتناقضات عجز عن ذلك و لم يقدر عليه كمن يريد أن يطيع اللّٰه و يطيع العصاة من الأمة فإنه لا يقدر على الجمع بينهما.

404 - و قال عليه السلام، و قد سئل عن معنى قولهم: «لا حول و لا قوّة إلاّ باللّٰه»: إنّا لا نملك مع اللّٰه شيئا، و لا نملك إلاّ ما ملّكنا، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، و متى أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.

اشارة

ص: 500

الشرح

المالك الحقيقي هو اللّٰه تعالى، فهو يملكنا و يملك ما نتصور أنه مملوك لنا و كلمة لا حول تعني لا حركة، و لا قوة تعني القدرة و الطاقة فالحركة و القوة و القدرة من اللّٰه وحده فإذا كنا لا نملك شيئا من ذلك إلا بمقدار ما سمح به جوده فمتى ملّكنا و أعطانا كلّفنا بمقدار طاقتنا إذ العاجز لا يكلف و لذا متى سلب التمليك سلب منا التكليف و هذا إقرار بالعجز و الحاجة إلى اللّٰه...

405 - و قال عليه السلام لعمار بن ياسر، و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما: دعه يا عمّار، فإنّه لم يأخذ من الدّين إلاّ ما قاربه (1) من الدّنيا، و على عمد لبس على نفسه (2)، ليجعل الشّبهات عاذرا لسقطاته (3).

اللغة

1 - قاربه: داناه و المقصود هنا ما نفعه.

2 - لبس على نفسه: خلط عليها الأمر فجعلها تشتبه.

3 - السقطات: الزلات.

الشرح

اشارة

المغيرة بن شعبة الداهية الفاجر الذي يستخدم الدين و المباديء و الكرامة و كل شيء في سبيل تحقيق دنياه و الحصول عليها و قد يموّه على نفسه ببعض المواقف التي تستلزم أكثر من تفسير لتكون عذرا له عند محاسبته و مخرجا يستطيع الاعتذار به عند ما يحرج أو يضطر للعذر و قد كان عمار يحاوره في بعض الأمور و قد سمعه الإمام فنهاه عن محاورته لأنه أخبر بنفسيته و ما تنطوي عليه روحه النجسة...

ترجمة المغيرة بن شعبة.

المغيرة بن شعبة بن أبي عامر(1) بن مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف.

ص: 501


1- طبقات ابن سعد ج 4 ص 284.

و أمه اسمها أسماء بنت الأفقم.

و يكنى أبا عبد اللّٰه و كان داهية.

غدر بثلاثة عشر رجلا من بني مالك كان معهم في أثناء عودتهم من الإسكندرية بعد زيارتهم للمقوقس ثم سلبهم أموالهم و ما كان معهم و دخل مسجد النبي فأسلم و وضع المال بين يديه فقال له النبي (صلی الله علیه و آله) : أما إسلامك فقبلته و لا آخذ من أموالهم شيئا و لا أخمسه لأن هذا غدر.

رماه الإمام بالكذب عند ما ادعى أنه أحدث الناس عهدا برسول اللّٰه يوم و فاته.

تولى لعمر ولاية البصرة و عزله عنها لما كتب له أبو بكرة بأن المغيرة قد زنى في قصة طويلة مفادها أن ثلاثة من الشهود شهدوا و تردد زياد بن أبيه ليخلص المغيرة فجلد الشهود و نجا المغيرة.

و كان سنة 22 واليا لعمر على الكوفة و لما تولى عثمان الخلافة عزله عنها سنة 24.

كان المغيرة من جملة من تخلف عن بيعة الإمام.

و بعد الصلح بين الإمام الحسن و معاوية سنة 41 ولّى معاوية للمغيرة الكوفة و لما أراد أن يعزله أعطاه عهدا أن يدعو لبيعة يزيد و هكذا أعاده إلى الكوفة و وطأ لذلك.

توفي سنة 50 و قيل سنة 51 و قيل سنة 49.

406 - و قال عليه السلام: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند اللّٰه! و أحسن منه تيه (1) الفقراء على الأغنياء اتّكالا على اللّٰه.

اللغة

1 - التيه: الزهو و التكبر.

الشرح

من عادة الأغنياء أن يطغو و يتكبروا و يتمادوا في الذلة و من عادة الفقراء أن يذلوا

ص: 502

و يخنعوا و يضرعوا إلى من بيده المال و كلتا العادتين سيئة مكروهة لا يرتضيها الإسلام لأتباعه و أمته و من هنا كان الخروج عن هذه العادة و الالتزام بأوامر اللّٰه شيئا عظيما في نظر اللّٰه و كبيرا في ميزانه و الشيء الجميل و الحسن و الذي يستحق التعجب و الرضى أن يتواضع الأغنياء للفقراء و يعاملوهم كما يعاملوا أمثالهم من الأغنياء في الاحترام و التقدير و التواضع و لكن أحسن من ذلك أن يتمتع الفقراء بنفسية الترفع و العلو على الأغنياء، اتكالا على اللّٰه لكي يشعروا الأغنياء بالاستغناء عنهم و عما في أيديهم...

407 - و قال عليه السلام: ما استودع اللّٰه أمرا عقلا إلاّ استنقذه (1) به يوما ما!.

اللغة

1 - استنقذه: خلّصه و نجّاه.

الشرح

العقل زينة الإنسان و رأس ماله الذي لا يعادله شيء آخر فهو أحسن من المال و أحسن من النعمة و أحسن من الأمان و أحسن من كل شيء لأن الإنسان إذا فقد هذه الأمور يبقى إنسانا و يبقى في عداد العقلاء أما إذا فقد العقل فقد خرج من زمرة العقلاء و تحوّل إلى حيوان و لكن في صورة إنسان بل انحطت مرتبته عن الحيوان و من هنا كان العقل أعظم ما في الإنسان و هو المنقذ للإنسان من الورطات و الأزمات و يستطيع أن يتخلص به من الشدائد و المحن في الدنيا و الآخرة إذا أحسن استخدامه و عرف كيف يستعمله و متى يستعمله...

408 - و قال عليه السلام: من صارع الحقّ صرعه.

الشرح

من أراد أن يقف في وجه الحق و يقاومه فلا بد أنه مصروع و كما قيل: إن كان للباطل جولة فللحق دولة و النهاية لصالح الحق مهما انتفخ الباطل و تمدد فما هو إلا ورم

ص: 503

انتفخ يحسبه الإنسان صحة... و بعد هذا كله فاللّٰه هو الحق و إلى جانب الحق و لنا في قصص فرعون و قارون و الأجيال الماضية عبرة عظيمة حيث كانوا على رقاب الناس يسومونهم العذاب و الهوان و قد حاربوا الحق فما هي إلا أيام حتى قضي عليهم و أصبحوا عبرة لمن سواهم...

409 - و قال عليه السلام: القلب مصحف البصر.

الشرح

إن كل ما يقع تحت البصر ينطبع في القلب و يحتفظ به في اللاشعور حتى إذا جاء وقته خرج من مخزنه إلى الخارج، فالقلب كالمصحف المحفوظ فيه كل ما نطق به الوحي.

410 - و قال عليه السلام: التّقى رئيس الأخلاق.

الشرح

التقوى ملكة في النفس يقوم الإنسان من خلالها بالواجبات و يجتنب عن المحرمات و يتورع عن الشبهات بالاجتناب عنها و هي كافية عن غيرها من الصفات و ليس غيرها بكاف عنها و من هنا كانت كالرئيس...

411 - و قال عليه السلام: لا تجعلنّ ذرب (1) لسانك على من أنطقك، و بلاغة قولك على من سدّدك (2).

اللغة

1 - الذرب: الحدة.

2 - التسديد: التقويم و التثقيف.

ص: 504

الشرح

هذا أدب لمن يتعلم بعض العلوم من إنسان ثم يستعلي عليه بما تعلّم منه و أن من أنطقه اللّٰه يجب أن يحوّل لسانه لطاعته و شكره لا أن يستعمل لسانه وحدته و قوته في معصيته و كذلك كل شيء وهبه اللّٰه لك استخدمه في طاعته و ليس في معصيته...

412 - و قال عليه السلام: كفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك.

الشرح

أنت و أنا نرى عيوب الناس، نحصيها و نعددها و نشمئز منها و نكرهها، و هذا بدوره يتطلب منا أن نرتدع عنها و نتجنبها و في اجتنابنا لها أدب عظيم نأخذ به أنفسنا إلى السعادة...

413 - و قال عليه السلام: من صبر صبر الأحرار، و إلاّ سلا (1) سلوّ الأغمار (2).

اللغة

1 - سلا: نسي.

2 - الأغمار: جمع غمر و هو الجاهل الذي ليس له خبرة بالأمور.

الشرح

الإنسان إما أن يصبر صبر الأحرار الذين يتجرعون كأس المصيبة و يفكرون فيها بعقل و رويّة و يعرفون أنهم لن يردوا ميتا و لن يرجعوا فقيدا و إلا فلا بد و أن يمر الزمن و يرتفع الجزع بالنسيان للمصيبة العظيمة كما ينسي الجهال المشاكل و الأحداث بعد مرور وقت من الزمن... و هي دعوة إلى الصبر الجميل الذي لا يحوي الجزع و لا الهلع بل التسليم و الرضى بقضاء اللّٰه و قدره.

ص: 505

414 - و في خبر آخر أنه عليه السلام قال للأشعث بن قيس معزيا عن ابن له:

اشارة

إن صبرت صبر الأكارم، و إلاّ سلوت سلوّ البهائم.

الشرح

صبر الأكارم الذين لا يجزعون و لا يضجون و لا يولولون بل يحتسبون الأمور عند اللّٰه ليؤجروا عليها و أما إذا لم يصبر الإنسان فيكون كالبهيمة التي ينسيها الزمن ما يغيب عن عينها...

415 - و قال عليه السلام في صفة الدنيا: تغرّ و تضرّ و تمرّ، إنّ اللّٰه تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه، و لا عقابا لأعدائه، و إنّ أهل الدّنيا كركب (1) بيناهم حلّوا (2) إذ صاح (3) بهم سائقهم فارتحلوا (4).

اللغة

1 - الركب: هم ركبان الإبل و ما أشبه.

2 - حلوا: نزلوا.

3 - صاح: نادى.

4 - رحل عن المكان: تركه و انتقل عنه.

الشرح

هذه دعوة إلى الزهد في الدنيا و ما فيها و قد نفر عنها بذكر بعض معايبها بأنها تغر الإنسان بزينتها فيتصور أنه ينال منها شيئا يسعده، و كذلك تضره بما فيها من مصائب و الام و محن و تمر عليه مرورا سريعا فتنغصّ عليه طيب حياته و سعادته و من هوانها على اللّٰه أنه سبحانه لم يرض أن تكون ثوابا لأعمال أوليائه و لا عقابا لأعدائه و إنما جعل الثواب و العقاب في الدار الآخرة ثم شبه أهلها بقوم مسافرين أرادوا الارتياح بعض الوقت فخلوا رحالهم و أنزلوا أمتعتهم و بمجرد أن أنزلوها صاح بهم قائدهم بالرحيل فلم يسعدوا بالراحة و لم ينالوا الهدوء حتى ارتحلوا و كذلك حال أبناء الدنيا يبنون و يجمعون حتى إذا

ص: 506

أراد أحدهم أن يستفيد و يرتاح فإذا بيد المنون تمتد إليه لتخطفه من الحياة تاركا وراءه أمواله و أولاده و كل ممتلكاته لم يتمتع بشيء منها...

416 - و قال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تخلّفنّ (1) وراءك شيئا من الدّنيا، فإنّك تخلّفه لأحد رجلين: إمّا رجل عمل فيه بطاعة اللّٰه فسعد بما شقيت به، و إمّا رجل عمل فيه بمعصية اللّٰه فشقي بما جمعت له، فكنت عونا (2) له على معصيته، و ليس أحد هذين حقيقا (3) أن تؤثره (4) على نفسك.

اشارة

قال الرضي: و يروى هذا الكلام على وجه آخر و هو:

أمّا بعد، فإنّ الّذي في يدك من الدّنيا قد كان له أهل قبلك، و هو صائر إلى أهل بعدك، و إنّما أنت جامع لأحد رجلين: رجل عمل فيما جمعته بطاعة اللّٰه فسعد بما شقيت به، أو رجل عمل فيه بمعصية اللّٰه، فشقيت بما جمعت له. و ليس أحد هذين أهلا أن تؤثره على نفسك، و لا أن تحمل له على ظهرك، فارج لمن مضى رحمة اللّٰه، و لمن بقي رزق اللّٰه.

اللغة

1 - خلّف الشيء: تركه وراءه.

2 - العون: المساعد.

3 - حقيقا: جديرا.

4 - تؤثره: تقدمه.

الشرح

نهي عن الادخار للمال و دعوة إلى التصرف فيه في حال الحياة فما تعبت فيه فانفقه في حياتك و لا تتركه إلى من بعدك فإنك تتركه لأحد رجلين كل منهما يتصرف فيه دونك فأنت تجمع و غيرك يصرف و يتمتع فإن كان الرجل صالحا استفاد منه لدنياه و آخرته و إن

ص: 507

كان شقيا استفاد منه في دنياه و تمتع به و كنت أنت قد أعنته على المعصية و العاقل هو الذي يستفيد مما جمعت يداه لدنياه و آخرته و لا يؤثر غيره عليه.

هذا على الرواية الأولى و أما الثانية فهي قريبة منها بزيادة قليلة و هي أن هذه الدنيا كانت لغيرك مما تقدم عليك و هي ستزول عنك و تنتقل لغيرك من بعدك فلا تجمع لغيرك لأنك تجمع لأحد رجلين و ليس أحدهما أحق به منك فارج لمن مضى و مات رحمة اللّٰه و لمن بقي رزق اللّٰه و عطائه و لا تهتم إلا بنفسك و ما ينفعك في آخرتك...

417 - و قال عليه السلام لقائل قال بحضرته: «أستغفر اللّٰه»: ثكلتك أمّك (1)، أ تدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيّين (2)، و هو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، و الثّاني العزم (3) على ترك العود إليه أبدا، و الثّالث أن تؤدّي (4) إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللّٰه أملس ليس عليك تبعة (5)، و الرّابع أن تعمد (6) إلى كلّ فريضة (7) عليك ضيّعتها (8) فتؤدّي حقّها، و الخامس أن تعمد إلى اللّحم الّذي نبت على السّحت (9) فتذيبه بالأحزان، حتّى تلصق الجلد بالعظم، و ينشأ بينهما لحم جديد، و السّادس أن تذيق الجسم ألم الطّاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: «أستغفر اللّٰه».

اللغة

1 - ثكلتك أمك: فقدتك بالموت.

2 - العليين: أعلى درجات الجنة.

3 - العزم: الثبات و الشدة فيما يعزم عليه و ينوي إتيانه.

4 - أدى الشيء: أوصله.

5 - التبعة: ما يترتب على الفعل من شر.

6 - تعمد: تقصد.

7 - الفريضة: ما أوجبه اللّٰه.

ص: 508

8 - ضيّعه: أهمله.

9 - السحت: بالضم المال من كسب الحرام.

الشرح

هذه كلمة صدرت من إنسان لا يعرف معناها و لا مدلولها و لا شروطها أطلقها لقلقة لسان ككثيرين من أهل الذكر الذين ينطقون بما لا يفهمون و يتكلمون بما لا يفقهون فأراد الإمام أن يعلمه و يبين له الوجه الصحيح لكلمته استغفر اللّٰه حتى تكون صادقة و واقعة موقعها، فاستغفر اللّٰه التي يرتقي الإنسان ببركتها إلى أعلى الجنة و أرفع درجاتها ينبغي أن تتضمن.

أولا: الندم على ما مضى من السيئات و الآثام لكي يشعر الإنسان أنه كان على خطأ في مسيرته الماضية فيصحح المسيرة.

الثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا فيطلق ما مضى طلاقا بائنا لا رجعة فيه حتى يصدق الندم السابق و إلا فيكون مغالطا لنفسه مستخفا بها.

و الثالث: أن يؤدي إلى كل ذي حق حقه ممن أكل حقوقهم لتصدق التوبة و إلا فإذا كانت أموال الناس في يده و هي تتراىء أمامه فمعناه أن الذنب يعيش معه و يتحرك بحركته.

الرابع: أن يعمد إلى كل فريضة واجبة عليه قد فوتها باختياره أو قهرا عنه فيقضيها ليكون ذلك ترجمة عملية لتوبته و ترميما لما هدمه من قبل و ما لم يقم فيه من الواجبات عليه.

و الخامس: أن يعمد إلى بدنه فيلاحظ أنه قد تربى على الحرام فيذيبه بالصيام و العبادة و السهر في سبيل اللّٰه حتى يذوب الحرام ثم ينشأ لحم آخر تغذى من الحلال.

السادس: أن يذيق هذا البدن ألم الطاعة و العبادة كما أذاقه حلاوة المعصية فيجتهد في العبادة حتى تتورم قدماه و يصوم حتى يقال إنه لا يفطر و بعد هذه الأعمال كلها يحق له أن يقول استغفر اللّٰه و تقع هذه الكلمة منه موقعها الطبيعي اللائق بها...

418 - و قال عليه السلام: الحلم عشيرة.

اشارة

ص: 509

الشرح

من يحلم يكثر أنصاره و أحبابه و تتحول الناس إليه بشكل طبيعي تطيعه و تحترمه و تقدره و إذا أصابه شيء تداعت كلها لخدمته و السؤال عنه و تفريج همه و إعانته و هل للعشيرة أثر و فائدة أكثر من هذا...

419 - و قال عليه السلام: مسكين (1) ابن آدم: مكتوم (2) الأجل (3)، مكنون (4) العلل (5)، محفوظ العمل، تؤلمه (6) البقّة (7)، و تقتله الشّرقة (8)، و تنتنه (9) العرقة (10).

اللغة

1 - مسكين: فقير.

2 - مكتوم: من كتم الشيء إذا أخفاه.

3 - الأجل: وقت الموت.

4 - مكنون: مستور.

5 - العلل: الأمراض.

6 - تؤلمه: تؤذيه.

7 - البقة: حشرة صغيرة تمتص دم الإنسان.

8 - الشرقة: الغصة بالريق.

9 - النتن: ما خبثت رائحته.

10 - العرقة: الواحد من العرق و هو ما يترشح من بدن الإنسان.

الشرح

الإنسان ضعيف صغير و إن تراءى في نظر نفسه في بعض الأحيان كبيرا و شيئا مهما عظيما و ضعفه في نفسه يتشخّص في أنه لا يعرف متى يفاجئه أجله فيموت و كذلك لا يعرف العلل و الأمراض التي تهجم عليه و تغزو بدنه فرب أكلة كان فيها حتفه و من ضعفه أن عمله محفوظ و محاسب عليه لا يستطيع الخلاص منه و لا الهروب من تبعاته و آثاره...

ص: 510

و أما ضعفه مع غيره ممن هو حقير في نظره و تافه لا يعتد به فالبقة هذه الحشرة الحقيرة تؤلمه و لا تدعه ينام أو يستقر، و لضعفه أيضا هذه الشربة من الماء قد يشرق بها فيموت و لضعفه إذا عرق قليلا آذت رائحته الناس لنتنه و قبيح عرقه...

420 - و روي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال عليه السلام:

اشارة

إنّ أبصار هذه الفحول (1) طوامح (2)، و إنّ ذلك سبب هبابها (3)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته.

فقال رجل من الخوارج: «قاتله اللّٰه كافرا ما أفقهه» فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام:

رويدا (4) إنّما هو سبّ بسبّ ، أو عفو عن ذنب!.

اللغة

1 - الفحول: جمع فحل الذكر من كل حيوان.

2 - طوامح: جمع طامح تقول طمح البصر إذا ارتفع.

3 - الهباب: صوت التيس عند طلبه للشاة و هبّ التيس إذا هاج للضراب.

4 - رويدا: مهلا.

الشرح

هذه حادثة وقف عليها الإمام من أصحابه فأراد أن يخفف من هيجانهم و يعالجهم بما أمكن و قد علل سبب طلبهم للمرأة بأن أنظارهم قد تتبعتها فعشقها القلب و أرادوها لأنفسهم فأرشدهم الإمام إلى أن هذه الحالة علاجها أن يلامس الرجل زوجته فتزول الحرارة و تخمد الشهوة لأنها امرأة كأي امرأة و عند ما سمع الخارجي هذه الحكمة و البيان تعجب من فقه الإمام و رماه بالكفر على حد زعمه و هنا ينبري الأصحاب ليقتلوه فينهاهم الإمام و يقول لهم هذه العبارة العظيمة التي تنعكس فيها كل معالم الحرية و لاإنطلاق و هي سب بسب أو عفو عن ذنب، و لا يقبل أن يواجه الخارجي بأكثر من ذلك و هل في الدنيا عدالة و حرية يمثلها خليفة مثل الإمام... حاشا و كلا...

ص: 511

421 - و قال عليه السلام: كفاك من عقلك ما أوضح (1) لك سبل غيّك (2) من رشدك (3).

اللغة

1 - أوضح: جعله واضحا أي ظاهر بينا.

2 - الغي: الضلال.

3 - الرشد: الاستقامة و الهدى ضد الغي.

الشرح

إذا استطعت بعقلك أن تميز بين الخير و الشر و القبيح و الحسن و الحق و الباطل فقد حصلت على نعمة كبرى لا تعادلها غيرها من النعم فالتمييز هو الخطوة الأولى الصحيحة و المستقيمة في طريق الخير و العدل و كفى بذلك شرفا للعقل و دليلا على الحق...

422 - و قال عليه السلام: افعلوا الخير و لا تحقروا (1) منه شيئا، فإنّ صغيره كبير و قليله كثير، و لا يقولنّ أحدكم: إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي، فيكون و اللّٰه كذلك. إنّ للخير و الشّرّ أهلا، فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهله.

اللغة

1 - لا تحقروا: لا تستصغروا.

الشرح

حث على فعل الخير و إن لا يحتقر الإنسان منه شيئا مهما كان قليلا فإن صغيره يكون عظيما و قليله كثيرا لما له عند المحتاج من وقع و أثر و لا يصح عند العقلاء أن يمتنع الشخص عن فعل القليل من الخير بحجة أنه قليل ثم لا يتصور الإنسان أن أحدا من الناس أولى به من فعل الخير و لما ذا يكون غيره أولى ؟! و هل يسمح لنفسه في تصور

ص: 512

ذلك ؟! و إذا بنى على ذلك فإن الغير يتقدم فعلا عليه و يكون أولى بفعل الخير ثم حذّر و رغّب بأن لكل من الخير و الشر أهل فإن تركتم الخير و الشر صنعه أهلهما و من هنا كان على العاقل أن يختار فعل الخير و يمتنع عن فعل الشر.

423 - و قال عليه السلام: من أصلح سريرته أصلح اللّٰه علانيته (1)، و من عمل لدينه كفاه اللّٰه أمر دنياه، و من أحسن فيما بينه و بين اللّٰه أحسن اللّٰه ما بينه و بين النّاس.

اللغة

1 - العلانية: الظاهر خلاف السر.

الشرح

على العبد أن يقوم بأمر ليتكفل اللّٰه بأمر آخر يحققه له و يكفيه أتعابه و هذه نعمة عظيمة و تفضل من اللّٰه فمن أصلح سريرته و طابت نفسه و عقد العزم على فعل الخير و الإحسان و عدم الإيذاء تكفل اللّٰه له أن يصلح علانيته فلا ينكشف له ستر عن عورة و لا يفتضح بين الناس من زلة و لا يعاب عليه من الناس بشيء و إذا كانت العلانية و السمعة الطيبة بين الناس عاش عزيزا مكرما محترم الجانب، و من عمل لدينه، فأمر بالمعروف و نهى عن المنكر و دعا إلى اللّٰه بالحكمة و الموعظة الحسنة و أدى ما عليه من واجبات و ابتعد عن المحرمات كان على اللّٰه أن يكفيه أمر دنياه فيرزقه و يدفع عنه البلاء و يقيل عثرته و يوفقه لأفضل الأعمال و الخيرات و من أحسن فيما بينه و بين اللّٰه، فتصدق سرا و صنع المعروف مع الناس و أعانهم على مصاعب الحياة و متاعبها و سهل طرق الخير كان على اللّٰه أن يحسن العلاقة بينه و بين الناس و جعلهم يسألون عنه و يتفحصون عن أحواله و يحلون مشاكله و يجعل له ودا عندهم يعطفون عليه و يحبونه...

424 - و قال عليه السلام: الحلم غطاء ساتر، و العقل حسام (1) قاطع، فاستر خلل (2) خلقك (3) بحلمك، و قاتل هواك بعقلك.

اشارة

ص: 513

اللغة

1 - الحسام: السيف.

2 - الخلل: الوهن و الفساد.

3 - الخلق: الطبع و السجية.

الشرح

ورد الحث على الحلم و مدحوا الحلماء و ذكروا أعيانا منهم و بعض مواقفهم العظيمة التي أكبرتهم بها الناس و الحلم غطاء يستر بعض العيوب، يستر الغضب و آثاره السيئة و يمنع الطرف الآخر من التمادي بالإساءة، و من هنا قال الإمام: فاستر خلل خلقك و بعض تصرفاتك السيئة و القبيحة بهذا الحلم و أما العقل فهو الفيصل الذي يحدد طرق الخير و يدعو إليها و يحث على فعلها و من هنا يقول الإمام قاتل هواك و اقض عليه بعقلك و لا تسمح للهوى أن يتحكم فيك أو يسيطر عليك.

425 - و قال عليه السلام: إنّ للّٰه عبادا يختصّهم (1) اللّٰه بالنّعم لمنافع العباد، فيقرّها (2) في أيديهم ما بذلوها (3)، فإذا منعوها نزعها (4) منهم، ثمّ حوّلها (5) إلى غيرهم.

اللغة

1 - يختصهم: يفردهم، يختارهم.

2 - يقرها: يبقيها و يتركها.

3 - بذل الشيء: جاد به و أعطاه.

4 - نزع الشيء من مكانه: قلعه.

5 - حولها: نقلها من مكان إلى آخر.

الشرح

يغدق اللّٰه على بعض عباده بالنعم و يجعلها في أيديهم لتجري منهم إلى الفقراء و المحتاجين و تكون هذه النعم مشروطة البقاء و الدوام و الاستمرار ما دام البذل مستمرا

ص: 514

فإذا بخل العبد بهذه النعم فامتنع عن البذل سحبها اللّٰه منه و منعه عنها ثم حولها إلى غيره و حرمه أجر جريانها على يديه و شرف خدمة الفقراء و المحتاجين الذين هم عيال اللّٰه كما في بعض الأحاديث...

426 - و قال عليه السلام: لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية و الغنى. بينا تراه معافى إذ سقم (1)، و بينا تراه غنيّا إذ افتقر.

اللغة

1 - السقم: المرض.

الشرح

تحذير من الوثوق بهاتين الخصلتين، و أنهما في علم اللّٰه و تقديره، فلا يعتمد على غناه إذ رب لحظة من غضب اللّٰه أفقدته كل ما يملك و نحن في هذه الحرب المدمرة في لبنان و أنا أكتب هذه الكلمات في شتاء سنة 1987 نعرف من الأغنياء الأثرياء من قد دمرت بيوتهم و أتلفت أموالهم و لم يبق لديهم من ثروتهم الضخمة شيء حتى أحوجتهم الأيام إلى أخذ الحقوق و تناول الصدقات و أما الصحة فارم بطرفك إلى المستشفيات فتجد الأمراض و المصائب فالشاب القوي الذي كان يرعد و يزبد تراه يصرخ من المرض و يستغيث ربّه أن يفرّج عنه و يريحه من بلواه...

427 - و قال عليه السلام: من شكا (1) الحاجة إلى مؤمن، فكأنّه شكاها إلى اللّٰه، و من شكاها إلى كافر، فكأنّما شكا اللّٰه.

اللغة

1 - شكى الأمر أو العلة: ذكرهما أو توجع منهما و شكى أمره إلى اللّٰه أظهره له.

ص: 515

الشرح

المؤمن باعتبار قربه من اللّٰه و اتصاله به و توجهه إليه فعند ما تشكو إليه حاجة فكأنك تشكوها إلى اللّٰه من حيث أنك تجعله وسيلة و توسطه في قضائها أو تجعله يدعو لك و هذا عكس الشكوى إلى الكافر فإنه باعتبار عداوته للّٰه سيشمت بك و يفرح بمصيبتك و يضحك بينه و بين نفسه لما حصل لك فكأنك تشكو اللّٰه إلى اللّٰه...

428 - و قال عليه السلام في بعض الأعياد: إنّما هو عيد لمن قبل اللّٰه صيامه و شكر قيامه، و كلّ يوم لا يعصى اللّٰه فيه فهو عيد.

الشرح

العيد يوم البهجة و الفرحة و السرور يوم ينتصر الإنسان فيه على نفسه و يلتحق في ركب الصالحين، يوم يحتفل فيه الإنسان بطاعة اللّٰه و التزام خطه و يتمرد فيه على الشيطان و جنوده و كل الطواغيت و الظالمين و إذا كان العيد بهذه المثابة فنستطيع أن نحول جميع أيامنا إلى أعياد عند ما لا نعصي اللّٰه و لا نتمرد على إرادته و هذا هو معنى العيد في الإسلام و هكذا ينبغي أن نفهم العيد و نعيشه و نحياه و بهذا التوجه كانت كلمة الإمام و بهذا الصدد العظيم كان يرشد و يبيّن.

429 - و قال عليه السلام: إنّ أعظم الحسرات (1) يوم القيامة حسرة رجل كسب مالا في غير طاعة اللّٰه، فورثه رجل فأنفقه في طاعة اللّٰه سبحانه، فدخل به الجنّة، و دخل الأوّل به النّار.

اللغة

1 - الحسرة: التلهف و التأسف.

الشرح

يا لها حسرة عظيمة تزيد في حزن الإنسان و آلامه أن يرى ماله الذي اكتسبه و تعب

ص: 516

فيه و تصبب عرقا من أجل تحصيله قد وصل إلى يد غيره يتصرف فيه بطاعة اللّٰه و يتقرب إليه بإنفاقه في وجوه البر و الخير و يكتسب الجنة فيكون الوزر على جامعه لأنه جمعه من الحلال و الحرام و لم يؤد ما وجب عليه فيه و يكون الأجر و الثواب لوارثه الذي أنفقه في طاعة اللّٰه و تحصيل ثوابه.

430 - و قال عليه السلام: إنّ أخسر النّاس صفقة (1)، و أخيبهم (2) سعيا (3)، رجل أخلق (4) بدنه في طلب ماله، و لم تساعده المقادير على إرادته، فخرج من الدّنيا بحسرته، و قدم على الآخرة بتبعته (5).

اللغة

1 - الصفقة: عقد البيع و أصله ضرب اليد باليد.

2 - خاب أمله: لم ينجح.

3 - السعي: الكد و العمل.

4 - أخلق: أبلى.

5 - تبعته: ما يترتب عليه من الإثم.

الشرح

بيع باطل و صفقة خاسرة و خيبة في الأمل لا يعدلها خيبة، كان هذا الإنسان يكدّ و يتعب من أجل جمع المال ليكسب به شهرة أو ينال به مرتبة رفيعة أو يحقق أمنية تعيش في نفسه و ما أن جمعه و حصّله حتى فاجأه الموت منغص الحياة و مكدر الشهوات فبارت تجارته و خرج من الدنيا دون أن يستفيد منه بل خرج و معه حسرة و ألم لما سيقدم عليه من الآخرة و ما يلحقه من جرائه من التبعة و الإثم و العقوبة...

431 - و قال عليه السلام: الرّزق رزقان: طالب، و مطلوب. فمن طلب الدّنيا طلبه الموت، حتّى يخرجه عنها، و من طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتّى يستوفي (1) رزقه منها.

اشارة

ص: 517

اللغة

1 - يستوفي: يأخذ الشيء تاما كاملا.

الشرح

جعل الرزق طالبا لأنه سيحصل عليه و جعله مطلوب باعتبار توقف قسم من الرزق على السعي و الكدّ و الجهاد و قد نفر من طلب الدنيا و الانصراف إليها بكل ما يملك لأنه لا يصل إليها إلا و قد أدركه الموت فأخرجه عنها ذليلا صاغرا لم يدرك ما يريد و لم يحقق أمنيته و رغب في الآخرة و السعي إليها و أن اللّٰه قد تكفل بإيصال رزق العامل إليها متى أخلص في سعيه و توكل على ربه و لا بد أن يستوفي رزقه المكتوب له...

432 - و قال عليه السلام: إنّ أولياء اللّٰه هم الّذين نظروا إلى باطن الدّنيا إذا نظر النّاس إلى ظاهرها، و اشتغلوا بآجلها (1) إذا اشتغل النّاس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا (2) أن يميتهم، و تركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم، و رأوا استكثار غيرهم منها استقلالا، و دركهم لها فوتا، أعداء ما سالم النّاس، و سلم ما عادى النّاس! بهم علم الكتاب و به علموا، و بهم قام الكتاب و به قاموا، لا يرون مرجوّا فوق ما يرجون، و لا مخوفا فوق ما يخافون.

اللغة

1 - الآجل: ضد العاجل و أجل الشيء آخره.

2 - خشوا: خافوا.

الشرح

إن أولياء اللّٰه و عباده المخلصين لهم ميزات و صفات تفردهم عن غيرهم و تميزهم عمن سواهم و قد رسم لهم الإمام صورة عظيمة ذات مميزات رائعة و وصفهم بعدة أوصاف...

ص: 518

(إن أولياء اللّٰه هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا) و عرفوا حقيقتها و وقفوا على ما يطلب منهم بها فعرفوا أنها دار جعلت من أجل الآخرة يتزود الإنسان منها لسعادته عكس غيرهم (إذ نظر الناس إلى ظاهرها) فوجدوها طيبة بملذاتها و متعها و ما فيها (و) أيضا من مميزاتهم أنهم (اشتغلوا بأجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم و تركوا منها ما علموا أنه سيتركهم) فالناس تبحث عن لقمة عيش و عن قصر و عن جاه و عن سلطان و عن غير هذه من زينة الدنيا فحسب بينما الأولياء يتوجهون إلى طاعة اللّٰه و إلى الاجتهاد في عبادته و تقواه و يقومون بكل ما يسعدهم في آخرتهم و قد أماتوا نفوسهم الشريرة و ما فيها من أحقاد و حسد و بغض و غيرها من الصفات الرذيلة قبل أن تميتهم في الآخرة و تقضي على سعادتهم و حياتهم الخالدة في الجنان و كذلك تركوا الدنيا و ما فيها لأنها ستتركهم و تتخلى عنهم (و) من صفاتهم تفكيرهم أنهم (رأوا استكثار غيرهم منها) من مال و ثروة و متاع (استقلالا) أي أرادوه قليلا لهم و لم يقبلوا باستكثاره كما يفعل أبناء الدنيا لأنه شيء تافه و لا (و) كذلك رأوا (دركهم لها) و حصولها لهم (فوتا) أي مفوت لهم عن نيل المطالب العالية و الأماني السعيدة إنهم (أعداء ما سالم الناس) من الرذائل و خسيس الصفات حيث إن الناس يسالمون الرذيلة و لا يقاتلون الفسق و لا يعادون الباطل بينما الأولياء للّٰه أعداء ذلك كله (و سلم ما عادى الناس) فإن الناس يعادون الحق و العدل و الفضيلة و هذه سلم للأولياء و محبوبة لهم و مطلوبة عندهم (بهم علم الكتاب) حيث بينوه للناس و أوضحوا غوامضه و بينوا أحكامه (و به علموا) و منه استفادوا و عن صفحاته فهموا (و بهم قام الكتاب) فانتشرت أحكامه و نفذّت تعاليمه و طبقت بنوده و تشريعاته (و به قاموا) و داموا و أخذوا المجد و العزة و القوة (لا يرون مرجوا فوق ما يرجون) فهم يرجون اللّٰه و يرون كل أحد بعده صغيرا (و لا مخوفا فوق ما يخافون) فهم يخافون اللّٰه و يرون الخوف من غيره قليل و حقير و صغير... و هذه صفات في منتهى العظمة للأولياء ينبغي علينا أن نجمعها في قلوبنا و نفوسنا و أعمالنا و كل سلوكنا حتى نكون أولياء للّٰه...

433 - و قال عليه السلام: اذكروا انقطاع اللّذات، و بقاء التّبعات (1).

اللغة

1 - التبعات: جمع التبعة ما يلحق الفعل من خير أو شر.

ص: 519

الشرح

تنفير عن الرذيلة و تخويف لمن يتعاطاها و دعوة إلى البعد عنها فإن الزنا لذته لحظات و لكن عقوبته نار جهنم و الغيبة تشفي نفس المغتاب و يرتاح لها للحظات و لكن عقوبتها عذاب شديد و العاقل هو الذي يحسب حساب النتيجة قبل الإقدام على أي خطوة و إن كانت تسر النفس و تريحها...

434 - و قال عليه السلام: اخبر تقله.

اشارة

قال الرضي: و من الناس من يروي هذا للرسول - صلّى اللّٰه عليه و آله -. و مما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ما حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، قال المأمون: لو لا أن عليا قال:

«اخبر تقله» لقلت: اقله تخبر.

الشرح

القلى بكسر القاف البغض و المعنى أن من خبرت باطنه أبغضته و هذا مسوق مساق الأكثرية حيث أغلب الناس باطنهم سوء و خبث و عداوة للحق و أهله...

435 - و قال عليه السلام: ما كان اللّٰه ليفتح على عبد باب الشّكر و يغلق عنه باب الزّيادة، و لا ليفتح على عبد باب الدّعاء و يغلق عنه باب الإجابة، و لا ليفتح لعبد باب التّوبة و يغلق عنه باب المغفرة.

الشرح

ليس في ساحة اللّٰه بخل بل كله جود و كرم و إذا فتح للعبد بابا استقبله منه فإذا فتح له باب الشكر و طلبه منه لم يغلق باب الزيادة بل هو القائل: و «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و إذا فتح باب الدعاء لم يغلق عنه باب الإجابة، بل هو أخذ على نفسه الاستجابة و قال سبحانه: «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » و كذلك عند ما فتح باب التوبة لم يوصد دونه باب المغفرة بل جعل المغفرة لمن تاب و أصلح كما قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئٰاتِ ثُمَّ تٰابُوا مِنْ بَعْدِهٰا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » .

ص: 520

436 - و قال عليه السلام: أولى النّاس بالكرم من عرّقت فيه الكرام.

اللغة

1 - أعرقت و عرقت: أي ضربت عروقه في الكرم.

الشرح

أحق الناس بالكرم و الجود من كان له أباء و أجداد كرام فلا يخرج عن أصله و لا يتنكر لآبائه و مسيرتهم في هذا المجال.

437 - و سئل عليه السلام: أيهما أفضل: العدل، أو الجود؟ فقال عليه السلام: العدل يضع الأمور مواضعها، و الجود يخرجها من جهتها، و العدل سائس (1) عام، و الجود عارض خاصّ ، فالعدل أشرفهما و أفضلهما.

اللغة

1 - السائس: الذي يتولى الأمور و يدير شئون الناس.

الشرح

بيّن عليه السلام أفضلية العدل و رغب فيه بذكر تلك الأفضلية فالعدل يكون بوضع الأمور مواضعها دون انحراف أو ظلم أو إجحاف بينما الجود يخرجها عن حد العدل إلى جهة البذل على الناس و تقديمها لهم دون مقابل و هو و إن كان فيه فضيلة و لكن فيه إخراج عن العدل إلى حد الطرف الآخر، و العدل يشمل جميع الناس فمن عدل سار عدله على الجميع بينما من جاد فإن جوده يختص ببعض الأفراد فالعدل أفضل لعموميته و أشرف لشموله و فائدته لكل المجتمع...

438 - و قال عليه السلام: النّاس أعداء ما جهلوا.

الشرح

مر شرح هذه الفقرة بعينها في الكلمة 172.

ص: 521

439 - و قال عليه السلام: الزّهد كلّه بين كلمتين من القرآن: قال اللّٰه سبحانه: «لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ » . و من لم يأس على الماضي، و لم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزّهد بطرفيه.

اللغة

1 - الأسى: الحزن.

الشرح

الزهد أن يكون وجود الشيء و عدمه عندك على حد سواء فلا تفرح بموجود و لا تحزن لمفقود و هذا يدل على عدم تعلق نفسك بشيء من حطام الدنيا و هذا هو الزهد الحقيقي الذي إن عملت به تكون قد أخذته من طرفيه يعني من كل جهاته و أدركته بحقيقته...

440 - و قال عليه السلام: ما أنقض (1) النّوم لعزائم (2) اليوم!.

اللغة

1 - نقض: هدم و أبطل.

2 - العزائم: جمع العزيمة التصميم على الشيء و الثبات عليه.

الشرح

قد يكون عندك أمور قد عزمت عليها و صممت على فعلها فإذا نمت و ارتاحت قواك البدنية و العقلية و فكرت فيها مليا فإنك قد تبطلها و تنقضها، و أصله أن الإنسان قد ينوي السفر بقطعة من الليل فينام و يأخذه النوم فيفوت وقت عزمه و ينتقض ما كان عزم عليه...

441 - و قال عليه السلام: الولايات (1) مضامير (2) الرّجال.

اللغة

1 - الولايات: البلاد المحكومة من قبل الوالي.

2 - مضامير: جمع مضمار و هو المكان الذي تضمر فيه الخيل للسباق.

ص: 522

الشرح

الحكم و الولاية و الوظيفة هي أمكنة الاختبار للرجال فيها يعرف الصالح من الطالح و الجبار من المتواضع و القائم بخدمة الناس و قضاء حوائجهم من المتسلط على رقابهم و أموالهم و في التاريخ شواهد على أناس كانوا قبل الحكم و دعاء حلماء ثم تحولوا بفعل السلطة إلى جبابرة طغاة و قتلة مجرمين...

442 - و قال عليه السلام: ليس بلد بأحقّ بك من بلد. خير البلاد ما حملك.

الشرح

الأرض كلها للّٰه و في أي بقعة حللت جاز لك شريطة أن تقيم معالم دينك و شعائرك الإسلامية و لا تكون مظلوما أو مستعبدا أو عبدا للطغاة فبلدك هو ما تعيش فيه عزيزا و تكسب لقمة عيشك فيه لا تستجدي أحدا و لا تذل لأحد... و هذا فيه تهوين و تخفيف على المهاجرين و الغرباء...

443 - و قال عليه السلام، و قد جاءه نعي الأشتر رحمه اللّٰه:

اشارة

مالك و ما مالك! و اللّٰه لو كان جبلا لكان فندا (1)، و لو كان حجرا لكان صلدا (2)، لا يرتقيه الحافر (3)، و لا يوفي (4) عليه الطّائر.

قال الرضي: و الفند: المنفرد من الجبال.

اللغة

1 - الفند: القطعة من الجبل طولا.

2 - الصلد: الصلب الأملس.

3 - الحافر: هو للدابة كالرجل للإنسان.

4 - أوفى: أشرف.

ص: 523

الشرح

أثنى الإمام على مالك في طي كتبه الماضية و قد حزن عليه أكثر من حزنه على جميع أصحابه و بكاه و تأثر عليه و قد كان مالك أهلا لذلك لشدة إخلاصه للإمام و قوة شكيمته على عدوه و الإمام هنا يثني عليه و يصفه بهذه الأوصاف العظيمة بأنه لو كان جبلا لكان منفردا في علوه و خصائصه و مميزاته و لو كان حجرا لكان صلبا قويا لا يتفتت لشدة إيمانه و تقواه لا يذل لأحد و لا يمكن لأحد أن يطعن فيه أو يدل عليه بسوء...

444 - و قال عليه السلام: قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه.

الشرح

لأن القليل يستفيد منه الإنسان إذا كان مرغوبا فيه مطلوبا له محبوبا للنفس أكثر مما يستفيد من الكثير المملول الممقوت فإنه لا يثبت منه في النفس شيء فلو صليت ركعتين نافلة مع الإقبال عليهما و التوجه بهما إلى اللّٰه كانتا أفضل من صلاة عشر ركعات بدون إقبال و توجه...

445 - و قال عليه السلام: إذا كان في رجل خلّة (1) رائقة (2) فانتظروا أخواتها.

اللغة

1 - الخلة: بالفتح الخصلة.

2 - الرائق: الخالص.

الشرح

إذا وجدت في رجل صفة جميلة كريمة فانتظر أخواتها فإنها غصن من شجرة و فرع من أصل لأنها لا تنفرد برأسها و لا تقوم بذاتها و لكن تتبعها ملازماتها من الصفات ممن كان عفيفا ارتقب منه الكرم و المسامحة و البذل و الصداقة و المحبة و نحوها...

ص: 524

446 - و قال عليه السلام لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق، في كلام دار بينهما:

اشارة

ما فعلت إبلك الكثيرة ؟ قال: ذعذعتها (1) الحقوق يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: ذلك أحمد سبلها.

اللغة

1 - ذعذع الشيء: فرقه و بدده.

الشرح

كان لأبي الفرزدق في نفسه الأثر السيء من جراء إخراج الحقوق الشرعية من أبله و كأنها نقصت في عينه فلذا أجاب بهذا الجواب إن الحقوق قد بددتها و فرقتها و قللتها فأجابه الإمام بأن تبديدها و تفريقها و نقصها في إخراج الحقوق من أفضل الطرق و أحسنها لأن في ذلك مرضاة للّٰه و أداء للواجب عليه...

447 - و قال عليه السلام: من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم (1) في الرّبا.

اللغة

1 - ارتطم: وقع في الورطة فلا يمكنه الخلاص.

الشرح

دعوة إلى التفقه في الدين و خصوصا في أبواب التجارة خوفا من المعاملات الربوية التي يمكن أن يقع فيها الإنسان دون أن يعرف، إذ ربما باع مثلا بأزيد من مثله مما يكال أو يوزن فيقع في الربا...

448 - و قال عليه السلام: من عظّم صغار المصائب ابتلاه اللّٰه بكبارها.

اشارة

ص: 525

الشرح

إن من لم يرض بقضاء اللّٰه الصغير ابتلاه اللّٰه بكبير الأمور و عظيمها لكي يعود إلى اللّٰه و يسلم أموره إليه و يصبر على بلائه و أن الجزع و الحزن لا يحل مشكلة و لا يرفع مصيبة فلذا يجب التجلد و الصبر و الرجوع إلى اللّٰه...

449 - و قال عليه السلام: من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته.

الشرح

الشهوة تذل و تجعل الإنسان عبدا لها فإذا قادتك شهوتك إلى الطعام و لم يتوفر لديك استعطيت الناس و مددت إليهم يديك و في ذلك ذل و عار و إذا قادتك شهوتك إلى الزنا انحرفت عن خط اللّٰه و وقفت أمام الناس لتنال العقاب الصارم و هكذا جميع الشهوات المحرمة و قد تدخل المباحة في بعض أفرادها فتذل النفس و تهينها و من كرمت عليه نفسه امتنع عن الشهوات و هانت عليه و احتقرها...

450 - و قال عليه السلام: ما مزح (1) امرؤ مزحة إلاّ مجّ (2) من عقله مجّة.

اللغة

1 - المزاح: المضاحكة.

2 - مجّ الشراب من فمه: رمى به.

الشرح

مجّ الماء معناه رماه من فمه، و المزاح خلاف الجد و هو ذكرك أو فعلك أمرا مضحكا و باعتبار أنه لا يكون على نحو الجد و العاقل لا يطلق كلامه إلا على نحو الجد و هو دليل العقل فالمازح كأنه يلقي عقله و يستعمل غيره و هو على وجه الحقيقة هكذا... فمن هنا ينبغي مجانبة المزاح...

ص: 526

451 - و قال عليه السلام: زهدك في راغب فيك نقصان حظّ، و رغبتك في زاهد فيك ذلّ نفس.

الشرح

من تمام الحظ و سعادة المرء أن يكثر أحبابه و أصدقاؤه فإذا زهدت بمن رغب فيك كان ذلك نقصان حظ لك و على العكس من ذلك فيما لو رغبت فيمن زهد فيك فإن رغبتك فيه مع إعراضه عنك ذل لنفسك و إهانة لك و كلام الإمام هنا ترغيب في الراغب فيك و تبعيد لك عن الزاهد فيك...

452 - و قال عليه السلام: الغنى و الفقر بعد العرض على اللّٰه.

الشرح

هذا هو مقياس الإسلام و هذه كلمة الأنبياء فليس العبرة بغنى الدنيا و فقرها طالما أنها إلى انقضاء و زوال و إنما الغنى في الآخرة لمن ربح الجنة و فاز بالثواب و الفقر في الآخرة لمن دخل النار و نال العقاب...

453 - و قال عليه السلام: ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه المشئوم عبد اللّٰه.

الشرح

اشارة

الزبير ابن العوام ابن صفية عمة رسول اللّٰه كان من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) و المجاهدين معه و قد وقف إلى جانب الإمام في بيعة السقيفة و لم يبايع لأبي بكر و بقي على ولائه لأهل البيت حتى نشأ ولده عبد الله و كان ولد سوء أثر على حياة والده و توجهه و ولائه فحرفه عن أهل البيت حتى أخرجه مع طلحة و عائشة إلى حرب الجمل التي فتحت باب النزاع بين المسلمين و كانت لعبد الله مواقف منحرفة شائنة يذكرها التاريخ حتى أنه ترك الصلاة على النبي في صلاته و عند ما عوتب على ذلك قال: إن له أهل بيت

ص: 527

سوء يشمخون بأنوفهم عند ذكره... و هكذا قد يضل الأبناء الآباء و يحرفونهم عن صراط اللّٰه المستقيم...

ترجمة عبد الله بن الزبير.

عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي(1).

أمه: أسماء بنت أبي بكر الصديق هاجرت أمه و هي حامل به ولد سنة اثنتين للهجرة و قيل في السنة الأولى.

قيل إنه أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة.

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة نقلا عن ابن عبد البر: و شهد عبد الله الجمل مع أبيه و خالته عائشة و كان شهما ذكرا ذا أنفة و كان له لسن و فصاحة و كان أطلس لا لحية له و لا شعر في وجهه و كان كثير الصلاة كثير الصيام شديد البأس كريم الجدات و الأمهات و الخالات إلا أنه كان فيه خلال لا يصلح معها للخلافة فإنه كان بخيلا ضيّق العطن سيء الخلق حسودا كثير الخلاف أخرج محمد بن الحنفية من مكة و المدينة و نفى عبد اللّٰه بن عباس إلى الطائف.

بويع له بالخلافة سنة أربع و ستين و قيل سنة خمس و ستين و كانت بيعته بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية على طاعته أهل الحجاز و اليمن و العراق و خراسان و حج بالناس ثماني حجج و قتل في أيام عبد الملك بن مروان سنة ثلاث و سبعين... قتله الحجاج بن يوسف الثقفي و صلب في مكة.

كان ابن الزبير شديد البخل كان يطعم جنده تمرا و يأمرهم بالحرب فإذا فروا من وقع السيوف لامهم و قال لهم: أكلتم تمري و عصيتم أمري فقال بعضهم:

أ لم تر عبد الله و اللّٰه غالب *** على أمره يبغي الخلافة بالتمر

كان شديد البغض لبني هاشم حصرهم و أراد أحراقهم فخلصهم المختار الثقفي و قطع ابن الزبير في الخطبة ذكر رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - جمعا كثيرة فاستعظم الناس ذلك فقال: إني لا أرغب عن ذكره و لكن له أهل سوء إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم فأنا أحب أن أكبتهم.

ص: 528


1- الإصابة في تميز الصحابة.

454 - و قال عليه السلام: ما لابن آدم و الفخر: أوّله نطفة، و آخره جيفة (1)، و لا يرزق نفسه، و لا يدفع حتفه (2).

اللغة

1 - الجيفة: ميتة الإنسان.

2 - الحتف: الموت.

الشرح

من كان يفتخر و يشمخ بأنفه و يتعالى على الناس، فليفكر قليلا و يعيد النظر من جديد في أصله و تكوينه و هل هو إلا نطفة قذرة يغسل يده و بدنه الإنسان منها و كفى بهذا الأصل مهانة و هل يعود بعد أن يكبر و يطويه الموت الآتي إلاّ إلى جيفة يتقزز منها الأهل و يتمنون مواراتها و يعجلون دفنه ثم إنه لعجزه فما بين الموت و الحياة لا يستطيع أن يرزق نفسه لعجزه و عدم قدرته إذ لو لا كرم اللّٰه وجوده لمات من يوم ولادته و بعد هذا و ذاك لا يدفع عن نفسه الموت فهل رأيت مخلوقا أعجز منه و أحقر منه و هل يحق له بعد ذلك أن يفتخر و يتباهى على الناس... العاقل من فكّر و رجع إلى نفسه...

455 - و سئل من أشعر الشعراء؟ فقال عليه السلام:

اشارة

إنّ القوم لم يجروا (1) في حلبة (2) تعرف الغاية عند قصبتها (3)، فإن كان و لا بدّ فالملك الضّلّيل (4).

يريد امرأ القيس.

اللغة

1 - جرى الفرس: ركض و عدا.

2 - الحلبة: بالفتح أصلها القطعة من الخيل تجتمع للسباق عبر بها عن الطريقة الواحدة.

3 - القصبة: ما ينصبه طلبة السباق ليأخذه السابق دليل فوزه.

4 - الملك الضليل: امرؤ القيس.

ص: 529

الشرح

غرضه عليه السلام أن عادة الشعراء أن يأخذ كل واحد منهم ما يتلاءم مع ذوقه فمنهم من يأخذ بالمديح و آخر بالهجاء و ثالث بالرثاء و هكذا فمع اختلاف توجهاتهم لا نستطيع أن نحكم من هو أشعرهم نعم لو جروا كلهم في نوع واحد فنظموا مثلا في المديح أمكن معرفة أشعرهم...

و إذا كان و لا بد من معرفة أشعرهم مع اختلاف مشاربهم قلنا أنه الملك الضليل و هو امرؤ القيس فإنه من أشدهم فيما قال في كل الأنواع و مختلف الأصناف...

456 - و قال عليه السلام: ألا حرّ يدع هذه اللّماظة (1) لأهلها؟ إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها.

اللغة

1 - اللماظة: ما يبقى من الطعام في الفم يريد بذلك الدنيا.

الشرح

شبه الإمام الدنيا لحقارتها بما تبقى في الفم من الطعام ثم نبه إلى عظمة نفس الإنسان و أن عليه أن لا يبيعها بالدنيا و ما فيها لأنها أغلى منها و أن هذه النفس لا يعادلها إلا الجنة كما قال تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ » .

457 - و قال عليه السلام: منهومان (1) لا يشبعان: طالب علم و طالب دنيا.

اشارة

ص: 530

اللغة

1 - المنهوم: المفرط في الشهوة و أصله في شهوة الطعام.

الشرح

المنهوم هو المفرط في الشهوة و من كان أكولا منهوما للطعام لا بد و أن يشبع إذ البطن له مقدار لا يسع غيره و أما طالب العلم و المنهوم به فإنه كلما غرف منه انفتحت الأبواب أمامه و اتسعت آفاقه و لم ينته من العلم إلى آخر عمره بل يموت و تبقى في نفسه غصة العلم و طلبه و الحصول على المعرفة و كذلك طالب الدنيا فإنه كلما اتسعت ممتلكاته و ثروته استعت آماله و أخذ يطلب المزيد منها و يخرج من الدنيا و تبقى عينه فيها...

458 - و قال عليه السلام: الإيمان أن تؤثر الصّدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك، و ألاّ يكون في حديثك فضل (1) عن عملك، و أن تتّقي اللّٰه في حديث غيرك.

اللغة

1 - الفضل: الزيادة.

الشرح

للإيمان أثر عظيم في حياة الإنسان و سلوكه و من آثاره أن يؤثر المؤمن الصدق و إن كان فيه ضرر على الكذب و إن كان فيه نفع إنطلاقا من الانسجام بين القول و العمل و بين التوحد في الشخصية فلا ينفصل القول عن العمل و ابتعادا عن الرذيلة و إن كانت تجر له نفعا و فائدة و كذلك من أثر الإيمان أن لا يزيد كلام الإنسان على فعله بل يفعل فيقول: إن كان هناك مصلحة في القول مقدار الفعل و كذلك من علامة الإيمان أن يتقي اللّٰه في حديث غيره فيرويه كما هو دون زيادة أو نقصان أو يتقي اللّٰه في عدم اختلاق شيء من الحديث عن لسان أحد من الناس...

ص: 531

459 - و قال عليه السلام: يغلب المقدار (1) على التّقدير (2)، حتّى تكون الآفّة (3) في التّدبير.

اشارة

قال الرضي: و قد مضى هذا المعنى فيما تقدم برواية تخالف هذه الألفاظ.

اللغة

1 - المقدار: القدر الذي قضاه اللّٰه عليه.

2 - التقدير: تدبير الإنسان لنفسه.

3 - الآفة: البلية.

الشرح

ما قدره اللّٰه على العبد لا بد و أن يسبق تقدير العبد و حساباته و باعتبار أن العبد يجهل ما قدره له اللّٰه فربما دبر أمرا يظن فيه سلامته و سعادته و إذا به يكون الهلاك و العطب و القضاء على الحياة...

460 - و قال عليه السلام: الحلم (1) و الأناة (2) توأمان (3) ينتجهما علوّ الهمّة.

اللغة

1 - الأناة: عدم العجلة و التروي في الشيء.

2 - التوأمان: المولودان في بطن واحد.

3 - الحلم: بكسر الحاء حبس النفس عند الغضب.

الشرح

علو الهمة يذلل الصعاب و من كان عالي الهمة تمتع بالحلم و الأناة فلم يبادر إلى العقاب بل حلم عن الجاهل و صفح عن ذنبه و ترفع عن مجازاته...

ص: 532

461 - و قال عليه السلام: الغيبة (1) جهد (2) العاجز.

اللغة

1 - الغيبة: ذكرك أخاك المؤمن في غيبته بما يكره.

2 - الجهد: الطاقة و القدرة.

الشرح

الغيبة أن تذكر أخاك المؤمن بعيب فيه يكره ذكره سواء كان العيب في دينه أو دنياه في خلقه أو في خلقه و هي شغل العاجز الذي لا يستطيع مواجهة الغير و مقابلتهم وجها لوجه فيعمد إلى غيبتهم فيدير لسانه بذكر معايبهم و يأخذ في تجريحهم و أكل لحومهم، و لو كان قادرا على المواجهة لما اغتنم غيابهم لذكر معايبهم...

462 - و قال عليه السلام: ربّ مفتون (1) بحسن القول فيه.

اللغة

1 - المفتون: المغرور الذي انصرف عما كان عليه من الخير.

الشرح

بعض الناس إذا مدحتهم و أحسنت القول فيهم تجمدت أعمالهم و توقفت حركاتهم و تعطلت أشغالهم و كأن مدحك لهم أشبع غريزتهم التي كانوا يتطلعون إلى إروائها و أن حسن القول فيهم ثبطهم عن الزيادة و التقدم و فتنهم عن الاجتهاد و النشاط...

463 - و قال عليه السلام: الدّنيا خلقت لغيرها، و لم تخلق لنفسها.

الشرح

الدنيا خلقت من أجل الآخرة و بمقدار جهادك هنا تحقق الفوز هناك فإذا أطعت اللّٰه

ص: 533

و خدمت عباده و أعنتهم فزت في الدار الآخرة، و لم تخلق الدنيا لأجل الدنيا و إلا لكانت هي دار الخلود بدل الدار الآخرة فلذا ينبغي الاهتمام بتلك الدار الآخرة و بجعل المرء هذه الدار وسيلة لنيل تلك...

464 - و قال عليه السلام: إنّ لبني أميّة مرودا يجرون فيه، و لو قد اختلفوا فيما بينهم ثمّ كادتهم الضّباع لغلبتهم.

اشارة

قال الرضي: و المرود هنا مفعل من الإرواد، و هو الإمهال و الإظهار، و هذا من أفصح الكلام و أغربه، فكأنه عليه السلام شبه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية، فإذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها.

الشرح

هذا إخبار منه عليه السلام بأمر غيبي كشفت عن صدقه الأيام فهو يقول إن لبني أمية مدة يمهلون فيها تكون دولتهم و يبقى عزهم و قوتهم ما بقوا مجتمعين و أما إذا اختلفوا فإن الضعفاء و الجبناء من الناس لو أرادتهم لقهرتهم و غلبتهم و يذكر ابن ميثم في شرحه فإن دولتهم لم تزل على الاستقامة إلى حين اختلافهم و ذلك حين ولي الوليد بن يزيد فخرج عليه يزيد بن الوليد فخرج عليه إبراهيم بن الوليد و قامت حينئذ دعاة بني العباس... إلى أن يقول: و كان زوالها على يد أبي مسلم و كان في بدء أمره أضعف خلق اللّٰه و أشدهم فقرا و لفظ الضباع قد يستعار للأراذل و الضعفاء...

465 - و قال عليه السلام في مدح الأنصار: هم و اللّٰه ربّوا (1) الإسلام كما يربّى الفلو (2) مع غنائهم، بأيديهم السّباط (3)، و ألسنتهم السّلاط (4).

اللغة

1 - ربوا: من التربية و الإنماء.

2 - الفلو: بالكسر المهر.

3 - السباط: ككتاب جمع سبط بفتح السين يقال: رجل سبط اليدين أي سخي.

4 - السلاط: جمع سليط ذو اللسان الفصيح الحديد.

ص: 534

الشرح

الأنصار هم سكان المدينة المنورة الذين استقبلوا النبي عند ما هاجر إليهم و قد حموه و دافعوا عنه و قاتلوا المشركين كافة دفاعا عن الإسلام و قد تحملوا الأذى و المصائب و القتل و استمروا مع ذلك في دفاعهم و حمايتهم للإسلام و النبي لم ينس جهادهم بل بقي وفيا لهم فأوصى المسلمين بهم و دعاهم إلى احترامهم و الإمام هنا في كلمته يثني عليهم هذا الثناء الجميل فيقول: إنهم أقاموا على تقوية الإسلام و دعمه و نصرته كما يربى الفرس و يعتنى به حتى يكتمل و يستغني بدون منة و لا حاجة إلى هذا العذاب و التعب إلا رضى اللّٰه و رضى رسوله و كانوا يسعون في سبيل ذلك بأيديهم الكريمة السمحة جهادا و قتالا و نضالا و بألسنتهم الفصيحة القوية الحديدية.

466 - و قال عليه السلام: «العين وكاء (1) السّه (2)».

اشارة

قال الرضي: و هذه من الاستعارات العجيبة، كأنه يشبه السه بالوعاء، و العين بالوكاء، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء. و هذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -، و قد رواه قوم لأمير المؤمنين عليه السلام، و ذكر ذلك المبرد في كتاب «المقتضب» في باب «اللفظ بالحروف». و قد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم: «بمجازات الآثار النبوية».

اللغة

1 - الوكاء: رباط القربة.

2 - السه: الاست، الدبر.

الشرح

كأنه عليه السلام يريد أن يقول: إن العين إذا لم تنم بل بقيت مفتوحة يبقى الإنسان ضابطا لنفسه من خروج الأرياح كالرباط للقربة فإنه لا يخرج منها شيء إذا كان مشدودا عليها و لكن إذا نامت العين لا يقدر على ضبط نفسه و التحفظ من خروج شيء يكرهه...

ص: 535

467 - و قال عليه السلام في كلام له: و وليهم وال فأقام و استقام، حتّى ضرب الدّين بجرانه (1).

اللغة

1 - الجران: مقدم عنق البعير يجعله على الأرض إذا برك و استقر.

الشرح

مراده بالوالي هنا رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) و أنه تولى أمر المسلمين فأقام الدين و استقام حتى بسط سلطانه في الأرض و استقر و استطاع أن يوطد أحكامه و ينشر تعاليمه...

468 - و قال عليه السلام: يأتي على النّاس زمان عضوض (1)، يعضّ (2) الموسر (3) فيه على ما في يديه و لم يؤمر بذلك، قال اللّٰه سبحانه:

اشارة

«وَ لاٰ تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » . تنهد (4) فيه الأشرار، و تستذلّ الأخيار، و يبايع المضطرّون، و قد نهى رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - عن بيع المضطرّين.

اللغة

1 - العضوض: الشديد.

2 - العض: الإمساك بالأسنان.

3 - الموسر: الغني.

4 - تنهد: ترتفع و تعلو.

الشرح

يذكر سيئات ما يأتي في الزمن القادم و أنه زمان شديد قاس عنيد تنعكس فيه الأمور فيمسك الغني يده و يمتنع عن البذل و العطاء و السخاء خلافا لقوله تعالى: «وَ لاٰ تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » و الفضل هو الإحسان و العطاء و في ذلك الزمن ترتفع الأشرار و تتولى

ص: 536

أمور الأمة و يصبح بأيديهم الحل و العقد و طبعا تستذل الأخيار و الطيبون من عباد اللّٰه و يكرهون على بيعة الحكام الظالمين اضطرارا منهم حفظا لنفوسهم و بقاء عليها و هذا خلاف قول النبي الذي نهى عن بيعة المضطرين و لا تكون البيعة شرعية إن حصل شيء من ذلك...

469 - و قال عليه السلام: يهلك فيّ رجلان: محبّ مفرط (1)، و باهت (2) مفتر.

اشارة

قال الرضي: و هذا مثل قوله عليه السلام: هلك فيّ رجلان: محبّ غال، و مبغض قال.

اللغة

1 - أفرط: تجاوز الحد.

2 - بهته: افترى عليه أي نسب إليه ما لم يقله.

الشرح

الهلكة محتومة لخروج كل طرف عن حد الاعتدال إلى الظلم و الجور فمن ازداد حبه له حتى رفعه إلى منزلة الألوهية أو وصفه بغير ما هو فيه استحق النار و من اتهمه بالباطل و كفّره أو افترى عليه بما هو بريء منه و ما وضعه اللّٰه فيها على لسان رسوله فقد استحق العذاب و وقع في الهلاك.

470 - و سئل عن التوحيد و العدل فقال عليه السلام:

اشارة

التّوحيد ألاّ تتوهّمه، و العدل ألاّ تتّهمه.

الشرح

التوحيد أن لا تتوهم اللّٰه على صورة معينة لأنك إذا توهمته فقد حددته و كل محدود مجسّم و اللّٰه منزه عن ذلك و العدل أن لا تتهمه في فعل من أفعاله إنه في غير موضعه أو في غير زمانه و مكانه...

ص: 537

471 - و قال عليه السلام: لا خير في الصّمت عن الحكم، كما أنّه لا خير في القول بالجهل.

الشرح

كل شيء في موضعه جميل و لائق فإذا خرج عن موضعه أصبح نافرا و باطلا و إذا كان المورد مورد الحكم و الكلام فلا خير في الصمت بل يتحول إلى شر و جريمة كمن سكت عن أداء الشهادة بالحق مع الطلب منه، كما أنه لا خير في القول إذا لم يعلم ما يقول و لم يدر ما يقول فيكون قوله سفها و باطلا و انحرافا و ضلالا.

472 - و قال عليه السلام في دعاء استسقى به:

اشارة

اللّهمّ اسقنا ذلل (1) السّحاب دون صعابها (2).

قال الرضي: و هذا من الكلام العجيب الفصاحة، و ذلك أنه عليه السلام شبه السحاب ذوات الرعود و البوارق و الرياح و الصواعق بالإبل الصعاب التي تقمص برحالها و تقص بركبانها، و شبه السحاب خالية من تلك الروائع، بالإبل الذلل التي تحتلب طيعة و تقتعد مسمحة.

اللغة

1 - الذلول: الهين، السهل الركوب.

2 - الصعب: الممتنع عن الركوب أو الاحتلاب.

الشرح

دعاء في أن يكون السحاب نافعا مفيدا للعباد و البلاد و أن لا يكون مهلكا للحرث و النسل كما لو اصطحب معه الشدة و الصواعق و البروق فإنه يكون مضرا مفسدا...

473 - و قيل له عليه السلام: لو غيرت شيبك (1) يا أمير المؤمنين، فقال عليه السلام:

اشارة

الخضاب (2) زينة و نحن قوم في مصيبة! (يريد وفاة رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -).

ص: 538

اللغة

1 - الشيب: بياض الشعر.

2 - الخضاب: ما يصبغ به الشعر.

الشرح

الخضاب مستحب لأنه زينة و قد كان رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) يستعمله و يأمر أصحابه به و قد فسر الإمام و بين عدم استعماله لأنه في مصيبة يتنافى الخضاب معها...

474 - و قال عليه السلام: ما المجاهد الشّهيد في سبيل اللّٰه بأعظم أجرا ممّن قدر فعفّ : لكاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة.

الشرح

لأن العفة صفة للنفس و جهاد لها و متى استطاع الإنسان أن يتغلب على نفسه و ينتصر عليها استطاع أن ينتصر على الأعداء و لذا عند ما عادت إحدى السرايا التي بعثها رسول اللّٰه للغزو قال لهم: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر فقيل له: و ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس... فمن جاهد نفسه و انتصر عليها و استطاع أن يطوّعها على طاعة اللّٰه و خدمته كان في الأجر كالمجاهد الشهيد بل كاد أن يكون ملكا في نزاهته و سموه و طهارته...

475 - و قال عليه السلام: «القناعة مال لا ينفد».

اشارة

قال الرضي: و قد روى بعضهم هذا الكلام لرسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

الشرح

مرت هذه الكلمة بعينها في الكلمة 57.

ص: 539

476 - و قال عليه السلام لزياد بن أبيه - و قد استخلفه لعبد الله بن العباس على فارس و أعمالها، في كلام طويل كان بينهما، نهاه فيه عن تقدم الخراج -: استعمل العدل، و احذر العسف (1) و الحيف (2)، فإنّ العسف يعود بالجلاء، و الحيف يدعو إلى السّيف.

اللغة

1 - العسف: الشدة في غير حق.

2 - الحيف: الظلم.

الشرح

أمره بالعدل و نهاه عن الشدة و الظلم و بين آثار الشدة و الأخذ بالقهر بأنها تؤدي إلى إخلاء البلاد و الهجرة عنها و هو يؤدي إلى خرابها و أما الظلم و الجور فإنه يؤدي إلى التمرد و الثورة التي تزيل الدولة و تقضي على حكامها.

477 - و قال عليه السلام: أشدّ الذّنوب ما استخفّ به صاحبه.

الشرح

مر هذا في الكلمة 347 و وجه كونه أشد لأن من استكبر ذنبه استعظم اللّٰه و ارتدع عنه أما من استسهل الذنب فإنه استخف باللّٰه و بالتالي لسهولته عنده يستمر عليه و يستمرء تناوله...

478 - و قال عليه السلام: ما أخذ اللّٰه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا.

اشارة

ص: 540

الشرح

حث لأهل العلم أن يبذلوا علمهم و يعلموا غيرهم و لا يبخلوا بهذه النعمة الإلهية و ليس في كلامه عذر للجاهل أن يبقى على جهله بل هناك تلازم فالمعلم يعلم و الجاهل يتعلم و بذلك تتكامل الحياة و تتقدم...

479 - و قال عليه السلام: شرّ الإخوان من تكلّف له.

اشارة

قال الرضي: لأن التكليف مستلزم للمشقة، و هو شر لازم عن الأخ المتكلف له، فهو شرّ الإخوان.

الشرح

الأخ كالنفس فكما لا يتكلف الإنسان لنفسه بل يأكل الموجود و يصبر على المعدوم هكذا ينبغي أن يتحول الإخوان فيما بينهم فإذا انعكس الأمر و تكلف الأخ لأخيه أمرا استلزم مشقة و تعبا كان شر لازم للأخ فيكون الأخ من شرار الإخوان...

480 - و قال عليه السلام: إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه.

اشارة

قال الرضي: يقال: حشمه و أحشمه إذا أغضبه، و قيل: أخجله، «أو احتشمه» طلب ذلك له، و هو مظنة مفارقته.

الشرح

إذا تحفظ المؤمن من أخيه و لم ينشرح له و يرتاح إليه هذا بنفسه يجعل عند الطرف الآخر عقدة تجعله يفارقه لأنه لم يعمل بروح الإسلام التي فرضت المؤاخاة و الانشراح فيما بين المسلمين...

ص: 541

ها هنا نذكر آخر كلام الرضي المذكور في النهج...

و هذا حين انتهاء الغاية بنا إلى قطع المختار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، حامدين للّٰه سبحانه على ما منّ به من توفيقنا لضم ما انتشر من أطرافه، و تقريب ما بعد من أقطاره. و تقرر العزم كما شرطنا أولا على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب، ليكون لاقتناص الشارد، و استلحاق الوارد، و ما عسى أن يظهر لنا بعد الغموض، و يقع إلينا بعد الشذوذ، و ما توفيقنا إلا باللّٰه: عليه توكلنا، و هو حسبنا و نعم الوكيل...

و ذلك في رجب سنة أربع مئة من الهجرة، و صلّى اللّٰه على سيدنا محمد خاتم الرسل، و الهادي إلى خير السبل، و آله الطاهرين، و أصحابه نجوم اليقين.

و أنا العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم السيد عباس علي الموسوي (أبو علي) قد فرغت من شرح نهج البلاغة مع تصحيحه و إعادة النظر السريع فيه في يوم مولد سيدة نساء العالمين جدتنا فاطمة الزهراء الموافق في العشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة 1414 هجرية أسأل اللّٰه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم و أن لا يحرمنا أجر ما كتبنا و يثيبنا عليه بالعفو و الصفح و يستر علينا الخطأ و الزلل و يجعله و سيلتنا يوم الدين يوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللّٰه بقلب سليم و في الختام هذا هو نسبي الذي اتصل به إلى صاحب النهج الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عسى أن ينفعنا و ترق الرحم علينا...

السيد عباس (أبو علي) ابن السيد علي ابن السيد حسين ابن السيد علي ابن السيد حسين ابن السيد أحمد ابن السيد إسماعيل ابن السيد أحمد ابن السيد حسن ابن السيد محمد ابن السيد أحمد ابن السيد محمد ابن السيد حسن ابن السيد زين ابن السيد علي ابن السيد حسن ابن السيد محمد ابن السيد يوسف ابن السيد حسن ابن السيد إبراهيم ابن السيد محمد ابن السيد يوسف ابن السيد محمد ابن السيد معالي ابن السيد علي ابن السيد عبد اللّٰه ابن السيد محمد ابن السيد علي ابن السيد عبد اللّٰه ابن السيد محمد ابن السيد طاهر ابن السيد حسين الأمير القطيعي ابن السيد موسى أبي سبحة ابن السيد إبراهيم ابن الإمام موسى بن جعفر بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي بن الحسين ابن الإمام الحسين بن علي بن الإمام علي بن أبي طالب و فاطمة الزهراء ابن محمد سيد رسل اللّٰه.

عباس علي الموسوي (أبو علي) في 20 جمادى الآخرة سنة 1414 ه 3 كانون أول سنة 1993

ص: 542

الفهرس

53 - و من كتاب له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي لما ولاه مصر و أعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن 5

جباية الخراج 30

جهاد العدو 30

استصلاح أهلها 31

عمارة بلادها 32

شرار الوزراء 43

الطبقة الأولى: طبقة الجند 49

صفات الجندي المسلم 50

الطبقة الثانية: طبقة القضاة 54

شروط القاضي 55

الطبقة الثالثة: طبقة العمال 57

الطبقة الرابعة: طبقة أهل الخوارج 59

الطبقة الخامسة: طبقة الكتاب 61

الطبقة السادسة: طبقة التجار و الصّناع 62

الطبقة السابعة: طبقة الفقراء 64

السلام في الإسلام 70

حرمة سفك الدماء 73

ترجمة مالك الأشتر 78

نسبه 79

حياته 79

الأشتر في الكوفة 80

الأشتر في عهد الخلفاء 80

ص: 543

الكوفة و الأمراء 81

صلحاء الكوفة في الجزيرة 84

الأشتر بين بيعة علي و معركتي الجمل و صفين 85

الأشتر و الأشعري المنحرف 86

لمحات من دور الأشتر 90

الإمام يختار الأشتر للتحكيم 94

الأشتر و صحيفة التحكيم 94

مصر في عهد علي 95

قيس بن سعد بن عبادة 95

محمد بن أبي بكر 95

علي يولي الأشتر 95

شهادة الأشتر 98

معاوية يستعمل السم 100

شهادة النبي (صلی الله علیه و آله) بإيمان الأشتر 101

ثناء الإمام على الأشتر 102

الأشتر شاعرا 105

54 - و من كتاب له عليه السلام إلى طلحة و الزبير مع عمران بن الحصين الخزاعي ذكره أبو جعفر الاسكافي في كتاب «المقامات» في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام 107

55 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 111

56 - و من وصية له عليه السلام وصى بها شريح بن هانىء لما جعله على مقدمته إلى الشام 115

57 - و من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة 117

58 - و من كتاب له عليه السلام كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه و بين أهل صفين 119

59 - و من كتاب له عليه السلام إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان 123

ترجمة الأسود بن قطيبة 125

60 - و من كتاب له عليه السلام إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم 126

ص: 544

61 - و من كتاب له عليه السلام إلى كميل بن زياد النخعي و هو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا الغارة 129

ترجمة كميل بن زياد 131

62 - و من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها 132

63 - و من كتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري و هو عامله على الكوفة و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل 139

64 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا 143

65 - و من كتاب له عليه السلام له أيضا 149

66 - و من كتاب له عليه السلام إلى عبد اللّٰه بن العباس و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية 155

67 - و من كتاب له عليه السلام إلى قثم بن العباس و هو عامله على مكة 157

68 - و من كتاب له عليه السلام إلى سلمان الفارسي رحمه اللّٰه قبل أيام خلافته 160

ترجمة سلمان الفارسي 162

69 - و من كتاب له عليه السلام إلى الحارث الهمداني 167

ترجمة الحارث الهمداني 174

70 - و من كتاب له عليه السلام إلى سهل بن حنيف الأنصاري و هو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية 176

ترجمة سهيل بن حنيف 178

71 - و من كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي و قد خان في بعض ما ولاه من أعماله 179

ترجمة الجارود العبدي 182

72 - و من كتاب له عليه السلام إلى عبد اللّٰه بن العباس 183

73 - و من كتاب عليه السلام إلى معاوية 183

74 - و من حلف له عليه السلام كتبه بين ربيعة اليمن و نقل من خط هشام بن الكلبي 188

75 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية في أول ما بويع له ذكره الواقدي في كتاب «الجمل» 191

ص: 545

76 - و من وصية له عليه السلام لعبد اللّٰه بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة 193

77 - و من وصية له عليه السلام لعبد اللّٰه بن العباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج 195

78 - و من كتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري جوابا في أمر الحكمين ذكره سعيد بن يحيى الأموي في كتاب «المغازي» 197

79 - و من كتاب له عليه السلام لما استخلف إلى أمراء الأجناد 201

باب حكم أمير المؤمنين

1 - كن في الفتنة 205

2 - الطمع 205

3 - البخل و الجبن و الفقر 207

4 - العجز و الصبر و الزهد و الورع و الرضى 207

4 - العجز و الصبر و الزهد و الورع و الرضى 208

5 - العلم و الآداب و الفكر 209

6 - صدر العاقل و البشاشة و الاحتمال 210

7 - الصدقة و أعمال العباد 211

8 - اعجبوا لهذا الإنسان 212

9 - إقبال الدنيا و ادبارها 213

10 - خالطوا الناس 213

11 - القدرة و العفو 214

12 - أعجز الناس 215

13 - النعم و الشكر عليها 215

14 - من ضيّعه الأقرب 216

15 - ما كل مفتون يعاتب 216

16 - الحتف في التدبير 217

17 - غيّروا الشيب 217

18 - خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل 218

19 - من جرى في عنان أمله عثر بأجله 219

20 - أقيلوا ذوي المروءات 219

21 - الهيبة و الحباء و الفرصة 220

ص: 546

22 - لنا حق 221

23 - من أبطأ به عمله لم يسرع به عمله 221

24 - من كفارات الذنوب 222

25 - احذر نعم اللّٰه مع المعصية 222

26 - فلتات اللسان و صفحات الوجه تنطق 223

27 - امش بدائك ما مشى بك 223

28 - أفضل الزهد 224

29 - ما أسرع الملتقى 224

30 - الحذر الحذر 225

31 - سئل عن الإيمان فقال: 225

32 - فاعل الخير خير منه و فاعل الشر شر منه 231

33 - كن سمحا و مقدرا 231

34 - أشرف الغنى 232

35 - من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعملون 232

36 - من أطال الأمل أساء العمل 233

37 - خلق قبيح 233

38 - احفظ أربعا 234

39 - النوافل و الفرائض 236

40 - لسان العاقل و قلب الأحمق 236

41 - قلب الأحمق و لسان العاقل 237

42 - قال لبعض من عادة: 237

43 - قال يرث خبّاب بن الأرت 238

ترجمة خباب بن الأرت 239

44 - طوبى لمن 239

45 - بغض علي وحبه 240

45 - بغض علي و حبه 241

46 - سيئة تسؤك خير عند اللّٰه من حسنة تعجبك 241

47 - قدر الرجل و صدقه و شجاعته و عفته 241

48 - و قال عليه السلام في الظفر 242

49 - احذروا اثنين 243

50 - قلوب الرجال 244

ص: 547

51 - عيبك مستور 244

52 - أولى الناس بالعفو 245

53 - السخاء 245

54 - لا أفضل من هذه 245

55 - الصبر صبران 246

56 - الغني في الغربة و الفقر في الوطن 247

57 - القناعة كنز لا ينفد 247

58 - المال مادة الشهوات 247

59 - من حذرك كمن بشرك 248

60 - اللسان سبع 248

61 - المرأة عقرب 249

62 - التحية بأحسن منها 249

63 - الشفيع جناح الطالب 250

64 - أهل الدنيا 251

65 - فقد الأحبة غربة 251

66 - فوت الحاجة 252

67 - لا تستح من إعطاء القليل 252

68 - العفاف و الشكر 252

69 - إذا لم يكن ما تريد 253

70 - الجاهل 254

71 - تمام العقل 254

72 - الدهر و فعله 254

73 - إمامة الناس و شروط الإمامة 256

74 - نفس المرء خطاه إلى أجله 256

75 - كل معدود و كل متوقع 257

76 - إن الأمور إذا اشتبهت 257

77 - يا دنيا إليك عني 258

78 - القضاء و القدر 260

79 - خذ الحكمة أنى كانت 262

80 - الحكمة ضالة المؤمن 262

ص: 548

81 - قيمة كل امرىء ما يحسنه 263

82 - أوصيكم بخمس 263

83 - أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك 265

84 - بقية السيف 265

85 - من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله 265

86 - رأي الشيخ و جلد الغلام 266

87 - عجبت لمن يقنط و معه الاستغفار 266

88 - كان في الأرض أمانان 267

89 - من أصلح ما بينه و بين 267

90 - الفقيه كل الفقيه 268

91 - إن هذه القلوب تمل 269

92 - أوضع العلم 270

93 - الفتنة و مضلات الفتن 270

94 - و سئل عن الخير ما هو؟ فقال: 271

95 - العمل مع التقوى 273

96 - أولى الناس بالأنبياء 273

97 - نوم على يقين خير من صلاة في شك 273

98 - عقل الخبر 274

99 - الإقرار منا بالهلاك و الملك 275

100 - و قال عليه السلام و مدحه قوم في وجهه فقال: 275

101 - لقضاء الحوائج بثلاث 276

102 - يأتي على الناس زمان 277

103 - و رئي عليه إزار خلق مرقوع فقيل له في ذلك فقال 278

104 - يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا 280

105 - إن اللّٰه افترض عليكم فرائض 281

106 - ترك الدين بإصلاح الدنيا 282

107 - و قال عليه السلام رب عالم قد قتله علمه 283

108 - أعجب ما في الإنسان قلبه 283

109 - أهل البيت النمرقة الوسطى 286

110 - إقامة أمر اللّٰه و من هو القادر عليها 287

ص: 549

111 - لو أحبني جبل لتهافت 288

112 - قال عليه السلام: من أحبنا أهل البيت: 288

113 - لا شيء أحسن من هذه الأمور 289

114 - صلاح الزمان و سؤه مع حسن الظن و سؤه 292

115 - قيل له عليه السلام: كيف نجدك يا أمير المؤمنين فقال: 293

116 - الاستدراج 293

117 - المحب الغال و المبغض القال 294

118 - إضاعة الفرصة 295

119 - مثل الدنيا كمثل الحية 295

120 - و سئل عن قريش فقال: 296

121 - و قال عليه السلام: شتان ما بين عملين 298

122 - و تبع جنازة فسمع رجلا يضحك فقال: 298

123 - طوبى لمن 299

124 - غيرة المرأة و غيرة الرجل 301

125 - نسبة الإسلام التي لم ينسبها أحد 301

126 - عجبت لأناس 302

127 - و قال عليه السلام من قصر في العمل 304

128 - و قال عليه السلام: توقوا البرد في أوله 305

129 - عظم الخالق و صغر المخلوق 306

130 - و قال عليه السلام و قد رجع من صفين و أشرف على القبور بظاهر الكوفة 306

131 - و قال عليه السلام و قد سمع رجلا يذم الدنيا 308

132 - و قال عليه السلام: إن للّٰه ملكا ينادي في كل يوم 313

133 - و قال عليه السلام الدنيا دار ممر 313

134 - و قال عليه السلام: لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه 314

135 - و قال عليه السلام: من أعطى أربعا لم يحرم أربعا 315

136 - الصلاة و أخواتها 316

137 - استنزلوا الرزق بالصدقة 317

138 - من أيقن بالخلف جاد بالعطية 318

139 - تنزل المعونة على قدر المؤنة 318

140 - ما عال من اقتصد 319

ص: 550

141 - و قال عليه السلام: قلة العيال أحد اليسارين 319

142 - و قال عليه السلام: التودد نصف العقل 319

143 - و قال عليه السلام: الهم نصف الهرم 320

144 - الصبر و المصيبة 320

145 - حبذا نوم الأكياس و إفطارهم 321

146 - سوسوا إيمانكم بالصدقة 322

147 - و قال لكميل بن زياد: يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها 322

148 - و قال عليه السلام: المرء مخبوء تحت لسانه 332

149 - قال عليه السلام: هلك امرؤ لم يعرف قدره 333

150 - و قال عليه السلام لرجل سأله أن يعظه 333

151 - لكل امرىء عاقبة حلوة أو مرة 340

152 - و قال عليه السلام: لكل مقبل ادبار 341

153 - و قال عليه السلام: لا يعدم الصبور الظفر 341

154 - الراضي بفعل قوم 341

155 - و قال عليه السلام: اعتصموا بالذمم في أوتادها 342

156 - و قال عليه السلام: عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته 343

157 - و قال عليه السلام: قد بصرتم إن أبصرتم 343

158 - عاتب أخاك 344

159 - و قال عليه السلام: من وضع نفسه مواضع التهمة 344

160 - و قال عليه السلام: من ملك استأثر 345

161 - و قال عليه السلام: من استبد برأيه هلك 345

162 - و قال عليه السلام: من كتم سره كانت الخيرة بيده 346

163 - و قال عليه السلام: الفقر الموت الأكبر 346

164 - و قال عليه السلام: من قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبده 347

165 - و قال عليه السلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق 347

166 - و قال عليه السلام: لا يعاب المرء بتأخير حقه 348

167 - و قال عليه السلام: الإعجاب يمنع الازدياد 348

168 - و قال عليه السلام: الأمر قريب 349

169 - و قال عليه السلام: قد أضاء الصبح لذي عينين 349

170 - و قال عليه السلام: ترك الذنب أهون من طلب التوبة 349

ص: 551

171 - و قال عليه السلام: كم من أكلة منعت أكلات 350

172 - و قال عليه السلام: الناس أعداء ما جهلوا 350

173 - و قال عليه السلام: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ 350

174 - و قال عليه السلام: من أحد سنان الغضب 351

175 - و قال عليه السلام: إذا هبت أمرا فقع فيه 352

176 - و قال عليه السلام: آلة الرياسة سعة الصدر 352

177 - و قال عليه السلام: ازجر المسيئ بثواب المحسن 353

178 - و قال عليه السلام: احصد الشر من صدر غيرك 353

179 - و قال عليه السلام: اللجاجة تسل الرأي 354

180 - و قال عليه السلام: الطمع رق مؤبد 355

181 - و قال عليه السلام: ثمرة التفريط و ثمرة الحزم 355

182 - و قال عليه السلام: لا خير في الصمت 355

183 - و قال عليه السلام: ما اختلفت دعوتان إلا 356

184 - و قال عليه السلام: ما شككت في الحق مذ رأيته 356

185 - و قال عليه السلام: ما كذبت و لا كذّبت 356

186 - و قال عليه السلام: للظالم البادي غدا بكفه عضّة 357

187 - و قال عليه السلام: الرحيل و شيك 357

188 - و قال عليه السلام: من أبدى صفحته للحق هلك 358

189 - و قال عليه السلام: من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع 358

190 - و قال عليه السلام: و اعجباه أتكون الخلافة بالصحابة و القرابة 358

191 - و قال عليه السلام: إنما المرء في الدنيا غرض 359

192 - و قال عليه السلام: يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك 361

193 - و قال عليه السلام: إن للقلوب شهوة و إقبالا و إدبارا 362

194 - و كان عليه السلام يقول: متى أشفي غيظي 362

195 - و قال عليه السلام: و قد مرّ بقذر على مزبلة 263

196 - و قال عليه السلام: لم يذهب من مالك ما وعظك 364

197 - و قال عليه السلام: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان 364

198 - و قال عليه السلام: لما سمع قول الخوارج: «لا حكم إلا للّٰه» 365

199 - و قال عليه السلام: في صفة الغوغاء 365

ص: 552

200 - و قال عليه السلام: و أتي بجان معه غوغاء 366

201 - و قال عليه السلام: إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه 366

202 - و قال عليه السلام: و قد قال له طلحة و الزبير: نبايعك على إنا شركاؤك في هذا الأمر 367

203 - و قال عليه السلام: أيها الناس اتقوا اللّٰه الذي 367

204 - و قال عليه السلام: لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك 367

205 - و قال عليه السلام: كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا 369

206 - و قال عليه السلام: أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل 369

207 - و قال عليه السلام: إن لم تكن حليما فتحلم فإنه قل 369

208 - قال عليه السلام: من حاسب نفسه ربح و من 370

209 - و قال عليه السلام: لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف 371

210 - و قال عليه السلام: اتقوا اللّٰه تقيه من شمر تجريدا وجد 372

211 - و قال عليه السلام: الجود حارس الأعراض و الحلم فدام وو 372

212 - و قال عليه السلام: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله 375

213 - و قال عليه السلام: أغض على القذى و إلاّ لم ترضى أبدا 375

214 - و قال عليه السلام: من لا عوده كثفت أغصانه 376

215 - و قال عليه السلام: الخلاف يهدم الرأي 377

216 - و قال عليه السلام: من نال استطال 377

217 - و قال عليه السلام: في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال 377

218 - و قال عليه السلام: حسد الصديق من سقم المودة 377

219 - و قال عليه السلام: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع 378

220 - و قال عليه السلام: ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن 378

221 - و قال عليه السلام: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد 379

222 - و قال عليه السلام: من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم 379

223 - و قال عليه السلام: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه 380

224 - و قال عليه السلام: بكثرة الصمت تكون الهيبة و بالنصفة و و 380

225 - و قال عليه السلام: العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد 382

226 - و قال عليه السلام: الطامع في وثاق الذل 382

227 - و سئل عن الإيمان فقال: 382

ص: 553

228 - و قال عليه السلام: من أصبح على الدنيا حزينا وو 383

229 - و قال عليه السلام: كفى بالقناعة ملكا و يحسن الخلق وو 384

230 - و قال عليه السلام: شاركوا الذي أقبل عليه الرزق فإنه 385

231 - و قال عليه السلام: في قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ » 385

232 - و قال عليه السلام: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة 386

233 - و قال عليه السلام لابنه الحسن عليهما السلام: 386

234 - و قال عليه السلام: خيار خصال النساء شرار خصال الرجال 387

235 - و قيل له: صف لنا العاقل فقال عليه السلام 388

236 - و قال عليه السلام: و اللّٰه لدنياكم هذه أهون في عيني من 388

237 - و قال عليه السلام: إن قوما عبدوا اللّٰه رغبة فتلك 389

238 - و قال عليه السلام: المرأة شر كلها 389

239 - و قال عليه السلام: من أطاع التواني ضيع الحقوق 390

240 - و قال عليه السلام: الحجر الغصيب في الدار رهن على خرابها 390

241 - و قال عليه السلام: يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم 391

242 - و قال عليه السلام: اتق اللّٰه بعض التقى و إن 391

243 - و قال عليه السلام: إذا ازدحم الجواب خفي الصواب 392

244 - و قال عليه السلام: إن للّٰه في كل نعمة حقا فمن 392

245 - و قال عليه السلام: إذا كثرت المقدرة قلّت الشهوة 392

246 - و قال عليه السلام: احذروا نفار النعم فما 393

247 - و قال عليه السلام: الكرم أعطف من الرحم 393

248 - و قال عليه السلام: من ظن بك خبرا فصدق ظنه 394

249 - و قال عليه السلام: أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه 394

250 - و قال عليه السلام: عرفت اللّٰه سبحانه بفسخ 394

251 - و قال عليه السلام: مرارة الدنيا حلاوة الآخرة و حلاوة الدنيا 395

252 - و قال عليه السلام: فرض اللّٰه الإيمان تطهيرا من الشرك وو 395

253 - و كان عليه السلام يقول: احلفوا الظالم إذا 399

254 - و قال عليه السلام: يا ابن آدم كن 399

255 - و قال عليه السلام: الحدة ضرب من 400

256 - و قال عليه السلام: صحة الجسد من قلة الحسد 400

257 - و قال عليه السلام لكميل بن زياد النخعي: يا كميل مرّ أهلك 400

ص: 554

258 - و قال عليه السلام: إذا أملقتم فتاجروا اللّٰه بالصدقة 401

259 - و قال عليه السلام: الوفاء لأهل العذر 402

260 - و قال عليه السلام: كم من مستدرج ب 402

فصل نذكر فيه شيئا من غريب كلامه:

1 - و في حديثه عليه السلام: فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين 403

2 - و في حديثه عليه السلام: هذا الخطيب الشحشح 403

3 - و في حديثه عليه السلام: إن للخصومة قحما 403

4 - و في حديثه عليه السلام: إذا بلغ النساء نصّ الحقاق فالعصبة أولى 404

5 - و في حديثه عليه السلام: إن الإيمان يبدو لحظة في القلب كلما ازداد 404

6 - و في حديثه عليه السلام: إن الرجل إذا كان له الدين الظنون 405

7 - و في حديثه عليه السلام: أنه شيع جيشا بغزية فقال: 405

8 - و في حديثه عليه السلام: كالياسر الفالج ينتظر أول فوزه من قداحه 406

9 - و في حديثه عليه السلام: كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول اللّٰه 406

261 - و قال عليه السلام: لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار 407

262 - و قيل إن الحارث بن حوط أتاه فقال: أ تراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة ؟ فقال 408

ترجمة عبد اللّٰه بن عمر بن الخطاب 409

263 - و قال عليه السلام: صاحب السلطان كراكب الأسد 410

264 - و قال عليه السلام: احسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم 410

265 - و قال عليه السلام: إن كلام الحكماء إذا 411

266 - و سأله رجل أن يعرفه الإيمان فقال عليه السلام 411

267 - و قال عليه السلام: يا ابن آدم لا تحمل 412

268 - و قال عليه السلام: احبب حبيبك و ابغض بغيضك 412

269 - و قال عليه السلام: الناس في الدنيا عاملان 413

270 - عمر بن الخطاب و حلي الكعبة فقال عليه السلام 414

271 - و روي أنه عليه السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال اللّٰه فقال 415

272 - و قال عليه السلام: لو قد استوت قدماي 416

273 - و قال عليه السلام: اعلموا علما يقينا إن اللّٰه لم يجعل للعبد و إن عظمت حيلته 416

ص: 555

274 - و قال عليه السلام: لا تجعلوا علمكم 418

275 - و قال عليه السلام: إن الطمع مورد غير مصدر 418

276 - و قال عليه السلام: اللهم إني أعوذ بك من أن 419

277 - و قال عليه السلام: لا و الذي أمسينا منه في غير 420

278 - و قال عليه السلام: قليل تدوم عليه أرجى 421

279 - و قال عليه السلام: إذا أخرت النوافل 421

280 - و قال عليه السلام: من تذكر بعد السفر استعد 421

281 - ليست الرؤية كالمعاينة 422

282 - و قال عليه السلام: بينكم و بين الموعظة حجاب من الغرة 422

283 - و قال عليه السلام: جاهلكم... و عالمكم 423

284 - و قال عليه السلام: قطع العلم أعذار المتعللين 423

285 - و قال عليه السلام: كل معاجل يسأل 423

286 - و قال عليه السلام: ما قال الناس لشيء طوبى له إلا 424

287 - و سئل عن القدر فقال: 425

288 - و قال عليه السلام: إذا أرذل اللّٰه عبدا حظر عليه العلم 425

289 - و قال عليه السلام: في وصف أخ له في اللّٰه 426

290 - و قال عليه السلام: لو لم يتوعد اللّٰه على معصيته لكان 428

291 - و قال عليه السلام و قد عزى الأشعث بن قيس عن ابن له 428

292 - و قال عليه السلام على قبر رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ساعة دفنه 429

293 - و قال عليه السلام: لا تعجب 430

294 - و قد سئل عن مسافة ما بين المشرق و المغرب فقال عليه السلام 431

295 - و قال عليه السلام: اصدقاؤك ثلاثة و أعداؤك ثلاثة 431

296 - و قال عليه السلام لرجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار نفسه 431

297 - و قال عليه السلام: ما أكثر العبر و أقل الاعتبار 432

298 - و قال عليه السلام: من بالغ في الخصومة... و من 432

299 - و قال عليه السلام: ما أهمني ذنب أمهلت بعده 433

300 - و سئل عليه السلام: كيف يحاسب اللّٰه الخلق على كثرتهم ؟ فقال عليه السلام 433

301 - و قال عليه السلام: رسولك ترجمان عقلك و كتابك أبلغ ما ينطق عنك 434

302 - و قال عليه السلام: ما المبتلى الذي قد اشتد به البلاء بأحوج 434

ص: 556

303 - و قال عليه السلام: الناس أبناء الدنيا 435

304 - و قال عليه السلام: إن المسكين رسول اللّٰه 435

305 - و قال عليه السلام: ما زنى غيور قط 435

306 - و قال عليه السلام: كفى بالأجل حارسا 436

307 - و قال عليه السلام: ينام الرجل على الثكل و لا ينام على الحرب 436

308 - و قال عليه السلام: مودة الآباء قرابة 437

309 - و قال عليه السلام: اتقوا ظنون المؤمنين 437

310 - و قال عليه السلام: لا يصدق إيمان عبد حتى 437

311 - و قال عليه السلام لأنس بن مالك الذي قال: إني نسيت ذلك الأمر فقال: 438

312 - و قال عليه السلام: إن للقلوب إقبالا و إدبارا 439

313 - و قال عليه السلام: و في القرآن نبأ ما قبلكم 439

314 - و قال عليه السلام: ردوا الحجر من حيث جاء 439

315 - و قال عليه السلام لكاتبه عبد اللّٰه بن أبي رافع 440

316 - و قال عليه السلام: أنا يعسوب المؤمنين 440

317 - و قال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه فقال عليه السلام 441

318 - و قيل له: بأي شيء غلبت الأقران ؟ فقال عليه السلام 442

319 - و قال عليه السلام لولده محمد بن الحنفية: 442

320 - و قال عليه السلام لسائل سأله عن معضلة: 443

321 - و قال عليه السلام لعبد اللّٰه بن العباس و قد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه 444

322 - و قال عليه السلام لحرب بن شرحبيل الشبامي 444

323 - و قال عليه السلام و قد مرّ بقتلى الخوارج يوم النهروان 445

324 - و قال عليه السلام: اتقوا معاصي اللّٰه في الخلوات 445

325 - و قال عليه السلام: لما بلغه قتل محمد بن أبي بكر 446

326 - و قال عليه السلام: العمر الذي أعذر اللّٰه فيه 446

327 - و قال عليه السلام: ما ظفر من ظفر الإثم به و الغالب بالشر مغلوب 447

328 - و قال عليه السلام: إن اللّٰه سبحانه فرض في أموال الأغنياء 447

329 - و قال عليه السلام: الاستغناء عن العذر أعز من الصدق به 448

330 - و قال عليه السلام: أقل ما يلزمكم اللّٰه إلاّ 448

331 - و قال عليه السلام: إن اللّٰه سبحانه جعل الطاعة 448

ص: 557

332 - و قال عليه السلام: السلطان وزعة اللّٰه في أرضه 449

333 - و قال عليه السلام: في صفة المؤمن 449

334 - و قال عليه السلام: لو رأى العبد الأجل و مصيره 451

335 - و قال عليه السلام: لكل امرىء في ماله شريكان 452

336 - و قال عليه السلام: المسئول حر حتى يعد 452

337 - و قال عليه السلام: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر 453

338 - و قال عليه السلام: العلم علمان 453

339 - و قال عليه السلام: صوب الرأي بالدول 454

340 - و قال عليه السلام: العفاف زينة الفقر و الشكر زينة الغنى 454

341 - و قال عليه السلام: يوم العدل على الظالم أشد من 455

342 - و قال عليه السلام: الغنى الأكبر 455

343 - و قال عليه السلام: الأقاويل محفوظة و السرائر 455

344 - و قال عليه السلام: معاشر الناس اتقوا اللّٰه 457

345 - و قال عليه السلام: من العصمة تعذّر المعاصي 458

346 - و قال عليه السلام: ماء وجهك جامد يقطره السؤال 458

347 - و قال عليه السلام: الثناء بأكثر من الاستحقاق 458

348 - و قال عليه السلام: أشد الذنوب ما استهان به صاحبه 459

349 - و قال عليه السلام: من نظر في عيب نفسه وو 459

350 - و قال عليه السلام: للظالم من الرجال ثلاث علامات 462

351 - و قال عليه السلام: عند تناهي الشدة تكون 462

352 - و قال عليه السلام لبعض أصحابه: لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك و ولدك 463

353 - و قال عليه السلام أكبر العيب 463

354 - و هنأ بحضرته رجل رجلا بغلام ولد له فقال له: 464

355 - و بنى رجل من عماله بناء فخما فقال عليه السلام: 464

356 - و قيل له عليه السلام لو سد على رجل باب بيته و ترك فيه من أين كان يأتيه رزقه ؟ فقال: 465

357 - و عزى قوما عن ميت مات لهم فقال لهم عليه السلام: 465

358 - و قال عليه السلام في النعمة و النقمة 465

359 - و قال عليه السلام: يا أسرى الرغبة اقصروا 466

360 - و قال عليه السلام: لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا 467

ص: 558

361 - و قال عليه السلام: إذا كانت لك إلى اللّٰه سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله 467

362 - و قال عليه السلام: من ظن بعرضه فليدع المراء 468

363 - و قال عليه السلام: من الخرق 468

364 - و قال عليه السلام: لا تسأل عما لا يكون 469

365 - و قال عليه السلام: الفكر مرآة صافية و و 470

366 - و قال عليه السلام: العلم مقرون بالعمل 470

367 - و قال عليه السلام: أيها الناس متاع الدنيا حطام موبىء وو 470

368 - و قال عليه السلام: إن اللّٰه وضع الثواب على طاعته و 473

369 - و قال عليه السلام: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم: 474

370 - و روي أنه عليه السلام قلما اعتدل به المنبر إلا قال أمام الخطبة 475

371 - و قال عليه السلام: لا شرف أعلى من الإسلام و لا.. و لا 476

372 - و قال عليه السلام لجابر بن عبد اللّٰه الأنصاري: يا جابر قوام الدين و الدنيا بأربعة 478

ترجمة جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري 479

373 - و قال عليه السلام من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه 480

374 - و في كلام يجري مجرى ما تقدم 481

375 - و قال عليه السلام: أول ما تغلبون عليه 483

376 - و قال عليه السلام: في الحق و الباطل 484

377 - و قال عليه السلام: لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب اللّٰه 484

378 - و قال عليه السلام: البخل جامع لمساوئ العيوب 485

379 - و قال عليه السلام: يا ابن آدم الرزق رزقان 485

380 - و قال عليه السلام: رب مستقبل يوما ليس بمستدبره 486

381 - و قال عليه السلام: الكلام في وثاقك ما لم 486

382 - و قال عليه السلام: لا تقل ما لا تعلم بل 487

383 - و قال عليه السلام: احذر أن يراك اللّٰه 488

384 - و قال عليه السلام: الركون إلى الدنيا مع ما نعاني منها جهل 488

385 - و قال عليه السلام: من هو ان الدنيا على اللّٰه 489

386 - و قال عليه السلام: من طلب شيئا ناله أو بعضه 490

387 - و قال عليه السلام: ما خير بخير... و ما شر بشر 490

388 - و قال عليه السلام: ألا و إن من البلاء 491

ص: 559

389 - و قال عليه السلام: من أبطأ به عمله 491

390 - و قال عليه السلام: للمؤمن ثلاث علامات 492

391 - و قال عليه السلام: ازهد في الدنيا 493

392 - و قال عليه السلام: تكلموا تعرفوا 493

393 - و قال عليه السلام: خذ من الدنيا 494

394 - و قال عليه السلام: رب قول انفذ من صول 494

395 - و قال عليه السلام: كل مقتصر عليه كاف 495

396 - و قال عليه السلام: المنية و لا الدنية و 495

397 - و قال عليه السلام: نعم الطيب المسك 496

398 - و قال عليه السلام: ضع فخرك و احطط 497

399 - و قال عليه السلام: إن للولد على الوالد حقا و إن للوالد على الولد حقا 497

400 - و قال عليه السلام: ما هو حق و ما ليس بحق 498

401 - و قال عليه السلام: مقاربة الناس في أخلاقهم 499

402 - و قال عليه السلام: لبعض مخاطبيه و قد تكلم بكلمة يستصغر مثله عن قول مثلها 500

403 - و قال عليه السلام: من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل 500

404 - و قال عليه السلام: و قد سئل عن معنى قولهم «لا حول و لا قوة إلا باللّٰه» 500

405 - و قال عليه السلام لعمار بن ياسر و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما 501

ترجمة المغيرة بن شعبة 501

406 - و قال عليه السلام: ما أحسن تواضع الأغنياء و أحسن منه تيه الفقراء 502

407 - و قال عليه السلام: ما استودع اللّٰه امرأ عقلا إلا استنقذه به يوما ما 503

408 - و قال عليه السلام: من صارع الحق صرعه 503

409 - و قال عليه السلام: القلب مصحف البصر 504

410 - و قال عليه السلام: التقى رئيس الأخلاق 504

411 - و قال عليه السلام: لا تجعلن ذرب لسانك على من 504

412 - و قال عليه السلام: كفاك أدبا لنفسك اجتناب 505

413 - و قال عليه السلام: من صبر صبر الأحرار و إلا 505

414 - و في خبر آخر أنه عليه السلام قال للأشعث بن قيس معزيا عن ابن له 506

415 - و قال عليه السلام في صفة الدنيا 507

416 - و قال لابنه الحسن عليهما السلام 507

ص: 560

417 - و قال عليه السلام لقائل قال بحضرته «استغفر اللّٰه» 508

418 - و قال عليه السلام: الحلم عشيرة 509

419 - و قال عليه السلام: مسكين ابن آدم 510

420 - و روي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال عليه السلام 511

421 - و قال عليه السلام: كفاك من عقلك ما أوضح لك 512

422 - و قال عليه السلام: افعلوا الخير 512

423 - و قال عليه السلام: من أصلح سريرته... و من عمل لدينه...

و من أحسن فيما بينه و بين اللّٰه 513

424 - و قال عليه السلام: الحلم... و العقل 513

425 - و قال عليه السلام: إن للّٰه عبادا 514

426 - و قال عليه السلام: لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين 515

427 - و قال عليه السلام: من شكا الحاجة إلى مؤمن و من شكاها إلى اللّٰه 515

428 - و قال عليه السلام في بعض الأعياد 516

429 - و قال عليه السلام: إن أعظم الحسرات يوم القيامة 516

430 - و قال عليه السلام: إن أخسر الناس صفقة و أخيبهم سعيا 517

431 - و قال عليه السلام: الرزق رزقان: طالب و مطلوب 517

432 - و قال عليه السلام: إن أولياء اللّٰه هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا 518

433 - و قال عليه السلام: اذكروا انقطاع اللذات و بقاء التبعات 519

434 - و قال عليه السلام: أخبر تقله 520

435 - و قال عليه السلام: في الشكر و الدعاء و التوبة 520

436 - و قال عليه السلام: أولى الناس بالكرم 521

437 - و سئل عليه السلام: أيهما أفضل: العدل أو الجود؟ فقال عليه السلام 521

438 - و قال عليه السلام: الناس أعداء ما جهلوا 521

439 - و قال عليه السلام: الزهد كله بين كلمتين من القرآن 521

440 - و قال عليه السلام: ما انقض النوم لعزائم اليوم 522

441 - و قال عليه السلام: الولايات مضامير الرجال 522

442 - و قال عليه السلام: ليس بلد بأحق بك من بلد خير البلاد ما حملك 523

443 - و قال عليه السلام و قد جاءه نعي الأشتر رحمه اللّٰه 523

444 - و قال عليه السلام: قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه 524

ص: 561

445 - و قال عليه السلام: إذا كان في رجل خلة رائقة فانتظروا اخواتها 524

446 - و قال عليه السلام لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق في كلام دار بينهما 525

447 - و قال عليه السلام: من اتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا 525

448 - و قال عليه السلام: من عظّم صغار المصائب ابتلاه اللّٰه بكبارها 525

449 - و قال عليه السلام: من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته 526

450 - و قال عليه السلام: ما مزح امرؤ مزحة إلا مج من عقله مجة 526

451 - و قال عليه السلام: زهدك في راغب فيك نقصان حظ 527

452 - و قال عليه السلام: الغنى و الفقر بعد العرض على اللّٰه 527

453 - و قال عليه السلام: ما زال الزبير رجلا من أهل البيت حتى نشأ ابنه المشئوم عبد اللّٰه 527

ترجمة عبد اللّٰه بن الزبير 528

454 - و قال عليه السلام: ما لابن آدم و الفخر 529

455 - و سئل من أشعر الشعراء فقال عليه السلام 529

456 - و قال عليه السلام: ألا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها 530

457 - و قال عليه السلام: منهومان لا يشبعان 530

458 - و قال عليه السلام: الإيمان أن تؤثر الصدق 531

459 - و قال عليه السلام: يغلب المقدار على التقدير 532

460 - و قال عليه السلام: الحلم و الأناة توأمان 532

461 - و قال عليه السلام: الغيبة جهد العاجز 533

462 - و قال عليه السلام: رب مفتون يحسن القول فيه 533

463 - و قال عليه السلام: الدنيا خلقت لغيرها و لم تخلق لنفسها 533

464 - و قال عليه السلام: إن لبني أمية مرودا يجرون فيه 534

465 - و قال عليه السلام: في مدح الأنصار 534

466 - و قال عليه السلام «العين و كاء السه» 535

467 - و قال عليه السلام في كلام له: و وليهم وال فأقام و استقام حتى ضرب الدين بجرانه 536

468 - و قال عليه السلام: يأتي على الناس زمان عضوض 536

469 - و قال عليه السلام: يهلك فيّ رجلان 537

470 - و سئل عن التوحيد و العدل فقال عليه السلام 537

ص: 562

471 - و قال عليه السلام: لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل 538

472 - و قال عليه السلام: في دعاء استسقى به 538

473 - و قيل له عليه السلام: لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام 538

474 - و قال عليه السلام: ما المجاهد الشهيد في سبيل اللّٰه بأعظم أجرا ممن قدر فعف 539

475 - و قال عليه السلام: «القناعة مال لا ينفد» 539

476 - و قال عليه السلام لزياد بن أبيه 540

477 - و قال عليه السلام: أشد الذنوب ما استخف به صاحبه 540

478 - و قال عليه السلام: ما أخذ اللّٰه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى 540

479 - و قال عليه السلام: شر الإخوان من تكلف له 541

480 - و قال عليه السلام: إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه 541

ص: 563

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.